بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي خلق الأرض لتكون سكناً للإنسان ومحلاً لخلافته، وشاهداً على اكرامه ووعاء لعبادته ونسكه، وموضعاً لإظهاره معاني الشكر على نعمة الخلق والخلافة والرزق واستدامة الحياة فيها، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
لقد أصطفى الله الأنبياء ليكونوا أسوة حسنة للناس في أعمالهم، وعوناً لهم على الهداية الى سبل الرشاد، وتفضل وجعل البيت الحرام آية أرضية ومادة للإختبار، ودعوة للصلاح، تشع منها أسباب الهداية والرشاد، وتمنع الناس من الضلالة والغواية.
وجعل للبيت وظائف متعددة منها ما يتضمن التيسير والتخفيف ليظهر الناس الطاعة والإمتثال كما في استقباله في الصلاة، الأمر الذي لا يحتاج الى العناء والمشقة، ومنها ما يستلزم قطع المسافة، وتهيئة مقدمات الأداء والزاد والراحلة كحج البيت لذا قيدته الآيات التي تضمنها هذا الجزء من التفسير بالإستطاعة، ليكون المال وصحة البدن مقدمة وعوناً على الإمتثال للتكاليف، والسياحة في عالم الملكوت، والسعي في مراتب القرب، والإرتقاء في سلم المعراج، والغرق في نور جلال الحق.
والحج سفر جسدي وروحي وعقائدي وتهذيب للسجايا والطباع، ومن لا يستطيع الحج، أو أنه ادى الفريضة لا ينقطع سفره في الحج، فلم يتخلف غير المستطيع الا عن السفر الجسدي، أما السفر الروحي والعقائدي فيشارك فيه كل مسلم ومسلمة في موسم الحج، وهذا الذي جاءت به الآيات التي تضــمنها هذا الجزء اذ يتـضمن أربع آيات هي (94- 95- 96 – 97) من سورة آل عمران، ثلاثة منها في بيان موضوعية البيت الحرام في اصلاح الناس ونشر الفضيلة وقهر القوة الشهوية والغضبية بصبغة عبادية جمالية يباهي بها الله الملائكة، ويذكرهم بخلق آدم وجعله خليفة في الأرض، وتتجلى فيها معاني النفخ في الإنسان من روح الله وفلسفة هبوط الإنسان الأرض، وتفضله تعالى بوضع الشاخص الكريم ليكون حجه والتوجه اليه في الصلاة عشقاً لجلال وجهه الكريم وسفراً متصلاً من الخلق الى الحق [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ].
وكما هو في الأجزاء السابقة وكتبي الفقهية والأصولية والكلامية الأخرى قمت بكتابة ومراجعة وتصحيح هذا الجزء بنفسي من دون مشاركة او مساعدة أحد الى حين طبعه، الا بفضل من الله [قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ].
قوله تعالى [فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأولئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] الآية 94.
الإعراب واللغة
فمن افترى على الله الكذب: الفاء: حرف استئناف، من: اسم شرط غير جازم في محل رفع مبتدأ، افترى: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر يعود لاسم الشرط (من).
على الله: متعلقان بـ(افترى).
الكذب: مفعول به منصوب بالفتحة.
من بعد: جار ومجرور، ذلك: اسم اشارة مضاف اليه.
فأولئك هم الظالمون: الفاء: رابطة لجواب الشرط، أولئك: اسم اشارة مبتدأ، هم: مبتدأ ثان، الظالمون: خبر (هم)، والجملة الإسمية (هم الظالمون) خبر اسم الإشارة، ويجوز ان يكون (هم) ضمير فصل وحينئذ يكون (الظالمون) خبر أولئك، والجملة من المبتدأ والخبر في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر (من).
والفرية الكذب، يقال فرى كذباً فرياً وأفتراه: اختلقه، والإفتراء في الإصطلاح رمي الغير بالقبيح والمنكر وذكره بما يسوءه من غير أن يفعله أو أنه برئ منه، أو ليس من دليل يثبت تلبسه أو التصاقه به، وتقييد الإفتراء بانه على الله يعني الكذب عليه سبحانه ونسب أمور الى الشريعة ليس منها، والكذب نقيض الصدق، يقال كذب يكذب كذباً، وهو الإخبار بخلاف الواقع والحق، والكذب مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً.
وبين الكذب والإفتراء عموم وخصوص مطلق فكل فرية هي كذب وليس العكس، لذا جاءت الآية بالجمع بينهما في دلالة على ان الكذب على الله إفتراء، والإفتراء أشد قبحاً من الكذب.
في سياق الآيات
بعد آية (كل الطعام) وما فيها من التحدي والبيان وإقامة الحجة على الخصم في الجدال بالدعوة الى الإستدلال مما في يده وليس ما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما يترشح عن هذه الدعوة من توكيد لصدق نزول القرآن من عند الله وتنزيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء مطلقاً، جاءت هذه الآية لذم الذين يقترفون الكذب وينسبون الى الشريعة ما ليس منها، لبيان ان التحدي والإحتجاج ليس مطلوباً لذاته فحسب بل هو عنوان لتثبيت الحقائق وجذب الناس للهداية وسبل الرشاد، وإجتناب الجدال والقول على الله بغير علم.
وتعتبر هذه الآية توكيداً لمضامين الآية السابقة بحلية الطعام مطلقاً لبني إسرائيل، وعدم تعدي ما حرمه إسرائيل على نفسه على نحو القضية الشخصية والذات الى الأجيال اللاحقة من بني اسرائيل، ثم جاءت الآية التالية لتبين وجهاً من وجوه الإعجاز في سياق الآيات بما يدل عليه نظمها من النقض والإبرام، والطرد والعكس، فبينما جاءت هذه الآية بذم الكذب والتحذير من الإفتراء على الله، جاءت الآية التالية في الإخبار عن صدق القرآن وعدم خروجه عن الحق، والإخبار القاطع عن حال الأنبياء وسنن الشرائع، مع الدعوة الى إتباع ملة إبراهيم، والتقيد بأحكام الحنيفية، وإجتناب الشرك، ومفاهيم الضلالة وما تقود اليه من الجدل بالباطل.
وقد جاءت الآيات السابقة بالبشارة بإحباط عمل الكافر والبشارة بعذابه كما في قوله تعالى في الذين يموتون وهم كفار بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ…]( )، والآية التي قبلها في الذين ازدادوا كفراً [لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ]( )، ورد عمل الذي يختار غير الإسلام ديناً [فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( )، وذم الذين تولوا عن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته بقوله تعالى [فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأولئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
لقد ابتنى الحكم في هذه الآية على مضامين الآية السابقة، لذا جاءت باسم الإشارة (ذلك) في دلالة على كفاية مضامين الآية السابقة للحجة، فالجمع بين الآيتين يفيد أموراً وهي:
الأول: إحضار التوراة وتلاوتها واثبات صدق ما يدعون.
الثاني: الكف عن دعوى تحريم بعض الأطعمة من غير دليل شرعي.
الثالث: إقامة الحجة على من يصر على دعوى التحريم التي لم تثبت في التوراة ً.
وفي مضمون وصدور الخطاب في الآية وجهان:
الأول: انه استمرار للكلام الذي أمر الله به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الآية السابقة بقوله تعالى [قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا..] الآية.
الثاني: كلام مستأنف وقاعدة كلية يخبر بها الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول: ان الله يتفضل بعد الإحتجاج ببيان الأحكام الجزائية.
الثاني: تتضمن الآية الإخبار الإلهي عن حكم عام يتغشى كل الأزمنة، وهو نعت كل مفتر بالظلم والتعدي.
الثالث: مجيء الآية بصيغة الجمع.
الرابع:يمكن ان نؤسس قاعدة كلية في المقام وهي لو دار الأمر في الكلام في القرآن بانه حكم من عند الله أو حكاية عن النبي وغيره، فالأصل هو الأول الا ان تدل قرينة صارفة على غيره، وسبق أمره تعالى الى النبي بالاستدلال بالتوراة لا تكفي قرينة على إلحاق مضمون الآية اللاحقة به.
الخامس: موضوعية الفصل بين الآيات، ورجحان الاستئناف في الكلام الا مع الدليل.
السادس: عودة الآية اللاحقة الى مضامين الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ]، وتضمنها الإخبار عن صدقه تعالى نعت الظالم بانه مفتر.
ومن الإعجاز في نظم الآيات ان تأتي بعد آية ذم الإفتراء وتوكيد قبحه الذاتي، آية تخبر عن أمرين من الضروريات المتسالم عليها وهما صدق الله ويدل بالدلالة التضمنية على أن القرآن وسنة النبي محمداً صلى الله عليه وآله من عند الله بتقريب هو ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكل لحم الجزور الا باذن وإباحة من عند الله.
واذ جاءت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] في تحدِ للذين يدعون في الدين ما ليس فيه، جاءت هذه الآية لتخبر ان الصدق هو ما قاله الله تعالى فهو الذي يقول الحق والصدق، ومع وجود التعارض والتناقض بين ما يقوله الله تعالى في حلية كل الطعام على بني إسرائيل كما في الآية السابقة، وما يقوله أهل دعوى تحريم لحم الجزور فان خاتمة الآية التالية تدل على أنهم ليسوا بصادقين، فالله هو صادق القول، وكل قول يخالف قوله يكون كذباً ومخالفاً للحق والصدق فلذا جاءت هذه الآية بالزجر عن الكذب وافترائه وبقيد (من بعد ذلك).
إعجاز الآية
جاءت الآية بصيغة الإنذار والوعيد، ومن وجوه الإعجاز في الآية:
الأول: اقتران الإنذار بإقامة الحجة على الناس، لأنه لم يأت الا بعد البيان.
الثاني: الآيات توكيد للقاعدة الأصولية وهي قبح العقاب بلا بيان، ولم يأت هذا التوكيد مجرداً لذاته بل جاء بالحجة والبرهان.
الثالث: اظهار الصلة والملازمة بين أحكام الحلية والحرمة وبين الحساب الأخروي وترتب العقاب على الإفتراء في هذا الباب.
الرابع: التقسيم الشرعي والاستقرائي للكذب وبيان ان أخطر وجوهه وأقسامه هو الكذب والإفتراء على الله، فالكذب ليس بمرتبة واحدة، فهو من الكلي المشكك وله مراتب متفاوتة، وأشده وأكثره ضرراً الكذب على الله .
الخامس: مجيء الآية بصيغة الجمع وما لها من الدلالات كما سيأتي في تفسير خاتمة الآية.
السادس: قصر الآية وكثرت وتشعب معانيها، فلم تمنع قلة كلماتها من تعدد المضامين القدسية للآية.
السابع: من الدلائل على عظمة كل آية قرآنية استقلالها في الشأن والموضوع والحكم من غير ان يتعارض هذا الإستقلال مع التداخل والإتحاد مع الآيات القرآنية الأخرى اذ جعلت هذه الآية المدار في العقوبة والإثم وصدق التلبس بالظلم على الإفتراء بعد نزولها والآية السابقة لها، وما فيها من الحجة والبرهان.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (فمن افترى)، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
تبعث الآية الإحتراز في النفوس والمجتمعات الإسلامية من الكذب على الله، وتحذر من الذين يكذبون على الله ورسله، ويفترون في باب أحكام الحلال والحرام في الشرائع السماوية وقصص الأنبياء، وللآية وجوه:
الأول: انها قاعدة كلية تبين قبح الإفتراء والكذب مطلقاً، خصوصاً الكذب على الله.
الثاني: الآية مدرسة في العلم لما فيها من البيان ولغة التحذير والتخويف.
الثالث: تعتبر الآية نبراساً في العمل ببغض المسلمين للإفتراء والكذب.
الرابع: في الآية تعضيد للمسلمين في الإحتجاج والجدال، ومضامينها مادة لدحض حجة الخصم.
الخامس: في الآية ارتقاء في المعارف الإلهية، ومعرفة التناقض والتنافي بين الصدق والكذب.
السادس: الآية لغة في التوبيخ والتقبيح لمن يقوم بالإفتراء على الله .
السابع: تبين الآية تمام الحجة على بني إسرائيل بان جعلت للإحتجاج والبيان في الآية السابقة موضوعية في الإستدلال والنعوت والأوصاف.
الثامن: أرادت الآية بعث السكينة في نفوس المسلمين وشفاء صدورهم ببيان قبح فعل المعاند.
التاسع: إدراك الإضرار التي تنجم عن الكذب وهي مركبة ولا تنحصر بأيام الحياة الدنيا بل تشمل الآخرة لما في الآية من صيغة الإنذار ونعت أهل الإفتراء بانهم ظالمون.
العاشر: الآية عون للمسلمين على معرفة الناس والتصدي للجدل الذي لا يبتنى على حجة أو بينة، فتكون سلاحاً ذاتياً واحترازاً من الإنصات لأهل الشك والريب.
الآية لطف
لقد أراد الله للناس التنزه من الكذب مطلقاً، فبين قبحه الشرعي والعقلي، وجعل النفوس تنفر منه، وهذه النفرة لا تختص بالمسلمين بل تشمل الناس جميعاً، وهو سر من أسرار القرآن وسبيل للهداية والإيمان، ودعوة للتقرب من أبواب الجنان، والفوز برضا الرحمن.
ومن اللطف في الآية انها لم تنعت أهل الإفتراء بالظلم الا بعد ان جاء البيان والحجة والتوضيح الذي يتجلى بحصر إستثناء التحريم بالقضية الشخصية، وانها وقعت لأحد الأنبياء السابقين لأيام النزول، وجاءت الآية بصيغة الإستفهام والإستقبال لبيان عظيم العفو الإلهي، والمغفرة عما فات من الإعتقاد والظن بحرمة بعض الأطعمة، مما يدل على ان هذه الآية جاءت للتنبيه والزجر، وان العقاب يترتب على الإصرار على ما خالف الحق والتنزيل، وهذا من أصدق مفاهيم اللطف بان تفتح للناس صفحة جديدة، مع الإخبار عن اليقين بصيغ الحجة والبرهان.
وتبين الآية حقيقة وهي ان القرآن كله لطف، وهذا اللطف لا ينحصر بالمسلمين بل يتغشى الناس جميعاً ومنهم أهل الكتاب على نحو الخصوص، اذا ان هذه الآيات ترجعهم للتوراة والإقرار بما فيها من أحكام حلية الأطعمة، وهو من وجوه تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، قال تعالى [ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( )، وهذا الوجه آية إعجازية اخرى للقرآن لما فيه من تنقيح أعمال أهل الكتاب بما يجعلها موافقة للتوراة والإنجيل، أي أن أفعال اليهود موافقة لما في التوراة من أحكام، وأفعال النصارى مطابقة عملياً لما في الإنجيل من الأحكام مع دعوتهم للإسلام كسائر الناس، لما في الكتابين من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالمعجزات الباهرات وهو إعجاز إضافي للقرآن فان تهذيب أفعال أهل الكتاب لا يتعارض مع الدعوة الى الإسلام بل هو مقدمة للاستجابة لها.
مفهوم الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تمنع الآية من التعدي على حرمات الله.
الثانية: في الآية دلالة على ان الإفتراء اثم عظيم.
الثالثة: تدعو الآية الى التقيد بالأحكام الشرعية التي ورد ذكرها في القرآن.
الرابعة: تخبر الآية عن حقيقة وهي ان الإفتراء على الله ظلم وان جاء من المتعدد، فكثرة الذين يفترون على الله لا تمنع من إطلاق صفة الظالمين عليهم.
الخامسة: تبين الآية ما في الصدق والاخبار الصحيح من الإشراقة والحسن الذاتي، فقيام الإنسان بإجتناب الكذب والتحريف، وحرصه على العمل بالتنزيل وعدم الإفتراء فيه، دليل على عدم ارادته الظلم والتعدي، وهذا الحرص مقدمة لدخول الإسلام وباب لمعرفة الأحكام الشرعية وسبيل لاستنتاج كبرى كلية وهي عدم التعارض بين الكتب السماوية، وتبين الآية لزوم تعاهد التنزيل والأحكام السماوية والتصدي للكذب والإفتراء على الله.
السادسة: تتعدى مضامين ذم الإفتراء في الآية الكريمة المتلبس به متحداً كان أو متعدداً لتشمل الناس جميعاً بصيغة الإنذار والتحذير والزجر عن الإفتراء مطلقاً، وفي الدين والتشريع على نحو الخصوص وهناك مسألتان:
الأولى: هل عدم الإفتراء أمر وجودي ام أمر عدمي.
الثانية: هل من ثواب لمن لم يفتر على الله.
اما الأولى فان عدم الإفتراء أمر وجودي لما فيه من حرص على إجتناب الفعل القبيح والمحرم، والإمساك عن القول المنافي للحق والصدق، والحرص على النجاة من الآثام التي تلحق المفتري والكاذب.
واما الثانية فنعم هناك ثواب للذي يتجنب الإفتراء على الله، ولكن هذا الثواب مقيد بالإسلام فالمسلم يثاب على إجتناب تحريف التنزيل، والوضع على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وائمة المسلمين، اما غير المسلم فان اجتنب الإفتراء على الله فلا ثواب له عليه، نعم لا يعاقب بما يعاقب به المفتري من اقرانه، وينال المسلم الثواب ان كان سبباً في إجتناب الكافر للإفتراء، لان الآية نعتت المفتري على وجه الخصوص بالظلم بظاهر الكذب المشار اليه في الآية, وهو نسبة تحريم بعض الأطعمة الى التوراة والى شريعة موسى، والا كيف يحتج عليهم القرآن بإحضار التوراة ان لم يكن المدار في الأحكام عند بني إسرائيل على التوراة دون غيرها.
ولا ينحصر موضوع أحكام الآية بحلية طعام مخصوص، بل يشمل ابواب العبادات والمعاملات، اذ انها تحذر أهل الكتاب من الإفتراء والكذب فيها، وللآية موضوعية في الإحتراز من الكذب في باب الأحكام لما فيها من صيغة الإطلاق، وزجر عن الإفتراء مطلقاً، وبيان لقبحه وامكان فضحه، فالتحدي الذي جاء في الآية السابقة يبين سهولة فضح الإفتراء وكشف الزيف والكذب امام الناس، وهو مثال قريب يحدث في عالم الآخرة ومواطن الحساب فيها، وشاهد على كون الحجة لله تعالى في النشأتين.
وفي الآية مسائل:
الأولى: التحذير والإنذار من اقتراف الكذب.
الثانية: تنبيه المسلمين بوجود من يفتري على الله الكذب، فقد لا يظن شطر من المسلمين بوجود أناس يحرفون الشرائع ويحرمون الحلال ويحللون الحرام وينسبونه الى الله، فجاءت الآية لتخبر عن لزوم التصدي لهؤلاء بالحكمة والموعظة والتخويف المقرون بالإحتراز.
الثالثة: في الآية وصيغة الإنذار فيها دلالة على إقامة الحجة وثبوت البينة على وضوح الشرائع وانتفاء اللبس فيها.
الرابعة: عدم صحة الاعتذار بالجهل والغرر في المقام، فبعد نزول القرآن ومجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمحجة البيضاء وأحكام السماء، ليس للإنسان ان يقوم بالتحريف أو اتباع الباطل ثم يقول انه جأهل بالأحكام ومغرر به، اذ ان الذين يقترفون الكذب في المقام على وجوه:
الأول: من يبتدع الإفتراء والكذب على الله تعالى.
الثاني: الذي يحاكي غيره في موضوع الإفتراء مع العلم به.
الثالث: من يتبع غيره في ذات الفعل وهو لا يعلم ان الذي يقوله ويأتي به إفتراء على الله ورسله وكتبه، ولو كان يعلم به فهو على ثلاث وجوه:
أولاً: يصر عليه ولا يتخلى عنه.
ثانياً: يجتنبه ويبتعد عنه من غير ان يكون له رأي فيه.
ثالثاً: من ينبذه ويذم أهله وأصحابه.
الرابع: الذي تلقاه وراثة وتركة من آبائه، وهذه التركة على أقسام:
الأول: تلقي الإفتراء سماعاً.
الثاني: المحاكاة بالفعل، كما لو كان الأب يجتنب أكل لحم الجزور باعتقاد انه محرم، فيفعل الابن مثل فعله.
الثالث: تلقي الأخبار بان التحريم جاء على لسان الأنبياء وفي الكتب المنزلة وعدم تضمنه تحريم بعض الطيبات.
وهل يصدق الإفتراء واقتراف الكذب بعد نزول هذه الآية على الذين يحاكون غيرهم في التحريم، أو انهم تلقوه تركة، الجواب: هو الأول ويكون الآخر وهو تلقيه تركه في طوله وليس في عرضه، لعمومات الإنذار القرآني، ومخاطبة المكلفين على نحو الإطلاق، وقاعدة رفع الجهالة والغرر.
الخامسة: بيان بدء عهد جديد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتصف بأمور:
الأول: تجلي أحكام الشرائع خالية من التحريف والتشويه.
الثاني: نزول القرآن جامعاً للأحكام ومبيناً للسنن، ومتضمناً لقصص الأنبياء بصيغ إعجازية لا ترقى اليها عقول البشر.
الثالث: مجيء السنة النبوية بمصاديق الحلال والحرام، ودعوة الناس للاقتداء بالنبي.
الرابع: تعضيد القرآن للسنة وتضمنه الإحتجاج على أهل الكتاب بالرجوع الى التوراة والإنجيل.
وهل الرجوع هنا من باب الحصر أي انه خاص بمسألة حلية طعام الجزور، أم أنه من باب المثال ويجوز الرجوع في كل مسألة الى التوراة، الجواب فيه تفصيل، فمن الأحكام ما يجوز فيها الرجوع الى التوراة، ومنها ما ينحصر فيها الرجوع الى القرآن والسنة النبوية، والمدار على ما في القرآن من البيان، فما يخالف القرآن لا يؤخذ به سواء للنسخ أو لطرو التحريف والتبديل على الكتاب السابق في النص أو التفسير أو التأويل.
الخامس: تصدي المسلمين للرد على الشبهات والتحريف بصيغ الإحتجاج والبيان.
السادس: انحسار التحريف والإفتراء، وعدم تعديه أو بلوغه منازل جديدة بعد ان أصبح يواجه بالتحدي والإحتجاج من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
أولاً: حفظه لمواثيق الأنبياء.
ثانياً: مجيؤه بصيغ الإنذاروالتخويف لمن يفتر في الدين.
ثالثاً: التصدي والزجر لمن يتعدى على الشرائع، وينسب لسنن الأنبياء ما ليس فيها.
رابعاً: تثبيت أحكام الحلال والحرام وبيان مصاديقها الى يوم القيامة.
خامساً: جهاد المسلمين في سبيل الله وقيامهم بالإحتجاج وبيان الحقائق والعناية بتأريخ الأنبياء.
سادساً: نزول القرآن جامعاً للأحكام الشرعية.
السادسة: وجود فيصل ومناسبة يصدق معها المؤاخذة ونزول السخط الإلهي على من يقترف الكذب ويصر على الإفتراء في الأحكام الشرعية، وان جاء هذا الإفتراء بصيغة القضية المتحدة، وحرمة طعام مخصوص.
السابعة: تبين الآية أمر الله تعالى في ضبط أحكام الشريعة، وعدم جواز التعدي عليها، ولزوم الجهاد من أجل تثبيتها، وجاء الجهاد هنا بلغة الإحتجاج واستحضار التوراة مع الإنذار والوعيد لمن أصر على العناد، وكأن الآية تقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين عليكم بالإحتجاج وبيان الحقائق، أما الحساب والعواقب فترجع الى الله .
الثامنة: كفاية الإحتجاج بالرجوع الى التوراة في إقامة الحجة على اليهود اذ جاء بعده الإنذار والوعيد بقوله تعالى [من بعد ذلك].
التاسعة: موضوعية الآية السابقة بينة في الموضوع والحكم، وهذه المسألة آية إعجازية في أحكام القرآن اذ يتخذ من المسألة الشخصية قاعدة كلية وضابطة في الأحكام والسنن، والإخبار عن مبغوضية الكذب ولزوم إجتناب الإفتراء على الله.
العاشرة: نعت المفتري في باب الشرائع والأحكام بأنه ظالم.
الحادية عشرة: اخبار الناس جميعاً عما ينتظر المفتر في الدين من العقاب الأليم.
الثانية عشرة: لحوق الخزي بالذي يكذب على الله، وينسب الى الأنبياء والكتب المنزلة ما ليس فيها.
الثالثة عشرة: تدل لغة الوعيد في الآية على لزوم رجوع الناس الى القرآن كتاباً جامعاً للأحكام، مبيناً للسنن والشرائع.
الرابعة عشرة: التخفيف عن المسلمين بذم أهل الإفتراء ونعتهم بالظلم والتعدي.
الخامسة عشرة: توكيد حقيقة وهي الإنقياد للقرآن والسنة أمن وسلامة ونجاة من العقاب، وان الإصرار على الإفتراء واقتراف الكذب خزي في النشأتين.
السادسة عشرة: تجلي أحكام الشريعة بينة ظاهرة، وتأهيل كل مكلف للتمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب.
وهل يشمل الوصف بالظلم من أكره على الإفتراء والكذب على الله، الجواب: لا، لموضوعية الاختيار في الحساب والنعت، ثم ان الإكراه يكون ظاهراً ومحصوراً بأسبابه، أي أنه يزول بزوال أسبابه العرضية، ويكون حجة على المكرِه – بكسر الراء – وفضحاً له.
إفاضات الآية
هذه الآية اشراقة قرآنية تطل على النفوس، فتملأها ايماناً وهدى، وتجعلها تنفر من الكذب والإفتراء، وتحترز من التعدي، لإدراك حقيقة وهي ان قول ما ليس بحق وصدق إفتراء يجب إجتنابه والإبتعاد عنه، وهذا الإجتناب ضرورة وحاجة كمقدمة واجبة للنجاة من النار والعذاب الاخروي، والآية فرار الى الله تعالى من الكذب في الدين وتحريف ما جاء به الأنبياء من الأحكام، ولجوء الى سرادق العرش للنهل من معين التنزيل الذي لا ينضب، وحصانة ضد النفس الشهوية والغضبية وأسباب الحســد، التي تقــود الإنسان الى العناد والإصرار على الإقامة على ما تلقاه ممن سبق وان كان خطأ، فجاءت الآية تأديباً للناس, ودعوة لاتباع الحق وان كان خلاف الهوى وما هو متوارث من العادات الذميمة.
لقد جاء ذم الإفتراء على الله على نحو الإطلاق من غير تقييد بموضوع الأطعمة، وفيه درس للناس بلزوم الحذر واليقظة من التعدي على الحرمات لتكون هذه الآية واقية ملازمة للإنسان، وسلاحاً يحول دون الإنصات للإفتراء والكذب سواء في العبادات أو المعاملات.
ومن إفاضات الآية إدراك الناس جميعاً وأهل الكتاب خاصة لحاجتهم للقرآن تلك الحاجة التي بينتها الآية بصيغة من اللطف والود والاحسان بالدعوة الى التحاكم الى الكتاب الذي يؤمن به أهل الكتاب ويرجعون اليه في عبادتهم واثبات الأحكام الشرعية، ولو كان هناك كتاب ووحي آخر غير التوراة يرجع اليه بنو إسرائيل لدعاهم القرآن لإحضاره، والبحث بين ثناياه عن دعوى التحريم للاتحاد في الحكم بين الكتب السماوية.
ومن خصائص الآية انها عنوان للإرتقاء في المعارف الإلهية، وإرشاد الى تعلم الحلال والحرام من القرآن، واخذ قواعد الحلية والحرمة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو خاتم الأنبياء، والصادح بالحق من رب العالمين.
التفسير
قوله تعالى [فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ]
جاءت الآية السابقة بالدعوة لإحضار التوراة وتلاوتها لتكون فيصلاً وشاهداً في الخلاف الذي اثار موضوعه اليهود بادعائهم حرمة بعض الأطعمة على الأنبياء وانكارهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحليله لحوم الإبل، وهو آية في الإحتجاج ودليل على اتباع صيغ الحجة والبرهان لتثبيت أحكام الحلال والحرام وإجتناب القوة والبطش في فرض الحقائق وذم المخالف من غير حجة، فجاءت الحجة والبرهان وتوجه الذم لخصوص من تخلف عن إحضار الحجة والدليل واصر مع هذا التخلف على العناد والخلاف.
فالآية وان كانت بخصوص الزجر عن الكذب والإفتراء في الأحكام الشرعية فانها تدل بالدلالة الإلتزامية على لزوم تعاهد أحكام الحلال والحرام واللجوء الى التنزيل للتفقه في الدين، وعدم الأخذ بالقصص والحكايات التي ترد عن طريق السماع والتي تتعارض مع القرآن وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد تضمنت هذه الآية مسألة وهي الإدعاء على الأنبياء بغير حق إفتراء على الله، واقترافاً للكذب، ولم يرد هذا الإدعاء في باب العبادات ذات الأولوية والأهمية في الدين بل جاء في باب المباحات، ويمكن الظن بان أمرها هين وسهل ويمكن التسامح فيه، ولكن هذه الآية تبين أهمية ترتب الأحكام الشرعية عليه، وان الدعوى غير الصادقة في هذا الباب حرام وهي إفتراء، وفيها كذب على الله لأنها جاءت بخصوص الأنبياء والشرائع، وكان تكليف بني إسرائيل أيام موسى عليه السلام العمل وفق ما جاء في التوراة وهي خالية من تحريم لحم الإبل.
والآية مدرسة في المعارف الإلهية من وجوه:
الأول: مجيء الجدل والإدعاء من بني إسرائيل, والحجة والبرهان من عند الله .
الثاني: توثيق موضوع هذه الدعوى بالقرآن وهو الكتاب الخالد الى يوم القيامة.
الثالث: قد يقول قائل ما قيمة وأثر هذه الدعوى ولماذا لم يتم تركها والإعراض عنها أو الإكتفاء بالسنة النبوية القولية والفعلية في درئها وردها، اما القولية فالإحتجاج من النبي على بني إسرائيل، واما الفعلية فهي أكل الطيبات والتنعم بفضله تعالى، والجواب من وجوه:
أولاً: حكاية القرآن للدعوى الباطلة والرد عليها آية إعجازية وتثبيت للأحكام الشرعية.
ثانياً: في الآية بيان كامل لما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى، وذكر لجانب من جهاده في سبيل الله، وتوكيد بان تثبيت الأحكام الشرعية لم يتم بالتبليغ وحده بل برد الشبهات واقامة الحجة والبرهان.
ثالثاً: عدم ترك الدعوى وشأنها. لان تركها يساعد على بقائها، وذكرها في المنتديات، ويتخذها الخصم مادة للجدل ووسيلة لايجاد الأذن الصاغية، وقد ينتقل من الإدعاء في باب المباحات الى الإدعاء في العبادات ومحاولة بعث الشك والريب بالتنزيل، فجاءت هذه الآية لابطال الدعوى وقصد ما يترتب على ابطالها من منع التعدي واثارة الشبهات في مواضيع وأحكام اخرى تتعدى باب الطيبات وأكل لحوم الإبل.
رابعاً: سلامة القرآن من التحريف وإستدامة الإحتجاج به.
الرابع: حرمة الإفتراء مطلقاً فموضوع الآية هو قضية شخصية وطعام مخصوص، ولكنها جاءت للإخبار عن حرمة الكذب على الله مطلقاً، وصحيح ان الإفتراء وصف لحال التعدي بعد مجيء البينة الا انه لا يمنع من صدق هذا الوصف على الإدعاء الكاذب في باب الأحكام وان سبق إحضار وتلاوة التوراة واثبات كذب الإدعاء.
الخامس: تبين الآية قبح الكذب على الله، وتبعث في النفوس النفرة منه.
فان قلت: من الناس من يصر على قوله ولا يعلم انه إفتراء، ولو علم بماهيته وحقيقته لإجتنابه لانه يبغض الإفتراء والكذب على الله.
قلت: تطرد هذه الآية الغفلة والجهل، وتحث أهل الكتاب والناس جميعاً على التدبر في الإدعاء، والتثبت من صحته قبل إعلانه وترك الذب عنه بالجدال والإحتجاج، وإجتناب التجاوز على مقامات النبوة، ومحأولة اثارة الإرباك والشك.
وفي الآيات في المقام انه ليس من إنسان يشعر بالحرج والضيق من دعوته وحثه على الرجوع الى الكتاب الذي يؤمن به ويعمل بأحكامه، وهذا من دلائل الإعجاز في القرآن الكريم فلم يأت الإحتجاج بصيغة الذم والتوبيخ بل جاء بدعوة أهل الكتاب للتثبت من الدعوى وكشف بطلانها بالرجوع الى كتابهم، وهذا الرجوع ليس مطلوباً بذاته بل هو مقدمة للكف عن الجدل وإجتناب الإفتراء والكذب على الله.
وقد لا يعلم الإنسان ان دعوى تحريم بعض الأطعمة يعتبر إفتراء وكذباً على الله اذ لم يكن عن دليل وحجة وبرهان، وبلحاظ الموضوع فالآية تكشف عن حقيقة عقائدية وهي اذا كان موضوع حلية أوحرمة طعام معين أو حدوثه يتعلق به الإفتراء على الله اذ كان القول به مخالفاً للشرائع وسنن الأنبياء فمن باب أولى ان يكون الإنسان حذراً في مسائل العبادات متجنباً الإدعاء بغير دليل أو شاهد سماوي.
وهل يمكن القول بأن المقصود من الإفتراء في الآية الكريمة هو ما يخص طعام الإبل دون غيره من أحكام الحلال والحرام بقرينة موضوع الآية السابقة وما فيها من الإحتجاج، الجواب: لا، من وجوه:
الأول: إرادة الإطلاق، وعدم كفاية القرينة أعلاه على التقييد.
الثاني: إفادة الإطلاق في اسم الشرط (فمن افترى).
الثالث: مجيء الآية في موضوع الإفتراء مطلقاً سواء في باب الأطعمة أو غيرها.
الرابع: قرينة نسبة الإفتراء انه (على الله) مما يفيد العموم في الإنذار من الإفتراء في التنزيل والأحكام والسنن.
الخامس: جاءت الآية السابقة من باب المثال، وليكون موضوعها وما فيها من التحدي حجة على غير المسلمين.
وفي موضوع الإفتراء وجوه:
الأول: حرمة الإفتراء مطلقاً سواء كان في العبادات أو المعاملات أو فيما يخص حقوق الناس والأحوال الشخصية.
الثاني: انحصار الحرمة والنعت بالظلم فيما يخص الكذب في الأمور الشرعية.
الثالث: شمول الحرمة واستحقاق صفة الظلم في الكذب بخصوص التنزيل والنبوة، وهل يكون تحريف الكتاب من الإفتراء، الجواب: نعم، وهو من أبغض وأشد وجوه الإفتراء، لانه اذا كان الإدعاء باللسان بحرمة بعض الأطعمة من الإفتراء، فمن باب الأولوية القطعية ان يكون تحريف الكتاب من الإفتراء على الله ورسله.
ومع ان الإفتراء هو كذب، فجاءت الآية بذكرهما معاً في ذات الفعل والإفتراء هو الإختلاق وتقدير الآية “فمن اختلق على الله الكذب” وفيه نكتة عقائدية وهي ان يأتي الكافر بالكذب، وهو يعلم انه كذب وإفتراء وهذا من الإعجاز في باب العقائد وان الله يجعل النفوس قادرة على التمييز بين الصدق والكذب في الأحكام الشرعية فحتى الذي ينسب للشريعة ما ليس فيها فانه يشعر ولو على نحو الموجبة الجزئية بان ما يقوله لا أصل له وانه كذب على الله، فجاءت هذه الآية للتذكير والتنبيه والتحذير المقرون بالوعيد بالعقاب على أشد انواع الظلم وهو الإفتراء على الله.
وهل تنحصر صفة الظلم بالذي يوجه الإفتراء أولاً ويفشيه بين الناس، ام يشمل الذين يتبعونه ويقولون بذات الإفتراء، الجواب هو الأخير بلحاظ ذكر الإفتراء وقول الكذب، والإعراض عن الحق والصدق والدعوة الى الإسلام ويتخذ عذراً للصدود عن الإسلام قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسلام] ( ).
علم المناسبة
ورردت مادة الكذب في القرآن نحو (283) مرة، وهو عدد كثير، وجاءت كلها في التحذير من الكذب، وذمه، وبيان قبحه الذاتي والعرضي وقد تكرر قوله تعالى [فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ] في تخويف ووعيد من القول في الدين بغير علم ونسبة أمور وأحكام لا أصل لها الى النبوة والتنزيل مما يدل على ان وصف (الظالمين) لأهل الإفتراء يعني ان الإفتراء على الله أقبح وجوه الظلم وأشدها تعدياً لأنها تحريف للحقائق، ومحاربة للشرائع، فقد يكون الكذب والإفتراء في القضايا الشخصية والأمور الإجتماعية والأخلاقية، ويتعلق بشخص وجماعة وينتهي بتوبتهم او مغادرتهم الدنيا، أو لا تمر الأيام والليالي حتى يثبت بطلانه وعدم صحته فيكون أثره محدوداً موضوعاً ومكاناً وزماناً وأثراً ومع هذا فانه مذموم ومحرم.
اما الإفتراء على الله فانه عداوة باقية، موجهة الى الشريعة وأهل الإيمان وفيه أذى للذات والغير، لأنه محأولة لتغيير الأحكام وجعل الباطل حقاً، وباب لإثارة الشك والريب في النفوس، وحاجب دون انتساب الناس للإسلام وأصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس، لذا نعتت الآية الكريمة أهل الإفتراء بانهم ظالمون، وجاءت الآيات بإنذار وتبكيت أهل الإفتراء على الله، قال تعالى [وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ]( ).
قانون إجتناب الإفتراء
ما ان يبلغ الإنسان سن التكليف حتى يدرك ان عليه مسؤولية تعاهد العبادات والتقيد بالأحكام الشرعية والإبتعاد عن أسباب الغواية والضلالة، وتعتبر هذه الآية عوناً ومدداً سماوياً لإجتناب الكذب على الله والإفتراء في الدين لما فيها من لغة التخويف والإنذار بالاضافة الى النفرة من الكذب مطلقاً, وهذه النفرة ليست ذاتية محضة بل هي فضل من الله اذ جعل فطرة الإنسان مبنية على الصدق والإنصاف، وبغض الكذب والإفتراء, فالكذب أمر عأرض يأتي بسبب غلبة النفس الشهوية أو الغضبية، وحب الدنيا وزينتها.
وجاءت الآية لإرجاع الناس الى أصل الفطرة وإجتناب العوأرض التي تكون سبباً لنزول البلاء العاجل أو الآجل، وتذكرهم بسنن التكليف ولزوم التقيد بأحكامه وتخبر الإنسان عما له من المقام الرفيع في خلافة الأرض الذي يملي عليه حفظ أحكام الشرائع، ولم يقف الأمر عند الاخبار بل جاء القرآن بالشريعة المتكاملة التي تدعو الناس الى الإسلام وطرح ما خالفه، ولكن بعضهم اخذ يجادل بالخلاف الذي لا أصل له في الشرائع السابقة والذي يتضمن التشديد على النفس ويبعث على الإرباك ويجعل المؤمنين ينشغلون بمسائل فرعية لا أصل لها, فجاءت هذه الآية لتنقيح المبادىء والأقوال، وتعضيد أحكام الشريعة الإسلامية بإنذار أهل الدعاوى الباطلة وإخبارهم بالقبح الذاتي للإفتراء.
وهذا الأمر من مصاديق التكامل في الشريعة الإسلامية بأن يأتي القرآن بالواقية من التحريف والزيادة والنقيصة في الأحكام والسنن، ومن الآيات ان هذه الواقية رحمة للناس جميعاً بما فيهم أهل الإفتراء انفسهم, فالمسلمون لا يلتفتون الى دعوى تحريم بعض الأطعمة التي يقول بها شطر من بني إسرائيل، ولكن الإحتجاج جاء لتخليص أهل تلك الدعوى من التقيد بها، واخبارهم بانها خلاف الكتاب الذي يعملون به، وهذا من خصائص القرآن ووجوه الإعجاز فيه بانه قام بتصحيح أفعال الملل السابقة والإحتجاج عليهم باصول الشريعة التي يعملون بها مع انه لا يدعو الا للعمل بأحكامه وسننه.
والتحذير من الإفتراء لا ينحصر بمضامين الشرائع السابقة بل يشمل الإفتراء في أحكام القرآن وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السنن النبوية، فكأن الآية تقول لهم افتريتم الكذب على الأنبياء السابقين وادعيتم حرمة بعض الأطعمة، فلاتفتروا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنسبوا له ما لم يفعله.
ومن الآيات في السنة النبوية ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يلتفت الى دعواهم بل قام بمخالفتها علناً، وأكل لحم البعير وشرب من لبن الناقة وهذا الفعل دعوة للمسلمين للاقتداء به الى يوم القيامة، فلما أظهر فريق من بني إسرائيل الإحتجاج على فعله نزلت الآية السابقة بإحتجاج بسيط خالٍ من الوسائط والمقدمات التي تجعل بعض الناس يتخلفون عن درك مضامينه، فقد جاء بالدعوة لإحضار التوراة وتلاوتها وليس في بني إسرائيل من يجحد بالتوراة.
وقانون إجتناب الإفتراء ذو صبغة شرعية وعقلية، فالنفوس تنفر من الإفتراء، وجاءت هذه الآية لتؤكد سوء عاقبة الذي يكذب على الله، ويشمل الكذب على الله في المقام الكذب على الأنبياء والكتب المنزلة، مما يدل على عظيم منزلة الأنبياء عند الله، وتداخل أحكام الشرائع وموضوعية سنن الأنبياء فيها.
لقد أراد الله للناس التنزه عن الكذب مطلقاًَ لما فيه من الأضرار الذاتية والعامة، واقبح وجوه الكذب هو الكذب على الله لما فيه من التعدي على مقامات الربوبية ومخالفته لسنن العبودية، ومنافاته للتصديق بالتنزيل والرجوع الى الأنبياء والصدور عنهم، وعدم القيام بإضافة أمور للشريعة هي خالية منها، ولابد ان تلك الإضافة ضارة بالجميع سواء كانت في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، وهذا الكذب مخالف لقوانين الخلق ومعأرض للإرادة التكوينية فلابد انه لا يستديم في الأرض ولا يكتب له البقاء.
وهذه الآية الكريمة من أسباب دفع الإفتراء ومنع سلطانه على النفوس، كما انها تجعل الناس يحذرون ويبتعدون عن أهله وينفرون من أفعالهم الذميمة، اذ انها تحذر من الإفتراء وأهله بصيغة الوعيد بعد ان جاءت الآية السابقة باثبات بطلانه بخصوص قضية معينة في حلية بعض الأطعمة، لتبقى أحكام الشرائع السماوية هي السائدة في الأرض ببركة القرآن وجهاد المسلمين، وإجتناب الإفتراء مطلق يشمل عالم الاقوال والأفعال والتشريع والسنن السائدة والعرف.
قانون تقابل التعضيد
تقدم قانون ( التعضيد ) بان تعضد النبوة بالآيات والحجج( )، وقانون التوكيد المتبادل، وهو خاص بتوكيد الآية القرآنية لاختها، اما هذا القانون فيتعلق بأمور:
الأول: تعضيد السنة للقرآن.
الثاني: تعضيد آيات القرآن للسنة النبوية.
الثالث: تعاهد المسلمين لآيات القرآن والعمل بأحكامها، وفيه تثبيت لها.
الرابع: تلقي الصحابة والمسلمين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والمحاكاة. مما يعني عدم تسرب أسباب الإفتراء الى اعمال المسلمين وانحصار أمره بأهل واصحاب العناد والجحود، ومع هذا جاءت الآية بالنهي عنه بلغة الإحتجاج والإنذار والوعيد.
لقد أراد الله للآية القرآنية ان تقوم بتعضيد السنة النبوية، فعندما أكل النبي لحم الجزور، واحتج اليهود قائلين بحرمته، تأتي الآية القرآنية بامضاء السنة النبوية بلغة الإحتجاج، واقامة البرهان، والإتيان بالبينة، وهذا التعضيد صيغة سماوية مباركة لتثبيت السنة النبوية، وعندما يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بعمل مخصوص فيه مرضاة الله، أو يدعوهم له، وللإتيان بفعل عبادي مطلقا يأتي القرآن باعثاً على العمل بما اخبر وأمر به النبي، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا…] ( ).
وعندما تخرج سرايا المسلمين للجهاد يأتيهم النصر مع قرائن تبين المدد والعون الإلهي لهم، ولما يتخلف بعضهم عن التقيد بأوامر النبي يظهر أثر الغدر والخسارة، كما في عدم تقيد الرماة في واقعة احد بلزوم البقاء في اماكنهم، وحينما يحتج بنو إسرائيل على فعل النبي يأتيهم الرد بالدعوة للرجوع الى التوراة، وحينما نزلت فريضة الزكاة وقوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا…]( )، بادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأخذ الزكاة والتوكيد عليها وتثبيتها في الواقع العملي وفي أذهان المسلمين، ووضع القواعد الكلية لها والتي تمنع من الإختلاف والتباين الذي قد يؤدي في حال وجوده الى ضعف التقيد بأحكام الزكاة، وظهور الخلاف والشقاق بين المسلمين فيها.
وعندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون للقتال في بدر نزلت الملائكة لإعانتهم ونصرتهم وتثبيت اركان الإسلام في الأرض الى يوم القيامة، قال تعالى [ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
ومن الآيات في الإسلام التعضيد المتبادل والمتداخل، فالسنة النبوية تعضد القرآن وتثبت أحكامه والقرآن يعضد السنة النبوية، ويبين لزوم العمل بها وعدم التفريط بأي فرد من افرادها سواء كانت القولية أو الفعلية أو التدوينية، وهل ينحصر تقابل التعضيد بأمور هي:
الأول: زمان التنزيل وأيام النبوة المباركة، أي أوان نزول آيات القرآن.
الثاني: مدة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى حين انتقاله الى الرفيق الاعلى.
الثالث: تعضيد القرآن للسنة والسنة للقرآن.
الجواب: لا ينحصر التعضيد المتبادل بواحد من الأمور الثلاثة، وزمانه دائم الى يوم القيامة، كما انه اعم من ان ينحصر بالقرآن والسنة النبوية مع انهما افضل مصاديق التعضيد، والأصل لفروع عديدة مترشحة عنهما، فآيات التعضيد شاملة للآيات الكونية وجهاد المسلمين في سبيل الله ويمكن جعلها من مصاديق قوله تعالى [ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ…] ( ).
ومن إفاضات التنزيل القدسية تعضيد الآيات للنفوس في جذبها للايمان، وإدراك العقول للآيات والبراهين الكونية التي تدل على وجوب عبادة الصانع، بالإضافة الى اتصال الآيات والحجج التي تؤكد صدق نزول القرآن من عند الله، وظهور مستحدثات العلوم التي تكون شاهداً عقلياً على المضامين القدسية للآيات القرآنية، والقصور عن إدراك مفاهيمها، وهذا القصور باب للإيمان والاذعان لما فيه من أحكام، والإمتثال لأوامره والإجتناب التام لما نهى عنه بالإضافة الى الإستصحاب القهقري في موضوعات قانون تقابل التعضيد، اذ تدل هذه الآية على تعضيد التوراة للسنة النبوية، ومجيء القرآن لتعضيدهما معاً، واشتراكهما بتعضيد وتصديق الآية القرآنية ولغة الإحتجاج والبرهان فيها.
وجاء حرف الجر ( على) في قوله تعالى [فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ… ] والأصل في حرف الجر (على) هو الإستعلاء ولكنه يأتي بسبع معانٍ اخرى، وقال الطبرسي: “و(على) للاستعلاء ومعناه هنا: إضافة الكذب الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله”( ).
وليس في الآية ما يدل على الاستعلاء، وهل جاء حرف الجر (على) في الآية بمعنى واحد ام بعدة معانٍ؟ الجواب هو الاخير وهي:
الأول: مرادفة (عن) كما تقول رضي الله عليه أي عنه.
الثاني: مرادفة (في) كما في قوله تعالى [يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ…] ( ) أي في مكانتكم.
الثالث: مرادفة (من) كما في قوله تعالى [ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ] ( ) أي من الله.
الرابع: مرادفة (الباء) كقولك اعمل على بركة الله أي ببركة الله.
اما المعنى الأول فان الآية تحذر من ابتداع التحريم والتحليل ونسبة القول إفتراء على الله وكتبه ورسله، اما الثاني فهو إدعاء الإتيان بالإفتراء لتثبيت الدين وجعل الناس يتقيدون بالأحكام الشرعية، كما في باب التشديد على النفس، اما الثالث فهو إدعاء تلقي حكم الحلية والحرمة من الله واخذه من التنزيل والوحي، اما الرابع فيعني القيام بالإفتراء بظن جلب رضاه تعالى به.
فجاءت الآية جامعة مانعة،جامعة لوجوه الإفتراء ومبينة لما فيه من القبح الذاتي، ومانعة من التعدي والظلم واضافة أمور للشرائع ليست منها، وما هي النسبة بين الدعوة للرجوع الى التوراة للإحتجاج بها، وبين الإفتراء على الله؟ الجواب: هو بيان قاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهي ان الكتب المنزلة هي كلام الله، وإدعاء تشريع مخصوص غير موجود فيها هو كذب على الله، لان الذي يدعي التشريع لا يستطيع ان يقول اوحي الي بكذا، أو اني سمعت من آبائي ان النبي السابق قال كذا، ولا يؤخذ حينئذٍ بقوله، فيكون المدار على التنزيل بلحاظ ان الأنبياء السابقين عملوا به، وفي الدعوة الى التوراة بيان لفضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، لموضوعية سنته الشريفة في التشريع.
وظاهر الآية ان المدارفي أيام موسى على التوراة وحدها وليس على سنة النبي، اما في الإسلام فقد جعل الله موضوعية للسنة من غير ان تتعارض أحكامها مع القرآن كما انها مصداق عملي للوحي، ولو قالت الآية (فمن) (افترى على الله) يكفي في بيان المطلوب ولصدق على الجار والمجرور منزلة المفعول به، فلماذا جاء ذكر ( الكذب) وقد ورد الإفتراء من غير ذكر الكذب كما في قوله تعالى [وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى] ( )، الجواب من وجوه:
الأول: بيان الإثم المركب الذي ينتج عن ابتداع الأحكام ونسبتها الى الشريعة.
الثاني: الرأفة والرحمة بالناس كافة بتحذيرهم من الإفتراء، وجعل نفوسهم تنفر منه، بالإخبار عن كونه كذباًً على الله.
الثالث: تنبيه الناس بلزوم التصدي للإفتراء، اذ ان الفطرة الإنسانية تبغض الكفر ذاتاً وموضوعاً.
الرابع: توكيد الذنب العظيم الذي يقترفه أهل الإفتراء، خصوصاً وان الآية جاءت بلغة الإنذار والشرط والتحذير وبعد آية الإحتجاج والبرهان القريب الذي لا يحصل اختلاف في قبوله والرضا به.
الخامس: اقامة الحجة في المقام والإخبار عن حقيقة وهي ان الذي يفتري على الله يعلم انه يأتي بالكذب.
و تحث الآية الناس على الإلتفات الى موضوع الصدق والكذب فيما يدعي من أحكام الحلال والحرام، وهذا الحث لا ينحصر بالسامع والمتلقي بل يشمل القائل والمدعي لعمومات قوانين الإنذار والتحذير الإلهي، ومصاديق رحمته تعالى بالناس اجمعين.
علم المناسبة
وردت مادة (فرى) في القرآن نحو تسع وخمسين مرة وتذكر هنا لأول مرة في القرآن اي انه لم يذكر الإفتراء بصيغة الفعل أو الاسم في سورة البقرة، مع أهمية موضوع الإفتراء ولزوم التصدي له، مما يدل على خصوصية هذه الآية.
وقد جاءت الآية بذم الإفتراء وبيان قبحه الذاتي ووصف صاحبه بأشد نعوت ومراتب الظلم، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا…] ( ). فجعل الله وبصيغة الوعيد الكذب عليه أشد وجوه الظلم، وجاء القرآن بالتحذير من الإفتراء والزجر عنه، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] ( ), فبينت الآية عاقبة الذين يدعون حرمة بعض الطيبات بأنهم خاسرون ولن ينالوا الفلاح والرشاد، وعدم الفلاح هنا مطلق وغير مقيد، فيشمل الحياة الدنيا والآخرة.
وقد ذم الله قوماً لتحريمهم اصنافاً من الانعام، ومع ان التحريم على الذات ويتضمن الإضرار بالنفس فإن الله نعته بانه إفتراء وكذب على الله، قال تعالى [وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ إفتراء عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( ). مما يدل على ان الآية محل البحث دعوة للهداية والرشاد وقد انذر الله اصحاب الإفتراء بالغضــب والســخط الإلهي في الآخرة مع الذلة الهوان في الدنيا كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ]( ).
ويفيد اسم الإشارة (كذلك) التشبيه لبيان عقوبة الإفتراء، وان تحريم بعض الأطعمة بغير دليل وحجة إفتراء وكذب, ومن الآيات في المقام ان الذلة ظهرت على الذين جاء التحدي في هذه الآيات بدعوتهم الى الكتاب الذي بين ايديهم ويقرون بنزوله من عند الله وثبوت كذب دعواهم بحرمة لحم الجزور بالرجوع الى التوراة وفيه دحض وابطال لقولهم، واشارة الى احتمال بطلان اقوالهم في أمور اخرى مشابهة.
ويبين التوكيد القرآني على الزجر عن الإفتراء موضوعية إجتنابه، وضرورة الإحتراز منه, والنجاة من العذاب الذي ينتظر اصحابه، وهو دليل على مضامين الرحمة الإلهية للناس جميعاً في آيات القرآن، وجاءت الآية بإنذار اصحاب الإفتراء بالوقوف بين يدي الله للحساب وسؤالهم عن اقترافهم الكذب على الله قال تعالى [وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ] ( ) مما يدل على عظيم فضل الله تعالى على الناس بنزول القرآن، اذ ان الآية محل البحث مناسبة للنجاة من السؤال عن الإفتراء بإجتنابه.
وهذا الإجتناب لا ينحصر بلغة الوعيد والتوبيخ والوصف بالظلم لمن يفتري على الله، بل يشمل بيان الحجة وضلالة أهل الإفتراء ودعوتهم للكتاب الذي يؤمنون به ويتبعونه.
قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ]
هذا الشطر من الآية إعجاز إضافي، فهو إعجاز في موضوعه وحكمه ودلالته وما يتصف به من الدقة الشرعية والعقلية، وما يترتب عليه من الأحكام التي تدل على الحلم الإلهي والعفو والمغفرة.
لقد جاءت الآية لبيان عنوان الفصل والتباين في الحكم بين ما قبل هذه الآيات وما بعدها، أما الموضوع فيها فهو إعجاز آخر، اذ انها وردت في حلية بعض الأطعمة وتكذيب تحريمها، وتوبيخ الذين أخذوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلية طعام الإبل وأكله والمسلمين لها، بينما جاء الإنذار على الإفتراء واقتراف الكذب على الله مطلقاً في موضوع الحلية والحرمة وأمور العبادات والعقائد والسنن.
وجعلت الآية أواناً لبدء العقاب والحكم على المفتري بالظلم، ومن كان يدعي على الأنبياء باطلاً قبل هذا الأوان هل يحتسب من المفترين ويكون ظالماً، الجواب فيه تفصيل، أما الإفتراء فنعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ولصدق اسم الإفتراء والكذب على القول الذي لا أصل أو واقع له، أما صفة الظلم والتعدي فتثبت بعد هذه الآيات التي تؤكد إقامة الحجة على بني إسرائيل وأهل الكتاب مطلقاً بل الناس جميعاً لصيغة الإطلاق ولتعلق صفة الظلم بالذين يفترون الكذب على الله بغض النظر عن الملة والمذهب، وهذا من الفضل والنعم الإلهية على بني إسرائيل لأن صفة الظلم في باب الإفتراء تأتي بعد الإنذار السماوي بلغة الإحتجاج والاستدلال من التوراة.
لقد أراد الله ان تكون لهذه الآية موضوعية في الإحتجاج وشأن في المنتديات العامة لأهل الكتاب، وان تكون وسيلة لسعي المسلمين في الجهاد والإرتقاء في المعارف الإلهية مما يدل على لزوم التدبر في كل آية قرآنية واقتباس العلوم منها واتخاذ مفاهيمها ضياءً ونبراساً في الواقع اليومي، وهداية وإرشاداً في كيفية المعاملة والجدال مع أهل الكتاب وغيرهم.
وتتجلى موضوعية هذه الآية بقوله تعالى (من بعد ذلك ) ولم تقل الآية ( من بعد هذا) بل جاءت باسم الإشارة الذي يفيد البعد (ذلك) وفيه توكيد لأهمية الإحتجاج الوارد في الآية، وفيه مسائل:
الأولى: تفخيم وتعظيم موضوع الآيات والبراهين التي تدل على أصالة الحلية، وعدم ثبوت حرمة طعام الجزور.
الثانية: بيان اتحاد سنخية النبوة في مواضيع الحلال والحرام.
الثالثة: الإشارة الى موضوعية الإحتجاج بالرجوع الى التوراة.
الرابعة: الدلالة على افحام الخصم بارجاعه الى الكتاب الذي يؤمن به، وجعله فيصلاً وحكماً.
الخامسة: الإشارة الى المعاني القدسية التوليدية التي تتفرع عن نزول هذه الآية والإحتجاج بها.
السادسة:الدعوة للبحث والإستقصاء ومعرفة الوجوه الإضافية المرادة من قوله تعالى ( بعد ذلك ).
السابعة: الاخبار عن ثبوت البرهان والقطع بنزول العقاب بعد البيان والاعلام والاستدلال.
الثامنة: جذب الاسماع وتهيئة الاذهان لمضامين هذه الآية، فلولا ورود قيد (من بعد ذلك ) لظن الناس شمول هذه الآية بعمومات الإنذار والإفتراء، وعدم تقييده بحجة وأوان مخصوص، ولكن هذا القيد يؤكد ما لهذه الآية من الخصوصية، وعدم التفريط بمضامينها، ولزوم الكف عن الكذب على الله في باب العقائد والأحكام.
وما هو الأمر أو الأمور التي جاءت الإشارة اليها في قوله تعالى (من بعد ذلك) ليكون الإفتراء بعدها ظلماً وتعدياً، الجواب على وجوه:
الأول: من بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: من بعد نزول القرآن، وبيان أحكام الحلال والحرام فيه.
الثالث: بيان السنة النبوية الشريفة القولية والفعلية لأحكام الشريعة ومضامين الحلية والحرمةوتفاصيل مصاديقها الشخصية.
الرابع: ثبوت أركان الدين الإسلامي واتساع رقعة الإسلام ودخول الناس فيه أفواجاً.
الخامس: اتباع المسلمين لنهج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم التفاتهم لما يدعيه فريق من أهل الكتاب بحرمة لحم الإبل أو غيرها من الدعوات، وما يطرح من الشبهات بصيغة الجدل والعناد.
السادس: (من بعد ذلك) أي بعد الإحتجاج بإحضار وتلاوة التوراة، فالآية تفيد القطع بدحض حجة الخصم لأنه أمام امور ثلاثة:
أولاً: إحضار التوراة والإمتناع عن تلاوتها.
ثانياً: عدم إحضار التوراة أصلاً.
ثالثاً: إحضار التوراة وتلاوتها، وحينئذ يدرك الناس صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخلو التوراة من تحريم لحم الإبل، فهذه الآية تدل على حقيقة وهي اثبات عدم تحريم طعام مخصوص في التوراة، وان الكلام الذي يدعيه هؤلاء لا أصل له في الشرائع السماوية.
السابع: من بعد كيفية الإحتجاج التي تجلت في الآية السابقة، وهذا لا يعني جعل المدار في كل إحتجاج ومسألة خلافية هو الرجوع الى التوراة أو الإنجيل، نعم هذا الرجوع صيغة من صيغ الإحتجاج تفيد إفحام الخصم وجعله يعتبر ويكف عن إيذاء المسلمين، ويتدبر في لزوم الهداية والرشاد ولا يمكنه إنكار الإقرار به.
الثامن: بعد نزول الآية السابقة وما فيها من الإحتجاج ومقدمات إبطال دعوى الخصم.
التاسع: صيغة إقامة البرهان بما يؤمن به الخصم.
العاشر:: التسليم بصدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حلية الطيبات وعدم تحريم بعضها، مما يعني إطلاق التصديق به وبنبوته والكف عن الجدل وإثارة الشبهات.
الحادي عشر: بعد إحتجاج القرآن بالتوراة مع انه كاف للإستدلال وإقامة الحجة والبرهان.
الثاني عشر: بعد هذه الآية وما فيها من الوعيد والتخويف.
قوله تعالى [فَأولئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]
جاءت خاتمة الآية لتوكيد حقيقة ثابتة ووصف يترتب عليه حكم دائم, وتتصف بصيغة الإطلاق الشاملة للإفتراء والكذب على الله من غير إستثناء احد منهم، فالذم من الكلي المتواطيء الذي تتساوى افراده في الحكم وان تباينت مذاهبهم ودرجاتهم، فيلتقي فيه العالم وغير العالم، والكافر والكتابي ممن يختار الإدعاء بما ليس له أصل وينسبه الى الشرائع السماوية وان كانت درجات ظلمهم من الكلي المشكك، اذ ان ظلم العالم بالإفتراء أكثر قبحاً وضرراً من ظلم الجاهل وهو من اسرار البيان والحجة بقوله تعالى ( من بعد ذلك).
وجاء الوصف بالظلم على نحو الإطلاق من غير تقييد بجهة أو موضوع وفيه وجوه:
الأول: ظلم صاحب الإفتراء لنفسه، وهذا الظلم على اقسام:
أولاً: الإبتداع في الدين.
ثانياً: الضلالة وايقاع سنن الغواية.
ثالثاً: ركوب جادة العناد والإصرار.
رابعاً: الإمتناع عن معرفة الحق والهداية.
خامساً: تفويت الفرصة على الذات. وعدم الإنقياد للأنبياء وما جاءوا به من عند الله.
سادساً: سوق النفس الى العذاب الاخروي.
سابعاً: بطلان العمل بسبب الخطأ في الإختيار.
ثامناً: الحرمان من إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الى الله.
الوجه الثاني: الظلم المتبادل بين أهل الإفتراء، وهو على اقسام هي:
الأول: حث كل واحد منهم صاحبه أو أصحابه على البقاء على الإفتراء والإقامة على العناد.
الثاني: أغواء وجذب أُناس آخرين لمفاهيم الإفتراء وترغيبهم فيه، وبالنسبة لمضمون الآية وتحريم بعض الأطعمة فانه يستهوي بعض الناس ولو على نحو الإحتياط والإحتراز، فجاءت الآية لتبين ان الإحتياط هنا خلاف الإحتياط، وانه من التشديد على النفس، والبدعة المحرمة في الدين فلا أصل لتحريم لحم الجزور على إبراهيم أو غيره من الأنبياء، والتوراة شاهد على حليته ومصدق لأحكام القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تحريض بعضهم لبعضهم الآخر بالبقاء في منازل العناد والإصرار.
الرابع: الاثم الذي يلحق التابع والمتبوع فيهم في مفاهيم البدعة والإصرار عليها.
الخامس: التعدي على المسلمين والتشكيك واثارة الشبهات في الأحكام الشرعية من غير دليل.
السادس: تلقي الذرية لمفاهيم البدعة، ووراثتها وكأنها أمر قطعي، فجاءت هذه الآية لمنع التأثير المتبادل بينهم في الباطل وازاحتهم عن منازل العناد، لذا فان الآية تتوجه بالخطاب ولغة الإنذار الى كل واحد منهم كما تتوجه بالخطاب الى الناس جميعاً.
ولكن أهل الإفتراء يتلقون في ثنايا الآية التوبيخ والإنذار والحث على عدم الانصات لرؤسائهم، وتدعوهم للقيام بوظائف التكليف على نحو مستقل، والرجوع الى التوراة والتأكد من بطلان دعوى تحريم بعض الطيبات، ليكون هذا الرجوع مناسبة للتخلص من الإفتراء والإبتعاد عن أهله، والسلامة من العقاب الذي يترتب عليه.
الوجه الثالث: ظلم أهل الإفتراء للمسلمين، وهو على اقسام:
الأول: عدم إتباعهم ومحاكاتهم على الحق وما فيه من التنعم بالطيبات، فالمسلمون يدعون الى الهدى وأولئك يمتنعون عن قبول الدعوة ويقابلونها بالجحود والعناد.
الثاني: إثارة الشبهات وإدعاء تحريم بعض الأطعمة على إبراهيم والأنبياء الاخرين، والسؤال الإنكاري عن أكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحم الجزور مع دعوى تحريمه على الأنبياء السابقين، وما في هذا الجدل من الأذى والعناد وإشغال المسلمين ومحأولة بث روح الشك والريب في النفوس.
الثالث: التعدي على المسلمين والطعن في دينهم.
الرابع: الإساءة الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع انه جاء بتثبيت سنن الأنبياء وبتنزيل مبارك خالد الى يوم القيامة.
الخامس: إيجاد أسباب الفرقة والخلاف والشقاق مع المسلمين.
الوجه الرابع: الظلم العقائدي وهو على اقسام:
الأول: نسبة أمور للشريعة ليست منها.
الثاني: جعل الحلال حراماً والحرام حلالاً.
الثالث: الكذب على الله ورسله وكتبه، وما في هذا الكذب من أسباب الريب والشك والخصومة.
الرابع: محأولة إشاعة مفاهيم الباطل والضلالة في الأرض، مما يدل على الحاجة النوعية العامة للقرآن.
الخامس: تحريف الحقائق وتبديل الأحكام، واعراض أهل الإفتراء عن الكتب التي يؤمنون بها، لان الأصل هو رجوعهم الى التوراة قبل إدعاء التحريم، فجاء القرآن بدعوتهم الى الواجب والأصل، وكأن الآية تلومهم على دعوى التحريم قبل الرجوع الى التوراة، وما ادى اليه عدم الرجوع هذا من التعدي والأذى.
الوجه الخامس: الظلم للناس، وهو على اقسام:
الأول: الإفتراء وسيلة لصد الناس عن الإيمان.
الثاني: يتضمن الإفتراء التجرأ في باب الأحكام والعقائد.
الثالث: محأولة إحياء البدعة, والأصل هو التعاون من أجل إماتتها وطمسها.
الرابع: الحرمان من نعمة الطيبات بعد أن أحلها الله.
وجاء اسم الإشارة (أولئك) لافادة البعد عن رحمة الله، والذم والتبكيت لسوء الفعل بإختيار الإفتراء والتعدي والتجرأ على حرمات الله.
وتبين الآية دفاع الله عن الأنبياء سواء السابقين كنوح وإبراهيم، أو موسى عليه السلام الذي يتبعه اليهود، أو محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي نزل عليه القرآن، ويتجلى هذا الدفاع بالتصدي للإفتراء عليهم بالحجة القريبة، والدليل القاطع، والبرهان الواضح بان تكون الشهادة بالتوراة الكتاب الذي لا ينكر مضامينه بنو إسرائيل، ومن منافع الإحتجاج بالتوراة وطلب استحضارها للشهادة بيان حقيقة اتحاد سنن الأنبياء.
وكما وصفت الآية أهل الإفتراء بانهم ظالمون فقد وصفت الآية الكافرين والجاحدين بانهم ظالمون، مما يدل على التشابه في الفعل والنعت، وجاءت الآيات بالاخبار عن العقاب الشديد، الذي ينتظر الظالمين، لذا فان خاتمة الآية تحذير لأهل الكتاب، ومنع من الإفتراء ودعوة سماوية للإبتعاد عنه، وحث على الصدور عن الكتاب، وتقتضي الوظيفة الشرعية للمليين الرجوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي الأحكام منه، فكيف بمن يحتج عليه لانه يحل ما أحل الله من الطيبات.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (أولئك هم الظالمون) للدلالة على التعدد والكثرة، وان دعوى تحريم بعض الطيبات لم تصدر من شخص واحد، أو جماعة قليلة كي يمكن الإعراض عنها وتركها تموت في مهدها، بل تبين الآية الكثرة في طرف أهل الإفتراء وبلحاظ ان آيات القرآن حية متجددة فان موضوع الآية اعم من ان ينحصر بحلية طعام الجزور وانكارهم لهذه الحلية من غير دليل، لذا فان منافع الآية متصلة ودائمة ومنها:
الأول: دعوة الناس الى إجتناب الإفتراء.
الثاني: بيان القبح الذاتي للإفتراء.
الثالث: الإخبار بان الكذب على الرسول والتنزيل هو كذب على الله.
الرابع: ان الله يسمع ويرى ولا تخفى عليه خافية، ويعلم ما يقوم به أهل الكتاب في مواجهة الإسلام، واثارة الشبهات لصد الناس عن اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان ان الله تعالى حليم لا يتعجل انزال العقاب بالكافرين والمعاندين، بل يأتيهم بالحجة والبرهان، ويدعوهم بلطف للإسلام.
وتعتبر هذه الآية دليلاً على حاجة أهل الكتاب للقرآن ولزوم معرفة الأحكام الشرعية من خلال القرآن وآياته خصوصاً مع اقرار كبراء قريش واساطين اللغة بلغة الإعجاز في القرآن وصيغ التحدي فيه، ومن تاب ويتوب من الظالمين هل تقبل توبته؟ الجواب: نعم، فان عمومات التوبة تشمله، وهذه الآية تحث على التوبة والإنابة وتدعو اليها، وهو لطف إضافي، ومناسبة لإقالة العثرة، وإعانة الناس على الإمتثال للأوامر الإلهية، والتقيد بأحكام الحلال والحرام، فالذي يتوب عن الإفتراء لا ينفع نفسه فحسب بل يخفف عن المسلمين وغيرهم، ويساهم في منع تفشي افكار الجحد والعناد والإصرار على الباطل.
وتبين هذه الآية تحصيل الناس لدرجة من العلم تجعلهم يميزون بين الإفتراء على الله وقول الحق، ليكون المكلف مختاراً قادراً على إجتناب الكذب على الله وأنبيائه وكتبه، وتقوم الحجة على المتعدي ويصدق عليه انه ظالم شرعاً وعقلاً.
قانون (الإفتراء ظلم)
يتكون هذا القانون من طرفين:
الطرف الأول: الإفتراء وإقتراف الكذب وهو مطلق ولا ينحصر بموضوع الشرائع والعقائد، نعم ما يأتي منه في باب الشرائع اشد واقبح ظلماً ويتضمن الجحود والعناد والبدعة المحرمة، والإقامة على الضلالة، وقد يأتي الإفتراء على نحو القضية الشخصية كما في الكذب على بعض الناس ونسبة بعض العيوب والسيئات لهم وهم منزهون عنها، فيتعلق الضرر بالشخص ومقامه في المجتمع، اما الإفتراء في باب الشرائع والسنن فان الضرر عام ولا ينحصر بشخص المفتري بل يشمل أطرافاً اخرى كما في موضوع الآية التي تحذر في مفهومها من الإفتراء والإساءة الى:
الأول: نبي الله إبراهيم عليه السلام بنسبة تحريم طعام الجزور اليه.
الثاني: نبي الله موسى عليه السلام بلحاظ أن أصحاب الدعوى هم اتباع موسى عليه السلام، ولولا هذه الآية لم يلتفت احد الى أمور:
الأول: خلو التوراة من مثل هذا التحريم.
الثاني: الإحتجاج بالتوراة.
الثالث: الدعوة الى إحضارها وجعلها شاهداً.
الرابع: موضوعية هذه المسألة قي علم الكلام والعقائد.
والمتبادر الى الذهن ان هؤلاء لا يقولون الا ما يجدونه في التوراة، فجاءت الآية حجة دامغة عليهم تجعلهم يبهتون لما فيها من البرهان القريب المحسوس، ومفاجئة للمسلمين والناس فلا احد يتوقع هزيمتهم ودحض حجتهم بكتابهم التوراة، ومن غير ان يطول الجدل ويستمر الإحتجاج في المساجد والكنائس والمنتديات.
الثالث: الأنبياء لإدعاء حرمة لحم الجزور على الأنبياء من أيام نوح.
الرابع: الكتب المنزلة من السماء، إذ أن أصحاب الدعوى من أهل الكتاب.
الخامس: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتراض على سنته القولية والفعلية وإدعاء مخالفتها لسنن الأنبياء السابقين.
السادس: المسلمون بمحأولة التعريض بهم مع انهم على الحق والهدى.
الطرف الثاني: الظلم وهو التعدي والجور والإساءة الى الغير من دون حق، والتجاوز على الحقوق والحرمات، والظلم من الكلي المشكك الذي له مراتب تشكيكية متفاوتة، ولكن الآية جاءت بصيغة الإطلاق الذي يعني افادة اعلى درجات الظلم بالنسبة لمن يفتري الكذب على الله، ويدعي الباطل في باب الشرائع والأحكام، وكأن الظلم ينحصر بهم، وان النسبة بينهما التساوي وهي ان كل مفترٍ ظالم، وكل ظالم مفترٍ، ولكن النسبة الحق بينهما هي العموم والخصوص المطلق فكل مفتر هو ظالم وليس العكس، وهل من مفتر ليس بظالم ؟ الجواب لا، فالإفتراء اقتراف للكذب، والإتيان بأمور وإدعاء وقائع لا أصل أو وجود لها مبغوض شرعاً وعقلاً وعرفاٍ، فمتى ما ادرك الناس ان الأمر إفتراء وكذب فان النفوس تنفر منه وتتجنبه.
فحينما جاء إدعاء حرمة أكل الجزور الى الأنبياء، ردت عليهم الآية السابقة بالإحتكام الى التوراة لإثبات بطلان الدعوى، وجاءت هذه الآية لتؤكد ان هذا الإدعاء إفتراء باطل، وستبقى صفة الظلم ملازمة للإفتراء وأهله الى يوم القيامة.
وتبين الآية القبح الذاتي لكل من الإفتراء والظلم، وتنذر بالعقاب الشديد لمن يفتري الكذب ويبتدع في الدين، وهكذا الإنذار حرز وواقية لحفظ معالم الشريعة، وبرزخ دون التحريف فيها ومانع من إيجاد نوع من التعارض والتباين بين سنن الأنبياء، خصوصاً التعارض الذي يقصد به الإساءة الى الإسلام والى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع انها فرع الوحي والتنزيل.
ومن الآيات في هذا القانون مساهمته في تهذيب النفوس وأصلاح المجتمعات وتثبيت دعائم الشريعة، وجعل المؤمنين يحرصون على إجتناب التحريف، كما يبعث الخوف في نفوس غيرهم من التعدي على التنزيل وسنن الأنبياء، وفيه عون على حفظ آيات القرآن الكريم من التحريف، وتنزيه مجتمعات المسلمين من الإفتراء لذا تراهم وفي أجيالهم المتعاقبة يحرصون على ضبط كلمات وحروف وحركات القرآن، وبذل العلماء الوسع في ضبط أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهذيبها من أسباب الوضع والتحريف والتغيير وإجتهدوا في تعاهد النص وحرصوا على إجتناب التغيير في الألفاظ حتى الذي لا يغير المعنى والمضمون، ليفوزوا بالنجاة من داء وآفة الإفتراء، وما يترتب عليه من العقاب الأليم.
وهل يمكن إستثناء حالات معينة من الإفتراء على الله لا تشملها الحرمة، كما في حال الحرب والقتال مثلاً بإعتبار الحرب خدعة ؟ الجواب لا، فلا يجوز في كل الأحوال الكذب على الله تعالى وتحريف الشرائع، لذا جاءت الآية على نحو الإطلاق لتوكيد ذم الإفتراء والتحذير منه، ويساعد هذا القانون على استدامة وجود امة تحفظ أحكام الشريعة والقيم السماوية، وهو عون للناس للإنجذاب اليها، وإتباعها في تثبيت أركان الإسلام والفرائض العبادية.
قوله تعالى [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ] الآية 95.
الاعراب واللغة
قل: فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت، صدق: فعل ماضِ، الله: فاعل، والجملة في محل نصب مقول القول.
فأتبعوا: الفاء هي الفصيحة، أي انها تفصح عن شرط مقدر، فما دام الله أخبر عن الحق والصدق في حلية الطيبات فعليكم باتباع ملة إبراهيم وفيها السلامة والنجاة.
أتبعوا: فعل أمر مبني على حذف النون، لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل، ملة: مفعول به، وهو مضاف، إبراهيم: مضاف اليه، حنيفاً: حال منصوب.
وما كان: الواو: حالية، ما: نافية، كان: فعل ماضِ ناقص، وأسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على إبراهيم.
من: حرف جر، المشركين: اسم مجرور، وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان.
يقال تبع الشيء تبعاً وتباعاً في الأفعال أي سار في أثره وأقتدى به، وفي حديث الدعاء: تابع بيننا وبينهم في الخيرات أي اجعلنا نتبعهم على ما هم عليه، والتابع: التالي، والملة لغة هي السنة والطريقة، وفي الإصطلاح: الشريعة والدين، ونسب ابن منظور الى القيل انها معظم الدين، وجملة ما يجيء به الرسل( ).
في سياق الآيات
بعد التوكيد على حلية الطعام لبني إسرائيل وعدم حرمة الطيبات ومجيء الآية السابقة بقانون مستديم وقاعدة كلية لا تقبل الترديد أو الاستثناء وتوكيدها على حرمة الكذب في الدين والملل السماوية، جاءت هذه الآية لتؤكد حقيقة ثابتة لا تقبل الاستثناء، وشهادة تشترك فيها جميع الخلائق وهي صدق الله فيما يخبر عنه في المقام من وجوه:
الأول: حلية جميع الطيبات لبني إسرائيل.
الثاني: لم يحرم إبراهيم والأنبياء الآخرون على انفسهم بعض الطيبات.
الثالث: صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله.
الرابع: انتفاء التعارض والتباين بين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنن الأنبياء السابقين.
الخامس: خلو التوراة من إدعاء تحريم بعض الأطعمة.
السادس: دين إبراهيم هو دين الإسلام، ونفي تحريمه لبعض الأطعمة لا يتعارض مع وجوب اتباعه، كما تبين الآية الثناء على الله لما في هذه الآية من الإخبار عن إنحصار حرمة بعض الأطعمة على إسرائيل دون غيره وهذا التحريم لم يأت من باب التشريع الإلهي، بل ان إسرائيل حرمه على نفسه كما جاء في الآية سواء بالنذر، أو بالإجتهاد، أو الزهد وأوان غياب يوسف عنه لنحو عشرين سنة وحزنه عليه، وانقطاعه الى الله بالدعاء والتوسل أو العلة والمرض.
ولما اختتمت الآية قبل السابقة بالأمر بإحضار وتلاوة التوراة والتحدي وفضح زيف الدعوى بقوله تعالى (ان كنتم صادقين) جاءت هذه الآية لتؤكد صدق الله تعالى على نحو الدوام والشمول والإطلاق.
ولم يجعل الله بني إسرائيل يتيهون في ظلمات الإفتراء والإدعاء على الأنبياء بل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لهم وللناس جميعاً بالرسالة السمحاء الخالية من الكلفة والتشديد على النفس، ونزلت آيات القرآن لتدعوهم لإتباع إبراهيم عليه السلام في إستقامته وإنقياده لله تعالى.
ومن وجوه الإستقامة النزاهة عن الإفتراء الذي بينت الآية السابقة قبحه وما فيه من الأضرار الدنيوية والاخروية، ومع مجيء الآيتين السابقتين بخصوص حلية بعض الأطعمة ونفي تحريم إبراهيم لها فان هذه الآية جاءت مطلقة، في لزوم اتباع إبراهيم عليه السلام في دينه وملته.
لقد جاءت هذه الآية لتنقل أهل الكتاب من الجدل في مسألة مباحة تتعلق بالطعام والأكل وانعدام الدليل لدعواهم، الى ما يجب عليهم من التكاليف، وهذا الوجوب لم يأت على نحو المباشرة والتعيين الواضح بل باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، و جاء بالواسطة، فكما دعتهم الآية قبل السابقة للإحتكام الى التوراة والتأكد من بطلان دعواهم بتلاوتها، فان هذه الآية جاءت بالحث على إتباع إبراهيم عليه السلام لاثبات وجوب دخول الإسلام والإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمره الله به.
وقد جاء قبل آيات الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان إيمانه وإيمان المسلمين بالله والتنزيل، في قوله تعالى [ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبراهيم ]( )، ثم جاء الأمر الى النبي للإحتجاج على بني إسرائيل بإحضار التوراة وتلاوتها كما في الآية قبل السابقة [قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا] وسيأتي في القرآن بعد ثلاثة واربع آيات الأمر الى النبي بمخاطبة أهل الكتاب بصيغة اللوم.
إعجاز الآية
وفيه وجوه:
الأول: جاء الإخبار عن صدق الله تعالى بالأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل صدق الله) وهو شاهد على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت المعارف الإلهية، والأخذ بيد الناس للإرتقاء في منازلها، ومعرفة ضرورة من ضرورات الدين وهي صدق الله ، وإذ يتعلق صدق الناس أو كذبهم بعالم الأخبار والوقائع والحوادث، فان الإخبار الحق عن الأحكام والحقائق والوقائع والقصص يأتي بالتنزيل فضلاً ورحمة من الله، ودعوة لنبذ الكذب ووسيلة سماوية لفضحه ودعوة لعدم الإلتفات اليه.
الثاني: صدق الله مطلق ويشمل الأوامر والأحكام والسنن والتنزيل والاخبار عن عالم الآخرة والثواب والعقاب يوم القيامة كل بحسب عمله في الدنيا.
الثالث: التوكيد على ما في الآيتين السابقتين من حلية الأطعمة مطلقاً لبني إسرائيل وحرمة اقتراف الكذب في باب الشرائع والاحكام، ومنه الإشتراك والتداخل بين لغة الأمر والأخبار، والتعدد في جهة الخطاب فبينما بدأت الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر له بالقول والإخبار عن صدق الله، جاء الشطر الآخر منها بوجوبإتباع ابراهيم وتنزيهه من الشرك، مما يدل على عدم التعارض بين وجوب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته لإتباع النبياء واجتناب الشرك.
الرابع: انتقال الآية الى أمر الناس باتباع ملة إبراهيم، وجاءت بتعيين وتحديد ملة إبراهيم وانه كان على التوحيد والنهج المستقيم الخالي من الشرك الظاهر والخفي وهذا التحديد برزخ دون التحريف والإفتراء ووسيلة للدفاع عن الأنبياء.
الخامس: لما ذكر الإفتراء في باب الأطعمة وحليتها، وتصدت له الآيتان السابقتان، جاءت هذه الآية بما يمنع من الكذب في مضامين الملة والدين خصوصاً وانه اكثر اهمية, والإفتراء فيه يؤدي الى الضلالة والاضلال وشيوع معاني الكفر.
السادس: تدعو الآية الناس لدخول الإسلام، وتحذر من الشرك وتؤكد التناقض والتضاد بينه وبين الإسلام.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية ( قل صدق الله ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
تدعو الآية المسلمين للجهاد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وحث الناس على إجتناب الكذب ومنعهم من التعدي على الحرمات، وجاءت الآية أمراً الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا انها تؤهل المسلمين لوراثة الأنبياء وإمامة الناس في منازل التوحيد، وتعتبر سلاحاً بيد المسلمين لحث الناس على الرجوع الى القرآن، والصدور عنه، وإجتناب ما يخالفه من الأقوال والقصص والأخبار، وان أدعي انها مأخوذة من الأنبياء، فليس من برزخ بين الصدق والكذب، وتؤكد الآية حقيقة قطعية وهي شمول جميع آيات القرآن، وما فيه من الوعد والوعيد والإخبار بصيغة الصدق والحق.
كما تبين صحة وسلامة سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلوها من الخطأ والإشتباه، لانها من الوحي وجزء متمم لسنن الأنبياء، وجاءت لتثبيتها ومن وجوه التثبيت هنا دفع الوهم والتحريف عنها، فأكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحم الجزور تذكير بقيام إبراهيم بأكله، وعندما يدعو الى التوحيد وعدم الشرك فانه يجدد سنة إبراهيم واستقامته على الهدى.
وتبين الآية وجهاً من وجوه الدعوة الى الله بالاخبار عن صدقه تعالى وان الكتب السماوية لا تأتي الا بالحق، ومن اراد الحقيقة فليرجع الى القرآن الذي هو شاهد على العصور السالفة، وجامع لاحكام الحلال والحرام.
وجاءت الآية بصيغة الماضي (صدق الله) مما يعني الإمضاء والإطلاق في صدق كل ما أخبر الله عنه، وفيه دعوة للناس لتصديق القرآن والكتب السماوية الأخرى، واشارة إلى أن الإحتجاج بالتوراة جاء كونها كتاباً نازلاً من عند الله، وان كلامه سبحانه ليس فيه تعارض بل بعضه يصدق بعضاً، ويتجلى هذا التصديق بتوكيد وتصديق آيات القرآن بعضها لبعض، وبشارة الكتب السماوية السابقة بالقرآن، وفي الإحتجاج على بني اسرائيل بالتوراة اظهار لأفضلية المسلمين لأنهم لم ولن يقولوا ما يخالف القرآن، ولن يحتج عليهم أحد بإحضار القرآن لعدم صدور الكذب أو الإفتراء منهم في باب الأحكام، فالحق والصدق في القرآن وهم متمسكون به ويتعاهدونه، ومن التعاهد صيغة الإحتجاج بالكتب السماوية السابقة.
الآية لطف
هذه الآية عون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت معالم التوحيد في الأرض وبيان صفة من صفات الله تعالى وانه (الصادق)، والمليون يعلمون بهذه الصفة ولا يترددون في قبولها فلماذا جاء ذكرها في هذه الآية، الجواب من وجوه:
الأول: التذكير بصفات الله الحسنى.
الثاني: جعل حقيقة صدق الله تعالى قاعدة كلية للإحتجاج والجدل.
الثالث: إعانة المسلمين والناس على معرفة احكام الحلال والحرام.
الرابع: الزجر عن الإفتراء على الله تعالى.
الخامس: إجتناب الإجتهاد الذي يخالف التنزيل وما جاء به الأنبياء من عند الله .
السادس: يتغشى اللطف في هذه الآية الناس جميعاً لما فيها من الثناء على الله تعالى، والبيان الذي يفيد التعليم والتأديب والإرشاد، فلابد لكل إنسان من إدراك الإطمئنان والسكينة لصدق الله تعالى، وان الذي ينزل من عند الله هو الحق والصدق، وما يخالفه هو الباطل.
وكما جعل الله الإفتراء على الأنبياء والتوراة وإدعاء تحريم بعض الأطعمة إفتراء عليه، فان الصدق في الآية يشمل الوحي والتنزيل ومنه ما يفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يتلقاه بالوحي، وفيه لطف مركب من وجوه:
الأول: اللطف بالأنبياء من جهات:
الأولى: اثبات صدقهم وان قولهم حق.
الثانية: توكيد نزول الوحي عليهم.
الثالثة: دعوة الناس لتصديقهم.
الرابعة: الصدق واقية لهم من الأذى والإيذاء.
الخامسة: حاجة دعوى النبوة الى المعجزة.
السادسة: أداء وظائف النبوة بأحسن حال.
السابعة: اصغاء الناس للأنبياء، لأن الصدق وسيلة لجذب الناس اذ انهم ينفرون من الكذب.
الثاني: اللطف بالمليين، وصدق الله لطف بهم من جهات:
الأولى: تثبيتهم على الإيمان.
الثانية: إخبارهم بانهم على الحق.
الثالثة: بعث السكينة في نفوسهم.
الرابعة: الإرتقاء في المعارف الإلهية.
الخامسة: تلقيهم للأحكام والأخبار الصحيحة الخالية من التحريف والإفتراء.
السادسة: إتيان التكاليف والأعمال العبادية.
السابعة: تنمية ملكة الإحتجاج ورد الشبهات.
الثامنة: امتلاك القدرة على اقناع الآخرين لجذبهم الى منازل الإيمان.
الثالث: اللطف بالناس مطلقاً من وجهات:
الأولى: الرأفة بالناس باخبارهم عن الحق والصدق.
الثانية: جعلهم أغنياء عن غيره تعالى.
الثالثة: الحصانة من الإفتراء والكذب وسهولة رده وفضحه.
الرابعة: دعوتهم للإقرار بالربوبية والإيمان
الخامسة: ادراك حقيقة وهي ان الله معهم، ويرأف بهم فلم يتركهم وشأنهم، بل أخبرهم بالحق والصدق.
السادسة: دعوتهم للرجوع الى الأنبياء والتنزيل، وتلقي الأحكام من السماء، ودعوتهم للتصديق بالأنبياء وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة كونه توكيداً وتصديقاً لسنن الأنبياء من قبل، ولا يتعارض هذا التوكيد مع النسخ في الشرائع، لانحصار النسخ بمسائله ومواضيعه وعلى نحو مبين ومعلوم.
ومن اللطف الإلهي في الآية انها تتضمن الدعوة الى الإسلام بالواسطة وفق القياس الاقتراني:
والكبرى :الله صادق.
اما الصغرى فهي الإمتثال لما أمر الله به، باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
والنتيجة وجوب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء الأمر الإلهي بإتباعه بالنص الصريح والواسطة،ومنه الدعوة لإقتفاء أثر إبراهيم عليه السلام، وهذا الإقتفاء لم يأت مجملاً بل جاء مقيداً بالحنيفية والإستقامة، وفيه اعانة للناس والاخذ بايديهم نحو الهداية وسبل الإسلام واداء الفرائض ومنها حج البيت الذي حرص إبراهيم على دعوة الناس له بعد ان اقام قواعده هو واسماعيل عليهما السلام، ومن اللطف في الآية الحث على إجتناب الشرك وبمقدمتين:
الأولى: تنزه ساحة إبراهيم عليه السلام من الشرك مطلقاً ما ظهر منه وما خفي.
الثانية: لزوم اتباع ملة وطريقة إبراهيم عليه السلام وثباته على التوحيد.
وتعتبر هذه الآية من اللطف الإلهي لما فيها من بيان لمنهج وسنن الأنبياء السابقين، وذكره على نحو التعيين بانه الإسلام، وفيها لطف بأهل الكتاب خاصة بان يتوجه لهم الخطاب النبوي بوحي وتنزيل من الله بالدعوة الى اتباع نبي من اكبر الأنبياء ويتفق المليون على نبوته.
مفهوم الآية
تأمر الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعدم السكوت، وعدم ترك أهل الكتاب وغيرهم في تيه وإصرار على بعض الدعاوى التي لا أصل لها، سواء في باب العبادات أو المعاملات والأحكام والمباحات، وتبين جهاده والمسلمين لتثبيت أحكام وسنن الشريعة وجاءت الآية السابقة بخصوص دعوى تحريم بعض الأنبياء للحوم الإبل، كما دل أمر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على التصدي و الجهاد والسعي الدؤوب لجذب الناس الى الإسلام، وحثهم على اتباع نهج الأنبياء في باب العبادات، وعدم الانشغال في مسألة المباحات، وفي موضوع لا أصل له وهو حرمة بعض الطيبات، فالوظيفة التكليفية والشرعية لأهل الكتاب والناس هي إتباع الأنبياء في طاعة الله، وأداء الفرائض والمناسك.
فلو تنزلنا وقلنا ان إبراهيم حرّم على نفسه لحم الإبل وان هؤلاء يحاكونه فيما حرم على نفسه، ويمتنعون عن أكل لحم الابل، فان الحجة تكون عليهم، فلماذا لا يحاكون إخلاصه العبودية لله تعالى، وجهاده في سبيل الله، والكل يعلم ما لاقاه إبراهيم في جنب الله، وثباته على الإيمان وحسن توكله على الله رغم تعرضه للإحراق بالنار, كما ان اتباع إبراهيم في مضامين التوحيد يقود بالضرورة الى التنزه عن الإصرار والعناد, والكف عن الجدل فيما يخص دعوى حرمة بعض الأطعمة.
وتعتبر هذه الآية زجراً عن الجدال، وحثاً على الإبتعاد عن الإفتراء، وإعانة للتخلص منه بالانشغال بالواجبات، وترك الخصومة وأسباب العناد، كما تدعو الى الإقتداء بالأنبياء وهذا الإقتداء يستلزم معرفة سيرتهم وسننهم لذا تضمن القرآن قصصهم بأحسن سبك وأبهى خطاب، وتدعو الناس بصيغة الترغيب للجوء الى الله تعالى ورسله وكتبه في معرفة الأحكام وتمنع من الرجوع الى غيره، لان الله سبحانه لا يقول الا الصدق.
وهل يشمل الغير هنا سنن الأنبياء، الجواب لا، لان الأنبياء لا يقولون ولا يفعلون إلا ما يرضي الله ، وهم حملة رسالاته وحفظه أمانة السماء في الأرض، فالمراد من الغير هنا ما يتعارض مع التنزيل والوحي وما جاء به الأنبياء, وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحلية طعام الجزور، فالواجب يقتضي اتباعه لا إنكار وإظهار الدهشة لما فعله، اذ انه لم يفعل إلا ما أمره الله تعالى به.
وجاءت الآية بصيغة الانشاء والخبر، اما الانشاء فتجلى بما في الآية من أمرين:
الأول: الأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وهو انحلالي يشمل المسلمين كما سيأتي.
الثاني: الأمر للناس (اتبعوا) وهو عام وتفصيلي.
اما الخبر فهو على وجوه:
الأول: الإخبار عن صدق الله تعالى.
الثاني: وجود ملة مخصوصة عند إبراهيم عليه السلام.
الثالث: توكيد إتباع الناس لإبراهيم ووجود امة تتبعه.
الرابع: ان إبراهيم عليه السلام رسول له شريعة مخصوصة.
الخامس: الإخبار عن كون إبراهيم حنيفاً مستقيماً في مرضاة الله لم يعبد الوثن.
السادس: تنزيه إبراهيم من الشرك والضلالة.
وبلحاظ نظم الآيات تتجلى لك مضامين اللطف الإلهي والتكامل الإعجازي بين ثناياها فبعد الإحتجاج بالتوراة ونفي إدعاء تحريم بعض الأطعمة والإخبار عن القبح الذاتي للكذب على الله ورسله وما ينتظر صاحبه من العقاب الأليم، جاءت هذه الآية لتوكيد حتمية عذاب المفتري متحداً كان أو متعدداً بقوله تعالى (قل صدق الله) كما تتضمن حث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على تبليغ هذه الحقيقة رحمة بالناس ومنعاً من الإقامة على الكذب والإفتراء في الأحكام.
ومن مفاهيم الآية انها ترغيب بدخول الإسلام، وزجر عن محاربته والإبتعاد عنه، وهذا الترغيب لا يتجلى بمضمون واحد من مضامين الآية بل يأتي متعدداً، من وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى بتوجيه كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعيين موضوعاته.
الثاني: الأمر الإلهي للنبي بان يتكلم ويقول ما فيه الصلاح والإصلاح للناس جميعاًُ.
الثالث: الأمر باتباع ملة إبراهيم في التوحيد.
الرابع: التوكيد على الإستقامة في الدين
الخامس: إجتناب مفاهيم الشرك والضلالة.
قانون (قل)
في الآية بيان لحقيقة وهي ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو وارث الأنبياء والرسول الذي يحفظ الشرائع، ويدعو الى عبادة الله، فليس في الأرض غيره يدعو الى اتباع ملة إبراهيم والبقاء على الإستقامة الحنيفية ويحارب الشرك ما ظهر منه وما خفي، ويتلقى الوحي من السماء، لذا فهو الرحمة المهداة الى الناس جميعاً سواء في زمانه أو الأزمنة اللاحقة والى يوم القيامة، بل يمكن القول بالاستصحاب القهقري لهذه الرحمة، كما يتجلى في الآيات السابقة بحفظ شرائع الأنبياء السابقين والذب عنهم والدعوة الى اتباعهم من غير ان تتعارض هذه الدعوة مع الدعوة الى الإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه أي الاستصحاب القهقري تعاهد الكتب السماوية السابقة بالرجوع اليها للاحتجاج بها واعتمادها في صيغ الجدال ولغة العلم والتحقيق.
ويتعلق هذا القانون بجانب من هذه الرحمة في باب أو ابواب مخصوصة وهو الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قل) وهو من صيغة لغة الأمر (افعل ) ومن الآيات في هذا القانون انه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ]( ) بمعناها الأعم وهو عدم إتباع هوى الآخرين، وانتفاء اثره في قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن الآيات في السنة النبوية أن أفرادها لم تصدر إلا عن أمر الله تعالى ومضامين الوحي، فلم يتبع النبي هوى احد وان كان قريباً منه, بل على أزواجه وأصحابه والناس أتباعه فيما يأتيه من الوحي والتنزيل, وفيه دلالة على ان الله هو الذي يأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام، والأصل في النبوة هو الكلام وليس السكوت، ولم يعرف الأنبياء الا بالكلام.
ومن الآيات ان الأمر بالكلام لم يأت مطلقاً ومجملاً ويترك للنبي محمد ان يختار موضوع الكلام ومضامينه بل يأتي التنزيل بالأمر للنبي بالكلام مع تعيين مسائل الكلام على نحو التفصيل أو الإجمال التفصيلي المانع من الترديد واللبس ليكون قانوناً خالداً الى يوم القيامة، وهو شاهد على بقاء كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته في القرآن، فاذا كان القرآن قد حفظ قصص الأنبياء السابقين فانه يحفظ سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوثقها بما يجعلها حية غضة في كل زمان تدعو أهل العلم والإيمان للإقتباس منها والإستضاءة بنورها، والعمل بمضامينها.
ويبين قانون (قل) الوظائف الشرعية التي يختص بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسؤوليات العظام التي يقوم بها، كما تتجلى منافعه وآثاره المباركة من خلال إمتثال المسلمين لأقوال النبي وما فيها من الأوامر والنواهي، ومن الآيات في هذا القانون كثرة المرات التي جاء فيها لفظ (قل) فقد جاء في القرآن ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة وهو عدد كثير، وهذه الكثرة لها دلالات عقائدية من وجوه:
الأول: تعدد موضوعات الأمر الإلهي (قل).
الثاني: تغشي الرحمة الإلهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: شمول موضوعات الأمر الإلهي (قل) لأبواب العبادات والمعاملات والأحكام، والجوانب العقائدية والإجتماعية والأخلاقية.
الرابع: الكثرة والتعدد في الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) دليل على اكرام الله له وشموله بالعناية الإلهية المتصلة.
الخامس: إعانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إمامة الناس، وقيادة الأمم وتقريب أسباب الهداية والرشاد منهم.
السادس: تتضمن الأوامر الإلهية في قوله تعالى ( قل) تلقين صيغ الدعاء، وتعليم كيفية التوسل.
السابع: بيان قواعد ومضامين خطابات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، وبيان الأحكام الشرعية.
الثامن: البشارات بالجنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
التاسع: لغة الإحتجاج مع الكفار والمشركين وأهل الكتاب، كما في الآيات السابقة.
العاشر: الدعوة الى الله، بصيغ التوكيد والحث على الإستقامة كما في هذه الآية.
الحادي عشر: جاء الأمر الإلهي (قل) خطاباً الى الأنبياء، ولم يأت الى غيرهم سواء من الملائكة أو الأولياء الصالحين من البشر، وفيه دلالة على عظيم منزلة الأنبياء، وجاء الشطر الأكبر منها خطاباً الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات فيه ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يشارك الأنبياء الآخرين في الخطاب الإلهي الموجه اليهم للوظائف النبوية، ولصفة القرآنية للأمر (قل) ولا يشاركونه بما يتوجه اليه من الأمر الإلهي (قل) ومضامينه القدسية، وهو تشريف اضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودليل على تفضيله وإكرامه وعلو شأنه، ومصاديق هذا القانون في القرآن مدرسة جامعة مانعة، جامعة للعلوم مانعة من الضلالة والغواية، وهي عون لكل مسلم ومسلمة في أمور الدنيا والآخرة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الأمر الإلهي الى النبي محمد بالإعلان والتصريح بالدعوة الى الله.
الثانية: بيان موضوع وماهية القول.
الثالثة: اعلان ان الله صادق في وعده ووعيده، وفيه بشارة للمسلمين وإنذار للكافرين.
الرابعة: إتباع إبراهيم عليه السلام في الحنيفية والإستقامة على الحق.
الخامسة: توكيد إخلاص إبراهيم العبودية لله تعالى، ونزاهته من الشرك وأهله، مع انه السائد بين الناس في زمانه، وكانت الدولة بين المشركين فجاهد إبراهيم في ميادين التوحيد ليصبح ثباته على التوحيد درساً ودعوة للناس لنبذ الشرك وإجتناب الإفتراء على الله.
إفاضات الآية
من البديع في الحياة الدنيا، موضوع الصدق وحسنه الذاتي وما يتعلق به من الأحكام وما يترتب عليه من الآثار، وهو آلة العدل والصلاح، ووسيلة لطرد النفرة والبغض والخصومة بين الناس، وعنوان السمت الحسن والرفعة، والأخلاق الحميدة، ويكون حاجة وسبيلاً للنجاة في مواطن كثيرة، كما انه باب للرزق والنفع.
وجاءت الكتب السماوية كلها بالصدق والحث عليه، ويتجلى الصدق عند بني آدم بأبهى صوره في النبوة وأشخاص الأنبياء الذين لم يقارفوا الكذب أبداً، وقد اثنى الله على نفسه، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا] ( ).
وجاءت هذه الآية لتنقل المسلمين والناس الى باحة الصدق، وتحثهم عليه وتدعو الناس جميعاً الى التصديق بآيات القرآن وما فيها من الوعد والوعيد، ليتعلم المسلمون والناس من القرآن ويتمسكوا بأحكامه وسنته والتي هي حق وصدق محض، ويجتنبوا الكذب ويدركوا ما فيه من الأضرار خصوصاً الكذب على الله الذي يقود الى النار، وليبقى الصدق مناسبة ذات حسن ذاتي للسياحة في عالم الملكوت، والتدبر بآيات الله، ووسيلة لجذب الناس الى الإيمان وسبل الهداية، كما انه سلاح دون الظلم والتعدي والتجرأ على حرمات الله والإفتراء على الأنبياء.
لقد جاءت هذه الآية لترغيب الناس بالأخذ بأحكام القرآن وتصديق ما يقوله الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كونه وحياً وتنزيلاً، وعدم الإحتجاج عليه بخلاف الحق والصدق، وبما ليس له اثر في التنزيل ومن الصدق والحق والبرهان عدم وجود تعارض بين القرآن والكتب السماوية السابقة.
وبينما دعت الآية قبل السابقة اليهود الى الإحتكام الى التوراة، فإن هذه الآية دعتهم وغيرهم الى إتباع ملة إبراهيم مع انهم على شريعة موسى عليه السلام، فلم تحتج الآية السابقة بالرجوع الى صحف إبراهيم، ولم تدعهم هذه الآية بالرجوع الى ملة وشريعة موسى عليه السلام، وهذا من الإعجاز في نظم الآيات، وما في كل واحدة منها من الفيض المتعدد وما فيها مجتمعة من الإفاضات.
ومن صدقه تعالى ان يخبر عن حال الأنبياء السابقين بما يفيد تزكيتهم وطرد الشبهات عنهم، لتكون شهادة القرآن لهم حجة خالدة وحصانة دون الإفتراء وسوء التأويل في قصصهم، سواء المتوارثة أو المأخوذة من الكتب السماوية السابقة، أو الموجودة في القرآن، والآية دعوة وحث على الصدق وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “تخلقوا بأخلاق الله” فالخلق الذي يأمر به الله هو الصدق والتقيد باحكام الإسلام وإجتناب الجدال بالباطل وإثارة الشبهات.
التفسير
قوله تعالى [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ]
تتضمن الآية التشريف والاكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخبر عن صدق الله تعالى. وفي لغة الخطاب مسألتان:
الأولى: المراد من جهة الخطاب في (قل) وهو على وجوه:
الأول: ارادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو المقصود بالخطاب واليه يتوجه الأمر الإلهي.
الثاني: المسلمون، فالخطاب جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا انه موجه للمسلمين جميعاً فمعنى الخطاب (قل يا ايها المسلم) ويشمل المسلمات ايضاً للاتحاد في التكليف.
الثالث: يشمل الخطاب أهل الكتاب والمراد انهم يقولون لأصحابهم وللناس بان الله صادق، وتجلى الصدق في الإحتجاج بالتوراة وخلوها من دعوى تحريم طعام الجزور.
الرابع: الأمر الإلهي موجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة، والى المسلمين بالتبعية والإلحاق.
والصحيح هو الرابع وهذا من إعجاز القرآن الكريم وتعدد معانيه، وهو شاهد على أمور:
الأول: بقاء مضامين الآية متجددة.
الثاني: الأمر الإلهي فيها متصل في خطابه.
الثالث: وجود الممتثل والمنقاد للحكم الإلهي.
الثانية: الجهة التي يتوجه اليها موضوع القول والإخبار عن صدق الله فيما يخبر به عن الوقائع والأحداث وعالم الغيب الذي يتغشى افراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والمضارع والمستقبل، وفيها وجوه:
الأول: إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بصدقه تعالى فيما يقول في كتبه المنزلة على الأنبياء، وهل يتعارض هذا الوجه مع القول بأن المسلمين مكلفون بذات القول والإخبار عن صدقه تعالى كما تقدم في الوجه الرابع ورجحانه، الجواب لا، فالمسلمون يتلقون القول بالتصديق والقبول، ويقومون بإعلانه والتقيد بمضامينه والإحتجاج به بين الناس.
الثاني: إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب بصدق الله تعالى، ولزوم عدم إفتراء الكذب عليه.
الثالث: حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس على دروب الإيمان وسبل الرشاد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، وهل ينتهي الأمر الإلهي في الآية بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الاعلى، الجواب لا، من وجوه:
الأول: قيام الصحابة وأهل البيت بالتبليغ والإنذار والإخبار عن فضل الله بتنزيل القرآن وان الباطل والتحريف لم ولن يصلا اليه.
الثاني: حفظ وتعاهد سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من القول والإخبار عن صدق الله تعالى، ولا ينحصر الأمر بالسنة القولية بل يشمل السنة الفعلية والتدوينية.
الثالث: قيام المسلمين بالتبليغ بمضامين الآية.
الرابع: تلاوة المسلمين للآية الكريمة، وفيها تجديد طوعي وانطباقي للإمتثال، وتكرار القول المبارك.
وهل تكفي التلاوة في تحقيق عنوان الإمتثال ام لابد من القول والفعل الشخصي، الجواب ان التلاوة ذات اهمية وخصوصية في المقام، ولكنها لا تمنع الإعلان عن صدق الله تعالى.
وهذا الإعلان يأتي بصيغ ومواضيع متعددة الى جانب التلاوة ودراسة آيات القرآن والإطلاع على تفسيره، فالآية تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالتبليغ والإنذار، وتبعث الثقة والسكينة في نفوسهم، وتدعوهم لعدم التفريط بأي حكم من أحكام القرآن, وتمنع من السكوت عن الإفتراء والكذب على الله وعلى الأنبياء.
فالآية عنوان للجهاد في باب العقائد والإحتجاج على أهل الكتاب، كما تحث على الإحتجاج على الكفار من باب الأولوية القطعية، لأنها اذا كانت تدعو أهل الكتاب الى ترك الإفتراء على الله، فمن باب أولى انها تدعو الكفار والمشركين الى نبذ الشرك، فالله هو الصادق وهو الذي يدعو ويأمر بالصدق ويثيب عليه، وبعث الأنبياء ليأمروا الناس بالقسط والعدل الذي لا يتقوم إلا بالصدق، ومن مصاديق الصدق الإخبار عن الوحي والتنزيل وجعل النفس الإنسانية تنفر من الكذب وتبغض صاحبه، وتميل إلى الصدق، كماجعل الله سبحانه للصادق منزلة عند الناس مطلقاً، فترى له شأناً وهيبة حتى عند عدوه وحاسده.
وهل تكفي المرة الواحدة في الإمتثال للأمر الإلهي (قل) ام يجب التكرار, الجواب هو الثاني، ويتحقق التكرار بالتلاوة أو القول أو الفعل، ومن القرائن على إفادة التكرار أمور:
الأول: مجيئ الآية بصيغة الجمع (فإتبعوا).
الثاني: وظائف النبوة في دعوة الناس الى الإسلام وإعانتهم على الإرتقاء في سلم المعارف الإلهية.
الثالث: التعدد في مناسبات التبليغ والإحتجاج وأماكن وأوقات الدعوة الى الله ، فقد بذل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوسع في الجهاد والتبليغ، ومضامين هذه الآية من مصاديق الدعوة وجذب الناس للإسلام، وإقامة الحجة على الكفار والجاحدين , وهل يحمل الأمر في الآية الكريمة على الوجوب أم الإستحباب:
الأول: وجوب القول والتبليغ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, واستحبابه على المسلمين.
الثاني: وجوبه على النبي محمد والمسلمين.
الثالث: استحبابه على النبي محمد ويكون من باب الأولوية استحبابه على المسلمين.
الرابع: وجوبه على النبي محمد وإباحته للمسلمين.
الخامس: وجوبه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعلماء والحكام المسلمين واستحبابه على غيرهم.
السادس: وجوبه على النبي محمد والمسلمين من الذكور واستحبابه على النساء منهم.
والصحيح هو الثاني فهو واجب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به المسلمون باعتقادهم وقولهم وتسليمهم بأن الله صادق، ولا ينحصر الأمر بالرجال منهم بل يشمل الاناث ايضاً.
وفي وصف الله في الآية بالصدق وجهان:
الأول: إنه خاص بالله والتنزيل والوحي.
الثاني: تشمل الآية ما جاء به الأنبياء الى جانب الكتب السماوية المنزلة.
والصحيح هو الثاني لذا فان ملة إبراهيم واتباعها جزء من مضامين الصدق التي أكدتها هذه الآية، وليس في ملة إبراهيم خصائص اليهودية أو النصرانية، وليس فيها تحريم لحم الجزور وبعض الطيبات، كما انها تبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدعو لتصديقه واتباعه ونصرته، وإجتناب الإحتجاج عليه في أمور لا أصل لها، خصوصاً وان هذا الإحتجاج لم يأت من منازل الإيمان بل من منازل الجحد بنبوته والإصرار على عدم دخول الإسلام.
وبينما جاءت الآية السابقة بعدم الإفتراء والكذب على الله ونعت أصحابه بأنهم ظالمون، جاءت هذه الآية لتدعو الناس الى الصدق والتحلي بأخلاق وصفات الأنبياء الذين لم يقترفوا الكذب لذا فان التعارض بين سننهم منتفِ.
ومن الصدق في الآية بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها حاجة للناس جميعاً، ووسيلة لجذب الناس لمنازل الصدق والإبتعاد عن الكذب والظلم قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفي الآية تعريض بالذين يفترون الكذب وينسبون للأنبياء والتنزيل ما ليس بصدق وحق، كما في دعوى حرمة أكل لحم الجزور على الأنبياء السابقين، وتخبر عن تعارض وتباين كلامه مع التنزيل وسنن الأنبياء، ويقتضي التكليف الشرعي لبني آدم الرجوع الى التنزيل والنبوة، وإدراك حقيقة وهي أن الإقامة على الكذب وكل ما يخالف التنزيل هو إفتراء وكذب على الله .
ومن وجوه الصدق انتفاء التعارض في سنن الأنبياء، لذا ذكرت الآية مسألة تحريم إسرائيل على نفسه لحم الجزور لبيان حصول قضية شخصية، مع انها لا ترقى لمنزلة الإستثناء بلحاظ أن التحريم لم يأت حكماً من عند الله، بل قام به إسرائيل وهو يعقوب النبي واختاره لنفسه على نحو عرضي وليس بالأصل أو التشريع.
ولا ينحصر موضوع الآية بحلية لحم الجزور ومضمون الآيتين السابقتين في الإحتجاج بتلاوة التوراة وذم الإفتراء والزيادة والنقيصة في الشرائع، بل جاءت لبيان حقيقة في الإرادة التكوينية وهي سور جامع وحكم مستدير يتغشى الازمنة المقدرة وغير المقدرة، ومن شواهد الصدق في الآية:
الأول: صدق نزول القرآن و الكتب السماوية الأخرى من عند الله.
الثاني: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانها جاءت في زمن حاجة الناس إليها، فلابد من التصديق بها.
الثالث: قصص الأنبياء في القرآن.
الرابع: ما فيه من ذكر الوقائع والأحداث.
الخامس: الوعد والوعيد بالجنة والنار، ومن الآيات ان الكتب السماوية كلها تتضمن الإخبار عن دخول المؤمنين الجنة, والكافرين النار.
السادس: مضامين الآية السابقة بان الذين يفترون على الله الكذب ظالمون لأنفسهم وغيرهم.
السابع: الاخبار عن النجاة باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والقول والإخبار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الله فيه وجوه:
الأول: ان النبي يفعل ويقول ما يأمره الله به.
الثاني: يعتبر النبي محمد أول المؤمنين بان الله صادق.
الثالث: يجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت وتوكيد حقيقة صدق الله ، ويدعو الناس للايمان بالتنزيل والنبوة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالمراد من الأمر بالقول ليس الإخبار فقط بل الإخبار المقرون بالإيمان والجهاد لنشر لواء الإسلام بالصدق، ولما جاءت الآية السابقة بنعت أهل الإفتراء والكذب على الله بانهم ظالمون، جاءت هذه الآية لتدعو الى إجتناب الظلم باختيار الصدق والإيمان، ومن صدق الله تعالى انه يفضح الكذب والإفتراء عليه، ويجعل أحكام وسنن الإسلام باقية في الأرض، وبامكان كل إنسان معرفة احكامه ودخوله واداء ما فيه من الواجبات والحصول على ما جعله لأهله من الحقوق والمزايا وما يفوته منها في الدنيا ينالها في الآخرة.
وتحث الآية على إجتناب الجدل واثارة الشبهات والبحث عن وجوه للتعارض سواء في الشرائع أو التنزيل، ويشمل الصدق هنا الأنبياء في سننهم وإخبارهم عن الوحي، وفي الآية شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقيده بسنن الوحي، فبعد الإحتجاج بإحضار وتلاوة التوراة للشهادة على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله واختتام الآية بصيغة الشرط ( ان كنتم صادقين ) ومجيء الآية السابقة بذم الكذب على الله ، جاءت هذه الآية لتخبر بان الصدق هو ما يقوله الله في كتبه النازلة، وما ينطق به الأنبياء ومنه حلية أكل لحم الجزور، فمضمون هذه الآية تتمة لما ورد من الإحتجاج في الآيتين السابقتين.
قانون قول الله صدق
يأتي الصدق في الجملة الخبرية التي تحتمل الصدق او الكذب، “وفي لسان العرب رجل صدوق: أبلغ من الصادق”( )، والألف واللام في لفظ الصادق أمارة على الإتصاف بالصدق والتحلي به، وهو سجية عند أهل الإيمان وملكة ثابتة مترشحة عن خشية الله، والتقيد بالأحكام الشرعية، والصدق عنوان للأخلاق الحميدة ونبذ الأخلاق الذميمة، وقد أمر الله تعالى بالصدق، ودعا الناس الى التحلي به، وأخبر عن الجزاء الحسن على الصدق وفي التنزيل [قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ]( ).
ولم يرد لفظ (قل صدق الله) الا في هذه الآية نعم ورد قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ] ( )، وفيه اخبار عن أمرين:
الأول: ان رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي.
الثاني: تحقيق تأويلها في الواقع العملي بقدرة وفضل الله تعالى.
أما هذه الآية فأخبرت عن صدق الله وانه سبحانه لا يقول الا الحق، وهو قانون ثابت مطلقاً ومن مصاديقه:
الأول: عالم الخلق والتكوين.
الثاني: بعثة الأنبياء والرسل.
الثالث: الوحي النازل للأنبياء.
الرابع: الأوامر الإلهية الى الملائكة والنبيين.
الخامس: الخطابات التكليفية بوجوب عبادته سبحانه.
السادس: الثناء على نفسه بصفات الوحدانية والقوة والجبروت.
السابع: انتفاء الشريك والند.
الثامن: الوعد الكريم والجزاء الحسن لأهل الإيمان والصلاح.
التاسع: التخويف والوعيد بالعذاب الأليم للكفار والمشركين.
العاشر: عالم الآخرة، وما فيه من الحساب.
الحادي عشر: خلق الجنة والنار وجعل الأولى ثواباً ونعيماً دائماً للمؤمنين، والنار مثوى للكافرين.
وقال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً] ( ) وفيه توكيد بانه تعالى صادق في كل ما يخبر عنه، وانه تعالى ينفرد بمراتب الصدق المطلق سواء في الإخبار عما مضى أو ما سيأتي ومن عالم الشهود او الغيب مما لا يعلم به الا هو سبحانه، ومن مضامين الصدق الإلهي انتفاء التعارض او التزاحم بين ما يأتي عنه سبحانه من الوحي والتنزيل قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( )، مما يدل على وجود برزخ بين ما يأتي من عند الله وما يأتي من غيره مطلقاً، وهذا البرزخ هو الإختلاف غير الكبير، بمعنى ان ما يأتي من الله ليس فيه أي اختلاف، وما يأتي من غيره فيه اختلاف كثير، فيبقى البرزخ على حاله وهو الإختلاف غير الكبير، فليس من أحد يأتي بأمور واخبار الا وفيها اختلاف بالذات والعرض يتصف بانه كثير، والله سبحانه هو عالم الغيب والشهادة، ويتفضل باطلاع من يشاء من رسله وانبيائه من الغيب، ومن الصدق الإلهي الإخبار عن الأحكام الشرعية وحلية الطيبات، وفيه دعوة الى نبذ الجدال والخلاف فيما يخص الأحكام الشرعية، ومنع الإفتراء والكذب.
وينقسم اللفظ مطلقاً في الإصطلاح المنطقي الى قسمين وهما:
الأول: المفرد وهو الذي لا جزء له، وينقسم الى قسمين:
اولا: اللفظ الذي لا جزء له كالقسم كما في قوله تعالى [تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ] ( ).
ثانيا: اللفظ الذي له جزء، الا ان جزء اللفظ لا يدل على جزء المعنى، فلفظ (كتاب) ينحل الى أربعة أجزاء، فكل حرف هو جزء اللفظ وليس جزء المعنى.
الثاني: ويسمى القول، وهو اللفظ الذي له جزء يدل على جزء معناه مثل (الصلاة واجب) والصدق شامل للإخبار مطلقاً، وليس فيه اتيان بحرف لا معنى له.
قانون الصدق الإلهي
الصدق نقيض الكذب، يقال صدق يصدق صدقاً أي قال الحق وما يطابق الواقع من غير تحريف أو تبديل أو تغيير، وليس من برزخ أو وسط بين الصدق والكذب، فالكلام اما أن يكون صدقاً أو يكون كذباً، وهل تدخل التورية في الصدق أو الكذب الجواب انها خارجة بالتخصص من موضوع التناقض والتنافي بينهما، للتباين بين القصد فيها والمعنى الظاهر، فالأصل والقصد فيها موافق للصدق ولكن المعنى يختلف عند السامع لغرض دفع الاذى أو تحقيق غاية حميدة.
والقرآن ليس فيه تورية لأن الله هو القوي، وانزل القرآن تبياناً لكل شيء ومن خصائص التبيان ان يكون صدقا ً وحقاً وخالياً من اللبس، وبالصدق تقوم السماوات والأرض، ويدفع البلاء عن الناس، وهو مقدمة لإدراك الواجبات، وأداء الفرائض، وإجتناب النواهي، ومتى ما علم الإنسان ان عليه قول الحق وإجتناب الكذب فانه يجتنب المعصية لكي لا يؤخذ بها ويلصق به عارها، واجتهد الأنبياء والعلماء والمسلمون في تثبيت مفاهيم الصدق في الأرض، وبينوا الحسن الذاتي للصدق وما له من المنافع على الذات والغير، والقبح الذاتي للكذب وما له من الأضرار النوعية المستديمة.
اما في المعارف الإلهية فان الصدق والكذب أمران تترتب عليهما آثار عظيمة في النشأة الأولى والآخرة، قال تعالى [لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ…] ( )، وقال تعالى [وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
وقد حرص الملائكة على الإخبار عن صدقهم لبعث السكينة في نفوس الأنبياء وجعل الناس يؤمنون بالوحي والتنزيل وهو فرع اللطف الإلهي كما ورد في حديث الملائكة مع لوط في قوله تعالى [ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] ( )، ومن الآيات في عالم الشرائع السماوية انها لا تتقوم الا بالصدق يتغشاها ابتداء واستدامة ويعتبر وجهاً مشرقاً للتنزيل وآية من بديع صنع الله وهو آية من عمومات قوله تعالى [[ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ…] ( )، فقد جعل الله الصدق والحرص على المواظبة عليه من ابهى معاني السيرة والسلوك عند بني آدم، وهو ملازم للصلاح والتقوى ولا ينفك أو ينفصل عنهما.
ولقد اثنى الله على الصادقين وبشرهم بحسن العاقبة والسلامة في الدنيا والآخرة، وفيه حث على الصدق، وبيان للزوم السعي وبذل الوسع من اجل الفوز بصفة الصادقين, والصدق والكذب ليسا أمرين عدميين, فكل واحد منهما أمر وجودي يأتي بالاختيار والقصد لذا يترتب الثواب على الصدق، والعقاب على الكذب.
ومن الآيات ان جاء ذكر النساء في موضوع الصدق والثناء على المتلبسات بالصدق منهن، للتنبيه على الحاجة الشخصية له سواء بالنسبة للذكر أو للانثى، قال تعالى [وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ…] ( ). اذ بشرهم الله بالمغفرة والثواب العظيم، ومن اسمى آيات الصدق التقيد بأحكام الشريعة وعدم التفريط بالواجبات والسنن وإجتناب الكذب، فما دام الوسط معدوماً بينهما فان الفرار من الكذب يقود للصدق.
والله هو (الصادق) وصدقه تعالى رحمة بالخلائق عامة، والناس خاصة، ولا تتقوم الحياة الإنسانية الا بالصدق، فهو قانون ثابت ودائم لا تخلو الأرض منه، ومن الآيات ان مدح الصدق والثناء على الصادقين أمر مستديم ودائم، وان الذي يتلبس بالكذب يدعي الصدق ويحاول التغطية، ومنها ان الكذب مذموم ذاتاً واثراً، وهذا الفضح قد يكون ملازماً له، وقد يأتي بعد حين وهو من أسباب النفرة من الكذب وأسباب الإبتعاد عنه، اما الصدق فان إختياره يبعث السكينة والطمأنينة في النفس ويطرد الخوف من اكتشافه، بل بالعكس فان اكتشاف الصدق يزيد من مرتبة ومنزلة الإنسان في المجتمع، ويكون وسيلة للنفع الدنيوي لما يترشح عنه من ثقة الناس بالصادق وإطمئنانهم لقوله.
واثنى الله على نفسه واخبر عن صدقه ليكون هذا الإخبار حجة في وجوب تصديق الناس بالتنزيل واتباع الأنبياء، ودعوة للإمتثال للأوامر الإلهية، والصدق سلاح سماوي يتثبت معالم الدين في الأرض ويمنع من غلبة الفساد والظلم.
والصدق في الإصطلاح أعم من الإخبار المطابق للواقع، فهو يشمل الإيمان والتصديق بالنبوة ليأخذ صفة عقائدية، ويتغشى نفعه الصادق والمصدق وغيرهما، اذ ان الإيمان يعكس صدق النبوة والبشارات بالنعيم الدائم للمسلمين، والعذاب للمشركين قال تعالى [وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ]( ) فجعلت الآية تحمل المشاق في سبيل الله وابتغاء رضوانه، والجهاد في سبيله تعالى، وتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صدقاً.
علم المناسبة
جاءت مادة (صدق) وما يشتق منها في نحو خمسة وثلاثين ومائة موضع من القرآن, واكثرها في الثناء على الأنبياء والصالحين في إيمانهم بالله وتصديقهم بالتنزيل والمعاد وما في الآخرة من الجزاء، وقد ورد الفعل الماضي (صدق) اربع مرات في القرآن وكلها تتعلق بصدق الله ووقوع الأحداث والجزاء وفق ما اخبر الله عنه، وواحدة منها في رؤية المسلمين الأحزاب يوم الخندق، واخرى عند البعث ويوم النشور، وواحدة في فتح مكة وصدق رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونسبتها الى الله تعالى كما في قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ…] ( ) مما يدل على افادة الصدق في الوحي، ونزول القرآن من باب الأولوية القطعية بلحاظ أن نزول القرآن يجري في حال اليقظة مع الحفظ كوثيقة سماوية خالدة.
والآية محل البحث هي الوحيدة التي جاءت بصيغة (قل) والإخبار النبوي للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بان الله اصدق القائلين لا يقول الا الحق ليفرح الذين آمنوا ويذوقوا الظفر والفوز، وييئس الذين كفروا ويشعروا بالألم مما ينتظرهم من العذاب.
وتبين الآية وظيفة اخرى يستقل بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتبين فضله على الأنبياء السابقين في جهاده من اجل تثبيت الحقيقة التكوينية الثابتة وهي صدق الله تعالى ومجيء الوقائع والأحداث في الدنيا والآخرة موافقة لما في القرآن، لذا فان الآية دعوة للأخذ بما ورد في القرآن ومنه حلية الطيبات من غير إستثناء لبعضها بلا دليل شرعي.
وتحث الآية الناس على الشكر لله تعالى والثناء على نعمة الصدق في الاخبار لما فيه من البشارة والإنذار ودفع الجهالة والغرر، والمنع من الشك والريب، قال تعالى [ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ…] ( )، ومع هذا البيان يأتي قوم يشككون بالسنن النبوية والشرائع لأسباب لا أصل لها.
قوله تعالى [فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا]
بعد الاخبار عن صدق الله وتوكيده للعباد في دعوة للهداية والإيمان، جاء هذا الشطر من الآية، والفاء في (فاتبعوا) تفيد العطف والسببية، فجاء اتباع إبراهيم فرعا ونتيجة لمضامين الصدق التي تتغشى سنن الأنبياء واخبار التنزيل، وبعد الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بــ(قل) جاء الأمر العام بالاتباع وفيه وجهان:
الأول: جهه صدور الأمر بالاتباع وانه من عند الله بالأصالة، وان الله هو الذي يأمر الناس بإتباع ملة إبراهيم.
الثاني: الخطاب في الآية تابع لأمر الله تعالى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بدعوة الناس اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وهذا الأمر ايضا من عند الله إلا انه يختلف عن الأول أعلاه فيأتي بالواسطة أي بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتقدير في الآية “قل صدق الله وقل فاتبعوا ملة إبراهيم”.
ولا تعارض بين الوجهين، وكلاهما يفيدان ذات الموضوع والغرض، وهذا الشطر مستأنف وهو خطاب من عند الله تعالى للناس جميعاً يدل عليه أمر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يتبع ملة إبراهيم قال سبحانه [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا…] ( ).
اما كونه فرعاً وجزء من أمر الله الى نبيه بأن يخبر عن صدق الله ويأمر الناس بأتباع ملة إبراهيم، فتدل عليه أمور هي:
الأول: بيان الآية واتصال مضامينها.
الثاني: لغة العطف فيها بحرف العطف الفاء (فأتبعوا).
الثالث: جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة الناس الى الحق والهدى، وهذه الدعوة لا تنحصر بالإخبار عن صدق الله، بل تشمل الحث على الإيمان واتخاذ مسألة صدق الله تعالى مقدمة لجذب الناس للإيمان، وباباً للدعوة الى الإسلام.
الرابع: الجزئية من الآية واتصال كلماتها بصيغة التتابع والتلاحم والتشريك.
الخامس: نظم الآيات، فلما جاء الإحتجاج على أهل الكتاب بحلية طعام الجزور، وخلو التوراة من الحكم بحرمته، جاءت هذه الآية للعمل بسنة إبراهيم في حليته والطيبات، فالآية تحث بني إسرائيل على التنعم بالطيبات، وفي هذا التنعم إتباع ومحاكاه لملة إبراهيم عليه السلام.
السادس: إرادة عدم الوقوف عندإسرائيل والنهي عن اتباعه في ما حرمه على نفسه، أي ان القرآن حينما ذكر اختصاص حرمة لحم الابل عند إسرائيل على نحو الخصوص والتعيين لا يعني جواز اتباعه وتقليده لانه نبي أو ابو اليهود، بل الأصل هو إتباع إبراهيم عليه السلام الذي لم يحرم الجزور وهو جد إسرائيل وابو الأنبياء، وفي الآية مسائل:
الأولى: انها اتمام للحجة على بني إسرائيل ودعوة لهم وغيرهم من الناس لنبذ الإفتراء والكذب على الله والأنبياء.
الثانية: التوكيد على إكرام نبي الله إبراهيم عليه السلام وبيان ما له من عظيم المنزلة بين الأنبياء.
الثالثة: ذكر الجامع المشترك بين الشرائع بما يمنع من الجدل واثارة الشبهات.
الرابعة: الإشارة الى الفرق بين الرسول والنبي، وان الرسول اعلى مرتبة من النبي فإبراهيم عليه السلام لم يحرم على نفسه شيئاً من الطيبات، ولا يعني هذا ايجاد وجه للذم لنبي الله إسرائيل، ولكنه بيان بعدم ظهور إختلاف في قضية شخصية تتعلق بالمباحات، لأن الآية ذكرت التحريم على انه شخصي وعرضي وليس فيه مخالفة لسنن الأنبياء والرسل، اما بالنسبة للعبادات والواجبات والمستحبات فليس من فرق بين الرسول والنبي، فالرجوع فيها الى إبراهيم رجوع للأنبياء الآخرين ومنهم إسرائيل إلا بلحاظ النسخ في الشرائع حيث يكون الإسلام ناسخاً لما سبقه، وفيه كمال الدين وتمام النعمة وأسباب النجاة.
الخامسة: لا ينحصر موضوع الآية في إتباع إبراهيم باباحة أكل الطيبات بل يشمل إتباعه في دين الإسلام وهو الموضوع الأهم والأولى، وجاء الأمر بصيغة الجمع (فأتبعوا) والمراد من واو الجماعة هنا وجوه:
الأول: المسلمون، فالخطاب الى المسلمين جميعا ويتضمن دعوتهم لإتباع ملة إبراهيم عليه السلام.
الثاني: بنو إسرائيل وهو الظاهر من سياق الآيات، فبعد ان جاءت الآيتان السابقتان بالاحتجاج عليهم جاءت هذه الآية ببيان ما يجب عليهم فعله، ولزوم التوجه الى فعل الطاعات وترك الجدال.
الثالث: أهل الجدال والشقاق، واصحاب الشبهات قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ]( ).
الرابع: الناس جميعاً، بدعوتهم للهداية والإيمان، والتنزه من أسباب الضلالة والعناد.
ولا تعارض بين هذا الوجوه، إذ أن ملة إبراهيم هي الإسلام، وانه بشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون اتباعه مقدمة ووسيلة للتصديق بالنبي محمد ودخول الإسلام، أما المسلمون فأن الآية حث لهم على التقيد بأحكام الإسلام، وسكينة لهم لأنهم اختاروا الثبات على التوحيد والإنقياد لله تعالى، وهل اتباع إبراهيم في الآية واجب ام مستحب، الجواب هو الأول لإرادة الوجوب بالأمر خصوصاً مع انعدام القرينة الصارفة الى الاستحباب.
ولا يتعارض هذا الوجوب مع وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لان اتباع إبراهيم في طول اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس في عرضه كما ان النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، واتباع إبراهيم الحنيفية والإستقامة والإسلام بمعناه اللغوي وهو الإنقياد لله واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام بمعناه الاصطلاحي بالنطق بالشهادتين، واداء العبادات والفرائض.
ومن الآيات في المقام ان الإتباع جاء بصيغة الإطلاق من غير تقييد بأمة أو طائفة دون اخرى، اما موضوع الإتباع فهو مقيد بقيدين هما:
الأول: يكون الإتباع في الملة والدين.
الثاني: شرط وقيد الحنيفية، وهذا لا يعني ان سنة إبراهيم تتضمن التعدد والتباين في السنخية والمفاهيم، بل انه كان على ملة التوحيد مستقيماً، ولكن هذا القيد جاء وصفاً لإبراهيم عليه السلام، وتوكيداً لسمته الحسن، وعصمته من الزلل وإبتعاده عن مفاهيم الشرك والضلالة ما دق منه وما كبر، وما ظهر وما خفي.
التقييد بالوصف الوارد في الآية لمنع الوهم، ودفع الشك، وطرد أسباب الجدال، وفيه دعوة لبني إسرائيل للعدول عن تحريم بعض الأطعمة الى حليتها وأكلها من غير حرج، فمن ملة إبراهيم استباحة لحوم والبان الإبل، وفي منطوق الآية مسائل:
الأولى: لم تقل الآية اتبعوا إبراهيم بل قالت اتبعوا ملة إبراهيم في دلالة على ارادة الدين والطريقة، وفيه اشارة الى دخول الإسلام، فليس من مصداق في الأرض لملة إبراهيم إلا الإسلام، ولو قالت الآية اتبعوا إبراهيم قال فريق منهم نكتفي بأتباع إبراهيم وما ورد عنه من السنن، ولا نحتاج دخول الإسلام أو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته والجهاد تحت لوائه، فمن الإعجاز ان جاءت الآية بالأمر بأتباع ملة إبراهيم والإخبار بإرادة الدين والمنهج والطريقة.
الثانية: في الوقت الذي جاءت الآيات بتقييد الإتباع بخصوص ملة إبراهيم ومحاكاته في فعله، واقتفاء أثره في التوحيد ونبذ الشرك، فإنها جاءت بالأمر بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات قال تعالى [ِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ]( ) وليس من نسخ في الإتباع، أي ان الأمر اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينسخ الأمر بإتباع ملة إبراهيم بل المراد من الملة هنا التوحيد وهو الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاضافة الى احكام الإسلام، والجمع بين الأمرين يفيد وجوب اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ملة التوحيد التي كان عليها إبراهيم وإقتفاء أثره والعمل بسنته في أحكام الشريعة الإسلامية، اذ ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن متعبداً بشريعة إبراهيم فحسب بل له شريعته التي تمتاز عن الشرائع الأخرى بالتكامل، إلا ان التوحيد جامع مشترك يلتقي عنده الأنبياء وهو الصبغة الثابتة للشرائع السماوية.
الثالثة: جاءت الآية بلفظ الاتباع وهو يفيد المحاكاة والمثلية وصيغ التشابه، وفيه وجوه:
الأول: تدل الآية على ان الأنبياء يدعون لعبادة الله وانهم لا يدعون لأنفسهم وهو مصداق لما تقدم في قوله تعالى [مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ…] ( ).
الثاني: تدل الآية على إخلاص إبراهيم في العبودية لله تعالى، وانه عنوان في الإقتداء به.
الثالث: تمنع الآية من الغلو بالأنبياء، ولا ينحصر موضوع هذا المنع بإبراهيم عليه السلام بل يشمل عيسى عليه السلام وغيره.
الرابعة: الثناء على إبراهيم وأهليته بأن يكون أسوة وقدوة للناس في الطاعة والإمتثال لأوامر الله تعالى.
الخامسة: لا تخرج مضامين اتباع إبراهيم عن الإسلام والدعوة له لعمومات قوله تعالى [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ…] ( ).
السادسة: في الآية رد على اليهود والنصارى ودعوتهم لأتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ملتهم، قال تعالى [ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ…] ( ) فجاء القرآن بحثهم على الإنقياد للأمر الإلهي بأتباع ملة إبراهيم التي هي الإسلام، ولم تقف الآية عند اتباع ملة إبراهيم، فلن تقول: فاتبعوا ملة إبراهيم وما كان من المشركين بل وصفت إبراهيم بانه حنيف.
فان قلت: من الآيات ما جاءت بذكر ملة إبراهيم من غير ان تقيده بانه حنيف كما في قوله تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ…] ( ). والجواب من وجهين:
الأول: المقام من المطلق والمقيد، فالآيات التي تصف إبراهيم بالحنيفية تقيد التي جاءت مطلقة.
الثاني: ورود القرينة في الآية اعلاه وهي تسمية إبراهيم لاتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين مما يدل على ان ملته هي الإسلام وانه يدعو لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الدعوة احتجاج ورد متقدماً زماناً على الجدل وإثارة الشبهات في حرمة بعض الأطعمة أو في نية بعضهم وعزمهم على مواجهة الإسلام بدل التصديق به.
وتعتبر هذه الآية دعوة الى الإستقامة في الدين وإجتناب الزيغ والبعد عن جادة الصواب، ومن الآيات في المقام قيد الحنيفية في اتباع إبراهيم ويفيد البيان والتخفيف ومنع تحريف وتشويه سنن الأنبياء، ولان الغرض هو هداية الناس عامة وهي من صيغ التصدي للشك والجدال وتخليص الناس منهما، ويدعي بعضهم انه على ملة إبراهيم فينسب إبراهيم الى اليهودية والنصرانية، فجاءت الآية بالإخبار عن كون إبراهيم مسلماً موحداً لله تعالى متقيداً بأحكام الشريعة، مبتعداً عن أسباب الشرك والضلالة، مائلاً عن الباطل والريب، منقطعاً الى الله، داعياً الى التوحيد.
علم المناسبة
لقد اكرم الله إبراهيم بالنبوة، وعلى نبوته اجماع المسلمين واليهود والنصارى، وهذا من الآيات في الملل والشرائع السماوية، ان تكون هناك آيات ومصاديق للنبوة يلتقي بالإيمان بها المسلمون وأهل الكتاب، مع بيان فضل المسلمين على غيرهم في المقام من وجوه:
الأول: تعاهد الحنيفية التي كان عليها إبراهيم.
الثاني: عدم نسبة إبراهيم الى ملة أو ديانة اخرى.
الثالث: الإيمان بنبوة الأنبياء جميعاً من غير تفريق بينهم.
وإبراهيم من الرسل الخمسة أولي العزم، ويرجع أنبياء اليهود والنصارى اليه في النسب وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومع فضل اضافي للمسلمين بان اختار لهم إبراهيم هذا الاسم ليكون عزاً وفخراً وشاهد صدق، وحقاً للاجيال من ذريته بدخول الإسلام، ولقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله لتثبيت ملة إبراهيم والدعوة لاتباعها بعد قيام فريق من الناس بمحأولات طمسها والحث على اليهودية والنصرانية، قال تعالى [وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أو نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا] ( ).
وفي هذه الآية تصد للدعوة لليهودية والنصرانية باختيار المسلمين لملة إبراهيم عليه السلام، ثم جاءت الآية محل البحث لدعوة أهل الكتاب لأتباع ملة إبراهيم، أي ابتدأ المسلمون بالحصانة الذاتية من الدعوة لليهودية والنصرانية، وتتجلى هذه الحصانة باعلان اتباع ملة إبراهيم ورد الدعوة لغيرها، ثم جاءت الآية محل البحث لدعوة اليهود والنصارى لأتباع ملة إبراهيم، مما يدل على ارتقاء المسلمين في منازل المعرفة الإلهية، ورسوخ الإيمان في صدورهم، وبلوغهم مراتب عالية في التفقه في الدين، والقدرة على الفصل والتمييز بين الملل واختيارما فيه النفع في النشأتين، وينحصر الواجب الشرعي به وهو الإسلام.
وهذا الإرتقاء لم يأت ذاتياً وبالقدرات الفعلية و الملكات الشخصية بل باللطف الإلهي ومضامين هذه الآيات الكريمة، فحينما يدعو المسلمون غيرهم الى اتباع إبراهيم فانه يعني بالضرورة انهم على ملة إبراهيم ومتقيدون بسننها التي هي الإخلاص في العبودية لله والإستقامة في الدين. كما جاء القرآن بالحث على ملة إبراهيم ببيان خطأ وضلالة من ينحرف ويبتعد عنها، قال تعالى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ…] ( ).
كما جاءت الآيات القرآنية بمدح الذي يتبع دين وطريقة إبراهيم ويعلن استقامته على جادة الهدى، قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا… ] ( )، واتباع مذهب إبراهيم في التوحيد ليست أمراً جديداً ولم يبدأ بالإسلام والبعثة النبوية المباركة كي يتوقف فيه بنو إسرائيل بل جاء على لسان الأنبياء كما في يوسف عليه السلام اذ ورد حكاية عنه في التنزيل [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ] ( ) وفيه مسائل تتعلق بالمقام منها:
الأولى: الآية حجة على بني إسرائيل بقيام الأنبياء من بني إسرائيل باتباع ملة إبراهيم، فمن باب الأولوية القطعية ان يقوم اليهود باتباعه.
الثانية: توكيد حقيقة عقائدية وهي عدم التعارض بين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام وبين ملة إبراهيم الحنيفية.
الثالثة: الآية دعوة لبني إسرائيل لمحاكاة الأنبياء في إتباع ملة إبراهيم.
الرابعة: نفي النفرة من الدعوة الى الإسلام لانه ليس ديناً جديداً بل هو دين كبار الأنبياء.
الخامسة: لم يستنكف الأنبياء من إتباع ملة إبراهيم، فمن باب الأولوية ان يقوم اليهود والنصارى بالمبادرة الى الإيمان وإجتناب الصدود والإعراض عن الحنيفية.
وفي ذكر يعقوب في الآية أعلاه من سورة يوسف مسائل تتعلق بموضوع الآية على البحث منها:
الأولى: ان يعقوب هو نفسه إسرائيل الذي ورد ذكره قبل آيتين وانه حرم على نفسه طعاماً معيناً وقد ورد انه لحم الجزور.
الثانية: ان تحريم إسرائيل لحم الجزور على نفسه لم يخرجه عن ملة إبراهيم، والدعوة لاتباعه، بدليل ان يوسف عليه السلام وهو ابن صلبي ليعقوب اعلن اتباعه لملة آبائه.
الثالثة: الأخبار عن إتحاد ملة الأنبياء، وهذا الإتحاد دعوة اضافية لإقتفاء آثار النبوة والإهتداء بأنوارها.
الرابعة: بيان نهج وطريق الأنبياء حث لأهل الكتاب والناس جميعاً للأقتداء بهم.
الخامسة: تفضيل المسلمين باختيارهم اتباع ملة إبراهيم، ولم ينحصر الأمر باتباع ملة إبراهيم باليهود والنصارى بل يشمل الناس جميعاً، كما جاء على نحو القضية الشخصية في خطاب تكليف موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا…] ( ).
فهذا الإتباع لا يتعارض مع علو مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه سيد الأنبياء والمرسلين، إذ أن ملة إبراهيم وهي التوحيد والإسلام فضل وهداية من عند الله، وهي عنوان وطريق النجاة، وصراط قويم على الناس اتباعه وفيه إخبار عن الإلتقاء بين الشرائع في مضامين التوحيدوالإستقامة، وهذا الالتقاء لا يمنع من دخول الإسلام ولا يكون كافياً للإنسان في وظائفه، بل لابد من الدخول في الإسلام والتقيد بأحكام الشريعة الناسخة التي أراد الله ان تكون باقية في الأرض الى يوم القيامة.
ومن الآيات ان لفظ (ملة) ورد في القرآن تسع مرات كلها بالإضافة الى اسم آخر، ثمانية منها بالإضافة الى اسم إبراهيم، سبعة منها بلفظ (ملة إبراهيم)، وواحدة تتعلق بها في نظم الآية اذ جاءت حكاية عن يوسف في اختياره لملة إبراهيم، ونبذه لملة وطريقة ونهج الكفار كما ورد في التنزيل [إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ…]( ).
كما ورد لفظ (الملة) عدة مرات بالإضافة الى ضمير المتكلمين والمخاطبين والغائبين (ملتنا، ملتكم، ملتهم) في توكيد موضوعية الملة في الحياة اليومية للناس، وبيان فضل الله تعالى بالدعوة الى ملة إبراهيم وعدم ترك الناس في تيه وضلال، ثم جاء الإسلام ليجعل ملةالتوحيد والإستقامة لباس المسلمين والهوية التي يعرفون بها ليستحقوا وراثة إبراهيم، ويبينوا أهليتهم لحفظ كلمة التوحيد في الأرض، وجعل كلمة الله هي العليا.
قانون ملة إبراهيم
لقد جاء الإسلام بمبادئ التوحيد والشريعة الجامعة المانعة، الجامعة للواجبات والسنن والأحكام التكليفية الخمسة، والمانعة من طرد التحريف والتشويه عليها والعبث في أحكامها، وكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة الى الإسلام والنطق بالشهادتين حصراً والتقيد بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فلماذا جاء القرآن بالدعوة الى ملة إبراهيم عليه السلام، الجواب هذه الدعوة ليست في عرض الدعوة الى الإسلام بل هي في طولها وجزء منها ولا تتعارض معها.
وجاءت الآيات بما يؤكد بقاء ملة إبراهيم خالدة الى يوم القيامة، وهذا الخلود ليس بالذات بل بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفيه تشريف وعلو منزلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل اليها نبي من الأنبياء، فبنبوته عرفت نبوة آبائه وبقيت خالدة الى يوم القيامة، ولم ينحصر الأمر بالمعرفة بل بالذب عنها، فلقد اراد فريق من أهل الكتاب محو الشأنية والإستقلال الذي تتمتع به ملة إبراهيم بالقول انه يهودي أو نصراني، فجاءت الآيات بالتوثيق الخالد لحنيفية إبراهيم عليه السلام، وانه كان مسلماً منقاداً لأوامر الله تعالى، ولم يتخلى عن الإجهار بالدعوة للتوحيد مع تعرضه لشتى صنوف الأذى والبلاء.
وتؤسس هذه الآية قاعدة كلية ثابتة الى يوم القيامة بالأمر باتباع ملة إبراهيم، وبلحاظ الدعوة الى الإسلام في الآية وجوه:
الأول: تعتبر الدعوة لإتباع إبراهيم منسوخة بالدعوة الى الإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: عدم التعارض بين الدعوتين، وكأنهما من المجمل والمبين.
الثالث: كلا الدعوتين في الإسلام والتوحيد، ولكن كل دعوة في زمانها ولها أحكامها وسننها.
الرابع: تتضمن ملة إبراهيم البشارة بالإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من آيات الإسلام ومضامين التوحيد، فكل الأنبياء يدعون الى الإسلام وكلمة التوحيد ونبذ الشرك والضلالة، واختص إبراهيم عليه السلام من بين الأنبياء السابقين بنسبة الحنيفية له ليبقى عنواناً للدعوة الى الله في الأزمنة الغابرة، وشاهداً على ما تحمله الموحدون في سبيل الله، ودعوة للاجيال اللاحقة لتعاهد كلمة التوحيد ليس لأنها الحد الادنى الذي يجب ان يلتقي عنده أهل الملل السماوية بل لانه واجب وسبيل لأداء الفرائض والواجبات، ومانع من طرد أسباب الشرك والضلالة.
وإتباع إبراهيم في الحنيفية وجزء من مباديء الإسلام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي لا تتحقق تبعية إبراهيم الا بدخول الإسلام ليس بالواسطة بل لان الأوامر الإلهية جاءت باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدعوة الى اتباع إبراهيم دعوة للبقاء على الفطرة، والإعراض عن الأعراض التي تطرأ على الناس بسبب حب الشهوات وغلبة النفس الغضبية واعوان الشيطان، قال تعالى [ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا…] ( )، فالحنيفية ليست خاصة بإبراهيم بل هي دين الفطرة، وفي سنخية الإنسان في أصل الخلق وجوه:
الأول: ان فطرة الإنسان هي الإسلام.
الثاني: الفطرة هي صفحة خالية، وان الإنسان هو الذي يختار الملة والطريقة.
الثالث: الفطرة هي الميل الى الغواية والضلالة.
والصحيح هو الأول، وفيه بيان لفضل الله تعالى على كل إنسان فلم يجعل الفطرة الا على التوحيد والهداية، وكأنها اساس وركيزة تساعد الإنسان في اختيار الإسلام والثبات على مفاهيم التوحيد والهداية، وجاء ذكر ملة إبراهيم وانه على الحنيفية لبيان المثال الموافق للفطرة والذي يجب ان يقتدى، وليكون حجة على الناس بان اختيار دين الفطرة والبقاء عليه ليس أمراً مستعصياً، بل هو أمر ممكن وفيه العز والفخر والذكر الحسن، ومع هذا جاءت الآيات القرآنية بالترغيب فيه والحث والدعوة اليه.
ومن مصاديق عالمية القرآن ونزوله رحمة للناس جميعاً مجيء الخطاب في الآية بالدعوة العامة لاتباع ملة إبراهيم وعدم إنحصارها بالمسلمين وهذه الدعوة كنز وثروة وحجة ونجاة وفوز في النشأتين.
قانون الحنيفية
لقد خلق الله الإنسان لإعمار الأرض بعبادته تعالى، وجاءت الصلاة فريضة واجبة لتكون عنواناً للعبادة وشهادة على اتصال ذكر الله تعالى من قبل الناس، ومن الآيات ان ترى أوقات الصلاة تنبسط على جميع آنات النهار والليل، فمع ان مجموع اداء المكلف للفرائض اليومية الخمسة بنحو عشرين دقيقة في المتوسط، أي بنسبة 1/72 من اليوم والليلة، فانه ما تمر دقيقة الا وتجد في الأرض من يقيم الصلاة منفرداً وجماعة إماماً ومأموماً من وجوه:
الأول: التباين في اوقات الصلوات.
الثاني: قسمة الصلاة الى خمس فرائض، الصبح، الظهر، العصر، المغرب، العشاء.
الثاني: اتساع اوقات الصلاة اذ انها من الواجب المؤقت الموسع الذي يكون اكبر في زمانه من اداء الصلاة، فصلاة الصبح مثلاً ركعتان لا تستلزم دقائق قليلة فإن وقت ادائها يستمر من طلوع الفجر الى طلوع الشمس الذي يكون بمقدار ساعة ونصف تقريباً في اكثر الامصار.
الثالث: الاختلاف والتباين في مطالع الشمس وغروبها بين الأمصار بما يؤدي الى الإختلاف في مواقيت الأذان وطلوع وزوال وغروب الشمس وأوان الشفق، وأوان الفضيلة لكل صلاة، فهذا الإختلاف يجعل أوقات الأذان والصلاة منبسطة على جميع الآنات، فكلما يطل أهل السماوات على الأرض يجدون فريقاً وجماعة من أهلها مشغولين بالصلاة.
الرابع: السعة والمندوحة في النوافل والصلاة المستحبة وقضاء الصلاة.
الخامس: تعلق أداء الصلاة بالتباين في أوقات البلدان وبقاع الأرض آية إعجازية اضافية، وباب للثواب ونزول الفضل الإلهي على أهل الأرض، خصوصاً وان الفضل لا ينزل على أهل الصلاة فقط بل يشمل الناس جميعاً وهو من واسع رحمته تعالى.
السادس: إنتشار المسلمين في أصقاع الأرض وسماع الشجر والمدر فيها للأذان واقامة الصلاة، ليكون باباً لدفع البلاء عن أهل الأمصار، المسلمين منهم وغير المسلمين. مما يدل على تحمل المسلمين مسؤوليات الوراثة في الأرض، وتعاهد الحنيفية التي يجب ان تبقى وتستديم كحقيقة عقائدية وآية تشريعية وإشراقة تبعث الضياء في ربوع الأرض.
والحنيفية هي الإستقامة والثبات على التوحيد، والتنزه من الشرك فهي اعتقاد وحال وعمل لم ولن يغادر الأرض منذ هبط اليها آدم الذي يعتبر قائد الحنيفية مع ان وصف (حنيفاً) جاء لإبراهيم تشريفاً واكراماً وثناء عليه لإخلاصه العبادة لله في مجتمع الكفر والشرك والضلالة، ولأنه صاحب شريعة بقيت آثارها الحنيفية ظاهرة في الإسلام، ولدعوة اليهود والنصارى لأتباعه، وإجتناب إدعاء انتمائه لديانتهم، وإبراهيم هو الذي وصف نفسه بأنه حنيف وجاء هذا الوصف بإحتجاجه على الكفار وتحديه وتوبيخه لهم على عبادتهم الأصنام، وفي التنزيل [ وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
لقد جاءت الآيات للحث على إتباع إبراهيم في ملته، وبينت الوصف الذي يتعلق به لأتباعه، وهو الحنيفية والإستقامة وان الحنيفية الإيمان بما انزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات التي جاءت مقترنة بالمعجزات التي تؤكد صدق نبوته، وتلزم الناس باتباعه في طاعة الله واتيان الصالحات.
وقيل ان الحنيفية عشرة في البدن والرأس، ولكنها اعم وتتعلق في باب العقائد والثبات على التوحيد والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وتحدي الجبارين والظالمين ومحاربة عبادة الأصنام ليفوز المسلم بآية القرب والإجتباء ويفوز في الآخرة، مع ان الحنيفية حال ثابتة ومستديمة في الأرض وهي الأصل والنهج الموافق للفطرة فإنها عند المسلم تحتمل وجوهاً:
الأول: عرض زائد ومتغير.
الثاني: عرض دائم.
الثالث: ملكة راسخة وسجية ثابتة.
والصحيح هو الثالث لذا فأن هذه الآية تدعو لتعاهد الحنيفية بالإقامة عليها والثبات في منازلها وعدم تركها أو هجرها، فمضامين هذا القانون دائمة في الأرض وثابتة في نفس وجوانح المسلم لا تغادره ابداً، وتبدأ رحلة الإنسان مع الحنيفية بدخول الإسلام والإقرار بالنبوات والتنزيل وهو الذي تدعو اليه هذه الآية بأعذب الألفاظ التي تدل على اللطف الإلهي من وجوه:
الأول: ذات الدعوة وما فيها من معاني الإيمان ومفاهيم النهي عن الشرك.
الثاني: مضامين الحنيفية والإستقامة وحسنها الذاتي.
الثالث: ملائمتها للنفس الإنسانية، بالإضافة الى ما تبعثه من السكينة والرحمة.
الرابع: المقاصد السامية من الحنيفية وهي على شعب:
الأولى: ما يتعلق بالمكلف، اذ انها وظائف وفرائض شخصية، ومقدمة وعنوان للإمتثال للخطاب التكليفي.
الثانية: ما يخص الأسرة والمجتمع لما فيها من سيادة الأخلاق الحميدة، والسنن الفاضلة والعادات الكريمة التي تتفرع عن أحكام الشريعة.
الثالثة: الغايات الدنيوية الحميدة، والمنافع الأخروية العظيمة التي يفوز بها الذي يختار الحنيفية طريقاً ومنهجاً.
الخامس: تحقيق مصاديق الخلافة في الأرض، واثبات أهلية الإنسان في تولي مسؤوليات الإمتثال للأوامر الإلهية وإعمار الأرض بالعبادة.
علم المناسبة
ورد لفظ (حنيفاً ) في القرآن عشر مرات بصيغة المفرد، وهو عدد كثير يدل على موضوعية هذا الوصف الكريم، وفيه حث للناس على الانجذاب اليه ومعرفة معانيه القدسية وما له من منافع ودلالات تتعدى الشخص ذاته وعالم الدنيا، ومن الآيات ان الوصف بالحنيفية جاء على وجهين:
الأول: وصف إبراهيم بانه حنيف، في ثمان آيات، ومنها آية اخبر بها إبراهيم عن نفسه بالحنيفية بقوله تعالى [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرض حَنِيفًا…] ( ).
الثاني: وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانه حنيف، في آيتين من الآيات العشر التي ذ كر فيها هذا الوصف، وهذا الحصر القرآني للوصف الكريم بالحنيفية لإبراهيم عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية إعجازية للقرآن وباب للهداية ودليل على تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحنيفية ومجيئه بأحكامها وسننها، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام واتباعه والإقتداء به.
ويدل هذا التعدد والإشتراك في الوصف باتصال الحنيفية ومعاني التوحيد بين زمان إبراهيم عليه السلام وزمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجود أمة تتوارث الإيمان وسنن التوحيد، وتأبى السجود للاصنام، لقد جاء الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون منقطعاً الى الله وعلى الصراط المستقيم والمنهج القويم وهو جزء من إعداد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمسؤوليات الرسالة وتهيئة المسلمين لوراثة الأرض والأداء الأمثل للواجبات العبادية.
كما ورد لفظ (حنفاء) بصيغة الجمع مرتين احداهما في أهل الكتاب، وانهم أمروا بان يكونوا حنفاء مخلصين لله، والثانية في مدح المسلمين وتعاهدهم لمناسك الحج والفرائض الأخرى، قال تعالى [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ] ( ).
وفيها شهادة سماوية على وراثة المسلمين لإبراهيم عليه السلام في حنيفيته وتعاهدهم لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السنن والأحكام، والآيه اعلاه وثيقة خالدة تبين حفظ الحنيفية في الأرض وانها بدأت بالنبي آدم وتجلت بأبهى صورها بشخص إبراهيم عليه السلام ثم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من بعدهم والى يوم القيامة، كما انها تؤكد ان الأمر الإلهي باتباع إبراهيم في الحنيفية لم يذهب سدى بل هناك أمة تمتثل وتستجيب له الى يوم البعث، وان المسلمين في الأصول على نهج إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى [وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]
صفة جهادية كريمة أخرى لإبراهيم عليه السلام وفيها تشريف له من وجوه:
الأول: انها جاءت في القرآن الوثيقة الخالدة الى يوم القيامة.
الثاني: الآية شهادة سماوية تتضمن المدح والثناء.
الثالث: فيها دليل على استحقاق إبراهيم للذكر المتعدد في القرآن.
الرابع: لم يأتِ الوصف على نحو مجرد خال من العناوين الإضافية، وفي دراسة حال وواقع إبراهيم والمجتمع الذي عاش فيه دلالات خاصة في المقام، فقد كان بين قوم مشركين يتبوأ الحكم فيهم جبار يدعي الربوبية.
الخامس: جاء ذكر إبراهيم عليه السلام ليكون أسوة للمسلمين.
السادس: في الآية دلالة على اتصال جهاد الأنبياء ضد الكفر، اذ جاء ذكر إبراهيم من باب المثال وليس الحصر، فكل نبي من الأنبياء منزه عن الشرك.
السابع: مدح إبراهيم لانه أخلص العبادة لله، وجاهد الذين كانوا يعبدون الشمس والقمر بالقول والفعل، وفيه تعريض بالمشركين وأهل الجاهلية الذين عبدوا الأوثان، وبعد ان ذكرت الآيات ان إبراهيم لم يكن يهودياً أو نصرانياً جاءت هذه الآيات لتنفي كونه من المشركين، وبذا تعينت ملة إبراهيم بانها شريعة التوحيد السابقة لليهودية والنصرانية، والتي تدل على وجود الإستقامة الحنيفية قبلها، وفيه زجر عن إدعاء اليهود أو غيرهم بأن التوحيد بدأ مع ديانتهم وملتهم، وما يترتب على مثل هذه الدعوى التي لا أصل لها من الآثار، فجاءت هذه الآية لتخبر عن محاربة الأنبياء السابقين للشرك، وهذه المحاربة مقدمة للشرائع السماوية الثلاث: الإسلام واليهودية والنصرانية، فلذا جاء الثناء على إبراهيم واكرامه ووصفه بثلاث صفات هي:
الأولى: انه صاحب ملة وشريعة، تستحق ان يتبعها الناس.
الثانية: اتباع ملة إبراهيم في طول اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ مدح الله المسلمين واخبر عن وجود الأمر باتباعه في الكتب السماوية السابقة، قال تعالى [ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ…] ( ).
الثالثة: وردت الدعوة لإتباع إبراهيم في القرآن والذي يتضمن الحث على إتباع التنزيل.
الرابعة: جاءت الآيات باتباع المرسلين مطلقاً، في دلالة على إجتناب الكفر جملة وتفصيلاً، قال تعالى [قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية ان مدح إبراهيم مدرسة لتأديب الناس جميعاً وسبب لنفرة النفس من الشرك، فمن يقتدي به الناس مبتعد عن الشرك وأهله، وفيه حث للناس للحذر من الشرك وإجتنابه، ولم تنف الآية وجود مشركين، بل اخبرت عن وجودهم وان عددهم ليس قليلاً بدليل مجيئها بصيغة الجمع، وهذا الإخبار تحذير اضافي من الشرك والمشركين.
فان قلتَ: ان الآية تتعلق بزمان إبراهيم وتخبر عن وجود المشركين في زمانه، قلتُ: التحذير أعم من ان ينحصر بزمان دون آخر، بالاضافة الى آيات كثيرة تدل على نبذ الشرك وتوجه الخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبراءة من المشركين والإعراض عنهم وحرمة نكاحهم.
واذا كان مدح إبراهيم لنبذه الشرك ورد في القرآن، فهل هو مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في المقام، الجواب: نعم من وجوه:
الأول: اتباعهم لملة ونهج إبراهيم.
الثاني: الإسلام نقيض الشرك، والإنتماء له حرب على الكفر.
الثالث: لم يكتف المسلمون بإجتناب الشرك بل قاتلوا المشركين، قال تعالى[وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( )، مما يدل على فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، فهو لم يجتنب الشرك فقط أو يقاوم المشركين باللسان والإحتجاج، بل قاد سرايا المجاهدين بنفسه، وسعى المسلمون لطرد الشرك من النفوس وازاحته من الأرض بالآيات والبراهين وأسباب التأديب والقوة، لقد أراد الله توثيق سنن الأنبياء في القرآن وهو جزء من عمومات أحسن القصص، قال تعالى[ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق في نفي الشرك عن إبراهيم وهذا الإطلاق يتضمن وجوهاً:
الأول: لم ينتسب إبراهيم الى مجتمع المشركين وأهل الضلالة. ويحتمل عدم الانتساب هذا وجوهاً هي:
أولاً: اعتزالهم وإجتناب اللقاء معهم أو حضور منتدياتهم.
ثانياً: النفرة والإبتعاد عن معتقداتهم.
ثالثاً: إجتنابهم بلحاظ الشرك والضلالة، فهو مبتعد عن مفاهيم الشرك.
رابعاً: لم يشارك إبراهيم المشركين في عبادتهم للأوثان والاصنام واحتج على من ادعى الربوبية.
وكل هذه الوجوه صحيحة وهي من مصاديق الآية، اما ما يجري من الإحتجاج عليه فلا يدخل ضمن الصلة واللقاء بمعناه المتعارف بل يأتي للحجة وإقامة البرهان، كما انه يدل على الإنذار والنفرة والإبتعاد لانه قائم على اظهار التباين والتناقض في المبدأ والعقيدة.
الثاني: الإخبار عن عدم تفشي الكفر والشرك في الأرض في أي زمان من الأزمنة، وجاء ذكر إبراهيم من باب المثال لبيان سنن الأنبياء وتنزههم عن الشرك واعدادهم للأصحاب والأنصار والأتباع مع حملهم البشارة بالرسول اللاحق، فهذه البشارة عون على العبادة والجهاد وعدم اليأس والقنوط، وهي وسيلة مباركة لمحاربة الكفر لما فيها من الأمل بسيادة الإيمان.
الثالث: المنع من إعتذار المشركين، اذ ان الإنتماء للشرك ومفاهيمه ليس أمراً حتمياً في أي زمان من الأزمنة وان كانت الصولة والحكم بيد المشركين، وفي الآية مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فببعثته صلى الله عليه وآله وسلم اصبح من الممتنع طغيان وسيادة الشرك، ويتجلى هذا الإمتناع بتقيد المسلمين بأحكام الإسلام، وإجتنابهم الإفراط والتفريط، وتعاهدهم المشهود لسنن الأنبياء، وحرصهم المتصل لمحاربة الشرك وطرده من بقاع الأرض وفق قاعدة الميسور وأخذ الشرك ينحسر من الأرض وأطرافها، وينزوي وأهله بارتباك وحرج.
ومن مصاديق محاربة المسلمين للشرك المواظبة على اداء الصلاة والفرائض الاخرى التي تنفي مفاهيم الشرك عن النفس، وتبين التزام الجوارح والاركان بطاعة الله، الى جانب نطق اللسان بالشهادتين والتبرأ من الشرك.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (حسن النسق) وهو الإتيان بكلمات متتاليات، بعضها معطوف على الآخر، يظهر بينها الترابط والتلاحم بما يجذب الأسماع، ويجعل النفوس تشتاق لها.
ولحسن النسق في القرآن دلالات اعجازية تتجلى بالمفاهيم الإضافية والمدارس العقائدية، ليكون برهاناً وتوكيداً على نزول القرآن من عند الله فجاءت الآية بامور:
الأول: الإخبار عن صدق الله في كل ما يقول وان الصدق يشمل آيات القرآن على نحو العموم الإستغراقي والعموم المجموعي، ومنه الوعيد بالعذاب للذين يقترفون الكذب والإفتراء على الله، ونعتهم بانهم ظالمون، وتحذير المسلمين منهم، بذكرهم بصيغة الجمع والكثرة وما تدل عليه من لزوم الإحتراز منهم، ومن وجوه الإحتراز ان يخبرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحلية الطيبات كلها، وان الله أحاط بعلم الغيب، وتفضل بكشف الوقائع التأريخية لقصص الأنبياء، وان تحريم لحم الإبل أنحصر بإسرائيل اذ قام بتحريمها على نفسه دون غيره، فلم يكن تحريم تشريع، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة السمحاء وصيغ التخفيف عن الناس فلا يمكن ان يكون للتحريم الشخصي أثر في سنته.
الثاني: الدعوة لإتباع سنة وطريقة إبراهيم ، وهذه الدعوة جزء من الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإحتجاج على بني اسرائيل وإنقاذ الناس مطلقاً من الإفتراء في باب الشرائع والأحكام.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة الى الإسلام ونبذ الكفر والشرك، اما ان تأتي طائفة او فريق بالكذب على الله ونسبة امور للشريعة ليست منها، فهو برزخ ذاتي دون هدايتهم وجذبهم للإسلام، فجاءت هذه الآيات ببيان عدم صحة دعوى تحريم بعض الأطعمة، ودعوتهم لإتباع ملة إبراهيم، ولتكون هذه الدعوة مقدمة لدعوتهم للإسلام بلحاظ أن ملته هي الإسلام والإنقياد لأمر الله تعالى.
الثالث: تقييد ملة وشريعة إبراهيم بكونه (حنيفاً) في دلالة على جهاده في سبيل الله، واستقامته، وثباته على التوحيد وعدم ميله عن الحق والصدق، ولو دار الأمر بين اتباع إبراهيم في الحنيفية، وإتباع إسرائيل فيما حرم على نفسه، فالأصح هو الأول لأن اسرائيل كان ايضاً حنيفاً، موحداً لله تعالى وكذا باقي الأنبياء وفيه طرد للنفرة من نفوس بني اسرائيل اذ ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم لإتباع أبي الأنبياء.
الرابع: نفي الشرك والضلالة عن إبراهيم، وفيه مدح وثناء عليه، ودعوة لإقتفاء أثره وحجة على الناس فكان إبراهيم صادحاً بالتوحيد عند أعتى الملوك وأكثرهم قسوة وغروراً وأشدهم كفراً وضلالة وهو نمرود الذي أدعى الربوبية، فمن باب الأولوية ان يقوم الناس بالإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الى الإسلام ونبذه الشرك والكفر والضلالة وفيه وجوه:
الأول: دعوة الناس الى التوحيد واتباع ملة الأنبياء والمرسلين من مصاديق قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] ( ).
الثاني: مجيء دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زمان ليس فيه جبار يكره الناس على محاربة الإسلام، او الصدود عنه وعدم الدخول فيه، فإبراهيم جاهد بنفسه للثبات على التوحيد وإستقرأ البراهين الدالة على التوحيد من الآيات الكونية، وقد خفف الله عن الناس في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجعل حاجزاً وبرزخاًَ وجداراً بينهم وبين الإسلام.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واظهار شرف ومنزلة الأنبياء الذين تصدوا له وبداية انحسار الشرك في الأرض.
بحث أصولي
ابتدأت الآية بالأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قل) وهو فعل أمر وتشريع يحمل صفة الوجوب، فلابد ان يقول النبي ما في هذه الآية من المضامين، ومن الآيات ان يبقى الأمر والقول معاً خالدين الى يوم القيامة، وهو شاهد على أهلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للذكر في الأذان خمس مرات في اليوم، وليكون هذا الذكر مقدمة للإصغاء لقوله وعدم الإعراض عنه كما يضفي قدسية وتشريفاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يتلقى الأوامر من عند الله، وهذا التلقي توكيد لمنزلة النبي الرفيعة، ونعمة ورحمة للناس بأخذ الأوامر الإلهية بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله.
وهل يحمل الأمر بإتباع ملة إبراهيم الوجوب ايضاً الجواب نعم، أي ان الآية تتضمن أمرين:
الأول: خاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو على قسمين:
الأول: الإعلان بصدق الله تعالى.
الثاني: دعوة الناس لإتباع ملة إبراهيم، وفيها حصانة من الإفتراء والكذب على الله، وقوله تعالى “فاتبعوا” هو جزء من الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقدير [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم] في استقامته واخلاصه العبودية لله تعالى.
الثاني: عام بوجوب اتخاذ الحنيفية منهجاً وشريعةً في الحياة الدنيا وتتجلى معالمها بالإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بشر به الأنبياء ومنهم إبراهيم عليه السلام.
وكلا الأمرين ظاهران في الوجوب، وعدم ارادة المعنى الأعم للوجوب والإستحباب وان إشتركا في طلب الفعل، ولكن الوجوب يمنع من الترك، أما الإستحباب فيتضمن الإذن فيه، وهذا الإذن معدوم في الأمر الخاص والعام معاً، وقد امتثل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمر الإلهي وبلغ الرسالة ودعا الناس لإتباع ملة إبراهيم وعلى الناس الإمتثال والإستجابة للأمر العام، بل وللأمر الخاص ايضاً لأن الخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بـ(قل) موجه الى الناس جميعاً بالواسطة، فكل انسان يجب ان يؤمن بحقيقة صدق الله ويتبع ملة إبراهيم ويكون حنيفاً مسلماً.
قوله تعالى [إِنَّ أول بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ]الآية 96.
الإعراب واللغة
أن: حرف مشبه بالفعل، أول: اسم إن، وهو مضاف.
بيت: مضاف اليه، وضع: فعل ماضِ مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: هو.
للناس: جار ومجرور متعلقان بوضع، للذي: اللام هي المزحلقة، الذي: اسم موصول في محل رفع خبر إن.
ببكة: جار ومجرور وهو صلة الموصول، مباركاً: حال من الاسم الموصول (الذي).
هدى: عطف على (مباركاً)، للعالمين: جار ومجرور متعلقان بهدى وبلحاظ انه موضوع ومنشأ يكون التقدير، انه سبب ووسيلة لهداية العالمين.
والوضع ضد الرفع، يقال وضعه يضعه وضعاً وموضوعاً، وفي الحديث: ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم، أي تفرشها لتكون تحت قدميه، ويأتي الوضع بعنوان البسط.
وبكة اسم الأرض التي انشأ عليها البيت الحرام، وفيها سعة وضيقاً وجوه:
الأول: مقدار أرض الكعبة.
الثاني: المطاف الذي يطوف الناس فيه حول البيت.
الثالث: المسجد الحرام.
الرابع: مكة المكرمة.
الخامس: الحرم الذي هو اكبر من مكة ودويرة بيوتها.
ويدخل فيه منى ومزدلفة، وللحرم حدود مرسومة ومعلومة.
والمباركة مفاعلة والمراد منها ترشح الخير والبركة من البيت لانه بذاته مبارك بالاضافة الى البركات في حجه والطواف حوله.
والبركة: النماء والزيادة، وتأتي بمعنى السعادة والتشريف.
بحث عقائدي
أول الشيء: بدايته وهو على اقسام:
الأول: الفرد المستقل غير الإرتباطي، أي لا يرتبط مع التالي أو الثاني الا بوحدة الموضوع، كما في اليوم الأول من رمضان فانه ينفصل عن اليوم الثاني.
الثاني: الفرد الإرتباطي المتصل مع التالي مع التمييز بينهما بلحاظ العنوان والوصف وان التقى معه ومع الافراد الاخرى في الجزئية من الشيء، كما ورد في الحديث: (أول الصلاة التكبير)، فهو جزء من الصلاة من غير ان ينفصل عن الأجزاء الأخرى.
الثالث: الاتحاد في السنخية والموضوع والإتصال بين الأجزاء، ولا يمتاز أول الشيء عن أجزائه الأخرى الا بالإبتداء به كما في نزول المطر على نحو متواطيء ومتساوٍ.
الرابع: التباين بالكم دون الكيف بين أول الشيء وباقي الأجزاء وهو على أقسام:
الأول: ما يبدأ صغيراً ثم يأخذ بالنمو والكبر كما في الإنسان والحيوان والشجر في آية كونية تدل على وجود الصانع وبديع خلقه.
الثاني: الذي يكون في بدايته قليلاً ثم يأخذ بالزيادة والكثرة وهو على قسمين:
أولاً: المفرد في ذاته كالنار في اتساعها وماء الفيضان.
ثانياً: المتعدد في افراده، كما في الإنسان اذ خلق الله آدم و حواء فانتشرت ذريتهما في الأرض.
الثالث: ما يكون ضيقاً ثم يأخذ بالإتساع كما في نشأت المدن والقرى والأسواق.
الخامس: ما ينفرد بالشأن، ويستقل في الموضوع، كما في البيت الحرام اذ انه يختلف عن البيوت التي حوله، وان صدق على الجميع عنوان البيت، نعم هو يلتقي في الموضوع مع بيوت الله أي المساجد التي اقيمت في مختلف انحاء الأرض، الا ان هذا الإلتقاء جهتي للخصوصيات التي ينفرد بها البيت الحرام لذا خصه بأسماء مخصوصة منها المسجد الحرام، والبيت الحرام، والبيت العتيق، وسمي البيت العتيق لوجوه:
الأول: انه أول بيت انشأ في الأرض، وليس من بيت فيها قبله.
الثاني: ان الله حرره وأعتقه من نير الجبابرة، كما حصل لإبرهة ملك الحبشة الذي اقام بصنعاء اليمن كنيسة ضخمة ليحج اليها العرب، ولكنه عجز عن صرفهم عن الكعبة، فسار اليها بجيش عظيم لهدمها، فلحقته الهزيمة والعار والخزي، كما سيأتي ان شاء الله في تفسير سورة الفيل.
الثالث: فيه دليل على معرفة الناس به ووجوب حجه.
الرابع: ملازمته للحياة الإنسانية على الأرض.
الخامس: توكيد التباين بينه وبين غيره من البيوت.
السادس: الإشارة الى ان كل بيت هو حادث وحديث ازاء البيت الحرام، فهو وحده الذي يتصف بالعتق والسبق من بين البيوت.
ومن الآيات ان يرد لفظ (العتيق) مرتين في القرآن، وكلاهما في البيت الحرام، بينما ورد ذكر القديم في وصف الفعل والمثال، كما في قوله تعالى في خطاب أولاد يعقوب لأبيهم وحزنه على يوسف [ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ] ( )، وقال تعالى [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ] ( ).
السادس: جاء لفظ (الأول) بالتعريف بالالف واللام، خاصاً بالله ، ووصف بيت الله بانه أول البيوت في الأرض، وفيه شهادة على ملكيته تعالى للأرض، كما يمكن تقسيم الأول بحسب اللحاظ الى تقسيمات متعددة منها ما له آخر مثل ساعات اليوم والليلة، وما ليس له آخر كما في أول الأعداد اللامتناهية، ونعيم الخلد، ومنه بلحاظ التالي وعدمه وتنقسم الى وجوه:
الأول: ما يكون مبتدأ وأولاً ثم يأتي من بعده مثله على نحو متعدد.
الثاني: ما يكون أولاً ويأتي من بعده ما يختلف عنه، بما يصدق عليه انه قسيم له.
الثالث: الأول الذي ليس له ثان أو مثيل أو شبيه، وهو أمر خاص بالله وشاهد على الوحدانية.
الرابع : الأول الذي تكون النسبة بينه وبين ما يأتي من بعده عموماً وخصوصاً من وجه، كما في البيت الحرام ومادة الإلتقاء بينه وبين المساجد هي عبادة الله، اما مادة الافتراق فهي متعددة منها:
الأول: ينفرد البيت الحرام بانه بيت الله.
الثاني: يؤدي المسلمون فيه مناسك الحج.
الثالث: البيت الوحيد الذي يطاف حوله طاعة وعبادة لله.
الرابع: البيت الباقي منذ ايام أبينا آدم والى يومنا هذا وحتى يوم القيامة بذات القدسية، فلم يأت عليه يوم أو مدة يتعرض فيها للاندراس بل هو معلوم ويتعاهده الأنبياء والمؤمنون في كل زمان، بل ومن قبل غير المؤمنين كما كانت قريش والقبائل الاخرى تحرص عليه وعلى اكرامه والطواف حوله.
الخامس: عدم خلوه من الطائفين والمصلين ساعة ما سواء من الناس أو الملائكة.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآيات بحلية الطيبات وإباحة الطعام للأنبياء واتباعهم ومنع التشديد على النفس والنهي عن التحريم من غير نص سماوي ودليل شرعي، والزجر عن الكذب والإفتراء على الله مطلقاً، ومجيء الآية السابقة باتباع نهج وطريقة إبراهيم الخليل في الإستقامة والإنقياد الى الله تعالى وإجتنابه الشرك والضلالة، جاءت هذه الآية لتخبر عن حقيقة تأريخية في الإرادة التكوينية تتعلق بخصوصية للبيت الحرام وكونه أول بيت في الأرض يوضع للعبادة، وما فيه من الفيض والخير، وفي الصلة بين الآية السابقة وهذه الآية وجوه:
الأول: من صدق الله تعالى ان أول بيت انشأ في الأرض هو المسجد الحرام.
الثاني: ذكرت الآية السابقة إتباع ملة إبراهيم، وجاءت هذه الآية لذكر الحج فهو من اهم افراد ومصاديق ملته عليه السلام، فالآية من عمومات رفع الجهالة والغرر، وكي لا يدخل التحريف والتشويه على سنن إبراهيم خصوصا بعد إدعاء انه يهودي ونصراني، فبعد الأمر باتباع ملة إبراهيم جاءت هذه الآية لتخبر عن وضع البيت الحرام للعبادة وانه أول بيت وضع للناس، لتأتي الآية التالية متضمنة وجوب حجه والطواف فيه.
الثالث: بيان فرد من افراد الإتباع الذي أمرت به الآية السابقة في قوله تعالى [فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبراهيم ] وجاءت هذه الآية للاخبار عن البيت الحرام لتتضمن الآية التالية اتباع إبراهيم بعمارة البيت الحرام والتوكيد على قدسيته وحرمته.
الرابع: بيان مصداق من مصاديق الحنيفية التي ورد ذكرها وصفاً لإبراهيم عليه السلام في الآية السابقة وهو حج البيت لدعوة إبراهيم الناس اليه وفيه إتباع لإبراهيم وهو واجب عيني ، فمن إعجاز سياق الآيات ان يأتي الحج متعقباً لوصف الحنيفية ليكون المسلم بأداء الفريضة والتكليف الإلهي حنيفاً ومتبعاً لملة إبراهيم.
الخامس: حج البيت الحرام تنزه عن الشرك وبلحاظ موضوع نظم الآيات فان حج البيت الحرام إجتناب للشرك وإبتعاد عن مفاهيمه، وقيد الإسلام الذي ذكرناه اعلاه لإفادة عدم حصول التنزه من الشرك بدون الإسلام والإنقياد الى الله تعالى، وهو لا يمنع من صدق اتباع إبراهيم من المسلم الذي لا يستطيع اداء الحج لان الإسلام هو الأصل.
السادس: بيان منافع الحنيفية وان اداء ما فيها من الوظائف يجلب النفع ويصرف الأذى لإخبار هذه الآية ببركة وإفاضات البيت الحرام، واذ جاء الإفتراء في الأطعمة وحليتها، وفي ملة إبراهيم ونسبته لليهودية أو النصرانية، جاءت هذه الآية لتمنع من الإفتراء في بيوت العبادة وتأريخها. واخبرت الآية السابقة عن حنيفية إبراهيم، جاءت هذه الآية لتؤكد ان إستقبال البيت الحرام جزء من الحنيفية التي كان عليها إبراهيم، خصوصاً وان بيت المقدس لم يبن الا بعد انقضاء ايام إبراهيم.
وجاءت الآية التالية لبيان وجوب حج البيت وإطلاق هذ الوجوب ليشمل الناس جميعاً مع بيان خصائص اخرى للبيت الحرام، وتتضمن ذكر آيات وبراهين تدل على الأسرار القدسية التي فيه، ولكن لماذا الفصل بين هذه الآية والآية التالية مع وحدة الموضوع، فيه وجوه:
الأول: استقلال موضوع وضع البيت الحرام وما فيه من المنافع والغايات على نحو الاجمال.
الثاني: بيان التعدد والكثرة في مضادين قدسية وشرف البيت الحرام.
الثالث: اخبار هذه الآية عن المنافع والدلالات العامة لموضوعية البيت الحرام بكونه أول بيت وضع للناس والإطلاق في وصفه بالبركة, وعمومات هدايته للناس، ومجيء الآية التالية بالخصائص التي ينالها من يحجه ويعمره ويطوف به ويزوره.
الرابع: في الفصل بين الآيات حث على طاعة الله بحج البيت الحرام، فبعد معرفة قدسية البيت في هذه الآية، تأتي الآية التالية لتبين وجوب الإنتفاع من هذه القدسية وما ينتج عنها من البركات بأداء الحج.
الخامس: يفيد الجمع بين الآيتين ان الحج أمر نافع للعبد والناس جميعاً.
إعجاز الآية
في الآية مسائل إعجازية منها:
الأولى: يتفضل الله سبحانه ويبين منازل الأرض ومواضع التقديس والبركة فيها ويخبر بنفسه عن أول بيت انشأ في الأرض، وموضوع الإنشاء وهو العبادة، لتكون الآية من عمومات قوله تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية: الآية تدل على ان الحج عبادة ملازمة للإنسان منذ خلقه، لذا جاء وضع البيت مقيداً بانه للناس.
الثالثة: لابد من أسرار ملكوتية في اختيار مكة لتكون منزلاً للبيت الحرام.
الرابعة: تثبيت حقيقة أولوية البيت الحرام في الأرض، مما يمنع الإفتراء بخصوصه فلا يستطيع اليهود مثلاً الإدعاء بان أول بيت هو بيت المقدس أو يستدل بعضهم بانه كان أولى القبلتين، أو إدعاء بعض أهل الملل اسبقية معابدهم، ومنه بيان الإعجاز في أمر انشاء البيت وتعاهده.
الخامسة: تدعو الآية للتحقيق والتفسير والرجوع الى الآيات الاخرى والنصوص والأخبار بخصوص انشاء البيت، لان الفعل ( وضع) جاء بصيغة المبني للمجهول.
السادسة: ورود لفظ بكة في هذه الآية دون غيرها من آيات القرآن، ومن الآيات ان لفظ (مكة) لم يرد في القرآن الا مرة واحدة ايضاً.
السابعة: مجيء لفظ ( الناس ) وهو اعم من المسلمين والموحدين، وشاهد على رحمة الله بالناس جميعاً.
الثامنة: ذكرت الآية البيت الذي ببكة، ومن الآيات ان هذا الوصف يفيد التعيين ولا يحتمل التعدد، وكذا بالنسبة لاسم (مكة) فالاسم المتعارف للبلدة التي فيها البيت الحرام هو ( مكة) ومع هذا انزلت الآية باسم (بكة) مما يعني انصراف المعنى لها على نحو الحقيقة.
وليس من بلدة اخرى اسمها بكة أو مكة الى الآن وهذا من الآيات الإعجازية في اسماء البلدان والامصار, بينما سمي النبي محمد محمداً ليتسابق الناس في اختيار اسمه المبارك لأبنائهم بينما يبقى اسم بكة ومكة خاصين بالبلد الامين وهو من مصاديق الوصف بالبركة الذي جاء في هذه الآية بقوله تعالى [مُبَارَكًا].
التاسعة: في الآية تحدٍ، لانها تخبر عن ترشح النفع والخير الكثير من البيت والذي جاء ذكره بصفة البركة وعلى نحو الإطلاق الشامل للنشأتين.
العاشرة: من أسرار الخلق والآيات الظاهرة فيه وجود بيت لله في الأرض ليكون باباً للهداية وسبباً للايمان والواضع هو الله ، ولو وضعه شخص لقام آخرون بالمنافسة وبناء غيره والمبالغة في عمارته.
الحادية عشرة: من إعجاز القرآن بيان تأريخ الأرض والإعمار فيها وهو من مصاديق بيانه وتبيانه لكل شيء.
وبينما جاء ذكر بعض الفرائض، وذكر الإعفاء عنها وسقوطها عن الذي لا يقدر على أدائها، كالصوم واعفاء المريض منه مع الفدية، فجاء وجوب الحج مقيداً بالإستطاعة والقدرة على ادائه مما يعني التخفيف في أصل الفريضة، مع ان وضع البيت للناس كافة
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (أول بيت) ولم يذكر هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية، مع ان لفظ أول ذكر فيه ثلاث وعشرين مرة، وكذا لم يرد لفظ (بكة) فيه الا في هذه الآية، ولو لم يذكر هنا لا تجد له ذكراً أبداً الا ان يرد في بعض أمهات كتب اللغة، خصوصاً وان الشعراء لا يذكرون الا الأسماء الظاهرة، مما يعني مرجوحية توثيق هذا الاسم بالشعر، فجاء القرآن بالأسماء والقصص والوقائع ليثبت انه أهم وثيقة في التأريخ.
الآية سلاح
تعتبر الآية وثيقة سماوية تبين حقائق عبادية في تأريخ الإنسان في الأرض، وتظهر شطراً من معاني الحنيفية وتأصلها وملازمتها للإنسان في وجوده في الأرض، وهي شاهد لتوكيد صيغة الصلاح التي تطبع إعماره لها، فانه لم يعمرها الا بالعبادة والصلاح والتقوى، والآية حرز وواقية للمسلمين بالإضافة الى انها عون لهم في الإحتجاج والتفاخر، فبعد ان كان العرب يتفاخرون في انسابهم وآبائهم جاء الفخر بالبيت الحرام، وقدمه في الأرض وسبق انشائه على دور العبادة.
وهذا الفخر موضوع لجميع المسلمين والتقائهم عنده، فكل مسلم يفتخر ويعتز به بعرض واحد مع غيره من المسلمين، الحر والمملوك، والغني والفقير، والعربي والموالي، وصاحب الجاه والنسب وغيره، مما يعني حصول إرتقاء في المجتمعات الإسلامية، وأسباب للاتحاد ونبذ الفرقة، وهو من مصاديق قوله تعالى [[ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) فمن الأخوة الشعور بالفخر والعز بوراثة الأنبياء في حج وتعاهد أول بيت وضع للناس والذي يشترك كل المسلمين في تقديسه، وهو من الكلي الطبيعي الذي يشترك فيه كل المسلمين ومن منافع وصف البيت بانه مبارك، وفيه اخبار عما يتغشى المسلمين من الخيرات التي تترشح عنه وعن حجه وعمارته.
وفي الآية تنبيه للمسلمين لحقيقة عقائدية تأريخية ثابتة في الأرض وهي ان البيت الحرام وسيلة مباركة لجذب الناس للهداية والإيمان.
الآية لطف
في الآية بيان لفضل الله تعالى على الناس بان جعل أول بيت في الأرض خاصاً بعبادته وفيه وجوه:
الأول: هذا الجعل عنوان لنفي الشرك والشريك.
الثاني: فيه توكيد بان العزة جميعاً لله، وانه سبحانه جعل أول بيت في الأرض موضعاً للعبادة والتقاء أهل الإيمان من جميع ربوع الأرض.
الثالث: لولا هذه الآية لا يتصور الإنسان ان بيتاً يكون سبباً للهداية والإيمان، نعم الكتاب المنزل من السماء يكون باباً للهداية لما فيه من المضامين القدسية والأوامر والنواهي واسرار السماء، اما ان يكون بيت في الأرض وسيلة للهداية والإيمان فهذا فضل ولطف اضافي من الله يتضمن استدامة النفع والبركة في موضع معلوم من الأرض.
الرابع: الآية دعوة للناس للالتجاء الى البيت الحرام لاداء العبادة والمناسك وللنهل من بركاته، لقد اراد الله ان يكون البيت الحرام رحمة مستديمة في الأرض ولطفاً يشمل الناس جميعاً، فلا تنحصر منافعه بالمسلمين وهذا وجه من وجوه مافيه من البركة والخير الكثير.
الخامس: تتعدد معاني اللطف الإلهي في الآية من وجوه:
الأول: الاخبار الإلهي عن جعل العبادة موضوع أول بيت في الأرض، وفيه حث على تقوى الله واداء مناسك الحج.
الثاني: اعانة الناس على معرفة الوقائع والحوادث.
الثالث: تعظيم شأن البيت الحرام بالإخبار عن ابتداء الإعمار والإنشاء في الأرض به، وبيان ما فيه من البركات والخير الذي يعم الناس جميعاً.
الرابع: البركة لطف قائم بذاته، وجاءت هنا مترشحة عن البيت الحرام ليهتدي الناس وينهلوا منها.
الخامس: بيان حقيقة وهي من يأتي الى البيت الحرام يكون ضيفاً على الله تعالى.
السادس: لطفه تعالى بالناس بان جعل أول بيت في الأرض للعبادة وسبباً للهداية.
السابع: بيان حقيقة في الإرادة التكوينية وهي ان البيت لم يوضع للمسلمين فقط، بل للناس جميعاً بلحاظ الخلق والفطرة الإنسانية التي تتصف بصبغة الإسلام.
الثامن: في وضع البيت للناس دليل على إحاطة الله علماً بكل شيء، وانه تعالى علم ما يصلح الناس في دنياهم وآخرتهم فابتدأت الحياة وانشاء البيوت في الأرض بموضع العبادة.
التاسع: الآية شاهد على حاجة الإنسان للرحمة الإلهية فيما يخص الدنيا والآخرة ويمكن صياغة نتيجة وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: العبادة حاجة للإنسان.
الصغرى: البيت موضع العبادة.
النتيجة: البيت حاجة للإنسان.
العاشر: قدرته تعالى في تعاهد البيت فما أكثر البيوت التي انشأت من بعده ولكنها لم تدم.
والآية درس وموعظة للناس من وجوه:
الأول: الإقرار بعظيم فضل الله تعالى.
الثاني: شكره تعالى على حفظ أول بيت حتى البعثة النبوية.
الثالث: الإلتفات إلى مسؤولية المسلمين في حفظ البيت فهو وديعة السماء في الأرض.
مفهوم الآية
تبين الآية ان القرآن ليس كتاب عبادات فقط بل يتضمن علوم الغيب وأسرار التأريخ، ومن الآيات ان هذه الأسرار وبيانها عون على العبادة والصلاح، فالإخبار عن بدأ البناء والاعمار في الأرض بالبيت الحرام دعوة للإسلام، وحث على الحج، وتمنع الآية الجدال والإنشغال بالمقارنة بين دور العبادة، كما لو طرحت مسألة لأغراض الجدل والشبهة أو اثارة الريب والشك وهي: أي دور العبادة اشرف وافضل، وايها اقدم، فجاء الجواب الإستباقي الإحترازي المانع من الجدل وأسباب الشك والريب.
ولابد من موضوعية لذكر البيت الحرام وانه أول بيت انشئ في الأرض ولم يوضع البيت الا للناس جميعاً من غير تمييز ولكن التمييز والفصل يكون من قبل الناس انفسهم، فمنهم من يفوز ببركاته بالإسلام، ومنهم من يحرم نفسه من هذه النعمة العظيمة وما فيها من الخير بالجحد والعناد، ولكن هذا الحرمان ليس على نحو السالبة الكلية لوجود شطر من البركات والخير يترشح من وجود البيت في الأرض ليشمل الناس جميعاً، وبركات البيت تنقسم الى قسمين:
الأول: ما ينتفع منه الناس مطلقاً، المسلم وغير المسلم وهو من عناوين رحمة الله تعالى للخلق في الدنيا.
الثاني: خاص بأهل الإيمان والصلاح، الذين جعلوا البيت باباً للهداية والرشاد، وهذا القسم ينقسم الى قسمين ايضاً:
أولاً: المسلم الذين نال شرف الوصول الى البيت واداء مناسك الحج والعمرة.
ثانياً: المسلم الذي عجز عن اداء الحج، ولم يستطع الوصول اليه.
وتخبر الآية عن تأخر زمان انشاء أي بيت للعبادة أو السكن في الأرض عن زمان بناء البيت، وتبين الآية ما لمكة من الشرف على البلدان والامصار الاخرى، وتدعو الناس جميعاً الى إكرامها والعناية بها وإجتناب التعدي عليها، لان منافعها انحلالية تشمل كل إنسان براً ًكان أو فاجراً، فوظيفة الناس ان يقابلوا هذه النعمة بالشكر، ومن مستلزمات الشكر لله في المقام إجتناب الإساءة الى بيت الله الحرام خاصة ومدينة مكة لذا جاء في الآية التالية ان البيت ملاذ آمن لمن دخله.
وفي الآية مسائل:
الأولى: بقاء وإستدامة البيت الذي إبتدأ إعمار الأرض به الى يوم القيامة.
الثانية: استحقاق هذا البيت للإعمار والطواف.
الثالثة: الملازمة بين وجود الإنسان في الأرض وبين العبادة.
الرابعة: تعدد الآيات الكونية وجعل بعضها قريباً من الإنسان والبيت الحرام آية نقلية وعقلية، اذ ان هذه الآية تحث على إكرام وتقديس البيت الحرام، والعقل يدرك لزوم إكرامه وصيانة حرمته.
الخامسة: لم يوضع البيت لأمة أو ملة أو فرقة دون أخرى بل وضع لأهل الأرض في أجيالهم المتعاقبة.
السادسة: ذكر مدينة مكة باسم خاص بها وهو (بكة) مع ما لهذا الاسم من الدلالات العقائدية.
السابعة: الإخبار بخلو البيت من أسباب الأذى، وان زيارته لا تضر أحداً من الناس، أي ان قيام المكلف بالحج لا يضره ولا يسبب ضرراً لغيره من الناس من وجوه:
الأول: الحج فريضة وتكليف.
الثاني: جاء وضع البيت للناس جميعاً.
الثالث: ما يترشح من البيت من الخير والبركة وأسباب الرحمة.
الرابع: لم ينشأ البيت الا ليكون للناس جميعاً ولجذبهم للإيمان وهذه الهداية تشمل الذكور والإناث، والصغار والكبار، كما انها لا تنحصر بالإبتداء والمرة الواحدة، بل انها مستديمة باقية مع بقاء الإنسان في الحياة الدنيا.
إفاضات الآية
لقد اراد الله جذب الناس الى عبادته، وترغيبهم بطاعته، وجعل معالمها واضحة ودلالاتها بينة محسوسة، فتفضل بوضع البيت الحرام في أشرف بقعة من بقاع الأرض وأخبر الناس عنه وأمرهم بحجه والطواف حوله، وبين ما فيه من الإفاضات المتعددة، ومنها مضامين هذه الآية القدسية، كما جاءت للدلالة على البيت والحث على تقديسه وإكرامه وتثبيت موضعه ومكانه الى يوم القيامة، فالله يتعاهد البيت الحرام ومن تعاهده هذه الآية الكريمة.
دعا الله الناس لنبذ الشرك الظاهر والخفي، فابتدأت عمارة الأرض ببيته الحرام، لكي لا يفتتن الناس بغيره من البيوت والعمارة والآثار، فمن معاني التوحيد في الأرض جعل أول بيت في الأرض موطناً لعبادة الله تعالى، وفيه مناسبة لتفتخر الأرض بمضامين التوحيد، ويكون البيت وسيلة مباركة لتثبيتها على التسليم والإنقياد لله تعالى لان الشاخص الكريم يقف شامخاً على صدرها بجعلها تقر طوعاً أو كرهاً بالعبودية لله، قال تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرض اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
وجعل الله الأرض تفتخر على الخلائق والموجودات الكونية الأخرى بشرف وضع بيت الله على ظهرها لتحمله وديعة وتكون هي ذاتها وديعة عنده يطرد عنها النحاسة والآفات السماوية والأرضية بما يجعلها باقية بشموخ، ولا ينحصر الافتخار بالبيت الحرام بالأرض بل يشمل الناس جميعاً لانه مصاحب لهم، قريب منهم يلجأون اليه ويجأرون عنده للإستغاثة والمغفرة، بل ان الخلائق كلها تفتخر بالبيت فوجوده على ظهر الأرض لا يمنع الخلائق من الافتخار به سواء سكان الأرض أو سكان السماوات، خصوصاً وان ذكر البركة جاء مطلقاً وليس من قيد يبين حصرها بذات الوضع وزواره أو بأهل الأرض، ومن العناية الإلهية بالإنسان جعل الأرض سكناً وموطناً له، فاراد ان يكون فيها حرز دائم وأمان متصل وموضع يبعث ضياء الفيض والرحمة لاطرافها ويزرع السكينة في النفوس.
ومن الآيات ان تكون أيام مخصوصة من كل سنة شاهداً على عظيم منزلته في الزمان وعند الناس وفي الأرض مطلقاً اذ تتوجه وفود ضيوف الرحمن من كل حدب وصوب فتحس الأرض بوطأ اقدامهم ورواحلهم، وتشهد السماء في هذا الزمان سير الطائرات باتجاهه قبل فريضة الحج مكتضة ثقيلة بالحاج وصوت تلبيتهم وادعيتهم يخترق السماوات السبع، وتستبشر الملائكة بتوجه الناس الى البيت الحرام ليكون الحج سفراً من الخلق الى الحق تتجلى فيه مضامين العبادة والصلاح وتترسخ به السنن الحميدة، والأخلاق الفاضلة ويحرص معه أهل الموسم على الإبتعاد عن الأفعال المذمومة، وهذا التجلي والإبتعاد يأتي عن استصحاب وقصد والتفات لتقديس البيت الحرام ولما يملأ النفس من الغبطة بالفوز ويقر العين برؤية البيت، والسعادة بأداء الواجب وزيارة أول بيت وضعه الله في الأرض لعبادته وطاعته.
واذا سأل الملائكة بصيغة الإنكار عن جعل الإنسان خليفة في الأرض وهو الذي يفسد فيها، فان المسلم يطير اليوم في السماء ويقترب من الملائكة ملبياً مهللاً مكبراً وهو يتجه نحو البقعة التي جعلها الله عز وجل محلاً لعبادته بقصد القربة والطاعة لله تعالى أي ان الإنسان لم يكتفِ بعمارة الأرض بالعبادة وإقامة الصلاة اليومية، بل طار الى أجواء السماء ومحل سكن الملائكة ليزاحمها ويشاركها في التهليل والتكبير وهو مصداق للحكمة الإلهية في إختيار الإنسان خليفة في الأرض وقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [ إِنَّ أول بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ]
لقد اراد الله للقرآن ان يكون جامعاً للعلوم، متضمناً لأحوال الناس في كل الازمنة، وتبياناً لكل شيء فجاءت هذه الآيات لتذكر مضامينه وأحكامه، والبيت الحرام وتأريخه وخصائصه وثيقة سماوية تتضمن وجوهاً:
الأول: توكيد علم الله تعالى بما كان وما يكون وانه سبحانه وحده الذي يعلم أول بيت انشأ في الأرض وقد تفضل وأخبر المسلمين به في القرآن، وهل ينحصر الإخبار بالمسلمين، الجواب: لا، فالإعلان عام يستطيع كل إنسان ان يعرفه، وهذا العموم جزء من وضعه للناس كافة، وكونه سبباً لهدايتهم.
الثاني: منع الخلاف بين المليين والناس جميعاً في أول بيت أو دار حكم تم بناؤه وتشييده على سطح الأرض بالتعيين السماوي القاطع.
الثالث: دعوة الناس لمعرفة الآيات الأرضية، وتفضله تعالى بالعناية بالأرض وأهلها بان جعل بيته أول البيوت فيها.
الرابع: التباين التأريخي بين بيت الله وبيوت الناس في الأرض.
الخامس: توكيد حقيقة مركبة تتكون من أقسام:
الأول: لابد من التباين الزماني في وضع وبناء البيوت، وان هناك بيتاً انشأ قبل غيره من البيوت، وقد يقول قائل يحتمل بناء وانشاء عدة بيوت في زمان واحد. ولكن هذا الأمر مستبعد من جهات:
الأولى: بلحاظ قلة الناس في بداية الخلق وعمارة الأرض، فأول من سكن الأرض زوجان هما آدم وحواء، وكلاهما شارك في بناء البيت.
الثانية: إخبار القرآن على نحو التعيين والتشخيص بان أول بيت في الأرض هو البيت الحرام.
الثالثة: عدم وجود قول معارض لهذا القول في الكتب السماوية السابقة وعند أهل الملل.
الرابعة: مجيء النصوص والروايات بان الملائكة حجوا البيت قبل آدم بألفي عام.
الثاني: أول بيت في الأرض أنشأ بأمر الله تعالى ليكون موضعاً لطاعته وعبادته.
الثالث: مع ان البيت الحرام هو أول بيت انشأ في الأرض للناس فانه لا زال قائماً بعناية ولطف من عند الله، ويتعاهده المسلمون بالحج والعمرة والطواف.
السادس: الإخبار التأريخي عن ماهية الموضوع الذي يتوجه اليه المسلمون في صلاتهم، فالذي يتخذونه قبلة هو اشرف منازل الأرض.
السابع: في الآية اشارة الى ملازمة الصلاة للإنسان في الأرض وان القبلة الأصل هي الكعبة وليس بيت المقدس بلحاظ انه انشأ فيما بعد ايام إبراهيم عليه السلام.
الثامن: لم يأت الوضع من قبل فرد مخصوص، بل وضع للناس لقوله تعالى [وُضِعَ لِلنَّاسِ ] وفيه وجوه:
الأول: إكرام الله للناس بلحاظ الخلق.
الثاني: دعوة الناس للعبادة.
الثالث: الإخبار عن ملائمة وضع البيت للفطرة الإنسانية، وان أول ما يواجه الإنسان هو وجود البيت في الأرض داعياً الى الله.
الرابع:إقامة الحجة على الذين يولون مدبرين ويعرضون عن طاعة الله.
الخامس: العناية الإلهية بالأرض وسكانها، ولزوم مقابلة هذه العناية بالشكر لله تعالى، وتعاهد الصلاة واستقبال البيت الحرام عند ادائها كجزء من الصلاة وشرائطها.
وجاء الفعل الماضي (وضع) مبنياً للمجهول، ولم يأت مبنياً للمعلوم، وفيه وجوه:
الأول: الواضع هو الله اذ تم الوضع بأمره، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثاني: قامت الملائكة بوضع البيت في موضعه الذي عليه بأمر من الله .
الثالث: هناك مخلوقات اخرى عمرت الأرض قبل الإنسان وقد ذكر ان النسناس خلق سكنوا الأرض قبل خلق الإنسان.
الرابع:قيام آدم عندما هبط الأرض بوضع وبناء البيت بهداية من الله.
الخامس: قيام آدم بتوجيه ومؤازرة جبرئيل ببناء البيت.
السادس: ان إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت وساعده اسماعيل عليه السلام، قال تعالى [“وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ] ( ).
اما بالنسبة للأول فان الله قادر على كل شي ومن اليقينيات ان البيت وضع بأمر من الله على نحو تعيين الزمان والمكان والكيفية الا ان سياق الآية ولفظ الوضع يدل على المزاولة للوضع، اما الثاني فهو ممكن خصوصاً وانه ورد الخبر بحج الملائكة للبيت قبل خلق آدم، الا انه لا يتعارض مع ورود الخبر بان آدم وضع خيمة في محل البيت بتوجيه وإعانة من جبريل عليه السلام.
اما الثالث فهو أمر مستبعد خصوصاً وان الآية وردت بان البيت وضع للناس، واما الرابع والخامس فصحيح ان آدم نبي الله الا ان وضع البيت جاء بمؤازرة جبرئيل، وكان جبرئيل يتلقى الأوامر من عند الله، لبيان فضله سبحانه على بني آدم ومؤازرة ووساطة جبرئيل في التنزيل لا تمنع من صدق قيام آدم بالبناء.
اما السادس فان إبراهيم قام برفع القواعد مما يدل على سبق وجود البيت وموضعه. نعم ورد عن الامام علي عليه السلام ما يفيد ان إبراهيم هو الذي بناه وان بيوتاً قبله قد بنيت، فقد اخرج ابن المنذر وابن ابي حاتم عن الشعبي عنه عليه السلام في الآية قال: (كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله)، والاخبار عن وضع البيت للناس يعني ان الناس لم يشتركوا بوضعه وانه سابق لهم في زمانه، الا ان هذا لا يمنع من اشتراك آدم بوضعه فهو من الناس وان البيت وضع له أيضاً كونه واجب عيني لقانون الأنبياء أئمة الناس في الواجبات العينية وعموم التكاليف ، ومشاركة آدم في وضعه لا تتعارض مع ارادة وضعه له كفرد من الناس.
ويأتي الوضع بمعنى الفرش والبسط، مما يدل على ان وضع بناء البيت الحرام نعمة ورحمة للناس، وان الله هيأه وأعده للناس ليكون لهم مأوى وملاذاً، وبسطه لهم وجعل وصولهم اليه سهلاً، واستقبالهم له في الصلاة أمراً ممكناً غير متعذر.
ومجيء لفظ (الوضع) في المقام دون غيره من الألفاظ آية إعجازية، فالآية لا تشير الى البناء وحده سواء كان البناء خيمة مباركة أو من اللبن أو الطابوق أو الحجر بل تفيد الإكرام والإحسان الإلهي بالبيت الحرام، فهو نعمة نازلة الى الناس وآية من آيات الإرادة التكوينية، وهبة إنحلالية للناس، تنحل لينتفع منها كل إنسان، وهذا الإنتفاع على قسمين:
الأول: ما كان على نحو الموجبة الكلية، بالإمتثال للأمر الإلهي في حج البيت الحرام، ويأتي هذا النفع على نحو النية والقصد واختيار الإسلام ديناً.
الثاني: ما يكون على نحو الموجبة الجزئية بترشح النفع من فعل المسلمين باكرام البيت الحرام واداء فريضة الحج.
ومن لا يستطيع اداء الحج هل يكون من القسم الأول ام الثاني، الجواب: انه يلحق بالأول لعدم التكليف بما لا يطاق، ولوجود النية والعزم عند المسلم على اداء الحج مع وجود الإستطاعة وتهيئة مستلزماته، وكل قسم من القسمين من الكلي المشكك الذي تكون له مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وسعة وضيقاً، وقلة وكثرة، وجاء لفظ الناس ليكون سوراً للموجبة الجامعة لكل الناس من غير استثناء من غير ان يتعارض مع التباين في الإنتفاع.
وفي سعة هذا الإنتفاع بلحاظ الزمان وتعدد العوالم وجوه:
الأول: الإنتفاع العام من البيت الحرام في الدنيا وفي الآخرة.
الثاني: إنتفاع المسلمين منه في النشأتين وانحصار إنتفاع الكفار منه في الدنيا.
الثالث: لا يستفيد الناس من البيت الحرام الا في الدنيا، فهو رحمة دنيوية خالصة.
الرابع: ليس من قاعدة كلية لسعة أو ضيق الإنتفاع من البيت الحرام، فمن المسلمين من ينتفع منه في النشأتين ومنهم من ينتفع منه في الدنيا، اما الكفار فلا ينتفعون منه الا في الدنيا دون الآخرة.
والصحيح هو الثاني، فالتباين في الإنتفاع من البيت الحرام بين المسلمين والكفار نوعي والبون بينهما شاسع، اذ ان الشطر الأعظم من النفع من البيت الحرام ما يكون في الآخرة وعالم الحساب والثواب، والكافر حجب عن نفسه النفع العظيم للبيت الحرام في الآخرة، ترى كيف يمنع الكافر عن نفسه الإنتفاع الأخروي من البيت الحرام، فيه وجوه:
الأول: اختياره الكفر والشرك بالله، فيحرم من زيارة البيت الحرام وما فيها من الأجر والثواب، قال تعالى [ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا…] ( ) ونعتهم بالنجس يفيد خسارتهم وحجب الثواب عنهم.
الثاني: الصدود وعدم الإمتثال للأوامر الإلهية الخاصة بالبيت الحرام في الحج والعمرة.
الثالث: الجحد وعدم الإقرار بنعمة البيت وما فيها من الإفاضات.
الرابع: الآخرة عالم الحساب والثواب والعقاب على اعمال الدنيا، وأعمال الكافر تحجب عنه الثواب بالإضافة الى الأثر الذي يلحقه بسبب سوء نيته وقصده وسريرته.
ومن الآيات ان استحقاق الكافر للخسارة الأخروية لا يمنع من ترشح النفع عليه في الدنيا كونه فضلاً ورحمة من الله ، لذا جاءت الآية بلفظ ( للناس) واللام فيه حرف جر أصلي وله عدة معان، ولها في المقام وجوه:
الأول: الإستحقاق وهي التي تأتي في معنى منسوب لذات كما في قولك الشكر لله، وفي الآية شهادة على إستحقاق الناس لنعمة البيت فهم خلفاء الله في الأرض، فهو هبة ملازمة للخلافة، وكأن هناك قاعدة في الإرادة التكوينية تفيد وجود بيت الله في مهبط وسكن خليفة الله، فالله يهيء لخليفته داراً وبيتاً في الأرض, وعلى القول بالمعنى الاعم للخلافة وانه شامل للناس جميعاً فان البيت الحرام سكن ومأوى لهم جميعاً، وجاء لجوؤهم وعمارتهم له على نحو الوجوب والتكليف الذي يتغشى الناس جميعاً ولكن الكفار حجبوا عن انفسهم الإنتفاع التام منه.
الثاني: تفيد اللام الإختصاص كما في قوله تعالى [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا…] ( )، فمن فضل الله ان جعل البيت الحرام نعمة يختص بها الناس، ينهلون منها لدنياهم وآخرتهم، وتغبطهم الخلائق على هذه النعمة والفضل الإلهي.
الثالث: تأتي اللام لافادة الملك كما في قوله تعالى [[ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ…] ( )، وهل تفيد اللام في الآية الملك وكون البيت ملكاً للناس الجواب لا، من وجوه:
الأول: الملك مطلقاً لله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، ويشمل كل الموجودات والخلائق، قال تعالى [[ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض…] ( ).
الثاني: نعمة البيت لأغراض العبادة والتقوى.
الثالث: عدم إفادة لفظ الوضع في قوله تعالى ( وضع للناس) الملكية، لان لفظ الوضع أعم، ويشمل البسط والتهيئة، كما انه يدل بالدلالة الالتزامية على بقاء ملكية الشيء الموضوع والمبسوط لمن وضعه وبسطه للغير.
الرابع: من الآيات في المقام مجيء الفعل بصيغة المبني للمجهول للتوكيد على موضوع الوضع وغاياته وليس ملكيته.
الخامس: صيغة الجمع (للناس) فلم تقل الآية وضع للإنسان، بل وضع لجميع الناس، وفي الآية بشارة إستدامة وبقاء البيت الحرام لان لفظ (الناس) شامل للموجود والمعدوم، فالآية تستقبل الإنسان في حالات:
الأول: عند ولادته فقد وضع الله البيت لكل إنسان، ويصدق اسم الإنسان على الصغير والكبير.
الثاني: حال البلوغ وتوجه الخطاب التكليفي حينئذ للبالغ العاقل.
الثالث: تحقق الإستطاعة والقدرة على اداء الحج، فعند الولادة لا تكليف ولكن موضوع الآية معلق على البلوغ والإستطاعة، واذا حصل البلوغ مع عدم الإستطاعة فلا وجوب للحج الى حين تحققها، ولا يجب السعي الخاص لها، لأنها مقدمة الواجب وليس ذات الواجب واذا حصلت الإستطاعة قبل البلوغ فلا وجوب ايضاً، والمتعارف في البيوت ان توضع وتبنى على نحو شخصي وفردي فكل شخص يبني لنفسه واسرته، ولكن البيت الحرام موضوع للناس جميعاً.
ويقال وضع الشيء في المكان أي أتيته فيه، ووضع الشيء وضعاً: أي اختلقه، ويأتي الوضع بمعنى البسط، كما ورد في الحديث: ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم، أي تبسطها وتفرشها له.
فكذا البيت الحرام فان الله وضع البيت لإكرام الناس بلحاظ خلافة الإنسان في الأرض فالى جانب الوظائف العبادية للبيت، فانه فراش كريم بسطه الله للناس ترغيباً بالعبادة، واكراماً للإنسان، وبشارة ببسط طريق الجنة وازاحة الحواجز التي تمنع من التقوى وأداء مناسك الحج.
فاختيار لفظ (الوضع) من الإعجاز اللفظي في القرآن وشاهد على المعنى المتعدد، وشموله للواجبات بالإضافة الى معاني الإكرام والشهادة لأغراض الدنيا والآخرة، لذا تجد حج البيت يضفي على صاحبه نوعاً من الثقة والهيبة بين الناس.
فمن الآيات في الأحكام التكليفية أن تقترن بالفضل والإحسان الإلهي في الدنيا، ولتكون في الآخرة خيراً محضاً وثواباً متصلاً، فوضع البيت نعمة مركبة جاء للعبادة ولبيان اكرام الله لخليفته في الأرض بان سخر الله له الأرض لتكون مأوى وسكناً وكنزاً ومصدراً للرزق الكريم، وبسط له بيته الحرام بين الجبال ليكون أمناً وبركة وفيضاً دائماً، ينتفع منه الإنسان بالمجيء اليه طاعة وخشوعاً لله تعالى وهذا المجيء على أقسام:
الأول: القدوم لأداء فريضة الحج.
الثاني: أداء مناسك الحج المستحب.
الثالث: زيارة البيت للعمرة المفردة، والمنبسطة على جميع ايام السنة.
الرابع: أداء عمرة التمتع التي تسبق الحج.
الخامس: زيارة البيت وعمارته.
السادس: الطواف المستحب.
السابع: اتيان الصلاة اليومية.
الثامن: أداء النوافل وقراءة القرآن.
التاسع: زيارة البيت بقصد رؤية الكعبة.
العاشر: اللجوء اليه والإستعاذة به.
الحادي عشر: طلب الأمن والسلامة.
وروي ان الله تعالى انزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي، وقال لادم: أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي( ).
لقد سخر الله الأرض وما عليها لخدمة الإنسان واعانته على أموره واصلاح أحواله وتهيئة أسباب رزقه، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] ( ).
وفيه بيان لعظيم فضل الله على الناس، فهل البيت الحرام مما سخر الله للإنسان ام أنه خارج بالتخصص وليس من موضوعات الآية الكريمة أعلاه، الجواب هو الأول فالله سخر البيت الحرام للناس وهو ظاهر في قوله تعالى [وُضِعَ لِلنَّاسِ] ولا يتعارض هذا التسخير مع قدسية البيت الحرام وماله من الشأن العظيم، فقد ينتفع الإنسان في يومه وليلته مما في الأرض، اما النفع من البيت الحرام فهو متعدد الوجوه وأكثر من ان يحصى كما أنه لا ينحصر بعالم الدنيا بل يشمل النفع العظيم في عالم الآخرة، وهو باب كريم للسعة في الرزق وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد”.
وفي الآية وجوه:
الأول: تطوف الملائكة بالبيت لعلمهم بقدسيته وطلباً لرضاه تعالى.
الثاني: لم تحتج الملائكة على خلق الإنسان، بل ذكرت أمراً يصدر من الإنسان وهو الإفساد في الأرض وسفك الدم.
الثالث: سأل الملائكة الله عز وجل أن ينزه الناس من الفساد والقتل، فسؤالهم ليس إستنكارياً، بل هو تضرع لتأهيل الإنسان لخلافة الأرض فيكون جوابه تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] بشارة لهم ونوع إستجابة إجمالية بان الله عز وجل يعلم كيف يجعل الناس يحافظون على الخلافة ويتنزهون من هاتين الخصلتين.
الرابع: التفريق بين الخلافة في الأرض، ووضع البيت الحرام، فجاء الرد بعلمه تعالى بعواقب الأمور، وان البيت وضع للناس ليكون وسيلة سماوية وعبادية مباركة لتخليص الناس من الفساد والإقتتال ونجاتهم بالإسلام ونعمة الأخوة التي جاء ذكرها في آية [ وَاعْتَصِمُوا] ( )، وأداء الحج فريضة على الناس إذ أن فرض الحج من مصاديق إصلاح الناس وتنزههم عن الذنوب والمعاصي ووجوه الفساد الأخرى.
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : أول بيت وضع للناس للعبادة.
الثاني : وضع للناس لأداء المناسك.
الثالث : وضع للناس ليرجعوا إليه، ويجتمعوا فيه، قال تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا….]( ).
الرابع : وضع للناس أمناً ومأوى وملجأ لهم.
الخامس : وضع للناس لترشح البركات عنه بدليل ذات الآية.
السادس : وضع للناس لهدايتهم وتوبتهم وصلاحهم لبيان ذات الآية[وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ].
السابع : وضع للناس على نحو العموم الإستغراقي الجامع لهم، فيتعاقب الناس في الحياة الدنيا وذات البيت وضع لهم جميعاً.
الثامن : في البيت شاهد على الربوبية المطلقة لله عز وجل.
التاسع : لما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بأنه سبب لنشر الفساد والقتل في الأرض جاء الرد من عند الله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فكان من علمه سبحانه أن جعل البيت الحرام أول بيت وضع للناس ليكون حرباً على الفساد والقتل بلحاظ أداء المناسك والأمر والتقيد بأحكام الأشهر الحرم وأداب الحج، قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
قانون (السبق)
من الإعجاز في الآية أمران:
الأول: مجيء الفعل بصيغة الماضي.
الثاني: شمول الناس جميعاً بمنافع وغايات وضع البيت، ولم تأت بلفظ المسلمين أو بني آدم، بل جاءت بلفظ الناس.
الثالث: شمول أهل الكتاب وغيرهم بوضع البيت لأنهم من الناس.
فان قلت:ان الحج لا يصح من غير المسلم وان جاء به فالجواب من وجهين:
الأول:التكليف بالفروع عام وشامل للناس جميعاً وان كان لا يقبل من غير المسلم لانه اختار عدم قبول اعماله بلحاظ أن الكفر محبط للاعمال
الثاني: منافع وفوائد البيت الحرام اعم من أن تنحصر بالحج وإستقباله في الصلاة، فبركات البيت عامة وتتغشى الناس بأجيالهم المتعاقبة، لذا ورد لفظ الناس على نحو الإعجاز، ومن مصاديق الإعجاز ما في الآية من التحدي والدعوة الى تلمس منافع البيت الحرام على الناس في الميادين المختلفة، ومنها مضامين الآية التالية بالإضافة الى الفوائد المتعددة للبيت، قال تعالى [ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا… ً]( ).
ووصفت الآية البيت الحرام بانه أول بيت وضع للناس وفيه مسائل:
الأولى: وجود بيت آخر وضع للناس.
الثانية: وجود بيوت أخرى وضعت للناس إذ أن الأول هو ابتداء الاعداد.
الثالثة: عدم وضع بيت آخر للناس وان الأول لا يعني وجود ثان له.
الرابعة: ارادة التعدد في لفظ ومعنى البيت وليس المراد ما وضع للناس، فالبيت الحرام وضع للناس، اما غيره من البيوت فهي على اقسام:
الأول: ما وضعه الأنبياء لأممهم.
الثاني ما وضعه المشركون لأنفسهم.
الثالث: البيوت التي يبنيها الناس لسكناهم.
الرابع: المنتديات ونحوها.
الخامس: المساجد ، وهي بيوت للعبادة ، قال تعالى [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] ( ).
قانون أول بيت
جاء القرآن تبياناً لكل شيء، ومن مضامينه القدسية ذكره لأول بيت انشأ في الأرض، وهذا الذكر إعجاز قرآني له دلالاته المتعددة منها:
أولاً: علم الله تعالى بما يحدث في الأرض.
ثانياً: تفضله سبحانه بالإخبار عن حقيقة تأريخية في مكونات الأرض ، فالبيت الحرام ليس موضوعاً للسكنى، فهو يختلف عن بيوت الأرض، اذ انه موضوع للنسك والعبادة.
ثالثاً: من معاني ربوبية بيت الله تعالى وضع بيت له يؤمه الناس ويقصدونه من كل ناحية ومصر من أمصار الأرض.
رابعاً: في بداية اعمار الأرض بالبيت الحرام دعوة للهداية والإيمان، وزجر عن الشرك والضلالة.
خامساً: فيه نهي وتحذير للملوك والسلاطين من إدعاء الربوبية ودعوة للناس لإجتناب الغلو في أشخاص الملوك وملكيتهم للأراضي الواسعة، وظهور سلطان في الأمصار، فان أول بيت للناس يتصف بصفات قاهرة لهم وهي:
الأولى: انه متقدم على زمانهم.
الثانية: خروجه عن سلطانهم وملكهم.
الثالثة: انه باقِ بعد هلاكهم وزوال ملكهم.
سادساً: ليس لأحد ان يدعي أن قومه أو أمته أو أجداده انشأوا أول بيت في الأرض تطاولاً على الناس، فأخبر الله ان أول بيت في الأرض بيته.
سابعاً: أول بيت في ألأرض من الكلي الطبيعي فكل إنسان له حصة فيه، وبإمكانه ان يغترف من بركاته بقيد الإنتماء للإسلام.
ثامناً: جعل الله البيت ملاذاً وأمناً للناس، ومن الآيات ان جعل الله هذه النعمة مصاحبة للناس في الأرض، منذ أيام ابينا آدم عليه السلام.
تاسعاً: تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على تشريع فريضة الحج على الناس جميعاً، فالخطاب التكليفي بحج البيت موجه الى آدم وذريته، وفيه تشريف للإنسان والبيت معاً.
عاشراً: أراد الله للبيت ان يكون باباً للرزق ومنبعاً للبركة والخير، يقصده المسلمون رجاء فضل الله ورفده، قال تعالى [وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا] ( ).
الحادي عشر: في الآية تنبيه ودعوة للناس لإنشاء بيوت لهم في الأرض، وهي عنوان الإستقلال والإستقرار والعز والستر ودعوة للسكن والإقامة والنكاح وانجاب الأولاد، ولكن هذه البيوت متخلفة درجة عن بيت عبادته تعالى.
الثانية عشرة: تمنع الآية الناس من إدعاء مخالف للواقع فيما يخص أول بيت في الأرض.
الثالثة عشرة: في وضع البيت الحرام للناس جميعاً دلالة على ان الأصل هو الإسلام، وان البيت ملائم للفطرة الإنسانية وان علم الله تعالى بكفر شطر أو فريق من الناس لم يمنع من جعلهم شركاء مع المسلمين في وضع البيت لهم، ولكنهم باختيارهم الكفر حجبوا عن انفسهم ما فيه من النعم، كما ان وضعه للناس جميعاً باب للتوبة والإنابة، فمتى ما تاب الإنسان فانه ينتفع من البيت الذي وضع له.
الرابعة عشرة: لا تنحصر منافع وضع البيت بالحياة الدنيا بل تشمل الآخرة.
الخامسة عشرة: يتصف أول بيت في الأرض بانه مبارك يترشح عنه الخير والنفع العظيم الذي يتغشى الناس جميعاً.
السادسة عشرة: الإشارة الى ملكية الله تعالى للأرض وانه يفعل فيها ما يشاء فينشأ فيها ما يشاء.
السابعة عشرة: تفضله تعالى بتهيئة مستلزمات الحياة الإنسانية في ألأرض، بان ابتدأت بوضع بيت للعبادة، وعمارة البيت الحرام وهبوط آدم، وعن الإمام محمد الباقر عن آبائه عليهم السلام قال: ان الله اوحى الى جبرئيل ان ابنه واتمه من حجارة ابي قبيس واجعل له بابين، باباً شرقاً، وباباً غرباً، فاتمه جبرئيل عليه السلام فلما فرغ طافت الملائكة حوله فلما نظر آدم وحواء الى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا سبعة اشواط ثم خرجا يطلبان ما يأكلان.
الثامنة عشرة: في انشاء البيت الحرام إرشاد وتعليم للناس لإنشاء البيوت سواء بيوت العبادة أو بيوت السكن.
التاسعة عشرة: ابتداء الحياة الدنيا بالبركة واتصال هذه البركة وترشحها على الناس جميعاً من وجوه:
الأول: وضع بيت الله في الأرض.
الثاني: ابتداء الحياة الدنيا ببيت الله، وهذا الإبتداء ذاته شاهد على البركة، بمعنى ان جعل أول بيت في الأرض لله وعبادته، علة للبركة.
الثالث: إستدامة وجود البيت استمرار للخير والبركة في الأرض.
العشرون: لم يتعلق وضع أول بيت في الأرض بنية وعزم الإنسان، بل جاء بأمره تعالى “كن فيكون”.
الواحدة والعشرون: فيه آية وبيان لوظائف الأرض، ومنها انشاء البيوت عليها، وهذا الإنشاء نعمة عظيمة على الإنسان.
قانون آيات البيت
لقد ملأ الله الكون بالآيات الباهرات منها ما يكون في السماء، ومنها في الأرض قال تعالى [ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ] ( )، ومنها آيات التنزيل ومعجزات النبوة وخلق الإنسان وغيرها من الآيات التي تستحق مجلداً مستقلاً لبيان أجناسها ومصاديقها، ومنها آيات البيت الحرام اذ جاءت هذه الآية للدلالة عليها وتوكيدها، وهل هذه الآيات ذاتية أو عرضية، وثابتة ام متزلزلة، ودائمة أم وقتية، والجواب انها ذاتية لدلالة مضامين الظرفية كما في قوله تعالى “فيه آيات” الا ان هذا لا يمنع من وجود آيات عرضية عنه كما انها ثابتة ومستديمة غير متزلزلة ولا مرهونة بوقت مخصوص، فالبيت نعمة مزجاة لكل الناس، فكذا آياته فانها علامات تثبت وجود الصانع ووجوب عبادته، وتحث على تعاهد البيت وحفظه، وآيات البيت دعائم لتثبيت أركانه واستدامة وجوده، فمن الآيات في البيت الحرام ان تتعاقب أنظمة الحكم المتباينة، ويظهر أهل الكفر والجاهلية، على مكة وما حولها، ومع هذا تراهم يتجنبون الإساءة للبيت الحرام، بل انهم يحرصون على أداء شطر من مناسك الحج، ويحافظون على الحنيفية.
وجاء لفظ آيات بصيغة الجمع والإنكار مما يفيد التعدد وبالإضافة الى ما ذكرته الآية الكريمة من الآيات، فهناك آيات أخرى منها:
الأولى: بئر زمزم، ونبع الماء منه وشربه شفاء من المرض، ووقاية منه وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم “ماء زمزم لما شرب له” أي الشفاء من الداء والوقاية من الأمراض أو لقضاء الحاجة، وطلب المسألة وتبعد زمزم عن الكعبة المشرفة خمسة عشر متراً، وفي تسميتها زمزم وجوه:
الأول: لكثرة مائها.
الثاني: لأن هاجر أم اسماعيل زمت ماءها حتى انفجرت.
الثالث: لزمزمت جبرئيل وكلامه وهو أول من اظهرها كي يشرب منها اسماعيل.
ولزمزم عدة اسماء اخرى لها دلالات عقائدية وتأريخية وهي:
الأول : ركضة جبرئيل.
الثاني : سقيا اسماعيل.
الثالث : حفيرة عبد المطلب.
الرابع : المصونة.
الخامس : برة.
السادس : شبعة.
السابع : طعام طعم.
الثامن : شفاء سقم.
الثانية: الطواف بالبيت سبعة أشواط، وجوباً في الحج الواجب او المندوب، وكذا في العمرة، واستحبابه مطلقاً.
الثالثة: قيل (اذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، واذا كان من ناحية الركن الشامي كان الخصب بالشام، واذا عم البيت كان في جميع البلدان) ( )، ومع انه منسوب الى القيل وهو شاهد على ضعف القول الا انه يحكي علم الهيئة، او التجربة والوجدان، وفيه دليل على موضوعية البيت في اهم الأمور التي تخص البلدان، ولعله من مصاديق دحو الأرض من تحت الكعبة.
الرابعة: الأمن من السباع والوحوش.
الخامسة: أداء المسلمين لمناسك الحج وهي آيات متعددة تظهر طاعتهم وخشوعهم لله تعالى.
ومن آيات البيت الحرام بالإضافة الى المقام والبركة والخير:
الأول: موضوعية آياته في تعاهد الأجيال المتعاقبة من الناس للبيت الحرام من أيام أبينا آدم والى يومنا هذا.
الثاني: وراثة المسلمين له.
الثالث: أداء مناسك الحج بحسب خطابات التكليف السماوي.
الرابع: استقرار أحكام الحج وعمارته.
الخامس: اشتراط استقبال البيت في الصلاة، وما فيه من الدلالات على وجوب تعظيم شأن الكعبة، والمحافظة على بنيتها.
ان اختصاص البيت الحرام بآيات ودلالات باهرات وتفضله تعالى بجعل هذه الآيات ظاهرة جلية سر من أسرار الخلق ويشترك في تجلياته الأرض والتنزيل والإنسان، اما الأرض فلأن البيت الحرام جزء مبارك من الأرض خص بشرف وضع البيت، وأما التنزيل فلأن البيت عون على حفظ وتعاهد التنزيل، كما ان التنزيل تثبيت لأركان البيت.
أما الإنسان فالبيت رحمة له سواء في عبادته وصلاته ونسكه، او بالإفاضات التي تشع أنوارها من البيت والبركات التي يتضمنها، كما ان تعاهد البيت آية أخرى للبيت نفسه، وهذا من الإعجاز في آيات الله، فطواف المسلمين حول البيت وتلبيتهم آية ينفرد بها البيت الحرام.
وتفضل الله مرة أخرى وجعل آيات البيت ظاهرة مبينة يمكن للناس ان يدركوا مفاهيمها ويتدبروا في مضامينها القدسية، ويستنبطوا الدروس والعبر، ومعاني الحكمة منها.
ومجيء الآية بصيغة الجمع “آيات” يدل على الكثرة والتعدد، وفيه مسائل:
الأولى: ان الله يعطي بالأوفى والكثير المتعدد.
الثانية: من منافع كثرة الآيات التخفيف عن الناس في التدبر والتفكير والإستنباط، فمن لا يلتفت الى آية ينتبه الى أختها ويتدبر بمعاني الآيتين معاً، ومن يجادل ويركب جادة العناد تتوالي عليه الآيات لدفعه عن منازل الجدال، وهذا التوالي رحمة وحجة عليه.
الثالثة: تعدد الآيات سلاح بيد المسلمين وعون لهم على العبادة والصلاح.
الرابعة:آيات البيت وسيلة لجذب الناس الى حجه واكرامه والشوق اليه.
الخامسة: التعدد توكيد لعظيم قدرة الله تعالى، خصوصاً وان الكثرة والتعدد للآيات ملازم للبيت الحرام، فلا يأتي وقت تكون آيات البيت فيه قليلة، ووصفها بأنها (بينات) دليل على عدم انحصار ظهورها بجيل أو أمة من الناس دون غيرهم.
ووجود الآيات في البيت الحرام انذار وتحذير من الجحود به وبالإغراض التي وضع من أجلها قال تعالى[وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ]( ).
وفيه تحذير من الجحود بآيات البيت لأنها من آيات الله التي جعلها خاصة بالبيت الحرام لتكون سبيلاً للهداية والإيمان، وهي نعمة مزجاة للناس جميعاً، وكنز باقِ في الأرض يذكر بالله ويدعو الى طاعته والإمتثال لأوامره، وانفرد البيت الحرام بالآيات من بين موجودات الأرض، وشاركه البيت المقدس البركة والخير، وبينه وبين بيت المقدس عموم وخصوص مطلق، ففي بيت المقدس البركة والخير، اما البيت الحرام فانه يتضمن الى جانب البركة الآيات الباهرات الظاهرات ويتصف بانه أول بيت وضع للناس، ويأمن من يدخله الفزع والخوف.
قانون حفظ البيت
من الآيات في الإرادة التكوينية ان الله تعاهد الخلق ولم يتركهم وشأنهم، بل تفضل بتعاهدهم واكرامهم، وهذا التعاهد يحتمل وجهين:
الأول: التعاهد الإجمالي للخلائق.
الثاني: الحفظ والتعاهد التفصيلي لكل مخلوق على نحو القضية الإنحلالية الشخصية.
والصحيح هو الثاني، وهو شاهد على العناية الإلهية بالخلائق، وفيه دعوة لتوجيه الشكر لله تعالى من الخلائق على هذه النعمة العظيمة، والبيت الحرام مما يحفظ الله تعالى، فحينما وضعه الله للناس لم يترك للناس وغيرهم التصرف فيه بما يخالف الوضع بل حفظه الله من وجوه:
الأول: الإخبار عن وضعه من قبله تعالى وانه موضوع للناس جميعاً.
الثاني: الأمر الإلهي الى الأنبياء بحج وعمارة البيت الحرام.
الثالث: ابتداء حج البيت من أيام أبينا آدم عليه السلام، وفي الخبر ان الإمام علي عليه السلام سئل كم حج آدم من حجة فقال: سبعين حجة ماشياًُ على قدميه، وفي رواية سبعمائة حجة.
الرابع: جعل حج البيت فريضة على الناس بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).فمن آيات حفظ البيت في المقام ان الحج حق لله تعالى على كل إنسان، مما يعني بالدلالة الإلتزامية وجوب حفظ البيت وتعاهده كي يؤدى الواجب.
الخامس: قيام المسلمين بأداء الحج في كل عام، واقتران الأداء بشوق ورغبة.
السادس: أداء العمرة المفردة، اذ ان العمرة واجب مرة واحدة في العمر، وتجزي عمرة التمتع المصاحبة للحج، أو العمرة المفردة، بالإضافة الى استحباب العمرة كل شهر.
السابع: الفضل الإلهي في حفظ البيت، فلا ينحصر حفظه بعالم الأسباب والعلة والمعلول، وحرص الناس على تعاهد البيت، بل الأهم منها قدرة الله تعالى في حفظه وتعاهده وجذب الناس له.
تأريخ وضع البيت
لا يختلف العقلاء على آية البيت الحرام، سواء باستدامته اوحجه او توجه المسلمين من جميع أنحاء الأرض له في الصلاة، على نحو متكرر كل يوم، وهو أمر ينفرد به المسلمين في دعوة للناس للهداية، وإعلان عن وراثة سنن الأنبياء في استقبال البيت الحرام في صلاتهم، وفي أوان انشاء البيت وجوه:
الأول: موضع البيت أمر متقدم زماناً على خلق آدم وقامت الملائكة بحجه وتعاهده، وعن الإمام الصادق عليه السلام: لما أفاض آدم من منى، تلقته الملائكة فقالت: يا آدم بر حجك فإنا قد حججنا هذا البيت قبل أن تحجه بألف عام( ).
وقال الزمخشري (وقيل لما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت، فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح، فرفع في الطوفان الى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السماء( ).
الثاني: ان آدم هو الذي بناه بأمر من الله وتوجيه من جبرئيل وهو أول بيت قام آدم ببنائه.
الثالث: ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه سئل عن أول مسجد وضع للناس فقال: المسجد الحرام ثم بيت المقدس، وسئل كم بينهما قال؟ أربعون سنة( ).
الرابع: إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت الحرام، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش.
الخامس: هو أول بيت حج بعد الطوفان، عن ابن عباس.
السادس: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء، فدحيت الأرض تحته.
السابع: أنه أول بيت وضع للعبادة، وليس اول بيت في الأرض.
لقد شرف الله البيت الأرض بان جعل فيها بيته وأكرم الإنسان وأعانه على التاهل لخلافة الأرض بان جعل بيته في الأرض قبل أن يهبط أبيناً آدم ويخلف ذرية ليكون حفظ البيت وحجه من وصايا آدم لولده ومن الضروريات التي تتوارثها ذريته.
بحث لغوي فقهي
البك: الخرق ودق العنق والزحم، يقال بك الشيء بكه بكاً، أي خرقه ويقال بك الرجل صاحبه أي زحمه وزاحمه وتدافع معه قال الشاعر:
اذا الشريب أخذته أكّة فخله حتى يبك بكّة
وتباك القوم تزاحموا وتدافعوا “وفي الحديث: فتباكّ الناس عليه، أي ازدحموا” ( ).
وفي اسم بكة من جهة موضعه وجهان:
الأول: انها جزء من مكة وهو على أقسام:
الأول: بكة موضع البيت الحرام دون ما حوله من البيوت، أي ان بكة اسم للبيت الحرام، أما مكة فالبلدة كلها وهو قول الأكثر.
الثاني: ما حول الكعبة من البيت الحرام.
الثالث: بكة ما بين جبلي مكة لأن الناس يزدحمون فيه، ويبك بعضهم بعضاً في الطواف.
الرابع: المراد بطن مكة، لأن الناس تزدحم فيه.
الخامس: موضع الطواف لأن الناس يتزاحمون فيه، وسائر البلدة مكة ويسمى موضع الطواف ايضاً المطاف.
السادس: بكة البيت الحرام، ومكة الحرم كله، فتدخل فيه بيوت مكة القديمة والتوسعة الجديدة باستثناء ما زاد من جهة التنعيم وهو أقرب اطراف الحل الى مكة، ويعرف بمسجد عائشة، وسمي بالتنعيم لأن عن يمينه جبلاً اسمه نعيم، وعن شماله جبلاً اسمه ناعم، واسم الوادي نعمان.
اما الأطراف الأخرى للحرم فلم تصلها التوسعة والعمران بعد بالإضافة الى دخول منى بالحرم إذ أنها جزءً منه.
السابع: عن الإمام الباقر : بكة موضع البيت، ومكة الحرم أي ان مكة أعم من البلدة وبيوتها، بل تشمل الحرم كله.
الثامن: مكة اسم للمسجد والمطاف، وبكة اسم البلد (ونسبه الإمام الرازي الى الأكثرين، وقال ان الدليل عليه هو كون البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت، أما اذا جعلنا بكة اسماًً للبلد استقام هذا الكلام) ( )، وفيه إشكال من وجوه:
الأول: نسبة هذا القول الى الأكثرين لم تثبت، بل ان قولهم بخلافه.
الثاني: الظرفية من الكلي المشكك وهي على مراتب متعددة من الضيق والسعة، فتصدق على موضع الكعبة على نحو الحصر، ويمكن أن تشمل البيت الحرام قبل التوسعة، ويجوز ان يكون المراد مكة وما بين الجبلين.
الثالث: ظاهر الأخبار ان مكة أعم من بكة، ويمكن القول ان بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً فبكة جزء من مكة وليس العكس.
الرابع: ورد قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ]( )، والمراد منه صلح الحديبية ويقع نصف الحديبية في الحل ونصفها الآخر في الحرم، وسماها الله بانها بطن مكة والمنخفض من أرضها، كما ورد في الأخبار شِعب مكة وهو الطريق في الجبل.
الخامس: من أسماء مكة (أم القرى) مما يدل على إرادة عنوان البلد من اسم مكة.
الثاني: بكة اسم من أسماء مكة، وفيه وجوه:
الأول: الإسمان مترادفان، والباء والميم يتعاقبان.
الثاني: من أسماء مكة بكة، قاله مجاهد ( ).
الثالث: بكة البيت الحرام، واطلق اللفظ على مكة كلها، وهو من عمومات الإتيان بالجزء وارادة الكل كما في قوله تعالى (عتق رقبة) وفيه نكت عقائدية من وجوه:
الأول: بيان الجزء الأهم لإرادة حقيقة وهي ان قدسية وأهمية وشهرة مكة مقتبسة من البيت الحرام، فلولاه لم يكن لمكة هذا الشأن العظيم بين الناس في أجيالهم المتعاقبة.
الثاني: انه رد متقدم على تطوير بعض الصناعات أو السياحة وغيرها في مكة في مستقبل الأيام، فان أسباب وأصل شهرة مكة واستدامتها هو البيت الحرام.
الثالث: معرفة المسلمين والناس جميعاً للبركة التي تترشح من البيت الحرام على مكة وأهلها والناس جميعاً فهذا التقسيم يساهم في معرفة جوانب من مصاديق البركة في قوله تعالى [لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
الرابع: ان المجد والعز والشهرة تأتي من عند الله .
الخامس: بيان اللطف الإلهي في باب الاسم ان ترد لمكة أسماء متعددة، مع أسماء أخرى تقتبس من منزلتها الرفيعة وقيل”صلاح اسم علم لمكة”( ).
وسميت به لأنها عنوان للصلاح والأصلاح سواء بالتوجه لها واستقبالها في الصلاة اليومية، أو قطع المسافة والوصول اليها لأداء فريضة الحج فليس من موضع في العالم تؤدى فيه فريضة الحج ويحصل معه الفراغ اليقيني بادائها الا في مكة المكرمة.
ومن الآيات ان هذا الحكم ثابت ومستديم الى يوم القيامة، ويعرفه كل إنسان ولا يتجرأ أحد على مزاحمتها فيه حتى في ايام الجاهلية، وقد حاول أبرهة التعدي عليها فجاءه وجنوده عذاب الإستئصال قبل ان يصلها.
السادس: الإخبار عن حقيقة عقائدية وتأريخية انحلالية، وهي ان مكة تنقسم الى قسمين:
الأول: وضع وانشاء إلهي خاص بالكعبة والبيت الحرام فهو أول بيت وضع للناس في الأرض.
الثاني: ما انشأ وينشأ حولها من البيوت.
وهذا التقسيم ينفع في أمور منها:
الأول: حرمة التصرف في البيت الحرام لغير العبادة والوظائف الشرعية في أي زمان من الأزمنة.
الثاني: جواز توسعة البيت الحرام على البيوت دون العكس، فلا يجوز للبيوت والمنشآت التجارية ونحوها التعدي على البيت الحرام، وهذا الحكم هل ينحصر بحدود البيت الحرام الأصلية أم يشمل التوسعات التي طرأت عليه في العصور الإسلامية المتعاقبة، الجواب هو الأخير من وجوه:
الأول: صدق عنوان المسجدية على التوسعة.
الثاني: جزئية التوسعة من البيت الحرام.
الثالث: حصول الوقف وعدم جواز التصرف فيه لأغراض أخرى.
الرابع: ترشح قدسية البيت على التوسعة.
الخامس: جزئية التوسعة من البيت عرفاً وقانوناً وحاجة الناس اليها في أداء المناسك والطواف والصلاة.
السادس: أهلية البيت الحرام للتوسعة شرعاً وعقلاً.
السابع: الحاجة والضرورة لإستيعاب الطائفين والمصلين والمعتمرين، ولقاعدة منع الحرج ولا ضرر ولا ضرار.
الثالث: من أسرار تسمية بكة أهلية وأولوية البيت الحرام فيما حوله من أرض مكة وهذه الأولوية لا تتعارض مع تعويض أصحاب الممتلكات، ولكن لو أحتاج البيت الحرام التوسعة فهل يحق لأصحاب الأرض الرفض، الجواب لا، لأحقية البيت الحرام والمسلمين وقاعدة تقديم الأهم على المهم، ودفع الضرر، ومنع الأذى وما يسببه ضيق المكان من الحرج، بل لا تصل النوبة الى حدوث الأذى أو حتى احتماله، فيكفي طلب التوسعة بذاتها تعظيماً لشعائر الله والتوسعة على الحاج والمعتمرين مع تعويض أهل البيوت والمنشآت وتسمية (بكة) إعجاز قرآني من وجوه:
الأول: بيان الحصانة الدائمة للبيت الحرام، فمن معانيها انها تبك أعناق الجبابرة اذا ارادوا الإعتداء والإلحاد فيها بظلم، ومن الآيات ان الله إنتقم من إبرهة قبل ان يصل وجنوده مكة، ولم يجعله يصل اليها ويقوم بالتعدي عليها.
الثاني: يتزاحم الناس فيها في كل سنة، وهذا الزحام لا ينحصر بموسم الحج بل يشمل أيام العمرة وزيارة البيت الحرام، وتوجه أهل مكة للبيت الحرام يصدق عليه انه زحام ولو على نحو المسمى، والتوسعات التي حصلت في البيت الحرام شاهد على الحاجة وضرورة التخفيف من التدافع، كما ان حال الزحام فيه سابق لأيام الإسلام، وهذا من أسرار الوضع الإلهي للبيت الحرام.
الثالث: يتجلى التعدد بتسمية مكة أم القرى كما ورد في قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
اذ ان البيت أخص من أم القرى والبلد، الذي ورد في قوله تعالى [لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ]( )، والمراد به مكة، ووصفه القرآن بأنه أمين، بقوله تعالى [وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ]( ) وقال الفاكهي فيما رواه بسنده عن ابن عباس أنه مكة، وفي نعت مكة بأنها بلد أمين دلالة على ترشح الأمن والنجاة من الفزع والخوف، من البيت الحرام الى مكة كلها وهو من مصاديق آية البركة التي جعلها الله في البيت الحرام بقوله تعالى [مُبَارَكًا]، وان جاءت الآية بحذف المضاف والأصل وتنذر أهل أم القرى.
والقول بان المراد من بكة البيت الحرام فيه وجوه:
الأول: الدلالة على موضوعية البيت الحرام واستقلاله في الإنشاء والإعمار وأسماء الأمصار.
الثاني:البيت الحرام كيان قائم بذاته،وبلدة مستقلة تحيط بها مدينة مكة.
الثالث: تترشح البركة والخير من البيت الحرام على ما حوله.
الرابع: تتصف بكة بأنها مجتمع التقاء الناس، وموضع تدافعهم وتزاحمهم في هذا الزمان، “قال بعضهم رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدافعها فقال: دعها فانها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان”( ).
ان الله جعل هذا الموضع للناس جميعاَ، ليس لأهل مكة ان يدعو بانه جزء من مدينتهم ولهم أفضلية واستحقاق خاص فيه، بل الناس فيه شرع سواء يأتونه من كل صوب وحدب بشوق ولهفة، وفي باب الفقه ورد لزوم فتح أهل مكة بيوتهم للحجاج وضيافتهم.
أما على القول الثاني بان المراد من بكة بلدة مكة ففيه وجوه:
الأول: الإخبار عن وجود اسم آخر لمكة، وهذا الاسم يحمل صفة عبادية.
الثاني: تتصف مكة عن غيرها من البلدان من جهة الحال والمسمى بان فيها أشرف وأعظم البيوت.
الثالث: ان مكة بلدة متحدة ومركبة من جزئين:
الأول: البيت الحرام.
الثاني: ما حوله من البيوت.
الرابع: اقتباس بلدة مكة للفخر والعز والشأن من البيت الحرام.
والباء في (للذي ببكة) تفيد الظرفية، ويحتمل ظاهره أموراً:
الأول: البلدة موجودة قبل البيت.
الثاني: البيت متقدم زماناً على البلدة، وبه عرفت.
الثالث: الإقتران بين وضع البيت وانشاء بلدة مكة.
والصحيح هو الثاني للآية الكريمة التي تفيد ان أول بيت وضع للناس هو البيت الحرام، الا على القول بان هناك بيوتاً كثيرة قبله وانما وضع البيت الحرام للعبادة ولكن يرد عليه أمور ثلاثة:
الأول: الإخبار عن تعيين موضع البيت، ونصب خيمة عليه من قبل آدم وبأمر من الله وتوجيه ومشاركة من جبرئيل.
الثاني: ليس من بيوت قبل آدم .
الثالث: تقدم وضع البيت على العمارة في مكة اسماً ومسمى.
الرابع: اسم بكة قديم بقدم وضع الــبيت، وان الله هو الــــذي
سمى الموضع بكة قبل ان تكون هناك بيوت، وهو فضل من عند الله وأمر ظاهر فالمتعارف بين الناس هو اسم مكة للبلدة كلها، فجاءت الآية القرآنية للإخبارعن أمور ثلاثة:
الأول: أول بيت في الأرض هو البيت الحرام.
الثاني: اسم الموضع الذي أنشأ فيه هو بكة.
الثالث: ان الله هو الذي إختار هذا الاسم لموضع البيت فالله لم ينشأ البيت في الموضع ويترك إسمه الى الناس لتسميته فيما بعد بحسب العرف او المناسبات والأحوال، بل انه سبحانه إختار الاسم للموضع وهذا الإختيار ملازم لوضع البيت خصوصاً وان الحاجة اليه لا تنحصر ببني آدم، بل ان الملائكة تطوف بالبيت.
بحث روائي
روي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان الله تعالى بعث ملائكته فقال إبنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وهذا قبل خلق آدم( ).
وفي الخبر شاهد على ان البيت الحرام أول بيت وضع للناس في الأرض، وان الإنسان لم يعمر الأرض الا وبيت العبادة موجود كي لا ينقطع من العبادة واستقبال القبلة يوماً واحداً، فلو لم تكن هناك قبلة معينة وبيت يحج له الناس لإختلفوا فيما بينهم وتعددت القبلة وحصل التغيير بحسب أحوال الناس والحكم.
وأراد أبو جعفر المنصور أن يشتري من اهل مكة بيوتهم لن يزيد في المسجد فأمن عليه فارغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى الإمام الصادق عليه السلام فقال له: اني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم وأفنيتهم لا زيد في المسجد وقد منعوني ذلك فقد غمني غما شديداً، فقال: لم يغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة ؟ قال : وبما احتج عليهم ؟ فقال : بكتاب الله، فقال لي : في اي موضع ؟ فقال : قول الله ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ” قد أخبرك الله أن أول بيت وضع هو الذي ببكة فإن كانوا هم نزلوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديما قبلهم فله فناؤه فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا : اصنع ما أحببت( ).
وعن مجاهد قال: خلق الله تعالى هذا البيت قبل ان يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة وان قواعده لفي الأرض السابعة السفلى( ).
وعن عبد الله بن عمر ومجاهد والسدي: أنه اول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته، قال القفال في تفسيره: روي حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال: وجد في كتاب في المقام او تحت المقام “أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين، وحففتها بسبعة املاك حنفاء”( ).
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال في خطبته يوم فتح مكة: ألا ان الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر( )، وفيه وجوه:
الأول: ان مكة خلقت يوم خلق السماوات والأرض ووردت فيه بعض الأخبار.
الثاني: ان تحريم مكة أمر الهي سابق لوجودها وتمصيرها ولكن الحديث يدل على مالها من الشأن العظيم، وجاء بلفظ مكة، والمراد منها البلدة وليس الكعبة، والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: ان مكة بقعة من الأرض.
الثاني: لقد خص الله مكة بالفضل.
الثالث: يترشح الشرف على مكة من البيت الحرام.
الرابع: ورود الأخبار بأن الأرض دحيت وإنبسطت من تحت الكعبة.
والحديث يدل على ما لمكة من الشأن في خلق الأرض وأهمية العبادة في خلقها فهي مادة عمارتها، ووسيلة استدامة وجودها.
ولا يتعارض هذا الحديث مع ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم ان إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً وأني حرمت المدينة”( ) لأن تحريم مكة ليس ابتدائياً بل هو توكيد وتثبيت لتحريم الله لها، كما في انشاء البيت الحرام فان آدم أنشـأه بتوجيه من جبرئيل، وجاء إبراهيم ليعيد بناءه.
وصدور هذا القول من النبي توكيد وتجديد لحرمة مكة ، وبيان لفضل النبي على الأنبياء الآخرين بتوكيد حرمة مكة، واستحداث حرمة للمدينة فهي مسكن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر ان قوماً من العرب من جرهم بنوا البيت الحرام مرة أخرى من بعد إبراهيم، وبعد أن هدم قام العمالقة وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ببنائه ولما هدم بنته قريش، وتتصف عمارة المسجد الحرام بانها متعاقبة مما يدل على اهتمام الملوك والرؤساء والناس بعمارته واقرارهم بلزوم تعاهده، وهذا الإقرار فرع تحريم الله تعالى لمكة، وهو من الفطرة الإنسانية وما جعله الله في النفوس من الحرص على البيت الحرام.
بين البيت الحرام وبيت المقدس
لقد أنعم الله على الناس بمواضع في الأرض مباركة، ومن الآيات ان هذه النعمة متعددة وليس متحدة، فلا تنحصر أسباب البركة في موضع واحد لتكون في التعدد سعة ومندوحة للناس يستطيعون معها أداء العبادات والتقرب الى الله زلفى، والتوجه اليه بالدعاء في مظان الإستجابة، وليكون هذا التعدد حجة على الناس وسبباً لمنع الخصومة والشقاق والنزاع، ومنه ان جعل الله البيت الحرام موضعاً للعبادة وأداء الحج، وأخبر سبحانه بانه جعل البركة فيما حول بيت المقدس ايضاً ومن مصاديقها الخير والنماء، والأشجار والثمار والخصب والأمن.
ومن الآيات في تعدد بيوت العبادة انها لم تكن على مرتبة واحدة بل على مراتب وهي:
الأول: فضّل الله البيت الحرام على البيوت اذ جعله أول بيت في الأرض ويبقى خاصاً بالعبادة.
الثاني: حصر أداء فريضة الحج بزيارة البيت الحرام، والطواف بالكعبة.
الثالث: توجه المسلمين في صلاتهم الى الكعبة، واتخاذها قبلة الى يوم القيامة ليكون الإستقبال صلة دائمة بين أهل الأرض في جميع انحائها وبين الكعبة.
وقال الرازي “اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام، ولا شك ان الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس) ( ).
ولكن النوبة لم تصل الى هذه المقارنة لأن وضع البيت سابق على زمان إبراهيم الذي جاء ذكره في القرآن بأنه رفع القواعد من البيت وظاهره تجديد البناء وقد جاءت النصوص بقدم البيت بالنسبة لدور العبادة الأخرى، والرازي نفسه قال قبل صفحة من القول أعلاه: (واعلم ان هذين القولين يشتركان في ان الكعبة كانت موجودة في زمان آدم ، وهذا هو الأصوب( ).
لقد تفضل الله سبحانه بالأمر بانشاء الكعبة في موضعها هذا على نحو التعيين، وإشترك في البناء أشرف الملائكة وابو البشر الذي جمع مع الأبوة النبوة كما شاركت حواء في بنائه فكان المهندس في بناء البيت هو جبرئيل، فأول من زاول الهندسة في الأرض هو جبرئيل لتتصف هذه المهنة بالدقة والحكمة ويكون موضوعها الأصلي انشاء دور العبادة وعمارتها ويكون من أسرار مشاركة الملك في البناء إستدامة صرحه ودوام عمارته، وأول من مارس العمل والبناء هو آدم وشاركته حواء فيه ليكون عهداً وتركة الى جميع أبنائهما وفيه مصداق عملي ان البيت وضع للناس جميعاً لقدسية هذا العمل المبارك والإخبار عن عموم التكليف بالحج وشموله للرجال والنساء معاً مع اظهار الشوق والرغبة في هذا المنسك المبارك.
ومن الآيات ان جاءت الآية بلفظ الوضع وهو شامل للأمر والهندسة والبناء، فلو قالت الآية “ان أول بيت بني للناس” لأنحصر الأمر بالبناء وهو فعل ولأنصرف الى آدم ولكن الآية ذكرته بصيغة الوضع للإشارة الى أمره تعالى في انشاء البيت وإختيار مكانه على نحو التعيين.
أما مكة فهي البلد الحرام وقد ورد ذكرها في القرآن قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ]( )، والمراد من مكة على وجوه:
الأول: الحرم كله. الثاني: البلدة.
الثالث: ما بين جبلي مكة. الرابع: المسجد الحرام.
والأصح انها البلدة المعروفة، وتدخل معها التوسعة التي تلحق بها عرفاً، ومنها البيوت والأبنية التي تكون على الجبال القريبة، ومن أسرار هذا التعدد رجحان اتساع بلدة مكة لتشمل الحرم كله، كما بلغته الآن من طرف التنعيم، والذي يبعد عن المسجد الحرام نحو (7) كم، من جهة المدينة المنورة وتكون نهاية الحرم غرباً من جهة جدة عن الحديبية وتبلغ المسافة بينه وبين المسجد الحرام (18) كم، ومن جهة نجد عند الجعرانة، والمسافة بينه وبين المسجد الحرام نحو (14,5) كم، أما من جهة جبل الجنوب فعند مسجد نمرة في عرفة، والمسافة بينه وبين المسجد الحرام نحو (20)كم.
وسميت مكة لوجوه:
الأول: لقلة مائها، فكان أهلها يمتكون الماء فيها، أي يستخرجونه.
الثاني: لأنها تمك من ظلم فيها وألحد أي تهلكه ( ).
الثالث: جذبها الناس من كل حدب، يقال مك الفصيل ما في ضرع أمه وامتكه اذا لم يبق فيه من اللبن شيئاً اذا مصّه.
الرابع: تمك الذنوب أي تزيلها من قولك:”أمتك الفصيل ضرع أمه”.
الخامس: المك: الإزدحام أي انه كالبك ( ) في المعنى فسميت مكة لإزدحام الناس فيها، سواء تعلق موضوع الإزدحام في جزء من مكة وهو البيت الحرام او أنه شامل للبلدة كلها كما هو حاصل في موسم الحج اذ أن الإزدحام يظهر في أسواقها وطرقها ومداخلها في آية متكررة كل عام.
علم المناسبة
ورد لفظ (وضع) مبنياً للمجهول ثلاث مرات في القرآن، وهو على قسمين:
الأول: ما يتعلق بالحياة الدنيا، ووضع البيت الحرام.
الثاني: ما يخص عالم الآخرة ووضع صحائف الأعمال في أيدي بني آدم قال تعالى [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ]( ).
وهناك صلة بين الوضعين، من وجوه:
الأول: الدنيا دار ابتلاء، والآخرة دار حساب، فتجلى الإبتلاء بوضع البيت ووجوب حجه وعمارته، وتوقف الفوز والنجاة في الحساب في الآخرة على الإيمان واستقبال البيت في الصلاة، فمن يكرم البيت الحرام في الدنيا ويؤدي وظيفته أزاءه يفوز في الآخرة.
الثاني: توكيد الصلة بين الدنيا والآخرة، فالدنيا مزرعة الآخرة.
الثالث: بيان رحمة الله بالناس، في وضع البيت ليكون عوناً لهم في الآخرة، وهو من بركات البيت.
الرابع: المرة الثالثة التي ذكر فيها الوضع هي قوله تعالى [وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ] ( )، وفيها اشارة الى عالم الأعمال، واستحضار أفعال الناس وطاعتهم للأنبياء فيما جاءوا به من عند الله، ومنه حج البيت الحرام وأداء الصلاة إذ أن حج البيت فريضة مصاحبة للإنسان منذ أيام أبينا آدم، وكذا بالنسبة لإستقبال القبلة.
وجاءت هذه الآية بالإخبار عن وضع البيت للناس ولكن الأمر لا ينحصر بذات الوضع بل يشمل اموراً وأحكاماً تدل على الفضل الإلهي العظيم بهذا الوضع وتبين الحكمة المتعالية منه، وقد تجلت اشراقات الوضع بآيات القرآن اخباراً ودلالة وإشارة قال تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ) لتبين الآية سراً من أسرار الوضع وان الناس يثوبون اليه كل عام طلباً للتوبة والمغفرة وللإغتراف مما فيه من البركة والخير كما وصف الله البيت في القرآن بانه (البيت الحرام) والألف واللام فيه للعهد، أي ان الله خصه بهذه الصفة دون غيره من البيوت، لما فيه من الآيات ولأن الله حرمه على الكافرين وللقدسية الخاصة به دون غيره من البيوت، ومن الآيات أن يأتي ذكره مرة باسم (البيت) وأخرى بانه (البيت الحرام) أو (البيت العتيق) فيتبادر الى الذهن البيت الحرام دون غيره وهو من أسرار الوضع الإلهي للبيت واخبار عن الشأن العظيم الذي يترشح عن الذات والأثر.
وجعل الله افئدة الناس تهوي وتشتاق اليه والى زيارته، ويتجلى هذا الشوق بالتوجه الى القبلة بغبطة وسرور، ليرى المسلم نفسه خمس مرات في اليوم كأنه في الكعبة.
وقد أمر الأنبياء بتطهير بيته وتعاهده ليستقبل الحجاج، وهذا الأمر عام شامل للأنبياء جميعاً والحكام المسلمين والملأ وذوي الشأن في كل زمان، لتكون وظيفتهم مركبة ولكنها لا تخرج عن قوانين وضع البيت، فيكون الوضع على قسمين:
الأول: حج البيت والتوجه اليه في الإستقبال، وهو خطاب تكليفي شامل للناس جميعاً.
الثاني: تعاهد البيت بالتطهير والعمارة وهو تكليف أولي الأمر والشأن، ولكن هذا التقييد لا يمنع من إشتراك الناس جميعاً في هذا التكليف لأنه من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد جاءت الآية التالية بذكر آيات وأمور تتعلق بالبيت وتؤكد قدسيته وافاضاته وهي:
الأول: مقام إبراهيم.
الثاني: الأمن والسلامة لمن لاذ به والتجأ اليه.
الثالث: فرض حجه على الناس جميعاً.
الرابع: تقييد وجوب حجه بالإستطاعة والقدرة.
الخامس: الذم والتقبيح لمن جحد بالحج.
وهل يخرج الكافر من عمومات وضع البيت للناس، ويكون المعنى وضع للناس عدا الكفار، الجواب لا، فان الوضع للناس كافة ويشمل المسلم وغيره، والذكر والأنثى مما يدل على ان موضوع ومنافع البيت أعم من الحج ووجوبه ويدل على ان منافع حج المسلمين للبيت الحرام تشمل الناس جميعاً، وهل يكون انتفاع الناس من البيت بعرض ودرجة واحدة، الجواب لا، فالذي يحج البيت ويشارك في عمارته ينتفع منه أكثر من غيره، ولا ينحصر انتفاع المسلم من البيت بعالم الدنيا او ألآخرة وحدها، بل يشمل الدارين معاً، اما الكافر فانه ينتفع منه في الدنيا دون الآخرة وحتى انتفاعه منه في الدنيا يكون أقل كماً وكيفاً وموضوعاً من انتفاع المسلم منه، والمسلم في المقام على مرتبتين:
الأولى: من يؤدي فريضة الحج.
الثانية: من لم يستطع الحج.
ويحتمل إنتفاعهم من البيت أمرين:
الأول: التفاوت وان نفع الذي يؤدي الحج أكثر من غيره.
الثاني: التساوي، إذ أن العذر وعدم الإستطاعة لا ينقصان الثواب، مع العزم وارادة الحج عن اجتماع شرائطه.
والصحيح هو الأول، فالذي يحج ينال من الثواب والنفع من البيت أكثر من غيره، نعم جعل الله الدعاء وسيلة للتدارك ونيل الأجر والثواب.
قوله تعالى[لَلَّذِي بِبَكَّةَ]
وأخرج أبو بكر الواسطي في كتاب بيت المقدس ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كانت الأرض ماء فبعث الله تعالى ريحاً فمسحت الماء مسحاً ، فظهرت على الأرض زبدة ، فقسمها أربع قطع : خلق من قطعة مكة ، والثانية المدينة ، والثالثة بيت المقدس ، والرابعة الكوفة)( ).
قوله تعالى [مُبَارَكًا]
حال ووصف للبيت الحرام، تتجلى فيه آيات اعجازية متعددة، فمع ان البيت في أرض قاحلة خالية من الأشجار والمزروعات فان الله وصفه بانه مبارك وفيه وجوه:
الاول: اثبات قدرته تعالى في إيجاد الخير والنماء في المكان الأجرد.
الثاني: في الآية تحدِ لأهل الكفر والجحود، وفضح لعجزهم عن الجدال والعناد في منافع البيت، اذ تخبر الآية عن البركات فيه خلافاً لحال الطبيعة والأرض.
الثالث: ظاهر الآية ان البركة في ذات البيت الا ان مضامينها أعم، فتشمل ما حول البيت وأسباب عمارته وحجه وزيارته كما تشمل مكة والحرم.
الرابع: تأتي البركة اقتباساً من الإبتداء لكونه أول بيت وضع للناس.
الخامس: ملازمة البركة له، فلو دار الأمر بين دوام وإتصال البركة وبين حصرها وتقييدها، فالصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق وعمومات البركة، وعظيم فضل الله تعالى، ولأنه سبحانه اذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، ومن مصاديق البركة الإستدامة، ومن الشواهد على الأمن في البيت الحرام اجتماع الظبي مع الكلب والذئب في الحرم وتعذره في أي من البلاد الأخرى، وبركة البيت أعم من منح الخير وإفاضة النفع فتشمل دفع الإبتلاء والأذى، وقوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا] ( )، من مصاديق البركة ان الأمن وعدم الخوف فيض وخير محض.
وجاء لفظ (مباركاً) بخصوص البيت، والبركة في الآية الكريمة متعددة وهي على وجوه:
الاول: ترشح النفع من البيت وهذا النفع على شعب:
الأولى: النفع والبركة على مكة وما حواليها وعلى أهلها وهو على أقسام:
الأول: انتفاع أهل مكة من البيت الحرام وهذا الإنتفاع من جهات:
الأولى: الرزق الكريم.
الثانية: الأمن والإستقرار، وقد وصفه الله تعالى بالبلد الأمين.
الثالثة: دفع الجبابرة والظالمين عنهم.
الرابعة: امتلاء النفوس بالسكينة والأمن بجوار البيت والقرب منه.
الخامسة: مجيء الناس من كل حدب لزيارة بلدتهم، وعدم حاجتهم لزيارة الأمصار الأخرى على نحو الوجوب.
السادسة: المجي بالخيرات والتجارات له من البلدان، قال تعالى [يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ] ( ).
السابعة: إفاضة الأمن على بلدة مكة كلها كما في قوله تعالى [ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ]( ) الذي يحتمل وجهين:
الأول: الأمن الذاتي لمكة، وأنها نالت هذا الشرف لخصوصية البلدة نفسها.
الثاني: ترشح الأمن من البيت الحرام على ما حوله ومنه البلدة، خصوصاً وان دخول البلدة مقدمة لدخول البيت وأداء المناسك.
والصحيح هو الثاني، واذا ثبت نيل مكة الأمن لذاتها، فانه في طول بركات البيت الحرام وفرع منه، وفضل اضافي من عند الله، فبحرمة البيت أصبح سكان مكة في أمن ودعة.
الثامنة: ترشح الأمن على الحرم كله قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ]( )، وبحرمة البيت أصبحت مكة والحرم في أمن، وكان العرب قبل الإسلام يغار ويهجم ويسلب بعضهم بعضاً، وأهل مكة في أمن، تجبى لهم الثمرات والأرزاق من كل صوب، وصفة الأمن للبيت منبسطة على أيام الجاهلية والإسلام، لأنها ملازمة لوضع البيت الذي سبق خلق الإنسان، نعم في الإسلام تكون الآيات أكثر ظهوراً وتجلياً.
وقال الزمخشري “اسناد الأمن الى أهل الحرم حقيقة والى الحرم مجاز”( ). والأصل هو الحقيقة، ويحمل وصف الحرم بالأمن على الحقيقة دون المجاز، فهو بذاته أمن ودعاء للأمان.
التاسعة: ما ترشح على أهلها من الشرف والفخر ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ومن أهلها.
الثاني: انتفاع بلدة مكة من البيت الحرام وهو على جهات:
الأولى: قصد مكة لا يكون الا للنسك والعبادة، فلا تقصد للتجارة
او للهو ونحوه، أما حصول شراء او بيع الحاجات والتجارة في موسم الحج فأنما يتم عرضاً، ومن مصاديق قوله تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ]( ).
الثانية: نعت مكة في القرآن بأم القرى فخر وبيان لشأنها بين الأمصار، وفيه اشارة بأنها أصل في البلدان.
الثالثة: ترشح الإفاضات على مكة من البيت الحرام بالحفظ والعناية الإلهية.
الرابعة: نيل مكة قدسية خاصة لأنها الوعاء المكاني للبيت الحرام، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً لإكرامها.
الخامسة: بقاء مكة عامرة شامخة في كل زمان.
الثالث: النفع والبركة على من يزور مكة من الناس، وهو على جهات:
الأولى: الأمن والسلامة لمن دخلها إذ أن دخول مكة مقدمة للوصول إلى البيت الحرام.
الثانية: مكة محل إيواء وسكن وفد الحاج.
الثالثة: ترشح البركة على من يزور مكة للحج أو العمرة لذا يستحب حسن المعاشرة لضيوف الرحمن، ويكره منعهم من السكن في دور مكة، ولا يجوز صدهم عن الوصول الى البيت الحرام قال تعالى [سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ]( ).
الرابع: اختصاص مكة بوظائف تتعلق بمن يدخل اليها قادماًَ من الأمصار والبلدان الأخرى مما هو خارج الحرم.
الخامس: الإستشفاء بالبيت الحرام وماء زمزم، والدعاء فيه لقضاء الحوائج فمن البركة انه من مظان الإستجابة.
الشعبة الثانية: النفع والبركة على المسلمين، وهو على وجوه:
الأول: لقد أراد الله العز والرفعة للمسلمين بأن جعل لهم البيت الحرام ملاذاً وأمناً وهو حجة على من كان بجواره من الكفار أيام الجاهلية ودعوة لهم للإيمان ودخول الإسلام عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم.
الثاني: البيت الحرام موضع أداء فريضة الحج التي يتوجه فيها الخطاب التكليفي لكل المسلمين وتتجدد كل عام.
الثالث: من البركة توجه المسلمين الى جهة مخصوصة وثابتة الى يوم القيامة، وما فيه من العز الى جانب الثواب والأجر.
الرابع: ما في أداء فريضة الحج، وتعيين جهة القبلة من عناوين الوحدة والإتحاد بين المسلمين.
الخامس: المضامين الأخلاقية في الحج، وأسباب الصلاح المترشحة من وجود بيت لله تعالى في الأرض، وهو عنوان لتهذيب النفوس سواء بقصده للحج والعمرة او في الإستقبال كونه شاخصاً كريماً يذكر بالله .
السادس: استدامة عمارة البيت الحرام، وعدم تأثره بالوقائع والأحداث والتغيرات التي في الملك والسلطنة، وتعاقب الدول.
السابع: البيت الحرام دعوة للهداية وإتيان الفرائض ووسيلة للتذكير بالله ، وادراك حقيقة وهي انه قريب من الناس.
الثامن: الأمن لمن إلتجأ الى البيت الحرام قال تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] والأمن لا ينحصر بالبيت بل يشمل الحرم كله، ومكة جزء من الحرم، وفي باب الفقه الجنائي هناك مسألتان:
الأولى: وقوع الحدث في الحل ودخول الجاني الى الحرم، فلو قام شخص بالقتل او السرقة ونحوها مما يوجب قصاصاً او حداً اوتعزيراً، فلجأ الى الحرم، يضيق عليه في المطعم والمشرب والمعاشرة من غير ايذاء في بدنه حتى يخرج من الحرم.
الثانية: حصول الجناية داخل الحرم، فيقام على الجاني بعد ثبوت الجناية ما يستحقه من العقاب شرعاً في الحرم، لأنه لم يرع حرمة الحرم، وهذه العقوبة لا تتعارض مع الأمن، لأن المراد منه الأمن النوعي، وحفظ الحجاج والمعتمرين والمجاورين وأهليهم وأموالهم، وفيه أمور:
الأول: زجر الناس عن الجناية في الحرم.
الثاني: ادراك المائز بين الحرم وغيره من الأمصار والبقاع.
الثالث: قلة الجرائم والحوادث التي تقع في الحرم بالقياس الى غيره.
الرابع: تنعم أهله بالسكينة والأمان.
الخامس: الإقرار بقدسية البيت الحرام ومنافعه على الناس جميعاً، ومنهم الجاني بان لا يؤخذ بجنايته حتى يخرج منه.
التاسع: الإرتقاء العقائدي عند المسلمين، والأهلية للإحتجاج وإقامة البرهان.
العاشر: التوكيد العملي المتجدد لوحدة المسلمين، باداء الحج سنوياً.
الحادي عشر: من بركات البيت سرعة تدارك الفتن، وانقطاع أثرها وطرد الكدورة من النفوس.
الشعبة الثالثة: النفع العام الشامل للناس جميعاً، وهو على وجوه:
الأول: دعوة الناس للإيمان والهداية.
الثاني: وجود مناسبة عبادية ذات نفع عام.
الثالث: توجه المسلمين للرأفة بالغير لتقيدهم بأحكام الشريعة والفرائض.
الرابع: استدامة الحياة، لما في الحج من الشكر لله على نعمة الخلق وتعاهد الفرائض والبيت الحرام.
الخامس: زجر الناس عن التعدي على الإسلام والمسلمين، لما يظهره الحج من إتحادهم وقوتهم وقهرهم لأسباب الفتنة والفرقة.
كما يمكن تقسيم بركة البيت الى قسمين:
الأول: الدنيوية. الثاني: الأخروية.
الثاني: سبق وجود البيت لوجود الإنسان ليكون جزء من بركة الأرض، وفيضاً مباركا ًعلى الأرض ذاتها وسكانها.
الثالث: في الآية دعوة للإيمان، وحث على التوحيد، لأنها شاهد على وجود الصانع وانه سبحانه تغشى الأرض بالبركة قبل ان يخلق الإنسان، وهو جزء من إكرامه تعالى للإنسان ومن عمومات الرد الإلهي على الملائكة حين سألوا عن جعل آدم خليفة في الأرض [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علمه تعالى وجود البيت الحرام مباركاً وباباً للهداية والرشاد، ووسيلة كريمة لمنع الإسراف في سفك الدماء والإفساد في الأرض، واذا كان البيت موضوعاً للناس قبل خلق آدم وان الملائكة كانت تطوف به فلماذا سألوا سؤالاً استنكارياً عن جعل آدم خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فيه وجوه:
الأول: تطوف الملائكة بالبيت لعلمهم بقدسيته وطلباً لرضاه تعالى.
الثاني: لم تحتج الملائكة على خلق الإنسان، بل ذكرت أمراً يصدر من الإنسان وهو الإفساد في الأرض وسفك الدماء.
الثالث: سأل الملائكة الله عز وجل ان ينزه الناس من الفساد والقتل فلا يصدر عنهم، فسؤالهم ليس استنكارياً، بل تضرع لتأهيل الإنسان لخلافة الأرض فيكون جوابه تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] بشارة لهم ونوع استجابة اجمالية بان الله عز وجل يعلم كيف يجعل الناس يحافظون على الخلافة ويتنزهون من هاتين الخصلتين.
الرابع: التفريق بين الخلافة في الأرض، ووضع البيت الحرام، فجاء الرد بعلمه تعالى بعواقب الأمور، وان البيت وضع للناس ليكون وسيلة سماوية وعبادية مباركة لتخليص الناس من الفساد والاقتتال، ونجاتهم بالإسلام ونعمة الأخوة التي جاء ذكرها في آية وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وأداء الحج فريضة على الناس و فرضه من مصاديق اصلاح الناس وتنزههم عن الذنوب والمعاصي ووجوه الفساد الأخرى.
وووصف البيت بأنه مبارك فيه وجوه:
الأول: أنه مبارك حال وضعه.
الثاني: استدامة البركة، ومصاحبتها للبيت الحرام في وضعه وانشائه.
الثالث: وجود البركة فيه ولكن ليس على نحو متصل بل انها بحسب الحال والأوان.
كما لو كانت البركات تترشح في موسم الحج، والصحيح هو الثاني فان البركة ملازمة للبيت منذ وضعه وهي متصلة دائمة لا تنفك عنه، واستدامة البركة نعمة أخرى، وبركة اضافية لما فيها من معاني الخير والصلاح والفيض المتصل الذي يترشح على أهل مكة والمسلمين والناس جميعاً، لذا جاء الأمر بالحج شاملاً للناس كما سيأتي في الآية التالية، وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان مصاحبة البركة لأول بيت وضع للعبادة، وفيه بيان لفضل الله تعالى على الناس.
الثانية: الإخبار بان البركة لن تغادر الأرض.
الثالثة: البيت الحرام من مصاديق البركة في الأرض، فهو يبعث ضياء الخير والفيض.
الرابعة: في الآية دعوة لتعاهد البيت الحرام وما فيه من النعم.
الخامسة: تبين الآية النفع العظيم للعبادة، فحج البيت والطواف حوله باب لنزول البركة والخير في الدنيا، والفوز في الآخرة.
السادسة: تحث الآية على التدبر في آيات البركة في البيت الحرام فقد جاءت الآية بصيغة الإجمال والإطلاق (مباركاً) وتلك الآيات على أقسام:
الأول: البركة الحسية وما يظهر من الخير والنماء والأمن.
الثاني: البركة العقلية لمصاديق البركة والخير، كالشأن العظيم للبيت عند الناس، واستدامة الآيات، وتعاهد فريضة الحج، وصرف الناس عن الإساءة الى وفد الحاج والمجاورين.
الثالث: وجوه البركة في باب العقيدة والإيمان، لما يبعثه البيت الحرام من الأضواء القدسية التي تنفذ الى شغاف القلوب لتجذب الناس الى الهدى والإيمان.
الرابع: من البركة اتخاذ البيت قبلة، وعنواناً للوحدة بين المسلمين، بلحاظ أن جهة القبلة موضوع للإتحاد وطرد للخلاف.
الخامس: امتحان واختيار الناس في توجههم لقبلة مخصوصة، وهذا التوجه عنوان للإمتثال، ومن البركة اعانة الناس على التوفيق فيه.
بحث كلامي
وردت مادة البركة في القرآن ثلاث وثلاثين مرة، ومع أن سورة البقرة جامعة للألفاظ ومضامين قرآنية عديدة الا انها خالية من لفظ (البركة)، والآية السابقة هي أول آية يأتي بها لفظ البركة في القرآن اذ ابتدأت بذكر البيت الحرام وما فيه من أسباب النماء والزيادة والبركة في البيت ذاتية، وتدل على أمور:
الأول: البركة في ذات البيت، وهي على وجوه:
الأول: كونه اول بيت أنشىء للناس، فأراد الله للبناء والإعمار في الأرض ان يبدأ بما هو مبارك ينضح بالخير والنماء.
الثاني: إن الله هو الذي أمر بوضع البيت، فلابد ان يكون مباركاً وأمناً وخيراً.
الثالث: تتعلق البركة بالموضع كما تتعلق بالبناء.
الرابع: القدسية الخاصة للبيت، لذا ورد الأمر الإلهي الى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بتطهيره قال تعالى [طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( )، والخطاب الى إبراهيم وإسماعيل من باب المثال الأمثل، وإلا فانه موجه الى الأنبياء جميعاً وحكام المسلمين والقائمين على خدمة البيت الحرام.
الثاني: ترشح البركة منه على غيره، وفيه وجوه:
الأول: نيل مجاوري البيت البركة، وهي على وجوه:
الأول: الأمن والسلامة والحفظ من الآفات والكوارث الطبيعية، كالفيضانات والزلازل والبراكين.
الثاني: اتساع حركة التجارة، ووصول البضائع لهم في كل زمان، ومن مختلف الأمصار.
الثالث: الرزق الكريم والسعة في العيش، والنماء في المال، وقدوم وفد الحاج في كل سنة مناسبة لإزدهار التجارة وتصريف البضائع.
الرابع: الإرتقاء في المعارف بالإختلاط مع المسلمين من جميع أنحاء العالم.
الخامس: ترشح أسباب الهداية من البيت وجواره وما يفيض منه من معاني الخشوع والخضوع لله تعالى.
الثاني: انتفاع المسلمين مطلقاً من بركته، وهذا الإنتفاع من وجوه:
الأول: ساعة أداء الصلاة وتوجه المسلم للصلاة، ومن بركته استقبالهم له في صلاة الجماعة، اذ ان إتحاد القبلة عنوان للأخوة الإيمانية والإلتقاء في الخضوع والخضوع لله تعالى، وشاهد على الدقة والتنظيم في أحكام الشريعة الإسلامية.
الثاني: حلول موسم الحج، وحرص المسلمين على أداء فريضة الحج، وشوقهم للبيت الحرام، وقيام المستطيع منهم بالتهيء للسفر للحج، ومن الآيات ان الذي يريد الذهاب للحج، يعلم بأمره اهله واصدقاؤه وجيرانه وغيرهم، لتكون هذه المعرفة تجديداً لذكر الله، والعناية بالبيت الحرام.
الثالث: اقتران يوم عيد الأضحى المبارك بالحج، وهو عنوان للبهجة والغبطة في جميع أنحاء البلاد الإسلامية مع ادراك حقيقة وهي انه يوم الطواف بالبيت قال تعالى [وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَر]( ).
الرابع: أداء مناسك العمرة في أي وقت من السنة، فاستغراق أيام السنة كلها لأداء العمرة شاهد على ان بركة البيت الحرام الزمانية مطلقة وليست مقيدة ومحصورة بأيام الحج، فمتى ما أراد المسلم أن ينهل من بركة البيت، يقصده للزيارة وأداء العمرة، خصوصاً وان العمرة فرض كما هو الحج، وتجزي فيها عمرة التمتع التي تقترن بالحج وتسبقه في المناسك.
الثالث: استفادة وفد الحاج من بركات البيت الحرام، بالتزود بالتقوى والصلاح، كما أنه باب للرزق والخير والسلامة من الأدران.
الرابع: ترشح بركة البيت على أصقاع الأرض المختلفة فقد جعله الله أول بيت في الأرض لتنبسط من تحته وتكون بداية تكوين الأرض مباركة، وفيه اكرام للإنسان بان هبط من السماء الى مسكن مبارك كما انه من مصاديق الخلافة في الأرض، وحجة على الإنسان فلم يجعله الله الا في مسكن مبارك، ويدعوه فيه للإيمان، وإعمارها بالشكر لله تعالى واستدامة ذكره.
الخامس: ترشح البركة على الناس جميعاً، وهو من أسرار وضع البيت للناس كافة، فالبيت يجذب الناس للهداية، ووصفه بانه بيت وضع للناس يبين حاجة الناس لبيت يلتقون فيه، ويكون عنواناً لإتحادهم وإستمرار الصلات بينهم، فهو من الكلي الطبيعي الذي لكل انسان فيه حصة بأن يلجأ اليه ويطلب الأمن فيه، وقيد الإسلام لا يمنع من الإطلاق في شمول بركة البيت للناس جميعاً إذ أن افراد البركة متعددة ومتكثرة منها ما يأتي بحج البيت ومنها ما يأتي باستقباله في الصلاة، ومنها بجواره ومنها ما ينال الإنسان بصفة الإنسانية اذ يدعوه البيت للهداية والإيمان، ويرغبه بزيارته ويخبره بانه موضوع له ويدعو كل يوم للإسلام كواجب عيني ونفسي ومن أسرار الوضع لعموم الناس أن تجده منذ أيام أبينا آدم مفتوحاً على مدار اليوم والليلة وهو يغص بالطائفين والمصلين.
السادس: من بركات البيت الحرام انتشار المساجد ودور العبادة في جميع انحاء ألأرض.
لقد أدب الله الناس بوضع البيت الحرام ليحرصوا على اكرامه، وانشاء مساجد مشابهة له في جميع أصقاع الأرض تكون ملاذاً للناس ومحلاً للعبادة وطريقاً لجلب مرضاته تعالى، مع ادراك الصلة بينه وبين عموم المساجد في الوظائف العبادية، وتوجه المصلين من كل مسجد في قبلتهم صوب البيت الحرام على نحو الشرط والجزء الواجب من الصلاة.
السابع: نيل وفد الحاج والمؤمنين الأجر والثواب يوم القيامة وهو من مصاديق بركة البيت وهي أعم من أن تحصى، فقد وضع الله البيت الحرام للناس كي يفوزوا بالسكن والإقامة الدائمة في الجنة، وكما تفضل الله وزيّن السماء قال تعالى [وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ] ( )، فانه سبحانه تفضل وزين الأرض بالبيت الحرام والمساجد الأخرى لأهل الأرض والسماء لما تبعثه من ضياء مبارك، لذا فان النظر الى الكعبة عبادة لأنها تسر الناظر، وتذكر بالله، وتبعث في النفوس الخضوع والخشوع لله تعالى.
علم المناسبة
ورد لفظ (مبارك) في القرآن ثمان مرات، أربع منها بصيغة الرفع، ومثلها بصيغة النصب، كما ورد بلفظ التأنيث (مباركة) أربع مرات ايضاً، والتي جاءت بالرفع كلها بخصوص القرآن، وهذا التعدد في الرقم أربعة مع البركة آية اعجازية تدل على فضله تعالى بالإشارة الى تغشي البركة للجهات الأربعة سواء جهات الأرض او جهات الإنسان أو عمله بالإضافة الى دلالة أخرى للإشارة الى عموم البركة وحضورها مع الإنسان، و بالإضافة الى الكتاب جاءت البركة في وجوه:
الأول: البيت الحرام وانه مبارك وخير ورحمة.
الثاني: في دعاء عيسى وثنائه على الله تعالى وبيان منزلة الأنبياء وعظيم نفعهم كما ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ]( ).
الثالث: ورد اللفظ في دعاء نوح كما في قوله تعالى [ وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ] ( )، والبيت الحرام ومكة منزل مبارك، ولعل نوحاً سأل النجاة باللجوء الى البيت الحرام، وفي الخبر ان سفينة نوح طافت بالبيت.
الرابع: وردت البركة صفة لماء المطر النازل من السماء قال تعالى [وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا] ( )، في بيان جانب من خصائص البركة وانها باب كريم للرزق والنماء ورحمة للناس.
وقال الرازي ان آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط الى الأرض شكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها، وبقى ذلك الى زمان نوح عليه السلام، فلما أرسل الله تعالى الطوفان، رفع البيت الى السماء السابعة حيال الكعبة، يتعبد عنده الملائكة، يدخله كل يوم سبعون الف ملك سوى من دخل من قبل فيه، ثم بعد الطوفان إندرس موضع الكعبة وبقي مختفياً الى ان بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه الى إبراهيم عليه السلام، ودله على مكان البيت، وأمره بعمارته،
فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام( ).
ولكن إندراس موضع الكعبة يحتاج الى دليل والأصل بقاؤه وقد ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام انه قالت: غرقت الدنيا الا موضع البيت فسميت البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق( ) .
وهل المراد من البيت العتيق خصوص الكعبة أم يشمل المسجد الحرام ، المختار هو الأول لقوله تعالى[وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ]( )ولأن قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ] ( ) هو قيام إبراهيم عليه السلام ببناء قواعد الكعبة وإنشاء البيت الحرام .
والنسبة بين المسجد الحرام والكعبة عموم وخصوص مطلق ، فالمسجد الحرام أعم .
ومن وجوه وعلل تسمية البيت العتيق ، هو أن الله عز وجل عتقه وعماره من الجبابرة ، فلا سلطان لهم عليه ، وكانت الدول العظمى إلى جواره دون أن تصل إليه ، كما في دولة فارس التي وصل ملكها إلى العراق، ودولة الروم التي وصل ملكها إلى الشام ، ودولة الحبشة وقد وصل ملكها إلى اليمن ، ومن مصاديق عتقه من الجبابرة هلاك أبرهة وجنوده ، كما في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) .
وهو من الآيات ، ومن معاني عتق البيت من الجبابرة أنهم يطوفون بالبيت بخضوع وخشوع ، ومن غير تجبر في قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ] ( ) .
فمن الآيات الأمن لمن مطلوب ، ولو كان جباراً يحكم البيت وما حوله لما ترك الذي يلجأ للبيت في أمن إلى حين خروجه منه ، وقوله تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( ) مطلق من جهة افراد الزمان ، ولا ينحصر بأيام الإسلام لقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ] ( ) .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثامن عشر بعد المائتين من هذا السِفر المبارك الذي هو في قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ).
ويتصف البيت الحرام بانه دائم البركة، ومصدر ثابت للخير على الدوام، ومن وجوه البركة مجيء الآية التالية بالإخبار عن وجود آيات بينات فيه.
بحث كلامي
وردت مادة (البركة) في القرآن ثلاث وثلاثين مرة، ومن الآيات انها جاءت في جميع الموارد فضلاً منه تعالى، وتدل على ان الخير والبركة بيد الله ورحمة منه وهي على وجوه:
الأول: البركة المكانية التي تكون في بقعة من الأرض كما في البيت الحرام وبيت المقدس.
الثاني: البركة والخير في التنزيل، قال تعالى [ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( ).
الثالث: البركة الشخصية، وتغشي البركة الأنبياء ومن يشاء الله من عباده، كما في قوله تعالى [وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ]( )، وقد ورد في عيسى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ]( ).
الرابع: البركة الزمانية بان تتجلى البركة في زمان مخصوص، لذاته او لأنه وعاء للتنزيل والفيض والرحمة الإلهية، قال تعالى [ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ]( )، والمراد ليلة القدر.
الخامس: البركة هي الرزق النازل من السماء، كما في السحاب وهطول الأمطار قال تعالى [وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا]( ).
أما قوله تعالى “تبارك الله” فهو عنوان تنزيه وتقديس للباري سبحانه، لتتغشى البركات التي يتفضل بها الله الناس جميعاً، وتكون البركة حاضرة في كل الأزمنة والأمكنة.
ووجوه البركة هذه ليست منفصلة، بل هي متداخلة من غير ان يتعارض تداخلها مع استقلال كل منها، ولكنه يفيد الكثرة في الخير وتعدد النعم التي ترد على الناس او شطر منهم، وتمتاز بركات البيت الحرام بانها تفيض على الناس جميعاً، فكل انسان ينهل منها مع التباين في النهل كماً وكيفاً ليفوز المسلمون عامة، والمجاورون للبيت وحجاجه خاصة بالنصيب الأوفر من الخير والبركة، وتتجلى معاني البركة بتوالي النعم والأمن والسكينة، ويدل اتصال وتجدد البركة على تعاهد لأهل الأرض ونزول النعم في كل يوم قال تعالى [لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ).
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة “التذييل” وهو الإتيان بجملة عقب أخرى، وتتضمن الثانية معنى الأولى سواء بالمنطوق أو الدلالة بما يفيد بيانه وتقريره لإعانة السامع على فهمه.
ومن الآيات ان تأتي في القرآن كلمة واحدة وتفيد توكيد معنى الجملة التي سبقتها بالإضافة الى دلالتها الذاتية، ومضامينها الخاصة، ومنه قوله تعالى [مُبَارَكًا] وفيه توكيد لمفهوم الجملة التي سبقتها اذ انها تبين المضامين القدسية لوضع البيت للناس، وان الله ما وضعه للناس الا أن يكون موضوعاً ومفتاحاً للبركة والخير المحض، وتترشح عنه مضامين الرحمة والفضل الإلهي.
وليكون موضوع البركة أعم من البيت فيشمل:
الأول: بلدة مكة، لذا ورد قوله تعالى حكاية عن لسان إبراهيم [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ).
الثاني: من مفاهيم البركة تقيد آل إبراهيم بأحكام وسنن التوحيد كما في الآية أعلاه، فتشمل بركة البيت الأشخاص من ذرية الأنبياء الذين قاموا بتعاهده، وتتفرع عنه السلامة من دنس الشرك للذين يحجون البيت الحرام، بالإضافة الى ترشح الأثر على ذريتهم.
الثالث: الإفاضات والرزق الكريم لمجاروي البيت الحرام كما في التنزيل [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( )، وقيد الإيمان تحذير وتنبيه ودعوة لأهل مكة بتعاهد الإيمان لأنه جزء علة لإستمرار النعم الإلهية على من يجاور البيت.
الرابع: ترشح البركة من الأمن والخير في الحرم المكي كله، وهو أعم من مكة الى هذا الزمان، قال تعالى [أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الخامس: ملازمة البركة لوضع البيت، فهو بذاته مبارك من ساعة وضعه وانشائه، والبركة ضرورة ملازمة له، إذ أن الإنسان يحتاج في حياته في الأرض الى موضع مبارك يصاحبه ويكون ملجأ له وعنواناً للوفود على الله.
السادس: تجلي البركة في استدامة البيوت، وظهور آياته فمن أجل ان يبقى البيت في الأرض لابد ان يكون مباركاً،وهذه البركة حصن وواقية له.
السابع: انجذاب الناس له، وتحملهم وعثاء السفر وبذل الأموال من أجل الفوز بحجه وزيارته فالتذييل في القرآن أعم من معناه البلاغي، ويتضمن التعدد في المعنى، ويظهر مفاهيم أخرى للجملة السابقة، وهو مدرسة في الإعجاز.
قوله تعالى [وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]
جاءت خاتمة الآية وصفاً ثابتاً للبيت الحرام، وبينه وبين وصفه بأنه مبارك عموم وخصوص من وجه، فالبركة بالذات والترشح على الناس والحيوان والبلاد والأرض، أما الهدى فهو عنوان عقائدي وروحي، والبيت الحرام رحمة لكل الخلائق وهو باب للهداية والرشاد، والمراد بلفظ (العالمين) في المقام وجوه:
الأول: الناس جميعاً. الثاني: الإنس والجن.
الثالث: الخلائق كلها.
والصحيح في المقام هو الثاني من وجوه:
الأول: ان الله بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للإنس والجن.
الثاني: في تفسير قوله تعالى [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ] ( ) قال ابن عباس: رب الجن والإنس، ومن الآيات ان يكون البيت الحرام هدى للعالمين وفيه بيان لجانب من أسرار الوضع، وابتداء وضع البيوت في الأرض بالبيت الحرام لتكون الهداية مصاحبة للإنسان في وجوه في الأرض، ولم تخبر الآية عن كون البيت الحرام سبباً أو مقدمة للهداية بل هو هداية ذاتاً وعرضاً وهو على وجوه:
الأول: حج المسلمين له من كل حدب.
الثاني: توجه الخطاب التكليفي بفريضة الحج نفسه نوع هداية للناس، لأنه تذكير بوجوب عبادة الله وطاعته، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام، أما المسلمون فان الخطاب دعوة لهم لأداء الفريضة، والسعي للأداء وتحصيل الإمتثال والفراغ.
الثالث: انه مادة للإحتجاج ومنع الجدال والخصومة وادعاء وجود بيت آخر أفضل أو أقدم منه.
الرابع: اتخاذ البيت الحرام قبلة، اذ أراد اله للناس ان يتخذوا قبلة معينة في صلاتهم ويعرف المسلمون بها، وأعانهم على الإتحاد في جهة العبادة بوضع البيت الحرام وجعله قبلة.
الخامس: وضع البيت شاهد على وجود الصانع وقدرته تعالى في
الخلق، وأنه سبحانه جعل بيته شاخصاً كريماً في الأرض يهدي للعبادة والتقوى.
السادس: البيت الحرام باب ووسيلة لدخول الجنة، بهدايته الناس الى أداء الصلاة والنسك.
السابع: منافع البيت الحرام أعم من أداء الحج والإستقبال في الصلاة، فهو عنوان للهداية بالواسطة، فان وحدة المسلمين في توجههم للبيت الحرام باب للهداية وسبيل للرشاد ووسيلة للتفقه في الدين وزيادة الإيمان، وبرزخ دون الضلالة والكفر.
ومع ورود لفظ الهدى في القرآن تسع وسبعين مرة، ولفظ العالمين ثلاث وسبعين مرة، فانه لم يرد في القرآن لفظ “هدى للعالمين” الا في هذه الآية، مما يدل على موضوعية البيت الحرام في صلاح وإصلاح الناس وهدايتهم الى سبل الرشاد، بينما أخبرت الآيات بان الكتاب هدى للمتقين تارة، وللمسلمين وأولي الألباب تارة أخرى، وان آيات الكتاب هدى ورحمة للمحسنين.
ومن معاني الهدى في البيت الحرام انه موضوع للإيمان وسبب لجذب الناس للإسلام، كما ان أداء المسلمين للحج وسيلة اخرى للهداية، وبرزخ دون طغيان الكفر والضلالة، أي يقوم المسلمون باداء الحج فيراهم غيرهم فيذكر الله، ويكون أداء الفريضة باباَ للصلاح ومناسبة للإتعاظ والإعتبار، وادراك حقيقة وهي وجود بيت الله في الأرض يدعوهم للهدى، فكأن الدعوة مركبة وتأتي بالأصالة وبالواسطة ايضاً.
ومما يأتي بالواسطة ما يتعلق بصيانة المسلمين لقواعد وسنن الحج واكرام البيت الحرام وأحكام الحرم المكي فيتعلم الناس أسباب الصلاح.
لقد أراد الله للبيت ان يكون رحمة للناس جميعاً ينتفع منه المسلم وغير المسلم فهو مدرسة للهداية، وطريق للإيمان، وسلم للإرتقاء في المعارف الإلهية، ووسيلة ملكوتية لمعرفة الواجبات، وزاجر عن الكفر والصدود، كما انه تذكير بان الملك كله لله، وفيه دعوة لنبذ الحروب والخصومات وارادة التوسع في الملك بغير حق، فمتى ما أدرك الإنسان ان ملك الله وحده هو الباقي في الأرض وابتدأ الإنشاء والوضع ببيته الحرام، الذي ظل شاخصاً مباركاً بينما تهاوت العروش والبيوت وتعاقبت الدول، فأنه يميل الى السكينة، ويحرص على إجتناب السطو على ملك الآخرين، مما يساهم في نشر الأمن ليس في الحرم وحده، بل في ربوع الأرض كلها لذا جاءت الآية بصيغة الإطلاق وان البيت هدى للعالمين.
وهذا الإطلاق من عطاء الله، لأنه تعالى يعطي بالأوفى والأتم، لذا جعل البيت هدى للإنس والجن، ومادة للصلاح في الأرض، ومانعاً من الأخلاق الذميمة ووسيلة الى الجنة والنعيم الدائم، وفي الآية اشارة الى انتفاع الموجود والمعدوم من الناس من البيت الحرام، فما أن يولد الإنسان الا وأسباب الهداية تجذبه الى الإيمان وتذكره بالله ولزوم طاعته.
وقد ذكرت لمكة أسماء متعددة منها:
الأول : مكة.
الثاني : بكة.
الثالث : الكعبة.
الرابع : البيت الحرام.
الخامس : الحرم.
السادس : البيت العتيق.
السابع : البلد.
الثامن : البلد الأمين.
التاسع : المأمون.
العاشر : أم القرى.
الحادي عشر : أم رحيم.
الثاني عشر : صلاح.
الثالث عشر : العرش.
الرابع عشر : القادس.
الخامس عشر : المقدسة.
السادس عشر : الناسة.
السابع عشر : الحاطمة لأنها تحطم الذنوب.
الثامن عشر : الرأس.
التاسع عشر : كوثاء.
العشرون : البلدة.
الواحد والعشرون : البنية.
بحث بلاغي عقائدي
من وجــوه الإطناب الإيغـــال، وهـــو اخــتتام الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها، وقيل انه خاص بالشـــعر، ولكن مصـاديقه موجودة في القرآن منها [يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ]( ).
أن قوله تعالى (وهم مهتدون) إيغال لأنه يتم المعنى بدونه، ولكن اللفظ القرآني يتصف بخصوصية وهي تعدد المعنى فيشمل الخاص والمتصل، اما الخاص فهو المعنى الذي يعنيه اللفظ بذاته، وأما المتصل فهو معناه مع غيره سواء ما سبقه، او ما يأتي بعده، وقد وصفت الآية البيت الحرام بوصفين:
الأول: انه مبارك، فهو خير محض، وفيض إلهي ونعمة دائمة.
الثاني: انه هدى للعالمين.
وهل يكون الوصف الثاني فرع الأول، وانه من عطف الخاص على العام بلحاظ ان الهداية من مصاديق البركة، الجواب هو العنوان الجامع من الأمرين، فالهداية فرع من بركة البيت، كما انها موضوع مستقل في ذاته من وجوه:
الأول: للبيت الحرام أثر وتأثير في الناس وهو وسيلة لهدايتهم الى الرشاد.
الثاني: العموم في هداية البيت الحرام للناس، فلم تكن هدايته محصورة بالمسلمين، بل تشمل الناس جميعاً وهو فرع وضع البيت للناس وليس المسلمين وحدهم، وتوطئة وتسهيل لتلقي الناس وجوب فرض الحج عليهم كما يأتي في الآية التالية [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ] فهداية الناس مقدمة لإستجابتهم لوجوب الحج وتلقي الأمر الإلهي بالقبول والإمتثال.
الثالث: في الآية عون للمسلمين، اذ ان الناس على قسمين، منهم من يحج البيت وهم المسلمون، ومنهم من يجحد به ولا يحج.
فجاءت الآية لتخبر عن اقامة الحجة على الناس جميعاً بان الله أعانهم على حج البيت.
الرابع: في الآية بيان لعظيم فضل الله على الناس باضافة شاخص أرضي كريم لهدايتهم، فأسباب الهداية متعددة منها:
الأول: بعثة الأنبياء وما جاءوا به من المعجزات.
الثاني: الكتب السماوية المنزلة.
الثالث: الآيات الكونية والدلالات في الآفاق.
الرابع: آيات خلق الإنسان ذاته.
الخامس: آية البيت الحرام، فانه آية قائمة بذاتها تدعو الناس الى الإيمان، فكما يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض وسير الكواكب، وتعاقب النهار والليل وآيتي الشمس والقمر، فان هذه الآية تدعو للتدبر في آية وضع البيت للناس، وكونه وسيلة لهدايتهم وسبباً لجذبهم للإيمان.
السادس: اختصاص هذه الآية بلفظ “هدى للعالمين” دليل على موضوعية البيت في الوجود الإنساني في الأرض، وانه من أسباب اعانة الإنسان على خلافة الأرض، فعندما سألت الملائكة الله [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] وجاءهم الرد من العزيز الجبار [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] تفضل سبحانه ووضع البيت الحرام ليكون من مصاديق علمه تعالى بأحوال الإنسان في الأرض، واصلاحه لوظائف الخلافة بان جعل البيت الحرام علة لهدايته وارشاده وتفقهه في الدين.
قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ]الآية 97.
الإعراب واللغة
فيه آيات: جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم، آيات: مبتدأ مؤخر، بينات: صفة الآيات.
مقام: فيه وجوه:
الأول: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هي مقام إبراهيم، عن الأخفش.
الثاني: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أحدها مقام.
الثالث: مبتدأ خبره محذوف.
الرابع: بدل من آيات، عن أبي مسلم( ).
الخامس: عطف بيان من آيات، قاله الزمخشري( )، والسيوطي في الإتقان جاء به كمثال لعطف البيان، عن ابن مالك في شرح الكافية( ).
السادس: مقام إبراهيم وسلامة من دخله، وفرض حجه، عطف بيان لقوله تعالى “آيات”.
والصحيح هو الثالث، والتقدير: منها مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً، وحج الناس له، وذكر أن النكرة لا تبين بالمعرفة وجمع المؤنث سالم لا يبين بالمفرد والمذكر، وأدعي إجماع الكوفيين والبصريين بعدم التباين بين طرفي عطف البيان، فلا يكون أحدهما نكرة وهو آيات، والآخر معرفة وهو في المقام (مقام) وقال ابن جني يجوز خرق الإجماع في الفنون الأدبية.
ومن دخله: الواو استئنافية، من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ.
دخله: فعل ماضِ في محل جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، الهاء مفعول به.
كان: فعل ماضِ ناقص في محل جزم جواب الشرط، وأسمه ضمير تقدير (هو).
آمنا: خبر كان منصوب، ولله: الواو: استئنافية، لله: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر مقدم، على الناس: جار ومجرور.
حج: مبتدأ مؤخر، البيت: مضاف اليه.
من إستطاع: من: اسم موصول في محل جر بدل من الناس، بدل الجزء من الكل، وقيل فاعل (حج) وقال الكسائي: “من” شرطية في محل رفع مبتدأ، وجوابها محذوف، والتقدير: من استطاع فليحج، وقال ابن الأنباري: يجوز ان يكون (من) في موضع رفع على معنى الترجمة للناس.
إستطاع: فعل ماضِ، والفاعل ضمير تقديره هو، والجملة الفعلية صلة الموصول، اليه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
ومن كفر: الواو حرف عطف، من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ او اسم موصول، كفر: فعل ماضِ في محل جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، الفاء: تعليل لجواب الشرط المقدر، أي ومن كفر يضر نفسه فان الله غني.
والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول، وفعل الشرط وجوابه خبر.
ان الله غني: ان: حرف مشبه بالفعل، اسم الجلالة: أسمها، غني: خبرها، عن العالمين: جار ومجرور متعلقان بغني.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وابي جعفر المدني في رواية قتيبة انهم قرأوا “آية بينة” على الإتحاد، وهذه النسبة تحتاج الى دليل، والصحيح ما مرسوم في المصاحف، خصوصاً وان الآية تضمنت المتعدد من الآيات كما يأتي في مفهومها وتفسيرها.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (حج البيت) بكسر الحاء، والباقون بفتحها، (وقال الزجاج: يقرأ بفتح الحاء وكسرها، والفتح الأصل) ( ).
و(بينات) جمع بينة، يقال: بان الشيء وأستبان وتبين وأبان وبين بمعنى واحد، ولم تقل الآية مبينات- بتشديد وفتح الياء- والذي يدل على ان الله هو الذي بينها، ولكن هذا لا يعني التباين الذاتي المحض بل يفيد ان الله جعل فيها حجة ذاتية في ظهور البراهين وكشف الدلالة التي تفيد الإعجاز، لتكون كل آية ظاهرة منكشفة لأولي الألباب، واضحة المعالم.
والمقام: الموضع الذي يقيم فيه الإنسان، ويأتي بمعنى محل الجلوس أو القيام، وقوله تعالى [لاَ مُقَامَ لَكُمْ] أي لا موضع لكم وقرء بالضم “لا مقامة لكم” أي لا إقامة لكم.
لقد اراد الله عز وجل بالمقام حضوراً خالداً لإبراهيم في الحج وأن يكون له موضع مخصوص وفيه آية وعبرة، وعنواناً لشكره في الدنيا، ودعوة الناس للإقتداء به في حج البيت وبذل الوسع في تعاهده وحث الناس على أداء الفريضة.
وذكر ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حينما قدم مكة كان يصلي الى المقام وهو ملصق بالكعبة حتى انتقل الى الرفيق الأعلى.
والحج: القصد، يقال حج اليننا فلان أي قدم وحجه يحجه حجاً: قصده.
في سياق الآيات
جاءت الآية السابقة ببيان واضح وجلي عن قدسية البيت الحرام، وما يفيد موضوعيته في العبادات والمناسك وسبل الصلاح والتقوى وانه أول بيت للعبادة في الأرض، والناس كلهم فيه شرع سواء الا من حجب النفع عن نفسه باختيار الكفر والضلالة، وذكرت ان الخير والبركة تترشح منه على نحو دائم ومتصل، وهو هدى لأهل الأرض جميعاً.
وجاءت هذه الآية لتبين جانباً آخر من الأسرار القدسية في البيت الحرام، وانه يتضمن دلالات وعلامات اعجازية تعتبر شاهداً على حقيقة وضعه من عند الله وعلو رتبته وشأنه، وهناك صلة بين الآيات البينات التي أشارت اليها وذكرتها هذه الآية وبين ما في الآية السابقة بخصوص:
اولاً: موضوعية البركة في الآيات.
ثانياً: الآيات فرع البركة التي جعلها الله في البيت.
ثالثاً: الآيات جزء من البركة.
رابعاً: الآيات التي في البيت من أسباب هداية الناس، وتعدد الآيات بخصوص البيت الحرام يدل على أهمية موضوعه، وفيه دعوة للإنتباه والإلتفات الى ما ينفرد به من الخصائص الكريمة، ولم يأتِ التكليف بالحج في أول الآية، فلم يكن قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ] افتتاح آية من القرآن مع أهمية موضوع الحج والتكليف به، وهو ذاته آية اعجازية لتوكيد انقطاع المسلمين الى الله تعالى وحبهم للبيت الحرام وحرصهم على حج البيت سواء جاء التكليف في آية مستقلة ام في جزء آية.
وفي حين جاءت فريضة الصيام في خمس آيات من سورة البقرة، فان فريضة الحج جاءت في شطر من آية، وفي وسطها وليس أولها، نعم جاءت آيات عديدة اخرى تتضمن البيان والتفصيل في مناسك الحج، ورد بعضها في سورة البقرة.
ان مضامين الآية السابقة تكفي لبيان عظمة البيت وما فيه من النفع العظيم، ولكن الله تفضل وبيّن في هذه الآية شطراً من فضله سبحانه على الناس في البيت وما فيه من الآيات والدلالات الإعجازية التي تدل على وجود الصانع وتعاهده للناس والبيت.
وجاءت الآية قبل السابقة بمخاطبة اهل الكتاب بوجوب اتباع إبراهيم عليه السلام في ديانته واستقامته وجهاده في سبيل الله واعلانه نبذ الشرك والضلالة، فجاءت هذه الآية لتبين نهج إبراهيم عليه السلام في حج البيت الحرام وتعظيم شعائر الله.
وتساعد الآية المسلمين وأهل الكتاب على معرفة أفراد عبادة إبراهيم، ومصاديق التوحيد ووجوه الطاعة التي يجب على الناس ادائها ومن اهمها حج البيت الحرام، مع الإقرار بما فيه من الآيات، وهذا الإقرار جزء من المعارف الإلهية الأولية التي يجب على الناس تحصيلها والإحاطة بها،كما أنها ليست مطلوبة بذاتها فحسب، بل هي مقدمة وعون على العبادة والصلاح، وحاجز دون الجدال والخصومة، وما في الجدال من الأذى والغشاوة التي تكون سبباً للصدود وعدم التدبر في الآيات.
وتبين هذه الآية مصاديق البركة في البيت الحرام وكيف انه هدى للعالمين، وان ما فيه من الآيات عنوان وموضوع للبركة والخير، واذ اختتمت هذه الآية بانذار الذي يعرض عن الآيات ويقابل وجوب الحج بالإنكار فقد جاءت الآية التالية بذم أهل الكتاب لكفرهم بالآيات والعلامات الدالة على وجود الصانع، ووجوب عبادته ولزوم اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واذ اختتمت الآية السابقة بالإخبار عن كون البيت هدى للعالمين أختتمت هذه الآية بالإخبار عن غناه تعالى عن العالمين، مما يعني ان الهداية نفع محض وحاجة.
ولما ذكرت الآية السابقة صفتين للبيت الحرام وانه مبارك وهدى للعالمين، جاءت هذه الآية لتخبر عن مصاديق البركة وأسباب الهداية فالآيات التي في البيت من البركة وهي وسيلة لجذب الناس للإيمان، بالإضافة الى كونها بينات، فالبيان والوضوح فيها عنوان إضافي للبركة، وعون على الهداية، وبرزخ دون تفشي معاني الكفر والضلالة، اذ ان آيات البيت عنوان للتذكير بالله ، فمقام إبراهيم وحفظه والأمن والسلامة لمن دخله، واداء الحج ومجيء الناس الى البيت من الأمصار المختلفة، من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [مُبَارَكًا].
ولما جاء ذم الإفتراء والكذب على الله في الآيات السابقة ذكرت هذه الآية وجود آيات تبهر العقول في البيت الحرام في إشارة الى الزجر عن الإفتراء بخصوصه، والنهي عن الإعراض عن حجه، وحث الناس جميعاً لإتخاذه قبلة في صلاتهم لتترشح البركة من البيت على الآيات ومن الآيات على البيت ومنهما معاً على الإنسان في سلامته ورزقه.
اعجاز الآية
في الآية مسائل اعجازية منها:
الأولى: بــدأت الآية بالجار والمجرور (فيه) والمـــراد البيت الحرام، وإرادة الشأنية وبيان ما للبيت من خصوصية.
الثانية: وصف الآيات التي في البيت الحرام بانها بينات، فلو قالت
الآية “فيه آيات مقام إبراهيم” لكان كافياً للدلالة على الأسرار القدسية التي في البيت، ومع هذا وصفت الآية تلك الآيات بانها بينات وواضحات بجلاء، لتكون شاهداً على عظيم فضل الله تعالى في البيت الحرام، واذا كان البيت موضوعاً للناس فهذه الآيات تحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأول: انها وضعت للناس ايضاً.
الثاني: انها موضوعة لتكون حجة على الناس، وسبباً لنزول العقاب بأهل الجحود.
الثالث: لم توضع للناس أو عليهم بل أنها آيات قائمة بذاتها موضوعاً وحكماً.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: تبعية الجزء للكل فاذا كان البيت موضوعاً للناس فكذا ما فيه من الآيات.
الثاني: الآيات رحمة اضافية للناس.
الثالث: جاءت الآية لبيان ما في البيت الحرام من البركة والخير، وأسباب الهداية للناس جميعاً وهذا لا يمنع من إرادة الوجه الثاني والثالث، اما الثاني فيكون مطلوباً بالعرض وليس بالأصل، اذ ان تلك الآيات حجة على من أعرض عنها وكفر بفريضة الحج وأصر على العناد، واما الثالث فان جزئية تلك الآيات من البيت الحرام وعلة وضعه وما فيه من الحكمة لا تتعارض مع إستقلال كل آية بذاتها في الدعوة الى الله تعالى.
الثالثة: بيان الآيات والإبتداء بمقام إبراهيم، وتتجلى الدلالة الإعجازية في استدامة آية المقام، وما فيها من الدعوة الى اتباع إبراهيم وتوكيد منزلته بين ملل الموحدين.
الرابعة: مجيء الآية بفريضة الحج.
الخامسة: ورود التكليف بالحج على نحو العموم الإستغراقي الشامل للناس جميعاً.
السادسة: تقييد فريضة الحج بالإستطاعة والقدرة، وما فيه من منع الحرج ودفع الأذى.
السابعة: اختتام الآية بان الله هو الغني الذي لا يحتاج الى غيره.
والآية القرآنية خطاب للناس جميعاً في مختلف الأزمنة، فلابد ان الآيات باقية ومصاحبة للأجيال المتعاقبة، وهذا البقاء والديمومة اعجاز اضافي لأنه شاهد على عظيم قدرة الله تعالى، ومع ان الحج نفع للعبد في دنياه وآخرته، فان الآية أخبرت بان الحج حق الله على الناس ولابد له من دلالات عقائدية.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “فيه آيات” ولم يرد هذا اللفظ الا في هذه الآية.
الآية سلاح
لقد أراد الله للبيت الحرام أن يكون آية للناس ينهلون من فيضه، ويلوذون به، ويأتونه من كل صوب فتفضل وجعل فيه آيات باهرات لتكون عوناً على الهداية، وسبيلاً للصلاح، وهي سلاح بيد المسلمين يحتاجونه للذات والغير، اما الذات فلما فيها من أسباب زيادة الإيمان، وأما الغير فلأنه دعوة للناس للهداية وبرزخ دون التعدي والجدال والإستخفاف بالعبادات.
وترى الناس جميعاً يتلقون أوان ومناسك الحج بلحاظ أنها جزء من الحياة العامة والواقع العملي، ويوجه المسلم وغيره التهنئة والتبريك لمن يؤدي الفريضة، خصوصاً وان الحج حرب على الإرهاب ، وخالِ من الأضرار بأحد سواء في باب الحكم والسلطنة او المال او الحالات الإجتماعية فهو عبادة محضة ليس فيها الا الصلاح والتقرب الى الله وتلك آية أخرى، أي ان خلو الحج من الأضرار بالآخرين آية اعجازية وعون على استدامة اداء الحج في كل زمان.
وأراد الله للبيت أن يكون ملاذا وفيه رحمة اضافية بالناس وباعث للأمن والسكينة في النفوس، فكل انسان يدرك حقيقة وهي وجود مكان آمن يستطيع ان يلجأ اليه عند الخوف والفزع، ويدل اخبار الآية عن عدم حاجة الله للناس وعبادتهم بل الناس هم الذين يحتاجون للعبادة وحج البيت الحرام.
ويبين في مفهومه حقيقة وهي ان البيت وضع للناس أي لنفعهم وحوائجهم الدنيوية والأخروية، والأمن المذكور في الآية أعم من القضية الشخصية كما انه لا ينحصر بالنجاة من العقاب على الجناية بل يشمل الذي لم يذنب، وقد تمر على الناس فترات يشعرون بالخوف والفزع في اماكن متعددة ولكن اهل الحرم في أمن وسلام.
وفي الآية عز وفخر للمسلمين بين الأمم، وما فيه من الآيات رد عملي على أهل العناد والجحود ومانع من التعدي على الشعائر الإسلامية، وما فيها من الإنذار والوعيد للكافرين حجة ودعوة للناس لأداء الفريضة، واكرام وفد الحاج وجعل شأن وهيبة خاصة للبيت في النفوس.
أنّ اللّه تعالى وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا كملهم اللّه تعالى بالملائكة، وأنّ الكعبة تحشر كالعروس المزفوف وكل من حجّها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخون معها، وفي الخبر: أن الحجر ياقوتة من يواقيت الجنة، وأنه يبعث يوم القيامة، وله عينان، ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحقّ وصدق، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبه كثيراً، وروينا أنه سجد عليه وكان يطوف على الراحلة فيجعل المحجن عليه، ثم يقبل طرف المحجن، وقبله عمر ثم قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك، ثم بكى حتى علا نشيجه فالتفت إلى ورائه فإذا عليّ، فقال: يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين بل هو يضرّ وينفع، قال: وكيف؟ قال: إنّ اللّه عزّ وجلّ لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتاباً، ثم ألقمه هذا الحجر فهو يشهد للمؤمن بالوفاء، ويشهد على الكافر بالجحود، قيل: فذلك معنى قول الناس عند الاستلام: اللّهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك يعنون هذا الكتاب والعهد، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول من تنشقّ عنه الأرض ثم آتي البقيع فيحشرون معي، ثم آتي أهل مكة فأحشر بين الحرمين، وفي الخبر: أنّ آدم لما قضى مناسكه لقيته الملائكة فقالوا: برجحك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، وجاء في الخبر: أنّ اللّه تعالى ينظر في كل ليلة إلى أهل الأرض، فأول من ينظر إليه أهل الحرم وأول من ينظر إليه من أهل الحرم أهل المسجد الحرام، فمن رآه طائفاً غفر له، ومن رآه منهم مصلياً غفر له، ومن رآه نائماً مستقبل القبلة غفر له) ( ).
مفهوم الآية
جاءت الآية بالإخبار عن حقيقة، وهي مع الوضع الإلهي تأتي الآيات والبراهين التي تثبت هذا الوضع وتؤكد انه نعمة بذاته وما يترشح عنه من الخير والبركة، ولقد أراد الله للبيت ان يكون سبباً من أسباب تعاهد الناس وإستدامة الحياة الإنسانية على الأرض، وتبين الآية تعدد النعم التي يتضمنها وضع البيت، وتلك التي تترشح عنه وعن استدامة وجوده، والأضواء القدسية التي تنبعث منه ومن اكرامه وتعاهده، فما ان أختتمت الآية السابقة بأنوار الهداية التي تشع من البيت الحرام على النفوس، والأضواء التي تنفذ الى شغاف القلوب وتخترق غشاوة الدنيا ولذاتها لتقود الناس في سبل الهداية، جاءت هذه الآية وما فيها من الدلالات والمضامين القدسية في الوضع والملازمة له.
واخبرت الآية عن وجود آيات بينات في ذات البيت في دعوة الى التدبر فيها واحصائها، والشكر والثناء على ما فيها من المنافع، والآيات حسب منطوق الآية هي:
الأولى: مقام إبراهيم في شهادة على مساهمة إبراهيم في عمارة البيت واعادة بنائه، وتعاهده، وأدائه الحج.
الثانية: الأمن من الفزع لمن لجأ الى البيت، بل من دخله مطلقاً سواء جاء ملتجأ او مستجيراً او حاجاً او معتمراً.
الثالثة: جعل عمارة البيت واتيانه في وقت مخصوص، ووفق مناسك معلومة فريضة وحقاً لله على الناس، وهو آية ينفرد بها البيت الحرام، ودعوة للهداية والإيمان، وجاء ذكر هذه الآيات على نحو الفرد الأهم والبيان والا فان آيات البيت الحرام أكثر، كما سيأتي في التفسير عند قوله تعالى [ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ].
وتدل الآية في مفهومها على ان وضع البيت لم يأتِ مجرداً، بل لازمته الآيات ابتداء وإستدامة، وهذه الملازمة شاهد على ان وضع البيت من عند الله، وليس من عند الناس، لأن الوضع الإلهي يختلف عما يصنعه ويبنيه السلاطين والملوك والناس فهم يبنون البناء ثم لا يلبث مع تقادم الأيام حتى يصبح اطلالاً وعروشاً خاوية، وآثاراً تدل على انقراض أمم وأجيال من الناس، وهذا الإنقراض دليل على عظيم قدرة الله، كما انه وفق الدراسة المقارنة يظهر حقيقة وهي ان بيت الله ينفرد بخصوصية وهي استدامة بنائه وتجدد معالمه في كل جيل، فقصور الملوك تصبح خرائب وآثاراً، وبيت الله باقِ يبعث بالخير والبركة، ويتضمن الآيات التي تكون عوناً للناس في عباداتهم، ووسيلة ملكوتية لتعاهد ذات البيت وحفظه، وجاءت الآية لتخبر عن حقيقة وهي ان بيت الله ليس كباقي البيوت سواء بيوت العبادة او دور السلطة، او المساكن، ومن الآيات انه خال من الأشجار وإختار الله له مكاناً ليس فيه أنهار وظلال ومع هذا تجده يزهو بالإيمان، وتنبعث منه أصوات التلبية والدعاء لتكون أبهى من الأشجار، وأجمل من الأنهار، فموضع البيت آية اضافية من أسرار العبادة والتقوى، ويتضمن الثناء على المسلمين بتعاهدهم له ولقدسيته.
وأراد الله من الناس ان يشكروه على نعمة وضع البيت بان يحجوا له ويأتوه خاشعين منقادين، ولا ينحصر موضوع الحج بالشكر لله تعالى بل هو نعمة دنيوية وأخروية، وتدل خاتمة الآية في مفهومها على قبول أعمال المسلمين والثواب والأجر الذي يناله من يحج البيت الحرام ويعظم شعائر الله، وهذا من أسرار الوعيد الذي تتضمنه خاتمة الآية.
فالوعيد للجاحد والكافر، يدل على الوعد والثناء على المؤمن الذي يمتثل للأمر الإلهي بالحج، ومن الآيات ان جاءت الفريضة شاملة للناس جميعاً، ومقيدة بالقدرة والإستطاعة، وفيه غاية التخفيف واللطف الإلهي، فقد يكون هناك شخصان لا يستطيعان الحج، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فيثاب المؤمن بخصوص فريضة الحج ونيته أداءه مع الإستطاعة، ويؤثم الكافر لجحوده بالحج وعدم وجود العزم عنده على أدائه حتى في حال القدرة والإستطاعة.
وقد جاءت الآية بمسائل هي:
الأولى: توكيد وجود آيات ودلالات في البيت الحرام.
الثانية: مقام إبراهيم عليه السلام من الآيات، وهو مصداق لحجه البيت وعمارته له.
الثالثة: الأمن من الخوف والفزع لمن دخله.
الرابعة: وجوب حج البيت وهو من ضرورات الدين.
الخامسة: تقييد وجوب الحج بالقدرة والإستطاعة، والقدرة على الوصول اليه.
السادسة: الوعيد والتخويف لمن أعرض عن الحج.
السابعة: الإخبار بان الله غير محتاج لأحد في اشارة الى حاجة الناس للحج.
وبدأ ذكر الآيات بمقام إبراهيم وفيه دلالة على موضوعيته، وحجة على أهل الكتاب بان إبراهيم عليه السلام قد تعاهد عمارة البيت، والمقام شاهد يومي متجدد على أداء الأنبياء الحج، وجاء حرف العطف الواو في (ومن دخله) لبيان حقيقة وهي التعدد في آيات البيت الحرام، وانه أمن وسلامة لمن دخله في آية أخرى غير آية مقام إبراهيم، مع التباين في ماهية كل آية، فالمقام آية ثابتة وشاهد تأريخي، أما الأمن فهو آية يومية متجددة ورحمة مزجاة ينتفع منها والرجل والمرأة، والصغير والكبير.
وجاء تقديم الأمن على فرض الحج لتوكيد معاني الرحمة والرأفة في الحج، وان الحج عنوان للشكر لله تعالى، وفيه أمن لوفد الحاج وتقديم مقام إبراهيم في الذكر واللفظ لا يدل على التقديم في الشأن والشرف على الآيات الأخرى، بل يفيد الترتيب وبيان التعدد، اما التقديم في الفضل والشأن بين الآيات فيعرف من أدلة أخرى وهل من صلة بين آيات البيت الحرام.
الجواب نعم، فمقام إبراهيم دعوة للحج وتذكير بسيرة الأنبياء في أداء الحج، وصلة دائمة بين الحاج والنبوة، وحث على الإخلاص في طاعة الله، والتقيد بأداء المناسك على الوجه الأحسن، وهو عون على الأمن والسكينة في البيت لأنه تذكير بالأخلاق الحميدة، وسنن النبوة، والثبات على الهدى والإيمان، كما ان الأمن والنجاة لمن التجأ الى البيت عون على أداء مناسك الحج.
فكأن الآية تقول للناس ان الله ضمن لكم الأمن والأمان في أداء فريضة الحج، ولم يبقَ عليكم الا الزاد والراحلة، وتحبب لهم السكن في مكة والتوجه اليها للزيارة والحج.
ولما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن أمرين:
الأول: البيت الحرام أول بيت في الأرض.
الثاني: وضع البيت الحرام للناس لقوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، جاءت هذه الآية ببيان وظيفة الناس أزاء البيت وهي وجوب حجه، ليكون بين وضع وحج البيت عموم وخصوص مطلق، فالموضع أعم ومن مصاديقه أمور:
الأول: جعله قبلة للمسلمين في صلاتهم
افاضات الآية
الإيمان صلة وارتباط خاص بين العبد والخالق يبتنى على ادراك صفات الكمال والجلال لله تعالى، والإقرار بلزوم عبادته سبحانه وجعل الله العالم مظهراً لجلاله وجماله واسمائه وصفاته، ليكون عوناً للناس على الهداية، لذا جعل الله البيت الحرام شاخصاً كريماً يدل على ملكه للأرض، ويدعو الناس لعبادة الله بأداء الصلاة والتوجه اليه في الإستقبال ليكون عنواناً لوحدة المسلمين، وبرزخاً دون الخلاف والخصومة والإفتتان بالآيات الكونية، ويمنع من ظهور الجبارين الذين يريدون اكراه الناس على الإنقياد لهم، وسيبقى البيت الحرام حرباً على الطواغيت ومانعاً من الطغيان والعتو، لأنه واسطة الفيض الإلهي على سائر الخلائق، ومصدر لضياء الهداية والإيمان، وتشع منه أنوار الأمن والسلامة، ويدل وضع البيت الحرام للناس على حاجتهم، ومن وجوه الحاجة ايضاً وجود الآيات الباهرات في البيت الحرام.
فكما وضع البيت للناس فان الآيات موضوعة فيه لهم ولهدايتهم ليحظى كل وافد على البيت، وكل متوجه اليه في صلاته بعطاء الله، وليكون البيت وسيلة لحب العبد لله تعالى، وحب العباد له سبحانه، أما حب العبد لله فلأن البيت شاهد على ربوبية الله، وعنوان اللطف الإلهي غير المتناهي، وتعدد الآيات الباهرات فيه عون وسبيل للإيمان والصلاح، واما حب الله للعبد بخصوص الشاخص الكريم فلأن الإمتثال للأوامر الإلهية بأداء الحج وعمارة المسجد الحرام، والتوجه اليه في الصلاة، وتعظيم شعائر الله من أحسن أبواب الفوز برضاه تعالى، ونيل الأجر والثواب فجاء وضع نعمة ورحمة للخلائق والبيت ليكون مصداقاً لحب الله للناس لذا نزل فرض الحج بلفظ الناس مع أنه لا يقبل الا بقيد الإسلام، ولكن الإطلاق في التكليف لطف الهي وشاهد على حب الله لكل انسان، ودعوة له لكي لا يفرط بنعمة البيت، وتأتي كل آية من آيات البيت الحرام دليلاً على التوحيد، وشاهداً على ان البيت هو بيت الله، ووضع رحمة للناس.
الآية لطف
البيت الحرام آية أرضية وشاهد على وجود الصانع، وعظيم قدرته تعالى، ولطفه ورحمته بالناس جميعاً، فلم يتركهم يتيهون في الأرض، او يتصرفون حسب الهوى والميل واتباع السلطان، بل جعلهم يرجعون اليه في مواطن العبادة، لقد أنعم الله على الإنسان بالنبوة وجعلها مصاحبة له في حياته مع مائز في الموضوع لا تجد له أثراً في الحكم، اذ ان النبوة اختتمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن وظائفها متصلة، وسننها حاضرة في الوجود الواقعي للناس، فلم يؤثر عليها غياب أشخاص الأنبياء، وأنعم الله على الناس مرة اخرى بالبيت الحرام، ليبقى بشخصه وموضعه وكيانه لا يغادرهم، ولا يغيب عنهم، اذ انهم يتوجهون اليه خمس مرات في اليوم، ويعتبرون جهته في الذبائح واحكام الإحتضار ودفن الموتى، وتجد كثيراً من الناس لا يعرف الا جهة القبلة لأنها جزء من واقع اليومي، فالبيت الحرام لطف محض بالأجيال المتعاقبة من أهل الأرض، ومن مصاديق اللطف في البيت أمور:
الأول: الدعوة الى عبادة الله.
الثاني: التذكير بالخالق .
الثالث: الإقرار بقدرته تعالى وملكيته المطلقة، لأن البيت الحرام واختيار موضعه وإستدامة وجوده عنوان الملكية المطلقة.
الرابع: توجه الخطاب التكليفي للناس جميعاً بحج البيت الحرام.
الخامس: موسم الحج آية اضافية للبيت الحرام، وكذا ما يترشح عن الحج من الدلالات العقائدية.
السادس: كون الآيات وسيلة مباركة لتعاهد البيت الحرام وأداء فريضة الحج، فكل آية من ألآيات التي في البيت الحرام لها دلالات عقائدية، ومنافع في أبواب متعددة، لذا جعلها الله (بينات) لتكون حجة واضحة، وسبيلاً للهداية، ونوراً يقتبس منه الناس، فوصف الآيات بانها بينات لطف اضافي، ورحمة للناس جميعاً.
السابع: من اللطف ان جعل الله بيتاً له في الأرض يكون مأوى وملاذاً للخائفين، وهو الذي يجير ولا يجار منه، ومن أراد الإستغاثة والفزع الى الله تعالى يستطيع ان يلجأ الى بيت الله.
الثامن: لقد فرض الله عز وجل الحج على المسلمين في السنة السادسة للهجرة لتبدأ رحلة الصعود في عالم الملكوت وتتجدد كل عام ليكون أداء الحج عهداً سنوياً على التمسك العام بالمبادئ الإسلام.
التفسير
قوله تعالى [ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ]
بعد الإخبار عن البيت الحرام وتثبيت حقائق عقائدية عنه، تكون كل واحدة منها مدرسة للأجيال وهي انه أول بيت وضع في الأرض، وموضوع وضعه العبادة وتلبية حاجات الناس الدنيوية والأخروية وانه مملوء بالبركة، ويترشح عنه الخير والنماء، وأسباب الزيادة في الأمور الحسنة والمحمودة، وأنه وسيلة ومادة وموضوع للهداية، ومن الآيات عدم انحصار الإهتداء بالبيت بالمسلمين، بل ان الإنس والجن يقتبسون من البيت مضامين الهداية وما يكون عوناً لهم على اداء العبادات والفرائض والملائكة يطوفون حوله دائبين، ولابد من وجود أسرار في طوافهم.
وبعد أن حددت الآية السابقة موضع البيت الحرام وأنه ببكة، جاءت هذه الآية لتخبر عن آية اعجازية أخرى خارقة للعادة، وهي وجود آيات متعددة في البيت الحرام، فقد اراد الله له أن يكون مدرسة في العقيدة والفقه والأخلاق تتصف بالشمول والدوام، فكما أن البيت الحرام وضع للناس فكذا الآيات التي فيه فانها موعظة وعبرة لكل الناس، والإتعاظ من الآيات على وجوه هي:
الأول: كل آية موعظة مستقلة.
الثاني: الآيات مجتمعة عبرة ومدرسة جامعة.
الثالث: كل آية من الآيات البينات تتفرع عنها آيات متعددة كل واحدة منها موعظة وعبرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فكل واحد منها سر من أسرار آيات البيت الحرام، ومناسبة للتدبر، وباب للهداية والصلاح، والهاء في (فيه) تعود للبيت، وهذا المعنى ظاهر، وتحتمل وجوهاً:
الأول: ان الآيات بذات البينة.
الثاني: تعلق الآيات بكونه أول بيت في الأرض.
الثالث: جاءت الآيات لأنه وضع للعبادة.
الرابع: ارتباط الآيات بموضع البيت الحرام.
الخامس: الآيات فرع البركة.
السادس: من أسباب هداية الناس بالبيت الحرام وجود الآيات فيه، ولا تعارض بين هذه الوجوه، والملاك فيها انها رحمة للناس، فكما ان البيت وضع للناس فكذا الآيات، وفي الآية وجوه:
الأول: الآيات جزء من وضع البيت للناس.
الثاني: جاءت الآيات مستقلة عن وضع البيت وان كانت جزء منه، فوضع البيت أمر مستقل عن الآيات.
الثالث: الآيات فضل اضافي وعنوان للبركة.
والصحيح هو الأول والثالث، ولا تعارض بينهما، فمن فضل الله تعالى ان تكون الآيات جزء من وضع البيت، وخيراً مترشحاً منه، وهذه الآية دعوة لتلمس الآيات والدلالات التي جعلها الله في البيت الحرام، وهي على وجوه:
الأول: ما ذكرته هذه الآية.
الثاني: تتبع الآيات القرآنية، واستقراء معجزات وآيات البيت منه.
الثالث: لفظ “بينات” الوارد في الآية يدل على ظهور الآيات وادراكها من غالبية الناس، وهي اشارة لمعرفتها من الكتاب والسنة والواقع اليومي.
الرابع: تجلي آيات متعددة في ازمنة متباينة بحسب الحال، فمثلاً عندما أراد أبرهة هدم الكعبة، أرسل الله عليه طيراً أبابيل أي جماعات من هنا وجماعات من هناك يتبع بعضها بعضاً، ومن الآيات تخليد هذه القصة في القرآن كما في سورة الفيل لتبقى حية غضة في كل زمان، وعبرة للأجيال.
والظرفية في قوله تعالى [فيه] تفيد الثبات والإستدامة، فلم تأتِ الآيات بصيغة الماضي أو المستقبل وحده، بل جاءت بصيغة الخبر الدال على الوجود القطعي الذي لا يقبل الشك أو التردد، ومن الآيات التي في البيت الحرام:
الأولى: مقام إبراهيم.
الثانية: الأمن من الفزع لمن دخله.
الثالثة: الكعبة الشريفة.
الرابعة: استقبال الناس في صلاتهم للبيت الحرام.
الخامسة: استشفاء المريض به.
السادسة: تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته.
السابعة: عدم علو الطير عليه.
الثامنة: غياب ومحّو الجمار مع كثرة الرمي، فان قلت قد يكون هناك عمال متخصصون يقومون بجمعه ونقله قلت: ان آية غيابه معروفة في الأزمنة السابقة والى سنين ليست بعيدة اذ يأتي الحاج في السنة التالية فلا يجدون شيئاً من جمار العام الماضي مع الإطمئنان النوعي العام بعدم مجيء جماعة لنقل الجمار، واذ وجد في هذه الأزمنة من يقوم بنقلها في اليوم التالي فهذا لا يتعارض مع الآية، وفيه نوع تخفيف وتيسير، والا فان أصل الآية باق.
التاسعة: هلاك من يريد البيت بسوء.
العاشرة: انه موضع أداء مناسك الحج.
الحادية عشرة: جعل أفئدة المسلمين تشتاق اليه.
الثانية عشرة: اتخاذه قبلة في الصلاة، وجعل استقباله شرطاً في تذكية الذبائح.
الثالثة عشرة: تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى الى البيت الحرام، وثبوت استقباله الى يوم القيامة.
الرابعة عشرة: موضوعية فتح مكة ودخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام في انتصار الإسلام وإندحار قريش وأقطاب الكفر وسمي يوم فتح مكة “يوم الفتح”.
الخامسة عشرة: البيت الحرام موضع مخصص لعبادة الله، وفيه آية ودعوة للناس لبناء بيوت العبادة في الأمصار، وهذا البناء لا يتعارض مع قدسية البيت الحرام وما له من الخصوصية.
السادسة عشرة: اختصاص البيت الحرام بوظائف عبادية ينفرد بها والى يوم القيامة، لا يرقى الى منزلتها غيره ولا ينافسه فيها موضع أو بيت في الأرض، وهذا الإنفراد آية اضافية بالذات أو المقارنة مع غيره.
السابعة عشرة: تعاهد البيت مع تباين أنظمة الحكم، وغلبة أهل الكفر احياناً.
الثامنة عشرة: بئر زمزم ونبع الماء منها، والشفاء وقضاء الحاجات في مائها.
وبيان وظهور آيات البيت يحتمل أموراً:
الأول: ان الله هو الذي بينها وجعلها ظاهرة جلية.
الثاني: تتجلى آيات البيت الحرام بذاتها.
الثالث: الناس هم الذين يتوصلون الى ادراك آيات البيت بالتدبر والتفكر، ولا تعارض بين هذه الوجوه، الا ان الثاني والثالث فرعا الأول، وجاءت الآية بصيغة الإمضاء والوقوع وحصول التبيان والظهور.
و(بينات) جمع بينة وهي الآية الظاهرة، والدلالة الواضحة وصيغة الجمع آية اعجازية أخرى تفيد التوكيد على أهمية وموضوعية البيت الحرام، وتدعو الناس للتوجه اليه والتدبر في شأنه وماله من المنزلة، وفيه وجوه:
الأول: تبين الآيات عظيم قدرة الله تعالى في إيجادها وحفظها وتعاهدها.
الثاني: الآيات شاهد على ان البيت الحرام أول بيت وضع للناس.
الثالث: كل آية مدرسة في المعرفة الإلهية.
الرابع: من الآيات في الإرادة التكوينية وبديع صنع الله ان تجد الآيات متعددة في أول بيت جعله الله للعبادة.
الخامس: جاءت آيات البيت بينات رحمة بالناس ولطفاً بهم.
السادس: أنها وسيلة لجذبهم للإيمان، ودعوتهم للإلتفات الى الآيات.
السابع: أراد الله للبيت الحرام أن يكون آية للخلائق، ووسيلة للتذكير بوجوب عبادته.
الثامن: في الآية تخفيف عن المسلمين والناس جميعاً بأن جعل الله آيات البيت ظاهرة جلية، تدعوهم للهداية والإيمان.
التاسع: الآيات عون لإخلاص الناس في العبادة، ودعوة لترك الكفر والجحود.
العاشر: تتضمن الآية دلالات:
الأولى: وجود آيات في البيت الحرام.
الثانية: ان الله هو الذي وضع هذه الآيات.
الثالثة: تتصف هذه الآية بانها ظاهرة مكشوفة بينة.
الحادي عشر: جاء وصف البيان والوضوح شاملاً ومستغرقاً لكل آيات البيت، فلم تنشطر الآيات الى قسمين، قسم ظاهر جلي، وآخر غير ظاهر، بل كل آية ظاهرة جلية.
الثاني عشر: في الآية تحدِ للكافرين والجاحدين، لأن الآية تخبر عن حقيقة مركبة وهي وجود آيات وتتصف هذه الآيات بأنها بينات ظاهرات، ومن الآيات ان لا ترى جدالاً من الكفار في هذا الخصوص، وانتفاء الجدال يدل في مفهومه على الإقرار والإمضاء.
الثالث عشر: الآيات في البيت على وجوه:
الأول: كل آية مستقلة وتدل على ذاتها بفضله تعالى.
الثاني: اتحاد الآيات في الظهور والكشف، وهذا الإتحاد آية أخرى.
الرابع عشر: من القواعد الكلية في عالم الخلق ان الله يتقن الأشياء، وجاء وضع البيت على نحو الكمال والإتقان وجامعاً لشرائط الحسن ومنها وجود آيات فيه، واتصاف هذ ه الآيات بالبيان والظهور والإنكشاف.
الخامس عشر: في الآية دعوة للتدبر بمنافع آيات البينة مجتمعة ومتفرقة، والمقاصد السامية منها.
وهل الصفا والمروة من الآيات والبينات في البيت الحرام، أم أن القدرالمتيقن ما هو داخل البيت الجواب هو الأول من وجوه:
الأول : فوز جبل الصفا والمروة بأن كل واحد منهما من شعائر الله.
الثاني : المراد من الآيات عموم الحرم ومناسك الحج.
الثالث : إلحاق الصفا والمروة بالبيت الحرام.
الرابع : بيان حقيقة وهي تتابع وتجدد آيات البيت الحرام.
قوله تعالى [مَقَامُ إبراهيم]
المقام هو المجلس، والموضع الذي يقوم فيه الإنسان، ولكنه جاء هنا بارادة عنوان للعبادة والتقوى والصلاح، ومقام إبراهيم هنا هو موضع قدميه وقد تقدمت قصة المقام وكيف ان إبراهيم عليه السلام زار اسماعيل ولم يكن موجوداً، ولم تعرفه زوجته ولم تقم باكرامه، فطلب منها ان تخبر اسماعيل ان يغير عتبة داره، فعرف ما يقصد خليل الله فطلقها، وتزوج غيرها، فلما عاد إبراهيم عليه السلام كان اسماعيل غائباً عن البيت في الصيد طلباً للرزق فقامت المرأة باكرام إبراهيم وجاءت له باللحم واللبن ودعا لها بالبركة ولم ينزل من حماره، فجاءت بالمقام فوضع قدمه الأيمن عليه، ثم حولته الى الجهة اليسرى، فبقي أثر قدمه عليه، وقد ورد الخبر عن ابن عباس والصادق عليه السلام( ).
كما يحتمل المقام هنا موضع قدمي إبراهيم عند بناء الكعبة، وفيه اشارة الى عبادة وصلاة إبراهيم عليه السلام، وروى عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولولا ان نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب( ).
والحديث يدل على ان المقام من كنوز الجنة التي جعلها الله في الأرض، ليكون مصداقاً من مصاديق البركة.
ولقد إقترنت الحنيفية بإبراهيم وكذا المقام، مع التباين بينهما، اذ ان الحنيفية هي دين التوحيد، والإستقامة على الهدى، وهي منهاج الأنبياء واتباعهم، اما المقام فيحتمل أموراً:
الأول: أنه مقام الأنبياء جميعاً.
الثاني: مقام شطر من الأنبياء.
الثالث: المقام آية خاصة بإبراهيم عليه السلام.
والصحيح هو الثالث، وهو القدر المتيقن فلم يرد ما يدل على أنه وثيقة وعنوان يلتقي به جميع الأنبياء فاراده الله فخراً وعزاً لإبراهيم في جهاده في سبيل الله وأذانه في الناس للحج، ودعوتهم لأداء المناسك وتعاهدها، وقد كتب الله للمقام الشأن والحفظ ببعثة النبي محمد ونزول القرآن عليه، فلولا هذه لم يعرف الناس ما لمقام إبراهيم عليه السلام من الموضوعية والإعتبار وهو من بركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه لميراث النبوة، وبلحاظ البركة التي جعلها الله في البيت الحرام فان المقام على وجوه:
الأول: انه جزء من بركات البيت الحرام.
الثاني: تترشح البركة من المقام على البيت الحرام.
الثالث: للمقام بركة وخير قائم بذاته، وهو عنوان اضافي لما في البيت الحرام من البركة.
والوجوه كلها صحيحة فمقام إبراهيم أمر مبارك كما انه يقتبس البركة من البيت الحرام، فان قلت ان الآية السابقة ذكرت البركة صفة ملازمة للبيت وليس للمقام، قلت: المقام آية من عند الله، فهو اذن مبارك وفق القياس الإقتراني.
والكبرى: كل آية في البيت مباركة.
والصغرى: مقام إبراهيم آية، النتيجة: المقام مبارك.
وهذه البركة تتجلى في وجوه:
الأول: اتخاذه موضعاً للصلاة، فبعد الطواف بالبيت تأتي صلاته الواجبة وهي عند المقام مع الإمكان، وفيه عهد وصلة بين إبراهيم والمؤمنين، وشاهد على استجابة الله لدعاءإبراهيم في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: اكرام المسلمين للمقام وتعاهدهم له.
الثالث: الأثر المبارك لنداء إبراهيم بالحج، وقيام المسلمين بأداء الفريضة وواجباتها ومنها صلاة الطواف.
الرابع: اتخاذ مقام إبراهيم موضعاً للدعاء وسؤال الحوائج والتضرع الى الله تعالى.
ترى ما هو مقام إبراهيم الجواب انه أثر قدم إبراهيم في صخرة موضوعة في البيت، ووردت الآية بأن المقام آية من آيات البيت، ويحتمل وجوهاً:
الأول: الصخرة التي قام عليها إبراهيم عليه السلام جزء من أرض البيت الحرام، ثم وضعت في موضعها الآن.
الثاني: جيء بالصخرة من خارج البيت من جبل أبي قبيس اثناء قيام إبراهيم واسماعيل برفع قواعده ليصعد عليها إبراهيم اثناء بناء جدار الكعبة عند ارتفاعه.
الثالث: الصخرة من داخل البيت الحرام، وهيء جزء منه في الأصل، وصعد عليها إبراهيم ليتمكن من رفع الحجارة وبناء جدار الكعبة.
الرابع: نزلت الصخرة من السماء، لذا استقبلت قدمي الرسول والأثر الباقي فيها لتكون آية مباركة في كل زمان.
وفي الحديث: ان موضع بيت الله كان حشفة، فدحا الله الأرض عنها، والحشفة صخرة رخوة، ولعل هناك وجوهاً للصلة بين هذا الحديث ومعناه وبين مقام إبراهيم بلحاظ انه صخرة لانت فغاص بها قدمه، فهذه الليونة دليل على خصوصية أرض البيت، ليبقى المقام شاهداً على أصل الأرض، وما تمتاز به أرض البيت دون غيرها، وهذا الوصف لعامة أرض البيت لا يمنع من خصوصية لمقام إبراهيم بلحاظ قابليتها للإحتفاظ بأثر قدم إبراهيم.
الخامس: جاءت به امرأة اسماعيل لتضعه تحت قدم إبراهيم لتغسل رأسه، لأنه أبى النزول من حماره لأن سارة امرأته بعد ان أذنت له بزيارة هاجر واسماعيل في مكة اشترطت عليه ان لا ينزل من الدابة التي طويت لها الأرض، ثم نقل الى البيت لما فيه من الآية وهي إلانت الصخر في موضع قدمه.
السادس: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم للنداء بالحج قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ].
السابع: الأمر الجامع فالمقام الذي وضعته امرأة اسماعيل تحت قدم إبراهيم هو ذاته الذي صعد عليه إبراهيم في بناء البيت وكان اسماعيل يناوله الحجر ومادة البناء، ويمكن معها أن يكون نازلاً من السماء، وعن ابن عباس قال: ليس في الأرض شيء من الجنة الا الركن والمقام، وأنهما جوهرتان من جوهر الجنة، ولولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة الا شفاه الله ( ).
الثامن: مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها، عن عطاء( )، وهو بعيد.
التاسع: الحرم كله مقام إبراهيم، عن النخعي.
ولكن السنة النبوية بيان للقرآن، وقد ورد عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استلم الحجر الاسود ثم رمل ثلاثة، ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم، فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلًّى]( )، مما يدل على ان المقام هو الصخرة المعلومة المطبوع عليها أثر قدمي إبراهيم وقد تغير الأثر بعض الشيء عن هيئته من كثر مسح الناس له بايديهم، فذهب تفصيل الأصابع، قبل أن يوضع في مقصورة زجاجية.
وجاءت الآية بالإخبار بان المقام آية من آيات البيت الحرام، وفيه وجوه:
الأول: المقام جزء من موضع البيت وأرضه الأصلية.
الثاني: جاء حرف الجر (في) في قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ] للظرفية وهي أعم من كون صخرة القدم جزء من أرض البيت الأصلية، وهل يتعارض هذا الوجه مع القول بان البيت الحرام موجود من أيام ابينا آدم بل وقبله، الجواب لا، بل أنه يدل على حقيقة وهي حفظ البيت ومقوماته وآياته في الأزمنة المتعاقبة ومن قبل الأجيال المتعاقبة، وان الفترة الزمنية الممتدة بين آدم وإبراهيم عليهما السلام شهدت هي الأخرى تعاهد الأجيال للبيت الحرام وعدم التعدي عليه.
الثالث: وجود المقام بلحاظ أيام نزول القرآن، وأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحتمال كون المقام خارج البيت قبل النزول.
الرابع: الصخرة من أرض الحرم، وهو أعم من البيت كما في حصى الجمار فانها تؤخذ من الحرم، ومنى جزء من الحرم.
ومن الأسرار الإعجازية في قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إبراهيم] انه سرق الحجر الأسود في فتنة القرامطة وأخذوه معهم وأرادوا سرقة المقام ولكنه غيّب عنهم، ولم يستطيعوا أخذه فبقى في البيت لم يفارقه.
وفي المقام آية وهي ليونة صخر الحرم لقدم إبراهيم وانطباعها فيه لتبقى آية للناس تخبر عن تأثر الحرم بقدم الرسول، وكأنه يعرفه وفيه اشارة الى توثيق عمارة وحج البيت وانه يشهد لمن يعمره ويزوره ويقوم باداء فريضة الحج، فمن خصائص المقام في البيت انه عنوان لتوثيق الحج، ودعوة للناس لأداء الفريضة فالبيت الذي طبع على صخرة قدم إبراهيم.
وبقى أثرها آلاف السنين، ويشهد لحجاجه ويوثق لهم حسن طاعتهم لله تعالى، فجاء مقام إبراهيم من باب المثال الأمثل للناس للإخبار عن التوثيق السماوي، والشهادة الأرضية في أشرف بقعة لأهل الإيمان والصلاح الذين يكونون ضيوفاً على الرحمن في بيته الحرام.
فقد غاصت قدم إبراهيم المباركة في صخرة صماء الى الكعبين في آية لم يشهدها التأريخ لتكون مدرسة تستقرأ منها الدروس والعبر وفيها مسائل:
الأولى: ما لإبراهيم من المنزلة الرفيعة.
الثانية: درجة النبوة وأثرها في الجمادات.
الثالثة: ليونة وتأثر ارض الحرم بقدم الرسول وما لها من خصوصية، وانها جزء من البيت الذي انزل من السماء.
الرابعة: المقام عنوان لوضع أرض الحرم للناس عند الحج والزيارة وهو جزء من عمومات قوله تعالى [وُضِعَ لِلنَّاسِ] أي ان أرض البيت تختلف عن غيرها في التأثر بزيارة وعمارة الناس للمسجد، فهي ليست كقطع الأرض الأخرى، ولو دار الأمر بين المعنى الأعم او المعنى الأخص للفظ القرآني، فالأصل هو الأول لإصالة الإطلاق ولعظيم فضل الله تعالى، فكون المقام آية على وجوه:
الأول: بالذات، وان المقام هو ذاته آية.
الثاني: ما يترشح منها من الدلالات والعبر.
الثالث: الأثر والنفع الذي تتركه آية المقام في النفوس، والواقع اليومي لأهل الإيمان.
الرابع: الثواب الأخروي لمن يؤمن بآية المقام.
(وقال المبرد: (مقام) مصدر فلم يجمع كما قال (وعلى سمعهم) والمراد مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك انها كثيرة، وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ]( ).
ولكن المراد من المقام في الآية هو الآية الحسية المتثملة في غوص قدمي إبراهيم في الصخر، وهو الظاهر والمتبادر والقدر المتيقن من الآية، ووصفه بانه آية بينة وعلى تعيين المقام وحصره الإجماع، بالإضافة الى قانون التفسير الذاتي والسنة النبوية وسيرة المسلمين، قال تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلًّى]، ففيها دلالة ان مقام إبراهيم مكان معهود ومتعارف ويتخذ موضعاً لصلاة الطواف في الحج.
ان ذكر المقام في هذه الآية تشريف اضافي لإبراهيم عليه السلام من بين الأنبياء، من وجوه:
الأول: ذكره في القرآن، اذ ان التعدد في الذكر آية وشاهد على الإكرام.
الثاني: بيان عظيم منزلة إبراهيم عليه السلام بين الأمم.
الثالث: تتضمن الآية في مفهومها زجر أهل الكتاب عن ادعاء ان إبراهيم كان يهودياً او نصرانياً اذ ان عمارته للبيت الحرام شاهد على كونه مسلماً حنيفاً.
الرابع: في الآية حجة على أهل الكتاب بلزوم الإقتداء بإبراهيم وإتباع ملته، ومنها انه كان يتخذ البيت الحرام مقاماً وموضعاً للعبادة.
الخامس: تعاهد مقام إبراهيم على تعاقب مئات السنين، وفيه اكرام وتشريف له، وهذا التعاهد آية اضافية خاصة بالمقام، فقد مرت عصور مختلفة وأجيال متعاقبة من الناس، وأنظمة متباينة وحضارات متعددة وجرت حروب ومعارك عديدة على مر الأيام وتعاقب السنين بين القبائل والقاطنين في مكة وما حولها وظهور الشرك والكفر والوثنية أحياناً.
ومع هذا بقي المقام محفوظاً بفضل الله ثم جاء ذكره في القرآن ليكون آية في ذاته وحفظه.
السادس: الآية دعوة لإكرام إبراهيم، لأثره في البيت الحرام الذي يدل على عظيم شأنه بين الناس عامة، والأنبياء خاصة.
لقد أراد الله للمسلمين الإتعاظ من مقام إبراهيم ومع ان المراد من المقام في الآية هو المقام الحسي، وقدم إبراهيم المنطبعة في الصخر لحد الكعب، فان الآية تشير الى المقام المعنوي، وقرب إبراهيم من الله ، والصلة بين النبي والبيت الحرام، فالأول خليفة الله في الأرض، والثاني بيته الذي جعله مأوى وملاذا ومحلاً للنسك والعبادة، ويدل المقام على انقطاع إبراهيم وتفانيه في مرضاة الله، وعزمه وثباته.
ويبين المقام منزلة إبراهيم والأنبياء وحجاج البيت الحرام عند الله ، وما لهم من الشأن والمنزلة بين الخلائق، لأن إلانت الصخرة الصماء وانصهارها تحت قدم إبراهيم إمارة على اكرام الخلائق للأنبياء ووفد الحاج، فالمقام الظاهري المادي الفردي في الدنيا، شاهد على المقام المعنوي النوعي في الدنيا والآخرة.
وجاء ذكر مقام إبراهيم مرتين في القرآن، اذ ورد الأمر الإلهي بالصلاة في مقام إبراهيم، قال تعالى [ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلًّى]( )، ولابد من صلة بين الأطراف الثلاثة:
الأول: مقام إبراهيم.
الثاني: انه آية بينة بشهادة الآية محل البحث.
الثالث: اتخاذ المقام موضعاً للصلاة، وهذه الصلة على وجوه:
الأول: بيان شأن إبراهيم ودرجته بين الأنبياء.
الثاني: توكيد سعي إبراهيم عليه السلام في عمارة البيت الحرام ودعوته الناس لأداء الحج.
الثالث: جهاد إبراهيم للقوم الظالمين، وتحدي سلطان الجور في زمان نمرود، وما يدل عليه هذا التحدي في مفهومه من دعوة الناس للتوحيد، وبيان بطلان وقبح الشرك والضلالة.
الرابع: وجوب تعاهد الصلة بين المسلمين وإبراهيم عليه السلام وتتجلى هذه الصلة بالصلاة في المقام، فمع ان المقام لا يتسع الا لفرد واحد، جاء الأمر الإلهي للمسلمين بصيغة الجمع بأداء الصلاة في المقام مما يدل على لزوم تعاهد المقام.
وفيه بيان لما فيه من الأسرار القدسية والنفع في الدارين ومنها شهادة المقام للمسلم الذي يصلي فيه وحوله، فتجزي الصلاة حول المقام وقريباً منه وعليه الإجماع، ولقاعدة نفي العسر والحرج، ولا ضرر ولا ضرار، وعمومات قاعدة الأقرب فالأقرب.
الخامس: المقام من مظان الإستجابة والبقع المباركة المخصصة للعبادة.
السادس: إتخاذ المقام مصلى تنزيه وتطهير له من دنس الشرك والأقذار المعنوية والمادية.
السابع: تدعو الآية المسلمين الى ايلاء الحج والصلاة في البيت عناية خاصة، وتجعل المسلم يشتاق للبيت الحرام، ومن وجوه الشوق أن يفوز بالصلاة في مقام إبراهيم.
الثامن: لابد من ثواب خاص للصلاة في المقام، خصوصاً مع ورود الأمر الإلهي الخاص بها، وهو من الآيات التي يتضمنها المقام، وشاهد على ان آية مقام إبراهيم انحلالية ومتعددة، وتتفرع عنها آيات عديدة، كل واحدة منها مدرسة كلامية وعقائدية وفقهية.
وفي الآية حث للمسلمين على حفظ سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية من باب الأولوية، فقد تفضل الله بحفظ مقام إبراهيم وهو عنوان لجهاد إبراهيم في بناء وعمارة البيت فمن باب الأولوية ان يحفظ المسلمون سنة النبي في أدائه مناسك الحج واكرامه للبيت، فجاء مقام إبراهيم آية ودعوة لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء به، وحفظ سيرته وسنته.
وقد يقول قائل ان الله رزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ما رزق الأنبياء الآخرين، فلماذا لم يجعل له مقاماً في البيت ويجعل بعض الصخر في الحرم تلين له ولتغوص قدمه فيه، ويكون شاهداً على صدق نبوته، وعنواناً لتوثيق نبوته وجهاده، الجواب من وجوه:
الأول: ان آيات الأنبياء حسية، وآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وهي القرآن الكريم.
الثاني: جاء توثيق المقام والإخبار بانه آية من عند الله بالقرآن الذي هو معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ان مقامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبيت معروفة، وقد أنعم الله عليه بفتح مكة، ودحر الكفر والشرك فيها، فآية المقام شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء بحفظها أوالمجيء بالآيات بما هو أفضل منها.
الرابع: تتعاهد أجيال المسلمين أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمناسك الحج، وتحرص على حفظ سنته، ويتلقى العلماء طبقة عن طبقة أحاديثه وأفعاله في الحج وكيفية أدائه.
الخامس: من الآيات في المقام ما حدث عند هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من مكة فاراً من قريش حينما تواطؤا على قتله رؤية الدليل قدمه، هذه القدم التي في المقام أو قدم ولده، وقال عن قدم أبي بكر هذه قدم ابي قحافة او ولده، لتكون فيها دلالة على حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعالم الحنيفية وتعاهده وتثبيته لسنن إبراهيم عليه السلام.
بين المقام والحجر الأسود
ذكر القرآن مقام إبراهيم في موضعين ولم يذكر الحجر الأسود مع ورود الأخبار بفضله، وعدم ذكره في القرآن لايدل على عدم أهميته، بل انها مستقرأة من تقبيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وله النصوص الواردة فيه ولكنه في ركن من الكعبة، بينما مقام إبراهيم خارج الكعبة ومجاور لها، بالإضافة الى ورود القرآن باتخاذ المقام مصلى قال تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلًّى]( )، وهذا لا يعني عدم موضوعية الحجر، بل له قدسية خاصة تتجلى بتقبيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له عند الطواف، وعليه سيرة المسلمين اذ يستحب استلام وتقبيل الحجر الأسود، ومع تعذر التقبيل بسبب الزحام يستحب لمسه، ومع تعذره يشار اليه باليد، وفي الأخبار انه نزل من الجنة وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه كان أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك، وذكر انه هبط مع آدم من الجنة، وعن ابن عباس: ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من إستلمه بحق( ).
وكل من المقام والحجر صخرة قابلة للنقل والإنتقال، وحفظ كل منهما في موضعه آية بينة أخرى وشاهد على العناية الإلهية بالبيت الحرام، ودعوة للمسلمين لحفظهما ويقع الحجر في الركن الخاص به في جدار الكعبة، اما المقام فيبعد عن البيت ستة وعشرين ذراعاَ بلحاظ موضعه الذي هو عليه، وكان ملصقاً بالبيت وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية ببيان قدسية الحجر، ولزوم تعاهده والتبرك به، وتضفي الآيات التي في البيت الحرام عليه آيات اضافية وتكون جزء علة في حفظه والعناية به وباعثاً للشوق في النفوس لزيارة البيت ورؤية آياته، وفي الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض.
قانون الخلافة والبيت
لقد تفضل الله سبحانه وجعل الإنسان خليفة في الأرض، وأشهد الملائكة على خلافته، وهذه الشهادة مقدمة كريمة لخلق وإكرام الإنسان وتوكيد على منزلته الرفيعة، وليكون الملائكة شهوداً على عظيم شأنه ومنزلته، ومع هبوط آدم عليه السلام لازمته النبوة وصاحبه وذريته الرزق الكريم، وسخر الله لهم ما في الأرض ودعاهم لعبادته وطاعته، وهذه الدعوة تجلت بآيات وبراهين ودلالات على وجود الصانع ولزوم عبادته، منها البيت الحرام الذي جعله الله موضعاً للعبادة، واظهار الطاعة واللجوء الى الله تعالى، ومن منافع البيت انه مصاحب أرضي كريم للإنسان في الحياة الدنيا، ولقد صاحبت الإنسان في حياته في الأرض أمور:
الأول: النبوة والوحي الى الأنبياء، وهو أمر خاص، ولكن النفع منه عام، فتفضل الله على نفر من البشر اذ أكرمهم الله بالنبوة وجعلهم أئمة الناس في النشأتين لينهل الناس جميعاً من فيض النبوة ومضامينها القدسية.
الثاني: العقل اذ جعله الله حجة ذاتية، وداعياً باطنياً الى الهدى والإيمان.
الثالث: الآيات الكونية، والشواهد السماوية والأرضية التي تدل على عظيم قدرة الله.
الرابع: موارد الحاجة الى الله ، والتي يدرك معها الإنسان ضرورة اللجوء اليه سبحانه.
الخامس: البيت الحرام كونه موضعاً لذكره تعالى، واصلاً للمساجد وبيوت العبادة، مع المائز بين البيت الحرام وغيره من المساجد ودور العبادة، من وجوه:
الأول: البيت الحرام أول بيت وضع للناس في الأرض.
الثاني: يحج الناس الى البيت الحرام على نحو الوجوب والفرض.
الثالث: يستقبل المسلمون البيت الحرام في صلاتهم وذبائحهم ودفن موتاهم.
الرابع: وجود آيات بينات في البيت الحرام.
الخامس: موضع الكعبة قبلة من تخوم الأرض الى عنان السماء.
السادس: استدامة حفظ البيت وسلامته من الأذى والتعدي عليه.
السابع: وجوده في أرض خالية من الزلازل والخسف مع أنه وسط جبال عالية.
الثامن: وكما جعل الله البيت الحرام أول بيت وضع للناس فانه وبلدة مكة شهدا بعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه توكيد لموضوعية البيت في الملل السماوية.
لقد أراد الله للبيت أن يكون شاهداً على الإنسان في عمله، وهذه الشهادة لا تنحصر بفريضة الحج بل هي أعم، لأن الإنسان يحتاج الى استقباله خمس مرات، ومن الآيات ان استقبال البيت شرط واجب في الصلاة، وليس امراً مستحباً، وملازمة البيت لوجود الإنسان في الأرض قانون ثابت، وحقيقة دائمة وفيها فخر وعز لبني آدم، ومناسبة للتقرب الى الله، ودعوة للعبادة وهو حجة على الجاحدين والكافرين.
ومن خصائص الإحتجاج بالبيت الحرام انه آية دائمة، تتجلى فيها آيات وكل آية دعوة للهداية والإيمان بالإضافة الى اتصافها بالبيان والوضوح والإنكشاف ليسهل على الناس ادراك معانيها على نحو الموجبة الكلية اوالجزئية، وهذا الإدراك وسيلة لحفظ وتعاهد البيت،واستدامة وجوده كونه آلة سماوية للربط بين أفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل.
وما هي النسبة بين الخلافة والبيت الجواب هو العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء الفيض والفضل الإلهي على الإنسان، واكرامه واعانته على الهداية، بالإضافة الى عموم النفع فكل من الخلافة والبيت له منافع عامة تتغشى الناس جميعاً.
وأما مادة الإفتراق فالخلافة جاءت لآدم، وأختلف هل هي خاصة به أم تشمل الأنبياء دون غيرهم، ام عامة لجنس الإنسان، والأصح هو الثالث وان نال مراتبها السامية الأنبياء، بلحاظ انها خير محض تترشح منافعه وبركاته على الناس جميعاً.
ومن مادة الإفتراق ان البيت عنوان للتكليف بالحج والإستقبال في الصلاة، لقد أراد الله ان يكون البيت الحرام شاهداً على استحقاق الإنسان لخلافة الأرض بتعاهده له واكرامه، وأداء الحج.
ان قوله تعالى “وضع للناس” شاهد على عموم النفع من البيت الحرام، فكل انسان يحتاج البيت في عبادته وصلاته، ومن أهم وجوه الخلافة العبادة بلحاظ انها علة خلق الإنسان، فلذا يكون البيت عوناً على أداء وظائف الخلافة ونشر الأخلاق الحميدة، وهو زاجر عن الرذائل ومانع من غلبة النفس الشهوية والغضبية سواء لكونه معلماً للعبادة، او آمناً وحاجزاً دون الظلم والتعدي، او لأنه صرح ثابت في الأرض يدل على وجود الصانع ولزوم طاعته، وحسن التزلف اليه بعمارة بيته.
قوله تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]
بعد ذكر آية مقام إبراهيم جاءت آية الأمن والأمان، وكل واحدة منهما آية بينة من آيات البيت الحرام، ومن المفسرين من حصر الآيات البينات هنا بمقام إبراهيم وناقش علة بيان الجماعة بالواحد، أي بيان الآيات المتعددات في قوله تعالى [آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] بآية واحدة وهي مقام إبراهيم، ولكن الآية أعم، ومقام إبراهيم أحد هذه الآيات، ولو أنحصر الأمر بين المتعدد والمتحد فظاهر الآية هو الأول والآية الثانية هي الأمن والسلامة لمن يدخله وهذا الأمن يحتمل وجوهاً:
الأول: الأمن من الفزع والخوف.
الثاني: السلامة من جور السلاطين، وهو على شعبتين:
الأولى: ان يلجأ الخائف من السلطان الى البيت.
الثانية: صد الجبابرة عن البيت ومن فيه.
الثالث: نجاة الإنسان من العقاب والقصاص، ما دام في الحرم فلا تقام الحدود على من التجأ اليه.
الرابع: الأمن من تبعات الذنوب وما أقترفه الإنسان من الخطايا.
الخامس: التوقي من السيئات والعصمة من ارتكاب الفواحش لأن دخول البيت طهارة للنفس، وارتقاء عن منازل النفس البهيمية.
السادس: الأمن من آفة الفقر، وأذى العلل والأمراض، فان قلت ان الحاج يمرض ويعاني من الآلام، قلت: ما يمحى من الآفات والأمراض أكثر، ولا يعلمه ولا يقدر على احصائه الا الله، والحج سبب من أسباب العافية والصحة.
السابع: السلامة من الإبتلاء والفتن وأسباب الإفتتان.
الثامن: الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة لذا تجد مناسك الحج وما فيها من الإحرام والتلبية والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والطواف ونحوها تذكير بيوم المحشر والحساب، قال تعالى [ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ]( )، ودخول البيت حسنة وطاعة لله تعالى.
التاسع: النجاة من النار، إذ أن دخول البيت الحرام طاعة لله تعالى وامتثال لأوامره، وواقية من عذاب الجحيم.
العاشر: الأمن من القحط والفقر.
الحادي عشر: عدم وقوع الزلازل في الحرم.
الثاني عشر: الأمن من الحروب والفتك.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ويعتبر كل فرد منها آية دائمة بذاتها، وشاهد على تعدد آيات البيت الحرام، وهذا التعدد يشمل المواضيع والأحكام والميادين المختلفة، أما الأول أعلاه فإن دخول البيت يبعث السكينة في النفس قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، ودخول البيت الحرام بذاته ذكر لله واقرار بربوبيته، وانقطاع عن الناس، ولجوء اليه سبحانه قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( )، أما الثاني فان الله له ملك السماوات والأرض، وهو القهار، والناس كلهم عبيده والذي يدخل بيته يلجأ اليه من جور الظالمين الذين لا أمر لهم مع أمره فأراد الله ان تكون سيادته خاصة بالله ليس لأحد من الناس سلطان عليه، ومن تعدى على حرماته، وأفزع من لجأ اليه فان الله يبطش به، ويجعله عبرة للناس.
ان اتخاذ البيت ملجأ تنبيه وتحذير للملوك والرؤساء واخبار لهم بان ملكهم مقيد ومحدود، ودعوة لهم للإقرار بسلطان الله عليهم فلا سلطان وملك مطلق الا لله تعالى، لقد أراد الله للبيت الحرام ان يكون آية مستديمة في العالمين تتعلق بأمر الملك والسلطان والشأن، فبعث السكينة في قلوب المستضعفين والخائفين، والخوف والفزع في قلوب الظالمين، فمتى ما أدرك السلطان ان حكمه ليس مطلقاً وان هناك بقع في الأرض لا يستطيع ان يفرض سلطانه وملكه عليها، لأنها خالصة لله تعالى، فانه يدرك ضعفه، والبيت شاهد على حاجة الإنسان وانه ممكن مخلوق، فالأمن من الخوف حاجة لكل انسان لا يستثنى منه أحد، لذا فان نعمة الأمن في البيت الحرام رحمة بالناس جميعاً، والتزام السلطان بأحكام البيت واللجوء اليه أمر حسن من وجوه:
الأول: تقيد السلاطين بقواعد الأمن في البيت دلالة على اقرارهم بالربوبية لله تعالى.
الثاني: ترك السلطان لمن يلجأ الى البيت الحرام من أعدائه أو اهل الجنايات شاهد على تعظيم شعائر الله، وخوفه من الله ، ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث: الأجر والثواب للملوك والسلاطين الذين يجتنبون التعرض لمن يلجأ الى البيت.
الرابع: قد يحتاج السلطان نفسه اللجوء الى البيت وطلب الأمان والسلامة فيه.
وهل يحق لهم وضع عيون ورجال حول البيت يمنعون عدوهم وصاحب الجناية من الدخول اليه، الجواب لا، فظاهر الآية الكريمة يدل على التخلية بين الإنسان والدخول الى البيت الحرام وان كان بقصد الفرار من العقوبة والحد، وتنهى في دلالتها التضمنية والإلتزامية عن منع أي مسلم من الوصول الى البيت ذكراً كان او أنثى، لأن البيت وضع للناس كافة، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبراهيم مُصَلًّى] فهذا الأمر موجه لكل المسلمين، الخائف وغير الخائف، والحاكم والمحكوم، فالخطاب التكليفي جاء مطلقاً للناس جميعاً ولكنه مقيد بالإسلام، فيشمل المسلم الخائف فلا يحق لأحد صده عن البيت الا ان تكون الحرب سجالاً او المطاردة له مستمرة خارج البيت بفرض أخذه بجريرته وليس بقصد منعه من دخول البيت واللجوء اليه ومن الخشية من الله واكرام بيته الحرام التخلية بين الجاني ودخول الحرم.
ولو أعان شخص الجاني على دخول البيت للنجاة من الحد والقصاص، فهل يؤاخذ على اعانته له وعدم تسليمه الى القضاء، الجواب لا، الا مع الدليل بحسب الحال والموضوع والقصد والنية، ولا ضمان عليه لأن البيت الحرام رحمة للناس وباب للأمن، والإلتجاء اليه لا يسقط العقوبة والحد، بل تبقى معلقة لحين خروجه مع التضييق عليه في المأكل والمشرب حتى يخرج من البيت.
وتتضمن الآية في مفهومها زجر السلاطين عن التعدي عن حرمات البيت سواء بالنسبة لوفد الحاج، او اللاجئين اليه او البنية وموضع البيت كما تبعث السكينة والأمل في النفوس، وتدعو الى الألفة بين الناس، ونبذ الفرقة والنزاعات والإقتتال.
وأما الثالث وهو النجاة من العقاب والحد والقصاص، فان اللجوء الى البيت الحرام باب للتوبة والإنابة، وسبيل للإستغاثة بالله، والإستغاثة هنا لا تنحصر بالنجاة من العقوبة بل تشمل سؤال التنزه عن المعاصي والتخلص من الكدورات الظلمانية، وفيه تأديب للناس ودعوة للصبر على حقوقهم في القصاص والحد عند لجوء الجاني للبيت الحرام، وقد يلجأ الإنسان الى قبيلته او الدولة التي ينتسب اليها، او غيرها، فلا يجيره أحد، ولكن البيت الحرام يعلن اجارته لمن يلجأ اليه، والذب عنه.
وجاءت الآية على نحو الإطلاق ولم تقيد اللجوء بنوع مخصوص من حالات الخوف، ولم تستثنَ الجنايات او بعضاً منها، فمن فضل الله تعالى ان تأتي الآية بالأمن فكل من دخله لاجئاً مستجيراً يذهب روعه وفزعه.
أما الرابع فان أعباء الذنوب من أشد ما يحمله الإنسان من الأوزار، ويشعر بوطأتها ويئن من ثقلها ويدرك ان عاقبتها وخيمة، وعقابها شديد، فجعل الله البيت الحرام وسيلة للتخلص من الذنوب وواقية من العقاب، كما انه في ذاته مصداق من مصاديق التوبة والإنابة.
أما الخامس فان دخول البيت الحرام واقية ذاتية من السيئات ومادة للصلاح، وانقطاع الى الله تعالى، واستحضار لذكره لذا ترى احرام الحج يبدأ بالتلبيات الأربعة: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك”.
أما السادس فان الله جعل البيت الحرام من مظان الإستجابة وتتغشاه البركة ومنها ما يترشح على الحاج وزائر البيت في بدنه وصحته وسلامته، وهو باب للشفاء من الأمراض.
أما السابع فان اللجوء الى البيت الحرام حصانة من الفتن لما فيه من الإعراض عن أهل الدنيا، والنزاع بينهم على المصالح والمنافع ومنازل الرياسة، بالإضافة الى اجتنابهم التعرض لمن يلجأ الى البيت الحرام، لهذه الآية التي تزجر عن التعدي على المستجير بالبيت الحرام واللاجئ اليه.
وأما الثامن والتاسع فمنافع البيت الحرام في الآخرة أكثر من أن تحصى، وهو باب للرحمة والعفو والمغفرة، ومدخل للفوز بالجنة، ووردت أخبار مستفيضة عن ثواب الحج وما له من الأجر العظيم، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
وأما العاشر فهو ظاهر في كل زمان، واجتماع المسلمين في كل عام في الحج وما يتفرع عنه من تبادل التجارات بين أهل المشرق والمغرب والأمصار المختلفة، ويتجلى في هذا الزمان بظهور كنوز الأرض لأهل مكة وما حولها.
أما الحادي عشر فان أرض الحرم بعيدة عن مناطق الزلازل والخسف والبراكين بفضل الله تعالى.
وأما الثاني عشر فان أرض الحرم في حصانة من الحروب والإقتتال بين الدول، وأهله منشغلون بالعبادة واكرام ضيوف الرحمن وجلب التجارات.
واذ وعد الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنة وانذر الكافرين بعذاب النار، فانه سبحانه جعل الحياة الدنيا زاهرة بمقدمات دخول الجنة، وأسباب اجتناب النار، ومنها العبادات وفعل الصالحات وعمارة البيت الحرام والوفادة اليه طاعة لله تعالى، فكأن البيت الحرام فرع دائم في الأرض لعالم الملكوت، ومدخل للسياحة في عالم الآخرة بأمن وسكينة.
فكل انسان يستحضر أهوال ما بعد الموت ويوم المحشر، ولكن هناك فرق في كيفية وموضوع وأثر هذا الإستحضار بين المسلم والكافر بين من يحج البيت الحرام ويحرص على عمارته، وبين من لا يقول بحج البيت ووجوبه، فالذي يحج البيت يدرك انه حصل على سلاح مبارك وواقية من العذاب يوم القيامة، وكذا من أتخذ مقام إبراهيم مصلى، ومن دخل البيت الحرام مستجيراً من النار، عائذاً بالله من تبعات الذنوب ووحشة القبر وعذاب البرزخ.
ولو جاء انسان مستجيراً من شخص او سلطان فهل يكون البيت واقية له في الآخرة ام ان القدر المتيقن من الأمن هو متعلق نيته، بلحاظ أن الأعمال بالنيات، الجواب هو الأول، فان الإنسان يأتي للبيت مستجيراً بخصوص قضية شخصية فيكتب الله له الإجارة بالبيت من الذنوب والمعاصي فضلاً من عند الله، وهو من مصاديق الآية الكريمة فان قوله تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] يشمل موضوع الإستجارة، وما لا يعلمه المستجير من وجوه البلاء في الدنيا والآخرة، لأصالة الإطلاق، وعظيم فضل الله تعالى، ولأنه سبحانه اذا اعطى يعطي بالأوفى والأتم، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام”، والحديث يفيد الإطلاق في الصبر سواء لأهل مكة ‘أوالمجاورين، والداخل للحرم حاجاً او معتمراً او مستجيراً وعائذاً.
فقد يظن الإنسان ان الله في السماء، وأنه خلق الإنسان وترك في الحياة الدنيا يتعرض للأذى والظلم ابتلاء واختباراً، وان الحساب والإنتقام من الظالمين لا يكون الا في الآخرة.
فجاءت الآيات لتوكيد حقيقة وهي ان الله في كل مكان ومع الناس وليس في جهة او موضع يحده وان جميع الأشياء حاضرة عنده، مستجيبة له، وتفضل وجعل موضعاً آمناً، وبيتاً له في الدنيا يلجأ اليه الخائف، فيبعث السكينة في نفسه وينتقم له.
وفيه حث على الصبر واخبار بان الله حاضر غير غائب، وهو نصير المستضعفين ومن استجار به.
ومع ان الآية جاءت بصيغة الخبر الا انها تتضمن العنوان الجامع للخبر والإنشاء بلحاظ الموضوع كما تتضمن الوعد والوعيد، أما الخبر فالآية رحمة بالناس وبيان لمنزلة البيت وحال من يدخله حاجاً او لاجئاً او مستغيثاً، واما الإنشاء فالآية تدعو الإنسان للجوء الى البيت الحرام والإغتراف من بركاته.
وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ولم تقل ومن يدخله يكون آمناً في دلالة على ثبوت وامضاء الأمان لكل انسان دخل البيت والتجأ اليه، كما ان الآية وثيقة تحكي انتفاع الناس في الأزمنة الغابرة وقبل نزول القرآن من البيت الحرام وما فيه من الأمن وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد أسباب الأمن في البيت الحرام، فالآية كالعهد والميثاق وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية، وتبين صيغة الماضي جزء من أسرار وأسباب اختيار إبراهيم البيت الحرام لسكن زوجته هاجر وإبنه اسماعيل بعد أن ضاقت زوجته سارة بهما ذرعاً [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ( )، والآية شاهد على خلافة المسلمين للآيات الأرضية وتعاهدهم للسنن السماوية.
بحث فقهي
يعتبر هذا الشطر من الآية مدرسة فقهية وقاعدة اصولية ودليلاً تفصيلياً تقتبس منه الأحكام وتتفرع عنه المسائل الشرعية وتحمل الآية على الإطلاق، فمن أحدث ما يوجب حداً او تعزيراً أو قصاصاً، ولجأ الى الحرم يضيق عليه في المأكل والمشرب وأسباب المعاشرة حتى يخرج، وجاءت الآية بخصوص البيت الحرام، ولكن الأخبار والفتاوى وردت بشمول الحرم بمضامين الآية، وفي قول الله تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] قال الإمام الصادق عليه السلام: إذا أحدث العبد في غير الحرم جناية ثم فرّ إلى الحرم لم يسع لاحد أن يأخذه في الحرم، ولكن يمنع من السوق ولا يبايع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلم، فإنه إذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ، وإذا جنى في الحرم جناية اقيم عليه الحد في الحرم لانه لم يرع للحرم حرمة( ).
وهو الذي ذهب اليه ابن عباس وابن عمر واليه ذهب الإمام ابو حنيفة اذ قال: لا يستوفى القصاص ممن دخل الحرم، ولكن يمنع من الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج، ثم يستوفي منه القصاص، أما الإمام الشافعي فذهب الى نفس الحكم الا انه قال: فان لم يخرج الجاني حتى قتل في الحرم جاز، “وأحتج الشافعي بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر عندما قُتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل ابي سفيان بداره بمكة غيلة ان قدر عليه”( )، وخبيب بن عدي بن مالك الأوسي الذي شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أحد العشرة الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عيناً فقتل الكفار جماعة منهم، وأسروا خبيب وباعوه بمكة ثم اخرجوه من الحرم وقتلوه اذ أبى الرجوع عن الإسلام، وذكر ان خبيب قال: دعوني أصلي ركعتين، وكان أول من سنّ الركعتين عند القتل.
وفيه ان الآية جاءت مطلقة، بالإضافة الى ان القتل لم يتم، كما انه يتعلق بعمومات التعدي على المسلمين في الحرم قال تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ]( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ان الله حرم مكة، وانها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وانما أحلت لي ساعة من نهار).
وحينما أحلت مكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنعم الله عليه بفتحها ومع ما فعلته قريش بالمسلمين من الأذى والقتل والإقتتال بالإضافة الى ما تحمله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أذاهم، فان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جمع رجال قريش من غير المسلمين يوم الفتح، وقال لهم: “أذهبوا فانتم الطلقاء” أي انه أكرم مكة وحرمتها حتى في ساعة حليتها ليكون هذا الإكرام حجة على الناس جميعاً في لزوم تعاهد حرمتها وعدم التعدي فيها، واجتناب نصب الحرب عليها.
ومن الآيات في البيت الحرام ان من أنتهك فيه حرمة تأتيه العقوبة عاجلاً، ليكون عبرة وموعظة وهو من عمومات الأمن والسلامة في البيت الحرام لذا جاء الإجماع على إقامة الحد على من جنى في الحرم لأنه لم يجعل له حرمة.
وهل في الآية دعوة للتخفيف عن الجاني الذي يدخل الحرم، كما لو قتل زيد أبا عمر، وأراد الأخير القصاص فلجأ الجاني الى الحرم فتأتي هذه الآية دعوة للتخفيف عن الجاني اكراماً للبيت الحرام ولعمومات الآية، والتقرب الى الله، الجواب نعم، وهو من مصاديق الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) وتبين الآية استجابة الله لدعاء إبراهيم عليه السلام [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( )، وفيها دلالة على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبالبعثة النبوية والتشريع الإسلامي أصبحت للبيت أحكام خاصة تتعلق بإجارته لمن دخله، وعدم جواز أخذه بجنايته ما دام في الحرم، وقد وردت الآية بخصوص البيت الحرام، ولكن احكام الأمن شاملة للحرم لقوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا]( )، وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( ).
قانون الأمن
الأمن نقيض الخوف ونعمة ذات شقين الأول ظاهر، والثاني خفي، فيأتي يوم على الإنسان يدرك معه الحاجة الى نعمة الأمن، ويقر ويعترف بانه لم يكن يعلم قدر هذه النعمة، وتقصيره في الشكر لله تعالى عليها ابتداء واستدامة اذ ان الأمن نعمة انحلالية تنشطر بعدد آنات الزمان، وأمكنة وجود الإنسان، فمن يكون آمناً في بيته قد لا يكون آمناً خارجه، او العكس، وكذا بالنسبة للحضر والسفر، والليل والنهار، والسكن ومكان العمل، والقرية والبلد، والوطن وغيره من الأمصار، والصغر والكبر، والغنى والفقر، والعز والذل، والصحة والمرض، ومع الجماعة او حال الإنفراد ومع الجاه والشأن أو بدونهما، والأمن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وسعة وضيقاً، وهو حاجة للإنسان وعندما يفقدها يدرك انه ضعيف محتاج، لا يستطيع الدفع عن نفسه، وله موضوعية في كثير من اختيارات الإنسان، وورد في الحديث: “نعمتان مكفورتان الأمن والعافية”( )،وفي رواية مجهولتان بدل مكفورتين.
ومن رحمة الله تعالى بالناس ان جعل البيت آمناً وفيه منع من غلبة الخوف واستحواذه على النفوس وانتشاره في الأرض، من وجوه:
الأول: الأمن في البيت جزء من الإرادة التكوينية، فلا يتوقف على اجتماع أسبابه وشرائطه، بل هو فضل محض من عند الله.
الثاني: دعوة الناس لبذل الوسع في تحقيق الأمن في البيت الحرام.
الثالث: إدراك كل انسان بأن بمقدوره الحصول على الأمن، وانه أمر ثابت ودائم في بقعة مباركة من الأرض.
الرابع: ثبوت حقيقة متصلة في كل زمان، وهي عدم مغادرة الأمن الأرض الى يوم القيامة.
الخامس: من منافع البيت الحرام ثبوت غلبة الأمن على الخوف، فقد ينعدم الخوف في الأرض، ولكن الأمن لا ينعدم فيها، وكل بقعة وبلد من بلدان الأرض يتبادل فيه حال الأمن والخوف او يتداخلان، اما الحرم المكي فانه أمن محض، لا يطرأ عليه الخوف وحتى في أيام الجاهلية كان العرب ملتزمين بحرمته، ولا يفزعون من يلجأ اليه، ولا عبرة بالحوادث النادرة، ويعتبر البيت الحرام عنواناًً لقانون الأمن وإستدامته في الأرض وهو من مصاديق رحمة الله تعالى بالناس جميعاً خصوصاً وان الآية جاءت مطلقة من وجوه:
الأول: تشمل الآية المتحد والمتعدد من الناس، فلم ينحصر موضوع الأمن في البيت الحرام بالأشخاص بل يشمل الجماعات.
الثاني: ورود الآية بالاسم الموصول (من) وعدم تقييده بالإسلام وان كان هو المستقرأ من الجمع بين الآيات، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
الثالث: الأمن في البيت فرع وضعه للناس، فهو رحمة مزجاة للناس وجزء علة من وضعه بان يكون محلاً للسلامة وبعث السكينة في النفس، وهناك مسائل:
الأولى: وجود صلة بين خلافة الإنسان للأرض وجعل البيت آمناً وقانون الأمن، فقد أراد الله للإنسان العز في الدنيا، ومن مقدمات ومصاديق العز ان يكون الإنسان آمناً فوضع الله البيت الحرام ليكون موضعاً للأمن والسلامة.
الثانية: البيت الحرام وسيلة لحفظ جنس الإنسان، ومانع دون الفناء بالحروب، والهلاك بالإقتتال.
الثالثة: يحتاج الناس في كل زمان الأمن والأمان، ولا يمكن لهم الإستغناء عنه، فجاء وضع البيت الحرام لقضاء حاجة الناس وبعث السكينة في نفوسهم.
الرابعة: تدل الآية في مفهومها على لزوم تعاهد الناس لحفظ الأمن في البيت الحرام، والإلتفات الى موضوعيته، والأمن في البيت الحرام أعم من موضعه، فقد جعل الله البيت الحرام في مكة الا ان أنواره القدسية تشع في أركان الأرض وتدعو النفوس الى الوئام والصلاح وعدم التعدي.
بحث أخلاقي
للأمن والخوف أثر عظيم في إختيار وفعل الإنسان، وكيفية تصرفه ومعالجته للأمور، وقد يترك نفعاً ومصلحة بسبب ترجيح الأمن، للتسالم العقلي بأولويته ولزوم الإلتفات اليه، كما يحول الخوف دون تحقيق كثير من الرغائب، وتفوت على الإنسان منافع عديدة بسبب الخوف اذ يتجنب السعي للحصول عليها، لأن الخوف مانع من بلوغ الأماني وتحقيق المقاصد.
فجاءت هذه الآية لتزيح هذا المانع ولو على نحو الموجبة الجزئية، وتخبر عن طرد الخوف عن بقعة في الأرض هي البيت الحرام، وهذا الطرد جزء من بركات البيت، ومقدمة لأداء المناسك بسكينة واطمئنان وثقة بالأمن والسلام، فمتى ما شعر الإنسان بالأمن فانه يتوجه الى الله تعالى بانقطاع، فان قلت ان الخوف ايضاً يجعل الإنسان يفزع الى الله، قلت: هذا صحيح ولكن حال الأمن يبعث في النفس السكينة اثناء اداء المناسك والأمن أفضل من الخوف، بالإضافة الى كونه نعمة تأتي من عند الله ابتداء، والأمن باعث على المحبة بين الناس، وافشاء حال الود والصفاء، وهو مناسبة لتعظيم شعائر الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
والأمن وسيلة لإقبال الناس على الحج، وهو جزء من الإستطاعة، والقدرة على أداء الحج تفضل الله على الناس، اذ ان الإستطاعة لها أطراف أهمها اثنان أحدهما الأمن والثاني الزاد والراحلة، ويستطيع الإنسان ان يهيء الثاني ولكنه لا يستطيع ان يوفر لنفسه او لغيره الأول وهو الأمن، وقد يبذل المال والجهد من أجل تهيئة جزئية أو جهتية له، مما يجعله أحياناً عاجزاً عن أداء الحج، فجاء الأمن في الآية عوناً للناس على أداء الحج، وتخفيفاً عنهم.
والآية من عمومات قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( )، فان زيارة البيت الحرام مناسبة لذكر الله تعالى، وتجلب معها السكينة والأمن، والأمن في البيت الحرام بشارة للأمن يوم الفزع الأكبر، ودعوة للتدبر في عالم الآخرة والحاجة الى الأمن فيه، وجعل الله البيت الحرام مواساة للناس في الوجود الذهني والواقعي، فاذا طرأ الخوف على النفس يتبادر الى الذهن البيت الحرام، ليكون وسيلة الى ذكر الله تعالى ومناسبة للدعاء لدفع الخوف وأسبابه، وتتجلى في البيت نعمة الأمن بين الحيوانات، فيهم الكلب بالظبي خارج الحرم، فاذا دخل الظبي الحرم كف عنه الكلب ليكون عبرة وموعظة.
لتتجلى اطلاقات نعمة الأمن في البيت الحرام، وعمومات بركات البيت، وشمولها للإنسان والحيوان.
والأمن في البيت مدرسة للفضيلة في أصقاع الأرض المختلفة، فكما دحيت الأرض من تحت الكعبة، فكذا الأمن في البيت تشع أنواره وتتسع دائرته في ربوع الأرض المختلفة، وهو من مصاديق البركة والخير الذي جعله الله في البيت.
ان البيت الحرام تزكية للنفوس من دنس الجاهلية وتطهير للمجتمعات من الكدورات الظلمانية وحصانة لأهل الإيمان، وواقية من غلبة النفس الشهوية والغضبية وحاجز دون الغرور والطغيان، ونيل من التجأ الى البيت الأمن دليل على قدرة الله تعالى وسلطانه على قلوب الناس، ويتقيد المسلمون بأحكام الإسلام ومنطوق هذه الآية، ويبعث الله الرحمة والعطف في قلوب الناس ويجعلهم ينقادون لأحكام الأمن في البيت الحرام.
ان اللجوء القهري والإختياري الى البيت ابتعاد عن حضيض النفس البهيمية، وأسباب الشهوة، واستغناء عن المباح من اللذات، للإنشغال بذكر الله واستيلائه على الجوانح والجوارح، واذا ذكر البيت الحرام تتبادر الى الذهن معالم الطاعة وأسباب الأمن والسلامة.
ليكون البيت داعية الى الله، وشاخصاً مباركاً يبعث السكينة في النفوس.
علم المناسبة
ورد لفظ [آمِنًا] في القرآن ست مرات خمس منها في البيت الحرام جاءت على أقسام:
الأول: جاءت آيتان بخصوص البلد في دعاء إبراهيم [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا] ( ) والآية الأخرى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( ).
الثاني: ورود آيتين بالأمن في الحرم مطلقاً وهو أعم من مكة قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا]( )، والمراد من البلد هو مكة قال تعالى [ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ]( )، وبين البيت الحرام والكعبة عموم وخصوص مطلق فالكعبة جزء من البيت، وذات النسبة بين كل من مكة والبيت فمكة أعم من البيت، وكذا بين الحرم ومكة، اذ ان مكة جزء من الحرم، وهو أوسع وأكبر منها، وهل يحتمل ان تتسع مكة لتشمل الحرم كله، الجواب ان اتساع العمران وامتداده لأطراف الحرم أمر ممكن بل هو حاصل في هذا الزمان من جهة التنعيم بلحاظ أدنى الحل، ويشمله اسم البلد الأمين وانه جزء من مكة، وورد في خصوص قطع التلبية في عمرة التمتع ونحوه عند مشاهدة بيوت مكة، والأولى ان المراد منها ما كان قبل التوسعات الجديدة،وإن صدق عليها أنها من مكة.
الثالث: مجيء الأمن بخصوص البيت الحرام كما في منطوق هذه الآية والجمع بين الأقسام الثلاثة يعتبر ارادة الحرم في الأمن والسلامة من الآفات.
الرابع: مجيء آية تتعلق بالأمن في الآخرة قال تعالى [أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( )، وتظهر الآيات ان خمسة منها بخصوص البيت الحرام، وواحدة في عالم الآخرة.
وفيه اشارة الى الأمن يوم الحساب لمن حج البيت الحرام، وأتخذه قبلة في صلاته، وإنذار لمن يكفر بالحج، ويصد عن البيت والمناسك.
وكما جعل الله البيت الحرام “آمناً” بذاته، فانه سبحانه جعله أمناً للناس، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، مما يدل على عموم منافع البيت الحرام، وانه يبعث الأمن، ومع ورود مادة (دخل) في القرآن نحو مائة وخمس وعشرين مرة، فانه لم يرد لفظ (دخله) الا في هذه الآية، وهو توكيد لفظي لموضوعية البيت الحرام وما له من الخصوصية.
وفي الآية دعوة للناس لدخول الإسلام والتماس الأمن فيه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلما جعل الله من الأمن في البيت الحرام، وأما في الآخرة فللوعد الكريم بالجنة لأهل الإيمان، وفي الأمن والسلامة لمن يدخل البيت الحرام وجوه:
الأول: أوان دخوله البيت الحرام.
الثاني: الأمان في أشهر الحج.
الثالث: السلامة والأمن في سنة الدخول.
الرابع: الأمن من حين دخوله البيت الحرام والى يوم وفاته.
الخامس: الأمن والسلامة مدة حياته قبل دخوله وبعده، فقد أحاط الله تعالى بكل شيء علماً، وأنه سبحانه يعلم ان هذا العبد سيدخل البيت.
السادس: القدر المتيقن من الآية الأمن من الجناية وعقوبتها.
السابع: الأمن في الآخرة من أهوال المحشر، وعذاب النار.
الثامن: السلامة من فتن الحياة الدنيا والنجاة من عذاب البرزخ، والأمن من الفزع يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والآية تنبسط عليها جميعاً ولكن انتفاع الناس من الآية على مراتب متفاوتة، فمنهم من ينال الأمن بخصوص جنايته، ومنهم من يحرزه في سنته، ومنهم من يفوز بالمعنى الأعم منه كما في الوجه الثامن أعلاه والله واسع كريم.
قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ]
يأتي الحج بمعنى كثرة الذهاب والإياب، والإختلاف الى الشيء، يقال حجوا الى العالم أي أكثروا الإختلاف اليه.
والحج في الإصطلاح زيارة البيت الحرام في وقت مخصوص لأداء الحج ومناسكه، اما اذا كانت الزيارة في غير الحج فهي عمرة، ومن الآيات ان يكون المتعارف والشائع بين الناس من معنى لفظ الحج هو قصد وزيارة بيت الله الحرام في أيام الحج المباركة، فمع انه من المنقول، والمتبادر الى الذهن من اللفظ هو المعنى الحقيقي، فان المتبادر هنا هو أداء الحج، فريضة أو ندباً، وهو شاهد على موضوعية المعاني الشرعية في اللغة والعرف، وغلبتها في الإستعمال.
جاءت الآية السابقة بالإخبار عن وضع البيت للناس فضلاً من عند الله، ثم جاءت هذه الآية بفرض الحج على الناس في دلالة على النسبة بين الفضل الإلهي ووجوب الشكر من العباد، وإن كان هذا الشكر فضلاً اضافياً وباباً للأجر والثواب، مع التباين من وجوه:
الأول: وضع البيت للناس مطلقاً.
الثاني: جاء الوضع من غير تقييد بصفة او حال او انتماء لأن رحمة الله تتغشى الناس جميعاً، والألف واللام فيه للجنس والإستغراق.
الثالث: جاء الوضع للناس على نحو الإطلاق الجهتي والزماني من غير تقييد بجهة معينة، او بوقت محدد دون غيره، بينما جاء الواجب بخصوص أداء الحج مرة في العمر.
الرابع: تقييد الحج بالإستطاعة، والمعلوم ان ليس كل انسان يكون مستطيعاً وفي مقدوره أداء الحج، مما يعني ان الوضع أعم من التكليف بالحج لأن وضع البيت لمن يستطيع الحج ومن لا يستطيعه ولما هو أعم من الحج.
الخامس: قبول الحج مشروط بالإسلام، اما وضع البيت فلم يشترط فيه الإسلام، بل جاء للناس كافة، وهل يعني هذا ان لفظ الناس الوارد في الآية لا يفيد الإستغراق والعموم، وأنه مقيد ويتعلق موضوع الآية بالمسلمين الجواب لا، لأن الخطاب التكليفي بالحج عام يشمل الناس جميعاً من غير استثناء، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم نعمة الأداء والقبول لإشتراطها بالإسلام، وهذا الشطر من القرآن آية اعجازية لما يتضمنه من فرض حجة الإسلام على الناس والمتبادر الى الذهن ان يقيد الفرض بالإسلام، ولكن الآية قيدته بالإستطاعة والمقدرة، وهذا القيد آية أخرى تدل على فضل الله تعالى على الناس والتخفيف عنهم في الأحكام التكليفية، ومع ان الصلاة عمود الدين وهي واجب تعبدي عيني مطلق على كل مسلم من غير تقييد بالقدرة والإستطاعة، فانها لم تأتِ بنسبتها الى الله في التكليف كما في الحج وقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ].
وجاء في فرض الصيام مثلاً [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] أي ان خطاب الصيام خاص بالمسلمين، وورد لفظ الناس في القرآن مائتين وإحدى وأربعين مرة، ولم يرد قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ] إلا في هذه الآية الكريمة، وفيه مسائل:
الأولى: موضوعية الحج في العبادات والحياة العامة للناس.
الثانية: الحج عنوان للشكر والثناء على الله لتفضله بنعمة البيت.
الثالثة: الملازمة بين الأمن في البيت وأداء الحج.
الرابعة: الحج آية من آيات البيت الحرام، والتي ذكرت في اول هذه الآية [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ].
الخامسة: الحج تكليف، وجاءت الآية للإخبار عن فرضه، فالله إمتحن الناس بالبيت وحجه.
السادسة: من الإرادة التكوينية ان يقوم الناس بحج بيت الله، لذا تفضل سبحانه فوضع لهم البيت، وأمرهم بالحج، وأخبر عن وجوبه في القرآن، فهذه الآية تشريف للإنسان.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، ولكنها تتضمن في دلالتها الأمر بالحج وفيه وجوه:
الأول: الآية انحلالية، فكل انسان يجب عليه ان يحج البيت الحرام.
الثاني: الخطاب بالحج عام يشمل الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والقريب من البيت والبعيد عنه.
الثالث: الخطاب التكليفي خاص بالمسلمين.
الرابع: يتوجه الخطاب الإلهي بالحج الى كل مكلف.
والصحيح هو الأخير، فالخطاب عام يشمل المسلمين وغيرهم بشرط التكليف، كما يشمل الرجال والنساء بعرض واحد، والمشهور شهرة عظيمة عند الأصوليين هو تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول وهو المختار، وأحتج بعض القائلين به بهذه الآية، فالحج ليس خاصاً بالمسلمين بل أراده الله من الناس جميعاً مثلما جعل البيت لهم جميعاً، ولكن لو جاء الكافر بالحج لا يقبل منه، فان قلت كيف يفرض عليه الحج ولا يقبل منه، فاما ان لا يفرض عليه أصلاً، وأما ان يفرض عليه ويقبل منه، والجواب انه لا ملازمة بين الفرض والقبول، فالفرض بلحاظ الواجب التكليفي، اما القبول فهو متعلق بالعمل والنية والقصد، والصبغة فلابد من الإسلام والإنقياد لأمر الله كشرط لصحة الفعل العبادي وقبوله، وتبين الآية ان الأصل هو الإسلام، وانه دين الفطرة ومن يولي ويدبر يتحمل أوزار إدباره، وفرض الحج على الناس نعمة، فالكافر يحرم نفسه من النعمة، وفي الآية بلحاظ الإتحاد والتعدد وجوه:
الأول: كل مسلم يجب عليه الحج.
الثاني: الحج لمرة واحدة في العمر.
الثالث: يؤدي المكلف الحج كلما تجددت الإستطاعة.
الرابع: الحج مرة واحدة في العمر مع الإستطاعة.
والصحيح هو الأخير وعليه النص والإجماع، وروي ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس، فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم الحج، فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعاد الرجل ثانية، فأعرض عنه، ثم عاد ثالثة، فقال عليه الصلاة والسلام: ما يؤمنك أن أقول نعم، فتجب، فلا تقومون بها فتكفرون ؟ أي تدفعون وجوبها لثقلها فتكفرون( ).
وفي الحديث بيان لرحمة الله في فرض الحج وجعله لمرة واحدة في العمر، أي ان فضله تعالى مركب من أمور:
الأول: فرض الحج لينال العبد الثواب والأجر الجزيل.
الثاني: التخفيف بجعل الحج مرة واحدة في العمر على المسلمين، وتيسير الإمتثال للأوامر الإلهية، ومنع التشديد على المسلمين.
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام، وعدم نفرتهم مما فيه من التكاليف، ومن الآيات ان سمًت العرب الشهر الذي فيه الحج بأنه شهر ذي الحجة والجمع ذوات الحجة، كما تسمى السنة بكاملها الحجة، وورد في التنزيل في شعيب وموسى عليهما السلام [عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ] أي ثمان سنين.
وقال الرازي “احتج العلماء بهذا الخبر على ان الأمر لا يفيد التكرار من وجهين:
الأول: ان الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار.
الثاني: ان الصحابة استفهموا انه هل يوجب التكرار ام لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا الى الإستفهام مع كونهم عالمين باللغة”( ).
أما الأول فانه معارض بالفرائض التي تفيد التكرار كالصلاة، واما الثاني فقوله: ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما أحتاجوا الى الإستفهام فيمكن ان يقال بخلافه وهو لو لم تحتمل الصيغة الإشتراك بين الحج مرة واحدة، والتكرار في الحج لما استفهموا، كما ان جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما تضمنه من البيان يدل في مفهومه على قبول السؤال والرد وان الإشتراك بين المرة والتكرار أمر يحتمله منطوق الآية.
ويدل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو قلت نعم لوجبت، على إمضاء الإطلاق او التقييد، وبيان التعدد او الإتحاد في الفعل بالسنة النبوية الشريفة، والسنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع، وهي تفسير قولي وعملي للقرآن وتدل على إرادة الحج مرة واحدة.
والآية مطلقة تتضمن الإعجاز في المقام بعدم حصر الحج بالمرة الواحدة لذا شرع الحج المستحب، وندب اليه الشارع ووردت الأخبار والنصوص باستحبابه، وهو من الشواهد على إمكان التعدد في الحج مع التباين بين الواجب في المرة الأولى والمستحب في غيرها، ويختلف الحج في هذه المسألة ايضاً عن غيره من الفرائض والعبادات.
فالصلاة اليومية الواحدة لا تعاد مع اتساع وقتها، أي لو صلى الظهر فلا تعاد الصلاة ما دامت صحيحة، لأنه تحصيل لما هو حاصل، ولفراغ الذمة بأداء الصلاة مرة واحدة، اما بالنسبة للحج، فان الفريضة مرة واحدة، ولكن عندما يأتي موسم الحج الآخر فان الحج مستحب، كما أنه يختلف عن فريضة الصيام فمع ان وجوب الصيام في أيام معدودات هي مدة شهر رمضان، فان الأيام الأخرى من السنة يستحب فيها الصيام الا ما جاء الدليل بالنهي عنه كأيام العيدين والتشريق، اذ تتكرر فريضة الصيام كل سنة، أما الحج فانه يحل على الناس كل سنة، الا ان يكون فرضاً على المستطيع ممن لم يؤد الحج، ونافلة للذي سبق ان أداه.
وجاءت الآية بالتكليف العام للناس، ولكن الذي يؤدي هم المسلمون دون غيرهم، وفيه مسائل:
الأولى: استحقاق المسلمين لوصف واسم الناس.
الثانية: صدق أداء الناس للحج عند قيام المسلمين به، وفيه وجهان:
الأول: إجزاء أداء المسلمين عن الناس جميعاً.
الثاني: أداء المسلمين لا يسقط الواجب عمن لم يؤد الحج، والصحيح هو الثاني، لذا جاءت خاتمة الآية بذم الكافرين.
الثالثة: أداء المسلمين للحج حجة في استحقاقهم النعيم الأخروي، فاذا قال أهل النار لم دخل المسلمون الجنة، فالجواب هو تعاهدهم للحج، ومحافظتهم على مناسكه.
وبدأ هذا الشطر من الآية بقوله تعالى [ولله] فلم تقل الآية “وعلى الناس حج البيت” والذي ينصرف الى الحكم التكليفي، بل جاءت الآية بأمرين:
الأول: ان الحج حق لله على العباد.
الثاني: ابتداؤها باسم الله تعالى، وفيه دلالة على التوكيد على الحج، وانه فرض يؤدى لله ، ويمكن استقراء مسائل منه هي:
الأولى: الحج عنوان التوحيد، وشاهد على الإقرار بالعبودية لله وترك الشرك والضلالة.
الثانية: الرياء لا يضر بالحج، الذي هو فعل عبادي خالص لله ، فان قلت: مراءاة الآخرين أمر ممكن، وهو مخل بالعبادة التي يشترط في صحتها قصد القربة، قلت: في الآية اخبار عن كون الحج لله مما يعني ان الرياء أمر عرضي لا موضوعية له فيه، وهو أمر يتجلى بالعناء والمشقة التي يتحملها الحاج سواء في قطع المسافة او ترك الأهل والأحبة والدعة وتحمل وعثاء السفر، ومخاطر الطريق او بما ينفقه من ماله، او ما يبذله من جهد، بالإضافة الى تقيده بأحكام الحج وبذله الجهد والوسع في أداء المناسك.
الثالثة: ورد قوله تعالى [لِلَّهِ] في عدة مواضع من القرآن تبين ملكيته المطلقة للمخلوقات نحو [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وخضوع وخشوع جميع الخلائق والكائنات له، نحو [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، ولم يرد لفظ [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ] في القرآن إلا في هذه الآية وفي موضوع الحج، مما يدل على إطلاق حكم الفريضة، ولعل فيه اشارة الى دحو وانبساط الأرض من تحت الكعبة، فكل إنسان وفي كل بقعة في العالم يتوجه اليه الخطاب بالحج الى بكة.
الرابعة: تدل الآية على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بالسيف والعنف، بل جاء بالأحكام الشرعية التي تهذب النفوس وتنقح المجتمعات، وتبعث مفاهيم المودة والمحبة بين الناس، ومن قيود أداء مناسك الحج اجتناب الفاحش من اللفظ، بالإستقامة في القول والفعل، والخروج عن الطاعة، والمجادلة والمنازعة والخصومة قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
وترك القبيح والحذر منه مدة أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة و ذوالحجة وسيلة لتنمية ملكة الصلاح في النفس، والتوقي في اللسان والفعل، فالحج من أهم أسباب الصلاح بين الأمم ولم ترد كلمة (جدال) الا في هذه الآية، وبصيغة النهي والزجر، وفيه بيان لمنافع الحج الأخلاقية كونه سبيلاً للتهذيب والإرتقاء في المعارف، ومدرسة جامعة في الإنفاق في سبيل الله، ومناسبة سنوية متكررة للجهاد في سبيل الله بتحمل العناء والمشقة قربة الى الله تعالى وامتثالاً لأوامره، وطلباً لرضاه سبحانه.
لقد جعل الله البيت خيراً محضاً، ورحمة للناس، وهل هو نعمة ورحمة لأهل الأرض وسكان القبور بلحاظ انه صرح سماوي في الأرض، أم انه رحمة لحجاجه وزائريه والناس الذين على سطح الأرض دون الذين في داخلها، الجواب هو الأول، من وجوه:
الوجه الأول: البيت الحرام رحمة لمن زاره وطاف حوله وتوجه اليه في صلاته في الدنيا وألآخرة، وهو شاهد على ان النعم الإلهية التي في الدنيا تنفع العبد في الدنيا والآخرة، وفيه حث على الإنتفاع من النعم الدنيوية، واستثمارها وعدم تضييعها، لذا فان فرض الحج على الناس فضل الهي للإنتفاع من نعمة البيت في الدنيا وفي عالم القبر ويوم القيامة، وليكون الطواف بالبيت الحرام الذي ورد في قوله تعالى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ]( )، مقدمة وسبباً لنيل الجزاء في الآخرة بطواف الغلمان المخلدين، والطواف عليهم بكأس من معين( ).
الأمر الثالث: منزلة البيت بين المخلوقات والآيات الكونية، فالأرض آية من عند الله والبيت آية أخرى قائمة بذاتها.
الرابع: دعوة الناس لإتخاذ البيت ملاذاً ووسيلة لنيل البركة والخير.
الخامس: تعدد وجوه البركة والفيض الإلهي التي تستقبل الإنسان في حياته الدنيا، وتصاحبه منافعها في الآخرة.
الوجه الثاني: تترشح البركة والخير في الدنيا على عالم الآخرة، إذ أن الدنيا مزرعة الآخرة، فاذا كانت المزرعة والحرث فيها مبارك، فهذه البركة تتجلى في عالم الحساب والجزاء.
الثالث: ان الله اذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وان البركة التي في البيت نعمة متصلة الى يوم القيامة، وارادها الله ان تكون وسيلة لنجاة الإنسان من الفزع والخوف، والفزع في الاخرة أشد مما في الدنيا، لذا جعل الله البيت الحرام ليتزود الناس بأسباب الأمن والوقاية من فزع يوم القيامة.
وهناك مسألتان في دلالات صيغة الآية الكريمة:
الأولى: لم تقل الآية يا ايها الناس عليك لله حج البيت، بل قالت لله على الناس وفيه وجوه:
الأول: إنصراف لفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] للأجيال المعاصرة للقرآن والتي تأتي فيما بعد، بينما حكم الحج عام وشامل للأجيال السابقة.
الثاني: جاءت الآية بصيغة الخبر وليس الإنشاء، وتفيد الإمضاء والثبوت.
الثالث: في لغة الخطاب شائبة الإمتثال، فيأمر الله عز وجل العباد وعليهم ان يمتثلوا للحكم، اما لغة الآية فجاءت بالقطع والحكم وإرادة الأداء من منازل العبودية والرق.
الرابع: إفادة حقيقة وهي ان الحج حق خالص لله تعالى ليس للعباد فيه شأن، ولا يجوز ان يحج بيت غير بيته الى يوم القيامة.
الثانية: لم تقل الآية “ولله على بني آدم حج البيت” بل جاءت بلفظ الناس وفيه مسائل:
الأولى: النسبة بين الناس وبني آدم عموم وخصوص مطلق، فكل بني آدم هم من الناس، وليس الناس كلهم بني آدم، لخروج آدم وحواء من لفظ بني آدم.
الثانية: جاءت الآية بالتوكيد على شمول الأجيال السابقة من الناس، وشموله لآدم وحواء وعلى نحو الوجوب، وليس الإستحباب.
الثالثة: جاء في فرض الصيام قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )، فجاءت الآية بالخطاب الى المسلمين كافة بصفة النطق بالشهادتين والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الإشارة الى فرض الصيام على الأمم السابقة.
لذا جاء في بعض الأخبار انه فرض عن الأنبياء، ويمكن ان يكون في الآية تقدير وهو “كما كتب على الذين من قبلكم من المؤمنين”.
أما آية فرض الحج فجاء نصاً شاملاً للناس جميعاً خالياً من الإجمال والترديد في التأويل.
قاعدة جديدة
من الآيات حصول النسخ في الشرائع، ومجيء العبادة في شريعة ثم إتمامها في الكيفية والإجزاء في شريعة أخرى، ويبدو ان هذا النسخ لا يتغشى كل العبادات، فمن العبادات ما لا يطرأ عليه النسخ ابداً وهو الحج من وجوه:
الأول: وجوبه على الناس جميعاً.
الثاني: إتحاد المناسك، وتشابهها في كل زمان، فما أداه أبونا آدم عليه السلام ثم ابراهيم عليه السلام والأنبياء الآخرون أداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصى أمته بان تؤديه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم “خذو عني مناسككم”.
فالحج شاهد بان النسخ لا يصل الى كل مناسك وأحكام الشريعة السابقة بل هناك أبواب تبقى على حالها وثبوتها في اللوح المحفوظ، وفي لفظ ” وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ” ترغيب بالحج وزجر عن التفريط فيه، ودعوة للحكام لتهيئة أسباب أداء جميع الحجاج لمناسكهم.
قانون الحج
اقترن الحج بالحياة الدنيا، ولازم الإنسان منذ أول خلقه، وقام آدم ببناء البيت ووضع الخيمة في موضعه بأمر من الله ، وتوجيه واشراف وهندسة ومشاركة من جبرئيل، وذات الأمر حصل مع إبراهيم مع تباين جهتي، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الاول: قام كل من آدم وإبراهيم عليهما السلام ببناء البيت.
الثاني: تم البناء بأمر من الله .
الثالث: إشترك جبرئيل عليه السلام ببناء البيت توجيهاً وإشرافاً وهندسة.
الرابع: كل من آدم وإبراهيم قدوة وأسوة للناس بأداء الحج.
اما وجوه الإفتراق فهي:
الأول: ان آدم عليه السلام أول من بنى البيت، اما إبراهيم فقد جاءت الآيات بالإخبار عن رفعه لقواعد البيت.
الثاني: شاركت مع آدم زوجته حواء، اما إبراهيم فقد اشترك معه ابنه اسماعيل، ويمكن استقراء مسائل في المقام وهي:
الأولى: سقوط وجوب العمل خارج البيت عن المرأة في حال كفاية الرجال بالأمر، وقيامها به على نحو التعضيد والمساهمة في حال تعذر قيام الرجال به أو غيابهم، او عدم الكفاية في إنجازه، او للأجر والثواب مع عدم وجود مانع شرعي كما هو الحال في مشاركة حواء في بناء البيت.
الثانية: مشاركة حواء في بناء البيت، دعوة للنساء جميعاً بتعظيم شعائر الله، والمساهمة في بناء صرح الإسلام.
الثالثة: المكانة الخاصة لحواء في الحياة الإنسانية وانها لم تكن أماً فقط، بل كانت إماماً في الخيرات.
الرابعة: أثر سكن حواء في الجنة بزيادة إيمانها، ومشاركتها لآدم فيما أمره الله به من الواجبات.
الخامسة: ان المرأة هي أول من صدق بالنبوة، وفيه اكرام لها وحث للنساء على التصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بالفرائض والواجبات، ومن الآيات في المقام أن خديجة رضي الله عنها أول من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الى الله عندما اخبرها بنزول الوحي عليه.
الثالث: ذكر القرآن بناء إبراهيم للبيت بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ] ( )، أما بناء آدم للبيت ونصب الخيمة في موضعه فلم يذكر تأريخه، وهو مستقرأ من مفهوم هذه الآية التي تخبر عن رفع القواعد دون الإشارة الى أسس البناء بالإضافة الى الأخبار الواردة عن قيام آدم ببناء البيت، وعمومات الآية السابقة التي تخبر بأن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.
لقد إستعبد الله الناس بالبيت الحرام، وجعل الحج عنواناً لإستجابتهم لأمره، ولم ينحصر الموضع بالبيت، بل وضع الله مناسك الحج لتكون محشراً مصغراً، وشاهداً على يوم القيامة، وأماناً من الفزع والخوف فيه.
وما طواف الملائكة بالبيت قبل خلق آدم الا مقدمة للحج، وتعاهداً للطواف واعماراً للبيت حتى هبط آدم عليه السلام الأرض، فتولى وذريته مسؤولية عمارة البيت إذ أنها جزء من وظائف الخلافة، فلابد للخليفة من المجيء الى بيت الله وأداء الحج، واظهار الخشوع والخضوع الذين يتجليان بالتلبيات الأربعة ولبس ثوبي الإحرام والإنقطاع الى الله تعالى.
ويبدأ الإنقياد والإمتثال لأوامر الله من الإستعداد لأداء الحج وتهيئة مقدماته، ونية مفارقة الأهل والأحبة والوطن والمال، والتوجه في رحلة شاقة بشوق ورغبة ولهفة، ليحاكي المسلم الأنبياء في عمارة البيت ومناسكه، وتوارث الأنبياء حج البيت وتعاهدوا وأصحابهم الفريضة التي كتبها الله على الناس، وجعلها ملازمة لهم في الحياة الدنيا، وهو شاهد على ارتقاء الإنسان في المعارف الإلهية، ومناسبة لعروج الروح في طرق السماوات، وجاءت هذه الآية لتثبت قانون الحج في الأرض، من وجوه:
الأول: النص الصريح بفرض الحج.
الثاني: عموم الحكم وشموله للناس جميعاً.
الثالث: تجدد الحكم في كل زمان.
الرابع: مجيء السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية بأداء الحج ولزوم تعاهده.
الخامس: المنافع الشخصية والنوعية للحج، وادراك فوائده العظيمة في الآخرة كونه حرزاً وواقية من عذاب النار.
وقانون الحج رحمة دائمة في الأرض تقود من يمتثل بأحكامه ومناسكه الى الجنة، لذا جاءت الآية بصفة الناس، وان التكليف بالحج عام وشامل لبيان واسع رحمته تعالى، وان الله يدعو الناس جميعاً الى الجنة بأداء الحج، ولكن الكافرين حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة، وهذا الحجب لم يؤثر على قانون الحج واستدامته، لتعاهد المسلمين له، وفيه نكتة وهي ان الله اذا فرض حكماً وتكليفاً فلابد من وجود أمة تعمل به الى يوم القيامة.
وقيل: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن الله كتب عليكم الحج ، فقام عكاشة بن محصن ، وقيل : سراقة بن مالك ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني كما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي أمامة الباهلي( ).
بحث كلامي
وردت مادة الحج اثنتي عشرة مرة في القرآن، وكلها في موضوع وأحكام حج البيت الحرام، وهو آية في الإعجاز الكلامي واللغوي في القرآن، تبين موضوعية الحج في الحياة العامة، وانتقال اللفظ من معناه الحقيقي الذي وضع له، الى المعنى العقائدي بحيث يتبادر الى الذهن حج البيت عند سماع مادة الحج وهو فرع قاعدة ثابتة في تأريخ الإسلام والإنسانية وهي عدم وجود حج الا للبيت الحرام، وهذه القاعدة وانحصار لفظ الحج بالبيت الحرام فرع وضع البيت الحرام للناس.
فالقاعدة التكوينية في جعله أول بيت وضع للناس متقدمة في المقام على وضع الإلفاظ للمعاني، فلأن وضع البيت سابق لخلق الإنسان فان لفظ الحج ينصرف اليه، بما يتجاوز قواعد الحقيقة والمجاز، ويكون مرآة لتقدم وضعه ولزوم التقيد بأحكام حجه، ويكشف هذا المعنى جانباً من الأسرار القدسية لوضع البيت للناس.
وفي خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، ليكون الهلال والزيادة فيه حتى يكون بدراً ثم أخذه بالنقيصة عوناً للناس على التهيء للحج وإعداد مقدماته وأدائه في أوانه من غير اختلاف او تباين، فلا يحج أهل مكة بيوم واهل المغرب بيوم، وأهل المشرق بآخر، بل يؤدون الحج جميعاً في يوم واحد تساعدهم على ضبطه وتعيينه السماء والكواكب في دليل على الأهمية الكونية لأداء فريضة الحج اذ جعلت بعرض واحد مع مجموع المصالح وما يحتاج الناس فيه الأهلة في المعاملات ومنها العقود والديون والآجال.
ومن الآيات التي تدل على وضع البيت للناس ما ورد في النداء بالحج بين الناس، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ]( )، وفيه دلالة على تفضل الله بهداية الناس للحج، بمجرد صدور النداء والدعوة الى النبي، وهذه الدعوة ايضاً أمر منه تعالى بالواسطة، لتكون عوناً لهم على أداء الفريضة، والإمتثال لأمر الله تعالى في أداء الحج، فالله حينما فرض الحج أصلح النفوس للإستجابة وأداء الفريضة، ومن الآيات ان الذي يأتي الى الحج لا يلبث ان يشتاق اليه حين حلول الموسم، ورؤية وفد الحاج يتهيئون للسفر وقطع المسافة للأداء.
وقد جاءت الآية بصيغة (حج) بالإضافة الى البيت لتكون هذه الإضافة عنواناً لتعيين الفريضة، والمنع من الترديد، وهذا التعيين لم يأتِ مستقلاً بل يكون بإستحضار هذه الآية والآية السابقة وما فيها من قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ].
ويتجلى التفسير العملي الواقعي المتواتر والمتوارث للآية بحج البيت، وإنصراف اللفظ اليه على نحو الحصر، وجاءت بذكر فريضة الحج كما في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر]( )، من غير دلالة لفظية صريحة عن موضع البيت وأنه ببكة أو انه اول بيت وضع للناس، بل جاءت بذكر الحج فقط لتخبر عن التبادر النوعي العام عند الناس بان الحج لا يكون الا للبيت الحرام.
وفي لفظ (يأتوك) إشارة الى الملازمة والتداخل بين النبوة والفريضة، وان المجيء للبيت يعني الهداية والإيمان والرجوع الى النبي خصوصاً وان حج البيت مصاحب للإنسان طيلة أيام الحياة الدنيا، فاداء الحج ليس فقط مناسك بل هو مدرسة عقائدية وعبادية.
وتبين الآيات شمول معاني الحج للزمان والمكان، من وجوه:
الأول: تؤكد الآية محل البحث موضوعية المكان في أداء الحج بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، فلا يصدق لفظ الحج الا بقطع المسافة إلى البيت الحرام.
الثاني: تحديد أوان الحج على نحو إجمالي كما في قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( )، مع مجيء السنة النبوية بتعيين أيامه على نحو الحصر وعدم الترديد، والإجمال هنا للإخبار عن لزوم إعداد مقدمات الحج والتهيء له، وتغشي الثواب والأجر للسعي فيها وقطع المسافة ونحوه.
الثالث: الفصل بين الحج والعمرة، وبيان التعدد في العبادة، وأن كل واحد منهما طاعة مخصوصة، وهو شاهد على قدسية وأهمية البيت، وعدم تعطيل مناسكه ساعة من نهار او ليل قال تعالى [فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ]( ).
ولم يرد الحج الا بخصوص البيت الحرام، وكذا العمرة فانها خاصة به، وهو عنوان تشريف وتفضيل اضافي للبيت الحرام، بالإضافة الى استقباله في كل صلاة من المسلمين المنتشرين في أصقاع الأرض، وهل على الناس أداء الحج وحده من بين الفرائض الأخرى، الجواب لا، لورود الأدلة القطعية وحصول اليقين بأداء الصلاة والصيام والزكاة، وكل واحد منها من ضرورات الدين، ولكن هذه الآية جاءت بخصوص الحج وانه حق لله على الناس، واثبات أمر مخصوص لا يدل على عدم ثبوت غيره، وهل من صلة بين نفخ الروح في آدم وبين جعل الحج واجباً على الناس الأرجح نعم، من وجوه:
الأول: بقاء الإنسان منجذباً الى المعبود بأداء مناسك الحج.
الثاني: اظهار العبد الشكر لله تعالى بحج البيت الحرام.
الثالث: انقياد العباد لطاعة الله وامتثالهم لأوامره إذ أن نفخ الروح في الإنسان وسيلة لإصلاحه وهدايته للعبادة.
وليس هناك ما ينفي موضوعية نفي الروح في الإنسان في وجوب الحج بلحاظ انه شكر لله تعالى على نعمة الخلق، وتجديد جماعي عام لمصاديق العبودية والخضوع لله، فمما يتصف به الحج انه وفود جماعي عظيم في أوان مخصوص للبيت المعلوم، فهو يختلف عن الصلاة اليومية انها تؤدى فرادى وجماعات ويجزي في الجماعة شخصان، أحدهما الإمام والآخر المأموم، بينما يأتي الناس للحج أفواجاً وكلهم بعرض واحد ليس بينهم تباين في التكاليف، فالكل ملزم بأداء ذات المناسك ويشترك بأدائها جنباً الى جنب الحاكم والمحكوم، والسيد والعبد والرجل والمرأة، والغني والفقير الذي يستطيع الحج بالسعي والكسب او على نفقة غيره، فيمر الغني وصاحب الشأن في موكبه وحاشيته وحفدته في الطريق الى مكة على الفقير الذي يسير على قدميه، ليلتقيان معاً في ذات المناسك واللباس يجمعهما شعار لبيك اللهم لبيك، في آية دنيوية وصورة لجانب من عالم الآخرة.
وترى بعض الناس يشعر بالفخر والعز وهو يرى ويلتقي مع سادة قومهم ما كان يراهم بغير هذا الموضع المبارك، فقد يقف على باب الملك والرئيس والوزير أياماً دون التمكن من لقائه، بينما يراه معه مجرداً من وجاهة الدنيا من غير ان يكون فيه نقص على الملك ونحوه ان صار بعرض واحد في أداء المناسك مع صاحب المهنة البسيطة، بل يزداد عزاً وفخراً ويكون أداؤه الحج عنواناً للهيبة الإضافية لأنه اظهار للخضوع والخشوع لله تعالى، ومن أظهر الخشوع لله زاده عزاً ووقاراً، لقد اراد الله للناس ان يحضروا موسم الحج ولابد فيه من عبر ودلالات منها:
الأولى: الإظهار النوعي العام لمصاديق الطاعة لله تعالى، والإمتثال لأوامره سبحانه، فقد لا يعلم شخص بصلاة غيره، ولا يعرف اهل مصر مدى عبادة غيرهم من أهل الأمصار الأخرى، ولا كيفية قراءتهم وتلاوتهم فجاء الحج ليبين طاعة الناس لله تعالى، ويعلم كل من ساكن الحضر والريف بحال صاحبه، من الإيمان والصلاح.
الثانية: في الحج والإشتراك بأداء المناسك وسيلة مباركة لزيادة الإيمان، فمتى ما رأى العبد الناس مقبلين على الطاعة وأداء المناسك فانه يحرص على الإنقطاع الى الله تعالى.
علم المناسبة
الحج عبادة مستقلة قائمة بذاتها، ولها خصوصيتها وأحكامها من بين العبادات كما أنها طريق كريم لتيسير أداء الفرائض الأخرى والتقيد بأحكامها، وهذا من مصاديق وصف البيت الحرام في هذه الآية (مباركاً) ومن بركات البيت ان يكون عوناً على أداء الفرائض وفرصة لتعارف المسلمين، وتعلمهم الأحكام الشرعية والتفقه في الدين، والإجتماع في أيام معدودات لمعرفة أحوال بعضهم بعضاً، واقتباس العلم والتزود بالمعرفة والعزم على الثبات على الإيمان فبالحج يدرك المسلمون ان طريق الإيمان ليس موحشاً، وانهم أمة عظيمة.
وورد لفظ ذكر لفظ (الحج) بفتح الحاء في القرآن عشر مرات سبع منها في سورة البقرة وحدها، وواحدة في سورة آل عمران، التوبة، الحج، ومع ان سورة المائدة آخر سور القرآن نزولاً وتتضمن أحكاماً تشريعية لم يرد فيها ذكر للحج مما يدل على تمام بيان أحكام الحج في القرآن قبل سورة المائدة وهو دليل على أهمية الحج وضبط أحكامه، وتقيد المسلمين به وتفقههم فيه، بالإضافة الى بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحكام الحج في حجة الوداع، ولم يرد فرض الحج بمثل ما يتجلى في هذه الآية فمع بيان أحكامها اختصت بتشريع وجوب الحج، ووردت فيها الفاظ لم ترد في القرآن الا بها وهي:
الأول: لله على الناس.
الثاني: حج البيت.
الثالث: من أستطاع اليه سبيلاً.
وبعد فرض الحج جاء قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ]( )، لتوكيد وجوب أداء مناسك الحج كاملة وعدم الإخلال بها او تبعيضها، وفيه اخبار بان الحج لله وهو الذي يثيب عليه.
كما بينت الآيات اوان الحج على نحو الإجمال قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( )، وجاء على نحو الدقة والبيان ذكر يوم الحج [وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ]( )، وبينت وجوب الإفاضة من عرفات الى المشعر الحرام، ووضعت السنة النبوية القولية والعقلية، والقواعد والأحكام الشرعية الدقيقة للحج بما يمنع من اللبس فثبتت والى يوم القيامة أوان الوقوف في عرفة وهو يوم التاسع من شهر ذي الحجة، وأخبرت عن ان يوم الحج الأكبر هو العاشر من ذي الحجة.
لتبين الآيات مجتمعة ان حج البيت أعم من أن ينحصر بمنسك واحد، وانه يشمل الوقوف بعرفة مع انه خارج الحرم (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحج عرفة).
لذا فان ترك العبد الوقوف بعرفات حتى المسمى القليل والإضطراري منه عن قصد وعمد بطل حجه فسمي الحج باسم البيت الحرام لكونه وفوداً للبيت وان المناسك تؤدي في البيت وحوله،ومنها السعي بين الصفا والمروة.
بحث كلامي
لما جاءت الآيات القرآنية بتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الى البيت الحرام واتخاذه قبلة في صلاتهم وانكار اليهود للنسخ، وانكار تغيير القبلة من بيت المقدس الى مكة فجاءت هذه الآية لتخبر عن أمرين:
الأول: ملازمة الصلاة للإنسان في وجوده في الأرض.
الثاني: وجود قبلة يتوجه لها الأنبياء والناس جميعاً منذ أيام آدم عليه السلام، وأنها موجودة قبل وجود الإنسان ولو كانت القبلة بيت المقدس الذي بناه سليمان لطرحت شبهة وهي هل كان الأنبياء السابقون وأتباعهم يصلون الى جهة مخصوصة واذا لم تثبت تلك الجهة فقد يدعون عدم التمسك بها، كما في مسألة لحم الجزور وإدعائهم حرمته مع أنه مسألة شخصية تتعلق بالنبي يعقوب عليه السلام.
فجاءت هذه الآية لتؤكد ان القبلة قديمة قدم الإنسان، وتكون رداً استباقياً ضد الشبهات، ودفاعاً عن البيت ببيان موضوعيته في الحياة الإنسانية ووجوه العبادة، وفي وضع البيت بهذا الخصوص أمور:
الأول: فرض الصلاة على الإنسان قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ]( ).
الثاني: اقتران القبلة بفرض الصلاة، فهي شرط مصاحب لها وللوجود الإنساني، كي يعرف الإنسان قبلته وتكون مصداقاً من مصاديق الصراط المستقيم وعنواناً للسعي نحو دار الخلد.
الثالث: جاء تعيين القبلة بأمر من عند الله، وهذا الأمر مركب من وجوه:
الأول: وضع البيت الحرام.
الثاني: تعيين موضع البيت وإرشادهم اليه، ومن وجوه الإرشاد فرض أداء الحج ليكون هذا الفرض وسيلة عبادية لتثبيت جهة القبلة، وتعاهداً للصلاة، ودعوة لحفظ وحدة المسلمين في جميع انحاء الأرض وفي كل زمان من خلال أمرين:
الأول: أداء الحج وتوجه وفد الحاج من كل مصر من أقطار الأرض الى البيت الحرام.
الثاني: التوجه الى البيت الحرام في الصلاة اليومية، ليكون عمل المسلمين متحداً ومشابهاً لعمل من سبقهم من إخوانهم المسلمين، والحج واستقبال البيت في الصلاة عنوان وراثتهم الأرض.
قانون توسعة البيت
قالت الآية بان الحج واجب على الناس، وحق لله على أجيالهم المتعاقبة وخطاب تكليفي متجدد يتوجه لكل من يبلغ الرشد من الرجال والنساء كما ان الزواج وممانعة الزوج لا تمنع من إستدامة وبقاء تكليف المرأة بالحج، فلا عبرة لإذنه او عدمه في حجة الإسلام خاصة، والمدار على الإستطاعة والسرب.
ولو إستجاب الناس جميعاً وحضروا الى البيت فهل يمكن أداؤهم الحج في موسم واحد، الجواب من وجوه:
الأول: ورد الخطاب التكليفي عاماً ولكنه مقيد بالإستطاعة، وهو عنوان لا يتحقق للناس جميعاً.
الثاني: فرض الله على المكلف الحج مرة واحدة في العمر، وليس كل عام، فلا خطاب تكليفي لمن أدى الحج، نعم هو مستحب، وقد يأتي عنوان ثانوي آخر يجعله مقيماً في بلاده لا يتوجه لأداء الحج المستحب، ولو قلنا ان معدل عمر الإنسان الذي يستطيع معه أداء الحج هو ستون سنة، فان الذين يجب عليهم الحج هو واحد من ستين، إذن أن الحج مرة واحدة في العمر، ويدخل في المجموع الذين لم يبلغوا الرشد، واذا أردنا عدم ادخالهم في المجموع فلابد ان النسبة تتغير، ويقل عدد الذين يجب عليهم الحج وتكون نحو واحد من ثمانين إذ أن وجوب الحج على الذكر عند إتمامه خمس عشرة سنة هلالية، والأنثى عند اتمامها تسع سنين ويضاف لها موضوع الإستطاعة، وهي من الكلي المشكك فقد تكون متيسرة للكثير من المسلمين وقد تكون متعذرة عليهم، وسقوط التكليف عن المكره وغير العاقل مما يجعل عدد الذين يجب عليهم الحج كل عام نحو معشار الناس في حال إسلامهم جميعاً، وهو عدد كبير أيضاً، والله العالم بكل شيء، ولابد ان البيت يسعهم، ومناسك الحج مناسبة لعددهم من غير حرج وعسر وضرر.
الثالث: صحيح ان الخطاب التكليفي بالحج متوجه للناس جميعاً، الا انه لا يتقوم الا بشرط الإسلام والنطق بالشهادتين.
الرابع: الإستطاعة عنوان عام تدخل تحته الأسباب الشخصية والمقدمات الغيرية، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة نفي الحرج في الدين الا انها منفردة ومتحدة لا تصح ان تكون دليلاً على تقييد حكم الآية، وإمكان الإمتثال التام من الناس لأداء الحج، فلو جاء الذين يستطيعون الحج فان البيت يسعهم، وبإمكانهم أداء المناسك وهذا من الإعجاز في الآية ومصاديقها العملية، فالخطاب موجه للناس جميعاً، واذا أسلموا وجاء الذين يجب عليهم الحج الى البيت الحرام فانه يسعهم ويكفيهم، وهل تكون كثرة الناس سبباً لسقوط الاستطاعة، الجواب: لا، لأن الوظيفة الشرعية تقتضي توسعة البيت وبيان التخفيف في أداء المناسك والتنظيم بما يمنع الزحام الضار، أما التدافع فهو أمر متجدد ظاهر حتى من اسم بكة والفاظ آيات القرآن مثل قوله تعالى [فاذا أفضتم من عرفات]، كما انه ظاهر في هذه الآية، وفرض الحج وتقييده بالاستطاعة مع عدم التشديد بمصاديقها.
ومن الآيات فيه ان أداء الحج يتضمن في أحكامه أركاناً وافعالاً هي:
الأول: يبدأ الحج بالإحرام مع النية من المواقيت وهي خمسة وفي بعض الأخبار أنها عشرة تحيط بالحرم المكي، ونعتها بالمواقيت إشارة الى الوجوب بالإحرام منها، كما في الصلاة قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وجاءت مواقيت الحج لتكون توقيتاً وتحديداً للأماكن المحدودة للإحرام، والتوقيت فيها لا يعني التعيين المكاني المحض بل يشمل التعيين الزماني ولكن على نحو الإجمال، وتقع هذه المواقيت على طرق القوافل ومسير الحاج، وهي بعيدة عن مكة ولكنها تستوعب الجهات الأربعة ليكون بإمكان القادم من أي مكان من العالم المرور عليها والإحرام منها، كما ان تعيين المواقيت لا يفيد الحصر، فيجوز الإحرام من محاذاة أحدها لمن لم يمر عليها، لصدق المحاذاة عرفاً وقاعدة نفي الحرج، والأمر سهل في هذا الزمان بالنسبة للقادمين عن طريق البر، لأن طرق التبليط تمر على المواقيت، كما كانت تمر عليها طرق القوافل من قبل، أما بالنسبة للقادم عن طريق الجو فيجوز ان يلبس ملابس الإحرام قبل ركوب الطائرة، ولكنه ينوي الإحرام ويأتي بالتلبية حين اخباره بكونه على الميقات او بمحاذاته، ويصلي ركعتي الإحرام فيما بعد، وقد بيناه في مسألة (232) من مناسك الحج.
والمواقيت بعيدة عن البيت الحرام بما يمنع من الزحام وأسبابه، فأحدها وهو ذو الحليفة يبعد عن مكة نحو أربعمائة كيلو متر، وهو ميقات أهل المدينة ومن يمر على طريقهم، فلا حرج ولا زحام في مواقيت الإحرام، وطرق السير وصولاً الى مكة المكرمة.
فمن الآيات في التخفيف في الحج انه لم يخصص ميقات واحد من جهة واحدة لتوجه الحاج الى مكة مع ما فيه من القدسية والخشوع لله والبدء بأداء مناسك الحج على نحو الإتحاد، بل تفضل الله وخفف عن الناس، ومنع الحرج في الإحرام والوصول الى مكة، كما جعل الدخول اليها من أي جهة كانت، وكذا بالنسبة لدخول البيت الحرام وان أستحب الدخول من باب السلام عند القدوم.
الثاني: المندوحة في أوان الإحرام، اذ انه يستمر لشهري شوال وذي القعدة، الى جانب بضعة أيام من شهر ذي الحجة، وفيه تخفيف ومنع للحرج وعدم اضطرار للإقامة في الميقات بانتظار أوان الإحرام والنفير والتوجه الى مكة، او التعجيل في السير وقطع المسافة للوصول الى الميقات عند الوقت المحدود بل جاء أوان الإحرام مستوعباً لأكثر من شهرين، ومتى ما جاء الحاج فبامكانه الإحرام والتوجه الى البيت الحرام من ساعته.
الثالث: الإحرام من الميقات والإحلال لإتيان عمرة التمتع، وبما ان أيام الإحرام متعددة وفيها سعة، فإن وفد الحاج يستطيعون أداء مناسك العمرة بيسر ومن غير مشقة كبيرة وان كان عددهم كبيراً خصوصاً بلحاظ ان الإستعدادات أخذت لإستيعاب وفد الحاج في أيام الحج الأكبر، وأركان العمرة بعد الإحرام هي الطواف والسعي بين الصفا والمروة.
الرابع: بعد السعي في العمرة يقصر المعتمر شعره، ويحل إحرامه ويبقى في مكة بانتظار أيام الحج والإحرام الى الحج، ووقت الإحرام للحج لا ينحصر بساعة مخصوصة فيجوز إتيانه في أشهر الحج ويمتد حتى يتضيق وقت الوقوف بعرفة.
الخامس: جواز الإحرام للحج من داخل مكة مطلقاً، وعدم حصره بالبيت الحرام وان كان مستحباً فيجوز ان يحرم الإنسان من مكان سكناه في مكة والتوجه مباشرة الى منى ثم الى أرض عرفة.
السادس: السعة في الطريق الى عرفة وعدم الضيق فيه.
السابع: بعد الإحرام يأتي الركن الثاني في الحج وهو الوقوف بعرفات وهو الموضع المبارك المعروف المجاور للحرم من جهة الجنوب، وقد تقدم ذكر سبعين وجهاً لتسميته عرفة( ).
الثامن: سعة موقف عرفة، وإمكان استيعابه للحاج ويبعد عن مكة نحو (21) كيلو متراً تقريباً، ومن الآيات ان أرضه مستوية وتحيط بها جبال على شكل قوس، وتبلغ مساحة عرفة نحو عشرة كيلو متر مربع ونصف الكيلو، وحدودها مبينة بعلامات خاصة، وهذه المساحة تكفي لوقوف وفد الحاج وان كثروا، مع الإلتفات الى أمور تساعد على التخفيف هي:
الأول: يمتد الوقوف الإختياري في عرفة من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة، أي من أذان الظهر ويستمر الى وقت الغروب.
الثاني: انشغال الحاج بالدعاء والتضرع لأنه يوم عبادة وسؤال الحاجات.
الثالث: امكان تهيئة الموضع المبارك ومنع دخول المركبات اليه، لإستيعاب وفد الحاج.
الرابع: ورود وجود الخبر بضم الحاج حاجاته اليه، ليفسح المكان لغيره ويمنع من الزحام، ويتجنب الإنشغال بها.
التاسع: بعد عرفة يتوجه الحاج عند غروب ليلة العاشر من ذي الحجة الى المشعر الحرام، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( )، والوقوف الإختياري من طلوع فجر يوم النحر الى طلوع الشمس منه، ومساحة مزدلفة أي المشعر الحرام أكبر من مساحة عرفة اذ تبلغ نحو 12.25 كم مربع.
العاشر: الوقوف بالمشعر الحرام عبادة من ليلة النحر الى طلوع الشمس وتجوز الإفاضة قبل الفجر خصوصاً لذوي الأعذار والنساء، والإفاضة من المشعر قبل الفجر بعد الوقوف فيه مع النية في ليلة النحر، ولا كفارة عليهم، والأولى ان تكون إفاضتهم بعد منتصف الليل مع جواز مرافقة المختار لذوي العذر تحفظاً عليه ونسب الى كثير من الفقهاء وجوب المبيت في المشعر تأسياً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر: صحة الوقوف في مزدلفة عن قيام او قعود او ركوب.
الثاني عشر: يجوز عند الضرورة والزحام الإرتفاع الى المأزمين، وهما جبلان متقابلان بينهما طريق، والمأزم كل طريق ضيق بين جبلين.
الثالث عشر: مع كثرة وفد الحاج وعلى فرض بلوغهم عشرين مليوناً او أكثر هل يجوز التوسعة في مزدلفة وازاحة بعض الجبل من حولها والحاقها بالمشعر، الجواب نعم ولكن لابد من وقوف كل حاج وحاجة في ارض مزدلفة والمشعر الحرام الحالية المبينة حدودها بعلامات خاصة، ولو مسمى الوقوف لأنه عبادة وللإحتياط والإمتثال وأداء الواجب العبادي بالوقوف في مزدلفة.
ولو دار الأمر بين توسعة أرض عرفة وبين بناء طابق أعلى فيها عند الضرورة فالأولى هو بناء طابق آخر على جزء من أرضها وان تعدد، مع تنبيه الحاج الى الاحتياط بتحقق صدق الوقوف على الأرض آناً ما من الوقوف الاختياري الذي يمتد من زوال الشمس الى غروبها.
الرابع عشر: سعة الطرق التي يفيض وينتقل الحاج بها من عرفة الى المشعر الحرام ومنه الى منى بالإضافة الى سعةالوقت، وامكان مد جسور وسكك حديدية وتوظيف التقنية الحديثة لإقامة وتنقل الحاج بما لا يضر بالقواعد الأساسية للحج.
الخامس عشر: يستحب التقاط حصى رمي الجمارمن مزدلفة، ويجوز من منى، ويجزي من الحرم مطلقاً ولو من وادي محسر.
السادس عشر: يجب على الحاج المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة، والواجب المبيت فيها من أول الليل الى ان يمضي النصف منه، ويجوز البقاء في مكة للعبادة، ولا تعني العبادة هنا الإنقطاع التام الى الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، بل يجوز قضاء حوائجه المتعارفة بما لا يخل بصبغة العبادة، وجوازالبقاء هنا تخفيف عن الحاج ومناسبة للدعاء ودفع للضرر ومنع للحرج وشدة الزحام.
السابع عشر: بعد الإفاضة الى منى يقوم الحاج برمي الجمار، ولا ترمى يوم النحر الا جمرة العقبة وهي تلي مكة، وفي اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي الجمار الثلاث، كل جمرة بسبع حصيات وما يحصل من الزحام في الجمرات يمكن تداركه ببناء الجسور والأنفاق والطرق السريعة الى جانب الإنتفاع من التخفيف في المقام وهو على وجوه:
الأول: أوان الرمي للجمار ما بين طلوع الشمس الى غروبها، وهو وقت متسع.
الثاني: يجوز الرمي ليلاً لصاحب العذر والخائف والمريض، كما يجوز للمرأة والكبير ومن يخشى الزحام خصوصاً في هذه الأزمنة، وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء والضعفاء ان يرموا الجمرة ليلاً.
الثالث: يجوز ان ينوب شخص واحد عن أشخاص كثيرين في الرمي.
الرابع: لا يشترط في النائب في رمي الجمار ان يكون محرماً، وهذه السعة في وقت وكيفية الرمي، وجواز الإنابة فيه تيسير وتخفيف ووسيلة لدفع الأذى وأضرار الزحام.
الثامن عشر: لا يجوز البناء وانشاء المؤسسات والمباني التي تضر بأداء المناسك وتسبب حرجاً وزحاماً للحاج في عرفة ومزدلفة ومنى الا مع الضرورة ووفق أحكامها وبقدرها.
التاسع عشر: المندوحة والسعة في منى والرجوع الى مكة، اذ انه على قسمين:
الأول: وهو النفر والرجوع الى مكة في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ويكون بعد زوال الشمس ويجوز قبله للضرورة والحرج ومن ينفر فيه يسقط عنه الرمي في اليوم الثالث عشر، ويسمى يوم الثاني عشر يوم النفر الأول.
الثاني: النفر الثاني في اليوم الثالث عشر، ويستحب قبل الزوال لذا يسمى هذا اليوم يوم النفر الثاني.
وهذا التعدد في أوان النفر مركب وفيه سعة خصوصاً بلحاظ قرب منى عن مكة اذ انها لا تبعد عنها أكثر من ستة كيلو متراً وقد أتصلت بيوت مكة مع منى في هذا الزمان، ومع هذا القرب والتداخل فان وقت النفر والرجوع الى مكة يستغرق يومين، وفيه منع للزحام والأذى، كما أنه ينفع في استيعاب مكة لوفد الحاج من جديد، خصوصاً وان دخولهم هذا يختلف عن دخولهم اليها اول الحج، اذ انهم كانوا يتوافدون خلال أيام وأسابيع عديدة، أما في الرجوع من منى فأنهم ينفرون دفعة واحدة، ومن مكان قريب فجاء التخفيف في سعة الوقت بالإضافة الى تخفيف آخر وهو استقرارهم في أماكن سكناهم في مكة فأنهم في هذا النفر يرجعون الى إقامة ومسكن معروف مع استعداد للرحيل عند إكمال الطواف.
العشرون: من أركان الحج الطواف، وهو ذروة أعمال الحج وفيه عشق لواجب الوجود، وانجذاب للشاخص المبارك الذي جعله الله أمناً وبركة ورحمة، والطواف أكثر أماكن الزحام، فرمي الجمرات يمكن ان ينظم وتجوز فيه الإنابة، اما الطواف فيشهد زحاماً شديداً يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة، ومن الآيات التي تنفي الزحام وأسبابه ان الطواف معلوم من جهة المطاف به وهو البيت الحرام، اما أرض المطاف فيمكن توسعتها، وجدران المسجد ليست حائلاً دونها خصوصاً وان ارض المطاف الأصلية كانت بين البيت ومقام إبراهيم، ولكن يجوز الطواف خلف المقام عند الزحام لقاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة نفي الحرج، كما يجوز بناء عدة طوابق بما لا يتعدى سقف الكعبة ويصح الطواف في الطوابق العلوية عند عدم التمكن منه في الطابق الأرضي.
فنسك الطواف وتعيين المطاف به دون أرض الطواف آية اعجازية ومصداق من مصاديق هذه الآية وكتابة وفرض الحج على الناس وامكان استيعاب وفد الحاج وان كثروا لعدم حصر المطاف بين حدين، بل حده الأول معلوم، وحده الآخر مفتوح ويجوز تعدد طوابق الطواف وتخصيص طابق لعربات آلية حديثة تسع كل واحدة لكثيرين يطاف بها المرضى والذين يتعذر او يشق عليهم الطواف في نظام بهيج يدل على اليسر في أحكام الشريعة وما بين تخوم الأرض وعنان السماء قبلة، فيجوز النظر الى طوابق الطواف بعين السعة والتخفيف عند الحاجة والضرورة.
الحادي والعشرون: يسمى يوم العاشر من ذي الحجة يوم الحج الأكبر وفيه يؤدي الحاج مناسكه برمي جمرة العقبة وذبح الهدي وتقصير او حلق الشعر ليتوجه الى مكة، والأفضل ان يتوجه الى مكة للطواف والسعي ليومه، ويجوز ان يؤخر الطواف لليوم التالي أو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهما من أيام التشريق، والأول أولى ولكن شدة الزحام في حال وجودها لها أحكامها ويصح اتيان الطواف ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، كما يجوز اتيانه بعد أيام التشريق ضمن أيام شهر ذي الحجة، على كراهة، وبشرط ان لا يقرب الحاج النساء والطيب، فالسعة في الطواف وعدم تقييد المطاف بدائرة وحدود معلومة وسيلة وسبب ليكون قابلاً للتوسعة، وهو جزء من البركة في البيت التي جاءت في الآية السابقة بقوله تعالى [مُبَارَكًا] فمن وجوه البركة التخفيف في الأحكام وامكان استيعاب الحاج، وتيسير أدائهم المناسك سواء بالمندوحة في القواعد والأحكام الفقهية الخاصة بالحج او بأرض الواقع.
الثاني والعشرون: الثالث من أفعال العمرة والتاسع من أفعال الحج هو صلاة الطواف، وهي واجب في الطواف الواجب سواء كان للحج الواجب او المندوب، ولعمرة التمتع او العمرة المفردة، والأولى الإتيان بها حال الفراغ من الطواف وتتكون من ركعتين كصلاة الصبح ويتخير فيها المصلي بين الجهر والإخفات.
ويجب اتيانها خلف مقام إبراهيم مع الإمكان وذكرنا في رسالتنا العملية الموسومة مناسك الحج المسألة الآتية:
- يجب اتيان ركعتي طواف الفريضة خلف مقام إبراهيم عليه السلام مع الإمكان، ولا يتباعد عنه بحيث لا يصدق عليه انه عنده الا مع الزحام والعذر.
- لو تعارض أداء الصلاة خلف المقام مع الطواف وكثرة الطائفين فالأولوية للطواف ويكون الموضع حينئذ من المطاف ويرجع المصلون الى الخلف.
- يجوز ان يصلي ركعتي طواف الفريضة في أية ساعة ولو في الأوقات التي تكره فيها النوافل المبتدئة.
- لو تعذر عليه الصلاة خلف المقام او تعسر بسبب الزحام او نحوه وقد ضاق عليه الوقت صلاهما حيث ما تمكن من المسجد مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
الثالث والعشرون: من أركان الحج السعي بين الصفا والمروة اللذين شرفهما الله بذكرهما بالاسم في القرآن قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، والسعي بينهما هو العاشر من أفعال الحج.
والصفا جبل يقع على يمين الداخل الى المسعى من البيت الحرام، والمروة جبل منخفض يكون على يساره، وفي هذا الزمان يبدو وكأنهما جزءان من المسجد الحرام.
وسمي الصفا لأن آدم صفوة الله هبط عليه، والمروة لأن حواء هبطت عليه فاقتبس إسمه من اسم المرأة، والمسافة بينهما (400) متراً، وعدد أشواط السعي بينهما سبعة أشواط أربعة من الصفا الى المروة ذهاباً وثلاثة من المروة الى الصفا إياباً، فالمبدأ يكون بالصفا والختم بالمروة ويمكن توسعة المسعى عند الحاجة.
الرابع والعشرون: يجوز بناء طوابق متعددة بينهما واجتناب الإرتفاع والفارق الكبير بين الطابقين، والمدار على كفايتها واستيعابها لوفد الحاج، ويجوز السعي في الطابق غير الأرضي عند الزحام والضرورة، والأولى السعي في الأرضي المتعارف وهو الذي سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس والعشرون: يجوز السعي بين الصفا والمروة راكباً ويمكن معه استخدام التقنية في المركبات ونظام سيرها.
السادس والعشرون: ليس من وقت مخصوص للسعي، الا انه يأتي بعد اكمال الطواف وركعتيه، ويتعلق بإتمامه الإحلال من العمرة او الحج.
ان الإعمار والتوسعة المستمرة في البيت الحرام حاجة وضرورة شرعية وعقلية وعرفية، ويجب ان يؤخذ معها امكان التوسعة الإضافية والإمتداد الأفقي والدائري اللاحق في عشرات ومئات السنين، وكذا بالنسبة للمسجد النبوي، وان كانت الحاجة فيه أقل درجة، والأولى ان يكون بيت مال خاص بالبيت الحرام وإعماره( ).
لقد وضع الله البيت الحرام للناس ولازم الإنسان في وجوده في الأرض، ولابد أن يحتل المرتبة الأولى في العناية والخدمات والتوسعة، وان تبعث عمارته البهجة والغبطة في النفوس، وتبين قدسيته وشأنه، من غير ان تكون باباً للإنشغال عن ذكره تعالى اثناء الطواف وأداء المناسك.
فوضع البيت للناس دعوة لهم لتعاهده وإجلاله وإكرامه وإظهاره بما يليق بشأنه، ولعل التوسعة والعناية به من عمومات قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ]( )، فجاء الأمر متعدداَ في جهته ليشمل إبراهيم وإسماعيل، والتطهير من القذارة يأتي بعد تهيئة البيت وجعله يستوعب الذين يريدون الطواف والإعتكاف والصلاة، ولا بأس في الإنتفاع من التقنية الحديثة في توسعة البيت وتيسير اداء الحجاج والمعتمرين مناسكهم بشرط عدم الإخلال بالقواعد والسنن الشرعية والمتوارثة في الحج، ولو تعارضت التقنية معها فالإختيار للقواعد الشرعية، اذ لا يجوز التبديل والتغيير فيها.
فتوى: عدم شمول الطائرة والسيارة بحرمة التظليل في إحرام الحج والعمرة
الحمد لله الذي جعل الحج سفراً من الخلق الى الحق، وفريضة عبادية وسياحة ملكوتية في أشرف بقاع الأرض، وما عليه النصوص والإجماع ان التظليل من تروك الإحرام، وجرت العادة في هذا الزمان ان تنتقل بعض قوافل المؤمنين عند الإحرام للركوب في احواض سيارات مكشوفة بطيئة وقديمة في الجملة، وسيارات حمل البضائع حرصاً على الإمتثال الأحسن، ولكن الشريعة سمحاء وتتضمن أدلة التخفيف المطلقة والخاصة في الحج.
وفي تظليل المحرم ســـائراً أقــوال وهي: 1- الحرمة, وهو المشهور كما قال في المدارك وجامـــع المدارك والحدائق، 2- لا بأس بالتظليل ويتصدق عن كل يوم بمد، عن الصدوق 3- في المنتهى ان ابن الجنيد (297 – 385 هجرية) جعل ترك التظليل مستحباً وليس واجباً، كما قال باستحباب الفدية.
والمختار عندنا هو الحرمة , وفيه نصوص كثيرة وان ظهرت بعض الأخبار بالكراهة و عدم البأس، منها صحيحة الحلبي قال: “سألت ابا عبد الله عليه السلام عن المحرم يركب في القبة؟ قال: ما يعجبني ذلك الا ان يكون مريضاً”.
ولا تدخل السيارة والطائرة في حرمة التظليل لوجوه:
الأول : ان القدر المتيقن من النصوص وفتاوى الفقهاء المتقدمين والمتأخرين هو المحمل والهودج والعمارية المظللة على البعير كمثال للمصداق ومتعلق الأمر والنهي.
الثاني : الإختيار وقصد التظليل قيد في نشر الحرمة، بدليل ان المشي تحت الظلال والأشجار جائز، فليس بمقدور الإنسان رفع سقف الطائرة أو السيارة التي جاء بها من الآفاق والبلدان البعيدة، والتكليف بما لا يطاق قبيح، واحكام الشريعة الإسلامية منزهة وخالية مما لا يطاق وما فيه مشقة وعسر.
الثالث : حكومة قاعدة نفي الحرج، ولا ضرر ولا ضرار في المقام، ولابد ان الإحتراز والتوقي موافق للأوامر والنواهي كما هو ظاهر الأدلة خصوصاً مع القول بأن الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.
الرابع : أدلة نفي التشديد على النفس، بالإضافة الى فلسفة الوسط في الإسلام.
الخامس : أولوية وحدة المسلمين وتوكيد الأئمة والعلماء عليها في مناسك الحج.
السادس : اطلاقات أحكام إتحاد العمل العبادي، ومن وجوه الحكمة فيها تحصيل الائتلاف، ورفع الاختلاف، ودفع المنافرة.
السابع : لزوم دفع الأذى المحتمل المتحد والمتعدد , والشخصي والنوعي.
الثامن : صيانة المسلمين ومنع الغيبة والإساءة لهم.
التاسع : التباين الموضوعي بين المحمل والدابة، وبين السيارات والطائرات، وتعدد العنوان موجب لتعدد المعنون.
العاشر : اذا أنعم الله نعمة على أهل الأرض، فالمؤمن أولى بها، والطائرات والسيارات المكيفة من نعم الله على الإنسان في هذا الزمان، ولم يثبت خروج موضوع الإحرام من استخدامها بالتخصيص او التخصص.
الحادي عشر : لقد اصبحت أبدان الناس في هذا الزمان معتادة على التبريد والتدفئة وتكون اكثر عرضة للأمراض حين الإنكشاف بسيارات مكشوفة ساعات عديدة، وقاعدة نفي الحرج بخلافه بالإضافة الى النصوص في المنع من تعريض النفس للأذى، ومن الأدلة في المقام ما ورد في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه السلام سألته عن المحرم: يظلل على نفسه، فقال: من علة؟ فقلت: يؤذيه حر الشمس وهو محرم، فقال: (هي علة يظلل ويفدي)، فمجرد الأذى من الشمس سبب كافِ للتظليل، وليس من أحد في هذا الزمان الا ويؤذيه حر الشمس وشدة البرد الا النادر، والحكم لا يكون على القليل النادر.
الثاني عشر : الحاجة الى السلامة من الأمراض للإنقطاع الى الدعاء والعبادة واداء المناسك، الا ترى مجيء النهي عن صيام يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء.
الثالث عشر : وردت الرخصة بجواز التظليل للمريض، والمرض أعم من التلبس به، فمن مصاديقه وجود الظن المعتبر للإصابة والتعرض للأخطار بالسيارات القديمة المكشوفة في هذا الزمان، خصوصاً مع احتمال سرعة انتشار الأمراض والأوبئة في موسم الحج وان كانت تدرء بفضله وعنايته تعالى بوفد الحاج.
الرابع عشر : قد اقترحنا في البيان رقم 12 الصادر في 4 شوال 1424هـ إنشاء سكةحديد عالمية تربط عواصم العالم الإسلامي كلها بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وسيأتي يوم ينتفع المسلمون والعالم بأسره من هذا المشروع الحيوي لما فيه من المنافع العقائدية والأخلاقية والإجتماعية والإقتصادية، وظهورِ وازدهار مدن عديدة تقع على طريقه، وترغيبٍ بالحج والعمرة، ويجوز ان يكون الإحرام داخل القطار، والأدلة منصرفة عن المركبات الكبيرة الحديثة التي تشهد تطوراً متصلاً امساً واليوم وغداً.
الخامس عشر : في باب الطهارة والنجاسة قالوا ان الماء المضاف اذا كان كثيراً ولاقى قطرة من النجاسة فانه ينجس واطلقوا الحكم أي انه يشمل ناقلة النفط ونحوها، وقد بيّنا في الجزء الأول من رسالتنا العملية “الحجة” ورسالتنا (حجة النساء) وهي اول رسالة عملية للمرأة ان القدر المتيقن هو الحوض والخابية والآنية الصغيرة، وكذلك بالنسبة لراحلة الحاج فقد كانت فردية كالبعير والناقة ويمكن التصرف بها اختياراً، اما الآن فانها جماعية عامة مصنوعة من الحديد والمعادن الصلبة.
السادس عشر : هناك قاعدة كلية اصولية وهي اذا تغير الموضوع تبدل الحكم لأن الحكم تابع للموضوع، والمرتكز في أذهان المتشرعة في الأزمان السالفة هو الهودج والمحمل والقبة وهي البناء من الشعر على الهودج، فالأدلة منصرفة عن السيارات والطائرات موضوعاً وحكماً، وهذا الدليل حجة شرعية وعقلية.
السابع عشر : من حج ماشياً او راكباً على دابة فان التظليل محرم عليه، وكفارته دم شاة الا ان يكون مريضاً.
الثامن عشر : يكفي في السيارة والطائرة كشف الرأس اثناء الإحرام وعدم وجود الظل الإختياري.
التاسع عشر : الحج عيد عبادي تطلّع شعوب العالم كافة على معظم مناسكه في زمن العولمة بواسطة الفضائيات ونحوها، ومن الأولى ان يظهر المؤمنون بأبهى صورة تبعث الشوق في نفوس الآخرين للحج والعلوم العقائدية، فمثلاً مع حرمة لبس الحرير يجوز لبسه في الحرب وساحة المعركة كي يبدو المسلمون أغنياء وفي مندوحة وسعة ولدعوة الكافرين لدخول الاسلام، وكذا بالنسبة لوسائط النقل في الإحرام، خصوصاً وان الركوب بأحواض سيارات الحمل وعلى سطح السيارة يتنافى وعمومات إكرام المؤمن ولم يثبت دليله ولا يخلو من الاخطار.
العشرون : المسألة من صغريات الشبهة التحريمية الموضوعية، والإجماع على جريان اصالة البراءة والحل فيها خصوصاً اذا كانت شبهة بدوية وابتدائية.
ما ذكرناه اعلاه بفضله ورأفته تعالى أدلة شرعية وليس استحساناً، وفيه تيسير ضمن احكام الشريعة، وتخفيف عن المؤمنين وازاحة للعناء الذي يلاقيه بعض الحجاج كل عام ولزوم دفع العسر والمشقة، وسينتفع منها الملايين من الحجاج والمعتمرين، وتكون سبباً لمنع عزوف الكثيرين عن الحج المستحب وتكرار العمرة بسبب المشقة في واسطة الإحرام والموانع المصاحبة لها ذاتاً وتقييداُ، وفي هذه الفتوى عزُّ ودفع للأذى، قال تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ].
قانون (لله على الناس)
لقد خلق الله الإنسان وهو غير محتاج اليه، ومن صفات الباري انه غني، وغناه مطلق غير منحصر بجهة دون جهة أخرى، ومنه غناه عن العالمين والخلائق، وعلة خلق الإنسان هي عبادة الله، والتقرب اليه، واظهار الخشوع والخضوع له، ليحاكي الإنسان الملائكة في السجايا والملكات، كما انه يختلف عنها بأنه عقل وشهوة، والملائكة عقل محض، لتكون العبادة والصلاح مع هذا الإختلاف فخراً للإنسان، وعمارة للأرض، فالأرض تزهو بالعمل الصالح ويشع منها ضياء التقوى على الكائنات والكواكب الأخرى.
وتبعث الشمس ضياءها والقمر نوره للأرض ليكونا عوناً للإنسان على العبادة، أما الأرض فتبعث بالعبادة والصلاح أنوار التقوى القدسية لتملأ الكائنات البهجة بعمارة الإنسان للأرض بالنسك والعبادة.
فلا غرابة ان يثبت العلم الحديث بعث الأرض للضياء مع انها جرداء لتتباهى وتفتخر على الكائنات الأخرى بأمور:
الأولى: انها مهبط ومسكن الإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه.
الثاني: جعل الله الإنسان خليفته، ولم يرد ما يدل على وجود خلفاء لله في الكواكب الأخرى، او أن الملائكة خلفاء لله في السماء والأصل عدمه، أي عدم خلافتهم لله في السماء، مع عظيم منزلتهم وشأنهم.
الثالث: عمارة الإنسان للأرض بالعبادة والتقوى والصلاح، فان قلت: أكثر الناس لا يؤدون الفرائض العبادية، قلت: ان وجود أمة مسلمة في كل زمان عنوان لعمارة الأرض، بالإضافة الى استمراردعوة الآخرين الى الهداية والرشاد.
الرابع: وجود بيت الله في الأرض، وفي الخبر ان الأرض دحيت وانبسطت من تحته، ليكون بداية مباركة لخلق الأرض، واستدامته علة أو جزء علة لدوام وجود الأرض، وحفظها لتبقى موضعاً لعبادته تعالى، وبلحاظ العبادة تنقسم الأرض الى قسمين:
الأول: الجزء الخاص والمعين للعبادة. الثاني: عامة الأرض.
أما الأول فيحتمل أمرين:
الأول: الإتحاد، وانه ليس من أرض مخصوصة وضعت لتكون بيتاً لله في اصل خلق الأرض الا موضعاً واحداً.
الثاني: المتعدد، والذي يعني وجود أماكن متعددة وضعت للعبادة، قبل خلق الإنسان.
والصحيح هو الأول فان البيت الحرام هو البيت الوحيد الذي وضع للناس جميعاً للعبادة، قبل ان يخلق آدم عليه السلام، وفيه تشريف للبيت وللأرض وللإنسان مطلقاً، وان كانت المساجد ومواضع العبادة معلومة عند الله منذ الأزل.
وشرف الشاخص الكريم والكعبة المباركة يترشح على جميع أجزاء الأرض اذ انها أحتوت هذه البقعة المباركة، وعلى الإنسان ان صار صاحباً وساكناً للأرض التي أحتوت البيت.
وهو من أهم الرواسي والثوابت التي جعلها في الأرض لتمنع عن الزوال ولكي لا تسيخ باهلها وسكانها، ولعظيم شأن ومنزلة البيت لم يترك الله للإنسان ان يختار زيارته وعمارته او عدمها، بل أوجب الله حجه في وقت مخصوص وندب اليه، ووعد الثواب والأجر على اتيانه، ومن الآيات ان الوجوب لم ينحصر بأهل الإيمان والعبادة، بل جاء الخطاب التكليفي للناس كافة.
ليكون الحج حقاً لله على جميع العباد، وقيده بالإستطاعة تخفيفاً ورحمة، وعموم الحق الإلهي على الناس باب للتوبة والإنابة ودعوة لإكرام البيت، وصلة بينه وبين كل انسان، فكل شخص مسلماً او كتابياً او كافراً، ذكراً او انثى يدرك صلته مع البيت، ويعلم مكانته ولو على نحو الإجمال، وترى وفد الحاج يزحفون في كل سنة للطواف حوله، وما يعنيه هذا الطواف من التقديس والتشريف والعناية والإكرام.
ولا تنحصر مواضيع (لله على الناس) بالحج وحده، بل تشمل احكام الفرائض الأخرى، فالصلاة والزكاة حق لله على الناس كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، بلغة الأمر الذي يحمل على الوجوب بالإضافة الى السنةالنبوية القولية والفعلية والتقريرية في توكيد وجوبهما، وبيان حقيقة وهي ان الصلاة عمود الدين كما جاء وجوب الصيام بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، والفرائض العبادية رحمة متجددة بالعبد، وباب للمغفرة، ووسيلة مباركة لنيل الدرجات العلا في الآخرة، فحينما تزهو الأرض جذلاً بتوجهك الى البيت الحرام لأداء الحج او العمرة، فان الثواب يترى عليك، وتتنزل شآبيب الرحمة والفيض الإلهي لتبقى مضامين هذا القانون ملازمة للأرض فوجود البيت سابق لوجود الإنسان، وهل يزول مع الصيحة الأولى وانعدام الحياة الإنسانية كمقدمة للنشور ام انه يبقى بعدها.
الأصح هو الثاني كما انه يحضر يوم القيامة ليكون شاهداً لمن حجه وزاره، وشفيعاً لهما، وحجة على من أعرض عنه.
وجوب الحج
الحج واجب على كل مكلف رجلاً كان او امرأة عند تحقق شرائطه وعليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فيجب على كل مكلف رجلاً كان او امرأة عند تحقق شرائطه، والمبادرة اليه في عام الإستطاعة ولا يجوز تأخيره عنه، وفيه جملة من النصوص.
وهو ضرورة من ضرورات الدين ومنكره كافر اذا رجع إنكاره إلى إنكار الرسالة.
ويحرم الإستخفاف بفريضة الحج وادائها، وترك المكلف لفريضة الحج عند تحقق شرائطها من الكبائر وعليه جملة من النصوص.
ويجب الحج مرة واحدة في تمام العمر وتسمى (حجة الإسلام) لإبتناء الإسلام عليها فهي كالصلاة والصيام والخمس والزكاة.
ومن عصى بخصوص الفورية في اداء الحج ولم يؤده في سنة الإستطاعة من غير عذر فانه آثم وعليه التدارك في العام الثاني، وان قصر فيه او حصل مانع ففي العام الذي يليه وهكذا.
ولو توقف إدراك الحج الواجب عام الإستطاعة على تهئية مقدمات السفر كمعاملة جواز السفر ونحوها تجب المبادرة اليها بحيث يدرك الحج في نفس السنة، وكذا تحصيل الديون التي حل أجلها، والعقل يحكم بوجوب مقدمة الواجب.
الحج والصحة
يشترط في الحج الأهلية البدنية وعدم المرض المانع من اداء الحج، ولو قال له الطبيب الحاذق العارف بمناسك الحج وما فيه من الجهد والتعب في الجملة لا تستطيع الحج وظن هو القدرة عليه، يقدم قول الطبيب لأن الطب في هذا الزمان قائم على الدراسات العلمية التفصيلية.
ولو كان المكلف مريضاً ولكن الطبيب قال بامكان ادائه الحج من غير اضرار او مضاعفات جانبية خصوصاً مع توفر وسائط النقل المناسبة ونحوها في هذا الزمان وجب عليه الحج مع اجتماع الشرائط الأخرى الا ان يدل دليل على الخلاف.
واذا اراد البالغ ان يحج حجـاً مندوباً فلا يحتاج الى اذن الأبوين، الا اذا كان في السفر خشية وخوف محتمل عليه ويلحقهما او احدهما بسببه اذى وحزن.
حج الصبي
يستحب للصبي المميز ان يحج بشرط اذن الولي ولكنها لا تجزيه عن حجة الإسلام، فاذا ادرك الحلم عليه اداء الحج مع الإستطاعة.
لو ادرك الصبي الحلم اثناء اداء مناسك الحج ولو الوقوف في المشعر الحرام فانه يجزيه عن حجة الإسلام على الأقوى، اما لو ادرك واصبح بالغاً عند الشروع في الإحرام وبداياته فلا اشكال في الإجزاء عن حجة الإسلام الا اذا جاء بما يفسد حجه.
لا يتوقف الحج الواجب للبالغ على اذن الأبوين ولا موضوعية لنهيهما لعمومات لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو اختلف الوالدان أو أحدهما مع الابن في الاستطاعة السربية والطريق يقدم قول الابن ان لم تكن عند الوالد او الوالدة بينة.
يستحب للولي ان يحرم بالصبي غير المميز فيلبسه ثوبي الإحرام ويقول: (اللهم اني أحرمت هذا الصبي)
ويلقنه التلبية، واذا كانت التلبية متعذرة على الصبي او الصبية لبى الولي او من ينيبه عنه بدلاً عنه، ويأمره بالمناسك، ويطوف، ويسعى به بين الصفا والمروة، ويقف به في عرفات ومنى ويأمره بالرمي او يرمي عنه، وهكذا، وذات الشيء بالنسبة للصبية، والولي للصبي المميز الأب، والجد للأب او الوصي لأحدهما او الحاكم وامينه او الوكيل عن احدهم.
ما يستلزمه حج الصبي من نفقة زائدة على نفقته في الحضر تكون من مال الولي وليس من مال الصبي الا اذا كان حفظ الصبي متوقفاً على السفر به، او لوجود راجح شرعي او عقلي في حجه، او ان الحج مناسبة كريمة لتأديبه وتنامي صيغ الإيمان في نفسه.
حج الزوجة
لا يشترط اذن الزوج للزوجة في حجة الاسلام اذا تحققت عندها الإستطاعة، وليس له منعها من اداء فريضة الحج وعليه الإجماع والنصوص، وفي الخبر: “تحج وان لم يأذن لها”.
يشترط اذن الزوج في الحج المندوب، والمطلقة الرجعية التي لم تخرج من العدة بعد كالزوجة في اشتراط اذن الزوج بخلاف البائنة التي انقطعت عصمتها عنه.
لا فرق في اشتراط إذن الزوج ان يكون ممنوعاً من الإستمتاع بها بسبب المرض او السفر او غير ممنوع، نعم لو كان المانع متغشياً لأيام الحج والعودة منه فالأقوى عدم الإذن، كما لو كان مسافراً لمدة مديدة والسفر الى الحج والعودة منه تتم بأيام معدودات بحيث تعود قبل عودته الى البلد، الا ان يدل دليل آخر او راجح شرعي او عقلي على اشتراط اذنه في هذه الصورة.
لو كانت ذات بعل وأرادت اداء الحج الواجب فادعى عدم الأمن عليها فانكرت يقدم قولها اذا لم تكن عنده بينة، ولو أنحصر أداء الفريضة او الأمن والسلامة برفقة محرم لها فهل للزوج منعها من تحمل نفقته من مالها الخاص الجواب: لا.
لو جعل مؤجل مهر زوجته تحمل نفقات حجها، وجب عليه حجها في تلك السنة الوفاء لعمومات (المؤمنون عند شروطهم)، وان لم يحدده فيجب في سنة الدخول بها، لأن المؤجل يجب عند الدخول، الا مع التراضي على أجل معين، والمعتدة عدة الوفاة يجوز لها الحج اثناء العدة سواء كان حجها واجباً او مندوباً مع التزامها باحكام العدة.
اذا كان النكاح المؤقت علنياَ وملحقاً بالدائم عرفاً ومشروطاً فيه المعاشرة اليومية ويتعارض الحج المندوب مع استمتاعه بها فيجب الإذن حينئذ. ولا موضوعية لإذنه في حجة الإسلام مطلقاً.
المحرم للمرأة
مع احتمال عدم الأمن يستحب للمرأة استحباباً مؤكداً استصحاب المحرم ولو بالإجرة مع الإمكان، كما لو تأخذ اخاها معها الى الحج على نفقتها مع القدرة والميسرة، والمحرم هو الذي يحرم نكاحه عليها مؤبداً بنسب او رضاع او مصاهرة، فزوج الاخت ليس بمحرم، ولا يجب على المحرم اجابتها الى السفر، ولا يجب عليها الزواج تحصيلاً للمحرم، ولو حجت بلا محرم مع عدم الأمن صح حجها.
الأقوى عدم اشتراط وجود المحرم في حج المرأة اذا كانت مأمونة على نفسها وبضعها سواء كانت ذات بعل او لا، ويكفي ظن السلامة.
اذا نوت الحج وانحصر الأمن والسلامة في طريق الحج وادائه باستصحاب المحرم ولو بالإجرة وجب استصحابه وان لم يكن الحج واجباً عليها.
لا يجب على المرأة تحصيل المحرم لأداء الحج او العمرة فمع عدم الأمــن والرفقـة الثقـاة تكون غير مستطيعة لعدم وجوب تحصيل أسباب ومقدمة الواجب ولقاعــدة نفي الحـرج وعمومات عدم الاستطاعة.
الإستئجار للحج
اذا اوصى بالحج من البلد وكان عليه دين للناس او حقوق شرعية من الزكاة والخمس ونحوهما لا تسـتوعبها التركة، فان زاد بعد ادائها ما يكفي للحج من الميقات وجب وكذا لو اتفق غلاء الأسعار وزيادة نفقة الحج واصبح الثلث لا يكفي للحج البلدي.
يجوز لمن هو معذور ولا يرجو زوال عذره ان يستأجر من يحج عنه من الميقات والأحوط استحباباً ان يكون الإستئجار من البلد.
الأقوى وجوب المبادرة الى الإستئجار في سنة الموت خصوصاً اذا كان الفوت عن تقصير من الميت الا مع الراجح الشرعي للتأخير الى السنة التالية.
اذا اهمل الوصي او الوارث الإستئجار فتلفت التركة او نقصت قيمتها، واصبحت لا تكفي للإستئجار ضمن مثلما يضمن لو كان على الميت دين.
اذا اختلف تقليد الميت والوارث في كون الحج من البلد او من الميقات فيصح من الميقات.
لو وجد أكثر من شخص يرضى بالإجارة عن الميت فالأولى استئجار اقلهم اجرة مع احراز صحة عمله في الجملة خصوصاً مع وجود قاصر في الورثة، ويجوز مع امكان خروج جميع الإجرة من الثلث استئجار المناسب لحال الميت وموضوعية الفضل والوثاقة، وان كان لا يرضى بالإجرة الأقل، ولا تجب المبالغة في الفحص عن الأقل اجرة.
اذا علم باستطاعة الميت من جهة المال ولكن الشرائط الأخرى لم تتحقق فيه فالاقوى عدم وجوب الحج عنه ولكنه الاحوط استحباباً.
مجرد الإستئجار ودفع مبلغ الإجارة للحج لا يكفي في براءة ذمة الميت والوارث، فلابد من قيام الأجير بالأداء، ولو علم ان الأجير لم يؤد الحج او أداه نيابة عن غيره او ادى عن نفسه وجب الإستئجار ثانية، مع استرداد الإجرة او الضمان من الأجير او من الوارث او من الوصي او وكيل احدهم.
اذا كان الواجب الحج من الميقات ولكن الوصي او الوارث استأجر من البلد عن غفلة وتقصير ضمن ما زاد عن اجرة الحج الميقاتي.
اذا لم يكن للميت تركة وكان عليه حج كما لو كان مستطيعاً في حياته ولكنه قصر ولم يحج حتى تلف المال، فلا يجب على الورثة شيء، وان كان يستحب على وليه استحباباً مؤكداً.
من استقر عليه الحج وتمكن من ادائه ليس له ان يحج عن غيره تبرعاً او اجارة ونحوها، وليس له ان يحج عن نفسه تطوعاً، بل عليه ان يحج عن نفسه في تلك السنة حجة الإسلام، ولو خالف صح الحج عن الغير لعدم ثبوت اطلاق القاعدة بان الأمر بالشيء نهي عن ضده ولتعلق حق الغير بافعاله ومناسكه، ولأن النهي خارج مناسك الحج وان ترك الأهم ولامكان التفكيك بين الفعل العبادي المقرون بالنية وبين المعصية المتعلقة باشتغال ذمته، وقد وردت بعض الأخبار بالصحة، ولكنه يؤثم للمعصية في ترك الامر الفعلي الموجه اليه، ونسب الى المشهور البطلان.
لو استقرت عليه حجة الاسلام ولكنه حج تطوعاً، فان كان عن جهل او سهو صح حجه وأجزأه، وان كان عن عمد أو تقصير فالاقوى صحته تطوعاً وان أثم، ووجب أداؤه لحجة الاسلام في قابل او في سنة الاستطاعة.
اذا مات النائب قبل الإتيان بالمناسك فان كان قبل الإحرام لم يجز عن المنوب عنه، وان مات بعد الإحرام ودخول الحرم اجزأ عن الميت وعليه الإجماع والنص، واذا مات الاجير بعد الإحرام ودخول الحرم ففي الاجرة تفصيل:
اذا كان اجيراً لاتيان الحج ومناسكه استحق منها بمقدار نسبة ما جاء به من الأعمال، وان مات قبل دخول الحرم فلا يستحق شيئاً الا اذا كان قطع المسافة واجرة السيارة داخلة في موضوع الإجرة، والمدار حينئذ في الأصل على مقدار نفع المستأجر منه وليس على احترام عمله.
ويجب في الإجارة تعيين نوع الحج من تمتع او قران او افراد، ولا يجوز للأجير العدول عما عين له وان كان الى الأفضل لا يشترط فيها تعيين الطريق وان كان في الحج من البلد، ولكن لو اشترط في عقد الإجارة لزم.
اذا اجر نفسه لسنة معينة فلا يجوز له التأخير او التقديم الا مع رضا المستأجر، ولو أخر من غير عذر مع الشرط والتقييد، فللمستأجر خيار الفسخ لتخلف الشرط.
واذا اتى النائب بما يوجب الكفارة فهو من ماله الخاص، والكفارة عقوبة على المباشر الأجير لفعل صدر منه وهو خارج عن موضـــوع الإجارة، ولا صلة للمستأجر به، كما لو اتلف مالاً او حصل مطلق الجناية في الاحرام والهدي ونحوها من موجبات الكفارة.
لو اطلقت الإجارة ولم يعين لها سنة بالخصوص فيقتضي التعجيل والمبادرة اليها عند المطالبة، الا ان يكون المتعارف في حال الإطلاق والمنصرف هو الفورية فلا تتوقف على المطالبة.
اذا قصرت الإجرة لا يجب على المستأجر اتمامها للأجير، نعم يستحب الإتمام لأنه من الإحسان والبر، كما انه اذا زادت ليس له استرداد الزائد، وقيل ان الرد موجب للإخلاص في العبادة، ويكره للأجير كراهة شديدة الإنفاق الكثير غير المناسب كي يدعي قلة الإجرة ويطلب الزيادة.
يملك الأجير الإجرة بمجرد حصول العقد، ولكن لا يجب تسليمها له الا بعد العمل الا اذا اشترط التعجيل او كانت قرينة عليه كما في هذا الزمان فان التعجيل بدفع الاجرة هو المتعارف اذا لم يكن في البين شرط بتأخيرها.
اطلاق الإجارة يقتضي مباشرة الأجير لأعمال الحج ولا يجوز له ان يستأجر غيره، الا مع الإذن صريحاً او ظاهراً.
الحج بالنذر واليمين
يشترط في انعقاد نذر الحج البلوغ والعقل والقصد والإختيار، فلا ينعقد من الصبي وان بلغ عشراً وقلنا بصحة عباداته وشرعيتها، وكذا لا يصح من المجنون والغافل والساهي والسكران والمكره، اما الكافر فيصح منه في النذر واليمين على الأقوى ولكنه محجوب عنه أداؤه، وقال المشهور بانعقاده في اليمين وان لم يصح منه، ونسب عدم انعقاده في النذر الى المشهور الذي قال باشتراط قصد القربة في النذر.
اذا نذر ان يحج ولم يقيده بزمان، فالظاهر عدم وجوب الفورية والمبادرة في ذات السنة، ويجوز التأخير بما لا يعد تفريطاً، ولو مات قبل الاتيان به فالأحوط استحباباً القضاء عنه مع الإمكان، وعدم الإضرار بالورثة.
اذا نذر الحج في سنة معينة لم يجز التأخير مع الإستطاعة والقدرة على الأداء في تلك السنة،ولو قصر عصى وعليه القضاء والكفارة، ولو مات وجب القضاء عنه وادعي الإجماع على وجوب قضاء الحج النذري عنه بعد موته وفيه نصوص صحيحة السند، والأقوى خروجه من الثلث الا ان يتبرع به متبرع ويكفي فيه الحج من الميقات الا ان يكون قد نذر الحج من البلد تعييناً ويستوعبه الثلث اما اذا لم يستوعبه الثلث فالأقوى الإجزاء بالحج الميقاتي.
اذا نذر الحج مطلقاً او مقيداً بسنة معينة ولم يتمكن من الإتيان به حتى مات لم يجب القضاء عنه لعدم وجوب الأداء عليه.
اذا نذر الحج معلقاً على امر كشفاء مريض، فمات قبل تحقق المعلق عليه، فالأقوى عدم وجوب الحج عليه.
اذا نذر الحج وهو متمكن منه، واستقر عليه ثم صار معضوباً أي ضعيفاً لا يستطيع ركوب السيارة وتحمل وعثاء السفر، او مصدوداً بعدو او غيره، فالأقوى عدم وجوب الإستنابة عنه اذا حصل المنع قبل اوان الواجب كما لو نذر الحج في السنة التالية تعييناً وقبل موسم الحج اصيب بمرض اقعده عن الحج.
اذا كان مستطيعاً ونذر ان يحج حجة الإسلام انعقد على الأقوى، وكفاه حج واحد، واذا ترك الحج حتى مات وجب القضاء والكفارة من تركته.
اذا نذر الحج واطلق من غير تقييد بحجة الإسلام ولا بغيرها وكان مستطيعاً او استطاع بعدها، ففيه صور:
اذا كان ناوياً بالنذر حجة الإسلام فتجزيه حجة واحدة وهي حجة الإسلام.
اذا اطلق ولم ينو بالنذر حجة الإسلام او حجة مستقلة اجزأته ايضاً حجة الإسلام.
اذا كان ناوياً بالنذر حجة اخرى غير حجة الإسلام فلا تجزيه ولابد من حجة الإسلام وحجة النذر لعدم التداخل في هذه الصورة ولتعدد المسبب بتعدد السبب، ولكن تقدم حجة الإسلام لأنها واجب عيني وبالأصل على الحج النذري لأنه واجب عرضي اختياري.
من عليه الحج الواجب بالنذر الموسع يجوز له الإتيان بالحج المندوب قبله.
اذا نذر المشي في الحج الواجب او المستحب انعقد مطلقاً، وان كان الركوب افضل بشرط التمكن من المشي وعدم احتمال الضرر والمشقة الزائدة التي لا تحتمل عادة سواء عند الشروع في المشي او اثناءه.
هل يشترط اذن الزوج لزوجته والوالد لولده في انعقاد اليمين بالعمرة او الحج، أم ينعقد من رأس ولكن للزوج والأب حله، الأقوى هو الثاني وعليه المشهور، والأقوى الحاق النذر باليمين ولا فرق بين الذكر والأنثى، ولا تلحق الأم بالأب، أي ليس للأم ان تحل يمين او نذر ولدها.
تجب العمرة والحج بالنذر واليمين، ولا يجوز الحنث ومعه تجب الكفارة وهي عتق رقبة او اطعام عشرة مساكين او كسوتهم، فان لم يقدر فصيام ثلاثة ايام.
لو نذر العمرة ولم يعين عدد المرات تكفيه مرة واحدة، وكذا في الحج.
لو قرن انعقاد يمينه بامضاء غيره كما لو قال “والله لأعتمرن هذا الشهر ان رضي أبي” فان رضى ابوه انعقد يمينه وتحقق الحنث بترك العمرة في ذلك الشهر، وان قال الأب لا أرضى لم تنعقد يمينه، وكذا لو لم يعلم هل ان الأب رضي أم لا حتى انقضى الشهر، ولا ينتقل متعلق اليمين الى الشهر اللاحق ما دام قد قيده بذلك الشهر، وكذا الحكم بالنسبة للحج كما لو قال: “والله لأحجن هذه السنة ان رضي أبي”.
لا تجري الفضولية في يمين او نذر الحج والعمرة، فلو نذر زيد عن غيره لا يصح النذر وان أمضاه، بل لابد من نية وتلفظ الناذر نفسه.
في النيابة
يجوز النيابة في الحج:
عن الميت في الحج الواجب.
عنه في الحج المندوب.
عن الحي في الحج المندوب.
عن الحي في الواجب في بعض الصور كما لو حصلت عنده الإستطاعة ولكنه عجز عن الحج بمرض عضال ونحوه.
يشترط في النائب امور:
الأول: البلوغ وهو المشهور فلا تصح نيابة الصبي وان كان مميزاً.
الثاني: العقل، فلا تصح نيابة المجنون الذي لا يتحقق منه القصد سواء كان جنونه مطبقاً او ادوارياً يتفق مع مناسك الحج، وتصح نيابة السفيه.
الثالث: الإيمان ليأتي بالمناسك عن معرفة ومطابقة للتكليف.
الرابع: العدالة ويكفي حسن الظاهر والوثوق بصحة عمله، ولو رافقه مؤمن يكون شاهداً على افعاله اجزأ.
الخامس: معرفته بافعال الحج واحكامه وان كان بالإستعانة بمن يرشده لها.
السادس: عدم اشتغال ذمة النائب بحج واجب في نفس العام وكان مستطيعاً ومتمكناً، فالذي عليه حجة الإسلام ويستطيع اداؤها لا يجوز ان يذهب للحج نائباً عن غيره.
يشترط الإسلام في المنوب عنه، وان كان ميتاً والحج مستحباً، فلا تصح النيابة عن الكافر وعليه الإجماع.
تجوز النيابة عن المجنون، ولو استقر عليه الحج حال افاقته ثم مات مجنوناً وجب القضاء عنه، اما لو اصيب بالجنون مع رجاء شفائه فينتظر به.
لا تشترط المماثلة بين النائب والمنوب عنه في الذكورة والأنوثة فتصح نيابة الرجل عن المرأة، والأقوى صحة نيابة المرأة عن الرجل، وتكره نيابة المرأة الصرورة اذا كان المنوب عنه رجلاً، والأولى المماثلة.
الصرورة اصطلاح يطلق على الذي لم يحج حجة الإسلام سواء كان رجلاً او امرأة.
يشترط في صحة النيابة القصد وتعيين المنوب عنه في النية ولو على نحو الإجمال ومن غير ذكر الإسم، وان كان يستحب في جميع مواقف الحج.
تصح النيابة بالتبرع والإجارة كما تصح بالجعالة.
لا يجوز استئجار المعذور في ترك بعض الأعمال لأن تكليف المنوب عنه واقعي وليس عذرياً، ولو تبرع المعذور يشكل الإكتفاء به، ومن المعذور مثلاً الذي لا يستطيع رمي الجمار ويتعذر عليه الطواف اوالسعي بين الصفا والمروة الا ان يحمله غيره.
يجوز التبرع عن الميت في الحج الواجب مطلقاً سواء كان حجة الإسلام او حج النذر او غيرها، ويجوز في المندوب ايضاً عن الحي والميت وكذا في الواجب عن الحي اذا كان معذوراً وعاجزاً عن المباشرة كما تقدم.
في الحج الواجب لا يجوز ان ينوب واحد عن اثنين او ازيد في عام واحد وعليه النص والإجماع.
لو كان الحج نذراً مشتركاً بين اثنين او اكثر، بان ينذر الإثنان معاً تحصيل حجة شخصية واحدة بالإشتراك المالي مثلاً فيجوز النيابة عنهما.
تجوز النيابة في الحج المندوب عن جماعة متعددين احياء او امواتاً ويجوز بنية اهداء الثواب لهم.
يجوز ان يقوم اثنان بالنيابة عن الميت او الحي في الحج المندوب في سنة واحدة، ويجوز في الواجب عن الميت ايضاً كما لو كان عليه حجة الإسلام وحج نذري.
لو أدى النائب الحج عن غيره استئجاراً او تبرعاً، وأراد بعد انقضاء مناسك الحج ان يؤدي العمرة المفردة عن نفسه او عن غيره صح، وهل يخرج ليحرم من الميقات كقرن المنازل او مسجد الشجرة، أم أنه يخرج الى أدنى الحل الذي أصبح الآن قريباً من بيوت مكة، الاقوى هو الثاني، والأحوط الأول.
الحج المندوب
يستحب لمن ادى حجة الإسلام اتيان الحج كل سنة مع الإستطاعة او عند تجددها.
يجوز الإتيان باكثر من عمرة في يوم واحد عن نفسه او عن غيره، وسواء كانت واجبة او مندوبة، وما ورد من النصوص في عمرة لكل شهر من باب البيان وتعدد المطلوب ولحاظ المشقة في تلك الأزمنة وقطع المسافة، كما وردت بعض النصوص باستحباب العمرة في كل اسبوع.
الأقوى عدم جواز تغطية الرأس عند ارادة الذهاب الى المسجد الحرام لأداء الطواف والسعي او في منى عند التوجه الى المرمى والجمار ما دام في إحرامه.
يكره ترك الحج خمس سنين متوالية، ويستحب نية العود الى الحج عند الخروج من مكة، ويكره عدم العود.
يستحب التبرع بالحج عن الوالدين، والأقارب، وغيرهم احياء وامواتاً، وكذا عن الأئمة المعصومين والزهراء عليهم السلام، كما يستحب الطواف عن الغير متحداً او متعدداً.
يستحب لمن ليس له زاد وراحلة ان يستقرض ويحج اذا كان واثقاً من الوفاء فيما بعد.
يستحب التبرع بمؤونة حج من لا استطاعة له ويجوز اعطاء الزكاة لمن لا يستطيع ليحج بها الا مع وجود من هو محتاج في مؤونته اليومية، وقيام المكلف بالحج افضل من الصدقة بنفقة الحج.
يستحب كثرة الإنفاق في الحج والعمرة ولا تعتبر من الإسراف.
يجوز الحج بالمال المشتبه مع عدم العلم بحرمته، ولا يجوز الحج بالمال الحرام، لعدم جواز التقرب بالمبغوض اذا كان جزء من العبادة ولا يبطل الحج اذا كان لباس احرامه وطوافه وثمن هديه من حلال، اهداء ثواب الحج الى المناب عنه من بداية اداء مناسك الحج ولكن لو فاته فانه يأتي به بنية الإهداء فيما بعد ولو بعد الفراغ من المناسك.
يستحب لمن لم تكن عنده استطاعة ان يحج بإجارة نفسه عن غيره، وفي الخبر: “ان للأجير من الثواب تسعاً وللمنوب عنه واحداً”.
يجوز أن يبدأ الحاج من مكة ثم يزور المدينة ويجوز العكس بحسب الحال والرفقة، ومع التخيير فالأفضل البدء بمكة، والإقامة في مكة أكثر ثواباً منها بعد الحج.
في احكام المواقيت
لا يجوز الإحرام قبل المواقيت ولا ينعقد ولا يكفي المرور عليها محرماً، بل لابد من انشائه جديداً، الا اذا نذر الاحرام قبل الميقات، فانه يجوز ويصح مع رجحان النذر وهو المشهور وعليه النصوص، والاحوط استحباباً تجديد النية عند المرور على الميقات.
ما يقوم به بعضهم في هذا الزمان من لبس ثوبي الإحرام في المدينة المنورة واستحداث نذر للإحرام منها خــلاف الســيرة وظاهــر النصـوص مع عدم وجود راجح لمثل هذا النذر فالأولى لبسهما وعقد النية في الميقات.
يجوز لمن يمر على الميقات راكباً الطائرة لبس ثوبي الإحرام قبل ركوبها، ولكنه ينوي الإحرام ويقوم بالتلبية عندما يكون فوق الميقات ويصلي ركعتي الإحرام فيما بعد لقاعدة نفي الحرج ولصدق المرور على الميقات، ولطرد النفرة بين المسلمين في مناسك الحج.
لا يجوز تأخير الإحرام عن الميقات فمن أراد الحج او العمرة لا يجوز له تجاوز الميقات اختياراً الا محرماً.
من ركب الطائرة الى جدة وكان ناوياً ان يرجع الى الميقات ليحرم منه، ولكن حينما وصل الى جدة تعذر عليه الرجوع، فيجوز احرامه من جدة، اما مسألة المشقة في النقل الى الميقات والأجرة الزائدة ونحوها من الأسباب التي يمكن ان يتحملها الحاج فلا تلحق بأحكام الضرورة.
ولو نهى الزوج زوجته عن الاتيان بالحج المندوب او العمرة المندوبة ولكنها عصته وجاءت لاداء الحج او العمرة فانها تؤثم، والظاهر جواز احرامها خصوصاً مع احتمال الإجازة اللاحقة، وقيل بأن الاحرام جزء لما هو صحيح من اعمال الحج.
ولو أخر الاحرام من الميقات عالماً عامداً فعليه العودة الى الميقات، ولو تعذر عليه ذلك او كان الوقت ضيقاً وليس أمامه ميقات آخر فالاقوى جواز احرامه من مكانه وصحته، وان أثم بترك الإحرام بالمرور على الميقات لعمومات انقلاب التكليف الاختياري الى الاضطراري، وقاعدة نفي الحرج وقاعدة الميسور بلحاظ حال التدارك، والاولى له اتيان الحج من قابل مع الاستطاعة عقوبة، وقيل بطلان إحرامه وحجه.
والناسي او الجاهل بحكم او موضوع الاحرام عند الميقات يجب عليه العود الى الميقات مع الإمكان لعدم كونه مستحضراً لقصد النسك، ومع تعذر العودة او رجحان حصول المشقة فيها فلا تجب.
ومن كان مريضاً ولم يتمكن من النزع ولبس الثوبين عند الميقات أجزأه النية والتلبية، ومتى ما برء من المرض واستطاع لبس الثوبين نزع ولبسهما من حيث وصل وهو في إحرامه ولا يجب عليه حينئذ الرجوع الى الميقات.
واذا ترك الاحرام من الميقات ناسياً او جاهلاً بالحكم او الموضوع وجب العود اليه مع الامكان، ومع تعذره فإلى ما أمكن الا اذا كان أمامه ميقات آخر، وكذا اذا لم يكن قاصداً النسك وتجاوز الميقات محلاً ثم بدا له بعدئذ دخول مكة والاحرام فأنه يرجع الى الميقات مع التمكن والى ما امكن مع عدمه، والا فمن مكانه، ومن كان مقيماً في مكة وأراد حج التمتع وجب عليه الإحرام لعمرته من الميقات اذا تمكن والا فمن حيث امكن او من مسكنه.
لو نسى المتمتع الإحرام للحج بمكة، ثم ذكر وجب عليه العود الى مكة للاحرام مع الامكان، كما لو التفت وهو في طريقه الى عرفات، ومع التعذر فيحرم في مكانه، ولو كان في عرفات او المشعر صح حجه، وكذا لو كان جاهلاً بالحكم، ولا يجوز ان يحرم لحج التمتع من غير مكة من غير عذر.
ولو نسي الاحرام ولم يذكر حتى اتى بجميع الاعمال من الحـج والعمــرة فالاقــوى صحة عمله وهو المشهور، وكذا لو تركه جهلاً حتى أتى بالجميع.
مقدمات الاحرام
يستحب قبل الشروع في الإحرام أمور:
الأول: توفير شعر الرأس لإحرام الحج بأقسامه وعدم حلقه من أول ذي القعدة، ويستحب التوفير للعمرة المفردة شهراً.
الثاني: قص الأظفار والأخذ من الشارب وإزالة شعر الإبط والعانة بالطلي او الحلق او النتف، والأفضل الطلي ثم الحلق مع الغسل وتوفير شعر الرأس للإحرام، كما يستحب إزالة الأوساخ من الجسد والإستياك لعمومات قوله تعالى [ يَا بَنِي آدَمَ خُـذُوا زِينَتَكُمْ عِــنـدَ كلِّ مَسْـجِـدٍ ] ( )، وفيه تعظيم لشعائر الله واظهار للأدب في الوفود على بيت الله.
الثالث: الغسل للإحرام في الميقات ومع العذر يجزي التيمم، كما يجوز تقديم الغسل على الميقات مع خوف اعواز الماء والبرد ونحوه، بل الاقوى جوازه حتى مع عدم الخوف فيجزيه مثلاً الغسل في المدينة المنورة عن الغسل في الميقات، ويكفي الغسل من أول النهار الى الليل، ومن أول الليل الى النهار، واذا أحدث بعدها قبل الإحرام كما لو نام فيستحب له اعادته، وكذا لو لبس أو أكل ما لا يجوز لبسه او أكله او تطيب.
هلال ذي الحجة
يثبت الهلال بأمرين:
الأول: البينة الشرعية وهي خبر عدلين بأنهما رأيا الهلال سواء شهدا عند الحاكم وقبل شــهادتهما أو لم يشهدا عنده، او شهدا ورد شهادتهما فكل من شهد عنده عدلان يجوز بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصوم او الإفطار، ولا فرق بين ان تكون البينة من البلد او من خارجه، وبين وجود العلة في السماء وعدمها.
الثاني: مضي ثلاثين يوماً من هلال الشهر الماضي فاذا انقضت ثلاثون يوماً من هلال ذي القعدة مثلاً ومن غير ان تثبت رؤية الهلال ليلة الثلاثين تمت به عدته، ويكون اليوم التالي لتمام العدة من شهر ذي الحجة.
وذكرت طرق اخرى لرؤية الهلال كالشياع المفيد للأطمئنان ولكنه فرع البينة.
التطويق لا يثبت ان الهلال لليلتين فلو لم ير الهلال الا محجراً ومطوقاً بالنور في جميع اطرافه لا يعني انه لليلتين فالمدار على رؤية الهلال ليلته، أي هناك نوع ملازمة بين رؤية الهلال والليلة الأولى من الشهر الا ما خرج بالدليل ولا عبرة بالصغر او الكبر او التطويق.
لا يثبت الهلال انه لليلتين،لو بقى بعد ان يغيب الشفق وهو بقية ضياء الشمس وحمرتها في اول الليل.
لا يثبت الهلال بالعدد والحساب ونحوهما مما يفيد الظن الا للأسير والمحبوس ومن العدد عد شعبان ناقصاً ابداً وشهر رمضان تاماً ابداً ومنه عد خمسة ايام على هلال شهر رمضان الماضي ويصام اليوم الخامس وسنده ضعيف غير منجبر وقد لا يوافق الوجدان.
لا يثبت الهلال بالجدول وهو حساب مستقرأ من سير القمر واجتماعه مع الشمس ومبناه اذا كان شهر محرم تاماً عد شهر ذي القعدة تاماً وذي الحجة ناقصاً.
لا يثبت الهلال بشهادة النساء على الاقوى الا في هلال شهر رمضان فيجوز بعنوان الرجاء والاستحباب، أي لا بنية انه من شهر رمضان.
الأقوى عدم ثبوت الهلال بشهادة عدل واحد، ولو مع ضم اليمين.
قوله تعالى [مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]
خلافاً للمتعارف من القيود وإفادتها التوكيد والدقة، يأتي هذه الشطر من الآية ليكون رحمة إضافية مزجاة للناس جميعاً لما يتضمنه من التخفيف والعفو، فلم تأتِ بتبعيض الفريضة او إسقاط شطر منها بل جاءت باسقاطها عن غير المستطيع، وعدم توجه الخطاب التمليفي له، فمفهوم الآية هو: ليس على غير المستطيع حج البيت.
وهل يخرج غير المستطيع من عمومات وضع البيت للناس، الجواب لا، لأن البيت وضع للناس جميعاً، مما يدل على ان منافع وضع البيت أعم من ان تنحصر بالحج، لأنه وضع للناس أي لهم ولنفعهم وبقائهم واتصال ارزاقهم ثم جاء فرض الحج على الناس، وتعقبه قيد الإستطاعة، وهناك في المقام قيود كل واحد منهما يفيد التخفيف وهي:
الأول: حصر الحج بأشهر معلومات، وأيام مخصوصة لينشغل الناس بطلب الرزق أيام السنة، ويكون إتحاد أوان الحج مناسبة لإجتماع المسلمين في الموضع المبارك.
الثاني: تعيين مناسك العبادة على نحو الدقة المكانية والزمانية وبما يمنع الإختلاف او التشتت.
الثالث: حجب الكافر عن أداء الحج، وعدم قبوله منه.
الرابع: حصر وجوب الحج بالمستطيع القادر على ادائه وعلى فرض عدم تشريع هذه القيود، فانه يحصل الإرباك والحرج والضرر، فجاءت هذه القيود لضبط مناسك الحج، وحرص المسلمين على أداء بما يحقق براءة الذمة لأن الإشتغال اليقيني يستلزم الفراغ اليقيني.
ومن الإعجاز ان ياتي قيد الإستطاعة في القرآن، ولم يترك بيانه للسنة النبوية مع أنها المصدر الثاني للتشريع، ومقيدة لإطلاق الآية القرآنية، وفيه شاهد على موضوعية الإستطاعة وعدم التشديد على النفس بقطع المسافة وأداء الحج مع عدم القدرة والإستطاعة، فهو مخالف لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، كما ان تعدد أداء غير المستطيع للحج يؤدي الى أضرار بالحجاج الآخرين من جهة المؤونة والنفقة وعدم كفايتها لوفد الحاج، يالإضافة الى الأذى الذي يلحق بالشخص نفسه وأسرته التي خلفها وراءه.
وقد فرض الله الصلاة على الناس ولم يقيد أداءها بحال دون حال، وجاءت الأحكام الشرعية بوجوب ادائها في حال الإختيار او عدمه، كل بحسبه، فالصحيح يؤديها بأجزائها الركنية وغير الركنية، فيأتي بالتكبيرة والقراءة عن قيام والركوع والسجود.
اما المريض فيؤديها بحسب حال الإستطاعة، عن جلوس أو اضطجاع، وتكفي المعذور الإشارة بإغماض العين للركوع والسجود وهناك وجوه أخرى من التخفيف مثل صلاة الخوف، وهي مقصورة حضراً وسفراً، جماعة وفرادى، وتبقى صلاة الصبح والمغرب على حالهما، والمراد من الخوف خصوص الخوف الذي يكون مقتضياً لتخفيف الصلاة وتحول اسبابه دون اتمامها بالكيفية الإختيارية، كالخوف من عدو او لص او سبع، فاذا كان الخوف لا يقتضي ذلك لا تنتقل وظيفة المكلف الى صلاة الخوف.
ويستحب أن تؤدى جماعة ولها كيفيات معينة، وصلاة المطاردة وتسمى صلاة المراماة والمسابقة أي التضارب بالسيف وصلاة شدة الخوف، ويصلي المكلف بكل وجه أمكن واقفاً او ماشياً او راكباً، ويبدل كل ما لا يقدر عليه جزءاً او شرطاً بالأبدال الإضطرارية ومع عدم التمكن منها يصلي بالتسبيح ويسقط الركوع والسجود، ويقول بدل كل ركعة “سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر”.
فمع ضرورة الصلاة ولزوم التقيد بها وعدم تركها باي حال فانها تتضمن التخفيف عند الضيق والحرج والمرض، وكذا بالنسبة للصيام فانه لا يجب على المريض والشيخ والشيخة اللذين يجدان مشقة وعناء في الصوم.
وجاءت هذه الآية لتبين القيد بخصوص من يؤدي الحج تخفيفاً عن الناس، وجاءت الإستطاعة ملازمة لوجوب الحج مع التباين في الحكم، فالحج واجب على الناس جميعاً ولكن الخطاب التكليفي لم يتوجه الا الى المستطيع القادر على أداء الحج، في دلالة على صدق الإمتثال بأداء أهل القدرة والإستطاعة.
ومع أهمية وموضوعية الحج وتعيين الذين يشملهم حكم الوجوب، والذين يستثنون منه، جاء القرآن بكلمة واحدة للفصل بين الفريقين، الذي يجب ان ان يحج البيت، والذي يعفى من أدائه وهي كلمة الإستطاعة التي حالت دون حصول اللبس او الترديد، وهو من أسرار وضع البيت الحرام للناس لكونه رحمة وفيضاً وبركة، فلا تجد خلافاً بين علماء المسلمين بخصوص الإستطاعة ومن يكون مستطيعاً قادراً على الحج، ومن يعتبر غير مستطيع، وكذا بالنسبة لأحكام الحج فلا تجد اختلافاً فيها قليلاً او كثيراً في شهادة موضوعية وحكمية على بركات البيت، ومصداق عملي لوضعه للناس، وليكون من مضامين الوضع للناس عدم وجود اختلاف في أحكامه، فان قلت ان المسلمين يختلفون في هلال شهر ذي الحجة، مما يكون معه يوم التاسع من شهر ذي الحجة وهو يوم الوقوف في عرفة متبايناً، والجواب من وجوه:
الأول: الإختلاف في هلال ذي الحجة اجتهادي.
الثاني: الحج أمر منفصل ومستقل عن موضوع الهلال، فتكون الحاجة للهلال لتعيين أوان المناسك.
الثالث: الخلاف في الهلال أمر جزئي زماناً ومكاناً ففي سنين كثيرة لا تجد اختلافاً بين المسلمين في تعيين أوان هلال شهر ذي الحجة.
الرابع: لو حصل الخلاف فالمدار على ثبوت رؤيته في الحجاز والأمصار المجاورة له، ويحج المسلمين بحجهم لقاعدة تقديم الأهم على المهم وهو وحدة المسلمين ووجوب أداء النسك في يوم واحد سواء الوقوف في عرفة او يوم الحج الأكبر، ولوجود كثير من الفقهاء الذين يقولون بوحدة حكم الهلال مع تعدد الآفاق، وهو المختار.
لقد تفضل الله سبحانه وحصر وجوب الحج بأهل القدرة والإستطاعة، وفي الإستطاعة وجوه:
الأول: الزاد والراحلة، وهو المشهور وقال الرازي “روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فسر استطاعة السبيل الى الحج بوجود والزاد والراحلة”( )، كما روي عن ابن عباس وابن عمر.
الثاني: ما يمكنه معه بلوغ مكة باي وجه يمكن، عن الحسن.
الثالث: السعة في الحال بان يحج ببعض المال ويبقى بعضاً يقوت به عياله عن الإمام الصادق عليه السلام.
الرابع: السعة في المال والقوة في البدن.
الخامس: صحة البدن، وامكان المشي اذا لم يجد ما يركبه، عن عكرمة.
السادس: الزاد والراحلة، وصحة البدن، والأمن في طريق الحج، وبه قال محمد بن جرير الطبري.
وجعل الأخبار الواردة في الباب أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب”( )، ولكن لا تعارض بين ظاهر الكتاب وهذه الأخبار، كما ان موضوعية صحة البدن وعدم الخوف في الطريق مستقرأة من القواعد الكلية للتكليف، وقبح التكليف بلا عقاب بما لا يطاق، بالإضافة الى قاعدة نفي الحرج في الدين، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وغيرها من القواعد الإمتنانية بالإضافة الى ان قيد الإستطاعة هو نفسه فضل ورحمة وتخفيف، ودعوة الى التخفيف عن النفس وعدم التشديد عليها في أداء الواجبات والفرائض.
والمراد من الزاد مؤونة السفر والإقامة في مكة والمدينة والراحلة هي السيارة او الباخرة او الطائرة بحسب الحال والشأن، وان كان ركوب واسطة النقل الأدنى لأداء الحج عنوان الخضوع والخشوع لله تعالى، فمن كان من شأنه ركوب الطائرة في أسفاره، ولكنه لا يستطيع مالياً أداء الحج الا بركوب السيارة، فيجب عليه أداءه.
وروى القفال عن جويبر عن الضحاك انه قال: اذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل: أكلف الله الناس ان يمشوا الى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة اكان يتركه؟ قال: لا بل ينطلق اليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت( ).
ولكنه قياس مع الفارق، فطلب المال والأرث من الرزق والحق الذي يسعى الإنسان لنيله والحصول عليه، اما الحج فقد خفف الله عن الناس وجعله مرهوناً بالإستطاعة، فمع عدم الإستطاعة، فلا وجوب.
نعم أداء الحج مشياً على الأقدام مع القدرة عليع امر حسن، ولكنه لا يدل على الوجوب لقاعدة نفي الحرج في الدين، واحتمال الضرر، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “فان كان يستطيع ان يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل”.
وقل الإبتلاء في هذا الزمان بمسالة الحاجة الى المشي، وتشمل الإستطاعة الحج بالبذل والتبرع، كما لو تبرع شخص لآخر بنفقات حجه، فليس له أن يستحي من قبول التبرع اذا كان الحج عليه واجباً بالأصل، أي انه لم يحج حج الفريضة.
ومن الإعجاز القرآني ان يأتي الوجوب بكلمة الإستطاعة من غير اضافات بيانية، وتوضيح يمنع الترديد او اجتهاد الفقهاء وتعدد الأقوال والإختلاف الكبير في الإستطاعة بما يؤدي في طرف منه الى التشديد والحرج، وفي الطرف الآخر الى التفريط والتهاون، ليناسب حكم الوجوب الناس جميعاً على اختلاف شأنهم وأحوالهم المعاشية، وأصناف أعمالهم وليتجدد في كل عام وعند أوان الحج والإستعداد له نظر المكلف الى موضوع الإستطاعة، وهل هي متحققة عنده أم لا.
مسائل فقهية في الإستطاعة
الحج واجب مشروط بمعنى انه بعث اكيد مقيد بالإستطاعة، فمع تعذر الإستطاعة لا يجب على المكلف الحج.
الأول : الإســتطاعة توفــر المال الكافي لأداء الفريضة، وصحــة البدن، وسلامة الطريق، وسعة الوقت ويلحق بها في هذا الزمان الإذن والإجراء الحكومي، والاستطاعة في الإصطلاح والاخبار الزاد والراحلة، وهو عنوان فيه تخفيف وسعة بلحاظ الشأن والحال والزمان.
الثاني : مع عدم الإستطاعة لا يتوجه الخطاب التكليفي بالحج الى المكلف لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
الثالث : الأقوى وجوب الحج على الذي تحصل عنده الإستطاعة من الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة الا ان يكون من سهم الفقراء.
الرابع : لو كان الكافر مستطيعاً ايام كفره وزالت استطاعته ثم أسلم لم يجب عليه الحج.
الخامس : اذا صالح على داره مثلاً وشرط عليه ان يحج عنه بعد موته صح ولزم بشرطين:
الأول : ان تكون من الثلث.
الثاني : ان لا تكون دار سكن الورثة ولا يمكن للورثة الإستغناء عن السكن فيها، فلا يجوز حينئذ وان كان الثلث يستوعبها وسواء كان الورثة صغاراً او كباراً، من المرتبة الأولى كالأولاد او الثانية كالأخوان، والشرطان لازمان سواء كانت المصالحة في مرض الموت أم في أيام الصحة، واذا اجتمع الشرطان ولكن المشروط عليه تخلف عن أداء الحج او فسخ رجعت الدار للوارث.
السادس : لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحج باجرة صار مستطيعاً، ووجب عليه الحج، لأن الحج عبارة عن اداء المناسك والطريق مقدمة عقلية بل ويصح الحج لو كانت الخدمة اثناء المناسك ولا تتعارض مع ادائها، كما لو كان يقوم بخدمة شخص مقعد ودفع عربته او قيادة اعمى ونحوهما وينوي الأداء عن نفسه في الوقوف بعرفة والمشعر والطواف ونحوه.
السابع : من لم يكن مستطيعاً يجوز له ان يؤجر نفسه للنيابة عن الغير، وان حصلت الإستطاعة بمال الإجارة، بمعنى ان ما جاءه من مبلغ الإجارة للحج جعله قـادراً على الحـج نيابـة والحـج عن نفسـه وان كان بضم ما عنده اصلاً اليه، فيجب تقديم حج النيابة في هذه الصورة وان بقيت الإستطاعة الى العام القابل وجب عليه لنفسه.
الثامن : الحج عن الغير لا يكفي عن حجة الإسلام فيجب عليه الحج ما دام مستطيعاً.
التاسع : بالإضافة الى الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والإياب من الحج تشمل الاستطاعة وجود مؤونة عياله حتى يرجع ولو باقل النفقة وما هو ادنى من النفقة التي اعتادوا عليها عرفاً بشرط عدم الإخلال والنقص.
العاشر : الأقوى موضوعية الرجوع الى كفايته من تجارة او زراعة او صناعة او منفعة وعدم الوقوع بالشدة والحرج.
الحادي عشر : يجب الحج مع الإستطاعة وان لم يكن عنده ما يكفي لشراء الهدايا للعيال والأرحام والأصدقاء ولو مقابلة بالمثل، ولا ما ينفقه الحاج عادة بعد عودته من الحج في آداب الضيافة واقامة الولائم، وعلى المؤمنين ان يخففوا عن الحاج في هذا المورد بما هو مناسب عرفاً وحسب الإمكان.
الثاني عشر : يشترط في الإستطاعة الامن في الطريق والوصول الى الميقات ودخول مكة وعدم الخوف، وتسمى الإستطاعة السربية، ولو كان له طريقان احدهما آمن دون الآخر، وجب الحج بسلوك الطريق الآمن وان كان الأبعد والأكثر كلفة.
الثالث عشر : لا يشترط وجود السيارة والنفقة عنده بل يكفي وجود النقد والأعيان التي يمكنه الإستغناء عنها بالبيع ونحوه وصرفها في اداء الفريضة.
الرابع عشر : يمكن تقسيم الإستطاعة بلحاظ النصوص والإستقراء العقلي الى ثلاثة اقسام:
الأول: ما يحتاج اليه في طريق الحج من الزاد واجرة الإقامة والنفقات الضرورية الأخرى بحسب حاله من القوة والضعف، والشأن والرفعة.
الثاني: تخلية السرب وعدم المنع والصد من سلطان او غيره، وسعة الوقت لقطع المسافة.
الثالث: صحة البدن وعدم الإصابة بمرض مانع من اداء مناسك الحج.
الخامس عشر : المراد بالراحلة الواردة بالنصوص في هذاالزمان السيارة او الطائرة او السفينة التي يتخذها آلة للوصول الى البيت الحرام بما يناسب حاله وشأنه، وان لم يتيسر الا ما هو ادنى من شأنه فالأولى له التواضع واحراز اداء الفريضة، كما لو كان من شأنه ركوب الطائرة ولم يتيسر له الا سيارة النقل (الباص).
السادس عشر : اذا لم يكن عنده الزاد او اجرة النقل ولكنه كسوب وبامكانه الذهاب للحج اجيراً كطباخ او حلاق او سائق سيارة ونحوها مما يكون مناسباً لمهنته في الحضر ولا يعد انتقاصاً من شأنه وجب عليه اداء الفريضة بهذه الطريقة.
السابع عشر : غلاء الأسعار وارتفاع الرسوم في سنة الإستطاعة لا يمنع من وجوب الفريضة ولا يعتبر علة تامة لتأخيرها اذا كان قادراً على الأداء، وكذا لو توقف الحج على بيع بعض املاكه باقل من ثمن المثل، كما لو كانت عنده دار زائدة عن الحاجة والمؤونة وقيمتها الف دينار ولو انتظر الى ما بعد موسم الحج باعها بالف وخمسمائة دينار.
الثامن عشر : الأولى ملائمة واسطة النقل للمقام الاجتماعي، وكذا بالنسبة للحال والقرب والبعد كالسيارة والباخرة والطائرة، بحيث لا تكون فيها مشقة عليه او منافاة لشأنه، وان كانت الاخبار مطلقة والتواضع في طريق الحج يزيد الإنسان رفعة ويرفعه درجة بل ورد في بعض اخبار وجوب الحج “ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب”، والأجدع مقطوع الأذن.
التاسع عشر : على الحكومات الاسلامية تيسير صرف جوازات الحج واجراءات الوصول الى البيت الحرام ومراجعة الاستعدادات كل عام ودراستها، وعدم تأخير الحاج في المطارات والمنافذ البرية.
العشرون : لقد حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رحل رث وقطيفة خلقة تساوي اربعة دراهم او لا تساوي ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
الواحد والعشرون : يستحب الإقتصار على اللوازم والحاجات، والتسهيل على النفس في الحج وكان الإمام علي عليه السلام اذا انقطع ركابه في طريق مكة يشده بخوصة ليهون الحج على نفسه.
التفقه
الأول : يستحب التفقه في احكام الحج قبل ادائه بل وقبل حصول الإستطاعة، وفي خطبته يوم الغدير قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “الدين والتفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد الا بتوبة و اقلاع”.
الثاني : يستحب القاء المحاضرات على الحجاج والمتعهدين قبل التوجه لإداء المناسك لبيان كيفية أداء المناسك وأحكام التيسير.
الحج والديون
الأول : لو لم يكن عنده الا مستثنيات الدين وضروريات معيشته يسقط عنه الحج ولا يجب عليه بيع داره اللائقة بحاله وسيارته واثاثه المناسبة لشأنه، وآلات صنعته وبضاعته ونحوها.
الثاني : اذا كان عنده مقدار ما يكفيه للحج ولكنه يريد ان يتزوج ويجعله مهراً ونفقة لزواجه، فان شق عليه ترك الزواج قدمه، والأولى التعجيل بالزواج ومقدماته قبل موسم الحج مع الامكان وعدم الحرج.
الثالث : لو دار الأمر بين أداء الحج وزواج ابنه يقدم الحج لوجوبه العيني، وكذا بالنسبة للأم.
الرابع : اذا كانت استطاعته المالية عبارة عن دين في ذمة غيره فيجب عليه ان يسعى في تحصيله اذا كان حالاً، وكذا اذا كان الدين مؤجلاً ولكن المديون باذل.
الخامس : لا يجب الإقتراض للحج وان كان قادراً على وفائه بعدئذ، نعم لو كان له دين على آخر ورضي باحالة الدائن عليه وجب، وكذا لو كان عنده مال غائب متسالم عرفاً حضوره.
السادس : لو كان قادراً على اداء الحج مالياً، ولكنه مديون للغير بما يفقد الإستطاعة لو ادى الدين، فيقدم الدين لأولوية تقديم حق الناس وان كان الحج قد وجب عليه في سنة سابقة الا اذا كان الدين مؤجلاً بما يقدر عليه عند عودته من الحج او أن الدائن رضي بتأجيله.
السابع : لو كانت عليه حقوق شرعية من الزكاة والخمس اذا اداها تنعدم الإستطاعة، فتقدم الحقوق لأنها متعلقة بعين المال الا ان يجعلها الحاكم عليه نجوماً واقساطاً وبما لا يضر بمصلحة المستحقين وهو الأولى مع وجود الراجح لأداء الحج ولو على نحو القضية الشخصية.
الثامن : لو شك في المال الذي بحوزته هل بلغ الإستطاعة أم لا، فلابد من الفحص واختيار الأنسب والأرخص في اداء المناسك وبما لا يتعارض تعارضاً بيناً مع شأنه.
التاسع : اذا حصل عنده مبلغ الإستطاعة قبل اوان الواجب فيجوز له التصرف فيه وتوظيفه في مؤونته وما يليق بشأنه، من غير اسراف وقصد الفرار من الحج.
العاشر : اذا وصل ماله الى حد الإستطاعة ولم يلتفت الا بعد فوات موسم الحج استقر عليه الحج وان تلف المال فيما بعد اذا كانت الشرائط الأخرى للحج مجتمعة، فاذا مات وجب الإستئجار للنيابة عنه في الحج لأن وجوب الحج ليس ذكرياً بل هو حكم تكليفي واقعي فلا ينافيه النسيان والغفلة.
الحادي عشر : اذا كان مستطيعاً ولكن الاجراءات القانونية والقرعة ونحوها حالت دون أدائه الحج في حياتـه، يجـب على ورثتـه ارســال نائـب عنـه لأداء الحج.
الثاني عشر : لو كان مستطيعاً واستلزم الحج بذل مبلغ زائد لأداء الفريضة واضافة اسمه لوفد الحاج، وجب الحج بشرط عدم مزاحمة آخرين والحيلولة دون أداء غيره للحج، فمثلاً لو كان عنوان مساعد المتعهد يشترى بالمال وجب الحج لعمومات الاستطاعة، اما لو كان الشراء والرشوة تسبب حذف اسم حاج آخر فلا يجوز حينئذ لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
الثالث عشر : يشترط استيعاب الإستطاعة لجميع اعمال الحج فلو تلف ماله اثناء الطريق صار غير مستطيع في الواقع.
الرابع عشر : لا تشترط ملكية الزاد والراحلة، فلو حصلا بالهبة والإباحة تحقق الوجوب وكذا لو كانا صدقة اذا كان لا يتعارض وشأنه.
الخامس عشر : لو اوصى له شخص بمؤونة الحج فيجب عليه حينئذ الحج حتى على القول بموضوعية القبول في الوصية أو ظهور منة في البين خصوصاً مع ما فيه من الثواب العظيم للموصي.
السادس عشر : في هذا الزمان يتم الحج عن طريق القرعة والاختيار، ولو ظهر اسمه ضمن وفد الحاج ولم يكن مستطيعاً، واستلزم الأمر الاستدانة يستحب له الاستدانة والاقتراض مع أدنى احتمال لامكان الوفاء في الأجل، لأن خروج اسمه في وفد الحاج بالقرعة ونحوها قد لا يتحصل عندما تكون عنده استطاعة، ولأنه سبحانه الواسع الكريم، ولارادة تعظيم شعائر الله.
الحج البذلي
الأول : وهو ان يبذل لك شخص مؤونة ونفقة الحج فيتحقق وجوب الحج عليك لصدق الإستطاعة، وفيه نصوص عديدة وعليه الإجماع سواء كان البذل بنية التمليك او لا، جاء عن نذر او تطوعاً.
الثاني : يصدق البذل اذا قال “حج وعلي نفقتك ونفقة عيالك” بل ولو قال “علي اتمام نفقة حجك” كما لو كان عنده ما يكفي لنصف نفقة الحج، او اعطاه مبلغاً يجعله مستطيعاً للحج باضافته الى ما عنده، اوا عطاه نفقة الحج وكان عند عياله ما يكفيهم ولو بالقوة، او كان ابوه او بعض ابنائه يعمل بما يكفي للنفقة اليومية.
الثالث : اذا قصر الباذل في بعض نفقات الحج وكان المبذول له قادراً عليها وجب عليه الحج، كما لو لم يدفع الهدي او اجرة المنام، وبامكان المبذول له الصيام والنوم في السيارة مثلاً، اما الكفارات فالأقوى انها واجبة على المبذول له وليس على الباذل.
الرابع : لو كان الذي بُذلت له نفقة الحج مديوناً للناس او محتاجاً لبعض المؤن، فانه لا يمنع من تحقق الإستطاعة ووجوب القبول والحج الا اذا كان الدين حالاً والدائن مطالباً، والمديون متمكناً من الأداء مدة الحج لو لم يذهب لأداء الحج ومع هذا فالأولى للدائن امهاله.
الخامس : لا يشترط الرجوع الى كفاية عند تحقق الإستطاعة بالحج البذلي والمراد من الكفاية وجود نفقة كافية لمؤونته ومؤنة عياله.
السادس : الحج البذلي مجز عن حجة الإسلام فلا يجب عليه مرة اخرى اذا استطاع مالاً.
السابع : يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في الإحرام الا ان يكون المبذول له قد تصرف به ودفعه في نفقات الحج ويشق استرجاعه، او ان الموهوب له ذو رحم وقد قبض البذل، كما يكره الرجوع في البذل خصوصاً مع وجود الراجح الشرعي او العقلي.
الثامن : لا يجب على الولد ان يبذل لوالديه ما يحجان به، وكذا لا يجب عليهما البذل للولد، ولا يجوز لأحدهم الأخذ من مال الآخر للحج من غير إذنه، اما ما ورد في الخبر عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السلام: “ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث لرجل: انت ومالك من هبة الله لأبيك، انت سهم من كنانته “، فمع ضعف سند الحديث فأنه يحمل على المضامين الإخلاقية والبر بالوالدين، او وجوب انفاق الابن على الأب ان كان فقيراً.
التاسع : يستحب للولد ان يبذل نفقة الحج لوالديه، وكذا الأب للابن خصوصاً اذا كان في حجه استقرار لإيمانه ومقدمة لهدايته.
العاشر : تعطل بعض اعماله التجارية في بلده عند غيابه لأداء فريضة الحج ليس مانعاً عن ادائها.
الحادي عشر : لو توقف الحج على قتال العدو لم يجب حتى مع ظن الغلبة عليه والسلامة، واذا كان يندفع بالمال وجب بذله الا اذا كان ضاراً بالباذل.
الثاني عشر : يجب على المكلف اداء فريضة الحج بنفسه، ولا تكفيه نيابة غيره عنه ما دام متمكناً من الأداء.
الثالث عشر : اذا استقر عليه الحج ولم يتمكن من المباشرة بسبب العجز والمرض الذي لا يرجو شفاءه او الهرم، فيجب عليه إستنابة غيره وتجزيه ما دام العذر باقياً، ولا يجب على ورثته حينئذ القضاء عنه.
الرابع عشر : لو كان ميسوراً ومستطيعاً من جهة المال وسعته ولكنه لم يتمكن من مباشرة اداء الحج، كما لو كان فاقداً لشـرط الســن ونحوه من الشروط وفق القوانين، او للحصر بالحج مرة واحدة، وقد ادى حجته الأولى نيابة عن غيره فلا يجب عليه ارسال غيره للحج نيابة عنه ما دام يرجو زوال المانع على الاقوى، كما لو كان ينتظر بلوغ العمر المأذون به او انقضاء سنوات المنع، او خروج اسمه في القرعة ونحوها، وان مات يقضى عنه من اصل تركته وان فقد الاستطاعة في سني عمره الاخيرة.
وتعلق قيد الإستطاعة بالسبيل والسبيل هو الطريق وما وضح منه، يذكر ويؤنث، فلم تقل الآية “ولله على الناس حج البيت لمن استطاعه”، بل قالت من أستطاع اليه سبيلاً، مما يدل على موضوعية مقدمات الحج وقطع المسافة والطريق الى الحج في أدائه، فوجوب الحج امر مركب من:
الأول: مقدمات الحج وتهيئة أسباب الوصول الى البيت الحرام، وقطع المسافة والقدرة على تحمل مشاق السفر.
الثاني: أداء مناسك الحج من الوقوف في عرفة والمبيت في مزدلفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ونحوها من الواجبات.
ومن الإعجاز في الآية ان الإستطاعة تعلقت بالسبيل الى الحج، وليس الحج نفسه على نحو الحصر فلم تقل “من أستطاع الحج”، بل ذكرت الإستطاعة بخصوص الطريق والأداء وما يكون طريقاً ومقدمة توصلية للحج، سواء كانت مقدمة عقلية او شرعية وفيه اشارة الى يسر وسهولة أداء مناسك الحج، وتحتمل الآية امرين:
الأول: شمول مناسك الحج بالإستطاعة، فالمراد من لفظ الإستطاعة، المعنى الأعم الشامل للحج ومقدماته، فقد يستطيع الإنسان الوصول الى البيت، ولكن يتعذر عليه أداء المناسك.
الثاني: تعلق الإستطاعة بخصوص الطريق الى الحج، وتهيئة مقدماته وأسباب الوصول الى البيت، والصحيح هو الأول، وهو شاهد على الدقة في الحكام الشرعية، والإعجاز في ألفاظ القرآن، وان كل كلمة منه تفتح أبواباً من العلم فان قلت من الناس من لا يستطيع أداء مناسك الحج لكبره او مرضه، قلت: ان المانع من أداء الحج يكون مانعاً من قطع المسافة وباقي المقدمات من باب الأولوية، نعم قد تهيء عناية ورفقة للمريض والكبير في الوصول الى البيت، فيبقى عليه اداء المناسك، لذا جاءت الشريعة بالتخفيف والتسهيل والقواعد الإمتنانية بوجوه الإنابة عن العاجز في الطواف ونحوه، والطواف والسعي به، وحمله فيهما.
وصحة البدن وجه من وجوه الإستطاعة، فلا تصل النوبة الى التخفيف في المناسك لأنه قائم في أصل التكليف بالحج .
وورد حديث ضعيف الإسناد عن الإمام علي عليه السلام قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَهِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِى الْحَدِيثِ ( ).
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات ولم يحج حجة الإسلام ، لم يمنعه مرض حابس ، أو سلطان جائر ، أو حاجة ظاهرة ، فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً)( ).
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ، وقال العقيلي والدارقطني لايصح فيه شئ ، ويتسامح العلماء في رواية الحديث في باب الفضائل والمستحبات وفي الترغيب والترهيب .
وسيأتي مزيد بيان في الجزء الثامن بعد المائتين من هذا التفسير في باب تقسيم الواجب إلى عيني وكفائي إذ أن حج البيت الحرام واجب عيني على كل مكلف عنده استطاعة للحج سواء كان رجلاً أو امرأة.
ولو دار الأمر عند المكلف بين حصول الإستطاعة عنده او عدمها، كما لو كان لا يعلم هل تكفيه مؤونته لأداء الحج أم لا، فالأصل البراءة.
وأكد قوله تعالى [ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، موضوعية القدرة على الوصول الى البيت الحرام كشرط في فرض الحج وفيه منع للحرج، ودفع للضرر والأذى وهو من عمومات قوله
تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( )، وعدم التكليف بما لا يطاق.
وتحث الآية المسلم في كل عام الى التحقق في امكان الوصول الى البيت الحرام وأداء الحج، ولم تقيد الحج او الإستطاعة بالإسلام، بل مما يدل على التوجه الخطاب التكليفي بالحج لكل مستطيع ومستطيعة من المكلفين، وأستدل بعضهم بهذه الآية على تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بأصول الدين، الا ان يقال ان القدر المتيقن هو فريضة الحج خصوصاً وليس فروع الدين مطلقاً.
والضمير الهاء في (إستطاع اليه) يحتمل في عائديته وجهين:
الأول: البيت الحرام أي من استطاع الى البيت سبيلاً.
الثاني: الحج أي من إستطاع الى الحج سبيلاً.
والأصح هو الثاني لأن موضوع الآية هو حج البيت، وبين إستطاعة الحج والوصول الى البيت عموم وخصوص مطلق، فاداء الحج وصول البيت الحرام في أيام وأشهر الحج، اما الوصول الى البيت فهو أعم ويشمل أيام السنة كلها وأداء مناسك العمرة.
قانون الإستطاعة
الإستطاعة هي الطاقة، وقدرة الإنسان على الفعل وقد تحذف التاء فيقال: أسطاع يستطيع، لأن التاء والطاء من مخرج واحد، فتحذف التاء تخفيفاً للفظ وفي التنزيل [ومَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ]( ) ولم يرد لفظ (إستطاع) بصيغة المفرد الغائب في القرآن الا في هذه الآية في دلالة على موضوعية البيت، وفي هذا الإنفراد مسائل:
الأولى: اختصاص البيت بفعل عبادي من الناس قائم على القدرة والإستطاعة.
الثانية: توكيد موضوعية الإستطاعة في حج البيت الحرام.
الثالثة: تنبيه المستطيع والقادر على الحج بلزوم أداء فريضة الحج.
الرابعة: وهل في الآية دعوة لتحصيل الإستطاعة، بمعنى ان المسلم عليه أن يسعى لتهيئة أسباب ومقدمات الحج من الزاد والراحلة، الجواب ليس من إمارة في الآية تدل عليه لاعلى نحو الوجوب ولا الإستحباب، وفي علم الأصول ان تحصيل مقدمة الواجب ليس بواجب.
ولم يرد لفظ وموضوع الإستطاعة في أي من الفرائض العبادية، نعم ورد في الصيام [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] ( ).
أما هذه الآية فجاءت الإستطاعة شرطاً لوجوب الحج، كما انها مادة وطريق لأدائه، وتدل الآية على ان الإستطاعة عند المسلمين قانون ثابت ودائم في كل زمان لمقدمتين:
الأولى: لابد من قيام المسلمين بحج البيت في كل عام.
الثانية: الإستطاعة شرط في أداء الحج.
مما يعني توفر الإستطاعة عند المسلمين، وهي نعمة ورزق وعنوان للسعة والغنى عند المسلمين خصوصاً وانها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بلحاظ أمور:
الأول: الشأن والحال والتفاوت فيه.
الثاني: قرب او بعد المسافة فمن يكون قريباً من البيت تكون مؤونته أخف ممن يكون بعيداً عنه.
الثالث: التباين في وسائط النقل سرعة وبطئاً، وسعة وضيقاً.
الرابع: الحالة المعاشية للناس، والغلاء او الرخص في الموسم والبلاد الأخرى.
الخامس: سلامة السرب وسهولة الطريق، او وجود مشاق وصعوبات فيها.
السادس: حال العيال ومن يخلفه الحاج خلفه، وما يحتاجون اليه من المؤونة والنفقة.
ومضامين الإستطاعة تأخذه هذه العناوين بالإعتبار، في تخفيف وفضل من عند الله من غير ان يؤثر هذا التخفيف على توجه أفواج المسلمين لأداء الحج وتحقيق مصاديق قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ] ( ).
بالإضافة الى استحضار المكلفين لحقيقة وهي ان الحج حاجة للناس والله غني عن العالمين فمن يحج البيت يجلب الصيت الحسن وينال الخير وينهل من بركات البيت الحرام، ويفوز بالأجر والثواب، ومن الشواهد ان ترى الحج يضفي على من أداه رداء من الهيبة والشأن، ويكون سبباً ابتدائياً لبعث الثقة في النفوس به، فمتى ما علم الناس ان هذا الشخص قد حج البيت الحرام فانهم يميلون ويطمئنون اليه الا ان يظهر الخلاف، وهو قليل نادر ولا عبرة بالقليل النادر، كما ان حج البيت موضوع وحكم يلح على الإنسان بلزوم تقيده بالفرائض، وتحليه بالأخلاق الحميدة.
ومن الآيات أن مصاديق قانون الإستطاعة غير ثابتة بل متغيرة من بلد الى بلد، ومن زمان الى آخر، فتارة تزداد وأخرى تكون قليلة، ومع هذا فان المسلمين يحرصون في كل زمان على التوجه الى البيت الحرام عشقاً لواجب الوجود، فلا غرابة ان ترى بعض الحجاج ولحد اوائل القرن العشرين يقطع مئات الأميال مشياً على الأقدام لأداء الحج ليكون شاهداً على الحد الأدنى من الإستطاعة الذي يمكن معه أداء الواجب، ونيل الفوز بالسعادة الأخروية.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإستقصاء) وهو استيفاء معاني الموضوع، والمجيء بجميع خصاله وصفاته الذاتية، ومصاديقه ولوازمه وعوارضه وآيات القرآن مدرسة في علوم البلاغة والإطناب والإيجاز، وتنفرد بما يتفرع عنها من معاني الحكمة والإعجاز، وقد يأتي الإستقصاء الموضوعي او الحكمي او كلاهما معاً في آية واحدة أو آيتين أو أكثر، وقد جاء استقصاء العناوين والكليات الكبرى في البيت في هذه الآية والآية السابقة والجمع بين الآيتين يفيد اموراً:
الأول: ان الله هو الذي وضع البيت.
الثاني: سبق قدم انشاء البيت وانه اول بيت، ولم يوضع لفرد او جماعة او أمة او جيل بل للناس جميعاً، مع علم الله تعالى بان الناس لن يجتمعوا في مصر وبلد واحد، في اشارة الى حصول النقل والإنتقال بين أمصار الأرض، فالذي يأتي للحج من بلد بعيد لابد وان يمر بمدن وقرى متعددة فيكون مروره مناسبة للتعارف والصلة مع الذين يمر بهم [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]( )، والبيت وسيلة للأخوة والمحبة، وذكرت الآية موضعه وانه بمكة بما يساعد الناس على الإهتداء اليه.
الثالث: الترشح الدائم والمتصل للبركة من البيت لأن ما يضعه الله يترشح منه الخير والفيض والنعم المتصلة.
الرابع: البيت هو باب هداية للناس، ووسيلة اصلاح لهم.
الخامس: إبتدأت هذه الآية بذكر حقيقة من الإرادة التكوينية وهي وجود آيات باهرات في البيت لتكون جامعة لعالم الشهود وعالم الغيب.
السادس: جعل مقام إبراهيم آية ظاهرة، وعنواناً للبركة، ولفت الأنظار لما فيه من المعاني القدسية وبيان عظيم منزلة إبراهيم في تأريـــخ
الحج، وتخليد اسمه وفعله في القرآن وفي الواقع الأرضي.
السابع: من وجوه البركة والآيات ان يتغشى الأمن من يدخل البيت وهو من مختصات البيت الحرام وشاهد على تفضيل هذه البقعة المباركة.
الثامن: بيان وجه من وجوه البركة وهو حج البيت وما فيه توكيد لوظائف البيت الحرام وان الله تعبد الناس بحجه مع عظيم الأجر والثواب لمن زاره، وبيان الصلة بين وضع البيت وأداء الحج التي تعني الصلة بين الدنيا وهي عالم الأفعال وبين الاخرة وهي عالم الجزاء.
التاسع: تقييد فريضة الحج بالإستطاعة والقدرة على الوصول الى البيت.
العاشر: ختم هذه الآية بأمرين:
الأول: لغة الإنذار والوعيد لمن حج فريضة الحج وإستكبر عن أدائها.
الثاني: بيان عدم حاجة الله للخلائق، وفيه اشارة الى ان حج البيت رحمة بالناس وفضل إلهي محض، وان من يجحد به لا يضر الا نفسه.
قوله تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]
بعد توكيد الآية على وجوب الحج على كل مستطيع وقادر عليه من الناس مطلقاً، وما فيه من بيان موضوعية الحج في وضع البيت، وخلق الإنسان، فالبيت وضع ليحجه الناس، ومن وظائف الناس العبادية حج البيت الحرام، وكان الملائكة يطوفون حوله قبل خلق آدم.
وجاءت خاتمة الآية بصيغة الإنذار والتوبيخ لأهل الكفر والجحود، والكفر في المقام على وجوه:
الأول: كفر جحود بفريضة الحج.
الثاني: عدم شكر نعمة البيـــت الحـــرام، قال تعالى [وَمَنْ يَشْكُرْ
فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد] ( ).
الثالث: عدم الإنتفاع من البيت الحرام في مناسك العبادة والصلاح.
الرابع: الشرك والضلالة، وجحود الربوبية.
الخامس: الصدود عن النبوة واحكامها، وعدم اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله.
السادس: ترك ما أمر الله به من الفرائض والواجبات، ومنها حج البيت الحرام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأمور:
الأول: صدق صفة الكفر على كل وجه منها.
الثاني: مجيء الآية بصيغة الإطلاق الشاملة لأفراد الكفر.
الثالث: خاتمة الآية قاعدة كلية تبين غناه تعالى عن الناس والخلائق مطلقاً.
و(من) في قوله تعالى [وَمَنْ كَفَرَ] اسم شرط جازم، وليس من جواب شرط في الآية، وهو محذوف وتقديره: فلن يضر الله فان الله غني عن العالمين، ولكن سياق الآية جاء وكأن الجملة الخبرية خبر للمبتدأ وجواب للشرط في آن واحد، وفيه وجوه:
الأول: توبيخ الكافرين وبيان قبح فعلهم باختيارهم الجحود والصدود.
الثاني: إخبارهم بأن صدودهم عن البيت وحجه لن يضروا به الا انفسهم.
ومن صفات الله تعالى انه ليس محتاجاً الى غيره، لأنه تعالى ينفرد بوجوب الوجود، والإحتياج صفة ملازمة للإمكان، وكل ممكن محتاج، وكل شيء محتاج الى الله تعالى وكل مخلوق فضل من عند الله وفيض من
لطفه، وشاهد على عظيم قدرته وغناه عن غيره.
الثالث: تحث خاتمة الآية في مفهومها المسلمين على تعاهد البيت الحرام، والإمتثال للأوامر الإلهية بأداء الحج.
الرابع: جاءت الآية بصيغة الإنذار والوعيد لمن يجحد بالحج، والإشارة لما ينتظره من العقاب، للإقامة على الكفر، والإصرار على عدم طاعة الله .
الخامس: من غناه تعالى عن الناس انه سبحانه يحفظ البيت الحرام ويتعاهده في موضعه وبنائه وما فيه من المعجزات الباهرات، والدلالات الواضحات.
السادس: حينما نزل قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] ( ) قال نفر من اليهود ان الله فقير يستقرض منا ونحن الأغنياء، ولو كان الله غنياً لما استقرضنا اموالنا، فانزل الله [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، وجاءت هذه الآية لتخبر بان حج البيت حاجة ونفع محض للعبد نفسه وان الله غني عن حج الناس لبيته.
السابع: لما جاءت الآية السابقة بوضع البيت وانه لم يوضع للمسلمين فقط، بل وضع للناس جميعاً، وأنه هدى للعالمين، ذكرت هذه الآية غنى الله تعالى، وعدم حاجته للناس والعالمين، وان وضع البيت والمقاصد القدسية منه ورشحات البركة التي تفيض منه هي فضل من عند الله لا عن حاجة منه.
الثامن: أخبرت الآية عن حقيقة ثابتة وبيان صفة من صفات الجلال، وتوكيد غناه تعالى إخبار عن سلب الحاجة عنه.
التاسع: الآية مدح وثناء على الله وبيان لعدم حاجته لغيره.
العاشر: بعد النفي المطلق لحاجة الله لغيره فان صلة الناس مع الله اما ان تكون مبنية على حاجتهم له او لا، والصحيح هو الأول، لأن كل مخلوق هو محتاج لله ، وجاءت الآية بالتذكير بحاجة الخلائق لله تعالى، لذا وردت بصيغة (العالمين) لتدل في مفهومها على ان الملائكة والناس والجن والخلائق كلهم محتاجون لله تعالى، فالله غني عن العالمين، وغيره محتاج اليهم، وتتجلى الحاجة بإطاعة أوامر الله في الفرائض والعبادات، وإتيان البيت الحرام وتعاهده.
الحادي عشر: في الآية توكيد على استدامة وضع البيت، ودوام منافعه وتيسير الوفود اليه، وفيها انذار وزجر عن صد ومنع الحاج عن الوصول الى بيته الحرام.
الثاني عشر: هل في الآية اشارة الى انه لو لم يقم الناس بحج البيت فان الملائكة يقومون بحجه والطواف حوله، الجواب لا دليل على هذا المفهوم وان كان طواف الملائكة مستمراً، كما ان وظائف الناس أزاء البيت أعم من الحج اذ انها تشمل العمرة والزيارة، واستقباله في الصلاة اليومية من جميع انحاء الأرض، وموضوعية جهته في الذبائح ودفن الموتى.
الثالث عشر: لا ينحصر موضوع الإخبار عن غناه تعالى بخصوص توبيخ وتبكيت الكافرين، بل انه يأتي لدعوة المسلمين للسعي لأداء مناسك الحج، والحرص على الإمتثال لأوامر الله تعالى قال سبحانه [وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ] ( ).
الرابع عشر: تتضمن الآية حث أهل الإستطاعة والمقدرة على الحج من المسلمين ان يبادروا الى اداء الفريضة لما فيه من النفع العظيم لهم وللناس كافة في النشأتين، أي ان حج وتعاهد المسلمين للبيت الحرام فيض وبركة تترشح على اهل الأرض جميعا، وتذكير بالله ووجوب عبادته، ودعوة لتهذيب النفوس واصلاح المجتمعات، ودعوة فعلية ذاتية الى الإسلام، أي يؤدي المسلمون الحج، فيكون اتحادهم وإجتماعهم في حشر عبادي مهيب سبباً لبعث الخشوع لله في النفوس، ودعوة للناس لدخول الإسلام وهو من مصاديق وصف الحج بانه جهاد.
بحث أصولي
يقسم الواجب الى عدة تقسيمات بحسب اللحاظ والجهة والمضمون منها:
الأول: الواجب المطلق والمقيد، والأول هو الواجب الذي لا يتوقف وجوبه على شيء آخر كالصلاة فانها واجب مطلق ولا تترك بحال، والثاني أي المشروط الذي يتوقف وجوبه على شيء مخصوص يكون مأخوذاً في ذات الواجب على نحو الشرطية، فلا يتوجه الخطاب التكليفي وتنشغل الذمة بالواجب الا بتوفر الشرط، لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه ومنه الحج فهو واجب مشروط بالإستطاعة، وفيه تخفيف ورحمة للتباين بين الوجوبين، فالصلاة واجب بدني يؤدى بالمسجد او المسكن او في أي موضع ولا تؤخذ من الإنسان في كل فريضة الا بضع دقائق، اما الحج فهو واجب بدني ومالي ويستلزم قطع المسافة وتحمل المشاق ومفارقة الأهل والأحبة، فلذا قيده الله تعالى بالإستطاعة، وجعل الإستطاعة ملازمة لفرض الحج في القرآن وفي نفس الآية التي تقول بوجوب الحج، ومتعقبة وملازمة له، منعاً للحرج وللتعدد في التأويل والإجتهاد والتفسير.
الثاني: الواجب العيني والكفائي، والأول هو الفعل الذي يتعلق بكل مكلف، واذا أداه مكلف فانه لا يسقط عن غيره لأن كل واحد مكلف عيناً بأدائه ويقابله الواجب الكفائي، وهو المطلوب من جهة المكلف به، أي طبيعي المكلف بنحو صرف الوجود، ويتوجه الخطاب فيه الى جميع المكلفين الا انه يكتفى باداء فعل واحد عن المكلفين الآخرين، اما اذا تركوه جميعاً ولم يقم احد به فانه يؤثم الجميع، ومنه رد السلام وتغسيل الميت.
والحج واجب عيني وخطاب تكليفي موجه الى كل مكلف وأداء بعضهم لا يسقطه عن الآخر، فأداء الابن لا يسقط الفريضة عن الأب ان كان مستطيعاً وكذا في أداء الزوج فانه لا يسقط الفريضة عن الزوجة.
الثالث: الواجب المنجز والمعلق، اما الأول فيعني اتحاد زمان الوجوب والواجب كالصيام حين رؤية الهلال، فزمان الوجوب هو رؤية الهلال ويتحقق الواجب في نفس اليوم، وكالصلاة حين دخول وقتها، اذ يتوجه بها الخطاب التكليفي الى المكلفين، اما الواجب المعلق فيعني ان فعلية الوجوب متقدمة زماناً على فعلية الواجب.
والحج من الواجب المعلق لأن أداءه متعلق بزمان مخصوص وهو موسم الحج وان تحققت الإستطاعة قبل الأوان فوجوبه الفعلي مشروط بالإستطاعة، وعند تحققها قبل زمان الواجب وهو أشهر الحج بكونه معلقاً لحين وصول زمان الواجب، وقال المعتزلة ان الإستطاعة قبل الفعل وأنها متقدمة زماناً على الفعل، وقيل باستحالة الواجب المعلق ولزوم موضوعية أوان الداعي الى الفعل، والخلاف صغروي وأصولي والا فان الإجماع على توجه التكليف الى المستطيع اوان الحج.
الرابع: الواجب الأصلي والتبعي، والأول ما تعلق الوجوب به وعلى نحو الإستقلال كالصلاة، في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]، أما الواجب التبعي فهو الذي لم يأتِ الخطاب بوجوبه، ولكنه أمر عرضي ومقدمة او تابع للواجب الأصلي كما في المشي وقطع المسافة الى الحج فانه ليس بواجب ولم يقصد بذاته ولكنه أمر تابع للحج، ومقدمة له والحج واجب أصلي، جاء الخطاب بأدائه.
الخامس: الواجب التعييني والتخييري، اذا تعلق الأمر بفعل مخصوص لا يمكن الإتيان ببدل عنه، فهو واجب تعييني، كالصيام في شهر رمضان فانه واجب لا يجزي عنه واجب آخر في عرضه، انما جاء الخطاب المولوي باداء الصوم بالذات مع اجتماع شرائطه من البلوغ والعقل والإختيار والصحة ونحوها، اما أداء الفدية بالنسبة للشيخ والشيخة ممن لا يقدر على الصوم فهو واجب في طول الصوم وخاص بحال تعذره وليس في عرضه.
وكذا الوضوء فانه واجب تعييني وان كانت وظيفة المكلف تنتقل الى التيمم عند تعذر الماء، لأن التيمم واجب في طول وجوب الوضوء وليس في عرضه.
اما الواجب التخييري فهو ما كان له بديل مساوِ له في المرتبة ولم يتعلق به الطلب على نحو الخصوص، وللمكلف ان يختار أحد أفراد الواجب كما في كفارة افطار شهر رمضان عمداً فان المكلف مخير بين صيام شهرين متتابعين او عتق رقبة او اطعام ستين مسكيناً.
والحج واجب تعييني، تعلق به غرض المولى على نحو الخصوص وهو كالصلاة ليس له بديل في عرضه وطوله فلا شيء يجزي عن الحج الا الحج، فالناس بالنسبة لوجوب الحج على قسمين، اما مستطيع ويجب عليه الحج، ولا يقبل منه بديل عنه، واما غير مستطيع فلا يتوجه له تكليف بالحج، وكذا بالنسبة لإستقبال البيت في الصلاة فانه واجب تعييني وليس تخييراً، فليس للإنسان ان يختار بين الجهات في جهات القبلة بل لابد وان يتوجه الى جهة البيت الحرام.
السادس: الواجب الموسع والمضيق: وهذا التقسيم بلحاظ الوقت وأوان الأداء، فاذا كان الوقت يتسع للأداء في آنات متعددة فهو موسع، كصلاة الصبح فان وقت أدائها يستمر من طلوع الفجر الى طلوع الشمس، ومتى ما أوديت كانت مجزية، ولكن لا يجوز تركها طيلة الوقت، والتباين في الفضيلة في وقت الأداء لا يضر بأصل هذه القسمة، اما المضيق فهو الذي يستوعب وقته أداء الواجب من غير زيادة، كفرض الصيام،
فأنه مضيق ومؤقت بخصوص شهر رمضان دون غيره من الأيام.
والواجب الموسع والمضيق فردا الواجب المؤقت الذي يكون لأدائه وقت مخصوص كالصلاة اليومية، في مقابل الواجب غير المؤقت الذي ليس لأدائه وقت مخصوص على نحو التعيين كدفع الكفارة وقيل منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه على مراتب، فقد تكون الحاجة له فورية.
والحج من الواجب المضيق الذي يجب ان يؤتى بأيام مخصوصة، فالوقوف في عرفة مثلاً لا يكون الا في اليوم التاسع من ذي الحجة، وتحديداً بعد الزوال.
السابع: الواجب النفسي والغيري، والأول ما أريد به بالذات وهو المقصود بالأمر الإلهي كالصلاة والصوم، اما الواجب الغيري فيؤتى للتوصل الى واجب آخر، كالوضوء للصلاة فانه واجب ولكن وجوبه الأداء الصلاة والحج واجب نفسي.
الثامن: الواجب التعبدي والتوصلي: والأول هو الذي يؤتى به تقرباً الى الله تعالى وطاعة لأمره ولما فيه من المصلحة والمنفعة ولحسنه الذاتي، ورجاء الثواب على الإمتثال فيه، والسلامة من العذاب عند المعصية والتخلف عن أدائه كما في سائر العبادات، أما التوصلي فهو الذي يؤتى به لمجرد حصوله في الخارج من غير قصد القربة والإمتثال لأمر الله تعالى، كما في غسل الثوب وحصول طهارته من غير قصد الطاعة، الا اذا قصد فيه الطاعة وجعله مقدمة.
الخلاصة: يعتبر الحج واجباً مشروطاً بالإستطاعة وليس مطلقاً، وواجباً عينياً فلا يجزي أداء مكلف عن غيره، والنيابة فيه حكم خاص عند تعدد أداء المكلف ذاته.
والحج واجب معلق على الإستطاعة وزمان الواجب، وعندها يكون منجزاً، وهو واجب أصلي مطلوب بالأصل وليس بالتبعية للصلاة او الصوم او الجهاد.
وهو واجب تعييني جاء الخطاب الإلهي بالأمر به على نحو التعيين وليس هناك واجب آخر بديل عنه بعرض او رتبة واحدة معه.
والحج واجب مضيق في زمان مخصوص لا يقبل الترديد، او التأجيل، فترى ملايين الحجيج يقفون في عرفة في يوم واحد من السنة، وعند الغروب ترى المكان عاد خالياً من الناس في آية ليس لها مثيل في أي بقعة في العالم، والحج واجب نفسي مطلوب لنفسه وذاته وليس لواجب آخر.
وهو واجب تعبدي يشترط فيه قصد القربة ولما فيه من المنافع قال تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسم اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] ( )، وفي أداء الحج ثواب عظيم، بالإضافة الى حسنه الذاتي وكونه شاهداً على إستدامة عبادة الله في الأرض التي هي علة خلق الإنسان، ومادة بقاء الحياة الدنيا.
ومن الأصوليين المعاصرين من قسم القدرة الى شرعية وعقلية والأولى التي تؤخذ في موضوع الخطاب، وتستقرأ موضوعيتها في ملاك التكليف سواء جاءت صريحة في موضوع الخطاب او جاءت الدلالة عليها بالتضمن.
اما اذا لم تؤخذ القدرة في موضوع الخطاب، بل يدل عليه مضمون كما في إرادة البعث والتحريك نحو المقدور او لعدم قدرة العاجز عن تلقي الخطاب الصريح.
وفريضة الحج على هذا من الأولى فقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ] يفيد القدرة الشرعية اذ جاء الخطاب صريحاً بالتكليف.