معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 72

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي علم بالقلم، وتفضل وجعل أول ما أنزل من القرآن دعوة إلى العلم، بعد بيان نعمة الإيجاد والخلق للدلالة على الملازمة بين النعمتين والإنتقال من حال الفطرة إلى العلم والإرتقاء في مراتبه، وتجلي آيات الفضل الإلهي على الناس بطرد الجهل عنهم، والتأهيل للإحتراز من ارتكاب الموبقات.
ومن صفات الله تعالى الثبوتية أنه عالم، وجميع الأشياء متبينة ومنكشفة له حاضرة عنده، لا يمكن ان تغيب عنه اذ ان العلم على قسمين حضوري وانطباعي، والثاني ممتنع على الله، ومن علمه تعالى أنه فعل الأفعال المتقنة، وخلق الإنسان في أبهى صورة بين الخلائق وتفضل عليه بالتعلم والتفقه وبلوغ مراتب سامية في العلم، وأشرف وجوه العلم هو التوحيد ومعرفة وجوب عبادة الله.
وتتجلى هذه المعرفة بمصاديق من أهمها ما جاء في هذه الآية الكريمة من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل فرد منها علم قائم بذاته، يتعلق بموضوع الدعوة والأمر والنهي، وكيفية الفعل وأوأنه وصيغته ومرتبته القولية أو العقلية، وكل مرتبة منهما على درجات متفاوتة تبدأ بالأدنى.
وما في هذه الآية من التكليف تشريف سماوي للمسلمين وإخبار عن بلوغهم درجة من العلم تؤهلهم لوراثة الأنبياء في دعوة الناس للهداية والصلاح، وصحيح ان الوحي أنقطع مع إنتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا أنه باقِ بالقرآن والسنة النبوية.
فكأن هذه الآية وحي مستديم ينحل بعدد المسلمين والمسلمات، ويكون عوناً ملكوتياً مع المسلم الذي يمتثل لمضامين هذه الآية القدسية، وهذا الإمتثال مطلوب بذاته، وهو نوع طريق لحفظ معالم الدين وتعظيم شعائر الله وأحكام الحلال والحرام، وواقية للذات والغير من دبيب الشبهات والتفريط ومفاهيم الضلالة.
لقد أنعم الله على أهل الأرض بنعمة الإيمان، وجعلها قريبة من الأذهان، وتدرك الحاجة إليها في كل واقعة وحادثة، وتظهر منافعها في مختلف الميادين، ومن الآيات ترشح منافع هذه النعمة على الغير متحداً ومتعدداً، قريباً وبعيداً، وهذا الترشح من خصائص النعم الإلهية ولا ينحصر بنعمة دون أخرى ، لذا فقد يأتي على نحو دفعي ومتعدد في آن واحد ليكون عوناً للعبد على إختيار الصراط القويم الذي يؤدي به إلى النجاة والفوز في النشأتين.
ومن إعجاز القرآن ان كل آية منه نعمة متجددة، بالإضافة إلى ما تتضمنه من النعم الحسية والعقلية، لتكون آيات القرآن مجتمعة ومتفرقة شاهداً على اللامنتهي من الكنوز والخزائن في القرآن، ودعوة للغوص في بحار الفاظه وكلماته لإستخراج الدرر واللالئ التي تكون كل واحدة منها أصلاً في العلوم، وقاعدة كلية في التشريع، وسنة ثابتة ينهل منها المسلمون مبادئ السلوك.
لقد أراد الله عز وجل لكل آية من القرآن ان تكون دعوة للإسلام بالذات والعرض، فلا تحتاج الآية القرآنية في وظائف الدعوة الواسطة وصيغ التقريب إلى المدارك والأفهام، وحث الناس على الإنصات لها والتدبر في معانيها، بل هي بذاتها تخترق شغاف القلوب،وتجذب الأسماع، وتكون حجة دائمة وبرهانا ساطعا.
ويستطيع كل إنسان ان يدرك جانباً مما فيها من الإعجاز والأوامر والنواهي، مع تضمنها لأسرار سماوية خاصة ينفرد بها القرآن يعجز الفرد والجماعة الإعراض عنها، أو الإنصراف إلى غيرها على نحو السالبة الكلية، ومن خصائصها قهرها للغفلة وطردها للجهالة من النفوس والمجتمعات، وهو من أسباب نزاهة القرآن من التحريف، وخلوه من أسباب التغيير والتبديل، وهذه النزاهــة وســيلة مباركــة لإســتدأمة سلطأنه على النفوس، وإفتخــار أهل الأرض به بإعتباره ســلاحاً ملكوتياً مباركاً يقود إلى الهدى، وداعية إلى الخير، واذ تأمرهذه الآية المسلمين بالدعوة إلى الخير فأنها نفســها دعوة إلى الخير المتعدد، بإعتبار ان الدعوة ذاتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفراد الخير المحض.
وهل تتضمن هذه الآية في منطوقها الزجر عن الإرهاب ، وبيان النفع العظيم في إجتنابه ، الجواب نعم ، وستأتي قراءة لهذه الآية بهذا الخصوص في الجزء السابع والعشرين بعد المائتين@ من هذا السِفر المبارك .
وكما جاء الجزء السابق في تفسير آية واحدة، فان هذا الجزء يختص والحمد لله بآية واحدة أيضاً هي الآية الرابعة بعد المائة من سورة آل عمران، وجاء مدرسة في العلوم والمعارف بفيض ومدد من عند الله عز وجل وآية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً تبين سعة علوم القرآن وتعدد خزائنه وتجدد كنوزه، وسيأتي الجزء الواحد والسبعون@ في آية واحدة أيضاً هي [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أهل الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ) ثم تتوإلى أجزاء كثيرة يختص كل جزء منها بتفسير آية واحدة ، وكلها تأويل واستنباط وتأسيس لقوانين من ذات مضامين الآية القرآنية .

قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمة يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] الآية 104.
الاعراب واللغة
ولتكن منكم أمة: الواو: حرف عطف، وقيل إستئنافية، والأول أقرب.
اللام: حرف أمر، تكن: فعل مضارع ناقص مجزوم بلام الأمر .
منكم: جار ومجرور متعلقان بـ(يدعون)، ويجوز ان يكون تعلقهما بمحذوف خبر مقدم لتكن.
أمة: اسم تكن المؤخر.
يدعون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل،
إلى الخير: جار ومجرور، وجملة يدعون في محل صفة لأمة، ويجوز ان تكون خبر تكن، وحينئذ يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صفة تقدمت على الموصوف فاعربت حالاً.
ويأمرون بالمعروف: الواو: حرف عطف، يأمرون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون.
وأو الجماعة: فاعل.
بالمعروف: جار ومجرور، والجملة الفعلية معطوفة على جملة يدعون إلى الخير، وكذا جملة وينهون عن المنكر.
قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]
الواو: حرف عطف.
اولئك: اسم إشارة مبتدأ.
هم: مبتدأ ثان، المفلحون: خبر (هم) مرفوع بالوأو لأنه جمع مذكر سالم.
و(هم المفلحون): جملة اسمية خبر اسم الإشارة أولئك، ويجوز أن يكون (هم) ضمير فصل، و(المفلحون) خبر أولئك، وهو الأصح لأن الإخبار والبيان جاء بلفظ المفلحين ونسب إلى ابن الزبير أنه قرأ(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستغيثون الله على ما أصابهم) وتحمل الزيادة على التفسير وليس هي من القرآن، وعن صبيح أنه سمع هذه الزيادة من عثمان بن عفان( )، مع أنه لم يكتبها في المصحف، مما يدل على أنهامن التفسير والبيان ولعله أراد التفسير والتأويل لما يترشح عن الأمر والنهي من الأذى في جنب الله.
والخير: في الإصطلاح هو النفع الحسن، ولفظ ينبئ عن الثواب والفضل ووجود الشيءالذي يتصف بالنفع، أو وجود كماله وحسنه الذاتي.
والمعروف هو كل فعل عرف حسنه شرعاً وعقلاً، وقيل كل فعل حسن يختص بحكم زائد على حسنه ويشمل المعروف الواجب والمندوب، والمعروف كالعرف، وهو ضد المنكر، والعرف ضد النكر يقال أسدى له عرفاً أي أحسن اليه، وفعل معه معروفاً.
والفلاح: الفوز والصلاح ونيل مراتب النعيم الدائم والسعادة الأبدية، ويفيد معنى البقاء: (قال الشاعر: ولكن ليس في الدنيا فلاح)( ).
وقيل ان أصل الفلاح هو البقاء.
ويأتي الفلاح بمعنى الفوز والظفر والغنيمة بالخير المستديم.
في سياق الآيات
بعد الأمر الإلهي إلى المسلمين بتقوى الله عز وجل، جاءت آية [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
ليكون الإعتصام بالله مصداقاً للتقوى، واثراً مباركاً، وشاهداً على تقيد المسلمين بأحكام التقوى، وبرزخاً دون الفرقة والنزاع الذي يؤدي إلى الغفلة والجهالة، واستحواذ النفس الشهوية والغضبية، وجاءت الآية بصيغة العموم ذاتها مع إرادة التبعيض في الفعل وكأنه من الواجب الكفائي المتعدد.
فمع الأمر بتقوى الله يأتي الجهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تضمن الآية للبشارة بالفلاح والفوز، وتتجلى في نظم الآيات الوظائف العقائدية التي يقوم بها المسلمون.
والدعوة إلى الخير من ثمار نعمة الأخوة، فبعد ان أنعم الله عز وجل على المسلمين وأنقذهم من العداوة في الدنيا، والعذاب في الآخرة جاء الأمر الإلهي بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه وجوه:
الاول: أنه نعمة اضافية أخرى ، لان التكليف درجة يرتقى معها العبد في منازل التقوى.
الثاني: أراد الله عز وجل للمسلمين ان يشكروه على نعمة الأخوة بالدعوة إلى الخير، والعمل على اصلاح المجتمعات وتهذيب الأعمال من ادران المعصية.
الثالث: تجلي معاني الاعتصام بحبل الله بالدعوة إلى الخير ونشر مفاهيم الاحسان.
وهناك وجوه من الملازمة والتأثير بين الآية السابقة وهذه الآية من وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع التمسك بالقرآن والسنة، فاذا انقسم المسلمون إلى فرق متعددة، واختلفوا في الإجتهاد والرأي فقد يعتري شطراً منهم الفتور في الدعوة إلى الخير للانشغال بالخلاف فكأن الاعتصام بحبل الله طريق ومقدمة لهداية الناس.
الثاني: تضمنت الآية السابقة النهي عن الفرقة والإختلاف بقوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] وهناك ملازمة بين الاتحاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ان الإتحاد نفسه معروف وصلاح.
الثالث : جاءت هذه الآية بالدعوة إلى الخير وهداية الناس إلى اعمال البر والصلاح، أما الآية السابقة فقد أمرت بالاعتصام بحبل الله وهو خير محض.
الرابع : من حب الله عز وجل للمسلمين أنه اختارهم لوظائف الجهاد في سبيله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس :ذكرت الآية السابقة نعمة الله عز وجل على المسلمين بانقاذهم من النار، فجاءت هذه الآية لتبين شكرهم لله تعالى على هذه النعمة بان يقوموا بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولتكون علة الشكر متعددة من نعمة الأخوة ونعمة الإنقاذ من النار.
السادس : تخبر الآية عن منافع نزع النفرة والكدورة بين المسلمين وأثر التمسك بالقرآن والسنة في نشر مبادئ الإسلام.
السابع : ذكرت الآية السابقة فضل الله تعالى في بيان الآيات بصيغة التشبيه (كذلك)، وجاءت هذه الآية لتخبر عن آية في وظائف المسلمين، وجهادهم في اصلاح الناس.
الثامن : بعد هداية المسلمين وارتقائهم في سلم التقوى جاء الأمر الإلهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره فرع التقوى والصلاح الذاتي.
وجاءت الآية التالية بتؤكيد الحث على الاتحاد، ونبذ الفرقة والخلاف، لتكون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين آيتين، كل آية منهما تنهى عن الفرقة والإختلاف ، مع تضمن الآية التالية الإخبار عن ظهور البينات، في اشارة إلى الآية السابقة [وَاعْتَصِمُوا]وهذه الآية الكريمة.
وجاءت الآية بعد التالية في الإخبار عن يوم الجزاء والحساب في بشارة للمسلمين، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل، وبعد اطلاق الأمر الإلهي بالاعتصام بالقرآن والسنة، جاءت هذه الآية بالتبعيض في الأمر الإلهي بالدعوة إلى الخير.
وتضمنت الآية الأمر الإلهي للمسلمين كافة، وعطف هذه الآية على الآية السابقة بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ] ومجئ حرف العطف الواو، الذي يفيد التشريك.
وبين هذه الآية والآية السابقة عموم وخصوص من وجه، فمادة الالتقاء من وجهين:
الأول: توجه الخطاب للمسلمين جميعاً،
الثاني: تضمن الآيتان صيغة الأمر .
ومادة الافتراق من وجوه :
الأول: التبعيض في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: وجود أمر ونهي في الآية السابقة، والنهي هو قوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا]، أما هذه الآية ففيها أمرواحد متعدد المصاديق، وليس فيها نهي.
الثالث: تضمنت الآية السابقة ذكراً لنعمة الله وحثاً على إستحضارها، أما هذه الآية فجاءت بصيغة الأمر والحث على الدعوة إلى الخير وفعله.
الرابع: من وجوه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاعتصام بالله وعدم التفرق، فالحث على فعل الخير والأمر بالمعروف من الاعتصام بالله والتمسك بمبادئ الإسلام.
الخامس: جاءت الآية السابقة برجاء الهداية، أما هذه الآية فقد اختتمت بالبشارة بالفوز للعاملين بها، وهذه البشارة شاهد على عموم احكام الآية وشمولها المسلمين جميعاً لأنهم هم الفائزون،فلا يصح التبعيض والقول بانحصار الفوز بأمة منهم، مع ان الأمة التي تتولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة تتغشى المسلمين جميعاً.
بين هذه الآية والآية 110 من هذه السورة
جاءت هذه الآية بصيغة الأمر والخطاب الموجه للمسلمين والمسلمات جميعاً بأن تقوم أمة منهم بأعباء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتأتي بعد ست آيات آية الوصف التشريفي للمسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وتخبر عن إمتثالهم لمضامين هذه الآية وحسن طاعتهم لله، وأدائهم الوظائف العبادية التي أمرالله تعالى بها بقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( )، فآية تضمنت الأمر بالأمر والنهي، وآية أخبرت عن امتثالهم للأوامر الإلهية التي وردت فيها، مما يبعث السكينة في نفوس المسلمين ويدعوهم للمواظبة على طاعة الله، والإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطرقه وإسباب ه بما يناسب كل زمان ومكان واستثمار الوسائل والإسباب التي توصل إلى المطلوب لتكون من مصاديق بلغة السالك.
وجاءت الآية (110) بالثناء على المسلمين جميعاً والشهادة لهم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير تخصيص بأمة منهم، وفيه وجوه :
الأول : مجيء المدح والوصف الحسن للمسلمين كافة بسبب قيام أمة منهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : إرادة الأمة التي تأمربالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ التفسير الذاتي للقرآن، واستقراء تخصيص هذه الآية للعموم الوارد في آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..] ( ) .
الثالث : الشهادة السماوية للمسلمين جميعاً بقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق وإرادة المسلمين في التكليف الوارد في هذه الآية ، وقيامهم جميعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي لم يتم لولا العناية الإلهية بهم، ومن مصاديقها هذه الآية التي تأمرهم بصيغة الترغيب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن وجوه الجمع بين الآيتين حث المسلمين على المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتسابق فيه لأنه خير محض ونفع دائم تترشح عنه منافع عظيمة في النشأتين، ولم تذكر آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) موضوع الدعوة إلى الخير واكتفت بذكر قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع إيمأنهم بالله عز وجل وفيه وجوه:
الأول : دخول الدعوة إلى الخير في مصاديق الأمر والنهي، لأن الأمر بالمعروف دعوة إلى الخير، وكذا النهي عن المنكر في مفهومه.
الثاني : تقدم الأمر والنهي رتبة على الدعوة إلى الخير، فجاءت الآية بالتوكيد على الأهم.
الثالث : اندكاك وتداخل الدعوة إلى الخير بالأمر بالمعروف.
الرابع : قيام الأمم ال أخرى بالدعوة إلى الخير.
وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه ال أخرى من مصاديق التداخل بين مصاديق الخير والصلاح والفلاح.
إعجاز الآية
تتضمن الآية مسائل إعجازية منها:
الأولى : في الآية بشارة بكثرة عدد المسلمين، وتعدد اممهم.
الثانية : التبعيض في الدعوة إلى الخير، فلم تقل الآية (وادعوا إلى الخير) ولم يأت الأمر لأمة أو طائفة مخصوصة منهم بالدعوة إلى الخير، بل جاء الأمر للمسلمين جميعاً بان تكون منهم أمة تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر أي يتولى المسلمون اعداد هذه الأمة على أن تكون شطراً منهم.
الثالثة : الترغيب بما في الآية من الأوامر بالبشارة بالفوز والفلاح لمن يكون داعيا إلى الله.
الرابعة : بيان موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام.
الخامسة : تعقب الدعوة إلى الخير للإعتصام بحبل الله في إشارة إلى صدور الدعوة عن إيمان وإتحاد وتقوى، وفيه دلالة على تحقيق القصد والغايات النبيلة ليكون المسلم أسوة لغيره، فاذا رآى الناس الذي يأمربالمعروف لا يأتيه فأنهم يزهدون بدعوته، ولا يلتفتون إليه.
السادسة: تبين الآية أهلية المسلمين لامأمة الناس وارشادهم إلى سبل الفوز والنجاة فمن يدعوه المسلمون إلى الخير، بامكأنه ان يكون داعية إلى الخير ايضاً بدخول الإسلام، والإمتثال لأوامر الله.
السابعة : عدم انحصار التكليف بالدعوة إلى الخير، بل جاءت الآية بالحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه دعوة للأمم ال أخرى لفعل الخير.
الثامنة : تبين الآية الحاجة إلى الدعوة إلى الخير والإحسان وجذب الناس إلى منازل الهداية والرشاد.
والنسبة بين الدعوة والأمر عموم وخصوص مطلق ، فالدعوة أعم وكذا ذات النسبة بين الخير وبين المعروف أي أن العموم جهتين الفعل والموضوع .
ومن الدعوة بالقول والفعل ، ومنها بالإشارة والتلميح ، ومنها الدعوة الصامته ، ومنها الخلق الحميد ، ولا يحصي أفراد هذه الدعوة إلا الله .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثامن والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر في فصل ( قانون الخلق الحميد).
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (ولتكن) ولم يرد لفظ (لتكن) في القرآن إلا في هذه الآية ، وهو من إعجاز القرآن لأن المتبادر تكرار هذا اللفظ مرات في القرآن لتكون لهذا الإنفراد دلالات عقائدية وأخلاقية ، ومنها الإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
قانون إعجاز السياق
يمكن اعتبار إعجاز القرآن من اللامنتهي، ففي كل موضع منه تطل علينا آيات في الإعجاز الذاتي والغيري والجامع لهما، وترى الإعجاز يتجلى هنا في نظم الآيات، والملازمة بينها، والحاجة إلى مضامين كل آية عند العمل بما في الثانية من الأوامر الإلهية.
وقد يتعلق العمل بالآية القــرآنيــة بالعمل بغيرها كما في المقام، فلابد من صدور الدعوة إلى الخير من أمة متحدة قوية لا تخرج عن مفاهيم الشريعة مما يستلزم التمسك بالقرآن والسنة الذي هـو طريق لمعرفة مصاديق الخير، لتأتي الدعوة عن اخلاص وصدق، وينصت الناس لصاحبها، فلم يأت الأمر الإلهي بالدعوة إلى الخير إلا بعد أمرالله للمسلمين جميعاً بالاعتصام بحبله وعدم التفرق كي تكون الأمة الداعية إلى الله على صلة دائمة مع عموم المسلمين ولا تصدر إلا عن مبادئ الإسلام، وهي تدعو إلى الخير ويقف ظهيراً ومؤازراً لها المسلمون جميعاً، كما أنهم مستعدون للتعاقب على ذات الفعل في الدعوة إلى الخير.
وهذا التعاقب والمؤازرة لا يتمان إلا بالإتحاد والوحدة والإعتصام بمبادئ الإسلام، لذا تقدمت آية (واعتصموا) على هذه الآية ، وفيه رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، وشاهد على ان نزول القرآن جاء للهداية ولينقل الناس من الظلام إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، والصلة والتداخل بين هذه الآية والآية السابقة من وجوه:
الأول: العموم في الخطاب القرآني.
الثاني:عطف الآيتين على الآية التي قبلهما والتي تبدأ بالخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] فمضامين هاتين الآيتين من مصاديق التقوى وتعاهد أحكام الإسلام.
الثالث: الاعتصام بالكتاب والسنة اصلاح للذات، وإنفعال بمضامين التقوى، أما الدعوة إلى الخير فهي فعل وعمل يتوجه إلى الغير لإصلاحه، إلا أن هذا لا يعني التباين بينهما، بل هما متداخلان ويؤثر أحدهما في الآخر.
الرابع : لما جاءت الآية السابقة بقيد (جميعاً) وجعلته شرطاً في كمال الاعتصام بالله، جاءت هذه الآية لتخاطب المسلمين جميعاً أيضاً بان تنفر منهم أمة تدعو إلى الخير.
الخامس : عدم التفرق والتشتت ضرورة ومقدمة للدعوة إلى الخير خصوصاً وأنهاتصدر من المسلمين جميعاً وان تصدى لها فريق منهم، فهذا الفريق لاصفة له سوى أنه جزء وشطر من المسلمين.
السادس : لما جاءت الآية السابقة بالدعوة إلى ذكر نعمة الله على المسلمين، جاءت هذه الآية بتجلي الشكر على هذه النعمة بالدعوة إلى الخير والاصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابع: تصدر الدعوة إلى الخير من نعمة الأخوة والإتحاد بين المسلمين، لتكون مرآة لأخوة الإيمان، وشاهداً على صدق الدعوة.
الثامن: من الشكر لله تعالى على الإنقاذ من الإشراف على النار قيام المسلمين بالدعوة إلى الصلاح.
التاسع : الدعوة إلى الخير مصداق من مصاديق الهداية والرشاد، فجاءت خاتمة الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] وأفتتحت هذه الآية بالأمر بالدعوة إلى الخير، لتكون الدعوة عنواناً للهداية والصلاح، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
العاشر: من وظائف ومصاديق الخلافة في الأرض الدعوة إلى الخير، ولا تستقيم أمور الناس إلا بها، فهي رحمة مزجاة لكل من :
الأول: الداعي إلى الخير والصلاح.
الثاني: المدعو إلى الخير.
الثالث: الذي يسمع الدعوة أو يستمع إليها.
الرابع: العامل بالدعوة موضوعا وحكما.
ولا ينحصر موضوع التأثير بين الآيتين باثر الآية السابقة على هذه الآية ، بل ان التأثير متبادل، فكما تنفعل مضامين هذه الآية بالآية السابقة فان هذه الآية تؤثر أيضا بالسابقة من وجوه:
الأول: إدراك المسلمين للحاجة لقيام أمة منهم تدعو إلى الخير مما يستلزم تمسكهم بمبادئ الإسلام ومعرفة مصاديق الخير والتقيد بها.
الثاني: التلبس بالدعوة إلى الخير، والقيام بالأمر بالمعروف والزجر عن المعصية موضوع لتنمية ملكة التقوى في النفوس، فلما جاءت الآية قبل السابقة بالأمر بتقوى الله جاءت هذه الآية لإعانة المسلمين على التقوى والثبات في مسالكها والارتقاء في مراتب المعرفة، وليكون الإمتثال لمضامينها بابا لنصر الله لهم، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالث: الدعوة إلى الخير حرز وواقية من التفرق والتشتت، وإصلاح ذات البين من الدعوة إلى الخير، فلوحصل خلاف وخصومة بين فرقتين من المسلمين، فيجب ان تتصدى أمة من المسلمين للاصلاح بينهم، فهذه الآية سلاح لاستدأمة العمل بمضامين الآية السابقة.
الرابع: من صفات الذين يواظبون على دعوة الآخرين إلى الخير والصلاح الأحتراز من وقوع الفتن بينهم، لذا فان هذه الآية برزخ دون التفرق، فبينما جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] جاءت هذه الآية لاعانتهم على الاتحاد وعدم التفرق.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شكر لله على الانقاذ من النار، ووسيلة لانقاذ الآخرين منها، لتتجلى حقيقة في هذه الآيات وهي ان المسلمين يحبون للناس مشاركتهم في النعم التي رزقها لها للمسلمين، وأنهم ليسوا اشحة على الخير، بل دعاة إلى الخير.
السادس: امتثال المسلمين لاحكام هذه الآية شاهد على إدراكهم لمضامين الآيات، وان بيان الآيات جاء لحصول التفقه في الدين والاستجابة لأمرالله تعإلى.
السابع: مجئ الآية التالية بالتحذير من الفرقة والتشتت بقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا] مما يدل على ان الدعوة إلى الخير مانع من الفرقة ووسيلة لاستدأمة الأخوة الايمانية، ومن إفاضات نعمة الانقاذ من الاشراف على النار صفاء النفس ونزع رداء الخوف والفزع من عالم الآخرة، والحرص على السعي الجاد في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن منافع نعمة الاخوة حب المسلم لاخيه ما يحب لنفسه من الخير والصلاح والرشاد.
لقد جاءت هذه الآية بأمرالمسلمين بالنهي عن المنكر، وجاءت الآية السابقة والآية التالية بالنهي عن الفرقة والاختلاف، فهل الفرقة من المنكر المنهي عنه في هذه الآية أم لا ؟
الجواب: ان الفرقة من المنكر، كما أنهامقدمة لأفراد ومراتب عديدة من الفرقة والتشتت، لذا فمن الآيات مجئ النهي عن الفرقة قبل وبعد هذه الآية مع ذكر المثل والبيان في آثار ونتائج الفرقة والإختلاف بما حصل لأمم سابقة قامت بتضييع الأحكام وأستحق أفرادها العذاب الأليم.
مفهوم الآية
تتجلى في الآية الكريمة معاني الجهاد والسعي في دروب الصلاح، وفيها تأكيد على المنزلة العظيمة التي يحتلها المسلمون في قيادة الأمم إلى سبل الهداية.
وتبين الآية حاجة الناس إلى الداعية إلى الله، وتعدد أفراد الدعاة، فلم تقل الآية (وليكن منكم احد يدعو إلى الخير) بل أخبرت بان يكون الدعاة أمة متعددة الأفراد، ومتعاونة فيما بينها، يؤازر أفرادها بعضهم بعضا.وهو المستقرأ من لفظ (امة) الذي يدل على التعاون والإشتراك في ذات الفعل.
ولم تقل الآية (ولتكن منكم فرقة) أو (لتكن منكم طائفة)، مع ان هذين اللفظين وردا في البعث على التفقه في الدين، قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( )، مما يدل على الإعجاز في ورود قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ]، ومن معانيها مضامين الإستغراق والشمول لأفراد الأمة جميعها في النهوض بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وورود التبعيض لدفع وهم وظن ان الأمر بالمعروف متوجه للناس دون المسلمين، بل يتوجه أمرالمسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر إلى المسلمين ايضاً.
وتؤكد الآية الحاجة لان يكون الدعاة إلى الهدى والخير أمة متحدة ومتكثرة، وان الدعوة على نحو القضية الشخصية لا تؤتي ثمارها كاملة خصوصاً وان أثرها محدود، مكاناً وزماناً.
وتفيد الآية استدأمة الدعوة وبقاءها غضة حية في كل زمان، ولا يقف الأمر عند الدعوة إلى الخير بل لابد من الأمر بالمعروف وحث الناس على العمل الصالح، ومنعهم من الفجور والمعاصي، ولو ترك الناس وشأنهم من غير دعوة إلى المعروف فماذا يحصل، الجواب أنه قد يتساوى المحسن والمسئ، وتختلط المفاهيم.
فأراد الله عز وجل تثبيت موضوعية الإيمان في التمييز بين الناس ومعرفة منازلهم، بالأمر بالمعروف وفعل الخيرات والإحسان إلى الآخرين ونبذ الظلم والتعدي والفسوق، وتمنع الآية من ظهور الكدورات وتحث على التصدي للمقالات الباطلة وصيغ الكفر والضلالة، بالسعي في اصلاح النفوس والمجتمعات.
فالأمر بالمعروف هو نهي عن المنكر، وكذا فان النهي عن المنكر هو أمربالمعروف في مفهومه ودلالته وعاقبته، وفي الآية مسائل:
الأولى : توجيه الأمر للمسلمين بان يقوم شطر منهم بالدعوة إلى فعل الخيرات.
الثانية : اتخاذ الأمر بالمعروف منهجاً ثابتاً وصيغة لعمل المسلمين فيما بينهم ومع الناس جميعاً.
الثالثة : قيام المسلمين بالزجر عن الفواحش والمعاصي.
الرابعة : الملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكتفى باحدهما بل لابد من فعلهما معاً سواء مع إتحاد جهة الصدور أو تعدد الموضوع والمحل والصيغة والصدور، أو إتحاد بعضها وتعدد بعضها الآخر.
والمراد من جهة الصدور هو الذي يقوم بالأمر بالمعروف، أما الموضوع فهو المادة التي يتعلق بها الأمر بالمعروف كالدعوة إلى الإسلام، والأمر بالصلاة.
وأما المحل فهو الذي يتوجه إليه الأمر بالمعروف سواء كان شخصاً أو جماعة أو أمة، وأما الصيغة فهي الكيفية التي يأتي بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصاً وأنه على مراتب متفاوتة.
الخامسة: البشارة بالفوز والفلاح لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثواب العظيم الذي ينتظر من يقوم بالدعوة إلى الله وفيه ترغيب بالإنصات إلى الأوامر الواردة في هذه الآية ، وحث على المبادرة للامتثال لما فيها، والآية مصداق لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فالرحمة في هذه الآية تشمل وجوهاً وهي:
الأول : شمول المسلمين كافة، لأن الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر شطر من المسلمين، ويقومون بوظيفتهم هذه بصفتهم مسلمين، مع إستعداد جميع المسلمين للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : الثواب العظيم الذي يناله المسلمون لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : دعوة الناس لسبل الهدى والرشاد، فجاء الإسلام ليدفع عن الناس الحيرة والتيه والضلالة، فيقوم المسلمون بالأخذ بايديهم إلى طرق الأمان في الدنيا والآخرة.
الرابع : شيوع مفاهيم الصلاح بين الناس، فالمسلم يدعو إلى الخير، وغير المسلم يستمع له أو يسمعه ويراه.
الخامس : جعل موضوعية للثواب الأخروي في حياة المسلم والناس جميعاً.
فيدل ذكر الفوز في الآخرة في مفهومه على لزوم الاستعداد ليوم الحساب، والسعي الدؤوب لنيل المراتب العالية يوم القيامة.
وذكرت الآية قيام أمة وفرقة من المسلمين بالدعوة إلى الخير، ولم تذكر الفريق الآخر، ويحتمل عدم الذكر هذا وجوهاً:
الأول : بقاء فرقة أخرى غير داخلة في الأمر الإلهي.
الثاني : التخفيف عن المسلمين بعدم تكليفهم جميعاً بالدعوة إلى الخير.
الثالث : عدم الحاجة لاشتراك كل المسلمين بالدعوة إلى الخير.
الرابع : التبعيض آية اعجازية لأنهاتتضمن الاشارة إلى دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلى الخير.
الخامس : الدعوة إلى الخير واجب كفائي، يسقط بقيام بعض أفراد الأمة به.
أما الأول فليس من أحد مستثنى من الدعوة إلى الخير ويتجلى عدم الاستثناء هذا بتوجه الخطاب إلى جميع المسلمين بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] والتقدير: أيها المسلمون لتكن منكم أمة.
أما الثاني فالجواب نعم ففي الآية تخفيف عن المسلمين، ولكن هذا التخفيف مركب من وجوه:
الاول: لغة التبعيض في الآية .
الثاني: إكتفاء المسلم بدعوة اخيه للخير.
الثالث: الدعوة إلى الخير ذاتها تخفيف ورحمة وفيها رشحة من الإصلاح وإسباب الثواب.
ولم تذكر الآية موضوع الشر وهل من أمة تدعو إليه، وماذا نفعل ازاء الذي يدعو إليه، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على الزجر عن الدعوة إلى الشر ومقدماته، والمنع من ظهوره وتغشيه لطائفة من الناس، لأنه من أفراد المنكر التي جاءت الآية بالتوكيد على النهي عنه.
وفي الآية مسائل :
الأولى : توجه الخطاب للمسلمين جميعاً، وفيه شاهد على عموم التكليف في الآية .
الثانية : إختصاص أمة من المسلمين في تحقيق مصاديق الإمتثال في الآية .
الثالثة : مجئ الآية بصيغة الأمر [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ].
الرابعة : التعاون والتآزر بين المسلمين والاشتراك في أمور ثلاثة وهي:
الأول : الدعوة إلى الخير.
الثاني : الأمر بالمعروف.
الثالث : النهي عن المنكر.
الخامسة : البشارة بالفوز للأمة التي تعمل بمضامين الآية .
وجاءت الآية بوأو العطف، ويحتمل أموراً :
الاول: كفاية القيام باحد هذه الأمور الثلاثة.
الثاني: قيام كل أمة من المسلمين باحد اطراف الآية ، فأمة تدعو إلى الخير، وأمة تأمربالمعروف، وأمة تنهى عن المنكر.
الثالث: ذات الأمة تقوم بمضامين الآية واطرافها الثلاثة.
فهي تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر.
والصحيح هو الأخير، وهو أمر يشمل المسلمين جميعاً، فتدل الآية في مفهومها على انبعاث المسلمين جميعاً للدعوة إلى الصلاح وجذب الناس للطاعة واجتناب المعصية ومن وجوه تعريف المعروف أنه كل ما أمربه الله ورسوله، والمنكر كل ما نهى الله ورسوله عنه.
وتتضمن الآية مسائل متعددة هي :
الأولى: توجه الخطاب إلى المسلمين كافة رجإلا ونساءً.
الثانية: عطف الآية على الآية التي سبقتها والإشتراك معها في الغايات السامية، واذ جاءت هذه الآية بالأوامر الإلهية المتعددة، فان الآية السابقة تضمنت الأوامر ايضاً مع ذكر نعم الله عز وجل على المسلمين.
الثالثة: مع إتحاد الخطاب في هذه الآية والآية السابقة، وإطلاق الخطاب التكليفي في الآية السابقة بالإعتصام بالله، وذكر نعمته فقد جاءت هذه الآية بالتبعيض في التكليف والأوامر للأمة.
الرابعة : تضمنت هذه الآية ثلاثة من التكاليف هي:
الأول : الدعوة إلى الخير والصلاح.
الثاني : الأمر بالمعروف وكل فعل عرف حسنه شرعاً.
الثالث : النهي عن الفعل القبيح.
الخامسة : إجتناب الأمر بالشر وما فيه الضرر على الفرد أو الجماعة.
السادسة : البشارة بالفوز ونيل المراتب العالية في الآخرة لمن يمتثل لمضامين وأحكام هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
تحث الآية المسلمين على المبادرة إلى أفعال الخير والإحسان ودعوة الناس للايمان، ولا تنحصر هذه الدعوة بالكافرين وغير المسلمين بل أنها تشمل المسلمين ايضاً، فيقوم المسلمون بحث بعضهم بعضاً على الخير وأعمال البر والرشاد، وفيه نفع يتغشى الناس جميعاً من وجوه:
الأول : دعوة المسلمين إلى الخير مناسبة لتحليهم بالاخلاق الحميدة وقيامهم بالمسارعة في الخيرات.
الثاني : إنصات المسلمين إلى أخوانهم الذين يدعون إلى الخير، ومبادرتهم إلى الصالحات، ونيل الثواب الجزيل.
الثالث : إنحسار الكدورات الظلمانية، والأخلاق المذمومة، لان الدعوة إلى الخير برزخ دون شيوع مفاهيم الظلم والشح والضلالة.
الرابع : تمنع الآية من الكسل والخمول، لما فيها من الحث على فعل الخيرات والمسارعة في الصالحات، وتحول دون التردد والوهم.
وجاءت الآية لتنهى عن القعود عن الخيرات، كما تجعل الأوامر الإلهية ملازمة للمسلم في نهاره وليله لتتخذ افعاله صيغة شرعية، فلا يخرج عن موازين الحلال والحرام، وهي ضابطة كلية تحكم أعمال المسلمين، وتسأهم في تثبيت سنن الإسلام في الأرض، وتدعو الناس للإيمان، وترغبهم في الإسلام لما فيه من الحسن الذاتي وظهور اثاره الحميدة بين الناس عموماً.
والدعوة إلى الخير واقية للمسلمين وحرز من التعدي عليهم، ووسيلة لحب الناس لهم وعدم النفرة من أفعالهم ، فمن يدعو إلى الخير والصلاح لا تنفر الناس مما يقوم به من الفرائض والتكاليف لأنها تؤدي إلى الخـــير والمعــروف، وليس من ســلاح أمضــى وأهم من ســلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدل التوكيد عليه في هذه الآية على حقيقة وهي إنتشارالإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وان احكامه الجزائية لا ترتكــز على العقاب بل تعطــي الاولوية للإحــتراز والتــوقي من السيئات.
إفاضات الآية
تجعل مضامين هذه الآية المسلمين أعزة أقوياء، ومتحدين في سبل الخير والصلاح، وينعكس هذا الإتحاد بالتقيد التام بأداء الفرائض، وهو من أهم مصاديق الخير والمعروف، وتأتي العزة والقوة على نحو مركب لمعرفة مصاديق الخير والمعروف والإحسان، فان الدعوة إلى الخير تستلزم العلم بأفراد الخير، ويحتمل هذا العلم وجوهاً:
الأول : القضية الشخصية بان يعلم احد المسلمين هذه الأفراد بلحاظ مقامه ومنزلته وشأنه بين المسلمين كما لو كان حاكماً أو قاضياً.
الثاني : القضية النوعية المحدودة، بان يعرف جماعة أو طائفة من المسلمين مصاديق وطرق الخير وسبل المعروف كما لو كان الأمر منحصراً بالفقهاء وعلماء الدين، أو بارباب الأموال والتجارات والصناعات.
الثالث : العموم الاستغراقي الشامل للمسلمين جميعاً.
والصحيح هو الاخير.
فلابد أن يعرف كل مسلم مصاديق الخير وموارد المعروف التي يدعو لها هو واخوأنه المسلمون، وأفراد المنكر التي يجب ان يتجنبوها، فوظيفة كل مسلم التمييز بين الخير والشر، وبين المعروف والمنكر، وبين الصلاح والفساد، وتعيين وسائل الخير وطرق المعروف وكيفية الأمر به ليكون هذا التمييز والتعيين مقدمة للامتثال لأحكام هذه الآية ، واجتناب الخطأ وإسباب الضرر، فقد يرغب الانسان بالدعوة إلى الخير ولكنه لا يوفق إلى طرقه، ولا يهتدي إلى معرفة مصاديقه.
فجاءت هذه الآية لتدعو المسلمين بدلالتها التضمنية إلى معرفة طرق الخير وسبل المعروف، وتجعل النفوس تميل اليها، وتعشق مصاديقها، لأنها مقدمة للإمتثال للأوامر الإلهية، وتساعدهم في معرفة كيفية الأحتراز من دروب الضلالة والمنكر،
وتنمي الآية في قلوب المسلمين ملكة حب الناس مطلقاً، ويتجلى هذا الحب بنشر مفاهيم الفضيلة والصلاح، ونبذ العادات المذمومة والأفعال السيئة، وتسأهم في جعل العرف العام موافقاً للاحكام الشرعية، وملائماً لسنن الإسلام.
الآية لطف
تعتبر الآية الكريمة لطفاً ورحمة من وجوه:
الوجه الأول : الآية رأفة بالمسلمين، ووسيلة لتهذيب النفوس ومدرسة في الصلاح، ونشر معاني الفضيلة بينهم، وبرزخ دون الاخلاق الذميمة كالشح والظلم، وفيها دعوة للتعاون في سبل الخير والإحسان، وهذا التعاون على شعب هي:
الأولى : التعاون في الدعوة وإبداء النصح، فيساعد بعضهم بعضا في الدعوة إلى الخير على وجوه:
الأول : من يكون سبباً في الدعوة إلى الخير والصلاح.
الثاني : الذي يقوم بالدعوة إلى الخير، ويباشر هداية ونصح الآخرين وإرشادهم إلى سبل المعروف.
الثالث: المؤازر للداعية، والمؤيد له.
الرابع: الذي يساعد المدعو إلى الخير على فعل الصالحات، ويحثه على التقيد بأحكام التقوى، واتباع سبل الهداية والرشاد.
الثانية : النصرة والتعاون في الأمر بالمعروف من وجوه:
الأول : تهيئة وسائل الأمر بالمعروف.
الثاني : إظهار الأمر بالمعروف وإبلاغه إلى أهله والمحتاجين اليه، ليكون حجة وباباً للصلاح، فيستقرأ من لفظ الأمر وجود أطراف ثلاثة :
الأول : الأمر بالمعروف.
الثاني : المأمور بالمعروف.
الثالث : الموضوع وهو مصداق المعروف.
الثالث : إعانة المأمور على الإمتثال والإستجابة، وجعل صيغة الأمر مناسبة لحاله وشأنه وإختيار الطريقة التي لا تؤدي إلى نفرته أو إصراره وعناده خصوصاً مع التباين بين الناس في المزاج ودرجة المعرفة.
الثالثة : التعاون في النهي عن المنكر، من وجوه:
الأول : تعيين مصاديق المنكر والشر.
الثاني : مؤازرة الناهي عن المنكر، ونصرته عند اللزوم.
الثالث : توكيد النهي عن المنكر.
الرابع : إعادة النهي، وحث مرتكب الفاحشة على تركها لعمومات الفائدة في الإعادة والتكرار.
الخامس : تهيئة مقدمات ترك المعصية.
السادس : العناية بمن يوفق للإبتعاد عن الرذيلة، وإعانته على الإقلاع عن المعاصي والسيئات.
الوجه الثاني : الآية رحمة بالناس جميعاً من وجوه:
الاول : تأتي الدعوة إلى الخير لنشر مفاهيم الصلاح في المجتمعات.
الثاني : الحث على الصلاح وفعل الخيرات وسيلة لسيادة الاخلاق الحميدة.
الثالث : أنه مدخل لمعرفة أحكام الإسلام وما فيها من المنافع والسنن الحميدة، ومعاني الفضيلة.
الرابع : الدعوة إلى الخير بعث للمودة والمحبة بين الناس وطرد لإسباب النفرة، وكما تحث الآية على الدعوة إلى الخير فأنها تدعو الناس إلى معرفة سنن الإسلام، وتحبب الإيمان إلى نفوسهم، وتجعلهم يميلون إلى المسلمين، ويطمئنون اليهم، ولا يخشون جانبهم.
الثالث : تبين الآية ان الإسلام دين رحمة ورأفة، وأنه لم ينتشر بالسيف، بل انتشر بالدعوة إلى الصلاح، وتهذيب النفوس.
الرابع : تمنع الآية من الغفلة عن ذكر الله، لأن المسلم يدعو إلى الخير امتثإلا لأمرالله وطلباً لمرضاته، مما يعني مجئ المدد والفضل الالهي لإعانته في دعوته، ومن وجوه الإعانة هدايته للتقيد الفعلي بما يدعو اليه، وجذب المدعو إلى الإستجابة وفعل الخيرات ، وذات الدعوة تذكير بالله, وشكر له.
قانون إمامة القرآن
القرآن كتاب نازل من السماء، وتتضمن آياته أحكأما وقواعد كلية ثابتة إلى يوم القيامة، ويحتمل في أثره وتأثيره أموراً :
الاول: عدم وجود سلطان له على الناس،في الصدور عنه، فمن يرجع إليه ينهل من فيضه، ومن لم يرجع إليه لا تأثير له في جذبه.
الثاني: يعرض القرآن علومه على الناس، ويدعوهم للاخذ منها، والعمل باحكامه.
الثالث: يرغب القرآن الناس بالعمل باحكامه والتزود مما فيه من المعارف والسنن.
الرابع: يتطلع القرآن إلى المسلمين للتقيد باحكامه، ودعوة الناس للايمان بنزوله من عند الله، ومحاكاتهم في الامتثال لما فيه من الأوامر .
الخامس: يعيّن القرآن سبل الخير والصلاح، ويساعد الناس في العمل بها أو تركها، باعتبار ان هذا التعيين والمساعدة طرفان لفلسفة الابتلاء والإختبار في الدنيا.
السادس: يقود القرآن المسلمين إلى سبل الرشاد ويهديهم إلى مسالك الصلاح.
السابع: لا يبتعد القرآن عمن يعرض عنه، ولا يتركه فريسة للنفس الشهوية، وحبائل الشيطان، بل يتقرب إليه ويجذبه بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى سبل الخير والمعروف، ومن وسائل الجذب هذه الآية وما يتفرع عنها من قيام المسلمين بدعوة الناس لهذه السبل التي تمتلأ بضياء الايمان.
الثامن: القرآن امام للناس في ميادين العلم والدين والسياسة والاخلاق، وهذه الآية شاهد على امامته، بان يأمرالمسلمين بدعوة الناس إلى سبل الخير وهدايتهم إلى الرشاد، أي ان امأمة القرآن لا تنحصر بالمسلمين بل تشمل الناس جميعاً.
وباستثناء الوجه الاول فان الوجوه ال أخرى كلها صحيحة وللقرآن سلطان على النفوس والجــوارح، ويأخذ بمجامع القــلوب ويجعـلها تسيح في عالم الملكوت وتجتهد في الارتقاء فيه من خلال الامتثال الامثل لما في آياتــه من المضــامين القدســية، ومن اراد التشــبه بالملائكــة في الدنــيا فليحرص على التقيد بسنن القرآن ومنها هذه الآية التي هي من جوامع الكلم.
ويتضمن القرآن الشمول والاستيعاب لسبل الجهاد النفسي والعملي، أما النفسي فهو محاربة الهوى والغلبة على النفس الغضبية، وأما العملي فهو اعم ويشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتخاذ اللسان واليد وســيلتين للامتــثال لمضامين هذه الآية الكريمة وبصيغ متباينة بحسب الحال والشأن والموضوع، والآية تأسيس لمدرسة في الصــلاح، وســبيل للهداية العأمة وبرزخ دون تفشــي مفاهــيم الضــلالــة والجحود، والجدال بالباطل، وهي شاهد على استمرار امأمة القرآن للناس.
وتغشي هذه الامأمة لضروب الحياة المتعددة، وتتجلى امأمة القرآن للناس في وجوه متعددة منها:
الاول: صفة النزول الذاتية، اذ تتفرع عن النزول من السماء امور:
الاول: الأهلية لقيادة الناس.
الثاني: امأمة الكتاب المنزل للناس.
الثالث: يتصف القرآن بأنه الكتاب الجامع للاحكام الشرعية، وفيه مايحتاجه الناس في عباداتهم ومعاملاتهم.
الرابع: مجئ آيات القرآن بترغيب الناس في الصالحات، ومنه هذه الآية التي يتجلى فيها الترغيب المركب من وجوه:
الاول: دعوة المسلمين للدعوة إلى الخير.
الثاني: توجيه الأمر الالهي للمسلمين بتولي مسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: وجود أمة تحث الناس على فعل الخيرات والمسارعة إلى الصالحات.
الرابع: تضمن الآية للبشارة بالجنة والسعادة الابدية لمن يدعو إلى الخير ويدعو الناس للصالحات.
ومن الآيات ان امأمة القرآن لا تنحصر به بالذات، بل أنه يجعل المسلمين ائمة في الخير، وهذه الآية من الشواهد والبينات على قيادة المسلمين للناس في دروب الهدى، اذ أنهاتأمركل مسلم ان يكون امأما في الخير فالقرآن امام الائمة، وهادي الهداة، ومرشد المعلمين، ومدرسة الاجيال التي تفيض بالعلوم والآداب والسنن الاخلاقية الحميدة، والناس يأخذون من امأمة القرآن بالواسطة وبدون واسطة وليس لأفراد الواسطة حصر زماني أو مكاني أو افرادي، بل هي مطلقة.
أما الإطلاق الزماني ففي كل جيل تتعدد الائمة بعدد المسلمين من بين الناس، وأما المكاني فان المسلمين منتشرون في اصقاع الارض المختلفة، وأما الافرادي فلا يستطيع أحد أو جماعة من الناس احصاء دعوة المسلمين إلى الخير.
وهل تتعارض إمأمة المسلم للناس في الخيرات، وامأمة القرآن له باعتبار ان الإنسان يكون امأما ومأموماً في آن واحد، وتنطبق ذات الحال على المقام، الجواب لا، لأنه قياس مع الفارق، فالقرآن امام للمسلمين والناس جميعاً، والمسلمون ائمة لانفسهم والناس، بالاقتباس من امأمة القرآن والرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإمأمة القرآن حاجة للناس جميعاً، والانسان كائن ممكن، والاحتياج يلازمه من حين ولادته إلى مماته بل ويصاحبه في عالم الآخرة، ومن خصـائص القرآن في إمامتــه أنه نافع للانسان في النشــأتين، ولا تنقطع حاجة الانسان إلى القرآن، وكلما ارتقى في منازل التقوى ازدادت حاجته إلى القرآن والعمل باحكامه وسننه، وكلما اسرف الانسان في المعصية فأنه يكون أكثر حاجة للقرآن لانقاذه واصلاحه.
ومن الآيات ان يأتي انقاذ القرآن للناس على نحو دفعي وجمعي، بدليل صيغة الجمع في الآية السابقة [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا]، ومن مضامين هذا القانون ان القرآن يعرض امامته على الناس على نحو متصل ومن غير فترة، فلا تغيب آياته عنهم، ويلح اعجازه المتعدد الوجوه على المسلمين والناس جميعاً بالرجوع اليه، والنهل من كنوزه وذخائره، وتدعوهم احكامه المتكاملة إلى اللجوء إليه في الشدة والرخاء والاستجارة به في المهمات والصدور عنه في جميع الحالات.

من غايات الآية
تتضمن الآية مسائل:
الأولى: نيل المسلمين شرف تلقي الخطاب الإلهي في أقدس كتاب نزل من السماء على سيد البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: لم تأت الآية بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ولتكن أمتك، أو (قل)، بل جاءت بصيغة الخطاب بلغة الجمع المخاطب الشامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمسلمين جميعاً إلى يوم القيامة، مما يفيد بعث المسلمين في كل زمان ومكان على الامتثال لمضامين هذه الآية .
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الأمر التكليفي، والوجوب الذي لا يقبل الترديد أو احتمال حمله على الاستحباب والندب، وفيه أمور:
الأول: التخفيف عن المسلمين في معرفة الاحكام التكليفية.
الثاني: موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: لزوم قيام كل المسلمين بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاء البيان والوضوح في صيغة الوجوب لإعانتهم جميعاً على معرفة وظائفهم.
الرابع: يدل البيان في صيغة الوجوب على ارتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الرابعة: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة موضوعية كل من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: دعوة المسلمين للاشتراك والتعاون في الدعوة والأمر والنهي.
السادسة: تتضمن الآية حث المسلمين على النهوض بالدعوة والأمر والنهي، ومع ورود المعروف ثمان وثلاثين مرة في القرآن فليس فيه أمر بفعل المعروف مثل وافعلوا المعروف، مع مجيء المعروف وصفاً للقول مثل قوله تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( )، وللفعل مثل قوله تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
ويدل الأمر بالمعروف بالأولوية على التقيد بأحكامه وسننه، ومن يدعو للمعروف يحرص أولاً على الامتثال ولبس رداء الصلاح والتقوى.
السابعة : الآية دعوة للناس لإكرام المسلمين والإنصات لهم.
الثامنة : خاتمة الآية بشارة للمسلمين جميعاً، ودعوة إضافية لهم لتعاهد الأوامر الواردة في هذه الآية وعدم التفريط فيها وفي مصاديقها المتجددة.
التفسير
قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ]
اتصل الخطاب في هذه الآية بالآية التي سبقتها بلحاظ حرف العطف الوأو الذي تفتتح به هذه الآية ، وتوجه الخطاب فيها إلى المسلمين لما جاء في الآية قبل السابقة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ]، وفاتحة الآية الكريمة محل البحث تشريف للمسلمين من وجوه:
الاول: الخطاب الإلهي لأمة أو أهل ملة مخصوصة رحمة ورأفة وهو على اقسام:
الاول : خطاب التكليف الموجه للمسلمين.
الثاني : الدعوة لاتيان الصالحات وفعل الخيرات.
الثالث : الحث على السعي للآخرة ونيل النعيم الدائم فيها.
الرابع : دعوة الناس مطلقاً للاسلام وترغيبهم فيه.
الخامس : زجر الناس عن المعاصي.
السادس : التنبيه على قبح الكفر، وما فيه من الاضرار.
السابع : انذار الكافرين والجاحدين واخبارهم بالعذاب الشديد الذي ينتظر من يغادر الدنيا منهم على الكفر.
الثاني : تشريف المسلمين بخطابات تعاهد الخلافة في الأرض، وتعظيم شعائر الله.
الثالث : تولي المسلمين مسؤوليات الدعوة إلى الخير، ونيل شرف نشر معاني الفضيلة والاحسان.
الرابع : اهلية المسلمين للاستجابة لأوأمر الله تعالى في الفرائض والمندوبات، وعدم وقوفهم عند الفرائض والواجبات كالصلاة والصوم، بل أنهم يقومون بفعل المستحبات ايضاً، ويحثون الناس على فعلها.
الخامس : جذب المسلمين الناس لمنازل الإيمان، وقيامهم بالبيان الفعلي لمضامين الصلاح في الإسلام، فالآية تدعو المسلمين لحث الناس على دخول الإسلام، وفيه مسائل:
الاولى : تدل الآية على ثبوت الإيمان في صدور المسلمين، وتسابقهم في فعل الخيرات، ومن يدعو غيره إلى أمرفأنه يحرص على الالتزام به وبفعله خصوصاً وأنه يصدر من منازل الإيمان.
الثانية : الآية دعوة للناس لاتباع المسلمين في مناهج العبادة لعدم التفكيك بين وجوه الدعوة الإسلامية، ويمكن تأسيس قاعدة وفق القياس الاقتراني.
والكبرى فيها : من يدعو إلى الخير فهو على خير.
والصغرى : المسلمون يدعون إلى الخير.
النتيجة : المسلمون على خير.
الثالثة : من يتبع المسلمين في موارد الخير لا ينفر من دعوتهم إلى الإسلام.
السادس : الآية تعليم وارشاد للمسلمين، ومجئ التعليم من عند الله فضل عظيم واكرام انفرد به المسلمون من بين الامم والملل.
وفي النسبة بين الإسلام والدعوة إلى الخير وجوه:
الاول : العموم والخصوص المطلق، فكل دعوة إلى الخير هي من الإسلام.
الثاني : التساوي فالإسلام هو الدعوة إلى الخير.
الثالث : الدعوة إلى الخير فرع الإسلام،
والصحيح هو الأخير لذا جاء الأمر الالهي بالدعوة إلى الخير بعد النداء بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
فبعد الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء الأمر بتقوى الله وخشيته في السر والعلانية والأمر بالاعتصام والتمسك بالقرآن ومبادئ الإسلام واجتناب الفرقة، ثم جاء الأمر في هذه الآية بالدعوة إلى الخير ولابد من صلة بين الدعوة إلى الخير والاحسان وكل من الوجوه الآتية :
الاول : تقوى الله وخشيته.
الثاني : التمسك بحبل الله.
الثالث : انتفاء الفرقة والخلاف.
الرابع : ذكر المسلمين لنعمة الأخوة.
الخامس : الإنقاذ من الإشراف على النار.
وتحتمل هذه الصلة وجوهاً:
الاول : الوجه اعلاه مقدمة للدعوة إلى الخير.
الثاني : التداخل والملازمة فيما بينها، فمع التقوى والإعتصام تأتي الدعوة إلى الخير.
الثالث : الوجوه اعلاه من مصاديق الخير، وجاءت هذه الآية لتأكيدها والحث عليها، والتنبيه إلى موضوعيتها في الإسلام.
الرابع : الدعوة إلى الخير فرع تقوى الله والإعتصام بحبله وإجتناب الفرقة والشقاق.
الخامس : وجود تأثير متبادل بين الوجوه اعلاه، وبين الدعوة إلى الخير، وكل فرد منها يسأهم في تثبيت الآخر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهي من مصاديق الإعجاز في نظم آيات القرآن وتكامل الشريعة الإسلامية، وتعمل متحدة ومتفرقة على ترسيخ مبادئ الإسلام، وقوة الإسلام وعزة المؤمنين، وتطرد الاخلاق المذمومة والعادات القبيحة.
وتتجلى آية تعدد الأوامر الالهية في هذه الآيات، ففي كل آية أمرأو أكثر، وهذا التعدد يحتمل وجوهاً:
الاول : التكليف الإضافي.
الثاني : المشقة والعناء وبذل الجهد المتصل.
الثالث : الرحمة والتخفيف.
الرابع : تعدد وظائف المؤمن.
الخامس : تثبيت دعائم الإيمان في النفوس والمجتمعات.
السادس : تجلي الخصال الحميدة في سنن الإسلام، وظهور فيوضات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تغشي الصلاح والاخلاق الحميدة لافعال المسلمين.
السابع : الامتثال للأوامر الالهية التي جاءت في هذه الآيات باب لنيل الثــواب الاخــروي، ويدل تعــددهــا وإسـتغراقها للدعــوة لمصــاديق الخير والمعروف، والنفرة من المنكر على حب الله تعالى للمسلمين.
الثامن: في هذا التعدد حجة على الملل السماوية السابقة كاليهود والنصارى، لان المسلمين اثبتوا اهليتهم لتولي وراثة الانبياء، وتلقي الأوامر التي تثبت اركان الإسلام في الأرض، وتمنع من تفشي مفاهيم الكفر والضلالة.
التاسع: استغراق التكاليف والمندوبات لنهار وليل المسلم والمسلمة، ليكونا مشغولين بذكر الله والتقرب اليه.
وجاءت هذه الآية بمسألة اضافية وهي الاجتهاد في دعوة الناس للايمان، وهدايتهم لسبل الرشاد، وجعل كلمة الله هي العليا، وجاء الخطاب في الآية موجهاً للمسلمين ويحتمل وجوهاً:
الاول : المسلمون ايام نزول القرآن.
الثاني : شطر وطائفة من المسلمين لورود التبعيض في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ].
الثالث : أهل الحل والعقد من المسلمين، والأمر اء والفقهاء والعلماء الذين يأخذون على عاتقهم مسؤولية اصلاح المجتمعات، ويقومون بوظائف الحكم والقضاء.
الرابع : المسلمون جميعاً رجإلا ونساءً.
والصحيح هو الآخير، فالخطاب في الآية مطلق وموجه للمسلمين كافة في اجيالهم المتعاقبة من وجوه:
الاول : أصالة الإطلاق ، وعدم وجود مقيد من الكتاب أو السنة.
الثاني : صيغة خطابات القرآن وما فيها من لغة العموم.
الثالث : مناسبة الموضوع والحكم، اذ ان مضامين الآية تتعلق بكل المسلمين.
الرابع : حاجة الناس للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتحتمل الدعوة إلى الخير في أسباب ها وأوأنها اموراً :
الاول : الإطلاق ، وشمولها لاحوال الناس المختلفة، منها الشدة والرخاء، والسعة والضيق، من غير ان يكون هناك حصر لمواضيع الآية .
الثاني : عند ظهور المعاصي والتجرأ على السنن والاحكام، وشيوع الظلم والتعدي وإسباب الفساد.
الثالث : في مواطن التقوى، وعند المساجد واوان الصلاة وايام الصيام، وموسم الحج، فعندما تتوجه النفوس للعبادة والتقوى تأتي الدعوة إلى الخير والصلاح لتثبيت الاقدام في منازل الإيمان ولجذب الناس لطرق الهداية والرشاد.
الرابع : في حال السلم والسعة وسيادة احكام الشريعة وسنن الايمان.
الخامس : عند ظهور الفتن، وإسباب الافتتان.
السادس : في حال إنحسار المعروف وقلة الاحسان، وظهور البدع والمنكرات.
والصحيح هو الاول، فاحكام الآية مطلقة، وشاملة لكل الاحوال من غير تقييد بحال دون أخرى ، وهو إعجاز اضافي للآية القرآنية مطلقاً، وشاهد على بقائها حية غضة طرية في كل زمان، ومن الآيات التي تترشح عن مضامين هذه الآية الكريمة إجماع علماء المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وجود تقييد للعمل بسننها وما فيها من الدعوة إلى الخير والصلاح والرشاد.
وفي كيفية الدعوة إلى الخير التي جاءت بها هذه الآية وجوه:
الاول : ظهور الدعوة على اللسان، ودعوة الاخرين إلى الخير بالموعظة والحكمة الحسنة.
الثاني : اتخاذ آلة الحكم والسلطنة وسيلة لحث الناس على سبل الخير.
الثالث : إرتقاء الناس في المعارف الالهية باعتبار ان هذا الإرتقاء خير محض، وهو دعوة للخير والإحسان ايضاً.
الرابع : لغة البشارة والانذار، بالإخبار عن منزلة فاعل الخير، وما اعد الله له من الثواب الجزيل، وانذار الكافرين، الاشحة على الخير وما ينتظرهم من العذاب الاليم.
الخامس : اعتماد اليد وإسباب الغلظة والقوة في حمل الناس على فعل الخيرات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية إلا ان استعمال القوة لا يكون إلا في الحالات التي تأذن بها الشريعة، وتبرز الحاجة اليها وكأنهامن احكام الضرورة، كما أنها تقدر بقدرها، والأصل هو الدعوة باللسان والتبليغ والموعظة ومنها المثال الكريم والتوكيد على منافع الخير والصلاح، والتذكير بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب، وبيان حقيقة وهي ان فعل الخيرات برزخ دون العذاب، ووسيلة للفوز يوم القيامة.
وورد عن عبدالله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مابعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه ان يدل امته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم( ).
لقد تضمنت الآية الكريمة الأمر الإلهي بالدعوة إلى الخير من غير تعيين لالة وكيفية الدعوة، وعدم التعيين هذا آية اعجازية أخرى ، وباب للسعي في الخيرات، وبذل الوسع في حث الناس على المعروف والأخذ بايديهم في مسالك الهدى وسبل الرشاد، ودعوة للعمل بالوسائل الشرعية في الإمتثال لمضامين هذه الآية ، والصيغ المناسبة وبما يخلو من الضرر والأذى الذاتي والعرضي.
ويمكن استقراء قاعدة كلية من الآية الكريمة، وهي عدم حصول ضرر في الدعوة إلى الخير، فلا يصح ان تكون في البين اثار عرضية ضارة للدعوة إلى الخير، بل هي خير وإحسان محض، وهي أعم من القول وتتضمن اتيان مصاديق البر، وفعل الصالحات بان يكون الشخص أو الجماعة أو الأمة أسوة في الصالحات، بالمبادرة إلى فعل الخير، التي تعتبر من أفضل صيغ الدعوة إلا أنها لا تكفي بل لا بد من القول والتبليغ والحث ولغة الترغيب، وبيان منافع فعل الخير وما فيه من البركة وإسباب الصلاح.
وهذه المبادرة جزء من مضامين الآية الكريمة، وتدل عليها بالأولوية القطعية، فلا يمكن ان يدعو الإنسان لفعل الخيرات وينسى نفسه، كما تكون الدعوة شاهداً عليه وضابطة كلية أمام الله عز وجل وأمام الناس، ولا تكون دعوته مقبولة عندهم، اذا لم يتقيد هو بمضامينها.
وجاءت الآية بالدعوة إلى الخير فلابد أنها تأمرالداعي بالتقيد التام بأحكامها وعدم التلبس بما يخالفها من الفعل القبيح والمذموم، وما يؤدي إلى إفسادها وجعلها سالبة بإنتفاء الموضوع.
ولم تقل الآية الكريمة “ولتكن منكم أمة تدعو إلى الله” بل جاءت بالدعوة إلى الخير، وفيه وجوه:
الأول: الدعوة إلى الله، عأمة وشاملة للمسلمين جميعاً، فكل مسلم يدعو إلى الله.
الثاني: موضوع الآية هو الدعوة إلى الخير والحث على مصاديقه، ونشر مبادئ الفضيلة.
الثالث : الدعوة إلى الخير مقدمة للدعوة إلى الله، ولها منافع متعددة منها :
الأول : جذب الناس للإسلام.
الثاني : بعث الطمأنينة في نفوس الناس من نوايا المسلمين، لأن النفوس لا تنفر من الخير والدعوة اليه.
الثالث : ترغيب الناس بالخير وجعلهم يحسنون إلى الآخرين.
الرابع : منع الدعوة إلى الكفر والشر والشح، فالآية الكريمة جهاد في باب الدعوة، والعمل بين الناس، وزحزحة مفاهيم الشرك والضلالة، والدعوة إلى الخير إسكات للأصوات التي تدعو إلى الكفر والشرك، وحرب على مفاهيم الشح ومنع لوجود أمة متحدة تحارب الإسلام وتعادي المسلمين وتفكك الدعوة إلى الخير، فلا يكون هناك إتحاد لأعداء الإسلام، لأن الدعوة تنفذ إلى القلوب، وتتودد إلى النفوس، وتؤكد إنتفاء الإسباب التي تحمل الناس على محاربة الإسلام، وهي عنوان لظهورالمسلمين بمظهر القوة.
الخامس: تجعل الآية الدعوة إلى الخير متصلة ومن منافع الإتصال والإستدأمة توجيه الدعوة إلى الإنسان مطلقاً عند بلوغه سن التكليف لدخول الإسلام، اذ يجد الفتى الذي يبلغ الحلم ان الإسلام يدعوه إلى فعل الخير وعمل الصالحات التي هي جزء من مبادئ الإسلام، ولا ينال الإنسان عليها الثواب إلا بدخول الإسلام، والفرار من الكفر ومضامين الشرك.
والأمة هي الجماعة التي تلتقي في فعل أو نسب أو مذهب، والمسلمون أمة واحدة إلا أنه وردت آيات تفيد التبعيض في العمل ونسبته إلى أمة من المسلمين، كما جاءت بإطلاق اسم الأمة على نبي من أنبياء الله هو ابراهيم عليه السلام، قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمة قَانِتًا لِلَّهِ]( )، وإذ افتتحت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ] والآية التي سبقتها بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] فان هذه الآية جاءت بالتفصيل اذ توجه الخطاب إلى كل المسلمين، أما مضــمون التكــليف فيها فجاء بالتبعيض [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ ُأمَّةٌ]وهو آية اعجازية في علوم القرآن، ووظــائف آياته، وســنن التشـريع فيه، ولكن لماذا هــذا التبعيض، وعدم توجه التكليف إلى المسلمين مطلقاً بالدعوة إلى الخير، فيه مسائل:
الأولى : تبين الآية ان وجوب الدعوة إلى الخير كفائي، وهو الذي يتعلق بالأمر المكلف به، فيتوجه الخطاب فيه إلى جميع المكلفين، فاذا أداه أحدهم سقط عن الآخرين، أما اذا اعرضوا عنه جميعاً، ولم يمتثل أي واحد منهم للأمرفأنهم يؤثمون.
الثانية : الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة، وفيه تخفيف عن المسلمين كافة.
الثالثة : التبعيض رحمة بالمسلمين جميعاً، وهو من عمومات قاعدة نفي الحرج.
الرابعة : ما ان تدعو جماعة من المسلمين إلى الخير حتى تحصل الإستجابة والإمتثال، ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الخامسة : شمول الدعوة إلى الخير لعموم الناس بما فيهم شطر من المسلمين، ففي الدعوة إلى الخير ثلاثة أطراف هي:
الأول : الداعي إلى الخير.
الثاني : موضوع الدعوة وهو مصداق من مصاديق الخير.
الثالث : الذي تتوجه إليه الدعوة.
وكل طرف منها يقبل القسمة والإنحلال، فأما بالنسبة للأول فأنه على وجوه :
الأول : الإتحاد في جهة الصدور كما لو كانت الدعوة إلى الخير صادرة من شخص واحد.
الثاني : الإتحاد في الجهة مع التعدد في الأفراد كما لو كان الذي يدعو إلى الخير جماعة تجتمع تحت اسم وعنوان واحد.
الثالث : التعدد في جهة الصدور، واسم الأمة وان كان متحداً إلا أنه لا يمنع من تعدد أفراد الأمة، وكل فرد منها يدعو إلى الخير.
أما الثاني وهو موضوع الدعوة فأنه متعدد بلحاظ مصاديق الخير، ولا يتعارض هذا التعدد مع اتحاد موضوع الدعوة بعض الأحيان، وإختصاص شخص أو جماعة بالدعوة إلى موضوع معين.
وأما الثالث وهو الذي تتوجه إليه الدعوة إلى الخير فهو على ضروب:
الأول : الكافر الوثني بدعوته إلى نبذ الشرك والضلالة، وهدايته إلى الإسلام والصلاح، وهو على وجوه :
الأول : الشخص الواحد سواء كان كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو انثى.
الثاني : الجماعة الصغيرة التي تعيش بين المسلمين.
الثالث : أهل الملة الذين يكونون على ضلالة.
الثاني : الكتابي بدعوته إلى الإسلام، وحثه على تصديق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
الثالث : المسلم، بدعوته إلى فعل الصالحات واتيان الخيرات، والمواظبة على القربات.
ومن وجوه التعدد في الآية أمور :
الأول : التعدد الزماني، وتحتمل الدعوة إلى الخير الواردة في الآية وجوهاً :
الأول : الدعوة مرة واحدة في العمر.
الثاني : الإتحاد في الدعوة بخصوص كل موضوع، فيكفي أي موضوع ومصداق من مصاديق الخير الدعوة إليه مرة واحدة سواء جاءت هذه الدعوة من شخص واحد أو من جماعة.
الثالث : التعدد في أي موضوع من مواضيع الخير بحسب الحاجة والشأن والإستجابة.
والصحيح هو الأخير، خصوصاً وان الأمر الإلهي في [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمة يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ] يحمل صفة التعدد من وجوه:
الأمر الأول : مجيء الآية بصيغة المضارع التي تعني الحدوث والتجدد، ويحتمل مجيء هذه الصيغة أموراً:
الأول : عدم وجود أمة من المسلمين تدعو إلى الخير قبل نزول هذه الآية .
الثاني: كان المسلمون يدعون إلى الخير على نحو الوجوب العيني، والعموم الإستغراقي الشامل للجميع، فجاءت هذه الآية للتخفيف وإستبدال الوجوب العيني بالوجوب الكفائي.
الثالث: الآية تثبيت لحال وواقع عند المسلمين وهو قيام أمة منهم تدعو إلى الخير وتأمر بالصالحات.
الرابع : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين مصداق لوجود أمة منهم تدعو إلى الخير، بإعتبار أنه أمة في الخير من باب الأولوية، فكما كان ابراهيم عليه السلام أمة قانتاً لله فكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسنته القولية والفعلية دليل قطعي على أنه إمام المسلمين في الدعوة إلى الخير والأمر بالصالحات، وفعل الحسنات.
وكل حديث من أحاديثه مدرسة عقائدية، ومصداق عملي لمضامين هذه الآية القدسية، وعلم مستقل في المعرفة الإلهية، والحديث النبوي جامع مانع، جامع للعلوم وصيغ الإرشاد والتأديب، ومانع من الريب والضلالة والأخلاق المذمومة.
الخامس: جاءت الآية لوضع أسس وقوانين عمل المسلمين مجتمعين ومتفرقين، في أبواب الخير والصلاح والدعوة والرشاد.
أما الوجه الأول فهو بعيد وخلاف الواقع، فكان كل مسلم يدعو إلى الإسلام ويأمربالمعروف وينهى عن المنكر كل بحسب شأنه وإستطاعته.
أما بالنسبة للثاني فان الإنتماء للإسلام وحده يومئذ دعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر والجحود، وجاءت هذه الآية لبيان الوظائف الإضافية في الإسلام
وأما الوجه الثالث فأنه لا دليل على تثبيت حال مخصوص، أما التخفيف فنعم فالآية فضل من عند الله على المسلمين، وفيها إرشاد وتعليم وتأديب ودفع للضرر، ومنع من الحرج.
أما الوجه الرابع فهو حق وإعجاز في فلسفة النبوة، وعنوان لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تأسيس سنن الخير والفلاح وسبل الرشاد والنجاح، وفيه بيان لما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله وهداية الناس وإمامتهم في مسالك الإيمان.
وأما الخامس فالآية برهان على نزول القرآن من عند الله، لما تتضمنه من الحكمة وقواعد عمل دقيقة تضبط عمل المسلمين كأمة وأفراد وتمنع من الحرج والإرباك والأذى.
الأمر الثاني: ورود لفظ الأمة الذي يفيد التعدد والكثرة.
الثالث: صيغة الجمع في قوله تعالى (يدعون).
الرابع: تعدد الأمر الإلهي بلحاظ الزمان والأجيال المتعاقبة، وتجدد الخطاب التكليفي في الآية .
الخامس: التعدد المكاني: بان تأتي الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف في أماكن وأمصار متعددة، وهذا التعدد يحتمل وجهين:
الأول: القضية الشخصية بان يقوم المسلم والجماعة المتحدة من المسلمين بالدعوة إلى الخير في أكثر من مكان أو أكثر من بلد، فيدعو مرة في محلته و أخرى في موضع عمله، أو يقوم بالدعوة مرة في البلد الذي يسكنه، وثانية في بلد آخر، وثالثة في مسقط رأسه ان كان قد ولد في بلد غير الذي يسكنه.
الثاني: القضية النوعية، بان تقوم أمة من مسلمي كل بلد بالدعوة في بلدهم إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيحصل التعدد الفعلي والمكاني، وتكون الدعوة في جميع الأمصار متصلة وبعرض واحد.
ولا تعارض بين الوجهين، وكلاهما من مصاديق الآية الكريمة، لذا جــاءت الآية بصيغــة الخطاب الشــامل للمســلمين مطــلقا بقــوله تعالى [ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ ] والذي ينحل إلى أقسام:
الأول: خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه عمل المسلمين، وجعل أمة منهم يدعون إلى الخير، ويبذلون الوسع في هداية الناس وإصلاح المجتمعات، فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وهناك أمة تعمل بمضامين الآية ، وتهيء لوراثتها من قبل أمة لاحقة من التابعين.
الثاني: صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان يجعلوا أمة منهم تتولى مسؤوليات الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: كل طبقة وجيل من أجيال المسلمين، والتكليف في الآية الكريمة لم ينحصر بجيل دون آخر، فالآية باقية حية غضة طرية.
الرابع: الخطاب في الآية موجه لكل مسلم ومسلمة اذ ان لغة التبعيض في الآية “منكم” وصيغة الجمع “أمة” لم يمنعا من توجه الخطاب فيها على نحو القضية الشخصية بالإضافة إلى النوعية وإرادة المتحد بالإضافة إلى المتعدد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن الخطاب في الآية متجدد ومتعدد في جهة الخطاب مع إتحاد جهة الصدور، ومن الآيات ان توجهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينحصر بأيام حياته بل هو متصل لدوام وجود السنة النبوية عند المسلمين، وحرصهم على العمل بمضامينها، وإقتباس الدروس ومعاني الحكمة منها.
وفي التبعيض في الآية وقيام أمة من المسلمين بالدعوة والأمر والنهي وجوه:
الأول: بقاء شطر من المسلمين ظهيراً للذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لتعضيدهم وخشية تعرضهم للأذى.
الثاني : عدم الحاجة لإشتراك الأمة كلها في الأمر ، بل يكفي انبعاث شطر منهم وأحياناً يحصل الإمتثال للواجب الكفائي بفرد واحد من المسلمين.
الثالث : التبعيض دعوة للندب إلى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترغيب وحث عليها، ويترك للمسلم الإختيار فيبادر إلى الإمتثال لمضامين هذه الآية أو يترك لغيره القيام بها.
الرابع: علة التبعيض هي التعدد في الآية ، وشمولها للأفعال الثلاثة وكل واحد منها يحتاج إلى أمة، مع إمكان قيام جماعة بالأفراد الثلاثة أو بإثنين أو واحد منها.
الخامس: التبعيض تخفيف عن المسلمين.
السادس: فيه دعوة لإنقطاع شطر من المسلمين للعبادة، وأداء المناسك، وحجة في عدم الإنشغال عنها.
السابع: في التبعيض آية إعجازية، لأن آية أخرى أمرت بان تقوم طائفة من المسلمين بتحصيل العلوم الكسبية، والتفقه في الدين، قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] ( ).
فالجمع بين الآيتين يفيد أموراً:
الأول: أنه نوع تقسيم للأعمال.
الثاني: أنه شاهد على الإختصاص في الوظائف العقائدية التي تتعلق بإصلاح الآخرين.
الثالث: منع إنشغال المسلمين بوجه واحد من وجوه الجهاد.
الرابع: توجه فريق من المسلمين لأداء وظائف خاصة يفيد إكتساب الخبرة فيه، ومعرفة سبل النجاح والتوفيق.
الخامس: إرتقاء المسلمين في جميع الميادين، وعدم الإنشغال في باب واحد وبما يؤدي إلى الفتور في غيره.
السادس: المندوحة والسعة في إختيار المسلم للقيام باي عمل منها مع التقيد بأحكام الوجوب الكفائي ولزوم عدم ترك الجميع لأحدها.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ما دامت الآية جاءت بصيغة التبعيض، وقيام شطر من المسلمين بالدعوة إلى الخير فهل هناك شروط خاصة بالذي يدعو إلى الخير فرداً أو جماعة، الجواب لا، لذا جاءت الآية إلى المسلمين بصفة الإنتماء إلى الإسلام وبما هم مسلمين.
فالخطاب فيها عام وشامل، ليكون الأمر متوجهاً ومنبسطاً عليهم جميعاً، إلا ان هذا لا يمنع من الإشارة إلى مناسبة الحال للدعوة إلى الخير، وإجتماع أسباب ها عند الذي يتصدى لها لتأتي تأمة ونافعة، وهو من خصائص الواجب الكفائي ويتضمن التخفيف والتيسير في الإمتثال للأمرالإلهي.
فكل مسلم مؤهل للدعوة إلى الخير، ولكن قد تكون هناك أسباب تجعل بعضهم أولى من بعض في الدعوة إلى الخير، فصدور الأمر من الوالد إلى ولده بفعل الخير، أكثر تأثيراً من صدوره من الزوجة والصديق، وقد يكون العكس،بأن ينصت الشخص إلى زوجته أو صديقه أكثر من إصغائه إلى والده، وهذا المائز لا يمنع من قيام الطرف المرجوح بالمبادرة إلى الدعوة إلى الخير، ولا مانع من إجتماع الأطراف الثلاثة أعلاه، بل ومعها غيرها، وهو من عمومات [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] وما تدل عليه من صيغة التعدد في الدعوة سواء في توجهها إلى المتحد أو المتعدد.
الثانية: لا يشترط في الداعية بلوغ مرتبة من الفقاهة لتجلي معاني ومصاديق الخير في الواقع الخارجي، ومن أفراده ما هو من البديهيات كإقأمة الصلاة وإتيان الفرائض ال أخرى ، فلا يحتاج تعيين المسلمين لجماعة منهم للقيام بالدعوة، فكلهم مؤهلون للدعوة والإصلاح، وقد تأتي الدعوة من الأدنى إلى الأعلى في التحصيل العلمي.
الثالثة: لا يشترط التساوي في الدرجة والشأن في الدعوة، فقد تأتي الدعوة من الابن أو البنت لأبيها، ومن الأصغر إلى الأكبر، ومن الأقل رتبة في الوظيفة والشأن إلى الأعلى منه.
الرابعة: هل يعتبر الداعية إلى الخير أفضل من المدعو الجواب اذا كانت الدعوة بين المسلمين فلا ملازمة للتفضيل، فقد لا يلتفت المسلم إلى جهة من جهات الخير مع إحرازه وسعيه في الجهات ال أخرى ، كما لو لم يعلم بحاجة أحد أرحامه أو أنه ينسى إعانته فيذكره غيره، أو أنه إنشغل عن صلاة الظهر مع أنه حريص على أداء الصلوات في أوقاتها،فينبه لأدائها
ان مبادرة المسلمين لفعل الخير دخول كريم في ميادين الحضارة وبناء سليم لصرح المدنية قائم على الصلاح والتقوى، وإحتراز مما تأتي به التكنولوجيا والثورة الصناعية من الشرور.
وقد ورد قوله تعالى [ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( )، والنسبة بين الآيتين العموم والخصوص من وجه،فمادة الإلتقاء الدعوة أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: جاءت الآية محل البحث بالأمر إلى المسلمين، أما الآية أعلاه فهي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنهاتشمل المسلمين في الخطاب والتكليف بالواسطة لعمومات الخطاب القرآني.
الثاني: تضمنت هذه الآية الأمر بقيام أمة وشطر من المسلمين بالدعوة إلى الخير، أما الآية أعلاه فأنها موجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله للأمة مطلقاً، وليس من تخصيص فيها، وعلى المسلمين ان يقوموا بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الثالث: جاءت الآية أعلاه لبيان كيفية الدعوة،وأنهابصيغ الحجة والبرهان واللطف والإحسان، وعدم الإيذاء أو الإساءة، وهذه الكيفية مطلقة وشاملة للآية محل البحث، وتقدير الآية “ولتكن منكم أمة تدعو إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة”.
وهو شاهد على التفســير الذاتي للقــرآن، وان الآية القرآنية تبين كيفية العمل بمضامين الآية ال أخرى ، فاذا سأل أحدهم كيف ادعو إلى الخير يأتيه الجــواب القــرآني بان الدعوة بالحكمة والموعظــة الحســنة، وإذ هم شخص بالدعوة بالغلظة والجرح والتبكيت والتقبيح تأتي هذه الآية لتزجره عن هذه الصيغة، وتؤكد له لزوم إكرام الإنســـان مطلقاً عند دعوته للخير، فلا يدعى إلا بلغة الخير أي تدعو إلى الخير بالخير، فيكون الخــير هو الموضــوع والحكم الذي يتغشـــى فعل الأمة في الجهاد القولي لإصلاح المجتمعات، وتهذيــب العادات وجعــل العــرف العــام ذا صبغة إســلامية قائمة على الإحســان والعفــو ونبــذ الفرقة والخصومة.
ومع إن المراد بالتكليف الكفائي فرقة وطائفة من المسلمين إلا ان الآية وردت بلفظ الأمة لبيان نكتة إعجازية وهي الإشتراك والإتحاد والتعاون في الدعوة إلى الخير، ولتصدر الدعوة عن جهة متحدة متضامنة ليكون النفع أكثر، وقد يستلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القوة والمنعة والعز، وهو لا يتحقق إلا مع الوحدة والإتحاد، بالإضافة إلى ان عمل الأمة يأتي منظماً وبأفضل صيغة ويكون أبلغ في الأثر.
وتدعو الآية إلى جعل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أموراً منهجية وتجري وفق صيغ هادفة وكيفيات ذات صبغة شرعية لعمومات التقيد بأحكام القرآن والسنة، وما جاءت به الآية السابقة من الإعتصام بهما.
ومع ان لفظ (أمة) اسم جنس مؤنث فان الآية جاءت بصيغة الجمع “أمة يدعون إلى الخير” لتكون صيغة الجمع إنحلالية تتفرع بعدد الدعاة إلى الخير، وليقوم كل فرد منهم بوظائفه في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه إشارة إلى إنتفاء الحاجة إلى إنتضار اتفاق الأمة على الفعل الشخصي، فالأمة متحدة في عملها ودعوتها إلا ان كل فرد منها له ان يبادر إلى الدعوة والإصلاح بنفسه وبحسب حاله وشأنه من غير ان يخرج عن الجماعة وإتحاد الأمة، ولكنها لا تقيد عمله، والله عز وجل يعلم به ويثيبه على فعله.
وقد يتبادر إلى الذهن توجه الدعوة المتحدة للأفراد على نحو القضية الشخصية، ولكن الآية أعم وهي شاملة للناس جميعاً، وتكون على أقسام :
الأول : الدعوة المتحدة المتوجهة إلى الشخص الواحد.
الثاني : الدعوة المتعددة المتوجهة إلى الشخص الواحد أيضاً وهذه الدعوة على شعبتين:
الأولى: اتحاد الدعوة والموضوع، كما لو كانت الدعوة حثا على صلة الرحم وإصلاح ذات البين.
الثانية: تعدد الدعوة والموضوع.
الثالث: إتحاد الدعوة، وتعدد المدعو.
الرابع: تعدد الدعوة والمدعو.
وليس من حد لموضوع الدعوة أو المدعو لكثرة مصاديق الخير، وإنشطارها بحسب الزمان والعرف، وكثرة الناس الذين تتوجه لهم الدعوة.
ويمكن ان يكون الداعي إلى الخير مدعواً إليه أيضاً ولكن في مصاديق غير المصاديق والأفراد التي يدعو اليها، وتلك آية إعجازية في مضامين الآية القرآنية العملية وسعتها وإتصال العمل فيها، وهو من أسرار ورود لفظ أمة في الآية بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ].
فالأمة مؤهلة ان تدعو أمة أخرى مشابهة لها، وتكون هذه الأهلية في العدد والعدة، كما تكون دعوة الأمة للأفراد أكثر تأثيراً وأثراً، وتستطيع جذب الطرف الآخر والأحتراز من أسباب الشك والريب، فقد تواجه الدعوة إلى الخير بالإحتجاج أو المغالطة أوطلب البرهان والتصديق، فتكون الأمة قادرة على الرد وإحضار البرهان، ودفع المغالطة والشك والمنع من الوسواس، وجعل المدعو يقوم بفعل الخير ويحسن الثقة بالله ويتوكل عليه في عمله.
ونسب الزمخشري إلى القيل أن (من) في قوله تعالى ( ولتكن منكم) للتبيين بمعنى: وكونوا أمة تأمرون، كقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ولكنه بعيد، وخلاف الظاهر والمتبادر من معنى الآية ، فالمراد هو التبعيض.
وقال: من للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر، فان الجأهل ربما نهى عن معروف وأمربمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده انكاره إلا تمادياًً( ).
ولكن موارد الأمر والنهي اعم من هذا التقسيم، والتفصيل ليس مطلقاً، فان الخطاب جاء للمسلمين جميعاً مما يعني انعدام الجأهل بينهم، والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكلي المشكك وهو على مراتب متفاوتة، فمنه ما يستطيع أي مسلم ان يقوم به، وإنتظار العالم وذي التحصيل قد يفوت الفرصة في الدعوة إلى الخير، ثم ان العالم ليس موجوداً في كل حادثة وواقعة، ومن مصاديق الخير ما لا يحضره إلا شخص واحد ذكراً كان أو انثى فيتوجه إليه الخطاب حينئذ على نحو الكفاية.
لقد جاءت الآية لإكرام المسلمين وتدل بالدلالة الإلتزامية على اهليتهم لحمل لواء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف.
وقال في حاشية الكشاف: وفي هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه عن قلة العاملين بذلك، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص( ).
ان صرف التبعيض إلى الخواص تقييد من غير مقيد، وحصر لجهة الخطاب من غير قرينة أو دليل، وتعطيل جهود الأمة، فالتبعيض يتعلق بالموضوع والزمان والمكان، ففي التبعيض بشارة للمسلمين بان إقأمة صرح العدل والإحسان وفعل الصالحات لا يستلزم منهم إلا شطراً من الجهد العام للأمة، وليس لأحد ان يتخلف عن الفرائض من الصلاة والصوم والزكاة ويعتذر بأنه مشغول في الدعوة إلى الخير، فكل فرد ينهض بها من مقامه، فتأتي دعوة الأب للابن للصلاة لتسقط الدعوة عن الأخ والأخت، وقد يستلزم الأمر مشاركة الأم والأخ والأخت في ذات الدعوة، فتسقط عن العم والخال وابن العم وهكذا، فالتبعيض نوع تخفيف وإلا فأنه ليس من أحد مستثنى من أحكام هذه الآية .
وتتضمن الآية والآيات ال أخرى الإرشاد إلى كيفية الدعوة، وتأديب ألمسلمين باتخاذ السبل المناسبة في الدعوة، ومن أسرار مجيء لفظ أمة في الآية التعاون بين أفرادها في الكيفية المناسبة وإعتماد الصيغ المناسبة والناجحة في هداية الناس وجذبهم لسبل الخير.
فكل مسلم ومسلمة مشمولان باحكام هذه الآية وما فيها من لغة الخطاب بان يكونا من الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكن على سبيل التناوب والواجب الكفائي ويتجلى هذا المعنى بالعموم الوارد في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، وإجماع الفقهاء على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من غير تعارض بين التبعيض في الآية محل البحث والعموم في الآية أعلاه، لأن التبعيض جهتي، ولو أحصى المسلم أفعاله لوجد نفسه قد قام بالدعوة إلى البر والأمر بالمعروف ونهى عن المنكر في مواطن كثيرة.
وقال الضحاك: ان المراد من الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعلم الدين( ).
ولكن أحكام الآية منبسطة على المسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة، وهي خطاب تكليفي كفائي على الأمة العناية به والحرص على الإمتثال له وهو من إعجاز الآية وإستدأمة حكمها وما فيها من المنافع العظيمة، والأصل في الآية القرآنية عدم إنحصار أحكامها بصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ما لجهادهم وبيأنهم لسنة النبي من الموضوعية في حياة المسلمين مطلقاً، كما ان الخير المراد في الآية عام وشامل، وأفراده متجددة وتشمل مستحدثات المسائل وما تستلزمه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل جيل من المسلمين عليه القيام بتعليم الناس وإرشادهم إلى سبل الصلاح.
ونقل الرازي قولا بخصوص التبعيض في الآية “ان فائدة كلمة (من) هي ان في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين( ).
ولكن الأنوثة والمرض والعجز لا تسقط عن الإنسان الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف بل ان الأمر بها يتوجه إليه بعرض واحد مع غيره وقد يكون العذر مسقطاً للتكليف خصوصاً وأنه كفائي وقد لا يسقط معه، لوجوه:
الأول: القدرة على الدعوة إلى الخير أمرجهتي، فقد تستطيع المرأة ان تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر وكذا المريض والعاجز بالميسور وضمن دائرة التأثير.
الثاني: يتيسر أحيانا للمرأة أو المريض أو العاجز من الفرص في الدعوة إلى الخير ما لم يتيسر لغيرهم.
الثالث: قد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم واجباً عينياً وليس كفائياً خصوصا عند إنحصار الدعوة والأمر بالصلاح بهم،
لذا فان الآية تشملهم من وجوه:
الأول: صيغة الخطاب وما فيها من لغة العموم.
الثاني: الضمير في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ] وما يدل عليه من البعث العام للدعوة.
الثالث: مضامين الإمتثال للآية، وما فيها من الأوامر ، والندب إلى فعل الخير. ولا يتعارض هذا الإمتثال والوجوب الكفائي أوالعيني مع لغة التبعيض في الآية .
الرابع: أداء العبادات والفرائض من قبل المرأة والمريض والعاجز دعوة إلى الخير وأمربالعروف ونهي عن المنكر.
نعم هناك مواطن ومصاديق من الخير والمعروف لا يهتدي اليها الضعيف والعاجز، وتكون أكبر من قدرته، أو أنهاتحتاج إلى بيان وإستحضار حجة ووسيلة وصيغة مناسبة، وكذا بالنسبة للمرأة وصلاتها المحدودة، وعندها هل يسقط عن الثلاثة اعلاه الأمر بها دون غيرها مما يقدرون عليه،
الجواب فيه تفصيل، فمع وجود المتصدي للدعوة والأمر يتحقق الإمتثال، ومع عدمه يبقى التكليف بالمستطاع ولو على نحو الموجبة الجزئية.
قانون الإقتداء
الإنسان كائن ممكن، ومن خصائص الإمكان الحاجة، اذ ان الحاجة إلى الغير تلازم الممكن، وتتجلى في الإنسان بحاجته إلى إقتباس المعارف، والتزود من العلوم واللجوء إلى من يرشده إلى ما ينفعه في النشأتين، ويجعله يتجنب الأذى والضرر.
فتفضل الله عز وجل على الناس بالنبوة رحمة متصلة وشاملة للجميع، فهي كالشجرة التي تتدلى أغصأنهافي عموم الأرض، وتتصف بالثمر الدائم طيلة أيام السنة، ويستطيع كل إنسان ان يقتطف من ثمارها بيسر وسهولة.
ومن الآيات ان هذا القطف لا ينقص من ثمرها بل يزيد فيه وفي أغصأنها، وتلك آية من آيات الإرادة التكوينية، وسر من أسرار الخلق، وشاهد على رأفة الله بالناس، ولا يتوقف النفع على الإقتطاف وسعي الإنسان للأخذ من النبوة وكنوزها، بل أنهاتتقرب إلى الإنسان وتكون حاضرة عنده، في الشدة والرخاء ليخفف عنه الإبتلاء ووسائل الإختبار، خصوصاً وان الدنيا دار إبتلاء وإمتحان.
وتساعد سنن النبوة وما فيها من الخير المحض الإنسان على التغلب على النفس الشهوية والغضبية وإسباب الشك والريب، ويأتي الأمر بالعروف والنهي عن المنكر لجذب الناس إليها.
ومن الفضل الإلهي على الناس وجود السنة النبوية بين ظهرانيهم ليسهل عليهم الإقتداء بها والعمل بأحكامها، وهيء الله لها أسباب الحفظ والصيانة والوقاية من الوضع والتحريف والتشويه، كما جعل نفوس المسلمين تميل اليها وتعشق مضامينها، وتتلذذ بالعمل بسننها، والسنة على أقسام أربعة:
الأول: السنة القولية، وكل قول وحديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ضياء وصراط مستقيم، وباب لهداية الناس إلى سبل الرشاد.
الثاني: السنة الفعلية، وهي التي تتعلق بأفعال وأعمال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارها مرآة للاحكام التكليفية الخمسة، وتفسيراً واقعياً لآيات القرآن، ومنها هذه الآية الكريمة، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الخيرات، والعامل بمضامين آيات القرآن بأحسن وأتم وجه، ومنها هذه الآية فان كل فعل من أفعاله دعوة إلى الخير، وإظهار لأحكامه، وتأسيس لقيم جديدة في المعروف ومفاهيم الصلاح، وتثبيت لسنن الخير، وهو سر من أسرار بقاء السنة النبوية وجزء من الواقع اليومي لمعاشر المسلمين في مختلف أرجاء الأرض، والأيام المتعاقبةيفتخرون بمصاديقها، وينهلون مما فيها من المعارف، ويسارعون في محاكاتها.
الثالث: السنة التقريرية: وهي إمضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفعل أصحابه ورضاه عنه، والإقتداء لا يكون بالرضا وحده، بل بإتيان ذات الفعل الذي أمضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه الخير، وسبل الرشاد.
الرابع: السنة التدوينية: وهي مجموع الرسائل والإجابات التي صدرت من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته التحريرية إلى ملوك الأرض، كهرقل ملك الروم، وكسرى ملك فارس، وهي مصداق لأفراد ومضامين هذه الآية الكريمة لما فيها من الدعوة إلى الله والانبعاث على الخير، والأمر بالمعروف وإسباب الصلاح، والحث على دخول الإسلام ونبذ الضلالة والشرك.
ان حرص المسلمين على الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة مباركة لتثبيت السنة النبوية، ووثيقة فعلية تؤكد التزامهم بمفاهيم الإيمان وسعيهم في مراتب المعارف، وهذا الإقتداء سبيل لنيل الثواب الأخروي، وبرزخ دون عذاب النار.
وهو حاجة يومية للمسلم في ميادين الحياة المختلفة، لذا فان السنة النبوية نعمة عظيمة على الإنسان مطلقاً وعلى المسلم خصوصاً، ولا تنحصر منافع السنة بالحياة الدنيا بل تشمل الآخرة، ومنافعها الأخروية أكثر وأعظم من الدنيوية، ويترشح شطر من هذه المنافع عن الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع سنته الشريفة، وهذا الإقتداء قانون ثابت في الأرض، ومصاحب للمسلمين في عباداتهم كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية الصلاة “صلوا كما رأيتموني أصلي” وفي حديث أداء الحج: خذوا عني مناسككم )، وكذا بالنسبة للمعاملات وقواعدها منها قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام المستقرأة من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذا في الاحكام ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم “انما أحكم بينكم بالإيمان والبينات” فمع فضل الله على النبي بالوحي والصلة المتصلة مع جبرئيل عليه السلام فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ بالبينة، ويحقق في عدالة الشهود، ويبعث إلى مدنهم وقرأهم للسؤال عنهم في تأديب وتعليم للحكام المسلمين في كيفية الفصل والقضاء، كما أنه أول من عمل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم وطلب البينة ممن أدعى واليمين ممن أنكر.
لتتجلى موضوعية البينة واليمين في السنة القولية والفعلية والتقريرية في تفسير وتصديق لآيات الاحكام في القرآن، وفيه تسهيل على المسلمين في الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت مضامين السنة ومنع الخلاف فيها أو الإجتهاد بخلافها.
ولم يرد الخطاب في هذه الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل توجه إلى المسلمين جميعاً [لْتَكُنْ مِنْكُمْ]وفيه وجوه:
الأول: نظم الآيات، ومجيؤها بالخطاب إلى المسلمين بقوله تعالى قبل آيتين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ].
الثاني: بيان المسؤوليات العقائدية التي يتولاها المسلمون في أجيالهم المتعاقبة.
الثالث: البشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان أمته قادرة على تحمل أعباء الدعوة إلى الخير.
الرابع: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإعداد الأمة إلى الوظائف التي جاءت بها هذه الآية ، لذا تعتبر السنة النبوية تهيئة للأمة لاحكام هذه الآية ، وبرزخاً دون التخلف عما فيها من الأوامر والمقاصد السامية.
الخامس: الإخبار الإلهي عن أهلية المسلمين لوراثة الأنبياء، وتعاهد سننهم والعمل على نهجهم.
السادس: في الآية دعوة إلى الإسلام، وحث الناس على الوثوق بالمسلمين.
السابع: تبعث الآية الفزع في قلوب الكفار، والخشية من المسلمين، وإتـحادهم في الدعوة إلى سبل الصلاح والفلاح.
الثامن: إنحلال الخطاب في الآية بعدد المسلمين، فكل مسلم يصل سن البلوغ يتوجه إليه التكليف بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتعارض انحلال وعموم الخطاب مع إرادة الوجوب الكفائي في الآية بلحاظ إطلاق الخطاب في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ] والتبعيض في الفعل والإمتثال لا يتعارض مع عموم الخطاب، والندب العام للواجب وان كان كفائياً.
التاسع: تجدد الإمتثال وملازمته للآية الكريمة التي يتجدد خطابها في كل زمان ومكان.
العاشر: إدراك المسلمين لفضل الله عليهم من وجوه:
الأول: إكرامهم بتوجه الخطاب اليهم.
الثاني: حثهم على فعل الخيرات.
الثالث: الخطاب مناسبة للإقبال على الصالحات، والإندفاع المتحد والمتعدد في الإمتثال لمضامين الآية الكريمة.
الرابع: مجيء الأمر الإلهي للمسلمين ليرتقوا في منازل التقوى والمعارف الإلهية.
الخامس: إعانة المسلمين للإمتثال لمضامين الآية الكريمة.
السادس: هدايتهم إلى مصاديق الخير، وتأهيلهم للتمييز بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر.
قانون الأمانة
لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل وجعل عنده القدرة على التمييز بين الأشياء، وأعأنه على معرفة الاحكام وسبل الخير والشر، وطرق الهداية وكيفية السعي فيها، وإسباب الغواية والضلالة وإسباب إجتنابها، ومن الآيات ان الإعانة لم تأتِ عن طريق العقل وحده، بل جاءت بوسائط ووسائل متعددة منها:
الأول: بعث الأنبياء ودعوتهم إلى الله عز وجل.
الثاني: بقاء سنن الأنبياء حاضرة بين الناس وقريبة منهم، يقتبسون منها، ويعملون بمضامينها.
الثالث: نزول الكتاب السماوية من السماء، وبيأنهالاحكام الحلال والحرام.
الرابع: وجوب البقاء على الإسلام والعمل بأحكام وقوانين القرآن.
الخامس: وجود الدعاة إلى الخير والأمر ين بالمعروف والناهين عن المنكر.
فهذه الآية عون للناس من وجوه:
الأول: هي عون للمسلمين للتفقه في أمور الدين وأحكام الحلال والحرام، للزوم صدور الدعوة إلى الخير عن معرفة بالاحكام وتمييز بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر.
الثاني: فيها إنقاذ من الإشراف على النار، فقد جاءت الآية السابقة بالإخبار عن نعمة الله عز وجل على المسلمين في سلامتهم من الإشراف على الهاوية بقوله تعالى [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا]، ومن مصاديق الإنقاذ وتعاهده ان أمرهم الله بالدعوة إلى الخير والتعاون على إتيان العبادات، وبذل الوسع في الحث على الصالحات، وإجتناب السيئات.
الثالث: الآية باب هداية للناس، ودعوة لهم لدخول الإسلام، فيدعو المسلمون للخير، فينجذب الناس لهم.
وجاءت الأوامر الإلهية الواردة في الآية أمانة شرعية في أعناق المسلمين يتوارثونها جيل بعد جيل، ويتعاهدونها بقبول ورضا بإعتبارها تشريفاً وعنوان إكرام لهم ، وسبباً من أسباب تفضيلهم على الأمم ال أخرى ، ووسيلة كريمة لإحراز مراتب الإقأمة في جنة الخلد.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين تحصين أنفسهم وإصلاح الذات ، وتنزيه الأرض من الكدورات الظلمانية والفواحش، ليكونوا في جهاد متصل مع النفس الأمارة، ويسأهم كل فرد منهم ذكرا كان أو أنثى بحفظ الأمانة، والمساهمة اليومية الجادة في بناء صرح الإسلام ونشر مبادئه في ربوع الأرض.
قانون (ولتكن منكم أمة)
جاءت خطابات القرآن عأمة وشاملة للمسلمين، وتتضمن البعث على الطاعات وإجتناب السيئات، وكل خطاب منها مدرسة عقائدية مستقلة، وتستنبط منه الدروس والعبر والاحكام والسنن، وأنفردت هذه الآية بصيغة التبعيض في الخطاب، وليس من أهل ملة جاءهم هذا الخطاب على نحو التبعيض، وفيه مدح للمسلمين لأنه يتضمن الإخبار عن كونهم أمة تتكون من عدة أمم، وهذه الكثرة ليس من الفرقة والتشتت، بل المسلمون كلهم أمة واحدة، ولكن الوظائف متعددة مما يدل على قوتهم ومنعتهم وثبات أقدامهم في ميادين التقوى والصلاح،وهم على أقسام:
الأول: أمة تجاهد في سبيل الله.
الثاني: أمة منقطعة إلى العبادة
الثالث: أمة تسعى في ميادين العمل والكسب.
الرابع: أمة تدعو إلى الخير.
الخامس: أمة تأمربالمعروف،وتنهى عن المنكر.
ولا تعارض بين أفراد هذا التقسيم، وهناك تداخل بين الأفراد والأفعال لإتحاد السنخية والماهية.
وأرادت الآية ان تبين حقيقة وهي لزوم العناية بالنفس والإلتفات إلى الذات والشأن الشخصي فيجب أن لا تكون الدعوة إلى الخير حائلاً دون الإلتفات إلى النفس خصوصاً وان الأولوية للوظائف العقائدية الشخصية، وهي المرتكز والمنطلق لدعوة الغير وتعتبر وسيلة مباركة للإقناع والإنجذاب لسبل الصلاح.
فمن لا يعمل الخير لا يستطيع التاثير على الناس في دعوته، ويواجه الإعراض والنفرة منهم في الغالب، ومن خصائص التبعيض توجه المسلمين لدعوة بعضهم بعضاً، وهذا التوجه تعاهد للمبادئ والقيم الإسلامية، ومنع من التفريط فيها على نحو القضية الشخصية وهو حصن وحراسة لصيغ الإمتثال ومتى ما علم المسلم ان أخاه يدعوه إلى الخير دائماً، ويأمره بالمعروف عند التخلف عنه، وينهاه عن المنكر، ويمنعه من إرتكابه أو اتيان مقدماته باعتبار ان مقدمة الإحرام حرام، فأنه يحرص على التقيد بالأحكام، وقد يكون الفرد منهم مدعوا يوماً، وداعياً لغيره في يوم آخر، بلحاظ وجوه:
الأول: تعدد الموضوع والزمان،بأن يدعو الواحد منهما الآخر في موضوع غير الموضوع الذي يدعوه فيه صاحبه مع اتحاد الزمان.
الثاني: إتحاد الموضوع مع تعدد الزمان كما لو دعا الأول الثاني اليوم، ودعاه الآخر بعد سنة في ذات الموضوع، وكما لو دعا أحدهما الآخر لبذل الوسع لتهيئة مقدمات الحج، وبعد ان أدى الحج قام بدعوة الأول للسعي في التوفيق لأداء الفريضة.
الثالث: تعدد الموضوع والزمان، فموضوع الدعوة مختلف، وكذا الزمان كما لو كان كل واحد منهما يدعو صاحبه في ذات الموضوع ويحثه عليه، ولا يستلزم الدور بل هو من التعاون في البر والصلاح، وليس بالضرورة ان تأتي الدعوة على العدم، فقد تأتي على الأمر الموجود فتثبته وترسخه، وتؤكد للمسلم صحة فعله ولزوم تعاهده.
وتطرد الدعوة إلى الخير الغفلة عن الداعي والمدعو، فمن خصائص التبعيض وصول الدعوة إلى كل مسلم وعدم الإنقطاع اليها، وعدم الإنقطاع هذا ليس اعراضاً وتركاً لها، بل للتوجه لما فيه تثبيت للخير والصلاح ويكون دعوة فعلية للخير بالمبادرة الشخصية وجعل المسلم نفسه أسوة لغيره.
قانون الدعوة صحة
من نعم الله عز وجل على الإنسان العافية والصحة في البدن، وتلك آية مصاحبة للإنسان،وغالباً ما يكون إنتباهه إلى أهميتهاحين فقدها، ويتصف المسلمون بالإقرار بنعمة الصحة والتوجه إلى الله تعالى بالشكر عليها وعلى إستدامتها، وهذا الشكر فضل ووسيلة لتعاهدها والحفاظ عليها، كما أنه وقاية وعلاج وإدراك وتدارك.
ومن إعجاز هذه الآية ان الإمتثال لمضامينها واقية وعلاج لكثير من الأمر اض، ومصداق لقوله تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، لأن فعل الخير يجعل الإنسان جزء مهماً من المجتمع، وله شأنه وموضوعيته فيه، ويسأهم في إندماجه وحسن عشرته مع الناس، ويزيد من قدره ومقامه بينهم مما يجعل الدنيا ذات بهجة في عينيه وينمي عنده حب البقاء فيها لفعل الخيرات، وإتيان الصالحات،ويهذب النفس ويبعث فيها العز والغبطة، ويؤثر ايجابياً على البدن والأعضاء وكيفية عمل الجهاز الهضمي وإفراز الغدد، ويزيد من الموصلات بين المخ والعظام، كما ان فعل الخير يجعل الطحال يعمل على إنتاج الخلايا، ومن الأسرار العضوية تقوية الجهاز المناعي عند فاعل الخير، وهو أمرشامل لطرفين:
الأول: الداعي إلى الخير.
الثاني: الذي يأتي بالخير.
ولا ينحصر هذا الإتيان بالإحسان إلى الآخرين، بل يشمل اصلاح الذات، والإقبال على أداء الفرائض والواجبات اذ تمتلأ النفس بالغبطة لإدراك حقيقة وهي الفوز بالإستقأمة والإهتداء إلى الصراط المستقيم لتبدأ رحلة السعادة التي تحرك الأعضاء والجوانح وتجعل الإنسان يؤدي أفعاله بشوق واقبال عليها.وينظر إلى الأمور بعين الرضا ويتخلص من الكدورات.
فمن الآيات ان يقترن الأمر الإلهي بالدعوة إلى الخير بالصحة والعافية والسلأمة من الأمر اض وتلك حقيقة تستلزم تسليط الأضواء عليها علمياً وطبياً والحث على فعل الخير بإعتباره واقية من العلل، وعلاجاً للأدران النفسية والعضوية، ووسيلة لتهذيب النفوس، وتنقيح العرف،وسلأمة المجتمعات من الأفات والعادات المذمومة.
ومن الآيات وجود تأثير متبادل بين الصحة والدعوة من وجوه:
الأول: الدعوة سبيل لإحراز صحة البدن وسلامته من الآفات.
الثاني: الصحة والعافية وسيلة للدعوة إلى الخير على نحو الكثرة والتعدد وزيادة السعي في ميادين الخير، فكلما كان الإنسان معافى وسالماً من الأمر اض، فأنه يستطيع الإجتهاد في سبل الخير، من غير كلل أو شعور بالأذى.
الثالث: سعي الإنسان في موارد الخير شكر لله تعالى على نعمة الصحة والعافية في البدن.
الرابع: الدعوة إلى الخير وسيلة لنيل الشفاء من الأمر اض والعلل، فقد يكون الإنسان مريضاً ومصاباً بداء فيسعى في الخيرات طلباً للشفاء وابتغاء العافية، لذا فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقطان عن المريض، وربما كانا سبباً في شفائه وسلامته من المرض والله عز وجل واسع كريم، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، والإبتلاء بمرض معين لا يمنع من شكر الله تعالى على أفراد العافية ال أخرى التي لا يمكن عدّها وأحصاؤها، فيأتي صدور الدعوة من المريض على وجوه:
الأول: رجاء الشفاء من المرض.
الثاني: شكره لله تعالى على نعمة العافية ومصاديق الصحة ال أخرى في البدن.
الثالث: سؤال وطلب النجاة من مضاعفة المرض أو ظهور اعراضه في اعراض أخرى .
ان مواصلة الإنسان لحياته اليومية بانتظام وعدم انشغاله بالمرض مع تلقي العلاج اللازم وسيلة من وسائل القضاء عليه، وبرزخ دون استفحاله، وتاتي الدعوة إلى الخير بنفع مركب من وجوه:
الأول: قهر الحالة المرضية.
الثاني: بذل الوسع في مرضاة الله.
الثالث: استحضار أمرالآخرة ولزوم الاستعداد لها بالعمل الصالح واكتناز الصالحات، وهذا الاستحضار عون ومانع من الإنشغال بالمرض وسلأمة مما ألمّ به من الآفات البدنية والنفسية.
الرابع: ترشح المنافع العأمة على الأمة من افعال الأفراد، فاذا رأى المسلمون أخأهم المبتلى بمرض يجتهد في الدعوة إلى الخير فأنهم يشعرون بلزوم قيامهم بالدعوة من باب الأولوية، واذا رأى المعافى المريض يحرص على التقيد بمصاديق المعروف ويحثه عليها، فأنه يشعر باولوية مبادرته إلى فعلها.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين النجاة في الدنيا والآخرة، وانزل هذه الآية ليكون الإمتثال لمضامينها صحة لابدأنهم، وتنزيهاً لبطونهم وعصمة لفروجهم.
ومن الآيات ان تستبين أسباب بعض الأمر اض المزمنة في هذا الزمان وانحصارها بإتيان الحرام وارتكاب الفواحش والموبقات، وتتجلى منافع هذه الآية بسلأمة المسلمين من تلك الأمر اض بتقيدهم بأحكام الحلال والحرام.
والدعوة إلى الخير سبب لزيادة الإنتاج وتحسين الواردات وإصلاح الصناعات وعمارة البلدان ونشر الأمن والرخاء في المجتمع، وسيادة القيم الإسلامية الرفيعة، وهي حرز من الفجور والفسوق، والآفات التي تصاحبهما.

قوله تعالى [يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ]
ابتدأت الآية بالأمر بصيغة الدعوة، وفيه آية إعجازية تبين لزوم التقيد بقواعد اللطف وحسن الخلق في جذب الناس إلى منازل الصلاح، فمع ان الخير نفع خالص للمدعو وفيه ثواب عظيم جاء الأمر الإلهي للدعوة التي تتضمن السؤال والحث والترغيب والطلب والرجاء ونحوه من الصيغ التي تفيد المساواة وعدم الإستعلاء لتزيين ذات الطلب في النفوس وعدم نفرة الناس منه.
وقد يكون الخير أمراً مستحبا فتأتي الدعوة لطلب فعله مع إدراك حقيقة وهي جواز تركه، ويمكن أن تكون المغايرة بين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف إشارة إلى دلالة الأمر على الوجوب وان الدعوة أعم،اذ ان قيامك بدعوة شخص إلى فعل خير لا يعني الزامه ووجوبه عليه وكأن الخير أعم من المعروف.
وورد لفظ (يدعون) في القرآن ثلاثاً وعشرين مرة، ويتعدى فيها الفعل بحرف الجر (إلى) في ثلاث آيات منها، ووردت آيتان منها في ذم الكفار والمشركين بقوله تعالى [أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إلى النَّارِ]( ) وفي ذم آل فرعون قال تعإلى[وَجَعَلْنَأهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ]( ).
وفي المقارنة بين الآيات الثلاثة مسائل:
الأولى: جاءت آية واحدة في المدح، وآيتان في الذم.
الثانية: إنحصار المدح بالمسلمين الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتبعوا ما انزل الله عليه من الآيات والوحي، وهوشاهد على تفضيلهم.
الثالثة: مجيء الآية بالتبعيض، ويدل على كفاية شطر من المسلمين للغلبة والنصر على الكافرين.
الرابعة: حسن سمت المسلمين والإخبار عن عدم قيامهم بالدعوة إلا إلى ما هو خير محض.
الخامسة: تدل الدعوة إلى الخير على الدعوة إلى السعادة الأبدية قال تعالى [أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنَّةِ]( )فانعم الله عز وجل على المسلمين ليدعوا الناس لما فيه غفران الذنوب والفوزبالسعادة ألأبدية.
وجاء لفظ يدعون على المعنى وليس على لفظ أمة، وفيه بيان للكثرة وإشارة إلى الدعوة الفردية والمتحدة والمتعددة، فتشترك الأمة أو شطر منها بدعوة مخصوصة إلى الخير، ويقوم أفراد منها بدعوات في الخير، وحث على طاعة الله، ويجتهد الأفراد والجماعات في السعي في مرضاة الله وإقأمة الشعائر وأعمال البر والإحسان.
وأستشهد السيوطي بهذه الآية في عطف الخاص على العام بإعتبار ان الدعوة إلى الخير أعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( )، ولكن العطف في الآية يفيد التعدد والمغايرة في الموضوع والذات وقد أسسنا قاعدة في هذا الكتاب وهي لو دار العطف بين كونه عطف معايرة أو عطف الخاص على العام أو العام على الخاص أو أحد المترادفين على الآخر.
أو عطف البيان والتفسير مادة الأصل هو عطف التعدد والمغايرة إلا مع القرينة التي تدل على معنى آخر كما في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( )، فان الصلاة الوسطى من عموم الصلوات، ومن الإعجاز في الآية الذي يدل على التعدد والمغايرة صيغة الدعوة إلى الخير، لبيان أنه اعم ويأتي بصيغة الدعوة واللطف والسؤال والترغيب والحث والندب والخير والقصة ذات الإعتبار وغيره.
قانون الدعوة إلى الخير
جعل الله الإنسان كائناً إجتماعياً يؤثر بغيره ويتأثر به، يأخذ من الناس ويعطيهم، وله القدرة على الدعوة إلى فعل أو ترك، وهذه الدعوة من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة بحسب موضوع وكيفية الدعوة، وقدرة الإنسان على إيصال دعوته إلى الآخرين، وسعة أو ضيق هذه الدعوة، وإتحادها أو تعددها، وصيغتها، وماهيتها ومدى إنصات الناس لها ولصاحبها.
وجاءت هذه الآية لتعيين موضوع الدعوة، وفيه نكتة عقائدية وهي عدم ترك العبد يختار موضوعها وما قد يؤدي إليه هذا الإختيار من الخطأ أو الزلل، أو حصول الإرباك والإختلاف بين المسلمين في وجوه وصيغ الدعوة، فجاء التعيين من عند الله عز وجل وفيه تخفيف وعون للمسلمين، فان قلت لماذا لا يجعل الله المسلمين يدعون إلى الخير تلقائياً من غير أمرإلى الدعوة إلى الخير، والجواب ان الله عز وجل جعل الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، وأراد للمسلمين الفوز بالثواب والجزاء الحسن فهدأهم إلى فعل الصالحات.
والدعوة إلى الخير من مصاديق الخير والعمل الصالح، لذا تفضل وندبهم اليها، وحثهم عليها، خصوصاً وأنهإلا تحتاج إلى مستلزمات وشرائط كالمال والشأن وبسط اليد، بل بإمكان كل مسلم ان يدعو إلى الخير بالكيفية التي يراها مناسبة، كما أنعم الله على الناس وجعل أفراد الخير متعددة وظاهرة في كل الميادين، والدعوة لها في متناول الفرد، وبإمكأنه التمييز بين الخير والشر، وإختيار طرق الرشاد.
ومن الآيات ان الدعوة إلى الخير قانون ثابت في الأرض، وهو ملائم لإدراك العقل للحسن الذاتي للأشياء ونفرة النفس من القبيح وما هو ضار للذات والغير، الأمر الذي يساعد على إيجاد إستجابة للدعوة ويسأهم في إستدامتها وعدم مقابلتها بالإعراض أو التجاهل، لذا ترى الإنكار من الناس لأي تعد وظلم لا يقع على الداعي إلى الخير في موضوع دعوته، للتباين في الموضوع والحكم، فكأن الدعوة إلى الخير حصانة لصاحبها.
وفي إشتراط إستعمال القوة والغلظة في الدعوة إلى الخير أو عدمه وجوه:
الأول: مجيء الدعوة من غير إستعمال للقوة، وهي على وجوه:
الأول: إعتماد صيغ الكلام والحث على فعل الخيرات والندب إلى الصالحات.
الثاني: الدعوة الصامتة، بالقيام بفعل الخير بما يجعل الآخرين يحاكون المسلم في فعله.
الثالث: السعي لإزالة المانع من فعل الخير , بما يجعل الناس يبادرون لإتيأنه.
الثاني: الدعوة الفعلية بإتيان الصالحات، وضرب المثل للناس وإظهار الوجه المشرق لفعل الخير، وتوكيد حسنه وأنه ممدوح عقلاً وعرفاً.
الثالث: إستعمال القوة والغلظة في دعوة الناس إلى الخير، وأخذ الناس بالشدة وحملهم على أداء الفرائض ودفع الزكوات وعمل الصالحات والسعي في دروب الخير والفلاح.
ولا تعارض بين هذه الوجوه إلا أنه لا تصل النوبة إلى إستعمال القوة إلا بعد اليأس من صيغ الدعوة ال أخرى الأخف في المرتبة، وعند الحاجة إلى القوة والغلظة، ولا تستعمل إلا بقدر الضرورة، وما يؤدي الغرض العام ولو كان على نحو القضية الشخصية، كما إذا كان إستعمال التوبيخ مع فرد واحد يكفي لإصلاح ودعوة الآخرين لفعل الخيرات والصالحات.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة بتصديهم للدعوة إلى الخير بإعتباره قانوناً ثابتاً في الأرض، ويحمل المسلمون لواءه إلى يوم القيامة، ويترشح عن قيامهم بفعل الصالحات وحرصهم على إتيان وجوه الخير، وفيه تعاهد لها وبرزخ دون التفريط بشطر منها، وهذه الدعوة متجددة بلحاظ تعدد وتجدد مضامين وصيغ الخير وأعمال البر والصلاح.
ولفظ الخير ممتنع عن التصغير الذي يحصل في لفظ الشيء بلحاظ ما هو أكبر منه، وفيه شاهد على ان مصاديق الخير كلها كبيرة، وفيها الأجر والثواب.
ويترشح عليها الكبر بفضل الله ومضاعفته للأجر والثواب على فعل الخير، وما كان منه قليلاً فان الله عز وجل ينميه إلى يوم القيامة، وهذا القانون باب لنيل الثواب والأجر وفيه مندوحة وسعة وبإمكان كل إنسان ان ينهل منه ويجتهد فيه، وفي الأهلية للدعوة إلى الخير وجوه:
الأول: إنحصار الدعوة بفاعل الخير، فلا يقوم بالدعوة إلى الخير إلا فاعله على نحو التعيين والتخصص، وهذا الوجه من شعبتين:
الأولى: من يفعل نوعاً من أنواع الخير يحق له الدعوة إلى الخير مطلقاًُ.
الثانية: ليس لفاعل الخير إلا الدعوة لما فعله وتلبس به دون غيره من وجوه الخير.
الثاني: القادر على الدعوة إلى الخير، والمؤهل لأداء ذات الفعل عند الإستطاعة، أو تعذر تصدي غيره لفعله.
الثالث: إطلاق الدعوة إلى الخير وصدورها ممن يفعل الخير وغيره من المسلمين.
والصحيح هو الأخير، فان الآية جاءت مطلقة وغير مقيدة، وفيه آية من فضل الله عز وجل على المسلمين، وباب لنيل الثواب، ودعوة لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، ومساهمة في تثبيت دعائم الإيمان ونيل الأجر والثواب، وبرزخ دون وضع حواجز التي تمنع إشاعة المعروف، ونشر الفضائل، وإظهار مصاديق الأخوة الإيمانية التي جاءت بها الآية السابقة.
قانون أضرار ترك الدعوة إلى الخير
تعتبر الدعوة إلى فعل الصالحات من مقدمات بناء المجتمعات السليمة، وإسباب ارتكازها على قواعد ثابتة وقيم أخلاقية سامية فالأمر الإلهي في هذه الآية خير محض، ويتضمن النفع للناس جميعاً في الدنيا، والنفع في النشأتين للمسلمين على نحو الخصوص لما فيه من الثواب والأجر الجزيل خصوصاً مع إقتران الدعوة إلى الخير بقصد القربة، وحب الإمتثال لأمرالله تعإلى.
فتارة يحب الإنسان ان لا يتدخل في شؤون الغير، ولكن عندما يدرك الثواب والأجر في الإستجابة لأمرالله تعالى بالدعوة إلى الخير فأنه يبذل الوسع في الإصلاح وحث الآخرين على إتيان الخير وعمل المعروف ويعلم ان هذا التدخل لمصلحة الجميع، ولو ترك الناس الدعوة إلى الخير لإنتشرت الأخلاق الذميمة وإستحوذ الشيطان على أفعال الإنسان، وساد الظلم والطغيان، وأصبح شطر من الناس يرون البياض سواداً، والحق باطلاً، والسواد بياضاً والباطل حقاً، ولأستمر التمادي في تحريف الحقائق، ومحاولات تغيير سنن الشريعة، فالدعوة إلى الخير حاجة للناس جميعاً، وهي من عمومات دفع الجهالة والغرر، ومنع الضرر، فلا أحد يستطيع تقدير الأضرار الناجمة عن ترك الدعوة إلى الخير.
فان قلت: قد يهتدي الإنسان إلى فعل الخير من غير أن تأتيه دعوة من الغير، وهذا صحيح، ولكنه لا يحصل إلا على نحو الموجبة الجزئية والقضية الشخصية، فيبادر شخص إلى فعل الخير وعمل الصالحات، وهذه المبادرة لا تكون متصلة دائمة.
فجاءت الآية لتجعل شطراً من الأمة يدعون إلى الخير والصلاح وهذه الدعوة زجر عن فعل المعاصي، وسلاح ضد الدعوة إلى فعل السيئات والحث على الموبقات، اذ ان الإنسان يكون بين أمرين أما الإستجابة للدعوة إلى الخير، وأما التردد والإمتناع عن الإستجابة، في وقت يرى ببصره وبصيرته كراهة الإعراض عن الدعوة، وقبح ردها والجفاء عما فيها من النفع لصاحبها ومن يفعل الخير.
ولترك الدعوة أضرار إجتماعية متعددة، اذ ان الإمتناع عنها يجعل الإنسان في عزلة عن المجتمع ويبعده عن الآخرين وذوي الأرحام مما يكون سبباً في نقصان العمر أو عدم الإنتفاع مما في صلة الرحم من زيادة الأجل وطول العمر، ودفع البلاء.
قانون المدعو إلى الخير
جاءت الآية الكريمة بالنص الصريح في قيام شطر من المسلمين بالدعوة إلى الخير، وهذا الشطر يحتمل وجوهاً:
الأول: كفاية دعوة جماعة من المسلمين إلى الخير في مصر من الأمصار.
الثاني: إنحصار مضامين الآية بالصحابة وزمأنهم.
الثالث: المراد دعوة المسلمين لغيرهم للخير، وتحذيرهم من التعدي على المسلمين، بل ودعوتهم للإسلام.
الرابع: دعوة المسلمين بعضهم لبعض لفعل الصالحات.
الخامس: إطلاق وعموم الدعوة وشمولها للمسلمين والناس جميعاً والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول: بقاء حكم الآية مستديماً إلى يوم القيامة، ومخاطبة مضامينها لأفراد كل جيل من المسلمين.
الثاني: تتقوم الدعوة إلى الخير بثلاثة أطراف هي:
الأول: الداعي إلى الخير، ذكرا كان أو أنثى.
الثاني: موضوع الدعوة ومصاديق الخير.
الثالث: المدعو إلى الخير.
وبينت الآية طرفين من الأطراف الثلاثة، ولم تذكر الطرف الثالث وهو المدعو إلى الخير وتلك آية إعجازية متعددة الوجوه.
الأول: إرادة العموم، وعدم حصر جهة الدعوة فيه، فتكون متحدة المصدر ومتعددة الجهة، كما ان إتحاد المصدر إجمالي اذ ينحصر بالمسلمين كدعاة إلى الخير، ولكن أفراده متغيرة،من وجوه:
الأول: يدعى أحدهم إلى الخير مرة واحدة، ثم يقوم بدعوة آلاف من المسلمين ويرشدهم إلى ذات الفعل من الخير.
الثاني: يدعى أحدهم إلى فعل فرد من أفراد الخير في نفس الوقت الذي يقوم بالدعوة إلى مصداق آخر من مصاديق الخير، كما لو كان أحد المسلمين يقوم بإصلاح ذات البين والإنفاق فيه، فيأتي من يدعوه لمساعدة الفقراء المحتاجين،أو أنه يقوم بمساعدة الفقراء من ماله الخاص فيدعوه أحد إخوأنه في الإيمان إلى السعي في حوائجهم عند أهل الإحسان.
الثالث: يكون التعدد في ذات الموضوع كما لو أنه يسعى في إصلاح ذات البين فيأتيه من يطلب منه ان يصل رحمه وينهي خلافه مع صديق له ونحوه.
الثاني: إهمال جهة الدعوة يفيد الإطلاق والشمول، في الذوات والموضوعات، وهو شاهد على المندوحة والسعة.
الثالث: أنه مناسبة للإجتهاد في الدعوة إلى الخير، والمبادرة في ميادينه، والإتساع في الدعوة، وعدم حصرها على الأقارب وأهل المحلة والأصدقاء مثلاً.
وتحتمل كيفية ومناسبة الدعوة وجوهاً:
الأول: إنتظار مجيء من يسأل الدعوة والتوجيه والهداية إلى الصالحات، ومن غير مجيئه فلا موضوع للدعوة.
الثاني: حال حدوث واقعة أو سبب للدعوة والأمر بالمعروف.
الثالث: عند ظهور الخلاف،وتفاقم الأمور، وحدوث الإبتلاء، والحاجة إلى الإصلاح.
الرابع: أوان الرخاء والسعة، والإستقرار والسكينة بحيث يستطيع الناس الإنصات للدعوة إلى الصلاح.
الخامس: عند حصول الشحة على الخير، وإمتناع أغلب الناس عن المبادرة إلى المعروف.
السادس: زمان الفتنة والخشية من الفرقة والتشتت، لتكون هذه الآية متممة لمضامين الآية السابقة وقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا].
السابع: اطلاق الدعوة، وعدم حصرها بحال دون أخرى .
والصحيح هو الأخير، لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق ، وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني: تعدد وجوه الخير والمعروف.
الثالث: صيغة الآية وما فيها من عموم الدعوة.
الرابع: الدعوة إلى الخير باب للثواب ووسيلة لإكتناز الصالحات.
الخامس: ضرورة ملازمة الدعوة إلى الخير حالات الإنسان المختلفة، والأزمنة المتعاقبة.
وهذه الدعوة متوجهة إلى الناس جميعاً، فلا يخرج احد منها بالتخصص أو التخصيص، وكل شخص محل لتلقي الدعوة إلى الخير وان كان هو نفسه داعية إلى الخير، وتلك آية إعجازية أخرى بان يكون المأمور بالدعوة إلى الخير هو نفسه مدعواً له، ولهذا التعدد والتداخل منافع عظيمة منها:
الأول: إدراك المسلمين لمصاديق الخير.
الثاني: الحث المتبادل على الدعوة إلى الخير.
الثالث: هذا التبادل والتداخل مناسبة للإكثار من الصالحات، وحمل الزاد إلى الآخرة.
الرابع: تثبيت دعائم الدين، وتعظيم شعائر الله، وإشاعة مفاهيم الخير والمعروف والصلاح.
الخامس: بلوغ الآيات إلى جميع الناس، وإقأمة الحجة والبرهان وتذكير الجميع بوجوب أداء العبادات، والتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية.
قانون عموم الدعوة
جاء الأمر الإلهي في الآية نصاً صريحاً في الدعوة إلى الخير وبذا خففت الآية عن المسلمين، ومنعت من الإجمال والترديد والإختلاف في التأويل، ويحتمل العموم في الدعوة وجوهاً:
الأول: العموم في الدعوة إلى الخير، وأنها مسؤولية المسلمين جميعا.
الثاني: الشمول في تلقي الدعوة إلى الخير.
الثالث: العموم في الدعوة والتلقي.
الرابع: الاستغراق والعموم في الدعوة والتلقي ومواضيع الخير.
والصحيح هو الرابع لجهات:
الأولى: أصالة الإطلاق وشمول المسلمين بالتكليف.
الثانية: الدعوة إلى الخير مقدمة لأداء العبادات، وتثبيت دعائم الدين في النفوس والمجتمعات، وجاء الإسلام لإقأمة دعوة الحق والهدى، فالدعوة إلى الخير عون ومقدمة لإقامتها.
الثالثة: إتصاف مصاديق الخير كلها بالحسن الذاتي، وكل فرد من أفراد الخير يترشح عنه النفع على الداعية، والذي ينصت اليه، فعموم الدعوة فرصة ومناسبة كريمة للناس لنيل الثواب.
ويتعلق هذا القانون بالوجه الأول أعلاه أي ان الدعوة إلى الخير مسؤولية كل المسلمين، فلا يستثنى منهم ذكر أو أنثى على نحو السالبة الكلية، نعم تدور الدعوة مدار التكليف وبلوغ سن الرشد، وعدم وجود المانع والعذر، وهذا العموم تشريف للمسلمين وإكرام لهم، وهو من مصاديق عمومات الخطاب القرآني، فالأصل هو ان كل مسلم ومسلمة مأموران بالدعوة إلى الخير، ولا يحق لهما التخلف عن الدعوة إلا مع العذر وكفاية من يقوم بها من المسلمين والمسلمات.
وقد تتطلب الدعوة إلى الخير المؤازرة والتعضيد من الغير، فهل يشملهما الأمر الإلهي المتوجه في الآية ويجب الإمتثال بصيغة المؤازرة للداعي؟ الجواب نعم، كما اذا كانت الدعوة تتطلب المال وعند الغير حق شرعي من الزكاة أو الخمس، تقتضي المصلحة إنفاقه في الدعوة إلى الخير، وتعتبر هذه المؤازرة من مصاديق وأفراد الدعوة إلى الخير، وطرد المفسدة
فمن منافع عموم الدعوة إلى الخير إستغراق مصاديق الخير، ومجيء التخصيص بلفظ “أمة” وليس جماعة أو أفراداً وجوه:
الأول: شمول المسلمين جميعاَ بأحكام الآية .
الثاني: العمل بمضامين الآية مصداق لما جاء في الآية السابقة من الإعتصام بحبل الله ومن أهم مصاديق الخير التمسك بالقرآن والسنة، والدعوة للتمسك بهما.
الثالث: الآية حرز وواقية دون الفرقة والتشتت الذي جاءت الآية السابقة بالنهي عنه في قوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] ومن الخير الإتحاد والتعاون ونبذ الفرقة والإختلاف، كما ان الإعتصام بالله وعدم التفرق مقدمة للدعوة إلى الخير، وإشتراك المسلمين كافة فيها، ومؤازرة بعضهم لبعض في الدعوة.
وهل يصدق على السكوت عن الدعوة إلى الخير بأنه مؤازرة، الجواب لا، فالمؤازرة هي التي تتجلى بالقول والعمل، إلا مع القرينة أو إفادة السكوت التأييد والإمضاء للدعوة، ونبذ ضدها.
ويدخل التوجه إلى الله بالدعاء والمسألة للدعاة في مصاديق المؤازرة والتعضيد، وكذا الحث على الدعوة، وتهيئة أسباب ها وإيجاد الآذان الصاغية لها، وإزاحة الحواجز والموانع من حصول الدعوة أو وصولها إلى الغاية والقصد.
ولا تمنع لغة التبعيض في الآية من تحمل المسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي لمسؤولية الدعوة بل هي صيغة للعموم والشمول، بالتخفيف والتعاون، وبقاء الدعوة حية غضة متصلة مستمرة، اذ ان الأمر الإلهي متصل، والخطاب إلى المسلمين بالدعوة إلى الخير دائم فان غاب فريق الدعوة إلى الخير قام غيره بهذه الوظيفة العقائدية، وفيه سر من أسرار ديمومة العمل بأحكام الآية القرآنية.
قانون إطلاق جهة الدعوة
جاءت الآية بأمرالمسلمين بتصدي فريق منهم للإرشاد إلى الخير، ولم تذكر الجهة التي تدعى إلى الخير، وعدم الذكر هذا يحتمل وجوهاً:
الأول: ترك الأمر للمسلمين بتعيين الجهة المدعوة.
الثاني: العمل بمضامين الآية وفق الميسور والممكن وعدم بذل الجهد الإضافي فيه.
الثالث: كفاية مسمى الدعوة إلى الخير.
الرابع: الإطلاق وشمول الناس جميعاً بالدعوة.
والصحيح هو الأخير،لأصالة الإطلاق ومفاهيم صيغة وعدم التعيين، وتتضمن الآية جهات:
الأولى: جهة الخطاب وهي إرادة المسلمين جميعاً.
الثانية: موضوع الآية وهو مركب من أمرين:
الأول: الدعوة.
الثاني: الخير والصلاح.
الثالثة: الجهة التي تتوجه لها الدعوة.
ويتعلق هذا القانون بالجهة الأخيرة وتحتمل في سعتها وضيقها وجوهاً:
الأول: إنحصارها بالمسلمين فمن يتخلف عن فعل الخير، أو يغفل عنه اولم يلتفت إليه تدركه هذه الآية والعاملون بها.
الثاني: دعوة أهل الخير والصلاح للقيام بوظائفهم، ولا تعتبر الدعوة حينئذ من تحصيل ما هو حاصل، بل هي تذكير وحث ودعوة.
الثالث: شمولها للشطر الثاني من المسلمين، وتقدير الآية : ولتكن منكم أمة تدعو إلى الخير الأمم ال أخرى منكم.
الرابع: دعوة الناس جميعاً إلى فعل الخير.
والصحيح هو الأخير، فالطرف المدعو يشمل الناس جميعاً، لتتغشأهم الدعوة إلى الصلاح والهداية، وتدل عليه أمور:
الأول: لغة الإنكار وصيغة الإطلاق في الدعوة وعدم تقييدها، والتقدير: أمة تدعو الناس جميعاً إلى الخير.
الثاني: عمومات الإصلاح، وعدم إستثناء أحد منها.
الثالث: تغشي رحمة الله للناس جميعاً وشمولهم برأفته وفضله، والدعوة إلى الخير فضل من عند الله.
الرابع: عموم مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]، والدعوة إلى الخير رحمة وإحسان وإعانة على الرحمة، فبالدعوة يصبح المدعو داعية إلى الحق.
الخامس: الدعوة إلى الخير خير محض، ومن عمومات عنوان حب الله للعباد، ورحمته بهم وإعانتهم، والأخذ بأيديهم في مسالك الرشاد.
السادس: في العموم حجة على الناس [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] فلا يستطيع أحد الإعتذار والقول بعدم بلوغ دعوة الخير له.
السابع: عموم الدعوة واقية من أهل الشك والريب، وإسباب العداوة والخصومة، وإظهار لحقيقة الإيمان وصلاح وهدى ورشاد، وليس في الإسلام أذى للذات أو الغير.
الثامن: بيان حاجة الناس إلى الدعوة إلى الخير، ومنهم المسلمون، لأن تلقي الدعوة إلى الخير مرتبة في الكمال.
التاسع: عموم الدعوة باب للثواب، والإكثار منه زيادة في الحسنات والأجر.
العاشر: الدعوة إلى الخير لطف وتقريب إلى عمل الصالحات من غير إلجاء وإكراه.
فهذه الآية من اللطف الإلهي، ومن خصائص اللطف هنا أنه عام وشامل ويترشح على الدعوة إلى الخير موضوعا وكيفية وكما، وكذا بالنسبة لتلقيها وقبولها والإستجابة لها، وليس من أحد يستثنى من هذه الدعوة.
وقد توجه الأنبياء إلى الطواغيت فدعوهم إلى الله والتوبة والإنابة، فتوجه ابراهيم عليه السلام إلى نمرود، وقصد موسى عليه السلام فرعون، وتوجــه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملأ من قريش وخاطب كسرى وملك الروم ودعا الناس جميعاً إلى الإسلام، وتتضمن هذه الآية في دلالتها قاعدة وبياناً واستمراراً لتلك الدعوة المباركة.
وكانت هذه الدعوة حجة على الملأ ووسيلة لنشر معالم التوحيد، وسبيلا لجعل موضوعية لفعل الخير في حياة الناس، وبرزخا دون إنقطاعهم إلى الدنيا وحب الذات وإختيارالبخل والشح على الخير، وتذكرالدعوة إلى الخير الأغنياء بحال الفقراء والمساكين والحاجة إلى الإصلاح وإعانة الآخرين.

قانون الدعوة جهاد
جاءت آيات القرآن بالحث على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال، والجهاد وسيلة مباركة لنشر مبادئ الإسلام، بالإضافة إلى إتخاذ الحكمة والموعظة والبرهان وسائل لنشرها وتثبيت دعائم الدين وإشاعة روح العبودية لله بين الناس.
والدعوة إلى الخير هداية وإرشاد وجذب إلى الإسلام، ونزع لروح البغضاء والكراهية، وبين الدعوة والجهاد عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الجهاد بالأنفس والأموال.
الثاني: تعظيم شعائر الله.
الثالث: إتحاد الغاية بإصلاح النفوس والمجتمعات.
أما مادة الإفتراق فهي:
الأول: الجهاد بالسلاح خاص في مكأنه وزمأنه، أما الدعوة إلى الخير فهي مستمرة وتستغرق الأوقات والازمنة المختلفة، وتبلغ البيوت والمنتديات.
الثاني: الدعوة إلى الخير أعم من السبب وتتضمن التبليغ والظهور بحسن الخلق، والإمتثال الذاتي للأوامر الإلهية والإتيان بفعل الخير ليكون المؤمن أسوة لغيره في المسابقة في الصالحات.
وتتضمن هذه الآية التخفيف عن المسلمين والناس جميعاً، وتؤسس قاعدة كلية وهي عدم إنحصار الجهاد بالسيف وحده، بل هناك وجوه أخرى للجهاد وتؤدي من النفع ما قد يفوق الذي يأتي من السيف في ميادين القتال.
وتلك القاعدة من إعجاز القرآن في فلسفة نشر مبادئ الإسلام، اذ لا يمكن للعقل الإنساني ان يدرك هذه الحقيقة وان أدركها فان إدراك ها مؤقتا ويصيب الفرد والجماعة الجزع وعدم الصبر، خصوصاً مع الشعور بالقوة وإمكان التوسعة والغلبة على العدو، وجعل الناس منقادين لهم وخاضعين لحكمهم.
ولو جاء أحد المصلحين بفكرة أو فعل فأنه يضمحل ولا يبقى له مع تقادم الأيام أثر في الواقع، ولكن القرآن جاء بالدعوة إلى الخير وجعلها مدرسة ثابتة وسنة راسخة ومنهجاً متجدداً في أعمال الملايين من المسلمين، وجزء من أنظمة الحكم وأحكام الشريعة الإسلامية، فجاءت الدعوة إلى الخير من وجوه:
الأول: الإستغناء عن الحاجة الدائمة للسيف والقتال، وتحقيق ذات الغاية بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف.
الثاني: تتميم ما يؤدي إليه السيف، فبعد القتال تأتي الدعوة إلى الخير.
الثالث: تكون الدعوة مقدمة لإستعمال السيف ودخول المعركة.
الرابع: الدعوة إلى الخير برزخ دون القتال والحرب، فقد ينتفع الناس من الدعوة إلى الخير ويهتدون إلى الرشد ويدخلون الإسلام بالدعوة القولية وحدها خصوصاً مع تجلي آيات القرآن، وظهور خزائنه ومعرفة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالدعوة إلى الإسلام تختلف عن غيرها، اذ أنهاتمتلك مقومات الإقناع والترغيب وصيغ البرهان لأنهاحق وخير محض.
وتعتبر هذه الآية درساً للمسلمين عأمة وأولي الأمر خاصة بان بلوغ الغايات السامية، وإصلاح المجتمعات لا ينحصر بالقوة والغلظة والسيف بل يأتي بالبيان والنصح والإرشاد لذا جاء قوله تعالى [ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
ويمكن القول بان الآية محل البحث مصداق وتفسير للآية أعلاه، وتأتي الدعوة إلى الله مباشرة وصريحة وقد تكون بالواسطة والتلبس في فعل الخير، لما فيه من بعث لحب الإسلام في النفوس وترغيب بالإلتحاق بالمسلمين وحضور صلواتهم ومناسكهم ومحاكاتهم في عمل الصالحات ونشر الفضائل وإجتناب الرذائل.
وجاء التبعيض في الدعوة إلى الخير في الآية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] ليتجلى في الجهاد وتصدي فرقة من المؤمنين للنفير والخروج لمقاتلة الأعداء وكذا التفقه في الدين، ولكن هذا لا يعني المطابقة والتشابه في كيفية الدعوة إلى الله لما في الجهاد بالسيف من المقاتلة والمسايفة والمبارزة، والإحساس بحرارة السيف، وحاجة الفقيه والعالم إلى التحصيل واكتساب المعارف الإلهية، ولكنه التخفيف الذي ينعم به الله على المسلمين.
فتأتي الدعوة إلى الخير باباً للثواب وكسباً لأجر الجهاد بالسيف من غير مقاتلة وشقاء، وفيه ترغيب بالدعوة إلى الخير، وحث على المعروف، وفي الحج ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “هو أحد الجهادين، وهو جهاد الضعفاء”.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين ان تكون الدعوة إلى الخير جهاداً في سبيله سواء ما يأتي منها بالقول أو الفعل أو عمل الجوارح أو الإنفاق من المال.
بحث أصولي في الدعوة
تأتي مادة الأمر بصيغة فعل الأمر (افعل) أو الماضي أو المضارع، وهي موضوعة بالوضع الشخصي، وهيئة الأمر هي الموضوعة للنسبة والإضافة والصلة لتكون ملاكاً للبيان والدلالة، فالمادة تمثل النسبة الباعثية، ويكون المأمور مبعوثاً لفعل الشيء، والهيئة موضوع النسبة لهذه المبعوثية، وبحسب مفهوم الطلب.
واختلف الأصوليون في المراد من الأمر هل هو الوجوب أو الإستحباب أو المعنى الأعم للوجوب والإستحباب وقد بيناه في أجزاء سابقة، والأقوى إرادة الوجوب بالأمر إلا ان تدل قرينة على الإستحباب وهي معدومة في المقام.
ويأتي الأمر بصيغة الإنشاء، وقد يرد بصيغة الجملة الخبرية التي تستقرأ من معناها إرادة الأمر والبعث إلى الفعل على نحو الوجوب وعدم الإذن في الترك، ومن الإعجاز في هذه الآية تضمن الأمر فيها وجوهاً:
الأول: توجه الخطاب إلى جميع المسلمين مع ان الذي يقوم بالفعل شطر منهم، فبين جهة الخطاب والممتثل المأمور عموم وخصوص مطلق، فكل ممتثل هو مخاطب وليس العكس، وان كان الأصل تعلق الإمتثال بكل المسلمين لإرادة الواجب الكفائي.
الثاني: إختصاص هذه الآية بلفظ [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] مما يدل على لزوم الإنبعاث في سبل الخير والدعوة اليه، وعدم جواز التخلف أو الترك.
الثالث: مجيء الآية بصيغة المضارع (يدعون) التي تفيد الإستدأمة والإستمرار، لتبقى الدعوة إلى الخير حكماً شرعياً ملزماً للأمة عبر أجيالها المتعاقبة إلى يوم القيامة، والخير عنوان جامع يشمل موارد الوجوب والإستحباب والمباح، فقد يدعو المسلم إلى الواجب كإقأمة الصلاة، وقد تدعو أمة منهم إلى فعل المستحب كالحج المندوب لمن أدى الفريضة، وقد يدعى إلى المباح الذي يتساوى طرفاه خصوصاً في حالات:
الأولى: عند الحاجة إلى فعل المباح.
الثانية: حال الميل إلى المكروه في ذات الموضوع، فتأتي الدعوة إلى المباح باعتبارها بعثاً إلى الأحسن.
الثالثة: عندما يكون المباح مقدمة لفعل الواجب أو المستحب.
قانون الدعوة بالتسبيب
ينقسم الفعل بلحاظ الأثر إلى سبب، ومباشر، فمن الأشخاص ما يكون فعله سبباً لحصول الشيء، ومنهم ما يكون مباشراً للفعل ويقوم بالإتيان به بنفسه، ويتجلى في فعل الخيرات وفي الوقائع كما يعتبر في الفقه الجنائي،وتولي المباشر المسؤولية بالأصل إلا مع القرينة الصارفة إلى تحمل السبب مسؤلية الفعل،ولكن الأمر مختلف في فعل الخير فإن السبب يناله الثواب والأجر من غير أن ينقص من ثواب المباشر شيئاً، والله واسع كريم.
وجاءت الآية صريحة بلزوم التلبس بفعل الخير، أما التسبيب إلى الخير وجعل الغير يقوم بفعله وإتيان الصالحات فيحتمل وجوهاً:
الأول: عدم إعتبار التسبيب إلى الخير من الدعوة اليه.
الثاني: أنه دعوة إلى الخير.
الثالث: يعتبر التسبيب مقدمة للدعوة إلى الخير، وجاءت الآية بالأمر بالدعوة إلى الخير.
الرابع: التفصيل مرة يكون من الدعوة إلى الخير، و أخرى ليس منها.
وبإستثناء الوجه الأول فلا تعارض بين الوجوه ال أخرى ، فان التسبيب في الدعوة إلى الخير يلحق بها سواء بالذات أو بالعرض ويكون مقدمة لها، من غير إختلاف أو تباين بين كل من:
الأول: التسبيب في الدعوة إلى الخير خير محض
الثاني: أنه مقدمة لإتيان الخير،
الثالث: فيه دعوة للدعوة إلى الخير.
وقريب منه في علم الأصول باب الأمر بالأمر بالشيء، كما في توجيه الأمر للوالد بان يأمرابنه بالصلاة.
ولأن الآية جاءت بصيغة العموم وإرادة صيغة فعل الخير ولزوم صدورها من المسلمين، فيدخل فيه التعاون، في التسبيب والمباشرة والحث على مواطن الخير والصلاح، من وجوه:
الأول: مضامين هذا القانون عون على الإمتثال للأمرالإلهي الوارد في الآية .
الثاني: تضمنت الآية أمراً مركباً ومتعدداً من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يعني تهيئة مستلزمات ومقدمات فعل الخير.
الثالث: الدعوة إلى الخير مقدمة لفعل يصدر من الغير وهي خير محض، وفعل مستقل قائم بذاته، ويستلزم مقدمات وإسباب تهيئة الفعل، لذا تكون له مقدمات متعددة.
الرابع: تعدد فعل الخير باب لزيادة الأجر والثواب، وكثرة طرقه ومقدماته.
الخامس: التسبيب للدعوة إلى الخير من قواعد اللطف الإلهي، وفيه تقريب للعبد إلى فعل الطاعات وتنحيته عن المعصية من غير أن يصل إلى حد الإلجاء.
السادس: تتضمن الدعوة إلى الخير مندوحة وسعة وهي باب لدخول الكثيرين تحت لواء هذه الآية ويكونون من العاملين بمضامينها، فيدفع الأب ابنه لفعل الخير، وتظهر الأم سعادتها من قيام ابنها بفعل الخير، وتهيء ابنتها لعمل الصالحات، ويعضد الأخ أخاه، والصديق صديقه، ولا ينحصر التسبيب بوجه مخصوص بل هو متعدد، ويشمل:
الأول: صلة الرحم والقربى.
الثاني: وجود سبب للتسبيب في الدعوة إلى الخير، كما لو كان هناك عدد من المحتاجين وقد تعلقت الزكاة في أموال احد المسلمين، فيأتي شخص لتنبيهه ووعظه، والإشارة عليه بحاجة شخص معين.
الثالث: سعي المؤمنين إلى فعل الخير، بالذات أو الواسطة، فترأهم يحثون الآخرين على العمل الصالح.
الرابع: مبادرة الصالحين لموارد الخير، وفيها دعوة للناس للإقتداء بهم، وتلك من أفضل مصاديق الدعوة إلى الخير، ففعل الخير دعوة للغير لفعله وسبب وتحريض للآخرين لإتيأنه.
قانون التعدد في فعل الخير المتحد
لقد جاءت الآية صريحة بتعيين الجهة والموضوع الذي يدعى اليه، والشيء ما لم يتعين طرف وجوده تكون نسبته إلى الوجود والعدم متساوية، ولكن القرآن بيان محض، وخال من اللبس والترديد، لذا جاء بذكر شمول المسلمين جميعاً بالخطاب، وعدم إستثناء فرد منهم، وترشح مضامين سور الموجبة الكلية (جميعاً ) الوارد في الآية السابقة، فيكون تقدير الخطاب في الآية “ولتكن منكم جميعاً أمة”، وهذا التقدير وعنوان الشمول أمارة على التعدد والإشتراك في فعل الخير، ومن وجوه فعل الخير ان يأتي متحداً وعلى نحو القضية الشخصية، ولكن الذين يدعون إليه ويشتركون فيه كثيرون، وهو آية إعجازية من منافعها:
الأول: تهيئة مقدمات فعل الخير.
الثاني: تفقه عأمة المسلمين في أحكام الحلال والحرام.
الثالث: كثرة الدعاة إلى فعل الخير المتحد والمتعدد، فحينما يرى الإنسان توجه الدعوة له لفعل الخير من جهات متعددة فأنه يحرص على الإمتثال والمبادرة إلى فعله وتنجزه، وفيه عز له لأنه يعرف منزلته وحاجة الناس اليه، وما يجري على يديه من ا لخير بنعمة الله، اذ ان النعمة هنا مركبة من وجوه:
الأول: القدرة على فعل الخير
الثاني:بذل المال والإنفاق في سبيل الله.
الثالث: السعة والغنى، لأن الإنفاق لا يأتي إلا عن مندوحة وسعة، فان قلت من الناس من يقوم بالإنفاق وليس عنده زائد على المؤونة، قلت: هذا فرد نادر يحرص على الإمتثال لأمرالله، وهل يدل فعله على التبذير والإسراف، الجواب لا، فهو من مصاديق الآية الكريمة ومن فعل الخير، نعم قد يقوم مؤمن بترك أو تأخير الحاجة الذاتية، حينما يقدم ويرجح حاجة الغير، وهو من الإيثار وليس ترك الأولى، ومن مصاديق نعمة الأخوة بين المسلمين، ولزوم مساعدة الأخوان،ليبقى هو منتظراً لفضل الله، ونزول البركة، ومنشغلاً بالدعاء والمسألة.
ولا ينحصر الخير الوارد في الآية بالإنفاق والبذل بل يشمل وجوه الصلاح والإصلاح ونشر مبادئ الإسلام، فالدعوة باللسان إنفاق وهو كنز مصاحب للإنسان لإمكان كثرة الكلام بالخير، ويزداد مع الإنفاق كأنه خزينة تزيد مع كثرة العطاء والأخذ منها.
ومن نعمة الله عز وجل على الإنسان ان جعل عنده اللسان كنزاً مدخراً، فجاءت الآية مطلقة بالدعوة إلى الخير، و توظيف نعمة اللسان في سبل الخير والمعروف، وتلك آية إعجازية أخرى في فضل الله على الناس لتكون الدنيا دار عمل وسعي لساني في الصالحات.
وينقسم فعل الخير إلى أقسام:
الأول: المتعدد الذي يأتي به شخص واحد.
الثاني: المتحد الذي يأتي به شخص واحد ايضاً.
الثالث: المتحد الذي تأتي به الجماعة.
الرابع: المتعدد الذي يأتي به أفراد متعددون.
وكذا بالنسبة للدعوة إلى الخير فهي على أقسام:
الأول: الدعوة المتحدة الصادرة من شخص واحد إلى شخص آخر.
الثاني: الدعوة المتحدة المتوجهة إلى أفراد متعددين.
الثالث: الدعوة المتعددة المتوجهة إلى شخص واحد.
الرابع: الدعوة المتعددة المتوجهة إلى أشخاص متعددين، فقد يقوم شخص بدعوة أناس متعددين لفعل الخير، وهذه الدعوة أما أن تكون متحدة كما لو كان في محفل أو منتدى، أو متفرقة كما لو كان يتصل بكل فرد منهم على حدة، ولو إشترك أفراد متعددون في دعوة شخص إلى فعل الخير، فان الحال على قسمين:
الأول: كفاية دعوة شخص واحد إلى الخير.
الثاني: الحاجة إلى تعدد الدعوة، وتعاون الداعين إلى الخير لحث شخص على فعل الخير، وتحقق الإمتثال والثواب لكل من الدعاة يحتمل وجهين:
الأول: إنحصار الثواب في القسم الأول بشخص واحد من الدعاة لأنه واجب كفائي.
الثاني: شمول الثواب لكل الدعاة في القسم الأول والثاني.
والصحيح هو الثاني، فان صفة الكفائية والإتحاد لا تمنع من تعدد الثواب من وجوه:
الأول: صدق إمتثال المتعدد من المسلمين وقيامهم بالدعوة إلى الخير.
الثاني: سعة خزائن الأجر والثواب.
الثالث: جاءت الآية لينهل المسلمون من الصالحات ويدخروا الحسنات.
الرابع: للتعدد في الدعوة إلى الخير منافع إضافية أخرى غير ذات الدعوة ويتعدى أثرها الشخص المدعو الأمر الذي تترشح عنه أفراد متجددة من الأجر والثواب.
ان التعدد في الدعوة إلى الخير نعمة إضافية مستقرأة ومن عمومات الآية الكريمة التي جاءت على نحو الإطلاق ، وتقدير الآية على وجوه:
الأول: ولتكن منكم أمة تدعو شخصاً إلى الخير.
الثاني: ولتكن منكم أمة تدعو جماعة إلى فرد من أفراد الخير.
الثالث: ولتكن منكم أمة تدعو إلى مصاديق متعددة من الخير.
الرابع: ولتكن منكم أمة ولو شخص واحد يدعو إلى الخير، لصدق عنوان الأمة على الشخص الرائد في الخيرات والمبادر إلى الصالحات.
وتعتبر مضامين هذا القانون باباً من أبواب سعة رحمة الله، فتحه الله للمسلمين لينهلوا من فضله، ولجذبهم والناس جميعاً لفعل الخير وعمل المعروف وإجتناب السيئات والذنوب.
وتصبغ الدعوة إلى الخير المجتمعات بصبغة الإيمان، وتجعل القلوب تنجذب إلى الإسلام وسبل الهداية، وتتغشى الأرض مفاهيم الخير، ومعاني الود والألفة.
قانون الدعوة حاجة
لقد جعل الله عز وجل الناس في حاجة مستديمة له، وهذه الحاجة جزء من أصل خلق الإنسان وتكوينه، ومن رحمته تعالى أنه لم يخل بين الناس والحاجة، ولم يجعل ما يحتاجون إليه متعذراً، بل انعم عليهم بالهداية التكوينية وهي الهداية العأمة للخلق، ورؤيتهم لأمورهم وقدرتهم على التمييز بين الأشياء وسنخيتها، وهذه الآية من مصاديق الهداية التكوينية لأن فيها الأمن والسلأمة في الدين والدنيا، وصلاح الذات والغير لتعدد المنافع والمصالح من الدعوة إلى الخير، وتعددها على وجوه:
الأول: كثرة عدد الأشخاص الذين يقومون بالدعوة.
الثاني: كثرة الذين ينتفعون بالعرض بالدعوة إلى الخير، وهم على أقسام:
الأول: الدعوة إلى الخير من وجوه الأحتراز من الشح وفعل السيئات.
الثاني: التصدي لفعل الخيرات، وحرص الدعاة على إقتران القول والدعوة بالفعل لما يدعون اليه.
الثالث: الإكرام والمودة من الناس، لأن الدعوة إلى الخير من مصاديق الإيمان وعمومات تحبيبه إلى النفوس.
الثالث: الذي يتلقى الدعوة إلى الخير، من وجوه:
الأول: الإستماع إلى النصح والإرشاد.
الثاني: إقأمة الحجة عليه.
الثالث: الإستجابة وفعل الخير ونيل الثواب.
الرابع: المساهمة في تعظيم شعائر الله، ونشر مضامين المودة والإحسان بين الناس.
الرابع: عموم النفع من الدعوة إلى الخير، فتجد إنسانا لم يدع إلى فعل المعروف،ولكنه يسمع بتوجه الدعوة إلى غيره، فيبادر إلى فعل الخير والصلاح، وهو من أسرار ترك الآية لتعيين المدعو إلى الخير، وذكره على نحو القضية المهملة، وعدم تقييده بفرقة أو ملة.
الخامس: الدعوة إلى الخير مقدمة لفعل العبادات، وتثبيت لدعائم الدين والإستعداد لعالم البرزخ والنشور، وهل يمكن أن يستديم فعل الصالحات من غير الدعوة إلى الخير، الجواب نعم، ولكن التباين في الكم والكيفية، اذ ان المسلمين مواظبون على فعل الخير والصلاح، وهذا لا يتعارض مع إعتبار الدعوة إلى الخير حاجة للناس، وتعاهدا للصالحات والمعروف، وحثا للمسلمين على الإقأمة على الخير والإحسان.
والدعوة إلى الخير مدرسة تطل على الناس جميعاً كل يوم، وتكون أفرادها حاضرة بينهم على مختلف مشاربهم لتبعث في النفوس الشوق إلى الصلاح والسعي في مصاديقه، ويدرك معها الإنسان موضوعيته في بناء المجتمع، وتعاهد القيم الإنسانية، وهذا الإدراك شامل للداعي والمدعو، ويشعر كل فرد ان عليه وظائف أزاء نفسه وأزاء الآخرين تتقوم بالحث على فعل الصالحات.
والدعوة إلى الخير مظهر من مظاهر الجمال، وفرد من معاني الكمال، وكما ان ا لدعوة إلى الخير حاجة للناس فأنهاتدل على حاجة الخلق المستمرة إلى وجود واجب الوجود الغني الهادي، وهي نفع وحاجة ورحمة.
ومن الآيات ان تأتي تلبية حاجات الإنسان في القرآن من عند الله ويأمرالمسلمين بإعانة الناس على قضاء حوائجهم الدنيوية والأخروية، وفيه شاهد على اهلية المسلمين لخلافة الأرض، وتعاهد الإمأمة بين الناس وإرشادهم إلى سبل الرشاد والفلاح.
وفي الدعوة إلى الخير دعوة إلى الناس للرجوع إلى المسلمين والصدور عنهم، وفق أحكام القرآن والسنة، والأخذ من الشريعة الإسلامية، وان اعراض شطر من الناس عن الإسلام والمسلمين تفويت لفرصة من الصلاح على أنفسهم وأهليهم، ومن مصاديق بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رحمة للعالمين،ان إعراض الإنسان عن الدعوة الإسلامية لا يمنع من التوجه إليه بقاعدة الميسور ودعوته إلى أعمال البر والإحسان إلى الناس.
قانون الدعوة واقية
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالقرآن كتاباً جامعاً للأحكام، وهادياً إلى سواء السبيل، ومن الآيات أنه جعل المسلمين واسطة لهداية الناس أجمعين، فاكتسبوا المعارف وإرتقوا في منازل الصلاح، وتحلوا بالفضائل والأخلاق الحميدة ثم توجهوا إلى غيرهم يدعونهم إلى ميادين الهدى، ويحثونهم على مبارزة الشر، وإزاحته عن منازله لتوكيد حقيقة وهي ان الإسلام جاء لتثبيت الإيمان ومبادئ الصلاح في الأرض إلى يوم القيامة، فبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هداية للمسلمين، وصلاح لأهل الأرض جميعاً، أي ان المسلمين يفوزون بالهداية والصلاح، وغيرهم تأتيهم رشحات البعثة بالدعوة إلى الخير ويكون أثرها عندهم على وجوه:
الأول: الإستجابة على نحو الموجبة الكلية، وهذه الإستجابة تعني دخول الإسلام بإعتباره أصدق معاني البر.
الثاني: الإستجابة على نحو الموجبة الجزئية، وهي من الكلي المشكك لأنهاعلى مراتب متفاوتة.
الثالث: عدم الإستجابة، والإعراض عن دعوة الخير، وهل تكون الدعوة حينئذ عديمة النفع، الجواب لا، لأن القدر المتيقن منها إمتثال المسلمين للأمرالإلهي الوارد في هذه الآية وقيامهم بالدعوة ونشر مبادئ الإسلام، وفيه الأجر والثواب كما ان عدم الإستجابة يحتمل أمرين:
الأول: السالبة الجزئية، والإعراض مع الإلتفات.
الثاني: السالبة الكلية، والإصرار على الذنب وركوب المعصية.
والثاني فرد قليل ولا يكون حإلا مستقرة، فقد يتلقى شخص الدعوة بالإعراض والرفض في بادئ الأمر ، ولكنه يتدبر الأمر مع نفسه فيما بعد أو تأتيه الدعوة من جهة أخرى مع الحجة والبرهان، فالدعوة إلى البر تبقى في الوجود الذهني لا تغادره، ويتجدد ظهورها وإستحضارها في مناسبات مختلفة لتكون واقية من الإنغماس في السيئات.
ومضامين هذا القانون من مفاهيم الدعوة إلى الخير، والمنافع العأمة التي تترشح عنها، فهي حرز مستديم من الإقامة على الشح، ومانع من شيوع الأخلاق المذمومة لأنهاتعني في دلالاتها كراهة أفعال السوء، ولزوم الحرص على إجتناب وجوه الشر.
والدعوة إلى الخير دعوة لتطهير القلب عما يشغله، وحث على التخلي عن الرذائل، وما دام المسلمون يدعون إلى الخير فهم في خير، لأن الدعوة ذاتها خير محض، وتنبعث من نفوس تتصف بالصلاح، وهي حرز من ترك منازل الخير والصلاح، فالدعوة إلى الخير تذكير به، وهذا التذكير يشمل أطرافاً:
الأول: الداعي إلى الخير نفسه.
الثاني: السامع بالعرض وان لم يكن هو المقصود بالدعوة.
الثالث: المدعو إلى الخير.
الرابع: الذي تترشح عليه المنفعة من الدعوة إلى الخير، كالفقير الذي يراد إعانته بالدعوة.
الخامس: الأثر العام لشيوع الدعوة، والمبادرة إلى الإمتثال لما فيها.
والدعوة واقية من ترك الواجبات والفرائض اذ أنهامن أهم مصاديق الخير، فأما ان تكون الدعوة لتعاهد الفرائض، وأما ان تكون في مصاديق أخرى من المستحبات، وحينئذ فلابد ان يتم الحرص على الفرائض من باب الأولوية، وتقدمها رتبة على المستحبات شرعاً وعقلاً، وكل دعوة إلى مرتبة من مراتب الخير هي تذكير وتثبيت للمراتب الأعلى منها.
لقد أراد الله عز وجل تنمية ملكة الصلاح عند المسلمين بحثهم على الخير والدعوة له، ليكون فعله سجية ثابتة، وجزء من الواقع اليومي للمسلمين.
وليس من مكان مخصوص للدعوة إلى الخير، فقد تكون الحاجة له في السوق أكثر من غيرها للوقاية من المعاملات الربوية والجهالة والغرر، ومحاربة الغش، ومنع إستحواذ الشيطان النفس الشهوية على صيغ البيع والشراء، وقد يكون الترجيح في الدعوة الحث على حضور صلاة الجماعة وإتقان أداء العبادات.
والفارق في الحاجة لا يمنع من الإهتمام بالوجوه ال أخرى من الخير لأن الآية جاءت بالدعوة إلى الخير مطلقاً أي كل مصاديقه وان تباينت في الرتبة، وفيها طرد لوسوسة الشيطان، ونفي للخوف من الفقر والعوز عند الإنفاق، وترغيب بما عند الله.
وفي الآية حث على إقتطاف ثمار الدعوة في الدنيا والآخرة، وهي مانع من العودة إلى حال السوء وما يخالف الدعوة إلى الخير، لأن المرء يجد حلاوة في فعل الخير، ويكره مغادرة منازله، ويسعى لجذب الآخرين لإتيأنه، فمن الخير ان يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، واذ يشعر بالغبطة والسعادة عند فعل الخير فأنه يحرص على الدعوة إليه ليصبح الآخرون دعاة للخير، وبعيدين عن الشر.
علم المناسبة
ورد لفظ أمة في القرآن إحدى وخمسين مرة، منها مرتان بصيغة الخطاب “أمتكم” وقد خاطب القرآن المسلمين بإعتبارهم أمة واحدة كما في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( )، وجاء لفظ الأمة في القرآن في الغالب بخصوص الأمم السالفة وبيان ما يتغشى أفرادها من العناية الإلهية، وبعثة الأنبياء لكل أمة من الأمم.
ومدح الله عز وجل ابراهيم عليه السلام اذ نعته بوصف الأمة بقوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمة قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا] ( )، وجاءت الآية لتصف شطراً من المسلمين بأنهم أمة، وقد ينطبق العنوان على المتحد والشخص الواحد الذي يدعو إلى الخير مما يعني تشريف المسلمين، والإخبار عن وراثتهم الأنبياء ولو على نحو الإجتماع والتعدد، أي ان مجموعة من المسلمين تجتمع على الخير والدعوة إليه، لتحاكي بفعلها فعل الأنبياء السابقين في جهادهم في سبيل الله.
وتفضل الله عز وجل وأثنى على المسلمين ووصفهم بأنهم خير أمة بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
ومن أفراد هذا التفضيل قيام أمة وطائفة من المسلمين بالدعوة إلى الخير، وهذه الدعوة تعاهد للتفضيل والتشريف الخاص بالمسلمين وبرزخ دون تخلف شطر منهم عن مسؤوليات الأمة المختارة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين وراثة الأرض، والحفاظ على كلمة التوحيد، ومحاربة الضلالة والفساد، ولا يعني التبعيض عدم أهمية الموضوع بل ان نشر الخير ومعاني الفضيلة ضرورة من ضرورات الحياة في الأرض لعمومات قوله تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ]( )، ولكن التبعيض يدل على قوة ومنعة المسلمين وكثرة عددهم، وكفاية قيام شطر منهم بالدعوة إلى الخير وإقأمة الحجة على الناس وإصلاح المجتمعات.
وجاءت الآيات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله، قال تعالى [وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إلى رَبِّكَ] ( )، ومع ان الخطابات الموجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشمل المسلمين بالواسطة إلا أنهاتدل على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، وتحمله أعباء ومسؤوليات رسالية ينفرد بها، كما يلتقي مع المسلمين في الدعوة إلى الخير، ودعوة المسلمين إلى الخير هي دعوة إلى الله تعالى من وجهين:
الأول: بالواسطة، لأن حث الناس على فعل الخير والصالحات، هو دعوة إلى عبادة الله.
الثاني: الدعوة إلى الله تعالى خير محض، وهي فرد من أفراد الخير المذكور في الآية الكريمة.
قانون حسن السمت دعوة
أرادت الآية إصلاح أحوال المسلمين، وتهذيب أخلاقهم، فمن دلالات الأمر الإلهي للمسلمين بالدعوة إلى الخير لزوم قيام الداعية بفعل الخير والتلبس به،ولا ينحصر الأمر بالقائم بالدعوة بل على الأمة كلها ان تتحلى بالفضائل والأخلاق الحميدة وتأتي بالأفعال التي تأمربها، لذا جاء لفظ الأمة من الكلي في المعين أي أنه جزء غير مخصوص من عموم المسلمين، فحينما تكون حاجة للدعوة إلى فعل معروف مخصوص، فلا يتساءل المسلمون بينهم ايكم يقوم في الواقع بمثل هذا المعروف كي يكون مؤهلاً للدعوة اليه، بل الأصل قيامهم به على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، ويمكن ان نقسم الدعوة إلى الخير إلى قسمين:
الأول: الدعوة الذاتية: وهي دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلى سبل الخير وفعل الصالحات والفلاح.
الثاني: الدعوة الغيرية: وهي قيام شطر من المسلمين بدعوة غير المسلمين إلى الإيمان وفعل الصالحات وإجتناب السيئات.
ويحتاج المسلم في كلا القسمين التقيد بمضامين الإستقامة، والتحلي بالسنن الممدوحة، نعم لا يشترط ان يكون مبادراً لذات الفعل من مصاديق الخير، فقد يتعذر عليه فعله أو هناك موانع وحواجز دون قيامه به ولو من جهة الحرج وخشية العذر، ولكن هذه الموانع ذاتية وخاصة به، ولا تمنعه من دعوة الآخرين إلى فعل الخير.
وهل يشترط ان يدعو المؤهل للفعل دون غيره الجواب لا، ففي الدعوة إلى الخير مندوحة وسعة، ولا تعني لزوم الإمتثال لها على نحو الموجبة الكلية، بل كل حسب مقدوره وما يتيسر له، وقد يرغب الإنسان بالإستجابة للدعوة ولكن توجد عوائق وإسباب قاهرة تحول دون إستجابته، فلا يعني هذا أن الدعوة لغو، أو عديمة الفائدة، بل أنهاتترك اثراً مباركاً ولو في الوجود الذهني، وقد تؤتي ثمارها من غير الجهة المقصودة، أو منها ولكن بعد حين وعند تهيء الإسباب أو زوال المانع.
ان الفعل الذاتي للخير دعوة للناس للإقتداء به وترغيب بفعله، والآية تدعو المسلمين لمعرفة مصاديق الخير، ويتجلى حسن السمت بالتوحيد النظري والعملي بان يكون المسلم مصدقاً بالتوحيد والنبوة في قلبه وجوانحه لم يطرأ الشك عليه، وان يؤدي مصاديق التوحيد العملي من التقيد بأحكام الفرائض والعبادات وسنن النبوة، وإظهار مقام الرضا وإعلان القبول بأمرالله تعإلى، والصبر وعدم إظهار الجزع عند المصيبة.
ويتجلى حسن السمت في صلات المسلم مع الناس، ويبدأ من بيته وأسرته والرفق بالعيال وإكرام المرأة وإجتناب ظلمها، وإعطاء صورة حقيقية عن الإسلام بخصوص حقوق المرأة، وعدم إيذائها، كما تدعو الآية المرأة للتقيد بأحكام الزوجية وفيه دعوة إلى الخير من وجوه:
الأول: دعوة زوجها لمعاملتها بالمثل.
الثاني: بعث الإستقرار وروح السكينة في نفوس أفراد الأسرة.
الثالث: الأحتراز من الرياح الكريهة التي تحملها العولمة، والحرص على إظهار التمسك بمبادئ الإسلام داخل وخارج البيت، وفي أروقة الدراسة وميادين ا لعمل ليكون حسن السمت والصلاح عنوانا يتغشى المسلمين رجإلا ونساء، ودعوة إلى الله عز وجل ولكنها ليست دعوة صامتة، بل وسيلة جذب وجعل الذات تحكي تعدد صيغ الدعوة والجهاد في سبيل الله.
قانون “مصاديق الخير”
جاءت الآية بالأمر بالدعوة إلى الخير مما يدل على وجود وإمكان مصاديق الخير، وعدم إنقطاعها أو غيابها في بعض الأحيان عن الوجود الذهني أو الخارجي.
وتؤكد الآية معرفة المسلمين لهذه المصاديق وعلمهم بها، أما معرفة غيرهم لها فلا تؤكده الآية ولا تنفيه إلا ان الدعوة إليه تجعل الغير يعرف سنخية المدعو إليه من وجوه:
الأول: بلحاظ الداعية، لأن المسلم لا يدعو إلا لما هو خير.
الثاني:موضوعية موضوع الدعوة، وما فيه من الحسن الذاتي. الثالث:إدراك العقل الذي جعله الله عز وجل عند الإنسان للتمييز بين الحق والباطل.
وبما ان الآية القرآنية باقية حية غضة طرية.فان أفراد الخير منكشفة للمسلمين، وبالإمكان جذب الناس اليها وجعلهم يقومون بها، ومن الآيات ان الدعوة إلى الخير مقدمة لما هو أهم من وجوه:
الأول: مقدمة لأفراد أخرى من الخير.
الثاني: مدخل لفعل الصالحات وجعلها ملكة عند الإنسان، فتدعو إنسان إلى عمل صالح فيستجيب لك، ويشعر باللذة والرضا بعمله، ويواظب عليه، ويتعاهده.
الثالث: لغة التدرج في فعل الخير، فيدعى الإنسان إلى معروف وإحسان فيأتي به، وبغيره مما هو أكبر منه، وأكثر نفعاً.
الرابع: مبادرة غير المدعو إلى ذات العمل من الخير سواء مع إتيان المدعو له ومحاكاته، أو من دون إتيأنه، فقد تتوجه الدعوة إلى شخص ولكن الذي يستجيب لها غيره من الناس، وهو من أسرار قيام أمة من المسلمين بالدعوة وليس فرداً أو أفراداً منهم.
لقد أراد الله عز وجل ان تكون مصاديق الخير باباً لدخول المسلمين الجنة، ووسيلة لهداية الناس، وتنمية حب فعل الصالحات عندهم، وبغض المعصية والنفرة منها، والدعوة إلى الخير ترجيح لكفة العدل والإنصاف والصلاح في الأرض وهي برزخ دون تمادي أهل الظلم والطغيان والجحود.
والخير ضد الشر، وجمعه خيور، وهو اسم جنس وعنوان جامع لأفعال الصلاح، وينقسم الخير عدة تقسيمات بحسب اللحاظ والموضوع، منها أنه ينقسم إلى:
الأول: ما يجذبه الإنسان لنفسه من خير ونفع، وفي الحديث: “خير الناس خيرهم لنفسه”( ).
الثاني: نفع الإنسان للناس، وهو على وجوه:
الأول: نفعه لأهل بيته بالمعروف.
الثاني: ما يقدمه من خير لإخوأنه وأصدقائه وجيرأنه.
الثالث: الخير الذي يأتي به في دويرته وعمله.
الرابع: إشاعته لمعاني الخير والصلاح.
الثالث: الأثر الحسن الذي يترتب على فعل الخير
كما يمكن تقسيم الخير إلى قسمين:
الأول: الخير في الحياة الدنيا من المنافع والمصالح ذات صبغة الحلال.
الثاني: الخير في الآخرة، وهو عالم الثواب والأجر لما يفعله الإنسان في الدنيا، قال تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا]( ).
أي ان عالم الأجر والثواب خير من متاع الدنيا وما فيها، والدنيا دار حرث للآخرة، فجاءت هذه الآية إرشاداً وتأديباً للمسلمين، وتعليماً لهم لإسباب الهداية إلى النعيم الأخروي، فالدعوة إلى الخير، وسيلة مباركة لينال المسلم الخير في الآخرة، ومن الآيات قرب أفراد الخير للعبد في الحياة الدنيا، وبإمكأنه ان ينهل منها ويدعو اليها.
وتكون الدعوة على أقسام:
الأول: تقيد وإلتزام المسلم بفعل الخير، فيأتي به ثم يدعو إليه غيره، ويعطي درساً بإمكان فعله.
الثاني: يقوم الشخص بالدعوة إلى الخير من غير ان يفعله، وهو على وجهين:
الأول: عدم فعل ذات الفرد من الخير الذي يدعو اليه، كما لو كان يدعو إلى صلة الرحم، ويحث عليها وهو لا يتقيد بأحكامها، ويقطع صلاته مع أهله وذويه، مع تقيده بوجوه أخرى من الخير.
الثاني: إعراضه عن مصاديق الخير والإحسان، ومع هذا تراه يحث غيره عليها أو على فرد مخصوص منها.
الثالث: الدعوة الصامتة، بأن يواظب على فعل الخير، ويحرص على الإرتداء بجلبابه.
وموضوع الآية الكريمة هو القسم الأول،كما يلحق به الثالث، في حالات كالحرج وخشية الضرر، أما وجها القسم الثاني فهما بعيدان عن حياة ونهج المسلم، فيدل الأمر بالدعوة إلى الخير على قيام المسلمين بفعل الخير وأهليتهم للدعوة اليه، وهو عنوان ثبوت معالم التوحيد في الأرض، وإتقان المسلمين لأداء الفرائض، وصدورهم عن القرآن، وعملهم بأحكام الحلال والحرام، وقدرتهم على التمييز بين الحق والباطل، وليس من حد للخير فهو عنوان شامل لأفعال الصلاح والفلاح وما فيها من النفع في الدنيا والآخرة.
ومن أهم مصاديقه أمور:
الأول: الدعوة إلى الإسلام، وتقدير الآية “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الإسلام” قال تعالى [وَلَوْ آمَنَ أهل الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( ).
الثاني: أداء الصلاة والعبادات ال أخرى والتقيد بأحكامها وإتقان سننها.
الثالث: الإنفاق في سبيل الله، وإعانة الفقراء.
الرابع: الحث على طلب العلم، وإكتساب المعارف الإلهية، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
الخامس: إظهار الشكر لله تعالى على النعم، ويشمل في المقام الشكر القولي والشكر الفعلي، والإحسان إلى الآخرين، قال تعالى [ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ]( ).
السادس: الإرشاد إلى الصبر والرضا بحكم الله وعدم اليأس أو الجزع، قال تعالى [وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السابع: بيان منافع التحلي بالتقوى، والتقيد بسنن الإيمان، وبذل الوسع للإرتقاء في مراتب الهداية والصلاح، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الثامن: ما في اليوم والليلة من الخير والدعوة إلى الفلاح.
التاسع: ترغيب الناس بالعمل بأحكام الحلال والحرام.
العاشر: إعانة الآخرين على التفقه في الدين، وتلاوة القرآن والسعي في معرفة علومه.
الحادي عشر: التدبر في آيات الآفاق والإستدلال بها على وجود الصانع ولزوم عبادته.
الثاني عشر: السعي في قضاء حوائج الإخوان.
الثالث عشر: إصلاح ذات البين.
الرابع عشر: الدعوة إلى الإعتصام بحبل الله الذي جاءت به الآية السابقة.
الخامس عشر: التوكيد القولي والفعلي على المحافظة على نعمة الأخوة التي جعلها الله رحمة دائمة على المسلمين، وبيان منافعها الدنيوية والأخروية.
السادس عشر: المسارعة في الخيرات والدعوة اليها، لما في القيام بالمبادرة في فعل الصالحات من الترغيب فيها والندب لفعلها.
السابع عشر: الحث على تعاهد النعم بحسن المعاملة والرضا برزق الله، وإجتناب الحرام، قال تعالى [وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ]( ).
الثامن عشر: الترغيب في المستحبات وندب الناس اليها.
وفي تفسير الآية محل البحث قال الطبرسي “يدعون إلى الخير” أي إلى الدين( ).
ولكن الآية أعم في موضوع الدعوة والمراد من الخير، اذ يشمل مصاديق عديدة وأفراداً تواجه المسلم في الحياة اليومية وتدعوه للترغيب بها لتكون باباً للثواب وبرزخاً دون الإبتلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
فما يترشح من النفع من الدعوة إلى الخير يشمل النشأتين، ومن أفراد الثواب ما يأتي عاجلاً وعلى نحو ظاهر محسوس لأن في الإستجابة إلى الخير تفشي وانتشار للأخلاق الحميدة والشمائل الكريمة، ومنها ما لا يدرك بالحواس كنزول البركات، ومحو الآفات.
العشرون: إصلاح ذات البين، فمن مصاديق الخير “الصلح” قال تعالى [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( )، فلم يرد ذكر الصلح بترجيحه وتفضيله على غيره، بل جاء مطلقاً لتوكيد حقيقة وهي ان الصلح حسن في ذاته ونتائجه، وهو عمل مبارك وفعل حميد، ولا ينحصر حسنه بالطرفين الذين يتم الصلح بينهما، بل يشمل من يقوم به ويتولى تدبيره ويسعى في الوصول إليه بدليل الآية أعلاه التي ذكرت الطرف الذي يقوم بالإصلاح وعلى نحو متعدد، ويشارك فيه الأقربون من الطرفين.
فعند حدوث خلاف وخصومة بين شخصين أو جماعتين من المسلمين ليس لأقرباء جماعة منهم ان يقولوا نحن ننحاز إلى الأقرب الينا، وليس لهم ان يتركوا الأمر والتدخل فيه، بل عليهم السعي بين الطرفين بالحق وسبل المعروف حتى يتم الصلح.
لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) ( ) .
ومعناه بان نصر الأخ في حال تلبسه بالظلم زجر عنه، واصلاح وإشارة إلى قبح الظلم وسوء عاقبته وهذا السعي يتضمن الوجوه الثلاثة:
الأول: أنه دعوة إلى الخير لما فيه من الألفة والمودة والصلاح.
الثاني: أنه مصداق إستدامة نعمة الأخوة بين المسلمين، والأخوة شاملة للأطراف الثلاثة المصلح وطرفي الصلح.
الثالث: الصلح وحصول النزاع.
الرابع: الصلح أمربالمعروف ونشر للمحبة والود وحث على التعاون.
الخامس: في الصلح بين المسلمين توفير للجهد والعناء، وفرصة للعبادة وأداء المناسك.
السادس: الصلح نهي عن المنكر، وزجر عن أسباب البغض والعداوة، ومانع من النزاع والإقتتال،وحاجب دون التفريط والغفلة والتعدي، ووسيلة لطرد النفرة والكدورة والأخلاق المذمومة.
ان الإطلاق في لفظ الخير وعدم حصره بوجوه معينة تخفيف ورحمة بالمسلمين ودعوة لهم لطرق أبواب الخير المختلفة رجاء إصلاح الناس وإكتناز الصالحات.
قانون الدعوة خير
كل آية من آيات القرآن نعمة قائمة بذاتها،ومنها هذه الآية ، وتتبين هذه الحقيقة على وجوه ثلاثة:
الأول: وصف مضامين الآية بما يدل على توالي النعمة الإلهية، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثاني: توكيد وحدة المسلمين بأهليتهم لتلقي خطاب إلهي متحد، ينضوون تحت لوائه، ويكون بذاته واقية من الفرقة والتشتت، فلما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن نعمة الأخوة، والأمر بعدم الفرقة جاءت هذه الآية بما يؤكد النعمة، ويثبت الأمر بالدعوة إلى الخير، مثلما تترشح عنهما الدعوة، وما فيها من النفع الخاص والعام.
الثالث: الدعوة إلى الخير حسنة ومعروف، وعمل صالح يترشح عنه الخير والبركة، وهي سبب للهداية، وإن جاءت بخصوص فعل شخصي يتعلق بأمرإنساني لموضوعية قصد القربة، وإرادة الإستجابة لأمرالله عز وجل.
الرابع: الدعوة بشارة الفوز بالجنة والنعيم الدائم، لما فيها من مضامين الإيمان والإمتثال.
لقد أراد الله عز وجل أن تستمر نعمه على الإنسان في النشأتين،فهداه إلى سبل المعرفة وأعانه على التقوى وهيء له أسباب الطاعة ونحى عنه مقدمات المعصية، وجعله داعية للخير ومدعواً له، ليغترف على نحو مركب من الحسنات، ولا تفوته النعمة الإلهية الواردة بهذه الآية الكريمة.
ومن ثمار نعمة التمسك بحبل الله على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، والتقيد بمضامين الأخوة توجه الأمة للدعوة إلى الخير، وهو أمر مركب من أمرين:
الأول: القيام بفعل مع النية والقصد وهو الدعوة.
الثاني: المدعو له وهو الخير على نحو التعيين وما تقع تحته من مصاديق عديدة، والدعوة خير محض، وفيها تنمية لملكة الصلاح في النفس، وهي مناسبة للشعور بالحاجة للإعتصام بالقرآن والسنة وتعاهد الأخوة بإعتبارها وسيلة مباركة للتوفيق في الدعوة، كما أنها برزخ دون التفرق والتشتت.
فما دام المسلمون مجتهدين في السعي في ميادين الخير والفلاح فان نفوسهم تنفر من الفرقة والتشتت للحاجة للإتحاد، ولرؤية ثمار الدعوة إلى الخير، وكلما اجتهد المسلم في الدعوة إلى الخير فان الغبطة تملأ نفسه وجوانحه، ويدرك أنه يسعى في بناء الصلاح في الأرض، وإحراز الصالحات.
والدعوة إلى الخير تركة شخصية وعقائدية تنفع الإنسان في دنياه وآخرته وهي باب لإمتلاء القلب بخشية الله وحاجز دون قسوة القلب، وحجة على الذين يفترون على الإسلام والمسلمين، لما فيها من معاني المودة والرأفة بين الناس، و سبب من أسباب نزول البركات على الناس، قال تعالى [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ الخير في القرآن مائة وست وسبعين مرة، وهو عدد ليس بالقليل وفيه إشارة إلى مضامين الخير والصلاح والإحسان في القرآن وكل لفظ فيه هو خير محض سواء في معناه أو دلالته أو اثره أو تلاوته أو ثوابه.
وبدأ خلق الإنسان بخير محض اذ تفضل الله تعالى ونفخ في آدم من روحه لتمتلأ جوانحه بإسباب الهداية وينقطع إلى الله تعإلى، ويمتثل للأوامر الإلهية ومنها الدعوة إلى الخير، ونشر مفاهيم الصلاح ويسأهم في إعانة الآخرين في دروب الإيمان، وحجبهم عن الضلالة والغواية وهي الأمور التي جمعتها هذه الآية ، وكل فرد منها خير بذاته وماهيته وبالتداخل مع الفرد أو الفردين الآخرين في الآية فتكون مجتمعة ومتفرقة مادة لصلاح النفوس وهداية الذات والغير، والدعوة إلى الخير باب للثواب ودليل على الإمتثال لأمرالله تعالى.
وفيه حث للناس على قبول دعوة الخير والإستجابة لها، وهذه الإستجابة ليس أمراً بسيطاً بل هي خير مركب من وجوه:
الوجه الأول: خصوص المدعو إلى الخير، وهو على جهات:
الأولى: ذات الإستجابة لفعل الخير على نحو القضية الشخصية.
الثانية: إستدأمة فعل الخير في ذات الموضوع، كما في الدعوة للإنفاق المستحب في إعانة المحتاج، فان المدعو ينجذب إلى الإنفاق ويسعى في مد يد العون للآخرين.
الثالثة: تعدد موضوع فعل الخير، فمن يدعى إلى الخير في مسألة معينة يحرص على المبادرة إلى فعله في أمور ومواضيع أخرى فيكون فعل الخير سجية ثابتة له.
فمتى ما علم الإنسان ان الله يعلم ما يفعله من الخير فأنه يسارع في الخيرات، ويجتنب ما هو ضد الخير سواء الضد الوجودي كالشح و البخل أو الضد العدمي، وهو تفويت فرص الخير على النفس.
الوجه الثاني: الذي يدعو إلى الخير ويأمربه، وفيه جهات:
الأولى: تكرار الدعوة إلى الخير، وهذا التكرار على وجوه:
الأول: مع ذات الشخص المدعو، وهو على جهتين:
الأولى: الدعوة في نفس الموضوع، وفي الإعادة إفادة.
الثانية: في غير الموضوع الذي دعاه له أولاً، وهي على أقسام:
الأول: عند الإستجابة والإمتثال للدعوة الأولى.
الثاني: مع عدم الإستجابة والإمتثال في الأول.
الثالث: توجيه الدعوة في موضوع واحد إلى أشخاص عديدين على نحو متحد أو متعدد آلة وكيفية وزمانا ومكانا.
الرابع: تعدد الدعوة ومواضيعها وجهات الخطاب.
والجمع بين الآية أعلاه من سورة البقرة والآية محل البحث يفيد السعة والمندوحة في الدعوة إلى الخير وفي فعله، وفيه إخبار عن عدم وجود حد لكثرتها وزيادتها.
الوجه الثالث: المؤازر والمؤيد وهو على وجوه:
الأول: من يؤازر ويعضد الدعوة إلى الخير.
الثاني: الذي ينصر ويؤيد الداعية إلى الخير.
الثالث: الذي يسأهم في إعانة المدعو إلى الخير في فعله، فقد لا يكون الشخص مستعداً لقبول الدعوة إلى الخير مع تلقيه لها فيأتي من يرغبه ويحثه على الإستجابة والإمتثال، أو يهيئ له مقدمات فعل الخير.
الوجه الرابع: المستمع لدعوة الخير، والذي ينتفع منها بالسمع والعرض، وتكون مناسبة لجذبه إلى منازل الفلاح والإحسان والبر، وفعل الصالحات.
الوجه الخامس: إشاعة فعل الخير، وإسداء المعروف، وجعله صفة ظاهرة في المجتمعات، وسجية ثابتة عند الناس.
والدعوة إلى الخير فعل يدرك بالتوفيق الإلهي، ولا بأس من الدعاء والتضرع إلى الله لنيل مرتبة الداعية إلى الخير، والدعاء في المقام على وجوه:
الأول: سؤال التبصرة في مصاديق الخير، ومعرفة وجوهه وكما ان لفظ (الخير ) أفعل تفضيل فان مصاديق الخير لها مراتب متعددة، بلحاظ الذات والغير، سواء في ذات الفعل من الخير، أم بقياسه مع غيره من وجوه الخير، أم بترتب الأثر الحسن على إتيأنه.
ولو ترددت الدعوة إلى الخير بين مصداقين أو اكثر، فيقدم الأهم على المهم مع التساوي في الجهات ال أخرى ، كإمكان الإستجابة وعدم الضرر، ويأتي الدعاء للإعانة على معرفة وجوه الخير والأهم والأنفع منها، وتحصيل الجمع بينها في الدعوة.
الثاني: الهداية للقيام بالدعوة إلى الخير، وعدم الغفلة عنها، أو تضييع الفرص المناسبة للحث على فعل الخير.
الثالث: الخير كله بيد الله عز وجل، والدعوة والإستجابة له من مصاديق الخير وفي التنزيل [بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، ومن مصاديق إنحصار الخير بيده تعالى هذه الآية التي تدعو إلى الخير ليجري على أيدي المسلمين فينالون الأجر والثواب،وهو الخير الثابت والدائم والشامل للدنيا والآخرة.
الرابع: الدعاء بالإستجابة إلى دعوة الخير، وهذا الدعاء يصدر من الداعي والمدعو، وكل مسلم يدعو الله بان يكون داعية للخير ومستجيباً للدعوة ومبادراً إلى فعل الخيرات.
وورد قوله تعالى [فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ]( )، وصحيح أنه يتعلق بفدية الصيام، إلا ان أحكامه تصلح ان تكون قاعدة كلية،تفيد النفع العظيم في التبرع في الخير، والنافلة فيه، وعدم الوقوف عند الواجب، فمن سعى في الخير ودعا له فهو خير له، وهذا الخير من وجوه:
الأول: ذات الدعوة خير محض، وباب للإصلاح وتهذيب المجتمعات.
الثاني: الدعوة حجة على صاحبها في لزوم التقيد بمضامينها بل بمصاديق الخير مطلقاً، فيدرك الداعية ان عليه المبادرة إلى الإمتثال وأن تكون دعوته عملية كما هي قولية، ولا يصدق عنوان الدعوة العملية إلا اذا جاء بذات الفعل الذي دعا اليه.
الثالث: تحث الآية على المبادرة إلى المندوبات والمستحبات وتمنع من الشح والبخل أو الظن بكفاية القليل منها، أو قياس الإنفاق الذاتي مع الذين لا ينفقون إلا الواجب أو الذين يقصرون مطلقاَ في الإنفاق، بل يحرص المسلم على الإمتثال للآية والعشق للتطوع والشوق إلى الثواب وملاقاة الله عز وجل بالإنفاق الكثير.
الرابع: تمنع الآية من الإعتراض على الداعية إلى الخير، فليس لأحد ان يقول له تكفيك الدعوة وحصرها بالواجب دون المستحب إلا مع الضرورة،التي تقدر بقدرها موضوعا وزمانا ومكانا.
الخامس: جاءت الآية محل البحث بالأمر بالدعوة إلى الخير، وهذا الأمر وصيغة الوجوب لا يمنعان من القيام بالتطوع والمبادرة إلى الدعوة المستحبة والدعوة في المستحب.
السادس: دعوة شخص آخر للخير، لأن الدعوة أفراد غير ارتباطية، والملاك هو موضوع الخير المدعو له، وجاءت الآية مطلقة من غير دليل أو قرينة على كفاية الدعوة الواحدة وهذه الدعوة على اقسام:
الأول: في نفس الموضوع الذي دعا إليه الأول.
الثاني: في مصداق آخر من مصاديق الخير والإحسان والبر.
الثالث: مع غير الشخص الذي دعاه أولاً، بأن يكرر الدعوة إلى آخر، ويحثه على فعل الخير وهو على جهتين ايضاً، فقد تكون الدعوة في ذات الموضوع، أو في غيره، كما أنه ليس من قيد زماني للدعوة إلى الخير فأفراد الزمان الطولية كلها وعاء مناسب للدعوة إلى الخير فتصح في النهار والليل، والحضر والسـفر، نعم لابد من الفورية، ومع عدم حصول الفورية فالأقرب والأقرب، إلا مع القرينة على لزوم التأني والإنتظار.
ان تفضل الله تعالى بالإخبار عن علمه بالخير الذي يفعله المسلمون حث لهم جميعاً على أن يكونوا من الأمم التي تدعو إلى الخير.
ولو تنزلنا وقلنا ان الآية جاءت بإرادة طائفة من المسلمين وليس الجميع فان الإخبار عن علمه تعالى بما يفعله المسلمون من الخير ندب وبعث إلى فعل الصالحات والخيرات، والفعل أعم من الأداء الذاتي، فيشمل الدعوة إلى الخير.
قانون أطراف الخير
تميل النفوس إلى الخير بالفطرة ولما جبلت عليه في أصل الخلق، واستحسان العقول له لما فيه من الوصف الزائد في الحسن وما يترشح عنه من الفضل وإسباب الصلاح، ويجعل الخير الشر متزلزلاً في المنازل التي يحاول الإستحواذ عليها، وتأتي هذه الآية لتطرد الشر من النفوس، وتزيحه عن مراتب الأثر والتأثير.
والخير عنوان الإرتقاء في سلم الكمالات، ومنبع للفضائل والأخلاق الحميدة، وهو مادة للرياسة اذ أنه يسير بموازاة الحلم إلا أنه عطاء مستمر، وأمروجودي يتقوم بالنفع، بالإضافة إلى ما فيه من الثواب العظيم، وفيه الشرف والرفعة لذا خص الله به المسلمين، ويتجلى هذا الإختصاص من وجوه:
الأول: نزول القرآن بإعتبار ان كل آية منه خير محض، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آية أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا]( ).
الثاني: البعثة النبوية المباركة وما فيها من أسباب الهداية والفلاح، والإيمان بالله عز وجل، والتصديق بالنبوة هو أعلى مراتب الخير في الدنيا وعالم الثواب.
الثالث: أداء الفرائض والعبادات، والإنقطاع إلى الله تعإلى، وفي الصيام قال تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الرابع: إتيان الصالحات وإظهار الزهد والورع، والسعي في منازل التقوى، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( ).
الخامس: نيل وراثة الأنبياء، بالثبات على الإيمان وتعاهد أحكام الشريعة، والدعوة إلى الخير.
السادس: توالي الخير والبركات على المسلمين، وإسباب الرزق الكريم.
السابع: كثرة النعم الظاهرة والباطنة عليهم، ومنها نعمة الأخوة التي جاءت بها الآية السابقة، والنعم التي جاءت بها هذه الآية من التكليف بنشر معاني الفضيلة والصلاح التي تكون مقدمة للإيمان، وسبباً لتثبيته، ورشحة من رشحاته، والآية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأمربِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى]( ).
لقد جاءت هذه الآية بالدعوة إلى الخير، وفيه وجوه:
الأول: ورود الآية بصيغة الأمر الذي يدل على الوجوب، فلابد ان يتصدى المسلمون إلى الدعوة إلى الخير، والمتعارف بينهم هو التأكيد على الوجوب الكفائي للأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت هذه الآية لتضيف لهما فرداً ثالثاً وهو الدعوة إلى الخير من وجوه:
الأول: جاءت الدعوة إلى الخير في ذات الآية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كي لا يقال ان الخير هو المعروف.
الثاني: مجيء الأمر بالخير بالدعوة إليه والحث عليه، والدعوة غير الأمر وأوسع منه،وفيه منع من الوقوف عند صيغة الأمر .
الثالث: تقدم الدعوة إلى الخير على الأمر بالمعروف مما يدل على موضوعية هذه الدعوة ولزوم عدم التفريط بها.
الرابع: في إجتماع الأمور الثلاثة الدعوة والأمر والنهي في آية واحدة مسائل:
الأولى: الإشتراك وصدور المتعدد من المتحد في التكليف فبإمكان الفرد الواحد من المسلمين ان يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من غير تعارض بينها، بلحاظ تعدد الموضوع وأفراد الزمان الطولية.
الثانية: التداخل والأداء المشترك لها ليس من التشديد على النفس أو التكليف بما لا يطاق.
الثالثة: الجمع بين الأمور الثلاثة في آية واحدة آية إعجازية في القرآن وفي التكاليف بالشريعة الإسلامية.
الرابعة: أنه شاهد على عظيم منزلة المسلمين في تثبيت كلمة التوحيد في الأرض، والحاجة النوعية العأمة للدعوة إلى الخير.
الخامسة: تعدد وجوه محاربة الشر والباطل، اذ ان كل دعوة للخير هي إزاحة للشر وبرزخ دون الذنوب والفاحشة، وحرب على الشيطان ومنع من سلطأنه على النفوس، كما يعمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إصلاح النفوس والمجتمعات.
السادسة: تأتي الدعوة إلى الخير بعرض واحد مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من جهة الأهمية والموضوعية في عالم الأفعال.
السابعة: الإشتراك في مراتب الأجر والثواب.
الثاني: الترغيب في الخير دعوة وفعلاً، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه]( )، والدعوة إلى الخير هي ايضاً خير محض، وقد يدعو الإنسان للإنفاق على الوالدين أو الأقربين أو في سبيل الله مطلقاً فيأتيه الثواب على دعوته مع أنه لم ينفق شيئاً.
فكأن الآية تبين للمسلمين ما ينفعهم في دنيأهم وآخرتهم بان يدعوا إلى الخير، ومن النعم الإلهية ان يأتي هذا البيان بصيغة الأمر والوجوب، [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] وبهذا المعنى يكون التبعيض في الآية دليل رحمة إضافية لمن يقوم بالدعوة إلى الخير وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية .
الثالث: مجيء الآية بصيغة الدعوة فلم تقل الآية بالأمر بالخير، بل قالت بالدعوة اليه، ومصاديق الدعوة كثيرة منها ما يتجلى بالقول باللسان اوالفعل باليد، اوالإنفاق الذي يكون حثاً للآخرين على ركوب جادة الخير، كما في الذي يخرج الزكاة على نحو علني ليكون هذا الإخراج وسيلة لدعوة الآخرين لإخراج زكاة أموالهم، أو كالذي يبني مسجداً ليؤمه الناس ويصلون فيه.
ومن الخير حسن الخلق والتحلي بالفضائل، وتعاهد العادات الحميدة والسنن الرفيعة، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق سواء بلفظ الدعوة أو الخير فأفراد الخير من اللامنتهي وتشمل الوجوه المستحدثة منه، وهو من أسرار الإطلاق في الآية وعدم تقييده، فيشمل وجوه الإحسان لغير المسلمين بما يكون في أثره وعاقبته خيراً ونفعاً للإسلام، ولو تعارضت وجوه الخير فيعتبر أمران:
الأول: قاعدة تقديم الأهم على المهم.
الثاني: الأقرب فالأقرب،كما لو دار الأمر بين إعانة ذي القربى والأجنبي، فيقدم ذو القربى ولا تعارض بين الأمر ين، لأن الأقرب حينئذ يكون هو الأهم، ومع التعارض يقدم الأول أي الأهم فقد يكون في اعانة الأجنبي إصلاحاً له أو ان إعانته ضرورية، أو مع إنحصار جهة الإعانة بالداعية إلى الخير، بينما يجد ذو القربى غيره، ولا يأتي التعارض إلا بعد تعذر الجمع بينهما،والجمع هو الأفضل والأهم.
وفي الآية حصانة للمسلمين من الدعوة إلى الشر، وبيان لبغضهما الذاتي والعرضي، وسلاح دون آثارهما المذمومة، أي آثار الشر والدعوة اليه، واطراف الدعوة في الآية هي:
الأول: الداعي إلى الخير، وجاء بصيغة المتعدد ولكنه يشمل المتحد من وجهين:
الأول: إنحلال لفظ الأمة إلى أفرادها، فقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] يعني ليكن منكم أفراد يدعون متحدين ومتفرقين إلى الخير والصلاح.
الثاني: قيام الفرد الواحد بالدعوة إلى الخير، وعدم إنتظار مشاركة غيره فيه، وهذا الإنتظار قد يفوت الفرصة للدعوة، أو يكون التردد من بعض الأفراد سبباً لتأخر الدعوة وما يترتب عليها من الأثر.
الثاني: موضوع الخير، ومصـاديقه التي يدعو لها المسلمون، فالآية لم تعين تلك المصاديق، أو تجعل لها حداً معلوماً بل ذكرت الخير على نحو الإطلاق والعموم ليغترف المسلمون من منافع هذه الدعوة، ويجتهدوا في معرفة وجـوه الخير التي تتطلب التفقه في الدين، والتمييز بين الحلال والحرام، والخير والشر، وتأتي الدعوة إلى الخير مباشرة وبالذات أو تحصل بالواســطة، ومن الآيات أن يدعو الإنسان إلى فرد من أفراد الخير، فينتج عنه أفراد كثيرة، ويكون سبباً لتحصيل النفع في موارد عديدة.
الثالث: المدعو إلى الخير اذ ان الدعوة لم تكن مهملة، فلابد من أنها تقع على محل، وهذا المحل متعدد بلحاظ أمور هي:
الأول: الداعي إلى الخير أمة من المسلمين وليس فرداً أو جماعة محصورة منها، فمن خصائص ورود لفظ الأمة هو الكثرة في الدعوة والأثر والتأثير.
الثاني: تعدد الخطاب بتعدد أجيال المسلمين المتعاقبة، وسعة وكثرة أمصارهم وبلدأنهم، ويدخل التكليف الوارد في الآية إلى كل بيت من بيوت المسلمين، يحث أهله على الدعوة.
الثالث: كثرة موارد الخير وحاجة الناس له، وهذه الحاجة مستديمة ومتجددة، وهي نوع فضل من عند الله، فمع الحاجة تأتي الدعوة إلى الخير والحث على قضاء الحوائج لتكون الدنيا داراً للأجر والثواب.
قانون الدعوة تأديب للنفس
تعتبر كل آية من القرآن مدرسة مستقلة في تهذيب النفس وإصلاح المجتمعات، وعبرة وموعظة، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي)( )، وفيه إظهار لمعاني العبودية وعظمة منزلة النبوة، والإنقطاع التام لمرضاة الله.
وتفضل الله على المسلمين وجعل لهم القرآن مؤدباً ومعلماً يومياً، تطل عليهم الآية القرآنية في الصلاة فتجذبهم لمعانيها، وتجعلهم يسيحون في عالم الملكوت، ويرون الحوادث والوقائع اليومية فيستحضرون الشواهد القرآنية.
ويتدبر المسلم آيات القرآن التي تكون في الصلاة قريبة منه وشاهداً بالإضافة إلى حضورها الدائم في الوجود الذهني، فيجعل الآية القرآنية إمأما له،وضياء وبرزخاً دون الظلم والتعدي وإرتكاب الذنوب والفواحش.
ويستقرأ المسلمون الحوادث والوقائع من خلال آيات القرآن، ومنها هذه الآية الكريمة التي يتوجه فيها الخطاب للمسلمين عامة، وعموم الخطاب هذا نوع تشريف وإكرام ودعوة للإلتفات إلى الوظائف العقائدية والأخلاقية العظيمة التي تقع على عاتق المسلمين أمة وأفراداً، اذ ان قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] لا يعني لزوم إشتراك أمة من المسلمين في كل دعوة للخير بل تأتي الدعوة على وجوه:
الأول: قيام أمة من المسلمين بالدعوة إلى الخير،على نحو الإشتراك أو التعدد.
الثاني: مبادرة فرد من المسلمين بالدعوة إلى الخير.
الثالث: تعاون الأسر في حث أفرادها على فعل من أفعال الخير والصلاح.
الرابع: أمرالوالدين إلى ولدهما وترغيبه بالصالحات.
الخامس: وجود مؤسسات إسلامية عأمة تدعو إلى الخير.
السادس: إعتبار الدعوة إلى الخير في القوانين الوضعية للدول الإسلامية.
السابع: إستثمار شطر من أموال الزكاة في أعمال البر والخير.
الثامن: تأليف الكتب التي تحث على فعل الخير، واجباً كان أو مستحباً.
التاسع: الثناء على فاعل الخير، وما فيه من ترغيب الآخرين في الإقتداء به.
العاشر: بيان الثواب الأخروي العظيم لفعل الخير.
واذ جاءت الآية السابقة بالأمر بالإعتصام بحبل الله، فان هذه الآية تؤكد ان الدعوة إلى الخير على وجوه:
الاول: أنها من مقدمات الإعتصام بالله.
الثاني: من مصاديق الإعتصام بالله
الثالث: الدعوة ثمرة من ثمارالإعتصام بالله وإظهارحسن التوكل عليه سبحأنه.
الرابع: أنهامن مقدمات الأخوة
الخامس: فيها دعوة عملية صادقة لتثبيت الأخوة
السادس: أنهامن النتائج الحميدة لنعمة الأخوة
والدعوة إلى الخير تعاهد للأخلاق الحميدة التي يدعو اليها الإسلام، ومانع من مخالفة الاحكام الشرعية، وإجتناب للعادات الذميمة وآفات النفس الإنسانية، فقد تطرأ أعراض قبيحة في ميدان الأخلاق تكون مقدمة للفرقة والفتن، فجاءت الدعوة إلى الخير لمنع هذه الأعراض، فلا تصل النوبة إلى بذل الجهود لمحاربتها بل يحصل وأدها في مهدها، فالدعوة إلى الخير تمنع من ظهورها أو ولادتها اصلاً، وهو إعجاز أخلاقي في مضامين هذه الآية الكريمة وإصلاحها للنفس الإنسانية مطلقاً سواء بالنسبة للذي يدعو إلى الخير أو يدعى اليه.
وتؤكد الدعوة إلى الخير حب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه وقد يتعذر عليه فعل المعروف لتعذر مقدماته وإسباب ه، فيقوم بدعوة غيره وحثه على المبادرة إلى الخير، سعياً للإصلاح، ونشراً للفضيلة، ورجاء الثواب لأطراف عديدة منها:
الأول: الذي يجري الخير على يديه.
الثاني: الذي يقع عليه فعل الخير،ويصله البر والإحسان.
الثالث: الداعي إلى الخير.
الرابع: السامع والذي يرى فعل الخير.
ويبعث فعل الخير الثقة والأمل في النفوس، وهو باب لتثبيت معاني الكسب الحلال، وتنزيه البطن وطهارة المأكل والمشرب، ووسيلة لمنع الجريمة وحصول الفواحش.
والدعوة إلى الخير سلاح يحول دون تسرب الحسد إلى النفس وما يترتب عليه من الأثر الضار، وأن أول حسد في الأرض هو حسد قابيل ابن آدم لأخيه هابيل، وما نتج عنه من قتل الأول للثاني،فجاءت الدعوة إلى الخير لتوكيد نعمة الأخوة بين المسلمين، ومنع طرو الخلق المذموم والعادة السيئة، ونفي الحرص والبخل والشح.
وتبعث الدعوة إلى الخير الغبطة في نفوس المؤمنين ولا تنحصر هذه الغبطة بمن يتلقى فعل الخير والمعروف بل تشمل الفاعل والداعية إلى الخير، كما أنهامناسبة للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر،فكل طرف يشكر الله عز وجل بحسب حاله، ومقامه في عمل الخير، وحتى لو دعى المسلم إلى فعل الخير ولم يحصل إمتثال وإستحابة فأنه يكسب الحسنات ويفشي الصالحات ويشكر الله عز وجل على نعمة الإمتثال للآية الكريمة، وينال الثواب.
وهذه الدعوة باب للدعاء للتوفيق للإستجابة للدعوة، والإعانة على فعل الخير والبر والصلاح، وفيها إرشاد للعفو والصفح والمغفرة بإعتبارها من مصاديق الخير، ومصداقا للأخلاق الحميدة، والإقرار بالعالم الآخر ورجاء الثواب والعفو من عند الله عز وجل.
وجاءت السنة النبوية الشريفة القولية والفعلية والتقريرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء بالنص الصريح، أو بالدلالة لتكون مادة لتأديب المسلمين.
فاذ يخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتأديب الله عز وجل له فان هذا التأديب متوجه إلى المسلمين، بالإضافة إلى تلقيهم التأديب عن طريق السنة النبوية بإعتبارها من مصاديق الوحي، ولطفاً إضافياً بالمسلمين لتأديبهم وتهذيب أخلاقهم وإعانتهم على الإمتثال لمضامين الآية الكريمة في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفوز بالفلاح والنجاح في الدارين.
قانون الدعوة إعتصام
لقد أمرالله المسلمين بالتصدي للدعوة إلى الخير، وجذب الناس بصيغ الرفق واللين إلى سبل الصلاح والرشاد، وبذل الوسع للحيلولة دون التمادي في المعاصي والذنوب، والخير عنوان جامع لمصاديق الصلاح، ومنها الإعتصام بحبل الله، وتقدير الآية : ولتكن منكم أمة تدعو للتمسك بالقرآن والسنة.
فجاءت هذه الآية للحث على تثبيت مضامين الإعتصام بالله، كما ان الدعوة ذاتها إعتصام بحبل الله، فيدل حرص الأمة على الدعوة إلى الصلاح والخير على حسن الإعتصام بحبل الله، وان المسلمين أظهروا الإمتثال لمضامين الآية السابقة.
ومن الآيات ان الله عز وجل يأتي بالأمر متعقباً للأمرليكون الإمتثال في كل منهما إمتثإلا للأمرالثاني ايضاً، وبين الأمر ين تأتي النعم الإلهية على المسلمين لتكون عوناً على الإستجابة المثلى للأمرالسابق واللاحق، كما في الآية السابقة، فبعد الأمر بالإعتصام بحبل الله جاء ذكر نعمة الأخوة والإنقاذ من النار وبشارة الهداية والرشاد، وتكون الدعوة إلى الخير من مصاديق الهداية والفلاح.
ان كل فرد من أفراد طاعة الله هو إعتصام بالقرآن والسنة، ولكن تعاقب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على موضوعية كل منها في تثبيت معاني الإعتصام بالله، والدعوة إلى الخير جذب للناس للإعتصام بالله، والإستجارة به، ودعوة للتقيد بأحكام الحلال والحرام، والصدور عن القرآن والسنة وعدم الخروج عن الشريعة الإسلامية، وكأن الآية تقول: إعتصموا بحبل الله، وتمسكوا بأحكام القرآن بالدعوة إلى الخير)، خصوصاً وان الدعوة لا تأتي إلا بعد العلم بالخير والشر، وكيفية ومضامين الدعوة، ومن الذي يحتاج الدعوة وينصت لها.
ويحرص الذي يدعو إلى الخير على الإعتصام بالله، وهو لا يقصد إلا تمسكه والآخرين بالقرآن والسنة، وهذا التمسك عنوان لحب الله وعدم تعلق القلب بحب غيره، وفيه تعاهد للتمسك بالقرآن والسنة، فكل دعوة إلى الخير هي إعتصام بحبل الله وإستحضار لمبادئ الإسلام، ومناجاة في الصلاح، ودعوة للإعتصام بالله، ويمكن تأسيس قاعدة وفق القياس الإقتراني:
هذه الآية دعوة إلى الخير.
كل دعوة إلى الخير اعتصام بالله.
هذه الآية إعتصام بالله.
قانون الدعوة أخوة
تتصف الأخوة الإسلامية بصبغة المودة والمحبة بين المسلمين عموماً وهي سور كريم تتغشى بركاته المسلمين كأفراد وجماعات، ويشعر معها المسلم بالعز والرفعة، فاذا تنظر الأمم ال أخرى للأخوة بمنظار النسب وحده مع محدوديته وإنحصاره،ومزاحمة الإنشغال بالدنيا وزينتها له، تعتبر الدعوة مادة للأخوة بين المسلمين وتأتي الدعوة إلى الخير على وجهين:
الأول: دعوة المسلم إلى التقيد بالعبادات وفعل الصالحات.
الثاني: دعوة غير المسلم لدخول الإسلام وإجتناب القبائح والسيئات.
وبالنسبة للأول تبين الدعوة حرص المسلم على صلاح أخيه المسلم وما فيه منفعته ومصلحته.
وأما الثاني فان المسلمين يتعاونون في هداية الآخرين وأرشادهم إلى سبل الحق، ومنع تفشي معاني الضلالة والجحود وتحتاج الدعوة التعاون بين المسلمين في صدورها وتأثيرها، لذا جاءت الآية بان تصدر الدعوة عن أمة منهم مع شمول وظائف الدعوة لجميع المسلمين بإعتبارها واجباً كفائياً، خصوصاً وأنها لا تنحصر بالدعوة المجردة بل لها مقدمات وإسباب ، وقد تكون لها آثار تستلزم تعاون المسلمين فيها، وهذه الآثار على نوعين:
الأول: الآثار الإيجابية،كما لو استلزم الأمر تعقب الدعوة بالإنفاق والبذل، والحاجة لهما، فيبادر مسلم آخر غير الداعية للإنفاق وتهيئة المستلزمات المالية.
الثاني: الآثار السلبية كما لو كان هناك رد فعل سلبي من المدعو أو غيره من أهل الضلالة والجهالة.
ويحتاج التصدي له بذل الوسع من غير الداعي بحسب الشأن والمقام، فمن الآيات ان الله أنعم على المسلمين بنعمة الأخوة لتكون ملكة ثابتة عند المسلمين، وظهيراً ترجع إليه الأمة والأفراد الذين يدعون إلى الخير في حال الرخاء والشدة والسعة والضيق، وكأن الأخوة ضرورة للدعوة إلى الخير، وهو من أسرار نظم الآيات من وجوه:
الأول: تقدم نعمة الأخوة في الآية السابقة.
الثاني: جعلها هبة وفضلاً من عند الله.
الثالث: إستدأمة نعمة الأخوة عند المسلمين، ومصاحبتها لهم في مختلف الأزمنة والأمكنة، فأينما يكون المسلم تكون نعمة الأخوة ملازمة له مع حضور المسلمين فلا يستوحش من دروب الخير، ولا يشعر بالغربة في مختلف بقاع الأرض.
ولا ينحصر التأثير بين نعمة الأخوة والدعوة من طرف واحد، بل ان الدعوة تثبيت لنعمة الأخوة ومصداق عملي لوجودها الخارجي، فاذا قال قائل اين هي نعمة الأخوة بين المسلمين، فيأتي الجواب متعدداً في مصاديق عديدة منها الدعوة إلى الخير، بإعتباره شاهداً على التعاون بين المسلمين فيها.
ولو كان المسلم منفرداً ومنعزلاً عن غيره من المسلمين فقد يتخلف عن الدعوة إلى الخير على نحو السالبة الكلية أو الجزئية لإدراكه فقد مستلزمات الدعوة، فجاءت نعمة الأخوة لجعله يواظب بشوق في الدعوة إلى الخير،ويمتثل لها، كما ان الأمر الإلهي بان تكون الداعية إلى الخير أمة وليس أفراداً أو جماعة، يدل في مفهومه على تعاهد سنن الأخوة والحاجة اليها.
وجاءت الآيات القرآنية بتوكيد أخوة الأنبياء لقومهم، وتصدي كل نبي لدعوة قومه إلى الإسلام كما في قوله تعالى [ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ إلا تَتَّقُونَ ]( )، وكذا بالنسبة لنبي الله هود وصالح ولوط وشعيب( )، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن من عند الله، فآمن به المسلمون وإتبعوه، ثم حملوا لواء الدعوة إلى الخير والرشاد لتستمر الدعوة إلى الله والحث على التقيد بأحكام القرآن والسنة، لتتجلى حقيقة مركبة ملازمة لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم وهي دوام الأخوة بين المسلمين، وتوظيفهم الأخوة في الدعوة إلى الخير، وتثبيت معالم الدين إلى يوم القيامة.
كما تستلزم الدعوة إلى الخير الألفة بين القلوب وإستدأمة معاني الود والمحبة بينهم، لتكون الدعوة أبلغ في الأثر والتأثير وتحكي واقع الأخوة والإيمان عند المسلمين، والأخوة مانعة من الشح والعناد والإصرار على الذنب عند المدعو إلى الخير وان كان غير مسلم، اذ يرى الجماعة والأمة متفقة في الدعوة متقيدة بأحكامها وسننها، وتنبعث من إتفاقها معاني العز والإتحاد فينجذب اليها، وتنفر نفسه من الإصرار والعناد، ويميل إلى الإنضمام إلى الجماعة والفوز بصفة الأخ وأخوة أصحاب الدعوة، لتكون الدعوة إلى مصاديق الخير مطلقا دعوة للإسلام.

قانون إطلاق الخير
الخير سور جامع لفعل الصالحات ويشمل الواجبات والمستحبات وهي على قسمين:
الأول: الأمور والأفعال الخاصة بالمكلف فيما بينه وبين ربه من وجوه القربة والطاعة وأسباب العفو والمغفرة.
الثاني: ما يكون بين المكلف وبين الناس، وهي على قسمين:
الأول: ما يتعلق بالعبادات والمناسك وضروب الطاعات.
الثاني: المندوبات والمستحبات وهي على قسمين:
الأول: فعلها مع الآخرين، وصدورها من المكلف نفسه.
الثاني: إعانة الناس على فعلها بالدعوة والنصح والأمر كما هو منطوق هذه الآية
وجاءت الآية بثلاثة أمور اثنين منها يتضادان في الموضوع وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الدعوة فجاءت قائمة بذاتها فلم تقل الآية يدعون إلى الخير، ويزجرون عن والشر، بل ذكرت الخير وحده ولم تذكر الشر والردع عنه خصوصاً وأنه ورد ذكرهما معاً كما في قوله تعالى [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً]( ) وفي الإكتفاء بذكر الخير وجوه:
الأول: تتضمن الدعوة إلى الشيء النهي عن ضده، فتدل الدعوة إلى الخير بالدلالة الإلتزامية على المنع من الشر.
الثاني: يطرد وجود الخير الشر من النفوس والمجتمعات.
الثالث: دلالة النهي عن المنكر على إرادة التصدي للشر.
الرابع: الشر عام وقد يكون نتيجة لفعل، فلذا لم يذكر كما في قوله تعالى [إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا] ( )، ولكن جاءت الآيات القرآنية بوصف الفعل القبيح بأنه شر، قال تعالى [ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ]( ).
الخامس: لا ينحصر الخير المراد فعله بما هو ضد الشر، بل يتضمن التفضيل في مراتب الخير والصلاح، فقد يعمل الإنسان خيراً ويأتي من يدعوه إلى ما هو أحسن منه كما في قوله تعالى [فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ]( )، فإطعام فقير واحد خير محض، ولكن إطعام إثنين أو أكثر خير منه وأعلى مرتبة في سلم الصالحات والثواب.
الثاني: يشمل الخير المنافع الآجلة وان كانت تتضمن الأذى العاجل أو تستلزم العناء والمشقة، قال تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( )، فتكون الدعوة إلى الخير تبصرة في الدين وقد تتضمن فعل ما فيه مشقة،والمدار على كونه خيراً محضاً في ذاته وأثره وغايته، والصحيح ان الآية تتضمن النهي عن الأفعال التي فيها شر ذاتي وعرضي من وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير نهي عن الشر، ومنع من وقوعه.
الثاني: تتوجه الدعوة إلى الخير لمن يفعل الشر، ومن لا يفعله، فتكون شاملة للمنع من الشر وتحصيله.
الثالث: يعتبر الأمر بالمعروف زجراً عن الشر وتقبيحاً له، وحصانة منه ومن مقدماته.
الرابع: يشمل النهي عن المنكر بالدلالة التضمنية الزجر عن الشر والأفعال المذمومة، بإعتبار ان الشر فعل منكر وقبيح، شرعاً وعقلاً وعرفاً، فيدخل الشر في مصاديق المنكر، وبين المنكر والشر عموم وخصوص مطلق، فكل شر هو منكر وليس العكس، فجاء النهي بالمعنى الأعم.
لقد أراد الله عز وجل انبعاث المسلمين إلى الخير على نحو الإطلاق من غير تقييد بما هو ضد الشر، فتأتي الدعوة للإرتقاء في مراتب الصلاح، والإمتثال الأحسن في مضامين الخير والرشاد فإطلاق الخير فضل إلهي وإعجاز يتضمن السياحة في أعمال الصالحات والإجتهاد في إرشاد الناس إلى المعروف وإعانتهم على التقيد بأحكام الشريعة.وجاء الإطلاق على وجوه:
الأول: عدم وجود شرائط خاصة بالداعية سوى الإسلام وكفى به فخراً.
الثاني: إنتفاء القيد الزماني للدعوة إلى الخير، فتصح في أي فرد من أفراد الزمان الطولية.
الثالث: كثرة مصاديق الخير، وإختيار لفظ الخير في المقام نعمة أخرى .
الرابع: عدم تقييد الدعوة، أو وضع شروط لها أو لمقدماتها.
بحث بلاغي
من وجوه البديع ائتلاف الألفاظ وإنسجام معانيها كما يظهر في هذه الآية الكريمة فهي مدرسة إعجازية في البلاغة اذ أنهاتتكون من بضع كلمات تتصف بالإئتلاف فيما بينها، ويساعد كل أمرمنها في فهم مضامين الأمر الآخر، فالدعوة إلى الخير تساعد في التفقه في الدين ومعرفة مصاديق المعروف التي يأمرويؤمر بها المسلم، ويطرد الجمع بينهما الحرج واليأس والجزع، ويجعل المسلم يأتي بالطريقة والكيفية التي تناسب الحال والشأن والمقام.
ومن وجوه الدعوة إلى الخير، الدعوة إلى الأمر بالمعروف وحث المسلمين على أن يأمروا بالمعروف، كي لا ينتظر المسلمون من يتصدى للأمربالمعروف، وقد ينتشر عند الإنتظار الشر، وتظهر المنكرات ويصعب التدارك أو يلزم بذل جهود إضافية فيه.
فجاءت الآية ليحث المسلمون بعضهم بعضاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يدخل هذا الحث في شطر منه بالأمر والنهي بل أنه من الدعوة إلى الخير بإعتبار ان الأمر بالمعروف خير محض فيدعو المسلم أخاه المسلم لأن يفعل الخير ويقوم بأمرالناس إلى المعروف، ليأتي الأمر على وجوه:
الأول: الإشتراك بين الداعي والمدعو، كما لو إعتقد المسلم عدم كفاية أمره ونهيه، فيستعين بأخيه لإعانته عليه، وهل يحتمل دعوة غير المسلم للإعانة في المعروف، الجواب نعم مع عدم وجود غضاضة وحرج وضرر على المسلمين.
الثاني: ورود التبعيض في الآية بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمة يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ] آية إعجازية تفيد في معناها دعوة المسلمين بعضهم بعضاً للأمربالمعروف والنهي عن المنكر.
فأرادت الآية بيان حقيقة وهي لزوم إستدأمة الدعوة المتعددة بين المسلمين، وكل فرد وجماعة يحثون الآخرين إلى الخير، وقد يقوم فريق بحث آخر على الخير، ويقوم الفريق الآخر بحث الفريق الأول على مصاديق أخرى من الخير.
فهل يستلزم الدور أو أنه من تحصيل ما هو حاصل، الجواب لا للتباين الموضوعي، وتعدد مصاديق كل موضوع من مواضيع الخير، وحتى على فرض الإتحاد في الموضوع فان كل دعوة باب للثواب وتتضمن التوكيد على فعل الخير والمسابقة فيه، بالإضافة إلى ان الدعوة غير الفعل، فدعوة كل فريق تتوجه إلى الآخر ليتجلي الفعل في مبرز خارجي، والدعوة حث للطرف الآخر على الفعل، فكل فريق يحث الآخر على فعل الخير ولا تعارض أو دور في المقام.
الثالث: الإستقلال في الأمر والنهي، فتأتي الدعوة لتجنيد المسلمين للدعوة إلى الخير والأمر والنهي، وقد يتعذر على الداعية إلى الخير القيام بالأمر والنهي مطلقاً أو بخصوص شخص معين فيستعين بغيره، وهذه الإستعانة من الدعوة إلى الخير في باب الأمر بالمعروف، وتأتي الإستعانة في الأمر والنهي كل بحسب حاله وشأنه ومقامه،أو بلحاظ المناسبة والفعل، وترتب الأثر.
فتجتمع أفراد الآية الثلاثة في موضوع واحد، ولكنها تصدر من أفراد متعددين، كما لو كان شخص تاركاً للصلاة ويتعاطى الربا، ولا يقدر جاره على التأثير عليه، مع إطلاعه على أمره، ولكنه يعرف من يستطيع القيام بأمره، ومن يقدر على نهيه، فيأتيهما جاره ويحثهما على أمره بالصلاة، ونهيه عن الربا، وهذا الحث من الدعوة إلى الخير باعتبار أنهما خير محض، فتجتمع الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موضوع واحد.
الرابع: قد يتعرض الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر إلى الأذى والضرر فتأتي الدعوة إلى الخير لوقايته، وإعانته ودفع الأذى عنه.
الخامس: من الخير التفقه في الدين، وحفظ القرآن ومعرفة علومه وفعل المندوبات والمستحبات وهي كثيرة، فجاءت الدعوة إلى الخير للسعي في دروب الصلاح والمبادرة في الخيرات والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وهذا التفقه والإرتقاء مقدمة ومادة للأمربالمعروف والنهي عن المنكر.
قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ]
تتجلى آية إعجازية أخرى بصيغة العطف الواردة في هذه الآية ، فمع ان الدعوة إلى الخير من مصاديق المعروف، فان الآية جاءت بالأمر بالمعروف لتكون وظائف المسلمين متعددة ومركبة في هذا الباب، ومن مضامين هذا التعدد بيان وظائف المسلمين، وأهليتهم لإجتياز هذا الإختبار والإمتحان طلباً لمرضاة الله وسعياً لإصلاح المجتمعات كما انعم الله عليهم بصلاح نفوسهم وتوالي النعم الإلهية عليهم، وبين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الحسن الذاتي والعرضي لكل منهما.
الثاني: صدور الأمر الالهي للمسلمين بكل منهما.
الثالث: النفع العام والخاص المترشح عنهما.
الرابع: الأجر والثواب في كل فرد منهما
الخامس: مجيء الآية بلغة التبعيض في الأمر بهما مع شمول الخطاب للأمة كلها.
السادس: إجماع علماء المسلمين على وجوب كل منهما.
السابع: حاجة المسلمين والناس جميعاً لهما.
الثامن: كل من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف من سنن الأنبياء، ومنهج الصلحاء.
التاسع: كل فرد منهما خير محض.
العاشر: شمول كل منهما للواجب والمندوب، وتلك آية أخرى ، فمع مجـيء الآية بصـيغة الأمر الذي يدل على الوجـوب فان مصـاديق كل من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف تشمل أفراد الواجب والمستحب.
العاشر: إستعمال صيغ الرفق والألفة في الدعوة إلى المندوبات كي لا تنفر النفوس منها، خصوصاً وأنهاادنى رتبة من الواجبات.
الحادي عشر: ان يكون الداعي إلى الخير والأمر بالمعروف عالماً بمصاديقهما التي يقوم بالدعوة لهما، والحث عليهما وهذا العلم يحتمل في أوأنه وجوهاً:
الأول: تقدم العلم على الأمر والنهي بمدة مناسبة.
الثاني: كفاية إقتران العلم بالعمل.
الثالث: تخلف العلم عن زمان العمل
والصحيح هو الأول ويلحق به الثاني، ليكون الفعل تابعاً للعلم، والتفقه في الدين.
أما وجوه الإفتراق فهي:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق بين الدعوة والأمر ، فالأمر بالمعروف دعوة له، وليس الدعوة إلى الخير أمراً به على نحو الإستغراق والشمول، فقد تأتي الدعوة بصيغة الرجاء والتوسل والمناشدة، وتصدر من الأدنى إلى الأعلى، ومن الابن إلى أبيه، ومن العبد إلى سيده، وان كان الفارق في الرتبة لا يمنع من الأمر بالمعروف.
ومجيء التعدد في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتمل بلحاظ الجهة التي تقوم به وجوهاً:
الأول: ذات الأفراد والأمة الذين ذكرتهم الآية .
الثاني: إعتبار التبعيض وان أمة من المسلمين دون غيرها هي التي تقوم بوجوه الصلاح والدعوة إلى الخير.
الثالث: التبعيض والتجزئة في الفعل، فأمة تقوم بالدعوة إلى الخير، وأمة تأمربالمعروف، و أخرى تنهى عن المنكر، وهذا التقسيم يحتمل أقساما:
الأول: هذه الأقسام الثلاثة تمثل الأمة التي ذكرتها الآية الكريمة [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ].
الثاني: هي جزء من الأمة المذكورة في الآية .
الثالث: تستغرق هذه الأقسام الثلاثة المسلمين جميعاً.
والصحيح هو القسم الأخير من الوجه الثالث من غير ان يتعارض مع لغة التبعيض الواردة في الآية ، بل ان التعدد شاهد على عمومات الواجب الكفائي وشموله للمسلمين جميعاً ثم يتوجه التخصص إلى طائفة وأمة منهم كل بحسب شأنه ومناسبة الحال والمقال.
ولم تذكر الآية فعل المعروف بل جاءت بالأمر به فقط ويحتمل المقام وجوهاً:
الأول: قيام المسلمين جميعاً بفعل المعروف، وهو كل فعل حسن سـواء كان واجباً كالصلاة، أو مندوباً كالصدقة المستحبة، وإفشاء السلام.
الثاني: تحلي الأمة التي تأمربالمعروف بفعله والقيام به.
الثالث: الآية خاصة بالأمر بالمعروف، وموضوع الإمتثال له أو عدمه أمرأجنبي عن مضمونها.
الرابع: الأمة التي تدعو إلى الخير هي نفسها التي تأمربالمعروف.
الخامس: التعدد والتباين فأمة تدعو إلى الخير، وأمة تأمربالمعروف، و أخرى تنهى عن المنكر.
السادس: قيام المؤمنين على نحو الخصوص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار ان القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ…….]( ).
والصحيح هو الأول وتقدير الآية : انكم جميعاً تعملون الخير ومصاديق المعروف وتجتنبون المنكر، فلتكن منكم أمة تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر.
وجاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليرقى بالمسلمين إلى مراتب الإيمان ونيل ما فيه من الثواب.
وتحتمل النسبة بين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف وجوهاً:
الأول: التساوي، فكل منهما ذات الآخر في موضوعه وحكمه.
الثاني: العموم والخصوص المطلق وفيه شعبتان:
الأولى: الأمر بالمعروف أخص من الدعوة إلى الخير.
الثانية: العموم والخصوص المطلق وفيه شعبتان:
الأولى: الأمر بالمعروف أخص من الدعوة إلى الخير.
الثانية: الأمر بالمعروف أعم وأوسع من الدعوة إلى الخير.
الثالث: العموم والخصوص من وجه.
والصحيح هو الأخير من وجهين:
الأول: الدعوة أعم من الأمر ، وتشمل الأمر والتنبيه والإشارة والسعي وبذل الوسع، والأمر يأتي من الأعلى إلى الأدنى، ولا يشترط في المقام الإستعلاء، فيجوز ان يأتي الأمر بالمعروف من المساوي ومن الأدنى.
الثاني: الخير أعم من المعروف، اذ ان المعروف ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً، والخير سور جامع للصالحات وأعمال البر والفلاح، ومن الآيات ان يأتي الأمر ان في آية واحدة، ويتعلقان بذات الأمة في التكليف والعمل، فمرة يدعو المسلم إلى الخير، و أخرى يأمربالمعروف، وثالثة ينهى عن المنكر، بحسب الحال والشأن والموضوع، وورد عن حذيفة: يأتي على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحرام أحب اليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهى عن المنكر( ).
وفيه مسائل:
الأولى: الحديث بحاجة إلى اثبات صحة سنده.
الثانية: جاء بخصوص زمان لاحق، وعلى نحو الإنكار والنكرة في مقام الإثبات لا عموم لها.
الثالثة: يشمل المقام عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ] ( ).
الرابعة: يدل الحديث بالدلالة التضمنية على وجود المؤمن الذي يأمربالمعروف وان كراهة الناس لدعوته لم تمنعه من الدعوة، أي ان الإمتثال لأحكام الآية متصل ومستمر في أشق الأحوال.
الخامسة: ان الحب والكره أهم من الإنصات والإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يكره الإنسان سماع أمر ولكن عندما يرى حسنه الذاتي والعرضي، وما فيه من المنافع الدنيوية والأخروية فان المؤمن الداعية إلى الخير يصبح أحب اليه.
السادسة: التباين في احوال الناس والاعراف شاهد على حاجة الناس لمضامين هذه الآية الكريمة ودليل على ما فيها من الإعجاز
السابعة: لم يرفع الحديث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويحتمل الأمر في الآية وجوهاً:
الأول: قيام كل فرد من الأمة بالأمر بالمعروف على نحو مستقل.
الثاني: أحد المسلمين يأمربالمعروف، والآخر يؤيده ويعضده.
الثالث: فرد يقوم بالأمر والآخر يحث المأمور على الإستجابة، ويدخل هذا الحث في عمومات الأمر بالمعروف وما يترتب عليه من الثواب.
الرابع: قيام الأمة بالأمر على نحو العموم الإستغراقي فكل فرد منها يدعو ويأمر بالمعروف ويسعى للإصلاح.
الخامس: الأمر بالمعروف على نحو العموم المجموعي فالأمة تأمربالمعروف مجتمعة وليس متفرقة.
ويلتقي في وجوب الأمر بالمعروف العقل النظري والعملي، والأول هو ان المدرك مما ينبغي ان يعلم، والثاني هو ان المدرك مما ينبغي ان يفعل ويؤتى به.
وجاءت الآية بصيغة المضارع [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] في دلالة على تعاهد المسلمين للأمربالمعروف ومواظبتهم عليه وعدم إنقطاعه.
ان استمرار قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاهد على وراثتهم لسنن الأنبياء، وجهادهم في سبيل الله بالحكمة وكلمة الحق، وسعيهم لدعوة الناس للتوحيد والمحافظة على سنن النبوة، وفي الأمر بالمعروف حفظ وتعاهد لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع من طرو التحريف على القرآن، أو اجراء التبديل في تأويل آياته، فالمعروف ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً، ويكون مقتبساً من القرآن والسنة، وهذا الإقتباس سبيل للعنآية بأوامر ونواهي القرآن، وبرزخ دون تضييعها أو الغفلة عنها.
قانون الأمر بالمعروف اعتصام بحبل الله
جاءت الآية السابقة بالأمر بالتمسك بالقرآن والسنة على نحو العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين، وكذا العموم المجموعي بالإتحاد وعدم الإختلاف في الموضوع والاحكام والسنن والأغراض، وبما ينفع الإسلام والمسلمين.
وجاءت هذه الآية لتوكيد وتثبيت هذه الوحدة، وبيان قاعدة كلية فيها وهي خلو مبادئ الإسلام من الضرر والأضرار، لأن الأمر بالمعروف يدل في مفهومه على الصلاح والإصلاح ومنع إنتشار الشر والضلالة.
ومن أسرار القرآن ان تأتي الآية القرآنية عوناً للعمل بأحكام الآية ال أخرى ، وقد يكون التأثير متبادلاً، كما في هذه الآية والآية السابقة، فكل واحدة منهما عون على العمل بال أخرى ، فالأمر بالمعروف وأداء الفرائض وإتيان الصالحات مصداق من مصاديق الإعتصام بالقرآن والسنة من وجوه:
الأول: دعوة القرآن والسنة للأمربالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الإمتثال لأحكام آيات القرآن.
الثالث: إظهار المودة والرحمة بين المسلمين، وحرص كل منهم على قيام إخوأنه بأداء الواجبات وفعل المستحبات.
الرابع: الأمر بالمعروف فضيلة وشاهد على الإيمان والتقوى، والإعتصام بحبل الله من مصاديق الإيمان.
الخامس: يستلزم الأمر بالمعروف التفقه في الدين، ومتى ما تفقه المسلمون في أمور دينهم فأنهم يدركون ان الإعتصام بالله واللجوء إليه حاجة مطلقة لهم كأمة وأفراد في شؤون الدين والدنيا.
السادس: الأمر بالمعروف تجديد للإعتصام بالقرآن والسنة، من وجوه:
الأول: ذات الأمر ، فأنه عنوان للتمسك بمبادئ الإسلام.
الثاني: مصاديق المعروف بإعتبارها مقدمة وسبيلاً وشاهداً على الإعتصام بحبل الله.
الثالث: جذب المأمور بالمعروف إلى مضامين الإعتصام بالله، لأن المعروف خير محض وذو حسن شرعي وعقلي.
ويعتبر الأمر بالمعروف مدرسة عقائدية وأخلاقية، ووسيلة لإقأمة السنن الحسنة والعادات المحمودة، وهو الذي جاء به القرآن والسنة، ومتى ما فعل المسلم المعروف فأنه يبعث الغبطة والسرور في نفوس المسلمين والأمر بالمعروف وفعله سبيل لتجديد مفاهيم التمسك بالقرآن والسنة, ويستلزم الأمر بالمعروف الوحدة والإتحاد ونبذ الفرقة والنفرة بين المسلمين.
لذا جاءت الآية السابقة بالإخبار عن صيرورة المسلمين إخوة متحدين ليتعاونوا على البر والتقوى، ومن وجوهه قيام بعضهم بأمر بعضهم الآخر بالمعروف وإتحادهم عند القيام بأمرغير المسلم بالخير والصلاح ونشر مفاهيم السلام والأمن، والتدبر في الخلق وبعثة الأنبياء، ودلالات إعجاز القرآن، وإستنباط الدروس والعبر من وحدة المسلمين وتمسكهم بالقرآن والسنة.
ان مواضيع ومصاديق المعروف مقتبسة من القرآن والسنة،والأمر بها والدعوة إلى إتيانها والتحلي بها من أصدق مفاهيم الإعتصام بحبل الله، كما ان الإمتثال للأمربها عنوان للإرتقاء في منازل الإيمان، وشاهد على تعاهد المسلمين للعمل بأحكام القرآن وما انزل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون الأمر بالمعروف تعاهد لوراثة الأرض
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان فخلقه وجعله خليفة في الأرض وأمره بعبادته، وتفضل سبحأنه وأخبر الناس بان العبادة هي غاية خلق الإنسان مما يستلزم سعي الإنسان في علة وجوده على الأرض، وحفظه لبقاء جنسه بالتقرب إلى الله بالطاعة، وأنعم عليه مرة أخرى وبين صيغ العبادة على نحو التفصيل فلم يجعلها مجملة أو على نحو القضية المهملة، بل جاء الإسلام بفرائض مخصوصة وكذا بالنسبة لبعثة الأنبياء السابقين، كما في فرض الصلاة والصيام وأداء الحج للبيت الحرام على نحو التعيين من أيام أبينا آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة، فليس في الحج مثلاً نسخ أو تغيير في مناسكه.
وجاءت هذه الآية لتثبت وراثة المسلمين للأرض بالأداء الأمثل للواجبات والحرص النوعي العام على المستحبات، والتفاني المحض في مرضاة الله تعالى واذ جعل الله عز وجل العبادة علة خلق الإنسان فأنه تفضل على المسلمين، وأمرهم بالأمر بالمعروف ليكون دعوة إلى الله بالواسطة، سواء كان الأمر بالواجب أو المستحب.
ويستلزم الأمر بالمعروف القوة والمنعة والعز ليستطيع الأمر بالمعروف دعوة الآخرين، وزحزحة الإنسان عن منازل الردى وجذب الذي إعتاد على الذنوب إلى الصراط المستقيم.
لذا فان الآية تدل بالدلالة الإلتزامية على البشارة الإلهية بجعل المســلمين في منعة وعـز وقادرين على الدعوة إلى سبل الحق، وتقوم بهذه الدعوة فرقة منهم كي تكون الفـرقة أو الفرق الأخرى ظهيراً ورديفاً لهم، ومستعدة لتجديد الأمر بالمعروف والدعوة إلى الهدى والرشاد.
لقد أراد الله عز وجل للناس ان يرثوا الأرض، فحمل أعباء هذه المسؤولية المسلمون، فبادروا إلى تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهدوا القرآن ومنعوا وصول يد التحريف اليه، وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم لتثبيت دعائم الدين، وسنن التوحيد، وتولوا حفظ أمانة السماء في الأرض، ونالوا مرتبة وراثة الأرض، ومن خصائص هذه المرتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون الأمر بالمعروف تعاهداً لمقامات الوراثة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من تركة وعهد الأنبياء، وفيه إرتقاء في مراتب المعراج، ودرجات التقوى والصلاح، وهما من أفراد وصية الأنبياء، وفي لقمان ورد في التنزيل [أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأمربِالْمَعْرُوفِ وَأنه عَنْ الْمُنكَرِ]( )، فجاء الأمر بالمعروف بعرض واحد مع إقأمة الصلاة وثمرة من ثمارها، ولزوم الدعوة إلى الله، والزجر عن الفواحش، ليكون كلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة لتعاهد الصلاة وهذا لا يستلزم الدور، فلا إقأمة الصلاة تتوقف على الأمر بالمعروف ولا الأمر بالمعروف يتوقف عليها، فهما يسيران متوازيين في تثبيت الإيمان في النفوس، وكل منهما عنوان التمسك بحبل الله، وشاهد على محافظة المسلم على الأخوة في ميادين العبادة والصلاح.
قانون الأمر بالمعروف إصطفاء
جاءت هذه الآيات بنعم متتالية، ومن هذه النعم ما جاء فضلاً وإبتداء من عند الله، كنعمة التآلف بين قلوب المسلمين ونعمة الأخوة فيما بينهم، والنجاة من الإشراف على النار والتي تتضمن في دلالاتها صفاء القلوب، وإقبالها على فعل المعروف والدعوة اليه،وعشق فعل الصالحات،وجعل الآخرين يفوزون بنعمة النجاة من الهلكة، والتلذذ بإشراقات بشارة التنحي عن الهاوية، والتخلص من الشعور في الدنيا بلهيب النار الحامية.
وليس من عمل ينفع الناس في النشأتين مثل الأمر بالمعروف وتحمل الأنبياء في الإجتهاد في دروبه أشد أنواع الأذى، وقاسوا الويلات من الملإ من قومهم.
ومن الأنبياء من كان أجله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنعم الله عز وجل على الناس بنعمة عظيمة وهي ان الذين يدعون إلى المعروف أمة وليس أفراداً وجماعة، أمة منتشرة في جميع ربوع الأرض وهذه الأمة جزء من أمة أكبر وأوسع وأكثر انتشاراً.
ومن الآيات أنه ليس من تحديد للأمة التي تأمربالمعروف فلا يمكن محاربتها وأفرادها والتوجه اليها لإسكاتها من بين المسلمين، أو اقناعها بالكف عن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، فالمسلمون جميعاً مأمورون بالأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، وهذا من أسرار شمول المسلمين بالخطاب في الآية وعدم حصره بطائفة منهم أو بأرباب العلم أو أهل الحل والعقد خاصة، كما لا يمكن إغراء الدعاة بالمال ونحوه لترك هذا الواجب، لأنه وظيفة المسلمين جميعاً، وجاء على نحو الأمر الإلهي الذي لا يقبل اللبس أو الترديد.
وتفضل الله سبحأنه وأعان المسلمين على الإمتثال له والتقيد بأحكامه وسننه، فبعد دعوة الأنبياء على نحو القضية الشخصية هم وأصحابهم إلى المعروف، انعم الله على أهل الأرض بالإسلام والمسلمين، وجعلهم أمة تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر، وهو إصطفاء عام وفيه نعمة عليهم وعلى الناس جميعاً.
لقد انعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بأن إختارهم وذراريهم لنشر لواء الصلاح بصيغ الحكمة والموعظة مقروناً بحسن الإمتثال، ليكون دعوة إضافية للناس للإقتداء بالمسلمين،وإجتناب فعل السيئات والفواحش.
والأمر بالمعروف تشريف للمسلمين، ولطف إلهي بهم، وبيان لموضوعية الإسلام في تثبيت كلمة التوحيد في الأرض، ولا يكاد المعنى العرفي للأمربالمعروف والنهي عن المنكر يختلف عن المعنى الشرعي والإصطلاحي له، فالمدار فيه على حكم الشريعة وعليه العرف أيضاً، وهذه التبعية ضرورة يجب ان يتعاهدها المتشرعة كي يأتي الإمتثال الواقعي للأمرالإلهي في هذه الآية مطابقاً للحكم الشرعي.
ولأن تعاهد واستدأمة هذه التبعية برزخ دون الإجتهاد في مقابل النص، ومانع من تحريف تأويل وتفسير مضامين الآيات ودلالاتها العملية، فالآية حصانة وتثبيت لمعاني المعروف وإبقاء لحال التضاد بينه وبين مصاديق المنكر وعدم حصول تداخل أو خلط بينهما إلى يوم القيامة.
وقد وردت آيات عديدة في الترغيب بالمعروف والزجر عن المنكر وجاءت السنة النبوية الشريفة في بيان المعروف والحث عليه وتعيين موارده، وجعل المسلم قادراً على التمييز بين الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر.
وفي تفسير قوله تعالى [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا] ( )، ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام أنه جلس رجل من المسلمين يبكي وقال: أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك ان تأمرهم بما تأمربه نفسك، وتنهأهم عما تنهى عنه نفسك( ).
قانون الأمر بالمعروف جهاد
الجهاد من أفضل الأعمال بعد الفرائض، وهو من أركان الإسلام وفيه آيات عديدة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للجنة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فاذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم، والجمع في الموقف، والملائكة ترحب بهم( ).
والقدر المتيقن من الحديث هو الجهاد بالسيف والدفاع عن الإسلام في سوح المعارك، أما الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي أمور أعم وتأتي بالموعظة والحكمة وإرشاد الناس إلى سبل الخير والصلاح، وترقى إلى مرتبة الجهاد القولي وبذل الجهد البدني والإنفاق المالي في سبيل الله.
ومن الآيات في الدعوة الإسلامية وفي الحث على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجود منافع كثيرة ومتشعبة منها:
الأول: عدم الحاجة إلى الجهاد في موارد عديدة.
الثاني: تحقيق ذات الغايات التي يؤدي اليها الجهاد.
الثالث: فيهما حقن للدماء.
الرابع: موضوع الدعوة والأمر بالمعروف أعم فيشمل المسلمين فيما بينهم، وهو من خصائص نعمة الأخوة التي جعلها الله عز وجل بينهم، وموضوعها أعم وأوسع.
الخامس: يحتاج الجهاد إلى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإتمامه، وتحقيق الأغراض الحميدة منه كاملة.
السادس: توفير الأموال والعناء والجهود التي تبذل في الجهاد.
السابع: سعة وكثرة ميادين الأمر بالمعروف، فأنه يؤدى في البيت وميادين العمل والأسواق والمساجد ومحل تجمع الناس.
الثامن: توظيف وسائل الإعلام للأمربالمعروف ونشر الفضيلة والأخلاق الحميدة، فلا يستلزم الأمر القتال والتقاء الصفين، بل ان الأمر بالمعروف باب لنيل الثواب العظيم في الحياة اليومية وبين الأهل والأحبة ومع الأخوة، فكأن الأمر بالمعروف جهاد دفاعي ضد الفجور والفسوق والضلالة، والعقل يدرك لزوم تحصين النفس والمال والعرض، وقطع علة الفساد والإفساد.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب لنزول البركة، وسبب لتوثيق أواصر الصلة الأخوية بين المسلمين، وتعاهد لشعائر الله، وورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فاذا لم يفعلوا ذلك زالت عنهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء”( ).
لقد فتح الله عز وجل للمسلمين باباً للجهاد ومن غير ان يشهروا فيه سيفاً أو يلتقوا في ميادين المعركة مع الأعداء، فيسعى المسلم لإصلاح حال غيره فيأتيه الثواب، كما أن مواضيع وأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،من مصاديق التفقه في الدين، وسبب لنيل الحسنات فيحث المسلم إخوأنه على أداء الصلاة في وقتها فينال الأجر، ويرغب الشاب في طاعة الوالدين فيكتنز الصالحات باعتبار ان العناية بهما من موارد الجهاد، والنظر اليهما من مصاديق العبادة، والجهاد بالسيف باب من ابواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرد من افرادهما، اذ يجتمع فيه الأمران معاً وحمل المسلمون السيف جهاداً في سبيل الله، وهو من اسمى مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وجعل الله عز وجل خدمة وبر الوالدين واللطف بهما بديلاً للجهاد، وسبباً لنيل أجر وثواب الجهاد عندما لا يكون واجبا عينيا، وفي روآية جابر جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “أجاهد معك، فقال: لك أبوان قال: نعم، قال ففيهما جاهد”( ).
والأمر بالمعروف برزخ دون ترك الواجب، ومانع من حصول ما يتأذى منه المسلمون، ويكون للوالدين المسلمين منع الولد عن الجهاد ما لم يجب عليه الجهاد عيناً، أما الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف ففيهما سعة ومندوحة ويمكن الدعوة والبيان بصيغ مناسبة بحيث لا يتأذى الوالدان منها، وعن الإمام علي عليه السلام قال: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مما يدل على صدق إنطباق عناوين الجهاد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قانون الأمر بالمعروف إمامة
جاءت هذه الآية القرآنية لتبين للمسلمين مناهج العمل وفق مرضاة الله تعإلى، وتخبر بان الإمتحان والإختبار في الدنيا ليس على نحو القضية الشخصية وجهاد النفس فحسب، بل هي سعي بين الناس في أعمال البر والصلاح، واظهار الأخلاق الحميدة، وجعل الناس يدركون حسنها الذاتي، ويعملون بمضامينها.
ومن خصائص الحياة الدنيا وجود معاني الخير والشر فيها، فيكون الإنسان في صراع ذاتي لإختيار طريق الخير والغلبة على النفس الشهوية وإغواء الشيطان، فيكون الأمر بالمعروف مدداً خارجياً سخره الله عز وجل له، لينطلق صادحا من أفواه الآخرين ولا يتركه ونفسه وما يبرز عندها من أسباب الطمع والشره، يأتي الأمر بالمعروف ليأخذ بيده للإرتقاء في سلم المعارف، ويقوده لما فيه منفعته، ويجعله يشعر بأنه كإنسان حامل لرسالة عقائدية، وما جاء إلى الحياة الدنيا إلا ليقوم بأدائها وتتجلى في الإمتثال لأوأمر الله تعالى وإتيان الفرائض والواجبات وإجتناب المعاصي والسيئات.
ومن الآيات ان الذين يأمرون بالمعروف ليسوا معينين أو لهم صفات خاصة بحيث يعلم المكلف ان هذا الشخص قد يأمره بالمعروف لأنه من إختصاصه، أو لا يأمره لأنه ليس من إختصاصه، فكل مسلم مكلف ومؤهل للأمر بالمعروف، وهو واجب منبسط على جميع المسلمين وان كان كفائياً، لذا فحينما يأتي الأمر بالمعروف من الأجنبي أو المساوي أو الأدنى لا تحصل نفرة من الطرف الآخر.
ولو كان هناك حصر في الأمر بالمعروف لتعطل شطر منه، سواء كان الحصر في الموضوع على نحو الإطلاق ، أو تقسيم الإختصاصات حسب أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا التعطيل يضر بالأفراد والأمة وعلى نحو عاجل وآجل، لذا جاء الخطاب التكليفي للمسلمين بوجوب الأمر بالمعروف والنهوض بمسؤولياته، أما كونه واجباً كفائياً فهو على نحو القضية الشخصية وليس مطلقاً، فاذا كانت هناك حاجة للأمربدعوة انسان إلى ان يبر والديه فان الجميع ملزمون بدعوته وأمره بالمعروف ولكن ان جاء شخص منهم بالأمر سقط عن الباقين، وفيه وجوه:
الأول: سقوط الأمر عن الجميع عند قيام أحدهم به.
الثاني: لا يسقط الواجب إلا عند التبليغ بطريقة مناسبة من الرفق والتفقه ونحوهما.
الثالث: يبقى الواجب لحين إمتثال المأمور بالفعل وإنصياعه للأمروإلا فان الخطاب التكليفي يتوجه مرة أخرى إلى الأمة للقيام به.
الرابع: حصول الأثر الخارجي والعبرة والنفع،
والصحيح هو الأخير، فسواء كان الأمر بالمعروف واجباً كما في الواجبات، أو مستحباً كما في المستحبات فلا تسقط بمجرد قيام فرد أو جماعة به، بل لابد من ظهور التأثير عند المدعو وإتعاظه لأنه أخص من الإرشاد وبيان الاحكام وإقأمة الحجة إلا اذا ترتب الأثر وحصل النفع منها، نعم لو لم يحصل تحسن وإستجابة بتجدد الأمر يسقط التكليف، وكذا عندما يتحقق المقصود بوسائل وإسباب أخرى ، أو ان الموضوع يصبح منتفياً لإنتفاء موضوعه أو زوال أسبابه.
فالأمر بالمعروف إمأمة شخصية، وريادة في سبل الهدى، وسعي للأخذ بيد الآخرين إلى سبل الأمن والسلأمة في النشأتين، لذا فان مضامين الآية والأمر بتصدي أمة من المسلمين للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، دعوة لهم للإمأمة والعز وتنمية ملكة التقوى في النفس، فمن يواظب على دعوة الآخرين للمعروف يحرص على إصلاح حاله ويكون بقوله وفعله دعوة لفعل المعروف، ووسيلة للترغيب بالصالحات فيأتي الأمر بالمعروف من الداني إلى العالي، اذ لا يعتبر فيه العلو، وصدور الأمر من العالي، إلا ان يكون التصدي للأمروالنهي علوا إعتباريا،أو تكون موضوعية للعلو فيه.
فمن الآيات في هذا الباب ان تحلي الداني بخصال المعروف هو علو في موضوعه، ودليل على علو همته، وتفقهه في الدين، مما يكون له أبلغ الأثر عند العالي خصوصاً مع لحاظ الأولوية، أي أنه يقول اذا كان الأدنى مني يتقن صيغ المعروف ويتقيد بها ويأمرني بها ويحثني عليها، فمن باب أولى ان أبادر للإمتثال وإصلاح الذات وأحافظ على ما لي من المرتبة والرفعة بالتقيد باحكام الحلال والحرام والحرص على الواجبات والمستحبات.
لقد فتح الله عز وجل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخاصة أوليائه، وهيء لهم أسباب التوفيق والفلاح، ولا ينحصر الذي يؤمر بالمعروف بالمكلف، بل يشمل الصبيان والمجانين، فلابد من إرشادهم ونصحهم، لذا ورد إستحباب تمرين الصبيان في السابعة على الصلاة والصيام ولو لشطر من النهار.
علم المناسبة
تكرر لفظ “المعروف” في سورة البقرة أربع عشرة مرة وكلها في أحكام المعاملات والإحسان إلى الزوجة والمطلقة وذوي القربى، أما في سورة آل عمران فقد جاء ثلاث مرات وكلها في الأمر بالمعروف مع ملازمة النهي عن المنكر له في آيات متقاربات (114,110,104) وجاء مرتين في سورة التوبة 112،71، كما جاء في سورة الحج بصيغة الماضي [وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وورد لفظ المعروف بصيغة النصب (معروفاً) ست مرات في القول بالمعروف والإصلاح، وجاءت الآية محل البحث بالتبعيض في موارد التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن جاءت آية أخرى بالإطلاق مع المدح والثناء على المسلمين بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
ولا تعارض بين الآيتين، والجمع بينهما على وجوه:
الأول: دوران التبعيض في التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الحال والشأن والمقام.
الثاني: الإخبار عن كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبين كفائيين.
الثالث: عودة ثواب فعل الفرد والجماعة من المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى المسلمين جميعاً.
الرابع: في الآية محل البحث جاءت إضافة الدعوة إلى الخير، أما في الآية الرابعة عشرة بعد المائة فجاء التوكيد على الإيمان بالله عز وجل مما يدل على عموم الدعوة إلى الخير وشمولها للتحلي بالتقوى والصلاح، وان التقيد بأداء الفرائض دعوة إلى الهدى، فكلما رأى الناس المسلمين مواظبين على عباداتهم، حريصين على أداء المناسك فأنهم يميلون لهم، وينجذبون إلى الإسلام.
لذا جاء الأمر بالمعروف على لسان لقمان في وصيته لإبنه [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأمربِالْمَعْرُوفِ وَأنه عَنْ الْمُنكَرِ] ( )، ليقترن الأمر بالمعروف بأداء فريضة الصلاة في بيان لأهميته وكأنه تعاهد للفرائض والمحافظة على أدائها، وتؤكد هذه الملازمة عدم إنحصار الواجب بالتكليف الذاتي بل لابد من التوجه إلى الآخرين وتقريبهم من سبل الطاعة وإعانتهم على أداء واجباتهم وأخذهم باللين والرفق وغيرها لإتيان الواجبات والمستحبات.
وتظهر الآيات ان الصلاة غير الأمر بالمعروف، وهي أرقى مرتبة وأعلى درجة لأنها عمود الدين، وفريضة يومية ثابتة، ويتجلى هذا التباين بورود الأمر بالصلاة والأمر بالمعروف معا والعطف بينهما بحرف العطف الوأو الذي يدل على التغاير والتعدد، نعم هو من عطف العام على الخاص.
والأمر بالمعروف يتقوم بثلاثة اطراف الأمر والمأمور والفعل المعروف، أما إقأمة الصلاة فهي فعل ذاتي يؤديه العبد بينه وبين ربه، والقيام بحث الآخرين على أداء الصلاة من الأمر بالمعروف، فيؤدي المسلم الصلاة وهي فعل عبادي ليس أمراً للغير بالمعروف وان كانت في ذاتها وماهيتها معروفاً محضاً.
ومن الآيات ان الأمر بالمعروف يعني في دلالته الإلتزامية التقيد بفعله قبل الأمر به، لذا فان الدعوة إلى الصلاة تدعو العبد إلى المبادرة اليها، وإظهار التقيد بأحكامها، ومن الإعجاز التشريعي في المقام سن صلاة الجماعة وما فيها من الأمر بالمعروف على نحو المصداق العملي، والمثال الكريم والدعوة إلى فعل الخيرات.
بحث أخلاقي
الخلق سجية ثابتة، وملكة راسخة تترشح عنها الأفعال من غير تفكر وترديد وإشتقاق الخُلق من الخَلق والإبداع في إشارة إلى أنه من الإختيار والإنشاء وقابل للتبديل والتغيير، بإتجاه الحسن أو القبح، لذا جاء الأمر بالمعروف للأخذ بأيدي الناس إلى سبل الصلاح والهداية، وتحسين الخلق النوعي العام للمسلمين والناس جميعاً.
وفيه شاهد على ان القرآن مدرسة الأخلاق العامة، ورسالة السماء التي جاءت لإصلاح السجايا والصور النفسية، وموجبات السلوك وإشاعة الأخلاق الحميدة والعادات الحسنة، ونبذ الأخلاق المذمومة والعادات القبيحة.
ويمكن الإستدلال بالبرهان الإني أي بالمعلول على العلة، وإتخاذ المعلول بعد معرفته سبيلاً لمعرفة العلة، وبعدم المعلول على عدم العلة، والإستدلال على حسن خلق المسلمين وان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت لتهذيب الأخلاق، وان نفوس المسلمين منزهة عن الشك والريب.
والأمر بالمعروف دلالة على حسن الطبع، وعدم التكلف،وورد في القرآن بيان لموضوعية الصلاة ,كما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( )، وكذا الأمر بالمعروف فأنه حرز ذاتي من المنكر والفحشاء، فمن يدعو إلى الخير ويأمربالمعروف يحرص على التقيد به، والظهور بمظهر المبادر إلى ما يدعو اليه، ويجتنب ضده الوجودي والعدمي، وهو من جهاد النفس، ومصارعة الهوى.
ومن خصائص الأمر بالمعروف ان صاحبه ممدوح، يرجع إليه الناس في النصيحة والإستشارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لتعاهد انماط السلوك، وحفظ السنن السماوية والقواعد الشرعية، والأخلاق الفاضلة، وبرزخ دون تبدل العرف والعادات الإجتماعية، فلا غرابة ان يكون الأمر بالمعروف واجباً لأنه ملاك الأخلاق الحميدة، وتنمية لفضيلة العفة، وله موضوعية مستديمة وظاهرة في أعمال الجوارح والأركان،وإعتبار في الثواب والعقاب، وكبح جماح القوة الشهوانية والبهيمية، ويدل الأمر بالمعروف على غنى النفس واليأس مما في أيدي الناس لإنتفاء المهادنة والرياء فيه.
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أمربالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في ارضه وخليفة كتابه ورسوله)( ).
وورد عن سفيان الثوري: اذا كان الرجل محبباً في جيرأنه، محموداً في أخوأنه فاعلم أنه مداهن( ).
وظاهر كلامه ان المراد من لفظ جيرأنه وإخــوأنه هم المسـلمون أو هم الأغلب والأكثر، لذا فإن قوله هذا ليس قاعدة كلية، بل العكس بخلافه.
فالأمر بالمعروف يكون محبوباً عند الناس، لإدراك هم سعيه للصلاح، وبذله الوسع لسلامتهم في النشأتين، وانقاذهم من طرف الحفرة من النار، ويكون محموداً في قوله وفعله، وينال الذكر الحسن بين الناس في حضوره وغيبته، وفي حياته وبعد مماته، فيستغفر له كل من سمع منه أو رأى فعله، أو إنتفع من نصيحته وأمره بالمعروف وكذا من ندم على تضييع ما أمربه، كما لو أمرصديقاً له بفعل حسن وإنفاق في سبيل الله، فلم يأخذ بقوله، فيندم لأنه لم يستمع لنداء المعروف، وفوت على نفسه مناسبة للثواب إلى ان ضاع المال من يده.
فمن الآيات ان الأمر بالمعروف ليس فيه خسارة على الأمر أو المأمور، كما ان التخلف عنه يورث الندم، والأمر بالمعروف رسالة يبعثها الإنسان لغيره وتتضمن التنزه عن العدوان والبغي.
قانون العموم في الأمر بالمعروف
جاءت الآية بتصدي أمة من المسلمين للأمربالمعروف، من غير ان تذكر موضع المعروف وفيه وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف لمن يطلبه، ويقصد المسلم للأخذ والتعلم منه، والتزود بأحكام الحلال والحرام، ومعرفة الواجبات والمستحبات فمن لم يأتِ للسؤال لا يوجه له الخطاب بفعل المعروف.
الثاني: الذي يتوقع منه الإستجابة والإمتثال، بلحاظ سمته وحسن إنصاته.
الثالث: الذي يفعل المعروف ولكن على نحو الموجبة الجزئية، فيؤمر بالأتم والأكمل، كما لو كان يدفع الصدقة المستحبة، فيؤمر بما هو أهم وهو الصدقة الواجبة، أو أنه يؤدي الصلاة ولكن بعد فوات وقت الفضيلة، فيدعى إلى اتيأنهافي أول وقتها.
الرابع: ذوو القربى والأرحام لأنهم أولى بالمعروف، وأقرب في المسؤولية الشرعية.
الخامس: عيال المرء، وأهل بيته لما في قوله تعالى [وَأمرأَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا]( ).
السادس: التظاهر بالمنكرات، ومن يرتكب المعاصي، فيؤمر بالمعروف والصلاح والإصلاح.
السابع: العدو وصاحب الخصومة والمنغمس في الفتنة، فيأتي أمره بالمعروف لنبذ العداوة وترك الفتنة، والعودة إلى الصراط وصيغ الأخوة والمحبة.
الثامن: العموم في الأمر بالمعروف وشموله للناس جميعاً من غير إستثناء، والقريب والبعيد.
والصحيح هو الأخير، فليس من قيد أو شرط في الذي يؤمر بالمعروف بل ان الناس جميعاً مقصودون بالخطاب، وهو شاهد على عالمية الرسالة الإسلامية وان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.وهو شاهد على أن الإسلام جاء بالعولمة الخالية من الشر والمنزهة من القبح الذاتي والغيري.
ويدل الإطلاق في المقام بالدلالة التضمنية على دعوة الناس جميعاً للإسلام، فقد يكون المعروف حكماً شرعياً أو مقدمة لحكم شرعي، أو برزخا دون إشاعة السيئات وإستدأمة ظهور الفواحش في الأرض، وقد يكون الأمر بالمعروف مأمورا به في آن واحد من غير تعارض بين الأمرين، لأن من شرائط التعارض وحدة الموضوع، ولكن قد يأمرالمسلم في واجب فيحثه ذات المأمور على إتيان مستحب، وهو من الإعجاز في لغة التبعيض في الآية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ].
فالمسلم يكون مرة آمراً بالمعروف و أخرى مأموراً به في آية لتعاهد وراثة المسلمين لمبادئ التوحيد وسنن الأنبياء، وتقيدهم بأحكام هذه الآية وهي شاهد على ان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وجعل الله الحياة الدنيا دار عبرة وتدبر ومزرعة للآخرة تسودها المناجاة بالحسنى وفعل الخيرات وإصطناع المعروف مع أهله وغير أهله لأن الملاك هو الإمتثال للأمرالإلهي في إشاعة الإحسان ونشر مبادئ الإسلام وإماتة المنكر والعادات الذميمة.

مسائل فقهية
الأولى: الأمر بالمعروف واجب وعليه الكتاب والسنة وإجماع علماء المسلمين ، ومن الكتاب هذه الآية وآيات أخرى ورد شطر منها في باب علم المناسبة، ومن السنة نصوص عديدة تقدم ذكر بعضها.
الثانية: يشمل المعروف الواجب والمندوب، فيجب الأمر بالواجب ويستحب في المندوب لرجحأنه شرعاً وعقلاً، كما يشمل مقدمات الواجب ومقدمات المستحب، مما يدل على سعة موارد ومواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذا تفضل الله سبحأنه وأمر بتصدي أمة من المسلمين له.
وقد يحتاج تحقيق فرد واحد من المعروف جهودَ وسعي جماعة متعددة من المسلمين، وبذل الأموال والإنفاق في سبيل الله، كما لو كانت الموعظة من شخص والإنفاق من آخرين.
الثالثة: الحرص على صيغ الرفق ووسائل اللطف في الأمر بالمندوبات والمستحبات حتى لا يؤدي إلى الإنزجار عنها، أو حصول الجدال والعناد، وفيه توكيد على السعة في الشريعة الإسلامية.
الرابعة: يشترط بالأمر بالمعروف ان يكون عالماً بموضوعه وحكمه وأنه معروف وفيه خير الدنيا والاخرة، وليس من مسلم إلا ويعلم مقدارا ووجوهاً من المعروف، فيأمربها مع القدرة، وعن الإمام الصادق عليه السلام: انما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً ).
وعلى المسلم ان يتعلم موارد المعروف ووجوه المنكر والتمييز بينهما والتفقه في الدين كي يتمكن من أداء هذا الواجب قدر الإمكان والإستطاعة، وهناك موارد من المعروف يدركها كل مسلم ومسلمة تمكنه من الفوز بنيل اسم أمربالمعروف، وكلما أزداد تفقه المسلم في الدين إستطاع بذل الوسع في هذا الباب، ومن الأمر بالمعروف تنبيه وزجر الذي يأمربالخطأ ويظنه معروفاً، ويجب ان يبتدأ هذا التنبيه باللطف ولغة الإشارة والتعريض والتلميح ان كانت كافية.
الخامسة: احتمال التأثير فلو اطمأن بعدم التأثير لا يجب،نعم لو ترتبت عليه مصلحة أخرى ملزمة يجب من تلك الجهة ولا اشكال في الجواز، بل الرجحان حتى مع الإطمئنان بعدم الأثر ان لم تترتب عليه مصلحة ظاهراً، فالأثر على مراتب منها ما ليس بظاهر أو فوري، ثم ان الثواب يتحقق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان انعدم الأثر، ولكنه حينئذ اعم من الوجوب وهو للإستحباب اقرب.
السادسة: قيل من شرائط الأمر بالمعروف ان لا يكون التارك للواجب مصراً، ولكن الإصرار على مراتب تشكيكية متفاوتة، ثم ان المدارعلى علة الإصرار، فلو أمكن البيان وأزالة سبب الإصرار أصبح من السهل دعوته إلى المعروف وإنقياده للأمربه، لذا يحتاج الأمر بالمعروف إلى علم باحوال الناس والسعي لإزالة أسباب العناد والإصرار.
السابعة: الأمر بالمعروف إصلاح ونفع للمأمور، ويجب ان لا تكون فيه مضرة على الأمر في نفسه وعرضه وعياله أو على احد المسلمين في الحال أو فيما بعد، ويكفي في الضرر المانع الإحتمال المعتد به عند العقلاء وظهور أماراته وبلحاظ التجربة ومعرفة أحوال وأمزجة الناس والأعراف السائدة.
الثامنة: ان لا يكون التارك للمعروف معذوراً، ويعمل بأحكام الضرورة، ولو كان الترك نتيجة الشبهة الموضوعية أو الحكمية فلابد من البيان والإيضاح، ومن الشبهة الموضوعية لو ظن ان الأناء الذي عنده فيه خل، وانما هو في الحقيقة خمر، أما الحكمية فكما لو ظن بحلية ذبيحة لم تجتمع فيها شرائط التذكية ويدخل البيان هنا بالأمر بالمعروف باعتبار أنه رفع للبس وطرد للجهالة.
التاسعة: لو شك في موضوع هل يجب فيه ان يقوم بالأمر بالمعروف فلا يجب لأصالة البراءة عند الشك، ولإحتمال حصول أذى فيه للمسلم، والشك الشخصي لا يسقط الأمر بالمعروف في ذات الموضوع عن الغير اذا ثبت ان المورد من الأمر بالمعروف وهو من خصائص ومنافع تصدي الأمة للأمر بالمعروف،
فان شك أحدهم،وتبين لغيره حكم الموضوع فهل يستلزم الأمر بالمعروف أو لا، وهل يستحب للأول الذي شك في الأمر السؤال والإستبانة من الغير لمعرفة حقيقة الأمر ، الجواب نعم، وفيه الأجر والثواب، وهو باب للتفقه في الدين ولكن يجب ان يكون السؤال والجواب خاليين من ايذاء المسلم أو الإضرار به وبسمعته لقبح الإيذاء والظلم، ولأن الأمر بالمعروف إصلاح محض خال من الأذى والضرر.
العاشرة: من أفضل وجوه الأمر بالمعروف لبس رداء المعروف والتقيد بأحكامه في السر والعلانية والتحلي بالأخلاق الكريمة ومعاني الفضيلة، وإجتناب الأخلاق الذميمة والظهور بما يخالف أحكام الشريعة.
وفعل المعروف مقدمة لإنصات الناس لصاحبه في نصحه وإرشاده وسعيه في الخيرات ويتأكد الأمر بالنسبة للعلماء، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: صنفان من أمتي اذا صلحا صلحت أمتي، واذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الفقهاء والأمر اء( ).
الحادية عشرة: يجب إظهار الرضا والقبول من فاعل المعروف فالآية جاءت بخصوص الأمر ين بالمعروف إلا أنهاتدل على الإشارة إلى المتقيدين بأحكامه بذات الأمر باعتبار ان الأمر يصدر عن تقوى وتقيد بالاحكام والسنن الإسلامية، فلابد من الترغيب بالمعروف عند الدعوة، وبعد الإستجابة والإمتثال باظهار الرضا والقبول، وترك التذكير بإرتكاب المعصية بما يكون فيه تعييراً وتبكيتاً.
الثانية عشرة: يستحب المعروف مع كل أحد، ويتأكد بالنسبة إلى أهله نعم قد يكــره اذا كان مع من لا يســتحقه أو يكــون باباً لتلقي الأذى أو سبباً للتمادي في المعصية، ويحرم اذا كان مقدمة للحرام، والمعروف هنا أعم من الأمر بالمعروف فأنه يشمل الإحسان والشفقة ومد يد العون.
الثالثة عشرة: يجب أمرالأهل والأولاد بالمعروف ومتابعة شؤونهم بما يصلح حالهم وينمي ملكة التقوى عندهم، ويجعل المواظبة على الفرائض عندهم سجية ثابتة، وهل يجب أمرهم بأن يكونوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، الجواب نعم، وعمومات الآية الكريمة تشملهم كل بحسب حاله فيكون الأمر لهم توكيداً لمضامين الآية ، وتأديباً وإصلاحا للمسؤوليات العقائدية، ان أمرالأهل بالمعروف ذو أولوية للمسلم، وهو جزء من وظيفته الشرعية قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
وأمرالأهل بالمعروف مناسبة للتوجه إلى غيرهم الأقرب فالأقرب، فاذا رأى المسلم أهله يرتكبون المعاصي فقد يفتر في دعوة الآخرين، وقد يكون أثر دعوته عندهم ضعيفاً لما يرونه من تقصير في داخل بيته ولكن هذا ليس علة تأمة للإمتناع عن الأمر بالمعروف لإطلاق الآية ، وعدم تقييد الدعوة بصلاح وتقيد الأهل بذات الأمر من المعروف، بل تكون الدعوة خارج البيت حجة على أهل بيت الشخص وعياله، ثم ان المسألة تتعلق بالأمر بالمعروف، وهو غير الإستجابة والإمتثال، فيكفي للمسلم ان يأمرأهله به، نعم ما تتهيئ من الفرص له في دعوة أهله أكثر من غيرها.
الرابعة عشرة: على المرء ان لا يستجيب لدعوة إلى معصية، وعن عبد الله عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فاذا أمربمعصية فلا سمع ولا طاعة( ).
الخامسة عشرة: لا يجوز إسخاط الخالق بالسعي في رضا المخلوق، فاذا كان شخص أو جماعة يكرهون سماع الأمر بالمعروف سواء كانوا هم المقصودين به أو غيرهم، فان هذه الكراهية لا تمنع من الأمر به إلا اذا كان هناك ضرر في البين على النفس أو العرض أو المال، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق( ).
السادسة عشرة: تدور الطاعة مدار المعروف والإمتثال للاحكام الشرعية، ومع فقد هذا الشرط فلا إعتبار للعلو والمقام، وبالإسناد عن ابي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث جيشا وأمرعليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأجــج نارا وأمــرهم أن يقتحمـوا فيها، فأبى قوم أن يدخلوها، وقالوا: انما فررنا من النار، وأراد قوم أن يدخلوها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وســلم فقال: ” لو دخلوها، أو دخلوا فيها، لم يزالوا فيها ” وقال: ” لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف”( ).
السابعة عشرة: من شعب الإيمان الحب في الله، والإعطاء في الله والمنع في الله، ومنها لزوم حب المؤمن وبغض الكافر، وعدم جواز العكس، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وتولي أولياء الله والتبري من أعداء الله.
الثامنة عشرة: تعاهد السنن الحميدة، وبذل الوسع في تحصيل العادات الحسنة، والأمر بها وتعلمها، خصوصاً بالنسبة للأهل والأولاد ومنه دعوة الناس إلى الإيمان بالله تعالى مع رجاء القبول وعدم إحتمال الأذى والضرر.
التاسعة عشرة: الإبتداء بالعمل المعروف ثم الأمر به، كي يكون الإنسان نفسه مصداقاً للخير، وداعياً له بفعله، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احبوا في الله من وصف صفتكم، وابغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم، ولا تبذلوها لمن رغب عن صفتكم.
العشرون: المبادرة إلى التوبة النصوح، وإصلاح الذات، وإظهار معاني الإيمان والتقوى، وإكرام فاعل المعروف.
الحادية والعشرون: يجب إظهار الحق مع الإمكان، عند ظهور البدعة، والبراءة من أصحابها، وتنبيه الناس لحقيقتها وتحذيرهم منها بالقول والفعل والكتابة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “اذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله”.
ومن الفقهاء من قيد إظهار الحق وتحذير الناس بعدم وجود محذور في البين، أو إحتمال حصول أذى للنفس والغير، ولكن إظهار العلم أعم، ولا ينحصر بفضح البدعة بالمنطوق، بل يمكن ان يحصل بالمفهوم والبيان وجذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثانية والعشرون: ينبغي إظهار الشكر على النعم، وتعاهدها بأداء الفرائض وفعل الصالحات وإجتناب الظلم وجحود النعمة، وعن الإمام علي عليه السلام: قلما أدبر شيء فأقبل.
الثالثة والعشرون: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على غير البالغ لإعتبار البلوغ شرطاً في التكليف، وكذا بالنسبة للآخرين، ولا يجب على البالغين دعوة غير البالغ والمجنون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا اذا كان الأمر من الموارد الشرعية، ويكون شاملاً لهما، مع وجود درجة من التباين بين غير البالغ والمجنون، لإمكان ان يدرك غير البالغ أموراً عديدة من المعروف، وتأديبه وإصلاحه لفعل الخير عند البلوغ،ولأنه في معرض التكليف وفي طريقه إليه.
الرابعة والعشرون: لو إستلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشتراك وتعاون جماعة وأفراد معدودين به وجب، ويكون الواجب الكفائي متعدداً في الموضوع المتحد، ولا يسقط الواجب بقيام فرد واحد منهــم إلا اذا حصل المقصــود بقيامــه اتفاقاً أو يبــذل ما تبــذلــه الجمــاعـة المتحدة، فيســقط الوجوب عن الآخرين حينئذ لإنتفاء الموضوع.
الخامسة والعشرون: إستدامة وجوب أو استحباب الأمر بالمعروف ولو قام به فرد أو جماعة، حتى يستبين حصول التأثير الخارجي، لأصالة بقاء الوجوب بوجود الموضوع، نعم لو إحتمل عدم حصول التأثير من قبل الباقين فقد يسقط التكليف عنهم.
السادسة والعشرون: لو إطمأن المسلم إلى قيام غيره بالأمر بالمعروف أوعلم بقيام الغير به وكفاية فعله، فلا يجب عليه القيام به لحصول الإطمئنان العقلائي، وعدم التشديد على النفس، ولو تبين الخلاف وعدم قيام احد بالأمر بالمعروف، أو ان شخصاً قام به ولكن لم يحصل التأثير الخارجي، فيجب على المكلف الأمر به لعمومات قاعدة الإشتغال، وأصالة عدم سقوط الأمر بعد ثبوته.
السابعة والعشرون: لا يعتبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قصد القربة، ويترشح عنه الثواب بالذات ما لم يقصد منه الرياء، نعم قصد القربة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستحب.
الثامنة والعشرون: لو دار الأمر بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما لو تعذر الجمع بينهما، فيختار المكلف الأهم منهما، لقاعدة تقديم الأهم على المهم.
التاسعة والعشرون: لو إحتاج جماعة إلى أمرهم بالمعروف وإرشادهم ونصحهم، ولم يقدر المكلف إلا على أمربعضهم دون الجميع، وجب ما يقدر عليه، ويسقط عنه الباقي، لقاعدة الميسور وقبح التكليف بما لا يطاق.
الثلاثون: تجوز الإستنابة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اجارة أو تبرعاً، ويجوز أخذ الجعل عليهما.
الحادية والثلاثون: يجوز للحاكم الشرعي تخصيص قسم من الزكاة من سهم سبيل الله لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستحب للمسلم بذل المؤونة للأمربالمعروف اذا توقف عليها.
الثانية والثلاثون: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوري، ولا يجوز تأخيره، ولو حصل التأخير فلا يسقط التكليف، بل يجب فوراً ففوراً لبقاء الموضوع وتبعية الحكم للموضوع.
الثالثة والثلاثون: لا تصل النوبة إلى التدقيق والتحقيق في حصول الإستجابة والتأثير الخارجي، فلو أظهر المأمور بالمعروف الإستجابة ولو حياء سقط الوجوب.
الرابعة والثلاثون: لو تصدى شخص للأمربالمعروف والنهي عن المنكر مع الجهل بالموازين الشرعية والاحكام فان أصاب الواقع فلا شيء عليه، وإلا فأنه يؤثم، ويلزم في المقام التفقه في الدين، وعدم التجرئ والأمر بغير علم، أو النهي عن شيء صحيح،والمناط هو العلم بالموازين الشرعية أوان التصدي والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كان جاهلاً بها قبله، أو تعرض للنسيان فيما بعد.
الخامسة والثلاثون: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين إرتكاب الشبهات البدوية، وطرف العلم الإجمالي غير المنجز لخروج بعض أطرافه عن الإبتلاء.للأصل في عدم ثبوت تكليف فعلي، نعم الأمر بالمعروف حسن على كل حال، ولا بأس بالإرشاد والإعانة لتحصيل البيان والتنجز.
السادسة والثلاثون: لو كان المكلف عالماً بالحكم الشرعي، وقاصداً فعله، ولكنه تركه جهلاً بالموضوع، فيجب إرشاده وإعانته، كما لو كان يعلم بشرط الإستقبال في الصلاة إلا أنه صلى لغير جهة القبلة عن جهل بها، فلابد من إعلامه والإشارة عليه بجهة القبلة اثناء الصلاة أو عند الفراغ منها.
السابعة والثلاثون: لو أكل أو شرب في شهر رمضان نسياناً، يجب إرشــاده وإخباره وتذكيره بالصــوم، وان كان أكـله وشــربه غير مفطــرين وقيل بعدم وجود دليل على وجوب الإرشاد في الموضوعات المحرمة تلك ما لم يكن تسبيب في البين، ولكـن عمومات الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف شاملة للمقام، خصوصاً مع أهمية الموضوع وترتب الأثر عليه وان حصل فعله عن جهل أو نسيان لقاعدة لا ضرر ولا ضرار وعمومات الأمر بالمعروف وعدم حصرها بقيد العلم بالمخالفة.
الثامنة والثلاثون: لو إحتمل التأثير والإصلاح ولكن مع إيجاد مقدمات، وجب مع جوازها شرعاً، لوجوب المقدمة لوجوب ذيها، وكذا لو إستلزم حصول التأثير تكرار الأمر بالمعروف والموعظة وذكر العبرة والتذكير بالآخرة وعالم الثواب والعقاب، والضيافة والإعانة المالية.
التاسعة والثلاثون: ينبغي إستعمال الآلة والوسيلة المناسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أدرك عدم تأثير المخاطبة والإعلام الشخصي، ورجحان النفع بالمكاتبة وجبت الأخيرة لوجود المقتضي.
الأربعون: قيل بشرطية إصرار الطرف الآخر على الإستمرار في المخالفة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الأمر أعم، فالمدار على التلبس بترك الواجب وإرتكاب المعصية، لعمومات الأمر بالمعروف وتعدد مراتبه، وهو حسن على كل حال.
الحادية والأربعون: ليس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق شرعي معين، بل المناط على تحصيل الغرض بالبعث إلى الفعل الحسن وإجتناب العمل السيء، سواء تم بالقول الصريح أو التلميح أو الإقتداء والمحاكاة، لعدم وجود قيد مخصوص، نعم لابد من إعتبار الطرق الشرعية، لتكون مقدمة لتحصيل المعروف، ويصح دفعة وتدريجياً، والأول أفضل مع الإمكان.
قانون الأمر بالمعروف حاجة
جاءت الآية بأمرالمسلمين بالقيام بالأمر بالمعروف، بصيغة النص الجلي الذي لا يحتمل تعدد التأويل أو الإجمال في الأمر ، مع العلم بمعاني المعروف وحسنه الذاتي والعرضي، وتخاطب الآية المسلمين جميعاً لبعث أمة منهم.
ومن اسرارالآية أنهالم تقل (ولتكن طائفة أو فرقة)، بل جاءت بلفظ أمة لتكون متحدة في عملها، متعاونة فيما بينها وتستطيع تعاهد سنن المعروف عند معاشر المسلمين أولاً، اذ ان الأمة تستطيع الإصلاح الذاتي ومنع الزيغ والإهمال والتقصير والقصور، وتكون صيغة الأمر مع المسلمين بلغة الأخوة والمحبة والتعاون في الصالحات،وهو الذي أكدت عليه الآية السابقة.
ويؤكد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي عدم حصول فرقة وخصومة في الأمر بالمعروف بين المسلمين، لذا تجد توطد أواصر الأخوة بين الطرفين، ويقابل المأمور الأمر بالشكر، ويعد أمره إحساناً ودليلاً على الحرص الأخوي.
فالأمر بالمعروف حاجة للمسلمين في دينهم ودنياهم.ومانع من تضييع الفرائض وأحكام الشريعة، ومن خصائص الإنسان النسيان، وذكر أنه من وجوه إشتقاق اسم الإنسان، فجاءت هذه الآية لتمنع منه، وتحصن المسلمين من آفة النسيان في عباداتهم، وترى كثيراً من شعوب المسلمين يعتمدون تقويماً غير القمري، ولكنهم جميعاً يعلمون أوان شهر رمضان وان الصيام والإفطار على الهلال.
والأمر بالمعروف سلاح للتنبيه والدلالة على الخير، ومن الآيات أنه جاء بصيغة الأمر ، فلم تقل الآية “تدعون إلى الخير والمعروف” بل جعلت الدعوة لخصوص الخير، أما المعروف فجاء بصيغة الأمر ، وفيه إكرام للمسلمين، وإخبار عن أهليتهم ليكونوا أمراء، وهذه الأمر ة ليست دنيوية بل تتعلق بالهداية والفلاح، وفيها دعوة للناس للإنصات لهم، وبشارة الجنة وأنهم ورثة دار النعيم، وفيها بعث للمسلمين لجذب الناس لسبل الهداية بصيغة الأمر والنهي.
وتخبر الآية عن حقيقة أخرى ، وهي على المسلمين عدم ترك الناس وشأنهم اذا كانوا على ضلالة، فليس للمسلمين ان يقولوا لا يهمنا إلا أمرنا وإصلاح أحوالنا، بل تدعوهم للتوجه إلى الناس مطلقاً، إلى الكتابي وغيره بأمره بالمعروف ووجوه الخير والفلاح.
وتؤكد الآية رئاسة المسلمين للناس في أمور العقيدة والمبادئ السماوية، وتدفعهم للأمربالمعروف من غير تردد أو تهاون، وتطرد عنهم الكسل والخمول في عمل الصالحات، وفي هذا الأمر منفعة للناس أنفسهم وهو أمرظاهر للعيان، فمن أقتدى بالمسلمين وأطاع أمرهم في المعروف فأنه يحس بالسعادة ويرى الغبطة في الدنيا والآخرة.
ان الأمر بالمعروف حاجة للناس جميعاً، وواقية من السيئات ووسيلة لتعاهد مبادئ الأخوة بين المسلمين التي أراد لها الله عز وجل ان تستديم على أسس الهداية والإيمان، فجاءت الآية السابقة بذكر نعمة الأخوة، وذكرت هذه الآية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ليكون كل واحد منها ركناً من أركان صرح الأخوة، وحجة على الناس وسبيلاً لنجاتهم من النار والوقوع في الهاوية.
لقد أراد الله عز وجل للأمربالمعروف ان يبقى في الأرض، ويتغشى الناس جميعاً اذ ينقسم الناس إلى قسمين:
الأول: أمربالمعروف.
الثاني: مأمور ومدعو للعمل بالمعروف.
لذا جاءت الآية بالأمر بنهوض أمة به، وهو وسيلة للتفقه في الدين ومعرفة مصاديق المعروف، وثباتها في الوجود الذهني والخارجي وان تقادمت الأيام.
قانون ثواب الأمر بالمعروف
جاء الأمر الإلهي للمسلمين بالأمر بالمعروف، مما يدل على ان الإمتثال به باب للأجر والثواب، ومن الآيات ان يأتي في القرآن ما يدل على قيام المسلمين بالإستجابة لهذا الأمر ونيلهم رضاه تعالى على ما يقومون به في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا ورد مدح المسلمين قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
فتفضل الله تعالى بالشهادة للمسلمين بأنهم أمتثلوا لأمره تعالى وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ويحتمل الإمتثال هنا وجوهاً:
الأول: صدور الأمر بالمعروف من أمة وطائفة مخصوصة منهم، فيتفضل الله عز وجل بإحتساب الثواب للمسلمين جميعاً، وتدل عليه قرينة ورود الأمر في هذه الآية للمسلمين جميعاً [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ] ( ).
الثاني: صدور الأمر بالمعروف من جميع المسلمين على نحو التناوب بحسب الحال والشأن.
الثالث: الأمر بالمعروف واجب كفائي، والمسلمون جميعاً مستعدون لبذل الوسع في هذا الباب، وورد في الحديث: “إنما الأعمال بالنيات”( ).
والصحيح هو الثاني فان التكليف بالأمر بالمعروف مسؤولية المسلمين جميعاً، وكل مسلم ومسلمة يقومان به، وهو خزينة لإغتراف الحسنات منها، وباب فتحه الله للمسلمين، ليكتنزوا من فعل الخير فيكتب الملائكة لهم الأجر والثواب على دعوتهم إلى الله وأمرهم بالمعروف، وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الدال على الخير كفاعله” وعنه صلى الله عليه وآله وسلم من أمربمعروف أو نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به فهو شريك، ومن أمربسوء أو دل عليه أو أشار به فهو شريك”( ).
ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلاح الأنبياء، إذ جاهدوا بأنفسهم وأموالهم فيه، وتعرض شطر منهم للقتل والشهادة بسبب الدعوة إلى الله، وحث الناس على ما فيه نفعهم ليكون قتلهم سبباً لإلتفات الناس إلى وظائفهم العبادية، وإظهارهم الندم على عدم نصرة الأنبياء، فجاء الإسلام ليجعل المسلمين أمة متحدة مجتمعة بها يستديم الأمر بالمعروف في الأرض ويكون زينة لها، ويبعث البهجة في الحياة الدنيا.
فتغمر الفرحة العبد عند إنتقاله إلى مقامات الصالحين، وتخلصه من السيئات وتبعاتها، ويتحسس لذة نعيم الآخرة وقربه من الجنة، فيبادر إلى الأمر بالمعروف بعد التلبس بفعله، ليضاف فرد للأمة التي تأمربالمعروف.
ومن الإعجاز في هذه الآية أنهااختتمت ببيان الفلاح والفوز والنجــاح للذين يأمــرون بالمعــروف وينهون عن المنكر في إشارة إلى عالم الآخرة، وما أعد الله فيه للآمــرين بالمعــروف، والناهــين عن المنكر.
ان الثواب العظيم للأمربالمعروف سبب لإنجذاب المسلمين له وتسابقهم في ميادينه، فصحيح أنه واجب كفائي إلا ان الشــوق لما فـيه من الثواب يجعلهم يسارعون فيه، ويتعدد الأمر في ذات الموضوع من المتحد والمتعدد، بمعنى ان الفرد الواحد منهم يكرر الأمر بالمعروف، كما تتعاون وتتعاقب الجماعة منهم في الأمر بذات الشيء للجهة المتحدة والمتعددة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين نيل مراتب النعيم الأخروي ومنازل السعادة في الجنة ففتح لهم باب الأمر بالمعروف وجعله متصلاً مستمراً في الليل والنهار، وفي البيت والمسجد والسوق، فمن شاء الإكثار من الحسنات ونيل الثواب فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل يومي للجهاد وبالحكمة والموعظة الحسنة، وفي الحديث: أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ( )، وفيه إشارة إلى شفاعتهم في الآخرة وسلامتهم من الخوف والحزن وأصناف البلاء.
بحث أصولي
قد تقدم ان الأمر بالمعروف واجب كفائي، وهو مطلوب من جهة المكلف به، فيتوجه الخطاب في الآية إلى المسلمين جميعاً، إلا أنه يكتفى بأداء فعل واحد من شخص أو جماعة عن المسلمين، وهو واجب منجز فلا يتعلق على زمان أو فعل مخصوص، ورؤية ترك الإنسان للواجب لا يعني التعليق عليه، لأن الأمر بالمعروف مطلق، فيأتي في حال ترك الواجب وفعل المنكر، وابتداء من غير تخلف عن الواجب، تعظيماً لشعائر الله، وتثبيتاً لمبادئ الإسلام.
وهو واجب اصلي مطلوب بذاته وليس تابعاً لغيره من الواجبات، فلا يأتي بعد الدعوة إلى الخير وإن جاء في الآية الكريمة معطوفاً عليها.
وصحيح ان الأمر بالمعروف شامل للواجب والمندوب إلا أنه واجب في الحالتين، فالأمر بالمستحب واجب على المسلمين، وتلك آية إعجازية تدل على التكامل في الشريعة الإسلامية، وقيام المسلمين بالوظائف العقائدية على نحو الوجوب، كما أنه واجب تعييني لا يأتي فعل آخر بديلاً عنه، وليس للمكلف التخيير بينه وبين غيره من الواجبات، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين القيام بالأمر بالمعروف لتفضله بإختيارهم لوراثة الأنبياء.
والأمر بالمعروف واجب غير مؤقت، ولكنه يجب فوراً ففوراً عندما تكون حاجة اليه، فيأتي أحياناً للإنقاذ من براثن الذنوب، ويكون مدخلاً للمبادرة بفعل الصالحات والسلامة من أدران الخطايا والسيئات، وباباً للتوبة والإنابة.
ويقسم الواجب إلى قسمين:
الأول: واجب نفسي وهو الذي أريد بالذات، ويأتي مطلوباً بالأمر الإلهي، كأداء الحج.
الثاني: واجب غيري، يكون مقدمة ووسيلة لإرادة واجب آخر كالوضوء في الصلاة.
وهذا التقسيم إستقرائي فالأمر بالمعروف يأتي واجباً نفسياً بلحاظ اتيأنه من المكلفين وان جاء الخطاب الإلهي في الآية بصيغة الجملة الخبرية “ويأمرون بالمعروف”( ) إلا أنه أبلغ في المراد ويتضمن ندب المسلمين للأمروإستدأمة فعله، ويكون واجبا غيريا لما فيه من الغايات النبيلة وبعث الآخرين لفعل الصالحات.
والأمر بالمعروف واجب تعبدي يؤتى به بداعي أمرالمولى لوجوه منها:
الأول: يصح إتيأنه بقصد القربة إلى الله وان لم يكن قصد القربة فيه واجباً.
الثاني: الحسن الذاتي للأمربالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: ما فيه من المنفعة والمصلحة للأمروالمأمور بل وللمسلمين جميعاً لذا جاء الخطاب في الآية موجهاً للمسلمين جميعاً بان تتصدى أمة منهم للقيام بالأمر بالمعروف.
الرابع: أنه عنوان لشكر الله تعالى على نعمة الخلق والهداية، وتعاهد للقيم والمبادئ الإسلامية.
الخامس: يؤتى بالأمر بالمعروف رجاء الثواب في متعلقه وفي الإمتثال لأمرالله تعالى بالقيام به بين الناس، وإعانتهم على كسب الصالحات والتنزه من الذنوب.
قانون الجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ورد إجتماع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسع مرات في القرآن ومن الآيات في سورة آل عمران بخصوص الجمع بينهما وجوه:
الأول: سورة آل عمران أكثر السور التي ورد فيها ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اذ ورد فيها ثلاث مرات، ومع ان سورة البقرة اكبر منها وأكثر في عدد الآيات اذ تبلغ آياتها 286، وآيات آل عمران 200 آية، إلا أنه لم يرد في سورة البقرة ذكر للأمربالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: يعتبر ورود ثلث عدد المرات التي يجتمع فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سورة واحدة، آية لها دلالاتها منها:
الأولى: موضوعية هذه السورة في بيان الاحكام الشرعية.
الثانية: مخاطبة المسلمين في سورة آل عمران، وأمرهم بالقيام بالوظائف العقائدية.
الثالثة: وراثة المسلمين للأنبياء في الدعوة إلى الإسلام، والردع عن الفواحش.
الرابعة: الإشارة إلى أهل الكتاب وغيرهم بلزوم الإصغاء إلى المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: تشريف هذه السورة بكثرة عدد المرات التي يذكر فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: دعوة المسلمين لدراسة مضامين سورة آل عمران، ومعرفة ما فيها من أحكام الحلال والحرام.
الرابع: صحيح ان السورة تسمى آل عمران إلا ان مضامينها تتوجه إلى المسلمين، وكذا باقي آيات وسور القرآن الكريم، كما ورد في الآية مدح لشطر من أهل الكتاب الذين يتلون آيات الله قال تعالى [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
ومن بين تسع آيات يجتمع فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأتي هذه الآية ، وآية أخرى بعد ست آيات من هذه السورة تتضمن مدح المسلمين والثناء عليهم بأنهم [خير أمة أخرجت للناس] ( ) وفيه توكيد لأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلوغ مقامات الكمال الإنساني، والإقتراب من عالم الملكوت وساحة القدس.
وكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا إجتمعا، ولكن الإجتماع بينهما ينفي البرزخية، ويؤكد عدم وجود واسطة أو وسط بينهما، فعلى المكلف ان يؤدي الواجبات ويحرص على المستحبات، ولا يعمل الفواحش والمنكرات، وان ارتكب المعصية يتوجه له النهي والأمر معاً، من غير تناقض بينهما للتباين في الموضوع فيكون النهي عن المنكر زجرا عن الفواحش ومقدمة للإصلاح، أما الأمر فيكون في فعل الصالحات وإتيان الخيرات.
لذا فان الجمع بينهما من إعجاز القرآن، وسر من أسراره، وفيه إشارة إلى تكامل الشريعة الإسلامية، وأهليتها للبقاء، وإنتفاء طرو النسخ لها، كما ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب لنزول البركات والتنعم بفضل الله في الدنيا والآخرة، وقد مدح الله النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقوله تعالى [يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَأهم عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ] ( )، وفيه دعوة لمعرفة مصاديق المعروف وأفراد المنكر من القرآن والسنة، وحث للمسلمين على طاعة الله ورسوله.
ثم جاءت الآيات بأمرهم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدل الأخذ والإقتباس والتعلم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمواضيع المعروف وكيفية الدعوة، وصيغ الزجر عن المنكر على إرتقائهم في العلوم والمعارف الإلهية، وأنه ليس فيهم جأهل حتى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للعالم والعارف، نعم هناك تباين موضوعي من جهة التصدي تستلزم تدخل العالم، ولكن جميع المسلمين مواظبون على هذه الوظيفة العقائدية وإلى يوم القيامة.
ويستقرأ منها تشريف المسلمين والإخبار عن المدد الإلهي لهم وإعانتهم في أمور:
الأول: التوفيق في الإمتثال لهذا التكليف.
الثاني: وجود الأمر بالمعروف بين المسلمين فشطر منهم يأمرالشطر الآخر بالمعروف.
الثالث: تثبيت المسلمين في مقامات الإمأمة للناس وبعثهم للهداية وإسباب الصلاح.
الرابع: جعل عمل المسلمين مرآة لمبادئ الإسلام، وترغيباً الناس بدخوله.
الخامس: إعانة المسلمين على إكتناز الصالحات، وعمل ما يؤدي إلى الثواب العظيم في الآخرة.
ويفيد الجمع بين الأمور الثلاثة في الآية وجوهاً:
الأول: اجتماع الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موضوع واحد ومنه آيات الصلح بين المسلمين الذي يدخل في مصاديق أطراف الآية الثلاثة فهو على وجوه:
الأول: دعوة إلى الخير لذا ورد قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( )، فاذا قام المسلم أو المسلمون بإصلاح ذات البين بين إخوأنهم فأنه خير محض، والسعي والصلح على أقسام:
الأول: ما يجري بين شخصين من المسلمين، وهو من مصاديق الأخوة، بشعبتيه:
الأولى: السعي في الصلح بين شخصين أو أكثر من المسلمين.
الثانية: حصول الصلح بينهما ونبذ الفرقة والخلاف.
الثاني: الصلح بين أفراد الأسرة الواحدة، وفيه تعاهد لبناء الأسرة بإعتبارها نواة المجتمع، وحرزاَ في حفظ مبادئ الإسلام.
الثالث: السعي للصلح بين ذوي الأرحام ومنع قطع الرحم، وما فيه من الأضرار الدنيوية والأخروية.
الرابع: الصلح بين جماعات ودول المسلمين، لما في الخصومة من الضعف والتشتت.
الخامس: الحث على الدعوة إلى الصلح، فقد لا يستطيع شخص أو جماعة القيام به فيدعون غيرهم للسعي في الصلح.
الثاني: الأمر بالمعروف سواء في ذات السعي للصلح أو في الأمر به، وتوظيف التأثير والشأن والجاه في إمتثال أطراف النزاع للصلح.
الثالث: النهي عن المنكر في الزجر عن إستمرار الخلاف والصراع، وبذل الوسع لمنع حصول الأضرار من حال الخصومة والشقاق، لذا فان الجمع بين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من إعجاز القرآن، وهو من مصاديق إطلاق التبيان في وصف القرآن بقوله تعالى [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وإخبار بان التبيان لا ينحصر بالأشياء والوقائع والحوادث وعلم الغيب بل يشمل تعليم المسلمين لكيفية التصرف والجمع بين الأفعال المتعددة في الموضوع الواحد وفق صيغ الشريعة إلى ان يحصل الغرض السامي، والغاية الحميدة، وإحقاق الحق والمنع من إستمرار الباطل.
وقد يحتاج الصلح إلى الدعوة إليه، أو يستلزم بذل المال وتوظيف الجاه، أو لا تنفع الدعوة وحدها،ولابد من الأمر بالصلح وتنازل بعض الأطراف عن شروطها وإجتناب الظلم والتعدي، ومثلما يتم الصلح بالدعوة إليه والتذكير بنعمة الأخوة ولزوم الإعتصام بحبل الله، فقد يتطلب إنجازه وتحققه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبها المتعددة، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْ أخرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي]( ).
الثاني: الدعوة إلى الخير مقدمة للأمربالمعروف والنهي عن المنكر، بإعتبار الإنتقال من الأيسر إلى الأشد،ومن الأعم إلى الأخص، فمن الدعوة وما تدل عليه من معاني الطلب من المساوي أو الأدنى ينتقل المسلم إلى الأعلى وهو الأمر والنهي في ذات الموضوع، فيدعى الإنسان إلى الإيمان والبر والصلاح ويحث عليه فان لم تحصل إستجابة يأتي الأمر وما فيه من لغة الإستعلاء.
الثالث: التعدد بحسب الموضوع والحال، فقد يكون الأنسب في موضوع الترغيب والتشجيع وإعتماد صيغ الدعوة، وفي موضوع آخر يستلزم الأمر والنهي.
الرابع: إعتبار الطبائع والخصوصيات عند إختيارالوسيلة الأحسن للإصلاح، ومراعاة طبيعة الإنسان والطريقة والكيفية التي تناسبه، وإن لم تكن على نحو الدقة العقلية، ويتعلق هذا الإعتبار بطبيعة الداعي والمدعو، والأمر والمأمور.
الخامس: تعدد مواضيع الإصلاح والتغيير والإيجاد والعدم، مما يستلزم تارة الدعوة و أخرى الأمر ، وثالثة النهي، فلذا جاء التعدد في الآية .
وفي علم الأصول باب أسمه باب اجتماع الأمر والنهي يبحث فيه عن تعلقهما بموضوع واحد ذي عنوانين، فيتعلق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر، كالصلاة في المكان المغصوب، اذ يتوجه الأمر إلى المكلف بالصلاة، وينهى عن أدائها في المكان لحرمة التصرف في مال الغير من غير اذنه، وذهب جماعة إلى إمتناع اجتماع الأمر والنهي عقلاً لأن اتحادهما يستلزم اجتماع الضدين، وهو أمرمتعذر فكيف يتوجه الأمر والنهي إلى ذات الفعل، وتعلق الإرادة والكراهة في فعل وزمان واحد.
وتضمنت الآية الإعجاز والإرتقاء عن هذا الخلاف الأصولي لما تتضمنه من البيان على تعيين المأمور به والمنهي عنه وعلى وجه يتضمن التباين والتضاد بينهما لمنع اللبس والترديد، ولدفع الجهالة والغرر.
قانون مراتب الأمر
جاء الأمر الإلهي بالأمر بالمعروف مطلقاً خال من أي قيد أو شرط من جهة الكيفية والطريقة، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إختيار أي طريقة يراها الأمر بالمعروف.
الثاني: إعتبار الكيفية المناسبة للمأمور.
الثالث: المناط على تحقيق الغاية، وإصلاح الأمر وتحقق الإتعاظ والرجوع إلى الحق، وعدم الخوف في الله من لومة لائم.
الرابع: إعتبار المراتب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحتمل أمورا:
الأول: الإبتداء من الأدنى إلى الأعلى، وهو على شعب:
الأولى: الرغبة في إصلاح الغير، والإنكار بالقلب لما يفعله من المنكر بحيث يدرك الطرف الآخر ما في فعله من الغضاضة والأذى.
الثانية: البيان القولي، وإظهار المراد باللسان وهو على قسمين:
الأول: إخبار الآخرين من الأهل أو الأصحاب ومن له تأثير وشأن في الإصلاح بالأمر .
الثاني: إعلام ذي الشأن بلزوم إصلاح حاله.
الثالثة: الإنتقال إلى الفعل واليد، من غير إيذاء وجرح وتعد لأن المراد هو الصلاح والإصلاح، فيكفي ما ينفع في تحقيق الغرض والغاية والمنفعة من الأمر
الثاني: الإبتداء من الفعل والشدة وحمل المأمور على فعل المعروف وترك المنكر.
الثالث: التخيير وعدم التعيين في كيفية الفعل، بل يترك للأمرإختيار الطريقة المناسبة
والصحيح هو الأول من الوجه الرابع في إنكار بالمنكر ولكل مرتبة من المراتب الثلاث درجات متعددة الأيسر فالأيسر، إلا أنه ليس قاعدة كلية خصوصاً وان الآية جاءت بالنص على الأمر بالمعروف، ولابد ان يترجل الأمر على اللسان وفي الفعل فالكراهة القلبية لا تكفي في الدعوة إلى الخير والصلاح،إن كانت جزء من الحصانة الذاتية، ويصح التدرج في الأمر بالمعروف على مراتب:
الأولى: الأمر بالقول واللسان وهو على أقسام
الأول: إعتماد لغة الإشارة والتنبيه.
الثاني: إعتبار المثل والمحاكاة، ومدح فاعل الخير وذم فاعل المنكر.
الثالث: التذكير بعالم الآخرة، وما للمعروف من الثواب، وما لفعل السيئات من الإثم والعقاب.
الرابع: بيان إمكان التخلص من العادات المكروهة، والأخلاق المذمومة، والحسن الذاتي لهذا التخلص والإنتقال إلى فعل الصالحات، وإتيان الفرائض والمستحبات.
الخامس: إعتماد لغة الترغيب في المعروف، وتزيين فعله في النفوس.
السادس: بيان كراهة فعل المنكر، وسوء عاقبته.
السابع: الكتابة والتدوين سواء بإرادة شخص معين، أو الكتابة لجماعة أو أمة أو للناس جميعاً بما يفيد نشر مبادئ الإسلام والأمر بالمعروف، والزجر عن الفواحش.
الثانية: لبس رداء المعروف والتحلي بالأخلاق الحميدة، والتقيد بأحكام الفرائض والسنن الشرعية، مع قصد إطلاع وإعلام تارك المعروف، وفاعل المنكر بها، لتكون وسيلة مباركة لجذبهما لمناهج الفلاح والصلاح وسنن الخير.
الثالثة: صيغة الفعل في التأثير والأمر بالمعروف، وكما هو عالم القول فان عالم الفعل واسع ومتعدد، وآخره إستعمال الشدة والضرب بغية الإصلاح، وعند عدم النفع من الصيغ الأخرى ، وحتى الضرب فأنه على مراتب يبدأ من الأدنى والأخف، فاذا حصل المقصود لا يجوز الإرتقاء إلى مرتبة أعلى مع إحراز عدم الضرر على الناهي.
وتسأهم مضامين هذا القانون في منع الأذى ودفع الضرر، وفيها بيان لجانب مشرق من جوانب الشريعة الإسلامية.
قانون ملازمة الأمر بالمعروف للناس
جاءت الآية بوجوب الأمر بالمعروف على المسلمين، وقيام أمة منهم به، ويحتمل تأريخ الأمر بالمعروف وجوهاً:
الأول: مصاحبته للحياة الدنيا والوجود الإنساني.
الثاني: ابتداؤه مع البعثة النبوية الشريفة ونزول القرآن.
الثالث: اختصاص الأنبياء السابقين به، إلى ان جاء الإسلام فأصبح وظيفة المسلمين، كما ورد في وجوب الصيام في الخبر بان المراد من قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) أنه كان واجبا على الأنبياء السابقين دون اممهم.
الرابع: توجد في كل زمان أمة تأمربالمعروف وتنهى عن المنكر، وأختص بوجوبهما بعد البعثة النبوية المسلمون.
والصحيح هو الأول والرابع، فالأمر بالمعروف من رشحات النبوة، وهي ملازمة للوجود الإنساني، ولا ينحصر موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأشخاص الأنبياء بل يشمل أصحابهم وأنصارهم وأتباعهم، وقد مدح الله عز وجل أمة من أهل الكتاب بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهل الْكِتَابِ أمة قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
وجاءت الآية محل البحث لمدح المسلمين جميعاً بالأمر لهم بان تكون أمة منهم تأمربالمعروف وتنهى عن المنكر ليكون باقي المسلمين ظهيراً لها مع إستعداد كل مسلم للقيام بهذا التكليف والواجب الكفائي.
وقال بعض أهل العرفان ان الإنسان أما ان يكون كاملاً في ذاته وهم الأولياء وأما أن يكون كاملاً في ذاته قادرا على تكميل غيره، وهم الأنبياء وهم أعلى مراتب الإنسانية.
وتفضل الله على المسلمين بأمرغيرهم بالمعروف شاهد على وراثتهم للأنبياء، وخلو الإسلام من المذاهب الباطلة ومن التحريف والتغيير في الملة والدين، وأهليةالمسلم لتكميل الغير.
ان قيام فرد من المسلمين بالمعروف وتحليه بالفضائل، وإعراضه عن الرذائل دعوة لإشاعة المعروف والعمل به من قبل الأفراد والجماعات والأمم من وجوه:
الأول: تقيد المأموربالمعروف بأفراد أخرى منه.
الثاني: حرص الآخرين ممن حوله على فعل الصالحات، وعمل الخير.
الثالث: محاكاة أناس آخرين لمن يتوب ويصلح حاله ويعمل صالحاً.
الرابع: وراثة فعل المعروف.
لذا فأن الأمر بالمعروف يأتي على جهات ثلاث:
الأولى: التقدم الزماني.
الثانية: مصاحبة الإنسان في حياته.
الثالثة: بقاؤه بعد مغادرة الإنسان الحياة الدنيا، أما الأولى فمن وجوه:
الأول: نزول الكتب السماوية والوحي بالأمر بالمعروف والترغيب فيه.
الثاني: جهاد الأنبياء بين الناس.
الثالث: فضل الله عز وجل على الإنسان بالعقل والتمييز بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر.
الرابع: توارث السنن الحميدة والأخلاق الممدوحة، والنفرة من الأفعال القبيحة.
وأما الثانية فمن وجوه:
الأول: العمل بالكتاب السماوي.
الثاني: وراثة العمل بالمعروف.
الثالث: وجود أمة تأمر بالمعروف، كما تدل عليه هذه الآية وسيرة المسلمين وتعاهدهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: انجذاب الناس لمصاديق الطاعة والمعروف والإحسان لما فيها من الحسن الذاتي.
أما الثالثة فمن وجوه:
الأول: إستصحاب ودوام الأمر بالمعروف.
الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، وتعاهدهم له، والإسلام والمسلمون باقون إلى يوم القيامة.
الثالث: الطاعة والمعروف تركة الصالحين، وإرث المؤمنين يتوارثونه خلفاً عن سلف.
الرابع: إدراك الناس للحاجة للمعروف والأمر به، والإمتثال لمن يأمربالمعروف لما فيه من النفع العظيم في الدنيا والآخرة.
ان مضامين قانون الملازمة هذا رحمة بالناس وسبيل إلى الهداية وبرزخ دون شيوع المعاصي وإسباب الضلالة والهلكة، ومن فضل الله عز وجل على الناس ان جعل الأمر بالمعروف مصاحباً لحياتهم، ومنهم من يصد عنه، فيتكرر توجه الأمر له، لأن القائمين به أمة وليس أفراداً ومنهم من يؤذي الأمر بالمعروف فلا ينغلق عنه باب اللطف الإلهي بل يرده الأمر من ذات الجهة أو من جهات أخرى ، فهو آية من آيات خلق الإنسان، وسر من أسرار خلافته في الأرض، ووسيلة لنشر الأمن، وسبيل لنزول البركات على أهل الأرض.
وهل ينحصر النهي عن المنكر بالذين يفعلون المعصية عن جهالة ام مطلقاً، الجواب هو الثاني، لأن الآية جاءت بالزجر عن المعصية سواء صدرت عن عمد أو جهل، ومن القريب أو البعيد وفي قوله تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ]( )، ورد عن ابن عباس والإمام الصادق عليه السلام وعطاء ومجاهد وقتادة: “كل ذنب عمله العبد وان كان عالماً به فهو جاهل، حين خاطر بنفسه في معصيته”.
ويأتي النهي موعظة وانذاراً لما ينتظر المذنب من العقوبة، فمتى ما أدرك الإنسان الضرر الذي يلحقه من الذنب فأنه يقلع عنه.
بحث أصولي
اختلف في الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا، وان الأمر بالصلاة غير النهي عن تركها أو ذاته للتداخل والإتحاد في النتيجة بين أمور ثلاثة:
الأول: عين الطلب وإتيان الفعل في الموجود الخارجي، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهو أمربأداء الصلاة.
الثاني: النهي عن الترك كما في قولك: لا تترك الصلاة.
الثالث: طلب ترك الترك، كما في القول: اجتنب ترك الصلاة.
ولكن الوجوب عبارة عن مرتبة من الطلب تلزم الإنبعاث عن أمرالمولى ويلازمه المنع من الترك، ويكون الضد على قسمين:
الأول: الضد العدمي، وهو ترك المأمور به، فلا خلاف بمبغوضية هذا الترك، والأمر بالعدالة يستلزم عدم الفسق بإعتبار ان الأمر بالشيء يدل على النهي عن المعاند العدمي.
ويتجلى هذا الأمر في الضدين اللذين لا ثالث لهما، كما في الأمر بالصيام الذي يعني النهي عن الضد الخاص وحرمة الإفطار والأكل والشرب، بإعتبار ان كل واحد منهما أمر وجودي، وكما في الحركة والسكون، والإجتماع والإقتران، اذ لا برزخ بينهما أو لا ثالث لهما، فالأمر بأحد الضدين يلازم الأمر بعدم ضده، لأن الحركة تعني في مفهومها عدم السكون، ويدل عدم السكون على الحركة، واذا جاء الأمر بأحدهما فأنه يعني عرفاً المعنى الثاني.
الثاني: الضد الوجودي، وهو المتعدد كما في قولك (صل) هل يعني ترك البيع، والأكل والمبادرة إلى الصلاة والأنقطاع اليها على نحو الخصوص عرفاً وفيه وجهان:
الأول: الدلالة على النهي أيضاً، بإعتبار ان ترك الأضداد مقدمة لفعل المأمور به، وان تعدد الضد لا يمنع من التقيد بالأصل وهو الرجوع إلى الضدين اللذين لا ثالث لهما، بإعتبار الجامع لأفراد الأضداد، وسرآية النهي عن أحدها إلى غيرها لوحدة الموضوع في تحقيق المناط، ويكون النهي عن أحد الضدين مقدمة للثاني.
الثالث: عدم الدلالة على النهي عن الضد، لأن كلاً من المأمور به وضده معلول لعلة مستقلة، فالمأمور به معلول لعلة، وترك الضد معلول لعلة أخرى ، فلا يتوقف أحدهما على الآخر ولا يكون تركه مقدمة لوجود الآخر، فلا يتعلق الأمر بمقدمية وجود أحد الضدين لعدم الآخر، وكذا العكس، كما نسب إلى ابن الحاجب والعضدي بإعتبار ان عدم المانع جزء علة وجود الشيء، وعدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر، وقيل بإستلزام الدور حينئذ.
وصحيح أنهما متلازمان في الوجود، إلا ان الأمر بأحد المتلازمين لا يعني الأمر بالآخر، ويؤكد عدم وجود حكم يخالف حكم ملازمه، لذا جاء الأمر الإلهي بالجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آية إعجازية تفيد إستقلال كل واحد منهما، وطلبه على نحو الخصوص ليحصل الأجر والثواب، بالإضافة إلى أنه ليس من الأمور التكوينية الخارجة عن الإرادة.
فهو من الأمور الإرادية التي تستلزم الإيجاد والبقاء، وأنه لا يكفي صرف الطبيعة وإيجاد الفرد الواحد من الأمر والنهي بل على نحو الإستدأمة والسريان، بالأمر المتصل بالمعروف، والنهي الدائم عن المعصية ويكون إنطباق الكلي على أجزائه قهرياً، من غير خروج عن عمومات عدم التكليف بما لا يطاق.
لذا جاءت الآية بان تنهض أمة من المسلمين بالأمور الثلاثة، الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفيه دلالة على القدرة الشرعية للمسلمين على الأمور الثلاثة والمراد من القدرة الشرعية هو إعتبارها في موضوع الخطاب ولحاظها في ملاك التكليف والأمر المولوي والتعدد في الأمر بالشيء والنهي عن ضده مانع من الترديد واللبس، وحاجز دون البرزخ بين الفعل والترك، والجمع بين الإمتثال للأمروإرتكاب المعصية كما في قوله تعالى [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] ( )، فجاءت الآية بإرادة النهي عن المنكر على نحو التعيين وقصد الإمتثال في ترك المعاصي بإعتبار ان الترك أمروجودي، فيثاب الأمر والمأمور من جهتين وهما:
الاولى: جهة إتيان العمل الصالح وفعل المعروف
الثانية: جهة ترك المنكر، وإجتناب المعصية.
ويمكن تقسيم المنكر في المقام إلى قسمين:
الأول: ترك الطاعة والإمتثال، كما في ترك الصلاة، فمن رأى شخصاً تاركاً للصلاة فيجب إنكار فعله وبيان قبحه، وكذا ترك الصيام من غير مسوغ شرعي.
الثاني: اتيان المعصية كالغيبة، فمن رأى شخصاً يغتاب الآخرين، فعليه ان ينكر عليه فعله.
وبلحاظ الكم والكيف فان المنكر على قسمين:
الأول: القضية الشخصية، وإمكان تصدي المسلم لها.
الثاني: القضية العأمة التي تستلزم جهوداً كبيرة، فلابد من تهيئة مقدماتها ومعرفة أسباب ها لأن الغاية إنقاذ الناس من التهلكة، فقد لا ينفع النهي الفردي والقولي، ويحتاج إلى قوة وعدة فيكون من وظيفة أهل الحل والعقد واولي الأمر ، لذا جاءت الآية بصفة أمة كي ينهض الحاكم والمحكوم من أجل الإصلاح.
ومن الإعجاز القرآني ان يأتي الأمر بالمعروف على نحو الإطلاق ، ولكنه ليس من العلم الإجمالي الذي يتعلق بعنوانين أو أكثر مع كون المطلوب غير معين بما يعني إنضمام جهل إلى علم، ولكن ورود اسم المعروف من العلم التصديقي الذي يعني إنكشاف النسبة لدى القاطع على نحو التعيين واليقين.
وتلك آية في التنزيل ان يرد العنوان بلفظ (المعروف) مع أهميته ووجوبه وكثرة الحاجة إليه وتغشيه لميادين الحياة الدنيا كافة، وعموم الخطاب إلى المسلمين والمسلمات، فتكون مصاديق هذا اللفظ معروفة ويحصل الإمتثال والإستجابة للأمرالإلهي من غير ترديد أو لِبس.
قانون الأمر بالمعروف نعمة
لقد أنعم الله على المسلمين، فخصهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الآيات ان أبواب هذه النعمة لم تنغلق على واحد منهم فصحيح ان الآية جاءت بلغة التبعيض وكفاية قيام أمة من المسلمين به إلا ان لفظ الأمة من الكلي المشكك الذي تقع تحته مراتب متعددة كثرة وقلة، وفيه دعوة للتعدد في ذات الموضوع والجهة، كما في أمرجماعة من المسلمين لشخص بالمعروف كل واحد منهم يأمره على حدة، إلى ان تحصل الإستجابة والقبول وشمول هذه النعمة للمسلم على وجوه:
الأول: قيامه بدعوة غيره بفعل الخير، وأمره بالطاعة وزجره عن القبيح.
الثاني: تلقيه للأمربالمعروف والنهي عن القبيح.
الثالث: إعانته على فعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة مقدمات ومستلزمات الإمتثال لاحكام هذه الآية .
الرابع: مباركته وحثه على إستدأمة العمل بمضامين الآية ، اذ أنه لا يكفي صدق الطبيعة في الإمتثال، بل لابد من التقيد الدائم بأحكام الحلال والحرام.
الخامس: الأمر الجامع للأمر وتلقيه، في آن واحد، فيكون داعياً لموضوع من الخير وآمراً بمصداق من مصاديق المعروف، ومتلقياً للأمربمصداق آخر.
السادس: التعاقب في الأمر والنهي، ففي يوم يأتيه النهي عن فعل قبيح، فيستجيب ويتوب إلى الله، فيكون حاملاً للواء الأمر بالمعروف في ذات الموضوع، لتكون النعم في هذه الآية على أقسام:
الأول: نعمة الدعوة إلى الخير وفيها وجوه:
الأول: نشر مفاهيم الصلاح.
الثاني: إفشاء الإحسان بين الناس.
الثالث: إجتناب الدعوة إلى الشر، وترك ما هو قبيح شرعاً وعقلاً وعرفاً، اذ ان الأمر بالشيء يدل على الحرص على إجتناب ضده، وقد ذم الله عز وجل الذي يحجب ويمنع الخير قال تعالى [ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ] ( ).
الرابع: التعاون بين المسلمين لأنه خير محض، وحاجة في الإمتثال لمضامين هذه الآية الكريمة قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثاني: نعمة الأمر بالمعروف، فمن فضل الله على المسلمين ان يأمرهم بالأمر بالمعروف وهذه النعمة مركبة من وجوه:
الأول: بقاء مبادئ الإسلام من غير تغيير.
الثاني: عدم طرو التحريف على القرآن، لأن تعاهده وحفظه من مصاديق المعروف.
الثالث: تثبيت نعمة الأخوة بين المسلمين، بإشاعة النصيحة والأمر بالمعروف بينهم، وبين الأمر بالمعروف والنصيحة عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء الحسن الذاتي للموضوع وإرادة الخير، ومادة الإفتراق لغة الأمر في الأول وهو أخص من الثاني.
الثالث: نعمة التعاون في الزجر عن المعاصي وفيها وجوه:
الأول: تهذيب النفوس، وجعلها غارقة في جلال الله.
الثاني: طرد الغشاوة عن البصر والبصيرة، لأن المعصية ترين على القلوب وتحجب عن الإنسان رؤية الحق.
الثالث: تهيئة مقدمات الصلاح بالإبتعاد عن الذنوب والرذائل.
الرابع: دعوة الناس لدخول الإسلام سواء بتلقيهم النهي عن المعاصي، أو رؤية المسلمين وهم يحرصون على الإبتعاد عن المعاصي ويكثرون من ذمها.
فصحيح ان الآية السابقة جاءت بالذكر المكرر للفظ النعمة، إلا ان هذه الآية تتضمن نعماً أخرى وكل أمرفيها هو نعمة وتأسيس لمدرسة باقية إلى يوم القيأمة على نحو القضية النوعية العأمة التي تتغشى أمصار الأرض وتكون حاضرة في الوجود الذهني وحاجباً دون الضلالة والغواية.
قانون الأمر أخوة
جاءت الآية السابقة بالإخبار عن ثبوت نعمة الأخوة بين المسلمين وان الله عز وجل تفضل ورزقهم إياها على نحو دفعي وإبتداء وإستدامة، فهي باقية عندهم إلى يوم القيامة، يتنعمون بها، وتترشح بركاتها على كل فرد منهم في حياته الأسرية والعملية والصلات الإجتماعية العامة.
ومن هذه البركات الأمر بالمعروف بين المسلمين فهو عنوان الأخوة بينهم وشاهد يومي على دوامها، وشامل للرجال والنساء منهم، ولا تنحصر وظيفة المرأة المسلمة بتلقي المعروف، بل تقوم به لشمولها بعمومات الخطاب الإلهي والتكليف في هذه الآية وتتجلى معاني الأخوة في ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أبهى حلله، ومن منافعه في باب الأخوة أمور:
الأول: إستدأمة العمل بأحكام الشريعة وسيلة لتثبيت الأخوة.
الثاني: الأمر بالمعروف من رشحات نعمة الأخوة الإسلامية، ومن الآيات ان تجعل نعمة الأخوة الأمر بالمعروف متصلاَ ودائماً بين المسلمين، ويسأهم الأمر والنهي في تثبيتها وتعاهدها، ولا يستلزم هذا التأثير المتبادل الدور أو توقف أحدهما على الآخر، بل كل فرد من الأخوة والدعوة والأمر والنهي نعمة مستقلة بذاتها، وتتعدد منافعها ومنها التداخل والإشتراك في الوضوع والأثر والنفع.
وكما يأتي الأمر بالمعروف بالقول ويجري على اللسان، يأتي بالفعل والعمل الصالح وما يثبت معاني الأخوة قال تعالى [وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ]( ).
فالتقيد بالوظيفة الشرعية وحسن العشرة وسلأمة الصحبة وحفظ الأمانة وتعاهد الوصية وسائل عقائدية مباركة لتثبيت سنن الأخوة ودوامها، ومضامين الأخوة باب لبيان الفارق بين المسلمين وغيرهم فاذا أنعم الله عز وجل على المسلمين بالأخوة فأنه ذم قوماً ونعتهم لإسرافهم بأنهم إخوان الشياطين، قال تعالى [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ] ( ).
فأراد الله عز وجل للأمربالمعروف ان يكون مقدمة للأخوة ووسيلة لتثبيتها وسبيلاً لدوامها، وبرزخاً دون حصول الخلاف والفرقة والتباعد، ومانعاً من الضغائن، والمنع من الضغائن ليس بالذات فقط بل بالعرض لما ينتج عنها من أسباب حجب صيغ المعروف، فاذا حصل الخلاف والفرقة، وكثرت الغيبة والنميمة فان النفرة والضغائن تؤدي إلى التباعد مما يقلل من فرص الأمر بالمعروف.
فجاء النهي عن الغيبة ونحوها لتهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات وتهيئة أسباب الأمر بالمعروف بتجلي معاني الأخوة، ومحاربة الأخلاق المذمومة، وبيان حقيقة وهي ان عدم جواز الإستماع لها من مفاهيم الود والأخوة،من وجوه:
الأول: انتفاع المستغيب بالكف عن الغيبة والتخلص من دائها، وما يصاحبها من الأضرار.
الثاني: رفع الأصر عن المستغيب ومن يستمع له.
الثالث: سلأمة عرض المستغاب.
الرابع: تنقيح مجتمعات المسلمين من الأدران والكدورات
الخامس: بيان السنن الحميدة التي عليها االمسلمون
السادس: ايجاد الحال المناسبة لتهذيب النفوس والأمر بالعروف والنهي عن المنكر.
ويظهر الأمر بالمعروف معاني الود والمحبة بين المسلمين، وحرص كل واحد منهم على نجاته ونجاة إخوأنه في الدنيا والآخرة، كما تدفع مضامين الأخوة المسلم إلى القيام بالأمر بالمعروف ونهي إخوأنه المسلمين عن الذنوب والتقصير في العبادات.
وقد يسبب النهي نوع حرج عند الناهي أو المنهي عن الشيء، فجاء القرآن بالعناية بالأثر المترتب على الفعل سواء حصلت كراهة أو لا، قال تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).ليكون الأمر والنهي نوع جهاد يتضمن العناء والتعب في مرضاة الله، وشاهدا على استحقاق الإصلاح الذاتي والغيري للجهد وتحمل المشاق. خصوصا وأن ترك الغير يرتكب المعصية يضره بالذات وفي الدارين ويرجع بالضرر على غيره.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( من أمربالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه) وعن علي عليه السلام : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أيضاً: من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكرا نكس وجعل أعلاه أسفله، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق أنه قال: ياأيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير) ( ).
وتتجلى في الأمر والنهي مصاديق حب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه من العمل الصالح وإكتساب الحسنات، وحرصه على نجاته من براثن المنكرات وإرتكاب السيئات.

قانون نفع المعروف بعد الموت
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار تكليف وعمل، يطل فيها الإنسان على عالم الدنيا حتى اذا بلغ سن البلوغ توجه له التكليف على نحو دفعي سواء كان ذكراً أو انثى، وجاءه الأمر السماوي بأداء الفرائض كالصلاة والصيام والحج، وأخذ الملائكة يحصون له أفعاله ويكتبون حسناته، ويتطلعون إلى إستغفاره، ولا تغادره الفرائض ما دام حياً وان كان بعضها يسقط بحسب الحال والتكليف، اذ ان الحج مقيد بالإستطاعة، كما أنه يجزي مرة واحدة في العمر، ووجوب الصيام مع الخلو من المرض، والزكاة مع بلوغ النصاب في أمواله.
لتبقى الصلاة ملازمة له يتجدد الخطاب فيها كل يوم خمس مرات فهي لا تسقط بحال وعدم السقوط هذا من مصاديق كونها عمود الدين، ولتبقى شاهداً على تقيد المسلم بالفرائض وحرصه على عدم تضييع القرآن بإعتبار ان الصلاة تنفرد من بين الفرائض بوجوب قراءة القرآن في كل ركعة من ركعاتها.
والصلاة من أبهى وأجمل أعمال الإنسان في الدنيا والتي ترافقه بعد الموت لتنير له القبر في عالم البرزخ، وتكون له واقية من العذاب يوم القيامة، وعنوان التوفيق في العمل في الدنيا وإجتياز الإختبار والإبتلاء فيها، ومن واسع رحمة الله وعظيم فضله على الإنسان أنه جعل للمسلم أعمإلا يأتيه الثواب عليها بعد مماته.
ومنها مضامين هذه الآية المباركة وما فيها من الأوامر والاحكام والسنن، كما ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان يستمران مع المسلم في حياته كلها، فيستطيع القيام بهما حتى وهو على فراش الموت، ليترك له أثراً بعد مماته، فمن الآيات ان إقتطاف ثواب المعروف والنهي عن المنكر لا ينحصر بأيام حياة الإنسان، فيموت ويبقى أثر أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر على وجوه:
الأول: الإقتداء به من قبل الغير.
الثاني: إستمرار إستجابة الآخرين لدعوته للخير.
الثالث: نقل أقواله وأخباره بعد وفاته فيتعظ منها الناس.
الرابع: رؤية الآخرين لعمله وإستقامته وصلاحه، فيحاكونه في فعله بعد وفاته.
الخامس: تعليمه للآخرين دروساً وعلوماً في الخير والصلاح والمعروف، وبقاؤها من بعده فيأتيه الثواب بسببها.
السادس: صلاح ذريته من بعده.
السابع: إشاعته للمعروف ومصاديق الخير والفلاح وبقاء فعله تركة.
وفي قوله تعالى [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا]( )، ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فانما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها)، في بيان لأهمية الهداية لإصلاح ودعوة الناس إلى مناهج الإيمان وسبل الطاعة.
لقد اراد الله عز وجل ان يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنزاً ونهراً جارياً تترشح منه الحسنات للعبد في حياته وبعد وفاته، ومنهلاً للثواب لا ينقطع بموته بل يدر عليه الأجر والثواب بعده، وتلك نعمة من نعم الله على الإنسان، وجاءت هذه الآية لتوكيدها والدعوة للإنتفاع الأمثل منها.
ومن الآيات ان يعمل الإنسان فعلاً صالحاً فيأتي الثواب له ولغيره، ممن لم يكن شريكاً معه بالفعل، وهذا الغير على وجوه:
الأول: أنه من أهل الدنيا، وحاضر عند الفعل.
الثاني: من أهل الدنيا ولكنه ليس حاضرا عند الفعل.
الثالث: ممن غادرالدنيا وإنتقل إلى الآخرة من زمان قريب،كالذي إستمع الفاعل منه.
الرابع: الذي غادر الدنيا من زمان بعيد، كما لو ترك أثراً علمياً ومنهجاً عأما وسنة حسنة بحيث يتصل ويستمر أثرها وعملها.
ولا ينقص ثواب الثاني من نصيب الأول، فالمشاركة في الثواب لا تعني الشركة والقسمة، بل يأتي نصيب إضافي للآخر وان كان متعدداً فمن الناس من لم تحصل عنده الإستجابة من دعوة أو أمرواحد إلا ان يتكرر من أكثر من شخص وجهة مع إنتفاعه من الأول ولكن على نحو الموجبة الجزئية التي تصلح لأن تكون باباً للثواب من وجوه:
الأول: الإمتثال للأمرالإلهي في هذه الآية بالدعوة إلى الخير والأمر بالطاعة والصلاح.
الثاني: الحسن الذاتي للأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وترشح الثواب عنهما.
الثالث: إشاعة الإمتثال للأوامر الإلهية في الحياة اليومية، فكما ان قراءة القرآن في الصلاة شاهد على تعاهده وحفظه، فكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على تقيد المسلمين بما في القرآن من الأوامر والاحكام والسنن.
الرابع: إستجابة الطرف الآخر متحداً أو متعدداً للأمربالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كانت الإستجابة كلية أو جزئية.
ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للهداية ومادة لترسيخ الاحكام الشرعية في الأرض، وتوكيد لقبح المنكر وحث على إجتنابه وبرزخ دون الجحود والعناد والضلالة.
قانون مصاديق المعروف
جاءت الآية بالأمر بالمعروف على نحو الإطلاق من غير بيان لتفاصيله وأفراده، وهو يحتمل وجوهاً:
الأول: وجود البيان والتفصيل في الآيات ال أخرى .
الثاني: مجيء البيان والتفسير في السنة النبوية الشريفة.
الثالث: معرفة المسلمين للمعروف في الواقع والعرف.
الرابع: التفسير اللغوي للمعروف.
الخامس: معرفة المعروف بلحاظ ذكر نقيضه وهو المنكر.
السادس: ميل النفس للمعروف لحسنه الذاتي والعقلي.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مفاهيم الآية وكل فرد منها عون للمسلم في تعيين أفراد المعروف والسعي اليها، وإجتناب إضاعة المعروف لأن عدم معرفة المصاديق أحد أسباب التفريط والتضييع، فقد يحرص العبد على الأمر بالمعروف ولكنه لا يستطيع تعيينه وتمييزه عن المنكر، فتفوت عليه فرصة الأمر به مع حسن نيته، أو يحصل ما هو أشد بان يأمربخلافه، وفمن رحمة الله عز وجل ان جعل طرق معرفة المعروف متعددة، وأفراده جلية واضحة، بحسب الحال والشأن، فمن أفراده ما يعرفها كل مسلم كلزوم طاعة الله، ومنها الإحسان، أي ان المسلم يأمرغيره بان يحسن للآخرين، ومن فروع ومصاديق المعروف وجوه:
الأول: أداء الفرائض والعبادات والتقيد بأحكامها.
الثاني: الأخلاق الحميدة والتحلي بالفضائل.
الثالث: البذل والعطاء، وإسداء الإحسان إلى الغير.
الرابع: ما تعرفه النفس من وجوه الخير وتسكن اليه.
الخامس: ما تعارف الناس عليه من الخير واذا رآه يستحسنونه وتطمئن إليه نفوسهم، ولا ينكرونه.
السادس: العنوان الجامع لطاعة الله ووجوه الثواب اليه، وطرق الاحسان إلى الناس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وتسأهم مجتمعة ومتفرقة في جعل الناس يعرفون المحسنات ويميلون اليها، فصحيح ان المعروف اسم مفعول إلا أنه يشترك في تعريف ذاته وتتعاهد مصاديقه معرفة الناس به، لتبقى ثابتة الصبغة في العرف العام فلا يتحول المعروف منكراً أو العكس عند الناس، وهو من الدلائل على إعجاز اللفظ القرآني وإستدأمة ثبوت معناه اللغوي والشرعي والعرفي.
ويأتي المعروف بمعاني أخرى تعرف بحسب القرائن إلا أنهإلا تخرجه عن المعنى العام له ومنها:
الأول: حسن العشرة والمعاملة الحسنة، كما في آيات الطلاق ومتاع النساء قال تعالى [وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ] ( )، أي الكسوة والدثار، وإنصاف الرجل للمرأة وعدم التقصير معها، وقال تعالى [فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ]( )، وفيه توكيد على لزوم حسن الصحبة والعشرة الزوجية، وان المعروف سور جامع يحكم الصلات اليومية والمنزلية.
الثاني: من الآيات ان المعروف لا ينحصر بالأمر من العالي إلى الداني، فقد يصدر من غير إعتبار للإستعلاء، فيأتي من المساوي ومن الأدنى إلى الأعلى.
الثالث: القول والكلمة الطيبة قال تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى] ( ).
الرابع: المكافأة بالإحسان، ورد المعروف بمثله.
الخامس: العفو والتجاوز عن المسيء.
السادس: إظهار الحلم، والتغاضي عن الإساءة.
السابع: الجود والكرم.
ومن الآيات ان المسلمين يعرفون مصاديق المعروف، ويميزون بينها وبين المنكر ولا تنحصر هذه المعرفة بالعلماء والخواص منهم، وهو من أسرار تسمية المعروف معروفاً، وفيه حجة على الناس جميعاً، بان الله عز وجل رزقهم العقل وأعان العبد وجعله قادراً على التمييز بين الحسن والقبيح، ومعرفة الاحكام الشرعية والطريق إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.
بحث أصولي
الأمر بالمعروف هو السعي لحمل الغير على الطاعة، وبلحاظ الكيفية يكون على أقسام:
الأول: الأمر بالمعروف لإتيان المعروف القولي، كما لو قال له أفشِ السلام، فجاء الأمر قولاً وكذا المعروف وفعله كلاهما قول.
الثاني: الأمر باللسان للمعروف الفعلي كما لو قال له “صلّ ” لأن الصلاة من أفضل مصاديق المعروف الفعلي التي ندب لها الأمر بصيغة القول واللسان.
الثالث: الأمر الفعلي للمعروف القولي، كما لو امره بالإعتذار وطلب العفو ممن أساء اليه، أو قيام الوالد بتأديب إبنه وحمله على قراءة القرآن والأمر الفعلي يشمل إستعمال اليد بمراتبه الفعلية المتعددة من أدناها إلى الضرب مع الإمكان والقدرة، وحتى الضرب فأنه يبدأ بالأدنى والأقل ومسمى الضرب فاذا حصلت الغاية الحميدة، فلا يجوز الإرتقاء إلى الأعلى والأشد.
الرابع: الأمر الفعلي بإتيان المعروف الفعلي، وتهيئة المقدمات الفعلية كما في أداء المستطيع الحج، أو التبرع لغير المستطيع بأداء الفريضة أو القيام بنقل المسلم إلى المسجد الذي تؤدى فيه صلاة الجمعة
والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب اليه، وما فيه نشر معالم الدين، ومضامين الإحسان والرأفة بين الناس، وما ندب إليه الشارع مما هو راجح، وجائز شرعاً ويشمل الجائز الواجب والمندوب المباح بل والمكروه، ولكن وصف المعروف بالحسن وإختصاصه بوصف زائد على حسنه يخرج منه المباح والمكروه، وان كانا من أفراد الجائز بإعتبار ان الراجح أعلى رتبة، والمباح ما تساوى طرفاه، والمكروه الذي رجح تركه ولكن فعله لا يترتب عليه إثم، نعم لو كان الأمر يؤدي إلى إنتقال المأمور من الحرام إلى المكروه، ومن المكروه إلى المباح فأنه يدخل ضمن الأمر به.
والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجب نقلاً وعقلاً، أما النقل فان آيات عديدة جاءت بها، ومن ضمنها هذه الآية المباركة، ولورود السنة النبوية الشريفة بالأمر بالمعروف والندب اليه، وكل حديث وفعل صدر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مدرسة في الأمر بالعروف والنهي عن المنكر.
أما وجوبهما عقلاً فلأنهما من اللطف، وهو تقريب العبد إلى الطاعة، وإبعاده عن المعصية من غير ان يبلغ درجة الإلجاء، فتأتي الآيات القرآنية بالندب إلى الأمر بالمعروف وفعله والثناء على الطرفين، الأمر والمأمور، مع الوعد والوعيد، الوعد لكل من:
الأول: الأمر بالمعروف مطلقاً.
الثاني: من فاز بالإمتثال لآيات الأمر والنهي عن المنكر.
والوعيد لمن تركه المعروف مع إمكأنه، وإستحقاقه العذاب لوجود المقتضي وفقد المانع.
وقد تتكرر المعصية، أو الحاجة إلى الأمر بالمعروف، وهذا التكرر على وجوه:
الأول: إتحاد الجهة المأمورة بفعل المعروف، كما لو كان نفس الشخص الذي توجهت له الدعوة والأمر سابقاً.
الثاني: تعــدد الجــهــة التي تأمربالمعروف والتي تؤمــر به مــع إتحــاد الموضوع، كما لو كان المؤمن قد أمرشــخصاً بإخــراج الزكـاة من ماله ودفعها إلى المسـتحق، وهناك مؤمن آخر يدعو غيره بذات الأمر .
الثالث: إتحاد الأمر بالمعروف كما لو كان نفس المسلم يقوم بأمرعدة أفراد بالمعروف ويحثهم عليه.
الرابع: إتحاد الأمر والمأمور والموضوع، وهو يحتمل وجهين:
الأول: الأمر المتكرر في نفس الموضوع، كما لو كرر الدعوة له بالبر بوالديه، مع الأتحاد والتشابه في الكيفية وينقسم إلى قسمين:
الأول: اذا جاء الأمر الثاني توكيداً للأول، من غير إستجابة بينهما.
الثاني: مجيء الأمر الثاني بعد حصول إمتثال ثم نكوص ورجوع عنه.
الثاني: تكرار الأمر مع الإختلاف في الصيغة والكيفية.
ولو تباينت كيفية الأمر وما يجب من الصيغة المناسبة،كما لو كان الأمر يحصل بالتنبيه بالقول ولكنه إستعمل يده وقام بضرب المأمور،فهل يؤثم الأمر ، الجواب لا، لأن المدار على النية والقصد وإرادة الإصلاح، ولكنه ترك الأولى.
الخامس: إتحاد الأمر بالمعروف مع تعدد الموضوع، كما لو أمره اولاً بدخول الإسلام، وبعده امره بإتيان الفرائض، ثم أمره بتعاهدها وحفظها وعدم التفريط بسننها.
لقد جاء الأمر بالمعروف على نحو الحكم التكليفي، والإنشاء بداعي البعث، وهو ذو مصلحة خالصة خال من شوب المفسدة.
بحث بلاغي إعجازي
من الإطناب عطف الخاص على العام، فمع ان الخاص جزء من العام، إلا أنه يذكر أحياناً بعد العام، للتوكيد عليه وبيان موضوعيته، والتنبيه على أهميته، ومنه قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( )، لأن الصلاة الوسطى فرد من عموم الصلاة، والآية محل البحث ليست من عطف الخاص على العام إلا على نحو جهتي وإلا فان الأمر والنهي غير الدعوة في الصيغة والكيفية، ولكن هناك وجوه للإلتقاء بينهما.
فجاءت الآية لتتغشى الدعوة إلى الفلاح والصلاح أفعال المسلمين، ويكونوا دعاة إلى الله في السراء والضراء، ويستعملوا كافة السبل الشرعية، لنشر مبادئ الإسلام وتثبيت قيم الشريعة، ويعتبر تعدد الأوامر الإلهية في الآية نعمة إضافية على المسلمين تمنع الخلاف، والتردد في الدعوة إلى الخير، وتزجر الناس عن الجدل وإثارة الشك عند تلقي الدعوة.
وهذه هي الآية الوحيدة التي تأتي فيها الدعوة إلى الخير مقترنة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتكون حجة على الناس في إجتماع الأمور الثلاثة، وللمندوحة والسعة في عمل المسلمين وإختيار الأنسب منها فقد تكون الدعوة أنجح في تحقيق الغرض، أو ان النصح والزجر يأتي من الأدنى إلى الأعلى فيكون بصيغة الدعوة، كما يمكن تلمس الفرق بلحاظ الضد لكل من الخير والمعروف، فضد الخير هو الشر، وضد المعروف هو المنكر، وصحيح ان كل منكر هو شر،إلا أن قبح المنكر ظاهر للناس ولا يستلزم الواسطة.
وقد لا تتبين لشطر من الناس معاني الشر فلا ينكرونه، ويكون عادة متعارفة عند الناس.أو ان شخصاً يرتكب الحرام وهو لا يعلم أنه حرام ويجادل فيه ويطالب بالدليل ويستشهد بفعل آخرين من غير إنكار فتأتي الدعوة إلى الخير لمحاربة الشر مطلقاً، والمنع من الإقأمة عليه، وفي الدعوة إلى الخير تثبيت لمصاديق المعروف وإستدأمة لفضح المنكر.
لقد منعت الآية الكريمة من حصر تأويل المعروف بما يتعارف عند الناس، فاكدت على لزوم كونه من مصاديق الخير والصلاح ويتصف بحسن زائد بالحكم الشرعي، فجاءت الدعوة إلى الخير لتعاهد مفاهيم المعروف إلى يوم القيأمة والنفرة من أفراد القبيح، وتثبيت الملازمة بين الخير والمعروف من جهة، وبين المنكر والقبيح من جهة أخرى ، فحينما يسمع الإنسان لفظ المعروف ينصرف ذهنه بالتبادر إلى وجوه الخير والفلاح.
قانون تقديم الأمر على النهي
جاء لفظ المعروف اثنتين وثلاثين مرة في القرآن منها تسع مرات في الأمر بالمعروف، ومن الآيات ان تأتي ثلاثة منها في سورة آل عمران، لتبين موضوعية أسباب الهداية والرشاد في آيات سورة آل عمران وان كانت هذه الإسباب موجودة في كل سور القرآن.
وورد لفظ المعروف في سورة النساء أربع مرات، منها مرة واحدة بالأمر بالمعروف من غير ان يقترن به النهي عن المنكر، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَأهم إلا مَنْ أمربِصَدَقَةٍ أو مَعْرُوفٍ] ( )، وفيه نكتة عقائدية وهي إستثمار النجوى للأمربالمعروف، وجعلها مقدمة ووسيلة ومدخلاً له.
ويتداخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في احيان كثيرة فيكون الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر، وكذا العكس أي ان النهي عن المنكر يكون أمراً بالمعروف مفهوماً ونتيجة، وتارة يتضمن الأمر الواحد ذات الموضوعين من غير تعارض بينهما، فيقوم المسلم بزجر المرتكب عن المعصية بالمعروف، أو ان الأمر بالمعروف يدل بالدلالة التضمنية أو الإلتزامية على النهي عن المنكر كما لو قال (صل) فأنه أمربالمعروف، ويتضمن النهي عن ترك الصلاة، و أخرى يكون النهي عن المنكر امراً بالمعروف كما لو قال له “لا تترك الصلاة” بإعتبار ان ترك الصلاة أمروجودي ومعصية.
ومن أسرار التعدد وعدم الإكتفاء بذكر الأمر بالمعروف وحده أو النهي عن المنكر وحده، أنه قد يتعلق النهي بفعل قبيح ومحرم شرعاً، كما في أكل الربا أو الغيبة، فليس بالضرورة أن يقوم الذي يكف عن أكل مال الربا بإقراض الآخرين من أمواله، وكذا النهي عن الغيبة، فيكفي الكف عن المعصية المحرمة شرعاً، أما القرض وذكر الناس بالخصال الحسنة والحميدة فهو أمرآخر يدخل في المستحبات، وجاء الإقتران بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمان مرات في القرآن يكون الأمر بالمعروف في كل مرة متقدماً على النهي عن المنكر، فليس من آية واحدة منها يتقدم فيها النهي عن المنكر.
وربما يقول قائل ان الأصل هو المنع من المعصية والردع عن الفاحشة وإعدام طبيعة المنكر ثم الأمر بالمعروف ولكن الآيات جاءت بتقديم الأمر بالمعروف وفيه مسائل:
الأولى: أهمية الأمر بفعل الصالحات، وتعلق الثواب على فعله، والقيام به.
الثانية: التوكيد على فعل المعروف ونشر الصلاح.
الثالثة: الحث على التقيد بأحكام الفرائض والواجبات.
الرابعة: عموم وإطلاق المعروف وشمول مصاديقه للواجب والمستحب وما هو حسن شرعاً.
الخامسة: الأمر بالمعروف بناء لصرح القيم والأخلاق الإسلامية.
السادسة: يسهل القيام بالأمر بالمعروف موضوع النهي عن المنكر فيستطيع المكلف القيام به، والمرتكب الإنصات له، لأن بيان المعروف يجعل قبح المنكر واضحاً.
السابعة: دلالة الأمر بالمعروف على لزوم إجتناب المنكر.
الثامنة: أفضلية المعروف، وتزيينه في النفوس بتقديمه والتوكيد عليه.
التاسعة: بيان عز المسلمين، وأهليتهم للأمربالخير والمعروف، وقدرتهم عليه.
العاشرة: دعوة المسلمين للعنآية الفائقة بالأمر بالمعروف، وحثهم على التقيد بأحكامه وسننه.
الحادية عشرة: صحيح ان كلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمران وجوديان إلا ان الأمر أبين في وجوده وظهوره وما يترشح عليه من النفع.
الثانية عشرة: إستدأمة الأمر بالمعروف، فالإنسان محتاج للهداية بعد الكف عن المعاصي حتى على القول بان هذا الكف أمروجودي وليس عدمياً وهو المختار.
وفي تقديم الأمر دعوة للمسلمين للنهوض بمسؤوليات الإمامة، والحرص العام على تثبيت مبادئ الإسلام، وكأن الأمر والنهي كالهجوم والدفاع، بمعنى ان الأمر بالمعروف هجوم على آفات النفس وسعي للنصر والغلبة، وعدم إنتظار مباغتة السيئات وشيوعها بين الناس، وان النهي عن المنكر دفاع عن مبادئ الشريعة، والأخلاق الحميدة، ووقاية للنفوس والمجتمعات، فجاء تقديم الهجوم لأن منافعه أكثر وتتضمن في معناها النهي عن الفحشاء والمنكر.
قانون المعروف
جاءت الآية الكريمة بالأمر بالمعروف, من غير ذكر لمصاديقه, وكيفية صيرورته معروفا،ومتعلق المعرفة به اذ أنهاتحتمل على وجوه:
الأول: أنه معروف عند المسلمين.
الثاني: معروف عند المليين، وشاهد على وجود الحنيفية.
الثالث: شمول دائرة المعرفة به للناس جميعا.
الرابع: تتأتى المعرفة به من القرآن والسنة.
الخامس: يدرك العقل أفراد المعروف.
السادس: المعروف الذي يعرف حسنه في الشرع.
السابع: ما يكون معروفا بحسنه عند الملائكة. فلما أنكر بعضهم خلافة الإنسان في الأرض، أراد الله ان يريهم أهلية الإنسان للخلافة بفعله مايكون معروفا عندهم بحسنه الزائد.وإجتنابه ما أنكره الملائكة حين خلق آدم، وكأن إنكارهم يتعلق بالفعل المذموم، وليس في أصل خلق آدم أو وراثته الأرض.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وتتغشاها مفاهيم المعروف، وتتجلى في كثرتها اسرار اللفظ القرآني وإحاطته بالمتعدد من المعاني والمضامين بالإضافة إلى تداخلها وتعاضدها، فالعقل عون وعضد للنبوة، وكأن في الآية حذفا والمراد المعروف عند المسلمين جميعاً،والناس على نحو الإجمال , وعندالملائكة، ومعرفته ثابتة لا تقبل التغيير أو التبديل, لأصالة الإطلاق من وجوه ثلاثة:
الأول: شمول معرفة المعروف للناس جميعا، على نحو العموم الإستغراقي.
الثاني: تغشي المعرفة للأجيال المتعاقبة.
الثالث: إستيعاب المعرفة لجميع مصاديق المعروف.
ودوام بقاء معرفة مصاديق المعروف إلى يوم القيأمة آية إعجازية من وجوه:
الأول: أنه من أسرارخلق الإنسان ووسيلة لجعله يميز بين الأشياء من جهة الحسن أو القبح الشرعي، فحتى الكافر يعرف ما يحسنه أو يقبحه الشرع.
الثاني: وجود مفاهيم ثابتة عند الناس مع تعاقب الأجيال، وتباين أفراد الزمان الطولية.
الثالث: التقاء الأمم عند اصول راسخة، ليكون هذا الإلتقاء حجة على الناس، ووسيلة للصلاح، ويحتمل هذا الإلتقاء وجوها:
الأول: أنه موضوع قهري
الثاني: تأتي معرفة مصاديق المعروف هبة من عند الله.
الثالث: تحصيله عن طريق الإكتساب.
الرابع: أنه من تركة النبوة، فمن أفراد جهاد الأنبياء تثبيت المعروف بين الناس.
الرابع: أنه من وظائف العقل , الذي جعله الله حجة ذاتية عند الإنسان
الخامس: أنه من اللطف الإلهي وتقريب العباد لسبل الطاعة معرفة الناس في كل زمان لمصاديق المعروف.
ولفظ المعروف بسيط واسم مفعول يدل على تقدم زمان حصول المعرفة،وفيه إلى جانب الحجة تخفيف عن الناس، وحث للمسلمين على تعاهد مصاديق المعروف في القول والعمل, ليبقى المعروف عونا للإنسان في أداء الوظائف العبادية التي جعلها علة لخلقه.
ونعته بالمعروف إعجاز في بيان فضل الله على الناس في جعل مفاهيم وسبل العبادة معلومة ومعروفة عند جميع الناس. وإخبار عن إتحاد صيغ المعرفة في كل الأزمنة، وهو عنوان الإتحاد الكريم والإتصال بين بني آدم في أجيالهم المتعاقبة، وإتصاف هذا الإتصال بأنه مبارك،وخال من اللبس والترديد، وفيه دعوة للناس لإتباع المسلمين، وتذكير للجميع بلزوم تعاهد سنن الأنبياء والصالحين.
بحث كلامي
كل الخلائق هي ممكنة الوجود لذاتها، وتفتقر في أصل وإستدأمة وجودها إلى الله تعالى ومشيئته، لإستحالة وجود الممكن بلا علة، وإستحالة تخلف المعلول عن علته.
وذكرنا لأصل وجودها إشارة إلى ان الله عز وجل هو المؤثر في الممكنات والخالق والمنشئ لها من العدم، وليس من تسلسل في الخلق بل الله عز وجل هو واجب الوجود وما عداه حادث، والله عز وجل هو الذي أحدث وأوجد الأشياء مطلقا، وليس من مستغن عن غيره إلا الله تعإلى، والإنسان من أشرف الخلائق وهو محتاج ولا يستطيع الإستغناء عن الله عز وجل في إستدأمة حياته وفي رزقه وفي عمله وما يختاره من الأفعال،وعدم الإستغناء هذا شرف عظيم للإنسان.
وقد خلق الله الإنسان لعبادته، وعلة الخلق هذه تحتمل وجوهاً:
الأول: يكون الإنسان عابداً طائعاً لله بالفطرة، وأنه كالملائكة في عبوديته لله، وان تباين أصل الخلقة والماهية، فالملائكة مخلوقون من عقل محض، أما الإنسان فمخلوق من عقل وشهوة.
الثاني: إعتبار أثر العقل والشهوة في إختيار وفعل الإنسان.
الثالث: ترك الإنسان وشأنه.
الرابع: إعانة الإنسان بمصاديق اللطف الإلهي التي تساعده على التمييز بين الحق والباطل،والحسن والقبيح، وما يساعده على إختيار العبادة والسعي في مرضاة الله.
والصحيح هو الأخير، فان الله عز وجل أنعم على الإنسان بإسباب الهداية والتقريب إلى طاعته، وإقأمة الحجة عليه بالتنزيل والنبوة والآيات الكونية، وأسرار خلقه.
ومن النعم الإلهية في أسباب الهداية والتوفيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: ثبوت معاني المعروف ومعاني المنكر في أذهان الناس والعرف العام.
الثاني: تفضله تعالى بإعانة المسلمين للإرتقاء في المعارف الإلهية.
الثالث: بيان القرآن والسنة لمصاديق القرآن، وضروب المنكر بما يجعل التمييز وعدم الخلط بينهما أمراً سهلاً، وبمقدور كل إنسان.
الرابع: جعل نفوس المسلمين تميل إلى العبادات وتحب الإمتثال للأوامر الإلهية، وتشتاق للقاء الله تعإلى.
الخامس: إعانة المسلمين على أداء العبادات والفرائض.
السادس: التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث المسلمين على الإنبعاث إلى فعل الخير وما هو حسن شرعاً، وإجتناب ما تنفر منه النفوس المؤمنة.
السابع: دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف خير محض،ويحصل التداخل والملازمة بينهما من وجوه:
الأول: يدخل الأمر بالعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى [يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ]
الثاني: تدخل الدعوة إلى الخير في الأمر في قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ]
الثالث: تدخل الدعوة والأمر بالمعروف في النهي عن المنكر في عمومات قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ].
بحث منطقي
يسعى الإنسان في حياته لطلب الحقيقة، والتمييز بين الحق والباطل، ومن أهم الطرق لإصابة الحق وزيادة المعرفة هو البرهان، وهو قياس مؤلف من يقينيات ينتج يقيناً بالذات، والبرهان على قسمين:
الأول: البرهان الإني: وهو الإستدلال من المعلول على العلة، وبعدم المعلول على عدم العلة، فعند النهارتكون الشمس موجودة،فالعلم بالمعلول سبب للعلم بوجود العلة، فيكون المعلول واسطة في الإثبات وكأنه علة للعلم بالعلة.
الثاني: البرهان اللمي وهوالإستدلال بالعلة على المعلول، وبعدم العلة على عدم المعلول، فمتى ما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، فوجود أحدهما ينتج عنه وجود الآخر، للملازمة بينهما وإستحالة تخلف المعلول عن علته، وعدم وجود المعلول بلا علة.
ترى ما هي علة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجواب من وجوه:
الأول: الأمر الإلهي في هذه الآية الذي يحمل على الوجوب.
الثاني: وجود تقصير وقصور عن الوظائف الشرعية فيأتي الأمر بالمعروف ليكون علة لإجتناب التقصير فيها.
الثالث: معالجة علة التقصير وإرتكاب الآثام، فلا ينحصر الأمر والنهي بإصلاح الفعل، بل يأتي على علته، ويمنع من سببه، لذا فقد يكون الأمر في موضوع واحد متعدداً وعلى وجوه:
الأول: التعدد وتشعب أوأمرمتعددة عن الأمر الأول، فان ألتأخر في إصلاح الحال وجذب الإنسان لفعل المعروف يحتاج في الغالب إلى أوأمر أخرى تتعلق بالإسباب والنتائج.
الثاني: الحاجة إلى مستلزمات مالية لتنجز المعروف والإنزجار عن المنكر، ويأتي الإنفاق في سبيل الله ظهيراً وعوناً ومتمماً للأمربالمعروف.
الثالث: الإيثار وتقديم نفع الغير وما فيه صلاحه على الحاجة الشخصية، وتقديم الأهم على المهم، وان كان الأهم يتعلق بمصلحة المأمور بالمعروف.
الرابع: التوجه لمعالجة التخلف عن الواجب، وإرتكاب المعصية، وإزاحة المانع من الصلاح.
ليكون قول وفعل المسلم علة وسبباً لهداية وصلاح غيره، نعم لا يكون الأمر علة تأمة كي يقال بإستحالة تخلف معلولها عنها، فليس كل أمرونهي يؤدي بالضرورة إلى الإستجابة والإمتثال، ولكنه جزء علة للإصلاح، وإمتثال من طرف الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر،فهذه الآية لا تدل على الملازمة بين الأمر بالمعروف والإمتثال له، والنهي عن المنكر والكف عن المعاصي،إلا بالواسطة والتقريب، ولكنها تدل على إمتثال المسلمين وقيامهم بالأمر والنهي
وهل يتعلق الثواب بإستجابة المأمور ام أنه يترتب على الأمر والنهي، الجواب هو الثاني نعم يزداد الثواب بإستجابة المأمور للسببية في الخير، وهذه الزيادة مادة لحث المسلمين على المبادرة إلى الأمر والنهي والفوز بالثواب المضاعف.

قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]
بعد الأمر الإلهي للمسلمين بالدعوة إلى الخير وإلى الإسلام وبيان مبادئه وأحكام الحلال والحرام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد الأمر بتوليهم لمسؤوليات إمأمة الناس بالأمر بالمعروف والطاعة، وعدم التهاون فيه المستقرأ من قيامهم به على نحو الأمر للآخرين،الذي يدل على الرفعة والعز والتسليم بصدق وصحة ما يأمرون به، جاء هذا الشطر من الآية بأمرالمسلمين بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وهذا الجمع بين الأمور الثلاثة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دليل على تولي المسلمين لوظائف المحافظة على كلمة التوحيد ومبادئ الشريعة السماوية في الأرض، ويحتمل النهي عن المنكر أمرين:
الأول: وجود المنكر وحصول المعصية من قبل شطر من الناس والحاجة إلى النهي عنه، ووجوه الحاجة على شعب:
الأولى: الذي يرتكب المعصية للأخذ بيده نحو سبل النجاة.
الثانية: المسلم الذي ينهى عن المنكر لمنع سرآية الفواحش.
الثالثة: الناس عأمة للزوم نشر مبادئ الإسلام، وأن يكون الدين لله.
الرابعة: حاجة المسلمين على نحو الخصوص.
والصحيح هو ان النهي عن المنكر حاجة للناس جميعاً، فالمسلمون يقومون بما يأتي بالنفع على الناس، فان قلت سلمنا بإنتفاع الذي ينهاه المسلمون عن فعل المعصية فكيف ينتفع غيره، الجواب ان النهي الشخصي زجر للجميع عن إتـيان موارد المعصية.
الثاني: عدم وجود المنكر، ولكن الآية تحذير وتنبيه ووقاية وإستباق لحصوله، فما دام المسلمون مستعدين للنهي عن المنكر فان الآخرين يخافون إرتكابه.
الثالث: الأمر الجامع وهو وجود المنكر ومن يرتكب المعاصي والوقاية من وقوعه.
والصحيح هو الثالث، فالمنكر والمعصية والجحود أمور موجودة في الأرض، وجاءت الآية لوجوه:
الأول: المنع من إستدأمة المعاصي والفواحش.
الثاني: إقأمة الإنسان على الذنوب والخطايا.
الثالث: الحيلولة دون وقوع الذنوب والمعاصي إبتداء.
الرابع: إعدام طبيعة المنكر.
ويتصور النهي عن المنكر على وجوه:
الأول: النهي بالسيف وإستعمال السلاح، والمراد من الأمة في قوله تعالى ( ولتكن منكم أمة ) المجاهدون الذين يخرجون في الكتائب والسرايا في سبيل الله.
الثاني: النهي بالقول واللسان.
الثالث: إستعمال اليد والضرب.
الرابع: الكراهة القلبية، وإجتناب مخالفة أهل المعاصي.
والصحيح هو الوجوه الثلاثة الأخيرة، ولا تعارض بين الجهاد والنهي عن المنكر، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل جهاد هو نهي عن منكر وليس العكس، والقدر المتيقن من الآية هو النهي القولي والزجر وإستعمال اليد عند الضرورة فاراد الله عز وجل للمسلمين ان يكونوا في حال جهاد من جهة الأثر والثواب من غير حمل السلاح، والإحساس بحرارة السيف وجريان الدم، أنهاالكلمة والموعظة و الفعل لنصرة الدين وتهذيب المجتمعات من الرذائل والمعاصي.
بحث أصولي
يتعلق الأمر بطلب إيجاد شيء كما يتجلى بصيغة إفعل وإتيان متعلقها، أما النهي فيدل في مادته وصيغته على ترك الفعل (لا تفعل) لذا قيل بان النهي طلب ايضاً ولكن بصيغة طلب الترك، ولا مانع من هذا المفهوم للنهي، إلا أنه ذو خصوصية في دلالته اذ يأتي بمعنى الترك والكف والزجر عن فعل.
وقيل بتعذر تعلق النهي بطلب الترك، فقولك (اترك الغيبة) فان فعل الغيبة قد تم وحصل، فلا تكون هناك قدرة على الإمتثال والتأثير في المعدوم، ولكن يرد عليه بإرادة مصاديق الفعل المذموم ذاته والردع من إستمرار وقوعه.
فالنهي لا يتعلق بما مضى منه بل يخص ما لم يأتِ من أفراده، ومنع إستصحاب حدوثها، وتجدد فعلها وغلق باب الوجود على المسمى منها فكما ان المكلف قادر على فعلها في السابق فأنه قادر في الزمن اللاحق على إتيأنهاوفعلها، فيستلزم بذل الوسع لمنع النفس والجوارح من إتيان ذات الفعل المنهي عنه لوجود مفسدة فيه بالذات أو العرض، بخلاف الأمر الذي يتضمن المصلحة فأنه يدل على البعث والتحريك لإتيأنه.
وجاءت الآية بإطلاق النهي وهو على وجوه:
أولاً: النهي التنزيهي: وهو الذي يأتي للإخبار عن وجود غضاضة وحزازة في متعلقه، وإ رادة تنزه المكلف عن الكيفية المنهي عنها، ومرجوحيتها، وهو على قسمين:
الأول: النهي التنزيهي في العبادات وهو الذي يتعلق بوصف وصيغة مخصوصة في أداء العبادة لإجتناب المكلف لمتعلقه، أو يتعلق بموضوع العبادات وإزالة الموانع من صحتها وقبولها،ومنه ما يكره من اللباس حال الصلاة مثل الثوب ذي التماثيل،ووإتخاذ الرجل اللثام، ومكروهات المكان الذي تؤدى فيه مثل الحمام وإن كان نظيفا والبيت الذي فيه خمر والمقابر.
الثاني: النهي التنزيهي في المعاملات: وهو الذي يخص حصة وكيفية في المعاملة كيمين اللغو.
ثانيا: النهي التحريمي: والمراد منه الحرمة والكف والزجر الصادر من المولى للمنع على نحو السالبة الكلية فيما يخص متعلق النهي، في مقابل الأمر المولوي الذي يصدر بداعي البعث والتحريك والوجوب.ومنه النهي عن الشرك، وعن ترك العبادة.
ثالثا: النهي الإرشادي: الذي يأتي للتنبيه والإرشاد للإجتناب وبيان الضرر أو المفسدة في متعلق النهي , ولو دار الأمر بين النهي التحريمي والإرشادي فالأصل هو التحريمي.
قانون النهي عن المنكر
صاحبت النبوة الإنسان منذ هبوطه الأرض، ومن خصائص النبوة دعوة الناس للعبادة ومنع المعصية والفحشاء، وجاهد الأنبياء في أبواب النهي عن المنكر، وتحملوا بسببه أشد أنواع الأذى، ولم يكلوا أو يملوا، ومن الآيات في خلق الإنسان ان النهي عن المنكر لم ينحصر بالأنبياء والرسل، وعدم الإنحصار هذا نعمة على بني آدم لما فيه من أسباب الصلاح في الدنيا والثواب في الآخرة.
فنهض أصحاب وأنصار الأنبياء بمسؤوليات الزجر عن المعاصي، لان الأمر بالمعروف واجب كفائي على المسلمين، والمنكر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، وتتصف جميع مراتبه بالقبح الذاتي والعرضي، لذا جاء الأمر الإلهي للمسلمين بلزوم الزجر عنه، وإرشاد الناس إلى الإقلاع عنه.
وقد يأتي النهي عن فرد من أفراد المنكر، فيؤدي إلى الوقاية والأحتراز من أفراد عديدة منه، والعكس ايضاً صحيح، فاذا ترك فرد من أفراد المنكر من غير زجر ونهي فان أفرادا كثيرة تتفرع وتتشعب عنه، ويتمادى الفرد والجماعة في المعاصي فجاءت الآية بالأمر إلى المسلمين بالتصدي بكل الجهود الممكنة لمنع أي فرد من أفراد المعصية والفجور.
ويعتبر النهي عن المنكر من مصاديق الإرادة التكوينية والتشريعية، وآية في التخفيف عن الناس وإعانتهم في الوقاية من ادران المعصية،وهو من اللطف الإلهي الذي يجري على ايدي المسلمين بإسباب ظاهرة وملموسة، ليكون مقدمة لفعل الصالحات وتعاهد مصاديق المعروف، وتركها إرثا للأجيال.
لقد اراد الله عز وجل أن تكون في الأرض واقية من إستدأمة الفواحش والذنوب، فجاءت مزاولة الإنسان للنهي عن المنكر حجة عملية في الإجابة الإنسانية على الملائكة حينما سألوا عن علة خلق الإنسان مع أنه يفسد في الأرض،فالنهي عن المنكر شاهد على رفض الإنسان للمنكر , وموافقته الملائكة في إنكار الإفساد في الأرض، ودليل على مواصلته الجهاد لإعمار الأرض بالتقوى والصلاح،وبلحاظ قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسائل:
الأولى: استمرار النهي عن المنكر، وقد ينحسر من الأرض على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية.
الثانية: وجود أمة تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر, وليس من أمة تدعو إلى الضد, فإن قلت أن المنافقين يأمرون بالمنكر، قلت: إن المنافقين ليسوا بأمة, بل أنهم يأتون بأفعال شخصية يتبين قبحها ويسهل فضحها، ويأتي النهي عن المنكر للزجر عنها.
الثالثة: تزلزل المنكر، وعدم ثباته في النفوس والمجتمعات.
الرابعة: أهلية المسلمين لخلافة الأرض، وتوكيد ما يتحلون به من الفضائل والسمو الأخلاقي والسمت الحسن.
الخامسة: عدم غلبة المنكر، فالمسلمون ينهون عن المنكر إلى يوم القيامة, من غير كلل أو ملل.
السادسة: استدأمة العون الإلهي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قانون إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جاءت الآية بالنص الصريح بالأمر بالمعروف ويحتمل أموراً:
الأول: إشتراط فعل الأمر لكل مصاديق المعروف، وتقيده بمضامين موعظته،لمعاني التنبيه المستقرأ من عمومات قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ]( ) ولإحتمال عدم انصات الناس لمن لا يرتدي لباس التقوى، الذي يتغشى الأفعال كلها.
الثاني: كفاية إتيان المكلف لما يأمربه من المعروف فاذا كان يأمربإتيان الصلاة فيكفي مواظبته على أدائها، وان كان مقصراً في بعض الاحكام الشرعية، وهذا على شعب:
الأولى: ما إذا كان تاركاَ لضرورة من ضرورات الدين، كما لو كان ممتنعاً عن الزكاة مع بلوغ النصاب في أمواله، وتعلق الزكاة بها، أو أنه لا يؤدي فريضة الحج مع وجود الإستطاعة، فيجب ان يصلح حاله ويتوب إلى الله، وهو بحاجة إلى الأمر بالمعروف، وتلقي الموعظة.وهذا التلقي على وجوه ثلاثة:
الأول: تقدمه زمانا على قيامه بالأمر بالمعروف، فمن أجل أن يتولى وظيفة الأمر بالمعروف عليه أن يصلح سريرته وفعله.
الثاني: إقتران تلقي الموعظة بالأمر بالمعروف.
الثالث: جواز تأخرالموعظة والإصلاح الذاتي عن الأمر بالمعروف والسعي في إرشاد الناس .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وليس فيها ما يمنع من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: من كان يرتكب صغائر الذنوب مع تقيده بالفرائض.
الثالثة: الذي يرتكب الفاحشة في السر والخفاء.
الثالث: الذي يأمربالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويفعله، ومن الآيات في السنة النبوية الشريفة أنهاذكرت هذا القسم وهو أخسها، مما يعني الإلتفات إلى غيره، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر:”يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار وانما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم وتأديبكم؟ فيقولون: انا كنا نأمركم بالخير ولا نفعله”( ).
ويؤكد هذا الحديث وجود أناس يأمرون بالمعروف وينصت لهم قوم وينتفعون من أمرهم، ويأخذون بنصيحتهم ويقبلون موعظتهم، ولكنهم لا يعلمون بإرتكابهم المعصية، فيفاجأون بهم واذا هم في النار، بسبب إرتكاب المعصية، ويبين هذا الحديث حرمان أهل المعاصي بالتخصيص من ثواب الأمر بالمعروف، أو ان الثواب لا يرجح كفة الميزان لكثرة معاصيهم، والأول أرجح.
وسمع الحسن البصري مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا افعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟
ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمرأحد بمعروف ولا ينهى عن منكر( ).
والتعارض بين القولين شبهة بدوية لأن المراد إجتناب فعل المعاصي، والحرص على الإقرار بالتقصير في مقامات العبودية والشكر لله تعإلى، وان هذا الإقرار لا يكون مانعاً من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن منافع الآية الكريمة إصلاح الذات والعمل بالمعروف، فاذا أدرك المسلم ان من واجبه الأمر بالمعروف فأنه يحرص على المقدمة الداخلية له ويكون بنفسه أسوة وقدوة، فيراجع أفعاله، ويقارن بينها وبين أقواله، وبين ظاهره وباطنه ليكون الباطن موافقاً للظاهر.
فيصبح وهو يحب فعل المعروف، وتنفر نفسه من المنكر ويشعر بقبحه، فتأتي دعوته إلى الناس صادقة ونابعة من القلب وفيها نوع تحد ودعوة للإقتداء به، وعدم الخشية من إفتضاح أمره، أو مواجهته بالإستخفاف والجدل والذم، فيكون قصد الأمر بالمعروف سبباً للنزاهة الشخصية، وموضوعاً للصلاح.
وتفيد الآية الإطلاق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو باب فتحه الله لجميع المسلمين والمسلمات ودعأهم إلى ولوجه وجعله مادة للجهاد وسبيلاً للإقتداء بالأنبياء وإنتهاج مسلك الصلحاء وموضوعاً لوراثة الأرض والتفاخر بين الأمم، وبابا لنيل الثواب، وهذا الإطلاق من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
ويستلزم فعل المعروف وعمل الصالحات تعاوناً وتضامناً بين المسلمين ونبذ الفرقة والتشتت، وليس لأحد منهم أن يقول لا يهمني إلا إصلاح نفسي بل وان قال هذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من إصلاح النفس، لأنه واجب ولا يتقوم الإصلاح والصلاح إلا بإتيان الواجبات وفعل الصالحات بقصد القربة إلى الله.
ولا تنحصر المسؤولية الشرعية بالذات، بل تشمل الأهل وغيرهم كما في قوله تعالى [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( ).
وجاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو الإطلاق ، وإرادة نشر الصالحات ومحاربة الظلم والفساد، وأمرت الآية المسلمين بان يقوموا بسنة الأنبياء والأولياء في أمرالقريب والبعيد بالمعروف ونهيهما عن القبيح.
قانون الجمع بين الخير والمعروف والنهي عن المنكر
جاءت الآية بصيغة العطف بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم تقل الآية “يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” بل ذكرت الدعوة إلى الخير، ولم تقل “أمة يأمرون بالمعروف وأمة ينهون عن المنكر”، فذات الأمة تقوم بالأمور الواردة في الآية لتنفرد من بين آيات القرآن بالجمع بين الأفراد الثلاثة وتكون مدرسة مستقلة في التعدد والتشعب في صيغ وكيفية وماهية العمل الصالح.
ولقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق، فان الجمع بين أفرادها أمرممكن ومستطاع وغير متعذر، نعم هو من لوازم قيام الأمة به مجتمعة، ولكن هل بمقدور الفرد الواحد من المسلمين القيام بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم، من وجوه:
الأول: التدريج والتعاقب في الفعل، فزمان إتيان أحدها غير زمان الآخر.
الثاني: تعدد وإتحاد مواضيع الأطراف الثلاثة، فمن الآيات إمكان التفكيك أو الإتحاد في فعل الأمور الثلاثة، لأن كل واحد منها من الواجبات الكفائية التي يجب الإنبعاث اليه، والإجزاء وصدق الإمتثال بقيام الفرد المتحد به.
الثالث: الثواب الجزيل بإتيان كل فرد من أفراد الأمور الثلاثة، وينبسط الثواب على كل فرد منها، فكلما يقوم المسلم بدعوة إلى خير أو أمربمعروف، أو نهي عن منكر مخصوص يأتيه الأجر والثواب، ولو جاء بفعل متحد يتضمن الأمور الثلاثة فهل يكون الثواب متحداً أو متعدداً، كما لو جاء بفعل واحد إستطاع معه أن يخلص شخصا من التلبس بالمعاصي وجعله يقبل على الطاعات والتقيد الدفعي التام بالفرائض مرة واحدة.
الجواب هو الثاني، فان الثواب يكون متعدداً لأن الله سبحأنه يعطي بالأوفى، وخزائنه لا تنفذ ولو شاء الله لأفرد آية منفصلة للدعوة إلى الخير، وآية أخرى للأمربالمعروف وثالثة للنهي عن المنكر، أو جعلها في آيتين كل واحدة مستقلة عن ال أخرى ، ولكنه سبحأنه جمع الأمور الثلاثة في آية واحدة مع لحاظ لغة التبعيض في التكليف بان يقوم بها مجتمعة ومتفرقة شطر من المسلمين وليس الجميع.
ان الجمع بين الأمور الثلاثة في الآية مدرسة في الجهاد وشاهد صدق على جعل المسلمين الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وسلاحا يبعث الخوف والرعب في قلوب أعداء الإسلام، ويجعلهم يخشون المسلمين ويتوقعون مهاجمة المسلمين أو فرد منهم في أي وقت، وليس هذه المهاجمة بالسيف والخيل والسلاح، بل أنهاهجوم لطيف يبعث معاني الود لأنه خير محض ودعوة للصلاح، ومرآة للأخلاق الحميدة والفضائل التي يتحلى بها المسلمون.
ويجعل الجمع بين أفراد الخير والمعروف والنهي عن المنكر كل مسلم يلحظ نفسه ويراقب أفعاله فأما أن يكون آمراً أو يكون مأموراً وليس من برزخ بينهما، وان فرط في واحد منها يأتيه الأمر والنهي لينقله إلى بر الأمان والسلامة.
والدعوة إلى الخير عأمة في مواضيعها وتشمل المسلمين على نحو العموم الإستغراقي، وفيها بعث إلى فعل الصالحات وبإمكان كل مسلم ان يدعو إلى الخير لذا جاء تقديمها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه من تقديم العام على الخاص.
قانون اجتماع الدعوة والأمر والنهي
بدأت الآية الكريمة بالدعوة والندب إلى الخير، والدعوة أدنى مرتبة وأعم من الأمر ، لخلوها من صيغة الأمر (إفعل) وتتضمن التوسل والرجاء والندب والحث والترغيب، وجاء التعدد والعطف بين الخير والمعروف وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً:
الأول: العموم والخصوص المطلق وهو على قسمين:
الأول: كل خير هو معروف.
الثاني: كل معروف هو خير.
الثاني: العموم والخصوص من وجه.
الثالث: التساوي وأنه من المترادف أو الإشتراك اللفظي.
والصحيح هو الثاني، فبينهما وجوه للإلتقاء والتشابه و أخرى للإختلاف، ومن الأولى أمور:
الأول: الحسن الذاتي والعرضي، لكل من الخير والمعروف.
الثاني: مجيء الأمر الإلهي بكل منهما.
الثالث: النفع الحسن.
الرابع: يتعلق كل منهما بالفعل الذاتي، والإحسان للغير.
الخامس: الثواب والأجر بفعل أي منهما.
أما وجوه الإفتراق فهي:
الأول: الخير ضده الشر، والمعروف ضده المنكر.
الثاني: الخير أفعل تفضيل، ويتضمن وجود كمال الشيء، والمعروف ما عرف حسنه.
الثالث: موارد الخير أعم من موارد المعروف، لذا جاءت الآية بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف.
ولأن المعروف يعلم الناس حسنه، جاءت الآية بالأمر به ليكون الحسن مصاحباً للمسلمين في أقوالهم وأفعالهم، في أوامرهم لأخوأنهم وللناس جميعاً، ويشيعون كل أمرحسن، وفيه توكيد على الحسن الذاتي للعبادات وتستلزم الأمر بها ولا تقف عند الدعوة اليها.
لقد أراد الله عز وجل نشر مفاهيم الخير والصلاح، وتنزيه المجتمعات من الشر، وتهذيب النفوس، والسعي في ميادين الخير والفلاح والفصل بين الناس بالدعوة والسؤال والرجاء والحث.
ولا تنفر النفوس من الدعوة إلى الخير بطرفيها:
الأول: صيغة الدعوة ولغة المناشدة.
الثاني: ميل النفوس إلى فعل الخير، فحتى لو غلب الشح والبخل وروح الظلم والتعدي عند أحدهم فأنه ينصت لدعوة الخير سواء أخذ بالدعوة أو لم يأخذ بها، والدعوة إلى الخير هي ايضاً خير محض، ونشر لمبادئ الخير وبرزخ دون شيوع مفاهيم الشر، وتحتمل الآية أمرين:
الأول: ان الخير موضوع، والدعوة له هي المحمول.
الثاني: كل فرد منها موضوع مستقل بذاته.
والصحيح هو الثاني، فيترتب الثواب على كل فرد منهما، وجاءت الآية بالأمر بالدعوة إلى الخير فهي موضوع قائم بذاته، يؤتى به بقصد الإمتثال ورجاء الثواب.
ولا يعني إبتداء الآية بالدعوة إلى الخير عدم الإبتداء بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر فصحيح ان الدعوة إلى الخير أعم في موضوعها إلا ان العطف في الآية لا يفيد الترتيب في الأهمية، بل يصح ابتداء المسلم بالأمر بالمعروف بحسب الحال والشأن، وفيه دلالة على الأمر الجامع ووجود المصلحة والغرض في كل فرد منها، وإشارة بأن كل واحد منها في طول الآخر،وإمتداد له.
وفيه أكرام للمسلمين وبيان لأهليتهم للجمع بين الوجوه الثلاثة التي تبعث على الصلاح والإصلاح، وتجعل الحياة الدنيا دار جهاد وسعي وعمل للآخرة، وتبين ان مسؤولية المسلم لا تنحصر بذاته بل تشمل وظائف الأخوة الإيمانية، والأخوة الإنسانية مع الأمم والأفراد.
ويحتمل العطف في الآية وجوها:
الأول: إرادة وحدة المطلوب، وان هناك مصلحة واحدة تترتب على الإمتثال للأوامر الثلاثة الواردة في الآية ، وان الإستجابة تحصل بالفعل الجامع لها وتنعدم بإنعدامه، ولو حصل الإمتثال على نحو متفرق إتيان كل فرد من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على نحو الإستقلال.
الثاني: تعدد المطلوب وفيه وجوه:
الأول: وجود أمرخاص لكل فرد منها، وفيه مصلحة وغرض خاص مستقل غيره، فالغرض من الدعوة إلى الخير غير الغرض من الأمر بالمعروف، وهو غير الغرض من النهي عن المنكر.
وقد يتحد الغرض والمصلحة ولكن كل فعل مستقل عن الآخر، وكل غرض يترتب على ذات الفعل، ومن تخلف عن أحدها، ينال الثواب من الأمر الثاني والثالث، لذا جاءت الآية بصيغة التبعيض وكل أمة تعمل على نحو الإختصاص، والإنفراد على نحو الأفراد غير الإرتباطية، فأمة تدعو إلى الخير، و أخرى تأمربالمعروف، وثالثة تنهى عن المنكر.
الثاني: اذا فات المسلم الإشتراك مع الأمة التي تدعو إلى الخير، فأنه يستطيع الأمر بالمعروف وان وجدت موانع دونه فيقدر على النهي عن المنكر لتعدد التكليف في الآية .
الثالث: الإتيان بأحد الأمور الثلاثة على نحو الموجبة الجزئية، والإتيان بالآخر بمرتبة اعلى وأعم، والفعل الباعث على إستجابة الطرف الآخر، كما لو امره بالمعروف بالقول مرة واحدة، ولكنه يبذل الوسع معه في الدعوة إلى الخير.
الرابع: الفورية في أداء أحد الأمور الثلاثة، والإبطاء والتأخر في غيره.
الخامس: الترتيب بان يبدأ المسلم بالدعوة إلى الخير حتى يتقن صيغها ثم يتوجه إلى الأمر بالمعروف.
السادس: كفاية القيام بأحد الأفراد الثلاثة ليحصل الإمتثال.
الثالث: التخيير بين احد الأمور الثلاثة، بإعتبار ان كل فرد منها واجب كفائي، فيجزي المسلم ان يكون داعياً إلى الخير، أو آمراً بالمعروف، أو ناهياً عن المنكر.
الرابع: سقوط الكل بالإمتثال للفرد منها تخفيفاً عن المسلم، وإستقراء من مجئ الآية بصيغة التبعيض , وكفاية بعث أمة من المسلمين في الأمور الثلاثة.
الخامس: إعتبار حال المسلم، فقد لا يكون قادراً على الأمر بالمعروف و لم تتهيأ له أسباب ه، أو لا يستطيع ان يكون ناهياً عن المنكر، فيقوم بالدعوة إلى الخير والإصلاح، أو العكس كما لو تعذرت عليه الدعوة إلى الخير، فيأمربالمعروف لسقوط المعسور بالميسور.
والصحيح هو الأمر الأول والوجه الأول والثاني من الأمر الثاني، فلو تعلق وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمكلف على نحو الإجتماع أو التفرق فأنهاجميعاً تجب عليه، وأداء بعضها لا يسقط عنه بعضها الآخر.
ولا تعارض بين إتحاد وتعدد المطلوب وهو من إعجاز العطف في الآية ، والتقصير أو فوات بعضها عن جهل أو عمد، لا يسقط التكليف في غيره، سواء كان أصلاً أو فرعاً من الأمور الثلاثة في الآية كمصاديق الخير أو المعروف. بل يتجدد الخطاب التكليفي بكل واحدة منها في كل واقعة وحادثة.
ومن إعجازه انتفاء التعارض بين الأطراف الثلاثة في الآية ، فالإتيان بأحدها لا يؤدي إلى إنعدام الآخر، وليس هو من الورود الذي يعني حسب الإصطلاح الأصولي طرو دليل يكون سبباً لإنعدام موضوع دليل آخر، ولولا هذا الورود لبقى دليل الأول قائماً على حاله، كما في تقدم الدليل القطعي كالحديث المتواتر على الأصول الشرعية أو العقلية، بل ان كل دليل من أدلة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عرض وطول الدليل الآخر من غير ان يحصل تزاحم أو تعارض بينهما.
ثم أمرت الآية بالأمر بالمعروف وتصدي أمة من المسلمين له، من غير فاصلة بينهما مما يدل على لزوم الإجتهاد والسعي الدؤوب في الإمتثال لمضامين الآية الكريمة.
وجاءت الآية بالنهي عن المنكر وجعلته قسيماً للدعوة والأمر بالمعروف وليس مقدمة للأمربالمعروف فحسب، مما يدل على موضوعيته، وضرورة حرص المسلمين على التصدي للزجر عن المعصية وكل ما هو قبيح، وجاءت الشريعة الإسلامية بالنهي عنه، ليكون كل فرد منها جهاداً وفعلاً عبادياً وفيه طرد للترديد واللبس والظن بإحتمال الترديد والبدلية بينها أو سقوط الكل بامتثال فرد منها، فكل فرد منها ينحل إلى مصاديق يومية عديدة،إرتباطية وغير إرتباطية يتوجه الخطاب التكليفي فيها إلى المسلمين.
فلا يفيد العطف في الآية الترتيب بين أفرادها الثلاثة بل بيان أهمية كل واحد منها وإتحاده مع الآخر في الغرض والمصلحة وان إستقل في موضوعه.
ومنه النهي عن صيام يوم العيد اذ يختص النهي بفعل شخصي زائد على أصل العبادة وقد يكون النهي تحريمياً بلزوم ترك متعلق النهي، وعدم الإذن بفعله مطلقاً، وقد يكون النهي ارشادياً يتعلق بحكم شرعي وضعي، ليكون النهي إرشادا إلى اجتناب ما يفسد الحكم الشرعي، كما في النهي عن نجاسة الثوب.
والأصل في النواهي أنهاتعني طلب الترك والردع عن الفعل المذموم والقبيح شرعاً إلا ان ترد قرينة على افادة المعنى الإرشادي من النهي، وينقسم النهي إلى قسمين:
الأول: النهي النفسي الذي يتعلق بذات الفعل المنهي عنه، كالنهي عن شرب المسكر.
الثاني: النهي الغيري، ويتعلق بمقدمة الحرام اذ أنهامحرمة لحرمة ذيها،كحرمة السعي والمشي للفواحش، وحرمة الإنفاق في الباطل.
وجاءت الآية بصيغة الإطلاق لتشمل النهي الذي يفيد التحريم والنهي الذي يفيد الكراهة، والنهي النفسي والغيري إلا ان متعلق الآية بالتحريم والنهي النفسي أكثر وضوحاً، من وجوه:
الأول: ما في مادة وصيغة النهي من الزجر والردع.
الثاني: الإستقراء من كون النهي ضد الأمر الذي يتضمن معنى الوجوب.فكذا النهي فأنه يتضمن الحرمة.
الثالث: ما يترتب على إتيان المحرم من المفاسد.
الرابع: التبادرالذي هو من علامات الحقيقة, فالمتبادر من النهي المنع، إلا مع القرينة الصارفة إلى الإرشاد والتنزه.
قانون الفضل المركب والمتصل
جعل الله الحياة الدنيا مناسبة لتوالي النعم ونزول البركات واتصال الفضل الإلهي على الناس، وتلك آية في الإرادة التكوينية، وهي من مصاديق الرحمة الإلهية بالناس في الحياة الدنيا، ومقدمة ووسيلة لنيلهم الدرجات العلا في الآخرة.
ومن اعظم مصاديق الفضل الإلهي على الناس في الحياة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، ودعوة الناس للإسلام وأداء الفرائض والواجبات لتعاهد كلمة التوحيد في الأرض وتجلي المصاديق العملية لعلة خلق الإنسان في عبادة الله عز وجل، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: ذكر الأمر والنهي بالذات وعلى نحو التعيين.
الثاني: مجيء الكتاب والسنة بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع الترديد واللبس والإجمال فيهما.
الثالث: بيان مصاديق بالمعروف، وأفراد المنكر، ومن الآيات ان الاسم في المقام كشف للمسمى، فلم تقل الآية (يأمرون بالخير وينهون عن الشر)، بل ذكرت المعروف والمنكر وفيه دلالة على أمور:
الأول: موضوعية العرف العام في تعيين ما يؤمر به من أفراد الصلاح، وما ينهى عنه من أفراد الشر.
الثاني: سيادة مفاهيم الإيمان بين المسلمين والناس جميعاً وأثرها في تثبيت مصاديق المعروف وأفراد المنكر، فلا يأتي على الناس زمان يكون فيه المعروف منكراً ولا المنكر معروفاً، وتلك آية اعجازية تدل على الحضور الدائم للمشيئة الإلهية في الأرض، وهو فضل إلهي متصل على الناس عأمة والمسلمين خاصة.
الثالث: دعوة الناس للإسلام والهداية، بتجلي معاني الخير والصلاح.
الرابع: جعل النفوس تميل إلى المعروف وتسعى في دروب الخير، وتنفر من الباطل والمنكر.
الخامس: اللطف الإلهي بالمسلمين بتيسير سبل الدعوة إلى الله بمعرفتهم والناس لكل من مصاديق المعروف ومصاديق المنكر، فحينما يقوم المسلم بالدعوة والأمر بالمعروف فان الطرف الآخر لا يشغله ويطالبه بالدليل الذي يثبت ان ما يأمره به من المعروف، للتسالم المتوارث على ماهية المعروف وشرائطه العأمة المستقرأة من الكتاب والسنة، وكذا بالنسبة للنهي عن المنكر.
فلو جئت إلى مرتكب السرقة ونهيته عن افرادها في قادم الأيام ولزوم التوبة مما تقدم منها وإعادة ما سرقه إلى اصحابه فأنه لن يجادلك في الأمر ، بل يتفق معك بحرمة وقبح السرقة شرعاً وعقلاً، وفيه عون للأمروالمأمور، والناهي والمنهي للامتثال للأوامر الإلهية، فاذا غلب على ظن المكلف أنه لو أمرشخصاً بالمعروف فأنه سيطيل الجدال معه باثبات الدليل بان المأمور به من المعروف، وأنه يصر على العناد وعدم الفهم، فقد يميل إلى ترك أمره بالمعروف، ويحرم الطرفان من أسباب الصلاح والثواب، فأنعم الله عز وجل على الناس وجعل الذي يدعى إليه من الخير والصلاح معروفاً بماهيته وسنخيته عند الناس.
ويمكن ان تكون الدعوة إلى الخير الواردة في الآية من التأسيس والتثبيت لكل من مصاديق المعروف والمنكر، ومعرفة الناس لهما من الأدلة على إعجاز القرآن، وان الله عز وجل لم يخلق الناس ويتركهم سدىً بل جعلهم يميزون على نحو الدوام بين الحق والباطل، وبين الخير والشر.
وهذا التمييز مقدمة لاستدأمة الامتثال لاحكام وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعون للمسلم في أداء وظائفه، ولطف بالناس جميعاً للاحتراز من الحرام، وسبيل للتدارك والتوبة والإنابة، فمن الآيات في الدنيا أنهادار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنتدى للتباري والإرتقاء في المعارف الإلهية بتعاهد سبل الهداية والصلاح.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين بقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتنزه عن القبائح والرذائل وراثة الأنبياء وعمارة الأرض بالصلاح والتقوى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة ووسيلة لبلوغ أسمى مراتب الرفعة والعز في الدنيا والاخرة.
وكما علّم الله عز وجل آدم الأسماء كلها فأنه سبحأنه علم المسلمين كيفية نيل وتعاهد الخـلافة في الأرض بالأمر بالصالحات، والنهي عن السيئات، وما فيهما من التفقه في الدين، وصيغ القربة إلى الله تعإلى.
قانون المرأة والأمر والنهي
من الآيات في خلق الإنسان ان خلق الله عز وجل آدم وحواء في الجنة، فلم يخلقهما في الأرض، أو يخلق آدم وحده في الجنة، وحواء في الأرض بعد هبوطه اليها، بل كانا في ضيافة الرحمن سبحأنه في جنته الواسعة، يأكلان ويشربان ويتنعمان في بحبوحة الجنة، إلى أن أزلهما الشيطان واغواهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، فاهبطا إلى الأرض معاً لتبدأ دنيا الإبتلاء والإختبار.
وتكون العاقبة رجوع المؤمنين والمؤمنات إلى الجنة بالخلود الأبدي فيها، وهذا الرجوع أسمى غاية وأشرف قصد يسعى إليه الإنسان في حياته، ويستحق منه بذل الوسع وتسخير الذات والمال في الإجتهاد في مرضاة الله تعإلى، وأنعم الله عز وجل عليه مرة أخرى بان هداه إلى ســبل نيل هذه النعمة والفوز بشــرف الإقــأمة الدائمــة في الجنـة ومن هذه السبل(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي ندبت إليه هذه الآية.
ويشمل الخطاب التكليفي في الآية المرأة بعرض واحد مع الرجل وقيام المرأة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشمولها بأحكام التكليف مع الرجل، وجاء الخطاب في الآية [ولتكن منكم] بذكر (الميم) في (منكم) وهي علأمة جمع الذكور العقلاء المتصلة بضمير جمع الذكور العقلاء (الكاف)لغلبة المذكر كما تقول (القمرين) لإرادة الشمس والقمر.
ومن اكرام الشريعة الإسلامية للمرأة توجه الخطاب التكليفي لها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى [والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر] ( )، وتتعدد وظيفة المرأة في المقام على وجوه:
الأول: قيام المرأة بالأمر بالمعروف.
الثاني: نهي المرأة للمرأة عن المنكر.
الثالث: اشتراك المرأة مع الرجل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضية الشخصية، كما لو تعاون الأبوان على اصلاح ابنهما وهدايته لسبل الرشاد.
الرابع: تعاون المرأتين أو أكثر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: سعي المرأة في التفقه في الدين، ليكون سلاحاً وحرزاًً لها في الأمر والنهي.
السادس: تلقي المرأة للأمروالنهي برضا وبهجة وغبطة لإدراكها أنهما طريق للصلاح وبلغة السالك ووسيلة للفوز بالجنة.
ان تحمل المرأة لمسؤوليات الأمر والنهي شاهد على منزلة المرأة في الإسلام والعناية بها، وتوكيد لموضوعيتها في الإصلاح وتثبيت دعائم الدين، ومنع من الإستخفاف بها أو الإقلال من شأنها، وكم من امرأة تولت إصلاح أفراد وجماعات، وأعدت أسرة كاملة.
وقد تتحمل المرأة أعباءً إضافية في الحياة الإجتماعية والمعاشية خصوصاً في حال الحرب والقتال، وخروج الرجال لسوح المعارك، والمرابطة في الثغور، وتكون المرأة حجة على الرجل وعلى غيرها من النساء في حسن سمتها وصلاحها وتقيدها بأحكام الفرائض وسنن الشريعة.
وتدعو الآية الرجل للإنصات للمرأة في أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وعدم الاستخفاف بقولها أو مشورتها، وقد تكون مشورتها مقدمة ومدخلاً لخير كثير، وفي التنزيل [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ] ( ) فأخذ شعيب النبي عليه السلام بمشورة ابنته وأكرم موسى عليه السلام ثم زوجه منها.
وقد تختص المرأة بأفراد من الأمر والنهي دون الرجل، ويتوجه لها الخطاب التكليفي على نحو الوجوب العيني، لاسيما في شؤون الأسرة وتربية الأبناء، وبين معاشر النساء، بل ومع الرجال ايضاً.
وربما اجتنب الرجل الأمر والنهي تقية وخشية الضرر، فتتصدى له المرأة، أويستلزم الأمر والنهي اللين وسعة الصدر واجتناب أسباب الغلظة وما تؤدي إليه من النفرة فتتولى المرأة الأمر باللين، كما تسأهم في اصلاح ذات البين ونبذ الفرقة والخلاف، ويكون أمرها ونهيها أبلغ في الأثر.
وتوظيف سعي المرأة في الأمر والنهي رحمة إضافية بالناس، وإعانة لها في سبل الهداية، ودعوة للتسابق في الخيرات، فقد يسمع الرجل المرأة تأمروتنهى فيندفع في الخيرات ويدرك مؤولياته في النهوض بالأمر ، أو يرى حسن سمتها وعبادتها فيقتدي بها ويحس بلزوم تقيده بأحكام الشريعة من باب الأولوية، وقيام المرأة بالأمر والنهي في أيام الفتنة والإفتتان حاجة ومعاشر النساء وللمسلمين والناس جميعاً، وهو من أسرار صيغة الجمع والإطلاق في الآية .
علم المناسبة
ورد لفظ (المنكر) في القرآن ست عشرة مرة، جاء نصف هذا العدد بالنهي مقروناً وملحقاً بالأمر بالمعروف ومنه هذه الآية ويتضمن وجوهاً:
الأول: الإخبار عن قيام المسلمين من الأمم السابقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتوارثه الأنبياء والصالحون ويجعلونه تركة لأولادهم وجزء من وصيتهم وبخصوص لقمان ورد في التنزيل [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأمربِالْمَعْرُوفِ وَأنه عَنْ الْمُنكَرِ]( )، فإقتران الأمر والنهي بإقأمة الصلاة يؤكد موضوعيتهما في توارث مبادئ الإسلام، ويدل على ضرورة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي ان المسلم يأمرغيره بالقيام بهما لا أقل بخصوص أهله وأسرته.
الثاني: مدح المؤمنين بصيغة الجمع بين المذكر والمؤنث منهم، وذكر المؤمنات على نحو الخصوص يدل على موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة كل مسلم ومسلمة، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ]( )، وفيه دلالة على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تثبيت سنن الشريعة الإسلامية، وتغشيه للأحوال المختلفة، وشــموله للناس جميعــاً، وجاء موضــوع الأمر والنهي متقدماً على إقأمة الصــلاة، وفيه توكيد على وجــوبه وكأنه مقدمــة للصــلاة والزكــاة.
الثالث: بيان حقيقة وهي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أولي الأمر ، وأهل الحل والعقد من المسلمين، وأنهما عنوان للشكر لله تعالى على نعمة الحكم والسلطنة، وشاهد على تسخيره لترسيخ دعائم الإسلام قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّأهم فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
ومع ورود الملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس فيها تقديم للنهي عن المنكر على الأمر بالمعروف، نعم ورد في القرآن ذم المنافقين لأنهم يعملون بخلاف ما أمرالله به قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( )، وفيه مسائل:
الأولى: وجوب إجتهاد المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم ترك المنافقين يفترون ويعبثون في أقوالهم وأفعالهم.
الثانية: لابد من التصدي لما يخالف الشريعة من الأمر بالحرام، والنهي عن الحلال.
الثالثة: الآية شاهد إضافي على حاجة الناس للأمربالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع وسوسة الشيطان.
الرابعة: لا يواجه المسلمون المنكر وفاعله فحسب، بل يواجهون عدواً خفيا يعرفونه بمخالفته لاحكام هذه الآية ، من وجوه:
الأول: يقوم المنافق بالأمر بالمنكر، وهذا الأمر أشد وأدهى من الدعوة أو الترغيب في المنكر.
الثاني: ينطبق عنوان المنافق على من نطق بالشهادتين، ودخل الإسلام،وأظهر الإيمان ولكنه يخفي الكفر مما يعني احتمال سعيه في التحريف ومحاولة تغيير أحكام الحلال والحرام.
الثالث: بيان الوجوه الجهادية في منع الغشاوة والبرزخ الذي يحاول المنافقون وضعه في طريق الدعوة
الرابع: إشتراك المنافقات مع المنافقين في الفعل القبيح والأمر بالمنكر، مما يدل على الخبث وتشعب موارد الأمر ولزوم التصدي لكل من:
الأول: المنكر، بإعتباره فعلاً قبيحاً بالذات.
الثاني: الأمر بالمنكر ومنعه وحجب تأثيره على المأمور.
الثالث: الأمر بالمنكر، وردعه عن الأمر بالحرام والإفتراء على الله.
الخامسة: لزوم الأمر بالمعروف وعدم الوقوف عند النهي عن المنكر ومقدماته وإسباب ه، وهو من أسرار الإقتران بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادسة: وصفت الآية أعلاه المنافقين بان بعضهم من بعض في إشارة إلى حال الإقتباس والتأثير المتبادل بينهم، وجاء بعدها بأربع آيات وصف المؤمنين والمؤمنات بالولآية فيما بينهم، وان بعضهم أولياء لبعضهم الآخر، كما تقدم ذكر الآية في الصفحة السابقة، وفيها إشارة إلى ثبوت معاني الأخوة والإعتصام بحبل الله بين المؤمنين ولزوم تعاونهم في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويأتي النهي عن المنكر على وجوه:
الأول: إرادة النهي صريحاً، وزجر المرتكب عن المعصية، وهو الأصل في معنى النهي.
الثاني: الأمر بالمعروف بإعتبار ان الأمر بالشيء نهي عن ضده.
الثالث: فعل المعروف وجعل المسلم نفسه أسوة لغيره في الصلاح.
الرابع: تقيد المكلف بالفرائض والعبادات، وهذا التقيد حرز نفسي يمنع الذات من إرتكاب المعصية، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، وفيه وجوه:
الأول: تدخل الصلاة في عمومات النهي عن المنكر، فمن يقيم الصلاة يكون من الناهين عن المنكر، وهذا لا يتعارض مع وجوب القيام بالنهي عن المنكر بالذات بدليل ورود الآيات التي تفيد العطف بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقأمة الصلاة.
الثاني: بيان موضوعية الصلاة وأنها لا تنهى عن المنكر وحده بل تنهى ايضاً عن الفحشاء فعلاً وقولاً.
الثالث: تدل الآية على ان أداء العبد للصلاة يحجبه عن فعل الموبقات، وهي واقية للنفس والبدن وتجعل صاحبها ينفر من الذنوب والمعاصي.
الرابع: الصلاة مدد وعون للمسلمين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
الخامس: صحيح ان الآية ذكرت الصلاة إلا أنهاجاءت من باب المثال الأمثل والمراد الفرائض مطلقاً، وكل فريضة بناء في صرح ملكة التقوى، وواقية من الفحشاء والمنكر وكما أمرالله سبحأنه بالنهي عن المنكر، فأنه تفضل ونهى عن المنكر، وآيات القرآن كلها نهي عن المنكر بالمنطوق والمفهوم سواء ما جاء فيها من الفرائض أو النواهي أو المواعظ أو القصص.
وجاء النهي عن المنكر بالنص الصريح، وأمرالله عز وجل بإجتنابه قال تعإلى[ إِنَّ اللَّهَ يَأمربِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ]( ).
الخامس: فضل الله عز وجل على الناس بنهيهم عن المنكر قال تعالى ( وينهى عن الفحشاء والمنكر )
السادس: أمرالله عز وجل بالنهي عن المنكر، ويتوجه الخطاب بالنهي إلى الأنبياء وأصحابهم وانصارهم والمسلمين كافة.
السابع: أمرالأنبياء أصحابهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثامن: أمرالله المسلمين بالنهي عن المنكر، وهذا الأمر خير عون لهم في حياتهم الجهادية، وهو رحمة بهم وبالناس جميعا.
التاسع: قيام المسلمين بنهي بعضهم بعضا عن المنكر.
العاشر: التقيد بأداء العبادات واقية من السيئات، وزاجر عن المعصية، قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ( ).
وهذه الآية حرز للمسلمين في عالم الأقوال والأفعال، وبشارة التوفيق والفلاح ووجود اذن صاغية لنهيهم عن القبائح، وواقية من تلقي الأذى والضرر بسبب هذا النهي، وكم من جبار يتوجه له النهي فتراه يتصاغر أمام إرادة الحق، ويمتثل للنهي أو لا أقل يستمع له.
قانون النهي ضرورة
من الآيات ان تأتي العبادات على نحو التعيين الفعلي والزماني والمكاني بما يمنع الترديد والتخيير، وينفي الإبهام واللبس، وجاء النهي عن المنكر مطلقاً في أطرافه وهي:
الأول: عموم الخطاب للمسلمين، والتقدير “ولتكن منكم أمة ينهون عن المنكر” ولم تقل الآية الكريمة “ولتكن منكم أمة تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر” بلحاظ لفظ الأمة وهو اسم جنس مؤنث، بل جاءت بصيغة الجمع(يدعون،يأمرون، ينهون ) لإفادة التعاون بين المسلمين في الإمتثال لمضامين الآية والنهوض بأعبائها على نحو العموم المجموعي الشامل لهم جميعاً في آن واحد، والعموم الإستغراقي الذي يتوجه لكل مكلف منهم ليأتي النهي عن المنكر أمراً منجزاً، وثمرة من ثمار الإنتماء للإسلام ومرآة تحكي إرتقاء المسلمين إلى وفي منازل الإيمان، وقيامهم بوضع الحجب والموانع دون الظلم والتعدي.
ويصاحب النهي عن المنكر الإنسان مدة حياته ولا ينفك عنه، لأنه خطاب للعقل، وبعث لتعاهد التكليف، وردع عن التفريط في أمور الدين والدنيا، وبدأ التأديب والتحذير والنهي من أول ساعات خلق آدم عليه السلام في الجنة فتفضل الله عز وجل ونهاه هو وحواء عن الأكل من شجرة مخصوصة، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
فلم يأتِ النهي على لسان الملائكة بل جاء من عند الله عز وجل من غير واسطة، ومحل النهي في الجنة ليكون تأسيساً لوظيفة النهي عن المحرم والمكروه والمبغوض في الحياة الدنيا، وليدرك الإنسان الضرر القادم الذي يلحقه وأهله وأبناءه عند إرتكاب المخالفة مطلقاً، فبدأ الخلق بتأديب وتعليم ونهي إرشادي وإخبار عن ضرورة التنزه عن المعصية والكبيرة من باب الأولوية القطعية، ولم يلبث الإنسان في الأرض طويلا حتى قتل قابيل أخاه هابيل في أيام حياة أبينا آدم عليه السلام، وفيه مسائل:
الأولى: أنه شاهد على الأضرار الكبيرة التي تنجم عن الذنب والتعدي والظلم.
الثانية: أنه دليل على الحاجة إلى النهي عن المنكر، من وجوه:
الأول: لزوم ملازمته للوجود الإنساني.
الثاني: حضوره في كل مكان وزمان، فاذا كان ابن أول الأنبياء، ومن ليس معه على الأرض إلا أخوته لأمه وأبيه يحتاج النهي عن المنكر، والردع عن الكبيرة وقتل المؤمن بغير حق، فمن باب أولى ان الناس يحتاجون النهي عن المنكر.
الثالث: ضرورة القيام بالنهي عن المنكر، وعدم كفاية أفراد أو جماعات لتولي هذه المسؤولية، فمن الإعجاز ورود هذه الآية بلفظ الأمة.
الرابع: حاجة أهل الأرض لنزول القرآن الذي يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع بيان مصاديق كل منهما.
الخامس: جاء النهي في القرآن مقيداً بالمعلق المعين، وهو المنكر والقبيح في دلالة على لزوم عدم النهي عن الخير والمعروف والإحسان وكل ما فيه منفعة الناس.
السادس: ورد ذم المنافقين لأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف في دلالة على قبح فعلهم وخبث سرائرهم، وما يؤدي إليه فعلهم من الأذى والضرر، لذا جاء التوكيد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتصدي للمنافقين، ويتجلى هذا التوكيد بصيغة التكرار المتعدد،لمنع شيوع مفاهيم الضلالة بين الناس، وضرورة سيادة القيم والمعارف الإلهية.
قانون السنة والنهي عن المنكر
جاء القرآن تبياناً لكل شيء، وتلك نعمة لم تنلها الأجيال السابقة من الناس، وشاهد على بقاء ملائمة أحكام القرآن لكل الأزمنة وإمكان إقتباس وإستنباط الدروس والعبر والاحكام منه للوقائع والأحداث المتعاقبة، والمسائل الإبتلائية المستحدثة، لذا أكد القرآن على النهي عن المنكر بإعتباره واجباً تعبدياً وليس توصلياً , وأمراً يحتاجه الإنسان في نهاره وليلته.
ثم جاءت السنة النبوية بياناً وتفسيراً، وترجمة عملية له، فاذا كان القرآن يتضمن الأمر بترك القبيح، وإجتناب المنكر، والإبتعاد عن المعاصي والذنوب فان السنة النبوية بأقسامها المتعددةجاءت بالنهي عن المنكر:
الأول: السنة القولية: اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن المنكر ويقوم به إبتداء كدأب الأنبياء السابقين، وبذل الوسع فيه، لتكون سنته المباركة دعوة لقيام المسلمين بالنهي عما قبحه الشرع، وتوكيدا لحقيقة وهي عدم استثناء بعضهم وعدم سقوط هذا الواجب عن واحد منهم.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على تعليم الناس سنن النهي عن المنكر، ومن حالات نهيه عن المنكر:
الأولى: عند ارتقائه صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، وتوجهه بالخطاب إلى المسلمين.
الثانية: عند بيان أحكام الحلال والحرام، وتفضله بذكر الأمور الشرعية والمسائل الإبتلائية.
الثالثة: عقيب أداء فريضة الصلاة، والنفع فيها عظيم من وجوه:
الأول: اعتبارها ساعة انقطاع إلى الله عز وجل.
الثاني: أنهامناسبة لحضور الصحابة من المهاجرين والأنصار.
الثالث: تكرر هذه الحالة بعد الصلاة اليومية خمس مرات في اليوم.
الرابع: قيام الصحابة بأمور ثلاثة:
الأول: الإنصات لما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الإمتثال لما يأمربه وما ينهى عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: توثيق ما قاله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب الاحكام الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: نقل أقوال النبي وأوامره ونواهيه إلى الأهل والأولاد ومن ثم التابعين، وتدوين السنة النبوية الشريعة.
الرابعة: عند توجه المسلمين بسؤاله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور دينهم، وأحكام الحلال والحرام.
الخامسة: مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء في الدعوة وبيان مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادسة: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي وظيفة الأنبياء ووسيلة تثبيت أحكام الشريعة، وعن ام حبيبة زوج النبي عن النبي صــلى الله عليه وآلــه وسلم قال: “كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمربمعروف أو نهى عن المنكر أو ذكر الله”( )، وفيه دلالة على أهمــية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثقلهما في كفة الصالحات يوم القيامة، والسلأمة فيهما من الحساب.
الثاني: السنة الفعلية: وهي الأفعـال التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها مواضــيع القضاء وأحكام الفصــل بين الناس، والأوامر الجنــائية، ومن الآيات في السنة النبوية ودلالتها على صدورها عن الوحي خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المعارك وساحات الجهاد بنفسه وتوليه قيادة الجيوش لتكون آية في الدعوة إلى الإسلام والإصلاح.
لقد كانت أقوال وأعمال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها امراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، سواء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية.
الثالث: السنة التقريرية: والمراد منها قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقرير الأفعال التي تتضمن المعروف والأمر به، ورضاه بالنهي عن المنكر وبيان قبحه، اذ ان حضوره الدائم مع المسلمين، وإنصاته لأقوالهم وتدخله المبارك في الأمور يبين مصاديق من السنة التقريرية.
الرابع: السنة التدوينية: وما كتبه النبي إلى الملوك والأمر اء، وحثهم على دخول الإسلام، وتضمن رسائله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد كانت السنة النبوية مدرسة في النهي عن المنكر، وشاهداً على بغض السماء لكل ما هو مذموم شرعاً بإعتبار ان السنة النبوية شطر من الوحي وبيان لكيفية النهي والزجر عن المعاصي، ولزوم إتباع السنة بالإمتناع عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مفاهيم توجه الخطاب التكليفي في الآية ولزوم قيام شطر منهم بمسؤوليات الزجر عن المعاصي.
قانون وظيفة النهي
جاءت الآيات القرآنية بالملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والبدأ بالأمر بالمعروف اولاً، ولا يعني هذا التقديم ان النهي عن المنكر تابع للأمربالمعروف، بل هو حكم مستقل له مصاديقه وقد يخلط الإنسان بين عمل صالح وآخر سيء، فيأتي النهي للردع عن السيء، ليبقى عمله خيراً محضاً.
وتبين الآية بطلان الجمع بين الحسنات والسيئات، وتدعو الناس إلى الإيمان بالله وتصديق الأنبياء فلا ينحصر النهي عن المنكر بعالم الأفعال، بل يشمل المبادئ والعقائد وهي الأهم في الأثر والتأثير، وقد تكون الأفعال فرع المبادئ، فاذا صلحت عقيدة الإنسان فأنه يجتهد في تحصيل الإستقأمة في عالم الأفعال، ويحرز ملكة تلقي الأمر والنهي وفق منطق الشرع وموازين الحكمة فيأتي النهي عن المنكر لتعاهد المبادئ وتنقيح المذاهب، ومنه إجتناب الفرقة والتشتت والعودة إلى زمن ما قبل الإسلام وما عليه الناس من الخصومة والشقاق.
ومن منافع النهي عن المنكر المحافظة على نعمة الأخوة بين المسلمين وهو طريق للإستقأمة ومقدمة للأمربالمعروف، والتقيد بسنن النبوة فوظيفة النهي مركبة من مصداق ومفهوم، أما المصداق فهو الزجر عن السيئات والذنوب.
وأما المفهوم فهو الدعوة للعمل الصالح والحث على فعل المعروف، فكأن مضامين الآية الكريمة على وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير، وهي على أقسام:
الأول: الإنبعاث لها بالذات وقصد فعل الخير والصلاح، على نحو التعيين.
الثاني: الإمتثال للآية بالقيام بالدعوة، والسعي في جذب الناس لفعل الصالحات.
الثالث: الدعوة إلى الخير بالأمر بالمعروف، فكل أمربالمعروف هو دعوة إلى الخير.
الرابع: الدعوة إلى الخير بالنهي عن المنكر، فكل زجر عن فعل قبيح هو دعوة إلى الخير والصلاح.
الثاني: الأمر بالمعروف، وقيام أمة من المسلمين به، وهو على أقسام:
الأول: الأمر بالمعروف بالدعوة إلى الخير، بإعتبار أنهاطريق ومنهج لفعل كل ما عرف حسنه من الأقوال والأعمال، بإعتبار ان الفعل إيجاد الشيء، والعمل ايجاد الأثر في الشيء، فالمعروف دعوة إلى الخير في ذاته وماهيته وعوارضه وإضافاته.
الثاني: إرادة الأمر بالمعروف بالذات والقصد، لذا وردت الآية بخصوصه على نحو التعيين بقوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ].
الثالث: إفادة النهي عن المنكر معنى الأمر بالمعروف سواء بالدلالة التضـمنية أو الإلتزامـيــة، أو بإزاحــة الضــد، وكما ورد في علم الأصــول بان الأمر بالشيء نهي عن ضده، فكذا النهي عن الشيء أمربضده.
الثالث: النهي عن المنكر، ويأتي على أقسام:
الأول: يتحقق النهي عن القبيح بالدعوة إلى الخير، اذ أنهاتبين في دلالاتها ما هو محبوب بالذات، وتؤكد على مبغوضية نقيضه.
الثاني: الأمر بالمعروف حث للمسلمين والناس على التقيد بأحكامه ويدل هذا التقيد على لزوم إجتناب ضده العام ومطلق المعاند، وهو على شعبتين:
الأولى: الأمر الوجودي المنافي للواجب كما في ترك الزكاة،وإلإبتلاء بالإنفاق في الحرام بدلاً منها، أو في الأكل والشرب في نهار الصوم الواجب بإعتبار ان الأكل والشرب أمروجودي، ويعبر عنه بالضد الخاص لان وجوده يعارض وجود الواجب، وإمتناع إجتماعهما لما ثبت في الفلسفة من تعذر إجتماع النقيضين وإستحالة ثبوت المحمول لذات الموضوع معه، ووجوب الشيء يقتضي حرمة ضده الخاص.
الثانية: الأمر العدمي والذي يكون نقيض وجود الوجوب مطلقاً، بترك الفعل الواجب من غير فعل معصية مخالفة له، بل بالترك والتضييع، وترك الإنسان الصلاة عن عمد ومن غير إشتغال بفعل آخر، وهل يدخل هذا الأمر العدمي بالمنكر ولزوم النهي عنه، الجواب نعم،وهو من الإعجاز في إقتران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الزجر عن المنكر، بالذات والماهية، وإرادة الردع عنه بالنص القرآني الصحيح كما في قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] فتتداخل هذه الوجوه والأقسام في الإمتثال الأمثل لكل فرد من أفراد الآية الكريمة، وتكون مانعاً من فعل الضد العام لها متحدة ومتفرقة، ويتجلى هذا المنع بالأمر الإلهي بالنهي عن المنكر وما يدل عليه من النهي عن الشر والبخل والشح والأخلاق المذمومة والعادات السيئة، وكذا النهي عن نقيض المعروف والصلاح، وعن كل ما يكون مقدمة للفساد والإفساد، فالنهي أمروجودي يفيد تهذيب النفوس، وتنقية المجتمعات ونشر معاني الفضيلة.
قانون النهي تأديب
قد ثبت في العلوم العقلية ان تكرار الفعل يفيد حصول الملكات، وينمي الإدراك ويجعل الإنسان أكثر خبرة في الموضوع الذي يتعلق بذات الفعل، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق الزماني والمكاني في النهي [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ] فلا ينحصر النهي بأيام التنزيل وعصر الصحابة والتابعين بل يشمل أفراد الزمان الطولية كلها وكذا بالنسبة للمكان فيشمل النهي الأماكن المقدسة عند المسلمين كمكة المكرمة والمدينة المنورة، والبلاد الإسلامية وغيرها بحسب شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون النهي عن المنكر في إطلاقه باباً للصلاح، موضوعاً وحكماً، ووسيلة للتأديب من وجوه:
الأول: تأديب الأمر بالمعروف، بإظهاره حسن النية، وإلتزامه بالصدق وقول الحق على لسأنه، وظهور رجحان عقله بالتمييز بين الحق والباطل ودعوته الآخرين للأول وحثهم على إجتناب الثاني، وتحليه بالورع، ومعرفته للإسباب وعواقب الأمور بما يعنيه النهي عن المنكر من الحرص على نجاة الآخرين يوم القيامة.
الثاني: تأديب المنهي عن المنكر بتزيين الخير والمعروف له، ويكون على وجوه:
الأول: إطلاعه على قبح ما يفعله من المنكر.
الثاني: يأتي النهي لا عن فعل قبيح إرتكبه الإنسان بل للوقاية والحذر من سوء الفعل كما في قول ووصية الوالد لولده “لا تترك الصلاة”.
الثالث: النهي عنوان لإظهار التسالم على نبذ المعاصي، وإخبار عن التقيد بأحكام الإيمان.
الرابع: أنه اعلان وتصديق لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن والإمتثال لما فيه من أحكام الحلال والحرام.
فلا ينحصر النهي عن المنكر بخصوص فاعل القبيح بل هو عام ويكون مطلوباً بذاته، ومطلوباً لغيره، فالنهي يتكون من أطراف هي:
الأول: صيغة النهي وقول “لا تفعل”.
الثاني: الناهي عن المنكر.
الثالث: المنهي عن المنكر وفعل القبيح.
الرابع: الموضوع المنهي عنه، لما فيه من القبح الشرعي.
وتارة يأتي النهي عاما لا يقصد فرد معين في الخطاب كما في بيان قبح المنكر بصيغة الجملةالخبرية ليتحصل إنزجار الناس عنه، وعدم اقترابهم منه، فيكون النهي حينئذ واقية شرعية وأخلاقية، وتنمية لملكة العصمة المكتسبة.
ومن مفاهيم النهي عن المنكر أنه رداء للمعروف، وثروة في الآداب ودليل في سبل الهدى، وبرزخ دون مسالك الردى والضلالة، ومع تعدد ضروب المنكر وإعتبار أفراده ارتباطية، و أخرى غير إرتباطية مستقلة في أضرارها فان النهي عنها يأتي بلحاظ الجمع والتعدد على وجوه:
الأول: النهي عن فعل مخصوص من بين الأفعال المذمومة.
الثاني: يأتي النهي عن فرد واحد من ذات الفعل ليكون المنع من الفرد الواحد منعا لسرايته وأفراده الأخرى للإتحاد في الماهية والذات.
الثالث: النهي عن المنكر مطلقاً، والتنزه عن الأفعال المذمومة، والذنوب الصغيرة والكبيرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكل واحد منها في طول الآخر ومتمم له، وهي من مصاديق الآية الكريمة، نعم افضلها وأشرفها هو الوجه الثالث الذي يحمل صفة الشمول وإرادة الإصلاح والتخلص من الكدورات الظلمانية.
والإنتهاء عن المنكر أمروجودي يفيد كف النفس عن الإنسياب في اللامشروع واللامعقول، لذا فأنه يستلزم قوة في الإنسان يكون معها قادراً على السيطرة على النفس وجعلها تنقاد لاحكام الشريعة، وتمتنع من فعل كل ما هو قبيح.
ويأتي النهي عن المنكر لتنمية هذه القوة وإظهار محاسن الأخلاق على الجوارح والأعضاء، فهو تأديب مستمر يواجه المكلفين في نهارهم وليلهم ويدعوهم للإلتفات إلى وظائفهم العقائدية، ويذكرهم بعالم الحساب وترتب الآثار الأخروية على الأعمال في الدنيا.
فيرغب المسلم في فعل الحسن والممدوح شرعاً ليرد عليه يوم الفاقة.ويخشى من المنكر وفعله، من جهتين:
الأولى: القبح الذاتي المركب للمنكر من وجوه:
الأول: ذات المنكر.
الثاني: قبح فعله، والتلبس به.
الثالث: نفرة النفوس من فاعله.
الرابع: سوء أثره عند الناس، وترتب الكدورة النفسية على فعله، وتركه النفس في حال ندم وحسرة.
الخامس: ما يترتب عليه من العقاب الأخروي، إن لم يتم تداركه بالتوبة والإستغفار.
الثانية: النهي الإلهي عن القبائح والفواحش مطلقا، ووجوب طاعة الله فيما نهى عنه بعرض واحد مع لزوم إتيان ما أمربه، وجاء النهي الإلهي عن المنكر بوجوه:
الأول: بعثة الأنبياء والرسل، فما من نبي إلا وقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: إنزال الكتب من السماء متضمنة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: تأديب المسلمين في الأزمنة المتعاقبة ومن أيام أبينا آدم على التحلي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: اللطف الإلهي بنفرة النفوس من المنكر وأفراده.
الخامس: إعانة الله عز وجل الناس على إجتناب المنكر والدعوة إليه. السادس:النهي عن المنكر بالمفهوم والدلالة. كما في تضمن القرآن أحكام الأمر بالمعروف وأداء العبادات، وبيان قصص الأنبياء والأمم السابقة.

قانون كل آية أمر ونهي
جاء القرآن تبياناً لكل شيء، أنزله الله عز وجل من السماء ليكون منبعاً للعلوم، ومصدراً للاحكام الشرعية، يحتاجه كل إنسان ولا يحتاج إلى أحد، ويرجع إليه أرباب العلوم ورجال السياسة والقانون فيأخذون منه ضالتهم، ويجدون فيه حاجتهم، لا يرجع منه إنسان إلا بخير محض، يترشح على الذات في الأقوال والأفعال والمصالح.
وجاء القرآن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون مدرسة عقائدية تتغشى منافعها الناس جميعاً، مسلمين أو أهل كتاب أو كفاراً، وتدعوهم لدخول الإسلام والنهل من علوم القرآن، والمساهمة في جعل الحياة الدنيا ذات بهجة تزينها روح الإيمان والهداية، ومعاني الأخوة الإسلامية.
وسيبقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة مزجاة تصاحب الإنسان في حياته، وتدخل معه في القبر وتكون حاضرة يوم القيامة، بإمتثاله لمضامينها، وإنصاته للأمروالنهي.
وقد لا ينتفع الإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حينه، ولكنهما يلازمأنه في الوجود الذهني، وتحصل عنده دراسة مقارنة بين سوء فعله ومباهج الدعوة إلى الخير والصلاح التي توجهت اليه، إلى ان يتغلب الحق على الباطل عنده ويزيح ضياء الصلاح ظلمة الفساد والكدورة عن النفس.
ولا تنحصر مضامين هذه الدراسة وفعل النفس اللوأمة بصدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن حوله من الناس، بل تأتي من الآيات القرآنية مباشرة اليه، فكل آية قرآنية هي أمرونهي من وجوه:
الأول: بالذات والدلالة المطابقية.
الثاني: بالواسطة، والدلالة التضمنية.
الثالث: بالمنطوق والنص الجلي.
الرابع: بالمعنى والمفهوم.
وتأتي الأوامر الإلهية تارة بصيغة الأمر الذي لا يقبل الترديد في مصداقه كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ) وتأتي الفرائض أحيانا بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد الأمر والوجوب، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إليه سَبِيلاً]( )، الذي يعني توجه الخطاب التكليفي بحج البيت الحرام إلى جميع الناس مسلمين وغير مسلمين ولكن غير المسلم حجب عن نفسه هذه النعمة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
وتفيد صيغة الجملة الخبرية في البعث على التكليف الدعوة للتدبر في آيات القرآن والبحث عن الأوامر التي ترد بهذه الصيغة وعدم التفريط بها، كما يتجلى في فريضة الصيام ايضاً التي جاءت بلغة الكتابة،وتعني الوجوب قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ…]( ).
ووردت آيات كثيرة في القرآن على نحو المواعظ والإرشاد إلا أنهاتتضمن في مفاهيمها ودلالتها الإلتزامية الأوامر والنواهي، وجاء القرآن بأحسن القصص، وتضمن قصص الأنبياء وبيان تفاصيل حياتهم العقائدية ومصاديق جهادهم مما يدل على الحث على الإقتداء بهم وتعاهد سننهم خصوصاً وان المسلمين هم ورثة الأنبياء لا تأتي من بعدهم أمة لتشاركهم في حمل هذه الأمانة.
وجاءت قصص الأمم السالفة عبرة وموعظة ودعوة لإجتناب ما أدى إلى هلاك الظالمين منهم، وليس في القرآن آية إلا وتتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنص الصريح أو الواسطة والإعتبار، وتلك آية إعجازية في القرآن تبين تعدد وكثرة العلوم في كل آية من آياته.
وتؤكد موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التنزيل، ولزوم الإغتراف من القرآن لبذل الوسع في هذا الباب الجهادي، فالآية القرآنية تتضمن أمورا:
الأول: الأمر والنهي , وبيان المصالح والمفاسد
الثاني: ألخطابات التكليفية للمسلمين بأن يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: أمرالناس بأن يلتزموا ويعملوا بالمعــروف ويجتنبـوا المنكر.
وهذا التعدد من السعة في رحمة الله، واللطف الإلهي بتقريب الاحكام الشرعية إلى المسلمين وجعلهم ينهلون من أحكام الأمر بالمعــروف والنهــي عن المنكــر، وفيه منــع من اللبس أو الشــك أو الريب وطرد للكسل والخمول في هذا الباب وما فيه من المسائل الإبتلائية.
قانون الأمر والنهي صبر
يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدرسة في الصبر، وفضيلة وإرتقاء للنفس في سلم الكمالات، وتحتاجها النفس كواقية وحارس من الزلل، وطريق إلى النعيم الخالد، خصوصاً وان الإنسان كائن ممكن، ويستلزم الصلاح قوة عند الإنسان تساعده على السيطرة على النفس، وجعلها تنقاد لاحكام الشريعة.
فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتنمية هذه القوة عنده، وجعله رقيباً على نفسه محترزاً من حبائل الشهوات، لأن الأمر والنهي فعل يؤتى به رجاء ترتب الأثر عليه عند طرف آخر غير الفاعل، مع الثواب للأول، وتعلق ثواب الثاني على الإستجابة.
والأمر والنهي كبح لجماح النفس، وحائل دون إستحواذ الآفات الأخلاقية عليها، ويتعلق هذا الكبح بالطرفين الأمر والمأمور فلا يستحوذ الحسد مثلاً على الأمر فيجعله يمتنع عن أمرالآخر بالمعروف خشية النفع وحصول السبق له في الخيرات والفوائد الدنيوية والأخروية، بل يعتبر أمره بالمعروف واجباً شرعياً فيتقيد به، ويدرك ان الثواب الذي يناله عظيم.
ويأتي الثواب بصدور الأمر والنهي، كما يترشح عن فعل المستجيب له سواء كان الذي توجه له الأمر والنهي، أو الذي إنتفع منه بالعرض، كما لو جاء الأمر بالمعروف لشخص فلم يتعظ، وإتعــظ وعمل به شخص آخر كان حاضراً، أو ان الذي توجه إليه الأمر والنهي نقل الموضوع إلى آخر وأخبره على ســبيل الخبر والحكـاية بالأمر فإعتبر وإنتفع الآخر، وعمل بما جاء بالأمر والنهي، فيأتي الثواب في عمله وصلاحه للأمر بالمعــروف وان لم يكن يعرفه أو يسمع به وبتوبته وإمتثاله للأمر.
ومن منافع الأمر والنهي الأخلاقية وجوه:
الأول: منع إستحواذ الأخلاق الذميمة والآفات عليها.
الثاني: الأحتراز والسلأمة من الغضب، فالأمر بالمعروف يتجنب الغضب والسخط ويتوجه إلى مرضاة الله بدعوة الغير للصلاح، نعم قد يأتي الأمر بالمعروف بالفعل واليد ولكنه ليس غضباً على الطرف الآخر، بل هو حرص عليه وسعي لنفعه، وإقالة لعثرته.
ومن شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحتمال الإستجابة وعدم وجود ضرر على النفس والعرض والغير، مما يعني أنه يتم في حال خالية من الغضب، ويتلقاه المأمور برضا وقبول.
الثالث: يمنع الأمر والنهي من الكبر والترفع على الآخرين، أما من جهة الأمر فأنه يتودد إلى غيره بالنصح والإرشاد والبيان لحثه على المعروف ونهيه عن المنكر خصوصاً وأنه يبدأ من أدنى المراتب والقول اللطيف والترغيب والحث وإظهار الحرص وما في المعروف من الصلاح والنفع للذات والغير، وأما من جهة المأمور فأنه ينصت للأمر والناهي ويستمع لهما، وقد يصدرالأمر والنهي من شخص واحد، فيتلقى الطرف الآخر الموعظة من غير نفرة أو تكبر.
الرابع: من شرائط العبادة مجيؤها خالية من الرياء والسمعة، وجاءت الآية الكريمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون الإتيان بهما خالصاً لوجه الله، ورغبة في نيل مرضاته، وهروباً من غضبه وسخطه وإنقاذاً للآخرين من عذابه، فالذي يأمربالمعروف وينهى عن المنكر يجعل قصده مركباً من وجوه اربعة:
الأول: طلب مرضاة الله تعإلى، والإمتثال لما في هذه الآية وما تحمله من صبغة الوجوب.
الثاني: صلاح المأمور بالمعروف، ومنعه من السيئات.
الثالث: نشر الفضائل، وتهذيب المجتمعات، وسيادة الأخلاق الحميدة، وتعاهد السنن الرشيدة، وتعظيم شعائر الله.
الرابع: شفاء النفس، أي ان الأمر والنهي إصلاح لنفس الذي يأمربالمعروف وينهي عن المنكر، وبرزخ دون إرتكابه للموبقات.
الرابع: الأمر والنهي من أبهى مصاديق الغلبة على الهوى، وأحسن معاني اعمال الفكر وتقييد الجوارح وهو حال يترشح من المعرفة، وعمل يتولد من الحال، وجهاد ذاتي مع النفس.
لقد جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشريفاً لبني آدم من بين الخلائق، ووسيلة لغلبة العقل، لأن الإنسان مخلوق من عقل وشهوة ويستحق أن يتفاخر بالأمر والنهي في طرد الشهوات واللذات، ويفوز بهذا التفاخر المسلم ليكون آية لله في العالمين، ومستحقا للخلافة في الأرض، وحارساً على نفسه،وجوارحه كاللسان، ورقيباً على غيره وعريفاً عليه، لذا فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجمع مضامين الآية السابقة من وجوه:
الأول: أنه إعتصام بالله عز وجل، و سعي لمرضاته، وإرتقاء في مراتب الكمال وآية في الخشوع والصبر والإنقطاع إليه تعإلى.
الثاني: مجيء الخطاب في الآية بصيغة الإستغراق الشامل لجميع المسلمين، فكما أمرت الآية السابقة المسلمين بالإعتصام بحبل الله من غير إستثناء لأحد بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سور جامع لكل المسلمين، فكل فرد منهم يصدق عليه بأنه أمر وناهي عن المنكر وان تلقى الأمر والنهي من غيره، لأن هذا التلقي على نحو جهتي وإلا فان الإنتساب للإسلام وحده أمرفعلي وواقعي بالمعروف ونهي عن المنكر.
الثالث: تجلي معاني الأخوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عنوان للأخوة الإنسانية اذ يأتي الأمر والنهي من المسلم إلى غير المسلم، ومصداق للأخوة الإسلامية بإعانة الأخ المسلم على أداء وظائفه وقضاء حوائجه، وشاهد الألفة بين قلوب المسلمين، ودليل على إنعدام العداوة بينهم.
الرابع: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنقاذ من النار، وسلأمة من العذاب، وواقية من الخوف والحزن يوم القيامة، لأنه عنوان للإمتثال لأوأمر الله، ووسيلة للتفقه في الدين، وثمرة للمعارف الإلهية، وسبيل لمعرفة وجوه الصلاح والرشاد، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الصبر ثلاثة، صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية)( ).
والأمر والنهي صبر بالوجوه الثلاثة:
الأول: ان إرتكاب المكلف المعصية وتخلفه عن الطاعة معصية شخصية ونوعية، فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتدارك المصيبة بالصيغ الشرعية بالتوكل على الله ورجاء التوفيق والصلاح.
الثاني: الأمر والنهي عنوان الصبر على الطاعة من الطرفين، فالأمر يبذل الجهد ويتحمل المشقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمع أنه يقوم بأداء وظائفه العبادية إلا أنه لم يقف عندها بل يتوجه لغيره لجذبه لمنازل الهدى، وتخليصه من سبل الردى، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوه:
الأول: أنهما طاعة في مرضاة الله من قبل الأمر .
الثاني: فيهما صبر على الطاعة من الأمر .
الثالث: أنهما مقدمة ووسيلة لطاعة المأمور لله تعإلى، بل إن إنصاته للأمروالنهي من مصاديق الصبر.
الرابع: ترغيب المكلف بالصبر على طاعة الله.
والأمر والنهي بيان قولي وفعلي وتوظيف للصبر في أبهى معانيه وإظهار لمنافعه وحسنه الذاتي, وتعاهد له وإدراك للحاجة إليه للتغلب على المشاق والمصائب، وضروب البلوى.
الثالث: الأمر بالمعروف سبيل للفلاح والفوز ونزول البركات وشآبيب الرحمة وباب للعفو والمغفرة، والنهي زاجر عن المعصية والفجور, وسلاح للنجاة من الذنوب والسيئات، وبرزخ دون إشاعة القبائح والسيئات.
وهذا الصبر متعدد الجهات والوجوه، أما من حيث الجهات فأنه يتغشى الأمر بالمعروف والمأمور به وغيرهما ممن يكون قريباً منهما، أما تعدد الوجوه فأنه يأتي في باب فيتعداه إلى أبواب أخرى لأن الأمر والإمتثال له يصبحان سجية راسخة وملكة ثابتة، بلحاظ تجدد الخطاب الإلهي والتكليف الوارد في هذه الآية .
قانون الملازمة بين الدعوة والأمر والنهي
من إعجاز القرآن مجيء الدعوة والأمر والنهي في آية واحدة، وقد يبدو للوهلة الأولى إستقلال كل فرد منها، وهو صحيح، اذ ان كل فرد من الأفراد الثلاثة الأولى في الآية له خصوصيته وموضوعاته ومصاديقه، ولكن الآية أعم اذ أنهاتشمل التداخل بين أطرافها على نحو مركب ومتعدد من وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير تعضيد للأمربالمعروف من وجوه:
الأول: تأتي الدعوة لجعل المسلم يأمربالمعروف، فبعد دعوته إلى الخير ومعرفته بمنافعه وما فيه من الحسن الذاتي فأنه يأمرغيره بمحاكاته والإقتداء به، فلو قمت بحث غيرك على الصلاة ورغبته فيها وإستجاب لدعوتك فأنه يشعر بالغبطة والسعادة ويدعو غيره إلى الصلاة ويأمره بالتقيد باحكامها والحرص على ادائها في أوقاتها.
الثاني: الملازمة بين الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر، فمع الأمر بترك الفواحش تأتي الدعوة إلى الخير وفعل الصالحات لينعدم البرزخ والواسطة بين النهي والأمر ، فليس للإنسان أن يقف عند ترك المعصية بل لابد له من أداء العبادات وإتيان الصالحات.
الثالث: يعتبر الأمر بالمعروف توكيداً للدعوة إلى الخير، وتثبيتاً لها في الأذهان والواقع اليومي للناس، وإرتقاء في صيغ الصلاح والإصلاح، فاذا لم تنفع الإنسان الدعوة إلى الخير يأتيه الأمر بالمعروف والحث على أدائه بصيغة الإلزام.
وبين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف في المقام عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء كلاهما أمرمن عند الله، فالمسلم مأمور بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف في عرض واحد، ومادة الإفتراق تضمن الدعوة للسؤال والرجاء والتوسل والمناشدة والبيان والإشارة والتلميح والتعريض، أما الأمر فيأتي بصيغة (إفعل) ونحوها، ويتضمن التصريح بلزوم إتيان الفعل وعدم تركه.
الثاني: الدعوة إلى الخير نصير ومؤازر للناهي عن المنكر، وعون للمنهي في حمله على ترك الذنوب والسيئات اذ تبين الدعوة محاسن الخير والصلاح، وتؤكد وجود أمة تعمل به وتدعو إليه وتنفر من المنكر وتحاربه، فيشعر الإنسان بعدم التخلية بينه وبين الفواحش والسيئات وان أناساً كثيرين يتصفون بالصلاح لا يرضون له فعل السيئة فتنمو عنده ملكة اللوم والتقبيح للفعل المكروه، والنفرة من المعاصي، ويفقد الرغبة اليها أو الإقتراب منها.
الثالث: توكيد الأمر بالمعروف للدعوة إلى الخير، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وإتحاد الغاية، وصفات الحسن في كل من الدعوة والأمر ، ومن الناس من يلتفت إلى الدعوة ولكنه لا يمتثل لها فيأتي الأمر لجذبه إلى شاطئ السلأمة والأمان.
الرابع: النهي عن المنكر مقدمة للدعوة إلى الخير، والمساهمة في الخيرات عون على ترك المنكر وإجتناب الخلط بين العمل الصالح والسئ.
أن الملازمة بين أطراف الآية الثلاثة من إعجاز القرآن، ورحمة متعددة الوجوه وباب للهداية والرشاد وإنقاذ للناس من براثن الضلالة، وعون للمسلمين في إمأمة الناس ونشر كلمة التوحيد.
ولا يتعارض قانون الملازمة مع إستقلال كل طرف من أطراف الآية في أحكامه وتحقيق الأغراض السامية منه، وهذا من إعجاز القرآن وما فيه من الأوامر والتكاليف، فليس كل دعوة إلى الخير تحتاج إلى توكيدها بالأمر بالمعروف، بل أنهاتمتلك مقومات الموضوع والحكم وتحقق النفع منها بالإمتثال لها عند شطر من الناس وفي قضايا ومسائل متعددة وكذا بالنسبة للأمربالمعروف فأنه يأتي مستقلاً ويكون كافياً لتحقيق الغاية منه، وبعث المكلف إلى أداء الواجبات كما ان النهي عن المنكر مدرسة اصلاحية قائمة بذاتها، تعمل على نزاهة المجتمعات من أدران المعاصي، وتقود نحو سبل الهداية.
وقانون الملازمة بين أطراف هذه الآية الكريمة عون للمسلمين والناس جميعاً، وتخفيف عنهم ووسيلة سماوية مباركة لفعل الصالحات وإكتناز الحسنات، والعصمة من السيئات والفوز بنيل مراتب الأجر والثواب.
قانون المؤازرة بين الداعي والآمر والناهي
جاءت الآية بثلاثة أمور كل واحد منها مدرسة عقائدية وثروة أخلاقية ومادة للإرتقاء في المعارف الإلهية، ووسيلة لإصلاح الناس وإنقاذهم من الضلالة، ومن أسرار الجمع بينها الإشارة إلى إتحاد الغايات الحميدة منها فهذه الأمور تؤدي متفرقة ومجتمعة إلى إقأمة صرح الإسلام، وترسيخ مبادئ التوحيد، وإصلاح المجتمعات وتنمية الفضائل والتخلص من الرذائل.
لقد أنزل الله عز وجل القرآن ليجعل المسلمين قادرين على تحمل أعباء الأمانة وأداء وظائف الإيمان والإقتداء بالأنبياء في سننهم فجاءت مضامين هذه الآية لتجعلهم متآزرين في فعل الخيرات، وفيها دلالة على أن نعمة الأخوة المذكورة في الآية السابقة لا تنحصر بالمودة والمحبة بل تشمل الإشتراك في الأعمال الجهادية والعبادية والتعاون في فعل الخيرات، والسعي المتبادل للإنقاذ من الجهل وآفاته، والمنع من غلبة النفس الشهوية والغضبية، وتشمل الأخوة النصرة والتعضيد والتعاون في الإمتثال لأوأمر الله عز وجل ومنها مصاديق هذه الآية الكريمة، وتكون النصرة فيها على وجوه:
الأول: يهيء الداعي إلى الخير الفرصة والمناسبة للأمربالمعروف.
الثاني: تدل الدعوة إلى الخير ولو في جهة مخصوصة في مفهومها على نبذ المنكر مطلقاً، فالدعوة إلى الصلاة تعني إجتناب الإفطار في شهر رمضان.
الثالث: إعانة ونصرة الأمر بالمعروف.
الرابع: الذاب عنه، فقد يتعرض الأمر بالمعروف إلى الأذى بسبب أمره ودعوته إلى الإصلاح، فعلى المسلمين نصرته والذب عنه.
الخامس: تعضيد الدعوة إلى الخير بالبيان والقول والفعل.
السادس: عدم ترك الداعي إلى الخير والأمر بالمعروف وحده يواجه المشاق، ويتعرض للشماتة والإستهزاء أو السخرية بل لابد من اعانته واظهار التأييد له.
السابع: محاربة الباطل، وفضح الظالم، ونصرة الداعي إلى الخير والصلاح، ومن الآيات ان العطف في الآية يفيد الصلة بين أطراف الآية الثلاثة على نحو المقدمة وذيها على وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير مقدمة للأمربالمعروف.
الثاني: الأمر بالمعروف مقدمة للنهي عن المنكر.
الثالث: النهي عن المنكر مقدمة للدعوة إلى الخير.
الرابع: الأمر بالمعروف مقدمة للدعوة إلى الخير.
الخامس: النهي عن المنكر مقدمة للأمربالمعروف.
السادس: الدعوة إلى الخير مقدمة للنهي عن المنكر.
ولا يتعارض عنوان المقدمة في المقام مع مضامين التداخل والمماثلة فالدعوة إلى الخير تكون ذاتها امراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وكذا بالنسبة للأمربالمعروف يكون دعوة إلى الخير ونهياً عن المنكر، كما يعتبر النهي عن المنكر دعوة إلى الخير وامراً بالمعروف، وفيه رحمة ولطف إلهي بالمسلمين خاصة والناس عامة، وتسهيل لأداء العبادات واعانة على إجتناب السيئات.
صحيح ان الحياة الدنيا دار ابتلاء إلا أنهامملوءة بإسباب الهداية والرشاد والزجر عن الفواحش والآثام، ومن الإسباب هذه الآية المباركة وما يترشح عنها من قيام المسلمين بالنصح والإرشاد للناس جميعاً، كما تتيح الآية فرصة اختيار الصيغة المناسبة للهداية والرشاد، وفي هذا الإختيار وجوه:
الأول: استقراؤه من نص الآية وما فيها من التعدد:
الأول : دعوة.
الثاني : أمر.
الثالث : نهي
مع إمكان التداخل بينها في الموضوع والحكم.
وكما يستطيع المسلم ان يكون داعياً وآمراً وناهياً في آن واحد، فان تعدد الأوامر ، والملازمة بينها وجمعها في هذه الآية المباركة دعوة للتآزر بين القائمين بمضامينها والتخفيف عنهم وحثهم على التعاون بما يؤدي إلى حصول النفع والفائدة العأمة منها وتوثيق الأجر والثواب.
وتتجلى مصاديق التآزر والتعاون بين الذين يتصدون للإمتثال للآية الكريمة على نحو القضية الشخصية والنوعية، فيستطيع الفرد ان يتعاون مع الجماعة لتحقيق الأغراض الحميدة من الدعوة، وتستطيع الجماعة والفرقة ان تنصر الجماعة والفرقة ال أخرى ، وان تنصر الفرد في دعوته وأمره ونهيه، لتكون هذه الآية من مصاديق انتفاء الفرقة بين المسلمين، ووسيلة لإستدأمة الأخوة، وسلاحاً لطرد النفرة والخصومة بين المؤمنين.
قانون الأمر والنهي رحمة دائمة
كما ان الحياة الدنيا دار امتحان وبلاء فأنهامحل رحمة الله ونزول البركة وتعاقب أسباب العفو والمغفرة، وتلك آية كونية عظيمة، وشاهد على عظيم رحمة الله ودليل على ان الله عز وجل خلق الإنسان ليتغشاه برحمته ورأفته من ساعة ولادته إلى حين مماته، لذا وردت التسمية في بداية كل سورة، وتتضمن مع اسم الجلالة اسم الرحمن والرحيم من الأسماء الحسنى في دلالة على شمول الرحمة الإلهية في الحياة الدنيا للبر والفاجر.
وتتجلى معاني الرحمة في الدنيا بتوالي أسباب الرزق واتصال نعمة العافية ودفع المهالك والآفات عن الإنسان، ومن الرحمةنزول هذه الآية الكريمة فكل فرد من الدعوة والأمر والنهي رحمة بالناس جميعا، كما أنهامجتمعة رحمة إضافية، وآية في خلق الإنسان، وتسميته لأنه يأنس بدعوة أخيه الأنسان للخير.
وتتصف مضامين هذه الآية بأنهارحمة متجددة على الناس، تتغشى بركاتها الأفراد والجماعات، وتدعوهم في كل يوم للنجاة.
والأمر والنهي في الآية مركب من قسمين:
الأول: أمرالله تعالى للمسلمين بان يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
الثاني: ما تقوم به أمة من المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبين القسمين عموم وخصوص مطلق، فالثاني فرع الأول ومترشح عنه، وفي مجموعهما ثلاثة أطراف:
الأول: توجه الخطاب التكليفي إلى المسلمين جميعاً.
الثاني: قيام أمة من المسلمين بالأمر والنهي.
الثالث: تلقي المسلمين والناس لأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذه الآية من مصاديق تغشي رحمة الله عز وجل للمسلمين، وفتح أبواب الأجر فكأن الأمر والنهي تجديد للحصانة الشخصية وإشعار عن تعاهد الفرائض والعبادات، وبرزخ دون الوقوع في المعصية فأراد الله عز وجل بالأمر والنهي حفظ المسلم لنفسه وقيامه بمراجعة أقواله وأفعاله، وإجراء المقارنة بين ما يأمروينهى عنه، وما يفعله في يومه وليلته ويتدارك زللـه، ويتغلب على النفس الشهوية والغضبية.
والآية شاهد على إستمرار الصلة بين الخالق والمسلمين ودوامها في كل زمان ومكان،وفيها إستحضار لعظيم سلطان الله عز وجل سواء بالإمتثال للآية الكريمة والقيام بالأمر والنهي أو بالتقيد الشخصي بمضامينهما.
ومن وجوه طرد الآية للغفلة عن الناس، أنهاتجعل الفرد منهم يدرك أنه ليس مستقلاً حراً في تصرفاته وأفعاله على نحو الإطلاق والقضية المهملة، بل لابد من التقيد بسنن الحلال والحرام والاحكام التكليفية الخمسة، ويعلم ان رحمة الله تلازمه بقيام المسلمين بهدايته وإرشاده إلى تلك السنن.
قانون البعد المكاني والزماني للأمر والنهي
جاء التكليف بالأمر والنهي في هذه الآية الكريمة ليكون صراطاً مستقيماً يجد فيه المسلمون السعي لبلوغ المراتب العالية، ويرتقون بواسطته في سلم الملكوت، ويكتنزون به الصالحات لأنه سلاح حاضر في كل مناسبة وواقعة.
وقد يتبادر إلى الذهن أنه يتعلق بالقضية الشخصية، ونصح وإرشاد المسلم لأخيه المسلم أو غيره لوجوه الصلاح والرشاد، ولكنه أعم لأنه يتعدى أطرافه ومكأنه، فلا ينحصر أثره بالمتلقي أو بمكان صدور وحدوث الأمر والنهي، بل تأخذ منافعه أبعاداً مكانية أعم من دائرتها، وتتسع رقعتها بلحاظ أهمية الموضوع، وكيفية الأمر والنهي، وإسباب التوفيق والنجاح في الدعوة إلى الله.
وجاءت وسائل الإتصال الحديثة لتكون آلة لنشر مضامين الأمر والنهي، وغزو المنكر في قعر داره والأخذ بأيدي الناس إلى سبل النجاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقية من الأضرار العرضية للعولمة، وحرز من الآثار السلبية لتداخل الحضارات، ومادة ووسيلة لوصول مبادئ الإسلام لكل بيت في المعمورة.
ويخاطب الأمر والنهي العقول وينمي المفاهيم الأخلاقية التي يدرك الناس على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم حسنها العقلي وملائمتها للواقع وخلوها من الظلم والتعدي، فليس في الأمر والنهي إلا النجاة سواء في الدنيا أو في الآخرة فحالما طرأت وسائل الإعلام الحديثة وأصبحت دول العالم متقاربة برز سلاح الأمر والنهي لتهذيب الصلات الدولية، وللوقاية من أضرار التقارب بين الصحيح والسقيم، والمؤمن والكافر، ليكون له إعتبار في المعاملات والأحكام.
ومع توسع وازدياد أواصر الصلات بين الأمم والشعوب تتجلى للناس جميعا موضوعية الأمر والنهي، وفيه شاهد على تعاهد المسلمين للمناسك والعبادات , وجواب فعلي على سؤال الملائكة الذين نعتوا الإنسان بأنه يفسد في الأرض، وإخبار يومي متصل بان الإنسان يجاهد لطرد الفساد من الأرض،ومنع سفك الدماء.
فتصبح العولمة ووسائل الإعلام والثورة المعلوماتية سبيلا لنيل الثواب والجهاد في سبيل الله، بإستثمارها في الأمر والنهي وبذل الوسع في إيصال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جميع الناس ليكون عوناً لهم على الهدى وحجة وانذاراً وتحذيراً من الإنحراف عنه.
وهذا الإتساع وسيلة لترديد وإستنساخ الأمر والنهي ووجود مصادر أخرى تقوم به، فقد لا يعرف الناس في بلدة ما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يروا من ينصحهم ويهديهم ويدعوهم إلى الخير، فتأتيتهم الدعوة والأمر والنهي بوسائل الإتصال الحديثة ووسائل النقل السريعة، لينصتوا لمن يأمرهم وينهأهم فلا يلبثون مدة وجيزة إلا وترى خروج جماعة منهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وآخرين يتلقون منهم وينصتون لهم.
ويمكن إعتبارالبعد الزماني للأمربالمعروف والنهي عن المنكر آية إعجازية متجددة، وهو أكبر من أن يحيط به العقل الإنساني فيأتي الأمر على نحو المسألة الشخصية بين فردين فيتناقله الناس، بضروب وصيغ منها:
الأول: ما تضمه الكتب بين دفتيها ليكون دعوة متجددة للخير والصلاح.
الثاني: مجئ التوثيق والنفع بواسطة الإستجابة والإمتثال، سواء بذكر الأمر والنهي أو بعدم ذكرهما، فقد يأمرالمسلم شخصاً بالمعروف فيستمع له ويصبح المأمور رائداً في المعروف والدعوة له، ومثالاً يقتدى في الصلاح والتقوى، وتبقى آثاره وأفعاله المحمودة شمعة تنير درب الهدى للسالكين وتساعد في التبصرة وطرد الغشاوة عن الأبصار.
الثالث: ورود الأمر والنهي بواسطة التدوين والتأليف فيبقى أثراً وعيناً.
الرابع: تجلي مفاهيم الأمر بالمعروف بعنوان الصدقة الجارية ليبقى يدر بالنفع على صاحبه وعلى الناس، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له”( ).
وكل فرد من هذه الأفراد مصداق من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: في جريان الصدقة بلحاظ الأمر والنهي مسائل:
الأولى: أنهادعوة عملية للمعروف.
الثانية: فيهاحث على لزوم إجتناب الفواحش.
الثالثة: فيها ترغيب بفعل الصالحات.
الرابعة: الصدقة من مصاديق إقتران العمل بالعلم , والعلم حارس للنفس والمال، ومانع من الوقوع في الضلالة والغواية.
الثاني: يأتي صلاح الولد بحسن تأديبه وأمره بالصالحات ونهيه عن المنكرات والسيئات، ولا يستحق الولد صفة الصلاح إلا بإيمأنه وحسن سمته وسعيه في مرضاة الله، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإستثناء المتعدد في الحديث أعلاه، يدل على بقاء صلات الإنسان مع أهل الدنيا حتى بعد مغادرته لها اذا كان من أهل المعروف والإحسان، وفي الإخبار النبوي عن إستمرار حضوره بفعله بين الناس عبرة له وتذكرة بالموت ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح.
فيموت الإنسان ولكن عمله باق ليس في عالم الحساب وحده بل بين الناس ينهلون من تركته من الصالحات، وينصتون له في أمره ونهيه وكأنه حاضر بينهم، وهذا من بركات الإمتثال لأمرالله تعالى والإستجابة لما في هذه الآية الكريمة من المضامين القدسية، فكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلود وبقاء في الدنيا، وهذا البقاء وسيلة لإكتساب الصالحات حتى بعد الوفاة.
وصحيح ان الآخرة دار حساب بلا عمل إلا أنه لا يمنع من مجيء الثواب والأجر للمسلم وهو في قبره عما يفعله أولاده وما يترتب على أمره ونهيه من أسباب الهداية، فيرده الثواب حياً وميتاً من فعل أناس لا يعرفهم ولا يعلم بما يفعلون إلا أنهم إستمعوا لأمره ونهيه مباشرة أو بالواسطة فإستجابوا وإهتدوا وأحسنوا القول والفعل ليصبح سبباً للصلاح والهداية، والله عز وجل واسع كريم لا يؤاخذ في الجناية إلا المباشر والمرتكب لها، أما في الصلاح والهداية فيضاعف الأجر والثواب للمباشر للصالحات ولمن كان سبباً فيها متحداً أو متعدداً، قريباً أو بعيداً، حياً أو ميتاً.
بحث منطقي
يستلزم طلب القضية دليلاً وحجة لتثبيتها والدعوة اليها وقد تمتلك بذاتها الحجة والدليل الذاتي، فلا تصل النوبة إلى البيان الإضافي والتفصيل، والإحتياج إلى البيان ليس من اللامنتهي بل لابد ان يكون له حد معلوم ينقطع معه الجهل وينتفي التسلسل، وتسمى المقدمات التي تستغني عن البيان “بمبادئ المطالب” أو مبادئ الأقيسة ومنها اليقينيات والمشهورات والمسلمات والمقبولات.
واليقين هو الإعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع، الذي لا يطرأ عليه الشك وان طرأ عليه فلا يسبب زواله، وتنقسم القضية اليقينية إلى بديهية ونظرية كسبية.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاهد على بلوغ المسلمين لمراتب اليقين والعلم بالأحكام، وكسب المعارف ومضامين الحكمة كما أنه باب لطرد الجهل بقسميه وهما:
الأول: الجهل البسيط، وهو عدم العلم فيما يجب تحصيل العلم به.
الثاني: الجهل المركب وهو القطع غير المطابق للواقع،
والإعتقاد على ثلاثة وجوه:
الأول: ما كان جازماً مطابقاً ثابتاً وهو العلم.
الثاني: ما لم يكن ثابتاً وما يشبه الظن المعتبر.
الثالث: الإعتقاد الجازم غير المطابق للواقع وهو الجهل المركب، فيصدر الأمر بالمعروف من أهل الوجه الأول الذين يتصفون بالعلم والبصيرة متوجهاً إلى أهل الجهل البسيط والمركب كما أنه دعوة للإرتقاء بأهل الظن إلى مراتب اليقين والإعتقاد الجازم في علوم الحلال والحرام، والتفقه في الدين بما يطرد الجهالة والغرر عن الذات والغير، أما الذات فبالتقيد بالاحكام والســنن، وأما الغير فبالأمر بالمعــروف والنهي عن المنكر، ويمكن إعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكــر مدرسة لبلوغ مراتــب اليقين، ومانعــاً من اللبس الذي يكــون برزخاً دون اليقين.
ولا ينحصر الأمر والنهي بالعقليات وما يدرك بالعقل والإعتقاد، بل يشملان الحسيات التي تدرك بالحواس وهي البصر والسمع والذوق والشم واللمس، ليرى الإنسان المعروف كضياء الشمس وتطرب اذنه لسماعه ويشمل صغائر الأمور ومعضلاتها، ومن مواضع الأمر والنهي إصلاح حاسة البصر ولزوم حصانتها ووقايتها من رؤية ما حرم رؤيته، وتنزيه السمع عن الغيبة والنميمة وما شابههما من أدران اللسان وآفات السمع.
وللأمروالنهي موضوعية وحضور في التجريبيات التي يحكم بها العقل بواسطة تعدد الوقوع وتكرر التجربة فيثبت عند الإنسان لها حكم مخصوص مستقرأ من التجربة والوجدان، وقد تحصل التجرية ولكن لا ينتج عنها اليقين والقطع ليتكرر الفعل أو الحدث، ولا يكون علة لإستقراء الدروس منه بما يفيد القطع والإعتقاد الجازم، فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصورتين لتثبيت النفع من التجربة والمنع من تضييعها، وجعلها علة لليقين وعبرة وموعظة، كما تكون مقدمة للأمروالنهي والأخذ بهما والعمل بمضامينها، وفيه آية إعجازية وهي ان الحياة الدنيا وما فيها من الأمور الإبتلائية عون على العمل بالأمر والنهي، صدوراً وإستقبالاً، وتأثيراً وأثراً.
وقد يحصل عند الإنسان يقين في قضايا معينة وتسكن اليها النفس وتمتنع معه من الشك فيها وتسمى “المتواترات” كما لو ترتب اليقين على إخبار جماعة عن جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، ويأتي الأمر بالمعروف لتوظيفها والإنتفاع منها في الاحكام الشرعية بالإعتبار والإتعاظ وحسن التأديب وإقتباس الدروس منها، وعدم اللبس في فهم الوقائع والأحداث، لينفذ الأمر والنهي إلى الميادين المختلفة ويكون له إعتبار في الإخبار والوقائع بما يجعلها وسيلة لتثبيت الإيمان وطرد مفاهيم الكفر والشرك.
قانون موضوعية اللسان في الأمر والنهي
تضمنت الآية الكريمة ثلاثة أوأمرإلهية للمسلمين، تنهض أمة منهم في كل أمرمنها مع الإتحاد والتداخل في الفعل، ويحصل الإمتثال لكل فرد من هذه الأوامر باللسان واليد، ويمثل اللسان فيها منزلة عظيمة، فغالبا ما تكــون الدعــوة إلى الخير باللسان، بلغة الترغيب والحث والمتبادر من الأمر بالمعروف هو إتيأنه باللسان وصدور الأمر من الأمر إلى المأمور لذا جعــل الترغيب بان يكــون الأمر بالقــول قبــل إسـتعمال اليد.
وللسان موضوعية كآلة للإصلاح والزجر عن المنكر، وهو وسيلة للإصلاح والنهي المقارن والمتقدم والمتأخر عن المنكر، فالنهي باللسان يتقدم عن فعل القبيح ويكون واقية منه، ويقترن به لبيان قبحه الذاتي وأضراره ومنع غلبة النفس الشهوية والسبعية، ويتأخر عنه لإتصال الذم وبعث المرتكب للذنب على الندم وحثه على الإستغفار والتدارك، والإقلاع عن المعصية.
وقد ذكر اللسان في الحديث الشريف كآلة للإصلاح والزجر عن المنكر وهو أمرظاهر للعيان، ومدرك بالوجدان كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده…… الحديث”( ).
مما يدل على ترتب الأثر وحصول التغيير عند إستعمال اللسان في الأمر والنهي، وتلك آية في وظيفة اللسان، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها” أي يسأل المسلمون بعضهم بعضاً الدعاء لهم ).
فالشخص لا يعصي الله بلسان غيره فتـأتي الدعوة بكراً لم تخالطها شائبة المعصية وتكون بعثا إلى الخير والصلاح وزجرا عن المنكر، للتكفير عن الذنوب التي إرتكبها الإنسان باللسان من الغيبة وإسباب التعدي والظلم والفسوق وهو آية من آيات التكليف.
فالمضامين والأوامر القدسية في الآية دعوة لتهذيب اللسان وتوظيفه في مرضاة الله، وإصلاح له ومنعه من الإساءة وإيذاء الغير وإظهار العيوب وكشف الأستار، فتكون وظيفته إصلاح الاخرين وكبح جماح الغضب، ومن باب الأولوية ان يصلح الإنسان نفسه ويظهر السيطرة على جوارحه ولسأنه ولا يطلق له العنان.
والأمر بالعروف والنهي عن المنكر شكر قولي على النعم الإلهية ودعوة للشكر القولي والعملي بإعتبار ان الدعوة والمعروف ينقسمان إلى قسمين هما:
الأول: القولي، وهو الذي يأتي بالقول واللسان، كما في دعوتك لشخص بان يفشي السلام، الذي هو مستحب وخير محض ويرسخ معاني الأخوة التي جاءت بها الآية السابقة.
الثاني: العملي، وهو الذي يتجلى بالفعل والعمل كما في الإنفاق بان تدعو شخصاً لينفق في سبيل الله.
ويمكن تقسيم الدعوة والأمر بلحاظ الكيفية إلى وجوه:
الأول: الدعوة والأمر بالقول واللسان لإتيان المعروف العملي كما في دعوتك لشخص لأداء الصلاة والتقيد بها.
الثاني: الدعوة والأمر بالفعل لبعث المكلف على المعروف القولي.
الثالث: الدعوة والأمر القولي للتقيد بالمعروف القولي.
الرابع: الدعوة والأمر الفعلي للترغيب والحث على المعروف القولي، وتوظيف اللسان في الحث على الصالحات.
لقد أراد الله عز وجل للسان ان يكون وسيلة لإكتساب الصالحات فجاءت هذه الآية التي تبين إرتقاء المسلمين في سلم الإيمان، وحرصهم على الثناء على الله تعالى وإخلاصهم في مرضاة الله، وصدق سرائرهم قال الأخطل الشاعر:
ان الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمتاز المسلمون عن غيرهم بالوظائف العقائدية للسان وعمله في اليوم والليلة، ليكون رقيباً على الجوارح وشاهدا عليها،وتكون هي شاهداً عليه ليأتي عمل المسلم موافقاً لما يقوله ويدعو اليه.
وأيهما أكثر اثراً في الأمر والنهي اللسان أم اليد؟ الجواب لكل واحد منهما أثره ومناسبته، وقد يصلح أحدهما في موضع لا يصلح فيه الآخر وميادين اللسان في الإصلاح أكثر من ميادين اليد،خصوصا في هذا الزمان، فاللسان هو الأكبر في التأثير وتعدد الصيغ لأنه يتضمن لغة الإقناع والترغيب والحث والتبكيت والتوبيخ والغلظة، لذا فان إستعماله في الأمر والنهي يكون على مراتب ايضاً، ويبدأ بالأدنى ولغة الود واللطف, بالإضافة إلى لغة الوعظ والإرشاد وإتخاذ المنبر وسيلة للأمروالنهي في كل زمان.
وجاءت وسائل الإعلام الحديثة وسعة دائرتها لتعطي اللسان أهمية خاصة في الأثر والتأثير، وتملي على المسلمين وظائف لسانية مركبة من وجوه:
الأول: الإنتفاع الأمثل من هذه الوسائل.
الثاني: إظهار معاني التقوى والصلاح عبر هذه الوسائل.
الثالث: التصدي للإستعمال الضار لهذه الوسائل، وما يخالف احكام الأمر والنهي، فمثلاً جاء ذم المنافقين في القرآن لأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف( )، وهذا الفعل لا ينحصر بالمنافقين بل يشمل شطراً من الكفار، ويظهر على ألسنتهم وفي وسائل الإعلام الحديثة فلابد من التصدي له وفضحه ومنع الإنصات له.
الرابع: مواصلة السعي الكريم لتهذيب اللسان ومنعه من جلب الآثام لصاحبه، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “ما من يوم إلا وكل عضو من أعضاء الجسد يكفر اللسان يقول: نشدتك الله أن نعذب فيك”( )، يكفر أي يخضع له.
قانون إقتران الأمر والنهي بالعمل
جاءت الآية بثلاثة أوامر، ولا تنحصر هذه الأوامر بالفعل الذاتي، فتتجلى هذه الأوامر من وجوه:
الأول: القيام بالدعوة إلى الخير.
الثاني: التصدي لمسؤولية الأمر بالمعروف وما فيها من الشرف العظيم بإعتبار أنه يأمربأمرالله الذي يأتيه على نحو مركب من جهات:
الأول: ما في هذه الآية الكريمة.
الثاني: بيان الآيات ال أخرى لمصاديق المعروف ووجوه الصلاح.
الثالث: زجر الناس عن الموبقات والفواحش.
الرابع: تلقي الدعوة إلى الخير.
الخامس: الإمتثال لمن يأمربالمعروف طاعة لله تعإلى.
السادس: الكف عن السيئات إستجابة لمن ينهى عن المنكر، وهذه الإستجابة بالأصل طاعة لله تعالى من وجوه:
الأول: ورود الآيات القرآنية والسنة النبوية بالنهي عن المنكر.
الثاني: قيام المسلم بالنهي عنه، ونهيه هذا تذكير بالنهي القرآني، ودعوة للصدور عن القرآن والسنة، فكما ان الآية بدأت بالدعوة إلى الخير، فأنهاتتضمن الدعوة للإمتثال لأمرالله تعالى بالإستجابة لما في هذه الآية من المضامين القدسية.
والمعقولات على قسمين موجودة ومعدومة، والموجودة أشرف من المعدومة، ومن الموجودات الإنسان العاقل وهو الأشرف وله سخر الله ما في الأرض، وهو على قسمين عالم وجاهل، والعالم أشرف من الجاهل.
وجاءت الآية لمخاطبة المسلمين وفيه ثناء ومدح لهم وإخبار سماوي عن نيلهم مراتب من العلم تجعلهم مؤهلين للتكليف بالقيام بهداية غيرهم والأخذ بأيديهم إلى مراتب العلم وإقتران العمل بالعلم، ليتجلى العلم على الجوانح وفي عالم الأفعال، ومن أفضل العلماء من يقرن علمه بالعمل.
وتأتي هذه الآيات لتؤكد بان المسلمين يقرنون العلم بالعمل الشخصي والغيري لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل شخصي ومرآة للعلم لوجوبهما، وإقرار بماهيتهما في حياة الأمر وحياة المأمور والناس جميعاً، فمن أضرار إستدأمة المنكر إحتمال تعدي أضراره وصعوبة محاربته والثناء عليه، فيأتي الأمر بالمعروف وقاية لنفس الأمر وإحتراس من تأثره بأضرار إستدأمة المنكر أي ان المسلم ينفع نفسه بالأمر بالمعروف.
لذا أراد الله عز وجل أن يحترس المسلم بدعوة الآخرين للخير والمعروف، وهي شاهد على علمه بالحاجة اليهما، وتجديد لهذا العلم فكل دعوة من المسلم إلى الخير إعلان عن علمه بنفعه، وكل أمربالمعروف إخبار عن إستمرار تقيده بمضامينه وحرصه على محاكاة الآخرين له، بل ان الأمر بالمعروف هو ذاته عمل مقرون بالعلم، وميادين العمل حجة على المسلم في لزوم توظيف علمه في الواقع اليومي ليكون وسيلة مباركة لإصلاح المجتمعات.
فتأتي الدعوة على نحو القضية الشخصية وتكون سبباً لصلاح الأسرة والأهل وتركة مباركة للأبناء والأحفاد، ويطرد الأمر والنهي الجهل عن الإنسان، ويجعله في عمل دائب لتعيين مصاديق المعروف وحث الناس عليها، ومعرفة مواطن المنكر وإعانة الناس على إجتنابها، والأخذ بأيدي الناس إلى سبل النجاة في النشأتين، ويتحقق إقتران العمل بالعلم بالإمتثال للأوامر الإلهية في أداء الواجبات كالصلاة والصيام، وترك المحرمات.
وجاءت هذه الآية لتبين ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق الواجب، وتدعو العالم لإظهار علمه عند حصول الفتن أو مقدماتها وفي الشدة والرخاء، والحضر والسفر فلا ينحصر الأمر والنهي بحال الحضر والإقأمة بل هو وظيفة ملازمة للمسلم حتى في سفره ,و قد تكون حال السفر فرصة للأمروالنهي خصوصاً اذا كانت هناك حالة من الخطأ والزلل شائعة في موضع أو قرية ولم يلتفت الناس إلى ضررها ولزوم تصحيحها، فمع الإمكان والقدرة على البيان يتحقق التكليف ويكون السفر فرصة لتهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات وبيان منافع العلم، وإنصات الناس لأقوال العلماء.
لقد أراد الله للعلم أن يثبت عند المسلمين سواء في الوجود الذهني أو في مجتمعاتهم ويعلم الناس مراتب العلم التي وصلوا اليها، ودرجات الفقاهة التي بلغوها، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آلة لهذا التثبيت وبياناً للإرتقاء العلمي عندهم، وبرزخاً دون ضياع العلم من الأفراد والجماعات،ووسيلة لتنمية ملكة التحصيل والتفقه في الدين عند عأمة المسلمين، وسلاحا للإعتصام بحبل الله.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “حسن النسق” ومعناه ظاهر من عنوأنه، ويعني الإتيان بكلمات متتاليات معطوفات يتعقب بعضها بعضاً، يتجلى جمالها بالنسق الحسن، وكل جملة منها قائمة بذاتها، تستطيع الإستقلال لغة ومعنى،وجاء العطف بالوأو للأخبار عن النسق والتوالي ويأخذ حسن النسق في هذه الآية صبغة عقائدية، من وجوه:
الأول: تعدد الأوامر في الآية مع قلة كلماتها، فكل أمريتكون من كلمتين ليكون عالماً جهادياً مستقلاً، ومدرسة في تهذيب النفوس وإحياء العلوم وإصلاح الناس.
الثاني: التداخل بين مضامين الآية الكريمة، فتتداخل الدعوة إلى الخير مع الأمر بالمعروف من الأطراف الثلاثة وهي:
الأول: القائم بالفعل وهو جزء وفرد من الأمة التي تنبعث للأمر بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ]، فجاءت الأوامر الإلهية متعاقبة في الآية وبعضها معطوف على بعض.
أما في الواقع الفعلي فيمكن للمسلم ان يأتي بالأفعال الثلاثة في زمان واحد وان يقدم ويؤخر في الترتيب، فقد يتقدم النهي عن المنكر ليمتنع الإنسان عن الفاحشة ثم يتوجه إليه الأمر بالمعروف أويأتيان معاً أو تجتمع معهما الدعوة إلى الخير في آن واحد، وهذا التلقي على أقسام:
الأول: إتحاد جهة الصدور، بأن يقوم بها شخص أو جهة واحدة.
الثاني: تعدد جهة الصدور، مع إتحاد المتلقي، فتأتيه الدعوة من شخص، والأمر من ثان، والنهي عن ثالث، أو تأتي الدعوة من شخص والأمر والنهي من آخر.
الثالث: تكرار التلقي، وهذا التكرار قد يكون من شخص واحد، أو من أشخاص متعددين، إلى ان تحصل الإستجابة والإمتثال، فما دام الموضوع قائماً فان الدعوة والأمر والنهي ترد عليه.
الرابع: مجيء الإستجابة لأحدها مقدمة للإستجابة للأمرالآخر، كما لو إستجاب المكلف وإجتنب الفواحش، فان هذا الإجتناب مقدمة وواسطة للإنتقال إلى مرتبة الإمتثال للأمربالمعروف، والسعي في مراتب الكمال.
قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حجة
من فضل الله على المسلمين ان إختارهم ليكونوا جنوداً للشريعة، وحفظة لمبادئ الإسلام، وورثة للأنبياء، فجاءت الأوامر الإلهية لهم بما يناسب مقامهم الرفيع في مراتب العبودية لله.والإنقطاع إليه تعالى في القول.
والعمل بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذا المقام، وكنز في عالم الأفعال ادخره الله للمسلمين ليترشح عنه ثواب غير متناه يتضمن الفلاح والظفر والبقاء الدائم في النعيم الخالد، ويبين حسن توظيف العقل، وإخضاع الجوارح والجوانح لاحكام الشريعة، وإجتناب الضلالة والغواية وإتباع الهوى، ولا ينحصر هذا التوظيف الحسن بالفعل الذاتي، بل يشمل الغير فالإنسان على قسمين:
الأول: من يعمل الصالحات ويأمربالمعروف وينهى عن المنكر.
الثاني: من يعمل السيئات ويتلقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتنحيته عنها.
وهناك مراتب بين هذين القسمين إلا أنهإلا تصل إلى درجة الإستقلال الرتبي بحيث يكون كل واحد منها قسيماً لهما، فعمل الصالحات وحده دعوة إلى الخير والمعروف وردع عن المعصية، ومرتكب السيئة يتلقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحد حواسه فقد يسمع أو يرى من يأمره وينهاه، وقد يتلقاه باللذة والألم والإعتبار من الآخرين.
والحياة الدنيا دار إختبار لكل إنسان في إختياره وعمله، وكل شخص يعتبر من حاله وما هو عليه من النعمة، والسعادة أو الشقاء، ويتعظ من غيره وينتفع مما هو فيه، وفاز المسلمون بان كانوا أهل القسم الأول أعلاه، وهو دعوة للناس جميعا للإلتحاق بهم، من غير حصر للدعوة بأمة أو قبيلة أو شعب مخصوص، ولا يتوقف على الوراثة والتركة بحيث لا يكون مسلماً إلا من كان أبوه أو امه مسلمين، بل ان دخول الإسلام باب مفتوح لكل إنسان، وهذا الإنفتاح مطلق يشمل ساعات حياة الإنسان كلها.
ومن ثمرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الدعوة إلى الإسلام، والنطق بالشهادتين، وإن كان الأمر والنهي فيما بين المسلمين، فيدعو المسلم أخاه المسلم للتقيد بالصلاة وفعل الصالحات، فينجذب غير المسلم لمبادئ الإسلام لموافقتها الفطرة والعقل.
ومن الآيات إنعدام الوسائط في المقام، فليس من فاصلة بين دخول العبد الإسلام وبين نيله مرتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودخول الإسلام بحد ذاته أمربالمعروف ونهي عن المنكر بالفعل والمثال الشخصي الحسن وهو عنوان الشمول لأحكامهما، والمندوحة في النهل منهما والإنتفاع منهما كتشريع تفضل الله تعالى به، وتكليف قريب يغترف منه المسلمون الحسنات ويكون حجة على الناس، اذ ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب مبارك يستطيع كل إنسان أن يلجه بحسب حاله وشأنه وسعة أو ضيق صلاته ومعاملاته، فلا ينعدم موضوعهما لأي إنسان مطلقاً، ولو قلت لو كان الإنسان يعيش وحده، فليس من موضوع للأمربالمعروف والنهي عن المنكر والجواب أنه ليس من إنسان يعيش وحده وعلى نحو إمتداد حياته كلها.
وهذا النفي من مصاديق الآية وان جاءت بالتبعيض في التكليف، ومع تعذر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مدة معينة من حياة الإنسان يجزيه التقيد بأحكامهما، والحرص على الإمتثال والقيام بوظيفته في هذا الباب عند تجدد الموضوع والقدرة على الأمر والنهي.
والحجة في المقام على وجوه:
الأول: التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرحجة على الناس فصحيح ان الخطاب في الآية الكريمة جاء للمسلمين على نحوالخصوص “ولتكن منكم أمة” والمراد من الضمير الكاف في “منكم” الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطقوا بالشهادتين إلا ان التكليف أعم ويشمل الناس جميعاً، لتكليف الكفار أيضاًبالفروع كتكليفهم بالأصول.
فمن مصاديق الحجة على الإنسان أن يكون مأموراً بأشياء في باب العقيدة والعمل، ويأتيه الأمر من غيره بان يجتنب ضده ونقيضه، فتلك رحمة إضافية وحجة أخرى عليه، فبعد ان تخلف عن وظيفته التي جاء بها القرآن والنبوة، يتوجه إليه الأمر من أخيه الإنسان الذي نال شرف الإسلام وإنتمى إليه وتقيد بأحكامه، وهذا الإنتماء وثيقة تزكية وطهر وصلاح للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذا يمكن حمل الخطاب في الآية “ولتكن منكم أمة” على الحصر والتعيين أي لا يقوم بهذه المسؤولية الشرعية غيركم من الأمم.
الثاني: فيه حجة للمسلمين وشاهد على قيامهم بما أمرهم الله عز وجل به، وهل يمكن القول بمجيء زمان على المسلمين خال من أمة تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر وفي حال وجود مثل هذا الزمان فهل يتعارض مع منطوق الآية لما فيها من لغة التبعيض وكفاية وجود أمة في زمان ما، الجواب لا يوجد زمان خال من أمة من المسلمين تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر، خصوصاً على القول بان المسلمين جميعاً يتولون القيام بهذه الوظيفة العقائدية، ففي كل زمان توجد مصاديق لمنطوق الآية اذ أنهاتخاطب المسلمين في كل زمان ومكان بوجوب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فلابد من وجود هذه الأمة في كل زمان،وهو نعمة على أهل الأرض جميعاً من وجوه:
الأول: الأمر والنهي خير محض.
الثاني: الأمر والنهي نوع مفاعلة بين الأمر والمأمور، والناهي والمنهي.
الثالث: ترشح منافع الأمر والنهي على الآخرين. وجاءت خاتمة الآية لتخبر عن التوفيق لحسن القيام بهما، وان هذا التوفيق والإمتثال في المقام من الأمور التي تلازم المسلمين في حياتهم فلا يفارقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى يوم القيامة، فمن الآيات ان الخطاب الإلهي والإمتثال يتجددان دائماً مع الجديدين الليل والنهار، كما تنقسم حجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى قسمين:
الأول: الحجة الدنيوية بان يكون الأمر والنهي دعوة إلى الصلاح، وحثا على الطاعات، وبيانا للفضائل التي يتضمنها الإمتثال لأمرالله تعإلى، خصوصاً وأنه موافق لمدارك العقل الذي يميل للحسن بالذات، فيأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقيم الحجة على الإنسان من خلال موازينه العقلية التي تدعوه إلى الإنصات لهما، وقبول ما حسنه الشرع.
الثاني: الحجة الأخروية وهي الأهم، وان كانت متعلقة بالأولى وهذه الحجة، على وجوه:
الأول: بيان أهلية المسلمين للفوز بالجنة ونيل مراتب الفلاح.
الثاني: تجلي الآيات الإلهية في الوعد الكريم لمن يتقيد بأحكام هذه الآية ، ونيله مرتبة الفلاح والبقاء الدائم في النعيم.
الثالث: إقأمة الحجة على الكافرين الذين أعرضوا عن ضروب الطاعة مع توجه الأمر الإلهي اليهم، وقيام المسلمين بأمرهم ودعوتهم وإرشادهم.
ولا تنحصر هذه الحجة بيوم الحساب بل تستمر قائمة حتى بعد دخولهم النار فتأتيهم حجة وبرهاناً على ظلمهم لأنفسهم وإستحقاقهم العذاب على لسان الملائكة الذين يتولون عذاب الكفار، كما تجري الحجة على ألسنة أهل النار بالإحتجاج بينهم بلغة الذم والتقبيح، قال تعالى [وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا]( ).
بحث منطقي
كل شيء يؤثر في غيره ويؤدي إلى وجوده يسمى علة، فيأتي المعلول متعقباً للعلة، وهناك وجوه وأقسام عديدة للعلة بحسب الأثر منها:
الأول: العلة الفاعلية، وهي التي يكون وجود الشيء بها وتكون خارجة عنه وليست جزء منه، وتارة تأتي بهذا الوصف بإرادة الخالق المبدع للكائنات سبحأنه فيقال “ما منه الوجود”.
وتارة تأتي بإرادة السبب الخارجي لوجود الشيء كالنجار الذي يصنع الكرسي، والبناء الذي يبني الدار، ولا بد من التفصيل والتمييز بينهما، وإنفراد المشيئة الإلهية بقسم خاص.
الثاني: العلة المادية، يمكن جعل السببية الفاعلية قسما خاصا مستقلا، خصوصاً وان السبب ليس علة تامة، فالنجار لا يصنع الكرسي من العدم، والبناء كالآلة في بناء الدار، ويحتاج إلى العلة المادية التي يتحقق بها الشيء وتسمى “ما فيه الوجود” كالخشب بالنسبة للنجار، ومواد العمل بالنسبة للبناء ويمكن ان نطلق عليها اصطلاح “العلة المادية.
ليختص لفظ العلة الفاعلية بمشيئة الله بإعتبار أنهاعلة تأمة لا يتخلف عنها معلولها قال تعالى [ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وواجب الوجود هوالمفيض للوجود، وينحصر به الإيجاد من العدم، والخلق البديع ويأتي الأمر بالمعروف بأمرمن عند الله عز وجل ليكون جزء من خصائص خلق الإنسان، وشاهداً على نعمة العقل وتوظيفها في مرضاة الله، وهو عنوان للإختبار المركب، فيختبر المؤمن بالأمر بالمعروف وغيره بالإستجابة له.
الثالث: من الآيات العلة الغائية للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي خارجة عن المعلول كالعلة الفاعلية إلا أنهاتكون أثراً وغاية لأجلها وجد الشيء.
ولا تكون العلة نفس المعلول بل لابد من التمايز بينهما بلحاظ الأثر والمؤثر، والسبب والمسبب،لأن الشيء لا يتقدم على نفسه، والعلة متقدمة على المعلول.
والعلة في المقام على وجوه:
الأول: علة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الأمر الإلهي الذي يتجلى في هذه الآية .
الثاني: كما ان الأمر والنهي معلولان للأمرالإلهي فأنهما علة للإصلاح وإشاعة المعروف وإماتة المنكر.
الثالث: في الأمر والنهي بيان لحسن المعروف، وقبح المنكر، وهذا البيان يدفع الإنسان لفعل الخير، ويجعله يحترز من السيئات.
قانون درجات النهي
يعرف المسلمون جميعاً الملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما أن يذكر أحدهما حتى يتبادر إلى الذهن الآخر، وهذه الملازمة شاهد على إرتقاء المسلمين في أحكام الحلال والحرام، وقوة وشائج الأخوة الإيمانية بينهم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعاهد للأخوة ومضامين الصلات العقائدية والإجتماعية والتربوية بينهم، وهو مائز يميز المسلمين عن الأمم ال أخرى .
فليس بين الأمم وأهل الملل والنحل من يتصدى إلى نصيحة غيره ويرشده إلى سبل الخير والصلاح وان لم تكن له معه صلة رحم وعمل، وقد يتجنب ذوو الأرحام منهم التدخل للإصلاح في شؤون بعضهم بعضاً، ويعتبرون التدخل فضولاً، وعدمه من مصاديق الحضارة والتهذيب.
وجاء القرآن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليبقى المسلمون أمة واحدة، ويكون عوناً لهم على اجتناب الفرقة ومحاكاة الأمم السابقة فيما حصل بين أفرادها وفرقها من الإختلاف كما في الآية التالية [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ].
فمن البينات والآيات الباهرات التي أنعم الله بها على المسلمين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتكون برزخاً دون الفرقة، فيشعر المسلم ان وظيفته نصح وإرشاد أخيه المسلم وان كان ينتمي إلى فرقة أخرى ،بمعنى ان تقسيم المسلمين إلى دول وفرق في حال وقوعه لا يمنع من توجه الخطاب التكليفي للمسلم بأمرونهي أخيه الذي ينتمي إلى فرقة أخرى ،لان هذا التقسيم أمرعرضي طارئ لا يؤئر سلبا في اصل الخطابات التكليفية والتشريعية.
ومن الآيات ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان كفائيان إلا أنهما لا يسقطان بسبب التباين والإختلاف في الولاء والإنتماء والمصر خصوصاً في زمان العولمة والتقارب بين البلدان ووجود وسائل الإتصال الحديثة، ولا ينحصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمسلمين بل يشمل إعانة الناس جميعاً بتقريبهم إلى سبل الهداية والطاعة، لذا فأنهما سعي وجهاد في سبيل الله.
وتتعدد مراتب النهي عن المنكر، وتتداخل فيما بينها، وقد تكون بعضها مناسبة في حال دون غيره، ويدل التعدد فيها على سعة رحمة الله وعظيم لطفه بالعباد، وحلمه عليهم، وجذبهم للإيمان بالبيان والحجة، وتوظيف العقل لزجر النفس الشهوية والغضبية وإزاحة الحجب الجسمانية.
ويبدأ النهي عن المنكر بالأرفق والأدنى ثم يرتقي إلى ما هو أغلظ منه الأقرب فالأقرب، فبعد اللسان تأتي اليد، وكل منهما له مراتب متعددة ومتفاوتة، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ” من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسأنه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان”( ).
ولا تعارض بين هذا الحديث وبين القول بالبدأ بالأرفق من وجوه:
الأول: حمل الحديث على عدم الإنتفاع من الأرفق والنهي باللسان، فتستعمل اليد للنهي.
الثاني: ورود آيات وأخبار من السنة النبوية تفيد البدأ بالأدنى،ولو بخصوص موضوع معين كالزوجية، قال تعالى [وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ] ( ).
فتقدم الهجر في المضاجع على الضرب، وحتى الضرب فأنه لا يتعدى صرف الطبيعة ومسمى الضرب، “وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه الضرب بالسواك”، والسواك لا يصلح للضرب أصلاً، وينعدم معه الألم الجسماني، ولكنه عنوان بسيط لإنكار المنكر في الصلات الزوجية.
الثالث: يدل الحديث على أفراد النهي عن المنكر بصيغ وكيفيات متعددة.
الرابع: إستعمال اليد من الكلي المشكك، وهو على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، كما يشمل الإصلاح والإعانة باليد والمدد، ودفع مقدمات المنكر،وان صدرت من غير المرتكب للمعصية، وتهيئة أسباب الصلاح والإرشاد، وإزاحة الحواجز بين الفرد والإيمان، ووضع الحواجز بينه وبين المعصية، فمن العصمة انعدام المعصية.
الخامس: الحديث شاهد على التباين في أحوال الناس والإختلاف في الوقائع والأحداث، ودليل على السعة والمندوحة في الشريعة الإسلامية بتعدد الصيغ وطرق الوقاية من العلاج، وهو من الإعجاز في أحكامها لتنزيه مجتمعات المسلمين من أدران المنكر والقبيح.
مسائل فقهية
الأولى: كما ان الأمر بالمعروف واجب فان النهي عن المنكر واجب أيضاً وعلى وجوبه الكتاب والسنة والإجماع ، ووجوبه كفائي، وليس عينياً.
الثانية: يشمل المنكر كل معصية وذنب كبيراً كان أو صغيراً.
الثالثة: يشترط في النهي عن المنكر أمور:
الأول: معرفة الناهي للمنكر ومصاديقه لقاعدة منع الجهالة والغرر، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الدين.
الثاني: رجحان أو إحتمال ترتب الأثر، ومع الإطمئنان بعدم حصول الأثر فلا يجب النهي حينئذ إلا مع وجود عنوان ثانوي راجح، أو وجود مصلحة أخرى تفيد الوجوب كما لو كان فيه بيان لقبح الفعل وأنه منكر، ورفع الغشاوة عن بصر وسمع فاعله أو من قد يحاكيه في فعله، وحتى مع إنتفاء الوجوب فان أصل جواز ورجحان النهي عن المنكر باقِ على حاله.
ولا فرق في الوجوب في حصول الأثر في الحال أو فيما بعد، وعند السامع أو غيره، كما لو كان السامع ينقل إلى أقرانه وأصحابه في المعصية النهي والزجر عن فعلها، فيتعضون أو بعضهم به.
الثالث: يشترط عدم حصول الضرر على الناهي في نفسه أو عرضه أو ماله، ولا على غيره من المسلمين، ويكفي الظن المعتبر بالخوف.
الرابع: ان لا يكون فاعل المنكر معذوراً فلا يجب النهي، أما حالة الضرورة فيمكن التعاون لتداركها.
الرابعة: كما هو الحال بالنسبة للمعروف، فان النهي عن المنكر له مراتب متفاوتة وهي:
الأولى: إظهار الكراهة القلبية.
الثانية: الإنكار بالقول واللسان.
الثالثة: النهي بالفعل واليد.
وتكون كل مرتبة من هذه المراتب على درجات متعددة الأيسر فالأيسر، ولا ينتقل إلى الأشد إلا بعد عدم ظهور الأثر عن السابق الأخف منه.
الخامسة: من مصاديق النهي عن المنكر الحرص على إجتنابه والإبتعاد عن أفراده، وإظهار الحرص على التحلي بالفضائل والأخلاق الحسنة، وإجتناب العادات المذمومة، وترك الشبهات والمكروهات.
السادسة: من أهم مواضيع النهي عن المنكر إصلاح العيال، وأمرالأولاد بطاعة الله وتوكيد عظيم نفعها وزجرهم عن الفواحش، وبيان ما فيها من الأضرار والآثام والتخويف مما يتعقبها من عذاب البرزخ ويوم القيامة.
السابعة: لا ينحصر الأمر بالنهي عن المنكر بل يجب إظهار الكراهة والإعراض عن فاعله، لما فيه من التأديب بقيود ثلاثة:
الأول: مع القدرة وإمكان الإعراض.
الثاني: عدم وجود ضرر في البين نتيجة الإعراض.
الثالث: إنتفاء وجود راجح لعدم الإعراض، فإذا كانت الصلة مع فاعل المنكر تؤدي إلى إصلاحه وكفه عن المعصية،فلا تصل النوبة للإعراض.
الثامنة: يجب الإنكار والغضب لله عز وجل واظهار عدم الرضا عند التعدي على الدين والملة، وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: أوحى الله إلى شعيب النبي عليه السلام اني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال عليه السلام: هؤلا الأشرار، فما بال الأخيار؟
فأوحى الله عز وجل اليه: داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي( ).
التاسعة: لا يجوز إجراء العادة السيئة، ولابد من وقاية الأهل والأولاد عن الأفعال المذمومة وأفراد المنكر، ويحرم التظاهر بالمنكرات.
العاشرة: لا ينحصر النهي عن المنكر بالأهل والأرحام والأصدقاء بل هو شامل لورود الخطاب في الآية على نحو الإطلاق ، وان تأكد في الأقرب فالأقرب.
الحادية عشرة: لا يجوز مجالسة أهل المعاصي، ويجب إظهار الحق مع الإمكان.
الثانية عشرة: لو لم يقدر المكلف إلا على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، فيقدم الأهم منهما، أو كان أحدهما يدل في مفهومه بوضوح على الثاني، ومع عدم وجود راجح يتخير بينهما.
الثالثة عشرة: ليس للنهي عن المنكر منهج عام مخصوص، والمناط على الزجر عنه بالكيفية المناسبة الأسهل فالأسهل بما يحصل معه الكف والردع عن المعصية والقبيح سواء جاء بالإشارة أو التعريض أو التصريح أو الفعل.
الرابعة عشرة: وجوب النهي عن المنكر فوري ولو حصل تأخير أو تسويف فلا يسقط التكليف به، بل يجب فوراً ففوراً لبقاء الموضوع والتكليف بالردع عنه، وهو من أسرار ورود الآية بصيغة المضارع [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ].
الخامسة عشرة: لا يجوز السعي للإطلاع على ما يحصل في البيوت، وما خلف الجدران، بقصد الإطلاع هل هناك شخص يرتكب المنكر، فينهى عنه.
السادسة عشرة: لو إشتبه وأمربمنكر وجب التدارك مع الإلتفات، ولا ينحصر التدارك به، بل يجب على غيره الإعلام، لأن ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد، ولوجوب إزالة اللبس وإرشاد الجأهل إلى الأحكام.
السابعة عشرة: من منافع الترتيب والتدرج في مراتب النهي عن المنكر، أنه لو إحتمل ترتب الأثر على بعضها، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقطان بل يجب الإنتقال إلى مرتبة أخرى ، كما لو إحتمل ان التلميح والتعريض لا ينفعان في تحقيق الغاية والإصلاح، فيجب القيام بالتصريح، وكذا لو إحتمل وظن ظناً معتداً به ان القول لا ينفع فيجب الإنتقال إلى الفعل الأدنى فالأدنى.
الثامنة عشرة: لو كان شخص مرتكباًُ لفعلين منكرين، ويأس الناهي عن زجره ومنعه من أحدهما، فلا يسقط النهي عن الآخر لقاعدة الميسور وإطلاق الأدلة، وللزجر عن الإنغماس في المعصية.
التاسعة عشرة: لو إحتمل ترتب أثر النهي، وحصول الإصلاح مع الإعلان وإخبار الآخرين عن إرتكاب الشخص للمعصية، فيجوز الإعلان مع تجاهر المرتكب لأنه لا حرمة له بعد ان ألقى جلباب الحياء، ولعمومات المنع من إشاعة المعاصي والمنكرات.
العشرون: لو إحتمل تأثير النهي على نحو الموجبة الجزئية، بترك المعصية الأكبر إلى الأدنى والأقل فحشاً، والكبيرة بالصغيرة وجب النهي حينئذ ايضاً.
الحادية والعشرون: لو كان المرتكب للمعصية أكثر من شخص، وعلم المكلف أنه نهيه يؤثر بأحدهم من غير تعيين لشخصه، وعدم التأثير في غيره، وجب النهي، وكذا لو ظن إثنان من المسلمين ان احدهما من غير تعيين ينصت له المرتكب للمنكر وجب عليهما نهيه عن المنكر، ولو قام أحدهما بالنهي فان ترتب الأثر وكف المرتكب عن المعصية سقط التكليف عن الآخر، وإلا فلا.
الثانية والعشرون: كما ان رفع المنكر واجب، فكذا دفعه قبل وقوعه، ومنع مقدماته والتصدي له لأنه في معرض الوجود والإنشاء.
الثالثة والعشرون: لو علم ان المرتكب للمعصية لا يأتيها ولكن ليس للتوبة والإقلاع عنها، بل بسبب العجز وعدم توفر مؤونتها ومستلزماتها فلا يجب نهيه عن المعصية حينئذ لعدم وقوعها واقعاً، وإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه، نعم تجب الموعظة والحث على التوبة النصوح، والنهي عن ترك التوبة، لأنهاواجب ولا يصح النهي عن الواجب.
الرابعة والعشرون: لا يجب النهي عن المنكر لو ترتب على النهي ضرر لا يحتمل سواء على النفس أو الأهل أو المال أو على أحد المسلمين لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وقاعدة نفي الحرج.
الخامسة والعشرون: لو اعتقد مرتكب المنكر أنه معذور وجواز فعله لشبهة موضوعية، كما لو ترك شخص الصيام ظناً منه أنه يضره، أو الحج باعتقاد أنه غير مستطيع فلا يجب نهيه، ولكن لابد من البيان وإسداء النصح وهو من عمومات النصح، والدعوة إلى الخير التي جاءت بها هذه الآية .

قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]
تضمنت خاتمة الآية بحرف العطف (الواو) فلم تقل الآية “وينهون عن المنكر أولئك هم المفلحون” بل جاءت بإضافة الواو، مع ان هذا الشطر من الآية غير معطوف على أجزائها ال أخرى التي تتضمن العطف فيما يجب فعله أو تركه، وهذا العطف إعجاز اضافي وفيه مسائل:
الأولى: الإخبار عن الإتصال بين مضامين الآية الكريمة.
الثانية: التوكيد بان الدنيا مزرعة الآخرة، وظهور نتائج الفعل في الدنيا، وفي عالم الحساب الأخروي.
الثالثة: المعنى اللفظي في إتصال كلمات الآية والترابط بينها، اذ ان المفهوم العقائدي لا يمنع من المعنى اللفظي، بل أنهما يتداخلان في الدلالة.
الرابعة: الإخبار عن حسن العاقبة كثمرة للفعل الصالح، والعمل بمرضاة الله.
الخامسة: تعقب البشارة للفعل، ففي الآية إخبار عن حقيقة وهي ان السعادة الأبدية لا تتخلف عن الإمتثال للأوامر الإلهية.
السادسة: تدعو الآية المسلمين للعمل بمضامينها بلحاظ حرف العطف (الواو) فكأنهاتقول بادروا إلى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتكونوا من المفلحين.
السابعة: تفيد (الواو) هنا معنى الترتيب،وإطلاقه هو المشهور بين النحويين، فجاء الفلاح متعقباً للعمل بمضامين هذه الآية ، ومترتباً عليه ترتب المعلول على علته، اذ لا يتخلف المعلول عن علته.
الثامنة: يؤكد التداخل والإتصال بين الإمتثال وأثره إنعدام الإحباط في العمل بمضامين هذه الآية ، وخلوص الدعوة والأمر والنهي من الشك وإحتمال عدم القبول.
ويحتمل نيل الفلاح أمرين:
الأول: إرادة جميع المسلمين لأنهم آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: لا يفوز بالفلاح إلا الذين يعملون بمضامين هذه الآية .
ولا تعارض بين الوجهين، وهما مما اذا اجتمعا افترقا، واذا إفترقا إجتمعا، ويمكن معرفة النتيجة وفق القياس الإقتراني.
الكبرى: الذي يدعو إلى الخير ويأمربالمعروف وينهى عن المنكر يكون من المفلحين.
الصغرى: كل المسلمين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
النتيجة: المسلمون هم المفلحون.
ولا تنحصر البشارات في خواتم الآيات بالمسلمين بعد البعثة النبوية، بل هي شاملة للمؤمنين في كل الأزمنة السابقة واللاحقة، فالآية بيان لوظائف المسلمين العقائدية في كل زمان وإتحاد ماهيتها وكان للمسلمين الفخر بوراثتها، وكفاية أمة وفريق منهم بالقيام بها، بعد ان عجزت الأمم السابقة عن القيام بها، وهو شاهد على نعمة الله عز وجل بالبعثة النبوية بإعتبارها الطريق إلى الفلاح والصلاح والإستقأمة والفوز بالسعادة الأبدية.
وفي جعل الخاتمة بشارة مسائل:
الأولى: أنهاوسيلة مباركة للسعي في دروب الطاعة والإمتثال.
الثانية: الإنتقال بالمسلم من حال التكليف إلى حال الأجر والثواب من غير واسطة بينهما.
الثالثة: تجلي معاني اللطف الإلهي في الآية الكريمة.
الرابعة: الترغيب بالعمل بمضامين الآية ، فاذا علم المسلم بعظيم الثواب الذي ينتظره فأنه يبادر إلى التقيد بأحكام الآية .
الخامسة: إقأمة الحجة على الناس بالإخبار عن عالم الغيب وما فيه من النعم الأخروية لمن آمن وإتقى.
السادسة: خاتمة الآية حرز وواقية من الشك والريب والتردد، لأنهاتفيد القطع واليقين بحصول الثواب.
السابعة: التوكيد على ان الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ودعوة متصلة للإستعداد للحساب بإدخار الصالحات التي ترد في الآيات القرآنية لذا تجد البشارة فيها تتعقب الفعل العبادي.
الثامنة: الإخبار عن حقيقة وهي ان الله عز وجل يحصي أعمال العباد ويعلم ما يفعلون، وأنه يتفضل عليهم بهدايتهم لسبل الصلاح والرشاد، والعلم الإلهي بالأفعال بشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وحث على نيل المراتب العالية.
التاسعة: خواتيم الآيات دعوة لتلاوة القرآن، والسياحة في عالم الملكوت.
العاشرة: في البشارة إنذار من العقاب ودعوة للإحتراز من المخالفة والجحود والصدود.
ولابد من السعي الدؤوب في تحصيل مضامين الآية ، وتحقيق مصداقها الخارجي في القول والفعل، وحصول الإمتثال يما ينفع في هداية الناس ليترشح الثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أطراف متعددة ويكون موضوعا للصلاح والأمن من الضلالة، ولو جاءت الإستجابة على نحو الموجبة الجزئية.
وبلحاظ الإطلاق والتقييد يكون المراد من الفلاح ونيل مرتبته وجوهاً:
الأول: شمول الفلاح للمسلمين جميعاً وان كان العامل في الآية فريقاً وأمة، والشمول بلحاظ عموم الخطاب الإلهي في الآية الكريمة وإرادة المسلمين كافة، وإعتبار انبعاث فريق من الأمة أي ان الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمربالمعروف وتنهى عن المنكر تقوم بهذه الوظائف لأنهاجزء وشطر من المسلمين.
الثاني: إنحصار الفلاح بأفراد الأمة التي تعمل بمضامين هذه الآية .
الثالث: العنوان الجامع للوجهين أعلاه، من غير تعارض بينهما، وتلك آية من آيات الاحكام التكليفية وما فيها من الثواب العظيم.
الرابع: يأتي الأجر والثواب للمسلمين والمسلمات جميعاً بإعتبار قيامهم بأفراد الآية ، وما فيها من الأوامر ، وان جاء التكليف فيها على نحو التبعيض.
والصحيح هو الرابع، اذ ان الآية تتضمن ثلاثة أمور:
الأول: توجه الخطاب إلى المسلمين كافة بإنبعاث فريق منهم للإمتثال لما في هذه الآية من غير تعيين لهذا الفريق أو تحديد صفاته وخصائصه.
الثاني: قيام أمة من المسلمين بسنن هذه الآية وما فيها من الأوامر التي تحمل على الوجوب وان كانت مصاديقها تنقسم إلى الواجب والمندوب.
الثالث: البشارة بالفلاح للعالمين بأحكامها،
وبما ان الآية تدعو المسلمين جميعاً للعمل بمضامينها ولا تستثني منهم أحداً، وان عدم بلوغ مرتبة عالية في التحصيل والعلم ليس حاجباً دون توجه التكليف للمسلم والمسلمة في الآية ، لذا فان الثواب عام للمسلمين من وجوه:
الأول: توجه الخطاب لهم جميعاً وان كان الواجب كفائياً.
الثاني: إستعداد وشوق المسلمين جميعاً للنهوض بالوظائف العقائدية الواردة في هذه الآية .
الثالث: تحقق المصاديق الخارجية للآية بقيام المسلمين بالعمل بها، فان قلت ان القدر المتيقن من ظاهر الآية هو إرادة الأمة التي تعمل بمضامين الآية الكريمة فالجواب ان الوجوب الكفائي ينبسط عليهم جميعاً.
الرابع: عموم الفضل الإلهي وإرادة نيل المسلمين الثواب الجزيل بالإمتثال لهذه الآية الكريمة، وهذا العموم وجه من وجوه حب الله تعالى للمسلمين، وشاهد على لطفه تعالى بهم.
الخامس: الآية دليل على نيل المسلمين لمرتبة وراثة الأنبياء وإستحقاقهم الفوز بالنعيم الخالد.
السادس: تبين الآية إنعدام البرزخ والواسطة بين المسلمين وبين الجنة، فلا يحجبهم عنها شيء بعد الإمتثال لاحكام هذه الآية ، وتلك نعمة إضافية فمع عظيم النعيم الأخروي فان الله أنعم على المسلمين وجعل طريقهم إليه معبداً، مضاء بمصابيح الخيرات وفعل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وجاءت الآية بصيغة الجمع اولئك، وفيه مسائل:
الأولى: بيان عظيم فضل الله على المسلمين بمجيء البشارة بصيغة الجمع والإستغراق.
الثانية: شمول كل المسلمين بالبشارة بلحاظ إنبعاثهم إلى الإمتثال لمضامين هذه الآية الكريمة.
الثالثة: خاتمة الآية فتح ونصر للمسلمين، فمن أراد بلوغ مراتب التقوى ونيل ثواب الجهاد، فالفلاح غاية كل مؤمن، وأمل كل مسلم فجاءت الآية لتخبر عن نيله بالسعي في إصلاح النفوس، وتنقية المجتمعات من أدران الضلالة.
الرابعة: في صيغة الجمع حث للمسلمين للمبادرة إلى الواجبات الكفائية، وعدم التباطئ فيها، ودعوة لإجتناب الميل إلى إيكال الفعل إلى الغير، وترك الإمتثال تكاسلاً وإعتماداً على الظن بوجود من يقوم به، ممن لم يكن معلوماً ومعيناً.
كما لو رأى مسلم معصية ولكنه لم ينه عنها عسى ان يأتي ويقوم بالزجر عنها غيره، فجاءت البشارة بالفوز لتحثه على القيام بنفسه بوظيفة النهي عن المنكر، وعدم تضييع الفرصة.
الخامسة: الآية دعوة لحث المسلمين للمبادرة بالإمتثال لما في الآية من التكليف على نحو الجماعة والمتعدد، فاذا إستلزم الأمر بالمعروف إشتراك جماعة من المسلمين في فعل مخصوص فأنهم يبادرون إليه من غير تردد وإبطاء.
السادسة: في الآية إخبار عن حقيقة في عالم الحساب وما فيه من الثواب للمسلمين وهي ان إشتراك جماعة متعددين بالعمل الصالح لا يؤدي إلى نقص ثواب أي منهم.
ولا ينحصر الثواب بمقدار مخصوص لكل فعل، فليس لخزائن الثواب من حد أو مقدار معلوم، ويأتي الثواب بلحاظ الفاعل وان تعدد، فكلما كثر عدد الفاعل زاد ثوابه وثواب الجماعة معه، وان كان الفعل مما لا يستلزم إلا فاعلاً واحداً كما لو كان نهياً عن منكر، ويتحصل بفرد واحد يزجر المرتكب عن المعصية، ولكن جماعة إشتركوا بالفعل على نحو الإتحاد والتعدد، وقاموا بنهيه على نحو الإشتراك والإجتماع لوجوه:
الأول: رجاء الثواب.
الثاني: لزيادة التأثير، وإيجاد سلطان على المكلف.
الثالث: زيادة السعي في سبيل الله، فكما أن الأمر بالعروف والنهي عن المنكر واجب غيري يتضمن إصلاح وهداية الغير، فأنهما واجب نفسي، والإتيان بهما إمتثال لأمرالله.
الرابع: لظهور الأمر ، والشعور بلزوم النهي، خصوصا مع تكرار المعصية والفعل المنهي عنه.
الخامس: نتيجة عرضية لعمل كل واحد من الجماعة التي يتصدى أفرادها للنهي عن القول والفعل القبيح على نحو مستقل.
فكل شخص منهم ينال الثواب الذي يستحقه كاملاً وكأنه قام بالأمر بمفرده دون الإشتراك مع غيره، وتلك آية في الفضل الإلهي وسر من أسرار صيغة الجمع في الإخبار عن الفوز والبشارة بالفلاح والصلاح، وشاهد على سعة خزائن الله عز وجل، وترغيب إضافي بالأمر بالعروف والنهي عن المنكر.
وجاءت الآية باسم الإشارة للبعيد (اولئك) والمراد المدح والثناء على الذين يمتثلون لاحكام هذه الآية ، وفيه وجوه:
الأول: شمول المدح والثناء لكل المسلمين.
الثاني: جاءت الآية كقاعدة كلية من غير تعيين للمسلمين، بل كل من يقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون مفلحاً منجحاً.
الثالث: الآية بخصوص الأمة والطائفة التي تقوم بالإمتثال لاحكام هذه الآية .
والصحيح هو الأول لقيام المسلمين بأحكام الآية مع عدم تعارضه مع الوجهين ألآخرين، أما الثاني فان الآية تخاطب المسلمين وتأمرهم بان تتصدى أمة منهم للقيام بما فيها من الأوامر ، ثم تمدح هؤلاء الذين يتصدون لتلك الأفعال، وتأتي آية أخرى بعد ست آيات لتصف المسلمين على نحو العموم بأنهم يأمرون بالمعروف، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
قانون الإمتثال “فلاح”
جاءت أحكام الحلال والحرام جلية واضحة في القرآن، تدعو الناس للعمل بها، وتحثهم على التقيد بسننها وتجعل النفوس تسكن وتستقر عند التوفيق للعمل بها، وتأتي الآية بالحكم الشرعي المتحد أو المتعدد لدعوة الناس للإمتثال وإكتناز الصالحات، ومع قلة كلمات هذه الآية فأنهاجاءت بثلاثة أحكام وعلى نحو الوجوب الشامل للميادين المختلفة وبما يجعل المسلم يعيش ساعاته وأيامه في جهاد لبناء صرح الإسلام، ويشمل موضوع الآية وجوهاً:
الأول: بيان الاحكام الشرعية فالأمر بالمعروف مثلاً تثبيت لمصاديق المعروف.
الثاني: قد يظن أن الواجب فقط هو الفرائض العبادية كالصلاة والصيام، واذا ما أداها المكلف فأنه مخير في الباقي، له أن يؤديها وله ان يتركها فجاءت هذه الآية لتؤكد وجوب الدعوة إلى الخير، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: المعروف ان الإنسان مكلف تتوجه إليه الأوامر والنواهي من عند الله، وجاء الأنبياء لدعوة الناس للعمل بسنن الشريعة، ومن الآيات في خلق الإنسان أنه يرتقي إلى منزلة الأمر والناهي، يكون آمراً بشيء في أحكام الشريعة، وناهياً عن أمور محرمة، وهذا الأمر والنهي جزء من طاعة الله وليس أمراً مستقلاً منفصلاً عنها، والقيام بالأمر والنهي من أصدق مصاديق طاعة لله، لأنه إمتثال لأوأمر الله عز وجل، وتوكيد لنواهيه.
الرابع: من لطف الله عز وجل بالإنسان في المقام أمور:
الأول: هدايته للأمربالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: جعل الأمر والنهي تكليفاً وواجباً
الثالث: بيان مصاديق كل من المعروف والمنكر.
الرابع: إرشاد المسلمين إلى صيغ وطرق الأمر والنهي.
الخامس: مجئ الأمر والنهي على نحو متصل في الواقع اليومي،بلحاظ حضور الآيات القرآنية ,والواقع والحوادث والأفعال التي تستلزم الأمر والنهي، ونعمة الأخوة بين المسلمين، فقد يغفل الإنسان عن أحكام التنزيل والنبوة فيقوم أخوه المسلم بتذكيره وحثه على المبادرة اليها ويذكره لما غاب عن ذهنه.
وقد تحصل عنده شبهة موضوعية أو حكمية، فيأتيه البيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحصيل البصيرة، ورفع الشبهة، ودفع الوهم، وإقأمة الحجة مثلما يأتي على الأمر المعلوم في مخالفته للحكم الشرعي،فيتحقق الإمتثال وتبعث آيات الرضا على الذات في النفس الإنسانية، ويشع ضياء الأمل في القلوب المنكسرة وتزداد خشوعاً لله وأملاً بالمستقبل.
والإمتثال في الآية على أقسام:
الأول: قيام المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: تعاون وإشتراك جماعة وأمة من المسلمين في الأمر والنهي، فمن الآيات في لفظ الأمة في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] عدم طرو اليأس والقنوط على النفوس في الدعوة إلى الخير والأمر والنهي، فقد يقوم مسلم بدعوة شخص آخر للخير ويأمره بالطاعة وينهاه عن المعصية، ولكنه لا يستطيع جذبه إلى منازل الهدى فيستمر على العناد والمعصية، وهذه الآية تأمرالآخرين بالتوجه إليه وتظافر الجهود والإشتراك في هدايته ليكون أفراد الأمة الداعية بعضهم ظهيراً لبعضهم الآخر، وهم مجتمعين عوناً للشخص المدعو لإنقاذه من براثن المعصية.
الثالث: إستجابة الشخص المدعو للأمروالنهي، فحينما أمرالله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنه يعلم بوجود المستجيب لهم، والممتثل لأمره تعالى بواسطتهم، مما يدل على ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن في صلاح الناس وقوام تقيدهم بالاحكام الشرعية.
ومن خصائص الإختبار في الحياة الدنيا ان عبداً يمتثل لأمرالله ويقوم بأمرغيره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وآخر يستجيب له فيعمل بما أمربه من الطاعة والمعروف، ويجتنب ما نهي عنه من المعصية والسيئات والذنوب. فيحصل إمتثال مركب ومتعدد، وهذا التعدد على وجوه:
الأول: الذين يأمرون بالمعروف،وهم على أقسام:
الأول: الذي يبذل الوسع للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة ومصاديق الحلال والحرام، قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ ] ( ).
الثاني: الذي يتصدى للأمربالمعروف والنهي عن المنكر بلسأنه أو يده.
الثالث: من يكون عوناً وعضداً للأمربالمعروف والناهي عن المنكر.
الرابع: الذي يبذل ماله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصحيح ان بذل المال ليس أمراً ولا نهياً إلا أنه يلحق بالأمر والنهي بإعتباره مقدمة للإمتثال وإزالة للمانع.
الثاني: من يتلقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو على وجوه:
الأول: تارك الواجب والفريضة، فيأتي النهي لزجره عن هذا الترك، وحثه على أداء واجباته.
الثاني: مرتكب المعصية وفاعل الفاحشة.
الثالث: تارك المستحب، والفاعل للمكروه، والمقتحم للشبهات.
الرابع: المؤازر لفاعل السيئة.
الخامس: الذي ينفق ماله في معصية الله، وهو فاعل للمنكر، وواسطة وعون لإرتكابه والغير للمعصية.
الثالث: فريق آخر ليس طرفاً في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص مسألة معينة، ولكنه ينتفع منه ويتعظ من مضامينه، ويتدبر في حاله ويصلح شأنه بما يناسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: من ينتقل من موقعه ويهجر السكوت إلى منازل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسأهم في تعظيم شعائر الله، ويرغب بالفلاح والفوز.
الخامس: الذي يرضى بالأمر بالمعروف ويبارك من يمتثل ويستجيب له.
ومن عظيم فضل الله عز وجل السعة في الأجر وخزائن كثرة الثواب، فالأفراد اعلاه ينالون الثواب إلا الذي يصر على المعصية ويعرض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يكون الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر على نحو القضية الشخصية من الطرفين طرف الأمر والمأمور، ولكن الذين ينتفعون منه اشخاص عديدون بلحاظ الإمتثال والقبول والرضا.
فمن يكف عن مؤازرة المنكر وفاعله، ويقوم بتحريض أخيه المسلم على الأمر بالمعروف وبذل الوسع في هذا الباب ودعوة الناس للهداية يصبح من المفلحين، ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعمة على المسلمين لبلوغ مراتب الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
وتعتبر هذه الآية قاعدة كلية في الملازمة بين الإمتثال ونيل مراتب الفلاح، ليكون الصلاح والبقاء الدائم في جنة الخلد ثمرة ونتيجة للإنصياع لأوأمر الله تعإلى.
بحث منطقي
التعريف في علم المنطق هو المعلوم التصوري الموصل إلى مجهول تصوري، ويقع جواباً عن (ما) الشارحة، وهي التي يسئل بها لبيان ماهية الشيء وإرادة معرفته على نحو التفصيل بعدما دل عليه الاسم إجمإلا ويسمى الجواب عنه التعريف الإسمي، كما لو سألت شخصاً آخر وقلت له: ما تفعل؟ فأجاب أتوضأ لصلاة الظهر، فجاء الجواب بالجنس والفصل القريبين.
وقد تكون (ما) حقيقية بأن يكون الشخص عالماً بما يفعله غيره على نحو الإجمال ولكنه أراد معرفة الحقيقة، وهي في إصطلاح علم المنطق الماهية الموجودة، والجواب عنها يسمى (التعريف الحقيقي) كما لو علم بأنه يتوضأ ولكنه لا يعلم هل يتوضأ للصلاة أو قراءة القرآن أو بقصد القربة، أو علم أنه يتوضأ للصلاة ولكن لا يعلم أنه مقدمة لصلاة الفريضة أم النافلة فيسأله ما تفعل.
والتعريف حد ورسم، وكل واحد منهما تام وناقص، ويأتي الحد التام تعريفاً بماهية الشيء وذكر خصوصياته بما يمنع من الترديد، فاذا قيل ما الصيام؟ يقال إمساك عن الأكل والشرب والمفطرات ساعات النهار قربة إلى الله فيشمل هذا التعريف بياناً للصيام، ويدل في مفهومه على العبادة بالنية والكف عن المفطرات بوقت مخصوص ورجاء مرضاة الله، ويأتي الحد التام تارة مختصراً كما في تعريف الإنسان بأنه “حيوان ناطق” لبيان أنه جسم نامِ متحرك بالتصور والإرادة ويمتاز بالنطق.
ويأتي احياناً بذكر بعض ذاتيات المعرف “بفتح الراء” فبدل ان يقع بالجنس والفصل القريبين وما يفيد الحد التام، فأنه يأتي بالجنس البعيد والفصل القريب كما لو قلت في تعريف الولد بأنه ذو رحم فقد أنقصت من تعريفه صفة الإنتساب الصلبي، أو جئت بذكر الفصل وحده من غير ذكر الجنس كما لو قلت في تعريف الصيام أنه فعل يؤتى به بقصد القربة إلى الله تعإلى.
أما بالنسبة للرسم التام والناقص، فالأول ما يتضمن الجنس والخاصة، كما في تعريف الكتاب بأنه ما بين الدفتين، أما الرسم الناقص فهو الذي يأتي بالخاصة وحدها كتعريف الكتاب بأنه مجموعة أوراق، أو تعريف الإنسان بالعرضي وحده كما لو عرفته بأنه ضاحك.
والأصل في التعريف هو الحد التام لإجتماع شرائط التعريف فيه بما يفيد بيان حقيقته، وتصور ماهيته في الوجود الذهني بما يمنع من الجهالة واللبس أو الترديد بينه وبين غيره من الأشياء أو الأمور.
وجاءت هذه الآيات لبيان أحكام وتكاليف شرعية يتولى القيام بها المسلمون على نحو الحصر والتعيين وهي ضرورية لهم ولأهل الأرض وإستدأمة الحياة على سطحها، ومع هذا البيان فان الآيات تضمنت تعريف المسلم بالفصل وذكر أفراد ثلاثة من خصائص الإيمان، والتعريف في هذه الآيات على أقسام:
الأول: ما جاءت به الآية قبل السابقة, وهو على وجوه:
الأول: النداء بصبغة الإيمان قبل آيتين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فيخرج بالتخصص من الخطاب من لم يؤمن بالله ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الأمر الإلهي بتقوى الله، وتقديم التقوى دليل على أهميتها وأنهامفتاح للأعمال العبادية وتدخل في ماهيتها لذا يشترط في العبادة قصد القربة اذ لا تتقوم إلا به.
الثالث: ذكر حقيقة التقوى بالتعريف الحقيقي والمعنى المركب الذي يعني لزوم بلوغ التقوى أعلى مراتبها، وأصدق معانيها، وصفة التقوى من الفصل القريب لأنهاجزء من ذات ومصاديق الإيمان.
الرابع: الثبات على الإسلام وعدم ترك منازل التقوى إلى حين مغادرة الدنيا فلا إفراط ولا تفريط في الاحكام ومسائل الحلال والحرام.
الثاني: ما جاء في الآية السابقة وهو على وجوه:
الأول: الأمر الإلهي بالإعتصام بالقرآن والسنة، والتمسك بعرى الإسلام، والتقيد بما فيه من الاحكام والسنن.
الثاني: بيان الموضوع الذي يتم الإعتصام به، وإضافة الحبل إلى الله طرد للإجمال ونفي للإبهام.
الثالث: لزوم الإجتماع والشمول في الإعتصام بحبل الله، وأن يكون رداء ووعاء للمسلمين كافة.
فمن صفة المسلم أن يعتصم بحبل الله، ومن صفة المسلمين كأمة أن يعتصموا بحبل الله، وتلك آية عقائدية، فيأتي الإعتصام على نحو القضية الشخصية، والقضية النوعية، ليكون موضوع الإعتصام تعريفاً للمسلم وللمسلمين، وذات الإعتصام طلاء مباركاً ونوراً يشع من بين ثنايا الإيمان فتراه الخلائق، وينجذب إليه الناس.
الرابع: من خصائص المسلمين إجتناب الفرقة والخلاف، وهذا التعريف من الرسم وذكر العرض الخاص لهم، فالمسلمون أمة واحدة لا تفرق بينهم المذاهب والأهواء وقد أنعم الله عز وجل عليهم وجعل قلوبهم متآلفة لتكون الألفة بينهم واقية من الفرقة وان داهتمهم أسباب الخلاف وحصول الكيانات الدولية المستحدثة، وهيئة الدول المستقلة وطرو أسباب النفرة بينها أحيانا.
فنعمة الأخوة والألفة بين القلوب، والإعانة الإلهية في تحصيل عدم الفرقة حرز مركب من النزاع والخصومة لذا ترى المسلمين وفي كل زمان لا يجعلون موضوعية للكيانات المستقلة وان تعددت خصوصاً وأنهاليست ظاهرة مستحدثة، فقد كانت بعض الإمارات والبلدان تستقل بحكمها وإدارة شؤون أمصارها، ولم ولن تؤثر في وحدة المسلمين لذا فان وحدة المسلمين من التعريف والعرض الملازم لهم.
الخامس: من خصائص المسلمين ان يقوموا بذكر نعم الله عليهم، وليس من حد للنعم الإلهية عليهم إلا ان الآية ذكرت إحداها وهي النجاة من العداوة وحصول الألفة والأخوة بينهم.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين ان يعرفوا أنفسهم وملتهم، فمعرفة الذات طريق لمعرفة الخالق، لأن الإنسان كائن محتاج أنعم الله عليه بنعم متتالية، ومعرفة النعمة تؤدي بالضرورة إلى معرفة المنعم، فمن أفراد تعريف المسلمين أنهم متنعمون بنعمة الأخوة والمحبة بينهم بالإضافة إلى أنهم يذكرون هذه النعمة.
وصحيح ان الآية لم تخبر عن ذكرهم لها وانما أمرتهم بذكرها إلا ان هذا الأمر يعني تحقيق الذكر بفضله تعالى اذ أنه يتحصل بتلاوة القرآن والتدبر في آياته، وإستحضار الشواهد التأريخية التي تدل على هذه النعمة والإقرار بها، وكذا استحضار منطوق ومضمون الآية عند رؤية مصاديق عملية لهذه النعمة.
السادس: من أفراد وخصائص تعريف المسلمين أنهم إخوان، وبما ان الأخوة النسبية غير متحصلة لكثرة عدد المسلمين وتعدد أجناسهم وشعوبهم فلابد ان المقصود هو أخوة الإيمان والإنتماء للإسلام، وتلك آية ونعمة إختص بها المسلمون من بين الأمم، فحتى بني إسرائيل الذين هم من أب واحد فان الله عز وجل وصفهم بأنهم أسباط، وجاء وصف الألفة والإخوة للمسلمين خاصة ليكون جزء من التعريف العام لهم، ويكون فيصلاً ومائزاً لهم من بين الأمم والملل.
السابع: من تعريف المسلمين مصاحبة بشارة الإنقاذ من النار لهم في الدنيا والآخرة، فمن الرسم الناقص، والتعريف العرضي للمسلمين ان يكونوا الأمة الناجية من النار، وجاءت مقدمات الإنقاذ في الدنيا بالعصمة من أسباب وعلة الدخول في النار، فكأن جزاء الإعتصام بحبل الله جاء سريعاً وفي ذات الآية فعندما تمسك المسلمون بالقرآن والسنة تفضل الله تعالى بتنحيتهم عن الهاوية والغواية والزلل.
الثامن: يتصف المسلمون بحصولهم على بيان الآيات على نحو متكرر ومتوالي، فان الله عز وجل يبين لهم الآيات ليكون هذا البيان والكشف سبباً لتثبيت الإيمان في قلوبهم، وتعاهد المضامين القدسية لهذه الآية ، وبذل الوسع في تحقيق الغايات السامية منها.
الثالث: أفراد التعريف التي جاءت بها هذه الآية ، وهي على وجوه:
الأول:يتصف المسلمون بأنهم يتلقون خطابات التكليف من عند الله بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومباشرة لهم كما في هذه الآية وقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] فلم تأتِ بصيغة الغائب: ولتكن أمة من المسلمين، أو لتكن أمة من الذين آمنوا )، كما أنهالم تأتِ بلغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ولتكن أمة من الذين إتبعوك )، بل جاءت بلغة الجمع المخاطب لعموم المسلمين.
وبما ان القرآن كتاب الله الباقي إلى يوم القيامة، فمن وجوه تعريف المسلمين أنهم باقون على ملتهم يتلقون الخطابات القرآنية ويعملون بمضامينها.
الثاني: لقد بينت الآية السابقة ما أنعم الله به على المسلمين من النعم المتعددة، وكل نعمة صفة وفرد من أفراد تعريف المسلمين، ليأتي وصف عام يفتخرون به وهو أنهم يدعون الناس إلى فعل الخير، ويتولون المبادرة إلى فعل الخيرات فهم لا يقفون بإنتظار من يستجيب لدعوتهم ويفعل الخير، بل ان الدعوة تأتي عن فعل شخصي للخير وأداء للفرائض وإقأمة للصالحات، فكأنهم يقولون للناس إتبعونا وأقتدوا بنا في فعل الخير، فالذي يريد فعل الخير لا يؤسس منهجاً بل يجد طريقاً معبداً مضاء بمصابيح الأمر بالمعروف،وقناديل النهي عن المنكر.
الثالث: يمكن تعريف المسلمين في صفتهم وعملهم بأنهم الأمة التي تأمربالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذه الخصوصية صفة ملازمة لهم مدة الحياة الدنيا، وهي نعمة في عالم الأفعال فيعرفهم الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن قال أنه مسلم تتجلى معالم الإسلام في عمله وصلته ومعاملته مع الآخرين ورفضه بالباطل، ودعوته للهدى والصلاح والرشاد، بل لا يحتاج الناس البيان والتعريف من الشخص نفسه، انما تتضح معاني الإسلام بحسن سمته وحالما يأمربالمعروف وينهى عن المنكر فان الناس يعرفون أنه مسلم ويستطيع أهل الملل والنحل ان يتصوروا ما يفعله المسلمون في حادثة أو واقعة معينة بلحاظ صفتهم التي يعرفون بها وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يمنع اللبس والجهالة والغرر في العبادات والصلات العأمة وميادين التجارة والبيع والشراء وشؤون الجيوش والحقوق والجنايات ومختلف المعاملات.
فالقاعدة الكلية لعمل المسلمين هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه محاربة الحسد، والتصدي له، فقد يقول قائل ان هذه الصفات تبعث في نفوس الآخرين الحسد لما ناله المسلمون من عظيم المنزلة والجواب ان هذه الآية تدعوهم للإسلام والتنعم بهذه النعم، فهي ليس نعمة خاصة جاءت للأفراد على نحو التعيين والتخصيص كما في تركة المال مثلاً، بل هي نعم متعددة تقترن بالإنتماء للإسلام، وجاء ذكر النعم على نحو الإمضاء والتحقيق، مما يعني ان ظهور الحسد وآفات النفس عند الآخرين لن تضر إلا اصحابها.
الرابع: من وجوه تعريف المسلمين أنهم هم المفلحون، والفلاح عام يشمل الحياة الدنيا والآخرة، فان قلت ان الفلاح الأخروي لا يعلم به إلا بعد الموت، قلت: جاءت هذه الآية للإخبار عنه وتوكيد حقيقة فوز المسلمين بالصلاح والتوفيق والنجاح في الآخرة، كما ان الفلاح ثمرة للنعم وصفات الحسن التي تفضل الله تعالى بها عليهم.
وتصلح الصفات التي ذكرت في الآية تعريفاً للمسلمين، وفيها بيان معلوم تصوري وواقعي عن حالهم إلا أنهاليست صفات جامعة، أي ليست جامعة لكل أفراد التعريف الحسنة التي يتصف بها المسلمون، نعم هي مانعة من دخول غيرهم معهم، فكما أمرت هذه الآية بنفير أمة من المسلمين للدعوة إلى الخير والأمر والنهي فان الآيات الثلاثة جاءت بصفات يختص بها المسلمون إلا أنهاليست كل صفاتهم، فمن نعم الله على المسلمين تعدد صفات الكمال الإنساني والعقائدي عندهم بما يبعث الرضا في نفوسهم ويجعلهم يقبلون على الإمتثال لمضامين هذه الآيات بشوق وعشق.
لقد جاءت الآية ببيان وصف المسلمين من جهة النوع والجنس والفصل، والنوع هو الحقيقة المشتركة بين الأفراد الكثيرين بلحاظ العدد والكليات التي تقع تحتها مصاديق عديدة قابلة للإستقلال، فلفظ حيوان نوع تقع تحته أفراد متعددة تتباين فيما بينها، اماالجنس فهو الحقيقة المشتركة بين الجزيئات كما في وصفك الأنسان بأنه ناطق فيبين هذا الوصف خصوصية يمتاز بها عن غيره من أفراد النوع، بخلاف لفظ حيوان فأنه جنس يشمل كليات مختلفة في الحقيقة، لذا يرد تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.
والفصل هو جزء الماهية التي يتعلق بها الواقع، ويختص بالذات كما في تعريف الإنسان بأنه يمشي على رجلين وضاحك، وتعطي الآية للناس درساً بان المسلمين أمة واحدة، وفيه إنذار وتحذير من التعدي عليهم، كما أنهاتبعث الثقة في نفوس المسلمين لسلأمة عقيدتهم، وتعدد النعم الإلهية عليهم وتعاونهم في مرضاة الله.

بحث بلاغي
من وجوه البديع “التفويف” وهو مجيء الكلمات في جمل متعددة، كل واحدة منفصلة عن أختها مع إنسجامها مع الجمل ال أخرى في الزنة.
ومع قلة كلمات هذه الآية فأنهاتتضمن خمس جمل مستقلة في دلالتها وهي:
الأول: قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] ( ) وفيه ثناء ومدح للمسلمين، وإخبار عن إتحادهم وأهليتهم لإختصاص فريق منهم بأداء وظيفة الصلاح والإصلاح بين الناس عموماً، وإخبار عن رقابة ذاتية بين المسلمين، وعمل متصل لتعاهد سنن الإيمان، وما كان ليتم الأمر والنهي بينهم على الوجه الأتم لولا نعمة الأخوة، فلذا جاءت نعمة الأخوة في الآية السابقة لمنع النفرة والكدورة والعناد واللجاج عند توجه الأمر من المسلم إلى أخيه المسلم، كما أنهاتنفع في التضامن في دعوة الآخرين لدخول الإسلام.
الثاني: قوله تعالى [يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ] والآية من النص المبين الذي لا يقبل الإجمال والترديد.
الثالث: قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] وهذا التعدد موعظة وعبرة للناس جميعاً وشاهد على بلوغ المسلمين منازل اليقين.
الرابع: قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ومع ان النهي نقيض الأمر إلا أنه جاء معطوفاً عليه، وكلاهما أمران مطلوب من المسلمين القيام بهما، ومن الآيات أنهما يؤديان إلى غاية واحدة وفوائد عامة، والتضاد في العنوان والإسم، أما المعنون فأنه يختلف فالأمر إحياء السنن الحميدة، وواقية من المنكر، والنهي إماتة للسنن المذمومة،ومقدمة لفعل المعروف.
الخامس: قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) خاتمة كريمة جاءت بذات الزنة في العمل السابق مع التباين في الموضوع، اذ أنهاتبين العاقبة الحميدة لمن يتقيد بأحكام هذه الآية ، وتتضمن الإنبعاث للفعل، والإخبار عن ماهيته من جهة الاحكام التكليفية الخمسة وأنه واجب،وكل فرد في فعل مخصوص من أفراد الصلاح، وهي من أشرف أعمال الإنسان منذ خلقه وإلى يوم القيامة، ومادة لديمومة الحياة الإنسانية لأنهامن مصاديق العبادة التي خلق الله الإنسان من أجلها.
وجاءت خاتمة الآية بشارة ورحمة، وتتضمن في دلالتها الإلتزامية الحث على التقيد بأحكام هذه الآية ، وعدم التفريط بفرد واحد منها، فلا يصح الإكتفاء بالأمر بالمعروف، أوالنهي عن المنكر، أوترك الدعوة إلى الخير.ولا القيام بالنهي عن المنكر، وترك الأمر بالمعروف، لأن الفلاح جاء ثواباً وثمرة لها على نحو العموم المجموعي أي بإتيأنهاجميعاً، وهو الذي يدل عليه حرف العطف “الواو” وان كان لا يفيد الترتيب الدائم في المقام، لأن التقديم والتأخير بين الدعوة والأمر والنهي بحسب الحاجة والشأن ومناسبة الحال، مع ان تقيد المسلم بالفرائض وحسن سمته هو دعوة مستديمة إلى الخير.
والفلاح خير محض فكأن الآية تقول من يدعو إلى الخير ينال الخير الدائم والسعادة الأبدية، ففعل قليل في الدنيا وأمربالمعروف يؤديان إلى خير دائم ليتجلى الفارق العظيم في الكم والكيف بين العمل وثوابه ويدل عظيم الثواب على فضل الله وإحسأنه كما أنه سبحأنه يأمرالمسلمين من أجل فلاحهم ونفعهم في النشأتين.
بحث عرفاني
لقد جعل الله عز وجل العالم مظهراً لجلاله وجماله، وإصطفى الإنسان ليكون خليفة له في الأرض، يعمرها بالعبادة والتقوى، ويظهر للخلائق معرفته بحبه للخالق وإقراره بربوبيته من غير ان يراه ولكنه يدرك بديع صنعه بعقله، وتشترك حواسه في تلمس آياته ومعرفة البراهين الدالة على التوحيد، ويتلذذ بنعمه الظاهرة والباطنة لتكون وسيلة لتذكيره بوظائفه العبادية، واقباله عليها برغبة وشوق.
ولكي يحظى المسلم بعطاء الله عز وجل اللامتناهي جاءت هذه الآية بحثه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكونا شاهدين على إخلاص العبودية وارادته فعل الخير وحبه للخالق عز وجل، ومن الآيات ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتوقفا على المكلف والمكلفة بل هما امران ملازمان للإنسان منذ نزوله الأرض، وقبل ان ينزل للأرض اذ تلقى آدم الأمر الإلهي بإخبار الملائكة بأسماء مسميات معينة بقوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] ( )، كما اذن الله له ولحواء بالأكل والشرب في الجنة ونهاهما عن الأكل من شجرة مخصوصة.
فمن اللطف الإلهي ان يأتي النهي بين ثنايا الأمر وفي أمرلا حاجة لهما فيه، وكذا موارد النهي في الدنيا فما من شيء نهت عنه الشريعة إلا وهو خارج عن الحاجة بادنى مراتبها، وعند الإنسان من جنسها ما يجعله في غنى عنها، ويتجلى هذا الأمر عند انقضاء لذة المعصية وانكشاف حقيقتها وحصول أذى بسببها، وترتب تبعات اجتماعية ومالية عليها،بالإضافة إلى الإثم العظيم لمرتكبها.
ثم جاءت الآيات القرآنية لتبين أحكام الحلال والحرام، مما يدل على غناه تعالى عن العالمين، في باب هداية الناس إلى سبل الخير، ومنعهم من الضلالة فحينما يأمرالله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنه غير محتاج لهم ولأمرهم ونهيهم في هداية العباد من وجوه:
الأول: لأن أمره ونهيه سبحأنه متقدم ومقارن ومتأخر لأمرهم ونهيهم.
الثاني: ما يقوم به العباد من الأمر والنهي انما هو إمتثال لأمرالله تعإلى.
الثالث: تجري الأمور بمشيئة الله في الأمر والنهي.
الرابع: بقاء مواضيع المعروف ومواضيع النهي على حالها مع التباين بين أفراد الزمان الطولية، وأفراد المكان العرضية، وفيه لطف بالناس، ودلالة على تفضل الله بتهيئة أسباب فعل الصالحات وإجتناب بالسيئات.
الخامس: الأمر بالعروف والنهي عن المنكر حاجة للناس، وباب للثواب، فكل من الأمر والناهي محتاج لهما ولما يترتب عليهما من الأثر في الدارين.
ولو لم يقم أحد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان الله عز وجل تفضل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر بآيات القرآن وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وفيه دليل على غناه تعالى وعدم حاجته لغيره حتى في إرشاد العباد لأمور دينهم، ولكن القيام بهذه الوظيفة الشرعية بين الناس ينفع الإنسان نفسه في دنياه وآخرته، ويرقى به في منازل الكمال، ويجعله ينال الثواب والأجر والفلاح.
وكل فرد من أفراد الآية جذبة لمقام التقريب إلى ساحة القدس وتطهير للقلب عما يشغله عن ذكر الله، وشاهد على عبودية المسلمين المحضة لله تعإلى.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق الشكر لله على نعمة الخلق ونعمة الهداية، وشاهد على معرفة المسلمين لحقيقة أنفسهم، وأنهم عباد الله، مأمورون بطاعته والتقيد بأحكام وسنن القرآن، والجهاد المتصل في منازل الإمأمة لإتمام الحجة على الناس وإيضاح المحجة، ومحاربة المعاصي وطرد نزغ الشيطان من النفوس، وإنقاذ الناس من لمة الشيطان.
لقد جعل الله عالم الأمر من أشرف العوالم وهو محيط بغيره فأراد الله عز وجل للمسلمين الإرتقاء إلى مقامات التجلي والشهود، والسياحة في شوارق الجمال والجلال، والسعي بشوق ولذة لبناء وتعاهد النظام الأحسن، والفوز بأنواع البهجة في حضرة الملك الجبار.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn