بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَــــــنِ الرَّحِيــــــــــم
المقدمة
الحمد لله الذي جعل خلق الإنسان رحمة للإنسان ذاته وللعالمين، وآية من بديع صنعه الى يوم الدين، وجعله قابلاً لتلقي الفضائل ومستعداً للترقي في درجات السمو والرفعة، واهلاً للعبادة والإمتثال للأوامر الإلهية وما فيها من التكاليف، وقادراً على التمييز بين الحق والباطل، والإستجابة للمة الملك، والإعراض عن اغواء الشيطان، واعانه مرة أخرى بان جعل كيد الشيطان ضعيفاً، وجعل نفسه تنفر منه، واطلع الناس على عدائه لهم منذ ان امتنع عن الإمتثال لأمره بالسجود لأبيهم آدم.
ثم حصن الإنسان بأحكام الحلال والحرام وجعلها واقية له من الشيطان، وطريقاً سالكة الى الجنان، والفوز بالعفو والغفران، وتجلت مضامين الحصانة والوقاية بآيات القرآن، فكل آية منها حصن مستقل، وهي جزء من عدد لا متناهي من الحصون القرآنية، من وجوه:
الأول: الجمع المتعدد بين الآيات.
الثاني: انشطار الآية الواحدة وافادة كل شطر منها مفاهيم الحصن والواقية.
الثالث: التعدد في معاني ووجوه الحصن، فكل جهة منه تصلح ان تكون حصناً مستقلاً كما في وجوه الأشكال الهندسية كالمكعب والمربع والمستطيل، فترى الآية حصناً اجتماعياً وعقائدياً واخلاقياً.
الرابع: الجمع الموضوعي للآيات كآيات البشارة وآيات الإنذار، وآيات الوعد، والوعيد، وآيات الأحكام، والرزق والقصص والمواعظ وغيرها.
الخامس: الآية الواحدة ككيان مستقل قائم بذاته،
وما في الآية من العلوم دليل قدسي على التقسيم السماوي لآيات القرآن، وكل آية قرآنية مظهر لجمال واجب الوجود وجلاله وصفاته الحسنى.
فلا غرابة أن يأتي هذا الجزء متضمنا لتفسير ثلاث آيات من سورة آل عمران فقط بافاضات منه تعالى، وجاءت الآية الأولى في مدح أهل التقوى والبشارة بفوزهم بالنعيم المترشح عن حب لهم، والآيتان الثانية والثالثة في ذم اهل الجحود والضلالة، لتكون كل آية منهن مدرسة عقائدية تبعث الغبطة والسعادة في قلب المسلم وتدعوه للمواظبة على فعل الصالحات وحرزاً من اهل العناد وشبهاتهم، قال تعالى في وصف القرآن [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ].
قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] الآية 76-آل عمران
والإعراب واللغة
بلى: حرف جواب يفيد ابطال ما يتقدمه من النفي.
من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ.
اوفى: فعل ماضِ في محل جزم فعل الشرط.
بعهده: جار ومجرور، متعلقان بأوفى،وإتقى: عطف على أوفى.
فان يحب المتقين: الفاء: رابطة لجواب الشرط.
ان: حرف مشبه بالفعل، واسم الجلالة اسمها.
يحب: فعل مضارع، والفاعل ضمير يعود لله تعالى، المتقين: مفعول به، منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
وجملة فان في محل جزم جواب الشرط.
والوفاء: الأداء والإلتزام العملي بالعقود والشروط والقيود وهو ضد الغدر، يقال: وفى بعهده وأوفى بمعنى.
ويأتي الوفاء بمعنى الإتمام وعدم النقصان يقال أوفى الكيل أي أتمه، ووفى الشيء أي تم، وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: “انتم وفاء سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على ”( ).
أي بكم تمت عدة سبعين أمة وهذا التمام عنوان الكمال، والذي يفي بالعهد والعقد يسمى الوفي “وقيل الوفاء في اللغة الخلق الشريف العالي الرفيع، وفى الشعر فهو وافِ اذا زاد”( ).
في سياق الآيات
يتجلى علم السياق في هذه الآية بالحرف (بلى) الوارد في أولها، لدلالته على نفي ما قبله، واثبات ما بعده، فبعد آيات الذم والتقبيح للذين يؤذون المسلمين في العقيدة والنفس والمال، وذكر الإستثناء من موارد الأذى، كما في حال الذين يؤدون الأمانة ويردون الوديعة ومنهم طائفة من اهل الكتاب، جاءت هذه الآية لتبين موارد اللطف الإلهي، وأسباب كسب رضاه تعالى بالوفاء بالعهد والصلاح.
ومن الإعجاز ان الآية السابقة لم تتضمن استحواذهم على ودائع المسلمين فقد ذكرت قولهم وما عزموا عليه، اما في عالم الأفعال فقد خفف عن المسلمين ومن التخفيف هذه الآية الكريمة.
اعجاز الآية
يظهر الإعجاز في مضامين ونظم الآية، فبعد بيان حال أهل الكتاب في الآية السابقة، وما يدل عليه بالدلالة الإلتزامية والمفهوم على الحذر والحيطة في الإيداع عندهم، ولزوم التحري والتدقيق والتمييز وان الإنتماء الى الكتاب السماوي لا يكفي وحده كعلة للوثوق بالشخص، بل قد يكون العكس، أي ان الإنتساب للكتاب السماوي يكون سبباً للتعدي على حقوق وحرمات المسلمين نتيجة للحسد ولما طرأ على الكتب السماوية من التحريف.
ومن اعجاز الآية الإقتران والجمع بين الوفاء بالعهد والتقوى لإرادة وموضوعية قصد القربة الى تعالى، وذكر قاعدة كلية وهي محبته تعالى لمن يخشاه ويخافه، ومنه انها جاءت لهداية الناس، والحث على ترك خيانة الأمانة، وفيها دعوة لإجتناب الإفتراء على ، والقول في الدين بغير علم، ومن اعجازها تفضله سبحانه بالرد على الذين يقولون انهم أحباء ، ويجوزون الإستحواذ على اموال المسلمين، بل مدار الحب الإلهي على تقوى والوفاء بالعهود.
ويمكن تسمية الآية بآية (الوفاء بالعهد).
الآية سلاح
الآية دعوة سماوية للصلاح والسعي في مسالك ابتغاء مرضاته تعالى، والتنزه عن معاصيه والكف عن الذنوب ومنها خيانة الأمانة وتهدي الآية المسلمين لأسباب الإحتجاج على الذين يتبعون التحريف، ويجحدون بالتنزيل مع ترغيبهم بالإسلام، ودعوتهم للإيمان، ببيان العناية الإلهية الخاصة بمن يهتدي الى سبل الحق، ويعتبر من الآيات العقلية والحسية، وتظهر عليه قهراً وانطباقاً امارات الخشوع لله تعالى، وذات الآية نفسها احتجاج لأنها تؤكد لزوم الأمانة والوفاء وتحمل من يتعدى على اموال المسلمين الإثم والخطيئة.
مفهوم الآية
لم يترك اهل الخيانة والغدر والذين يفترون الكذب على دون رد وفضح لسوء فعلهم، وهذا من الآيات في عالم الخلق ومن اسرار خلافة الإنسان في الأرض، اذ جعل شطراً من الناس على دروب الهداية ومبادئ التوحيد، يتصدون للتحريف ويتحملون العناء والمشقة بسبب هذا التصدي، والأصل ان يتلقوا الثناء من أهل الأرض بسببه، وهذا التباين بين الإستحقاق ومواجهة ضده من الأذى باب للثواب والأجر العظيم عند ، لأنه عبارة عن فعل ايماني مركب من وجهين:
الأول: اداء الوظيفة الشرعية ، وهو ينقسم الى شعبتين:
الأولى: الواجب الذاتي، والإمتثال للتكاليف الخاصة الموجهة للعبد كالصلاة والصوم والزكاة.
الثانية: الواجب الغيري بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: مواجهة الأذى الذي يأتي من أعداء الدين واهل العناد بسبب اختيار الإسلام والثبات على الأيمان، واجتناب الكفر والجحود، والرد على اهل الضلالة من فلسفة التنزيل، ومضامين اللطف الإلهي العام الذي يتغشى الناس جميعاً، فيشمل المعاندين والجاحدين ايضاً، وأولئك الذين يقابلون النعم بالكفر والإفتراء ، فتأتي نعمة الهية اضافية تتجلى بوجوه:
الأول: هذه الآية الكريمة، وما فيها من مضامين الدعوة الى الصلاح والهداية والرشاد.
الثاني: ما يتحلى به المسلمون من الصبر على الأذى مع التقيد بأحكام الإسلام، فأكل مال المسلم وتعدي الأمين على وديعته لا يضعفه في دينه او ينقص من عزيمته في مواجهة التحديات الشخصية والنوعية فيظن الخصم ان ايذاء المسلم في ماله قد يؤدي الى جزعه وارباكه وضعف ايمانه، فتأتي هذه الآيات لتحذيره لغلق باب الخديعة والكيد، ثم التوجه الى صاحب المكر لهدايته وارشاده.
فان قلت لماذا لا يقابل المخادع بمثله، ويقوم المسلم بأكل أمواله والإستحواذ على ودائعه هل بسبب عدم قيام الكتابي بالإيداع عند المسلم او اقراضه ام لسبب آخر، الجواب هو الأخير ، فان هذه الآية تدل على عدم مقابلته بالمثل وهذا الباب يخرج بالتخصص من عمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ) ، أي ان المسلم لا يستحوذ على أموال الكتابي غير الحربي لأن القرآن يمنعه، وكذا بالنسبة للتوراة والإنجيل فانهما يمنعان من أكل مال المسلم، فان قلت ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولهما بفترة ليست قصيرة، فكيف تحرمان مال المسلم، الجواب لقد جاءت التوراة والإنجيل بأمور هي:
الأول: التوكيد على حفظ الأمانة ورد الوديعة.
الثاني: الإطلاق في رد الوديعة من غير تقييد بملة معينة او اسثتناء لأمة مخصوصة.
الثالث: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحث على اتباعه واطاعته، والإمتثال لما جاء به من عند ، والذي يترشح عنه قهراً لزوم اكرام المسلمين والمساهمة في حفظ اموالهم وودائعهم.
ومن مفاهيم الآية انها تذم الخيانة وعدم الوفاء بالعهود، وفيها انذار وتحذير من التعدي على أموال المسلمين وحقوق الناس، والوعيد على نقض العهد وخيانة الأمانة، وقد جعل الدار الآخرة دار حساب وفيها ثواب وعقاب ثواب لأهل الطاعة، وعقاب لأصحاب المعاصي.
فأخبار الآية عن حبه تعالى لأهل التقوى يدل في مفهومه على بغضه لمن يرتكب المعصية ومع ان الحب والبغض من الضدين فانهما يجتمعان في الحث على نبذ الخيانة ولزوم تركها ، فحبه تعالى للمتقين ترغيب بالتقوى والوفاء بالعهود، وبغضه تعالى للفاسقين والفجار زجر عن المعاصي، وبيان لقبحها ومن اكثرها قبحاً ومبغوضية الإفتراء على ، والتعدي على الحرمات ، وجاءت الآية بمفاهيم للتقوى وهي:
الأول: الأمانة من التقوى، وشاهد على خشية .
الثاني: حسن اكرام المسلم ، وفيه دلالة على الأيمان والصلاح.
الثالث: بيان بعض مصاديق التقوى، من الوفاء بالعهد وعدم نقض الميثاق بالإضافة الى اجتناب المعاصي ، ومن المعاصي الخيانة، وايذاء المسلمين، والمكر والكيد بهم.
ان اختيار المسلم للكتابي في الوديعة دليل على الإرتقاء الفكري عند المسلم وقدرته على التمييز بين الناس في المعاملة بلحاظ العقيدة، واعطاء الأولوية والتفضيل لمن ينتمي الى كتاب سماوي كالتوراة والإنجيل، وهو بداية كريمة للمعاملة الحسنة بين المسلمين من جهة، واليهود والنصارى من جهة أخرى، أي ان الدعوة الإسلامية تفتح أبواب التجارة والمال أمام أهل الكتاب لأن المسلمين يميلون اليهم في المعاملات وبيع النسيئة، فالإيداع عند شخص او جماعة شاهد على الثقة بهم والميل اليهم، وعدم النفرة منهم في البيع والشراء.
مما يعني ان المسلمين بدأوا بداية كريمة مع اهل الكتاب ولم يريدوا ايذاءهم او مقاطعتهم في الأسواق والمعاملات بسبب جحودهم بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأودعوا عندهم أموالهم، وجعلوهم محل ثقتهم ولكن نفراً من أهل الكتاب خانوا الأمانة وحاولوا اكل الودائع، ومع هذا جاءت هذه الآيات لتمنع المسلمين من الإنتقام خصوصاً وان للمال شأن عند الإنسان في كل زمان.
وقد يكون ماله أهم شيء في حياته، ويبادر الى البطش عند انكار الطرف الآخر لماله ووديعته، فحذرت هذه الآيات اهل الكتاب من خيانة الأمانة، ودعتهم الى الرجوع الى الكتاب الذي ينتمون اليه والذي هو السبب في اختيار المسلم لهم لإيداع الأمانة، فليس من كتاب سماوي الا وهو يأمر بالأمانة ورد الوديعة ثم جاءت الآية بالتوكيد على الوفاء بالعهد وتقوى .
ومن موارد الخشية منه تعالى عدم البطش بمن يجحد الوديعة بل ينحصر الأمر بمطالبته والإلحاح واقامة الحجة عليه والسعي لإنتزاع الحق وهذا الإلحاح والسعي قد لا يؤدي الى انتزاع الحق واعادة المال والوديعة، فجاءت الآية التالية لتبين الخسارة العظيمة التي تصيب من يتعدى على الحرمات، ويقابل آيات النبوة بالإنكار والجحود وايذاء المؤمنين في أنفسهم وأموالهم.
وتتضمن الآية ثلاثة مفاهيم:
الأول: توكيد موضوعية الوفاء بالعهد.
الثاني: تقوى وخشيته في السر والعلانية، وفيه اشارة الى اجتناب خيانة الأمانة وأكل المال بالباطل.
الثالث: بيان حقيقة ثابتة ودائمة تتغشى العوالم المختلفة وهي ان يحب المتقين.
افاضات الآية
هذه الآية من مصاديق الإصطفاء والإكرام، لأنها تتضمن بيان سبل الصلاح والهداية، وتعالج الفعل القبيح بالإرشاد الى نقيضه من التقوى، وبجذبة للعبد تخرجه من منازل الردى الى مقامات الرفعة والسمو، التي تكون دائماً ملازمة لخشية والخوف منه.
ان الإبتعاد عن تقوى سبب لحصول غشاوة على البصيرة تمنع من رؤية الحق، والتدبر بالآيات، وهي بذاتها غشاوة على البصر من وجوه:
الأول: الغفلة عن الوظيفة الذاتية في المعاملات.
الثاني: ايذاء الآخرين ورؤيتهم وهم يتألمون بسبب التعدي على أموالهم ونكران ودائعهم وظهور المستودع بخلاف ما كانوا يظنون به من الأمانة والصدق.
الثالث: الخسارة والغدر بسبب إعراض الناس عن الإيداع عنده، وحذرهم في اجراء العقود معه وهذا الحذر يتناسب طردياً مع مقدار ومبلغ العقد، فكلما كان المال كثيراً كان الحذر اشد وأكبر.
فجاءت هذه الآية لطفاً منه تعالى لتنقل العبد الى عطاء وافاضته اللامتناهية بالتقيد بالتقوى والحرص على الخشية منه، ومن الآيات فيها ان التقوى في باب الأمانة وحفظ الوديعة واجتناب الكذب على تؤدي الى التدبر بالآيات والحرص على الطاعة، والسعي للتقرب من رحمته تعالى، وهذا السعي حاجب دون التعدي والكذب على ، بل الكذب مطلقاً.
التفسير
قوله تعالى [بَلَى]
أفتتحت الآية بالحرف (بلى) وهذا الإفتتاح اعجاز قائم بذاته لما فيه من الدلالات التي تتعدى المعنى اللغوي لهذا الحرف، وما ذكره اهل النحو والبلاغة لمعناه من وجوه:
الأول: بلحاظ نظم الايات، وموضوع الآية السابقة لتعلقه به.
الثاني: اجماع اهل اللغة والبيان على تعلق (بلى) فيما سبقه من الكلام.
الثالث: تعدد معانيه في المقام، ومنها:
الأول: رد النفي الذي يأتي قبلها، كما في هذه الآية اذ ورد قوله تعالى [قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( ) فجاء قوله تعالى (بلى) أي عليهم سبيل اذا تعدوا على المسلمين وأموالهم.
الثاني: تأتي بلى جواباً لإستفهام استنكاري وما دخل عليه نفي مطلقاً، وهو من عمومات معناه كحرف جواب مختص بالنفي، يأتي لغرض ابطاله.كما ورد في قوله تعالى[ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى] ( ).
فقد جاءوا بابطال النفي، ونفي النفي اثبات أي انهم اعترفوا بمجيء الرسل بالآيات الباهرات، وفيه اقرار بقيام الحجة عليهم وافتتاح الآية بلفظ (بلى) شاهد على اقرارهم بان الأنبياء جاءوا بلزوم رد الوديعة وحفظ الأمانة مطلقاً.
الرابع: ابتداء لموضوع وحكم جديد يذكر بعدها ولا ينحصر بنفي ماقبله، بل لتوكيد حقيقة او حجة اوبرهان، فجاءت هذه الآية لتبين قاعدة كلية ثابتة في الإرادة التكوينية، لتكون حكماً وميزاناً تعرض عليه الأعمال ، فأين تكون خيانة الوديعة ؟ لابد انها تكون في كفة الشر وما فيه الخسران.
الخامس: كما جاءت الحروف المقطعة لجعل الناس ينتبهون للآيات ويصغون لتلاوتها، فكذا (بلى) جاءت في أول الآية لجعل السامع يلتفت الى الموضوع الذي يليها، مما يدل على اهميته وضرورة الإصغاء له، وبذل الوسع للعمل بأحكامه.
السادس: صار (بلى) هنا عنواناً للفصل بين موضوعين بالإضافة الى الفصل بتعدد الآيات ومجيء (بلى) في احداهما لا يمنع من وظيفته بالفصل، ولكن هذا الفصل جهتي ولا يستغرق وجوه المعاني، لوجود تداخل وترابط بين الآيتين، منها ابطال هذه الآية للنفي الوارد في الآية السابقة، مع التباين في جهة الإبطال والنفي.
فالإبطال جاء بقاعدة كلية في الإرادة التكوينية ، اما النفي فصدر من طائفة من اهل الكتاب، ومن الآيات ان الإبطال لا ينحصر بالآية القرآنية، بل جاء على يد اخوانهم من اهل الكتاب ممن يؤدي الأمانة وان كانت مالاً كثيراً، وقول اهل الخيانة [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]( )لم يؤثر على اصحاب الأمانة وحفظهم الودائع مما يدل على بطلانه وعدم صحته ، وانه ليس من المفاهيم التي جاءت بها التوراة والإنجيل.
السابع: يفيد (بلى) معنى توكيد النفي مع التحدي، وتعرف مضامين التحدي والثبات بلحاظ ما سبق (بلى) وما تأخر عنها.
ففي الآية بشارة ان اكلهم ودائع المسلمين، والتجرأ فيها، والكذب على ، ورسله ليس له تأثير وشأن في القواعد الثابتة، والسنن الدائمة فالعاقبة لأهل التقوى ولن يضرهم الإستحواذ على أموالهم، وعدم الإضرار هذا مطلق، في الدنيا والآخرة.
لأن السلامة والفوز يدوران مدار حبه تعالى، وهو مصاحب للإيمان والتقوى.
الثامن: لم تذكر هذه الآية استحواذ افراد تلك الطائفة من اهل الكتاب على ودائع المسلمين التي بحوزتهم ولكنه جاء ضمناً في الحرف (بلى) وماله من الدلالات العقائدية.
وأختلف في الوقوف على بلى، واليه ذهب الزجاج “قال: وعندي وقف التمام على (بلى) وبعده استئناف”.
اما القائل بعدم الوقوف عنده فنظر الى اتصال المعنى وكأن ما بعد بلى بيان وتوكيد لمضمونها من النفي، ولا تعارض بين القولين، والآية جامعة لهما، وهذا من اعجاز اللفظ القرآني ان يأتي بالمعنى الأعم الشامل للوجوه والمضامين المتعددة والمتباينة.
وقد ورد لفظ (بلى) في القرآن اثنتين وعشرين مرة، جاءت اكثرها للإحتجاج وتوكيد البرهان، وابطال الدعوى الزائفة التي لا أصل لها، واقامة البرهان على الكفار، كما في هذه الآية الكريمة، وقد ترد للإقرار بفضله تعالى كما في ابراهيم [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( ) ، وجاءت في عدة آيات في الإحتجاج على الكفار في الآخرة، وعند دخولهم النار، قال تعالى[ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا] ( ).
وفي كل مرة يأتي فيها الحرف (بلى) في القرآن موعظة وعبرة، وحث على التدبر في الآيات ودعوة مركبة من وجوه:
الأول: نبذ الكفر والضلالة.
الثاني: الإنابة والصلاح والأيمان.
الثالث: ما يخص موضوع الآية كما في المقام من فضح حال الذين يفترون على ، وهذا الفضح على وجوه:
الأول: عند أنفسهم واشعارهم بانهم يرتكبون الإثم العظيم بالعمل بالتحريف، وتغيير مضامين الآيات، وقول ما ليس بحق.
الثاني: فضحهم عند المسلمين، في دعوة الى اجتناب اقوالهم وعدم الرجوع اليهم.
الثالث: عند عامة اهل الكتاب من أجل الا يزداد عدد أفراد الطائفة او الجماعة التي تفترى على ، وتقول غيرالحق
وبينت الآية السابقة وجود فريقين عند أهل الكتاب أحدهما مؤتمن، ويرد الوديعة وان بلغت ألف دينار ذهبي، من غير الحاح او خصومة، والآخر لا يردها وان كانت ديناراً واحداً الا بقيد [ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] في اشارة الى الإلحاح والتشديد في إنتزاع الحق ،واقامة الحجة عليه، وافراد هذه الطائفة ليسوا بعرض واحد.
فمنهم من يرد بأدنى الحاح، ومنهم يحتاج الى الخصومة والغلظة، ومنهم لا يرد الا مع الحجة والبينة والإنذار والتخويف، فكأن الآية تدعو الى الإلحاح بما يؤدي الى انتزاع الحق،سواء كان متحدا أو متعددا ، في عدد جهة الإلحاح أو المرات ، وهل يبدأ بالأقل والأدنى من الإلحاح ام الأكثر والأشد، الجواب هو الأول فيبدأ بالإلحاح بالأدنى، ثم يزيد مطالبته وصيغها من غير خروج عن أحكام الشريعة وعدم التعدي، فقد يؤدي الصبر والمطالبة بالمعروف الى أمور هي:
الأول: انتزاع الحق.
الثاني: رجوعه عن قصد ونية اخفاء الوديعة وعدم ردها.
الثالث: صلاحه وهدايته للإسلام، باعتبار ان حسن الخلق والورع عن المحارم مقدمة لجذب الخصم الذي يعلم انه ظالم ومعتدِ ومع هذا لا يتصرف معه المسلم الا بالصيغ الشرعية.
قوله تعالى [مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ]
الآية مدح وثناء على الذي يحرص على العهد ويتقيد باحكامه وما فيه من الشرائط ولا ينقضه لأنه تم عن رضا وجعل كل طرف يطمئن الى الطرف الآخر وفق ما أتفق عليه في العهد، وهذا الإطمئنان مقدمة للتدبر في الآيات والتوجه نحو العبادات والإلتفات الى وظيفة العبد في لزوم الإقرار بالصانع واتباع الأنبياء فيما جاءوا به من عند ،
ان توكيد القرآن على العهد والوفاء به شاهد على صدق الدعوة الإسلامية وسماوية التنزيل ، وعالمية القرآن ،لما فيه من الدعوة للإعتبار والتدبر في صدق آيات النبوة والمعجزات التي جرت على يد الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والآية حث على التقيد بأحكام الأمانة ولزوم حفظها وتعاهدها، وبين الوفاء بالعهد وحفظ الوديعة والأمانة عموم وخصوص مطلق.
فحفظ الأمانة وصيانةالوديعة من الوفاء بالعهد، وليس العكس وهذا من اعجاز القرآن ان تأتي الآية بالوديعة ولكن الحجة والقاعدة الكلية تكون أعم، فيذكر القانون الجامع الذي يشمل الوديعة وغيرها، ترى لماذا جاء ذكر القاعدة والقانون الأعم، فيه وجوه:
الأول: مجيء الآية للإصلاح والهداية.
الثاني: في الآية شاهد على توكيد الإصطفاء، وحث أهل الكتاب على دروب الهداية والتقيد العام بالعهود.
الثالث: الآية من قواعد اللطف الإلهي، بان يأتي موضوع عقائدي وأخلاقي ليكون مناسبة لبيان القواعد الكلية.
الرابع: في الآية اجتناب لإرتكاب الذنوب في أبواب مشابهة للودائع وحفظ الأمانة.
الخامس: تتضمن الآية التحذير والإنذار ممن نقض العهود الذي يترتب عليه وقوع المعارك او اختلال النظام، وضيق المعايش .
السادس: ان التمادي في الإستحواذ على الودائع باب للتعدي والتجرأ في ميادين وموضوعات أخرى أكثر أذى من أكل الوديعة، خصوصاً وان الوديعة قضية شخصية، ولكن قولهم [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( )، عام ويتضمن الدعوة والإستعداد لظلم وايذاء المسلمين وتحريض على الإجهاز عليهم وعدم التقيد بما أبرم معهم من العهود والمواثيق.
السابع: أكل بعضهم الوديعة مناسبة لشيوع الأخلاق الذميمة والعادات القبيحة، فجاءت الآية لإصلاح المجتمعات والأمم.
الثامن: الآية من وظائف القرآن في تنقيح الكتب المنزلة مما لحقها من التحريف فجاء بما هو ثابت في كل الرسالات وهو ضرورة الوفاء بالعهد وعدم نقضه.
التاسع : هل في الآية إشارة إلى المسألة ألإبتلائية في هذا الزمان وهي الإدخار في المصارف والبنوك الغربية ، الجواب نعم وإن لم تظهر ثمارها ودلالاتها بعد .
العاشر: من اعجاز هذه الآيات ما فيها من العناية الخاصة بمن يحفظ الوديعة من أهل الكتاب، والتي تتجلى بوجوه:
الأول: ذكر الذين يحفظون الأمانة من أهل الكتاب.
الثاني: ابتداء الآية السابقة بذكرهم، وما في هذا الذكر من المدح.
الثالث: بيان المقدار الكبير الذي يتعاهده أفراد فريق منهم اذا جعله المسلم عند أحدهم وديعة، ويبدو ان لفظ القنطار هو اكبر مقدار مالي يؤتى به مثلاً، وقد تقدم ذكر خمسة وعشرين وجهاً لمقدار القنطار( )، منها ما روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه اثنا عشر الف أوقية.
وصيغة الإطلاق تحمل الأوقية على الذهب وليس الفضة، ولكن ذكر ان الأوقية الواحدة أربعون درهماً بمعنى انها تساوي آنذاك اربعة دنانير ذهبية، فهذا المبلغ يحفظه وديعة شخص واحد من اهل الكتاب لأحد المسلمين، وينال المدح والثناء على أمانته خصوصاً مع وجود من يخون الأمانة من ابناء ملته، فجاءت هذه الآية لتوكيد المدح ودعوة المسلمين لإكرام مثل هذا الشخص لخصوص أمانته لوجوه:
الأول: انها تعاهد لما جاءت به الكتب السماوية السابقة.
الثاني: فيها حجة على اولئك الذين يقولون [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( ) ويقومون بأكل أموال المسلمين بالباطل، وهذه الحجة ذاتية، بمعنى انها من بين أهل الكتاب أنفسهم.
الثالث: للأمانة وحفظ الوديعة حسن ذاتي، وهي شاهد على الأخلاق الحميدة، ومقدمة للإيمان بالتنزيل والإقرار بالحق والصدق فكما يعترف الأمين بالوديعة الشخصية التي عنده فالأصل ان يكون مستعداً للإقرار بالنبوة والمعجزات.
الرابع: حفظ الوديعة عون للمسلمين على الجهاد في سبيل ، وهي من وجوه تأمين الملك، وأسباب ستر الخلة والنقص، وضمان عدم الغدر عند التوجه للتخفيف عن المسلم بقيام غيره بحراسة ماله ليتفرغ الى العبادات ووجوه الطاعة.
الخامس: حفظ الوديعة نوع ادخار، كما انه ظهير واحتياط لأوان الحاجة والنقص، وهذه الحاجة شخصية ونوعية ، فقد يحتاج المسلمون المال الشخصي المودع لإنفاقه في سبيل ، وشراء السلاح وتوفير المؤون للمقاتلين، وهو من أسرار ذكر لفظ (القنطار) في الآية السابقة، وتوكيد هذه الآيات على حفظ الوديعة، فحفظها وتأمين احضار المال المودع في وقت الحاجة ضرورة جهادية للمسلمين.
لذا جاءت هذه الآية ظهيراً للمسلمين، وحثاً لأهل الكتاب على اعانة المسلمين في باب حفظ أموالهم وصيانة الأمانة، فذكر مقدار القنطار في الأمانة وحفظها، اشارة الى احتمال توظيف المال الخاص في الجهاد في سبيل والتجارة التي لن تبور، والذب عن المسلمين، وفعلاً اذ رأى المسلم المستودع لماله الكثير ان المسلمين وهو منهم في معرض الهلاك وان سلامته وحياته تتوقف على توفير السلاح للمقاتلين، بالإضافة الى الغنائم التي تأتي مع النصر والنجاة، فانه يبادر الى سحب ودائعه وجعلها في خدمة الإسلام والمسلمين، فيحتاج المسلمون حينئذ الأمانة ورد الوديعة.
فجاء مدح الكتابي المؤتمن ان كان هو المستودع والأمين ليكون هذا المدح مقدمة لإنتصار المسلمين، واشارت هذه الآية الى موضوعية الوفاء بالعهد وحسنه.
والهاء في قوله تعالى [بِعَهْدِهِ] تحتمل وجوهاً:
الأولى: تعود لله تعالى، والمراد الوفاء بعهد ، والمواظبة على الإمتثال للأوامر الإلهية والأحكام الشرعية، واجتناب ما نهى عنه، قال سبحانه وتعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي] ، وقوله تعالى [وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً] ( ).
الثانية: المكلف نفسه وما قطع من العهود، وعقد من المواثيق، فهي عائدة الى اسم الشرط (من) والمعنى من أوفى بعهد نفسه، ومنه قوله تعالى [وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ] ( ) ، وقوله تعالى [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ] ( ).
والأصح هو الثاني الا ان الأول من مصاديقه بل هو أهمها، فللإنسان عهد مع وعهود مع الناس، وقد لا تكون له عهود مع الناس، وان وجدت فهي اختيارية ومحدودة في موضوعها محصورة في زمانها ومدتها، اما عهده مع فهو ملازم له في حياته كلها، كما انه انطباقي قهري لوجوب التكاليف والعبادات .
لقد جاءت الآية لتحث اهل الكتاب على الوفاء بالعهود التي عقدوها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.ويعقدونها مع المسلمين ،والتحذير من نقضها ، قال تعالى [ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ] ( ).
لقد جاءت الآية للتوكيد على الوفاء بالعهود، التي تتم طوعاً واختياراً، او عند الإنكسار والحاجة والضعف وهذا لا يعني المبادرة الى نقضها عند تغير الأسباب، وتبدل الأحوال، لوجوه:
الأول: لزوم التقيد بالمواثيق مطلقاً.
الثاني: لم تتم تلك العهود الا مع اهل الحق وهم المسلمون، وما تركوه للمعاهد اكثر مما اخذوه منه.
الثالث: مبغوضية نقض العهود، وما فيه من الغدر والخيانة.
لذا جاءت الآية بعد ذمه تعالى للذين يخونون الأمانة، ليكون موضوعها أعم، والنفع منها أكبر، ولا ينحصر بموضوع خيانة الوديعة، بل يشمل صيانتها وحفظ العهد، لقد اراد ان يكون حفظ الأمانة مقدمة ووسيلة لحفظ العهد، وأداء الوظائف العبادية، وكذا العكس أي ان حفظ العهد والميثاق مقدمة وعون لتعاهد الأمانة وردها الى اهلها، ولا تنحصر العهود بما يعقده الشخص نفسه بل تشمل:
أولاً: عهد وما اقامه على العباد من الحجة بوجوب طاعته.
ثانياً: العهد الذي يبرمه القادة والرؤساء واهل الحل والعقد بما يكون ملزماً للأتباع والأعوان.
ثالثاً: ما يعقده الشخص نفسه من المواثيق والعقود، مع المتحد والمتعدد.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “للمنافق ثلاث علامات: “إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان”( ) .
ويلاحظ في الحديث ذكر الوعد والأمانة، ولم يذكر العهد، بالتخصص، وعدم ذكره يحتمل وجوهاً:
الأول: التباين الموضوعي بين عدم الوفاء بالعهد وخصال المنافق الذميمة.
الثاني: عدم الوفاء بالعهد اشد وأكثر قبحاً من النفاق.
الثالث: النفاق اكثر قبحاً من عدم الوفاء بالعهد.
الرابع: دخول عدم الوفاء بالعهد ضمن هذه الخصال الثلاث، وهي الكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، وهذا الوجه على أقسام هي:
الأول: ان يكون عدم الوفاء بالعهد فرعاً ومصداقاً لأحد الوجوه الثلاث.
الثاني: يعتبر أصلاً لأحدها.
الثالث: نقض العهد والميثاق عنوان جامع للوجوه الثلاث، والصحيح هو الأخير، وكأن الحديث جاء لبيان مصاديق نقض العهد، ولذكر قبائح عدم الوفاء به، بصيغة التفصيل التي تهدف الى الصلاح والإصلاح، واقامة الحجة على اهل المعصية، فهذا الحديث يدل على تعدد مضامين الآية الكريمة وعظيم الثواب بالتقيد باحكامها، والضرر البالغ الناجم عن عدم الوفاء بالعهد، الذي يدخل ضمن عناوين عديدة منها الكذب عند الحديث، ولقد اخذ على الناس الميثاق بان لا يقولوا الا الحق قال تعالى [فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ] ( ).
والوعد من مصاديق العهد وان وقع من طرف واحد، لكن تلقاه الطرف الآخر بالقبول والرضا والغبطة مع البقاء بانتظار حصوله في الخارج، والأمانة من العهد، وحفظها من الوفاء بالعهد والذمام.
وأختلف في صدق عنوان المنافق على حامل بعض الصفات الثلاث الواردة في الحديث، وهل يشترط اجتماعها في شخص واحد كي يصدق عليه انه منافق، ام تكفي خصلة واحدة لتحقق عنوان النفاق، وبلحاظ الذي بيناه يبدو النزاع فيها صغروياً، اذ ان الجمع بين الآية الكريمة والحديث النبوي واعتباره تفسيراً وتأويلاً لها يدل على اجتماعها معاً وصدق صفة النفاق على من تجتمع عنده ، كما تظهر الآية الكريمة الإعجاز في الحديث باعتباره وجهاً من وجوه الوحي لأنه جاء بثلاث خصال قبيحة لا ينفك بعضها عن بعض وكأن بينها ملازمة إلا ان يشاء .
قانون العهد
للعهد معانِ عديدة منها: الأمان والميثاق، والوصية، والأمر ، يقال عهد اليه بعهد اذا أوصاه وأمره ، كما في قوله تعالى[وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) وياتي بمعنى المدة والزمان ،كما في الحديث: “أعتقل لسان رجل على عهد رسول ” أي أيامه ومدته، ويطلق العهد على اليمين والذمة ورعاية الحرمة، ومنه المعاهدة وهي نوع مفاعلة بين طرفين يتعاهدان على أمور.
ويطلق اصطلاح المعاهدة على الميثاق بين المسلم والذمي ليحصل فيه الأخير على العهد والأمان ، وفي الحديث:”لم يبعثني ربي بان أظلم معاهداً”.
والمتبادر من لفظ العهد هو الميثاق، ويدخل الأمان فيه باعتباره من مصاديقه، فالأمان عهد من طرف للتأمين على الثاني وتعاهد سلامته، والعهد أعم فقد يكون بين طرفين بعرض واحد، كل واحد منهما يحتاج الآخر في حفظ سلامته وأعانته، وهو من وجوه حاجة الإنسان باعتباره ممكناً، تصيبه الفاقة والعوز فيفتقر الى غيره، وهذا الإفتقار مركب من وجهين:
الأول: افتقار وعوز دائم لله تعالى، فالإنسان محتاج الى رحمته تعالى، وهذه الحاجة على قسمين:
الأول: في الدنيا.
الثاني: في عالم الآخرة، وكل قسم من هذين القسمين انحلالي ينشطر الى عدم أقسام بلحاظ موضوع وأوان الحاجة في الدنيا، وتعدد مواطن الآخرة ومنها الحوض والصراط والميزان بالإضافة الى عالم البرزخ السابق لها.
الثاني: حاجة الإنسان لغيره، وهي من الآيات في فلسفة الحياة الدنيا وأحكامها، وهو على قسمين ايضاً:
الأول: الحاجة الى الناس سواء كانوا أعلى او أدنى منه، او مساوين له.
الثاني: الحاجة لغير الإنسان كما في حاجة الإنسان الى التنزيل والوحي، التي تتجلى بحاجته الى القرآن والوفاء بالعهود لدوام الحياة والقواعد النظامية فيها.
نعم قد يكون الإنسان ممن يحتاجه غيره في الأمان والإلتجاء والإغاثة والسلامة ودفع الأذى والضرر، وفي حفظ الوديعة والمال، فجاءت الكتب السماوية بالتوكيد على حفظ العهد ولزوم عدم الغدر ونقض الميثاق، كما جاءت في بيان الوصية واحكامها ولزوم تعاهدها، وقد تكون الوصية امراً يجب صيانته وتعاهده وحفظه ، ومنه قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا] ( ).
والعهد قانون ثابت في الأرض وأحد مقومات استدامة الوجود الإنساني على سطحها، وهو على قسمين:
الأول: العهد الإلهي الذي يجب على الإنسان الإمتثال لمضامينه وسننه، وهو على شعبتين:
الأولى: العهد الذي يجب على العبد حفظه والتقيد به، وعدم الخروج عنه.
الثانية: عهد الناس لله ، كما ورد في الدعاء:”اللهم اني اعهد اليك أي اودع عندك اقراري واعترافي بالعبودية لك”.
ويجمع الشعبتين قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ] ( ) أي مع الإلتزام بالواجبات وأداء المستحبات فان يرزق العبد ما وعده من السعادة والنعيم الأخروي.
الثاني: العهود والمواثيق بين الناس في حال الحرب والسلم، وبين المتحابين والمتخاصمين، والذي يجري على اللسان او بالتدوين والكتابة.
فقانون العهد بقسميه ملازم للإنسان في الحياة الدنيا، كما يصاحبه في عالم البرزخ والآخرة، مع التباين في وجه المصاحبة، فهو في النشأة الأولى عمل وفعل على العبد التقيد به، اما في الآخرة فهو حساب، وثواب عند الوفاء بالعهد، وعقاب عند الإخلال به وباحكامه، كما ان العهد نوع اكرام للعبد ، وهو على أقسام:
الأول: عام، ويشمل الناس جميعاً، ويأتي من أجل صلاحهم وانقاذهم واعانتهم على وظائفهم، قال تعالى [ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ] ( ).
الثاني: ما يتعلق بالأنبياء ابتداء من آدم ومع ما في هذا القسم من التكليف فانه تشريف واكرام خاص.
الثالث: الذي يخص أمة او ملة من الملل، كما في العهد لبني اسرائيل الذي جاء مقارناً لتفضيلهم على اهل زمانهم.
الرابع: ما يكون للناس كافة على أختلاف اجيالهم وتعدد أمصارهم، وهذا من الآيات في الإرادة التكوينية ان ينبسط حكم ، ويجري ميثاق على الموجود والمعدوم في كل زمان، قال تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ] ( ) ، ولا ينحصر موضوع الميثاق بالذي يكون بين وبين خلقه، فقد يكون بين العباد أنفسهم، ولم يأتِ القرآن بالتوكيد على لزوم التقيد بالأول وحده، بل جاء بالتوكيد على حفظ العهود والمواثيق مطلقاً ومنها التي تكون بين العباد، قال تعالى [الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ] ( ).
والعهد وسيلة من وسائل الأمن والسلامة واستقرار المجتمعات، وانتظام المعايش وهل حجته شرعية ويحتاج الى دليل للتعبد به، ام انه حكم يهدي اليه العقل، وتدل عليه سيرة العقلاء، ورضاهم وثناؤهم على من يفي بالعهد، ونفرتهم وذمهم لمن يقوم بنقضه ولا يحرص على الوفاء به، الجواب هو الأمر الجامع لهما من غير تعارض بينهما، مما يدل على موضوعيته في العبادات والمعاملات، ولموضوعية العهد في موازين الأعمال وموارد الإحتجاج والبرهان، أمتدت يد التحريف الى قانون العهد، فأدعى قوم عهداً بينهم وبين كذباً وزوراً، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ] ( ).
وأنكر آخرون عهداً ثابتاً بينهم وبين ، قال تعالى [ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين العهد والميثاق، الجواب فيه وجوه:
الأول: التساوي، فالعهد هو الميثاق ، وليس بينهما تباين او اختلاف.
الثاني: العموم والخصوص من وجه ، وهو على شعبتين:
الأولى: الميثاق فرع العهد.
الثانية: العهد فرع الميثاق.
الثالث: التباين والتنافي بينهما.
والأصح هي الشعبة الأولى من القسم الثاني أعلاه، فالميثاق أخص من العهد وان كان متحداً معه في الموضوع ، قال تعالى [ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ] ( ) ، فالميثاق توكيد وابرام وتجديد للعهد، واخبار باشتراك طرفي العهد في عقده وامضائه والإقرار به.
قانون الوفاء
الوفاء: الأداء والإلتزام بالشرط والعهد، يقال وفى بعهده وأوفى بمعنى، ويأتي بمعنى التمام، يقال: اوفاه حقه أي أتمه، ولم ينقص منه شيئاً.
لقد خلق الإنسان خليفة في الأرض، وهذه الخلافة لا تنحصر في موضوع واحد، فمع انها لا تتقوم الا بالعبادة والطاعة لله، فانها تشمل الأخلاق الحميدة، والآداب الحسنة، وما فيه الصلاح والرشاد وما يبعث الرضا في النفوس، والوفاء من مصاديق الإنصاف ، وهو محبوب بذاته عند ، وهو من مقدمات ونتائج العبادة وعلى نحو مركب ومن وجوه:
الأول: من يحرص على الوفاء تزول غشاوة الغدر عن عينيه ويستطيع ان ينصف الناس ويقر بالحقائق.
الثاني: الوفاء مقدمة للصدق والأخلاص في مقامات العبودية وطاعة ، فمن يكون الوفاء سجية له يجتهد في أداء وظائفه، ويدرك ان أهمها هو طاعة والإمتثال لأوامره.
الثالث: يعتبر الوفاء من مصاديق العدالة، وهي ملكة اتيان الواجبات وترك المحرمات، واجتناب الإصرار على الصغائر ، ويكفي منها حسن الظاهر والسيرة، والوفاء من احسن مظاهر العدالة.
الرابع: الوفاء اداء من طرف واحد كالإيقاع، الا انه لا يتقوم الا بطرفين:
الأول: الوفي.
الثاني: الموفى اليه.
الخامس: الوفاء من المروءة، وهي حسن السمت وتنزيه النفس من الرذائل ومفاهيم الدنائة، ومنها المواظبة على صلاة الجماعة، وقضاء الحوائج والكرم وحسن الضيافة، ونحوها من محاسن الأخلاق وجميل الآداب، ومن أهم وجوه المروءة الوفاء، لذا فهو قانون ثابت في الأرض وعادة جميلة، وسنة متوارثة، وهذا التوارث من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض، فاذا أخل بها قوم فان غيرهم يتعاهدونها اويسلمونها كالراية الى من بعدهم من الذراري والأجيال.
وهذا التعاهد على قسمين:
الأول: طاعة لله تعالى، خصوصاً وان الكتب السماوية والأنبياء جاءوا جميعاً بالوفاء ولزوم حسن الأداء.
الثاني: حسن الخلق والإصغاء لحكم العقل باجتناب الغدر والظلم لمبغوضيتهما الذاتية، والتنزه عن الدنائة والرذائل.
ويبين قانون العهد، وقانون الوفاء ان الأخلاق الحسنة تستلزم السعي والقصد والعمل، والإجتهاد في التنزه من العادات الذميمة، وان الإنتماء لملة او فئة لا يكفي وحده لنيل المراتب الكريمة عند وعند الناس، بل بالعكس فمن ينتمي الى ملة سماوية ويخالف احكام الصلاح والتقوى، يضر بنفسه وجماعته، ويرتكب إثما مركبا، خاصا أزاء ذاته ، وعاما ازاء الجهة التي ينتمي إليها .
لذا جاء الإسلام حاجة للناس ، لعدم طرو التحريف على أحكامه ومبادئه ولبقاء سننه وشرائعه حية متصلة ظاهرة للأبصار، مدركة بالبصائر.
ومن الآيات ان مضامين قانون الوفاء في القرآن لا تنحصر بأيام الإسلام وعهد النبوة المباركة، بل تشمل أيام الدنيا كلها، لتكون عبرة وموعظة ودعوة للناس لتعاهد مبادئ الوفاء، وهذا التعاهد باب للكسب ونزول الفضل الإلهي وتوالي النعم، باعتباره علة للثواب الآجل، لما فيه من الحصانة الذاتية من القبيح.
وتبدو موضوعية الوفاء في القرآن من خلال صيغة الأمر التي جاء بها، مما يعني الوجوب لعدم وجود دليل او امارة على حمله على الندب والإستحباب، وقد ورد في القرآن بصيغة أفعل عشر مرات ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ] ( ).
وهذا التعدد لا ينحصر بالميثاق بين العبد والخالق، بل يشمل العهود بين الناس في الأبواب المختلفة والمعاملات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ( ).
والخطاب هنا وان جاء للمسلمين دون غيرهم، فانه يشمل الناس جميعاً، من وجوه:
الأول: عمومات الخطاب التكليفي بالإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: لزوم محاكاة الناس للمسلمين فيما يفعلونه بصفة الإسلام.
لعمومات التنزيل، ولأن فعلهم من تقوى ، وهو خير محض.
الثالث: مجيء الكتب السماوية جميعها بالوفاء ولزوم التقيد به.
الرابع: الوفاء بالعهد والعقود من عمومات خلافة الإنسان في الأرض، ولزوم تحليه بالأخلاق الحميدة، وجاءت الآيات العشرة التي تتضمن صيغة أفعل بلفظ (أوفوا) على الوجه الآتي:
الأول : ثلاث آيات بالوفاء بعهد .
الثاني : خمس آيات بالوفاء بالكيل والميزان أي اتمامه وعدم نقصه.
الثالث : واحدة بالوفاء بالعقود.
الرابع : واحدة بالوفاء بالعهد مطلقاً، أي بعهد ، والعهود مع الناس.
وهل يعتبر الوفاء بالكيل من عمومات الوفاء، ام ان القدر المتيقن منه هو اتمام الكيل وعدم نقصه، الأصح هو الأول باعتبار ان اتمام الكيل فرع الوفاء والصدق والإنصاف، كما أنه من الوفاء بعهد لما فيه من الحكم بالحق وعدم بخس الناس أشياءهم.
فكثرة الأوامر الإلهية بالوفاء بالكيل والميزان، ووروده في آيات أخرى بلفظ الخبر كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف [أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ] ( ).
تبين ما له من موضوعية في تثبيت قانون العهد، والوفاء بين الناس، باعتبار ان اتمام بالكيل فرع الوفاء بالعقود، وهو من مصاديق قانون الوفاء كما انه مقدمة وطريق للوفاء بالعهد الإلهي، وقد جاءت الآية محل البحث لتكون مصداق الوفاء الذي تفضل بها على بني آدم، واعانتهم على التقيد بأحكامها، وهذه الإعانة متعددة منها:
الأول: هذه الآية الكريمة، لما فيها من الحث على الوفاء بالعهود.
الثاني: دعوة العقل من داخل الإنسان للوفاء بالعهود.
الثالث: تلمس منافع الوفاء بالعهود والعقود، والثواب العاجل منه تعالى.
الرابع: الوعد الإلهي على الوفاء بالعهود والعقود، والوعيد على خيانتها ونقضها.
قانون الإقتباس
يقال أقتبست منه علماً أي استفدته وأخذته منه على نحو الترشح، والإقتباس من سنن الحياة، وهو عام وشامل للناس جميعاً، ولا ينحصر بموضوع مخصوص وينقسم الى قسمين:
الأول: الإقتباس الحسن، وهو ان يكتسب الإنسان من غيره العلم ويتعلم منه مصاديق الطاعة ، ويأخذ منه الأخلاق الحميدة، والعادات الفاضلة.
الثاني: الإقتباس السيء، وهو الذي يتعلق بتعلم العادات الذميمة، والأفعال القبيحة، والمعاصي والذنوب،
والناس فيهما على أقسام:
الأول: من يعطي ويمنح الحسن ، ولا يقتبس منه إلا الجيد.
الثاني: الذي يشيع الفاحشة ويحاول ان ينشر الردئ والقبيح.
الثالث: من يقتبس الحسن، ويعرض عن القبيح.
الرابع: الذي يأخذ القبيح والمنكر.
الخامس: من يمنح الحسن والردئ، ويجمع بين الضدين.
السادس: الذي يقتبس الأمرين معاً، فينهل من الحسن، ويأخذ من القبيح.
وأفراد كل قسم من الأقسام أعلاه من الكلي المشكك أي انه على مراتب متفاوتة في مقدار وموضوع الإقتباس والكسب والمحاكاة.
والإقتباس يكون على طريقين:
الأول: الذي يحصل من غير وسائط سواء بالذات او بالعرض.
الثاني: ما يكون بالوسائط والتسبيب.
والسببية تكون أحياناً في هداية الآخرين لما فيه الصلاح، وهذا التسبيب على قسمين:
الأول: المباشر الذي يكون بين الوفي ومن يتبعه ويتأثر بسمته ومحاسن الآداب التي يتحلى بها، مثل الولد، والصديق والجار.
الثاني: غير المباشر وينقسم بلحاظ عدد الواسطة الى قسمين:
الأول: الواسطة المتحدة.
الثاني: الواسطة المتعددة، وهذا القسم ينشطر الى أقسام كثيرة فقد تكون الواسطة ثنائية، او ثلاثية، او رباعية، وهذا من فضله تعالى ان يتصل الفضل وتكثر أسباب الهداية والرشاد.
لقد جاء ذكر الوفاء بالعهد بصيغة الماضي، وعلامة الفعل الماضي انه يقبل تاء التأنيث الساكنة، كقرأت وكتبت، وعلامة المضارع ان يقبل دخول (لم) مثل لم يذنب، ولم يقم، أما فعل الأمر فتجتمع فيه علامتان:
الأولى: دلالته على الطلب.
الثانية: قبوله ياء المخاطبة ، كقوله تعالى [وَهُزِّي إِلَيْكِ] ( ).
ولا تعني ارادة الزمن الماضي وحده، لأن موضوع وحكم الآية القرآنية يستغرق الأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، كما ان الآية خطاب لجهات متعددة هي:
الأولى: المسلمون الموجود منهم والمعدوم.
الثانية: اهل الكتاب مطلقاً سواء الذي يصون الأمانة او الذي يخونها.
الثالثة: الذين يقولون نحن احباء ، وهم اليهود.
الرابعة: اولئك الذين يحرفون الكتاب ويقولون على الكذب.
الخامسة: الناس جميعاً.
ومع التباين في أفعال الناس وانتماءاتهم فان الرسالة تخاطبهم جميعاً كل بحسبه، فهي ثناء ووعد كريم للمسلم، وتوبيخ ووعيد للكافر، وهذا من اعجاز القرآن ان يكون اللفظ الواحد انحلالياً ويجمع بين المتناقضين في خطاباته، من غير ان يستلزم الأمر استحضار واسطة، على ان السبب الخارجي موجود وهو فعل الإنسان وهل هو الأيمان والتقوى ام الفجور والخيانة.
والفعل الثلائي المزيد فيه على اثني عشر بناء، ثلاثة لزيادة الحرف الواحد، وخمسة لزيادة الحرفين، وأربعة لزيادة الثلاثة، ومن الأول زيادة الهمزة في أوله مثل أَقرأَ، أزاد، وتأتي زيادة الألف لمعان عديدة منها صيرورة الشيء ذا شيء، فقوله تعالى [أَوْفَى بِعَهْدِهِ] أي صار وفياً، ليكون الوفاء صبغة وصفة يعرف بها صاحبها، والنقض والخيانة صفة يندم عليها فاعلها، وهذا الندم مركب من التلبس بالفعل القبيح، والحسرة على عدم نيل مرتبة الثناء والصلاح.
قوله تعالى [وَاتَّقَى]
بعد الوفاء بالعهد، جاءت التقوى كصفة لمن يحبه تعالى في اخبار عن موضوعيتها في عالم الأعمال، وموازين الثواب والعقاب، وليس من شيء أفضل للإنسان في حياته من لباس التقوى، لذا يقترن نيل منازلها وبلوغ مراتبها بالعقل والحكمة، باعتبار ان أهل التقوى هم اهل البصائر الذين استطاعوا التمييز بين طريق الحق والشر، ويختارون سبل الهداية، والإقرار بالعبودية لله تعالى ، ويتفرع عن هذا الإختيارأداء الفرائض والعبادات واجتناب المعاصي والسيئات، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
ومن مصاديق التقوى:
الأول: طاعة وعدم معصيته، فالطاعة والإمتثال لأوامره تعالى هي عنوان التقوى والشاهد على الأيمان.
الثاني: شكر في السراء والضراء وعدم جحود النعم ومع التباين في منازل وارزاق الناس فان كل واحد منهم محل لنعم غير متناهية منه تعالى.
الثالث: استحضار ذكره تعالى، وعدم الغفلة، فمن صفات المتقي الإدراك بان عزوجل معه ، ومتى ما علم الإنسان ان اقواله وافعاله جميعها حاضرة عنده سبحانه فانه يخشاه، ويسعى في مرضاته، ويتجنب نواهيه.
الرابع: بذل الوسع في سبل الخير والصلاح، والجهاد في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: تهذيب الذات، ومحاربة النفس الشهوية والغضبية.
وفي قوله تعالى [واتقى] ورد عن ابن عباس: اتقى الشرك، ان يحب الذين يتقون الشرك بقصد القربة.
وقد ورد عن رسول صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: من أحب ان يكون اتقى الناس فليتوكل على ، لتكون النفوس سلاحاً ذاتياً وملكية نفسانية تجعل الإنسان يرجو في السراء والضراء، ولا يخاف غيره وليبقى الفواء بالعهد من مصاديق التوكل على بالغلبة على النفس الشهوية والغضبية، والتخلي عن الإستئثار على الأشياء بالباطل، فالجمع بين التقوى والوفاء بالعهد في الآية يؤكد لزوم التقيد بمفاهيم الصدق والأخلاق، والتوكل على في أداء الواجبات وعدم الخشية من غير .
قانون التقوى
لقد تفضل ونفخ في آدم من روحه وجعله خليفة في الأرض، ولابد ان تتجلى افاضات هذين الأمرين بخصال حميدة عند بني آدم، وهذه الإفاضات من وجوه:
الأول: ما في نفخ الروح من البركات وعناوين التوفيق ووجوه العلم.
الثاني: مضامين الخلافة في الأرض، لأن تفضله تعالى بجعل الإنسان خليفة يعني تأهيله لمنازل الخلافة وجعله قادراً على اداء وظائفها.
الثالث: اجتماع النفخ والخلافة في تحصيل مراتب ودرجات من الأيمان والتقوى والإرتقاء في منازل المعارف الإلهية.
وهذه الوجوه الثلاثة تساهم على نحو التعدد والإجتماع في تعاهد التقوى في الأرض ووجود المتقين بين الناس، ثم تفضل سبحانه بالنبوة والكتب المنزلة، فجاء الأنبياء متعاقبين وفي بلدان متباينة لتثبيت اهل التقوى، وزيادة عددهم، وانتشارهم في الأمصار، ليكون كل واحد منهم داعية الى بقوله وفعله.
ولم تكن مسالك التقوى آمنة وخالية من العناء والشقاء، بل تضمنت شتى صنوف الأذى، وتحمل الأنبياء اشدها وتعرض فريق منهم للقتل في سبيل ، ليؤكدوا لأهل الأيمان انه ليس من حدود تقف عندها مضامين قانون التقوى، فتزهق الروح ولا تغادر التقوى النفس والبدن والجوارح.
ليثبت الإنسان للملائكة والخلائق انه اهل للخلافة في الأرض وان نفخ الروح فيه من عند تجلت بتقوى الى حين مفارقة الدنيا، بل ان المفارقة العاجلة والمتقدمة في زمانها جاءت بسبب التقوى وليقتدى اصحاب واتباع الأنبياء بهم فيعشقون الشهادة والقتل في سبيله تعالى.
ليكون من معاني الشهادة، الشهادة على صبر المتقين وثباتهم على الأيمان، وعدم مغادرتهم الدنيا الا بالتقوى، وعدم تخليهم عن التقوى تركة وارث يتلقاه اهل الأيمان ليحملوا راية التقوى في الأرض ويسلكوا ذات السبل، وهم يعلمون ما ينتظرهم مما تعرض له سلفهم، من غير ان يصيبهم قنوط او خوف، لأن الخوف من ملأ قلوبهم واستولى على اركانهم، فعرفوا ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات وصانوا عهد في صدقهم وأمانتهم ونزاهتهم فكانوا دعاة لله في حضورهم بين الناس وعند غيابهم بل وبعد موتهم ومغادرتهم الحياة الدنيا.
وهذا من بركات التقوى، وشاهد على الثواب العاجل وعون على جذب الناس الى منازلها والتقيد بمضامينها لتبقى التقوى راسخة ودائمة في الأرض، وهذا هو مضمون (قانون التقوى) فلابد من وجود متقين في كل زمان، ومتعلق وجودهم أمران:
الأول: العدد، كثرة وقلة، وهو من الكلي المشكك بالنسبة للزمان او للبلدان المختلفة فمرة يكثر عددهم، وأخرى يقل بآية اعجازية منه تعالى، من غير ان تؤثر قلة العدد ووحشة الطريق عليهم، ولم تضعف من عزائمهم.
الثاني: درجة التقوى، واتحاد خصائصها ، وان تباينت آنات الزمان، فيلتقي المتقون من الأزمنة الأولى مع اخوانهم من الأزمنة اللاحقة ، مما يبعث اليأس والقنوط في قلوب اعداء الدين، ويجذب الناس للإيمان والهدى، ويقوي عضد المؤمنين ويجعل كلمة هي العليا، وصحيح ان اهل التقوى يتعرضون للأذى والعناء الا انه يتلاشى ويهون امام الثواب العظيم الذي ينتظر كل واحد منهم.
وقانون التقوى مرتبة ينالها الإنسان باللطف الإلهي ليكون عنواناً للشكر، وهذا الشكر يتجلى بوجوه اضافية من العبادة ورسوخ التقوى في النفس، فالله يقرب الإنسان من منازل التقوى ويساعده على الإستقرار في بحبوبتها ويجعل قلبه روضة ناضرة ، قال تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ] ( ) ، وفيه حجة مركبة على الناس وان لم يحصر آياته بقوم او أمة دون أخرى بل هي عامة للناس، ولكن الذين ينتفعون منها هم المتقون، لتوكيد تغشي رحمته تعالى للناس وان خزائنه لا تنفد، وجنته تتسع لجميع الناس لو استجابوا للآيات واعتبروا منها، كما تفضل سبحانه بالإنذارات والإبتلاءات في الدنيا لتكون باباً ومناسبة للإنابة والإفاقة.
قانون ثواب التقوى
لقد جعل التقوى مادة للحياة على الأرض ومقوماً لها، فلا يمكن استدامة الحياة على الأرض من دون التقوى، فهي من أهم القوانين والأنظمة التي شهدتها وتشهدها الحياة الإنسانية، واذا كانت لها هذه المنزلة العظيمة فما هو ثوابها، وأجر من يحرص عليها وينالها ويسعى في دروبها ارتقاء في سلم المعارف، واقتراباً من الحضرة الأوحدية، لابد وان ثوابها يتناسب ومنزلتها في عالم الأعمال ومراتب الصالحات.
فالتقوى عنوان اليقين، وشاهد على بلوغ أرقى درجات الأيمان والهداية، وهذه القاعدة ليست من القياس الإقتراني وحكم العقل، بل تدل عليها الآيات القرآنية التي جاءت بالثناء على المتقين، وبشارتهم بالخلود في دار النعيم، ونجاتهم من الفزع الأكبر وموارد الخوف في الآخرة، وتتجلى مصاديقه في الدنيا بعدم خشيتهم من الظالمين، وعدم تسرب اليأس والجزع الى نفوسهم عندما يقوم الآخرون بانكار ودائعهم، والإستيلاء على أموالهم، ومحاولة ايذائهم بالشبهات والباطل مع انهم على الحق.
وجاءت آيات الوعد والوعيد لتكون اخباراً عما أعد للمتقين، ودعوة للناس للمسارعة في الخيرات، والتحلي بالفضائل والتخلية عن الرذائل.
وقد وردت آيات كثيرة بالوعد والإخبار بما أعد للمتقين من الثواب والأجر العظيم مما يفوق حد التصور منها قوله تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ *فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ] ( ) ، وقوله تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ *وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ] ( ).
وجاءت آيات قرآنية تفيد في ظاهرها بانه لا يفوز في الآخرة الا اهل التقوى الذين يخشون في أوامره ونواهيه ، قال تعالى [وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
لقد تضمنت الكتب السماوية كلها الإخبار والوعد الكريم بالجنة، للمتقين واهل الصلاح الذين يجاهدون في سبيله تعالى ويصبرون على الأذى والظلم، ولم يلتفتوا الى أهل الريب الذين يقولون الكذب على ولا الذين يرتكبون المعاصي وما في هذا الإرتكاب من الإغراء والدعوة الى المعصية كما جاء التخويف والإنذار من النار، ولزوم الخشية منها التي تتمثل باجتناب المعاصي، قال تعالى [فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( )، والآية وان جاءت خطاباً لبني اسرائيل الا انها تنبيه وتحذير للناس كافة، ويخرج أهل الأيمان منه بالتخصص للبشارات الواردة في القرآن للمتقين.
ان الثواب العظيم الذي اعده للمتقين سبب مبارك لجذب الناس الى الأيمان، وحث لهم على الوفاء بالعهود، وعدم نقض المواثيق، لذا جاءت هذه الآية متعقبة للآية السابقة التي تذم الذين يخشون ، ومع ان اهل التقوى يتنعمون في الدنيا ويسبحون في لذة غامرة، وهم يؤدون التكاليف ويصبرون في جنب ، فان الثواب الأخروي أفضل لهم بمراتب لا متناهية من الحياة الدنيا لأنهم يعيشون حينئذ بنعيم محض، وتغمرهم سعادة مطلقة لا شائبة فيها من الحزن او الكدورات.
ولا ينحصر قانون ثواب التقوى بعالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا، وهذا الثواب على قسمين:
الأول: ما كان مصاحباً للتقوى ومصاديقها من الطاعات.
الثاني: الذي يأتي متعقباً لأفعال التقوى، ولا تعارض بين القسمين أعلاه، وكلاهما من مصاديق الثواب العاجل في الدنيا، فصحيح ان الدنيا دار عمل بلا حساب الا ان هذا لا يعني خلوها من الثواب، بل ان الثواب فضل حاضر منه تعالى، كما انه يترشح على من ينتسب للمتقي، من الأهل والأبناء والأصدقاء والجيران ممن لم يكن عدواً لمضامين التقوى، ولا يحاول ان يكون برزخاً دون استدامة افعال الصلاح والأيمان منه، لقد جاءت الآية لتؤكد ثواب التقوى بما فيها من الأمر بالوفاء بالعهود وخشية والتوكيد على حقيقة ثابتة في الإرادة التكوينية وهي ان يحب المتقين.
قانون المقدمة
لقد جعل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة فلابد ان يعمل الإنسان، وهذا العمل اما ان يكون خيراً اوشراً، ويتعين منزله في الآخرة وفق عمله، فأما الى الجنة، واما الى النار، وليس من انسان الا ويعمل ما يجعله يخضع لموازين الحساب في الآخرة، واما ان يأتي عمله مطابقاً للأوامر الشرعية، واما مخالفاً لها، مع اعتبار القصد والنية لذا يطلق عليه اسم المكلف لأن الدنيا دار تكليف، فكما يختار الإنسان نوع الزرع الذي يريد حصاده وجنيه واقتطافه كي ينتفع منه لحاجة الذات والمؤونة والتجارة، فكذا يكون نوع الفعل في الدنيا وموضوعيته في الآخرة.
وكل انسان يوظف عقله وخبرته عند اختيار نوع الزرع ويرجع الى اهل الخبرة وحال السوق والواقع، ولكن في ميادين العمل ترى بعضهم لا يلتفت الى أي واحد من هذه العناصر التي تساهم في الهداية الى أفضل الزروع، مع انه قياس مع الفارق، لأن الزراعة في الدنيا ذات نفع محدود زماناً وحاجة.
اما الزراعة للآخرة فتؤتي أكلها كل حين، ويكون ثمرها وحبوبها من التوليديات التي تنشطر باستمرار، لتورث نعيماً متصلاً دائماً، ولا تنحصر بصنف من الناس كالفلاحين يل يلتقي فيها الغني والفقير، والسيد والعبد، والرجل والمرأة، ومن فضله تعالى انه لم يترك العبد وحده في الدنيا يواجه الخيار الى الجنة او النار على حد سواء بل تفضل سبحانه بقواعد اللطف ووجوه الرحمة لجعل السعي الى الجنة هو الأقرب اليه ليكون الأيمان ارتباطاً بين عالم الشهادة وعالم الغيب على نحو الإختيار والقصد، وهذا الإختيار باب لقبول الصالحات ونيل مراتب الثواب.
وقانون المقدمة يتعلق بتهيئة اسباب دخول الجنة، بالحرص على التقوى، والإحتراز بطاعة للنجاة من معاصيه قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( )، ومن مصاديق هذا التزود الوفاء بالوعد، ورد الأمانة، وحفظ الميثاق، وعدم الإفتراء على .
والسعي في مقدمات السعادة الأخروية جهاد متصل ومواظبة على الطاعات وحرث يؤتي نفعه.
وكما ان التقوى مقدمة للآخرة، فهي أي التقوى تحتاج الى مقدمات كما في قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ) ، وقوله تعالى [اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ).
وهذه المقدمات وان كانت تستحق عنواناً مستقلاً كما تعتبر قانوناً خاصاً قائماً بذاته الا انها من مصاديق قانون التقوى هذا ، لأنها عون على النجاة في النشأة الآخرة، ومن خصائص هذا القانون وجود العاملين به في كل زمان، ولم يأتِ عملهم قهراً وانطباقاً، بل يكون عن نية وقصد ليكون حسن الإعتقاد من المقدمات الضرورية للنجاة في الآخرة لوجوب قصد القربة في الواجبات التعبدية.
وجاءت الآية بصيغة [وَاتَّقَى] الجامعة للمتحد والمتعدد، في اشارة الى امكان احراز الإنسان التقوى وتعاهده لها بمفرده وان خالفه الناس وأعرضوا عنه، وهذا من اعجاز القرآن في باب التكاليف، فمن صفات المتقي ان لا يخشى الا ، وهو بمفرده امة يجاهد في سبيل لذا تعتبر مرتبة التقوى رفعة في منازل اهل الأيمان، وهذا لايمنع من ارادة الجمع بلحاظ صيغة اسم الشرط (من) في قوله تعالى [مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ].
وأيهما أفضل التقوى على نحو الإنفراد أوالجمع، الجواب هو الأخير لإتساع رقعة الصلاح، وزيادة عدد الذين يفوزون بالثواب ويساهمون في نشر معالم الدين، كما ان كثرة المتقين تساعد في التخفيف عنهم، وتدفع الحرج وأسباب الضيق عنهم.
قانون جوامع الكلم
لقد تفضل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب على المرسلين في آية حاضرة متجددة في كل زمان، انتهت ايام النبوة وأختتمت الرسالة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاقب الأنبياء على وجوه محتملة:
الأول: ان الأنبياء على مرتبة واحدة في الوحي والتنزيل.
الثاني: الرسول اكبر من النبي، وله النصيب الأكبر من التنزيل.
الثالث: نصيب النبي من الوحي أكبر من الرسول.
والصحيح هو الثاني، فالرسول صاحب شريعة ويبعث النبي ليكون على شريعة من سبقه من الرسل، كما يلتقي معه في التبشير بالرسول اللاحق، ومراتب الرسل تحتمل أموراً ثلاثة:
الأول: انهم على مرتبة واحدة في التنزيل والرتبة.
الثاني: الرسول السابق أكبر درجة من الرسول اللاحق.
الثالث: الرسول اللاحق أكبر منزلة ودرجة من الرسول السابق.
الرابع: علو مرتبة الرسل الخمسة اولي العزم.
الخامس: أفضلية الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الأنبياء والرسل.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس جمعاً بينها، فاولوا العزم من الرسل اعلى رتبة من الأنبياء والرسل الآخرين وهم نوح، وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والرسول اللاحق اكبر درجة من السابق الا بالنسبة للرسل اولي العزم فانهم مقدمون على من تقدم عليهم وسبقهم، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدم عليهم جميعاً، ومن شواهد هذا التقديم نزول القرآن على صدره، وهو اشرف الكتب السماوية ومنها انه صلى الله عليه وآله وسلم تلقى جوامع الكلم اذ قال: “بعثت بجوامع الكلم” وهذا القانون ثابت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن والوحي واحكام الحلال والحرام في الشريعة الإسلامية من وجوه:
الأول: انه جزء من امامة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس.
الثاني: من علل وموارد تفضيله على الأنبياء والمرسلين.
الثالث: شاهد على المنزلة العظيمة التي نالها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: دليل العلم اللدني والمراد من جوامع الكلم هو امور:
الأول: اجتماع مسائل عديدة في مسألة واحدة.
الثاني: تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قواعد الكلية وتفرع الأحكام المتعددة عنها.
الثالث: احاطة القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث.
الرابع: ملائمة احكام الشريعة الإسلامية.
بحث بلاغي
من وجوه البديع الإطناب بالزيادة ، عطف العام على الخاص ومن منافعه:
الأول: بيان العناية بالخاص والتنبيه عليه والإشارة اليه على نحو الخصوص للتوكيد على موضوعيته.
الثاني: عموم النفع والفائدة، بان يأتي الموضوع خاصاً، فيذكر الخاص بما يناسبه ويستوفي حقه، ثم يؤتى بالأعم، لبيان وحدة الحكم في تنقيح المناط، وان الحكم الذي يتعلق بالخاص، يشمل أفراد العام ايضاً.
الثالث: بيان فضل الخاص.
الرابع: لحاظ القرائن المقالية والحالية لإستظهار الدروس والعبر من أمرين:
الأول: افراد الخاص بالذكر.
الثاني: مجيء العام معطوفاً عليه ، وجاء في الآية ذكر الخاص لأن موضوع الآية السابقة يتعلق بالوفاء بالعهد ولزوم حفظ أموال المسلمين، وعدم الخيانة التي تتصل بعدم رد ودائعهم.
ومن أمثلة عطف الخاص على العام في القرآن قوله تعالى [إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي] ( )، باعتبار ان النسك هو العبادة، وان الصلاة فرد من أفراد العبادة ولكن لموضوعيتها واعتبارها في موازين الأعمال ودلالتها على الأخلاص في العبادة جاء ذكرها وافرادها على نحو الإستقلال والذكر الخاص، ولابد من اسرار لعطف التقوى على الوفاء بالعهد، فالتقوى أعم وفي الآية نكتة عقائدية أخرى الى جانب علم البلاغة، وهي بيان موضوعية التقوى في الوفاء بالعهد، أي ان يأتي بنية القربة الى وخشيته كي يترتب الثواب عليه.
وبينما جاء ذكر الوفاء مقيداً بانه وفاء بالعهد، فان الإتقاء جاء في الآية بصيغة التنكير والحذر، وفيه وجوه:
الأول: من أتقى وأمتثل لأوامره.
الثاني: الذي إجتنب ما يؤدي به الى النار، قال تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( ).
والأصح هو الأول، واذا ورد ذكر التقوى على نحو الإطلاق فانه ينصرف الى تقوى وطاعته والخشية منه، ويدخل اجتناب المعاصي في الخشية منه تعالى ، وفي التنزيل [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ) ،
وفي الحديث: “حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات”( )، أي ان الجنة لا تنال الا بالجهد والعناء وتحمل المكاره ، وهذه الأعباء قد تجعل الإنسان لا يرى الجنة رؤيا البصيرة، ويغفل عنها لما تستلزمه من أداء التكاليف والصبر على الطاعات، اما النار فان الشهوات واللذات تحجب عن الإنسان الحس بحرارتها والشعور بشدة عذابها.
وتقوى لا تنحصر بالعبادات بل تشمل المعاملات وانصاف الناس والإحتراز من القيام بظلمهم وايذائهم، وفي الآية تعريض بالذين يأكلون أموال المسلمين كما بينته الآية السابقة، ليكون مضمون الآية المدح والذم مع ما بينهما من التضاد، المدح للمسلمين، والذم لمن يتعدى على حقوقهم ويأكل أموالهم بالباطل.
وقد جاءت الآيات القرآنية بالحث على التقوى في باب المعاملات قال تعالى [حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ).
والتقوى عنوان جامع يتغشى أفعال الإنسان في العبادات والمعاملات والأحكام، وتتجلى معالمها في كل باب من أبواب الحياة فلذا جاء القرآن بالحث عليها لتكون ملكة راسخة، وملاكاً للأعمال، وقائداً للسان ليشغله بذكر ويمنعه من الغيبة والنميمة وفاحش القول ونحوه من الأخلاق الذميمة.
قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]
خاتمة الآية قاعدة كلية في الإرادة التكوينية، وحقيقة ملكوتية تزين الأرض بزينة الأيمان، وتكون عوناً على الهداية والرشاد، وفي الآية أمور:
الأول: انها عز للمسلمين لفوزهم بحب وهو أثمن شيء في الوجود، فهم أغنياء بالذات والأصالة بفضله وعنايته تعالى، ولا تصل النوبة الى الحاجة الى المال الخاص او العام لتحصيل الغنى، بل ان هذا المال لن يزيد من درجة العز التي يتنعمون بها، وفيها اخبار بان مواساة غصب أموالهم ونكران ودائعهم لن يضرهم، لما لهم من الشأن عند ، وهذا الشأن يترشح على منزلة الإنسان بين الناس، فاذا احب عبداً جعل القلوب تميل اليه، والناس تخشاه وتهابه، وفي الحديث القدسي” ما تحبب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه، وإنه ليتحبب إلي بالنافلة حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته ، اذا احببت عبدي كنت سمعه الذي يسمعه به”( ).
أي انه يصبح منقطعاً الى متنزهاً عن القبائح، ومبتعداً عن اسباب الكدورات، يستولي حبه تعالى على سمعه، فيجعله لا يستمع الا الى الموعظة وكل ما هو حسن، وان كان يسمع ضده، وينشغل قلبه بذكره تعالى فيذهل عن اللذات، ويجتنب السيئات.
الثاني: انها مواساة لما يواجههم من العناء والإذى في جنب ، ومنه التعدي على أموالهم وودائعهم، خصوصاً وان هذا التعدي يأتي خلافاً للمبادئ والعادات المتعارفة والظاهر، أي تجد شخصاً معروفاً بين الناس بالأمانة فيضع المسلم وديعته عنده، او يبيعه بالنسيئة فيفاجئ بانكاره للوديعة، وامتناعه عن قضاء الدين لا لشيء الا لأنه يقول [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( )، وكأنه أمر بالأمانة الى الناس جميعاً الا المسلمين على نحو الخصوص.
فجاءت هذه الآية للتخفيف عن المسلمين وتحذيرهم، فاذا كان بعضهم يخرجهم من عمومات الأمانة، لأنهم اختاروا التصديق بنبيه، فان يخصهم بحبه وشآبيب رحمته.
الثالث: في الآية بشارة للمسلمين، لما فيها من معاني الجذب الى الحضرة الأوحدية، وتوكيد مقامات القرب والسياحة في عالم القدس، والإستغراق في أسرار الملكوت، فحب تعالى للمسلمين يفتح عليهم أبواب المعارف الإلهية وخزائن الأرض، فلا يحتاجون الناس، ويكون غيرهم محتاجاً لهم، ولا يضر بهذه القاعدة حصول بعض الشواذ والأفراد الشخصية النادرة لإرادة الإعتبار والإتعاظ والإلتفات الى عظيم النعم الإلهية، بالإضافة الى التنبيه عند حصول التقصير والتخلف عن مضامين التقوى من قبل بعض الأفراد والجماعات.
الرابع: في الآية دعوة للصبر والتحمل، قال تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ] ( )، واجتناب الدخول في خصومات بخصوص الودائع من الأصل، أي بالإحتراز من أهل الريب والشك، وهذا الإجتناب مقدمة للتوجه لميادين الجهاد.
الخامس: تحث الآية المسلمين على عموم التقيد بالأمانة، وعدم المقابلة بالمثل او التعدي على من يقوم بخيانة الأمانة ويحاول اكل مال المسلمين ليكون الرد والسعي لإقامة البينة وانتزاع الحق بالصيغ الشرعية وسيلة مباركة لدعوة الناس الى الإسلام، سواء الذي يخون الأمانة او غيره من أهله ودويرته وقومه.
ومن الإعجاز القرآني في باب الأخلاق والآداب، تعليم كيفية الرد اذ أعتدى على المسلم في ماله ونحوه، ويكون هذا الإعتداء نسخاً للقيم الحميدة والسنن المتوارثة عند المليين، والسجايا الحميدة التي يمدحها العقلاء وتسكن اليها النفوس الإنسانية، فيقابله المسلم بالتقوى والحلم، ولا يفعل الا ما يرضي ، فيكون درساً وموعظة للناس، وكأنه يدعو الخصم الى فك الخصومة والتحاكم بتقوى فمتى ما كانت التقوى هي القاضي والحاكم فان النزاعات تنتفي من الأرض.
السادس: في الآية بشارة السعة والغنى وتولي المسلمين لمسؤولية الأمانة، فاذا كانت الوديعة توضع اختياراً عند شخص أي ان المستودع يختار بنفسه من يضع عنده ماله او يبيعه بالنسيئة او يشترى منه بالسلم، فان المسلمين يتحملون مسؤليات القيادة والزعامة للناس جميعاً، وتكون امانتهم شرعية وسماوية فلذا جاء تشريع احكام الذمة بالنسبة للكتابي لحفظه في نفسه وعرضه وماله.
السابع: تخبر الآية عن ثبات المسلمين على الهدى ومواظبتهم على أفعال العبادة واخلاصهم في الدين، لأن حب باب للهداية والرشاد وحاجب دون الوقوع في المعاصي، وكأنه عصمة كسبية تتغشى المسلمين فحينما يبلغ الإنسان مرتبة التقوى،فان يهديه الى سبل الرشاد والأيمان، ويمنع عنه الضلالة ومقدماتها.
الثامن: في الآية اخبار عن ارتقاء المسلمين في سلم المعارف ونيلهم من كنوز الملكوت، فحبه تعالى للعبد من أعظم الهبات التي فازت بها الخلائق، وهو مصداق للنفخ فيه من روحه تعالى، كما يؤكد العناية الإلهية بالإنسان وتعاهد مرتبة الخلافة في الأرض التي نالها من بين الملائكة والجن والخلق أجمعين.
فالله يمد الإنسان بما يجعله قادراً على وظائف الخلافة ومواظباً على أداء مسؤولياتها بان يحبه ويجعله منشغلاً بذكره متجافياً عن معاصيه، ولا يأتي هذا الحب الا مع التقوى والهدى.
الثامن: من يتقي ويخشاه في الغيب، يكشف الحجاب عن قلبه، ويوفقه لمرضاته، ويجعله ينفر من المحرمات، ويتجافى عن دار الغرور، ويشتاق الى جواره تعالى والسعادة الأبدية في دار الخلود.
التاسع: في الآية اخبار عن فوز المسلمين بالجنة، ويظهر هنا التفسير الذاتي للقرآن من وجوه:
الأول: وصف المسلمين بانهم المتقون، كما في قوله تعالى [ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ] ( ).
الثاني: اخبار القرآن عن حبه تعالى للمتقين، كما في هذه الآية الكريمة.
الثالث: البشارة بالجنة للمتقين، وهذه البشارة جاءت في آيات كثيرة، والكثرة هنا عنوان التوكيد والترغيب قال تعالى[ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ] ( ).
العاشر: تتضمن الآية بشارة نصر المسلمين وظهورهم على أعدائهم، وغلبتهم على من ناوءهم ودحضهم للشبهات وعصمتهم من الزلل والوقوع في المعاصي.
الحادي عشر: حبه تعالى للمسلمين كفيل بتغلبهم على المحن التي يسببها لهم من يخون الأمانة ولا يرد الوديعة.
الثاني عشر: في الآية إحتجاج على اولئك الذي يقولون [قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( ) فعلى الناس خشية باكرام عباده الذين يحبهم، فان قلت كيف يعلم هؤلاء بان يحب المسلمين قلت: تدل عليه هذه الآيات ولأن المسلمين صدقوا بالنبوة وآمنوا بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واطاعوا ورسوله.
وقد جاءت الآية بصيغة الجمع (المتقين) وفيه مسائل:
الأولى: الإخبار عن كثرة عدد المتقين، وفيه دعوة للمسلم ان لا يستوحش من طريق الهدى والأيمان لكثرة اخوانه سواء في المصر الذي هو فيه او غيره.
الثانية: تشمل الآية المتقين من جميع الأزمنة ، ومطلق أهل التوحيد فلا تنحصر بزمان دون آخر، لتكون شاهداً على عظيم فضله واحسانه وكرمه وكثرة عطائه ، وان حبه تعالى يتسع لكل من يحرز مرتبة التقوى.
الثالثة: في صيغة الجمع ترغيب بالأيمان، وحث للناس على خشيته تعالى في السر والعلانية، ودعوة للإسلام، واخبار عن سعة رحمته ومغفرته، فالآية تخبر عن تعلق حبه تعالى بمن تلبس بالتقوى، ولم تقيده بما قبله من الأفعال وحال الذنوب والمعاصي لذا ورد في الحديث: “الإسلام يجب ما قبله”( ).
الرابعة: الآية دعوة لوحدة المسلمين ونبذهم للفرقة والخلاف، لإشتراكهم بالنعيم والسعادة، فالرحمة الإلهية تتغشاهم جميعاً، والمدد يأتيهم بصيغة الجمع، وبصفة التقوى، ولا تقف الآية عند حدود الدعوة للوحدة الأيمانية بل انها تساهم فيها، وتمنع من تعدد وانشطار وجوه الخلاف والخصومة فيما بين المسلمين أفراداً وجماعات ودولاً ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( )، فكأن الآية تقول ليس لأحباء ان يتنازعوا ويتقاتلوا فيما بينهم.
الخامسة: الآية عون للمسلمين فمن أحبه يجعله لا يرى الا ما يحب ويمنع عنه الكدورات الظلمانية لذا تراه في غبطة متصلة وان لاقى الأذى والكيد، لأنه منجذب الى ، ينظر للأمور بموازين الثواب والعقاب وما فيها من الأجر، فتتغشاه السعادة بما يأتيه من الثواب.
اصطلاح بلاغي جديد “التبيان”
قد يأتي الكلام في موضوع، ثم يتعقبه حكم عام وقاعدة كلية شاملة، يكون هذا الموضوع من مصاديقها، ومن فوائده بيان ما فيه من الحسن او القبح الذاتي وما يترتب عليه من آثار، كما في هذه الآية فبعد ذكر الذي ينكر وديعة المسلم التي عنده، مع الإصرار على هذا الإنكار بذكر علته وهي جواز اكل أموال المسلمين بعد وصفهم بالأميين جاءت هذه الآية لقصد توكيد الذم، وليكون ما فيها من قانون حب الله تعالى للمتقين مفتاحاً لعلوم عديدة، وباباً للهداية والتوفيق لطاعته سبحانه، ونطلق على هذا النوع من البديع اصطلاح “التبيان” لما فيه من بيان حكم الموضوع المذكور ودلالات هذا الحكم.
ولا ينحصر موضوع “التبيان” بموارد الذم ، بل يشمل المدح والثناء ايضاً، فلذا جاءت الآية بذكر اهل الوفاء والتقوى بقوله تعالى [مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى]، كي لا يصاب المؤمنون باليأس، ولا يظن الناس غلبة الخيانة والإفتراء في المجتمعات، واكدت الآية قلة اثرهما، مع فضحهما كما في هذه الآية، والى جانب البلاغة فللتبيان وظائف عقائدية وهي التأديب والإرشاد والتعليم، وهو سلاح في الإحتجاج ويساهم في تنمية ملكة التقوى والأيمان والبصيرة في الدين.
قانون حب المتقين
لقد أمر العباد بالطاعة والإخلاص، وجعلهم محتاجين اليه، لتكون هذه الحاجة وسيلة المناجاة وسبيلاً للإستقرار في حضرة القدس، والفرار اليه تعالى، والتفاني المحض في مرضاته سبحانه، والإرتقاء في مراتب المعراج، وتتجلى التقوى بحال الإنكسار والخشوع له سبحانه، والإقرار بالعبودية الكاملة له ، والتنزه من شوائب الكفر والضلالة، ليفوز العبد بمقامات الحب الإلهي، وتعرج روحه في مشاهد الأنوار، وأسفار الفضيلة، وتغرق في سبحات السعادة والكرامة، ومن خصائص الإنسان السعي لبلوغ مراتب اعلى مما هو فيها وهم على مراتب وأقسام:
الأول: من يكون سعيه عن حق واستحقاق في موضوعه وحكمه.
الثاني: الذي يسعى بغير حق او وجود وراجح ذاتي يؤهله.
الثالث: الذي يقترن سعيه بالدعاء والشكر لله .
الرابع: من لا يلتفت الى النعم المركبة والمتعددة التي هو فيها.
فيأتي (قانون حب المتقين) ليجعل الموضوعية للصلاح والهداية باعتبارهما سبباً لنيل رضا تعالى، ويؤكد بان ميزان المراتب علواً وانخفاضاً يتعلق بالحب الإلهي،
فمتى ما كان العبد محبوباً عند فهو في أسمى المنازل وأبهى المقامات، ومتى ما كان مبغوضاً بافعاله وأقواله عند فهو في أردء الأحوال وأخس المنازل، وهذا التباين دعوة لنبذ الظلم والخيانة والعادات الذميمة ومنها التعدي على حرمات وأموال المسلمين.
واذا كانت طائفة من أهل الكتاب تدعي ان افرادها احباء ، فجاءت هذه الآية لتوكيد حقيقة مركبة من وجهين:
الأول: وجود أمة يحبها .
الثاني: تعيين هذه الأمة يكون بالأفعال والعقيدة، وليس بالوراثة فجاءت الآية بذكر صفات المتقين، وليس ذكر اسم ورثة ملة مخصوصة كاليهودية او ابناء الأنبياء من بني اسرائيل، وان ورد تفضيلهم ، وهذا التفضيل يتعلق بالأزمنة السابقة كما ان موضوع الحب الإلهي اخص منه مع انه ثابت في كل الأزمنة بذات الشروط والموضوع وهو ان يصبح العبد غريقاً في جلال الحق فلا يرى الا الآيات والبراهين الدالة على بديع صنعه، وتمتلأ نفسه بالأيمان فيخشاه بالسر والعلانية.
وهل لقانون (حب المتقين)اثر ملكوتي لأفعال العبد فحسب ام له تأثير ، الجواب هو الأخير فاذا أحب العبد ارشده الى سبل التوفيق والرشاد وأعانه، كما انه ليس خاصاً بالحياة الدنيا بل يشمل عالم الآخرة، وليس من حد لمنافعه فيها لأنه عنوان السعادة الأبدية، فالخلود بالنعيم لم يأتِ عن استحقاق من العبد بل باللطف الإلهي ومنه هذا القانون .
ولم تأت بدايات مضامين هذا القانون ونيل العبد مما فيه من الفيض والبركة من العبد نفسه، بمعنى ان اختيار التقوى والتوفيق في أداء العبادات بفضل منه سبحانه، والحب عند الإنسان حالة نفسانية وعنوان للميل الى المحبوب والشوق اليه.
وواجب الوجود لا ينفعل ومنزه عن التغيير، فحبه تعالى للعبد جذبة الى عالم الملكوت وبشارة ثباته في مقامات القرب، وظهور سلطان المحبة على قلبه وجوارحه فلا يفعل الا ما يحب ويرضى، ويكون الحب الإلهي له واقية من الأذى والكيد والمكر.
فان قلت ان المتقين يتلقون الأذى وقد ثبت ان الأنبياء اكثر الناس تحملاً للأذى قلت: ان أذاهم في جنب ، وليس للذات والنفع الخاص، وهذا الأذى وسيلة للإرتقاء في سلم المراتب وسبب لزيادة الأجر والثواب، ومناسبة للعز والرفعة، وباب للفخر بين الملائكة والخلائق مطلقاً، وفي قانون الحب رد على الملائكة الذين قالوا يوم خلق آدم وأخبرهم انه خليفته في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فهذا الرد اظهار عملي لأهلية الإنسان للخلافة، واخبار عن مدد الهي وعون لتعاهده لها تجلى بالقرآن ، وحرص الناس على الإمتثال والتقيد بمفاهيم التقوى كفاية ومصداق للإمتثال لأوامر تعالى وطلب مرضاته وقصد القربة من رحمته.
بحث كلامي
لقد جعل الحياة الدنيا مليئة بالكنوز والذخائر ومنها كنز التقوى الذي تترشح عنه منافع وذخائر عديدة تنقسم الى قسمين:
الأول: المنافع الدنيوية، فالتقوى خير محض، وباب كريم للرزق وغنم حاضر، وسعادة دائمة.
الثاني: المنافع الأخروية، وهي من عالم اللامنتهي سواء بالنسبة للأمة او للأشخاص، وباب للنجاة من العذاب، وسبيل للإرتقاء في مراتب الخلود.
وتحتمل التقوى من جهة المتعلق أربعة وجوه:
الأول: الإتقاء في أمور دنيوية.
الثاني: الإتقاء والإحتراز من أمور دنيوية لأجل غايات أخروية.
الثالث: الإتقاء في أمور قصدية لأغراض أخروية.
الرابع: الإحتراز والتوقي في أمور تعبدية لأغراض دنيوية، كالذي يخشى تفويت الفريضة لأن في اقامتها مصلحة دنيوية له.
الخامس: الإحتراز في أمور دنيوية وتعبدية لأغراض دنيوية وأخروية.
والصحيح هو الخامس، فان التقوى حرز مطلق يتغشى عالم الأفعال، ويشمل شؤون الحياة الدنيا والآخرة، فهي من الهبات الإلهية للإنسان، فتتدلى ثمارها لكل من يبتغيها وتدعو الناس لأن ينهلوا منها، ويتفيؤوا بضلالها، وبها يحترز الإنسان من آفات الدنيا وشرور الآخرة، والتقوى صفة كريمة لمن يسعى للنجاة من الآخرة، ويستثمر الحياة الدنيا كمزرعة للأخرة وقد جاءت التقوى في القرآن بمعانِ متعددة منها:
الأول: الخشية من ، بالإمتثال لأوامره، واجتناب معاصيه، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( )، وهذا الوجه من اقسام التقوى وهو الأصل والأهم، وشاهد على الإرتقاء في مراتب الإيمان واليقين.
الثاني: الوفاء بالعهد بقصد القربة، والسعي لمرضاة ، كما في الآية محل البحث.
الثالث: الإستعداد ليوم القيامة بعمل الصالحات، وترك المحرمات قال تعالى [ وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]( ).
الرابع: الفرار من النار، واجتناب أذاها وما فيها من العذاب قال تعالى [ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ] ( )، ومن الآيات ان يأتي القرآن بالأمر بتقوى ، واتقاء النار، ولم يأتِ بالتقوى بخصوص الجنة، وفيه وجوه:
الأول: ان تقوى هي الطريق الموصلة الى الجنة.
الثاني: لبيان نكتة عقائدية وهي ان الجنة لا تطلب بذاتها، بل هي دار جزاء.
الثالث: لا تكون العبادة رغبة بالجنة، بل حباً بالله .
الرابع: بلوغ مراتب النعيم في الجنة ليس استحقاقاً من العبد، بل فضل من .
أما منافع التقوى فهي من اللامنتهي سواء للفرد الواحد او للجماعة او للأمة والملة، وبالنسبة للجماعة ترى على سبيل المثال ما في النصوص من الحسنات المضاعفة لصلاة الجماعة المترشحة على افرادها مجتمعين ومتفرقين، ومن منافع التقوى:
الأول: الفوز بحب للعبد التقي، وهي من أعظم النعم، وليس لها حد محدود في الموضوع والحكم، او في المكان والزمان وهو وثيقة النجاح والفلاح في الآخرة.
الثاني: محو الذنوب وغفران السيئات، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ]( ).
الثالث: الإكرام والمنزلة الرفيعة عند قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
الرابع: الإحتراز من الذنوب والوقوع في المعاصي، لأن التقوى واقية منها.
الخامس: الإنشغال بذكر تعالى، فالخشية من تجعل الإنسان يستحضر ذكره سبحانه، فيمتلأ القلب بحبه ويمتنع عن الإنقياد لسلطانغيره والحب لا يحصل مع تعلق القلب بغيره.
السادس: الأمن من الفزع في عالم البرزخ، وورد في الخبر ان قبر المؤمن روضة من رياض الجنة.
السابع: النجاة من عذاب البرزخ، لذا جاءت الآيات باتقاء النار، ويدل في مفهومه على اجتناب مقدمات واسباب دخول النار.
لقد جعل القلب أفضل اعضاء الإنسان وهو الواسطة بين نفخ الروح وبين البدن، فأراد له ان يكون اماماً لها في خشية وروضة ناضرة بذكره.
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] الآية 77
الإعراب واللغة
ان الذين يشترون: ان وأسمها، يشترون : فعل مرفوع بثبوت النون، والواو: فاعل، والجملة صلة الموصول،
بعهد : جار ومجرور متعلقان بيشترون.
وايمانهم: عطف على (بعهد ) وهو مضاف، والضمير (هم): مضاف اليه.
ثمناً: مفعول به، قليلاً: صفة.
اولئك لا خلاق لهم: اولئك: اسم الإشارة، مبتدأ، لا: نافية للجنس، خلاق: اسمها، مبني على الفتح.
في الآخرة: جار ومجرور، واسم الإشارة اولئك وما بعده في محل رفع خبر ان، وجملة (لا خلاق لهم) خبر اولئك.
والخلاق: الحظ والنصيب من الخير والنعم والصلاح، ويأتي الخلاق بمعنى الدين، الا ان قرينة التقييد بالآخرة يفيد ارادة معنى النصيب.
جاءت (ان) للتوكيد وتأتي بكسر الألف في حالات هي :
الأول : عند ابتداء الكلام، وعدم وجود كلام قبلها ترتبط به وترتكز عليه في معناها.
الثاني : عند الإستئناف، والإشارة لكلام سابق تقدم ومضى.
الثالث : مجيء لام التوكيد بعدها، وتعتمد في دلالتها على (إن)، كما في قوله تعالى [وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ]( ).
الرابع : اذا جاء قبل ان (الا) وان لم تأت بعدها لا، كما في قوله تعالى [وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ] ( ) ، وفيما سواها تأتي (ان) مفتوحة الألف الا انها تلتقي مع المكسورة في معنى التوكيد.
في سياق الآيات
بعد ذم الذين يخونون الأمانة ويفترون على وبيان صفات الذين يحبهم من أهل الوفاء والتقوى الذين يخشون الله ويجتهدون في طلب مرضاته، جاءت هذه الآية لتؤكد قبح نقض الميثاق، وعدم الوفاء بالعهد، وتبين الآثار الأخروية والعقاب الشديد المترتب عليها.
وهذا من اعجاز القرآن في نظم الآيات اذ تتضمن الآيات المتعاقبة فيه بياناً للموضوع مع أحكامه وكيفية تدارك الخلل فيه، والهداية للإصلاح واقامة الحجة على الظالم.
وبينما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن حبه تعالى للمتقين، واستغراق هذا الحب للعوالم المختلفة فيشمل عالم الدنيا والبرزخ ويوم القيامة على نحو التفصيل وليس الإجمال، بمعنى ان حبه تعالى يتجلى في المواطن المتعددة لكل عالم من عوالم الدنيا والآخرة، ليكون خيراً محضاً، وبركة ونعمة ملازمة للعبد.جاءت هذه الآية بصيغة الإنذار والتخويف للذين يظلمون انفسهم والغير بالتعدي على الحرمات .
وجاءت الآيات السابقة بلفظ اهل الكتاب سواء بعنوان طائفة منهم كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ] ( ).
او بصيغة التبعيض بالحرف (من) كما في قوله تعالى في الآية السابقة [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] ( ).
وتضمنت هذه الآية صيغة التنكير ، ولكن التقييد والبيان يظهر في نوع الفعل وهو الحصول على ثمن بخس وعوض قليل في مقابل الجحود والإعراض عن الأوامر الإلهية في طاعة الرسول، والتصديق بالآيات التي جاء بها من عند .
اعجاز الآية
الى جانب النظم المبين أعلاه فان الآية أظهرت بوضوح عظيم الذنب والمعصية بنقض العهود وعدم الوفاء بها، واختيار قبول ثمن بخس على نبذ العهد ، والأذى الذي يصيب من ينكث بالعهد الإلهي، على نحو التعدد والتفصيل لتنفر النفوس من نقض العهد، ومن يقوم به، في اشارة الى لزوم طاعته تعالى وعدم ابتغاء زينة الحياة الدنيا ومحاربة أهل الأيمان.
وفي الآية اخبار عن علمه تعالى بأعمال العباد وحتمية الحساب والجزاء، وان حفظ عهد من الضروريات التي لا يمكن التفريط بها كما تبين الآية ان يكلم المؤمنين يوم القيامة وينظر اليهم، أما الظالمون فحجبوا عن أنفسهم نعمة كلام ، ونظره وما فيهما من مضامين العفو والرحمة.
ومن اعجاز الآية انها جاءت بخصوص عالم الآخرة ووجوه النعم فيها والتي يحجبها الجاحد وناقض العهد عن نفسه وهو في أشد الحاجة لكل واحد منها.
والبيع نوع مفاعلة ومعاملة بين طرفين، فيحصل النقل والإنتقال بالعوض والمعوض، ويسمى احدهما مبيعا، والآخر ثمناً، ولكن موضوع الآية ليس فيه مبيع ينتقل الى الغير، وليس من طرف آخر يستلم ويمتلك ما يفرط هؤلاء به من عهد ، وهذا من الإعجاز في ورود لفظ الشراء في الآية دون البيع وتعلقه بالثمن القليل، وكأن معاملة الشراء من طرف واحد.
وليس من شخص او جماعة يشترون عهد ، كما انه من الأمور التي لا تباع ولا تقبل النقل، وهو واجب عيني وتكليف شخصي فيحصل الشراء والأغواء والضلالة ولكن تتخلى وتفزع الخلائق كلها من شراء التكليف.
وفيه نكتة أخرى انه لو لم يحصل هذا الشراء والتفريط بالواجبات، فهل يحصل هؤلاء على الثمن القليل الذي أخذوه عوضاً للواجب العيني ، الجواب نعم ، ويأتيهم بالحلال اضعافاً مضاعفة في الدنيا، مع الأجر والثواب في الآخرة، لأن تعاهد الإنسان لواجباته، ومحافظته على ايمانه وما عنده من الأمانات وعدم خيانة العهود والمواثيق باب كريم للرزق ورضا الناس واطمئنانهم لسمته وحسن معاملته وطيب سمعته.
والمتعارف والثابت ان عقد البيع لا يتم الا بين طرفين، ولا ترى في موضوع الشراء هنا الا طرفاً واحداً، لذا جاءت الآية بعنوان الشراء وليس البيع، بالإضافة الى استنباط قاعدة كلية وهي عدم وجود من يبلغ من الظلم والتعدي بان يبيع ويدفع الثمن القليل قيمة لعهد والأيمان، بل ان الموضوع لا تجري عليه معاملة البيع ابتداء واستدامة، وهذا من الإعجاز الذي يستقرأ من الآية الكريمة ولا ينحصر بالآية بل انه يتعلق بالعقائد والمبادئ.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (ولا ينظر اليهم).
الآية سلاح
لقد بينت الآية موضوعية واعتبار الإمتثال لأوامره تعالى في الحياة، ولزوم عدم التفريط بها من قبل المكلفين جماعات وأفراداً، وفيها اخبار عن سوء العاقبة الذي ينتظر الظالمين، ونوع احتجاج على اولئك الذين يسطون على ودائع المسلمين ويجحدون حقوقهم، بان ما يستولون عليه من الأموال يكون وبالاً عليهم، وسبباً لدخولهم النار، وحرمانهم من الرحمة، وفي الآية شفاء لصدور المسلمين ومواساة لهم نتيجة ما يتعرضون له من الأذى.
اذ ان غصب حقوقهم والإستحواذ على ودائعهم ومصادرة أموالهم بغير حق لا يضر من يقع عليه هذا الفعل فحسب، بل يصيب الحسرة والألم جميع المؤمنين لعمومات قوله تعالى[ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) ، ولأن التعدي والأذى جاء بسبب ايمانهم وطاعتهم لله ورسوله، وهذا أمر جامع يتعلق بالمسلمين كافة، فاذا اوذي أحدهم لكونه مسلماً فان أذى آخر وحزناً يصيب أخوانه وهذا الحزن لا ينحصر بزمانه بل يشمل المسلمين في الأزمنة اللاحقة.
ولكن هذه الآية جاءت للتخفيف عنهم، والإخبار بان ينتقم للمسلم، يؤخذ منه المال القليل فيصاب عدوه بالخسارة الفادحة ويتعرض للأذى والعقاب الشديد، فتكون هذه الخسارة مواساة للمسلمين، ودعوة لهم للمواظبة على الطاعات والوفاء بالعهود وعدم نقض المواثيق، وفي الآية بشارة للمسلمين لما ينتظرهم في الآخرة من مضامين الرحمة والفضل الإلهي.
افاضات الآية
بعد الإصطفاء والتفضيل، وتوالي نزول الكتب السماوية وبعث الأنبياء على أهل الكتاب وما فيها من أسمى آيات الإكرام وشآبيب الرحمة، جاءت هذه الآية لتتضمن الوعيد والتخويف والإنذار، وتبين غضبه تعالى على اولئك الذين نقضوا عهده، وقاموا بأكل ودائع المسلمين عندهم، فالذي يتجرأ وينقض عهد لا يتورع من نقض العهود مع الناس والقيام بعدم مراعاة أحكام الأمانة وسننها المتوارثة عند المليين وغيرهم.
فمن الآيات في خلق الإنسان واسرار نفخ الروح فيه ان جعله يحرص على الأمانة ورد الوديعة وان لم يكن من اهل الديانات السماوية، وهذا الحرص حجة عليه في لزوم تعاهد عهد واوامره ونواهيه، والإقرار بالنعم الإلهية، ومع ما في هذه الآية من الذم فانها تبين الإفاضات الإلهية التي تتجلى بالأحكام الشرعية، واظهار الخضوع والخشوع لله تعالى.
ولقد جعل القرآن واسطة الفيض الإلهي على الناس، ولم تنحصر بركاته بالمسلمين، بل جاءت لبني آدم كافة فتشمل الموجود والمعدوم، ويأتي الخطاب فيه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتلقاه الناس باعتباره موجهاً لهم في مضامينه القدسية، ولكن الذي يعتبر ويتعظ منه هم المسلمون.
وصفة الإسلام ليست حكراً على قوم او أمة او جنس مخصوص، وقد ورد في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “اللهم ارنا الأشياء كما هي” فجاءت هذه الآية لتكشف الحجب عن عالم الآخرة، وتربط بين عالم المادة وعالم الغيب، وتبين آية من آيات مقدمات الحساب، ومنافع وأثر الأيمان فيها، وكيف انه علة للنهل من عطاء ذي الوجوه المتعددة وغير المتناهية ،وتؤكد الضرر البالغ الذي يلحق يومئذ من ينقض العهد واليمين.
ليعيش المؤمنون في بحبوحة الجنة وهم في الدنيا، تسلب حقوقهم فيزدادون ايماناً ويتحلون بالصبر، ويقوم الذي يظنون به الأمانة لأنه من أتباع كتاب سماوي بالأستحواذ على أموالهم، وهم ينظرون الى حرمانه نفسه من النعيم الأخروي باختياره، والى حسن إختيارهم بالمبادرة إلى طاعة الرسول ، وعظيم منزلتهم يوم القيامة.
وتدعو الآية الناس الى البذل عن الدين والأيمان من الذات والمال لينالوا مقامات القرب منه تعالى ويفوزوا باللطف والرحمة الإلهية في الآخرة.
لقد أراد للناس بالقرآن ادراك اللا محدود من المحدود من الإلفاظ والتنزيل، لتكون كل آية اشراقة تنير للمسلمين دروب الدنيا والآخرة وتجعل قبورهم رياضاً ناضرة، وتبدو لهم معالم القدرة والربوبية وصفات الكمال والجلال.
مفهوم الآية
تحث الآية الكريمة في مفهومها على وجوب تعاهد الأحكام الشرعية، والإمتثال للأوامر والنواهي، وتمنع من التفريط او التهاون بها، وتبين انه ليس من ثمن لها.
وجاءت الآية للإخبار عن وجود جماعة او طائفة تقوم بالتعدي على الحرمات، ولا تتقيد بالأوامر الإلهية، ولا تحرص على الأحكام الشرعية، وتحجب عن الناس ما جاء في الكتب السماوية السابقة من البشارات والإنذارات لقاء ثمن قليل من حطام الدنيا، وزينتها الزائلة.
لقد أشتروا الجاه والمال والشأن في الدنيا وأختاروا العناد والجحود وأعرضوا عن الآيات والبراهين القاطعة التي تؤكد وجوب تصديق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء وصف ما أشتروا بانه ثمن قليل، وفيه توبيخ وحث لهم على لزوم التدارك والإنابة.
وتؤسس الآية قاعدة للمقارنة لمعرفة عظيم الخسارة التي تصيب من يترك التقيد بالأوامر الإلهية لقاء متاع قليل، والنعم التي ينالها من يأتي بوجوه الطاعة ويؤدي الواجبات والمستحبات.
فما من شيء يناله الإنسان عوضاً لعبادته وصلاحه وتقواه الا الثواب على الأداء، والعقاب على الجحود، وتظهر وجوه الخسارة في الآخرة، بالعذاب الشديد لمن فرط بالأحكام الشرعية، وآذى المسلمين وغدر بهم وأستولى على أموالهم وودائعهم بغير حق، وهو من الثمن القليل لإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن أجل الأستحواذ على أموالهم [قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( ) وكذبوا على ورسوله وأدعوا انهم احباء ، ولو تنزلنا وقلنا بنيلهم لهذه المرتبة، فانها باب للرحمة بالناس، فالذين هم احباء يرأفون بالخلق ويعطون كل ذي حق حقه، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “الناس مسلطون على أموالهم”.
فجاء الوصف بصفة الإنسانية الشاملة لكل البشر من غير تقييد بالملة او الدين، مما يعني التزام الشرائع السماوية بحفظ اموال الناس، وعدم الأستحواذ عليها من غير سبب شرعي، بالإضافة الى عمومات حفظ الأمانة الذي جاءت به كل الكتب السماوية، فترى المسلم يطمئن الى الكتابي، ويضع عنده وديعته، لأنه من أتباع الأنبياء، ولكن بعض أهل الكتاب يخون الأمانة فجاءت هذه الآيات بذمه.
وقبل ان تبين الآية عقوبة التعدي على الحرمات، وارتكاب المعاصي ذكرت بخس الثمن الذي اشتروا به نقض العهود والمواثيق، وهذا من الإعجاز في لغة البرهان القرآني، وهو باب للإحتجاج والجدال واقامة الحجة على الخصم بان يذكر سوء فعله وما فيه من القبح الذاتي بالدليل، وتؤكد الآية في مفهومها على حصول الثواب والجزاء الحسن للذين يوفون بعهد ، ويبرون ايمانهم ويصدقون في وعودهم، وهذا التأكيد يستقرأ من نفي الخلاق والنصيب الأخروي عمن ينقض الميثاق ويخلف الوعد، وفي الآية مسائل:
الأولى: وجود جماعة او طائفة تقوم بنكث عهد ، واختيار المعصية وعدم الإمتثال لما جاء به الأنبياء.
الثانية: في الآية حجة على من يقوم بالجحود عناداً واستكباراً وعن علم ، وليس عن غفلة وجهل.
الثالثة: ضرورة التقيد باليمين والحلف، وعدم التفريط به.
الرابعة: اجتناب اليمين الكاذبة التي تأتي احياناً لتوكيد الدعوى الباطلة والإفتراء وانكار البشارات التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة بخصوص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء في الآية قبل السابقة قوله تعالى [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )، ومن اجل تثبيت هذا القول وجعل السامع يصدق بقولهم فانهم يعضدونه بيمين غموس، وهذا من اسرار اقتران اليمين هنا بالعهد.
الخامسة: يمكن تسمية عالم الآخرة بعالم النصيب، لينال كل مؤمن نصيبه، ويخسر المبطلون والذين يخونون العهد ويحنثون الأيمان.
السادسة: حتمية الحساب والجزاء.
السابعة: امهال الكافرين والجاحدين والمعاندين في الحياة الدنيا لينالوا عقابهم في الآخرة، وهذا الإمهال ليس مطلقاً بل تتوالى عليهم الإنذارات وصيغ الوعيد ومنها هذه الآية وما فيها من الإخبار عن خسارتهم، وتضييعهم لأسباب النجاة من النار.
الثامنة: حرمانهم من كلام وما فيه من مضامين الرحمة والرأفة، وهذا الحرمان بسبب سوء فعلهم ورضاهم بثمن بخس عوضاً عن عهد والأيمان التي يجب الوفاء والبر بها.
ومن مفاهيم الآية ان المؤمنين يفوزون بكلام في الآخرة، وما فيه من الإفاضات والبركات، ومن يكلمه بما يبعث السكينة في نفسه فان الملائكة لا تعذبه.
التاسعة: من نعم في الآخرة النظر للعبد وهو في مواطن الحساب، والأشياء جميعها حاضرة عند ، ولا يغيب عنه مثقال ذرة مما يدل على ارادة عدم نيلهم من رحمته وعطفه تعالى لأنهم حجبوا عن أنفسهم بالبيع هذا العطف ، وفي مفهومه ثناء على المسلمين الذين حرصوا على التقيد بأحكام الشريعة ولم يفرطوا بما جاء في التنزيل من الأحكام.
العاشرة: حاجة العبد للتزكية والتطهير في الآخرة، والتزكية لا تنال الا من عنده تعالى، مما يدل على تفضله تعالى بتزكية المسلمين وتطهيرهم من الذنوب بالتوبة عليهم وشمولهم بالعفو والمغفرة، وهذا المفهوم بيان لنعمة عظيمة من نعم الآخرة، فمع ان الآية جاءت في ذم الناكثين والقاسطين الا انها تبين في مفهومها مضامين الفوز العظيم الذي يناله المؤمنون بالتزكية والتطهير الأخروي، وهو غاية لكل ذي لب.
الحادية عشرة: الإنذار والوعيد لأهل المعاصي والذين يفترون على الكذب ويخونون الأمانة، وفيه تخفيف عن المؤمنين لما يصيبهم من اعدائهم، وبرزخ دون افتتانهم بما يعيشه هؤلاء من السعة والجاه، فمتى ما علم المسلم ان عاقبة هؤلاء الى الخسران والعذاب الشديد فانه لا يفتتن بهم وبزينتهم.
ان التوكيد على الحرمان الأخروي للذين يفرطون بنعم في الدنيا وينقضون العهود، وخسارتهم في مواطن الحساب وتعرضهم للعقاب يدل في مفهومه على النصيب والحظ الحسن الذي يلاقيه في الآخرة الذين يوفون بعهودهم وايمانهم.
وهذا من اعجاز القرآن وما فيه من المضامين التأديبية والإرشاد الى سبل الرشاد، وفي الآية مدح للمسلمين على تعاهدهم للعهود والمواثيق، وتقيدهم بأحكام الشريعة في باب اليمين، وتجد باباً خاصاً في الفقه يخص اليمين والحلف وفيه تفاصيل هذه المسألة الإبتلائية والإعانة على حفظ اليمين وعدم نكثه، ومسائله مقتبسة من القرآن والسنة، اذ ان الآيات القرآنية جاءت بالتوكيد على لزوم تعاهد اليمين وعدم الحنث بالإضافة الى احكام الكفارة في اليمين وكيفية التدارك.
وتدعو الآية الى العناية بالنفس، وتأديبها على فعل الطاعات فمن العهد ما يتعلق بالنفس من جهة الفرائض والواجبات وصيانة العهود، وحفظ مواثيق الخلافة في الأرض.
وتدل الآية في مفهومها على وجود نعم في الآخرة وهي:
الأولى: آية النصيب والحظ، بان ينال المؤمن الذي يعمل الصالحات نصيباً ويكون له حظ في الآخرة.
الثانية: آية التكليم بان يتفضل سبحانه ويكلم المؤمن بما يسره، ويبعث في قلبه السعادة والغبطة والسكينة، وتكون عقوبة الكافر والجاحد والناقض لعهد بان لا تشمله عمومات هذه الآية، أي ان عدم التكليم وحده عقوبة.
الثالثة: آية النظر الإلهي بان يرحم اهل الأيمان ويعطف عليهم يوم القيامة جزاء لهم بما فعلوه من الصالحات في الدنيا.
الرابعة: آية التزكية والتطهير في الآخرة لمغفرة الذنوب وهذا التطهير يحتمل في موضوعه أمرين:
الأول: صغائر الذنوب.
الثاني: الكبائر عدا الشرك.
الثالث: الكبائر مطلقاً.
والصحيح هو الأول والثاني لمن يشاء سبحانه من عباده، ومن أحكام المشيئة والأمر الإلهي عدم نقض عهد ، واجتناب اليمين الكاذبة وعدم معاوضة العهد واليمين باي ثمن من الأثمان في الدنيا. وهل شراء ثمن قليل بعهد والأيمان من الشرك أم لا ،الجواب بينهما عموم وخصوص مطاق ،فكل شرك هو نقض للعهد ، وليس العكس .
وللمؤمنين في هذه الآية علم وحال وعمل على وجوه:
الأول: العلم ، هو معرفة عظيم قدرته تعالى وان الآخرة حق وأمر واقع حتماً، ونعتها بالآخرة اخبار عن تأخرها زماناً والعلم بان مقاليد الأمور بيده تعالى يومئذ.
وهذا العلم يلتقي فيه المؤمن والكافر الا ان الكافر يشتري بآيات ثمناً قليلاً فيكون هذا الشراء حاجزاً دون التدبر والعمل وفق العلم.
الثاني: أما الحال فهو على شعبتين:
الأولى: السكينة والبهجة التي تملأ جوانح المؤمنين لتقيدهم بالعهود وأحكام الحلال والحرام ، وعدم نقضهم للمواثيق.
الثانية: حال الفزع والخوف التي تملأ نفوس الكافرين وناقضي العهود.
الثالث: العمل، وهو على شعبتين:
الأولى: امتثال الأوامر الإلهية واتباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واداء الفرائض والواجبات.
الثانية: المعصية والجحود والإصرار على ركوب المعاصي ، ومنها نقض العهود والمواثيق وخيانة الوديعة والأمانة مطلقاً، فجاءت هذه الآية لتوكيد العلم بعظيم قدرته تعالى وحتمية الحساب، وبعث الغبطة في نفوس المؤمنين والفزع في قلوب اهل الضلالة، وهي وسيلة سماوية ومناسبة كريمة ليستمر اهل الأيمان على أفعال الصلاح، وان يتدارك اهل الكفر والضلالة أنفسهم ويرجعوا عن الجحود وانكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويكفوا عن الغدر وخيانة الأمانة والكذب على .
ووردت في الآية ثلاثة ألفاظ لم ترد في غيرها من آيات القرآن هي :
الأول : يشترون بعهد .
الثاني : لا خلاق لهم في الآخرة.
الثالث : لا ينظر اليهم.
فابتدأت الآية بذكر سوء فعلهم وأختتمت بجزائه وعقابهوقد يقول قائل ان الآية ذكرت العقاب الأخروي ولم تذكر حال ناقض العهد في الدنيا، والجواب انها ذكرته بما يفيد الزجر عنه والحث على التقيد بأحكام العهد والميثاق من وجوه:
الأول: التوكيد على العهد، وهو تغليظ وتحذير من التفريط به.
الثاني: اطلاق صفة الشراء والعهد غير قابل للنقل والإنتقال بعوض او بدون عوض.
الثالث: نسبة العهد الى تعالى [بِعَهْدِ اللَّهِ] ونسبة الأيمان لهم (وايمانهم) وفيه تعريض وتوبيخ بهم، فلا التكليف العيني حفظوه، ولا الواجب العرضي الإختياري صانوه.
الرابع: نعت الثمن والعوض بانه قليل، وفيه تقبيح لفعلهم وبيان لقلة ما يأخذون في مقابل الذي يفرطون به من العز والإكرام، اذ ان عهد اكرام للإنسان واختبار له، وحث على التقيد به.
الخامس: مفهوم الآية الكريمة يفيد الفوز بالنعم المذكورة بها لمن حفظ عهد ، وصان المواثيق، ووفى باليمين واحسن أداء الدين والأمانة وأمتثل للتكاليف.
أسباب النزول
وفيها وجوه:
الأول: اخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان، فقال الاشعث بن قيس فيّ والله، كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجددني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألك بينة قلت لا فقال لليهودي احلف فقلت يا رسول الله اذن يحلف فيذهب مالى فانزل الله ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية( ).
أي ان عبد بن مسعود ذكر يمين الفجور، فقال الأشعث بن قيس انها نزلت فيه، ولكن الاية أعم وتتعلق بمن يتعدى على حقوق المسلمين بارادة محاربة الإسلام، وايذاء المسلمين عسى ان يصيبهم الجزع واليأس الا ان يرد دليل يبين شمول الآية للموضوع أعلاه، نعم ورد عن ابي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه ، ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر فقد أعطى سلعة أكثر مما أعطي وهو كاذب ، ورجل منع فضل الماء”.
وأخرج عن ابن جريج ان الاشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل أخذها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقم بينتك قال الرجل ليس يشهد لى أحد على الاشعث قال فلك يمينه فقال الاشعث نحلف فانزل الله ان الذين يشترون بعهد الله الآية فنكل الاشعث وقال انى أشهد الله وأشهدكم ان خصمى صادق فرد إليه أرضه وراده من أرض نفسه زيادة كثيرة( ).
الثاني: أخرج البخاري وغيره عن عبد بن أبي أوفى ان رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية.
ويبين هذا السبب عموم الحكم، لأن هذا الحالف لم يحلف على قضية شخصية بل جعل اليمين للتغرير والإيهام الإجمالي.
الثالث: أخرج ابن عساكر والبيهقي والنسائي وغيرهم عن عدي بن بحيرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي بينتك والا فيمينه قال يارسول الله ان حلف ذهب بارضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقى الله وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم انها حق قال الجنة فقال أشهدك انى قد تركتها فنزلت هذه الآية ان الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية( ).
الرابع: اخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا في أبى رافع وكنانة بن أبى الحقيق وكعب بن الاشرف وحيى بن أخطب( ).
الخامس: أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابي موسى قال: اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض أحدهما من حضرموت فجعل يمين أحدهما فضج الآخر وقال اذن يذهب بارضى فقال ان هو اقتطعها بيمينه ظلما كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب اليم قال وورع الآخر فردها( ).
السادس: بالإسناد عن علقمة بن وائل عن ابيه قال: اختصم رجل من أهل حضرموت وامرؤ القيس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أرض ، فقال : إن هذا أبتز علي أرضي في الجاهلية . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): ألك بينة ؟ فقال : لا . قال : فيمينه ؟ قال : يذهب والله يا رسول الله بأرضي . فقال : إن ذهب بأرضك كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكيه ، وله عذاب أليم( ).
السابع: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيى بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذوا الرشوة على ذلك( ).
الثامن: ناس من علماء اليهود أولوا فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الاشرف بالمدينة ، فسألهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم ؟ قالوا : نعم ، وما تعلمه أنت ؟ قال : لا ، فقالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله ، قال : لقد حرمكم الله خيرا كثيرا ، لقد قدمتم علي وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم ، فحرمكم الله وحرم عيالكم ، قالوا : فإنه شبه لنا ، فرويدا حتى نلقاه ، فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته ، ثم انتهوا إلى نبي الله فكلموه وسائلوه ، ثم رجعوا إلى كعب وقالوا : لقد كنا نرى أنه رسول الله ، فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا ، وأخرجوا الذي كتبوا فنظر إليه كعب ، ففرح ومارهم( ).
وموضوع الآية متعدد ويتعلق بثلاثة أمور هي:
الأول: نقض العهد والميثاق.
الثاني: حنث اليمين.
الثالث: شراء ثمن قليل بالواجب الذاتي والعرضي، اما الذاتي فهو عهد ، وأما العرضي فهو العهد مع الناس واليمين، وكل واحد منهما يجب التقيد به وبأحكامه، وقد جاءت بعض اسباب النزول خاصة باليمين وفيه وجوه:
الأول: انحصار الأسباب باليمين الفاجرة.
الثاني: الترابط والتداخل بين العهد واليمين.
الثالث: استقلال كل من نقض العهد ، واليمين باسباب خاصة.
الرابع: الحنث باليمين نقض للعهد، والأرجح هو الثاني والثالث والرابع ، لإصالة التعدد في أسباب النزول، وللتباين الجهتي في موضوعات الآية، من غير نفي للتداخل بينهما موضوعاً وحكماً.
التفسير
قوله تعالى[ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ]
بعد التوكيد في الآية السابقة على الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، ووجوب خشية والإمتثال لأوامره تعالى، واجتناب ما نهى عنه، وتثبيت حقيقة كونية تتقوم بها الحياة الإنسانية وهي حبه تعالى للمتقين، الذي لا ينحصر نفعه بالمسلمين الذين يرتقون الى منازل التقوى والإخلاص في العبادة بل يشمل عموم أهل الكتاب والناس سواء لما لهذا الحب من الإفاضات على غير محله، فيصيب الجار والقريب والصديق كما يكون حجة على الناس ودعوة لهم لتلمس دروب الهداية والفوز بما فيها من الغبطة والسعادة.
جاءت هذه الآية في ذم الذين لا يحرصون على طاعة ، ولا يتدبرون في وظائفهم العبادية والأخلاقية ويفرطون في الضروريات، مما يؤدي الى شيوع الفاحشة واختلال النظام وزيادة الأذى على المكروبين والملهوفين من أهل الأيمان الذين يحرصون على الوفاء بالعهود، ولا يبتغون الا الحق والعدل وفي الآية مسائل:
الأولى: انها جاءت بصيغة الجمع (الذين) مما يدل على كثرة اولئك الذي يتعدون على الحرمات وينقضون الميثاق ، وهذه الكثرة تحتمل أموراً:
الأول: اتحادهم جميعاً في موضوع شراء عهد بثمن بخس.
الثاني: قيام كل واحد منهم على نحو مستقل بالتهاون والتفريط ونكث عهد .
الثالث : قيام الفرد والجماعة منهم بالتعدي .
الثانية: انهم مقسمون الى طوائف وفرق كل فرقة تتخذ صيغة معينة في هذا النكث، على وجوه:
الأول: الذي لا يؤمن بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينكر البشارات به.
الثاني: من لا يؤمن بنبوة عيسى بالإضافة الى انكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه بانهما حق وصدق.
الثالث: الذي لا يرد وديعة المسلم مع علمه بوجوب رد الأمانة مطلقاً بغض النظر عن ملة وقبيلة المودع.
الثالثة: تبين الآية حال التفريط والجحود وتضييع الواجبات عند هؤلاء، الأمر الذي يعتبر دعوة للمسلمين للتقيد بالواجبات بما يؤدي الى حث الآخرين عليها.
وجاءت الآية بالإجمال والذم بلحاظ التفريط بعهد من أجل نفع محدود وقليل.
ووردت بصيغة الشراء وهو من الأضداد، فيأتي لإرادة الشراء او البيع ، وهناك دلالات لهذا التعدد والتنافي في معناه، لأن كلاً من البائع والمشتري تبايعا الثمن والمثمن.
فكل واحد من العوضين يصلح ان يكون عيناً مباعة، اوثمناً للشراء، ومع هذا فلابد من نكت عقائدية وأسرار في المقام منها:
الأول: الشراء عنوان الإختيار، لأنه لا يصح بالجبر والإكراه، مما يدل على اقامة الحجة عليهم بهذا الفعل وانهم أعرضوا عن الحق برضاهم.
الثاني: الشراء دليل الرغبة والقبول، فلا يشتري الإنسان حاجة او عيناً الا وهو يرغب فيها، ويهوى امتلاكها فعندما سعوا الى الثمن القليل فانه يدل على رغبتهم به وتفضيله على العين المباعة، مما يدل على سوء الفعل واستحقاق الذم والتقبيح.
الثالث: تبين الآية الإستعداد للتفريط بعهد ، وضعف او انعدام الأيمان، وعدم امكان التصدي للنفس الشهوية.
الرابع: الأصل في البيع والشراء هو حصول النقل والإنتقال والتملك بعوض، والبيع نوع مفاعلة ومعاملة بين طرفين، فالإنتقال جاء بالثمن، اما المثمن فلم ينتقل الى أحد، بل هو تضييع وتفريط بواجب عيني، وخطاب تكليفي موجه لكل شخص من هؤلاء.
ففي الآية اخبار عن حرمة هذا الشراء اما بيع المعوض فلا موضوع له وليس من طرف آخر فيه، فلم يحصل بيع وشراء بل حصل تفريط وجحود لقاء ثمن بخس من متاع الدنيا ولو صبر وأتقى لجاءه ذات الثمن بطرق شرعية ومن غير ان يدفع عنه عوضاً فضلاً من عند ، بالإضافة الى عدم قابلية الموضوع للبيع، أي ان عهد والأيمان لا تباع ولا تشترى، وليس لأحد ان يفرط بها.
وابتداء الآية بالحرف (ان) الذي يفيد التوكيد دليل على وجود الذين تتضمن هذه الآية ذمهم وتقبيح قولهم، بالإضافة الى دلالة الآيات السابقة ، وهذا التوكيد لا يتعارض مع عمومات الدعوة الى الإسلام، وسبل التوبة والإنابة.
وعهد في الآية على وجوه:
الأول: الأوامر والنواهي الإلهية.
الثاني: الخطابات التكليفية التي تشمل الأحكام الخمسة الوجوب والإستحباب والكراهة والحرمة والإباحة.
الثالث: الوعود والعهود والمواثيق التي يجب ان يتقيد بها الإنسان.
الرابع: مواثيق الأنبياء ورسالاتهم ودعوتهم لأممهم بالأيمان.
الخامس: البشارات والوصايا التي تضمنتها الكتب السماوية بالإخبار عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم اتباعه والتصديق بما جاء به من عند ، يقال عهد اليه يعهد اذا اوصاه.
السادس: الوفاء بالعقود، ورد الأمانات وأضيف العهد الى لأن امر بالوفاء وعدم نقض العهود، وفي الحديث: “حسن العهد من الأيمان” أي الحفاظ عليه وتعاهده، فرع الأيمان وخشية .
السابع: الوفاء بالوعد الذي يقطعه الإنسان على نفسه ، وعن ابن عباس في قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ] ( ) قال: “الوعد من العهد”( ) وذكر ان العهد هو الذي يجب الوفاء به، والوعد هو الذي يحسن فعله.
ولماذا جاءت الآية بصيغة الجمع، فيه وجوه:
الأول: ارادة جمع المتعدد، فالآية انحلالية،والمقصود كل واحد يشتري بعهد واليمين ثمناً قليلاً.
الثاني: قيام جماعة وطائفة بنبذ العهود والحلف واليمين وخيانة الأمانة كما تقدم في الآية قبل السابقة وما فيها من الأخبار عن اكلهم لوديعة المسلم والإفتراء على ، والإدعاء بانهم احباؤه ويجوز لهم التعدي على أموال المسلمين، ونظرة اليهود حينئذ الى العرب الذين انتقلوا الى الإسلام بالردة، وان كانوا قبله على الجاهلية والوثنية، فجاء القرآن لفضحهم وذمهم على هذا القول الذي ليس له أصل، بل هو نقض لعهد عليهم بان يصدقوا بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعوه في شريعة الإسلام وما فيها من الأحكام.
الثالث: قبول ورضا جميع أفراد الجماعة او الطائفة بهذا الشراء وان تم من بعض رؤسائهم، فان حصل نقض للعهد او نكث لليمين من قبل أحدهم، فان الآخرين يتبعونه، ويرضون بفعله فلذا جاء وصف الشراء بصيغة الجمع، للإشتراك في الذنب، والنصرة والإتباع.
الرابع: التعدد في صيغ الشراء، فمنهم من يقوم بمفرده بنقض العهد او نكث اليمين، ومنهم من يشترك مع الآخرين من طائفته بالنقض والنكث.
علم المناسبة
قد وردت مادة (شرى) وما يتفرع عنها خمساً وعشرين مرة، ومن الإعجاز القرآني في المقام انها وردت جميعاً بخصوص المبادئ والعقائد وليس في المعاملات وما في الأسواق من البيع والشراء، نعم وردت بخصوص يوسف وهو قوله تعالى [ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ]( ).
وهذا اعجاز اضافي في مسألة الشراء لأن موضوعه عقائدي فهو نبي وانسان حر، ولا يقع عليه البيع ويكون باطلاً.
لقد جاءت الآيات بذكر الشراء وأكثرها في ذم الذين يفرطون بواجباتهم العبادية، وكيف انهم أختاروا الأدنى والعوض النزر القليل، ليخسروا الخلود في النعيم لقاء زخرف مؤقت وزائل، وفي حصر الشراء بالعقيدة والمبدأ اشارة الى عدم موضوعية معاملات البيع والشراء ، وفيه تحذير من الإهتمام بالأسواق والإنشغال بها عن ذكر ، فلا غرابة ان تتوزع الصلاة اليومية على خمسة أوقات في اليوم والليلة ليتخلى المكلف ساعتها عن هموم الدنيا، ويراجع نفسه وما قاله وما فعله بين الفرضين، فان كان خيراً شكر عليه وان كان سوءاً استغفر منه.
كما ورد الشراء بصيغة الذم فيرد في شراء الغواية، قال تعالى [يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ] ( ).
وفيه نكتة اضافية وهي ان الإقدام على شراء الضلالة يأتي معه محاولة اغواء نفر من المسلمين، ليكون اثمهم في هذا الشراء مركباً من الأضرار بالذات وقصد ايذاء اهل الأيمان مع ان القرآن يخبر عن خيبتهم ودفع كيدهم بالمسلمين، وعدم امكان اغوائهم لأنهم اختاروا سبل الهداية والأيمان وسخروا انفسهم واموالهم في مرضاة .
كما جاء في القرآن بصيغة الشراء ايضاً قال تعالى [ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ] ( ) كما ان الشراء جاء من عنده تعالى وبالمعنى المعروف للشراء ، فلا يراد منه البيع ، وورد قوله تعالى [ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ] ( ) وتحمل معنى الشراء والبيع ، الشراء لجعلها ملكاً طلقاً لما فيه مرضاة ، ولا يفعل الا الخير المحض، وشرى نفسه أي باعها طاعة لله تعالى.
قوله تعالى [وَأَيْمَانِهِمْ]
بعد ذكر قبيح الفعل بنقض العهد وخلف الوعد، جاء العطف بالأيمان واتخاذ هؤلاء لها نهجاً مذموماً لنيل حطام الدنيا، ويطلق اليمين لغة على الجارحة والجانب والجهة المخصوصة،
واستعمل في الإصطلاح بمعنى الحلف، لأنه عنوان القدرة والإمضاء ولا تنعقد اليمين الشرعية الا اذا كانت بالله سواء بذكر اسم الجلالة او أحد الأسماء الحسنى، وما لا يشاركه فيه غيره من الصفات، والأيمان المذكورة في الآية هل كانت بالله ، أم بحسب ملتهم وعقائدهم، فيحلفون بالملائكة والأرواح المقدسة المعظمة وشخص نبيهم والمقدسات والمحترمات الأخرى، الأصح هو الأول، لوحدة الحكم الشرعي في الملل السماوية المتعاقبة، قال تعالى [ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا] ( ).
والآية في مقام الإحتجاج عليهم، فلابد ان ايمانهم بصيغة شرعية يثق بها السامع ويطمئن بها الطرف الآخر ويعتبرها وثيقة، وعهداً ثابتاً، وهذا الإعتبار جزء علة لإتيانهم باليمين بصيغة تتضمن التوكيد، والعقلاء ينفرون من اتخاذ اليمين وسيلة للضلالة والإضلال، لأنها توكيد ادعاء الصدق والقطع، وهي عنوان العهد، وكأن الإنسان يعاهد فيه تعالى وان كان العهد موضوعاً آخر وهو ميثاق يقطعه العبد على نفسه ويقول: عاهدت على كذا، او علي عهد لأن أفعل كذا، وقد ذكرت الأيمان في الآية بصيغة الجمع وفيها وجوه:
الأول: صيغة الجمع انحلالية، أي كل واحد منهم يشتري بيمينه ثمناً قليلاً.
الثاني: كل واحد منهم يؤدي ايماناً متعددة.
الثالث: بعضهم يأتي بيمين واحدة كاذبة، وغيره ايماناً متعددة، والأصح هو الثاني، لمواصلة السعي منهم لنيل الثمن القليل وعدم الإتعاظ او الإعتبار بقدسية اليمين ولأن الآية جاءت في مقام الإحتجاج، ولإصالة الإطلاق وظاهر الجمع (ايمان) وأما من جهة الإتحاد والإشتراك والعهدة والمسؤلية الشرعية في أداء الأيمان الكاذبة ففيه وجوه:
الأول: تكون اليمين شخصية، فكل واحد منهم يحلف يميناً شخصية تتعلق بذاته.
الثاني: يؤدون ايماناً جماعية تشترك فيها الجماعة والقسامة.
الثالث: القيام بالحلف واليمين على نحو شخصي وجماعي.
الرابع: يقوم بالحلف واليمين الرؤساء منهم فتنسب اليمين لهم جميعاً لأنهم رضوا بها ولأنها صدرت باسمهم ومن جماعتهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه للإطلاق والتعدد، والتجرأ على العهد، والإتفاق على التعدي وشراء الثمن القليل.
الا ان يدل دليل على تعلق اليمين بذات الحالف وانه يريد نفعه الخاص وان طائفته لا ترضى بيمينه اولا أثر لها عندهم، وهذا القسم ايضاً من مصاديق الآية لعموماتها، ولأنها جاءت لليمين الخاص والعام، فالضابطة فيه هي جعل اليمين وسيلة لنيل حطام الدنيا على سبيل الوظيفة الشرعية كاليمين التي تنفي التكليف بالعبادة، او اليمين التي تنفي وجود بشارات بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة وبلحاظ أقسام اليمين، يمكن تصور [أَيْمَانِهِمْ] في المقام على وجوه:
الأول: الأيمان التي تقع تأكيداً وتحقيقاً لما بني عليه، والتزم به من اتيان فعل او ترك في المستقبل كما لو قال: والله لأدخل الإسلام ان رأيت المعجزة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وهذه اليمين تسمى يمين العقد، ويجب الوفاء بها، ولا يجوز حنثها ونكثها، وان كان الأيمان حال المعجزة لا يستلزم اليمين والحلف.
الثاني: اليمين التي تأتي للسؤال والحث على فعل او ترك، وتسمى يمين المناشدة، ويسمى السائل الحالف والمقسم، اما الذي يسئل فيسمى المحلوف عليه، كما لو قال بعض الذين ذكرتهم هذه الآية لصاحبه”أسألك بالله ان تؤمن اول النهار وتكفر آخره”
وهذه اليمين لا تنعقد ولا يترتب على عدم الإمتثال والإلتزام بها كفارة ولكن فيها اثم على الحالف لمناشدته لغيره بالباطل وأمره بالمنكر، ولو لم يستجب السامع في يمين المناشدة هل يصدق على هذه اليمين انها من (الأيمان) المذكورة في الآية، الجواب نعم لوحدة الموضوع وصدق عنوان الأيمان على ذات الفعل، وان لم يشمل الإثم المحلوف عليه الذي لا يلتفت الى هذه اليمين ولا يعمل بمضمون اليمين ويجب رد السائل والحالف في يمين المناشدة التي تدعو للمنكر والظلم والتعدي والجحود.
الثالث: اليمين الكاذبة وهي الحلف على الماضي والحال بخلاف الواقع والحق، وهي على شعب:
الأولى: الإنكار كما لو انكر البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل، او انكر رؤيته للمعجزة، مع اليمين على هذا الإنكار، لإغراض الدنيا وزينتها.
الثانية: دعوى الزور والبهتان المقرونة باليمين الكاذبة، كما لو أدعى انه لن يدخل الجنة الا أهل ملتهم او طائفتهم.
الثالثة: الشهادة بالباطل والزور، كما لو شهد لصاحبه من ملته ويعلم ان الحق لغيره مع حرمة شهادة الزور في كل الملل السماوية، ولكنه أقدم عليها حمية وطلباً للمال والمتاع الزائل.
وهذه الأيمان مجتمعة ومتفرقة من اليمين الغموس أي التي تغمس صاحبها في النار، وهي من الكبائر، وتدع الديار بلاقع، لتعمد الكذب، وتشويه الحقائق، ومحاولة ترسيخ التحريف، وارادة تضييع حق المسلم، وارباب الحقوق مطلقاً.
ويعتبر في الحالف البلوغ والعقل والإختيار، فلا تنعقد يمين الصغير والمجنون والمكره، وذكر الأيمان في الآية يدل على قيامهم بالحلف عن قصد ونية الكذب والإفتراء.
وهل تصلح الكفارة مع اليمين الغموس، الجواب لا، فليس لأصحاب هذه الأيمان الا الإستغفار واعلان التوبة والندم والإخبار بالحق والصدق، والتبرأ من تلك الأيمان وما فيها من مضامين الكذب وهذا التجرأ يستلزم الإستغناء عن الثمن القليل الذي جعلوه غاية لتلك الأيمان وما فيها من التعدي والظلم، بل ان الثبات على الحق واختيار الصدق، واجتناب اليمين الكاذبة باب لنزول الرزق والفضل الإلهي.
وبلحاظ اسباب النزول فان اليمين الكاذبة جاءت من قبل جماعة من الأحبار خشية ان تضيع منهم الرئاسة والمنافع المالية والحقوق التي يستوفونها باسم الملة من اتباعهم وانصارهم، ومن الحجة في المقام ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يرجع رؤساء القبائل عند اسلامهم امراء على قومهم كي لا يفوتهم شيئ من أمور الدنيا ، بسبب الإنتماء للإسلام وليكونوا عبرة وشاهداً لغيرهم من الرؤساء فلا يترددوا في دخول الإسلام خوفاً من فقدان المنافع الخاصة، ولمنعهم من الميل الى الكذب والحلف لتوكيد الكذب والبهتان لضلالة الأعوان والأتباع.
وهذا من الإعجاز في السنة النبوية المباركة بان تأتي تعضيداً للآية الكريمة، والآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها تتضمن معاني الإنشاء والزجر عن اليمين الغموس والحلف على انكار البشارات والمعجزات والإصرار على الباطل.
وجاءت السنة لتكون من عمومات اللطف، فيكرم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من يأتيه مسلماً من الرؤساء ويجعله مثالاً لغيره، بل ان جاءه احدهم غير مسلم فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يبذلون معه الوسع من اجل ترغيبه بالإسلام وبيان انه لم يفقد شيئاً من حطام الدنيا الا ونال بدلاً عنه من خير الدنيا والآخرة.
وآية المباهلة التي تقدمت من الشواهد الإعجازية في المقام، فبعد الإحتجاج واقامة البرهان على وفد نصارى نجران نزلت آية المباهلة، وحينما امتنعوا عنها لم يكرههم النبي عليها ولم يدع عليهم بالهلاك، بل رضي منهم بالجزية في دعوة للمسلمين لعدم ايذائهم او التعدي عليهم وعلى أموالهم.
وفي العقاب والجزاء في هذه الآية، بلحاظ الإتحاد والتعدد وجوه:
الأول: كفاية عدم الوفاء بالعهد.
الثاني: عدم الوفاء بالعهد بالأمور ذات الشأن والأهمية، وليس بالصغائر والأمور الشخصية.
الثالث: كفاية الحنث باليمين وان كان الإنسان يفي بعهده.
الرابع: اشتراط اجتماع عدم الوفاء بالعهد وحنث اليمين.
لقد جاءت الآية في ذم الذين كفروا ممن يسعى في ايذاء المسلمين، ويحاول الغدر بهم سواء بنقض العهد الذي عقده معهم او الحنث باليمين التي أقسمها لهم او بخيانتهم وعدم رد مالهم من الودائع.
وبينما جاء ذكر [عَهْدِ اللَّهِ] بصيغة المفرد، وجاء لفظ (الأيمان) بصيغة الجمع، والمفرد يمين، وهو الحلف والقسم، وفيه وجوه:
الأول: دلالة صيغة الجمع، على أهمية وأولوية اليمين.
الثاني: توكيد أولوية حفظ العهد والحلف، والعقاب الشديد على نقضه، وعدم إرادة العهد بالألف واللام،
والأصح هو الثاني من وجوه:
الأول: أولوية تعاهد العهد وان كان متحداً.
الثاني: العهد اسم جنس، فيصدق على المتحد والمتعدد.
الثالث: نقض عهد اذا كان متحداً اكبر من الأيمان وان كانت متعددة، والله شاهد على العهد الحاصل بين الناس.
الرابع: جاءت الآية بذكر عهد ، وهذا التقييد يبين أهميته وأولويته أي ان العهد مقدم على الحلف.
الخامس: تقديم العهد امارة على الأولوية.
السادس: من تعاهد العهد، وحفظ المواثيق لا يحتاج اليمين الفاجرة، بل لا تصل النوبة الى اليمين احياناً، فاذا وثق الناس والجماعات بشخص او طرف، اكتفوا بقوله وكلامه.
وهل ينحصر نقضهم للعهود والأيمان بصيغ المعاملات والعفو مع المسلمين، وما يتم معهم من المواثيق ووجوه الهدنة ام انها أعم، ظاهر الآية الإطلاق وارادة الشمول وفيه اخبار بان يحب الوفاء بالعهد، والصدق في اليمين، نعم لا تدخل في مضامين الآية العهود التي ترتكز على الفساد وتكون الغاية منها الجحود والباطل
وهل جاء نقضهم للعهد مستحدثاً ومع بزوغ شمس الإسلام وما ظهر عندهم من الحسد والمكر ام أنه سابق في زمانه للإسلام، والصحيح هو الأخير ، ويدل عليه ما ورد في التوراة “فهم وان قالوا حي هو الرب، فانما يحلفون زوراً”( ).
نعم تعدد نقضهم للعهود عند البعثة النبوية، وأخذ منحى خطيراً لأن الأصل هو دخول الإسلام، أو لا أقل كف أذاهم وهو الذي جاءت العهود فيه، وكأنه حل وسط بين أمور ثلاث:
الأول: وجوب دخولهم الإسلام وتصديقهم بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: انتماؤهم الى الكتاب وملة سماوية وهي اليهودية والنصرانية.
الثالث: جحودهم بالنبوة، واصرارهم على العناد.
فأراد لنبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم امهالهم، وتركهم يتدبرون الآيات جزاء له على الإنتماء الى كتاب سماوي، ولعمومات قوانين الإصطفاء ، وليتفرغ المسلمون الى مقاتلة الكفار المشركين فأبرمت معهم العقود وأخذت عليهم العهود بان لا يؤذوا المسلمين، وجاءت هذه الآية لتوثيقها والحث على التقيد بها، لأن التفريط بها سبب للخسارة الأبدية.
قانون اليمين
اليمين هو الحلف والقسم واسمه مقتبس من أمرين:
الأول: انهم كانوا يتصافقون باليد اليمنى عنواناً للتوكيد وثبوت القصد والإرادة.
الثاني: اليمين عنوان القدرة والقوة، وفيه اشارة الى القدرة على العمل بمضمون اليمين، والإلتزام به.
وهذا الإقتباس امارة على وجود اليمين والحلف عند الأمم المختلفة والأجيال المتعاقبة، وانه لا ينحصر بالمسلمين او الموحدين مطلقاً، بل يشمل الناس جميعاً كل بحسب المقدسات التي يعظمها ويؤمن بها، ويكون الحلف بها عنواناً للوثوق به، وان لم يؤمن بها المحلوف له، وهو الذي نطلق عليه اسم (قانون اليمين) باعتباره امراً ملازماً للإنسان موضوعاً وحكماً، وان كانت اليمين الشرعية لا تنعقد الا بالحلف بالله ، وهي الغالبة عند الأمم والملل مع تباينها ، وعليها يكون الثواب والعقاب، الثواب بالتقيد بها، والعقاب بنكثها وعدم الوفاء بها، الا انه لا يمنع من عموم الحكم، لإتمام الحجة على الناس ولقاعدة منع الجهالة والغرر باعتبار ان اليمين نوع توثيق يجعل الخصم والشريك والطرف الآخر مطلقاً يطمئن للحالف.
وعن الإمام الباقر : كانت عند أبيه علي بن الحسين امرأة فطلقها فادعت عليه صداقها فجاءت به الى امير المدينة تستعديه فقال له امير المدينة: يا علي اما ان تحلف واما تعطيها، فقال لي: يا بني قم فاعطها اربعمائة دينار، فقلت له: يا ابه، جعلت فداك: الست محقاً؟ قال: بلى يا بني ولكني اجللت الله ان احلف به يمين صبر( ).
ويبين الحديث العفة والطهارة التي بلغها المسلمون، في تنزيه مقام الربوبية من الحلف عن المال، وفيه درس وموعظة لأولئك الذين يخونون الأمانة ويأكلون أموال المسلمين، ويحنثون اليمين لقاء ثمن قليل، وهذه العفة ليست واجباً ولا تتعارض مع أداء اليمين لتوكيد الحق وفك الخصومة وانتزاع المال، ولكنها مادة للإحتجاج على الذين يفرطون باليمين، ولا يجعلون له اعتباراً باللهث وراء متاع زائل، فيخسرون الدنيا والآخرة.
ومن المسائل الفقهية التي يعلمها عامة المسلمين رجالاً ونساء ان اليمين الشرعية لا تنعقد الا اذا كان المقسم به هو سواء بدخول التاء من حروف القسم على اسم الجلالة فيقال: تالله او الواو (والله) او الباء وهي الأصل،
ولا تنعقد اليمين بالحلف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسائر النفوس المقدسة، ولا بالقرآن الكريم والكعبة المشرفة وعليه النص والإجماع، ومعرفة المسلمين بهذه المسألة آية تأريخية وفريدة عقائدية تدل على مرتبة الإرتقاء في الفقه التي بلغها المسلمون عامة، وأحكام اليمين والحلف آية في الخلق، ليكون قانوناً يحكم الإلتزام به الناس في معاملاتهم.
ويخفف عنهم القلق وهموم الريب، ويدفع عنهم الشك ولو على نحو الموجبة الجزئية، لأن الوعد والعهد وحفظ الأمانة ونحوها تكون مع اليمين اوثق منها مع عدم اليمين عند الناس جميعاً، فهو سبب مستحدث او اضافي للوثوق، وفيه نوع رحمة ولطف الهي بالناس عامة بغض النظر عن مذاهبهم وانتماءاتهم، ولكن بعضهم يتجرأ على هذا القانون، ويغرر بالناس، ويحلف كاذباً، ويقسم على الباطل والزور، لإيهام الآخرين وخداعهم والتغرير بهم في باب العقيدة والأحكام الشرعية.
فينتج عن ايمانه التصديق بالباطل، وتحريف الحق، وتضييع الحقوق، وهذا من اضرار مخالفة القوانين، ليس قانون اليمين وحده بل قوانين الشريعة وسنن التنزيل وما اتفق عليه العقلاء وتوارثه الناس في عاداتهم واخلاقهم، وقامت عليه المجتمعات، وانتظمت به المعايش، فتصدى القرآن بالذم والتقبيح لأولئك الذين يحنثون الأيمان، او يقدمون على الحلف والقسم وهو يعلمون بانهم كاذبون، وهذا التصدي من عمومات ومصاديق قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] ( ).
اذ ان الآية تحذر من أمور:
الأول: الإقدام على الأيمان الكاذبة والباطلة، وهذا الأمر عام وشامل، لقبحها الذاتي، فهو لا ينحصر بطائفة دون أخرى.
الثاني: الذين يقومون بالكذب والتزوير ومخالفة الحق، وتدعو للزوم الإعراض عنهم واجتنابهم وعدم الوثوق بهم.
الثالث: الزجر والمنع من الإنصات والإصغاء للإيمان الكاذبة، ويمكن معرفتها في باب العقائد بالواقع والحجة ، فالبرهان يكذب هذه الأيمان، فالمعجزات التي جاء بها القرآن وما فيه من البيان والدليل وفضح التحريف شاهد حاضر على عدم صدق الذين يخالفونه في ايمانهم.
لقد جاء الإسلام لتثبيت قانون اليمين، وسن قواعد واحكام شرعية له، وجعله بينة وحجة في فك الخصومة وان كانت هذه الحجة ظاهرية، وليست واقعية بمعنى انها قد لا تنطبق على الواقع، ولكنها تكفي للحجة ومنع النزاع، ولم يجعل اليمين طلقاً وحكماً منبسطاً على الحياة الدنيا والآخرة في حال مخالفته الحكم الواقعي، بل ان عذاب الكذب والبهتان فيه شديد يوم القيامة والذي تتجلى مصاديقه في هذه الآية الكريمة على نحو التفصيل الذي يتضمن الإنذار والإعتبار الى جانب الخزي الذي يلحق صاحبه في الدنيا ،والبراهين النقلية والعقلية مقدمة في سلطانها وأدلتها على اليمين الفاجرة ،فيستطيع الإنسان أن يرى الحق والصدق وإن جاء اليمين مخالفا له ، وهو من عمومات عدم إضلال الغواية إلا بصاحبها.
ترى ما هي النسبة بين الأمانة واليمين، الجواب هي العموم والخصوص المطلق، فكل يمين هي أمانة وليس العكس، لأن اليمين توثيق، وعهد على الأداء والوفاء، فيكون كالميثاق في ذمة الحالف، بالإضافة الى ما في اليمين من التوكيد وجعل شاهداً وكفيلاً على الوفاء والأداء، وبعث الطمأنينة في نفس المحلوف له على الوفاء، فان قلت: ان اليمين بالله نوع اقرار بالعبودية له سبحانه، وهذا الإقرار وحده باب للثواب والأجر بمعنى ان شراء ثمن قليل لقاء التفريط بالأيمان مركب من أمرين:
الأول: القسم بالله وما فيه من الإعتراف بالربوبية لله تعالى.
الثاني: نقض العهد والميثاق، وخيانة الأمانة.
فيأتي الثواب على الأول، والعقاب على الثاني من غير تعارض بينهما، ولكن هذا الأمر تنفيه الآية الكريمة، اذ انها تبين انعدام الثواب في الآخرة لمن يقوم بالتفريط بواجباته ويتخلى عن وظائفه، لذا فان هذه الآية فضل عظيم من عنده تعالى على أهل الكتاب خصوصاً الذين ينقضون العهد بانذارهم وتحذيرهم وعدم تركهم يتمادون في الذنوب، والآية من عمومات الإصطفاء، وتعتبر شاهداً على حاجتهم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان البشارة به في التوراة والإنجيل جاءت لإنقاذهم من نقض العهود وما يدل عليه من الضلالة والغواية.
فلم يأتِ القرآن بالدعوة الى الإسلام وحدها وان كانت هي الأصل والغاية الا انه جاء بتهذيب الأخلاق، وحفظ العهود والأيمان، والسعي للوفاء بها، وقبح حنثها والإستخفاف بشأنها، وهذا الحفظ مقدمة لدخول الإسلام ، وهو من اعجاز القرآن.
و تكون الدعوة لدخول الإسلام على وجوه:
الأول: الدعوة المباشرة من غير وسائط، لوجود المقتضي وفقد المانع، وظهور وشواهد الإعجاز.
الثاني: الدعوة بالواسطة والوسيلة بان يحث القرآن على التقيد بالقوانين العامة، والقواعد الكلية التي جاءت بها الكتب السماوية، ليكون هذا التقيد مدخلاً للإيمان والتسليم بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: لغة الوعيد والتخويف التي جاء بها القرآن.
قوله تعالى [ثَمَنًا قَلِيلاً]
جاء الثمن القليل هنا قيمة للمبيع وهو خلاف المتعارف في المعاملات، اذ انها تتقوم باربعة أمور:
الأول: العين المباعة.
الثاني: الثمن المدفوع للعين، وهو العوض.
الثالث: البائع الذي يبيع سلعته، ويقبض الثمن.
الرابع: المشتري الذي يبذل الثمن والقيمة ليأخذ العين المعوضة والمباعة.
ووجه الخلاف في الموضوع من وجوه:
الأول: ان الذي يُشترى هو العين، ويكون الشراء عنواناً للقيمة والبدل، فالذي يشتري يبتغي امتلاك العين كالدار والبستان والمركبة لينتفع منها وتصبح في حوزته، وتكون ارثاً عند وفاته، أما هؤلاء فقد جعلوا الأيمان بدلاً وقيمة لشراء الثمن، فصار الثمن هو المعوض، وقد دفعوا له من العقيدة والمبدأ والقيم والأحكام الشرعية، ليكون الأرث تبعات وآثاماً، وسنة قبيحة فليس من ثمن وقيمة اغلى من هذا العوض.
الثاني: لم تذكر الآية الطرف الرابع، وهو المشتري وصحيح انه لا يذكر أحياناً ، ولكنه يعرف بالقرائن او بما يفيد التنكير والعموم، كما في قوله تعالى [ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ] ( ).
وفيه اشارة لمن اشترى يوسف ممن أدعى تملكه زوراً واستحوذ عليه ظلماً، بعد اخراجه من غيابت الجب.
وجاءت هذه الآية من غير ان تذكر الجهة التي جرى معها عقد البيع، وفيه وجوه:
الأول: عدم الحاجة لذكر البائع، لأن القدر المتيقن من الموضوع هو ذكر الأطراف الثلاثة المشتري والمعوض والعوض.
الثاني: التنكير في عدم ذكر البائع يفيد الإطلاق والتعدد ، ويدل على الكثرة.
الثالث: يعرف البائع بالقرائن والعلامات التي تدل عليه.
الرابع: ليس من بائع في المقام يقوم بدفع المعوض، وهو الثمن القليل.
والأصح هو الرابع، فليس من جهة او شخص يقوم بدفع مبلغ وقيمة لعهد والأيمان.
وهذا من الإعجاز في الآية الكريمة، نعم قد يكون هناك من يبذل الأموال ليتخلى الموحدون والمليون عن مذاهبهم، ويقومون بنقض العهد، ويحلفون زوراً وبهتاناُ ويحرفون التنزيل، وينكرون الودائع، ولكن هذه الأموال ليست ثمناً او عوضاً لمفاهيم الجحود أعلاه، من وجوه:
الأول: عدم جريان معاملة البيع عليها.
الثاني: انها خطابات تكليفية واحكام شرعية ثابتة في ذمة ومسؤولية كل مكلف ولا تنفك عنه، بل هي ملازمة له، بمعنى انه لو تنزلنا وقلنا بوقوع عقد البيع فانه باطل، لأن العين لا تقبل النقل والإنتقال.
فلو جرى عقد بيع على انسان حر فانه باطل، ولا اعتبار له، فمن باب الأولوية ان يكون البطلان في العقائد والواجبات التي جعلها واجباً على كل انسان.
الثالث: عدم وجود من يقوم بالشراء، لصفة العبودية الشاملة للناس والخلائق جميعاً، فمن خصائص العبودية لله عدم التجرأ على شراء عهد والأيمان من الغير نعم قد يتجرأ بعضهم على بيعها والتخلي عنها بثمن بخس، ولكن ليس من مشترِ لها، كي يبوء باثمه ويعلم عظيم الذنب الذي اقدم عليه وليكون حسرة له يوم القيامة وعلة للسخرية منه واقامة الحجة عليه.
ومتى ما ادرك الإنسان انه ليس من مشترِ لما يعرضه من العقائد والمبادئ، وليس من ثمن يقابلها وان كانت اموال الدنيا فانه قد يعتبر ويتعظ ويخشى ، كما انه مدرسة وعبرة لغيره من الناس بلزوم اجتناب هذا الفعل القبيح، فجاءت الآية بالذم من طرف واحد لمن يشتري الثمن القليل.
لقد وصفت الآية الثمن بانه قليل، وتأتيه القلة من وجوه:
الأول: النقص والقلة الذاتية.
الثاني: عدم الإنتفاع من هذا العوض سواء لذاته او لأنه زائل او لعدم التمتع به، اذ ان صاحبه يدرك بان الذي خسره وفرط به لا يعادله ثمن مهما بلغ ، فيعيش في الحسرة والندم.
الثالث: من يقوم بعدم الوفاء بالعهد، ويفتري الكذب وينكر الأمانة، يدرك ما ينتظره من العقاب الشديد، ويعلم ان الثمن الذي ناله لا اعتبار له.
الرابع: تأتي القلة بلحاظ انحصار واعتبار الثمن في الحياة الدنيا دون الآخرة، والكثرة تدور مدار الباقيات الصالحات.
الخامس: الأصل في الثمن ان يكون نافعاً، يقوم الإنسان بالتخلي عن المثمن والمعوض واخراجه من ملكيته وسلطانه لقاء الثمن مما يدل على وجود الراجح وتحصيل النفع والأفضل في قبض الثمن، ولكن البيع هنا ليس فيه راجح ، وخالِ من النفع، وهو ضرر محض، فان قلت ان صفة القليل لا تعني العدم، لأن القلة تدل على الوجود، قلت: ان القلة صفة للثمن، وليس وصفاً للنفع، وهذه القلة اشارة لعدم امكان الإنتفاع منه بالذات وبالعرض، اما بالذات فلقلته والثمن القليل يتبدد ويذهب سدى، اما بالعرض فلأنه لا ينهض لأداء حاجة واستيفاء غرض.
السادس: تأتي القلة بالقياس وبلحاظ ما يخسره الإنسان في شرائه هذا فتخليه عن المبادئ والسنن الثابتة لا يعادله ثمن او عوض، فمهما بلغ الثمن في كثرته فهو قليل ونزر يسير.
السابع: باقدام الإنسان على ارتكاب ذنب نقض العهد الإلهي ونكث الأيمان، يبقى في نقص وفقر فلا يسده ابداً الثمن الذي يناله عوضاً، لأنه اصبح فقيراً في العقيدة، خالياً من أسباب الهداية، فيأتي الثمن وقد فقد الأهلية للإنتفاع منه.
الثامن: القلة في ذات الثمن، لعدم امكان توظيفه لما فيه النفع والمصلحة، فمن يبيع عيناً يجعل الثمن بمثلها او بما هو أفضل منها على نحو الإتحاد او التعدد، أي يشتري بها عيناً اخرى مثلها، او يقسمه على عدة اعيان وأمور ينتفع منها، اما هذا الثمن فهو قليل، لا يصلح لشراء شيء ما، كما ان الذي خسره ليس معروضاً للبيع، او قابلاً للشراء، نعم باب التوبة يبقى مفتوحاً، ولا يستلزم العوض.
وجاءت هذه الآية للحث على ولوجه، والمبادرة الى الإنابة واعلان الندم، والإقرار بعهد والتنزه الدائم عن الإفتراء وقول الكذب، وهذا من كنوز الآية القرآنية فقد جاء بالذم والتقبيح من غير ان تبعث على اليأس والقنوط، وهي دعوة للصلاح واجتناب ما يترتب عليه الذم في القول والفعل، فالذم فيها ليس مطلوباً بذاته، بل هو مقدمة ووسيلة للصلاح، وتهذيب النفوس والمجتمعات، ولا ينحصر موضوع الإصلاح بذات الفرد، او الطائفة التي جاء الذم بخصوصها، بل يشمل غيرها على وجوه:
الأول: من تكون مثلها في الفعل، ولو على نحو الإجمال الموضوعي لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثاني: الذين هم أدنى منها وأكثر سوء وظلماً واستحقاقاً للذم، من باب الأولوية القطعية، ولكي يتعظ هؤلاء اذ ان ذم من هو أقل منهم تقصيراً وذنباً، توبيخ لهم وتعريض بهم، فان قلت هل هناك من هو أردء واكثر ذنباً ممن ينقض عهد ويفتري عليه، قلت: الذين يقتلون الأنبياء، والذين يقاتلون المسلمين، ويستبيحون ازهاق ارواحهم ونهب أموالهم.
والشراء المذكور في الآية من الكلي المشكك من وجوه:
الأول: الموضوع، اذ ان عهد عنوان جامع يشمل لزوم التصديق بمواثيق النبوة، والتقيد بأحكام الحلال والحرام والعهود والعقود ويلحق بها حفظ الأمانة وانجاز الوعد.
الثاني: الإتحاد والتعدد في اليمين، فقد تكون يميناً واحدة، وقد تكون متعددة وكثيرة، والضابطة في الأمر هو التجرأ والإقدام على اليمين من أجل نزر يسير، وثمن بخس.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [وَأَيْمَانِهِمْ] في ارادة التعدد والكثرة، وفيه دلالة على اقامة الحجة عليهم لجعلهم اليمين الكاذبة وسيلة لإبتغاء زينة وزخرف الدنيا.
وجاءت الواو في (وايمانهم) للمغايرة بينها وبين عهد ، الا انها لا تعني المغايرة المحضة من جميع الجهات، فاليمين فرع عهد ، لأن فيها توكيداً للجوء الى وجعله حاكماً واميناً وشاهداً على موضوع اليمين، وان كان سبحانه يبصر ويعلم كل شيء فهو من عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى [ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ] ( ).
الا ان ذكر الأيمان على نحو الخصوص جاء لتوكيد اهميتها واثرها وموضوعيتها، وللتحذير من نكثها، وتشمل:
الأول: اليمين الشخصية، التي يقوم الفرد الواحد منهم بأدائها ثم نقضها ونكثها.
الثاني: الأيمان الجماعية، التي يؤدونها كجماعة وطائفة، فتأتي على نحو الإتحاد والإشتراك ، يمينا ونكثا.
الثالث: الأيمان الشخصية المتعددة، ولكنها تأتي في موضوع واحد، كما لو كان كل واحد منهم يقسم على انكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينفي مع اليمين وجودها في التوراة والإنجيل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة، ومن أسرار مجيئها بصيغة الجمع.
وتفتح هذه الصيغة ابواب الإستنتاج والتحليل العقلي امام المسلمين لمعرفة خصال الأمم الأخرى، وتبين الآية عظيم منزلة المسلمين لتعاهدهم للأيمان ووفائهم بها، وحرصهم على عدم نكثها.
لقد جاء الإسلام ليثبت مضامين قانون اليمين في الأرض، الى يوم القيامة ويجعل نكثه وعدم الوفاء به امراً قليلاً ، وينظر الناس الى من ينكثه بعدم الرضا وعين الريب، ويحذرون منه في المعاملات والصلات الإجتماعية، فهذا الحذر من العقوبة العاجلة والحث على لزوم الوفاء به، ونسبت الآية الأيمان لهم، وبقوله تعالى [أَيْمَانَهُمْ] وفيه وجوه:
الأول: أي هم الذين قاموا بأداء الأيمان والحلف.
الثاني: جاء أداء اليمين عن قصد ونية، ومن غير اكراه وضرورة.
الثالث: ما في اليمين من الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ولزوم التقيد بها، وعدم التفريط بها او نكثها.
الرابع: هذه النسبة حث لهم على التقيد بالأيمان لأنها منهم ولهم، والتصقت بهم، وصارت جزء من كيانهم.
الخامس: في الآية اشارة الى ترتب الأثر والحساب على الأيمان.
السادس: الآية دعوة للمسلمين وغيرهم للتمسك باليمين وعدم التفريط بها.
السابع: تبين الآية قدسية اليمين اذا انعقدت وانها تستحق بذل الوسع للوفاء بها.
ولم تقل الآية (ان الذين يشترون ثمناً قليلاً بعهد وايمانهم)، أي انها لم تقدم المفعول به وهو الثمن على متعلقه من الجار والمجرور، وهو المعوض ، وفيه مسائل:
الأولى: التوكيد بان موضوع الآية هو العهد واليمين.
الثانية: بيان خسة الثمن وتأخره رتبة وموضوعاً.
الثالثة: الإخبار الإلهي عن قدسية العهد واليمين ولزوم عدم التفريط باي واحد منهما.
وجاء تقديم العهد على الأيمان، وفيه وجوه:
الأول: لقاعدة تقديم الأهم على المهم، فالعهد أعم من اليمين.
الثاني: لعمومات العهد، ولأن اليمين من مصاديق العهد ولو على نحو جهتي.
الثالث: عدم امكان تدارك نقض العهد، الا بما يزيل الضرر واسباب الأضرار.
الرابع: وصف العهد بانه عهد ، وهذا الوصف حث على لزوم التقيد بأحكامه، وانذار من التفريط به، وتوكيد على اعتباره وموضوعيته في عالم الحساب الأخروي.
الخامس: بيان نكتة عقائدية وهي ان التعدي على العهد ونقضه يجعل الإنسان يتجرأ على حنث اليمين وقول الكذب ، وهو ظاهر عند ارادة الإصرار على نقض الميثاق، فحينما ينكث الإنسان العهد يدعى الى اليمين، فلا يتراجع عن كلامه لوجوه:
الأول: طمعاً بحطام الدنيا وزينتها.
الثاني: العزة بالإثم.
الثالث: ارادة الباطل والكيد.
ترى ما هو (الثمن القليل) المذكور في الآية، فيه وجوه:
الأول: الدنيا، وما فيها من الزخرف.
الثاني: حمل الكلام على ظاهره، وارادة الثمن الذي ينصرف الى المال، والذهب والفضة.
الثالث: متاع قليل، كما في قوله تعالى [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ] ( ).
الرابع: الآية لا تفيد الحصر بمقدار مخصوص، او موضوع معين من الدنيا، فكل بحسبه سواء بلحاظ تعدد افراد العهد الذي يقدم الإنسان على نقضه، او عدد مرات اليمين والحلف، وموضوع كل واحد منهما، وما يتلقاه في كل مرة من الثمن، والأصح هو الرابع خصوصاً وان الآية جاءت بصيغة التنكير، والنكرة في مقام الإثبات لا عموم لها .
ومع التباين في مقدار ونوع الثمن من فرد الى آخر، ومن جماعة الى أخرى، فان الآية أكدت بان الكثير والنزر، والمتحد والمتعدد يلتقي بصفة القليل، وفي متعلق صفة القليل وجوه:
الأول: الثمن الذي يشترى أزاء المتحد من العهد او اليمين، بمعنى كل عهد له ثمن قليل، وكل يمين له ثمن قليل، والمذكور في الآية المفرد والواحد من هذه الأثمان، لتكون الآية شاملة لكل من يقدم على نقض العهد او اليمين.
الثاني: انحلال الثمن القليل الى قسمين:
الأول: الذي يكون مقابل العهد.
الثاني: ما يكون أزاء اليمين الفاجرة ، وكل واحد منهما قليل ونزر يسير لا اعتبار له.
الثالث: ارادة الجمع بين العهد واليمين، فصفة القليل تتعلق بثمن العهد واليمين مجتمعين.
الرابع: جميع ما ناله المعاند على نقضه العهد وحنثه باليمين، فكله ثمن قليل سواء جاءه دفعة واحدة، او بالتدريج ويدخل في صفة القلة ما يؤخذ وينتزع بهذا الطريق ذي الإعوجاج، والذي تتغشاه الكدورات الظلمانية، فتمنع صاحبه من رؤية الحق وسبل الهداية، وادراك حقيقة القلة والنقص في السحت من الأموال.
الخامس: جميع العوض الذي أشتراه اهل الجحود والنقض ممن حارب الإسلام، وسعى في مسالك الغدر والخلاف والخصومة بالباطل.
والصحيح هو الأخير، ومن الإيجاز في الآية ان تأتي بصيغة الجمع (يشترون) ووصفته بصيغة المفرد (ثمناً) فالذين يشترون جماعة متعددون، كما ان مواضيع العهود والأيمان متباينة، والأزمنة والأمكنة مختلفة خصوصاً وان الآية تتغشى أزمنة ما قبل التنزيل، وأيامه، وما بعده من الأحقاب، والثمن القليل لا ينحصر بمن يقدم على التخلي عن العهد وما في اليمين من الموثق، لا يبغي النفع الخاص له بل يريده في الغالب لطائفته وملته.
وتظهر مضامين القلة لهذا الثمن من وجوه:
الأول: النقص في القيمة، فما يقبض لا تكون له قيمة معتدِ بها.
الثاني: قصر مدة الإنتفاع من هذا الثمن، فهو قليل في مدته.
الثالث: قلة الفائدة منه، أي انه قليل في فائدته ونفعه.
الرابع: قلته بالقياس الى الثمن والمعوض الذي جحد به، فمهما بدى له الثمن كثيراً فانه قليل أزاء ما تركه وتخلى عنه.
الخامس: تتبين قلة الثمن في الآخرة، لحال الحرمان والعذاب الذي يتعرض له.
السادس: من القواعد الفقهية في باب البيع قاعدة “نفي الجهالة والغرر” فالآية تبين ان الذي يقدم على هذا البيع جاهل، ومغرر به لأنه أبدل اعز وأثمن شيء بثمن بخس وعوض قليل، فان قلت هل يرجع على من غره، أقول: انه مقصر وهو الذي أقدم على التغرير بنفسه، نعم لو كان في البين شخص او جماعة غررت بالفرد فانها تبوء بالإثم ايضاً من دون أن يسقط العقاب عنه.
السابع: انعدام البركة في هذا الثمن، فيظنه كثيراً، وما يقبضه، سرعان ما يتبدد.
الثامن: تأتي صفة القلة للثمن من خلال الآثار والأضرار الفادحة المترتبة على نقض العهود ونكث الأيمان، وفيه توبيخ اضافي لأهل الخيانة والغدر والعناد.
التاسع: في الآية تحدِ، فمهما كان الثمن والعوض الذي يأخذونه مقابل نقض العهد والحلف زوراً وكذباً فانه سيكون قليلاً لا اعتبار او نفع له، سواء كان الثمن المتحد او المتعدد الذي تقبضه الطوائف والرؤساء والأفراد.
العاشر: هذا العوض أقل من أن يكون مانعاً ودافعاً للبلاء والعقاب الذي ينزل بساحة هؤلاء.
الحادي عشر: في الآية تحذير للأمم والملل من نقض العهد وخيانة الأمانة وحنث اليمين ، فالآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها تتضمن الإنشاء والزجر عن الخيانة والغدر.
الثاني عشر: في الآية اعجاز ثابت، وهو ان صفة القلة ملازمة للثمن والعوض الذي يؤخذ أزاء التفريط بالواجبات والتكاليف الشرعية، وهذا من القواعد الثابتة في الإرادة التكوينية، وهو جزء من فضله تعالى في تعاهد كلمة التوحيد في الأرض، وجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى، بان يكون الثمن الذي يأخذون لقاء الخيانة والغدر قليلاً، ليس له أثر او اعتبار لكي يكون وبالاً وحسرة عليهم.
الثالث عشر: هذا الثمن قليل، لأنه لا يبقى ارثاً ينتفع منه الوارث، بل يكون وبالاً وخزياً على صاحبه ومن يرثه، لأنه يرث منه المعصية والجحود الا ان تدركه التوبة وشآبيب الرحمة.
الرابع عشر: قلة الثمن هذه من عمومات اللطف الإلهي على نحو مركب من وجوه:
الأول: وضع حواجز دون تمادي هؤلاء الظالمين بالتخلي عن المواثيق والعهود.
الثاني: منع الناس من الإقدام على التفريط بالأمانة والمواثيق والأيمان.
الثالث: تأديب المسلمين على حفظ المواثيق، وعدم نكث الأيمان، ومن خلالهم تأديب الناس وزجرهم جميعاً.
الخامس عشر: استحضار الناس لعالم الآخرة وما فيه من الحساب والثواب والعقاب.
السادس عشر: هذا الثمن قليل بلحاظ سوء عاقبته في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى [وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ] ( ).
ومن يعلم بما يناله ناقض العهد وناكث اليمين من وجوه العذاب المذكورة في هذه الآية يفزع ويتعظ خصوصاً مع الإلتفات الى بخس الثمن الذي يكون سبباً في الهلاك.
والذي يفرط بالعهود والأيمان على قسمين من جهة العلم بالقلة:
الأول: الذي يعلم بان العوض الذي يأخذه مقابل العهود والأيمان ثمن قليل.
الثاني: لا يعلم ان الثمن قليل، ويراه كثيراً ويحسب انه سينفعه.
والجواب ان الوجهين صحيحان، وليس من تعارض بينهما، فتارة يعلم الإنسان بقلة الثمن ولكن العناد والإستكبار والحمية تغلب عليه، وتارة لا يعلم بقلته ويظنه كثيراً، ويجعله غاية وهدفاً، ويحسب انه ينتفع منه ولكنه يكون كالسراب، ويختلف عن السراب لأن العقوبة الأخروية شديدة ومتعددة الوجوه على الذين ينقضون العهد والأيمان، وهو شاهد على عظيم الإثم في نقض العهد واليمين،
وفي استحقاق العقوبة بلحاظ الأفراد والتثنية في الإثم وجوه:
الأول: كفاية عدم الوفاء بالعهد لإستحقاق الوجوه الخمسة للعقوبة.
الثاني: نكث اليمين وحده علة لهذا العقاب المتعدد، وصيغة الجمع (الأيمان) انحلالية، فكل واحد منهم يقسم ولو يميناً واحدة.
الثالث: اشتراط اجتماع الأمرين معاً، نقض العهد وحنث اليمين.
الرابع: كفاية نقض العهد دون حنث اليمين، لوجوب الوفاء بالعهد.
الخامس: العقوبة بحسب اللحاظ، وموضوعية وأهمية العهد او اليمين، فقد تتعلق اليمين بما هو أهم من الموضوعات والأحكام، ويكون من العهد في مسألة شخصية.
السادس: بعض أفراد العهد وحنث اليمين تستحق بعض وجوه العقوبة الخمسة المذكورة في الآية.
والأقوى ان الأصل هو استحقاق العقوبة على أي منهما سواء عدم الوفاء بالعهد، او حنث اليمين لإصالة الإطلاق وعظم الذنب، ومن الآيات التداخل بين العهد واليمين، وان نقض أحدهما يقود الى الآخر ولو في الجملة،
ومتعلق الآية فيه وجوه:
الأول: العموم ، وشمول المسلمين بمضامينها، فالمسلم الذي ينقض العهد ويحنث بيمينه يصيبه العقاب المذكور في الآية.
الثاني: الآية خاصة بأهل الكتاب والكفار مطلقاً، فمن ينقض العهد او يحنث اليمين منهم يكون من أهل هذه الآية.
الثالث: جاءت الآية بخصوص الكفار، الذين ينقضون العهود والمواثيق، وما في هذا النقض من افساد في الأرض، واضرار بالمسلمين.
الرابع: تخص الآية طائفة من اهل الكتاب،
والأصح هو الرابع. قال تعالى [ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ] ( ) ، ولأن المسلمين خارجون بالتخصص، بسبب حفظهم لكلمة التوحيد وتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم انكارهم للبشارات التي جاءت بخصوص نبوته صلى الله عليه وآله وسلم،وهذا الخروج لا يمنع من العقاب الشخصي للمسلم الذي يحنث اليمين.
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه المسلم لقي تعالى وهو عليه غضبان وتلا هذه الآية( ).
اما الكفار فانهم يستحقون أشد العذاب لكفرهم وجحودهم قبل ان تصل النوبة الى نقضهم العهد، وهذا الخصوص لا يمنع من شمول الآية لغير تلك الطائفة من وجوه:
الأول: عموم أهل الكتاب لزجرهم عن الإقتداء بتلك الطائفة، وحثهم على نصحها ومنعها من ايذاء المسلمين.
الثاني: شمول الآية للمسلمين لتأديبهم وارشادهم، وحثهم على المواظبة على الوفاء بالعهود والأيمان.
الثالث: الكفار والمشركون بانذارهم وتحذيرهم من نقض العهود والأيمان، وان وظيفة الإنسان تستلزم حفظه لها بالإصالة، ولتحذيرهم من ايذاء المسلمين وخيانتهم في أموالهم ومحاولة الغدر بهم.
قانون الخارج من البيع
البيع نوع مفاعلة ومعاملة تجري بين طرفين، ويحتاج عقد البيع الى الإيجاب والقبول من البائع والمشتري، وهو عقد لازم وليس عقداً جائزاً ويكفي في الإيجاب اتيان البائع بلفظ ظاهر في المعنى المقصود مثل:بِعت، ملكت، ويكفي في القبول قول المشتري: اشتريت او قبلت او ابتعت ونحوها، وكما ان الشراء من الأضداد فكذا البيع، فيأتي بمعنى الشراء ايضاً، وتعرف ارادة الشراء من اللفظ بالقرينة، والبيع في اللغة والإصطلاح انتقال عين من شخص الى آخر بعوض مقدر على وجه التراضي والقبول، كما انه اعطاء المثمن وأخذ الثمن.
ويعتبر معاملة مصاحبة للإنسان في وجوده على الأرض، وتجري على المنقول من الأعيان كالفواكه والثمار والدواب، وغير المنقول كالدار والبستان، والبيع حال مستديمة تبين ما في الحياة من أسرار تتضمن الحسن والزينة، وهي جزء من فلسفة التباين في حاجات بني آدم، وهذا التباين شاهد على حاجة الإنسان لغيره سواء كان الغير اعلى منه رتبة او أدنى، بما فيها الأشياء والمؤون.
فالإنسان مع عظيم منزلته وشرفه، وما رزقه من العقل تراه محتاجاً لشراء رغيف الخبز،أو تهيئة مقدماته . ويسعى جاهداً لتوفير الماء والنجاة من الهلاك جوعاً او عطشاً، لتكون مناسبة للإعتبار، فيدرك من خلالها حاجته لواجب الوجود ويتوجه اليه بالدعاء والرجاء والمسكنة، والبيع لا يجري على جميع الأشياء ، بل انه خاص بالأعيان والأشياء التي تقبل البيع، وهذا من فضله تعالى.
كما انه من الإعجاز في الحياة الإنسانية لإتفاق الناس على ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، ولا يضر بهذا الإتفاق وجود اختلاف في بعض المصاديق والأفراد واذا رجعت لهذا الإختلاف وجدته خروجاً عن القواعد التي توارثتها الأمم والعقلاء جميعاً وهناك ما لا يستديم بيعه، بل يأتي نتيجة الظلم والإضطهاد او بصيغة العقوبة فالحر لا يباع ولا يشترى، كبيراً كان او صغيراً.
اما العبد فحكمه خاص بالدليل، وجاءت مسألة العبيد في الإسلام بسبب عدم امتثالهم للأوامر الإلهية، ولإعتبارات الأمن من شرهم وكيدهم، وأصبحت تراثاً وآية اعجازية في الإسلام ابتداء واستدامة وانتهاء، اما من جهة الإبتداء فهو عقوبة تأديبية على محاربتهم للإسلام وعدم الرضا بالشروط التي يضعها الغزاة والمقاتلون المسلمون من الجزية ونحوها، او لنقضهم المواثيق والعهود ونكثهم الأيمان للغدر بالمسلمين، وفيه نوع وقاية منهم، ولابد من النظر الى منافع الدلالة التضمنية لجعل العدو عبداً ، وهي ان المسلمين لم يقتلوه وان تم اسره في ساحة المعركة مما يدل على انهم لم يحاربوا ويقاتلوا عن غضب وحمية.
واما بالنسبة للإستدامة فالشواهد التأريخية تؤكد حسن معاملة المسلمين للعبيد، وهذا الحسن يتجلى بأبهى معانيه بعتق العبد ومنهم من زوج ابنته لعبده، كما يتجلى عتق الأمة والزواج منها او تركها تختار زوجها، او يقوم سيدها بالزواج منها لتلد له ولداً فتسمى ام ولد ،وتكون لها أحكام تخفيفية خاصة.
وتوالى الحسن في هذا الباب حتى تجد الإسلام في زمان العولمة خالياً من العبيد والإماء موضوعاً وأثراً، ليبقى عنوان الحرية وعدم جواز بيع الإنسان هو الأصل والعنوان الذي يتغشى المسلمين جميعاً.
وما لا يجوز بيعه العهود والمواثيق ، وهو من مصاديق قانون (الخارج من البيع) فلا يجوز بيع العهد والميثاق والأمانة واليمين، بل يجب حفظها وتعاهدها، وهذا القانون من معالم خلافة الإنسان في الأرض ومقومات استدامة الحياة وهو وسيلة لتثبيت دعائم التوحيد، ومناسبة لإنشغال الناس بالذكر، وعدم ذهولهم عن العبادة واداء الفرائض، ومقدمة للفوز بالنعيم الأخروي.
وتدل هذه الآية الكريمة وما فيها من الوعيد لمن يفرط بعهد والأيمان على موضوعية هذا القانون، والخسارة والذل الذي يلحقه، والثواب والأجر لمن تقيد بأحكامها لأن الخيانة والتفريط خلاف الأصل وسنخية الإنسان.
فجاءت الآية لإرجاع الناس الى الأصل ودعوتهم لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم محاربة الإسلام.
لقد أدعت بعض الطوائف انهم ابناء واحباؤه، واجازوا اكل أموال المسلمين لأنهم يظنون سيادتهم وسلطانهم على الناس بالبنوة التي نالها بعض انبيائهم، وهو مبنى باطل لا صحة له،
وجاءت هذه الآية لثتبت عموم احكام قانون عدم البيع وانه يجب على اهل الكتاب حفظ العهود والمواثيق وصيانة الوديعة وحقوق الناس، وانها امور لا تباع ولا تشترى بل هي أمانة وعهد في اعناق المكلفين، وقد يكون هناك من يبذل الأموال والجاه للذين ينقضون عهدهم وايمانهم، ليكونوا تابعين له في ضلالته وكفره ، او يحصل اتفاق وفق شروط لا شرعية وتتضمن نقض العهود والمواثيق، وهذا لا يصدق عليه مشترِ وليس في اليمين بيع بل هو معصية واغواء وضلالة.
بحث بلاغي
ثمن الشيء ما يستحقه من المال ويناسبه من العوض، ويقابل الثمن المثمن والعوض، وقال الفراء في هذه الآية “كل ما كان في القرآن من هذا الذي قد نصب فيه الثمن وأدخلت الباء في المبيع أو المشترى فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين لا يكونان ثمنا معلوما مثل الدنانير والدراهم، فمن ذلك اشتريت ثوبا بكساء، أيهما شئت تجعله ثمنا لصاحبه لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا.
فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن ، كما قال في سورة يوسف : وشروه بثمن بخس دراهم( )، لأن الدراهم ثمن أبدا، والباء إنما تدخل في الأثمان، وكذلك قوله : (اشتروا بآياتي ثمنا قليلا)( )،[الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ] ( )، فأدخل الباء في أي هذين شئت حتى تصير إلى الدراهم والدنانير فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض”( ).
ولكن مضامين ودلالات الآية أعم مما ذهب اليه الفراء، للوجوه الإعجازية المتعددة في الآية وأسرار تعلق الباء بالآيات وليس بالثمن، ومعنى (الباء) هنا هو المقابلة، وهي الداخلة على الأعواض والأثمان كما تقول: أشتريت الكتاب بدينار فجعلت الدينار عوضاً للكتاب الذي أردت الإنتفاع منه وتخليت عن الدينار ودفعته لتملك الكتاب.
فكذا هذه الآية جاءت لتوكيد سوء الفعل الذي أقدم عليه الذين ينقضون العهد والأيمان، فالأصل هو حيازتهم للعهد وتملكهم وتعاهدهم للتكاليف على نحو الإصالة باعتبار انهم مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، وهذا التكليف ثروة وملك ورأس مال ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة، ولكنهم تخلوا عن هذه الملكية المقدسة، وأعرضوا عنها لقاء ثمن وعوض قليل.
ومن الإعجاز ان الآية لم تقل “الذين يبيعون عهد وايمانهم بثمن قليل”، مع ارادة نفس المعنى ظاهراً وتتعلق الباء حينئذ بالثمن ويحمل على الدنانير والدراهم وغيرها من عروض وزينة الدنيا.
ولكنه مخالف للقواعد العقائدية والوظائف الشرعية من وجوه:
الأول: ان عهد والأيمان لا تباع.
الثاني: ليس لها ثمن قط الا الجنة، والجنة لا تأتي الا بتعاهد العهود والأيمان.
الثالث: حرمة بيع العهود والأيمان، وهذه الحرمة تكليفية ووضعية وعلى نحو الإطلاق.
الرابع: ينصرف البيع الى المعاوضة الصحيحة كما في قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) الا مع القرينة الصارفة الى المعاملة الباطلة في البيع.
الخامس: البيع يدل على وجود طرفين، وهناك مشترِ ، بينما أفادت الآية انعدام وجود مشترِ للعهد والأمانة والأيمان، وان اصحابها أعرضوا عنها لقاء ثمن بخس، ففي الآية طرف واحد مشترِ لثمن بخس، وهو نفسه زهد بواجبه الشرعي لقاء هذا الثمن.
السادس: في الآية تأديب وتعليم لقواعد الشراء، والإلتفات الى الذي يباع ومدى الحاجة والنفع له، فقد يقدم الإنسان على بيع ما يحتاج اليه، كما في بيع الدار والمركبة ونحوها، وهذا من القياس مع الفارق، لأن الحاجات التي تكون الأولوية في عدم بيعها انما هي على نحو التشبيه، ويقال شيء ثمين: أي مرتفع الثمن.
أما بالنسبة لموضوع الآية فان البيع ممتنع عنه جملة وتفصيلاً، وكل ثمن أزاء العهد والأمانة واليمين هو قليل الا الجنة، والجنة لا تنال الا بفضله تعالى ولا يقدر عليها غيره سبحانه، ولا ينال نعيمها العبد الا بالتقيد بأحكام العهد والأمانة وعدم الخيانة.
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ]
جاء اسم الإشارة اولئك لبيان البعد، وهذا البعد يحتمل اموراً:
الأول: البعد المكاني بان اهل الخيانة والغدر بعيدون في مكانهم ومقامهم عن المسلمين، وقد جعل حجباً تحول دون تأثيرهم على المسلمين واموالهم.
الثاني: ابتعادهم عن اسباب السلطان والقوة، فليس لهم أثر وحضور يذكر في معاملات وعهود المسلمين.
الثالث: بعدهم في الآخرة سواء في مواطن الحساب او في القسم بلحاظ الأعمال، وكأن اجتماع وتفرق الناس في منازل الآخرة وقبل دخول الجنة او النار يكون بحسب سنخية الأعمال.
الرابع: في الآية دعوة لنفرة المسلمين منهم، وتحذيرهم من عهودهم، وعدم الإطمئنان لها، واخذ الحائطة لإحتمال نقضهم لها، واجتنابهم في المعاملات والأسواق الا مع الإطمئنان او الضمان وأسباب رد الوديعة لقوله تعالى [إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] ( ).
الخامس: بعد مجيء الآيات السابقة بفضحهم وذكر ما يبيتون من نية السوء، جاءت هذه الآية لتخبر عن بعدهم وعدم تأثيرهم، في اشارة لبيان عظيم فضله تعالى على المسلمين بهذه الآيات، وتوكيد حصول النفع وترتب الأثر والفائدة منها، وهذا من افاضات آيات القرآن ان تأتي بالإنذار وتتعقبه اشارة للإنتفاع منه، وهذا الإنتفاع يترشح على المسلمين جميعاً، مما يدل على استجابتهم لآيات القرآن وتدبر ما فيها من الحكمة ووجوه البشارة والإنذار.
السادس: تبين الآية ما ينتظر هؤلاء من العذاب في الآخرة وانهم سينالون جزاءهم، ويكونون بعيدين عن المسلمين.
السابع: في الآية دعوة للمسلمين للصبر في الحياة الدنيا، وتحمل الأذى في جنب ، وبشارة بابعاد الذين يؤذونهم في الآخرة عنهم، فلا يرونهم تخفيفا ،لما في تلك الرؤية من استحضار للأذى والألم الذي كانوا يلاقونه منهم بسبب نقض العهود وخيانة الأمانة وحنث اليمين الذي كانوا يقدمون عليه للتعدي على المسلمين وحرماتهم وأموالهم.
قوله تعالى [لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ]
بعد الإشارة لهم باسم الإشارة الدال على البعد وما فيه من ارادة النفرة منهم، أخبرت الآية بانعدام نصيبهم في الآخرة، وهو أفدح وأكبر خسارة يمكن ان يتعرض لها الإنسان مما يدل على موضوعية عهد ومواثيق النبوة والأمانة ولزوم حفظها وتعاهدها، ووظيفة المكلف الإجتهاد في السعي الى الآخرة والإستعداد لها بالعمل الصالح وأداء الفرائض والمبادرة الى التوبة والإنابة، لينال حظاً ونصيباً فيها وهذا النصيب يتمثل بنيل شآبيب الرحمة والعفو والمغفرة منه تعالى، وببذل الوسع في الإكتناز من الخيرات، بقصد ثقل ميزان الحسنات، ولكن هؤلاء اختاروا الحرمان من هذه النعمة المركبة من أمرين:
الأول: نعمة العمل الصالح في الدنيا وما فيها من السكينة والرضا وحسن الإستجابة لأوامره تعالى والوفاء بالأيمان.
الثاني: النعيم الخالد في الآخرة الذي يأتي ثواباً على الوفاء بعهد .
وبلحاظ مضامين الآية تتجلى مسائل:
الأولى: التفريط والخسارة التي ينالها اولئك الذي لا عهد لهم، وحرمانهم من الرحمة الإلهية في الآخرة وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله تبارك وتعالى خلق يوم خلق السموات والارض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والارض ، فأنزل منها إلى الارض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض، حتى أن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين، فأكملها مائة رحمة فيرحم بها عباده”( ).
فمع سعة رحمته تعالى وطمع الخلائق بها، فان ناقضي العهد والمواثيق لن ينالوا منها شيئاً.
الثانية: حرموا من النصيب من الفضل الإلهي دون ما يستحقونه من الثواب على العمل الصالح في حال وجوده.
الثالثة: العمل الصالح ونيل الثواب عليه مشروط بقصد القربة، وهذا القصد معدوم عند هؤلاء فالمراد من الخلاق ارادة الإطلاق في الثواب والجزاء الحسن.
والأصح هي الثالثة، وجاء هذا الحرمان بسبب ما اقدموا عليه من فعل السيئات.
والآية تحتمل أموراً:
الأول: قطع طمعهم برحمة من الآن، وهم في الحياة الدنيا، بحيث يصيبهم اليأس والقنوط في الآخرة، فيعلمون منذ ايام البرزخ ثم النشور انهم لن ينالوا من رحمته شيئاً.
الثاني: اقامة الحجة عليهم في الآخرة، حتى اذا طمعوا في رحمته اخبروا بانه “لا نصيب لهم” بسبب سوء ما فعلوا من نقض العهود والمواثيق.
الثالث: الإعتبار والإتعاظ واجتناب نقض العهود، وهذا الإعتبار لا ينحصر بالمسلمين وحدهم وان جاء ضمن آيات القرآن من جهات:
الأولى: حفظ العهود والمواثيق واجب على الناس جميعاً.
الثانية: شمول خطابات القرآن التكليفية للناس جميعاً، ولكن الذين استجابوا هم المسلمون من بين الناس، ومن منافع هذه الإستجابة في المقام أمور:
الأول: دعوة الناس للإقتداء بهم ومحاكاتهم في فعل الخيرات والمبادرة الى دخول الإسلام.
الثاني: النهوض بالواقع العقائدي والأخلاقي للأمم والملل، وحثهم على صيانة العهود والمواثيق، فمن لا يوفق لدخول الإسلام، عسى ان يبادر الى حفظ العهود والمواثيق.
الثالث: بيان قبح وسوء فعل من ينقض المواثيق ولا يحافظ على العهود، ولا يصون الأمانة.
الرابع: حث الناس على الإلتفات الى عالم الآخرة، ولزوم العمل له، باتيان الحسنات وترك السيئات.
الثالثة: التوثيق السماوي لأفعال العباد، وتقسيمهم الى قسمين لا ثالث لهما:
الأول: من يحفظ العهود ويتعاهد المواثيق.
الثاني: من ينقض العهود والأيمان، ويشتري بها ثمناً قليلاً ومتاعاً زائلاً.
ومن رحمته تعالى، ان هذا التقسيم ليس ثابتاً من جهة الأفراد والمصاديق، فمصاديق كل قسم في زيادة او نقصان، الى ان جاء القرآن فجعل التغيير باتجاه واحد، وهو زيادة عدد الذين يوفون بالعهد، ونقصان الذين يشترون ثمناً قليلاً.
ومن الأدلة عليه ما في هذه الآية من التحذير والإنذار من وجوه:
الأول: تحذير الذين ينقضون العهد، وبيان سوء فعلهم.
الثاني: الإخبار عن قلة وبخس الثمن الذي إختاروه عوضاً لأعظم مسؤولية يتولى تعاهدها الإنسان وهي الأمانة.
الثالث: بيان موضوعية وشأن اليمين والحلف لأنه يتضمن العهد والأمانة معاً، فاليمين عهد مع ومع الناس، وامانة يتحمل الحالف مسؤولية الحفاظ عليها وعدم نقضها.
الرابع: تأديب المسلمين بالإعتبار من غيرهم، وهذا الإعتبار متعدد فيشمل ذكر افعال السوء والظلم الذي يقوم به الآخرون لإجتنابه وحفظ العهود.
وحفظ العهد والأيمان من الواجب العيني التعييني، ولا يصح التفريط به، ويكون أخذ المال والعوض في مقابله من أكل المال بالباطل وهو من الواجبات النظامية التي أوجب على المكلفين حفظها بالذات.
وقد تأتي اليمين لفك الخصومة وانتزاع حق، كما في يمين طالب الحق والدين مع شهادة شاهد واحد، وهو مشهور علماء الإسلام وهذه اليمين غير الأيمان المذكورة في الآية ، للتباين الموضوعي فتلك الأيمان تتعلق بنفي البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت لمحاولة ترسيخ التحريف وتغيير الحقائق، اما اليمين في الخصومة فهي مسألة شخصية، وتتعلق بحال وشأن خاص في الغالب.
وتشملها عمومات حرمة اليمين الغموس التي تعرض صاحبها للعذاب الشديد في الآخرة،
وفي علم الفقه مسألة الترتيب بين الشهادة واليمين أو عدمه، والأصح هو الترتيب وتقديم شهادة الشاهد اولاً، ثم يمين طالب الحق ثانياً، لأن الأصل هو البينة وهي شهادة عدلين وعند مجيئها ناقصة يأتي اليمين للتدارك وعدم تضييع الحق، بسبب غياب جزء البينة، فالإصالة للشهادة وعليها جاءت الأدلة اللفظية وما تفيده من الإطلاق، وهي مقدمة على حكاية الفعل وتعذر الأصل الوارد بالدليل اللفظي، لأن الفعل يدل على حدوث أمر واقع في الخارج، ومع عدم حدوثه لا يكون موجوداً، فغياب جزء البينة واللجوء لليمين امر جزئي ومن صيغ التدارك في القضاء ، ولها موضوعية في تأديب وتعليم المسلمين وارشادهم الى لزوم عدم الحلف الا مع التثبت من الحق.
وكم من مسلم ترك حقه تنزهاً عن اليمين وتقديساً لمقام الربوبية في المسائل الشخصية فيدعوه القاضي لليمين فيطلب اعفاءه منها ويترك ما له من حق، او يقوم بدفع مال خاص لم تنشغل ذمته به اكراماً لموضوع اليمين وتوكيداً على اهميتها في باب الأحكام وعالم الجزاء، ولكي يعطي درساً للناس بعدم التجرأ على اليمين في حال الحق، كي لا يقدموا عليها في حال الشك والوهم في أمور العقيدة والمبدأ لقاء ثمن زهيد.
ومن الآيات ان المسلم لا يستطيع ان يحلف كذباً وزوراً على المبادئ والعقائد فلا يستطيع ان يكذب على ، ولا يقوم بالتحريف وتغيير الحقائق، وليس من بشارة في القرآن أو السنة النبوية بنبي آخر غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه خاتم النبيين وسيد المرسلين، وهذا من فضله تعالى على المسلمين، ان جعلهم شهوداً على غيرهم من الأمم، ووقاهم اسباب الإفتتان التي تعرضت لها الأمم السالفة، باختيارهم الإسلام وتقيدهم بأحكامه وسننه.وجاءت عصمة القرآن من التحريف سلاحا وعونا لهم في هذا الباب .
وجاء قيد (في الآخرة) لبيان مسائل:
الأولى: منع الإفتتان بالكفار، وما هم عليه احياناً من البسطة في الرزق واسباب الدعة.
الثانية: توكيد التفكيك بين نعم الدنيا ونعم الآخرة، فليس كل من هو في سعة وبحبوبة في الدنيا يكون في نعيم في الآخرة.
الثالثة: النعم في الدنيا مناسبة للشكر له تعالى، وتدعو للحرص على الإنتفاع منها كوسيلة وسلاح في الآخرة.
الرابعة: بيان حقيقة ثابتة بان الدار الآخرة هي الأهم والأولى بالعناية وتوكيد الإنشغال بالسعي للحظ والنصيب فيها لذا فان الآية تتضمن حث المسلمين على حفظ العهود وفيه شاهد على استحقاقهم للخلافة في الأرض ووراثتها فعندما تخلى الناس عن المواثيق وما في اعناقهم من العهود، تصدى المسلمون لحمل هذه الأمانة، وحفظ معالمها ليكونوا قادة الأمم وخلفاء الأرض الى يوم القيامة.
الخامسة: التذكير بيوم الحساب، وموضوعية الأعمال فيه فمن أصول الدين الإقرار باليوم الآخر والآية تنقل الإنسان الى يوم القيامة وتبين ان فيه حظاً ونصيبا.
وبينما جاء نفي نظره تعالى للجاحدين يوم القيامة، جاء نفي نيلهم النصيب والحظ في الآخرة مطلقاً، وبين الآخرة ويوم القيامة عموم وخصوص مطلق، فيوم القيامة من الآخرة ، وهي أعم من يوم القيامة لأنها تتضمن عالم البرزخ والخلود اما في النعيم او الجحيم.ويأتي ـحيانا يوم القيامة لإرادة الكل .
وجاء الإطلاق هنا بارادة الآخرة، لبيان الحرمان التام من نصيب الخير الذي يكون الناس محتاجين له من الآخرة.
علم المناسبة
لقد ذكرت الآية الثمن القليل من غير تعيين لنوعه وماهيته، مما يفيد الإطلاق والتعدد واشتراك أفراد الثمن وفي كل زمان بالقلة والبخس والنقصان.
ومن اعجاز الآية انعدام الطرف الآخر ممن يصدق عليه انه بائع، فناقض العهد يشتري ثمناً قليلاً، ولكن ليس من بائع او متصدِ لدفع الثمن، وهذا ما تؤيده عمومات (قانون التفسير الذاتي) قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
وفي المقارنة بين موضوعي الآيتين مسائل:
الأولى: موضوع هذه الآية من سورة البقرة الذين يكتمون ما أنزل ، أما الآية محل البحث من سورة آل عمران فموضوعها الذين ينقضون عهد وايمانهم.
الثاني: تخص الآية أعلاه اخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام التنزيل، اما موضوع هذه الآية فهو أعم وبينه وبين كتمان ما أنزل عموم وخصوص مطلق، اذ ان اخفاء الآيات وحقائق التنزيل من الجحود، وعدم الوفاء بعهد ، وقد أخذ عهداً على الناس ان لا يخفوا الآيات والتنزيل.
الثالث: ورد في هذه الآية من سورة البقرة ثلاثة أنواع من العذاب الأخروي هي:
الأول: ان لا يكلمهم.
الثاني: لا يزكيهم ولا يطهرهم.
الثالث: لهم عذاب أليم.
أما الآية محل البحث فورد فيها خمسة أنواع با ضافة نوعين هما:
الأول: انعدام الحظ والنصيب.
الثاني: ان لا ينظر اليهم.
مما يدل على ان عقوبة نقض العهد واليمين، أشد لأنهما أكثر اثماً وتعدياً وظلماً للذات والغير، ولا يعني هذا ان كتمان التنزيل أمر عدمي، بل هو أمر وجودي ايضاُ لما فيه من سوء القصد والفساد وارادة الإفساد.
الرابع: تبين الآية من سورة البقرة ماهية الثمن القليل الذي أراده، وانه الضلالة وهو خسارة محضة لذا ورد في آية أخرى [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( ).
قانون الخلاق
الخلاق هو الحظ والنصيب والنفع، مأخوذ مما خلق للإنسان وما قدر له من الخير.
وهما لفظان شائعان لغة وعرفاً، ويعترف الناس بهما في الواقع اليومي في باب الكسب والمال والجاه والشأن سواء يأتي الحظ والنصيب على نحو التعيين والقصد، فينال الشخص حظه باستحقاق ووفق قانون العلة والمعلول، والسبب والمسبب، او يناله بالإتفاق والصدفة، ولا ينحصر الأمر بعالم الإيجاد والإيجاب بل يتعلق بالعدم والسلب،
فمن النصيب والحظ صرف البلاء عن الشخص، ومن سوء النصيب ان يبتلى به آخر، وقد ترى شخصين تلتقي عندهما الأسباب والشرائط ولكن أحدهما ينال بغيته، والآخر يتحمل الخسارة، وهذا الأمر لا يتعلق بالنصيب بمعناه المجرد، بل ان الحظ والنصيب عنوان لفضله تعالى وتوالي نعمه على العبد، ولكن هذا لا يعني ان الذي يبتلى بالضيق والنقص محروم من فضله تعالى فقد تكون نجاته وسلامته بالضيق وقلة ما في اليد ونقص الربح وانعدام الزائد عن المؤونة.
ليجعل له السعادة في الآخرة، ويكون العوز وسيلة للنجاة من حر النار كما لو كان غنياً لأدى به الغنى الى الإفتتان وركوب المعاصي، فحجب عنه أسباب الفجور، وجعله متعاهداً للحرص على طاعة وأداء الفرائض في أوقاتها، ويمكن تقسيم قانون الخلاق الى قسمين:
الأول: الخلاق في الدنيا، ومنه ما تقدم اعلاه، فهذا القانون يلازم الإنسان ولا يعني ان له الحاكمية والتأثير بحيث يكون الإنسان خاضعاً لمضامينه، بل هو عنوان اضافي مترشح من أمرين:
الأول: فعل الإنسان واختياره للصالحات او السيئات.
الثاني: فضله تعالى الذي يتغشى العبد، فهذا القانون مرآة لحال وفعل العبد وما كتب له في الدنيا، كما انه من الأمور النسبية لما فيه من بيان النعم الإلهية على العبد، ولموضوعية الدعاء فيه.
فقد لا يكون للإنسان حظ في الدنيا او بعض الموارد منها كعالم الصناعات والزراعات، ولكنه بالدعاء ينال الحظ الأوفر، والنصيب الأكمل، فترى الملائكة انه نال أكثر من غيره ممن كتب له الحظ والنصيب الجزيل في المقام، ويعلمون ان هذا التباين حصل ببركة الدعاء، ونفع التوسل الى فيدركون حقيقة وسراً من اسرار خلافة في الأرض من خلال (قانون الخلاق) وهو نيل العبد لأكثر مما كتب له أو لعمله، وما علموه من رزقه وكسبه، ليكون فيه درس وموعظة يقدمها الإنسان للخلائق وتطمئن الملائكة الى امكان تدارك الإنسان للنقص والعوز باتخاذ الدعاء سلاحاً وعضداً وعوناً.
الثاني: الخلاق في الآخرة: وهو النصيب الذي يناله العبد في عالم الآخرة وينقسم الى عدة أقسام:
الأول: الليلة الأولى في القبر، وما يتعرض له من ضغطة القبر، ويتجلى فيه النصيب برفع ضغطة القبر عن المؤمن، والتخفيف عنه في الحساب الإبتدائي لمنكر ونكير، ووحشة القبر، والفزع مما ينتظره من أهوال الآخرة.
الثاني: عالم البرزخ الذي يمتد الى يوم النشور، ويكون الناس فيه على ثلاث شعب:
الأولى: يكون قبره روضة من رياض الجنة، وهو خاص باهل الطاعات والصالحات.
الثانية: يكون قبره حفرة من حفر النيران، وهو الذي يخص أهل الذنوب والمعاصي.
الثالثة: يوم ينفخ في الصور للبعث والنشور.
الثالث: يوم الحساب وما فيه من الأهوال، وهو على اقسام:
الأول: البعث والنشور من القبور، وما يصيب الناس من الخوف والفزع الا اهل الأيمان والتقوى، وهذا الإستثناء من الخلاق والنصيب في الآخرة.
الثاني: مواطن يوم القيامة، ومواقف الحساب ومنها الحوض والميزان والصراط.
الثالث: خلود المؤمن في جنة النعيم، ودخول الكافر النار.
وهل من صلة بين الخلاق في الدنيا والخلاق في الآخرة؟ الجواب نعم، فان النصيب والحظ في الدنيا عون على نيل المراتب العالية في الآخرة ومقدمة لها،وسلاح دائم إن أحسن الإنسان توظيفه في مرضاة . وقد ورد لفظ الخلاق في القرآن ثلاث مرات بصيغة المفرد، في سورة البقرة وآل عمران، وكلها في الإخبار عن حرمان الكافر والفاسق للحظ والنصيب في الآخرة.
وثلاث مرات بصيغة الجمع في آية واحدة( )، تتعلق بالدنيا، وتمتع الكافرين بنصيبهم وحظهم في الدنيا، والآيات الستة كلها تتضمن لغة الذم والتقبيح لهؤلاء، وتحذر من التفريط في نعم الدنيا، والخسارة في الآخرة، وتضييع الإنسان لنصيبه فيها.
ان قانون النصيب مصداق لعمومات قواعد اللطف الإلهي، ومناسبة متجددة كل يوم للإعتبار والموعظة سواء لما للذات من نصيب، او ما للغير من الحظ والنصيب، فمن الآيات في الحياة الدنيا انها عون على الإقرار بالربوبية لأنها مدرسة متجددة ومزرعة لنيل النصيب الأتم والحظ الأحسن في الآخرة بالفوز بالخلود في النعيم.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب الإستقصاء، وهو ذكر موضوع مع استقصاء معانيه وأوصافه وعوارضه، ومنه ذكر العقاب الذي يناله الذين ينقضون عهد وايمانهم، فلو ذكرت الآية انتفاء النصيب والخلاق وحده، لقالوا انهم يرجون ما يستحقون من عمل الخير مما خلطوا معه الباطل، او انهم يأملون شفاعة ابائهم ولطمعوا بغير النصيب مما يأتي بالفضل الإلهي على عامة اهل المحشر.
فجاءت الآية بالإخبار عن حرمانهم من النظر اليهم، وفيه آية اعجازية فليس من أحد في المحشر الا والله يراه وينظر اليه ولكن الآية جاءت للإخبار بان ما هم فيه من العذاب لن يكون سبباً لرحمته تعالى، فلا ينظر اليهم أي لا يأتيهم العفو وهم يعذبون، فصرف المعنى الى اللفظ مجازي لا يمنع من مضامين النظر.
بتقدير لا ينظر اليهم بعين الرحمة يوم القيامة وهل ينظر اليهم في الدنيا الجواب نعم، وهذه الآية من النظر اليهم في الدنيا لما فيه من الإنذار والتحذير والزجر عن التفريط بالوظائف العقائدية، وقد يظن هؤلاء ان لا ينظر اليهم ولكنه سبحانه يطهرهم من الذنوب وان لم ينظر اليهم، كما لو كان الملك لا يريد ان يرى الذنب ولكنه يعفو عنه، أو كما في رسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال لوحشي : أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره قال : ويحك غيب وجهك عني ، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام وكان بها إلى أن مات( ).
فجاءت الآية لتخبر بان لن يطهر الذين ينقضون عهده من ذنوبهم يوم القيامة، ومن الإستقصاء اختتام الآية بالإخبار عن نزول العذاب الأليم بهم لمنع الظن بانهم قد يكونون في برزخ بين الجنة والنار او ان امرهم يبقى معلقاً بعد عدم التطهير والحرمان من كلامه ونظره تعالى، فجاءت الآية بالإخبار عن سوء العاقبة الذي ينتظرهم.
بحث بلاغي
من وجه البديع “التضمين” ويراد منه معنى غير المراد المتعارف من ظاهر اللفظ، وهو على أقسام منها الإتيان بلفظ في محل لفظ آخر غيره لإفادة اللفظ المأتي به ذات المعنى مجازاً او استعارة او مع الضميمة، وهو على أقسام:
الأول: الإتيان بلفظ مع ارادة غيره لإفادته معناه وهذا الإستعمال مجازي.
الثاني: جاء لفظ النظر في الآية ولا ينظر اليهم، ولكن المراد ما هو أعم من النظر، وهذا من اعجاز استعمال المجاز في القرآن ، فالأمر لا ينحصر باستعمال المعنى.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (النزاهة) ويعني خلو كلمات الهجاء من الفحش فمع ان المتكلم في حال الذم والتقبيح الا انه يجتنب الهجاء، وتتجلى النزاهة في القرآن اذ انه يتضمن آيات التقبيح والذم، ويتلوها المسلمون في كل زمان ومكان من غير ان يعاب على أحد منهم، ويسمعها المقصودون بالذم والتعريض، فلا ينفرون منها، وان اعرضوا عن مضامينها، وعدم النفرة هذا من وجوه العبودية المطلقة لله تعالى أي التي تتغشى الناس جميعاً، وخلو القرآن من الفحش دليل على اعجازه وصدق نزوله من عند تعالى وغناه سبحانه عن الناس.
ومع ان هذه الآية جاءت ببيان فعل قبيح، وظلم للذات والغير يقدم عليه اهل الضلالة فان الآية اكتفت بذكر الجزاء الأخروي، وما يناله ناقض العهد وناكث اليمين من العذاب الأليم.
وفيها توكيد لقوته وقهره تعالى للخلائق وعظيم سلطانه وانه لا يخاف الفوت، بل انه يتضمن الرحمة والرأفة بالعباد لأن لغة الإنذار زجر عن الفعل السيء، ودعوة للناس لإجتنابه وخلو القرآن من الفحش اكرام لجنس الإنسان الذي اختاره خليفة في الأرض، وباب للتوبة والإنابة، وحث على الطاعات، وترك المحرمات.
قوله تعالى [وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ]
الكلام هو الأصوات المقسمة الى أجزاء متعددة لغرض افادتها لمعنى مخصوص، وكلام الإنسان ما يجري على لسانه من الألفاظ ومنهم من قال بالتفصيل “وهو ان ما ينطق به ليس عين الكلام انما هو عبارة عن الكلام، ويسمى كلاماً مجازاً وان كلام الإنسان هو ما يقوم بقلبه”( ).
ولم يثبت هذا التفصيل، كما ان الثواب والعقاب بخصوص الكلام على ما ينطق به الإنسان، وليس على ما يضمره في قلبه وينوي قوله، ولم يعرف الأنبياء الا بالكلام والدعوة الى ، وقسموا الكلام الى كلام لفظي وكلام نفسي، والكلام عند الأشاعرة وجماعة من المعتزلة، على قسمين:
الأول: الكلام الحسي، وهو ايجاد الألفاظ والأصوات التي تفيد المعاني المقصودة.
الثاني: المعنى النفسي الذي تكون الألفاظ دالة عليه، ومشهور الأشاعرة خصه بالقسم الثاني أعلاه والخلاف صغروي، والمتبادر الى الذهن في معنى الكلام انه الحروف المنظومة والأصوات المقطعة، وهذا الكلام عبارة عما في النفس من ارادة وعزم، ولكن كلام اعم واجماع المسلمين والمليين على ان متكلم، وكلامه صفة أزلية ثابتة، وهو عنوان الحياة والقدرة ووجوب الوجود، وفيه وجوه:
الأول: أوامره ونواهيه تعالى.
الثاني: الكتب السماوية النازلة على الرسل.
الثالث: الوحي الى الأنبياء.
الرابع: الوحي مطلقاً الى الأنبياء والصالحين، كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي] ( ).
الخامس: الوحي الى الملائكة خصوصاً وانهم سكان السماوات واقرب الخلائق الى العرش، قال تعالى [ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ] ( ).
السادس: الوحي الى الملائكة والأنبياء والصالحين والى السماوات والأرض وما فيهن، كما في قوله تعالى [وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا]( ) ، وقوله تعالى في عالم الحيوان [ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ]( ).
السابع: الآيات والمعجزات ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ] ( ).
الثامن: كلمة التوحيد، والدعوة الى الإسلام ، قال تعالى [وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا].
ويدل هذا التعدد الموضوعي على عظم معنى الكلمة الإلهية، وانها أعم من أن تنحصر بعالم الألفاظ، وذهب جماعة من علماء الكلام الى ان صفة المتكلم له تعالى صفة مستقلة غير العلم والإرادة، وهو الكلام النفسي، والألفاظ والأصوات عبارات وعلامات تدل عليه، وهو معنى واحد وليس معانِ متعددة، فلا يدخل فيه الأمر والنهي والسؤال والخبر ونحوها، وصفة المتكلم لله تعالى رحمة للخلائق، وكلامه تعالى صلة وواسطة بينه تعالى وبين خلقه، وحجة على الناس في الدعوة الى طاعته، وشاهد صدق ادعاء الأنبياء، وتلقي الوحي منه تعالى وان كان هذا الوحي بواسطة الملائكة، وهم يأخذون كلام من اللوح.
وكلامه تعالى صدق وحق وعليه إجماع المسلمين، لأنه سبحانه منزه عن القبيح، وجاءت هذه الآيات لحث الناس على الوفاء بالعهود والإيمان، وهذا الوفاء من مصاديق الحق والصدق، وليس في كلامه تعالى الا الحق والرحمة والخير المحض، وهو سبحانه ليس محتاجاً.
ونفي كلام تعالى مع الذين ينقضون العهد والأيمان يحتمل بلحاظ الزمان والأوان أمرين:
الأول: لا يكلمهم مطلقاً في الدنيا والآخرة.
الثاني: لا يكلمهم في الآخرة.
الثالث: لا يكلمهم يوم القيامة وفي مواطن الحساب.
الرابع: لا يكلمهم يوم القيامة وعند دخولهم النار وخلودهم فيها.
والأصح هو الرابع بارادة المعنى الأعم ليوم القيامة الشامل لمواطن الحساب والجزاء.
نعم ورد قوله تعالى في أهل النار [ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ] ( ) وفيه مسائل:
الأولى: انه ليس من الكلام المقصود في هذه الآية لأنه جاء رداً وبالنفي، ومنع الكلام معه تعالى.
الثاني: الآية لا تشمل هؤلاء الكفار بعد دخولهم النار، وثبوت العقاب عليهم.
الثالث: الآية أعلاه توكيد لمضامين الآية محل البحث لما فيها من الزجر عن مخاطبته تعالى، وهي أعم من الكلام.
الرابع: الجمع بين الآيتين يفيد معنى لا يكلمهم الا الكلام الذي فيه زجرهم وتوبيخهم واسكاتهم كما لو جاء الى آخر غير راضِ عنه فيكلمه الأول فيجيبه: لا أكلمك، او لا كلمتك من رأسي أبداً.
والصحيح هو الوجه الأول والثالث والرابع، وهذا من اعجاز القرآن وتعدد معاني الآية القرآنية بما يفيد بيان الوعد والوعيد، وصيغ الإنذار والتحذير ، وفيه توكيد على اعتبار تكليمه تعالى للعبد يوم القيامة وحاجة كل انسان له.
وفي الآية وعيد، ووعد كريم، وعيد للكافرين بالحرمان من نعمة من أعظم النعم وتتضمن التشريف ومصاديق الرحمة والرأفة، ووعد للمؤمنين بالفوز بكلامه تعالى وما فيه من عناوين العفو والسكينة والنجاة من الفزع، والسلامة من الأذى، والأمن من العذاب.
ان الإخبار عن عدم تكليمه تعالى للكافرين يدل في مفهومه على البشارة للمسلمين بان سيكلمهم يوم القيامة، وهذا التكليم مرتبة وعنوان للعز والفخر، وليس الفخر يوم القيامة وحده بل في الدنيا وعالم البرزخ، اما في الدنيا فمن وجوه:
الأول: الإخبار الذي جاءت به هذه الآية وما فيها من الوعيد للكافرين.
الثاني: تنزيه المسلمين عن أسباب التوبيخ والوعيد والتخويف، وتلك قاعدة في القرآن.
الثالث: علة هذا الوعيد، وموضوع الإنذار والإخبار عن سبب الحرمان من تكليمه تعالى وهو التفريط بالعهود ونقض المواثيق ونكث الأيمان، والمسلمون حريصون على التقيد بهذه الأحكام.
ومن الإعجاز ان الآية لم تذكر طائفة او ملة مخصوصة ، الا ان هذا لا يمنع من تعيينها ولو على نحو الإجمال بلحاظ الآيات السابقة التي جاءت في ذات الموضوع من جهة الذم وذكر المعايب.
الرابع: مفهوم هذه الآية الذي يفيد ان عزوجل لا يكلم الجاحدين والمعاندين عقوبة وجزاء، مما يعني ان الأصل هو تكليم عزوجل لعباده يوم القيامة ولكن هؤلاء حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة.
وبعد نفي النصيب والحظ في الآخرة جاء قوله تعالى [َلاَ يُكَلِّمُهُمْ] وفيه وجهان:
الأول: يتضمن نفي الحظ والنصيب للإنسان في الآخرة عدم تكليم له يومئذ والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق.
الثاني: التباين الجهتي، وان النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، والأصح هو الثاني، وهذا من اعجاز العطف الوارد في الآية الكريمة وبيان عظيم فضله تعالى وان الذي يعلم انعدام حظه ونصيبه في الآخرة، لا ييأس من رحمة ويرجو ان ينال نعمة تكليمه تعالى، وهذا الرجاء من وجوه:
الأول: ظن كل انسان بان يكلمه يوم القيامة، وكما ان القرآن والكتب السماوية من كلامه سبحانه في الدنيا، وهذا الكلام مبسوط وقريب من الناس جميعاً فكذا في الآخرة ولكنه حينئذ يكون على نحو القضية الشخصية وعاماً.
الثاني: انحصار الملك به تعالى يوم القيامة .
الثالث: تعدد وجوه الرحمة الإلهية يوم القيامة .
الرابع : تعلق الرجاء به تعالى .
الخامس: وكما ينقسم الظن في الدنيا إلى قسمين:
الأول: الظن المعتبر وهو قسيم اليقين في التصديق، كما في ظن الأنبياء.
الثاني: الظن غير المعتبر كما في ظن اقطاب الكفر.
ويجمعهما قوله تعالى [وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا] ( )،فكذا في الآخرة يخيب ظن الكفار .
ووردت في الآية أقوال:
الأول: لا يكلمهم بما يسرهم بل بما يسوءهم وقت الحساب لهم، عن الجبائي.
الثاني: انه لا يكلمهم اصلاً، وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر اياهم استهانة بهم، ذكره الطبرسي، ولم يذكر قائله( ).
الثالث: بيان شدة سخط عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا، فانما ذلك بسخط عليه، عن القفال( ).
أما بالنسبة للأول فان الآية الكريمة أعم اذ ان كلام يوم القيامة من أعظم النعم على العباد، ويحتاج اليه كل انسان اكثر من حاجتهم اليه في الدنيا، واذا كان كلامه تعالى في الدنيا الأوامر والنواهي والوحي والتنزيل، فان كلامه في الآخرة خير محض، وهو محجوب عن الذين ينقضون العهد، ويقسمون بالله زوراُ.
أما بالنسبة للثاني فان المحاسبة امر آخر غير كلامه تعالى، وان كلامه تعالى يسبق المحاسبة ويلازمها ويتأخر عنها، سواء كان تعالى هو الذي يحاسبهم، ام الملائكة هم الذين يحاسبونهم.
اما الثالث فهو لبيان علة عدم تكليمه لهم تعالى وليس لماهية عدم التكليم ذاته.
وجاءت الآية وحجب كلامه تعالى بخصوص الذين ينقضون العهود، ويحلفون ايماناً فاجرة طلباَ للدنيا، او انهم يحلفون على شيء ولكن غلبة النفس الشهوية والكدورات الظلمانية تجعلهم يجحدون اليمين ويقولون الكذب، ويخالفون العهود التي قطعوها، أي انهم حينما ابرموا العهد، وحلفوا اليمين لم يفكروا بالنقض والجحود، ولكنهم عجزوا عن مواجهة النفس الأمارة واغواء الشيطان، وحال الحسد فاختاروا التحريف والكذب ونقض المواثيق، فهؤلاء تشملهم الآية ايضاً لصيغة الإطلاق التي جاءت بها وهذا من أسرار مجيء الفعل (يشترون) بصيغة المضارع، فلا يشترط الذنب الإثم تبيت النية والعزم على النقض والغدر، بل المدار على حصوله فعلاً مع النية والقصد السابق او المصاحب له.
لقد جاء العقاب الأخروي للذين يشترون بعهد وايمانهم ثمناً قليلاً شديداً ومتعدداً على خمسة وجوه، كل وجه عذاب اليم.
قانون الكلام في الدنيا
جاء موضوع الآية بخصوص كلامه تعالى في الآخرة، ونفي وقوعه مع الذين ينقضون العهود، ولكنها لم تتحدث عن كلامه تعالى في الدنيا مع الناس، وفيه وجوه:
الأول: انه تعالى يكلم الناس جميعاً في الدنيا.
الثاني: لا يكلم في الدنيا الا اهل الإيمان والصلاح.
الثالث: يكلم في الدنيا الأنبياء وبالوحي والواسطة، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ( ).
الرابع: لا يكلم أحداً من الناس في الدنيا، انما كلامه خاص في الآخرة ومع المؤمنين
والأصح هو الأول، وهذا من بديع الخلق والآيات العظيمة في خلق الإنسان، وهو من مصاديق النفخ في الإنسان من روح ، وآيات الخلافة في الأرض، وفيه تشريف للإنسان من بين الخلائق، فالذي جعله خليفته في ألأرض لابد من وجود صلة معه تتضمن اعانته على وظائف الخلافة في الأرض.
ومن أهم وجوه الصلة معه تفضله تعالى بتكليمه ولو من وراء حجاب،وبواسطة الكتاب والنبي . وبما ان الدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار، ولعمومات لطفه ورحمته تعالى بالناس جميعاً، جاء كلامه خطاباً عاماً للناس كافة.
وهذا الكلام يتجلى في الكتب السماوية فان قلت ان التحريف طرأ على الكتب السماوية السابقة، قلت: ان نزول القرآن شاهد على استدامة واتصال كلامه تعالى مع الناس جميعاً، ووثيقة سماوية تؤكد تنزيه هذه الصلة والموضوع التشريفي ونعمة التكليم العظيمة من طرو التحريف والتغيير.
فالقرآن يدعو الناس جميعاً الى الرجوع الى كلام والصدور عنه، كما ان نزوله وشيوعه وسهولة حصول الإنسان عليه، وسماع آياته بالقصد والإرادة، او بالإتفاق والصدفة آية اعجازية تؤكد سراً من أسرار الخلافة وهي ان يتفضل بايصال كلامه الى الناس، وهذا الأمر لا ينحصر بمفهوم الكلام المتعارف وهو ما أنتظم من الحروف المسموعة، والجمل المفيدة، والعبارات ذات المعاني والأغراض المفهومة، ويشمل اوامره ونواهيه .
وكلامه تعالى في الآخرة ليس أمراً ونهياً، للتباين بين دار الدنيا ودار الآخرة، فالأولى دار اختبار وامتحان، والآخرة دار حساب وجزاء، ولكن كلامه في النشأتين رحمة ولطف، ولقد بدأ كلامه تعالى مع الإنسان بعد نفخ الروح فيه مباشرة بان علم عز وجل آدم الأسماء، وهو اكرام عظيم وعنوان للخلافة في الأرض، والظاهر ان هذا التعليم ليس بواسطة الملائكة لأنه حينما عرض الأسماء على الملائكة أعلنوا عدم علمهم ، قال تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ] ( ) ، ثم خاطب آدم وطلب منه القيام باخبار الملائكة بمعانيها فكلامه تعالى مع الإنسان بدأ من أول ساعة من ساعات خلقه، ثم أستمر معه الى ان نزل القرآن ليكون كلاماَ له تعالى مع الناس الى يوم القيامة.
لذا يسمى القرآن (كلام ) وفيه توكيد بصدوره منه تعالى وليس من ملك او رسول او نبي، بل كلام الخالق .
فمن أراد ان يتكلم مع فان باب الدعاء والمناجاة مفتوح، ومن الآيات ان لم يجعل برزخاً او حجاباً او حاجباً بينه وبين خلقه، وليس من فترة او مدة او وقت يفصل بين الدعاء، وسماع له، وهذا من خصائص صفة السميع لله تعالى، فالسمع مطلقاً له سبحانه، ومن وجوه الإطلاق انه يسمع كل شيء، وانه ليس من فترة بين صدور الصوت والدعاء وبين سماع له .
ومنها انه ينفرد بسماع ما لا يسمعه غيره، والإشتراك مع خلقه في السماع، وكلاهما لا يقدر عليه غيره سبحانه، فقد يتكلم الإنسان بمفرده ليس معه شخص آخر فيسمعه ، وقد يتكلم مع اثنين او ثلاثة او أكثر مع الحرص والتثبت بعدم سماع غيرهم لكلامه سواء كان هذا الغير معيناً او نكرة ولكن يشترك مع الحاضرين في سماع الكلام قل او كثر، وان كان سبحانه يعلم بهذا الكلام منذ الأزل.
وبعد ان نزل القرآن وهو كلام ، هل يستغنى عن الكتب السماوية الأخرى او انها لم تعد تعتبر من كلام ، الجواب ان التنزيل من كلامه تعالى وقد كان موسى كليم .
فمن نعمه تعالى ان يتغشى كلامه ايام الحياة الدنيا كلها، وجاء القرآن تبياناً لكل شيء وكافياَ للناس في عباداتهم ومعاملاتهم، وهو الوسيلة والسلاح للنجاة في الاخرة ونيل الدرجات العلا ، وكلامه تعالى امام للناس في الدنيا والآخرة.
ولا يشمل نفي تكليمه تعالى لهم للدنيا والآخرة معاً، بل هو خاص بالآخرة بلحاظ عمومات قانون الكلام في الدنيا، ومنطوق الآية ، اذ ان الواو في قوله تعالى [وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ) واو عاطفة فيكون قوله تعالى [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ظرف زمان وأوان عدم التكليم والنظر اليهم، وليس عدم النظر وحده، ولكن لماذا جاء تقديم الكلام على النظر؟ لأن الكلام اقرب للإنسان في مضامين الرحمة، ويدركه بحواسه.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال لما نزلت ومن أهل الكتاب إلى قوله ذلك بانهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل قال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أعداء الله ما من شئ كان في الجاهلية الا وهو تحت قدمى هاتين الا الامانة فانها مؤداة إلى البر والفاجر( ).
لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت قوانين الأمانة والعهد وعدم تركها او مقابلة الذين يخونون الأمانة وينقضون العهد بمثل ما يفعلون، وهذا من الشواهد الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه بعث لتثبيت معالم التوحيد الى يوم القيامة، وجاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم لتأديب المسلمين وتعليمهم حفظ الأمانة ورد الوديعة مطلقاً بغض النظر عن انتماء صاحبها.
مما يدل على ان المسلمين هم خلفاء الأرض وقادة الأمم الى الصلاح والرشاد.
قانون الكلام الأخروي
الكلام صفة دائمة لله في الأزمنة المحققة والمقدرة، فهو متكلم منذ الأزل والى ألأبد وكلامه تعالى لا ينحصر بالإنسان وان كان خليفته في الأرض، ولا الملائكة وان كانوا سكان السماوات وحملة العرش، بل ان الكلام صفة من صفات الذات المقدسة، انه سبحانه هو واهب الكلام ومانح اللغات، وهو الذي جعل اللسان آلة للتخاطب والتفاهم ونعمة تلتقي بها أشرف الخلائق، اذ خص سبحانه بالكلام والنطق بالحروف والأصوات المقطعة بضرب وهيئة تفيد المعنى الذي يبغيه المتكلم الملائكة والإنس والجن.
وكأن الكلام ملازم للعقل، فاينما وجد العقل وجد الكلام، وقد تقدم “قانون الكلام في الدنيا” ومصاديقه من الكتب السماوية بالوحي اذ تفضل سبحانه وجمعه في القرآن وسماه كلام في ثلاث مواضع منه، قال تعالى[ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ] ( ).
ومن الآيات في الخلق الملازمة والترابط بين الدنيا والآخرة، وكل عالم منهما مؤثر بالآخر، فان قلت سلمنا بتأثير الدنيا على عالم الآخرة، لأن الثانية دار جزاء لأعمال الإنسان في الأولى، فكيف تؤثر الآخرة بالدنيا مع تأخرها زماناً، الجواب من وجوه:
الأول: علم الإنسان بالجزاء يجعله يستعد له.
الثاني: مجيء كلام في الإخبار عن عالم الآخرة وبيان مواطنه بما يبعث الإنسان على استحضاره في أعماله، فلا ينظر للعمل بذاته بل لعواقبه وآثاره الأخروية.
الثالث: وجود كلام بين الناس اماماً يقودهم الى سبل الهداية، ويرشدهم الى مسالك النجاة في الآخرة، ويدلهم على ضرورة من ضرورات الدين هي الإيمان باليوم الآخر.
واذا كانت الأوامر والنواهي من كلام في الدنيا، فان كلامه تعالى في الآخرة يكون الثواب جزاء لمن أطاعه والعقاب لمن عصاه، واذا كان الناس في الدنيا يتكلمون بما يطيب لهم، فانهم في الآخرة لا يقدرون على الكلام الا عند صدور الإذن الإلهي ، قال تعالى [لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ] ( ).
والإذن أمر وكلام ولطف منه تعالى، فكما ان الآخرة عنوان وشاهد على انحصار عائدية الملك به تعالى، وانه [ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ] ( ) فكذا بالنسبة للكلام فلا كلام يومئذ الا كلامه سبحانه، وما يأذن به ، وهو عنوان القوة والقدرة والعظمة لله تعالى، وكلامه تعالى في الآخرة حق وقانون ثابت، ونعمة يتطلع الناس جميعاً للفوز بها، ولكنه لا ينال الذين ينقضون العهد ويقسمون بالله زوراً وبهتاناً.
فمن قوانين يوم القيامة ان نقض العهد والحلف يحجب كلام عن العبد، وليوم القيامة مواطن ومواقف متعددة للحساب، وكل موقف له خصوصية، اما كلام فليس موطناً او موقفاً بل يتغشى المواقف كلها باعتباره رحمة اضافية، وفضلاً يصيب اهل الإيمان، اما الجاحدون فقد حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة بنقض المواثيق والأيمان.
وفي كيفية وصول الكلام الإلهي الى أهل الحشر وجوه:
الأول: مباشرة من غير واسطة، فيكون الناس مؤهلين لسماع ذات كلامه تعالى وبالكيفية التي يقدرون عليها، وهو وجه من وجوه حجب كلامه عن الذين ينقضون العهود والأيمان ورميهم بالعجز عن سماعه.
الثاني: يأتي الكلام بواسطة او وسائط، كما لو كان بواسطة الملائكة ومثاله في الدنيا قوله تعالى [ إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ]( ).
الثالث: كلامه تعالى في الآخرة مثل كلامه في الدنيا بالوحي والتنزيل، لذا حجب عن الجاحدين والمعاندين لأنهم لا يستحقونه.
والأرجح هو الثاني فان كلامه تعالى يأتي للناس بواسطة وهو تشريف للعبد يوم القيامة ومرتبة خاصة لا ينالها الا اهل الإيمان الذين يحافظون على العهود، ويتعاهدون الأمانة ولا يحلفون كذباً وزوراً.
قانون الثمن القليل
الثمن هو قيمة الشيء، الذي يدفع عوضاً عنه، ويأتي بمعنى البدل وما يستحقه الشيء من المال أو العروض، وليس من انسان الا ويقبض ثمناً وأجراً لقاء عين او عروض او عمل وجهد، او أنه يقوم بدفع الثمن لقاء تملك عين او عروض، ويجتهد الإنسان في نيل الثمن الأحسن عند البيع، والثمن الأقل عند الشراء.
وجاءت القواعد الشرعية لضبط احكام البيع والشراء ومنع التعدي في هذا الباب ذي المسائل الإبتلائية العامة، ولم تتضمن أي شريعة من الشرائع السماوية تفصيلاً في أحكام البيع مثل التي تضمنتها الشريعة الإسلامية، كما تمتاز أحكامها بالثبوت وعدم النقض، وهي من عمومات عهد المذكور في الآية الكريمة، وفيه اعجاز وهو ان خفف عن المسلمين ضبط العهود والمواثيق، ومنع من تحريف سنن الشريعة.
اذ جاءت آيات القرآن والسنة النبوية حصناً وعضداً، وبرزخاً دون التفريط بأحكام العبادات والمعاملات مطلقاً، ومنها قواعد وشرائط البيع والشراء لتكون اماناً للناس جميعاً، أي يتعاهد المسلمون أحكام البيع والشراء، فيحاكونهم في الفعل، وتكون صفة الحسن الذاتي للقواعد الكلية لأحكام البيع والشراء عوناً على هذه المحاكاة، ولكن تلك المحاكاة ليست على نحو الموجبة الكلية، لأنها جاءت عرضاً واقتباساَ، ولم تنبع عن ايمان وتقوى، فيقع غير المسلم بالحرام، في بعض المعاملات كما في الربا، ولا يحترز من التفريط بما يجب الحفاظ عليه وتعاهده.
ومنه العهود والأمانة والقسم لقاء ثمن قليل، وتلك القلة يعرفها أهل الأيمان لعدم البدلية عن العهود والمواثيق، ولخسارة من يفرط بها في الدنيا والآخرة، وهل يمكن ان يكون الثمن الذي يناله الذي يفرط بالمواثيق كثيراً لقاعدة اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
أي ان هؤلاء يشترون بعهد وايمانهم ثمناً قليلاً، وقد يكون غيرهم ممن سبقهم او من أهل زمانهم او ممن يأتي بعدهم ويشتري به ثمناً كثيراً، الجواب بالنفي، فليس من ثمن يطلب عوضاً للعهد والأيمان الا وهو قليل بذاته وبأثره ونفعه الظاهري المحدود.
فقلة وبخس ثمن نقض العهود قانون ثابت في الأرض ، والقلة صفة ذاتية للثمن الذي يؤخذ في مقابل الواجب مهما كان مقدار هذا الثمن، عيناً كان او عرضاً، او ذهباً وفضة.
وفي هذا القانون دعوة للناس للهداية، وتلمس الثمن الأكثر، وكما تقدم في بدايات مسائل هذا القانون ان الإنسان يجتهد في نيل الثمن الأحسن، ولا يجد الأحسن الا بالتجارة مع ، والتقيد بالواجبات وعدم التفريط بالعهود والأيمان، وهو مفهوم هذه الآية، أي انها تدعو الناس جميعاً الى المحافظة على العهود والمواثيق.
قوله تعالى [وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]
من أسماء تعالى “البصير” وهو الذي يبصر الأشياء جميعاً من غير آلة باصرة، وأختلف في معنى البصير على قولين:
الأول: علمه تعالى بالمبصرات، وبه قال ابو الحسين البصري.
الثاني: انها صفة زائدة على العلم، وبه قال الأشعرية وجماعة من المعتزلة.
والخلاف صغروي ويفيد الإجماع على انه تعالى بصير، وأستدل عليه بالسمع، أي الآيات القرآنية تدل على انه تعالى بصير، ويدل عليه العقل ايضاً.
فانه سبحانه خلق الأشياء كلها وهي جميعاً حاضرة عنده يراها ويعلم مكانها ولا تخفى عليه خافية منها، وهذا من عظيم قدرته وسلطانه تعالى، والمراد من النظر في الآية وجوه:
الأول: الرؤية ولكن من غير آلة وتقليب الحدقة، وتوجيه البصر نحو جهة المرئي، لأنه تعالى منزه عن الجسمية.
الثاني: نفي النظر هنا معناه لا يعطف عليهم ولا يرحمهم، وقيل فيه دلالة على ان النظر اذا عدي بحرف الى لا يفيد الرؤية، ولكن لا ملازمة بين ثبوت الرؤية له تعالى مطلقاً وبين موضوع تعدى النظر بحرف (الى) قال تعالى [انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ] ( ) ، لأن ثبوت امتناع رؤيته تعالى للأشياء بآلة عليه الإجماع، الى جانب ثبوته عقلاً وسمعاً لواجب الوجود، كما انه سبحانه يبصر الخلائق جميعاً فهي حاضرة عنده، مستجيبة لأمره.
الثالث: المراد عدم شمولهم بالعفو والمغفرة والإحسان، كما يقال: فلان لا ينظر الينا هذه الأيام، أي انه لا يحصنا بالإحسان.
الرابع: اجتماع النظر والإحسان بالتعدد والملازمة، وترشح الثاني عن الأول، فمن ينظر اليه تعالى يناله الإحسان، أي ان النظر يتعقبه الإحسان والصحيح هو الثاني والثالث والرابع، فتكون الآية عقوبة وذماً وبياناً للخسارة التي تصيب الذين ينقضون العهد والأمانة، ولا يحفظون الأيمان وما فيها من معاني الصدق والعهد والميثاق، واختيار الحالف شهادته تعالى عليه.
وتدل الآية في مفهومها على النعم العظيمة التي يتنعم بها المؤمنون في الآخرة، ووجوه الفوز والفضل الإلهي الذي يتغاشهم، اذ ان تعالى خص الذين ينقضون العهد بعدم النظر اليهم، مما يعني ان الأصل هو النظر الى العباد يوم القيامة، بمعنى شمولهم بالرحمة والإحسان ويتجلى الإحسان يومئذ بتخفيف الحساب والعفو والمغفرة، وهذا الأصل من مصاديق سعة الرحمة الإلهية يوم القيامة، الا ان الكفار والجاحدين حجبوا عن أنفسهم الرحمة.
وجاءت الآية بصيغة الخبر وكأنها خطاب للمسلمين واخبار لهم عما يلاقيه عدوهم والذي يغدر بهم، ليكون فيها شفاء لصدور المسلمين واشعار بكمال العناية بهم بالنظر اليهم، وتمييزهم عن غيرهم، وتشريفهم بالنظر اليهم وشمولهم برحمته تعالى.
وجاء نفي النظر الى الذين ينقضون عهد على نحو الجمع والتعدد [وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ] وفيه وجوه:
الأول: ان لا ينظر ويحسن الى كل واحد على نحو الإنفراد.
الثاني: لا ينظر لهم جملة باعتبار ان المراد من النظر هو الإحسان واللطف ، او ترشح الإحسان عن النظر.
الثالث: في الآية اشارة الى جميع الذين لم يتعاهدوا المواثيق والإيمان في موطن واحد يوم القيامة، وان منازل الناس ستكون بلحاظ اتحاد سنخية العمل ، فيعرف هؤلاء عند أهل المحشر بأمور هي:
الأول: انهم لم يتقيدوا بالأوامر والنواهي الإلهية.
الثاني: لم يجعلوا للعهود والأيمان حرمة وقدسية.
الثالث: خسرانهم لتفضله تعالى بالنظر اليهم، وما في هذا النظر من دلائل الرحمة والعفو.
الرابع: نزول العقوبة بهم ، وخسارتهم يوم القيامة لإنقسام الناس الى قسمين:
الأول: الذين ينظر لهم ويصيبهم احسانه.
الثاني: الذين لا ينظر اليهم، عقوبة.
الخامس: لعل هناك في يوم القيامة موطناً خاصاً مخصوصاً لناقضي العهد والأيمان ويعرفون به عند الخلائق، وحينئذ يتجنبهم أهل المحشر لأنهم محرومون من نظره تعالى وما فيه من عناوين الرحمة.
ويمكن تقسيم النظر الإلهي في الدنيا الى العباد الى قسمين:
الأول: النظر في الحياة الدنيا، وهو عام للناس جميعاً بمفاهيم من العطف والرأفة والإحسان، فالله يتفضل على الناس جميعاً بالألطاف المتتالية والمتعاقبة من التقريب الى الطاعة، والإبعاد عن المعصية، والرزق الكريم والإعانة على أداء الوظائف العبادية، والإمهال وعدم التعجيل بالعقوبة.
فلا يستثنى منه انسان ذكراً أو انثى، براً أو فاجراً، وان كانت صيغ الإحسان تتباين من شخص الى آخر سواء بلحاظ الإصطفاء او الإيمان ونحوهما.
الثاني: النظر الإلهي الأخروي، وهذا النظر يشمل أهل الإيمان والصلاح، الذين يحرصون على العهود ويصونون المواثيق، ويعرفون بالإيمان، ويردون الودائع.
أما الذين ينقضون العهود فيصابون بالخيبة والندامة يوم القيامة لأنهم يخسرون نعمة “النظر الأخروي” وما فيه من عناوين العفو والرأفة والإحسان، انه باب من أبواب العفو في الآخرة يناله شطر من أهل المحشر، ويحرم منه آخرون عقوبة،
ومن الآيات وقواعد اللطف الإلهية ان هؤلاء لم يفاجئوا يوم القيامة بهذه العقوبة وما فيها من عظيم الخسارة والحرمان، بل جاء الإنذار والتحذير بالقرآن الكريم، وهذا من افاضات القرآن وفيه دعوة للناس باللجوء اليه، والنهل منه، والتزود من علومه، فقد لا يعلم الإنسان اضرار نقض العهد، أو يستهين باليمين، ويقدم على حنثها ولم يعلم ما لها من الأثر في الآخرة، اذ ان نعمة النظر الأخروي وشمول الإنسان بعمومات قانونه غاية كل عاقل.
وجاء قوله تعالى [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] قيداً لنفي النظر اليه ، وفيه مسائل:
الأول: أنه من وضع الظاهر موضع المضمر، لبيان ألأهمية، وتمام التحذير والإنذار.
الثاني: توكيد عموم قانون النظر الإلهي في الدنيا وشموله لجميع الناس ،برهم وفاجرهم.
الثالث: الإخبار بان إمهالهم في الدنيا مع اقدامهم على نقض العهود والأيمان من باب الرحمة ومصاديق القانون أعلاه والإمهال الى يوم الحساب، وفيه تحذير لهم ومنعهم من التمادي في الغي، وزجر للآخرين من أجل الإتعاظ والإمتناع عن نقض العهد واليمين.
الرابع: بيان حاجة كل انسان الى نظره تعالى له وشموله برحمته.
الخامس: الإخبار عن عظيم فضله تعالى بالنظر الى العباد يوم القيامة.
السادس: بعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين، بان رحمته تعالى بالنظر اليهم تصيبهم لأنهم عرفوا وتعاهدوا الأوامر والنواهي.
السابع: بيان خصوصية يوم القيامة من بين مواطن عالم الآخرة ابتداء من عالم القبر والبرزخ، ولزوم الإستعداد له.
ومضامين الرحمة التي تأتي ضمن نظره تعالى للعباد أعم من أن تكون مباشرة، فقد تكون بواسطة الملائكة، وفيه أذى أضافي للجاحدين والمعاندين والناكثين، لأنهم يرون الملائكة وعنايتهم بالمؤمنين، واعراضهم عنهم فيتوسلون بالمؤمنين للشفاعة في تلقي العناية من الملائكة ولو على نحو جزئي باعتبار ان هذا الجزئي أمر عظيم وفيه منافع كثيرة، ولكن المؤمنين لا يشفعون لهم، والملائكة لم يؤذن لهم باللطف بهم، فيكون هذا الإعراض من عمومات هذه الآية.
وعن الإمام علي في قوله تعالى [وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] قال: يعني لا ينظر بخير أي لا يرحمهم، وقد يقول العرب للرجل السيد لا تنظر الينا يعني انك لا تصيبنا بخير وذلك النظر من الى خلقه( ).
قانون النظر الأخروي
من دلائل الربوبية لله أنه أحاط بكل شيء علماً، وجميع الأشياء حاضرة عنده لا تخفى عليه خافية منها، ورؤيته تعالى للأشياء فضل منه تعالى ورحمة اضافية وشاهد على انه سبحانه يتعاهد الخلائق، فرؤية الإنسان للأشياء قوة الإدراك واثبات صورة الشيء كما هو بحاسة البصر، وتقليب الحدقة لرؤية المقصود، من غير ان يحدث معه تغيير لصفة المرئي، او حدوث أمر اضافي.
اما نظره تعالى فأمر مختلف وهذا الإختلاف يتجلى فيه التباين بين واجب الوجود وممكن الوجود، بين الرب والمربوبين، والخالق والمخلوقين، فنظره تعالى للخلائق عنوان الرحمة واللطف، فمن ينظر اليه تعالى يناله الإحسان وتنزل عليه شآبيب الرحمة، وفي الآية وجوه:
الأول: الإتحاد بين النظر وبين الإدراك الإلهي للمبصرات من غير حاسة، فكلاهما بمعنى.
الثاني: النظر غير ادراك المبصرات، لأنه تعالى بصير بكل شيء في الدنيا والآخرة، أخرجت الآية شطراً من أهل المحشر من النظر الإلهي لهم مما يعني ان النظر أمر مستقل بذاته وهو غير ادراك المبصرات، لأن الذين كانوا ينقضون العهد ويخونون الأمانة واليمين في الدنيا يراهم في الآخرة، ويعلم منازلهم وحالهم، وهذه الرؤية والعلم مصداق للوعيد بالعقاب الذي أنذرتهم هذه الآية به.
الثالث: النظر فرع الإدراك البصري.
الرابع: النظر غير الرؤية لأنه عنوان الرحمة.
لقد أكدت الآية على أنه تعالى مبصر بالخلائق يوم القيامة وانه يرحمهم ويتفضل عليهم بالإحسان وهو مضمون قانون “النظر الأخروي” الذي يعتبر بشارة وشاهداً على نيل المسلم للدرجات العلا يوم القيامة بفوزه بنصيب من هذا القانون الذي يتغشى أهل الأيمان والتقوى.
لقد تضمنت هذه الآية استثناء من قانون النظر الأخروي، وبينت أفراده على نحو التفصيل رحمة بالناس جميعاً، ولإقامة الحجة على اولئك الذين يفعلون السيئات، فيخرجون بالتخصص منه، بنص هذه الآية الكريمة، وهل يتعارض هذا الخروج مع ثبوت صفة القانون على النظر الأخروي باعتبار عدم انبساطه على جميع أهل المحشر، الجواب لا، بل يبقى القانون على حاله لأن أهل الخيانة والغدر هم الذين حجبوا عن أنفسهم نعمة الإنتفاع من عمومات هذا القانون الذي جعله رحمة للناس جميعاً، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
ومن لطفه وفضله تعالى ان جاءت هذه الآية لحث تلك الطائفة من أهل الكتاب على الرجوع الى الأصل والتنعم بخصائص هذا القانون وما فيه من الإحسان الإنحلالي الذي يصيب كل فرد من غير ان تنقص كثرة أهل الحشر من النصيب الفردي والجماعي ، لأنه من خزائن رحمته تعالى التي لا تنفد
وفي الآية حث للناس جميعا على السعي للنيل والكسب من غنيمة وكنز النظر الأخروي من وجوه:
الأول: انه من عمومات اللطف الإلهي الشاملة لأهل الأرض جميعاً.
الثاني: فيه انذار وتحذير من التمادي في المعصية والإصرار على نقض العهود وخيانة الأمانة.
الثالث: التوكيد على قواعد وعمومات الإصطفاء، ولم يرد موضوع النظر الإلهي في الآخرة الا في هذه الآية وبصيغة النفي والحجب عن طائفة مخصوصة، وجاء هذا النهي ضمن وجوه اخرى من العقوبات الأخروية لذات الفريق مما يدل على خروجهم من عمومات هذا القانون وما فيه من الدلالة على الرحمة الواسعة والعفو والمغفرة لمن صان عهد وحرص على الوفاء باليمين والأمانة.
قانون الإصطفاء
لقد جعل تبايناً بين الحياة الدنيا والآخرة من جهات منها العمل والقصر والإختبار في الأولى، والحساب والطول والجزاء في الآخرة، مع اجتماعهما والتقائهما بوجوه لامتناهية من الفضل والرحمة الإلهية، ولقد أنعم على الناس باجتباء امة وشطر منهم ليكون هذا الإجتباء نعمة اضافية للإجتباء للخلافة ، وهي مركبة من أقسام:
الأول: نعمة على الذين اصطفاهم .
الثاني: ترشح هذه النعمة على أهل وذراري المصطفين كما تترشح على الجيران والأقارب ونحوهم.
الثالث: تغشي منافع الإصطفاء الناس جميعاً، ولو على نحو متباين كثرة وقلة، وشدة وضعفاً.
فجاءت نعمة الإصطفاء على أمة وأفراد مخصوصين، ولكن بركاتها وافاضاتها تصل للناس جميعاً لتكون عوناً على الهداية ، فالناس في الإصطفاء على أقسام:
الأول: من ينال الإصطفاء بشخصه.
الثاني: الذي يترشح عليه الإصطفاء مباشرة من غير واسطة.
الثالث: الذي يأتيه الإصطفاء بالواسطة، سواء كانت متحدة او متعددة، والتعدد هو الأكثر.
والإصطفاء على أقسام:
الأول: الإجتباء الشخصي، الذي يكون مخصوصاً بشخص معين، وينقسم الى شعب:
الأول: اصطفاء النبي كما في آدم كما في آدم . وهو أعم من الحصر بالنبوة فمنه إصطفاء مريم عليها السلام قال تعالى (اصطفى مريم
الثاني: الإصطفاء الفرعي كما في ذرية إبراهيم.
ويجمع القسمين قوله تعالى[ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ]( )،
الثالث: إصطفاء الملائكة واختيارهم لمسؤوليات تبليغ الوحي والتنزيل والرسالة ، قال تعالى [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً]( ).
الرابع: اصطفاء الأولياء والمخلصين ، ومنه اصطفاء مريم عليها السلام ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ]( ).
الخامس: الإصطفاء بلحاظ الوظيفة العقائدية، وهو على أقسام منها:
الأول: الإصطفاء لأغراض النبوة وهو على شعب:
الأولى: الإصطفاء للوحي والإختيار لمرتبة النبوة.
الثانية: الإختيار والإرتقاء في مراتب النبوة وبلوغ درجة الرسالة فيكون النبي رسولاً.
الثالثة: الإجتباء لمرتبة سامية من مراتب الرسالة، كما في موسى الذي فاز بنيل درجة كليم ، قال تعالى [إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي]( ).
الثاني: الإصطفاء للملك وتهيئة مقدمات الرياسة، والأهلية الشخصية للسلطنة والغلبة على الكفار،وفي طالوت قال تعالى [وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ]( ).
الثالث: تعاهد التنزيل، وحفظ كلمة التوحيد، وتوارث الإيمان ، قال تعالى [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]( ).
السادس: الإصطفاء المتعدد، وهو الذي يشمل طائفة أو أمة.
ونعمة الإصطفاء أعم فتشمل الناس جميعاً لأنها مرآة للعبودية المحضة ودعوة لذكر ، ويدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اصطفاء آل ابراهيم بل أنه المصطفى بلحاظ ان ما عند الأنبياء السابقين عنده صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على نيله الإصطفاء الشخصي ايضاً انه سيد الأنبياء وصاحب الكمالات الإنسانية، وتفضله تعالى بالإصطفاء للشريعة التي تنفرد بانها ناسخة وليست منسوخة ، وبينه وبين المصطفين الأخيار عموم وخصوص مطلق، فكل ما عندهم من معاني الإصطفاء تجلت اشراقته عنده، وامتاز بوجوه من الإصطفاء ليست عند أحد منهم.
السابع: اصطفاء جنس الإنسان من بين الخلائق للخلافة في الأرض، وهو عنوان تشريف واكرام.
ومن الآيات في قانون الإصطفاء انتفاع الناس جميعاً منه وان كانت درجات الإنتفاع على مراتب متعددة، ومتباينة، ولا يعني هذا التباين بخساً لحقوق شطر من الناس لوجوه:
الأول: الإصطفاء فضل الهي، يمن به على من يشاء من عباده.
الثاني: اقتران الإصطفاء بوظائف عبادية وجهادية يتصدى لها الذين اصطفاهم ، لذا ترى في حياة المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم قصصاً تدل على بذله الوسع في طاعة ، واخلاصه في العبادة ومواظبته على الدعوة الى .بالإضافة الى ترشح مفاهيم الإصطفاء المباركة على الصحابة وأهل البيت والمسلمين .
الثالث: جاء الإصطفاء لحفظ كلمة التوحيد في الأرض، وبقاء أمة تتعاهد العمل بالأوامر والنواهي الإلهية، وهو جزء من الإبتلاء في الحياة الدنيا، وهذا الجزء ابتلاء حسن لأنه دعوة للناس ووسيلة ملكوتية لجذبهم لمنازل الإيمان.
ومع ان الإصطفاء من قوانين الحياة الدنيا الا ان منافعه في الآخرة أكثر من ان تحصى لذا فانه من مصاديق اللطف الإلهي، واسباب الفضل الذي يكون عوناً ووسيلة للنجاة يوم الحساب، فمن آياته تعالى ان جعل الدنيا دار تكليف وامتحان ثم أنعم على الناس بقانون الإصطفاء وقانون الفضل الإلهي وغيره لإعانة الإنسان للتغلب على النفس الشهوية والغضبية.
وتتجلى في الإصطفاء آيات خاصة كتحديث الملائكة لمريم واخبارها باجتبائها قال تعالى [يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ]( )، وفيه تنزيه وتشريف لها، وحث على التقوى واكرام للمرأة مطلقاً وباب للأمل لنيلها المراتب العالية، ودعوة للرجال لاكرام المرأة المؤمنة التقية، و هذه الدعوة وأثرها في الخارج سبب لتعاهد الإيمان بين النساء ، وترشحه على الأبناء ذكوراً واناثاً ليكونوا ورثة الإيمان وحفظته في المستقبل، ومن الإصطفاء في الآخرة الفوز بنظر ونيل رحمته.
بحث بلاغي
جاءت هذه الآية بوجه من وجوه البديع وهو (حسن النسق) اذ وردت كلمات متعاقبات باشراقة قرآنية تجذب النفوس، وتدفع الى الإصغاء، وترتيب يبعث على الشوق عند القارئ والسامع ، ويجعله يتأمل في معانيها التي تتزاحم امام بعده من غير ان يفقد التمييز بينها عقلاً عند استحضارها.
وصحيح انها جاءت متلاحمة متداخلة وبعضها معطوف على الأخرى في آية واحدة الا ان كل واحدة منها لها معنى مستقل تجلى في علم التفسير والبيان، فقوله تعالى [لاَ خَلاَقَ لَهُمْ] يفيد الإطلاق في النفي والحرمان الأخروي لأولئك الذين ينقضون العهد والأيمان، وأخبرت الآية بحرمان آخر على نحو الخصوص [لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ].
والظاهر انه ليس من عطف الخاص على العام، بل بيان للحرمان من نعمة أخرى تتغشى اهل الإيمان ويوم المحشر، ثم أخبرت بحرمانهم من نعمة النظر الإلهي [وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ] وعطفت عليها حجب التزكية عنهم [وَلاَ يُزَكِّيهِمْ] وحينما تعددت وجوه الحرمان من مضامين الرحمة والرأفة والعفو الإلهي، جاء ختم الآية بالإخبار عما يستحقونه من العقاب وما يلاقونه من العقاب.
قوله تعالى [وَلاَ يُزَكِّيهِمْ]
يقال زكاه ، وزكى نفسه تزكية : مدحها، وزكاه : طهره، ومنه زكاة المال أي الصدقة التي تخرج منه لتطهيره بها، وقوله تعالى [وَتُزَكِّيهِمْ]، أي تطهرهم بها.
لقد جاءت الآيات بمدح المؤمنين بتزكيتهم في الدنيا، بالوحي والتنزيل لتكون هذه التزكية تطهيراً لهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]( ).
أما هذه الآية فجاءت بذم وتوبيخ طائفة من الناس وهم الذين ينقضون عهد وايمانهم، وأيهما أكبر التزكية في الدنيا ام التزكية في الآخرة الجواب هو الثاني لأن الآخرة عالم الحساب والثواب، والتزكية فيها عنوان النجاة والطهارة من الذنوب، كما ان التزكية والطهارة في الدنيا مقدمة ووسيلة للتزكية في الآخرة.
وهذا من أسرار خلق الإنسان واسباب نزول الرحمة الإلهية عليه، ان جعل التطهير يتغشاه في دنياه وآخرته، ليكون كل واحد منهما سبيلاً لنيل المعارف الإلهية وبلوغ الدرجات الرفيعة في النشأتين، فمن أفضل النعم على الإنسان ان يفوز بمرتبة التزكية ويصبح من الذين طهرهم من الذنوب ونجاهم من سوء العاقبة.
لقد جاءت الآية لتبين حقيقة من الإرادة التكوينية وهي شموله لأهل المحشر بالتزكية، وهذه التزكية تتصور على وجوه:
الأول: ان تأتي منه تعالى مباشرة.
الثاني: بواسطة الملائكة وهذا الوجه على شعب:
الأولى: ان يأذن للملائكة بان تزكي من تشاء.
الثانية: ان يتفضل سبحانه بقواعد كلية تعمل بها الملائكة.
الثالثة: ان يكون الملائكة آلة وواسطة لتبليغ ونقل مضامين التزكية، وبعث السكينة في قلوب المؤمنين يومئذ.
الثالث: الأمر الجامع من الأول والثاني أعلاه، بأنه سبحانه يزكي من يشاء، ويصنع قواعد تعمل بها الملائكة، وتكون الملائكة واسطة مباركة في تبليغ احكام التزكية، وهذه الوجوه كلها فضل منه تعالى الا الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه، والآية الكريمة تنسب التزكية له تعالى لوجوه:
الأول: بيان عظيم قدرته وسلطانه تعالى.
الثاني: ان الملك يومئذ لله سبحانه والتزكية من مصاديق الملك.
الثالث: ان تعالى هو الرؤوف الرحيم، والتزكية من وجوه الرحمة الإلهية، فتفضله تعالى بالتزكية أفضل وأحسن لأهل المحشر من تولي غيره لها.
الرابع: لقد جاءت هذه الآية بنفي تزكيته تعالى لناكثي العهود، ويدل مفهوم الآية على تفضله تعالى بتزكية وتطهير من يقوم بحفظ العهود والمواثيق، ويحرص على الوفاء على الأيمان ويقوم برد الأمانات.
والتطهير نوع تنزيه واكرام، والآية شاهد على ان الناس يوم القيامة على قسمين:
الأول: المطهرون من دنس الذنوب.
الثاني: غير المطهرين من تبعات الدنيا.
وهذا الطهر يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأول: انه مطلوب يوم القيامة بذاته، فالطهر حاجة مستقلة قائمة بذاتها، يسعى الإنسان لنيلها والفوز بها.
الثاني: انه وسلة لبلوغ غايات حميدة ومراتب عالية في الآخرة.
الثالث: العنوان الجامع للأمرين، فالطهر مطلوب بذاته يوم القيامة، وهو وسيلة لنيل السمو والرفعة، والأصح هو الثالث لإصالة الإطلاق، والمعنى الأعم ولعمومات فضله تعالى، فان قلت: ان الآخرة دار حساب وليس عملاً فكيف تكون التزكية وسيلة لنيل المراتب العالية الجواب من وجوه:
الأول: التزكية ليست من مصاديق العمل او فرعاً من فروعه بل هي من مصاديق الحساب، وصفات الرحمة والمغفرة التي يتصف بها.
الثاني: في الآية اعجاز ولطف، وهو ان القرآن يدعو للإستعداد للحساب باحراز اسباب النجاة من العذاب ببيان الوجوه التفصيلية والقوانين التي تتغشى العباد ساعة الحساب.
الثالث: التزكية جزاء وليس عملاً، وهذه الآية مصداق يبين الفصل بين من يحظى بشيء من التزكية ومن يتخلف عنها.
الرابع: التزكية فضل من عند يمن بها على من يشاء من عباده، ويحجبها عن الذين ينقضون عهد .
الخامس: من فضله تعالى ان جاء القرآن ببيان هذا الحجب وعلته، والإنذار من مسالك واسباب الحرمان منه.
ونفي التزكية هنا جاء بصيغ متعددة هي:
الأولى: الجملة الخبرية، وما فيها من العبر والدروس.
الثانية: الوعيد والتخويف، والمقصود الذين ينقضون العهد والأيمان، ولكن المفهوم أعم فيشمل:
الأول: الذين ينوون نقض العهد، ويحدثون أنفسهم بحنث اليمين طمعاً في متاع قليل.
الثاني: الذين لم ينقضوا العهود، ولكن لو حصل وأجروا عقوداً وأعطوا عهوداً فانهم يقدمون على نقضها، فجاءت الآية لزجرهم وردعهم.
الثالث: الجاحدون والمتخلفون عن أداء الوظائف العبادية والتكاليف الشرعية، فهذه الآية تحثهم على أداء الواجبات.
الرابع: المترددون في دخول الإسلام، فهذه الآية تدعوهم للمبادرة الى الإسلام للفوز بالتزكية الأخروية، وما تدل عليه مفاهيم الآية الكريمة من النعم.
الخامس: المسلمون، لما في الآية من السكينة لنفوسهم والدعوة للثبات على الأيمان.
وفي معاني حرمانهم من التزكية وجوه:
الأول: ان لا يطهرهم باعتبار ان التزكية هي التطهير، مما يدل على حاجة الإنسان يوم القيامة الى التطهير.
الثاني: ظاهر الآية يدل على وجود عنوان خاص، ومرتبة رفيعة هي (التزكية) فعلى الإنسان ان يجتهد في نيلها والسعي للفوز بها، وجاءت هذه الآية لتوجيه اللوم والذم لأولئك الذين يفرطون بها لقاء (ثمن قليل) مما يدل على ان الثمن القليل الذي يشتري به هؤلاء عهودهم وايمانهم يجعلهم يخسرون نعمة عظيمة ويحرمون أنفسهم من الفوز بالتزكية ويخرجونها من هذا الفضل العظيم.
والآية شاهد على ان ألأصل يوم القيامة هو التزكية لذا أطلقنا عليه اسم القانون،و في هذا الخروج والإستثناء من هذه الرحمة تشريف وسكينة وبشارة للمسلمين، تشريف بامتيازهم ونيلهم مرتبة التزكية، وسكينة لهم بانهم ليسوا من الذين لا يزكيهم يوم القيامة لتعيين الذين لا يستحقون هذه النعمة، وبيان العمل القبيح الذي يكون برزخاً دونها وحجاباً يمنع من الوصول اليها،وهو نقض العهد واليمين . وبشارة الفوز بآية التزكية والتطهير .
الثالث: لا ينظر لهم بسبب ذنوبهم، ويجعلهم يبوءون بأوزراهم واثقالهم يوم القيامة، كل واحد منهم يهم بذنبه ويفزع من خطيئته، وما ينتظره من العذاب الأليم، ويرى شمول المؤمنين والصالحين بأحكام قانون التزكية فيزيده حرقة وأذى.
الرابع: في الآية اخبار عن منزلة عظيمة يوم القيامة تسمى التزكية وهو الذي بيناه بعنوان (قانون التزكية) وان الأصل يوم القيامة هو التزكية باعتبارها جزاء وفرعاً لمضامين الخلافة في الأرض.
الخامس: التزكية منزلة خاصة، وهي عنوان اضافي غير المغفرة، لأن المغفرة محو للذنب، والتزكية أمر وجودي اضافي غير المغفرة، وهذه آية اعجازية في عالم الآخرة، ان تتوالى وتتعدد النعم فهل تشمل اهل هذه الآية المغفرة ، الجواب انها لا تشملهم من وجوه:
الأول: تعدد مضامين الغضب الإلهي عليهم، بما يفيد حرمانهم من المغفرة.
الثاني: ان قلت قد تشملهم المغفرة ، لعمومات قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( )، قلت: ان خاتمة الآية محل البحث [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]، تفيد خروجهم بالتخصص من عمومات آية المغفرة وانه لن يغفر لهم، وهذا من اعجاز القرآن ومصداق عملي للتفسير الذاتي للقرآن، وان آية المغفرة فيما دون الشرك لم تبق اجمالية، بل جاءت الآية القرآنية لتبين شطراً من الذين لن تنالهم تلك المغفرة، كما في هذه الآية.
وهناك آيات تبين الخصال التي ينال صاحبها المغفرة، كما في قوله تعالى [ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ] ( )، [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ] ( )، والآيات التي جاءت بالمغفرة والبشارة بتلقي الرحمة أكثر عدداً وموضوعاً من الآيات التي جاءت بالوعيد، وهذا اعجاز اضافي للقرآن وحجة وشاهد بان رحمته تعالى سبقت غضبه، وان ينشر رحمته يوم القيامة.
الثالث: التزكية فضل الهي يتغشى أهل الإيمان يوم القيامة، ولا يجتمع فيه من هو على الضد معهم ويقوم بايذائهم ومحاربتهم.
الرابع: مجيء هذه الآية بالنص والقطع على حجب التزكية عن الذين ينقضون العهود، وتدل في مفهومها على وجود ملازمة بين نقض العهد في الدنيا والحرمان من نيل التزكية في الآخرة.
فقوله تعالى [وَلاَ يُزَكِّيهِمْ] أي لا ينالون هذه المنزلة العظيمة ، وجاءت الآية بصيغة الفاعل وان التزكية منه تعالى للإخبار بانها فضل ورحمة بالمؤمنين ولا يتعارض معه مجيؤها ثواباً على الأعمال، فالله سبحانه هو الذي يمنح مرتبة (الزكي) لمن يشاء يوم القيامة،
ومن الناس من يحجب عن نفسه هذه المرتبة، باختياره نقض العهد وحنث اليمين، وتفتح الآية الباب أمام الدراسات للبحث في صيغ العمل والجهاد التي تجعل الإنسان يفوز بمرتبة (الزكي) ويكون من الذين ينالون هذه المرتبة يوم القيامة، وما فيها من المنافع المتعددة فمن يزكيه يوم القيامة يخفف عنه الحساب، لأن التزكية شهادة بالحسن، أما عدم التزكية فهي وان لم تكن شهادة بالقبح الا انها تجعل العبد يواجه صنوف الحساب، ومنها نقضه للعهد واليمين، ونفي التزكية هنا من جهة الزمان على وجوه:
أولاً: عدم التزكية في الدنيا.
ثانياً: الحرمان من قانون التزكية في الآخرة.
ثالثاً: حجب التزكية عن ناقض العهد على نحو الإطلاق، أي في الدنيا، والآخرة ، فلا ينال مرتبة الأزكياء.
والصحيح هي الثانية لنظم الآية ومجيء مضامينها بخصوص يوم القيامة، ولكن لماذا أخرت الآية نفي التزكية ،ولم تقل “ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم يوم القيامة” وجعل الجار والمجرور متعلقاً بعدم النظر ونفي التزكية، فيه دلالات:
الأولى: أحكام عدم التزكية أعم من عدم النظر الى العبد، فعدم النظر ينحصر بيوم القيامة ومواطن الحساب، اما عدم التزكية فيتعدى ليشمل اوان الحساب والثواب والعقاب.بالإضافة إلى عالم البرزخ .
الثانية: الإشارة الى عموم التزكية، وتفضله تعالى بمنحها للمؤمنين في الدنيا، وفيه نكتة وهي ان من ينال مرتبة التزكية في الدنيا لا يحرم منها ومن منافعها في الآخرة،
فجاءت هذه الآية للإخبار بان نقض العهد وحنث اليمين يحجب عن صاحبهما مضامين التزكية على نحو الإطلاق، بمعنى ان عدم التزكية في الآية مع تعلقه بعالم الآخرة فانه يتضمن الإشارة الى حرمان ناقض عهد وصاحب الغدر من التزكية والإكرام في الدنيا والآخرة.
الثالثة: ظهور علامات وامارات نفي التزكية على ناقض العهد في الدنيا، بعدم التوفيق في الأعمال، وعدم محو العوائق والمشاق التي تواجهه في الدنيا.
الرابعة: من خصائص التزكية في الدنيا الإعانة والتوفيق لفعل الصالحات.
الخامسة: التغليظ في لغة الإنذار والوعيد والتخويف.
السادسة: بيان الحاجة الى التزكية في الدنيا والآخرة ، ولزوم السعي اليها، وهذا السعي يأتي بالواسطة ومنها:
اولاً: تقوى .
ثانياً: اجتناب المعاصي.
ثالثاً: أداء العبادات والطاعات بقصد القربة.
رابعاً: التقيد بأحكام المعاملات.
خامساً: نبذ الظلم ونقض العهد واليمين.
وما هي النسبة بين الظلم ونقض العهد، الجواب هي العموم والخصوص مطلقاً، لأن نقض العهد من الظلم للذات والغير ، فلذا جاءت العقوبة متعددة ومن غير تقييد بالظلم للغير دون الذات، لقد أراد للإنسان ان يكون حافظاً للعهد، صائناً للأمانة، راداً للوديعة، وفياً باليمين.
الخامس: لا يطهرهم من تبعات الذنوب والآثام التي إرتكبوها في الدنيا، ويحتمل هذا الوجه أمرين:
الأول: التزكية هي المغفرة.
الثاني: التزكية غير المغفرة وبينهما تباين.
الثالث: بينهما عموم وخصوص مطلق والتزكية فرع المغفرة، ومن يغفر له فلابد من نيله مرتبة الزكي ومن لم يزكيه فانه لا يغفر له.
الرابع: المغفرة فرع التزكية ومن يكون من الأزكياء فان المغفرة تناله، ومن يحرم من التزكية كما في أهل الغدر ونقض العهود لا تناله المغفرة.
ومن الآيات انه لا تعارض بين هذه الوجوه الأربعة، وهذا من اسرار يوم القيامة ان يجمع المختلف في مضامين الرأفة والرحمة، فمن تناله المغفرة يرتقي الى منازل الأزكياء، ومن يحصل على هذه المرتبة الرفيعة تدركه المغفرة قد تمتنع الملائكة عن محاسبته ومعاقبته.
وأيهما تسبق الأخرى التزكية ام المغفرة ، الجواب ليس من ضابطة كلية في المقام ، وهو من فضله تعالى وواسع رحمته .
وجاءت الآية لتبعث الحسرة في قلوب الظالمين والجاحدين.
لأن التزكية هنا عنوان للفخر والشرف، وشهادة وعلامة للإكرام تتجلى منافعها في عالم الحساب والثواب.
الخامس: من معاني الزكاة النماء والزيادة والريع، يقال زكا يزكو زكاء، وفي حديث الإمام علي : المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق) فأطلق عليه صفة الزكاء مع انه ليس من الأعيان، “وقال ابن منظور: وكل شيء يزداد وينمي فهو يزكو زكاء) ( ).
ويدل قوله تعالى [يُزَكِّيهِمْ] على الزيادة والنماء وفيه وجوه:
الأول: الزيادة والنماء في ثوابهم بان يضاعف لهم الثواب، فاطلق وصف التزكية على الذات، والمراد الفعل، وقرينة هذا التقييدوإرادة المجاز ان تزكية الأفعال تعود على أصحابها، فمن نما وزاد فعله، إرتقى في منازل الرفعة والسمو.
الثاني: تعلق التزكية باشخاصهم وفيه وجوه:
الأول: نيلهم المراتب العالية فضلاً منه سبحانه.
الثاني: النماء والزيادة في منازلهم في الآخرة، فينقلون في منازل الرفعة والنعيم.
الثالث: زيادة عددهم يوم القيامة في اشارة الى كثرة اهل الوفاء بالعهد واليمين ، وعدم الإستيحاش من سبل التقوى.
الرابع: نماء وكثرة الأزكياء بالمغفرة والعفو الإلهي، أي ان يمن على من يشاء من عباده فيتوب عليه ويجعله من الأزكياء، وفيه حث على الوفاء بالعهد واليمين عسى ان يكون هذا الوفاء باباً لنيل منازل التزكية في الآخرة.
الخامس: تأتي التزكية بمعنى المدح والثناء يقال “زكاه وزكى نفسه تزكية، مدحها”( ).
ومعنى الآية ان لا يمدح أهل الغدر والخيانة ولا يثني عليهم يوم القيامة، ويأتي المدح لأهل الإيمان والصلاح ليكون عنواناً للإكرام، وباعثاً على السكينة، والأمن من الفزع والخوف يومئذ، وهي نعمة يحرم منها الذين ينقضون العهود والأيمان.
السادس: من معاني الزكاة البركة، أي ان المؤمنين تتغشاهم البركة من عنده تعالى، ليكونوا يوم القيامة مباركين، وهذه البركة تنفعهم بالذات وتنفع الغير من أهل المحشر بالعرض، اما الذين ينقضون العهود فلا بركة عندهم، وفقدان البركة حسرة وندامة يوم القيامة.
السابع: لا يزكيهم أي لا يطهرهم من دنس الذنوب العالقة بهم باعتبارها أفعالهم الملازمة لهم في الآخرة، وهذا الوجه غير الوجه الذي تقدم والخاص بتبعات الذنوب، فالتبعات غير الذنوب، وبقاء الذنوب مصاحبة للشخص يوم القيامة وزراً ثقيلاً وعبأ يلاحقه ويفضحه بين الخلائق وهذا العبأ أكبر بكثير مما يظنه من عبأ الوفاء بالعهد والأمانة في الدنيا، واجتناب اليمين الكاذبة.
ولماذا جاء قوله تعالى [وَلاَ يُزَكِّيهِمْ] متأخراً في أقسام العقوبة الأخروية للذين ينكثون العهد فيه وجوه:
الأول: نفي التزكية هو الأهم فجاء متأخرا وكأنه وعاء لما مضى قبله من العقوبات.
الثاني: انه أقل العقوبات في شدته وأثره وهو المتبادر من التعاقب.
الثالث: العقوبات كلها بمرتبة واحدة في شدتها وان جاءت متعاقبة.
الرابع: اعتبار العموم والخصوص، وهو من باب عطف العام على الخاص، كما في قوله تعالى [ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ]( ) فالسبع المثاني من القرآن، والتزكية أعم من تكليمه تعالى والنظر اليه يوم القيامة.
فمن شرائط نزول الرحمة بالتكليم والنظر الإلهي، ونيل النصيب في الآخرة ان يكون العبد زكياً، طهره من الدنس، وهؤلاء لم يحرزوا التزكية فتحجب عنهم وجوه الرحمة الأخرى المذكورة في الآخرة.
الخامس: ليس من تأويل لترتيب وجوه العقوبة بل انها جزء من نظم الآية.
السادس: وجوه العقوبة في الآية بعرض واحد ومجيؤها متعاقبة ضرورة لغوية.
السابع: أفراد العقوبة المذكورة في الآية كلها عقوبة واحدة، والتعداد لبيان مضامينها ووجوهها ، وعلى فرض وجود موضوعية للتقديم والتأخير فانه أمر نسبي بلحاظ اتحاد العقوبة.
الثامن: مجيء عدم التزكية متأخراً في العقوبة الأخروية من عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى [ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( ).
التاسع: وجوه العقوبة بلحاظ الترتيب الزماني والتعدد في مواطن الآخرة، ومن آخر ما يحتاجه العبد يوم القيامة هو التزكية، لتكون عنواناً للمغفرة والإصلاح.
العاشر: الترتيب بلحاظ الغلظة والشدة سواء بتقدير الأشد او بتقديم الأدنى في الأثر والعقاب.
ان كل عقوبة من هذه العقوبات موضوع مستقل بذاته، ولابد للترتيب من علة وحكمة بالغة تدعو الى التدبر والحرص على عدم نقض العهود والأمانات، ومجيء عدم التزكية في الأخير لا يعني عدم أهميته، بل للمقدم من العقوبات وهو عدم النصيب والحظ في قوله تعالى [لاَ خَلاَقَ لَهُمْ] أهمية خاصة وموضوعية وكذا المؤخر،
وكلما ييأس صاحب الغدر من مصداق من مصاديق رحمة في الآخرة بلحاظ مفهوم الآية فانه ينتقل الى رجاء غيرها ولكن يخيب امله ايضاً، فعندما ينتظر عسى ان يكون له حظ في الآخرة بلحاظ النسب والآباء والإنتساب لملة مخصوصة يفاجئ بانه ليس له حظ في الآخرة لأنه حجبه عن نفسه، بنقض العهود وخيانة الأمانة ،وإختياره القول على كذباً، وعندما يرى المؤمنين يفوزون بتكليم لهم في مواطن يوم القيامة، تصيبه الحسرة والندامة لأنه من الذين لا يكلمهم .
قانون آيات الخلافة
تعتبر الخلافة في الأرض نعمة عظيمة من نعمه تعالى على الإنسان، ومن فضله تعالى ان يمد العبد باسباب التوفيق لأداء وظائف الخلافة التي تتجلى بأداء الفرائض والواجبات، والمسارعة في الخيرات، فأبتدأ هذا المدد بالنفخ في آدم من روحه تعالى لتبقى الصلة بين والإنسان مستمرة ودائمة.
وهذه الصلة عنوان الخلافة وسلاح للهداية والتوفيق وتلقي الأنبياء للتنزيل، فينزل الكتاب السماوي على شخص النبي، ولكن صلة الروح تساهم في قبول الناس للتنزيل ولا تنحصر وظائف هذه الصلة بقبول التنزيل بل تتضمن العمل بمضامينه والنفرة من المعصية، ومنافع هذه الصلة وكثرتها لا يعلمها الا ، فلا غرابة ان يقول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] لأنها لا تعلم العهد الذي أودعه عند الإنسان ليكون معه مؤهلاً للخلافة ولا عبرة بمن شذ وخالف، وجاءت آيات عديدة في القرآن تتعلق بوظائف الخلافة منها هذه الآية، لما فيها من التوكيد على التقيد بعهد وعدم نبذه والإعراض عنه.
وعهد اعم من أن ينحصر بموضوع مخصوص، بل يتضمن وجوهاً وأحكاماً عديدة، ومع عدم ثبوت الإستصحاب القهقري في علم الأصول فلا يصح شمول الشك السابق باليقين اللاحق فان مضامين عهد تشمل الخطابات التكليفية في القرآن ومنذ أوان النفخ في آدم من روح ، ولا صلة له بالإستصحاب القهقري، بل هو من الإستصحاب الذي على صحته الإجماع، ومضمونه عدم نقض اليقين بالشك الطارئ.
فجاء عهد لآدم أبي البشر وهو مستمر يتغشى الناس جميعاً، وهذا الإستمرار آية اعجازية وشاهد على الخلافة واتصالها فليس من عهد بين الناس يصاحب اجيالاً منهم فلابد ان يطرأ عليه تغير وتبدل ونسخ بلحاظ تبدل أحوال الناس، وبعضها ينتهي بانتهاء أسبابه وانقراض أهله، وآيات الخلافة لا تنحصر بموضوع جعل الإنسان خليفة في الأرض، بل تشمل الأوامر والنواهي، وتثبيت مصاديق الخلافة في الأرض لذا جاء ذم حنث اليمين ولزوم تعاهد الأيمان.
فالعهد الإلهي من آيات الخلافة في الأرض، والأمانة التي تصدى الإنسان لتحمل اعباءها، وفاز بشرف قبولها من بين الخلائق لتبدأ مرحلة الإبتلاء
وكما يجب على ألأمين أن يحرص على الأمانة، ويتعاهدها ويمنع من التفريط بها حتى يردها، فكذا بالنسبة للإنسان فقد تولى مسؤولية حفظ العهد الإلهي في الأرض، وهو من مصاديق قانون (آيات الخلافة) والتي لاتنحصر بالواجبات والتكاليف بل تشمل التفضيل وعلو المرتبة والرفعة بين الخلائق، وتسخير ما في الأرض لخدمة الإنسان وتوظيف الموجودات الأرضية لحاجاته، وبما يبعث الغبطة في نفسه ويكون مناسبة للشكر له تعالى،
ومن الآيات أهلية الإنسان للتمييز بين الحق والباطل، والحكم بالعدل وهو وسيلة لإستدامة الخلافة ومقومات الحياة الإنسانية واسباب عبادته تعالى ، ومقدمة للثواب الأخروي، ومنه التزكية والتطهير لتكون آيات الخلافة عونا يوم القيامة.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [وَلاَ يُزَكِّيهِمْ] مرتين في القرآن واحدة في هذه الآية، والأخرى في سورة البقرة ( ) ، وجاءت في الذين يكتمون آيات ، وفيه تعيين إجمالي للذين تحجب عنهم التزكية والتطهير الإلهي يوم القيامة، ومن الآيات الإعجازية في القرآن والتي تدل على صدق نزوله من عند ، انه تضمن موضوع التزكية وحجبها، أما الحجب فقد ورد في هذه الآية، واما نيلها فقد جاء في قوله تعالى [ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، كما ورد في سورة الجمعة، لتتضمنا البشارة للمسلمين بالتزكية ببركة النبوة.
لقد جاء القرآن بحثهم على بلوغ مرتبة التزكية بالعمل الصالح والتقيد بأحكام العبادات ومنها أداء الزكاة، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] ( )، وهذا من الفضل الإلهي العظيم على المسلمين ان تأتي التزكية بطرق هي:
الأول: بالإقرار بالشهادتين، والتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينالهم الفضل الإلهي بالجري والإنطباق.
الثاني: التزكية الجماعية للمسلمين لأدائهم العبادات والفرائض.
الثالث: أداء الزكاة والصدقات الواجبة والمستحبة بقصد القربة، ورجاء مرضاة تعالى.
الرابع: الفضل الإلهي بشمول اهل الأيمان يوم القيامة بالتزكية والتطهير.
قانون التزكية
لقد أراد للدنيا ان تكون دار اختبار وامتحان للإنسان، لينتقل بعدها قهراً الى دار الحساب والجزاء وليس معه الا أعماله التي عملها في الدنيا، وتفضل عليه وهيء له أسباب العناية واللطف والسبل الملكوتية المباركة لإعانته ونجاته يوم الحساب، ومن أهم هذه السبل أمور:
الأول: بعث الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين.
الثاني: نزول الكتب السماوية ومنها القرآن وهو سيدها والجامع لأحكامها.
الثالث: وجود أصحاب وأنصار وأتباع الأنبياء وهو الوسائط الكريمة بين النبي وبين أهل زمانهم ، والأجيال المتعاقبة من الناس، وليس لكثرتهم حد.
الرابع: سلاح العقل الذين جعله ملازماً للإنسان، وجزء من الذات لا ينفك عنه ولا يغادره، لتكون دعوته للحق والهدى مستمرة ومتصلة، ومنافع هذا السلاح لا تنحصر بصاحبه، بل تشمل غيره من الأهل والأصدقاء والأقارب ونحوهم، وله موضوعية في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأبواب عامة لا تنحصر بالقريب، فقد يقوم الإنسان بنصح القريب والبعيد، وزجرهما عن الباطل.
الخامس: تفضله تعالى بباب التوبة، وابقائه مفتوحاً الى ساعة مغادرة الدنيا.
وأسباب العناية الإلهية هذه تعمل متحدة ومتفرقة على هداية الإنسان وتزكيته وتطهيره، وهو بعض مصاديق قانون التزكية التي تتغشى الإنسان في الدنيا والآخرة، فهذا القانون لا يفارق الإنسان في النشأتين لأمرين:
الأول: حاجة الإنسان له.
الثاني: واسع رحمة ولطف .
فمن رحمته تعالى ان يرى حاجة العبد، فيقضيها له، ويبين أسباب الغبطة والسعادة، ولكن شطراً من الناس حجبوا عن أنفسهم هذه الرحمة، وسعوا بأنفسهم لحجب قانون التزكية عنهم، فلم يتركوا وسعيهم والإضرار بأنفسهم، بل جاءت هذه الآية لتحذيرهم، والتوبيخ من أحسن صيغ التحذير لما فيه من النفع المركب الذي يشمل :
ألأول: من يقوم بالفعل السيء، فيأتي التوبيخ لزجره، ومنعه من التمادي فيه، كما في هذه الصورة اذ يحرم الذين نقضون عهد انفسهم من نيل مضامين قانون التزكية.
الثاني: تأديب الذين يسمعون التوبيخ ممن لم يقدم على الفعل السيء، فحينما يسمعون الذم والتقبيح لفاعل المنكر فانهم يدركون أموراً وهي:
الأول: ان حاضر معهم يعلم اعمالهم.
الثاني: بغضه تعالى للقبيح والمنكر من الأفعال.
الثالث: وجود أناس يفعلون المعصية.
الرابع: اجتناب الصلة مع الذين يفعلون السيئات.
الخامس: التمييز والفصل بين الحسن والقبيح من الأفعال فقد يظن المرء في فعل مخصوص انه مكروه فتأتي الآية القرآنية لتؤكد حرمته لتنزيل سماوي ونص ملكوتي لا يقبل النسخ أو تعدد التأويل ،كما في نقض العهد، وحنث اليمين، والحلف زوراً وبهتاناً.
السادس: الحرص على عدم التفريط بالواجبات والتنزه عن الرذائل وما يكون سبباً لتلقي التوبيخ.
السابع: سعي العبد لنيل مقامات القرب، وبلوغ مرتبة التزكيةوالتطهير، والفوز بشموله بقانون التزكية وما فيه من عناوين الرحمة والمغفرة والنعيم، ومن وجوه هذا السعي التقيد بالأوامر والنواهي وأداء العبادات ومن أهمها الصلاة والصوم والزكاة والحج، وهذه الأفراد متحدة ومتفرقة تزكية للبدن وتطهير للمال، وجهاد في سبيل ، ووسيلة لتزكية النفس، فلا غرابة ان يسمى الحق الشرعي في المال بالزكاة، فمع انه اخراج لشطر منه ودفع للغير، فلا يسبب هذا الإخراج نقصانه بل هو نماء وزيادة للمال ، ومن فضله ورحمته تعالى ان قانون التزكية يتغشى الدنيا والآخرة من وجوه:
الأول: التزكية والتطهير في الدنيا، لأمور الحياة الدنيا ذاتها بالتجاوز والعفو والإعانة على أمور المعاش والكسب.
الثاني: التزكية في الدنيا لأغراض الدين والصلاح والتقوى، والمعارف الإلهية.
الثالث: التطهير في الآخرة بالعفو والمغفرة.
الرابع: التزكية في الآخرة لنيل مقامات المقريبن، والتأهيل للإرتقاء في سلم الدرجات.
وأهم وجوه التزكية أعلاه الثالث والرابع، مع موضوعية وأهمية الأول والثاني اللذين هما عون ومقدمة لعالم الآخرة والتزكية فيها، وقد يوفق الإنسان لنيلها جميعاً وقد يفوز ببعضها وكل فرد منها نعمة عظيمة، اما أهل هذه الآية فقد حجبوا عن أنفسهم أقسام وفروع قانون التزكية.
فجاءت الآية للتنبيه والتحذير ولتكون وسيلة لإصلاحهم، وشاهداَ على التبليغ وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأداء الرسالة وابلاغ الناس جميعاً بمضامين قانون التزكية وبيان الصفات الذميمة التي تحجب صاحبها عن نيل مراتبها على نحو السالبة الكلية او الجزئية.
وقانون التزكية شاهد على مرتبة رفيعة خاصة ينالها الذين يزكيهم ويطهرهم ، ومن وظائف العبد الإجتهاد لبلوغ هذه المرتبة والفوز بدرجة الأزكياء، وقانون التزكية أخص من المغفرة، وهو هبة وفضل اضافي فمع المغفرة تكون التزكية.
ومضامين هذا القانون كلها فضل منه تعالى، وليس عن استحقاق من العباد وان كانت ثواباً على فعل الصالحات بقصد القربة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى [ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
وبلحاظ قانون التزكية يمكن تقسيم الذنوب الى قسمين:
الأول: الآثام والذنوب التي تحجب التزكية.
الثاني: الذنوب التي لا تحجب التزكية الأخروية.
قانون الأسماء
الأسماء جمع اسم، وهو اللفظ الدال على معنى مخصوص، والأسماء على قسمين:
الأول: الأسماء الحسنى التي ترجع الى صفات سواء صفات الفعل كالغفار والوهاب، او التي تأتي للتعظيم والتقديس وبيان صفات الذات المقدسة كالحليم والغني.
الثاني: اسماء الأعيان والعروض وعامة الأشياء، ويتعلق بها هذا القانون، وفي دلالة الألفاظ على معانيها وجوه منها:
الأول: الدلالة ذاتية صرفة، كدلالة الشعاع على الشمس فيشترك الناس بمعرفتها وان أختلفت السنتهم وأمصارهم.
الثاني: دلالة الألفاظ على معانيها بالجعل والتعيين فلابد من شخص او جماعة او أمة قامت بتعيين اللفظ لذات المعنى، وجهات ساهمت بايجاد العلاقة بين اللفظ والمعنى، كتسمية الشجر، والماء، والقلم، لتكون هذه العلاقة سبباَ في خطور المعنى في الذهن، لذا أطلق عليه لفظ الوضع.
الثالث: بالذات والجعل معاً، والأصح هو الثاني، لأن الدلالة الذاتية تتعلق بذات المسمى وليس بالإسم، فالناس يشتركون بمعرفة الشعاع كذات وضياء متفرع عن الشمس، ولو فرضنا ان له اسماً واحداً في جميع اللغات فلا يعني هذا ان دلالة لفظ الشعاع على معناه بالوضع وان ثبت فانما يثبت بدليل خاص، وترى الأعمى لايرى الشعاع، اما لو سمع لفظ الشعاع فانه يتصوره في الوجود الذهني ويعلم موضوعه، وفاقد السمع لا يسمع اللفظ ولا يعلم دلالته، ولكنه حينما يرى الشعاع يعلم موضوعه وذاته، ومن الإعجاز في هذا الجعل وجوه:
الأول: انه من خصائص الخلافة في الأرض فبعد ان جعل آدم خليفته في الأرض علمه الأسماء ، قال تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ] ( ) وجعل هذا التعليم مائزاً وعنوانا لسمو آدم في مراتب الرفعة ، وشاهداً على أهليته للخلافة في الأرض.
الثاني: اتخاذ اللغة وسيلة لقضاء الحاجات، ومنها الحاجات الأخروية لذا فانها تساهم في تزكية الذات وتنقية المجتمعات، وقد يكون العكس كما في اصحاب هذه الاية الذين اختاروا نقض العهود وحنث الأيمان، فجعلوا من الأسماء ودلالة الألفاظ على المعاني سبباً للأذى والأضرار بالذات والغير.
الثالث: الأسماء وسيلة للصلاح والهداية والرشاد، وهذا من أسمى مضامين الإعجاز في الأسماء واختيارها ، ويدل على اختيار بعض الأسماء بفضل منه تعالى من وجوه:
الأول: الوحي الى الأنبياء.
الثاني: الإلهام من عند الى البشر.
الثالث: جعل طباع الناس متجهة صوب اختيار الاسم النافع.
وهذا لا يعني اطلاق النظرية القائلة بان هو الواضع للألفاظ والتي قال بها ابو الحسن الاشعري وجماعة، وان كانت شاهداً على عظيم قدرته سبحانه، وفرع قوله تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
وقيام الناس بتأسيس اللغات واختيار الألفاظ المناسبة للمعاني المخصوصة لم يتم الا بفضله تعالى وقدرته واعانته للعباد بالإلهام والإيحاء، وتوظيف نعمة العقل في لغة التخاطب والتفاهم، وجعلها وسيلة للصلاح والرشاد، فان قلت هناك لغات وضعتها أمم وثنية على القول بهذا النوع من الوضع، فاين غاية الصلاح، قلت: ان غاية الصلاح اعم من ان تلازم الملة السماوية، فالإنسان مجبول بفطرته على الميل الى الصالح، والإستئناس بالغير الذي يتم بلغة التخاطب، ومن الإعجاز ان اختيار الأسماء الحسنة للذوات والعروض والأشياء مطلقاً يتم بآية اعجازية، من وجوه:
الأول: الحسن الذاتي للأشياء باعتبارها خلقاً لله ويتجلى هذا الأمر باشتقاق الاسم من الخصائص الحسنة للأشياء.
الثاني: ملائمة طبع الإنسان وميله لما هو حسن بالأصل او بالعرض.
الثالث: ورود الكتب السماوية بالأسماء الحسنة.
الرابع: دعوة القرآن لتهذيب الألفاظ وصيغ المخاطبة ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الأيمان] ( ).
الخامس: مجيء السنة النبوية بالحث على اختيار الاسم للمولود وانه من حق الولد على الوالد.
وصحيح ان احكام القرآن والسنة تتعلق بالمسلمين، ولكنها لا تخصهم على نحو الحصر والتقييد، وهم آية في العالمين ويقتدي بهم ويحاكيهم الناس في أفعالهم كما ان فعلهم جزء من العرف العالمي خصوصاً في زمان تداخل الحضارات، ولو تنزلنا وقلنا ان هذه الأسماء خاصة بالمسلمين دون غيرهم فانهم أمة عظيمة ذات شأن وقادرة على تثبيت المفاهيم القرآنية في الأرض، وهذا التثبيت دعوة للناس للحاق بهم، خصوصا وان الموضوع اختيار الأحسن وترك السيء والرديء.
قانون اعجازي “الوظائف العقائدية للإسم”
هناك مغايرة بين الاسم والمسمى، مع ضرورة العلاقة بينهما، بحيث اذا ذكر الأول يتبادر الثاني الى الذهن، واذا أدركت أحدى الحواس الثاني يتبادر الأول إلى الذهن ويترجل في الخارج.
وترد الأحكام بخصوص المسميات من العبادات والمعاملات، ولا موضوعية فيها للإسماء وان استعملت للدلالة عليها سواء الدلالة الإستعمالية التفهيمية، أوالدلالة التصديقية الجدية،
والمتعارف ان الاسم لفظ يأتي للدلالة على معنى معين ولكن الوظائف العقائدية الإضافية للأسماء تتعدى موضوع الدلالة وارادة التعيين والإفهام المخصوص لتشمل التأديب والتعليم والنصح والإرشاد والزجر، لتكون عوناً للإنسان وسبباً للهداية والتوفيق لأداء وجوه الطاعات، وهذا من اللطف الإلهي، ولا نقول أنه من اللطف الخفي بل هو ظاهر ولكنه من الكنوز والهبات العقائدية، ويحتاج الى التبيان واثبات الحجة والدليل الذي يؤكده.
وقوله تعالى [ يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى] ( )، يبين موضوعية اختيار الإسم، ووجود اسرار خاصة فيه تبعث على حب الحياة المقرونة بالبشارات الإلهية.
واذ جاءت هذه الآية بذم الذي ينقضون العهد والأيمان ويخونون الأمانة، فان الاسم الحسن الذي تم اختياره للإنسان نوع عهد وأمانة عنده عليه ان يتعاهده ويحفظه بالفعل المطابق له في الحسن، ويكون الاسم مرآة تصورية له وهو موضوع تصديقي للإسم، فتتأكد الملازمة من وجوه:
الأول: الملازمة بين الاسم والمسمى بلحاظ الفعل موضوعاً ومحمولاً.
الثاني: الإتصال بين حسن ظن الوالدين ونحوهم لمن أختار الاسم وبين الفعل الشخصي للمسمى.
الثالث: التدبر بالاسم والمسمى كموضوع متقارب ومتداخل وكأنهما موضوع وعرض، وحال ومحل مع ان الأصل والواقع هو المغايرة بينهما.
الرابع: الربط والصلة المستديمة بين سنة وسيرة الذي قصد محاكاته وبين اتباع نهجه الحسن في اختيار الإسم.
الخامس: ايجاد وجوه الشبه بين الاسم والمعاني التي يتضمنها، وبين فعل وسيرة الشخص، كما في اسم عبد ، وروى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه مرفوعا ” أحب الأسماء إلى الله ما عبد وحمد”( ).
ومن المصاديق الفعلية المتوارثة لهذا الحديث كثرة التسمية باسم (محمد) بين الناس، ولو اجريت احصائية عالمية لوجدته وأسماء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأسماء التي تتضمن صبغة العبودية لله أكثر الأسماء شيوعاً منذ البعثة النبوية والى يومنا هذا مع انه لم يسمع أحد قبله باسم محمد، وهذه الكثرة والشيوع شاهد على الإدراك العام للمعاني العقائدية للاسم الحسن وماله من الدلالات، ويمكن تلمس منافع الاسم بعد تعيينه واختياره بالهدى والصلاح الذي يظهر على من ينال شرف هذه التسمية والأسماء الحسنى الأخرى ولو في الجملة.
ومضامين هذه النظرية العقائدية في الأسماء لا تنحصر بأسماء الأشخاص بل تشمل الأعيان والأشياء جميعاً في اختيار الناس اسماء حسنة لها، وهو أثر لا ينحصر بالمسلمين بل يشمل غير المسلمين من الأمم والملل الأخرى، خصوصاً وان اللغات متعددة وهل يمكن الإستدلال باختيار الأحسن في وضع الأسماء على ان الواضع للأسماء هو الجواب لا، الا ان نقول بالمعنى الأعم للوضع وهو ان هدى الناس لإختيار الأحسن من الأسماء ليكون هذا الحسن عوناً على الطاعات بالإضافة لما فيها من المعاني التي تدل على بديع الصنع.
وهذا القول منا جديد في علم الأصول، ويحتاج الى الصدور عن القرآن ،وجعل الأصولي يربط بين الواقع وعلة خلق الإنسان وهي انه خلق لعبادته تعالى، وأعانه على وظائف الخلافة في الأرض، اذ ان الإختيار الأحسن للأسماء من الشواهد اللفظية على الخلافة، ومقدمات الطاعة والصلاح لذا ترى الناس على مختلف مذاهبهم وتعدد مشاربهم يحرصون على اختيار الاسم الحسن، وهذا الاسم الحسن عنوان الشكر لله تعالى، وثناء عليه لعظيم قدرته ورأفته واحسانه ودعوة للتدبر في الأسماء والمسميات معاً، ومن اسرار الخلق ان مصاديق هذا القانون ثابتة في الأرض ومتجددة في كل زمان ومكان.
نظرية جديدة “اللغة والعولمة”
لقد أصبحت العولمة جزء من الواقع اليومي للأمم والجماعات، بل وللأفراد ولو على نحو جهتي، وهي ماضية بسرعة غير مألوفة في الإتساع الموضوعي والمكاني والنفاذ الى ميادين تتوارث الإستقلال والحصر، ولابد من ترشح قيم واحوال مستحدثة على واقع كل أمة من الأمم، نعم يكون هذا الترشح والتغيير على نحو كلي مشكك أي على مراتب متباينة ومتفاوتة، فبعض الأمم تقتبس معاني ومفاهيم اكثر مما تقتبس غيرها من الأمم الأخرى، وهذا الإقتباس على قسمين:
الأول: الإيجابي الحسن كالعلوم والآداب والأخلاق الحميدة، وما ينمي ملكة الصلاح والنفع العام.
الثاني: السلبي القبيح من الأخلاق الذميمة ومافيه غلبة النفس الشهوية والغضبية.
وكل من هذين القسمين ينشطر الى وجهين بلحاظ المحل الذي يحل فيه:
الأول: ما يأتي بديلاً عن ضده ونقيضه فالعلم يأتي على الجهل، والأخلاق الحميدة تأتي لتنزيه الشخص والجماعة من الأخلاق الرديئة، والأيمان يطرد الكفر والجحود ، اما الضلالة فلا تستطيع ان تحل محل الأيمان، ولكنها تسبب الأذى والمشقة للمسلمين، كما في مضامين هذه الآيات في طائفة من أهل الكتاب الذين يودون ضلالة المسلمين، والذين يخونون الأمانة ويخفون البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشترون بعهد وايمانهم ثمناً قليلاً.
الثاني: ما يأتي اقتباساً مستحدثاً، وخصلة جديدة، فاما مضامين الأيمان فتترسخ في الأرض وتنفذ الى شغاف القلوب، واما معاني الضلالة والجحود فترفضها النفس وتمتنع عن قبولها، وان تأثرت بها فان الأثر يكون على نحو السالبة الجزئية ومتزلزلاً.
ولا تنحصر موضوعات العولمة بالإقتصاد والمال كما قيل في أصل نشوء وسائلها واسباب صيغها بل هي أعم ، وأفراد هذه العموم منها ما يكون مقصوداً بذاته، ومنها ما يحدث عرضاً، وحتى هذا الأمر العرضي لا يترك وشأنه من جهة الكيفية والإتجاه بل انه يخضع للقصد والتخطيط.
وهناك ميادين لم تدخل العولمة بعد، ولكنها مترشحة بحكم أنظمتها وماهيتها وكثرة أدواتها ،وأتساعها المتصل، ومنها ميدان (اللغة) وما فيها من العلوم والموضوعات والأحكام وما لها من الآثار العقائدية والإجتماعية والأخلاقية، لذا ستكون موضوعاً للعولمة والأسلحة المستعملة فيها، ومن أهمها:
اولاً: المنتديات العالمية، وقوى النفوذ والقرار فيها.
ثانياً: المنزلة السياسية للحكومات ذات الشأن.
ثالثاً: المال والإقتصاد، والشركات ذات التأثير وارباب المصالح.
رابعاً: وسائل الإعلام ومالها من سلطان معتد به، ونفاذها الى البيوت والمنتديات في مختلف انحاء العالم.
وسلطان هذه الوسائل يؤخذ بلحاظ ما تسخر له من الغايات والمقاصد المتباينة وهذا الأمر قد يكون أكثر أهمية من ذات الوسيلة الإعلامية.
فهذه الوسائل مجتمعة ومتفرقة تؤثر ايجاباً وسلباً على كل لغة من لغات العالم، وهذا التأثير ليس من الكلي المتواطئ الذي هو على مرتبة ودرجة واحدة، بل هو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بحسب اعتبارات متعددة منها:
الأول: لسان العولمة او الدول ذات الشأن في نظام العولمة، ومدى حرصها على المحافظة على لغتها.
الثاني: الجذور التأريخية للغة.
الثالث: مقدار وكيفية دخول اهل تلك اللغة في نظام العولمة.
الرابع: عدد الذين يتكلمون بتلك اللغة، وهل لها من وجود رسمي في ظل نظام ودولة، وشأن وحضور في المحافل الدولية، ومؤسسات نظام العولمة.
الخامس: تعلق اهل تلك اللغة بلغتهم، وتعاهدهم وتوارثهم لها.
السادس: مقدار واعتبار العلوم والآداب التي كتبت بتلك اللغة ومدى تأثير الترجمة عليها سلباً أو إيجابا، وصلات التأثير السلبي أكثر من الإيجابي في المقام احياناً، وقد عصم لغة القرآن في هذا الباب.
السابع: الجهود المبذولة ضمن نظام العولمة نحو هذه اللغة او تلك، وهذه الجهود على قسمين:
الأول: التي يراد منها حفظ تلك اللغة بالذات.
الثاني: المساعي التي تؤدي بالعرض الى حفظها وتثبيتها.
الثالث: تصدي الأعداء لمحاربة تلك اللغة وفق وسائل واسلحة العولمة، ومحاولة اخفاء معالمها والتعتيم على ما لها من الخصائص.
الرابع: الآثار العرضية للعولمة التي تترشح على تلك اللغة في محوها، واعراض اهلها عنها، واختيارهم لغة او لغات حية أخرى بلحاظ ان اللغة وسيلة لتحصيل المنافع والمصالح واجتناب الأضرار والمفاسد خصوصاً في ميدان الإقتصاد ذي الأولوية في هذا النظام المستحدث.
لقد دخلت اللغات كلها مرحلة جديدة من الصراع من أجل البقاء او الإتساع، وأهم اللغات ذات الشأن في هذا الموضوع هي اللغة العربية اذ انها تنفرد بخصائص غير موجودة في لغة أخرى منها:
الأول: انها لغة التنزيل، فالقرآن نزل عربياً.
الثاني: العجز عن الإحاطة بعلوم واعجاز القرآن الا بلغته العربية وان كانت هذه الإحاطة جزئية.
الثالث: أداء المسلمين لشطر من العبادات بالعربية كالصلاة التي هي عمود الدين.
الرابع: حرص المسلمين على تعاهد لغة القرآن وأهل الجنان.
الخامس: كثرة الذين يتكلمون اللغة العربية، واتساع أراضيهم وتعدد أمصارهم، وامكان استعمالهم لأسلحة العولمة ولو على نحو الموجبة الجزئية.
السادس: تعلق الإعجاز القرآني او شطر منه باللغة العربية، وكم ديانة كتبت بلغة خاصة او أكثر من لغة، ثم أندثرت تلك اللغة وان بقت آثار تلك الديانة ، وقد يصعب احصاء ومعرفة اللغات التي أندثرت وباد أهلها او أنتقلوا في صيغ التخاطب الى لغة أخرى.
لقد كان للقرآن فضل عظيم في حفظ اللغة العربية وضبط قواعدها، وكثرة انتشارها، ولم تبقَ لغة العرب خاصة بهم فهي لغة المسلمين جميعاً، ويتشوق كل مسلم ومسلمة للتكلم بالعربية، بل ان عباداته تجعله يعرف كلمات منها مثل تكبيرة الإحرام والشهادتين وقراءة الفاتحة، والقرآن غني عن غيرها من اللغات والألفاظ، ولكن اللغة هي التي تحتاج القرآن، وبلحاظ قرائن تأريخية عديدة قد لا تكون أهلية للغة العربية على حفظ كيانها وذاتها لولا القرآن.
ومن اعجاز القرآن الغيري انه حفظ تراث اللغة العربية والشعر والأدب العربي، وجعله باباً لمعرفة اسرار اللفظ القرآني.
ووردت كلمة (عربي) في القرآن احدى عشرة مرة، وتتعلق كلها بالقرآن لتوكيد عربيته في اشارة لتعاهد لغته، ولزوم عدم التفريط بها باعتبارها الوعاء اللساني للتنزيل، الذي تتفرع عنه عدة علوم ومدارس عقائدية واعجازية واجتماعية وأخلاقية،
لقد أراد لهذه اللغة ان تكون عنواناً للوحدة بين المسلمين في اللسان والتخاطب، ومن يتقن العربية او من لا يتقنها منهم يدرك عمق صلته مع اللغة العربية ويصدق عليه انه عربي ويؤيده قول طائفة من أهل الكتاب [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] كما تقدم في الآية السابقة وبلحاظ إرادة المعنى الأعم بصفة الإسلام ، وأرادة المسلمين في لفظ الأميين، و الإنتساب للغة القرآن لا يتعارض مع انتسابهم الى لغاتهم الأم كالفارسية والتركية والأوردية والروسية والإنكليزية والفرنسية، وهذا من اعجاز القرآن ان يجمع بين المتعدد والمتباين من غير ان يكون بينهما تنافِ.
والقرآن تنزيل سماوي، عربي اللغة، عالمي الرسالة، وتداخل الموضوعان فاثر هذا التداخل على المحمول، وهو هنا العربية بالنسبة لموضوع اللغة، والعالمية بالنسبة للرسالة، فأنعكس أحدهما على الآخر، وأخذت العربية صبغة عالمية وصارت من أكبر اللغات في العالم استعمالاً.
الا ان هذا لا يعني عدم تعرضها للإمتحان في زمن وأنظمة قوانين العولمة والتداخل بين الأمم الذي يوجه من قبل دول وجهات مخصوصة، ولم تتضح بعد معالم التحدي الكبير الذي ستواجهه لغة القرآن، الا انها تمتلك مقومات البقاء والنصر، خصوصاً وان لها مفردات اجتماعية ولسانية يومية عديدة لا يمكن التفريط بها، بل ان الأمة كلها تحافظ عليها مثل القراءة في الصلاة، واشتراك المسلمين بأدائها في عموم أقطار الأرض، الى جانب تلاوة القرآن التي لها صلة مع لغته، وصيغ التخاطب في الأصل، والمترشحة عن القرآن.
وهذه الأهلية على البقاء لا تمنع من الإحتراز والوقاية من آثار العولمة المحتملة على لغة القرآن، وعلى ذات القرآن بموضوع اللغة ونحوها، والعمل على اجتناب الأضرار العرضية الناتجة عنها، بل واستثمار انظمتها لتنقيح اللغة والسعي لإنتشار لغة القرآن، والتنزه من داء العامية والمفردات المحلية السائدة، وبغض النظر عن الإنتماء القومي فان اللغة العربية لها خصوصية عقائدية لأنها لغة القرآن التي يجب ان يقرأ بها في الصلاة ورجاء الثواب ،وهي شاهد على الوحدة الإسلامية، وواقية من الفتن بين المسلمين .
قانون الخلافة
لقد جعل الإنسان خليفة في الأرض، والإجماع على موضوع الخلافة الا ان الإختلاف يحصل في وجوه:
الأول: انحصار الخلافة بآدم .
الثاني: تكون الخلافة بخصوص الأنبياء عليهم السلام.
الثالث: الخلافة للأنبياء والأولياء الصالحين.
الرابع: الخلافة لجنس الإنسان، فالإنسان خليفة ومن يفعل السيئات يلقى العقاب والجزاء، وهذا من أحكام وقواعد الخلافة، لأنها نوع أمانة وعهد قال تعالى [ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ] ( ).
والأرجح هو الأخير، واختصاص الأنبياء بالأهلية للخلافة و عظيم المنزلة لهم ولأتباعهم من الصالحين، ليفوز المسلمون بوراثتهم.
وحينما قال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( )، لم يجبهم سبحانه بان الخليفة هو النبي وصاحب التقوى والإيمان، بل قال سبحانه [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ]( ).
لتتجلى صفة الإطلاق في الآية وان يصلح الإنسان لتلقي الأوامر والنواهي، ويهدي شطراً من الناس للعمل بأحكام الشريعة، ويأتي الوعد والوعيد في القرآن ليتعاهد الإنسان الخلافة ويحافظ على سننها قوانينها، ويمكن القول بان قانون الخلافة من عهد الوارد في هذه الآية، فالذي يعرض عنه ويتركه وراء ظهره يبوء باثمه ويفقد الحظ والنصيب في الآخرة ولا يكلمه ولا يعطف عليه بالعفو والمغفرة.
ويبين قانون الخلافة دقة انظمة الكون وان الكواكب والأفلاك والخلائق تجري وفق نظام خاص لا تستطيع الخروج عنه، وقد ابتلي الإنسان بالخلافة ليتصدى للعبادة وتعاهد عهد وحفظ مواثيق الإنبياء.
ولم يتركه بمفرده، بل أنعم عليه بالعقل رسولاً داخلياً للنهوض بمسؤوليات الخلافة، وهو عنوان تشريف واكرام من بين الخلائق، كما انعم عليه بالنبوة والكتاب السماوي لتوجيه وارشاد العقل والجوارح نحو فعل الصالحات.
ومن أهم وظائف الخليفة طاعة الذي جعله خليفة، ورفعه على سكان الأرض درجة، ومنحه أسباب التوفيق في الخلافة من العقل والحكمة، ومصاديق اللطف، ومنها عالم الجزاء بقسميه الثواب والعقاب، فالوعد والوعيد من اللطف الإلهي لما فيه من الترغيب بالجنة والحذر من النار واجتناب ما يؤدي الى الوقوع في الهلكة، مثل التفريط بالعهد لقاء زينة الدنيا واتباع الهوى.
وهل قانون الخلافة في الأرض واجب على ، الجواب ليس من واجب عليه سبحانه وهو الغني عن العالمين، ولكنه رحمة بالإنسان والخلائق كافة، خصوصا وأن اصل خلقه ليس بواجب والفرع تابع للأصل، وفيه بيان لعظيم قدرته وواسع رحمته سبحانه.
قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
جاءت خاتمة الآية لتتضمن اعجازاً اضافياً من وجوه:
الأول: منطوق الآية القرآنية في تعقب الحرمان من الثواب بالتعرض للعذاب.
الثاني: الواو في [وَلَهُمْ عَذَابٌ] واو العطف، وتفيد المغايرة والتعدد، أي ان العذاب ليس من وجوه العقوبة المتقدمة، بل هو عقاب وألأمر مستقل، وهذا الإستقلال لا يمنع من التداخل بينها.
الثالث: تحتمل الآية أمرين:
الأول: ليس بعد الحرمان من الثواب الا العذاب الأليم.
الثاني: فقد الثواب، وعدم نيل النعم العظيمة من التكليم والنظر والتزكية الإلهية أعم من العذاب، فقد يحرم الإنسان يوم القيامة من هذه النعم ولكنه يرجو ألا يصيبه العذاب الأليم، وهو ظن جاءت الآية للتحذير من الوقوع فيه، و ينقسم إلى شعب:
الأولى: ينتظر نعم أخرى، ورحمة متجددة اضافية ، فرحمته تعالى أعم من الوجوه المذكورة في هذه الآية ، وبين عدم التزكية والعذاب الأليم برزخ قد تتنزل فيه الرحمة على العبد وان كان عاصياً في الدنيا.
الثانية: التباين بين الحرمان من الثواب والعذاب الأليم، فقد يكون نقض العهد سبباً لحجب الرحمة والعفو، وليس للوقوع في العذاب الأليم.
الثالثة: العذاب الأليم ملازم للوجوه المتقدمة من العقوبة، ولكن رحمته تعالى أعم وتشمل تفكيك أطراف الملازمة، فبعد عدم التزكية قد لا يأتي العذاب الأليم وان كانت بينهما ملازمة، فرحمته تعالى تبطل هذه الملازمة وهذا الإبطال من عمومات رحمته ورأفته بالناس، ومع هذا فان ناقض العهد واليمين محروم من نعمة التفكيك هذه، فبينت الآية تعقب الألم لوجوه العقوبة لتبعث اليأس في نفوس ناقضي العهد، وهذا البعث فيه وجوه:
الأول: انه من العقوبة الدنيوية العاجلة.
الثاني: فيه انذار وزجر من نقض العهد.
الثالث: جاءت الآية لإقامة الحجة على الناس، وغلق الباب أمام الإدعاء بعدم معرفة مدى خطورة نقض العهد، وما أعد لصاحبه من العقوبة الأخروية، فقد يقول بعضهم كنت أظن ان مدار الثواب والعقاب على الإقرار بوجود الصانع، وان ما دونه امر سهل تنال صاحبه رحمة وعفوه وإن نقض العهود وحنث الأيمان، وحلف بالله كاذباً، فجاءت الآية لتمنع من هذا الظن وتخبر بانه يؤدي بصاحبه الى العذاب الأليم،لما فيه من الجحود والضلالة، ومخالفة قواعد الإيمان
الرابع: للتدارك والتوبة، ورجوع عن نقض العهد ، ومن حلف يميناً فاجرة او كاذبة عن يمينه، وقيامه بالإخبار عن الحق والصدق.
الثالث: بيان ماهية وجوه العقوبة المتقدمة، وان نفي النصيب في الآخرة، وعدم تكليمه تعالى او نظره لناقضي العهد يوم القيامة وحرمانهم من التزكية انما هو من مصاديق الغضب الإلهي، وجاءت خاتمة الآية للإخبار عن هذا الحرمان والعذاب.
الرابع: توكيد حقيقة كلية في الإرادة التكوينية وهي ان حجب نعمه تعالى يوم القيامة، يعرض الإنسان للعذاب الأليم بما كسبته يداه من الخيانة والغدر، والنعم مع كثرتها لا تحجب ابتداء، بل ان الغدر والخيانة يحجبها عن العبد.
الخامس: نزول العذاب بالعبد يحتمل في المقام وجوهاً:
الأول: الملازمة بين الحرمان من هذه النعم ونيل العذاب الأليم.
الثاني: يأتي العذاب متعقباً للحرمان من النعم، فكل من يحرم من رحمته تعالى من النظر والتكليم وعدم النصيب ينال العذاب الأليم.
الثالث: الحرمان من النعم من مصاديق العذاب الأليم.
الرابع: ليس من ملازمة بين الحرمان من هذه النعم وبين العذاب الأليم، فقد يقع الإنسان في العذاب الأليم والخلود في النار مع انه لم ينقض عهد ، ولم يحلف يميناً كاذبة.
والصحيح هو الأول والثاني والثالث، فالحرمان عذاب أليم ولكن المراد من العذاب في خاتمة الآية عذاب آخر غير الحرمان من هذه النعم، وهذا من اعجاز الآية، وبيان الأذى المركب والمتعدد الذي يصيب ناقض الميثاق وخائن الوعد.
السادس: تدل الآية في مفهومها على معرفة موضوعية كل نعمة من النعم التي جاءت الآية بنفيها عن ناقض عهد ، فهي بشارة للمؤمن بانه سيحرز النصيب الكريم في الآخرة، وأنه يحظى بكل من آية التكليم والنظر والتزكية يوم القيامة.
السابع: العذاب الأليم عاقبة تجمع الذي كفروا، كما في قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) والظالمين كما في قوله تعالى [إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) والمنافقين كما في قوله تعالى [ بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ]( ).
والمراد من العذاب الأليم على وجوه:
الأول: ذات الحرمان من النعم الأخروية وكل من آية النصيب، والتكليم، والنظر الأخروي، والتزكية كما تقدم بيانها في باب مفهوم الآية.
الثاني: دخول النار عقوبة، فليس من عذاب أشد الماً وأذى من النار.
الثالث: جاءت الآية بصيغة التنكير (عذاب أليم).
والنكرة لا عموم لها في مقام الإثبات، وقد يكون المراد من العذاب عذاباً مؤقتاً محدوداً بوقت وموطن مخصوص من يوم القيامة، ولكن الآيات الأخرى تبين خلود الكافرين في النار.
الرابع: العذاب أعم من أن ينحصر بدخول النار بل يعاني الكافر والجاحد ويلات العذاب قبل دخوله النار وعند ادخاله فيها.
الخامس: ارادة العذاب في الآخرة دون الدنيا، وقد لا يلتفت الذي يفرط بالعهود ويحنث بالأيمان الى وجوه البلاء في الدنيا، ويبقى ناظراً الى الثمن القليل والمتاع الزهيد فيما اشتراه بعهد .
السادس: إرادة المعنى الأعم للعذاب الشامل للحياة الدنيا والآخرة
ولا تعارض بين هذه الوجوه لشدة العذاب وإتصاله ودوامه ، والفرد الأهم منه هو دخول النار.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (ولهم) وفيه مسائل:
الأولى: في الآية اشارة الى الإشتراك في نقض العهد واليمين ، وان العذاب يأتي على جميع الذين ينقضون العهد ويقولون الكذب ولا ينحصر بالرؤساء ونحوهم من الذين يقومون بالتحريف.
الثانية: بيان عظيم قدرته تعالى، وشدة بطشه بالكافرين والظالمين بان يأتيهم العذاب على نحو جماعي.
الثالثة: وحدة الموضوع في تنقيح المناط، فكل من ينقض العهد وينكث الأيمان يكون جزاؤه عذاباً اليماً في الآخرة.
الرابعة: تبين الآية اتحاد الحكم بالنسبة للذين ينقضون عهد من الأولين والآخرين وان العذاب الأليم عاقبة وعقوبة لهم.
وأختتمت الآية بما تصل اليه حال ناقضي العهد واليمين في الآخرة وتعرضهم لأشد صنوف العذاب، وهل ينتهي عن احدهم اثر الوجوه الأخرى المتقدمة عندما يكون في العذاب الأليم، أم يستديم حكم عدم تكليمه تعالى له وعدم نظره اليه بعين الرحمة، وعدم تزكيته، الجواب هو الأخير وهو من مصاديق العذاب الأليم، فالحرمان يصاحبه وهو في النار.
قانون العذاب الأليم
لقد جعل الدار الآخرة دار جزاء، وهذا الجزاء على قسمين:
الأول: الثواب والجزاء الحسن والذي يبلغ غايته وأسمى معانيه بدخول الجنة والخلود فيها.
الثاني: العقاب الأخروي بالخلود في النار.
وجاءت هذه الآية لتبين اعجازاً آخر وتكشف حقائق من عالم الآخرة وتدل على كثرة مواطنه، وتعدد وجوه الثواب والعقاب فيه وأنها لا تنحصر بالجنة والنار، بل تشمل نزول النعم على المؤمنين، وحجبها عن الكافرين، وهذا الحجب فيه وجوه:
الأول: انه ليس من العذاب.
الثاني: يعتبر من العذاب، ولكن ليس من مصاديق العذاب الأليم.
الثالث: من أفراد العذاب الأليم.
الرابع: انه هو العذاب الأليم.
والصحيح هو الثالث فقانون العذاب الأليم أعم من دخول النار، نعم دخول النار يحتمل بلوغ أدنى القوس النزولي وأشد العذاب.
وما سبق دخول النار من العذاب فيه مسائل:
الأولى: انه مقدمة لدخول النار، وعلة صفة المقدمة فيها وجوه:
الأول: رحمة وتخفيف منه تعالى بتهيئة العبد لدخول النار.
الثاني: الغلظة والشدة، وأنه من مصاديق العذاب الأليم في النار، ان تكون مقدماته مؤلمة ايضاً.
الثالث: توكيد لحقيقة وهي ان الآخرة عالم الجزاء،وهذا الجزاء لا ينحصر بدخول الجنة والنار بل يتضمن المقدمات السعيدة والسارة لأهل الجنان، والمقدمات المفزعة والمخيفة لأهل النار،
الرابع : مقدمات دخول النار ذاتها عقاب وأذى.
الثانية: انه من الجزاء الأرخوي لمن يخون العهد والميثاق.
الثالثة: التوكيد على اتصال العذاب الأخروي لمن يعتدي على حدود .
الرابعة: الإخبار الإلهي بغلق ابواب الرحمة عمن يخون عهد .
وهل يتعارض هذا الغلق مع سعة رحمته تعالى في الآخرة الجواب لا، للإخبار القرآني عن وقوعه عقوبة وجزاء، وهذه الآية دعوة للإنتفاع من واسع رحمته تعالى يوم القيامة وعدم حجبها عن النفس والغير.
وهل العذاب الأليم أمر حتمي أم هو أمر احتمالي، الجواب هو الأول، لعلمه تعالى بمن يستحق النار، وتؤيده هذه الآية الكريمة التي جاءت بصيغة الجملة الخبرية لتبين وجود طائفة وجماعة تنقض العهود والمواثيق، ولا تعمل بالأوامر والنواهي الإلهية، كما تؤيده آيات كثيرة من القرآن، وأخبار السنة النبوية التي تفيد خلق النار ورؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وإطلاعه عليها ليلة المعراج ، ورؤيته للذين يعذبون جزاء لما أرتكبوه من الآثام، وفي حديث الإسراء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ” ثم مضيت فاذا انا باقوام يريد احدهم ان يقوم فلا يقدر من عظم بطنه فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء [ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ]( ) واذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً يقولون ربنا متى تقوم الساعة”( ).
وهذا الخبر يحتمل وجوها:
الأول: ان هؤلاء الظالمين يعذبون في النار، وانهم داخلون فيها لعمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “من مات فقد قامت قيامته”( ).
الثاني: ما رآه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عذاب البرزخ الذي هو ما بين الحياة الدنيا والآخرة، فانكشف له الحجاب اكراماً وتشريفاً له.
الثالث: هذه الرؤية شاهد على نبوته وعبرة وموعظة للناس، وحث لهم على دخول الإسلام وفعل الصالحات واجتناب نقض العهود والمواثيق.
الرابع: الذين رآهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعذبون هم من جنس آخر غير بني آدم، خلقوا وبادوا قبل هبوط آدم الى الأرض.
الخامس: هي صور مثالية لبيان حال اولئك الذين يستحقون العذاب وكيفيته لتكون هذه الصور موعظة وسبيلاً للكف عن الحرام وأكل المال بالباطل والربا، وأيهم أعظم ذنباً الذين يأكلون الربا ام الذين ينقضون العهد [وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً] الجواب هو الأخير فآكل الربا ظالم ومتعدٍ على الأحكام ويطلب المال بذاته، أما الذي ينقض عهد فانه خائن للأمانة وناقض للميثاق، وأخذ المال عوضاً عما هو مأمور بصيانته وحفظه.
والأصح هو الثاني والثالث، فالرؤية تحمل على الحقيقة لإصالتها، وعلى البشر من ولد آدم وما ورد في الحديث انه “بسبيل آل فرعون” وذكر آل فرعون وأكلة الربا قرينة على ارادة الظالمين من بني آدم.
ان جعل الآخرة دار حساب وجزاء من بديع صنعه تعالى، ويدل على عظيم قدرته وسعة ملكه وعظمته وحلمه سبحانه اما عظيم قدرته فتتجلى بتعدد العوالم والتمايز بينها، وخواص كل عالم منها.
وأيهما أعظم في الخلق عالم الدنيا ام الآخرة الجواب كل واحد منهما خلق عظيم وآية في بديع صنعه تعالى بالذات، وعالم الآخرة يتصف بالخلود وبانشطار الناس الى قسمين اما سعداء او في الشقاء والعذاب، اذ ان خلق الجنة والنار، وجعل الجنة جزاء لأهل التقوى والصلاح، وجعل النار مثوى لأهل المعصية والجحود، فلابد من وجود عقاب يوم القيامة للكفار وهذا العذاب على وجوه محتملة:
الأول: انه من الكلي المشكك وعلى مراتب متعددة منه ما هو اليم، ومنه ما هو غير اليم.
الثاني: العذاب كله على مرتبة واحدة وليس فيه ما هو اليم.
الثالث: انه ليس بأليم، ولكنه على مراتب متفاوتة ولا ترقى أي مرتبة منه الى الأليم والشديد.
الرابع: العذاب اليم في بعض مراحله دون بعضها الآخر سواء بلحاظ تعدد المواطن او الأزمنة المعلومة او المقدرة.
الخامس: كل العذاب الأخروي اليم وشديد، وليس فيه فترة او فتور او تخفيف.
والصحيح هوالأخير، وهو مضمون قانون (العذاب الأليم) قال تعالى [ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ] ( )، ومن مصاديق نعته بالأليم استدامته ودوامه وعدم انقطاعه وقد وصف العذاب الأخروي بصفات أخرى منها:
الأول : انه عذاب عظيم، والعظيم عنوان الكبر والشدة وهو نقيض الحقير، ولم يصفه القرآن بانه عذاب كبير، لأن العظيم فوق الكبير واشد منه.
الثاني : نعته بالعذاب الغليظ، أي يتضمن التشديد، والغليظ ضد الدقيق، قال تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ] ( ).
الثالث : عذاب مقيم أي دائم وملازم لهم في اقامتهم ، قال تعالى [أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ]( ).
ان قانون (العذاب الأليم) يبعث الفزع والخوف في النفوس، وهو دعوة للصلاح والإستقامة، فمن خاف من أمر احترز منه.
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة “التوسع” بتعداد الصفات او المصاديق ، ويأتي في بيان الأسماء الحسنى وصفات الجلال والكمال لله تعالى [الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
ويأتي التوسع في المدح والثناء بغية حث الناس على سبل الصلاح [َالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ] ( ) كما يأتي في الذم لجعل النفوس تنفر من القبيح والعادات المذمومة قال تعالى [ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ *مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ]( ).
ولا ينحصر اعجاز التوسع في القرآن بالبلاغة والبديع بل هو آية اعجازية ، ومن منافعها:
الأول: الإستيعاب والإدراك والفهم العام، فيلتقي فيه العالم وغير العالم، فالعالم يعتبر ببيان صفة ومصداق واحد، وغيره يحتاج الى التعدد، وكذا بالنسبة للمؤمن وغير المؤمن، فالمؤمن يزداد ايماناً بذكر آية من بديع صنعه تعالى، وغير المؤمن يحتاج التعدد والكثرة كي يتعظ منها.
الثاني: بيان عظيم خلقه تعالى للأشياء، وأحكام الجزاء وسعة حلمه تعالى.
الثالث: اقامة الحجة على الناس.
الرابع: هناك نفع مترشح عن الإعادة، والتوسع اهم من الإعادة، وهو بعيد عن الملل والسأم.
الخامس: فيه سياحة عقلية في رياض الجنة بالنسبة لآيات الثواب، وانذار وتحذير من عذاب النار ، وبعث على الفزع في النفوس.
السادس: التوسع في الصفات والأحوال في القرآن أمر حقيقي، ووجود واقعي فالبشارة او الإنذار انعكاس للوجود الواقعي، ومنه وجوه العقوبة الخمسة في هذه الآية الكريمة.
قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] الآية 78
القراءة والإعراب واللغة
قرأ أهل المدينة يلوون- بتشديد الواو- وعن مجاهد وابن كثير (يلون) بحذف الواو بعد قلبها واواً مضمومة، مع القاء حركتها على الحرف الساكن قبلها.
قرئ ليحسبوه بالياء، بمعنى يفعلون ذلك ليحسبه المسلمون من الكتاب”( ).
وان منهم لفريقاً: الواو: حرف استئناف، ان: حرف مشبه بالفعل، منهم: جار ومجرور في محل خبر إن.
اللام: وهي المزحلقة، وهي لام الإبتداء نفسها، ولكنها انتقلت الى عجز الجملة عند دخول (ان) المشددة عليها، فزحلقت عن صدر الجملة كراهية البدء بمؤكدين.
فريقاً: اسم إن المؤخر.
يلوون السنتهم: يلوون: فعل مضارع، والواو: فاعل، السنتهم: مفعول به، وهو مضاف، والضمير هم : مضاف اليه، وجملة يلوون صفة لـفريقاً) بالكتاب: جار ومجرور متعلقان بيلوون.
لتحسبوه من الكتاب: اللام: لام التعليل.
تحسبوه: فعل مضارع منصوب بان مضمرة بعد لام التعليل وحذفت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والهاء : مفعول به أول، من الكتاب: جار ومجرور في محل مفعول به ثاني.
وما هو من الكتاب: الواو: حالية، ما: نافية تعمل عمل ليس، هو: ضمير منفصل في محل رفع إسمها، من الكتاب: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها.
ويقولون هو من عند : الواو: حرف عطف، يقولون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، هو: معطوف على يلوون، وهو مبتدأ.
من عند : جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر، واسم الجلالة مضاف اليه، والجملة الإسمية في محل نصب مقول القول.
ويقولون: الواو: حرف عطف، يقولون: فعل مضارع، واو الجماعة: فاعل، على : جار ومجرور، متعلقان بيقولون.
الكذب: مفعول به.
وهم يعلمون: الواو: حالية، هم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
يعملون: فعل مضارع، والواو: فاعل، والجملة الفعلية خبر.
ويقال الوى بالكلام أي خالف به عن جهته، وأصل اللي: الفتل والقلب، يقال لويت الحبل الويه لياً: فتلته.
وفي حديث المطل: “لي الواجد يحل عقوبته وعرضه” ( ).
أي التأخر والإبطاء والتسويف في دفع الدين مع القدرة على الوفاء، وانعدام اسباب الحسرة، ولكن قرينة (الألسن) في الآية تفيد تعلق الموضوع بالتحريف.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآيات السابقة بذم الذين يخونون الأمانة، والذين ينقضون العهود ويحنثون بالأيمان، ويقولون على الكذب لقاء عرض قليل وحجبهم عن أنفسهم اعظم النعم الأخروية، وما ينتظرهم من العقاب الشديد، جاءت هذه الآية في ذم وتقبيح الذين يحرفون الكتاب، وينكرون البشارات ويذكرون علامات ووقائع غير ما هو مسطور في الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل واصرارهم على التحريف بنسبته الى تعالى.
ومن مواضيع سياق الآيات افتتاح الآية بقوله تعالى [ وَإِنَّ مِنْهُمْ] لتوكيد اتصال الآيات، والدعوة الى بحث وجوه الإلتقاء بينها:
الأول: الموضوع، ومدى الصلة والتداخل والتقارب بين مواضيع هذه الآيات.
الثاني: وحدة الحكم، ومضامين الزجر والتوبيخ على الذنوب المتشابهة.
الثالث: الفضل الإلهي في التنبيه الى أفراد المعاصي على نحو التعيين والبيان، من غير تعارض بين التعدد والتعيين.
الرابع: طرد الغفلة، فقد يظن بعضهم ان ما يفعله من التحريف او خيانة الأمانة لا يترتب عليه اثم عظيم يستحق العذاب الأليم والحرمان من النعم الأخروية.
الخامس: قيام القرآن بآية اعجازية وهي الحيلولة بين المرء والإرث الباطل.
ولما بينت الآية السابقة وجود طائفة وقوم يشترون بعهد وايمانهم ثمناً قليلاً، جاءت هذه الآية لتبين مصداقاً للآية السابقة وبياناً لها وحجة لتوكيد صدقها موضوعاً وحكماً، فأخبرت عن التعدي على الكتاب المنزل بتحريفه، وهذا السياق وتداخل موضوعات الآيات من اعجاز القرآن.
اعجاز الآية
في الآية مسائل اعجازية منها:
الأول: نظم الآيات، بأن بينت هذه الآية موضوع الآيات السابقة، فجاء ابتداء الآية بقوله تعالى [ وَإِنَّ مِنْهُمْ] لتكون لغة التبعيض اشارة الى طائفة من أهل الكتاب.
الثاني: تعدد أنواع الذنوب التي يرتكبها هؤلاء، يبين الأذى والبلاء الذي يلاقيه المسلمون منهم، والحاجة الى الجهاد في سبيله تعالى.
الثالث: الإعجاز البلاغي بوصف التحريف بلي الألسن وما له من المعاني العقائدية الإضافية.
الرابع: توكيد استحقاقهم العذاب الأليم، المذكور من الآية السابقة، وهو من أسرار التبعيض المذكور في أول الآية.
الخامس: نسبتهم التحريف الى الله وتعجيل الآية بنفي هذه النسبة، وهذا النفي تحدِ وبيان ومنع للبس او الجهالة.
السادس: لغة الجمع في الآية ومنها [وَيَقُولُونَ] مما يدل على الإتفاق على الباطل.
السابع: اقامة الحجة عليهم باصرارهم على التحريف وعلمهم بسوء ما يفعلون.
الاية سلاح
تدعو الآية المسلمين الى اليقظة والحيطة، وعدم الإلتفات الى التحريف وتشويه الحقائق واخفاء البشارات الواردة في الكتب السماوية السابقة، لقد دخل المسلمون عالم التوحيد والملل السماوية بصدق وأخلاص، ولم يقوموا بالتحريف او تبديل المضامين السماوية والقدسية.
وقد يظنون بالآخرين حسناً، ويتوقعون انهم مثلهم ولا يقولون الا الحق والصدق، فجاءت هذه الآية لتحذيرهم بالإخبار عن قيام فريق من أهل الكتاب بتعمد التحريف، واقترانه بالإصرار ودعوى صدوره من عند أي انهم يجادلون من أجل محاولة جعل الكذب صدقاً فجاء القرآن للحيولة دون هذا الجدل، وفضح الكذب والتحريف الى يوم القيامة فلا يلتفت اليهم أحد من المسلمين او يستمع لقولهم انه من عند ، ولو قالوها لأزدادوا خزياً وفضحاً، لثبوت قاعدة كلية عنهم وهي اختيارهم التحريف وارادة الباسه لباس الصدق زوراً وبهتاناً.
فالآية حرز وواقية للمسلمين ولا ينحصر موضوعها بوجوه التحريف بل تشمل الأخبار والأحكام التي عند اهل الكتاب والعمل على عدم قبولها الا مع الدليل، واذ تجعل الآية اهل الكتاب فاقدين للحجة الذاتية لثبوت سوء دعواهم فانها تحث المسلمين على اللجوء الى القرآن والعمل بأحكامه وما فيه من الأوامر والنواهي.
وتبين صيغة الجملة الخبرية ارادة الخطاب والتنبيه للمسلمين وهذا مستقرأ من نزول القرآن ليكون اماماً لهم وقصص الأمم الأخرى موعظة وعبرة.
افاضات الآية
لقد أراد أن يكون التنزيل وسيلة مباركة لجذب العباد الى مقامات التقريب، وكمال لطفه وعزته تعالى وان يحظى العبد بالعطاء غير المجذوذ ، فأمتدت يد التحريف لتحول دون التحلي بالفضائل، والإمتثال للأوامر، فجاء القرآن لطفاً غير متناهِ، وفيضاً الهياً على الناس كافة، يدعوهم الى نبذ التحريف وتبديل الكلم عن مواضعه، وليكون حاجزاً دون سلطان التحريف على القلوب، فلو أصر قوم او جماعة على التحريف فأنهم لن يضروا الا أنفسهم، لأن القرآن مظهر لجماله وجلاله وصفاته الحسنى.
لقد أراد لقلب المؤمن ان يكون أشرف البقاع، وروضة ناضرة عامرة بذكره، فأنزل هذه الآية لتكون واقية من دنس التحريف، ودعوة لتنزيه الملل السماوية وحثها على اللجوء الى القرآن والصدور عنه ومعرفة معالم الدين.
مفهوم الآية
لقد جاء القرآن لمحاربة التحريف، والتصدي له، ومنع سلطانه على المسلمين، فمع نزول آيات الأحكام، وموضوعية تثبيت دعائم الإسلام، والحاجة الى اتقان الناس للعبادات والفرائض وجعلها سجية ثابتة وجزء من الواقع اليومي للمسلمين، توجه القرآن ايضاً الى فضح أهل التحريف من وجوه:
الأول: الإخبار عن وجود طائفة تقوم بتحريف مضامين الكتب السماوية السابقة.
الثاني: قيامهم بالتحريف عن قصد.
الثالث: ارادة التدليس من وراء التحريف، ومحاولة ايهام المسلمين.
الرابع: الرد والإخبار القرآني بكذبهم، ولزوم عدم تصديقهم فيما يخص الأحكام والبشارات لأنهم لم يأتوا بها كما هو مذكور في الكتب السماوية السابقة.
الخامس: بيان ادعائهم أنه من عند ، وان هو الذي أخبرهم ، وتغيير البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر علاماته الواردة في التوراة والإنجيل.
السادس: قيام هذا الفريق من أهل الكتاب بالكذب على لمحاولة اضلال المسلمين وجاءت الآية لكشف كذبهم مع الإخبار بحصوله عن علم ومعرفة بانه كذب.
لقد جاءت هذه الآية لحث المسلمين على تعاهد القرآن والحرص على عدم تحريفه او تبديله او تغيير آياته فأتخذوا من قصص الأمم السابقة عبرة وموعظة، وأكدوا انهم قادرون على حفظ كلام وعدم وصول يد التحريف اليه، والتحريف يأتي على وجوه:
الأول: من خارج أهل الملة والدين، بأن يقومون بتحريف التنزيل واضلال الناس، ونشر مضامين محرفة له.
الثاني: من داخل اهل الملة الذين تلقوا التنزيل وبعث النبي من بينهم، فيقوم بتبليغهم بالتنزيل ولكنهم يحرفونه عن مقاصده، ويغيرون ما فيه من الحقائق والوقائع، وهؤلاء على أقسام هي:
الأول: من يقوم بالتحريف عن قصد وسوء نية وعزم كالذي يشتري ثمناً قليلاً ويسعى الى حطام الدنيا.
الثاني: الرؤساء الذين يجعلون الأولوية لمصالحهم.
الثالث: الذين يفرطون بالأحكام عن جهل وقلة تدبر.
وجاءت هذه الآية لتمنع من استدامة التحريف عند أهل الكتاب وتدعوهم الى عدم التصديق بمن يقوم بالتحريف ، ثم ينسبه الى وتحث المسلمين على أمرين:
الأول: الإعراض عمن يقوم بتحريف الكتاب.وهل يجب فضحه الجواب انه أمر يدخل في عمومات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه ، خصوصا مع التخفيف المترشح من هذه الآية لما فيها من البيان والحجة .
الثاني: العناية الفائقة بآيات القرآن وتعاهدها وحراستها من التحريف الخارجي والداخلي، لأن تحريف الكتب السماوية قد يؤثر سلباً على أخبار القرآن عندهم ان لم يتصد المسلمون لوقايته، و القرآن شاهد سماوي على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق رسالته، وما يذكرونه من صفات نبي آخر الزمان لا تنطبق على التنزيل مطلقا والواقع القرآني ، فتفضل سبحانه بأمور:
الأول: فضحهم في القرآن وذكر قبيح ما فعلوه من التحريف.
الثاني: تجلي معاني الإعجاز في القرآن، ليكون الإعجاز عضداً ودليلاً على صدق نزوله من ، وبطلان ما يتعارض معه.
لذا فان قيامهم بالتحريف لم يعد له أثر يذكر، وجاء القرآن لرد الشبهات، ودفع الباطل، وهذا لا يعني سكوت المسلمين بل لابد من الإحتراز الدائم من التحريف وآثاره، ومن صيغ الإحتراز هذه الآية اذ انها كشفت قيامهم باخفاء الحقائق وفيها عون على معرفة مواطن التحريف.
ومن مفاهيم الآية انها تمنع من النظر الى أهل الكتاب مطلقاً بانهم أهل تحريف لأنها قيدت قيام فريق منهم بالتحريف وان كان الأثر أعم من المؤثر، فهذا الفريق هو الذي يتولى التحريف ويتفرع عنه من ينصت ويستمع للتحريف ويأخذ به، فجاءت الآية لوقف هذا الإنصات، والحث على عدم الإصغاء لهم.
وتبين الآية فضله تعالى على الناس، فحينما قامت طائفة وجماعة من الناس بالتحريف، ونسبت الى قولاً افتراء وزوراً، لم يتركهم وشأنهم، بل أنزل ما يفضحهم، ويكون بديلاً عن الكلام السماوي الذي شابه التحريف، وتطاولت عليه يد التعدي من أجل تحصيل منافع زائفة وحطام زائل.
فجاء القرآن معجزة تمنع بالذات والعرض عن التحريف، فمن الآيات ان لم يحصر الأمر بفضح التحريف، بل أخبر عن اهله وموضوعه واضراره وجاء بما لا تصله يد التحريف، وهو من مفاهيم (وان منهم) أي ان أهل التحريف ليس منكم بل من غيركم مما يعني ان هؤلاء لا يستطيعون ان يؤثروا على القرآن، وهذا لطف منه تعالى على المسلمين والناس جميعاً.
وتضمنت الآية معاصي عديدة هي:
الأول: لي الألسن، وذكر ما ليس من الكتاب.
الثاني: محاولة ايقاع الشبهة على المسلمين وجعلهم يظنون انه من التنزيل، كما في تبديل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر صفات اخرى غير المذكورة في التوراة والإنجيل.
الثالث: الإخبار الإلهي بان اللبس والتحريف ليس من التوراة أو الإنجيل.
الرابع: اخبار الآية عن ادعاء افراد هذا الفريق من اهل الكتاب بان الذي يأتون به بلي السنتهم انما هو من التنزيل ويتجرأون في التعدي فينسبونه الى تعالى، ويجعلونه بعرض واحد مع التنزيل وكأنهم يشيرون الى الإكتفاء بهم وعدم الحاجة الى غيره.
الخامس: جاءت الآية لتؤكد حاجتهم والناس الى القرآن بذاته وباخباره بان الذي يدعون ليس من القرآن ولا من التنزيل مطلقاً، وجاء النفي مطلقاً ليشمل مراتب الوحي والتنزيل المتعددة.
السادس: الإخبار القرآني بانهم يفترون على وهذا الإفتراء اعم من لي الألسن موضوعاً وحكماً، وفيه ذم صريح لهم وتحذير للمسلمين منهم ليس في موضوع لي الألسن وحده بل مطلقاً، سواء في احكام العبادات او المعاملات او البشارات والتنزيل.
السابع: قيام الحجة عليهم بانهم يعلمون بما يفعلون من الإفتراء والكذب.
وقد تكرر لفظ الكتاب في هذه الآية ثلاث مرات، وهو عدد غير قليل، وفيه توكيد على موضوعية وأهمية الكتاب في العقائد والحياة العامة، كما تكرر بذات العدد في قوله تعالى [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ]( ).
وفيه توبيخ لإخفاء مضامين الكتاب واخبار عن مجيء القرآن بكشفها وبيانها، مع كفايته وانه ضياء ونور سماوي مبين لأحكام الحلال والحرام.
ومع ان الآية في مقام التعليم والتحذير في أهم مسائل الحياة وهي أمور التنزيل وما يتفرع عنه من أحكام الحلال والحرام، فإنها جاءت بصيغة الإشارة والتلميح والكناية (يلون السنتهم) وفيه مسائل:
الأولى: فيه دلالة على ارتقاء المسلمين في ميادين المعرفة الإلهية.
الثانية: اختيار فتل الألسن مرآة للتحريف والرغبة والميل له ، وهذا اللي يحتمل أمرين:
الأول: ارادة الحقيقة وانهم يقومون بفتل السنتهم اثناء المجيء بزيادة وتحريف في الكتاب، او تغيير في البشارات.
الثاني: قصد الإستعارة والمجاز وان المراد ليس الحقيقة بل ان اختيار التحريف يكون مفضوحاً وظاهراً في كيفية الكلام، وما يحتاجه من التكلف.
الثالثة: انه عقوبة عاجلة، وابتلاء حاضر لما في التحريف من الإثم والذنب.
الرابعة : تتضمن لغة الكناية التعريض والتقبيح ، لتكون زاجرا عن لي الالسن ، والنفرة منه.
الرابعة: بيان فضله تعالى في حصانة الكتب السماوية، ووقايتها بان يبدو الأثر والضرر على من يقوم عليه
وجاء لفظ الألسن بجمع التذكير، وجمع التأنيث السن، ولعل في جمع التذكير اشارة الى مراتب هذا الفريق وانهم ليس من العامة بل من الرؤساء وان كلامهم له أثر وتأثير، لولا ان تأتي هذه الآية بفضحه وذم أهله فيلحقهم الخزي وتبقى الآية وثيقة سماوية تزجر عن التحريف في الكتب المنزلة، وهذا الزجر لا ينحصر بالتحريف ابتداء، بل يشمل محاكاة التحريف ونقله وتمنع من توارثه فهي اعلان يومي متجدد يحذر الناس من التعدي على حدود .
وفي الآية أمران متقابلان:
الأول: قيام فريق من أهل الكتاب بالخوض في الكتاب ليظن المسلمون ان ما يقولون من التنزيل والكتب السابقة.
الثاني: النفي السماوي المطلق لنسبة كلامهم للكتاب كالتوراة والإنجيل، وهذا النفي لا تصل اليه يد التحريف والتغيير والتبديل، مما يعني انتفاء اثر قيام هذا الفريق بلي السنتهم والى يوم القيامة، وان اقاموا على تلك الحال، واستعانوا بالكتابة والنشر ووسائل الإعلام، فهذه الآية تلاحقهم وتفضحهم وتدفع عن الناس اذى التحريف وما فيه من اللبس.
أسباب النزول
الأول : أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال هم اليهود كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل ( ).
الثاني : أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن وهب بن منبه قال ان التوراة والانجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله فاما كتب الله فهى محفوظة لاتحول( ).
الثالث : نزلت في جماعة من أحبار اليهود ، كتبوا بأيديهم ما ليس في كتاب الله ، من نعت النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” ، وغيره وأضافوه إلى كتاب ، عن ابن عباس( ).
الرابع : انهم طائفة من اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل وضربوا بعضه ببعض والحقوا به ما ليس منه( ).
التفسير
قوله تعالى[ وَإِنَّ]
بدأت الآية بحرف العطف (الواو) للإخبار عن اتصال موضوع الآيات، واتحاد اشخاص موضوعها على نحو الإجمال، بلحاظ ما تقدم من الآيات التي تتعلق بطائفة من أهل الكتاب، وهذا من اعجاز القرآن في مجيء عدة آيات بخصوص جماعة مخصوصة من وجوه:
الأول: بيان عدائهم وايذائهم للمسلمين.
الثاني: تعدد وجوه هذا الإيذاء، فكل آية تأتي بعدة أفراد منها، فهذه الآية الكريمة تضمنت مسائل:
الأولى: ذكر قيامهم بالتحريف عن قصد.
الثانية: نسبة هذا التحريف الى الكتاب والتنزيل.
الثالثة: ادعاؤهم ان التحريف الذي يذكرون هو من .
الرابعة: افتراؤهم على ، واختيارهم الكذب في التنزيل موضوعاً وحكماً.
الخامسة: علمهم ومعرفتهم بسوء صنيعهم، وقبيح ما يفعلون، وهذا التعدد في الآية الواحدة من بين هذه الآيات يبين الجهاد المتصل للمسلمين.
الثالث: تفضله تعالى بدحض شبهتهم، وابطال حجتهم، وفضح تعديهم وظلمهم، وهذا الفضح فيه مسائل:
الأولى: عدم تأخره عن قولهم وادعائهم، ولكن عدم التأخر هذا لا يعني الإتصال في الأثر والتأثير، بل انه يتضمن وجوهاً:
الأول: بقاء أثر التعدي والتحريف في الواقع، مع وجود الآيات التي تفيد الإنذار والتحذير منه.
الثاني: عدم انتفاء الإنصات للتحريف، وخيانة الأمانة وودائع المسلمين مع ايذائهم بذات الخيانة ونكران الأمانة او بمفاهيم التحريف .
الثاني: انقطاع أثر التعدي والإيذاء، فحالما تأتي الآية بفضح سوء فعلهم، فان الناس يلتفتون الى حال الكذب والتحريف والتعدي، ويرفضون الإنصات لهم، وهذا الرفض على شعب:
الأولى: اعراض المسلمين عنها، وعدم اعتبارهم لما تقوله تلك الطائفة.
الثانية: عدم رضا أهل الكتاب على التحريف والكذب والباطل الذي تأتيه تلك الطائفة.
الثالثة: عدم تصديق المشركين وغير المليين لما يقوله هؤلاء، فقد كان الناس ينظرون الى أهل الكتاب باعتبارهم يعلمون بما ورد في التنزيل وانهم اتباع الأنبياء وعندهم أخبار النبوة، ما مضى وما سيأتي منها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من افاضات القرآن على المسلمين والناس كافة، ودلالات حجته البالغة عليهم، وحصول الإنتفاع منه ولو على مراتب متباينة، فالناس يركون الحقائق العقائدية والكونية في الأرض، وان كان هذا الإدراك متباينا.
ويمكن تقسيم الناس الى قسمين:
الأول: من يكون صادقاً فيما ينقل عن .
الثاني: الذي يكذب في ادعاء نسبة ما يقول الى تعالى.
ومع تعدد مصاديق كل قسم من هذين القسمين الا ان الثابت زعامة وامامة المسلمين للقسم الأول، اما الفريق الذي ذكرته هذه الآية فهو من مصاديق القسم الثاني.
وابتداء الآية بالحرف (إن) بعد الواو يفيد التوكيد وفيه مسائل:
الأولى: توكيد وجود هذا الفريق.
الثانية: عدم امكان نفيه، أو إدعاء عدم وجوده.
الثالثة: اثبات وجود شاهد على حصول التحريف عندهم، وموضوعيته في أقوالهم وأفعالهم.
الرابعة: الآية دعوة لأهل الكتاب للبحث عمن يحرف التنزيل منهم، وتدارك الأمر بالكيفية المناسبة.
الخامسة: تحذر الآية المسلمين من التهاون في هذا الباب والظن بعدم وجود مثل هذا الفريق.
السادسة: تمنع الآية المسلمين من الجدال والخلاف فيما بينهم بخصوص هذا الفريق من أهل الكتاب، فلولا هذه الآية وما شابهها لأنقسم المسلمون الى فريقين أحدهما يقول بذهاب فريق من أهل الكتاب للتحريف ولي الألسن، وآخر ينفي قيام أهل الكتاب او شطر منهم بالتحريف، وتتعدد اسباب هذا الخلاف منها اذ ان فريقاً من المسلمين يسمع التحريف والآخر لا يسمعه ، ففي هذه الآية منافع منها:
الأولى: تجعل الآية المسلمين بمرتبة واحدة من جهة التثبت من وجود هذه الطائفة التي تقوم بالتحريف وتغيير الحقائق.
الثانية: الآية رحمة وفضل إلهي متجدد بمعرفة المسلمين لأحوال الأمم السابقة وعملهم.
الثالثة: تأهيل المسلمين للجدال والإحتجاج على أهل الكتاب من وجوه:
الأول: تعيين مواطن التحريف.
الثاني: فضح التحريف.
الثالث: الرد عليه بالحجة والدليل.
الرابعة: الإحتراز الذاتي من التحريف، فمتى ما عرف الإنسان عدوه فانه يعمل على الإحتراز والتوقي من شره وأذاه.
السابعة: دعوة المسلمين الناس للرجوع الى القرآن ومعرفة الحق من الباطل، بعرض الأقوال والأفعال عليه، لأن التوكيد بالحرف (إن) لا ينحصر بالجدال بل هو أعم ويشمل عالم الأفعال.
الثامنة: ارادة الإستغراق الزماني بهذا التوكيد ليشمل الزمن الماضي والحاضر ، اما المستقبل فيستقرأ شموله بمضمون الآية من خلال اطلاقها، واستدامة موضوعها وأحكامها لأن الآية لم تنزل لزمان دون زمان، بالإضافة الى الوقائع التي تؤكد مضامينها، ومنها الإصرار على انكار ما تضمنته الكتب السماوية السابقة من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسعة: فضله تعالى في بيان هذا الواقع على نحو التوكيد، فلم يأتِ القرآن بالإشارة الى التحريف، بل جاء بصيغة البيان والوضوح والتوكيد.
العاشرة: تمنع الآية من اللبس وسوء الظن، والتردد والتعدد في وجوه التأويل، اذ انها جاءت بصيغة القطع.
الحادية عشرة: بعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين لقدرتهم على التمييز والفصل التنزيل والتحريف.
الثانية عشرة: السمو والإرتقاء العلمي عند المسلمين وحرصهم على الإيمان بالتوراة والإنجيل، فما طرأ عليهما من التحريف لم يكن برزخاً وحاجزاً دون الإقرار بهما، والتقائهما مع القرآن في النزول من عند تعالى.
قوله تعالى [مِنْهُمْ]
هذه الكلمة مركبة من كلمتين:
الأولى: حرف الجر (من).
الثانية: الضمير (هم)، والتركيب هنا يفيد أموراً:
الأول: التبعيض، والجزئية.
الثاني: تعيين الكل دون بعضه.
الثالث: حرف الجر اشار الى الجزء، اما الاسم المجرور فاشار الى الكل.
الرابع: المراد من الكل وجوه:
الأول: اليهود.
الثاني: النصارى.
الثالث: المذكورون في الآية السابقة بقوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً].
الرابع: الرؤساء من اليهود والنصارى.
الخامس: الرهبان من اليهود والنصارى.
السادس: رؤساء ورهبان اليهود.
السابع: أفراد الطائفة من أهل الكتاب الذين ذكرتهم الآية الخامسة والسبعون [وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا].
الثامن: فريق من الطائفة الكتابية التي قالت [آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ] ( ).
التاسع: من عموم الناس سواء أهل الكتاب أم غيرهم، وهذا الغير اما يحرف التنزيل من عنده او يقوم به اقتباساً وحكاية عن جماعة من أهل الكتاب والصحيح هو الخامس، والتقدير” وان من اهل الكتاب فريقا”. ويدخل فيهم الرؤساء والرهبان.
العاشر: المراد هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب من ذكر على نحو الخصوص في اسباب نزول الآية، وان كانت أعم موضوعاً وحكماً.
ومع ما في لغة التبعيض من الإجمال، فان الآية تحصر أصحاب الآية وان موضوع التحريف أعم، وقد لا ينحصر بهم فاثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ولكن الآية تؤكد حقيقة وجود التحريف وعلى فرض وجود غيرهم ممن يقوم بالتحريف وتبديل الكلم عن مواضعه، وتغيير الصفات التي جاءت بخصوص الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فان هذه الآية حرز وواقية منهم، وجاءت بذكر الفرد الأهم والذي يكون أكثر تأثيراً واثراً ويستمع له الناس وان جاءت هذه الآية لتقطع عليه الطريق، وتكون مصداقاً لقوله تعالى [مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ).
للتبادر ولأن إختراع التحريف او تنزيه التنزيل عنه يقوم به الزعماء الدينيون وعلماء الطوائف في الغالب ، فمن وظائفهم تنقيح الأخبار وضبط المتون، ومعرفة تراجم الرجال، وهم على أقسام:
الأول: أهل الضبط والتحقيق.
الثاني: الذين يقومون بالتحريف وكتمان الحقائق.
الثالث: من ليس له أثر في الموضوع والحكم.
الرابع: من يجمع بين الأمرين، فيكون تارة من اهل الضبط والتحقيق وأخرى من الفريق الذين يقومون بالتحريف، فيلحق بالفريق الأخير باعتباره أخس الفريقين، ويكون من مصاديق الآية ولو على نحو السالبة الجزئية.
قوله تعالى [لَفَرِيقًا]
الفريق الطائفة والجماعة من الناس، مأخوذ من تفرق المتحد والشيء الى فرق، “وقال ابن منظور: الفرقة: طائفة من الناس، والفريق أكثر منه”( ).
وقد وردت الآيات السابقة بذكر طائفة من أهل الكتاب فأيهما اكبر الطائفة ام الفريق ، الجواب هو الثاني لقوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( ).
وهذا التباين بين أهل هذه الآية والآيات السابقة له دلالات:
الأولى: الذين يقومون بالتحريف اكثر عدداً من الذين يقولون[آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ] لأن القائل طائفة، والذين يلوون السنتهم بالكتاب فهم فريق والفريق أكبر.
الثانية: استمرار التحريف واتصاله وتوارث الأجيال له.
الثالثة: شدة أثر التحريف وتأثيره على الناس في عقائدهم، بينما التظاهر بالأيمان محدود الأثر وسرعان ما يستبين أمره وتأتي الآيات اليومية للتنزيل وما فيه من الإعجاز، والبراهين التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لهذا التظاهر، ومانعة من أثره، اما التحريف فانه يدب في المنتديات والمجتمعات، ويترك أثره في التراث والآداب والحكايات والقصص.
الرابعة: عظم الذنب وكبر الإثم في التحريف وتغيير الكلم عن مواضعه، فقد تقدم قوله تعالى [ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ] والرغبة بالإضلال غير فعل ما يؤدي الى الإضلال، كما ان المراد من التحريف اضلال الذات والغير، وكذا بالنسبة لما أمروا اصحابهم بالإيمان اول النهار والكفر آخره.
الخامسة: امكان الجهاد وفضح قصد الإضلال والنفاق، وكل فرد منها قضية في واقعة، تتوجه نحوه اليهود اما التحريف فهو أعم وتتعدد اشخاصه.
وتدل الآية على ان ما يواجه المسلمين من التحدي الذي ذكرته هذه الآية أعظم وأكبر من موضوعات الآيات السابقة من وجوه:
الأول: التجرأ والتعدي على التنزيل والعقائد.
الثاني: كثرة القائلين بالتحريف وعلة وسبب هذه الكثرة على وجوه:
الأول: عدد الذين يصغون للتحريف، ويحاكون أهل التحريف فيكونون منهم عن قصد.
الثاني: اتساع وشيوع التحريف.
الثالث: التباين الزماني بين التحريف وغيره من وجوه الإيذاء ومحاربة المسلمين المتقدمة الأخرى.
فمن مضامين ومسائل التحريف ما هو متقدم زماناً على نزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما رغبتهم بضلالة المسلمين ودعوتهم للإيمان اول النهار والكفر آخره فجاءتا مقترنتين بالدعوة الإسلامية.
الرابع: تعدد وكبر الأضرار التي يسببها التحريف، بحيث تتجه الكثرة للقول به، ويبين تعاقب الآيات وكثرة عدد الذين يقولون بالتحريف بالمقارنة مع غيرهم ضرورة التصدي للتحريف ومن فوائده:
الأولى: الإخبار عن حقيقة وهي طرو التحريف على الكتب السماوية.
الثانية: السعي لتنزيه الكتب السماوية مطلقاً من التحريف.
الثالثة: تنبيه الناس الى وجود تحريف في الكتب السابقة، وهذا التنبيه يتضمن التحذير من قبول التحريف.
الرابعة: تدعو الآية في مفهومها الى الرجوع الى القرآن، لأن يد التحريف لم تصل اليه.
الخامسة: تبين الآية عظيم منافع القرآن والحاجة اليه، لأن الناس يريدون كتاباً خالياً من التحريف والتشويه.
السادسة: في الآية حث للمسلمين للتصدي للتحريف، ودعوة للجهاد العقائدي لمنع اثاره في الواقع، فشيوع التحريف بين اهل الكتاب عائق جزئي دون نشر المبادئ السليمة، والعلوم الصحيحة، وسبب للعناء الإضافي، وتأخر وصول التبليغ بالحق الى شطر من الناس.
السابعة: في الآية بيان لفضله تعالى بنزول الآيات وتوالي المعجزات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذه الآيات حرب على التحريف، وتثبيت للتنزيل، ودعوة للناس لإختيار الحق، وكشف للباطل والإفتراء على .
فنعت الذين يقولون بالتحريف بانهم فريق، وما يدل عليه من الكثرة والتعدد، توكيد لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وجاءت هذه الآية بذمهم وفضح ما هم عليه من الباطل والتعدي، فلابد من تعضيد لمضامين الآية ، ويتجلى هذا التعضيد بصفة التنزيل والقرآنية التي تتصف بها هذه الآية.
ان قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا] يفيد التوكيد بشيوع التحريف بين تلك الطائفة وان كان فريق منهم يقوم بلي الألسن والتحريف، اما باضافة حرف العطف الواو [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا] فيفيد توكيد تعدد الصفات المذمومة والتحذير منها.
وجاء التوكيد مكرراً بالحرف (ان) والحرف (اللام) في لفريقاً، وهذا التوكيد اللفظي له دلالات عقائدية تتضمن زيادة التحذير وتنبيه المسلمين الى أخذ الحائطة من التحريف وعدم الغفلة عن اهله، والتوكيد هنا من مضامين ووجوه الرحمة الإلهية.
قانون فضح التحريف
الفضح هو الكشف والبيان والشيوع، ويأتي فيالأمر السلبي والقبيح فيقال فضحه فضحاً أي كشف مساويه، والإنحراف عن الشيء: العدول عنه، وتحريف الكلم عن مواضعه: تغييره ومن نعم تعالى على الإنسان ان التنزيل مصاحب له في حياته في الأرض اذ بدأت الحياة الإنسانية على الأرض من آدم الذي هبط بشخصه وما عنده من العلم من الجنة.
وهذا الهبوط عنوان تشريف من وجوه:
الأول: تشريف للإنسان الذي بدأ حياته في الجنة، وبالصلات مع الملائكة ورؤيتها في مسكنها في السماء، والتنعم بالجنان وما فيها من الآيات والبهاء والنعم التي تعجز عن تصورها الأذهان.
الثاني: تشريف للأرض ان يحل بها من نفخ فيه من روحه، واسكنه جنته، وهذا الحلول سكن دائم وزيارة محدودة، وهو من اجتماع النقيضين من غير تعارض بينهما للتباين بالمحل ،اما السكن الدائم فالوجود الإنساني الى يوم ينفخ في الصور، وأما الزيارة فمدة حياة الشخص الواحد من البشر، يبقى في الأرض مدة عمره ليعمل ويؤدي وظائفه العقائدية والأخلاقية ومنها اجتناب التحريف.
الثالث: اضفاء صبغة كريمة على الحياة الإنسانية في الأرض، اذ انها فرع الحياة في الجنة، فمن الآيات ان الوجود الإنساني لم يحصل ابتداء على الأرض، بل بدأ في الجنة وما فيها من مضامين الإكرام والتقديس للأرض من وجوه:
الأول: الحال بها، وانه من اهل الجنان.
الثاني: سمو المحل السابق ، وتترشح بركاته على المحل اللاحق.
الثالث: عدم حصول هذا الإنتقال والهبوط الا بأمره تعالى، وهذا الأمر عنوان تفشي الفضل الإلهي للإنسان في حياته على الأرض، ومن وجوه الفضل نزول الكتب السماوية، ولا ينزل الكتاب السماوي الا على نبي من الأنبياء ووظيفة الوحي والتنزيل لا تنحصر بالنبي وأصحابه واهل بيته وزمانه، بل تأتي لهم ولغيرهم من الناس ويكون الكتاب أمانة عند النبي وعندهم جميعاً، وهو من عهد الذي جاءت الآية السابقة بلزوم تعاهده، وذم الذين يفرطون به، ويشترون به ثمناً قليلاً.
فجاءت هذه الآية لبيان موضوعية تعاهد الكتاب نصاً وحكماً ومعنى، وهذا التعاهد من عهد الذي يجب عدم التخلي عنه لقاء ثمن قليل من حطام الدنيا، ويجب ايلاؤه عناية خاصة، ومن عمومات اللطف الإلهي انه سبحانه لم يترك الإنسان وشأنه في خصوص حفظ الكتاب او عدمه.
بل جعل قانوناً يحكم أهل الأرض وهو “عدم تحريف التنزيل” فاذا تجرأ جماعة او طائفة وقامت بالتحريف وتغيير الكلم عن مواضعه فان يتفضل بنقض فعلهم، وابطال عملهم وفضح قولهم، وبيان سوء ما أرتكبوا، وهذا القانون ثابت في الأرض، وهو من القواعد الكلية في الحياة الإنسانية التي تبعث الغبطة والبهجة عند أهل السماء، وتجعلهم يدركون عظيم فضله تعالى باختيار الإنسان خليفة في الأرض واعانته على مسؤوليات الخلافة ومنها التنزه عن التحريف، فان قلت ان التحريف حاصل هذه الآية وشاهد عليه الجواب: تثبت الآية بطلان التحريف، وعدم تأثيره الا بخصوص القلة، وهو من مفاهيم الحياة الدنيا وما فيها من الإبتلاء.
وقد أطلقت اسم “فضح التحريف” على القانون والفضح عنوان حصول التحريف ولكنه امر مفضوح يشار اليه بالذم والتقبيح ويكون العمل بمضامين هذا القانون باباً للأجر والثواب ، وبرزخاً دون الظلم والتعدي سواء الظلم باتيان التحريف ابتداء، او محاكاة وتقليداً او بفعل ما فيه تحريف للأحكام.
ومن اعجاز القرآن تصديه لإبطال التحريف، وقيامه بفضحه ودعوة الناس للحذر والوقاية منه، ومقومات هذا القانون على وجوه:
الأول: نزول القرآن من عند على نبي محبور.
الثاني: التوكيد الإلهي بان يد التحريف لا تصل الى القرآن كي لا يستصحب الناس التحريف على سائر الكتب السماوية، ومن أجل منع تسرب الشك الى النفوس ، قال تعالى[ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثالث: اعانة المسلمين على حفظ آياته عن ظهر قلب مع تدوينه في المصاحف.
الرابع: نزول الآيات بالتنبيه على حصول التحريف في الكتب السابقة والتحذير منه.
الخامس: مجيؤها بما ينقض التحريف، وهذا النقض عنوان فضح اضافي، ودليل عملي على بطلانه وعدم صحته.
السادس: نزول القرآن بأحكام الحلال والحرام، والأوامر والنواهي وفيه دعوة لعرض ما عند الملل السابقة على القرآن، فما خالف القرآن لا يؤخذ به، مع امكان التمييز والتفريق بين النسخ والتحريف.
السابع: اتقان المسلمين لصناعة الجدل والبرهان بمدهم بمقوماتها ومقدماتها ومنها هذه الآية التي تبين كيفية التحريف وتشبهه على نحو الإستعارة بأنه لي الألسن بالكتاب.
الثامن: بعث اليأس والقنوط في قلوب اهل التحريف، وجعلهم يدركون سوء صنيعهم، مع توبيخهم وانذارهم بالعقاب الشديد والعذاب الأليم.
وتولي المسلمين مسؤولية حفظ معالم قانون “فضح التحريف” شاهد على أهليتهم لخلافة في الأرض، وهو شاهد على سيادة القرآن على الكتب الأخرى من وجوه:
الأول: خلوه من التحريف.
الثاني: الحماية والحصانة الذاتية من التحريف او طروه في المستقبل فلم يتسرب التحريف الى الكتب السماوية الا في الأزمنة اللاحقة لنزوله، اما القرآن فحصانته من التحريف مؤبدة ودائمة وهي فرد من اعجازه، كما ان هذه الحصانة حفظ للكتب السماوية السابقة وان تسرب اليها التحريف.
وهذا الحفظ يتجلى بامكان الفرز بين التنزيل منها والتحريف، والدعوة الى اللجوء الى القرآن عند الشك في بعض مضامينها كما ان الحاجة الإنسانية في العبادات والمعاملات توجهت الى القرآن وفيه الكفاية والنجاة في النشأتين.
وهل من اسرار في الجمع بين الكلمتين “منهم لفريقا” الجواب نعم من وجوه:
الأول: التبعيض لا يعني الفصل التام بين الكل وبعضه، في ذات الموضوع بلحاظ القرائن الدالة على التداخل.
الثاني: في الآية تحذير من الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب ومن الذين يستمعون لهم من أبناء ملتهم خصوصاً اذا كان الذين يقولون التحريف هم الرؤساء والرهبان.
ومن أهم وجوه قانون (فضح التحريف) السنة النبوية الشريفة اذ انها جاءت ترجمة للقرآن، وبياناً عملياً لكيفية الإمتثال واتباع الأوامر الإلهية في الحلال والحرام، وبرزخاً دون تسرب التحريف الى العبادات والفرائض، وفيه ترغيب اضافي للناس باللجوء الى القرآن والإعراض والى يوم القيامة عن التحريف.
بحث اعجازي
من أسرار هذه الآية عموم ضرر وإضرار التحريف فانهما لا ينحصران بالذين يتلبسون به، بل يشملان الآخرين من طائفتهم واتباعهم والذين ينصتون لهم، وهذا من اعجاز القرآن في لغة التبعيض التي جاءت بها هذه الآية والآيات المشابهة لها، وكنز من كنوز علومه، وسلاح يمد به المسلمين في مختلف أزمنتهم وتباين أمصارهم وتشابك الصلات الإجتماعية وتعدد صنوف المنتديات ووسائل الإعلام، وليس فيها الا التنبيه والتحذير، فلا يترتب بسبب خطأ الجزء وبعض الطائفة اثم او عقوبة على الكل لعمومات [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
الا ان يعملوا بالتحريف ويتركوا التنزيل، ولكن التنبيه أعم من الإثم والعقوبة ومن خصائص التنبيه ممايصدر من الطائفة والجماعة تنبيهها بالذات الى مساوئ الفعل الذي يقوم به بعض أفرادها، لذا فان القرآن نزل بلغة اياك أعني واسمعي يا جارة، فالتنبيه والتحذير جاء للمسلمين ولكنه عام ويشمل أهل الكتاب والناس جميعاً من التحريف وأهله وهذا التحذير لم يكن مطلوباً بذاته ولم يأتِ مجرداً بل هو وسيلة ومقدمة للدعوة لدخول الإسلام وأخذ الحقائق من المنهل الذي لم ولن تصله يد التحريف وهو القرآن.
فمن الإعجاز في التنزيل ان جاء التحذير من التحريف، مقترناً بوجود ما لم تطاله يد التحريف وهو القرآن بل ان الأمرين جاءا معاً فيه.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (يلوون السنتهم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية الكريمة.
وتدعو الآية المسلمين الى التدبر والتمييز فيما بين أهل الكتاب أنفسهم، والإلتفات الى تقسيمهم الى أقسام:
الأول: من يقوم بالتحريف وتبديل كلام .
الثاني: من لا يقوم بالتحريف.
وهل هناك برزخ وقسيم ثالث لهما وهو من لا يقوم بالتحريف ولكنه يتبع اهل التحريف ويعمل بما يحلون او يحرمون، الجواب نعم، ولكن هذا القسم يلحق بالأول، فهو فرع له.
وجاءت هذه الآية لإنقاذه من أوزار اتباع التحريف والتبديل، ودعوته للإلتفات الى حقيقة التحريف، فلعله اذا التفت له وعرف حقيقته أحترز منه ومن أهله، لتزداد عزلتهم، وتصيبهم الخيبة لنفرة الناس منهم لأن التحريف ولي الألسن بالباطل مخالف للفطرة والفعل.
قوله تعالى [يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ]
جاءت الآية ببيان التحريف وقلب التنزيل مضموناً وحكماً ولكن بصيغة صدور الفعل وجريان الكلام على اللسان من باب الإستعارة، والمراد قراءة الكتاب على نحو اللف والقلب وخلاف التنزيل، وفي الآية مسائل:
الأولى: نعتهم في الآية بانهم (فريق) ومع هذا فانها ذكرت فعلهم بصيغة الجمع وواو الجماعة، (يلون) مما يدل على التعدد وصيغة الإختيار وان كل واحد منهم يلي ويقلب الكلام عن موضعه.
الثاني: تدل الآية على تواطئهم على التحريف والكذب لأن صيغة الجمع أعم من التعدد فتشمل الإتفاق والإلتقاء على قول او فعل.
الثالث: جاءت الآية بصيغة المضارع (يلوون) مما يدل على الإستمرار في الفعل وركوب التحريف، مع التحذير والتوبيخ القرآني، والذي يقترن بصيغ الإحتجاج من قبل المسلمين.
الرابع: وردت الآية بصيغة الفاعل الذي ينحل بعدد القائمين بالتحريف، فكل واحد من هذا الفريق يقوم بلي لسانه.
ولا يحق لأحدهم القول اني اخذت التحريف من فلان، او يعتذر بالقول [إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ] ( )،
وفي الآية اعجاز من وجوه:
الأول: الآية حجة على كل من يقوم بالتحريف.
الثاني: تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين.
الثالث: توكيد حقيقة وهي وجود التحريف عند الملل السابقة.
الرابع: اصرار هذا الفريق على البقاء على التحريف، وشمول الآية للكتابة فيه وجوه:
الأول: الكتابة فرع القول، فكما يلوون ألسنتهم بالكتاب فانهم يكتبون التحريف بايديهم.
الثاني: القول فرع الكتابة، فهم يقرأون ما دونه الرؤساء والرهبان فيتحدثون به.
الثالث: استقلال موضوع كتابة التحريف [ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، والكتابة هنا على شعبتين:
الأولى: ما يكون اختراعاً من عند أنفسهم والقول بدعة.
الثانية: التحريف وتبديل بعض الكلمات،
وقد يقال ان هذا القسم فرع القسم الأول وان الفارق في مقدار التحريف وهل هو على نحوالسالبة الكلية ام السالبة الجزئية، ولكن الإختلاف نوعي وقد يكون التحريف من باب التهاون في الجزئيات والفروع ، او في التفسير او التأويل.
الثالثة: ارادة المعنى الأعم من لي الألسن فيشمل الكتابة ايضاً وان لم تكن الكتابة فرعاً للقول ، ويؤيده قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه للتداخل بينها، وارادة المعنى الأعم وشمول القول للكتابة خصوصاً ، وان الآية ذكرت متعلق لي الألسن وهو الكتاب، مما يعني ان القول من القراءة.
ولكن لماذا ذكرت الألسن دون الأقلام والكتابة فيه وجوه:
الأول: كفاية القول ولي الألسن لما فيه من الدلالة على التحريف مطلقاً.
الثاني: بيان لي الألسن أكثر حجة عليهم لظهوره.
الثالث: لي الألسن اعم واكثر من الكتابة في هذا الباب، لأن لي الألسن يشترك فيه المتعلم والجاهل، والذي يحسن القراءة والكتابة والذي لا يحسنهما.
الرابع: كثرة السامعين للقول بالنسبة لمن يقرأون المكتوب من التحريف.
الخامس: سهولة التحريف بالقول وعدم الحاجة الى التدوين والتوثيق، وما فيه من الحجة والإحتجاج.
وفي الآية اقوال هي:
الأول: ان يعمدوا الى اللفظة فيحــرفونها من حــركات الإعراب
تحريفاً يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية وبه قال القفال( ).
ولكن معنى الآية أعم، واللازم لم يثبت فالملزوم مثله.
الثاني: ان النفر الذين لا يكلمهم يوم القيامة ولا ينظر اليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم قالوا [هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، عن ابن عباس( ).
ولكن هذا التأويل أعم من أن ينحصر بهذه الآية الكريمة، ويصدق تفسيراً للآية السابقة لأنه يتضمن حرمانهم من نعمة التكليم والنظر الإلهي يوم القيامة.
الثالث: المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل، وهو الذي ذكره تعالى في قوله [ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
ولكن ليس من تقسيم في القرآن للكتاب الى كتاب حق وكتاب باطل فالمراد من الكتاب هو الحق والتنزيل، كما ان الضمير (الهاء) في تحسبوه لا يعود للكتاب، بالإضافة الى قرينة (لتحسبوه ) وما تعنيه من الظن وعدم الإرتقاء الى القطع .
الرابع: معناه يحرفون الكتاب عن جهته، ويعدلون به عن القصد بألسنتهم، فجعل تحريف الكتــــاب عن الجهة لياً باللســـان، وبه قال
مجاهد وقتادة وابن جريج والربيع( ) .
الخامس: يفسرونه بخلاف الحق، نسبه الطبرسي الى القيل( ).
ومن معاني لي الألسن في المقام ايضاً:
الأول: الجدال بالباطل، واثارة الشبهات في الكتاب.
الثاني: محاولة ايجاد تعارض بين القرآن والكتب السماوية السابقة كما في مسألة آية الرجم وانكار وجودها في كتبهم الى ان استشهد النبي بأحد علماء بني اسرائيل فاعترف به فقد روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا من ذوي شرف فيهم وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول الله صلى الله عليه وآله رخصة في أمرهما ، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فحكم عليهما بالرجم.
فقال له النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو جرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : بيني وبينكما التوراة قالوا : قد أنصفتنا ، قال : فمن أعلمكم بالتوراة ؟ قال : رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا ، فأرسلوا إليه فقدم المدينة وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : أنت ابن صوريا ؟ قال : نعم ، قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال : كذلك يزعمون.
قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بشئ من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له : اقرء ، فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها ، فقال ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها ، وقام إلى ابن صوريا ورفع كفه عنها ، وقرأ على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى اليهود بأن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى انتظر بها حتى تضع ما في بطنها ، فأمر رسول الله باليهوديين فرجما ، فغضب اليهود لذلك( ).
الثالث: الإعراض عن الحجة والبرهان، بالجدل والإعتراض، واجتناب لغة البرهان والتصديقات المعلومة التي توصل الى تصديق مجهول، والحجة التي تؤدي بصحيح النظر الى مطلوب خبري وقد ورد في الدعاء “اللهم ثبت حجتي في الدنيا والآخرة”.
قوله تعالى [بِالْكِتَابِ]
الكتاب لغة اسم للكتابة المحصورة بين دفتين، كما يرد الكتاب للوعاء الذي كتب فيه، ومن وجوه استعماله في الإصطلاح افادة:
الأول: اللوح المحفوظ ، قال تعالى [ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ] ( ).
الثاني: ما ينزل مع الأنبياء من الوحي وأحكام الحلال والحرام، قال تعالى [وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الثالث: التوراة التي أنزلت على موسى ، قال تعالى [ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ]( ).
الرابع: الإنجيل الذي أنزل على عيسى قال تعالى [وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ]( ).
الخامس: التوراة والإنجيل على نحو الإتحاد والإنفراد قال تعالى [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ]( ).
السادس: المراد القرآن الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون كتاباً جامعاً للكتب السماوية السابقة واماماً وناسخاً، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين [ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
والصحيح هو الوجه الخامس اعلاه لذا ورد نعتهم بانهم (اهل الكتاب) وبه جاءت هذه الآيات وان كان لي الألسن من طائفة وجماعة منهم، لذا افتتحت الآية بقوله تعالى [مِنْهُمْ].
اصطلاح بلاغي جديد “اللف المضمر”
من أفراد البديع (اللف والنشر) وهوذ كر موضوع متحد ومحمول متعدد او العكس بان يكون الموضوع متعدداً والمحمول متحداً، ويترك للسامع التفكيك والفصل وارجاع كل موضوع او محمول ٍالى ما يناسبه، وتتجلى البلاغة فيه بصيغة الإجمال، وامكان التفصيل، اما في القرآن فوظائفه متعددة وتبعث على ملكة الإستنباط والتأويل بلحاظ قانون “التفسير الذاتي” و”التفسير اللغوي” والقرائن ، والموضوع، وقد يكون اللف في الموضوع والنشر في المحمول، فيؤتى بمتحد، ثم يؤتى بالتفصيل والمتعدد، كما في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَر] ( ).
فجاء ذكرهما مجملاً ثم ذكرت الآية القبول من احدهما وعدمه من الآخر، وجاء التفسير ليبين ان الذي تقبل منه هو هابيل، والذي لم يتقبل منه هو قابيل.
وقد يشمل الإضمار اللف والنشر معاً، فيأتي كل منهما بصيغة الإجمال، وقد جاءت الآية بالإجمال هنا من وجوه:
الأول: لفظ الفريق، وفيه اجمال من جهة الكثرة والقلة، فهو من الكلي المشكك الذي يقع على مراتب متفاوتة.
الثاني: الجار والمجرور “منهم” وفيه اجمالان:
الأول: ما يفيده حرف الجر (من) من التبعيض والجزئية، ويقع على الجزء القليل والكثير من الكل.
الثاني: الاسم المجرور (هم) وما يتضمنه الضمير من اجمال خصوصاً اذا لم يسبقه اسم معين يعود اليه.
الثالث: لي الألسن، وما فيه من الكتابة وارادة التحريف والعدول بالكتاب عن جهته ومقصده.
الرابع: قوله تعالى [الْكِتَابِ] الشامل للتوراة والإنجيل، وقيام اليهود بلي السنتهم بالتوراة، وقيام النصارى بلي السنتهم بالإنجيل، على فرض المعنى الأعم للآية، وشمولها لليهود والنصارى.
الخامس: قوله تعالى [لِتَحْسَبُوهُ] وفيه اجمال لتعدد مراتب الحسبان والظن المعتبر وغير المعتبر، وهذا الظن غيري وليس ذاتيا لأنه متعلق بالمسلمين.
لكن المراد ليس التوراة والإنجيل على نحو الإطلاق، بل بالتفصيل أي التوراة بالنسبة لليهود، والإنجيل بالنسبة للنصارى، أي بتفكيك الآية على صيغة يمكن ان نطلق عليها اصطلاحاً جديداً وهو “اللف والنشر المضمر ، فكل طائفة من اهل الكتاب تتكلم بخصوص كتابها، وقد ورد من غير اضمار في قوله تعالى [ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( ).اي قال اليهود لن يدخل الجنة الا من كان يهوديا وقال النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصرانيا .
وجاء حرف الجر (الباء) مرادفاً للحرف (في) أي في الكتاب.
بحث بلاغي
ينقسم الكلام بلحاظ العلاقة بين اللفظ والمعنى الى حقيقة ومجاز.
والمجاز مشتق من جاز الشيء يجوزه، ويراد منه تعدي اللفظ من معناه الأصلي الى معنى آخر بشرطين:
الأول: وجود مناسبة او وجه شبه بين المعنى الحقيقي المنقول منه، والمعنى المجاز المنقول له، وتسمى المناسبة بينهما (العلاقة) لإرتباط وتعلق المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي بها، وتساعد في انتقال الذهن من الأول الى الثاني.
الثاني: القرينة: وهي الدليل الذي يفيد ارادة معنى آخر للفظ غير الذي وضع له، وتكون علة لصرف الذهن عن المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ، والقرينة على شعبتين:
الأولى: القرينة اللفظية، وهي التي يتضمنها الكلام ذاته كما تقول: تناولنا طعام الغداء عند حاتم، فالتناول قرينة لفظية لأرادة الرجل الكريم.
الثاني: القرينة الحالية: وهي التي تعرف من حال المتكلم و الموضوع، وهذا التقسيم استقرائي، والا فقد تصلح القرينة الواحدة على أي من القسمين، وقد تكون جامعة لهما، كما في قولك جلس معنا أسد، فالجلوس قرينة لفظية ، أما المعية فهي قرينة حالية تفيد ارادة الرجل الشجاع.
وينقسم المجاز الى قسمين:
الأول: استعارة، وهي استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له، لعلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المستعمل فيه، فالإستعارة تشبيه واشارة لتقارب وتداخل المعنى وهي مجاز لغوي، واركان الإستعارة ثلاثة:
الأول: مستعار منه وهو المشبه منه.
الثاني: مستعار له وهو المشبه.
الثالث: مستعار: وهو اللفظ الذي أستعمل منقولاً الى المعنى غير الأصلي.
الثاني: المجاز المرسل، ويراد منه المعنى المقصود بالذات وهو على أقسام.
وجاء لي الألسن استعارة في المقام في اشارة الى التحريف وقلب معاني التنزيل.
ولفظ الكتاب الوارد في الآية يحتمل وجوهاً:
الأول: التوراة.
الثاني: الإنجيل.
الثالث: التوراة والإنجيل.
الرابع: القرآن.
الخامس: التنزيل مطلقاً.
السادس: ما طرأ من التحريف والتغيير على الكتاب.
والصحيح هو التوراة والإنجيل وذكر الكتاب هنا لبيان ان لي الألسن يأتي على التوراة والإنجيل على نحو السالبة الجزئية، بل يتعلق ببعضها، وفيه اشارة الى ثبات ودوام بقاء التنزيل، والنفع العظيم من القرآن في تعاهد التنزيل وحفظ مضامينه.
ولو دار الأمر بين اثنين:
الأول: لي الألسن.
الثاني: بقاء الكتاب،متداولا بين الناس .
فان البقاء للكتاب باعتبار ان لي الألسن أمر عرضي طارئ لا يؤثر بذات ومضمون الكتاب، وفي الآية توكيد على موضوعية الكتاب عند الأمم السابقة واقرارهم بالتنزيل، وحث للمسلمين على حفظه وتعاهده وتنزيهه مما يطرأ عليها عرضاً من التحريف والتغيير،
وفيه دعوة للمقارنة بين المسلمين وغيرهم في كيفية العمل بالكتاب وأحكامه، فلا يوجد بين المسلمين من يقوم بقلب الآيات بل يحرص الجميع على قراءته على التنزيل، وهذه القراءة تمنع من طرو التحريف في التأويل، وان حصل تأويل خاطئ للآية القرآنية، او تم لمنافع خاصة فانه سرعان ما يزول ويتم الرجوع الى الأصل والظاهر ما دامت الآية ذاتها محفوظة وموجودة.
ولغة التبعيض في الآية (وان منهم) تبين وجود فريق آخر من أهل الكتاب لا يقومون بالتحريف ولي الألسن وتغيير معاني الكتاب، وفيه وجوه:
الأول: انهم يكتفون بقيام هذا الفريق بالتحريف.
الثاني: ليس عندهم رأي وقول في الأمر.
الثالث: اختاروا البقاء على تلاوة التوراة والإنجيل، واجتناب قصد التحريف وتبديل معاني الألفاظ، والصحيح هو الثالث، قال تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ]( ).
الرابع: يستمعون للفريق الذي يقوم بالتحريف، ويصدقون بهم، ولكن الآية تدل على ان الغاية من لي الألسن هي اللبس على المسلمين، ووجود فريق آخر من أهل الكتاب لا يعمل بالتحريف حجة على الذي يقوم بضرب الكتاب بعضه ببعض.
واذا كان هؤلاء يقومون بابتداع القول ونسبته الى الكتاب، فكيف نسميهم اهل الكتاب، الجواب من وجوه:
الأول: ان تسمية اهل الكتاب أعم ولا تنحصر باشخاص معينين منهم.
الثاني: لا ترتفع التسمية وقيد الإنتساب بسبب المعصية والذنب، بل بالعكس تكون عقوبة هذه المعصية أشد مع الإنتماء للكتاب.
الثالث: ارادة تخصيص الفئة التي تقوم بالتحريف والإختراع المنسوب للكتاب السماوي، و يستطيع المشرك والكافر ان يتجرأ على الكتاب السماوي، ولو قام بالتحريف لا يصدق ولا يؤخذ بقوله.
قانون التنزيل
لقد أراد للإنسان ان يكون مثالاً وعبرة للخلائق في العبادة والهداية، فجعل عنده العقل ليميز به الحق من الباطل، ويتدبر الآيات التي لا تدركها الحواس، بل وحتى الآيات المحسوسة تحتاج الى العقل في ادراكها واستنباط الدروس والأحكام منها.
ولكي تعلم الخلائق درجة الإنسان في ميادين المعرفة والتقوى جعل له الشيطان عدواً يحاول التأثير على النفس الشهوية والغضبية عنده وجعل كيد الشيطان ضعيفاً رحمة منه للإنسان، واعانة له على بلوغ منازل الأيمان والصلاح،
والإنسان ممكن وكل ممكن محتاج، بمعنى ان وجود العقل عند الإنسان لا يكفي لحاجاته وكم من انسان رجح بعقله كفة في العمل او القول وأختار امراً يحسبه الأحسن والأفضل ثم يبدو له خلاف ما رجح وحسب، مما يؤكد ملازمة الحاجة له، ومن لطف تعالى انه لم يترك للإنسان الإختيار في باب العقائد والوظائف العبادية وكيفية المعاملات، فأنزل الكتب السماوية تترى لتكون عنوان الهداية وحجة على الناس، وفاز الأنبياء بنيل مرتبة تلقي هذه الكتب والوحي ونسمي تنزل الكتب السماوية (بقانون التنزيل) ومن خصائصه:
الأول: ملازمته للإنسان في حياته ووجوده في الأرض.
الثاني: عدم نزوله الا على الأنبياء، بل ان صفة النبوة والرسالة تترشح من التنزيل.
الثالث: عموم نفع التنزيل، فمع انه لاينزل الا على الأنبياء فان نفعه أعم، وبعض الأنبياء يعمل بالكتاب الذي أنزل على غيره من الرسل خصوصاً وان مرتبة الرسول أكبر من مرتبة النبي، ولا يصبح الرسول رسولاً الا بعد ان يكون نبياً.
وقد أنقطع التنزيل بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى، ولكن هذا الإنقطاع لا يخل بصفة القانونية له، من وجوه:
الأول: بقاء ذات التنزيل بين الناس.
الثاني: علمهم بانه تنزيل ووحي.
الثالث:عمل أمة من الناس به،كما في عمل المسلمين بأحكام التنزيل.
الرابع: عدم طرو التحريف اليه وما قد يؤديه هذا التحريف من الإرباك وإحتمال عدم التمييز بين التنزيل والوضع.
لذا فان عدم التحريف عون للناس على العمل بالتنزيل، ومانع من الفرقة والخلاف والخصومة، فتفضل سبحانه تعالى، وعصم القرآن من التحريف، وكانت هذه العصمة مقدمة وشرطاً للإكتفاء بنزول القرآن، وصدق ديمومة وبقاء قانون التنزيل في الأرض.
ونعمة التنزيل وهي عامة لأهل الأرض، وأراد ان تكون هذه النعمة باقية دائمة، وبامكان أي انسان ان ينهل منها، ذكراً كان او انثى، فكان قانون الكتاب والمراد منه ما محصور بين الدفتين من التنزيل الخاص على رسول من الرسل، فالتوراة كتاب، والإنجيل كتاب، والقرآن كتاب.
ومع التباين الجزئي بينها وعو القرآن عليهما درجة تجدها تلتقي في اسم الكتاب مما يدل على عظم هذا الإسم، وماله من الشرف، ومنزلته العظيمة لا تنحصر بأهل زمان دون آخر، بل تشمل الأزمنة كلها، ومن الإعجاز ان التنزيل ينتهي العمل بأحكامه بنزول الكتاب التالي ولكن منزلته باقية على حالها لصفة الكتاب، ولم يتعاهد الكتب السماوية السابقة بالتنزيه الا المسلمون.
وهذا من مفاخر الإسلام وصدق الدعوة الإسلامية وأهلية المسلمين لخلافة الأرض لحفظهم مواثيق الأنبياء والكتب المنزلة من السماء، و الحفظ هنا من مصاديق أحكام قانون الكتاب، وقانون التنزيل من وجوه:
الأول: الإقرار بنزولها من عند .
الثاني: فضح ما طرأ عليها من الزيادة والنقيصة.
الثالث: الدعوة الى اكرامها وتقديسها.
الرابع: توثيقها وحفظها ليكون المسلمون شهوداً على الأمم الأخرى، ومدى عملهم بالتنزيل او قيامهم بالتحريف، وهذه الآية من الشهادة عليها، ومن اعجاز التنزيل بقاء قانونه مصاحبا للإنسان في وجوده في الأرض ، بالقرآن الخالي من التحريف ، والجامع لأحكام الحلال والحرام.
قوله تعالى [لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ]
الخطاب في هذا الشطر من الآية موجه للمسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: الآية من اللطف والعناية الإلهية بالمسلمين، فالله يرأف بهم، ويبين لهم ما يكيده الآخرون لهم.
الثانية: تحذير المسلمين من الإنصات الى من يحرف الكتاب.
الثالثة: الآية دعوة للحصانة العقائدية، والتفقه في الدين واجتناب الإصغاء الى اهل اللبس والإختراع.
الرابعة: تحث الآية اهل الكتاب على ترك الإبتداع ومحاولة اضلال المسلمين.
الخامسة: في الآية دعوة لهم بالرجوع الى الكتاب والتنزيل واجتناب التحريف والإضافة والتغيير.
السادسة: تؤسس الآية قاعدة كلية وهي عدم التصديق بما يقال بانه من الكتاب اذا تضمن التحريف والإبتداع ولابد من وجود ضابطة للفصل والتمييز بين الحق والباطل، والصدق والإبتداع، فيكون القرآن هو الحكم والفيصل، وهو الجامع لأحكام الشريعة، ومضامين التنزيل.
واللام في (لتحسبوه) تفيد التعليل، فعلة (اللي) هي اللبس على المسلمين، وظاهره انهم يعلمون بارادة الإختراع ويتعمدون قلب المعاني والمفاهيم واختيار التأويل الخاطئ.
والأصل ان يقوم أهل الكتاب باعانة المسلمين وكشف الحقائق معهم، واخبارهم بالتنزيل من غير تحريف او بدعة، وجاءت الآية بصيغة المضارع لإفادة الإستمرار والدوام، فلم ينحصر قصدهم بواقعة او حادثة شخصية، وجدال واثارة شبهة، بل أرادوا تثبيت البدعة والإختراع باعتباره جزء من الكتاب، وتعاقب الأجيال على الظن بانه من الكتاب، فاذا ذكروا اخباراً عن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مخالفة للبشارات التي وردت بحقه في التوراة والإنجيل فتصدر القرآن لفضح هذا الفعل، وبيان الحقيقة.
وكانت ولا زالت هذه الآية برزخاً دون استماع المسلمين للتحريف، ومن الآيات ان يشمل خطاب التحذير المسلمين بعرض واحد، ولم ينحصر بالعلماء منهم، وهو انحلالي موجه لكل مسلم ومسلمة وان تباينت مداركهم العقلية، مما يعني ان الحق بسيط ،والبشارات ظاهرة معلومة لكل الناس، واللبس أمر اضافي جاء به الإنسان ليحصل الإرباك والتردد والخلاف، فالآية الكريمة من آيات دفع الخصومة بين المسلمين بعدم طرو التحريف الى منتدياتهم ومجتمعاتهم.
وهذا من اعجاز القرآن، فسلامة المجتمعات الإسلامية من الخلاف والشقاق لا تنحصر بموضوع نزاهة القرآن من التحريف، بل تشمل التحريف في الكتب السماوية السابقة، ولكن أثره مقيد بالإنصات للفريق الذي يأتي به، ومن منافع هذا الشطر من الآية أمور:
الأول: العلم بالمقاصد والغايات من التحريف.
الثاني: ادراك ما يراد بالمسلمين من الميل عن سبل الهداية والإستقامة.
الثالث: الإمتناع عن قبول كل ما ينسب للكتب السماوية السابقة.
الرابع: بيان أهلية المسلمين لتلقي الإفتراءات، والعمل بمضامينها.
الخامس: الإخبار عن حال الإعتصام عند المسلمين، وأنهم أصبحوا امة تمتنع ذاتاً عن التأثير الضار.
السادس: بيان وظائف المسلمين بحفظ التنزيل والتصدي للتحريف فيه.
السابع: اليقظة والحيطة بلزوم حفظ القرآن من التحريف، ومنع التأويل الخاطئ لآياته، ولو سكت المسلمون عن التحريف في الكتب السابقة، وتلقوه بالقبول لعمل الآخرون على تحريف مضامين القرآن من جهة التفسير والتأويل، فتصدت هذه الآية الكريمة لهم وشغلتهم بأنفسهم، وفضحت تحريف الكتب السابقة، وهذا الفضح يمنعهم من التعدي والتجرأ على كتاب .
وحسب الشيء كذا يحسبه حسباناً ومحسبة: ظنه واحتمله، والحسبان لا يرقى الى درجة اليقين ، قال تعالى [فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا]( ).
وهذا من اعجاز القرآن ان يأتي اللفظ بما ينفي اليقين، وهذا النفي لا ينحصر بالواقع وحال المسلمين، بل يشمل الذين يقومون بالتحريف أنفسهم، أي انهم يلوون ألسنتهم بالكتاب وهم غير متيقنين من ترتب الأثر على فعلهم هذا، وعدم اليقين هنا له دلالات منها ان هؤلاء يعلمون بحصانة المسلمين، وعدم اصغائهم للتحريف والتغيير، وعدم الإصغاء يأتي من وجوه:
الأول: الإستغناء بالقرآن وما فيه من الأحكام.
الثاني: مجيء الآيات والمعجزات التي تثبت نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى انهم وان أخفوا البشارات وقاموا بتغييرها فان الآيات تثبت نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أقوى حجة وأثبت دلالة، وتتصف بالإمتناع عن التحريف خصوصاً وان آيات نبوته صلى الله عليه وآله وسلم عقلية باقية مع الزمان وتعاقب الأجيال.
الثالث: نسخ الشريعة الإسلامية لما سبقها من الشرائع.
الرابع: الخلل الذاتي في لي الألسن، فالعيب يظهر في ذات اللي والتحريف بقدر مخالفته للعقل والواقع، فتغيير او كتمان البشارات يفضحه توالي آيات النبوة.
الخامس: هذه الآية الكريمة التي تنعت هؤلاء بفتل الأخبار والآيات.
والضمير (الهاء) في لتحسبوه يعود الى التحريف والنقل وما يشبه الكتاب مما يلوون به ألسنتهم.
وفيه حجة عليهم بان يعرفوا الكتاب ويميزون بينه وبين الإضافات التي تطرأ عليه بحيث يتكلفون ويجتهدون لجعلها جزء منه، وتبعث الآية، اليأس والقنوط في نفوسهم، فهم يسعون لتثبيت اللبس والإيهام فيأتي القرآن ليفضح سوء فعلهم.
ومن مفاهيم الآية ان ادعاءهم التحريف ونسبته للكتاب منفي من وجوه وهي:
الأول: ان القائل به فريق من اهل الكتاب وليس الكل، ولو انه من التنزيل لكان عليه اجماعهم، وهذا الإجماع يحكى عن التوراة والإنجيل ،وبعد نزول القرآن تكون الحجة والمدار على بيانه وإخباره وأحكامه.
الثاني: قيامهم بلي الألسن وما فيه من التكلف، والحق عنوان بسيط لا يحتاج الى الفتل والمطل.
الثالث: الغاية من لي الألسن وهي جعل المسلمين يظنون بانه من الكتاب.
الرابع: دلالة قوله تعالى [لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ] على انهم يعلمون بانه ليس من الكتاب، لأن الحسبان من مصاديق الظن ، ولا يرقى الى اليقين.
الخامس: عدم تحقق غايتهم وسوء قصدهم، أي ان المسلمين لم يحسبوه من الكتاب لأنها رغبة مذمومة تصدى لها القرآن بالفضح عند عموم المسلمين بنزول هذه الآية المباركة.
وسيأتي مزيد بيان في الجزء الثاني والأربعين بعد المائتين في باب (قراءة قرآنية في التجري) .
قوله تعالى [وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ]
آية اعجازية أخرى في ذات الآية تخبر عن حكم هذا اللي وحقيقة التغيير ، ومن الإعجاز فيها:
اولاً: التوكيد على ماهية التحريف التي تحكم أقوالهم.
ثانياً: تفضله تعالى بالعناية بالمسلمين باطلاعهم على حقائق التنزيل، فالقرآن لم يأتِ بالآيات القرآنية وحدها، بل جاء ببيان حقيقة الكتب السابقة ولزوم تنزيهها مما يلحق بها من التحريف والتبديل.
ثالثاً: الكتب السماوية السابقة محفوظة عند وانه سبحانه يعلم ما يطرأ عليها من التحريف.
رابعاً: في الآية تحذير لهؤلاء الذين يتعدون على حرمات الكتاب المنزل.
خامساً: الآية دعوة لأهل الكتاب بالسعي لمعرفة التوراة والإنجيل الخاليين من التحريف والتبديل.
سادساً: في الآية تنزيه واكرام لجميع آيات القرآن، فان نعت أقوال هؤلاء بانها ليست من عند ، يدل في مفهومه على ان القرآن كله من عند .
سابعاً: التخفيف من أثر التحريف واخفاء البشارات، ومنع تأثيره على المسلمين، فاخبار القرآن بان مضامين اللي ليس من عند دعوة سماوية للإمتناع عن قبولها والأخذ بها، وحينئذ هل يبقى حسبانهم وظنهم بتصديق المسلمين لإدعائهم على حاله، الجواب فيه وجهان:
الأول: انتفاؤه وعدم بقائه لغياب الموضوع.
الثاني: بقاؤه في اذهانهم، ولكن أثره معدوم،
الأصح هو الثاني، ليكون وبالاً عليهم.
لقد بينت الآية العناية الإلهية بالكتب السماوية المنزلة وان تعالى يتعاهدها ويذب عنها ويفضح من يعتدي عليها ومن الإعجاز ان جاءت الآية بلفظ (الكتاب) وهو سور جامع مانع للتنزيل، فلم تقل الآية “لتحسبوه من التوراة والإنجيل، وما هو من التوراة والإنجيل” بل جاءت بلفظ الكتاب، وفيه وجوه:
الأول: بيان مضامين الإلتقاء بين القرآن من جهة، والتوراة والإنجيل من جهة أخرى.
الثاني: تحريض المسلمين على الذب عن الكتب السماوية السابقة.
الثالث: التنبيه والتحذير للوقاية من التعدي على القرآن في كلماته وتفسير آياته وتأويل مقاصده.
الرابع: إكرام التوراة والإنجيل ، وإرادة الأخبارعن بقاء صفة التنزيل لهما حتى بعد التحريف .
الخامس: إرادة المعنى الأعم للكتاب وشموله للكتب السابقة ، وما نزل من عنده تعالى على الأنبياء قبل القرآن ومن أيام آدم الى عيسى عليهما السلام.
السادس: جاء لي الألسن والفتل وقلب المعنى في التوراة والإنجيل وكل واحد ًمنهما كتاب سماوي فوجب على المسلمين التصدي لهذا الفتل لا اقل بالإعراض وعدم القبول، مع اظهار التمسك بالقرآن.
السابع: الكتب مطلقاً امانة بيد المسلمين، وهذه الأمانة من الكلي المشكك، اذ تتباين في مراتبها، فبخصوص التوراة والإنجيل يكون حفظ الأمانة بفضح التحريف والتصدي لأهل الإفتراء والضلالة، وتبلغ الأمانة ذروتها في صيانة القرآن بحفظ كل كلمة من كلماته، وتعاهد كل آية منه بالتفسير الصحيح والإمتثال التام والإحتراز المطلق من التأويل الخاطئ.
ولفظ الكتاب الوارد هنا، هل يراد منه ذات المعنى من لفظ الكتاب المتقدم في الآية أم غيره، فيه وجوه:
الأول: الإتحاد والتساوي في المراد من لفظ الكتاب في المقام.
الثاني: التباين والتغاير بينهما، فلفظ الكتاب هنا يفيد معنى غير المعنى الذي يراد من الأول.
الثالث: بينهما عموم وخصوص مطلق.
الرابع: بينهما عموم وخصوص من وجه، فيلتقيان في مادة، ويفترقان في أخرى.
والصحيح هو الثالث، فلفظ الكتاب هنا أعم مما سبقه، لبيان الإطلاق في النفي، وان الذي يأتون به لا صلة له بالكتاب والوحي والتنزيل، فحينما يحتج عليهم بان ما يذكرونه ليس من التوراة والإنجيل وان فريقاً من علمائهم لا يقولون به سواء كان نصاً او تأويلاً لا يستطيعون التدليس واللبس والقول بانه من الكتب السابقة للتوراة والإنجيل، وانه نازل على الأنبياء السابقين كنوح وابراهيم.
وهل يشمل لفظ الكتاب، والتنزيل اللاحق لهذه الآية من آيات القرآن بالإخبار بان ما يأتي على ألسنتهم من التغيير والتبديل ليس من سور وآيات القرآن التي تنزل على رسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب ان القدر المتيقن هو ما تقدم الكتب السماوية،والقرآن خارج بالتخصص، فلم تصل إليه يد التحريف، من غير تعارض مع دخول الآيات اللاحقة من القرآن في معنى الكتاب، ليتيقن المسلمون بان الذي يأتي الفريق الذي جاءت الآية بذمه ليس من التنزيل مطلقاً، ولابد من الإعراض عنهم، وابطال قولهم ودحض شبهتهم، والإحتجاج عليهم بالقرآن بإعتباره الكتاب الخالي من التحريف.
قانون صبغة الكتاب
لقد أراد للإنسان ان يكون قريباً من منابع العلم وأسباب الرحمة، ومن أعظم المصاديق التي تجتمع فيها مضامين الرحمة والعلم هو الكتاب المنزل، الذي يشع بأنواره لتملأ النفوس وتسطع على القلوب فتظهر على الجوانح والجوارح.
وقد تقدم قانون الكتاب، وقانون التنزيل، اما هذا القانون فيتعلق بماهية الكتاب ومعرفته، وسيأتي قانون (حصانة الكتاب) في الجزء التالي ويتعلق بحفظه وما جعل له من الواقية، ومن الآيات في الخلق ان صبغة وسمات الأمر السماوي تظهر عليه جلية وان كان موجوداً في الأرض وجزء من الواقع اليومي، ويعرفه الناس بادنى تأمل وكأنه من البديهيات التي لا تحتاج الى وسط وسبب خارجي لتصور طرفيها أي المحكوم عليه وهو ذات الشيء، والمحكوم به وهو سماويته.
فعندما يتدبر الإنسان في خلق نفسه ، وما جعل فيه من الآيات التي لاتعد ولا تحصى، يدرك اسرار نفخ الروح فيه وانها من عند ، وكذا بالنسبة للكتاب السماوي فانه يحمل بذاته الشهادة على سماويته، ويمتلك الأهلية للبقاء، وهذه الأهلية لا تتعارض مع تسخيره تعالى للمؤمنين لحفظه والعناية به، ومن خصائصه انه يمتاز بصبغة خاصة لا ترقى اليها كتابات وأقوال الخلائق وان أجتمعت، وهو المراد بقانون (صبغة الكتاب) وان تباينت مضامين ومراتب هذه الصبغة، اذ بلغت ذروتها وكمالها في القرآن والإعجاز في كلماته وآياته، فكانت كل كلمة منه فريدة لا يمكن استبدالها بغيرها وان كانت من المشترك اللفظي ورديفاً لها.
وهذا الإعجاز في القرآن يترشح على الكتب السماوية الأخرى من وجوه:
الأول: المعرفة الإجمالية لمضامين الكتب السماوية السابقة.
الثاني: التعيين والحصر القرآني للكتب السماوية السابقة كما في ذكره للتوراة والإنجيل والزبور ومنع ادعاء الناس بوجود كتب أخرى متعددة.
الثالث: اخبار القرآن عن حدوث التحريف والفتل والتغيير في الكتب السابقة.
الرابع: جعل القرآن هو الميزان والحكم الذي يعرف من خلاله سماوية التنزيل.
هذه الوجوه من منافع القرآن وسيادته على الكتب الأخرى وحاجتها اليه في بيان الماهية السماوية لها، وجعل كل انسان يستنتج بنفسه انتساب مفردات الكتاب اليه، وطرح التحريف او التشكيك به وعدم قبوله.
وهذه الصبغة ملازمة للتنزيل، وهي عون للناس على الأيمان واتباع الأنبياء، وجاء القرآن ليثبتها ويؤكدها ويحفظها على نحو مركب من وجوه:
الأول: ظهورها بوضوح في آيات القرآن.
الثاني: مجيؤه بما يؤكد وجود هذه الصبغة في الكتب السابقة، فللإعجاز في آيات القرآن قد يظن شطر من المسلمين ان الصبغة السماوية للكتاب تنحصر بآياته، فتفضل سبحانه وأنزل القرآن بما يؤكد وجودها في الكتب السابقة.
الثالث: فيه دعوة للناس لتطبيق الكليات على مصاديقها ودعوة للتتبع، وتمحيص الكلمات، ومعرفة ضوابط التنزيل والتدقيق بالغايات والمقاصد الظاهرة من الكلام، لأن الكلام السماوي يدعو الى عبادة وطاعة الأنبياء فيما جاؤا به من احكام الإنقياد لأوامره تعالى، وقوله تعالى [وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ]دعوة للتدقيق والتفقه في علوم وأسرار الكتاب السماوي ومعرفة صبغته وماهيته، ولم تأتِ هذه الدعوة مجردة بل جاء القرآن بقواعد وضوابط هذه المعرفة.
فهو الجامع لأحكام الحلال والحرام، والمبين للنبوات، والشاهد السماوي الحاضر على البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الشهادة تدل بالدلالة التضمنية على صدق نزوله من السماء، فمن أراد ان يعرف خصائص الصبغة السماوية للكتب المنزلة فعليه بالرجوع الى القرآن ومعرفة معانيه وأحكامه، وشهادته واخباره الخاصة بالكتب السابقة وفضحه للذين يلوون ألسنتهم في الكتاب.
وفي الآية اشارة الى تعدي هذا الفريق على مقامات النبوة، وعدم حفظ الأمانة وميثاق الأنبياء، فنسبة الإختراع الى الكتاب تعد على النبوة، وانكار جزئي لجهاد الأنبياء في تبليغ الوحي بما أنزل من غير تحريف او زيادة او نقصان، فنسبة القول الى الكتاب يعني بالدلالة الإلتزامية ان النبي الذي أنزل عليه الكتاب هو الذي أخبر به لحصر نزول الكتاب بالرسول، كما في نزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى.
قوله تعالى [هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]
لم يكتف افراد هذا الفريق بلي الألسن والتحريف، بل أضافوا له أمراً آخر وهو نسبته الى ، أي انهم لم يدعوا بان الذي يقولونه من التفسير والتأويل، وظاهر التنزيل، بل أدعوا انه هو التنزيل والكتاب السماوي، وفيه بيان لجرأتهم على وتعديهم على الكتب السماوية، وظهور الخلط والإرباك في مجتمعات المليين، وحاجتهم والإنسانية جمعاء الى كتاب لا تصل إليه يد التحريف، ولزوم وقف التبديل والتغيير في الكتب السماوية، وادعاء اضافة كلام زائد لها في الأجيال اللاحقة وما تسببه هذه الإضافة خصوصاً اذا اتفق وصادفت ملوكاً ورؤساء يصدقون بها.
ومن خصائص واو العطف في الآية (ويقولون) إفادة معنى التعدد في الإثم والتعدي، وأيهما اكبر اثماً لي الألسن بالكتاب بقصد التحريف والإيهام على المسلمين أم دعوى انه من عند ، الجواب هو الأخير فانه افتراء على ، والمعصية مركبة من وجوه:
الأول: توكيد التحريف بنسبته الى كذباً.
الثاني: اللبس على المسلمين، والإيهام بان الذي يأتون به ابتداعاً واختراعاً هو جزء من التنزيل.
الثالث: التقصير والإثم بعدم اكرام الأنبياء وقدسية الوحي، فقولهم (من عند ) يعني بالدلالة التضمنية الإفتراء على الأنبياء والكذب عليهم، وكأن هذا الشطر من الآية يتضمن الإخبار عن الزيادة في الإفتراء فبعد نسبة الزيادة الى الكتاب وما فيها من دلالة الإفتراء على الأنبياء جاء الإخبار عن نسبة ما يخترعون الى تعالى، وقد جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية في بيان حال التعدي التي هم عليه ولتنبيه المسلمين، وورد بصيغة الإنشاء والوعيد قوله تعالى [ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
ومضمون هذه الآية وما فيها من القول أعم من التدوين، لذا جاء الضمير (هو) في هذه الآية بقوله تعالى [هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] بينما جاء في الكتابة اسم الإشارة (هذا) بقوله تعالى (هذا من عند ) وافادة الضمير (هو) أعم و متعلقها ليس قولاً مخصوصاً وفعلاً معلوماً للإجمال في حال لي الألسن، والقول أعم بالإضافة الى انه يأتي ابتداء ومحاكاة وحكاية، اما الكتابة في الآية فهي معلومة يدل عليها اسم الإشارة.
قانون العصمة الذاتية
لقد جاء القرآن بآية اعجازية متكاملة ومركبة من وجوه:
الأول: الإخبار عما لحق الكتب السابقة من التحريف.
الثاني: التنبيه والتحذير من بلوغ أهل التحريف درجة التصريح وليس الإشارة والتعريض، وتوثيق اقوالهم وادعائهم انه من عند .
الثالث: مجيء القرآن بالحق وفصل الخطاب وأحكام الحلال والحرام الى يوم القيامة.
الرابع: عدم طرو التحريف عليه فلا تطاله يد التغيير سواء جعل غاية لأهل الضلالة وسعي الظالمين، ام بما يحصل مع تقادم الأيام والسنين، والقول بالصرفة او عدمها، أي ان صرف الناس عن تحريفه او انهم يعجزون عن تغيير كلماته ولو اشتركوا فيه.
فان قلت كيف يعجزون مع اشتراكهم لأن الإشتراك يفيد انعدام من يتعاهده ويحفظه، فلو أتفق اهل الأرض على تغيير كلمة او آية من القرآن والقيام بتبديلها عمداً مع العلم بالتبديل والتحريف فهل يتم، الجواب لا من وجوه:
الأول: استحالة حصول هذا الفرض، وهذه الإستحالة فرع فضله تعالى لوجود امة مسلمة في كل زمان تتوارث حفظ القرآن وصيانته مضموناً وتأويلاً الى يوم القيامة، وهذه الأمة لا تكون مستضعفة على نحو السالبة الكلية، بل لها شأن ومقام بين أهل الأرض بالقدر الذي يؤدي الى تنزيه وحفظ وسلامة القرآن من التحريف، وزمان العولمة شاهد على عظيم فضله تعالى بثبات القرآن وازدياد اشعاع أنواره في اصقاع الأرض المختلفة، وظهور مضامين علومه.
الثاني: العجز العام للناس عن إحداث التحريف والتغيير فيه، ويمكن ان يستقرأ هذا العجز من مفاهيم قوله تعالى [ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ]( ).
الثالث: الحصانة الذاتية للقرآن، بان جعله في حرز ولا تصل له يد التحريف موضوعاً ومحمولاً، فلا يمكن ان يحصل التحريف في التفسير والتأويل، وان قام به نفر او جماعة فسرعان ما ينكشف ويبدو زيفه.
فالحج مثلاً عبادة تؤدى بالطواف بالبيت الحرام والمناسك الأخرى كالوقوف في عرفة والمشعر الحرام والسعي بين الصفا والمروة، فلم ولن يأتي من يبدل هذه الأحكام، ليس هذا فقط بل ان القرآن جاء بالإجمال في مقام التفصيل ،والبيان ، ليكون دليلاً على ثبوته بالدقة العقلية وعدم امكان استغلال لغة الإجمال للتصرف والتعدد في الأقوال والخصومة، فقال تعالى [ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( ) ليشمل الحج أشهر شوال وذا القعدة وذا الحجة مع ان مواقيت مناسكه ثابتة على نحو التعيين اليومي، فالوقوف في عرفة مثلاً في التاسع من ذي الحجة، والحج الأكبر يوم العاشر منه ،وهو امر ثابت ومستديم ، وهذا الثبات عنوان لصلة كل جيل مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذا الأمر في الصلاة اليومية وهي عمود الدين فلم يأتِ القرآن بكيفيتها على نحو التفصيل او ذكر اوقاتها بالتصريح، فجاءت السنة النبوية الشريفة لبيانها ولتبقى ثابتة الى يوم القيامة، فكيف بالآيات التي نزلت بالنص وبما لا يقبل التغيير والتحريف.
الرابع: تضمنت هذه الآية فضح التحريف في الكتب السابقة وملاحقته وتوبيخ اصحابه وذمهم، وهذا الفضح واقية للقرآن نفسه بان لا تطاله يد التحريف، وكأن التحريف والفتل في التنزيل توقف وأنحسر بنزول القرآن، وانفرد القرآن من بين الكتب السماوية بقانون (العصمة الذاتية) وهذا الإنفراد يدل على علو مرتبته، وانه جزء أساس من مقومات الحياة في الأرض وأثره في الميادين العقائدية والعلمية والتأريخية والإجتماعية والأخلاقية.
وتجلت معالم هذا القانون بالقرآن ليكون فخراً للإنسان، وشاهداً على خلافته في الأرض، وتعاهده للتنزيل وكفارة لما جرى على الكتب السابقة وتداركاً للذنوب والتعدي الذي تم في باب نسبة التحريف والإضافات الى التنزيل من قبل بعض الفرق السابقة للإسلام، والعلقة بين القرآن والكتب السماوية في هذا الباب على وجوه محتملة.
الأول: ترشح معاني ومضامين انتفاء التحريف من القرآن الى الكتب السماوية الأخرى.
الثاني: تعدي آثار التحريف من الكتب السابقة الى القرآن.
الثالث: وجود الأثر لكل منهما على الآخر.
الرابع: عدم تأثر أي واحد منهما بالآخر، فما طرأ على الكتب السابقة لا يؤثر بالقرآن، وحصانة القرآن لا تؤثر ايجاباً على الكتب السابقة وما فيها من التبديل والتغيير، والصحيح هو الأول ، وهذه الآية من الشواهد الكثيرة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع ائتلاف اللفظ مع اللفظ، بان تأتي الألفاظ منسجمة ومتشابهة في صياغتها، وملائمة في سياحتها وتداولها وموضوعها، كما يكون الإئتلاف في المعنى بالإضافة الى الفخامة والجزالة وكثرة الإستعمال، مثل قوله تعالى [ وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( )،
فلأن الركون ميل الى الظالم، جاء وصف العقوبة بالنار بانها على نحو المساس، وفي هذه الآية جاء الإخبار بان هذا الفريق اراد ان يحسب المسلمون ما يلون به السنتهم من الكتاب والتنزيل فنفى كونه من الكتاب [وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ]، وعندما قالوا انه من عند ، جاء النفي الإلهي ايضاً [وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]، لوحدة النظم وحسن الجوار ومن معانيه البيان والوضوح وجاء البيان هنا بصيغة يفهمها كل قارئ وسامع لأن الآية جاءت في التصدي للبس والإيهام الذي يحاول هذا الفريق ايجاده فاراد التخفيف عن المسلمين.
وجعلهم أفراداً وجماعات يدركون ما طرأ على الكتب السماوية السابقة ومعانيها وتأويلها من التحريف ويحترسون منه، وتجمع الآية القسمين معاً وهما:
الأول: انسجام اللفظ مع اللفظ، وجاء النفي المطلق بالنسبة للكتاب وعائدية الكلام له تعالى، لتبين انه سبحانه يتفضل ويبين صدق او كذب الإدعاء ونسبة الكلام اليه ويذب عن كتبه التي تفضل وأنزلها على الأنبياء بان ينفي عنها الإختراع الذي أراد قوم الحاقه بها، وجاء النفي ملائماً في تركيبه مع الدعوى ومغايراً لها في المعنى والدلالة.
الثاني: ائتلاف اللفظ مع المعنى ومناسبته له في البيان والدلالة والإتحاد في التأويل والمعنى، فالدعوى بسيطة تتضمن الإضافة والزيادة على الكتاب مع انه لا يقبل الزيادة مطلقاً ، فجاء النفي بسيطاً واضحاً ليكون حجة وموعظة، وقد تكرر لفظ الكتاب وأنتهى التكرار بنفي انتساب قولهم الى الكتاب ، وفيه اشارة الى بطلان سعيهم وكيدهم.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “التفويض” وهو الإتيان بفن من فنون الكلام بجملة متعددة، مع تساويها في الرنة والنظم، وقد جاءت بالمدح والثناء على الباري في قوله تعالى [ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ] ( ).
اما هذه الآية فجاءت بعدة جمل متساوية في الرنة مع التباين في جهة الصدور بالحكاية عنهم والرد عليهم تكذيبهم، منهم يقولون ان ادعاءهم من التنزيل، ويخبر القرآن بالنفي بصيغة القطع بانه ليس من القرآن ويدعون هو من عند وما جاء به الأنبياء، فتأتي هذه الآية لتكون فيصلاً وفضحاً للباطل وبياناً للحق.
ومن وجوه البديع الجناس، وهو اتحاد اللفظ وتعدد المعنى وفائدته البحث على التحقيق وأعمال الفكر في استحضار معاني اللفظ وتعيين المراد من اللفظ في كل موضع من مواضع ذكره، واشترط في الجناس ان يكون كلاً من المعنيين وضع على اللفظ على نحو الحقيقة، فلو قال قرأت عن حاتم، وتغذيت عند حاتم لم يكن من الجناس لأن الأول حقيقة اما الثاني فهو من المجاز والمراد به الرجل الكريم.
وقد جاء لفظ الكتاب ثلاث مرات في هذه الآية، متحد الحروف والهيئة ولكن هل هو من المشترك اللفظي ذي المعنى المتعدد، فيصدق عليه انه من الجناس،أي كما ذهب اليه الإمام الرازي في قوله تعالى [يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ] وقال: “المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل، وهو الذي ذكره تعالى في قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ“.
والأرجح ان لفظ الكتاب في الآية يفيد معنى واحداً وهو النازل على الأنبياء والمراد به التوراة والإنجيل خصوصاً وان الآية جاءت في مقام التحذير والتنبيه للمسلمين فلغة التحذير تكون واضحة جلية لا تقبل التعدد، بالإضافة الى ما فيها من الذم والفضح لهذا الفريق في آية قرآنية للزجر والكف عن مواصلة لي الألسن ومفاهيم التحريف، بالإضافة الى الإختلاف بين الآيتين.
فهذه الآية تتعلق بالقول ولي الألسن مع وجود الكتاب ومحاولتهم الصاق القول به بينما جاءت الآية من سورة البقرة بالكتابة اختراعاً.
بحث كلامي
أحتج بعض علماء الكلام كما نقل الرازي واشار اليه الطبرسي على ان فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وقيل: لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم: انه من عند ولزم الكذب في قوله تعالى “انه ليس من عند ”، وذلك لأنهم أضافوا الى ما هو من عنده، والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده، ثم قيل: وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود اولى بالصدق من ( ).
وفي مثل هذه المباحث نتجنب احياناً ذكر القائل ومذهبه الكلامي وهل هو من المعتزلة او الأشاعرة او غيرهم لكي ينظر للمسائل وفق حكم الشرع ودلالة العقل، ومنطوق الآيات القرآنية، وما لها من مفاهيم بالإضافة الى موضوعية الجمع بينها من دلالات، ولتكون الفائدة أعم.
فوظيفة علم الكلام والعلوم الأخرى اثبات الصانع، واظهار علوم القرآن وكنوز الآيات وما فيها من المضامين القدسية.
والخلاف والخصومة واعطاء الأولوية لما يؤيد المذهب ويدحض حجة الطرف الآخر اشغال للذات والغير، خصوصاً وانهم ليسوا في ميدان خصومة وجدال، فكلهم جنود للقرآن والتوكيد على الإحتجاج لنصرة المذهب يحول دون تدبر الأسرار الملكوتية في ألآية القرآنية.
وليست الآية في مقام تأسيس قاعدة كلية وبيان موضوع المعاصي من خلق ومن فعله، أو انها ليست من عند ، بل جاء ت بخصوص قضية في واقعة وتتعلق بقول اهل التحريف ونسبة ما يدعون الى الكتاب المنزل من عند ، وتوكيد نفي هذا الإدعاء، فليس فيها اثبات او نفي نسبة المعاصي اليه تعالى.
ولا تصل النوبة الى التوبيخ للمخالف للرأي بقولهم”وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من ”.
ولا يصح رمي أي مسلم من المسلمين بهذا الكلام فضلاً عن العلماء انما المراد التباين في المعنى والجهة والقصد، وعند طرو الإحتمال يبطل الإستدلال فلا يصح الطعن، والإجماع على قيام فريق من غير المسلمين بادعاء الباطل، وتصدى القرآن لفضحه وتحذير المسلمين منه.
فالأولى عدم إتخاذ شطر من علماء الكلام له مادة للخلاف، ووسيلة للنزاع والإحتجاج فيما بينهم بل يجب ان يكون سلاحاً للإحتجاج على الذين يحرفون الكتاب، ومناسبة لحفظ القرآن، وضبط كلماته وحروفه ومعانيه، ومنع التعدي او التأويل الخاطئ لآياته الكريمة، وهو أمر يحتاج الى السعي العلمي الدقيق ونبذ الفرقة والخلاف.
والتحقيق في علوم الآية الكريمة أمر محمود ويظهر للناس معاني اعجازية فيها، ويضيء للمسلمين دروب الإرتقاء العلمي.
قوله تعالى [وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]
يفيد تكرار ادعائهم المغايرة في الموضوع (وقيل ان المعنى واحد بين قوله تعالى [لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ] وبين قوله تعالى [وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ولكن التكرار جاء بلفظ مختلف لغرض التوكيد( ).
ولكن المعنى متعدد، وفيه وجوه:
الأول: بيان الإصرار والعناد الذي عليه افراد هذا الفريق بنسبة ما يدعون الى التنزيل.
الثاني: انه من عطف العام على الخاص، لأن قوله من (من عند ) يشمل ما أوحاه الى الملائكة السابقين سواء الذي دون بين الدفتين كما في التوراة والإنجيل او الذي كتب في صحف ابراهيم او الذي توارثه المؤمنون واتباع الأنبياء.
الثالث: تعدد الإدعاء والنسبة، فمرة ينسبون قولهم الى الكتاب وأخرى الى الوحي وانه من عند وهذا التباين لوجوه:
اولاً: الإختلاف في درجة المخاطب فاذا كان من عامة الناس ولا يحقق فيما يسمع منهم قالوا انه من الكتاب، واذا كان من أهل الدراية وسألهم الدليل والحجة عن الذي يلوون به السنتهم قالوا انه من الوحي ومن عند .
ثانياً: ادعاء انه من الكتاب وعند الجدال والإحتجاج واثبات انه غير موجود في التوراة والإنجيل قالوا انه من عند ، بارادة المعنى الأعم للتنزيل والوحي.
ثالثاً: الإختلاف والتباين في موضوعات التحريف فموضوع ينسبونه الى الكتاب، وآخر يقولون انه من عند .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية.
الرابع: فيه اشارة الى عدم استيعاب التوراة والإنجيل لجميع مضامين التنزيل والوحي والا لإكتفوا بالقول انه من الكتاب ولما عادوا وقالوا بالمعنى الأعم وأنه من عند .اقتضى الأمر النفي والبيان
الخامس: بيان التجرأ والتعدي الإضافي بلحاظ ان الكتاب جاء به النبي فاذا ارادوا ان يظن المسلمون بانه من الكتاب فكأنهم نسبوه الى النبي، ثم جاءوا بظلم وتعدِ اكبر اذ نسبوه الى تعالى.
السادس: لي الألسن بالكتاب قد يكون تصريحاً او تلميحاً او اشارة بانه من الكتاب بلحاظ الغاية وهي الإيهام على المسلمين، اما قولهم [هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] فانه تصريح واصرار على التحريف، فهو من عطف الأكثر على الأقل، والأشد على ما هو أخف منه.
السابع: النظر للآية على نحو التفكيك الموضوعي، فهذا الشطر فرع مستقل ويمكن قراءته بتقدير يلوون السنتهم بالكتاب ويقولون هو من عند وما هو من عند ، وهذه الآية من عمومات قانون (فضح التحريف) اذ انها جاءت لنفي ادعائهم ونسبة ما يقولون الى تعالى، وفيها بيان للتباين بين ما يأتي من عند وما يدعيه هؤلاء ولو جاء ما يقولون ويلوون به السنتهم موافقاً للتنزيل، فما هو الحكم، الجواب هو ذات الرد والفضح والإخبار بانه ليس من عند لما للتنزيل من خصوصية، ولعدم انطباق التنزيل عليه، وفيه أمور:
الأول: ان لا يرضى ان ينسب كلام له افتراء عليه.
الثاني: لم يأتِ الأنبياء الا بالحق من عنده تعالى، وانهم لم يقولوا شيئاً من عندهم، ويتجلى بيانه في الفصل بين القرآن والسنة، وجعل كلام محصوراً بين دفتين، مع ان السنة ليس كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محضاً، بل هي بعناية ووحي منه تعالى، وفي التنزيل [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثالث : ليس من كلام يشبه كلام ، وإن كان من الكتب السابقة
للقرآن.
ومن فضله تعالى على المسلمين ان يقوم بتكذيب ما ينسب اليه، ويخبر المسلمين بالإفتراء عليه، ولابد ان يكون هذا الإخبار ثابتاً ليكون مانعاً من تجدد الإفتراء، وبرزخاً دون الإصغاء اليه، ومانعاً من المستحدث منه.
ومن اعجاز القرآن دلالات فضله على الكتب السماوية الأخرى عدم حدوث افتراء يذكر بعد نزوله ومجيء آياته بفضح التحريف، وما ينسب اليه تعالى زوراً، وتبين الآية وجود حرمات للكتاب المنزل ولا يجوز التعدي عليها.
وافتراء التنزيل ونسبته الى هل هو من الكبائر ام من صغائر الذنوب؟
أنه من الكبائر لما فيه من الظلم للنفس والغدر والإثم والإفتراء، وتكرر الضمير (هو) في الآية ثلاث مرات، بالإضافة الى الضمير في لتحسبوه، وكلها عائدة الى ما يلوون به السنتهم وينسبونه الى الكتاب، وهذا التكرار يفيد توكيد التحذير مما يفعلون.
قانون النقض السريع
من الآيات الإعجازية في القرآن ان يذكر قول لأهل الجحود والعناد ويأتي الرد والنقض متعقباً له من غير فاصلة بينهما، والذي تكرر في الآية بأمرين:
الأول: ادعاء فريق من اهل الكتاب للزيادة بانها من الكتاب، ومجيء ابطال هذا القول متعقباً له.
الثاني: قولهم انه من عند وتعقبه بالنفي وفيه مسائل:
الأولى: البيان والوضوح وعدم اللبس.
الثانية: اعانة الناس على التبصر في أمور الدين والدنيا.
الثالثة: ملائمة هذه الصيغة لجميع المدارك على اختلافها وتباين مراتب الناس، ودرجات معرفتهم.
الرابعة: اقامة الحجة على اهل الضلالة والجحود.
الخامسة: عدم علوق قولهم وحده في الوجود الذهني بل يكون معه نقضه وابطاله مما يساعد الإنسان على الهداية والرشاد.
السادسة: بيان مدى الظلم والتعدي في هذا القول.
السابعة: الحث على عدم شيوع مفاهيم الضلالة، ولزوم التصدي لها في الحال وفضحها وابطالها.
الثامنة: من مفاهيم هذا القانون، عدم التهاون والتفريط بخصوص الإفتراء والكذب على ، والتعدي على الحرمات فلابد من الفضح والتقبيح لسوء الفعل وفق مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه المتيسرة والممكنة.
لقد تفضل سبحانه بالرد المتعقب لمفاهيم الضلالة وهذا الرد نطلق عليه “قانون النقض السريع” وهو مدرسة عقائدية وجهادية وكلامية وباب للإحتجاج على الظالمين، ووسيلة لمنع اتساع اسباب الكفر والجحود، وسلاح لفضحها واصحابها، وفيه تخفيف عن المؤمنين من وجوه:
الأول: تصدي القرآن لأفكار الضلالة والجحود فهو سلاح سماوي حاضر في كل زمان ومكان يقوم بذاته بالرد على الكفار ودحض شبهاتهم.
الثاني: فيه دعوة للمسلمين لإنتهاج سبل القرآن في الإحتجاج والجدال بالحق، فلولا هذه الآيات ومضامين قوانين الإحتجاج لأختار فريق منهم الإعراض عن دعوى الكفار وشبهاتهم، وهذا الإعراض يؤدي الى انتشارها وشيوعها بين الناس على نحو الموجبة السلبية، ويضر بعقائدهم فجاءت الآية للتنبيه والتحذير من الإعراض وماله من الأضرار حتى على المؤمنين أنفسهم.
الثالث: الحصانة الذاتية للمسلمين من شبهات الضلالة والجحود، والإحتراز منها، والتوجه للعبادات واداء الوظائف الشرعية والرد القرآني دعوة للمسلمين للقيام بفضح الباطل بالسبل المتيسرة بحسب الزمان والمكان والحال، ومنها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والنشر، وهذا القانون من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ]( ).
ولقد جاء الرد المتعقب للتعدي والشبهات في أربع مواضع من الآية:
الأول: عندما لووا السنتهم بالكتاب لإيهام المسلمين بانه من الكتاب اخبر تعالى بانه ليس من الكتاب.
الثاني: ادعوا نزول الذي يقولون من عند ، وانه جزء من الوحي والتنزيل، على ثلاث شعب:
الأولى: انه من التوراة والإنجيل.
الثانية: من الكتب السابقة لهما كمصحف ابراهيم والزبور.
الثالثة: انه من الوحي الذي أوحاه الى الأنبياء مطلقاً، والوحي أعم من الكتاب فكل كتاب هو وحي، وليس كل وحي هو كتاب، والأرجح هو الأول، وارادة التوراة بالنسبة للفريق من بني اسرائيل.ولا مانع من الحاق الثاني والثالث به مع الدليل او القرينة .
الثالث: الإفتراء والكذب على ، ومجيء الرد بصيغة أخرى واقامة الحجة عليهم بانهم يعلمون بماهية ما يقولون وانه كذب وبهتان.
بحث بلاغي
من أهم وجوه البلاغة الإيجاز ويقابله الإطناب ومع التضاد بينهما فانهما يشتركان في تجلي معاني البلاغة في اللغة، ولا ينحصر موضوعهما باللغة العربية، لما فيهما من اعتبار للوجود الذهني واستحضار العقل للمحذوف في الإيجاز، والمتابعة في الإطناب كما يتعلق الأمر بالمتكلم وتعرف البلاغة عندما يجمل ويختصر في موارد الإجمال، ويطنب ويبين اذا استلزم الأمر التفصيل، ومن وجوه تقسيم الإيجاز انه يقسم الى قسمين:
الأول: ايجاز قصر، وهو الإتيان بالفاظ قليلة تفيد معنى كثيراً.
الثاني: ايجاز الحذف هو اختصار اللفظ، وذكر بعض الكلام بما يفيد تمام المعنى، أي ان الحذف لا يخل بالمعنى وله اسباب ومنافع، اما الأسباب فمنها:
الأول: الإختصار في الكلام.
الثاني: ظهور المعنى عند السامع مع الحذف، بحيث يكون ذكر المحذوف تفويتاً للمصلحة او تضييعاً للوقت وجهداً اضافياً.
الثالث: الإبهام ومخاطبة العقل بالتحليل والإستنباط.
الرابع: تعظيم الشأن بترك المحذوف مع الإشارة اليه اجمالاً.
الخامس: وضوح الدلالة على المحذوف، فيستغنى عن ذكره.
السادس: الإتيان بالقرينة المقالية التي تدل على الحذف.
السابع: وجود القرينة الحالية التي تجعل الذهن ينصرف الى المحذوف.
الثامن: التخفيف واجتناب الملل بعد تكرار المحذوف في الكلام.
التاسع: انحصار اللفظ بمعنى مخصوص ينصرف اليه كما في قوله تعالى [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ] ( ).
العاشر: شهرة المحذوف، فهذه الشهرة تغني عن ذكره، وتجعله أمراً زائداً.
الحادي عشر: اصالة التبادر أي ان معنى مخصوصا يتبادر الى الذهن عند سماع اللفظ.
الثاني عشر: الإكرام والإجلال عن الذكر.
الثالث عشر: تنزيه اللسان عن ذكره احتقاراً.
الرابع عشر: ارادة التعدد والمعنى الأعم.
الخامس عشر: افادة سياق الكلام المعنى، فيكون الإتيان به نوع تكرار لفظي لمعنى ظاهر ، اما المنافع فهي عديدة منها:
الأول: الإختصار وعدم الإطالة.
الثاني: اجتناب السأم والملل عند السامع.
الثالث: التخفيف في لغة الخطاب عن الطرفين المتكلم والسامع.
الرابع: حث المتكلم على اختيار اللفظ المناسب الذي يفيد الإختصار والإيجاز، ودعوة السامع للتدبر والتفكر.
الخامس: اضفاء طلاوة على الكلام، وجعل الإنسان يحب ان يتكلم والسامع ان ينصت.
السادس: حث السامع على استحضار المعاني المترادفة والمتعددة للفظ بلحاظ القصد والقرائن ونظم الكلام.
وجاء الحذف في قوله تعالى [وَهُمْ يَعْلَمُونَ] للإيجاز والإختصار وافادة المعاني المتعدد كما يظهر فيما ذكرناه من الوجوه لها، وفيه تتجلى مضامين اعجازية للفظ القرآني واحاطته باللامحدود من الوقائع والحوادث، واسرار شموله لأحوال النشأتين مع ما بينهما من الإلتقاء او الإختلاف والتباين.
قوله تعالى [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ]
جاء حرف العطف لبيان المغايرة وتعدد الذنب، والفعل القبيح ، فبعد لي الألسن، ونسبة التحريف اليه تعالى جاء نعتهم بالكذب على تعالى، وكما ان الثاني اعم من الأول أي ان قولهم انه من عند اعم من لي الألسن بالكتاب فان قيامهم بالكذب على أعم من الثاني، فجاء نعتهم بالكذب مطلقاً، فيشمل باب التحريف في الكتاب وغيره، وهو من عطف العام على الخاص ومن منافعه:
اولاً: افراد الخاص وهو لي الألسن بعناية خاصة، والحث على الإلتفات اليه، والإعراض عنه وفضحه.
ثانياً: التصدي للخاص ورفضه مقدمة لعدم قبول العام.
ثالثاًَ: حينما يرى الخصم رد وفضح الخاص فانه يتوقف في العام لإتحاد السنخية وانكشاف الذاتي فيه مطلقاً.
رابعاً: التعدد يفيد الكثرة سواء في باب المدح والثناء او الذم والتوبيخ، وجاءت الآية لبيان كثرة وجوه التعدي التي يقوم بها هؤلاء ويتناسب الضرر والاضرار طردياً مع هذه الكثرة.
وجاء هذا الشطر من الآية مرتين في القرآن، والأخرى قبل ثلاث آيات في ذات السياق والموضوع مع ورود الآيات بذم الذين يفترون على الكذب وما فيه من الإثم والذنب العظيم، قال تعالى[ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ]( ).
خامساً: بيان التداخل بين الخاص والعام فالعطف لا يعني دائماً بقاء الإستقلال لكل من المعطوف والمعطوف عليه، بل من خصائصه الإشارة الى وجوه التداخل بينهما من غير ان يؤثر هذا التداخل على الإستقلال والخصوصية لكل فرد من أفراد العطف.
سادساً: الإشارة الى نسبة العموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه بين افراد العطف.
سابعاً: التحذير من افراد العطف الثلاثة في الآية مجتمعة ومنفردة، فلها عند الإجتماع اضرار كبيرة ومنسقة وعند الإنفراد يكون لكل فرد منها اضرار خاصة.
ولتوكيد حقيقة وهي ان التصدي لدعوى انه من الكتاب لا يمنع من بقاء الإفتراء بانه من عند ،فجاءت الآية بالعطف ، ولزوم الحذرمن قولهم الكذب وفضحه والوقاية منه.
ثامناً: التعدد لبيان ما ينتظر هؤلاء من العقاب الأليم في الآخرة بلحاظ كثرة الذنوب والمعاصي وما ينتج عنها من شدة العقاب.
تاسعاً: تدل الآية في مفهومها على العناء الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من هؤلاء وعظيم الثواب الذي أعده للمجاهدين والصابرين، وما في الإحتجاج عليهم وفضحهم من الأجر والنفع.
عاشراً: في الآية مدح للمسلمين لأنهم لم يكذبوا على ، ولم يدخلوا في القرآن كلمة واحدة ولم يسقطوا منه، ولم يأتوا بشيء من عندهم، ولغة الخطاب في الآية شاهد على هذا المضمون، لأن خص المسلمين بالإخبار عن الذين يكذبون على وما في هذا الكذب من القبح الذاتي والتعدي، ومن يخبره بوجود هذا العيب عند غيره، لابد وانه منزه عنه، وكأن الآية وصية وعهد للمسلمين في بيان حال الأمم الأخرى ليكونوا شهوداً عليهم.
ومن الآيات ان المسلمين حفظوا هذا العهد على نحو مركب من وجوه:
الأول: توثيق هذه الحقيقة في صدورهم وجوانحهم بالإضافة الى وجودها في القرآن، مما يعني ان صدور المسلمين مرآة للقرآن.
الثاني: ظهور التنزه من الكذب في اقوالهم وافعالهم فلا ينسبون الى الله الا الذي جاء به الرسول الأكرم من القرآن الكريم.
الثالث: هذه الآية حجة للمسلمين في عدم الأخذ من غيرهم، وان كان عدم الأخذ يأتي ابتداء بالإكتفاء بالقرآن، الذي لم تصل اليه يد التحريف وتلاقفته ايدي المسلمين كافة طبقة عن طبقة مع الحرص الشديد على حفظ واكرامه.
وتبين الآية في مفهومها وظيفة ثابتة من وظائف المليين وهي الحرص على عدم الكذب على ، وبه يمتازون عن غيرهم من الناس، ويصدق عليه الإنتماء الى الكتاب السماوي،
فالكافر غير الكتابي لا يجرأ على الكذب على ، وان جاء به يكون أمره مفضوحاً كما ان الكذب يأتي احياناً على نحو السالبة الجزئية وهو حجة على الكافر بلزوم الإقرار بالربوبية للصانع، واذا جاء فريق من اهل الكتاب بقول ونسبوه الى تعالى فقد تصدق به طائفة او جماعة من الناس بحكم انتمائهم للكتاب والنبوة،
فجاءت هذه الآية لمنع هذا التصديق، وهذا المنع لا ينحصر بالمسلمين بل هو شامل للناس جميعاً، وهو من اعجاز القرآن لأنه أعطى قاعدة كلية ونعتاً ثابتاً لأفراد هذا الفريق مما يجعل الناس يحذرون ولا يصدقون باقوالهم، وعدم التصديق هذا على وجوه:
الأول: الإطلاق في كل ما يقولون.
الثاني: فيما يخص الكتاب المنزل والأمور العقائدية.
الثالث: في نسبة القول الى تعالى.
الرابع: في العبادات والمعاملات، فكما لايحصل التصديق في أمور العقائد، فكذا في البيع والشراء والعقود والأمانات لتشمل هذه الآية في عموماتها امور الدين والدنيا ، وتكون بياناً واعانة في التفسير العملي للآيات السابقة بخصوص:
اولاً: عدم ردهم الأمانة للمسلم.
ثانياً: شراء ثمن قليل بالعهد.
ثالثاً: قيامهم بحنث اليمين.
و لا تعارض بين هذه الوجوه، الا انه يكون بلحاظ هذه الآية في الكذب على بالإصالة، وبغيره بالترشح عنه، وهذا الغير يأتي في آيات أخرى صريحاً واضحاً إتماماً للحجة وانذاراً وتحذيراً.
وجاء قولهم بصيغتين:
الأولى: لغة المضارع، مما يدل على استدامة القول واستمرارهم بالإتيان بالكذب.
الثانية: صفة الجمع، وان القول يصدر عنهم جماعة وفيه وجوه:
الأول: انهم يقولون بصورة جماعية متحدة.
الثاني: كل واحد منهم يقول الكذب من ناحيته وبصورة شخصية.
الثالث: يصدر الكذب من الرؤساء ، فيصدق صدوره من الجميع بما فيهم الأعوان والأتباع.
الرابع: يأتي به الرهبان ويكرره الأتباع.
الخامس: يتلقونه ميراثاً وتركة ممن هو قبلهم فيشمل الجميع قوله، أي ان قول الكذب أعم من الإختراع فيشمل الإتيان به حكاية ووراثة.
والكذب هنا يتصور على وجوه:
الأول:لي الألسن بالكتاب.
الثاني: أعم من لي الألسن.
الثالث: اختراع كلام ونسبته الى تعالى.
الرابع: ذكر أوصاف ونعوت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير المذكورة في التوراة والإنجيل.
الخامس: كتمان الآيات وهذا الكتمان ليس أمراً عدمياً بل هو اخفاء للآيات وحجب للبراهين.
الخامس: ذكر أمور مبتدعة بخصوص عالم الآخرة كما ورد في التنزيل [ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( ).
السادس: مقابلة الآيات بالجحود والصدود،[ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ] ( ).
السابع: وضعهم لشروط وقيود لا أصل لها عند دعوتهم للإسلام [قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ]( ).
الثامن: تعدي الكذب الى مضامين التوحيد التي يجب ان يتعاهد صيانتها الناس جميعاً ، قال تعالى [ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ]( ).
التاسع: هل يدخل كذبهم على الأنبياء ضمن عمومات هذه الآية الكريمة، الجواب نعم من وجهين:
الأول: ما ينسبونه الى موسى وعيسى .
الثاني: انكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مجيء البشارات بها ورؤيتهم الآيات.
العاشر: الجحود بالمعاد ويوم الحساب ، وما فيه من الثواب والعقاب قال تعالى [فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ]( ).
قوله تعالى [وهُمْ يَعْلَمُونَ]
جاءت خاتمة الآية مدرسة في الحجة والبرهان، تدعو الى التدبر في اسباب وعلل الإثم المركب الذي يقدم عليه الفريق الذي ذكرته هذه الآية، فالأصل ان لا يقول الإنسان على الا الحق، مع العلم واليقين، وهؤلاء اختاروا الإفتراء وفيه وجوه:
الأول: يأتي الإفتراء عن جهالة وقصور.
الثاني: العمد والقصد في الإفتراء والتعدي.
الثالث: تلقي الكذب وراثة عن الآباء او غيرهم من غير تدقيق ولا علم بانه كذب ولا أصل له.
الرابع: محاكاة الرؤساء، واتباعهم فيما يقولون وهذا القسم على شعبتين:
الأولى: مع العلم انه كذب.
الثانية: مع عدم العلم، والتقصير في الأتباع من غير علم، قال تعالى [ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
وكل هذه الوجوه مع تعددها من مصاديق الآية الكريمة وفرد من أفراد اعجازها، وهو على قسمين:
الأول: عام، ويكون من عموم الآية الكريمة.
الثاني: خاص بخاتمتها بالذات، والقسمان من مصاديق اعجاز الخاتمة من غير تعارض بينهما.
والمراد من العلم في الآية وجوه:
الأول: يعلمون بالمائز بين الصدق والكذب، والحق وبالباطل، وفيه دلالة على اثر التنزيل عند اهل الكتاب فبه يمتلك الإنسان القدرة على التمييز بين الصدق والكذب، وتلك نعمة ملازمة للتنزيل الا انها تكون حجة على العبد، واصلاً يساعده في تدبر الأمور، وواعزاً يحذره من التعدي والإفتراء والإقامة على الجحود.
الثاني: يعلمون بالذي يقولونه على نحو مركب:
الأول: انه كذب.
الثاني: هذا الكذب والإفتراء على تعالى.
الثالث: يعلمون العذاب الشديد الذي يلاقونه بسبب الكذب على .
الرابع: يعلمون ما للكذب من القبح الذاتي، والذم الذي يلحق صاحبه اما الكذب على فهو أكثر قبحاً ويلحق الكاذب الخزي والعار لأنه كذب مع افتراء، وبين الكذب والإفتراء عموم وخصوص مطلق فكل افتراء هو كذب وليس العكس فقد يكذب الإنسان في أمور خاصة اما الإفتراء فهو الكذب على الغير مع العمد، بالإضافة الى التباين في الرتبة فالإفتراء هو العظيم من الكذب، واكثره قبحاً قول الكذب على لذا جاءت الآية بالتحذير منه والتوبيخ اصحابه.
الخامس: يعلمون بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا العلم فيه وجوه:
الأول: تعدد وجوه الإثم بالكذب على ، لأنه يتضمن الجحود فصحيح ان الكذب على من الكبائر الا انه على مراتب متعددة، واشدها انكار النبوة والصدود عن النبي وتحريف البشارات الواردة بحقه وهي دعوة عامة للتصديق وامانة اختص بها اهل الكتاب وهذا الإختصاص فيه وجوه:
الأول: انه تشريف لأهل الكتاب.
الثاني: جعل هذه البشارات امانة عند اهل الكتاب.
الثالث: حمل هذه الأمانة من اسباب تفضيل بني اسرائيل على الناس، كما وردت بعض الأخبار بان سجود الملائكة لآدم جاء لأنه يحمل في صلبه نور الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان تفضيل بني اسرائيل في بعض مصاديقه يتعلق بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الأول: حملهم لأمانة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: العهد والميثاق بتصديقه واتباعه.
الثالث: وجود أمة مؤمنة من اهل الكتاب تتعاهد البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنتظر بعثته وتترقب أيامه، وهذا الترقب ليس اجمالياً وانتظاراً محضاً بل هو قائم على دلالات ومقدمات بعيدة وقريبة يتوارثونها، ويتخذ بعضهم الصومعات والأماكن البعيدة وينقطع الى العبادة ليتعاهد البشارة وينتظرها عسى ان يقوم بتصديق النبي ويفوز باداء الأمانة مع حفظه للعهد والميثاق،
لقد اراد لبني اسرائيل ان يكونوا دعاة الى الإسلام ومبشرين به، ويقومون بتهيئة مقدمات التصديق ونصرته، وهو عنوان تشريف لهم، وهذه الوظائف تفضيل لهم في العالمين ولكنهم قابلوا نبوته بالجحود والصدود.
الخامس: جاءت الآية بصيغة الجمع الذي يستغرق افراد الفريق فلم تحصر الآية العلم بالكذب بالرؤساء والرهبان منهم، او تأتي بما يفيد الإخبار بان الأتباع والعامة منهم لايعلمون بماهية الكذب وانهم لم يعلموا بالتحريف بل جاء الإطلاق بصفة العلم بالكذب.
السادس: العلم امر محمود وحسن، الا انه جاء هنا بقيد الذم لإرادة علمهم بذنبهم وظلمهم وظلالتهم، واذا كان الإنسان يعلم بانه يكذب فهل يعلم الآخرون بكذبه الجواب لا ملازمة بين الأمرين، فقد يصدق به السامع خصوصاً مع القرينة والضميمة كما في هذه الحال اذ يظن شطر من الناس ان اهل الكتاب اقرب الملل الى التوحيد وهم اتباع الأنبياء فجاءت الآية لتجعل المسلمين وغيرهم يعلمون بكذبهم، ويصبح هذا الكذب لا يضر الا اصحابه فمثلاً الغاية من لي الألسن ان يحسبه المسلمون من الكتاب ، فجاءت هذه الآية للتوبيخ والتحذير واصبح المسلمون يعلمون انه ليس من الكتاب كما ان موضوعيته تنحصر باهل الكتاب لإكتفاء المسلمين بالقرآن وطرح ما يتعارض معه.
السابع: يعلمون عدم الإنتفاع من الكذب واستغناء المسلمين بالقرآن فاذا ورد على المسلم أمران احدهما من القرآن والآخر منسوب الى التوراة والإنجيل فانه لايختار الا ما جاء في القرآن.
الثامن: يعلمون ما يترتب عليهم من الوظائف العقائدية بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه واتباعه.
التاسع: يعلمون بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جرى على يديه من المعجزات ونزول القرآن من عنده تعالى، فهم يقومون بالكذب على في ايام البعثة النبوية أي انهم مقيمون على الكذب وهم يرون الآيات الباهرات التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشر: وهم يعلمون باعراض المسلمين عن اقوالهم، ومعرفتهم بحقيقتها وعدم صدق نسبتها لله تعالى.
الحادي عشر: يعلمون ان يعلم ما يفعلون، وانه لا يرضى بالكذب عليه.
الثاني عشر: يعلمون بما يجب عليهم من لزوم قول الصدق وان صاحب الكذب مذموم عند وعند الناس.
الثالث عشر: يعلمون ان احاط بكل شيء علماً وهو يعلم سوء ما يفعلون.
الرابع عشر: يعلمون ما اعد للصادقين من الثواب الكريم وانهم يحرمون انفسهم منه باختيارهم ، قال تعالى [لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ]( ).
الخامس عشر: يعلمون ان المسلمين أصبحوا قادرين على الإحتجاج عليهم، وابطال ما يقولون من الكذب.
وقد ورد قوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )، وقوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )، ووصفت الآية محل البحث الذين يقولون الكذب على بانهم يعلمون وهذا الوصف ذم لهم ودليل على جحودهم وعنادهم لأنه علم بالمعصية واضرارها ومع هذا يقدمون على ركوبها، فهو من مصاديق الجهل المركب واللاعلم.
قانون العلم بالكذب
جاءت الآية بافادة قومهم الكذب على مع علمهم به، فهل هناك قسيم آخر له، وهو قول الكذب مع عدم العلم بانه كذب وان عبادته تعالى واجب، وان هناك فريقاً من الناس يقولون على الكذب ولكنهم لايعلمون بانه كذب، وما فيه من اضرار دنيوية وأخروية، مع الحاقه بالقصور والغفلة والجهالة، وان عدم ذكر هذا الفريق لا يدل على عدم وجوده لقاعدة عدم الإيجاد أعم من عدم الوجود، كما يمكن استقراؤه من قيد العلم الخاص بهذا الفريق بان هناك فريقاً يقول على الكذب وهم لا يعلمون انه كذب.
والجواب ليس من وجود لهذا الفريق، وهذا من الإعجاز الوارد في الإرادة التكوينية، وأسرار خلق الإنسان، وما رزقه من نعمة العقل وتفضله تعالى ببعث الأنبياء وانزال الكتب السماوية ليكون الإنسان مؤهلاً للخلافة في الأرض وقادراً على التمييز بين ما يكون من عند ، وما لا يكون من عنده تعالى، ولهذا التمييز منافع عديدة منها:
الأول: الحصر والعزلة للكافرين وأهل الإفتراء على تعالى.
الثاني: اقامة الحجة على الناس بانه لا يقول احد على الا الحق فينال الثواب او الكذب مع العلم فيستحق العذاب.
الثالث: نسبة القول الى من أهم الأمور في الحياة الدنيا وليس فيه برزخية، وهو على قسمين:
الأول: القول على بالحق.
الثاني: قول الكذب على مع العلم، لذا وردت الآية بذم الذين يفترون على الكذب ويفيد الإفتراء العلم بالأمر قال تعالى [ انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ]( ) ، فان قلت منهم من يحكي افتراء غيره من الرؤساء فما هو حكمه، الجواب انه يلحق بهم ويحسب من الذين يفترون على الكذب، من وجوه:
الأول: انه مرآة للإفتراء.
الثاني: المدار في الإفتراء والكذب على ليس أصل الإبتداع، بل قوله مطلقاً، والقيام بالإفتراء على وان كان نقلاً وحكاية عن الغير، مما يحتم على المكلف التدبر في الآيات، ويتجنب القول على الا بعد التثبت.
الثالث: من أهم وظائف الإنسان التصديق بآيات ، وهذا التصديق واقية وحصن من الإفتراء على ، كما ان الكفر بالآيات يقود للكذب والإفتراء ، قال تعالى [ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]( ).
لقد جعل العلم بالكذب عليه قانوناً ثابتاً في الأرض فليس من أحد يكذب عليه وهو لا يعلم انه يفتري ويقول الكذب، وهذه الآيات من مصاديق هذا القانون من وجوه:
الأول: فضح اهل الكذب على .
الثاني: التنبيه الى حقيقة الملازمة بين الكذب عليه والعلم بهذا الكذب وعدم امكان الإنفكاك بينهما.
الثالث: ايجاد النفرة من الكذب على وزجر الناس عن التلبس به.
الرابع: من المغالطة والإيهام ، فالمسلمون يعلمون ان قائل الكذب على يعلم به.
الخامس: توفير الجهد والعناء على المسلمين في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يظن بعضهم ان هؤلاء يجهلون حالهم وما هم فيه من الضلالة.
السادس: تحذير الناس كافة من الإنصات لمن يقول الكذب على .
السابع: عزلة الذين يقولون على الكذب، فمن سجايا النفس الإنسانية اجتناب الكاذب في مواطن الكذب، بل وحتى في غيرها ولو على نحو السالبة الجزئية.