معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 73

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي أتصلت نعمه على الناس، وتعددت في ماهيتها وكيفيتها، لتبقى مع كثرتها وعجزهم عن إحصائها ملازمة للإنسان في مختلف أيام حياته لا تنفك عنه، ومنها نعمة النبوة التي جاءت عامة للناس فإبتدأت الحياة على الأرض بالنبوة، وإستمرت بعثة الأنبياء حتى بعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان النعمة الكبرى في باب النبوة.
ومن وجوه تفضيله وإكرامه مصاحبة نبوته الناس الى يوم القيامة بالكتاب الذي أنزل عليه رحمة وهداية لهم ودرر سنته، ومن دلائل بقاء نبوته حية حاضرة بين الناس عصمة القرآن من التحريف والتبديل، وتضمنه للأحكام الشرعية وكفايته لما يحتاج اليه الناس في عباداتهم ومعاملاتهم وتهذيب نفوسهم وإصلاح أحوالهم، أنه رسول سماوي دائم في الأرض تتجلى فيه مصاديق الإعجاز ،وضياء مبارك بين السماء والأرض، يقرأ الناس في ثنايا آياته علوم الأولين والآخرين ويعرفون أحوال الآخرة وما فيها من مباهج السعادة ،وعناءالشقاء ، مع بيان أهل كل منهما وأسباب الفوز بالسعادة والوقوع في الهلاك.
ليكون هذا البيان إرشاداً للمسلمين، وسبيلاً لنيلهم مقامات الخلود في النعيم، ومنه الآيتان (105-106) من سورة آل عمران ،ويتضمن تفسيرهما هذا الجزء من معالم الإيمان ، وهو الثالث والسبعون، بنعمة متجددة، وفيض إلهي في خصوص كنوز الآيتين وما فيهما من اللآلئ والجواهر ، والخطاب الإلهي للمسلمين الذي يتضمن فضله تعالى بنهي المسلمين عن محاكاة الأمم الأخرى في إختيارها الفرقة والإختلاف.
لقد جاء الإسلام لدعوة الناس الى الإيمان، وجمعهم تحت لواء التوحيد فالأصل ان ينقادوا لما في القرآن من الأوامر والنواهي، ويتبعوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وباب الدعوة لهم مفتوح على نحو القضية الشخصية والنوعية.
أما الشخصية فللإنسان الحق بدخول الإسلام بالنطق بالشهادتين في أي ساعة من ساعات حياته، وأما النوعية فليس من حاجز دون دخول أي أمة او فرقة الإسلام، فمن يعيش الفرقة والإختلاف في ملته او قوميته أو جنسه يجد الوحدة والإتحاد والأمن والتكامل في الإسلام، بالإضافة الى أكبر أخوة يشهدها التأريخ وهي الأخوة الإيمانية التي أنعم الله تعالى بها على المسلمين خاصة لتكون واقية من الفرقة وجذباً مباركاً للناس للإسلام .
ومن الآيات ان الله عز وجل أنعم على المسلمين بنعمة الأخوة ابتداء وإستدامة، ومن وجوه إستدامتها اداء العبادات على نحو الوجوب والفرض، وتغشيها لساعات النهار والليل كما في الصلاة اليومية وإختصاصها بزمان مخصوص بفريضة الصيام، أو مكان معين في خصوص الحج ، لتكون كل فريضة نعمة متجددة توثق أواصر الأخوة بين المسلمين وتزيل الكدورة من النفوس، وواقية متجددة من الفرقة وعوناً للمسلمين للإمتثال الأمثل لمضامين الآية الأولى من الآيتين اللتين تضمنها هذا الجزء، والتنزه عن طرق الفرقة والإنقسام ، والفوز بالنعيم الخالد في دار الكرامة الذي بشرت به الآية الثانية منهما، والعصمة من الفتن وأدران الإختلاف بالتقوى ، وتعاهد الشكر لله تعالى [وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً].

قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] الآية 105.
الاعراب واللغة
ولا تكونوا: الواو: حرف عطف، لا: ناهية، تكونوا: فعل مضارع مجزوم بحذف النون بلا الناهية، الواو: اسم كان.
كالذين تفرقوا: كالذين، الكاف: حرف جر، الذين: اسم موصول مجرور، والجار والمجرور في محل خبر كان، وقيل الكاف هي الخبر بإعتبار ان معناها هو مثل، وهي مضاف.
والذين: اسم موصول في محل جر مضاف اليه، والأول أصح.
تفرقوا وإختلفوا: تفرقوا: جملة فعلية من فعل مضارع، وفاعل وهو الواو، وهي صلة الاسم الموصول.
وإختلفوا: الواو: حرف عطف، إختلفوا: معطوف على تفرقوا.
من بعد ما جاءهم البينات: من بعد: جار ومجرور متعلقان باختلفوا، ما: مصدرية، جاءهم: فعل ماض، والضمير (هم) مفعول به مقدم، وتؤول ما والفعل جاءهم بمصدر مضاف والتقدير من بعد مجيء الآيات.
البينات: فاعل مؤخر، مرفوع بالضمة.
وأولئك لهم عذاب عظيم
الواو: حرف إستئناف، وتكون عاطفة.
اولئك: اسم إشارة مبتدأ، لهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
عذاب: مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة، عظيم: صفة مرفوع والجملة الإسمية في محل رفع خبر اسم الإشارة.
والفرق: خلاف الجمع فرقه يفرقه فرقاً “وفي حديث الزكاة: لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرّق، وفي حديث البيع: البيعان بالخيار ما لم يفترقا”( )، والمراد به التفرق بالأبدان.
والإختلاف: حصول التباين وعدم الإتفاق، “وقال ابن منظور: كل ما لم يتساوَ، فقد تخالف وإختلف”( ).
ولكن المراد في المقام أخص، والمراد منه ظهور أسباب الفرقة والخصومة وتعدد وجوه الإختلاف والخصومة بما يصعب معه الإلتقاء.
والبينات: جمع بينة وهي الدلالة الظاهرة والأمر الواضح، “وقالوا: بان الشيء وإستبان وتبيّن وأبان وبيّن بمعنى واحد”( ).
في سياق الآيات
لقد جاءت الآيات الثلاثة السابقة بخطاب وأوامر إلهية الى المسلمين تتضمن التشريف والإكرام والندب، وفي نظم الآيات مسائل:
الأولى: أمر المسلمين بتقوى الله بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ…] ( ).
الثانية: تشريف المسلمين بخطاب الإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وما فيه من الندب للتقيد بمضامين الإيمان، وما يترشح عنه من مفاهيم التقوى والصلاح.
الثالثة: الأمر الإلهي بتقوى الله، فبعد الخطاب بصفة الإيمان جاء الأمر بتقوى الله، لبيان حقيقة عقائدية وهي لزوم اقتران الإيمان بالله بالسعي الحثيث لبلوغ مراتب التقوى والخشية من الله في السر والعلانية.
الرابعة: انحلال الخطاب بتقوى الله بعدد المسلمين الى يوم القيامة فكأن قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ] ينحل من صيغة جمع المخاطب الى صيغة الإفراد ويتعدد بكثرة عدد المسلمين، ويتوجه لكل فرد منهم ويكون تقدير الآية “يا ايها المسلم اتق الله” فيشمل الخطاب الموجود والمعدوم.
الخامسة: شمول الخطاب في هذه الآيات للذكور والإناث من المسلمين في دلالة على إكرام القرآن للمرأة ولزوم قيامها بوظائف تقوى الله، وإشتراكها مع أخيها المسلم في الأحكام الا ما خرج بالدليل.
السادسة: الأمر الإلهي بإرتقاء المسلمين لأعلى مراتب التقوى، والسعي الحثيث في وراثة الأنبياء، وتوكيد أهليتهم لخلافة الأرض وإقامة الشعائر، وإلإلتزام بأحكام الفرائض، وتعاهد سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه توكيد لحاجة الأرض وأهلها للمواظبة على عبادة الله، وعدم التفريط في فرد من أفراد العبادة، وتتجلى وجوه التقوى في هذا الباب بتقيد المسلمين بالأجزاء الواجبة في كل عبادة كالصلاة والصوم والحج والزكاة، وأدائها بالكيفية والصيغة التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،وأمر بها.
السابعة: فضل الله تعالى في هذه الآيات بذكر مصاديق وافراد من الواجبات، ليكون الأمر بتقوى الله حق تقاته مقدمة لها وبعثاً للتقيد بها وتعاهدها، خصوصاً وان التوفيق في العمل بهذه الآيات يتطلب التعاهد اليومي لمضامينها من عموم المسلمين كل بحسب شأنه ومقامه، والإلتفات في القول والعمل الشخصي والنوعي.
الثامنة: لزوم الثبات على مبادئ الإسلام الى حين الوفاة ومغادرة الروح الجسد، وبما ان مرتبة التقوى أعلى من مرتبة الإسلام، وان كانت في طولها وامتداداً لها، فهل الأمر بالموت على الإسلام قبول للحد الأدنى وكفاية النطق بالشهادتين عند الوفاة.
الجواب لا، فالأمر بالتقوى ينبسط على جميع أفراد الزمان الطولية لحياة المسلم ويتغشى أفعاله كلها لإصالة الإطلاق الزماني في قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]، ولكن الموت على الإسلام من أفراد التقوى لما فيه من الثبات على العقيدة وتعاهد مبادئ الشريعة.
وهو دعوة للأحياء من المسلمين للقيام بمضامين التقوى، وجعل ساعة الموت وصية بالتقيد بالنطق بالشهادتين، وشاهداً على إستثمار الحياة الدنيا في طاعة الله والسعي الحثيث في مرضاته والخشية منه، واجتناب أسباب عقابه ولتكون عاقبة التقوى الغبطة والسعادة ساعة الموت والبشارة بالثواب في الآخرة، وفيه بعث للسكينة في نفوس الأبناء والأهل بان أباهم وأمهم لم يغادرا الدنيا الا على مناهج التقوى وسبل الرشاد.
التاسعة: مجيء الآيتين السابقتين بمصاديق وأحكام من تقوى الله، وهي على قسمين:
الأول: ما جاءت به الآية قبل السابقة من الأوامر وهي:
الأولى: الإعتصام بحبل الله والحث على التقيد بأحكام القرآن والسنة، واللجوء الى الله، والإستجارة به في الرخاء والشدة.
الثانية: إستغراق التمسك بالكتاب والسنة لجميع المسلمين وشمول النساء والرجال بالأمر بقوله تعالى [جميعاً] لعموم التكليف ،وجعل كل مسلم عضدا للمسلم الآخر في مصاديق الإعتصام ، وهو من أفراد نعمة الأخوة التي جاءت بها الآية قبل السابقة .
الثالثة: الأمر الإلهي للمسلمين جميعاً بعدم التفرق والإختلاف والذي يدل في مفهومه على حرمة الخصومة والنزاع والإقتتال بين المسلمين، وهو شاهد على تكامل الشريعة الإسلامية، وتضمنها لجميع الأحكام، وإحاطتها بالوقائع والأحداث، وخلوها من الضرر والإضرار.
الرابعة: الأمر الإلهي المتوجه للمسلمين جميعاً بذكر نعمته تعالى عليهم بالأخوة، وفيه دلالة على الإنتفاع الشخصي والنوعي من نعمة الأخوة، فكل مسلم إنتفع منها، كما إنتفع منها المسلمون كأمة ودولة وملة.
الثاني: ما جاءت به الآية السابقة من الأوامر وهو على وجوه:
الأول: الأمر الإلهي الى المسلمين جميعاً بتصدي أمة منهم للدعوة الى الخير.
الثاني: الأمر بالدعوة الى الخير، والحث على فعله، والمناجاة فيه.
الثالث: الأمر الإلهي بالأمر بالمعروف، أي انه أمر بالأمر ليكون المسلمون أئمة الناس في الصالحات.
الرابع: مبادرة المسلمين للامتثال للزجر عن الفواحش والسيئات، ليبلغوا مراتب الكمال الإنساني، ويتخذوا من الدنيا دار عبور الى النعيم في جنة الخلد.
وجاءت هذه الآية بالنهي عن الإختلاف والفرقة، بصيغة المثال ويتعلق موضوعها بالآيات السابقة من وجوه:
الأول: جاء في الآية (102) الأمر بتقوى الله حق تقاته، ومن مصاديق تقوى الله وإظهار طاعته وخشيته الإتحاد وإجتناب الفرقة والتشتت، فكأن هذه الآية تبين مصداقاً من مصاديق التقوى وهو عدم الفرقة والإختلاف.
الثاني: النهي عن الإختلاف وتعدد المذاهب، وإستقلال كل أمة وطائفة بقول وفعل.
الثالث: توكيد ما جاء في الآية قبل السابقة في قوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] وهذا التوكيد لفظي وصناعي، بالتحذير من التفرق والإختلاف وتباين الآراء التي تؤدي الى التشتت والضعف.
الرابع: بيان نعمة الأخوة وأثرها في الإحتراز من الفرقة، فحصول الفرقة والإختلاف عند الأمم السابقة، يحتمل وجهين:
الأول: انهم كانوا يتنعمون بنعمة الأخوة.
الثاني: لم تكن عندهم نعمة الأخوة فهي من مختصات المسلمين والبعثة النبوية المباركة.
والأصح ان نعمة الأخوة ملازمة للإسلام، وهبة من عند الله للمؤمنين في كل زمان الا ان الأمم السابقة جحدت بها، ولم تتعاهدها ، وإختار افرادها التفرق والإختلاف ، فجاءت البعثة النبوية المباركة لتجعل من نعمة الأخوة حقيقة ثابتة وحالاً مصاحبة للمسلمين في كل زمان ومكان.
ويمكن حمل قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] على جميع أهل الإيمان سواء قبل البعثة النبوية المباركة او بعدها، والذين تفرقوا وإختلفوا لم يتعاهدوا مفاهيم وقواعد الأخوة فجاء الإسلام ومعه الأخوة كنعمة من عند الله، ومن خصائص النعمة الإلهية انها لا تغادر الأرض بل تكون باقية ثابتة، لأن الله عز وجل اكرم من أن ينعم على الناس بنعمة ثم يرفعها عنهم.
فان قلت ان المسلمين نجوا وتخلصوا من التشتت والإنقسام بسبب نعمة الأخوة، والأمم الأخرى حرمت منها كمقدمة وسبب لمنع الفرقة، قلت: لا تدل الآية على حرمان الأمم السابقة من المسلمين من نعمة الأخوة، وبعثة الأنبياء وحدها دعوة متجددة للاخوة ، ولكن الآية تذكر علة الخسارة وأسباب العذاب الأخروي، بإختيار تلك الأمم التفرق والإختلاف والتشتت، لذا فان الآية جاءت للتحذير من الإختلاف والنزاع والخصومة.
ولو تنزلنا وقلنا بحصول الفرقة والخلاف بين المسلمين أو شطر منهم فهل ترتفع نعمة الأخوة، الجواب لا، بل هي باقية وتعتبر أصلا ثابتاً، والخلاف أمر عرضي طارئ لا يقدر على معارضة الأصل، كما ان النفس الشهوية والغضبية لا تستطيع الغلبة على الحكمة المترشحة من نعمة الأخوة.
فالنعمة أمر نازل من عند الله، والإختلاف فعل من الأفراد والجماعات بغلبة الهوى،والميل الى الدنيا ، نعم يترتب الثواب والعقاب على عالم الأفعال لذا جاءت خاتمة هذه الآية بالإخبار عن سوء عاقبة أهل الفرقة والشقاق، وفيه تحذير من الفرقة والجحود بالنعمة.
وبعد مجيء هذه الآية والآيات الثلاثة السابقة بالأوامر الإلهية وبيان تعدد النعم على المسلمين، جاءت الآية التالية بخصوص عالم الآخرة وما فيه من الجزاء وسوء العقاب للذين تفرقوا وإختلفوا من الأمم السابقة، لتكون زجراً عن الفرقة والتشتت، ووعيداً لمن يختار الإختلاف والشقاق ويثبت الخصومات المذهبية، وكشفاً لعلة الإختلاف وانه تم بإختيار الكفر بعد الإيمان،
وفي الجمع بين هذه الآية والآية التالية تحذير من جعل الولاء للمذهب خاصة على حساب الإسلام لأنه يؤدي عن قصد او دون قصد الى ضعف المسلمين ، وحصول الفرقة والإختلاف، وفيه نهي عن دخول المسلم في نزاع وخصومة مع اخوانه المسلمين على أساس المذهب او القومية او محل الإقامة والوطن،
ويجب ان تكون هذه الأمور الثلاثة أسباباً لقوة الإسلام كما تكون نقية سليمة بالإقتباس من مبادئ الإسلام والباس كل من المذهب والقومية والوطن لباس الأخوة الإسلامية وجعلها مادة لقوة ومنعة الإسلام، وعمقاً وظهيراً راسخاً لأحكام الشريعة الجامعة التي تتغشى كل المسلمين وتكون وسيلة مباركة لتمسكهم بها مع إختلاف اوطانهم وأنسابهم، ويكون الإلتقاء والقرب على أساس التقوى والإيمان، وفيه إنتفاء للفرقة والإختلاف.
وأخرج ابن مردويه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ادخلوا على ولا يدخل على إلاقرشي فقال يا معشر قريش أنتم الولاة بعدى لهذا الدين فلا تموتن الا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة( ).
وفيه دلالة وشاهد من السنة النبوية المباركة على التداخل بين هذه الآيات، ولزوم التقيد بأحكامها وعدم التفريط بشطر منها واكرام قريش من اهل البيت والصحابة من المهاجرين وحثهم على القيام باداء العبادات وان يكونوا اسوة دائمة وقدرة حسنة لاجيال المسلمين في فعل الصالحات ونبذ الفرقة والاختلاف.
إعجاز الآية
في الآية بيان لوجوه:
الأول: إتصال نعم الله عز وجل، وشمولها لأهل الملل السابقة وعدم إنحصارها بملة الإسلام، وهو شاهد على عظيم فضل الله وتغشي نعمه للناس في كل زمان ومكان.
الثاني: توالي البينات والدلالات الواضحات، والآيات الباهرات، ومصاحبتها للوجود الإنساني في الأرض.
الثالث: تدل الآية بالدلالة التضمنية على تخلف الأمم السابقة عن الإنتفاع الأمثل من النعم الإلهية.
الرابع: تبين الآية الضرر الفادح الذي تسببه المعصية والعناد، وهذا الضرر أعم من أن ينحصر بالحياة الدنيا بل يشمل الآخرة كما تدل عليه خاتمة الآية وقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ].
الخامس: في حين جاءت الآيات السابقة بالنهي عن الفرقة والإختلاف بقوله تعالى ” ولا تفرقوا” جاءت هذه الآية بذم أمم أخرى على الفرقة والإختلاف ، وفي المقارنة بين الآيتين وموضوعيهما مسائل:
الأولى: الإخبار الإلهي عن حصول الفرقة بين أفراد وجماعات الأمم السابقة ، بينما جاءت الآية بنهي المسلمين عن الفرقة، ويدل مفهومها على دعوة المسلمين على البقاء والإستمرار على حال الوئام والوفاق والإتحاد .
الثانية: جاء النهي عن الفرقة للمسلمين على نحو الخصوص، بينما تضمنت هذه الآية الإخبار عن حصول الإختلاف مع الفرقة عند الأمم السابقة.
الثالثة: إفادة النهي الإلهي المدد لإجتناب الفرقة، فمن خصائص الأمر والنهي الإلهي تضمنهما أسباب العون، وترشح البركة عنهما، وتتجلى مصاديق البركة بالتوفيق الى الإمتثال والإستجابة، وإجتناب الإصرار والإستكبار.
الرابعة: استقراء التباين والتضاد بلحاظ خاتمة هذه الآية بين المسلمين وأهل الفرقة والإختلاف من الأمم السابقة الذين يستحقون العذاب الأليم.
السادس: مجيء الآية بلغة المثال، وما فيه من الإعتبار والموعظة.
السابع: العلم بحال الذين تفرقوا وصاروا شيعاً ، اذ ان الإخبار الإلهي في هذه الآية مركب من أمور:
الأول: لزوم أخذ المسلمين الحيطة والحذر من الفرقة.
الثاني: حصول التشتت والإنقسام عند الأمم السابقة.
الثالث: العقاب الأليم الذي ينتظر أهل الإختلاف والشقاق.
الثامن: بعث النفرة في نفوس المسلمين من الفرقة والإختلاف، وهذه النفرة واقية ذاتية تؤدي الى تنمية ملكة الإتحاد وسنن الأخوة بين المسلمين.
التاسع: مجيء النهي عن الفرقة بعد التوكيد على نعمة الأخوة وتثبيت الألفة بين المسلمين، وهذا التعاقب نعمة إضافية لما فيه من الواقية السماوية من الفرقة والإختلاف.
العاشر: بيان أفضلية المسلمين وأهليتهم لخلافة الأرض، اذ ان الآية جاءت بصيغة المضارع، وهذه الصيغة تنبسط على الأزمنة المختلفة، فكل جيل من المسلمين تأتيه الآية القرآنية [لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا] مما يعني تضمن الآية للبشارة والإكرام، وان المسلمين يتعاهدون نعمة الأخوة ويحافظون عليها، ويحرصون على عدم محاكاة الأمم السالفة بالتشتت والإنقسام،.
ومن إعجاز الآية أنها تتحدى أهل الكتاب وغيرهم بصيغة الذم والإخبار عن حصول الإختلاف بينهم، مع ما فيه من دعوة لهم للتدارك والتآلف ومنع الإختلاف بينهم، وهم يواجهون الإسلام، فيحتمل أثر الذم والتحدي وجوهاً:
الأول: بقاء حال الإختلاف بين اعداء الاسلام.
الثاني: إزدياد الإصرار والإستكبار عند الكفار.
الثالث: دعوتهم للإتحاد للتخلص من وطأة الذم بالإختلاف، ومحاولة الظهور بالإتحاد والوحدة.
وجاءت الآية بالإخبار عن إختلافهم على نحو القطع، وبما ان الآية القرآنية تبقى حية غضة طرية في كل زمان ومكان، فانها تخبر عن حقيقة مستديمة وهي بقاء غير المسلمين على حال الإصرار والإستكبار، وانهم عاجزون عن الوحدة حتى وان بدوا ظاهراً متحدين نتيجة الشدة والإبتلاء قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( )، وفي الإخبار عن إختلافهم مدد وتعضيد للمسلمين، وبعث على مواجهة أعداء الإسلام من غير فزع أو خوف.
واذ جاء أول الآية بتحذير ونهي المسلمين من الفرقة والشقاق فان خاتمتها جاءت بالإخبار عن حال أهل الفرقة والإختلاف من الأمم الأخرى، وما ينتظرهم من العذاب الأليم يوم القيامة لتكون خاتمة الآية حثاً إضافياً للمسلمين للتنزه عن التشتت والإنقسام للتباين بينهم وبين الكفار في الدنيا والآخرة، وبذا يتجلى وجه من وجوه المثل القرآني بأن يأتي المثل في القرآن لبيان المائز الذي يميز المسلمين وفوزهم بالنجاة من العذاب الأليم لإختيارهم التصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه في سنته، وهذا التصديق والإتباع من أهم مصاديق الوحدة والإتحاد.
ومن الآيات ان القرآن يهدي المسلمين لفعل الصالحات في الدنيا بالمثل والتشبيه وفضح حال الكفار وفي الآخرة، لينتفع المسلمون مما في القرآن من لغة الوعد والوعيد، الوعد لهم بالجنة، والوعيد للكفار وأهل الفرقة والإختلاف بالعذاب الأليم الذي تكون الشهادتان واقية منه بفضل الله تعالى.
ومن إعجاز الآية بيان موضوعية الحجة في عالم الحساب يوم القيامة، اذ انها ذكرت أمرين:
الأول: مجيء البينات بما يكفي للهداية والإيمان.
الثاني: حصول الفرقة والإختلاف بعد مجيء البينات، ليتحمل كل مكلف وزر عمله وإختيار شطر من الناس الفرقة والخصومة والخروج على سنة الأنبياء، وعدم إمكان إعتذارهم بوراثة الفرقة،لأنها فعل إختياري مخالف للوظيفة الشرعية ، ويدرك العقل بأدنى تأمل قبحها ، وما لها من أضرار.
ولا تنحصر مسؤوليات المسلمين ووراثتهم لسنن الأنبياء بجيل الصحابة او التابعين بل هي باقية ومتصلة الى يوم القيامة ليس فيها انقطاع او تراخِ او تعطيل مؤقت ، لذا جاءت الآية بالتحذير من الفرقة المقترن بذم اهل الفرقة وبيان ما ينتظرهم من العذاب كي ينفر المسلمون من الفرقة والإختلاف من وجوه:
الأول: النهي الإلهي عنهما.
الثاني: الدعوة لإستقراء أضرار الفرقة والعصبية على أصحابها.
الثالث: ضرورة التنزه عن أفعال الكفار.
الرابع: الإحاطة بما ينتظر الكفار من العذاب الشديد ، وفيه زاجر عن الفرقة وأهلها، ودعوة لعدم التأسي بهم، وعدم التطلع لما في أيديهم وما ينالونه من حطام الدنيا لأنه زائل، والمدار على عالم الجزاء وما فيه من الثواب للمؤمنين والعقاب للكافرين.
ويمكن أن نسمي هذه الآية بآية [تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية.
مفهوم الآية
من مفاهيم الآية الكريمة ذم الأمم السالفة لاختيارهم الفرقة والخصومة وهل فيه دعوة لهم للاتحاد والالفة، الجواب لا، لأن الأصل هو دعوتهم للإسلام، ومضامين ذمهم في هذه الآية دعوة بالواسطة لدخولهم الاسلام وحجة عليهم ،
ومنها بيان حاجة الناس للإسلام، فعلة خلق الانسان هي العبادة، ومن مقوماتها الاتحاد والوحدة بين الموحدين ونبذ الفرقة، ويقيد منطوق الآية تحقق الوحدة بالاسلام والإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهناك مسائل:
الأولى: هل كانت الأمم السابقة متحدة ومتآلفة ثم تفرقت وهل كانت الوحدة بين افراد كل أمة، ام انها من الأصل لم تتحد.
الثانية: هل لنعمة الأخوة موضوعية في صرح الاسلام، واذا كانت لها موضوعية فان امتياز المسلمين عن غيرهم يكون بلحاظ هذه النعمة وليس عن فعل خاص يصدر منهم يميزهم عن الأمم السالفة.
الثالثة: لماذا جاء التحذير الإلهي للمسلمين. فالاصل ان لاتكون هناك فرقة وإختلاف بعد نعمة الأخوة.
اما الأولى فلادليل على اتحاد ووحدة الأمم السالفة، وهذا لايمنع من اتحاد اصحاب كل نبي من الانبياء السابقين، وأهل الإيمان من كل ملة ،وكانت هناك قرائن أخبار تؤكد وجود اختلاف بين فرقهم ، كما في قصص بني اسرائيل واختلافهم، ولكن وجود النبي بين ظهرانيهم يمنع من استمرار واثر الخلاف بل يقيد الخلاف في مكانه لموضوعية وبركات الوصي، بالاضافة الى اصل الإطلاق اذ أخبرت الآية عن حصول الفرقة بين افراد الامم الأخرى، عدا المؤمنين منهم، فلو شككنا هل كانت الفرقة شاملة لهم أم محصورة ببعضهم فالاصل هو الشمول، وكذا لو شككنا هل كانت مستغرقة لكل الأجيال ام خاصة بالأجيال اللاحقة منهم فالأصل هو الأول.
اما بالنسبة للمسألة الثانية فان نعمة الأخوة فضل من الله عزوجل خص به المسلمين، وهو تشريف واكرام لهم، ويجوز القول بالأفضلية نتيجة التفضيل الالهي، بالاضافة الى ترشح الآثار الكريمة لنعمة الأخوة على حياة المسلمين وصلاتهم وواقعهم اليومي ، وظهورهم في ساحات المعارك كالبناء المرصوص، ويتجلى في سيرتهم تعاهد هذه النعمة واجتناب الفرقة والخلاف.
واما الثالثة فان التحذير الإلهي تأديب للمسلمين، وزجر لهم عن السيئات وتذكير بما ينعمون به من نعمة الأخوة.فمن منافع التحذير تعاهد نعمة الأخوة، واظهار الشكر لله عليها بالتقيد بأحكامها، كما انه جزء من فلسفة الإبتلاء في الحياة والدنيا، ونيل المسلمين درجات الثواب بالحرص على مصاديق النعم.
لقد اراد الله للمسلمين ان يكونوا أعزة وأقوياء فأنعم عليهم بنعمة الأخوة ودعاهم لتعاهدها كما ان إجتناب الفرقة أعم ولاتنحصر مواضيعه بتعاهد نعمة الأخوة بل يشمل ميادين متعددة منها:
الأول: عدم الفرقة مقدمة للتفقة في الدين.
الثاني: الوحدة والإتحاد مناسبة كريمة للأداء الأمثل للعبادات والطاعات كما ان الفرقة سبب للانشغال بالخلاف .
الثالث: نبذ الفرقة حرز من النفرة والغضاضة بين المسلمين، وباعث على حسن المعاشرة فيما بينهم.
الرابع: الوحدة عنوان للقوة، وشاهد على سلامة العقيدة، ورسوخ الإيمان.
الخامس: تبعث وحدة المسلمين الفزع والرعب في قلوب اعدائهم، بخلاف الفرقة التي تغري الاعداء بهم.
السادس: في الاتحاد وعدم الفرقة امتثال للأوامر الالهية، فقد جاءت هذه الآيات بالنهي عن التشتت والإنقسام، لتدعو المسلمين الى الوحدة والألفة وإظهار المعاني الأخلاقية المشرقة للمبادئ الاسلامية، والآثار الحميدة لآيات القرآن على القلوب، وما تؤدي اليه من اصلاح النفوس، وتهذيب المجتمعات من آفات الفرقة، وأسباب النزاع، ونتائج الخصومة.
كما انها تمنع من إزدياد الشقاق وتعدد وجوه الخلاف فما ان تحصل خصومة بين المسلمين الا وتبرز هذه الآيات في الوجود الذهني وتكون حاضرة في الواقع العملي تمنع من استمرار الخلاف وازدياد الهوة بين المسلمين افراداً وجماعات، ويدل المثل الوارد في الآية وما فيه من المنع من الفرقة على اختصاص المسلمين بدرجة من التشريف والاكرام لم تصل اليها امة من قبل، وفيه حث على تعاهد هذه المنزلة والمحافظة على نعمة الاتحاد.
وتبين الآية جانباً من قصص الاممم السالفة، وجهاد الانبياء في اصلاحها وما لاقوه من العناء والاذى في منع الفرقة والتشتت ولكن تلك الامم ابت الا الاختلاف والخصومة وتعدد المذاهب فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون قائداً للامة المتحدة في طاعة الله التي تنبذ الفرقة للاختلاف، ونزلت هذه الآية الكريمة ليجتهد العلماء والمسلمون جميعاً في طرد الفرقة والاختلاف، وفيها إخبار عن بداية اشراقة ايمانية راسخة في الأرض، وبديل عقائدي لمناهج الامم السالفة قائم على الوحدة والاتحاد بلحاظ الهداية وتحكي اضرار الفرقة، وضرورة انتفائها عن اهل التوحيد وحاملي لواء الاسلام.
لقد أراد الله عزوجل بالبعثة النبوية المباركة بيان أهلية المسلمين للوحدة، وقدرتهم على نبذ المعصية والعناد، بنزول هذه الآيات عليهم، وجذبهم اليها وتهيئة مقدمات العمل بها بنزع الغل من صدورهم، وجعلهم إخواناً يحب بعضهم بعضاً، تجمعهم أحكام الشريعة الإسلامية والحرص على الثبات على الإيمان والنفرة من أسباب الفرقة والتعدي على مبادئ الدين الحنيف.
وفي هذه الآية تأسيس لمناهج عقائدية سليمة تبعث الحياة في الصلات بين الناس، وتجعل موضوعية للوحدة والإتحاد بينهم، اذ ان شيوع الفرقة ومفاهيمها بين عموم الناس سبب للإنقسامات المتعددة وبعث لروح الفزع والخوف بين الناس، وقد يكون مقدمة لزوال الحياة على الأرض بإتصال وتصاعد حال الإقتتال بين الإمم والشعوب،مع التسابق في إنتاج السلاح المهلك للحرث والنسل . فجاء إلاسلام ليوحد المسلمين ويعطي درساً للأمم الأخرى بالحاجة الى الوحدة وتعلم الدروس من المسلمين .
وهل تؤدي وحدة المسلمين الى إتحاد إعدائهم فيما بينهم لمواجهة إلاسلام والمسلمين في إتحادهم وهل تؤدي وحدة المسلمين الى إتحاد أعدائهم فيما بينهم لمواجهة الاسلام والمسلمين، الجواب لا، والعكس هو الصحيح لأنها تبعث الخوف والفزع في قلوب أعدائهم وتجعلهم يتجنبون مواجهة الإسلام، ويتجلى هذا المعنى بلحاظ المقارنة التي جاءت بها هذه الآية بين المسلمين والأمم الأخرى والتي تبين مسائل منها:
الأولى: التباين بين الماضي والمستقبل، إذ يحمل الماضي وتأريخ الامم السابقة مضامين الفرقة والخلاف، بينما يأتي المستقبل ببشارة الإتحاد والأخوة بين المسلمين، ليكون موضوعاً ثابتاً في الأرض.
الثانية: اخبار المسلمين بقصص الأمم الماضية وهذا الإخبار مدرسة جامعة في باب العبرة والموعظة، ودرس للمسلمين، ومن الآيات ان تأتي العبرة بكتاب سماوي ويختص بها المسلمون دون غيرهم ، وهل يمكن اعتبار الأمم السالفة من قصصها، وذكرها في القرآن وإجتناب الخلاف والخصومة، وإبتداء رحلة جديدة من الألفة والأخوة والمحبة، الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاءت الآية خطاباً للمسلمين.
الثاني: الآية شاهد على حصول حال الفرقة والخلاف بين الأمم الأخرى، وتفيد القطع، وتحتمل وجوهاً:
الأول: إلاخبار عن حالتهم قبل البعثة النبوية ونزول القرآن.
الثاني: إمكان زوال الفرقة بينهم، وانقطاع حال الاختلاف.
الثالث: إستدامة الفرقة والخلاف بينهم.
والصحيح هو الثالث، لاصالة الاطلاق، وأصل الإستصحاب وعدم وجود قرينة أو امارة على الإنقطاع وبقاء أحكام الآية القرآنية الى يوم القيامة.
الثالث: من الإعجاز في الآية انها لم تأت بصيغة الماضي،فلم تقل الآية (ولاتكونوا كالذين من قبلكم) وليس فيها قيد الزمن الماضي، والإخبار عن الأمم الماضية، بل جاءت بصيغة الإطلاق التي تفيد الشمول لأفراد الزمان الطولية.
الرابع:أخبرت الآية عن حصول الإصرار والإستكبار بين تلك الأمم، وهذه الفرقة ثابتة، كما ان أسباب ومقدمات الأخوة او العودة اليها معدومة.
الثالثة: تبين الآية ما في التشتت والإنقسام من القبح الذاتي.
الرابعة: في الآية تحذير للمسلمين من الفرقة والإختلاف من وجوه:
الأول: لغة المثال وما فيها من الإعتبار والإتعاظ.
الثاني: النهي والزجر الذي يتجلى بلفظ (لا).في قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا] التي تفيد المنع ولزوم عدم الفعل.
الثالث: ذكر مادة الفرقة والإختلاف وتوكيد مضامين الآية قبل السابقة(واعتصموا بحبل الله) وما فيها من النهي عن الإصرار والإستكبار بقوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا].
الرابع: ضرورة إجتناب السخط الإلهي والعقاب الذي يترتب على الإختلاف بالذات وعلى وقوعه بعد مجئ الآيات الباهرات.
الخامس: إختتام الآية بلغة التحذير والوعيد، وبيان ما يناله الذين إختلفوا وتفرقوا شيعاً مع قيام الحجة والدليل بلزوم الأخوة والمحبة وعدم الإختلاف.
الرابعة:بيان حاجة أهل التوحيد الى السلامة والعصمة من الفرقة والإختلاف.
الخامسة: تدل الآية بالدلالة إلالتزامية على أهلية المسلمين للقيام بوظائف الخلافة في الأرض، والإمتثال لأوامر الله تعالى.
وبعد مجيء أربع آيات في خطاب للمسلمين، وحثهم على تعاهد الإيمان والتقوى، تأتي الآية التالية لتخبر عن حال الناس يوم القيامة وأنهم على قسمين، قسم ينال الثواب والجزاء الحسن وهم المؤمنون، وقسم ينال العقاب الشديد وهم الكافرون الذين جحدوا بالنبوة وهجروا منازل الإيمان وفيه ترغيب للمسلمين بالعمل بمضامين هذه الآية والآيات السابقة، وانذار ووعيد للمنافقين والكافرين الذين يحاولون صد المسلمين عن العمل المتصل في مرضاة الله.
الآية لطف
مما يختص به القرآن انه الوسيلة السماوية المباركة التي تهدي الى الصالحات ، والواقية من الذنوب والسيئات، وجاءت هذه الآية لتجمع بين الأمرين في آن واحد، فهي رحمة مزجاة، وتعليم وإرشاد الى الوحدة وإعانة على نبذ الإختلاف والشقاق، وتنمية لملكة إجتناب الفرقة فحينما تحصل مقدمات الفرقة وأسباب الفتنة يستحضر المسلمون هذه الآية فيتداركون الأمر، ولا ينحصر التدارك بأطراف موضوع الإختلاف، بل يشمل غيرهم من المسلمين لمفاهيم الأخوة التي تتغشى المسلمين كافة، ولعموم الخطاب القرآني في الآية والذي يكون على وجوه:
الأول: عدم سعي المسلم الى الفرقة والإختلاف.
الثاني: إظهار الحلم وكظم الغيظ ودرء أسباب الفرقة والإختلاف.
الثالث: الإيثار وتمني الخير للمؤمنين.
الرابع: السعي لنيل الأجر والثواب، والذي لا ينحصر باصلاح ذات البين، بل يشمل دفع أسباب الفرقة والفتنة.
الخامس: بذل المال والإنفاق في إتحاد المسلمين ونزع الضغائن من الصدور، وهو إنفاق في سبيل الله لما فيه من الغايات الحميدة.
وتأخذ الآية بأيدي المسلمين الى ميادين الألفة، وتنشر في مجتمعاتهم صيغ الأخوة والمحبة، وتجعلهم يسعون لتثبيتها، على نحو القضية الشخصية والنوعية، فيعمل كل فرد وجماعة من المسلمين على تثبيت معاني الأخوة، وهذا التثبيت برزخ دون الفرقة للتنافي والتناقض بينهما الذي يمنع من إجتماعهما على موضوع واحد.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التقيد بأحكام العبادات، وتعاهد سنن الأنبياء في الأرض، والمحافظة على التنزيل من التحريف والتغيير، وتفضل عليهم وأرشدهم الى نبذ الفرقة ليكون مقدمة وعوناً على الإمتثال الأمثل لأوامر الحلال والحرام.
ومن اللطف الإلهي دعوة المسلمين في هذه الآية الى الإعتبار من الأمم السابقة، والسلامة من الآفات التي طرأت عليها في باب العقيدة والصلات العامة، وحثهم على الإلتفات الى موضوعية الوحدة والأخوة في ترسيخ مباذئ الإسلام، وتفويت الفرصة على الكفار والمشركين ومنعهم من التعدي على الثغور الإسلامية ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال : ” ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية”( ).
فمن اللطف الإلهي العناية بالمسلمين بحفظهم وسلامتهم وإتصال العناية بهم ، وتحث الآية المسلمين على بذل الوسع في مقاومة النفس الشهوية والغضبية، وطرد العوائق التي تحول دون توجه المسلمين الى ساحات الجهاد وتحليهم بأبهى معاني الأخوة في الأسواق والمساجد، وفي حال السلم والحرب ، وتترشح مضامين الآية على الحياة الأسرية والصلات بين أفراد الأسرة الواحدة والأخوة الصلبيين بإجتناب الفرقة والتشتت.
لقد أصطفى الله المسلمين لحفظ كلمة التوحيد ، وتجلى هذا الإصطفاء بوحدتهم وإبتعادهم عن صيغ المذاهب والطوائف التي تؤدي الى الفرقة والخصومة، والآية رحمة مزجاة للمسلمين ليبذل كل مسلم وبلحاظ شأنه ومقامه ما يظنه منتهاه في سبيل الوحدة والإتحاد المقيد بالإلتزام بأحكام الشريعة وسنن الحلال والحرام، فالوحدة ليست مطلوبة بذاتها من غير قيد فلابد ان تتقوم بالإيمان الذي هو إرتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب.
وتدل عليه صيغة الخطاب ولغة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] التي جاءت قبل ثلاث آيات وما تتضمنه من العناية الإلهية بهم وحثهم على الوحدة وإجتناب أسباب الفرقة والخلاف ، وبيان ما أصاب الأمم السابقة من الفتن والخصومات التي جعلتهم عاجزين عن تعاهد التنزيل، ومنشغلين عن التقيد التام بسنن الشرائع فانعم الله على المسلمين بهذه الآية لتقريبهم من الأداء الأحسن للفرائض، والمبادرة الى الصالحات.
افاضات الآية
جاءت الآية الكريمة بالدعوة الى معرفة الآثار السلبية للفرقة والإختلاف على الفرد والجماعة والملة والدين بالإتعاظ من الأمم السابقة، ولم يرد هذا الإتعاظ بمفرده بل جاء مقترناً بالأمر الإلهي باجتناب الفرقة، أي انه حتى لو لم تكن هناك دلائل على حصول الفرقة بين الأمم، او قام بعضهم وبعد نزول الآية بإنكار وجود الخلاف والفرقة والخصومة بين أفرادها فان الآية تتضمن الزجر عن الفرقة ، بالإضافة الى التحذير بصيغة المثال.
وتنمي الآية ملكة المعرفة عند المسلمين بما فيها من معاني الإطلاع على قصص الأمم السالفة، وتجعل موضوعية للآيات والدلالات الباهرات التي تؤكد وجود الصانع ولزوم عبادته، لتكون هذه الموضوعية مناسبة لشكر المسلمين لله تعالى على تفضله عليهم بالبينات والدلائل التي تجعلهم ينفرون من الفرقة واسبابها ، وتحثهم على الإعتبار والإتعاظ من الأمم الأخرى، وعدم التفريط بما فيها من المواعظ وأسباب الرشاد.
ومن خصائص الشكر انه شاهد على معرفة العبد لحقيقة نفسه، ومعرفته للمنعم وهو الله تعالى لتغمر المسلمين معاني الحب والإمتنان لله تعالى، ويحرصون على التفاني المحض في مرضاته، وينشغلون عن الفرقة بذكره تعالى والتدبر في آيات التوحيد ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكنوز القرآن ومنها هذه الآيات، التي تدعو الى تلمس منافع الوحدة وبركات نعمة الأخوة، وقبح الفرقة والتشتت وما فيهما من الكدورات وأسباب الضعف والوهن في الدنيا، والخسارة والعذاب في الآخرة.
وتدعو الآية المسلمين إلى بذل الوسع في مقاومة النفس الشهوية والغضبية، وطرد العوائق التي تحول دون توجه المسلمين الى ساحات الجهاد وتحليهم بابهى معاني الأخوة في الأسواق والمساجد، وفي حال السلم والحرب وتترشح مضامين الآية على الحياة الأسرية والصلات بين افراد الاسرة الواحدة والأخوة الصلبيين وذوي الأرحام باجتناب الفرقة والتشتت.
لقد أصطفى الله المسلمين لحفظ كلمة التوحيد وتجلى هذا الاصطفاء بوحدتهم وابتعادهم عن صيغ المذاهب والطوائف التي تؤدي الى الفرقة والخصومة، والآية رحمة مزجاة للمسلمين ليبذل كل مسلم وبلحاظ شأنه ومقامه ما يظنه منتهاه في سبيل الوحدة والاتحاد المقيد بالالتزام باحكام الشريعة وسنن الحلال والحرام، فالوحدة ليست مطلوبة بذاتها من غير قيد بل تتقوم بالأيمان الذي هو ارتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وتدل عليه صيغة الخطاب ولغة [[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] التي جاءت قبل ثلاث آيات ، وما فيها من تنمية لروح الإيمان والتقوى التي تكون واقية من الإنقسام والإختلاف.
التفسير
قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا]
بعد ان أفتتحت الآيات الثلاثة السابقة بصيغ الأمر وهي كالآتي:
الأول: الأمر بتقوى الله بعد النداء بصيغة الإيمان.
الثاني: وجوب الإعتصام بحبل الله وإجتناب الفرقة.
الثالث: التصدي للدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبتدأت هذه الآية بصيغة النهي والتحذير ، وهذا النهي يحتمل وجهين:
الأول: الإستقلال والإنتقال الى موضوع آخر غير موضوع الآيات السابقة.
الثاني: اتحاد الموضوع ومجئ النهي متمماً للأمر.
والصحيح هو الثاني، فان الموضوع متصل ويظهر نظم الآيات نوع ملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده، وتظافرهما في اصلاح المسلمين لتلقي نعمة الأخوة والتقيد بأحكامها والحرص على إستدامتها وعدم التفريط بشطر من مصاديقها ، ويحتمل الأخذ بنعمة الأخوة وجوها:
الأول: تعاهد مسمى النعمة وصرف الطبيعة.
الثاني: التقيد بشطر من أحكام ومضامين نعمة الأخوة دون الشطر الآخر.
الثالث: الإلتزام التام بسنن ومصاديق نعمة الأخوة.
والصحيح هو ألأخير، لإصالة الإطلاق وعظيم نعمة الله، ولأنه سبحانه يعطي بالأتم والأوفى، فان قلت اذا كانت نعمة الأخوة مطلقة وشاملة للمسلمين جميعاً وفي مختلف الميادين، فلماذا جاء النهي عن ضد نعمة الأخوة، وهو الفرقة والأصل إنعدام الفرقة والإختلاف عند المسلمين، والجواب من وجوه:
الأول: ان الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، وأراد الله عز وجل للمسلمين بهذا النهي نيل مراتب التقوى، وإكتساب الحسنات.
الثاني: إقامة البرهان العملي بان المسلمين أهل لوراثة الأرض.
الثالث: من تمام نعمة الأخوة ورود التحذير القرآني من الفرقة والإختلاف، ومنع العوائق وما يكون برزخاً دون التنعم التام بها.
الرابع: نعمة الأخوة حقيقة ثابتة حتى لو فرضنا حصول الفرقة والإختلاف، وهي وقاية من الفرقة وعلاج لها، ومانع من إتساعها او استدامتها.
وجاءت الآية بصيغة المضارع [وَلاَ تَكُونُوا] وفيه دلالة على إتحاد الصحابة وتقيدهم بأحكام الأخوة أيام التنزيل لأن صيغة المضارع تتضمن إفادة النهي بمستقبل الأيام.
وهل في الآية إخبار عن تعدد المذاهب الجواب لا، ولكنه يدخل في عمومات النهي الوارد في الآية اذا أفاد قصدها والإصرار عليها الفرقة والإختلاف، وفي لغة المضارع مندوحة وسعة لأنها تدل بالدلالة التضمنية على وجوه:
الأول: عدم حصول الفرقة والإختلاف بين المسلمين أوان نزول القرآن.
الثاني: إنتفاء الفرقة والعداوة مدة أيام النبوة المباركة، وعودة المسلمين جميعاً الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم في أسباب نزول قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ]، انه حصلت مشادة بين الأنصار والمهاجرين فبادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحضور الى المكان وتدارك الأمر وإصلاح ذات البين ومنع ابتداء الفرقة مع انها تكون عادة في البداية بسيطة ومحدودة ، وفيه دلالة على نهي القرآن والسنة عن مقدمات الفرقة وبداياتها.
الثالث: استدامة عدم حصول الفرقة بين المسلمين الى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير، فان قلت انه تحصل حروب واقتتال بين طوائف وفرق من المسلمين ، الجواب انه لا عبرة بالقليل والنادر، وجاءت الآية للقضاء على أسباب الفرقة وملاحقتها وطردها من الواقع اليومي للمسلمين، بالإضافة الى حصول الإقتتال نتيجة التأويل الخاطئ وغلبة النفس الشهوية والغضبية، وفي الإلتزام العام بأحكام الشريعة عصمة من الخصومة والإقتتال.
لذا تجد نفوس المسلمين تنفر من الفرقة والإختلاف واذا رأيت أشخاصاً يتصدون لتثبيت الفرقة والتمسك بالإنتماء للفرق والطوائف على حساب الإنتماء للإسلام فاعلم انهم قليلون وفعلهم ماضِ الى الزوال، ولا يغرنك استحواذهم على المال أو السلطان ووجود أتباع لهم، فقد جعل الله المسلمين يحبون الوحدة فيما بينهم ويتمسكون بها ويميلون الى الألفة العقائدية والأخوة العامة التي تبقيهم أعزة تحت لواء الشهادتين.
وتحمل الفرقة معها أسباب زوالها وإنقراضها ومن تلك الأسباب هذه الآية الكريمة التي تطل على المسلمين صباح كل يوم وفي أوقات الصلاة والى يوم القيامة لتذكرهم بلزوم نبذ الفرقة والتخلص منها، وفيها مسائل:
الأولى: حصول الفرقة والإختلاف بين أفراد الأمم السالفة.
الثانية: التحذير من حصول الفرقة بين المسلمين.
الثالثة: شدة عقاب الذين يتفرقون ويختلفون في أمور الدين.
الرابعة: بيان حقيقة وهي ان الآيات الباهرات واقية وحرز من الإختلاف، وحجة على الناس في لزوم إجتناب الفرقة والتشتت.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب للمسلمين [وَلاَ تَكُونُوا] وفيه وجوه:
الأول: إنحصار الخطاب بصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويتلقون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما ينزل عليه من القرآن.
الثاني: توجه الخطاب الى العلماء والحكام المسلمين فهم أرباب الفتوى والتدبير.
الثالث: الصحابة والتابعون ليكونوا أسوة للمسلمين ويضعوا منهجاً ثابتاً يعمل به الخلف من بعدهم .
الرابع: المسلمون جميعاً في كل زمان ومكان.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول: اصالة الإطلاق، وعدم وجود قرينة على التقييد والحصر.
الثاني: بقاء الخطاب القرآني الى يوم القيامة لوجود المخاطب وهم المسلمون، وإستدامة الموضوع، وهو نبذ الفرقة.
وهل نبذ الفرقة أمر وجودي أم عدمي، الجواب هو الأول لذا جاءت الآية بالحث على بذل الوسع لتعاهد مفاهيم الأخوة والإجتهاد في طرد الفرقة ومنع وقوع الإختلاف ، ويستلزم الإمتثال للآية اشتراك المسلمين في درء الفتن.
الثالث: عموم موضوع الفرقة، اذ انها قد تحدث بين شخصين او جماعتين او طائفتين، فيكون كل فرد في معرض الفرقة والإختلاف ان لم يحترز بالإيمان وسنن الإسلام.
الرابع: نبذ الفرقة مقدمة لحصول الإعتصام بالله عز وجل، وقد أمرت هذه الآيات المسلمين جميعاً بالإعتصام بحبله.
الخامس: من مصاديق الأخوة الإيمانية نبذ الفرقة، وعدم حصول الإختلاف بين المسلمين، فكل مسلم مأمور بإجتناب الفرقة والشقاق، ومشمول بعمومات النهي الإلهي الوارد في هذه الآية.
السادس: إستدامة الحاجة للأخوة وعدم الفرقة، فإجتناب الخلاف والشقاق أمر يحتاجه الإسلام والمسلمون في كل زمان ومكان ، وهذه الآية رحمة بالمسلمين، من وجوه:
الأول: ما في الوحدة وإجتناب الفرقة من النفع والفائدة المتعددة لكل مسلم .
الثاني: في الآية إعجاز وهو علم الله تعالى بما يصلح أمور المسلمين في الدين والدنيا، فجاءت الآية بفرد من أهم أفراد صلاحهم وهو عدم الفرقة.
الثالث: بيان أضرار الفرقة والإختلاف برؤية حال الأمم الأخرى وما أصابها بسبب الفرقة من الضعف والهوان وتحريف الكتب السماوية، فقد يظهرون أحياناً بصفة الإتحاد ولكنه ليس إتحاداً حقيقياً بل وقتياً بحسب الحاجة والمنفعة الآنية، مع بقاء أسباب الفرقة بينهم قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
بالإضافة الى الإضرار التي لحقتهم بسبب الفرقة من الإبتعاد عن مبادئ التوحيد، وعدم البقاء على سنن الأنبياء فجاءت هذه الآية لتأمر المسلمين بالبقاء على سنن الأنبياء وتعاهد الفرائض واجتناب سنن الأمم السالفة التي إختارت الفرقة والإختلاف.
الرابع: ترك المسلمين لما يشغلهم عن العبادة ونفرتهم من أسباب الفتن.
الخامس: الفرقة شر بالذات وبالعرض، وجاءت الآية لتنزيه المسلمين منها، وهي من الشواهد على دفع القرآن عن المسلمين الشرور.
وتحتمل بداية الفرقة وجوهاً:
الأول: تبدأ الفرقة بصغائر الأمور، ثم تتسع وتزداد.
الثاني: يبدأ بها رجل واحد او رجال معدودون ثم لا يلبث ان ينحاز لهم آخرون، وتحصل معارضة من غيرهم.
الثالث: تكون الفرقة متسعة من البداية بسبب واقعة وحادثة تؤدي الى النفرة والبغضاء.
الرابع: وجود بذور الفرقة ، وظهورها بشدة عند طرو حال مناسبة لها.
الخامس: انتقال العصبية والقبلية والإنتماء الى القومية مع الأفراد الى الإسلام، وعدم تخليهم عن ولاءاتهم السابقة، مما يجعل لها موضوعية في المعاملة.
وكل هذه الوجوه من عالم الإمكان والوقوع الا الوجه الرابع فليس من بذور للفرقة بين المسلمين، وأحكام الإسلام تنهى عن الفرقة بالذات والعرض، وجاءت لمنع تأثير وسلطان الوجوه الأخرى وان كانت ممكنة الوقوع، كما تتصدى هذه الآية لها موضوعاً وحكماً، وتمنع من حصول الفرقة ومن إتساعها.
وهل من برزخ بين الوحدة والفرقة، الجواب لا فهما من الضدين وأمران وجوديان ، وبينهما تباعد متنافِ وحرص المسلم على الوحدة واقية شخصية ونوعية من الفرقة ، بالإضافة الى فضل الله على المسلمين بإستدامة اسباب الوحدة بأمور:
الأول: تعاهد المسلمين للنطق بالشهادتين.
الثاني: اداء المسلمين للفرائض والعبادات.
الثالث: الإشتراك القهري والإنطباقي بأداء الفرائض، والإتيان بها على نحو الإتحاد، من جهات عديدة منها:
الأولى: أداء الصلاة اليومية في أوقات ثابتة تتعلق بمنازل الشمس وطلوعها وغروبها.
الثانية: ورود القرآن بذكر صلاة الجمعة على نحو التعيين قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ).
الثالثة: الإجماع على مناسك الحج وترتيبها وأوانها وتفاصيلها.
الرابعة: تعلق أداء الصوم والإفطار بشهر رمضان وشوال.
الخامسة: الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته الثابتة عند جميع المسلمين.
السادسة: أخذ الأحكام من القرآن الذي لم ولن يطرأ عليه التحريف والتغيير والتبدل.
ويتجلى اثبات عدم وجود البرزخ بين الوحدة والفرقة، ببيان حقيقة وهي ان النهي عن الفرقة دعوة للتمسك بالوحدة الإسلامية وتوارثها وتعاهدها بإعتبارها من أسمى التركات عند أهل الأرض، وإرثاً عقائدياً ثابتاً ومن خصائص تركة المال انه لا ينتقل الى ملك الوارث الا بعد وفاة المالك.
اما بالنسبة للأرث العقائدي في الإسلام فان كل مسلم فيه يكون له منزل متعدد، فهو وارث ومورث في آن واحد من غير تعارض بين الأمرين، يتلقى وجوب التقيد بأحكام الوحدة الإسلامية ممن سبقه، وينقلها لمن بعده، مع التأكد من القبول وسلامة العمل الذي يأتي من الغير، وهذا التداخل والتعدد في الأثر والتأثير يطرد عنهم الشرور التي قد تأتي من بينهم، وهذه الآية حصانة من الفرقة وما ينتج عنها من الأذى والشر.
السابعة: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإرتقاء الأخلاقي، وتتجلى معانيه بهذه الآية الكريمة، وما فيها من الدعوة لإظهار مضامين الأخوة والمحبة، والنفرة من أسباب الفرقة والإختلاف.
الثامنة: من خصائص الإنتماء للإسلام نيل مراتب الرفعة والعز قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] وتظهر أبهى مصاديق العز بالوحدة وإجتناب الفرقة، اذ ان الفرقة والخلاف مادة للخصومة وسبب للضعف، فجاءت الآية الكريمة لتهدي المسلمين الى سبل القوة والمنعة وتحذرهم من أبواب الضعف والهوان.
التاسعة: الإيمان وسيلة الإتحاد ومادة القوة وعنوان الأخوة فجاءت هذه الآية لتوكيد الصبغة الإيمانية للمسلمين، والحفاظ على مضامين التقوى والصلاح فيما بينهم.
قانون نتائج الفرقة
لقد نهت الآية عن الفرقة والإختلاف، لتكون تأسيساً لمدرسة وقائية لم يشهد لها التأريخ مثيلا ، وتتضمن السلامة من آفات الضعف والهوان وأسباب الضلالة، ولو حصلت الفرقة والإختلاف بين المسلمين فماذا كانت النتائج الجواب من وجوه:
الأول: تعرض المسلمين لإنقسامات متتالية، يتفرع بعضها عن بعض، فلا تبقى أمة أو جماعة أو مذهب بصورة متحدة، بل انها تتعرض للإنشطار والإنقسام فجاءت الآية لمنع الإنقسام وحرمته من الأصل.
الثاني: حصول محاولات لتثبيت أسس الإنقسامات، وإجتهاد كل فرقة بإيجاد الدليل على صحة قولها وفعلها ومحاولة تسفيه غيرها.
الثالث: شيوع الجدال بين فرق وأفراد المسلمين واتصال لغة الإحتجاج فيما بينهم.
الرابع: وجود زعامة وإمامة لكل فرقة وحرصها على البقاء في مواقع الرياسة والشأن والجاه، ومحاولتها التمدد والإتساع على حساب غيرها مما يؤدي الى الخصومة وكثرة الخلاف بين المسلمين، مع الإنقسام المتعاقب لتلك الزعامات.
الخامس: تأسيس فقه خاص بكل فرقة يحاول الإبتعاد عن الفرق الأخرى، وظهور فقهاء يحاولون جمع الأنصار والأعوان لمذاهبهم وأشخاصهم.
السادس: الإنشغال النوعي العام بمواضيع وشؤون الفرقة والطائفة، وعدم الإلتفات لما يصيب غيرها من فرق المسلمين.
السابع: ضعف النصرة بين المسلمين جماعات وأفراداً، وانبساط هذا الضعف على أفراد الفرقة الواحدة وظهور قلة النصرة فيما بينهم.
الثامن: شيوع حالة النفرة والبغض بين المسلمين، اذ يصبح أفراد كل فرقة يكرهون او لايميلون الى أفراد الفرقة الأخرى، كيف لا، وأئمة وأمراء وفقهاء كل فرقة يقولون نحن على الحق والآخرون على الباطل وفي ضلالة ،سواء جاء هذا القول إبتداء أو ردا ومقابلة بالمثل.
التاسع: ضعف دعوة الوحدة والإتحاد عند كل فرقة، فمن يقول بضرورة وحدة المسلمين، والإكتفاء بالإنتساب للإسلام لا يلتفت الى قوله ولا يؤذن له بتبوأ مقامات الإمامة والزعامة وان وصل اليها فان تأثيره محدود لأنه يواجه بالصدود من داخل فرقته ومن خارجها، ولكي يبقى في مقامه يحتاج الى ممالئة الزعامات الفرعية والعامة من فرقته خصوصاً وان الإنقسام لا يأتي في يوم وليلة او عند جيل واحد، بل انه ينمو ويتسع مع توالي الأيام وتعاقب الأجيال.
العاشر: طمع الأعداء بالإسلام والمسلمين وإستغلال حال الضعف والفرقة والشقاق فيما بينهم.
الحادي عشر: إغراء المسلمين بعضهم ببعض، وتحريض كل فرقة على الأخرى، وبذل المال والسلاح لتعميق الفرقة بين المسلمين.
الثاني عشر: حصول الإقتتال بين فرق المسلمين، وسفك الدماء بينهم، وتعطيل مصاديق الجهاد بل والدفاع عن ثغور المسلمين.
الثالث عشر: بعث روح اليأس والقنوط، والإنشغال بأسباب الخلاف.
الرابع عشر: الفتور في أداء العبادات، والميل الى ما يثبت دعائم الفرقة الواحدة، والإنشغال بأدبياتها وإصدارتها الخاصة، وترك كتب وفتاوى علماء الفرقة الأخرى، وان كانت تحث على وحدة المسلمين ونبذ الفرقة.
الخامس عشر: إحباط أي محاولة للإتصال بين فرق المسلمين، والنظر بريبة للذي يقوم بتوثيق صلاته العلمية او السياسية والإجتماعية مع رؤساء وأقطاب وأفراد الفرق الأخرى من المسلمين، وتنحيته عن المناصب، وقد يصل الأمر الى الإفتراء والتعدي عليه.
السادس عشر: حصول الإنقسامات السياسية وتأسيس دول جديدة وظهور عدة كيانات مستقلة على أساس مذهبي، ليكون هذا الظهور مقدمة لنشوب حروب وإقتتال بين المسلمين.
السابع عشر: إستنزاف موارد المسلمين وبذل الأموال في الخلاف والإقتتال بين المسلمين، والسعي لإقتناء السلاح لمواجهة الأخوة في الدين والإيمان تحت عناوين مذهبية وطائفية.
الثامن عشر: عقد احلاف ومعاهدات مع غير المسلمين ضد الفرق الأخرى من المسلمين خشية منها وإجتناباً لأذاها وتعديها.
التاسع عشر: الإنتساب للطائفة والحرص على الولاء لها دون الإسلام، فحينما تسأله عن انتمائه لا يقول انه مسلم وان كان يعلم هذه الحقيقة بل يذكر طائفته بإعتبار ان انتماءه للإسلام من البديهيات وان المدار على الطائفة والعناية بها.
العشرون: بذل الأموال والجهود لجذب بعض أفراد الفرق الأخرى، وإظهار الغبطة والفرح بمن يدخل الطائفة ويهجر طائفته.
الحادي والعشرون: موضوعية الإنتماء للطائفة في النكاح وإختيار الزوجة، والأصل هو كفاية النطق بالشهادتين، وبه تعصم الدماء وتحل المناكح.
الثاني والعشرون: تقسيم المسلمين على أساس طائفي وتثبيت الإنتماء والولاء للطائفة في السجلات الرسمية والوثائق.
الثالث والعشرون: حصول تغييرات في التركيبات السكانية الإسلامية اذ تنحصر السكنى في بعض المحلات والقرى على ابناء طائفة معنية.
الرابع والعشرون: تعرض شطر من المسلمين للتعسف والإضطهاد بسبب الإنتماء الطائفي وعدم الإنتساب لطائفة الأكثرية ، أو الطائفة الأقوى.
الخامس والعشرون: ظهور الغيبة والجرح والسخرية بين المسلمين بسبب الولاء لطائفة دون أخرى، اوحزب دون غيره ، وجاء النهي القرآني عن الغيبة والسخرية الذاتية قال تعالى [لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ] ( )، ولعل في مجيء الآية بلفظ “قوم” إشارة الى الطوائف والفرق والجماعات المذهبية وتحذيراً منها.
السادس والعشرون : الحرص على تأويل القرآن وفق ما يناسب الفرقة والمذهب ، والتعضيد والثناء والنشر لمثل هذا التأويل ، وعدم نقل أقوال السلف إلا ما يلائم القواعد الكلية للفرقة.
قانون ” ولا تكونوا”
يتضمن القرآن الأوامر والنواهي، والسنن والآداب ومعاني الأخلاق الحميدة، وقصص الأنبياء والأمم السابقة، وهو مدرسة الأجيال، والسفر السماوي الجامع لأحكام الحلال والحرام، وفيه ما يحتاج اليه الفرد والجماعة في أمور الدين والدنيا وهو سفينة النجاة، والسبيل الملكوتي الذي يأخذ بأيدي العباد في عالم الملكوت، ويبعث في النفوس الغبطة والرضا، ويجعل المسلمين يتوجهون الى الله تعالى بالشكر على نعمة الهداية، والثناء على بديع صنعه وعظيم فضله، ومن أسرار القرآن ان خزائنه مفتوحة للناس ليأخذوا منها العلوم والذخائر وأسباب نزول البركة والنماء في المال والزيادة في الرزق، ودفع الآجال.
وتدل صيغ الأوامر والنواهي القرآنية على لزوم الإقرار بالعبودية لله تعالى، والإعتراف بربوبيته إلهاً واحداً لا شريك له، يأمر وينهى عباده ليكون إمتثالهم دليلاً عملياً على صدق إقرارهم بربوبيته وسبيلاً الى نجاتهم من العذاب الأخروي، ووسيلة مباركة للفوز بالنعيم الخالد الذي أعده سبحانه لأهل طاعته، وجاءت هذه الآية بالنهي بلغة “لا تكونوا” ويفيد الحرمة ولزوم ترك ما تنهى عنه الآية الكريمة.
ومن الآيات أن تأتي صيغة النهي مفصلة خالية من الإجمال، ولا تقبل الترديد، والنهي في هذه الآية نص واضح في موضوعه وحكمه، أما الموضوع فانه يتعلق بالفرقة والإختلاف ويتضمن الزجر والردع عن الخصومة والإقتتال بين المسلمين من باب الأولوية القطعية، ليس هذا فحسب بل ان النهي عن الفرقة نفسه مانع من الإقتتال بين المسلمين وحث على تدارك أسباب النزاع والإقتتال بينهم، فالأولوية في المقام لا تقف عند النهي بل تشمل السعي وبذل الوسع لتدارك النزاع ودرء الفتنة ونبذ الخصومة، كما تشمل لزوم الصلح والوئام بين المسلمين من وجوه:
الأول: الصلح مفهوم المخالفة لما ورد في هذه الاية، فترك الفرقة يدل على لزوم المصالحة والوئام، لأن الترك أعم من الإبتداء فيشمل التدارك ومنع إستدامة الفرقة في حال وقوعها.
الثاني: بعث المسلمين للصلح بين المتخاصمين والمتحاربين من إخوانهم.
الثالث: إيجاد القواعد والسنن والأعراف التي تمنع من الفرقة، وهو من مصاديق النهي الوارد في الآية الكريمة.
الرابع: إجتناب سنن الأمم السابقة، والإحتراز من محاكاتهم، وأكدت الآبة انهم إفترقوا وإختلفوا ، والشواهد الواقعية تؤكد حصول الفرقة بينهم، وورد النهي بصيغة الجمع “لا تكونوا” وفيه وجوه:
الأول: إنحلال الخطاب وتوجهه لكل مسلم ومسلمة بان لا يكون طرفاً في الفرقة، ولا مادة للفتنة.
الثاني: إجتناب المسلمين على نحو العموم المجموعي الفرقة، فلا يجوز لهم ركب الفرقة وما تؤدي اليه من الأذى والأضرار.
الثالث: تشمل صيغة النهي الجماعات والمذاهب والفرق الإسلامية، فكل جماعة يتوجه لها النهي بلزوم ترك الفرقة والإختلاف.
الرابع: يتعلق النهي بحال الفرقة والإختلاف في حال وقوعهما، ويتوجه الى أطراف الإختلاف بلزوم المبادرة الى تركه، وعند غير المسلمين قد يقول كل طرف انه صاحب الحق وعلى صاحبه تعويضه والإعتذار منه ونحوه.
أما في الإسلام فان الفيصل هو أحكام الشريعة الإسلامية التي لا تقبل الترديد وإستمرار الخلاف، فكل من له حق يجده في القرآن والسنة ، ومن يترك حقه إجتناباً للتفتنة وإحترازاً من الفرقة، وطاعة لأحكام هذه الآية فان أجره عند الله عظيم.ويفوز بالثواب العظيم، وقد يجد في الدنيا الخلف والعوض عما فقده قربة الى الله، ولن ينقص من ثوابه شيئا، ويدل النهي الإلهي على قدرة المسلمين على الإختيار وأنهم قادرون على درء الفتنة، وإجتناب الفرقة والإختلاف، وفيه مدح للمسلمين وبشارة لهم بإجتناب داء الفرقة.
علم المناسبة
ورد لفظ “لا تكونوا” تسع مرات في القرآن، منها مرتين في سورة آل عمران، جاءتا خطاباُ للمسلمين، وتحذيراً بلغة التشبيه وبيانا للقبح الذاتي للفعل المنهي عنه، وسوء عاقبة الذين أرتكبوه ولزوم تنزه المسلمين عنه وعن التشبه بالكفار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
ولا تتضمن هذه الآيات التشبيه بمعناه الإيجابي وما يدل عليه من المطابقة بل تتضمن الإخبار عن إنعدام التشبيه وعدم وقوعه، وتنزه المسلمين عنه، فلو كان المسلمون في حال يشبهون بها أهل الفرقة والإختلاف من الأمم الأخرى لجاءت الآية بصيغة اللوم والإستفهام الإنكاري والحث على ترك التشبه بهم والكف عن محاكاة أهل الكتاب وغيرهم.
بل جاءت بالنهي عن الفعل الإبتدائي ومقدمات الفرقة والإختلاف، وتذكر المسلمين بموضوعية البينات، فقد تأخذ المسلم الرأفة بهؤلاء ويحاول بيان منافع الوحدة لهم ولزوم ترك الفرقة، فجاءت الآية والآيات الدالة على لزوم الوحدة والإتحاد، ولو كان الناس متحدين أيام البعثة النبوية لدخلوا الإسلام جميعاً.
لأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة ودليل لجذبهم الى الإسلام، ولأن الوحدة تساعد في توجيه الخطاب النبوي للناس جميعاً، وحينما جاء رجال من أهل يثرب الى الحج التقى بهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الأولى والثانية ليذهبوا الى قومهم ويبشروهم بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويأخذون منهم البيعة له.
وجاءت الآيات بالنهي عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ]( ). في بيان للفارق بين المسلمين وغيرهم وإخبار عن تلقي المسلمين للأوامر والنواهي القرآنية بالقبول والرضا والإنصياع، وجاء لفظ “لا تكونوا” تحذيراً للمسلمين من الغفلة والجهالة التي كان عليها أهل الفرقة والضلالة، وعدم إستعدادهم ليوم الحساب قال تعالى [نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ] ( ).
لذا جاءت الآية التالية ببيان حال المسلمين وبياض وجوههم وحال الكافرين وإسوداد وجوههم يوم القيامة، وترك الفرقة شاهد على التفات المسلمين الى وظائفهم أزاء مقام الربوبية، وأزاء أنفسهم في لزوم الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع سنته الشريفة، والإتحاد ضمن نعمة الأخوة ومفاهيم الإعتصام بحبل الله للنجاة من أهوال يوم القيامة.
قانون التحذير من الفرقة
جاء القرآن بلغة الترغيب والرجاء والأمل،ولغة التحذير والتخويف والإنذار، والتحذير القرآني على وجوه متعددة منها:
الأول: التحذير من الشرك، والإخبار عن قبحه الذاتي وعدم حصول المغفرة معه.
الثاني: التحذير من الذنوب والمعاصي وفعل الفواحش كالزنا وشرب الخمر والكذب والربا والقتل بغير الحق.
الثالث: التحذير من الإرتداد.
الرابع: التحذير من الغيبة والنميمة والظلم والتعدي مطلقاً والأخلاق المذمومة والعادات القبيحة.
الخامس: التحذير من التقصير في العبادات والتكاسل عن الفرائض والطاعات.
السادس: التحذير من الفرقة، ولاينحصر التحذير من الفرقة بالنص عليه بل يأتي ضمن معاني ومفاهيم أوامر الهية متعددة منها:
الأول: الأمر بالوحدة والإتحاد قال تعالى [ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً].
الثاني: الخطابات التكليفية بأداء العبادات كالصلاة والصوم والحج ومافيها من معاني الإتحاد وإلاشتراك في أداء الفعل العبادي.
الثالث: الحث على الإعتصام بالله عزوجل والتوكل عليه والإستجارة به واللجوء اليه .
الرابع: التمسك بالقرآن والسنة، والصدور عنهما كما في قوله تعالى في الآية السابقة [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ].
الخامس: ذكر قصص الأمم السابقة، وإختيارها الفرقة والإختلاف ومالحقها بسببه من الإذى بالإضافة الى العذاب الأليم الذي ينتظر اصحاب الشقاق والخروج على الأنبياء . ومن خصائص المسلمين انهم يتجنبون مواطن وأسباب الأذى والعقاب الأخروي لذا فانهم لايختارون الفرقة والتشتت.
السادس: الحاجة الى الوحدة في ميادين الجهاد والدفاع عن الملة وحفظ النفوس والأعراض والأموال.
السابع: مجئ هذه الآية بالمثل القرآني وبيان أضرار الفرقة والتشتت، وسوء عاقبة الأمم التي إختارت الفرقة، والحث على إجتناب سيرتها والأفعال التي أدت الى حصول الفرقة والإختلاف بين أفرادها.
الثامن: نزول القرآن كتاباً سماوياً جامعاً للاحكام السماوية، وداعياً الى الله والعمل بالاحكام الشرعية.
التاسع: الحث على التفقه في الدين ، ووجود أمة من الفقهاء يقودون الناس نحو الاتحاد، ويمنعون من الفرقة والخلاف ويبينون اضرارها قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( ).
ان كل آية من آيات القرآن تدعو المسلمين الى الوحدة وتقودهم الى سبل السلامة والأمان وتحذرهم من الفرقة وتبين لهم شرورها وأضرارها على الأفراد والجماعات، بالإضافة الى مجئ السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية في تثبيت وحدة المسلمين ونبذ الفرقة والإختلاف وتعدد المذاهب.
لقد كانت السنة النبوية نبراسا يضئ دروب الهداية للمسلمين، ومدرسة جامعة تدعوهم الى الوحدة والإتحاد،والإبتعاد عن النفرة والخصومة ومقدمات الفرقة والخلاف، كما ان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله وما لاقاه من العناء والأذى، وخروجه بنفسه الى ميادين القتال وإجتهاده في نزع أسباب الخصومة بين الصحابة دعوة للمسلمين جميعاً للإقتداء به خصوصاً الحكام والفقهاء والعلماء وأهل الحل والعقد، وقد جاءت أحاديث نبوية عديدة تحذر من الفرقة وتنهى عنها.
ويؤيد الواقع العملي والتجربة والوجدان حقيقة أضرار الفرقة وخلوها من النفع للأفراد والجماعات فقد يتحمس بعضهم للإنقسام والإستقلال بالمذهب والجماعة والفعل وينعزل عن غيره من المسلمين ويظن السلامة في العزلة ولكن الحق بخلافه ، لأن قوة الفرد من قوة الجماعة، وقوة الجماعة من قوة الأمة ورسوخ مبادئ الملة ، وجاءت هذه الآية لتؤكد على عموم كراهة الفرقة، وانها ضرر محض في جميع الأحوال والأزمنة.
قانون النهي عن الفرقة
من الآيات في القرآن أنه تضمن مايحتاجه المسلمون بل الناس جميعاً في أمور دينهم ودنياهم، وجاءت آيات القرآن بلزوم التوحيد والإتيان بالشهادتين وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بأداء الفرائض والواجبات، كما انها ذكرت المحرمات بلغة الوعد والوعيد، وتضمنت هذه الآية الزجر عن الفرقة والإختلاف بصيغة النهي الذي يفيد حرمة الفرد الواحد منها، فلماذا جاء هذا النهي وما هي علته فيه وجوه:
الأول: من علامات الأمة التي ترث الأنبياء ان تكون متحدة غير متفرقة.
الثاني: الوحدة من مقومات تعاهد التوحيد في الأرض، فبالإضافة الى الإتحاد في العقيدة والمبدأ فانه يجب على المسلمين ان يتحدوا في الفعل والعمل.
الثالث: إعتبار قانون العلة والمعلول في المقام، فمع الإقرار بالشهادتين تأتي الوحدة بين المسلمين، مع حرصهم على إجتناب الفرقة والتشتت.
الرابع: الوحدة وعدم الفرقة آية اعجازية في ميادين السلوك تدل على صدق الدعوة الإسلامية وقوة أثرها في النفوس والمجتمعات.
الخامس: الإخبار العملي عن حقيقة وهي ان الإعجاز في البعثة النبوية لاينحصر بنزول القرآن بل يشمل سيرة المسلمين التي تدل على اللطف والعناية الإلهية بهم ومنها فرارهم من الفرقة والإختلاف.
السادس: بيان وجه من وجوه الإعجاز الغيري لآيات القرآن وهو تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن.
السابع: أخبر القرآن عن وجود أعداء للمسلمين، وقيام الكفار بمحاربتهم ومحاولات اخراجهم من ديارهم، لذا فان الوحدة بين المسلمين والإبتعاد عن الفرقة حاجة عقائدية، ووسيلة لحفظ النفوس والأعراض والأموال.
الثامن: من وظائف المسلمين الجهاد في سبيل الله والذي لايتم الا بالتآلف والتعاون وإنتفاء الفرقة وأسبابها، فجاءت الآية مقدمة للإشتراك في سوح المعارك.
التاسع: من ذخائر الأسلام الشهادة والقتل في سبيل الله، وجاءت هذه الآية لمنع الأسباب التي تشغل المسلمين عن الإشتراك في القتال دفاعاً عن الإسلام ونيل مرتبة الشهادة.
العاشر: تبعث الوحدة الرعب في قلوب الأعداء، فجاءت هذه الآية للتخفيف عن المسلمين، ومنع الكفار من غزو المسلمين والتعدي على ثغورهم، يحرص المسلمون على الوحدة ونبذ الفرقة فيخشاهم الكفار وتمتلأ قلوبهم رعباً منهم.
الحادي عشر: اذا تعاهد المسلمون الوحدة وظهروا للناس متحدين وبعيدين عن أسباب الفرقة خشى الكفار على أنفسهم وأمصارهم، وأصبحوا خائفين وهم في ديارهم، ويبذلون الوسع لإستمالة المسلمين وإجتناب غضبهم وسخطهم، ويميل أهل الكتاب لدفع الزكاة لشراء سلامتهم وأمنهم.
الثاني عشر: الوحدة دعوة للإسلام ووسيلة لجذب الأفراد والجماعات والأمم لدخول الأسلام لما فيها من معاني القوة، ومصاديق الإعجاز، والإيمان بالنبوة.
الثالث عشر: كان العرب قبل الإسلام يغزو بعضهم بعضا، تتغشى بينهم عادات الثأر والنهب ، والإستحواذ بالقوة على مال الغير وسبي عياله، فجاء الإسلام ليأخذ بأيديهم الى سبل العز والمنعة، ويصون أموالهم وأعراضهم بنبذ الفرقة والإختلاف فيما بينهم.
الرابع عشر: يريد الله عزوجل للمسلمين القوة والعز والمنعة، والفرقة وماتؤدي اليه نقيض القوة والعز، فلذا جاءت الآية للنهي عن ضد المنافع والغايات الحميدة في الإسلام.
الخامس عشر : لقد أراد الله عزوجل تنزيه المسلمين ومساجدهم ومجتمعاتهم من داء الفرقة والخلاف، فأمرهم في هذه الآية بالإحتراز من الإنقسام وأدران الإختلاف.
السادس عشر : في الوحدة نجاة من الظلم الذاتي الإبتدائي والمتبادل، وواقية من إستحواذ النفس الغضبية .
قانون الادراك العقائدي
يدرك العقل ان الفرقة مذمومة بالذات،، ولكن هذا الإدراك لايمنع من إنغماس الفرد والجماعة فيها، والميل لها والسعي لتثبيتها لتصبح جزء من الواقع.
فجاءت الآية ليرقى المسلمون الى الإدراك العقائدي وهو أسمى وأعلى مرتبة من إدراك العقل الفردي والجمعي، وتمنع الآية الجماعة من الإتجاه صوب الفرقة والعمل على ترسيخها، سواء في السياسة او الشعب او الوطن او القبيلة والفخذ او ذات الجماعة،وإن قل عدد أفرادها ، وتحول دون حصولها في الأسرة الواحدة، ويلتقي المسلمون في أمة هي أكبر أمم أهل الأرض، وان لم تكن أكبرها في الأجيال السابقة وفي هذا الزمان فانها ستكون أكبرها في المستقبل ليس لأن المسلمين في زيادة في النسل فقط فكل الأمم تتكاثر بهذا الطريق، ولكنها تكون الأكثر من وجوه:
الأول: الانتماء للإسلام من الديانات والملل الأخرى، خصوصاً وان الآيات الإعجازية في القرآن ظاهرة وبينة.
الثاني: ورود النصوص بإستحباب النكاح والإنجاب (فتوى استحباب كثرة الانجاب) ومجئ الآيات التي تخبر عن تفضل الله تعالى بتكفل رزق المسلم وعياله قال تعالى [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
الثالث: وحدة المسلمين دعوة للناس لدخول الإسلام لما فيها من معاني صدق العقيدة.
الرابع:ظهور المسلمين مظهر القوة والعز والإنسان كائن محتاج، فيميل الى الإسلام لما فيه من المنعة المترسخة عن الإيمان والتصديق بآيات النبوة، والمدد الغيبي.
الخامس: فوز المسلمين بنعمة الأخوة التي تحفظ لهم كثرتهم وإتحادهم.
السادس: مجئ هذه الآيات بما يؤدي الى زيادة معارف المسلمين وإرتقائهم في سبل المعرفة.
الأول: حرص المسلمين على تقوى الله وبذل الوسع في طاعته والخشية منه قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ).
الثاني: تعاهد الإسلام وبقاء المسلم على مبادئه والتقيد بفرائضه الى حين مغادرته الدنيا.
الثالث: تمسك المسلمين العام بالقرآن والسنة لقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] وقيد [جَمِيعًا] بيان وتوكيد لهذه الآية وتحذير من الفرقة والإختلاف.
الرابع: النهي المتكرر في هذه الآيات عن الفرقة والإختلاف وما بيعثه في نفوس المسلمين من الإحتراز من أسباب الفرقة والسعي المتصل لتدارك الإختلاف.
الخامس: الحث على تذكر نعمة الأخوة لأن هذا التذكر تنمية لملكة الأتحاد في نفوس المسلمين، والمعرفة النوعية بان الأخوة الإيمانية نعمة وفرد من أفراد الإدراك العقائدي ، وإرتقاء في سلم المعارف الإلهية بإرجاع المحسوس الى المعقول، والتسليم بان منافع عملية عديدة تترشح عن النعمة الإلهية.
السادس: من أسباب الفرقة والخلاف دبيب الضغائن في القلوب، فجاءت النعمة الإلهية لنزع الغل عن صدور المسلمين، وتجعل بعضهم ينجذب الى بعضهم الآخر بمفاهيم المودة والمحبة قال تعالى [فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ] ( ).
السابع: تفضل الله تعالى بالبيان المتعدد للآيات كما في قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ] ( ) وكل فرد من أفراد البيان الالهي للآيات درس عقائدي مستقل، ووسيلة علمية للإستنباط.
الثامن: نعمة الإخوة مناسبة لتلقي العلوم، وتبادل الخيرات، وإقتباس المعارف، والتزود بمحاسن الأخلاق.
التاسع: الدعوة الى الخير عنوان للصلاح، ووسيلة للكسب العلمي والتمييز بين الحق والباطل.
العاشر: من آيات الإرتقاء العقائدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو سلاح مركب لتهذيب النفوس، والإمتناع عن الرذائل والأخلاق المذمومة، وفي قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] في الآية السابقة دعوة للتسابق في الخيرات، والإمامة في الصالحات.
الحادي عشر: تتضمن هذه الآية حث المسلمين على تعاهد نعمة الأخوة، وأخذ الحائطة والاحتراز من الفرقة والاختلاف.
الثاني عشر: مدرسة المثل في الآية الكريمة وما فيها من التحذير من محاكاة أهل الضلالة والغواية، والإعتبار من الأمم السابقة، وإجتناب مايؤدي الى التشتت والخسارة.
السابع: وجود السنة النبوية عند المسلمين وإستحضارهم لأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من أفراد الوحي، والتدبر في سيرته الكريمة وما فيها من الفيض الذي يدل على الإرتقاء والسمو والرفعة.
الثامن: قيام المسلمين بالأداء اليومي للصلاة، وهي مدرسة فكرية تنمي ملكة الصلاح والتقوى عندالمسلمين وتفتح أمامهم آفاق العلم والمعرفة والتفقه في الدين.
التاسع: يطرد التدبر في آيات القرآن الغفلة ويمنع من الجهالة والضلالة.
العاشر: يتصف المسلمون بخصوصية وهي التفكر في الآيات الكونية وأسرار الخلق، وهو من مصاديق تقوى الله عزوجل والخشية منه، ومعرفتهم بآياته وبديع صنعه، ولو على نحو الموجبة الجزئية ،وتعتبر الآيات والمعجزات من اللامنتهي ومنها شواهد ومفاهيم وبينات عديدة كإستدامة الرزق، وضروب العافية، وصرف البلاء، ودفع العدو، ونحوه من النعم ظاهرة أو غير الظاهرة للعيان، ولكن تدركها العقول، ويعرفها أهل الإشارات والبصائر، خصوصاً وان العالم كله مظهر لجلال الله تعالى، وتوكيد لأسمائه وصفاته وعظيم قدرته، والتدبر بالآيات والنعم الظاهرة والباطنة مناسبة لشكره تعالى والغرق في نور قدسه.
قانون الفرقة مقدمة وذيها
تعتبر الفرقة داء يصيب الجماعات والأمم، وقد يقال بوجود منافع خاصة أو عامة بالإستقلال والإنفصال عن الأم والأصل، ولكن الآية الكريمة نهت عن الفرقة مما يدل على مبغوضية وكراهة الفرقة والإنقسام والإنشطار.
وجعل الله عزوجل الأشياء ضمن نظام دقيق تحتل فيه قوانين العلة والمعلول، والسبب والمسبب موضوعية كبيرة، وتتجلى في هذه الآية من وجوه:
الأول: تعلق النهي بموضوع الفرقة بالذات والأصالة.
الثاني: الفرقة حال وأثر، ونتيجة لأفعال مخصوصة تقود اليها، وكما ان الحرمة تترشح على المقدمة من حرمة ذيها، فان النهي عن الفرقة يدل على الزجر والنهي عن مقدماتها ويحث على إجتناب أسبابها، وهذا الأجتناب على قسمين:
الأول: مايأتي بلطف ونعمة من عندالله مخصوصة بالمقام.
الثاني: بذل المسلمين الوسع للإبتعاد عن أسباب الفرقة، ومن النعم الإلهية على المسلمين ان تأتي الآيات الثلاثة السابقة في القسمين معاً، وتكون مدرسة جامعة للوحدة، وواقية سماوية ونوعية من أسباب الفرقة، فتقوى الله وخشيته حرز من الفرقة، وكذا الإعتصام بالقرآن والسنة والتقيد بأحكام الشريعة.
ومن اللطف الإلهي نعمة التألف بين قلوب المسلمين فهي حصن منيع من الفرقة والتشتت، اذ انها برزخ دون مقدمات الفرقة من الكدورات الظلمانية والحجب الجسمانية، وإستحواذ النفس الشهوية والغضبية على عالم الأقوال والأفعال، ودبيب النفرة والبغضاء بين الجماعات والأفراد، وتجعل الألولوية للأخوة بإعتبارها الأهم في الصلات والمعاملات.
ان مجئ الآية بالنهي عن الفرقة والإختلاف يدل بالدلالة التضمنية على وحدة المسلمين، وتـأتي مقدمات الفرقة على وجوه:
الأول: حب الرياسة، فاذا تعدد طالبوا الرئاسة فان بعضهم يميل الى الإنفصال والإستقلال بأصحابه وجماعته وبناء سلطانه بمفرده، فالأمرة على طائفة وفرقة من الأمة خير من الحرمان من الأمرة في ظل الأمة والدولة المتحدة.
الثاني: الإختلاف في الأمور الفقهية وحصول باب يسمى المسائل الخلافية، والتوسعة فيه،كما وكيفا ، وحصول الجرح والذم والتعريض ونعت قول الآخر بالمقالة الباطلة، وبذل الوسع في إثبات كل فريق لدليل قوله، ومحاولة تفنيد وإبطال قول ودليل الآخر.
الثالث: توظيف الأموال في تثبيت الفرقة والتشتت.
الرابع: ظهور الحمية والعصبية والإنحياز وفق إعتبارات وعناوين ليست من قواعد الإسلام كالإنتماء للقبيلة والمصر والقومية والعرض واللون.
الخامس: لا يلتفت شطر من الأمة الى وظائفه في تعاهد الوحدة الإسلامية، وفيه تعطيل لجانب من جهود وسعي الأمة.
السادس: التظليل في الإعلام، ونقل الأخبار الكاذبة، وحصول الإفتراء وتوجيه التهم.
السابع: التباعد وقلة الوصل، فلو التقى المسلمون وتجالسوا وتحادثوا لتجلت بينهم بوضوح آيات التألف ، ومعاني الود والمحبة ولإجتهدوا في تعاهد نعمة الأخوة.
الثامن: قلة الإنصاف، وظهور الاجحاف والتعدي عند أهل الحل والعقد، وميل الناس الى أسباب التخلص من سلطانهم.
التاسع: الميل عن الإستقامة وركوب الموبقات من قبل الأمراء وأصحاب القرار وأهل الثروة والمال قال تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا]( ) والفرقة أدنى من الهلكة الا انها من أهم مقدماتها وأسبابها.
العاشر: الإنشغال بالدنيا واللهث وراء زينتها ومنافعها، وإعطاؤها الإولوية في الحياة اليومية.
الحادي عشر: الابتعاد عن معالم الدين في الصلات والمعاملات، والانقياد للرغائب الشهوانية.
الثاني عشر: الميل إلى الأخلاق الذميمة من الغيبة والنميمة والحسد والكراهية مما يولد النفرة والكراهية.
الثالث عشر: ظهور الجدال وروح التحدي والإصرار والعناد، وإظهارالفرح بالرأي والفعل الخاص.
الرابع عشر: الإستئثار بالمراتب والثروة والجاه ودرجات الشأن .
الخامس عشر: تسلل المنافقين الى منازل الحل والعقد والتأثير.
السادس عشر: عدم الاعتبار من قصص الامم السابقة، وترك التعلم والتفقه في الدين.
السابع عشر: ظهور البدع ومستحدثات الأمور.
وكما تحتاج الفرقة الى مقدمات وأسباب ، فهي بذاتها مقدمة لغيرها، من أسباب الأذى والضرر المركب على الذات والجماعة .
ومن مواضيع وأفراد وأضرار الفرقة وجوه:
الأول: الشخص الذي يقصد الفرقة ويسعى في مسالكها.
الثاني: من ينصت لصاحب الفرقة، ويظهر الرضا بقوله وفعله وان كان في قرارة نفسه ينفر من الفرقة وأسبابها، ولكنه يظهر الميل له بسبب الإغراء او المصلحة القريبة او رياء وتزلفاً فانه يحس بحرارة وأذى الفرقة.
الثالث: الجماعة والفرقة والطائفة التي تسعى للفرقة، وتتوجه في عملها لتقويم ذاتها والعناية بشؤونها الخاصة بعيداً عن فرق المسلمين الأخرى.
الرابع: الأمة جميعاً اذ ان الفرقة عنوان للضعف والتشتت.
الخامس: قلة العناية بالأحكام والمبادئ، للإنشغال بالفرقة والخلاف، ومن الآيات ان إلاسلام دين وعقيدة متكاملة تتضمن أداء الفرائض التي تعتبر سوراً جامعاً، وحصناً مانعاً من التشتت والفرقة والإختلاف، وجاءت هذه الآية الكريمة لتمنع من الفرقة ونتائجها، ولكنها لم تذكر مقدمات الفرقة وفيه وجوه:
الأول:يدل النهي عن الفرقة بالدلالة الإلتزامية على التحذير من مقدماتها.
الثاني: تعتبر مقدمات الفرقة جزء منها، فيشملها النهي عن الفرقة بالتبعية.
الثالث: المدار على الفرقة والخلاف، ولاعبرة بالأسباب والمقدمات، من وجوه:
الأول:قد لاتؤدي مقدمات الفرقة الى حصولها، لأنها ليس من عمومات العلة والمعلول.
الثاني:إحتمال طرو أسباب تمنع من تأثير وسلطان تلك المقدمات.
الثالث: إستدامة الوحدة، ومصاديق نعمة الأخوة بين المسلمين يضعف أثر مقدمات الفرقة، ويجعلها متخلفة عن معارضة ومزاحمة أسباب الوحدة والإتحاد.
الرابع: تضمن آيات قرآنية أخرى النهي عن مقدمات الفرقة، والصحيح هو الأول والرابع للتباين الموضوعي والرتبي بين المقدمة وذيها ما دامت ليس جزء منها ، ولسعة رحمة الله ورأفته بالمسلمين وتفضله بدفع آثار مقدمة الفرقة .
قانون النهي عن مقدمات الفرقة
من الاعجاز القرآني مجئ الآية القرآنية تفسيراً للآية الأخرى، وشاهداً على صدق نزولها من عندالله، ووسيلة سماوية لتثبيت العمل بها في الارض، وبرزخاً دون تحريفهاً أو تغييرها او الخطأ في تأويلها، ومن وجوه الإعجاز القرآني الأخرى مجئ الآيات القرآنية بالأمر بمقدمات الواجب، والزجر عن مقدمات الحرام، فتأتي الآية القرآنية بالأمر بالوضوء للصلاة كمقدمة للواجب، والإعتصام بحبل الله كمقدمة لأداء الفرائض وتعاهد نعمة الأخوة،
وتأتي الآيات بالنهي عن مقدمات الحرام لإعانة المسلمين على إجتناب الحرام، وعدم تركهم يواجهونه مباشرة، لأن النهي عن مقدماته برزخ دون الميل اليه، وسبب للنفرة منه، ووسيلة لرؤية قبحه الذاتي، وإدراك ضرورة الإبتعاد عنه، وعدم الحاجة له، فتظهر الآيات القرآنية في المقام أموراً ثلاثة:
الأول: النهي عن مقدمات الفرقة.
الثاني: النهي عن الفرقة بالذات.
الثالث: النهي عن نتائج وآثار الفرقة.
الرابع: البعث لنقيض الفرقة من الوحدة والتعاون والإيثار.
الخامس: الأمر بمقدمات الواجب وما هو ضد الفرقة، مما هو حسن بالذات والعرض.
السادس: النعمة الإلهية بإيجاد الأسباب المانعة من الفرقة، مثل نعمة الأخوة والألفة بين القلوب.
السابع: لغة المثال والإعتبار من الأمم السالفة وما فيه من الإشارة الى الخسارة والضعف الذي لحق تلك الأمم.
فصحيح ان الآية جاءت بخصوص النهي عن الفرقة والإختلاف، الا ان النهي لم يأتِ مجرداً منفرداً، بل ورد النهي عن مقدماته والدعوة الى ضده من الواجب لتظهر الآيات التكامل في الشريعة الإسلامية، والتخفيف عن المسلمين، والصيغ السماوية الإعجازية التي تتضمن إعانتهم على الإمتثال لأوامر الله تعالى، فقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا] يتضمن المدد والعون الإلهي للمسلمين كي لا يكونوا مثل الأمم السالفة، ويتنزهوا عن المقدمات التي تؤدي الى الفرقة ومنها:
الأول: الحسد وكراهية نيل الأخوة المسلمين النعم والجاه والشأن والمال.
الثاني: الغيبة وذكر الآخرين بما يكرهون.
الثالث: الظلم والتعدي، وغصب حقوق الآخرين العينية والإعتبارية.
الرابع: أكل المال بالباطل.
الخامس: الحكم بغير الحق، والتجافي عن العدل والإنصاف.
السادس: الإستئثار بالسلطان والجاه.
السابع: ظهور روح التعالي والإستكبار على الآخرين.
الثامن: إعطاء أهمية خاصة لولاء معين كالقبيلة، والعرق والقومية، والمصر، والمحلة والمهنة،والحزب ، والأصل أن يكون الولاء للإٌسلام ومبادئه.
التاسع: غلبة النفس الغضبية والشهوية.
العاشر: حب الثأر والإنتقام، وعدم اللجوء الى الشريعة لطلب الحق والإنصاف.
الحادي عشر: حب الرياسة والتنافس على المناصب.
الثاني عشر: ظهور الفسق والفجور عند الملأ وأصحاب الشأن قال تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا] ( ).
الثالث عشر: الإعراض عن العامة وما تحتاج اليه.
الرابع عشر: حصول النفرة بين الأفراد والجماعات، وسخط المحكومين على الحاكم.
الخامس عشر: ضعف الحكم، وفقدان السيطرة وترك الأمور على غاربها، وتنامي شأن زعامات فرعية.
ان النهي عن مقدمات الفرقة تخفيف عن المسلمين، ومقدمة لإمتثالهم وزجر لهم عن الفرقة، وقطع طريق الذين في قلوبهم مرض من المنافقين والفاسقين الذين يريدون السوء بأمة سيد المرسلين، ويساهم هذا النهي في تهذيب الأخلاق، والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية فيمتلك المسلمون العصمة من الفرقة، ويدركون أضرارها ومساوئها، ويتعاونون على درء أسبابها،ودفع مقدماتها ، والنفرة من مريدي الفرقة وطلاب الفتنة.
وتبدأ الفتنة وأسباب الفرقة شخصية وصغيرة، ثم تأخذ بالإتساع، ويعمل كل طرف على إثبات صدقه وصحة فعله مع وجود التضاد والتنافي بينه وبين غيره ولعل هذا التضاد صغروي وثانوي ولا يستلزم الفرقة والخلاف، لذا جاءت الآية بالتحذير من الفرقة اصلاً، ومنع إتساعها ويكون الناس في الفرقة على أقسام:
الأول: من يبادر الى الفرقة.
الثاني: الذي يقوم بتوسعة الخلاف.
الثالث: الذي يثبت أسس الخلاف ويظهر العناد والإصرار.
الرابع: الذي يقوم بوضع القواعد التي تثبت الفرقة.
الخامس: من يدافع عن الوحدة والإتحاد.
السادس: الذي ليس له موقف في الأمر ولا يلتفت الى ما يجري حوله.
السابع: الذي ينهى عن الفرقة ويحذر منها.
وجاء القرآن زاجراً سماوياً عن الفرقة ومقدماتها، ومعضداً للذين يعملون على دوام الوحدة والإتحاد، وينبذون الفرقة والخلاف، وليس من تعضيد أشد وأقوى وأنفع للناس في النشأتين من تعضيد القرآن.
قانون الحاجة الى عدم الفرقة
قد تقدم في الجزء السابع والأربعين قانون “عدم الفرقة” وأنه سبب لضعف الدعوة الى الإسلام، وجاءت هذه الآية الكريمة للنهي عن الفرقة، ولكن بصيغة المثل وما فيه من لغة الحكمة، والحث على الإتعاظ والإعتبار، وفي الآية مسائل:
الأولى: حاجة الإسلام الى إتحاد المسلمين وإجتنابهم الفرقة والتشتت، فالإسلام هو الديانة الباقية الى يوم القيامة، ولابد من إتحاد المسلمين وتقيدهم بأحكامه ومبادئه لذا جاءت الآية بالنهي عن الفرقة من أجل إستدامة أحكام الشريعة الإسلامية، وسنن الأنبياء.
الثانية: يواجه المسلمون الكفار وأعداء الدين في كل زمان وتلك المواجهة من الكلي المشكك الذي تكون له مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وتصل تارة الى القتال ومحاولة إخراج المسلمين من ديارهم وأراضيهم، والشواهد كثيرة وصاحبت بدايات البعثة النبوية في مكة المكرمة ثم نشوء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وأحياناً تأخذ عناوين الحرب الإقتصادية والحصاروالهجوم الإعلامي ونحوها، وهي متصلة مع التباين في أفرادها.
لذا فان المسلمين محتاجون الى الوحدة، وترك الفرقة والإختلاف، لأن الوحدة وسيلة للتصدي للتعدي عليهم ودفع الظلم والحيف عنهم، وبالوحدة والإتحاد يقوم المسلم والجماعة بالدفع عن أنفسهم وعن أخوانهم أما مع الفرقة فان المسلم والجماعة يتصدون بمفردهم للهجوم والتعدي، بالإضافة الى إنشغالهم بأسباب الفرقة والخلاف وما فيها من تعطيل للجهود وتبديد للطاقات، وضياع للأموال وتفريط بقواعد الإحتراز من الأعداء.
الثالثة: الآية مدنية، وقد عانى المسلمون من الكيد والمكر من المنافقين واليهود الذين كانوا في المدينة بالإضافة الى المشركين في مكة، ومجيء قريش بخيلها وخيلائها الى المدينة لقتال المسلمين، كما حدث في معركة أحد والخندق، وتؤكد الوقائع والحوادث التي صاحبت التنزيل الحاجة الى عدم الفرقة ولزوم الوحدة للتصدي للأعداء ومواجهة الكيد، وطرد الأذى عن المسلمين وعوائلهم وحفظ دولتهم، وصيانة أموالهم، ولا تنحصر دلالة الوقائع بأيام التنزيل بل هي متصلة من وجوه:
الأول: تعاقب الحوادث التي تؤكد الحاجة الى الوحدة، وعدم كف أعداء الإسلام عن التعدي على حرمات المسلمين.
الثاني: الإعتبار والإتعاظ من أيام الإسلام الأولى، وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من الأذى في حفظ بيضة الإسلام.
الثالث: التداخل والتقارب بين الأمم، وظهور الإحتكاك بين الملل، والحاجة الى وحدة المسلمين لمنع دبيب الشك والريب الى النفوس، وردع الآخرين عن التعدي على الإسلام.
الرابعة: إدراك أضرار الفرقة ويكون بلحاظ الحال على قسمين:
الأول: عند تعدي الكفار، وإدراك المسلمين مجتمعين ومتفرقين أثر الفرقة في ضعفهم وتجرأ الكفار عليهم، وموضوعية الوحدة في إستدامة قوتهم ومنعتهم.
الثاني: عند ظهور أضرار الفرقة في كل مناسبة وحال لم يكن هناك تعدِ من الكفار ، وهذه الأضرار على قسمين:
الأول: فوات النفع الذي يترشح عن الوحدة.
الثاني: ترتب الضرر والأثر.
الخامسة: تكون الحاجة الى عدم الفرقة بلحاظ أفراد الزمان الطولية مركبة ومتعددة، اذ يحتاجها الموجود والمعدوم ، اما الموجود فيحتاج الوحدة والألفة ومضامين الأخوة في كل يوم ، وأما المعدوم فانه يرث أحد أمرين:
الأول: الوحدة، وتكون عنواناً لعزته وقوته ومنعته.
الثاني: الفرقة، وهي باب للضعف والهوان، وقلة المعونة ومانع من تحقيق الآمال وكثير من الغايات الحميدة للذات والغير.
السادسة: تعتبر الآية من التفسير العملي لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، فأراد الله عز وجل إستدامة العز للمسلمين بإجتناب الفرقة وما تتضمنه من أسباب الضعف والتشتت والهوان.
السابع: ترك الفرقة باب لنيل الأجر والثواب ويترشح الثواب بالذات والعرض، اما بالذات فمن وجوه:
الأول: انه خير محض.
الثاني: عدم الفرقة فعل بقصد ونية.
الثالث: دلالة ترك الفرقة على الحرص على الوحدة والإتحاد ونبذ الأخلاق المذمومة.
الرابع: لعدم الفرقة منافع ثانوية عديدة تشمل الميادين المختلفة.
الخامس: ترك الفرقة إمتثال لأمر الله وطاعة لمضامين هذه الآية الكريمة.
السادس: عدم الفرقة من مصاديق تقوى الله والخشية منه تعالى.
وينتفي معها وجود مفاهيم الفرقة في الميادين العقائدية والسياسية والإجتماعية.
الرابعة: الفرقة ثغرة ينفذ منها الأعداء، ويبثون سمومهم ويتطاولون على المسلمين ومبادئ الإسلام منها، وتتصف مبادئ الإسلام بالتكامل وخلوها من الثغرة والنقص، لذا فان الوحدة الإسلامية حصانة للمبادئ ومنع من التعدي عليها.
قانون حاجة الكفار الى وحدة المسلمين
أراد الله عز وجل بهذه الآية غلق الثغرات أمام الأعداء وبعث اليأس والقنوط في نفوسهم من التعدي على الإسلام، وهذا اليأس مقدمة لدعوتهم للإسلام اذ ان الفطرة هي الإسلام، والكفر ليس أصلاً في الخلق والتكوين والإعتقاد، بل هو أمر طارئ، وخلل في الموازين، فتعاهد الوحدة بين المسلمين فضح لهذا الخلل وجذب للناس الى الحق والصدق والفطرة وموازين العقل، لذا لا تنحصر الحاجة الى عدم الفرقة بالمسلمين ومجتمعاتهم، بل هي شاملة للناس جميعاً، وفيها مسائل:
الأولى: انها آية إعجازية في خلق الإنسان وباب العقائد اذ يكون الإنسان محتاجاً الى الديانة الباقية الى يوم القيامة وان كان متجافياً عنها، ومعرضاُ عن مبادئها.
الثانية: وحدة المسلمين شاهد على حاجة الناس جميعاً للإسلام، وترشح منافعه عليهم، وان تباين الإنتفاع منها بلحاظ الإنتماء للإسلام وعدمه.
الثالثة: الآية من عمومات قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، فوحدة المسلمين رحمة بالناس جميعاً لأنها دعوة عملية مستديمة للإسلام وبرزخ من التعدي على الإسلام وما في هذا التعدي من الظلم للنفس والغير وتحمل للأوزار والآثام.
الرابعة: حينما ردت الملائكة على خلق آدم كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ] ( )، وسؤالهم الإنكاري عن وجود الإنسان في الأرض أصلاً مما يدل بالأولوية وفحوى الخطاب عن السؤال عن علة خلافته لأنهم قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا] بإرادة مسمى الإقامة والسكن، فجاءت الآية محل البحث في النهي عن الفرقة بإعتبارها سبباً للقتل وسفك الدماء ومخالفة قواعد وسنن الخلافة من وجوه:
الأول: تجرأ الكفار وتعديهم على المسلمين.
الثاني: إزدياد الفرقة والخلاف، وحصول الخصومة والنزاع بين المسلمين.
الثالث: كثرة القتل والإقتتال بين الكفار، بإعتبار ان وحدة المسلمين سبب لنجاة الناس من براثن الكفر بدخولهم الإسلام، وزاجر لهم من الفساد في الأرض.
وقد يقال ان وحدة المسلمين تبعث الرعب في قلوب الكفار، وتجعلهم في فزع مستمر، وقد يداهمهم المسلمون في عقر دارهم فكيف تكون هذه الوحدة حاجة للكفار، والجواب ان المدار على الإيمان والهداية وعواقب الأعمال، والكفر عرض زائف وزائل جاء بالكسب الخاطئ، فوحدة المسلمين وسيلة مباركة لكشف زيفه، وتخليص الناس منه، والأخذ بأيدي الناس الى سبل الهداية والرشاد، فقد يبقى الكفار على حال الكفر ويصرون عليه، ويجعلون له نظريات ومفاهيم عند عدم وجود من يرشدهم الى الهدى ، ومن منافع وحدة المسلمين لهم أمور:
الأول: الإنجذاب الى المسلمين لحسن سمتهم ووحدتهم.
الثاني: الإستجارة بالمسلمين من تعدي وإيذاء الآخرين، ومن آيات الرحمة في الإسلام، فرض الجزية على أهل الكتاب وتسميتهم بأهل الذمة لأنهم في ذمة الإسلام، وعهد المسلمين.
الثالث: وحدة المسلمين مرآة لتكامل العقيدة الإسلامية وإخبار عملي لنيل المسلمين مرتبة الإيمان.
الرابع: بوحدة المسلمين يتغشى الأمن ربوع الأرض، ويخشى الكفار من التعدي والإصرار على الظلم.
الخامس: وحدة المسلمين من مصاديق الإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وفيه دعوة لتهذيب الأخلاق والسمت الحسن، لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحكام الشريعة لتشمل المسلمين جميعاً، وتمنع من الفرقة والإختلاف، وتدعو الناس الى الإيمان بالله وهو عنوان الوحدة والتآخي.
ويحتاج المنافقون ايضاً لوحدة المسلمين، لانها حرز من مواصلة النفاق، ودعوة للصلاح، وترك إيذاء المسلمين، واخفاء الكفر والشقاق، وفضح النفاق موضوعا وأفرادا ، وهذا الفضح دعوة لعدم التمادي فيه . وقد تجلت منافع وحدة المسلمين من الأيام الأولى للأسلام عندما أراد المنافقون بعد لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لبني المصطلق التعدي على المسلمين كما ورد في التنزيل [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( )، فمع وحدة المسلمين ذهب وعيد المنافقين ادراج الرياح، وخاب سعيهم، وعجزوا عن إلحاق الأذى بالمسلمين، وفيه حث لهم للتخلي عن النفاق.
قانون الوحدة نعمة
جاءت الآية بالنهي عن محاكاة الأمم السالفة في الفرقة والإختلاف والتشتت ويدل في مفهومه على أمور:
الأول:إتحاد المسلمين أوان نزول الآية الكريمة ويحتمل وجوهاً :
الأول: طرو الفرقة بين الصحابة.
الثاني: حصول الفرقة والخلاف بين الصحابة، ومجئ الآية للزجرعنها.
الثالث: إستدامة اتحاد الصحابة ، وإجتنابهم الفرقة.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول: إنتفاء القرينة في ذات الآية على حصول الفرقة والخلاف بينهم.
الثاني: مجئ الآية بصيغة المضارع، مما يدل على ارادة المستقبل، والاجيال اللاحقة بعرض واحد مع أيام الصحابة.
الثالث: الشواهد التأريخية والأخبار التي تدل على وحدة المسلمين أيام البعثة النبوية.
الرابع: رجوع جميع المسلمين من المهاجرين والأنصار وغيرهم الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأحكام الشرعية.
الخامس: لو شككنا بوجود فرقة وخلاف بين الصحابة فالأصل عدمها وإنتفاؤها، بالاضافة الى إصالة الصحة في عمل المسلمين، واستجابتهم للأوامر الإلهية.
الثاني: حصول الفرقة والاختلاف بين الأمم السالفة، ولزوم الإعتبار منهم، ويمكن ان نجعل هذه الآية من آيات الإتعاظ والإعتبار لما فيها من الدروس والعبر وبيان سنن الأمم الماضية بما يبعث على الحيطة والحذر، والتدبر في منافع الوحدة والحاجة اليها،وتحتمل الوحدة وجوهاً:
الأول: الوحدة بين المسلمين جميعاً.
الثاني: الإتحاد بين أفراد المذهب الواحد.
الثالث: التعاون بين الحكام المسلمين مع التباين وإختلاف المذاهب.
الرابع: الإتحاد بين رؤساء الطوائف الإسلامية، مع إستقلال كل طائفة بصيغ مخصوصة في أداء الفرائض والمستحبات .
الخامس: الوحدة بين أفراد عامة المسلمين مع الإستقلال والإنفصال في شؤون السياسة والحكم.
السادس: الوحدة في المسميات دون الأسماء.
والصحيح هو الاول، فالمراد من عدم الفرقة تغشي مفاهيم الوحدة للمسلمين جميعاً حكاماً ومحكومين، وشمولها للميادين المختلفة، وعدم إستقلال فرقة من المسلمين بالاسم أو العمل المخصوص،ولم تأت هذه الوحدة بالكسب والتجربة والوجدان، بل مع نعمة الهية، ورحمة خص الله بها المسلمين لتترشح بركاتها عليهم وعلى الناس جميعاً، ولتكون مصدراً للقوة، وسبباً لدوام التوحيد في الأرض، ودعوة للناس لدخول الإسلام.
فجاءت نعمة الأخوة عنواناً ومقدمة لوحدة المسلمين،وسبباً لإستدامتها وبرزخاً من الفرقة وتعدد المذاهب والفرق وإنشطار كل فرقة الى عدة فرق مع توالي الأيام وتوسع كل فرقة مع كثرة النسل، وتعاقب الأجيال، فبدل ان تكون كثرة المسلمين عنواناً للقوة تكون مع الفرقة سبباً لترسيخ الإختلاف، وإختصاص فريق من العلماء بالذب عن سنن فرقتهم، والبحث عن الخلل والعيب عند الفرق الأخرى، وتتخذ كل فرقة اسماً خاصاً بها يكون علامة تعتز وتفتخر به، ويكون الولاء بين أفرادها لمسمى هذا الاسم الخاص.
ويتخذ رجال الدين في كل فرقة زياً ولباسا يمتازون به، بحيث يكون لباس الواحد منهم إشارة الى مذهبه وفرقته، وفي حال حصول الخلاف والخصومة، ترى أفراد فرقته يميلون اليه، وأفراد الفرق الاخرى ينفرون منه، وتنفق الأموال الطائلة في تثبيت الوجود الواقعي للفرقة وإستقلالها، ويتدخل الأعداء لإشعال نار الفتنة ، وجعل غشاوة على الأبصار تحول دون التدارك والإصلاح ، ويضعف أثر المصلحين والذين ينادون بالوحدة.
لذا جاءت هذه الآيات ليبقى صوت الوحدة هو الأعلى والأقوى، ومن يدعو الى الوحدة لاتكون دعوته شاذة او مستغربة بل هي فرع القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام، مما يساعد على وجود أنصار للدعوة، وهؤلاء وأنصارهم الأكثرية والغالبية في كل زمان وكل فرقة.
فمن إعجاز القرآن ان تكون هذه الآية ظهيراً لمن يدعو الى الوحدة ونبذ الفرقة وعونا على بلوغ الغايات الحميدة، وقطف ثمار الوحدة في كل زمان التي ينتفع منها كل مسلم، بل كل انسان على الأرض.
قانون نية عدم الفرقة
جاءت الآية بالزجر عن الفرقة، والمنع من الاختلاف، ويحتمل حصول الفرقة وجوهاً:
الأول: النية والقصد الى الفرقة.
الثاني: حدوث الفرقة على نحو مفاجئ وعرضي من غير قصدونية.
الثالث: الإشتراك والتداخل بين حال النية وعدمها، وهو على أقسام:
الأول: الإشتراك في افراد الفرقة، فمنها مايكون عن قصد ومنها ما يأتي من غير قصد ونية.
الثاني:ترشح بعض أفراد الفرقة عن بعضها الآخر على نحو انطباقي.
الثالث: حصول بعض أفراد الفرقة من غير نية وقصد مع الإجتماع والتداخل بين هذه الأفراد.
ولاتعارض بين هذه الوجوه وكلها من عالم الإمكان، وليس فيها ماهو ممتنع بالذات، ومن إعجاز القرآن ان هذه الآية جاءت لدفعها ورفعها متفرقة ومجتمعة، فالآية لم تنه عن الفرقة التي تحدث بقصد ونية فحسب، بل جاءت للزجر والمنع على الفرقة بمختلف وجوهها وصيغها، وهل يشمل النهي قصد وإرادة الفرقة فيه وجوه:
الأول: عدم شمول النهي لنية الفرقة لأن المدار على عالم الأفعال.
الثاني: إطلاق النهي وشموله لنية الفرق بالتبعية.
الثالث: إعتبار نية الفرقة مقدمة لها فيشملها النهي ، لأن النهي عن الشئ نهي عن مقدمته،
والصحيح هو الثاني والثالث بالإضافة الى قبح نيةالفرقة والعزم على الخلاف وشق عصا المسلمين، والنية هي الإرادة والعزم ، ولايشترط في موضوعيتها وثبوتها انبساطها وحضورها في جميع الأفعال التي يراد منها الفرقة بل يكفي بقاؤها حكماً مصاحباً، ووجود الداعي في القلب للفرقة والخلاف، لذا فان الآية تدعو الى تهذيب النوايا، وصفاء القلوب وإستدامة العزم على الوحدة.
ومن منافع الآية المستديمة تنزيه المسلمين عن مقدمات الفرقة، وتهذيب سرائرهم، وجعل كل واحد منهم رقيباً على نفسه، وعلى غيره لمنع العزم على الفرقة والاختلاف، ومن الإعجاز في الآية الكريمة شمول النهي الوارد فيها نية ومقدمة الفرقة وآثارها، بالإضافة الى بقائها في كل زمان سلاحاً يواجه نوايا السوء،
والآية إنذار للكافرين والمنافقين بانهم لم يجدوا محلاً لبث سمومهم، ويواجههم المسلمون بقلوب ترفض الفرقة، وهو من مصاديق نعمة التآلف بين القلوب كما ورد قبل آيتين [أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ] فالألفة بين القلوب حرز من تأثير أعداء الإسلام وسعيهم لنشر الفرقة بين المسلمين، كما انها تمنع من دبيب الإختلاف في نفوسهم، وإستهواء فكرة الإنقسام والتفرق.
والإنسان مجبول على النية والبعث على الفعل، فلا يكون عمل الانسان من غير نية وعزم، نعم قد يترك النية في بعض الأمور ، لإعتقاده بعدم موضوعيتها واهميتها بالنسبة له، فجاءت الآية لتبين لزوم العزم على الوحدة بين المسلمين، ونية عدم الفرقة والتشتت ، لتكون النية عنوانا إضافيا للثواب.
قانون دراسة حال الأمم
جاءت الآية بالنهي عن محاكاة الأمم السابقة التي تفرقت الى مذاهب وطوائف ويدل هذا النهي بالدلالة الإلتزامية على لزوم الإنصراف عن قصد الفرقة، ويدل ايضا على وجوب تعاهد الوحدة بين المسلمين، وطرد نية الفرقة من الأذهان،
وتدعو الآية المسلمين الى معرفة أحوال الأمم السابقة وكيف انها إختارت الفرقة والإختلاف والتشتت، وأضلت طريقها ويمكن معرفة أضرار الفرقة، بالإعتبار من الأمم الأخرى من وجوه:
الأول: تعيين الأسباب التي أدت بهم الى الفرقة والإختلاف، ولو على نحو الإجمال.
الثاني: إجراء دراسة مقارنة بين حال المسلمين وحال تلك الأمم.
الثالث: إستحضار الآيات والبينات التي جاءت للأمم الأخرى، وكانت شاهداً وحجة عليهم.
الرابع: بيان المائز بين المسلمين والأمم الأخرى، وما يؤهل المسلمين لإجتناب الفرقة والإختلاف.
الخامس: تشريف المسلمين في هذا الآية بخطاب النهي عن الفرقة، فقد حصلت الفرقة بين أفراد وفرق الأمم الأخرى، اما المسلمون فان الآية تتضمن تحذيرهم من الفرقة والإحتراز من طروها وحصولها بينهم.
السادس: الأضرار التي لحقت بالأمم الأخرى نتيجة الفرقة والإنقسام، وهذه الأضرار تنقسم الى قسمين:
الأول: الأضرار الدنيوية، ولاتنحصر هذه الأضرار بموضوع او ميدان مخصوص، بل تشمل الميادين المختلفة، وتتعلق بالأفراد والفرق والأمة باسرها، لأن الضرر الذي يصيب الأمة يترشح على أفرادها وفرقها، وكذا العكس فان الضرر الذي يأتي للأفراد يضر الأمة، وليس من أوان محدود لتلك الأضرار بل هي متصلة ومستمرة.
الثاني:الأضرار الأخروية، وهي أشد وأشق، وقد جاءت الآية القرآنية بذكرها على نحو البيان والقطع، إذ تضمنت الوعيد بالعذاب الأليم على الفرقة والإختلاف.
وفي دراسة المسلمين حال الأمم السابقة منافع متعددة منها:
الأول: الإعتبار من قصصهم وسننهم .
الثاني: عدم إنقطاع الصلة مع الأمم السابقة في تأريخها.
الثالث: معرفة ماجرى على الذين تفرقوا وإختلفوا من الويلات والأذى.
الرابع: حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمع تفرق الأمم السابقة وعدم تعاهدهم لقواعد الوحدة والألفة والإتحاد، فإن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم ايضا.
الخامس: الإرتقاء في المعارف الإلهية، ومعرفة سنن الأمم السابقة.
السادس: تنمية ملكة التقوى والصلاح عند المسلمين.
السابع: تترشح عن إلاعتبار من الأمم السابقة دعوة للإعتصام بحبل الله، فمن إعجاز القرآن ان هذه الآية دعوة متعددة للجوء الى القرآن ومافيه من قصص الأمم الأخرى.
الثامن: تمنع الآية من دعوى حصول إتحاد عند تلك الأمم التي جاء الإخبار السماوي ودلت القرائن على تفرقها وحصول الإختلاف بين أفرادها.
التاسع: من إعجاز هذه الآية انها تجعل المسلمين علماء في التأريخ وقصص الأمم.
العاشر: يعرف المسلمون من مضامين الآية ما لاقاه الأنبياء السابقون من أممهم.
الحادي عشر: تبين الآية تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، لان أمته متحدة في إلاسلام والنطق بالشهادتين.
الثاني عشر: تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى بالوحدة والإتحاد والإمتناع عن الفرقة والإختلاف وتلك آية اذ يتغشى التفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، والمسلمين على الأمم الأخرى.
الثالث عشر: ان دراسة سنن الأمم الأخرى وما وقعت فيه من الأخطاء، والإنحراف عن جادة ألإستقامة حرز من الفرقة ووسيلة لليقظة وأخذ الحائطة للدين.
الرابع عشر: تدعو الآية المسلمين لتعاهد القرآن والسنة، وحفظهما من التحريف والتغيير لأنهما سبيل مبارك لبقائهم متحدين، والقرآن هو الكتاب السماوي الجامع للشرائع، واذ يتضمن دعوة المسلمين لمعرفة حال الأمم السابقة وإجتناب ما حصل عندها من الإختلاف والشقاق، فانه لم يدع الأمم الأخرى إلا للإسلام، وإتباع نهج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء بالمسلمين.
وتبين الآية إنتفاء موضوع الفرقة بين أفراد الأمم الأخرى، والأصل هو إتحادهم ووحدتهم، وهذه الوحدة لاتتم الا بوجه واحد هو إتباع الأنبياء وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على ذم اتباع الهوى، وغلبة النفس الشهوية والغضبية لأنها من الفرقة، كما تحذر من التفريق بين الأنبياء والتصديق ببعضهم دون بعضهم الآخر (وقال الرازي: صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة، مثل المشبهة والقدرية والحشوية)( ).
ولكن الآية جاءت خطاباً للمسلمين للإتعاظ من الأمم السابقة، واجتناب التشبيه بهم، فالآية تخاطب وتحذر المسلمين بان يكونوا شبهاً لتلك الأمم، وليس مشبهاً به.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب والبيان “التفسير” وهو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فتأتي جملة أخرى لتفسيره وازالة ما فيه من اللبس، وأستدل عليه بآيات منها قوله تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ]( )، ولكن هذا التعريف لا ينطبق على لغة القرآن، فالآية منه خالية من اللبس والخفاء بذاتها وبالآيات الأخرى، وهو وجه من وجوه إعجاز القرآن، ويأتي التفسير للآية بياناً إضافياً، وبرزخاً دون اللبس والوهم، وزيادة في المعارف الإلهية، وقد جاءت هذه الآية بالإخبار عن تقسيم الناس يوم القيامة الى قسمين بينهما تباين وتضاد، وتتعلق القسمة بعرض في الوجوه، وجاء التفسير في هذه الآية لبيان أمور:
الأول: سواد الوجوه ليس مطلقاً بل يتعلق بشطر من أهل المحشر.
الثاني: ذكر علة سواد الوجوه وهي الكفر بعد الإيمان.
الثالث: سواد الوجوه عذاب يأتي للكافر جزاء وإستحقاقا.وعلى فرض ان الكفار على قسمين يوم القيامة وهما:
الأول: الذين كفروا بعد إيمانهم.
الثاني: الكفار بالأصل، الذين لم يعرفوا حلاوة الإيمان
فهل يختص سواد الوجوه بالقسم الأول، ويشترك القسمان بالعذاب، بإعتبار ان سواد الوجوه في هذه الاية إختص بالذين كفروا بعد إيمانهم، الجواب لا، فسواد الوجوه مطلق وشامل لكل الكفار، وهو جزء من العذاب الأخروي الذي ينالونه عقاباً على الجحود والكفر والعناد، وجاءت الآية رحمة بالناس لتنفر نفوسهم من الكفر في الدنيا، وهم يستحضرون عاقبته بسواد الوجوه.
وتبين الآية عظيم قدرة الله عز وجل، ووجهاً من وجوه الحكم العادل في الآخرة، وعدم خفاء أعمال الناس على الله سبحانه يومئذ مع تقادم السنين والأيام، وتبدل الأرض والسماء والإنتقال الى عالم الآخرة، فالتفسير في الآية أعم من موضوعها ويتعلق بمسائل كلامية وعقائدية، وفيه دعوة للهداية والرشاد، وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ]( ).
فيقرأ المسلم الآية فيشتاق الى الآخرة ولقاء الله بوجه أبيض يشع نوراً ويسمع بها الكافر فيشعر بالذل والمهانة، ويتفكر في حاله وكيفية الخلاص من سواد الوجه الذي ينحصر بالإقرار بالتوحيد والنبوة.
قانون مثل الأمم الاخرى
يعتبر المثل مدرسة تتضمن الحكمة والإتعاظ، بلغة التشبيه والإشارة، ويأتي بمفاهيم المدح او التعريض، ولاينحصر موضوعه بالمسلمين، بل يشمل الناس جميعاً، فكل أمة ومصر وقوم لهم أمثالهم الخاصة بهم وبلغتهم ولهجتهم الدارجة .
ويأتي الخطاب القرآني في المثل على قسمين:
الأول: مخاطبة الناس جميعاً، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ] ( ).
الثاني: إرادة المسلمين في المثل القرآني كما في هذه الآية.ولايعني هذا التقسيم إستقلال كل قسم منهما في موضوعه وحكمه وأثره، بل هما متداخلان فيما بينهما، فينتفع المسلمون من المثل الموجه للناس على نحو مركب ويكون حجة لهم، كما يكون المثل الموجه للمسلمين حجة على الكافرين، ودعوة لهم للإسلام،
ويدل المثل على الإرتقاء الفكري والحضاري، ووروده في القرآن دليل على علو درجة المسلمين في سلم السمو العقائدي ، والتنظيم والإتحاد والإستجابة للخطاب والتوظيف الحسن للمثل ، وجاء المثل والتشبيه في الآية بحرف الكاف في قوله تعالى [كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا] ويدل على ظهور وبروز حال الفرقة عند الأمم الأخرى، وطغيان الخلاف بينهم ليأتي المثل طريقاً لتثبيت دعائم التوحيد في الأرض، وتحذيراً للمسلمين من أسباب الفرقة التي وقعت فيها الأمم الأخرى.
ويبعث المثل في النفس الإنسانية التأمل والإعتبار، فيأتي أحياناً للمدح والثناء والدعوة للإقتداء بالمشبه به، او يأتي للذم والتقبيح ودعوة الإنسان للنفرة من الحال التي يشير اليها المثل ، وجاءت الآية بالمعنى الثاني لبيان أضرار الفرقة الدنيوية والأخروية، ولزوم إجتنابها والحذر منها، ولاتكتفي الآية بدعوة المسلم للإبتعاد عن الفرقة، بل انها تدعوه لمحاربتها وطمسها ودفع مقدماتها.
وتعتبر وحدة المسلمين دعوة الى الخير، والأمر بإستدامة الأخوة والوحدة أمراً بالمعروف، والنهي عن الفرقة وأسبابها نهياً عن المنكر، وتمنع الآية من الكذب والإدعاء زوراً وبهتاناً، فليس لأمة ان تقول أنها متحدة في وقت أخبر القرآن عن الإختلاف بين فرقها وأفرادها.
ومن خصائص المثل القرآني انه يربط الحاضر بالماضي والمستقبل وبيان مضامين الإتصال بين أفراد الزمان الثلاثة( )، وتحكي هذه الآية حال الأمم الأخرى ، مما يدل على إستدامة حال الفرقة بين أفراد كل أمة منها، كما تتجلى فيه معاني الوحدة بين المسلمين بلحاظ إستمرار توجه الخطاب القرآني للموجود من المسلمين.
ففي كل زمان تخاطب الآية المسلمين بان لايكونوا كالذين تفرقوا، أي ان المسلمين لم يدخلوا بعد حال الفرقة والشقاق والإختلاف، وتلك آية إعجازية ودرس في المثل القرآني تستقرأ منه دروس عقائدية منها لزوم تعاهد الوحدة، والإعتبار من الأمم الأخرى، وإثارة حب الوحدة وتعظيم روادها والسائرين في مناهجها، وكشف وجوه القبح في المشبه به بلحاظ الموضوع وهو الفرقة، ويأتي المثل القرآني تأديبا وإرشاداً للمسلمين، ومنه التمثيل بالأمم الأخرى وماينتظرها من العذاب بسبب الفرقة والإختلاف.
وهل يتعارض المثل في هذه الآية وما فيه من الذم للأمم الأخرى بلغة التشبيه مع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب لا، بل انه من مصاديق الرحمة الإلهية من وجوه:
الأول: الرحمة الإلهية بالمسلمين بتحذيرهم من الفرقة بلغة الإعتبار والإتعاظ، مع ورود الزجر والنهي عن الفرقة مجرداً من المثل كما في قوله تعالى قبل آيتين[وَلاَ تَفَرَّقُوا].
الثاني: الرحمة الإلهية بغير المسلمين بالبيان السماوي لحالهم، ولزوم التصديق بالتنزيل.
الثالث: بيان ما في الفرقة من الضرر والأذى، ودعوة الناس لإستنباط الدروس والعبر من الآيات والبينات التي جاءتهم، ولزوم إتخاذهم الوحدة وسيلة مباركة للإقرار بالشهادتين.
ومن خصائص لغة التشبيه في القرآن النفع العام الذي يتغشى المسلمين والناس جميعاً، ومنه هذه الآية التي جاءت لتمنع دبيب أثر الفرقة لمجتمعات المسلمين، وتخبر الأمم الأخرى بان الذي وقعتم فيه من الفرقة والإختلاف لم يصب المسلمين للتباين في الماهية، وشمول المسلمين باللطف الإلهي والتحذير من الفرقة الذي إقترن بنعمة الأخوة والتآلف بين قلوب المسلمين.
قانون ثواب عدم الفرقة
ابتدأت الآية بالاداة (لا) التي تحمل على النهي والزجر عن موضوعها وهو الفرقة ، وإلامتناع عن الفرقة والإختلاف أمر وجودي يفيد الحيطة والحذر من الفرقة وإجتناب أسبابها وإلاحتراز من مقدماتها، وترك الإنغماس فيها، وهي أمور تأتي عن قصد ونية، ويترتب عليها الأجر والثواب، ومن فضل الله تعالى على المسلم ان يأتيه الثواب على الأفعال في المقام من وجوه:
الأول: الحرص على وحدة المسلمين.
الثاني: إجتناب الفرقة.
الثالث: تضييق الخلاف وعدم توسعته.
الرابع: إجتناب مافعلته الأمم الأخرى من الفرقة والإختلاف.
الخامس: إصلاح ذات البين بين المسلمين، وردع الباغي وتدارك أسباب الفرقة بين المسلمين، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] ( ).
لقد أراد الله عزوجل ان تكون الوحدة بين المسلمين باباً لنيل الأجر والثواب، لذا جاءت هذه الآية بالزجر عن الفرقة والخلاف، لأن الإنغماس بها برزخ دون إكتناز الصالحات، ومانع من نيل الثواب، والله عزوجل يهدي المسلمين لعمل الصالحات، فأرشدهم الى الوحدة وفيها وجوه:
الأول: انها عمل صالح بذاتها لما فيها من الإستجابة والإمتثال لله تعالى في الإتحاد وطلب أسباب المنعة للمسلمين.
الثاني: الإعتبار وإلاتعاظ من الأمم الأخرى التي دبت الفرقة والخلاف بين أفرادها، وإستحضار مالحقها من الضعف والهوان بسبب الفرقة.
الثالث: مايترشح عن الوحدة من الصالحات، فهي مناسبة لأداء الواجبات والتعاون في البر والتقوى، وعنوان للمحبة والمودة بين المسلمين، وإستدامة مصاديق نعمة الأخوة بينهم والتي تجعلهم يتناجون في الخيرات، ويحث بعضهم بعضاً على الإحتراز من الفواحش والمعاصي.
لقد جاءت الآية بصيغة النهي والزجر، ليكون التقيد بأحكامه مناسبة للثواب، وفرصة للأجر وكتابة الحسنات، فالإمتناع عن الفرقة سعي وجهد مبارك، وتعاهد للإيمان، وحرص على الإمتثال لأوامر ونواهي القرآن.
وتبين الآية فرداً مباركاً من إعجاز القرآن وهو ان إلاتحاد عون على الامتثال لأحكام الشريعة وان هذه الآية من اللطف الالهي لأنها تقرب المسلمين من منازل الهداية، وتجعلهم يكسبون الحسنات سواء بالحرص على أخوتهم ووحدة أمصارهم ومناسكهم وعاداتهم او بإجتناب الخصومة والنزاعات.
وعدم الفرقة باب مفتوح لنيل الثواب لإعتبار إستدامة الحرص عليه، ففي كل يوم يترشح على المسلمين جميعاً، وعلى كل مسلم على نحو الخصوص ثواب مستحدث لأنهم يتعاهدون الوحدة فيما بينهم، ويحرصون على إجتناب الفرقة، وتلك آية من آيات فلسفة الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا، فيأتي الثواب بوجوه:
الأول: إرادة فعل الخير، والعزم على الصالحات.
الثاني: إتيان الواجبات وفعل الصالحات.
الثالث: إجتناب المحرمات وما نهى الله عزوجل عنه.

علم المناسبة
جاءت الآية بذم الذين تفرقوا وإختلفوا مع قيد بياني وهو انهم إختاروا الفرقة بعد حصول العلم وقيام الحجة عليهم قال تعالى [وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَيْنَهُمْ]( )، وأخبرت الآية ان الفرقة بغي، ولاينحصر البغي والتعدي بطريق دون آخر بل انه شامل لجميع الفرق والأفراد، لذا تفضل الله عزوجل ونهى المسلمين عن الفرقة بخطاب انحلالي يتوجه الى كل مكلف منهم [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا] وهذا النهي وحده علم وبينة وإنذار سماوي، بالإضافة الى الآيات السابقة التي اكدت على وجوب الإعتصام بحبل الله وإجتناب الفرقة .
ومن العلم الإعتبار بالأمم السابقة وما أصابها نتيجة الفرقة والإختلاف، ومن الآيات تعدد جهة الخطاب بالنهي عن الفرقة فيشمل:
الأول: الأنبياء إذ وصاهم الله تعالى بعدم الفرقة في الدين، ومن إعجاز القرآن مجئ أسماء الرسل أولي العزم على نحو التعيين دون غيرهم من الأنبياء والرسل في الآية التي تحذر من الفرقة، وتدعو الأنبياء الى إلاتحاد في الدين وفي خطاب للمسلمين للإتعاظ وإلاقتداء بسنن الأنبياء قال تعالى [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] ( )،فجمعت هذه الآية الرسل الخمسة أولى العزم، وإشترك معهم في الخطاب المسلمون في بيان لمنزلة المسلمين ووراثتهم للأنبياء وحثهم على التقيد بأحكام الشريعة إلاسلامية والإتحاد فيما بينهم وقال تعالى [وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ]( )، فأخبرت الآية عن حصول الفرقة والإختلاف بين أهل الكتاب، وإنشطارهم الى فرق وطوائف متعددة، مما يدل على شمولهم بمضامين التشبيه الواردة في الآية محل البحث في قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا].
قانون رشحات نبذ الفرقة
تضمنت الآية نهي المسلمين عن الفرقة والإختلاف ، ومن الآيات ان كل إنسان يفهم صيغة هذا النهي ودلالاته ومفاهيمه، بالإضافة الى ادراك المسلمين لإمور في المقام هي:
الأول: نزول النهي من عند الله عزوجل.
الثاني: إطلاق النهي الشامل لأفراد الفرقة مادق منها وما كبر.
الثالث: ان الله عزوجل أحاط بكل شئ علماً.
الرابع: تغشي رحمة الله عزوجل للمسلمين.
الخامس: نهي الله عزوجل عن الإختلاف.
مما يدل على ان الله عزوجل يعلم اضرار الفرقة على المسلمين وان النهي رحمة بهم، وجاء لحاجتهم ومصلحتهم، وفي الفرقة فساد وافساد وبلحاظ نيل المسلمين مراتب الايمان فان نفوسهم تنفر من الفرقة وتتجنب أسباب الخلاف، ويدل النهي على بلوغ المسلمين درجات التقوى واهليتهم للاستجابة للنهي الإلهي والتقيد باحكامه والاحتراز من الشقاق والنفاق.
وفي حفظ القرآن من التحريف وتعاهد المسلمين لقراءته كل يوم في الصلاة ونحوها، تجديد العهد بهذا النهي، ومراجعة الذات ومدى الإمتثال لأحكام هذه الآية، والحرص على بقاء التضاد بين المسلمين وغيرهم، بخصوص مضامين هذه الآية، وإنصاف المسلمين بالوحدة مع عجز الآخرين عن تدارك الخلاف والخصومة بينهم، فلا المسلمون يحاكون تلك الأمم، ولا هي تستطيع محاكاة المسلمين، وتلك آية إعجازية في باب العقائد، ومن مضامين هذه الآية في المقام أمور:
الأول: الإخبار عن إتحاد المسلمين وإجتنابهم الفرقة.
الثاني: إستدامة اللطف الإلهي بالمسلمين وإعانتهم في تركهم للفرقة والخلاف.
الثالث: إستجابة المسلمين لأحكام هذه الآية.
الرابع: إدراك ومعرفة منافع الوحدة، والحرص عليها.
الخامس: رؤية حال الأمم الأخرى وما سببته الفرقة عندهم من الخصومة والضرر.
ومن الآيات ان النهي الإلهي لا ينحصر بالخطاب بل يقترن بالمدد والعون السماوي، وتقريب المسلمين من الطاعة وحجبهم عن المعصية، كما ان الإستجابة الشخصية لا تنحصر بموضوعها وصاحبها، وأوانها ومحلها، بل تشمل وجوهاً منها:
الأول: تؤثر إستجابة الموجود بالمعدوم من وجوه:
الأول: ترشح الثواب على السابق لأنه ترك الوحدة وعدم الفرقة، إرثاً كريماً من بعده، فالمسلمون الأوائل تعاهدوا الوحدة طاعة لله وأدى هذا التعاهد الى وراثة الاجيال السابقة لها، وحرصهم على الاقتداء بسنن الآباء فيها.
الثاني: انبساط النهي على الأجيال المتعاقبة، وتوجهه الى اللاحق بعرض واحد مع توجهه للسابق مع التباين بينهما بلحاظ افراد الزمان الطولية، فالخطاب القرآني يتوجه الى المكلف ويحيي قلبه، كانبساط ضياء الشمس كل يوم على الأرض وامتلائها نورا في النهار، وكذا الخطاب القرآني فهو باقِ ومتجدد ما بقيت الشمس تطلع على الأرض، وبينهما عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء الإستدامة وبعث النور، ومادة الإفتراق ان الشمس تطلع في النهار، وأنوار القرآن تشع في الليل والنهار، وضياء الشمس يملأ الآفاق ويطلع على الأجساد والجواهر ويجعلها ترى بنور الهداية والإيمان والفرقة ظلمة، فلا يكون لها مكان في قلوب المسلمين، وان طرأت عند بعضهم لأسباب دنيوية يأتي ضياء هذه الآية المبارك ليطردها من القلب والواقع، لأن العمل مرآة لما في القلوب.
الثالث: وراثة الأجيال اللاحقة من المسلمين الوحدة والألفة بينهم، فلا يحتاجون الى بذل الجهود والإنشغال بالتدارك ومحاولات إصلاح ذات البين، والتقريب بين المذاهب، مع حسنه وتقليص وجوه الإختلاف بينها، وأنت ترى الأب الذي يترك لإبنه صنعة ومهنة يرتزق منها، فانه يوفر له نصف الجهد، ويدفع عنه السعي للتعلم والتجربة ونحوها، والمسلمون ورثوا من آبائهم الوحدة لتكون عنواناً للقوة ودليلاً على الأهلية لوراثة الأرض، وحاجة الناس لهم، وعدم حاجتهم للناس.
الرابع: من طبائع الإنسان انه يؤثر ويتأثر بغيره، ويكتسب العلوم من الآخرين، فتأتي تركة الوحدة مدرسة عقائدية متكاملة تحث المسلمين على تعاهدها وإستدامتها.
الخامس: تبين وحدة المسلمين جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيتها، وما لاقاه من الأذى في تهذيب الطبائع وتخليص النفوس من العادات المذمومة كالثأر والولاء للقبيلة ونحوها، فعلى المسلمين ان يحرصوا بقاء صرح الوحدة الخالد اقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل، وإكراماً لدماء الشهداء التي أريقت من أجل وحدة الأجيال اللاحقة من المسلمين وعزتها وقوتها ومنعتها.
لقد أراد الله للمسلمين أن ينهلوا من قوانين عدم الفرقة، ويفوزوا بالنعم الأخروية وأعانهم على نيل هذه المرتبة العظيمة بالنعم الدنيوية ومنها:
الأول: نعمة الأخوة التي جاء ذكرها قبل ثلاث آيات.
الثاني: الألفة بين المسلمين، وخلو قلوبهم من الغل والحسد وآفات النفس.
الثالث: التمسك بأحكام القرآن والسنة.
قانون عدم الفرقة ضرورة
جاءت الآية بأمور:
الأول: نهي المسلمين عن التشبه بأمم أخرى من أهل الكتاب وأتباع الأنبياء السابقين.
الثاني: موضوع النهي هو إجتناب الفرقة والإختلاف.
الثالث: ذم الذين إختاروا الفرقة من الأمم الأخرى.
وتبين الآية حقيقة وهي لزوم وجود أمة مؤمنة متحدة وهذا الإتحاد ليس إجمالياً في موضوعه بل هو مقيد بأن يكون في كلمة الحق والتوحيد، لابد من أمة تتبع خاتم النبيين الذي جاء بشريعة متكاملة ناسخة للشرائع أمة تستطيع مواجهة الكفار والجاحدين، وتمنع أستحواذهم على مقاليد الأمور وتحريف الحقائق ونشر الغفلة والإعراض عن دلائل التوحيد وسنن التوحيد النبوة التي تقود الى سبل النجاة في الدنيا والآخرة.
أن الدنيا دار عبور وهي مزرعة الآخرة فجاءت هذه الآية ليزرع المسلمون الحسنات رجاء ثقل الميزان والكسب يوم القيامة، وأخبرت بان الوحدة الإسلامية من أعظم القربات، وتفتح الفرقة أبواب العذاب بالذات والعرض، أما الذات فللنهي عنها وإنتفاع أسبابها، أما العرضي فلأنها مقدمة للمعاصي والضعف والإقتتال وغلبة الهوى والنفس الشهوية، وعدم الفرقة حاجة وضرورة من وجوه:
الأول: انه حاجة لتبليغ أحكام الشريعة ونشر علوم الإسلام.
الثاني:مناسبة كريمة للتفقه في الدين.
الثالث: دعاء التلاوة آيات القرآن، والتدبر في أسرار وإعجازه، وإتخاذه وسيلة مباركة للإيمان وحجة على الناس.
الرابع: عدم الفرقة عنوان للقوة والعز والمنعة، فلا يستطيع العدو التعدي على المسلمين، أو ثغورهم اذا كانوا متحدين في مرضاة الله.
الخامس: انه فرصة لأداء العبادات بيسر من غير إنشغال بأمور ثانوية أخرى.
السادس: الوحدة والإئتلاف مناسبة للتقيد النوعي العام بأحكام الحلال والحرام.
السابع: عدم الفرقة مقدمة للنجاة من العذاب الأخروي، بدليل هذه الآية التي أخبرت بالعذاب الأليم لأهل الفرقة والإختلاف، فهي لم تأتِ بالوعيد وحده، بل جاءت بصيغة الإخبار الذي يفيد الإمضاء والوقوع وإن كان في الزمن المستقبل وعالم الآخرة.
والسعي للنجاة من العذاب الأخروي واجب شرعي على المكلف ويدرك العقل الإنساني هذا الحكم، ومن مقدمات هذا السعي إجتناب الفرقة، فهي مقدمة للواجب.
وقد ثبت في علم الأصول ان مقدمة الواجب واجب، اذ يترشح وجوبها من وجوب ذيها اذا ترتب ذو المقدمة وتحققه عليها، فالحج أداء مناسك في مكان مبارك مخصوص هو مكة المكرمة، والوقوف في عرفة والطواف في البيت، الا انه يستلزم مقدمة عقلية وهي قطع المسافة بركوب الطائرة او السيارة او الراحلة او المشي، وهذه المقدمة واجب لأن الواجب الأصلي لا يتحقق الا بها.
وتتجلى الوحدة وعدم الفرقة بأداء العبادات وهي واجب بالذات لتجتمع الواجبات ومقدماتها في تحصيل النجاة في الآخرة، وهذا الإجتماع من خصائص الدين الإسلامي وأفضلية أحكامه وسننه.
وضرورة عدم الفرقة على وجوه متعددة فهي ضرورة لكل من:
الأول: للمسلم في عباداته.
الثاني: للمسلمين عامة في صلاح نفوسهم ومجتمعاتهم.
الثالث: ضرورة لأهل الكتاب والناس جميعاً لإطلاعهم على أضرار الفرقة، فوحدة المسلمين وما فيها من المنافع العظيمة تدل في مفهومها على قبح الفرقة، كما تبين الآثار السلبية التي ترشحت عن الفرقة على الملل وأصحابها.
الرابع: لابد من أمة متحدة على كلمة التوحيد، لتكون داعية الى الله وتجذب الناس الى الهداية، ويلجأ اليها من أراد الصفاء والسلامة من أدران النفس الإنسانية وطرد الغفلة والجهالة من المجتمعات الإنسانية ليتحمل المسلمون مسؤولية الإمامة بين الناس في الدعوة الى الله، والأخذ بأيديهم الى سبل النجاة من العذاب الأليم.
وتبين الآية حقيقة وهي ان النجاة من العذاب الأليم ينحصر بالإسلام لأنه السبيل الى السلامة من الفرقة والإختلاف وهما سبب للعذاب الأخروي، وهذه الآية رحمة بالمسلمين والناس جميعاً لأنها تهدي الى التقيد بضرورة من ضرورات السلامة والأمن من العذاب الأخروي، وهي حرز من الفرقة التي جاءت الآيات في النهي عنها وتوكد حرمتها وما فيها من الآثام.
ولم تذكر الآية الذين تفرقوا بالاسم وعلى نحو التعيين بل ذكرتهم بالفعل والماهية، فجاء ذكرهم كالنكرة في حيز النهي عن فعلهم، لأن المراد هو بيان طبيعة الفعل الذي يلاحظ بقيد تشخصه في الخارج، وعدم التعيين هذا فيه وجوه:
الأول: جاءت الآية خطاباً للمسلمين وزجراً عن فعل مخصوص.
الثاني: أرادت الآية إهتمام المسلمين بأحوالهم وشؤونهم وليس الإنشغال بالغير بل تكون أفعال الأمم الأخرى عبرة وموعظة.
الثالث: في الآية حث على تفسير القرآن بالقرآن، ومعرفة تلك الأمم او بعضها، قال تعالى [وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ]( ).
ويحتمل حصول الفرقة عند الأمم الأخرى وجوهاً:
الأول: الإتحاد في نوع وكيفية الفرقة والإختلاف في جميع الأمم.
الثاني: التباين في الكيفية.
الثالث: التعدد في موضوع الفرقة والإختلاف.
والصحيح هو الثاني والثالث للتباين في الماهية وعلة الفرقة، فجاء الإسلام ليمنع من الفرقة بين المسلمين بمختلف وجوهها، مع وجود المانع منها وهو تكامل الشريعة الإسلامية، وخلوها من أسباب الفرقة والخلاف وورود هذه الآية في التحذير من الفرقة والإختلاف المقرون بتوالي النعم على المسلمين وتفقههم في الدين وإدراكهم لمنافع الوحدة بينهم وأضرار الفرقة والخصومة والإقتتال.
وملاك النهي قبح الفعل الذاتي والعرضي، ولا يعقل ان يكون الفعل قبيحاً ذاتاً وحسناً عرضاً، فلذا جاءت الآية مطلقة في النهي عن الفرقة وما تؤدي اليه من الأعراض والآثار، وما يترتب عليها من حصول الإنقسام والتشتت والضعف.
ومن وجوه أهلية المسلمين لتلقي الخطاب التكليفي انهم نهوا عن بدايات الفتنة وعن الفرقة مطلقاً سواء كانت في الأصول أو الفروع، فالمدار على التفرق والنفرة والإستقلال بالفعل وكل ما بالعرض لابد أن ينتهي الى ما بالذات، ومقام التشريع هو من أحكام الربوبية التي ينفرد بها الله تعالى، ويتضمن جعل وبيان الحكم، وتقريب الناس من العمل به لطفاً ورحمة منه تعالى بهم.
وجاءت الآية لتخبر عن الحرمة التشريعية للفرقة والإختلاف، وتذكر بالبينات والآيات الدالة على حرمتها وتدعوالمسلمين للفوز بالتقيد بها.
ولا بأس بالإختلاف في المسائل الإبتلائية ذات الصبغة الإجتهادية التي تحصل في الفروع وعند بيان دقائق الأحكام بلحاظ الحوادث التي تحصل في الفروع وعند بيان دقائق الأحكام بلحاظ الحوادث والوقائع اذا كان هذا الإختلاف الفقهي يحصل مع الإئتلاف، وفي الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “اختلاف علماء أمتي رحمة”( ).
بحث أصولي
قد تكون لوقوع الشيء مقدمة يتوقف عليها، وتطلق على الفعل الذي يكون سبباً ومادة وجزء علة للوقوع، وقسمت المقدمة عدة تقسيمات بحسب اللحاظ منها قسمتها الى وجوه:
الأول: المقدمة العقلية: وهي التي يحكم العقل بلزوم الإتيان وهي التي يحكم العقل بلزوم الإتيان بها، مثل قطع المسافة بالنسبة لأداء الحج.
الثاني: المقدمة التي يحكم الشرع بالإتيان بها كالوضوء بالنسبة للصلاة، وعقد النكاح بالنسبة للزواج.
الثالث: المقدمة العادية: التي تكون بلحاظ العادة والعرف، كما في إرتداء العسكري زياً خاصاً أثناء عمله كما تنقسم المقدمة الى عدة اقسام بلحاظ الماهية منها:
الأول: مقدمة الوجود: وهي التي لها موضوعية في وجود الشيء، وتحقيق المسمى وصرف الطبيعة منه.
الثاني: مقدمة العلم، وتعني العلم بلزوم إتيان الشيء ان كان واجباً، وتركه ان كان محرماً.
الثالث: مقدمة الوجوب: وهي التي تكون شرطاً في وجوب الفعل لا وجوده، مثل الإستطاعة بالنسبة للحج، فمع عدم الإستطاعة لا يتوجه الخطاب التكليفي للمكلف بالحج.
الرابع: مقدمة الصحة وهي التي يؤتى معها بالفعل صحيحاً تاماً، وإن كان يتحقق وجوده بدونها، كالجزء غير الركني في الصلاة.
الخامس: مقدمة الحرام وهي التي تكون جزء علة لوقوع الفعل الحرام المنهي عنه، ويمكن أن نقسمها الى قسمين:
الأول: المقدمة التي توصل الى الحرام، وتكون كالعلة بالنسبة للمعلول، فمتى ما حصلت المقدمة، وقع ذو المقدمة المنهي عنه إلا ان يشاء الله.
الثاني: المقدمة التي لا تؤدي بالضرورة الى الفعل الحرام، فقد تكون سبباً لوقوعه، وقد لا تكون لعدم توفر أجزاء العلة الأخرى كالهم وأول العزم بالفعل المحرم، وفي مقدمة الحرام وشمولها بالحرمة وجوه:
الأول: إشتراط حرمة المقدمة بقصد إتيان ذي المقدمة المنهي عنه، فاذا قصد الإنسان السرقة صارت مقدماتها حرام، مثل المشي لمكان السرقة ودخول الدار المحرمة لأنها تكون حينئذ من المقدمة الموصلة للحرام، واذا لم يقصد السرقة فلا تكون تلك المقدمة حرام الا بعنوان آخر مثل إعتبار دخول دار الغير من غير إذنه محرماً لأنه تصرف غير مشروع، والا فقد يكون دخول الدار مأذوناً به قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ]( ).
الثاني: إطلاق حرمة المقدمة وعدم التقيد بقصد التوصل الى ذيها المنهي عنه، فيكون المدار على تحقق الأمر المنهي عنه الذي تأتي المقدمة طريقاً وسبباً له، لولاها لما تم إرتكابه، وان لم يقصد الوصول اليه، ولكن وقوعه حصل إتفاقاً، او وفق قاعدة السبب والمسبب، او العلة والمعلول وعدم تخلف المعلول عن علته.
وجاءت الآية بالنهي عن الفرقة بالذات وتحتمل وجوها:
الأول: النهي عن المقدمة التي توصل الى الفرقة.
الثاني: النهي عما ينوي به مقدمة للفرقة لموضوعية النية في ترتب الثواب او العقاب.
الثالث: الفرقة ذاتها مقدمة لغيرها من المحرمات والأمور المنهي عنها شرعاً مثل شدة الخصومة والإقتتال بين المسلمين.
الرابع: إنحصار الحرمة بالفرقة دون مقدماتها جموداً على ظاهر الآية.
والوجوه كلها صحيحة الا الرابع، اذ يترشح النهي عن الفرقة على مقدماتها الموصلة لها، والتي ينوى بها فعل المعصية والحرام، فان قلت لا يترتب إثم على النية اذا لم يتم معها إرتكاب المعصية، والجواب ان المقام ليس مقام إنصراف العبد عن فعل المعصية وإجتنابها بعد النية والعزم، بل يتعلق بفعل مخصوص جاء عن نية، وذات الفعل منهي عنه كمقدمة غيرية لفعل محرم لان المقدمة فعل ايضاً .
وكما تكون الفرقة ذا مقدمة بالنسبة لمقدماتها، فانها تكون ايضاً مقدمة لما هو أشد منها لذا توجه النهي لها على نحو الإطلاق من غير تقييد بأمر آخر، وهو من إتقان أحكام القرآن وإعجاز الآية، والله عز وجل لا يفعل الا الأفعال المتقنة، وفي شمول أفراد الفرقة مطلقاً بالنهي رحمة بالمسلمين، وعنوان للتفقه في الدين، وزيادة في الإحتراز من الفرقة ومقدماتها ونتائجها.
قانون الإعتصام واقية من الفرقة
جاءت الآية قبل السابقة بالأمر الإلهي للمسلمين بالإعتصام بحبل الله، ومن إعجازها ان الأمر يشمل المسلمين والمسلمات بالنص على نحو العموم الإستغراقي، فلا يستثنى أحد منهم من احكام التمسك بالقرآن والسنة والصدور عنهما، ووجوب إتيان ما فيهما من الأوامر وإجتناب ما نهيا عنه.
وجاء الإعتصام في القرآن تارة بالله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ]( )، وتارة بحبل الله كما في الآية قبل السابقة في دلالة على إرادة التمسك بالله بواسطة التقيد بأحكام الكتاب والسنة، وتشمل مصاديق الإعتصام بالله اللجوء اليه والإستجارة والإستعاذة به، والدعاء والإستغاثة به، وذكره تعالى، ومن وجوه الإعتصام بالله إجتناب الفرقة والإختلاف لوجوه:
الأول: نهى الله عز وجل عن الفرقة بدليل هذه الآية، فمن مصاديق التمسك بالله الإنبعاث الأكيد لترك ما نهى الله عنه، والحرص على الإمتثال للأوامر الإلهية.
الثاني: إجتناب التشبه بالكافرين ويتعلق التشبه المنهي عنه في الآية في العقائد والمبادئ، فليس الأمر في المباحات والعادات والأعراف، بل يخص سلامة العقيدة فكأن الآية تقول للمسلمين: لقد افسد الآخرون دينهم بترك الوحدة وإختيار الفرقة والشقاق، فعليكم بالمحافظة على دينكم بإجتناب ما إرتكبوه من الذنب.
الثالث: يترشح عن التضاد والتنافي بين المسلمين وغيرهم، وحرص المسلمين على إجتناب سوء ما فعل الآخرون.
الرابع: التباين في الجزاء يوم القيامة فيثاب المسلمون على حسن الإمتثال وتعاهد الوحدة بينهم، ويؤثم الكفار لإختيارهم الفرقة والإختلاف، ومن الآيات ان وسائل الترغيب بالثواب ظاهرة تتجلى بحلاوة طعم الوحدة وتعدد منافعها، كما تتبين معها أضرار الفرقة، والحاجة الى الإمتثال للنهي عنها، خصوصاً وأن وأضرارها في الآخرة أشد وأمر لذا جاءت خاتمة الآية بالوعيد والإنذار بالعذاب الأليم.
الخامس: من مصاديق الإعتصام بالله أداء الفرائض والعبادات، وهي حرز من الفرقة والإختلاف، ومن الآيات إنتفاء التعارض في أحكام الشريعة الإسلامية، وبيان القرآن للأحكام بما يمنع من تعدد الإجتهاد الذي يؤدي الى الفرقة والشقاق، فلا تصل النوبة للفرقة بين المؤمنين، وان حصلت مقدماتها فلأسباب خارجة عن أحكام الشريعة، وتأتي هذه الآية لتعيد المسلمين الى رحاب القرآن والسنة، وتمنع من إستحواذ النفس الشهوية والغضبية على المسلم.
السادس: يتجلى الإعتصام بحبل الله بالتقيد بهذه الآية كفرد من أفراد النواهي القرآنية، فكما جاء القرآن بالأوامر وندب الناس للعمل بأحكامها، فانه جاء بالنواهي، لإزالة الموانع التي تحول دون إمتثال العبد لما في القرآن من الأوامر ومع وجود المقتضي وفقد المانع يستجيب المسلم لأوامر القرآن، ويأتي بالفرائض والطاعات.
قانون الإيمان نبذ للفرقة
إمتاز الدين الإسلامي بأنه شريعة متكاملة جامعة للأحكام الشرعية وما ينفع العبد في دنياه وآخرته، ومن الآيات ان تأتي هذه الآية لتنهى عن الإختلاف بلغة الإنذار والوعيد وتحذر منه بإعتباره طريقاً ومقدمة للعذاب الأليم يوم القيامة، وتبين وجود ملازمة بين إختيار الفرقة والإختلاف في الدنيا وبين العذاب العظيم في الآخرة.
ولقد أراد الله عز وجل للمسلمين النجاة من أهوال يوم القيامة فجاءت هذه الآية لتحذرهم من أسبابها وتدعوهم للتنزه عن الأسباب التي أدت بغيرهم الى الوقوع في الهاوية، ولا يعلم كثير من الناس أضرار الفرقة والخلاف وأنها مقدمة للعذاب العظيم فقد يختار جماعة او طائفة الفرقة عن الجماعة، والإستقلال بكيان واسم خاص بهم وهم يظنون أنه أسلم لدينهم ولجماعتهم.
فتأتي هذه الآية لتبين لهم بما لا يقبل الشك أو التردد خطأ إختيار الإستقلال والإنفراد والإبتعاد عن المسلمين، وتدعوهم الى الدنو والتقارب مع عموم المسلمين سواء كانوا في فرقة أو فرق متعددة أيضاً، فالآية خطاب عام شامل من وجوه:
الأول: خطاب للمسلمين بتعاهد الوحدة بينهم وعدم الإنقسام الى فرق وطوائف، فلا يصح أن يقال اسم هذا الفرقة كذا، واسم تلك كذا مع نسيان جزئي للاسم المبارك الجامع للجميع وهو الإسلام.
ومع ان الخلاف والتعدد في الاسم صغروي بلحاظ المسمى لأن المدار على المسمى والمبنى، فقد تتعدد الأسماء ويكون المسمى واحداً ولكن تعدد الأسماء في المقام مخالف لمنطوق الآية لأنه من مصاديق التفرق، فلابد أن يُعرف أهل الشهادتين بالإسلام، وأنه مسلمون تجمعهم كلمة الحق والهداية والإيمان، الإلتفات الى موضوع تعاهد الاسم الجامع للمسلمين ليكون عوناً على إستدامة وحدتهم، وباعثاً للفزع في قلوب الكفار منهم، ودعوة للناس للإيمان، ووسيلة مباركة للندب الى مفاهيم الأخوة ومعاني المحبة بين المسلمين.
الثاني: لا ينحصر الخطاب الى المسلمين بالنداء والبعث الشخصي، بل يشمل العمل والتقيد بالأحكام والإستجابة، لذا جاءت الآية بصيغة المثل والتشبيه المنهي عنه لزيادة الإحتراز في القول والعمل.
الثالث: جاء التحذير من أمرين هما:
الأول: الفرقة.
الثاني: الإختلاف، وفي الجمع بينهما وجوه:
الأول: التوكيد على أخذ الحائطة للدين بالتقيد بوحدة المسلمين.
الثاني: التحذير من المتعدد المتشابه زيادة في مراتب التحذير والتوكيد عليه.
الثالث: أهمية موضوع الآية ولزوم إجتناب مصاديق كل من الفرقة والإختلاف.
الرابع: التعدد في المنهي عنه دليل على حب الله عز وجل للمسلمين ولطفه بهم بإعانتهم على الطاعة.
الخامس: في الآية حث على التدبر في حال غير المسلمين، وإختيارهم أسباب الضعف والتشتت، ليبقى المسلمون حفظة لسنن الأنبياء وشهوداًً على إستدامتها وبقائها وعدم مغادرتها الأرض، وتكون ملازمة للتنزيل ووجوده بينهم بالقرآن كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية.
السادس: تدعو الآية المسلمين الى التمسك بعرى الإيمان وعدم التفريط بأحكامها، فصحيح ان الآية جاءت بالزجر عن الفرقة والإختلاف الا ان مضامينها أعم، فهي تأديب للمسلمين، ودعوة للإخلاص في مرضاة الله.
ومن مصاديق الإيمان الإرتباط الخاص بين العبد والباري عز وجل، والإقرار بان القدرة والتدبير والملك في النشأتين بيده تعالى، فجاءت هذه الآية لإستدامة التجاذب التام بين المسلم وبين الله عز وجل، ويكون الإمتثال بأحكامها مظهراً من مظاهر العبودية المحضة، وشاهداً على بقاء مفاهيم الإيمان في الأرض ليس على نحو القضية الشخصية كما كان في أيام النبوات ووجود أصحابهم على هداهم وسنتهم، بل على نحو الأمة التي تكون حاضرة وموجودة في مختلف أمصار الأرض، لا يفرق بينها التباين والبعد المكاني ولا التقسيمات السياسية الطارئة.
فكلمة التوحيد سور جامع بين المسلمين، شاهد على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين أما من جهة الأمم فالمقام أعم من التفضيل، والآية دليل على التباين بين المسلمين وغيرهم وحرص المسلمين على إجتناب أسباب الفرقة بسلاح الإيمان.
التفقه في الدين سلاح ضد الفرقة
مما يتصف به الدين الإسلامي إصالة طلب العلم والتفقه في الدين، وبدأ التنزيل بالحث على التعلم والتحصيل العلمي قال تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ]( )، وجاءت النصوص والسنة النبوية المباركة تحث المسلمين والمسلمات على طلب العلم.
ومن الآيات ان التعلم في الإسلام لا ينحصر بالقضية الشخصية والكسب الفردي بل يأتي على نحو القضية النوعية التي تشمل المسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي، اذ ان أداء العبادات والفرائض تفقه في الدين بالذات والعرض، فهو فقاهة وعلم مكتسب وباب للتزود من العلوم، والتحصيل العلمي، ومنها تلاوة الآيات القرآنية في الصلاة، إضافة الى إستحباب قراءة القرآن والإنصات له في غير الصلاة وكل آية مدرسة في الفقه ووسيلة للإرتقاء العلمي والتدبر في الخلق والنشأة والتكوين.
وهذا السبيل من التعلم والتفقه في الدين ملازم للمسلم في حياته، ويطرد عنه الغفلة والجهالة، فالأمة الإسلامية أمة متعلمة مواظبة على التفقه والتعلم، وفيه تفضيل لها على الأمم بالشواهد العملية اليومية المتصلة، وهذا التفضيل فضل ولطف من الله تعالى بهم، لأن التفقه والتعليم يأتي على نحو انطباقي قهري ورشحة من رشحات الواجب، فالصلاة فرض على المسلم ومن خلالها يرتقي في ميادين العلم والتحصيل، ويؤدي الصلاة جماعة فيتعلم على نحو نظري وتمريني آداب التقيد بالعمل المتحد، وعدم الخروج عن الجماعة وفيها دعوة يومية متكررة للوحدة لا يستلزم إدراكها واكتسابها تحصيل مقدمات العلم، وهي برزخ دون النفرة والإختلاف.
ويأتي المسلمون مناسك الحج على نحو متحد في كيفية وأوان المناسك، ومن الآيات أن تأريخها إرتبط بآية كونية ثابتة تتعلق بهلال شهر ذي الحجة، وفي حين يبدأ الصيام بهلال شهر رمضان وينتهي بشهر شوال، فان الحج الأكبر يؤتى به في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، ومع أداء العبادات فان القرآن والسنة ندبا المسلمين الى التعلم والتفقه في الدين على نحو الوجوب العيني والكفائي، ومن الأول قول النبي محمد صلى الله عليه وآله : اطلبوا العلم ولو بالصين فان طلب العلم فريضة على كل مسلم”.
ومن الثاني قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] ( )، وتتجلى في الاية معاني عقائدية سامية للواجب الكفائي تمتاز بخصوصية ليكون أعم من الواجب الكفائي وفق إلإصطلاح، فالمعروف انه الواجب الكفائي يسقط عنه المجموع بإتيانه من قبل فرد واحد منهم، كما في رد السلام فانه واجب كفائي فلو سلم شخص على جماعة كثيرين ورد أحدهم فان الوجوب يسقط عن الباقين وان لم يرددوا جميعاً السلام يؤثمون.
أما الآية أعلاه فقد ندبت الكثير من الكثير، وليس الفرد من الجماعة، فالذي يتفقه من الفرقة والقبيلة و الجماعة ليس فرداً واحداً أو افراداً معدودين، بل تتفقه طائفة مع التداخل في تعريفهما، قال ابن منظور: “الفرق والفرقة والفريق: الطائفة من الشيء المتفرق، والفرقة: طائفة من الناس”( ).
وفي قوله تعالى [وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ال مجاهد: الطائفة: الرجل الواحد الى الألف، وقال عطاء: أقله رجلان وفي الحديث: لا تزال طائفة من أمتي على الحق( ).
مما يدل على ان الطائفة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وفيه دعوة لزيادة عدد طلبة العلم وعدم حصره وتقييده والتشديد في مقدمات وشرائط التحصيل والكسب العلمي، ولكثرة أهل العلم بين المسلمين موضوعية في إجتناب الفرقة.
والعصمة من الإختلاف والخصومة، ومن وظائف الفقيه وطالب العلم تحذير المسلمين من الغفلة وإنذارهم من العقاب الأخروي وإجتناب صيغ الضلالة والغواية التي أقدمت عليها أمم أخرى من أهل الأرض، لتكون وظيفته ترجمة لمضامين هذه الآية وبياناً عملياً لأحكامها، وتوكيداً على موضوعيتها في الحياة اليومية للمسلمين، فمن مفاهيم الآية الحث على تعاهد وحدة المسلمين، وهو أمر لا يتم من دون الإحتراز من الفرقة، ودفع أسبابها، ومن أفضل الأسلحة لمحاربة مقدماتها واجتثاث أفرادها والمنع من إستفحالها هو التفقه في الدين، ونشر معالم شريعة سيد المرسلين.
بحث بلاغي
من ضروب البديع “الفرائد” وهو الإتيان بلفظ يكون كالفريدة من العقد، والدرة التي لا شبيه لها، وقال السيوطي “أنه مختص بالفصاحة دون البلاغة”( )، ولكنه أعم في موضوعه وترتب الاثر عليه، فيشمل أيضاً البلاغة لأن حسن إختيار اللفظ لا ينحصر بفصاحته بل يشمل البلاغة وأسرار معاني اللفظ وتخلف النظائر عن أدائه ووظائفه في المعاني العقائدية، وتلك آية إعجازية في اللفظ القرآني، ومن أسباب إقرار العرب بنزوله من عند الله.
وتتعلق الفصاحة ببيان اللفظ، وظهوره وتبادر معناه عند السامع قال تعالى [وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا]( )، نعم لا توصف الكلمة بالبلاغة لأنها لا تؤدي الغرض وبيان القصد بتمامه، فتتعلق البلاغة في الإصطلاح بالكلام والمتكلم وتكون وصفاً لهما وتعني مطابقة الكلام ما يقتضيه الحال مع فصاحة الكلمات متفرقة سواء ورد الكلام على نحو الإيجاز أو الإطناب أو منزلة بينهما، لإعتبار الحال والمقام والشأن والغرض.
فقد يتطلب المقام اللطف وإظهار المودة والحرص ورقة الكلام، أو الإشارة والتلميح او الكناية، أو التصريح او الغلظة والوعيد، بلحاظ ذات الموضوع والغرض والمتكلم، والسامع ودرجة إستجابته، ولكن خطابات القرآن موجهة للناس جميعاً الرجل والمرأة، والشريف والوضيع، والسيد والعبد، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، من غير أن تكون هناك خطابات خاصة بطائفة منهم دون الطائفة الأخرى.
وتلك مدرسة إعجازية في الحجة والبرهان وآية في الخلائق تبين أن الناس جميعاً يلتقون بأمور عديدة مع إختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومقاماتهم، ومنه هذه الآية التي جاءت بوصف حال المؤمنين يوم القيامة، ووصفت السعادة التي تتغشاهم بكلمتين “تبيض وجوه” لتكون مدرسة في الفصاحة والبلاغة يتعذر الإتيان برديف لها من مفردات اللغة العربية وتترك أثرا خلاباً في النفس الإنسانية وتدعو الى التفكر والتأمل في عالم الآخرة، وهي شاهد على إنفراد الله تعالى بالملك والسلطان يوم القيامة لتأتي رشحات هذا الإنفراد على المسلمين بإشراق الوجوه والحضور في حضرة القدس.
وأصل إشتقاق البلاغة من البلوغ والوصول والإنتهاء، بإعتبار انها توصل المعنى الى قلب السامع بما يفيد فهم المعنى والمطلوب، ولا تنحصر وظيفة اللفظ القرآني بفهم السامع والقارئ لمعناه، بل انه يجذبه الى مضامينه والعمل بأحكامه والسعي لنيل ما فيه من البشارات وإجتناب أسباب حجبها عن الذات والغير، وكثير من الناس يبادر الى التوبة عند آيات الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار، أو آيات المواعظ والقصص، فمع أن الآية تأتي ببيان حال أمم أخرى، الا ان الإنسان يتخذها وسيلة لإصلاح نفسه ودعوة الآخرين للتوبة والإنابة.
وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية وتتضمن معنى الإنشاء في دعوة للناس للفوز بهذه النعمة بالسعي في دروب الهداية وسبل الإيمان، ومن علمه تعالى أنه سبحانه يعلم بان هذا اللفظ وصيغته تنفع في دعوة الناس جميعاً للإيمان وإقامة الحجة عليهم على التباين في مداركهم ومنازلهم وشأنهم، فهي تخاطب العقل الإنساني، وتنفذ الى شغاف القلوب ومن عظيم قدرته تعالى ان يجعل الأسماع تستقبل بإصغاء الفاظ وكلمات القرآن، وهو من مصاديق النفخ في الإنسان من روح الله.
قانون الدعاء أمن من الفرقة
جاءت الآية بالنهي عن الفرقة والإختلاف، وتحذير المسلمين من إتباع سنن الأمم السابقة، تلك السنن التي جعلت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس جميعاً في دنياهم وآخرتهم، اذ ان الإسلام جاء شريعة متكاملة جامعة مانعة جامعة لأحكام وسنن العبادات والمعاملات، ومانعة من الضلالة والشرك ومفاهيم الفرقة والإختلاف وآثارهما السلبية على الأفراد والجماعات وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس، وهي الشريعة الناسخة التي لا تأتي بعدها شريعة، فبها إنقطع الوحي والتنزيل ولكن هذا الإنقطاع عنوان للبقاء والدوام.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن العصمة من التغيير والتحريف، وللمسلمين الوحدة والألفة، والأخوة، وهذه الوحدة ضرورة تتقوم بها قواعد ترسيخ مبادئ الإسلام، وإستدامة العز والرفعة للمؤمنين فمع دخول الإسلام يتحمل المسلم أعباء تعاهد الوحدة بين المسلمين، والحرص على إجتناب الفرقة، والتخلي عن الأخلاق والعادات المذمومة التي تؤدي الى النفرة وتبعث الكدورة بين المسلمين، لذا يأتي الإشتراك في العبادات والإتحاد في أدائها كما في صلاة الجماعة عوناً للمسلم على التقيد بآداب الوحدة بين المسلمين، وتنمية ملكة الإحتراز الشخصية والنوعية من الفرقة والإختلاف.
لقد جاءت الآية بالزجر عن محاكاة الأمم السابقة وأهل الكتاب وما حصل بينهم من الفرقة والنزاع، ومن وسائل تعاهد الإتحاد بين المسلمين وإجتناب الفرقة والخصومة سلاح الدعاء والإلتجاء الى الله تعالى وسؤاله التنزه عن مقدمات الإختلاف بين المسلمين، ومن معاني الدعاء الإستغاثة، وعظيم مسؤولية الإتحاد بين المسلمين والعصمة من الفرقة والإختلاف أمر يستحق الإستغاثة بالله واللجوء اليه كما أنه مناسبة لشكره تعالى والثناء عليه وكأن المسلمين يقولون الحمد لله الذي جعلنا متحدين تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مواظبين على الصلاة والصوم والحج على نحو الإتحاد في الكيفية والأحكام والأجزاء الواجبة والمناسك المتحدة.
ويعكس الدعاء حب العبد لله تعالى، وحرصه على التوجه اليه، وهذا الحرص من مصاديق تعاهد وحدة المسلمين لأن الفرقة لا تأتي الا بغلبة النفس الشهوية وحب الدنيا، والجهالة والغفلة عن يوم الحساب، والدعاء سلاح للتخلص منها مجتمعة ومتفرقة، وهو حصن ذاتي وتأديب للنفس، فاذا سأل العبد الله أمراً فانه يقبل عليه بعون ومدد من عند الله.
وجاء القرآن بالبشارة بإستجابة الدعاء على نحو الإطلاق من غير تقييد قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، ومن موارد الإستجابة الدعاء للإمتثال لمضامين الآيات القرآنية، وتلك نكتة عقائدية تتعلق بأوامر ونواهي القرآن، فالله عز وجل أمر المسلمين بأمور ونهاهم عن أخرى، ثم ندبهم الى الدعاء وحثهم عليه ووعدوهم بالإستجابة ليكون الدعاء مادة وطريقاً للإمتثال.
ويعتبر الدعاء مائدة السماء في الأرض، به تتخلص النفوس من أدران الرذيلة وتسمو في مقامات العز والرفعة، ومنها آداب الدعوة بين المؤمنين والدعاء إقرار بالربوبية لله تعالى، وإعتراف بالعبودية له سبحانه، ويترشح عن هذا الإقرار والإعتراف تسليم بالأوامر الإلهية وإجتناب للمعصية.
وجاءت هذه الآية بنعت الفرقة والإختلاف بانها معصية بلحاظ النهي عنها وما يترتب عن السعي في مسالكها من الأذى والضرر على الذات والغير والأمة، فيتبنى شخص مفاهيم الفرقة او يسعى فيها فيكون رائداً في الضلالة، وسبباً في التحريض على الإختلاف، وظهور أصوات النفاق والخلاف، فجاءت الآية لتحث المسلمين كافة على الإحتراز من الفرقة وأسبابها والدعاء شجرة مباركة تصل اغصانها لكل مكلف، ويستطيع المسلم أن يأخذ من ثمرها ليكون واقية وعلاجاً من الفرقة، فيسال الله الإبتعاد عن أسباب الفرقة الظاهرة والخفية، والمباشرة وغير المباشرة، فقد يميل شخص الى قوم أو فعل وهو لا يعلم ضرره ومخالفته لمنطوق هذه الآية، فتأتي الآية هذه لتبعده عنه، وتعصمه من الخطأ وتنجيه من الضرر، وقد يعلم بكيفية وصيغة هذه العصمة والنجاة أو لا يعلم بهما، فالله واسع عليم، والإستجابة من عند الله أعم من أن يعلم العبد بها وبمضمونها وهي من مصاديق فضل الله وواسع رحمته.
ويعتبر الدعاء بالسلامة من أدران الفرقة مدرسة أخلاقية وعرفانية وإصلاحاً للنفوس، وتأديباً للمسلمين ولا ينحصر هذا التأديب بالداعي نفسه متحداً كان او متعدداً بل يشمل غيره من وجوه:
الأول: الذي يسمع الدعاء ويعرف مضامينه، وفيه حث على الإلتفات الى أهمية موضوعه، فالتوجه الى الله تعالى بسؤال الوحدة ونبذ الفرقة دعوة للآخرين للعناية بوظائفهم الشرعية في هذا الباب.
الثاني: ترشح منافع الدعاء على الذات والغير فضلاً من عند الله خصوصاً وان الفرقة والإختلاف أمران يستلزم وقوعهما في الغالب تعدد الأطراف، ومن بركات الدعاء أن يدعو المسلم بالوحدة ونبذ الفرقة، فيحجب الله عز وجل غيره عن إرادة الفرقة والخلاف.
الثالث: إنصراف دعاء نبذ الفرقة الى التخلص من نيتها ومقدماتها في الفعل الذاتي والفعل الغيري لإرادة مصلحة وإتحاد المسلمين الذي يتأتى بعزمهم على نبذ الفرقة.
الرابع: سعة رحمة الله، وتعدد مضامين الإستجابة الإلهية لتتغشى المسلمين جميعاً، فيدعو أحدهم فتنزل البركات عليه وعلى غيره بفضل الله تعالى الذي لا تنفد خزائنه.
والدعاء سفر روحي وسياحة في عالم الملكوت يرتقي فيها العبد في مقامات الشهود والحضور في حضرة القدس، فيكون في حرز ومأمن من الفرقة، وتنفر نفسه منها، ويرى أضرارها وكأنها واقعة فيستجير بالله منها، ويرجو للملمين جميعاً الإحتراز منها، والحصانة من اي فرد من أفراد الفرقة التي يعلمها الداعي والتي لا يحيط بها علماً.
ولايتعارض الدعاء في المقام مع قوانين العلة والمعلول، لأنه علة للصلاح ومانع من إجتماع مقومات الفرقة، ولا تتحقق العلة الا بوجود المقتضي وفقد المانع، ويأتي الدعاء على المقتضي للفرقة فيمحوه ويكون برزخاً ومانعاً دون حصول الفرقة.
ومن أسرار الدعاء انه يقهر أسباب الفرقة ويدفع مقدماتها ويأتي عليها ويزيحها من صلات المسلمين ويساهم في تجديد تعاهدهم لنعمة الأخوة وبعث الغبطة في نفوسهم للتخلص من الفرقة والإختلاف.
والدعاء حرز من مداهمة الشهوات، وإستحواذ الهوى، وخذلان النفس الأمارة وإغواء الشيطان، وهو غذاء يومي يتجلى في أداء العبادات وهل يمكن إعتبار أداء العبادات، ومنها الصلاة اليومية من مصاديق الدعاء للنجاة من الفرقة الجواب نعم لأن أداء العبادات طرد للغفلة، والفرقة من فروع الغفلة والجهالة ولأن الصلاة دعاء وتوسل الى الله تعالى، كما تتضمن الصلاة تلاوة آيات القرآن على نحو الوجوب ولا يضر في إنطباق عنوان الدعاء على القراءة مجيؤها بقصد القرآنية ففيها دعاء وسؤال، وذكر ان لفظ الصلاة مشتق من الدعاء، وفي الحديث القدسي: با موسى سلني كل ما تحتاج حتى علف شاتك وملح عجينك”.
ومن باب الأولوية أن يتوجه المسلم بالدعاء للنجاة من الفرقة، وفيه نفع مركب يتجلى بوجوه:
الأول: عدم الفرقة تمسك بالقرآن والسنة.
الثاني: الدعاء مصداق من مصاديق الإعتصام بالله تعالى.
الثالث: سؤال عدم الفرقة تعاهد لنعمة الأخوة التي جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عنها.
الرابع: الدعاء لجوء الى الله من شرور الفرقة، وإحتراز من أسبابها، فان جاءت الآية بالنهي عن الفرقة والحث على إجتناب سنن أهل النفاق والخلاف، فان المسلمين يفزعون الى الله تعالى لإعانتهم على الإمتثال، وكأنهم يقولون: الهنا أمرتنا بعدم الفرقة فأعنا على نبذ الفرقة، والله عز وجل بيده مقاليد الأمور.
قوله تعالى[وَاخْتَلَفُوا]
هذه الكلمة معطوفة على التي قبلها وهي [تَفَرَّقُوا] ويتضمن العطف التشريك والتعدد والمغايرة وفيه إشارة الى ان الإختلاف غير الفرقة، وبينهما عموم وخصوص من وجه، ومادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: إتحاد الموضوع وان كلاً من الفرقة والإختلاف أمر مذموم ومنهي عنه.
الثاني: وحدة الحكم في حرمة الفرقة والإختلاف بعد العلم والبراهين الدالة على وجوب ألاقرار بالربوبية والنبوة، وإجتناب الفرقة.
الثالث: شمول الفرقة والإختلاف لتلك الأمم على نحو العموم الإستغراقي.
الرابع: تحذير المسلمين من كل فرد منها.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: التباين الرتبي بين الفرقة والإختلاف.
الثاني: الفرقة من التفرق، وتعدد الطوائف والجماعات، اما الإختلاف فيحصل بالفرقة والتباين في الأقوال والأفعال، ومن أسرار العطف بين الفرقة والإختلاف الدلالة على النهي عن الإختلاف الذي يترشح عن الفرقة بلحاظ الترتيب بينهما، ويحمل صفاتها، ويؤدي الى تعميقها وزيادتها.
والإختلاف يتنافى ومضامين الأخوة الإيمانية التي جعلها الله عزوجل نعمة دائمة عند المسلمين وواقية من إستدامة أضرار الفرقة والخلاف، فقد يحصل إختلاف غير مذموم كما لو تعددت الأقوال في وجوه المعروف، وكل فرد يختار وجهاً منه بعد الإتفاق الى أصل مشروعيته وإستحباب فعله، ثم يتم التوصل الى إختيار الأفضل والأحسن، ولكن النهي في الآية الكريمة عما يشبه إختلاف الفرق والملل الأخرى، وإنقسامهم وحصول الإقتتال بينهم.
الثالث: إلاختلاف أعم من الفرقة من جهة الموضوع.
ففي الآية اشارة الى إتساع الفرقة، وتعدد وجوهها بالإختلاف وفيه وجوه:
الأول: لاينحصر موضوع الخلاف بالتباين في الرأي بين الفرق المتعددة من أهل الملة الواحدة بل يشمل أفراد كل فرقة فيما بينهم.
الثاني: تعدد وجوه وميادين الإختلاف فيشمل المسائل الفقهية والأصولية وعلوم التفسير وشؤون الرئاسة والأمرة والسلطنة والتنافس على الجاه والمناصب.
الثالث: إنشطار وتعدد الفرق بسبب الإختلاف، فاذا حصل الخلاف بين أفراد الفرقة الواحدة، فانه مقدمة للفرقة الفرعية، فتنشطر بسبب الخلاف الفرقة الواحدة الى عدة فرق وتمتلك تلك الفرق أصل الإنقسام والإنشطار بسبب وجود مادة الإنقسام وهي الخلاف، فهو آفة تهدد الكيانات العقائدية والسياسية والإجتماعية، وجاء القرآن بالتذكير بلزوم الوحدة ونبذ الخلاف.
الأول: تذكير الناس أنهم ولدوا لأب وأم واحدة، وتلك الحقيقة تعرفها الأجيال المتعاقبة من الناس وان إختلفوا في الملة والقومية.
الثاني: بيان قبح أول إختلاف حصل في الأرض، وهو الذي جرى بين إبني آدم عليه السلام قابيل وهابيل وأدى الى قتل الأول للثاني، وفيه إشارة الى أضرار الإختلاف وما يتفرغ عنه من الأذى والخسارة. ووردت نصوص من السنة تفيد التحذير من الفرقة وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة( ).
واخرج الحاكم عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله( وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة فقيل له – ما الواحدة قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ( )، وعن ابن عمر ايضاً ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (من خرج من الجماعة قيد شبر – فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه – ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته ميتة جاهلية)( )، كما روي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
وفي هذه الأحاديث تحذير من الفرقة والإختلاف ودعوة لتعاهد وحدة المسلمين، ومن الآيات بقاء طائفة من المسلمين على الهدى، تجذب اليها كل المسلمين وتدعوهم لنبذ الفرقة، وتحث الناس على دخول الإسلام، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: لاتزال طائفة من أمتي على الحق) ( ).
وتبين الآية قبح الإختلاف من وجهين:
الأول: القبح الذاتي، وفيه مسائل:
الاولى: الإختلاف خلاف الأصل الذي هو الإتحاد.
الثانية: تضمن الإختلاف مباني خاطئة وبذل الوسع في نصرة الرأي والإصرار عليه.
الثالثة: الإختلاف معصية لما ورد في هذه الآية من النهي عنه ولزوم تركه.
الثاني: القبح الغيري، وينقسم الى قسمين:
الأول: أسباب الخلاف، إذ أنه يأتي عن خلل أو خطأ أوجهل او غلبة النفس الشهوية او الغضبية.
الثاني: أثر الخلاف، وفيه مسائل:
الاولى: إقتران الضعف والنقص والحاجة بالإختلاف فحينما يكون الإختلاف، يكون الضعف والهوان.
الثانية: حصول جهل مركب ، فيظن بعضهم ان الإختلاف الى أقوال وأفعال خاطئة سواء من طرفي الإختلاف أو أحدهما اذا كان بين إثنين، أو تصدر الأقوال والأفعال الخاطئة من أطراف متعددة إذا كانت أطرافه كثيرة.
الثالثة: سوء عاقبة الإختلاف، وجاءت هذه الآية بالاخبار عنه والتحذير منه بلغة الوعيد المقترن بالترغيب بالوحدة الايمانية وتعاهد الاخوة في الآسلام.
فالإختلاف نوع مفاعلة بين إثنين أو أكثر وفيه وجوه:
الأول: حصول التنافي والتضاد بين أقوال وأفعال الأطراف المتعددة.
الثاني: إجتهاد كل فريق بنصرة قوله، والبحث عن الدليل الذي يؤيده، وبذل الوسع في تفنيد حجة الآخر.
الثالث: ظهور النفرة والبغض بسبب التباين والإختلاف في الإنتماء والولاء.
الرابع: المناجاة بين أفراد كل فرقة لما يثبت الفرقة، وتأسيس قواعد خاصة بكل طائفة.
الخامس: العقاب الأليم بسبب الخلاف، كما تؤكده خاتمة هذه الآية.
ويحصل الإختلاف بين فريقين أو أكثر، وهو على قسمين:
الأول: ماتكون جميع أطرافه على خطأ وضلالة.
الثاني: مايكون فيه أحد الأطراف على صواب.
وجاءت الآية بذم الذين يتفرقون ويختلفون من أهل الملل، ولكن المسلمين على النهج القويم وفي الآية وجوه:
الأول: شمول كل الفرق بالذم والوعيد، لصيغة العموم والشمول التي جاءت بها الآية الكريمة.
الثاني: إستثناء الذين يبقون على نهج الأنبياء من الذم.
الثالث: المدار على التلبس بالفرقة والإنشغال بمواضيعها، ومن الآيات توجه الخطاب للمسلمين، ومن كان باقياً على نهج الأنبياء فعليه الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه فيما جاء به من عند الله، فجاء الذم للذين تفرقوا وإختلفوا ولم يتداركوا أمرهم بدخول الإسلام.
وفي الإختلاف الوارد في الآية وجوه:
الأول: إتحاد معنى التفرق والإختلاف وجاء ذكرهما للتأكيد وإختلاف اللفظين، نسبه الرازي والطبرسي الى القيل( )، ولكن المعنى أعم من التأكيد من وجوه:
الأول: العطف يفيد المغايرة ولو على نحو جهتي.
الثاني: الإختلاف تثببيت للفرقة وتأسيس لقواعد مستقلة ومفاهيم خاصة بكل فرقة، وحاجز إضافي دون العودة الى الوحدة والإتحاد، فبعد حاجز الفرقة وتعدد الطوائف، يأتي حاجز الإختلاف فيما بينهم.
الثالث: الآية دعوة لبحث وجوه الإختلاف والتباين بين الفرقة والإختلاف.
الرابع: لاينحصر التفسير بالمعنى اللغوي للفظ القرآني بل يشمل التفسير الواقعي، وإستقراء المعنى العملي للإخبار القرآني، ولحاظ الوجود الخارجي الذي تخبر عنه الآية، خصوصاً وان الموضوع يتعلق بقصص وأحوال الأمم الأخرى وبعضها ظاهر للعيان.
الخامس: يمكن ان نؤسس قاعدة وهي لو دار الأمر في اللفظ القرآني
بين إرادة التوكيد لما سبقه او إفادة معنى آخر مستقل، فالصحيح هو الثاني من غير ان يتعارض مع الاول.
السادس: تعدد معاني اللفظ القرآني.
السابع: لو تنزلنا وقلنا ان اللفظ (وأختلفوا) ورد للتوكيد، فان التوكيد أمر جهتي.
الثاني: تفرقوا بابدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد، ثم أختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي انه على الحق وان صاحبه على الباطل، وأقول انك اذا انصفت علمت ان أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة( ).
وفيه مسائل:
الاولى: جاءت الآية بصيغة الذم، وهو لايشمل التفرق بالأبدان، وقد يكون هذا التفرق حاجة للملة والناس، وقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأمصار وأنتفع الإسلام والمسلمون من هذا التفرق وساهم في إرتقاء المعارف الإلهية عند المسلمين وأخذ الناس في البلدان المختلفة يسمعون مباشرة ممن سمع من رسول الله، وترشح عنه تأسيس مدارس للتفسير والحديث والفقه، وكان هذا التفرق واقية من الفرقة والإختلاف، مما يدل على أن تفرق أصحاب وأنصار الأنبياء السابقين في الامصار لا يترتب عليه الذم الا مع القرينة بينما جاءت الآية بتعلق الذم على التفرق على نحو الاطلاق.
الثاني: ليس كل الأحبار الذين تفرقوا في البلدان أصبحوا رؤساء، ومنهم من تعرض الى الأذى والقتل عند خروجه الى البلدان.
الثالث: لادليل على إنحصار الذم بالأحبار، لان الآية جاءت بصيغة العموم في ذم الذين تفرقوا وإختلفوا.
الرابع: جاءت الآية خطاباً عاماً للمسلمين لإجتناب التشبي والمحاكاة للأمم الاخرى، لذا فان المراد أفراد الأمم تلك، وفي الآية إخبار بأنهم أنغمسوا في الفرقة والخلاف، على نحو العموم المجموعي، وأصبح كل فرد منهم ينتمي الى فرقة معينة.
الخامس: لزوم تنزيه علماء المسلمين عن صيغة التشبيه في موضوع الآية، ونسبته الى أكثر علماء الإسلام، فقد أراد الله عزوجل للمسلمين إجتناب الفرقة، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماء إمتي كأنبياء بني إسرائيل.
وتعتبر هذه الآية حصانةسماوية مصاحبة للمسلمين في كل زمان ومكان، ترفع عنهم الإختلاف وتحاصر مقدماته، وتدعوهم الى المناجاة بالوحدة، وترك الخصومة والنزاع وهي آية تزين المجتمعات الإسلامية وتتغشى منتدياتهم وما يصدر عنهم من الأدبيات والأشعار وما يتركون من الأخبار التي تحكي حسن أخوتهم وتمسكهم بالقرآن والسنة وإبتعادهم عن الإختلاف والخصومة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع الواو (وإختلفوا)، مما يدل على إشتراكهم جميعاً بالفرقة ومسائل الإختلاف الا مع القرينة التي تدل على التخصيص والإستثناء وهي معدومة في المقام، وهذا مايميز المسلمين عن الأمم الاخرى بوجود أمة من المسلمين في كل زمان لاتشترك بالإختلاف، بل تقوم بالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وينقسم الناس أزاء الآيات البينات الى اقسام:
الأول: من يؤمن ويصدق بها ولكنه يتخلف عن نصرة الأنبياء.
الثاني: من يؤمن بها ويتبع النبي الذي يأتي بها.
الثالث: الذي يجحد بها، قال تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرًى] ( ).
ويحتمل حصول التفرق والإختلاف وجوهاً:
الأول: إنحصاره بالذين آمنوا وصدقوا بالأنبياء .
الثاني: شموله للناس جميعاً.
الثالث: الذين آمنوا ثم أفتتنوا وتفرقوا.
والقدر المتيقن هو الثالث أي أنهم تفرقوا وإختلفوا بعد حصول اليقين، وأبدلوا الإيمان بالكفر.
فتتضمن الآية ذم الكافرين بالأصل من باب الأولوية لأنهم إختاروا الإختلاف والعناد والإصرار وعدم الإيمان بالنبوة، وتقدير الآية (من بعد ما جاءتهم البينات وايقنوا بها).
وفي المقام مسألتان:
الاولى: ماهي النسبة بين النفاق وبين التفرق والإختلاف.
الثانية: أيهما أشد ضرراً النفاق أم التفرق.
أما الإولى فان النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي المعصية وإرتكاب الذنب وإضعاف الإسلام.
واما مادة الإفتراق فان النفاق إخفاء للكفر والتستر عنه وإعلان الإيمان، اما التفرق فهو تشتت وإنقسام وإبتعاد عن مناهج الشريعة.
واما الثانية فانه ليس من قاعدة كلية للمائز بينهما في مقدار الضرر، للتباين في الحال والموضوع، ولكن الأكثر ضرراً في الواقع هو الفرقة والإختلاف، لأن المنافقين مفضوحون ومحاربون وهم قلة لايمكنها التأثير لوضوح المبادئ والأحكام وتصدي المؤمنين لهم، ولكن اهل الفرقة والإختلاف يزدادون مع تقادم الأيام الا مع الزاجر، فجاءت هذه الآية موعظة سماوية لمنع الفرقة.
ومن آيات الأخوة بين المسلمين وبغضهم للفرقة إجتهادهم في السعي للإصلاح بين المتخاصمين منهم، وإمتلاء نفوسهم غبطة وسروراً عند رفع الخصومة والقضاء على أسباب النفرة والفرقة والنزاع، وهذه الغبطة من مصاديق نعمة الأخوة الإيمانية وشاهد على تجدد مصاديقها، وبقائها غضة بينهم يتلمسون بركاتها ويعملون على صيانتها وحفظها ومنها المنزلة والشأن العظيم بين المسلمين لمن يقوم بإصلاح ذات البين، وينفق من ماله ووقته لدرء الفتنة وتدارك الخلاف.
قانون الاختلاف
لقد أكرم الله عزوجل الإنسان بأن نفخ فيه من روحه، وخلقه في الجنة، وتلك نعمة فاز بها آدم عليه السلام وبواسطته بنوه مطلقاً، مما يترتب عليه الشكر لله تعالى، كما رزق الله الإنسان نعمة النبوة لتكون مصاحبة لنعمة الخلق الكريم، ومتممة لنعمة النفخ، ووسيلة مباركة لجذب الإنسان الى سبل الهداية والإيمان، والتقيد بسنن النبوة التي جاءت متشابهة ومتداخلة ومع حصول النسخ فيها فانها خالية من التزاحم والتعارض مما يدل على إنعدام موضوع الإختلاف والنزاع، ولكن غلبة النفس الشهوية وحب الدنيا اللهث وراء زينتها، والعناد والإصرار على الخطأ وعدم الإنصاف أمور تؤدي الى الإختلاف وتعدد المذاهب والفرق، وإختلف أتباع الأنبياء وأهل الملل والنحل ووقع التحريف في التنزيل والأحكام الشرعية مما ترشح عنه ضعف الإيمان والجحود بالنبوات اللاحقة، وتمسك كل فريق بقوله ورأيه قال تعالى [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ( )، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الجامعة المعصومة من التغيير، الممتنعة عن التعارض، والسالمة من النسخ والتبديل فان قلت ان الله رزق الله المسلمين نعمة التكامل في الشريعة الناسخة، وهذه النعمة مائز وسلاح للإحتراز من الفرقة التي وقعت فيها الأمم الاخرى، فلم ينج المسلمون من الفرقة بسبب إحترازهم الذاتي بل بما رزقهم الله من النعم، والجواب من وجوه:
الأول: تغشي النعم الإلهية للناس جميعاً.
الثاني: تمنع الكتب المنزلة والنبوة الإختلاف بين الناس، وقد لازمت الإنسان منذ ساعة هبوطه الأرض.
الثالث: بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً.
الرابع: تغشي النعم الالهية الناس جميعاً، وكل الأنبياء جاءوا بالوحدة في مرضاة الله.
الخامس: الأصل هو دخول الناس جميعاً في الإسلام لعموم الدعوة، وامتنع الكفار عن نفع أنفسهم، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار، فمن أسباب الإختلاف بينهم تخلفهم عن الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ماجاء به من الآيات الباهرات، وإتصال معجزات القرآن والشواهد التي تدل على نزوله من عندالله، ويشمل الإختلاف الذي حصل بين الأمم الأخرى والذي تشير إليه الآية وجوهاً:
الأول: الإختلاف بين الإفراد منهم.
الثاني: الإختلاف في المذاهب والآراء.
الثلاث: الإستقلال في السلطان وتدبير شؤون الحكم.
الرابع: الإختلاف في الفتوى والحكم مع إتحاد الموضوع،وتشابه المسألة.
الخامس: التعدد في الولاء والإنتماء.
السادس: التباين في الأصول والمباني التي يرجعون اليها في الأحكام والسنن والعادات.
السابع: تعدد المصالح والمنافع وظهور حب الدنيا، والسعي الدؤوب للإستئثار.
الثامن: إلاصرار والعناد، وشيوع الجدال بالباطل والمغالطة وإدعاء كل فريق أنه على الحق وغيره على الباطل، ويلازم الإختلاف الإبتعاد عن منهج الأنبياء، لذا جاءت الآيات السابقة بالحث على التمسك بالقرآن والسنة، والدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتدارك أسباب الفرقة ومنع الإختلاف، وحصول الإختلاف بين أفراد الأمم الأخرى يؤكد الحاجة الى الإسلام، وصيرورة المسلمين أمة واحدة ترتدي رداء الوحدة وتتحلى بمعاني الأخوة الإيمانية، وتتنزه عن الفرقة والإختلاف.
وجاءت الآية الكريمة بذم الذين أختلفوا، وهذا الذم مستقرأ من وجوه:
الأول: تحذير المسلمين من محاكاتهم والتشبه بهم.
الثاني: عدم قبول الدين والشريعة الإختلاف.
الثالث: مجئ الأنبياء بسنن التوحيد وخلو شرائعهم من الإختلاف.
الرابع: جهاد الأنبياء والصالحين من أجل منع الفرقة والتشتت.
وهل تدل الآية في مفهومها على تحذير أهل الكتاب وغيرهم من الخلاف، الجواب انها تدعوهم للإيمان، وتنهاهم عن الإختلاف والخلاف وتأمرهم بالمفهوم بدخول الإسلام ونبذ الكفر والضلالة.
قانون التصدي للإختلاف
جاءت الآية بنهي وتحذير المسلمين من الإختلاف بصيغة المثل والتشبيه للإشارة الى مالحق الأمم والملل الأخرى من الأضرار والأذى بسببه، ولاينحصر موضوع النهي بأفراد الإختلاف، بل يشمل التصدي لأمور هي:
الأول: منع مقدمات الإختلاف، وتدارك الأمور بما يحول دون حصول الإختلاف، وهذا المنع من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاءت به الآية السابقة.
الثاني: قيام أهل الحل والعقد بالدعوة الى وحدة المسلمين والندب الى ترك النفرة والخصومة، والتخلص من الأخلاق المذمومة التي تؤدي الى الإختلاف ولاينحصر هذا الندب بأهل الحل والعقد بل يشمل المسلمين جميعاً، وهو من الدعوة الى الخير الذي جاءت به الآية السابقة وهو من مصاديق نعمة الأخوة التي جعلها الله عزوجل بين المسلمين، والتي تتجلى بوجوه منها مايتضمن التدارك وإصلاح ذات البين ودرء الفتنة خصوصاً وان النسبة بين الأخوة والإختلاف هي التباين، فان قلت قد يختلف، الجواب ان الآية نهت عن الإختلاف الذي يكون رديفاً للفرقة وتوسعة لها وتمادياً فيها.
الثالث: الإرتقاء النوعي العام في المعارف الإلهية، والحث على طلب العلم،والتفقه في الدين، وكل فرد منها حاجز دون الإختلاف.
الرابع: نشر علوم القرآن، ومعرفة أحكام الحلال والحرام، كي يدرك المسلم واجباته وحقوقه، ويتحلى بالصبر ان اصابه حيف او ظلم لإدراكه تقديم الأهم العام على المهم الشخصي، أي تقديم وحدة ونفع المسلمين على مصلحته وحقه الشخصي ليفوز بالأجر والجزاء الحسن على ترك حقه اذا كان في المطالبة فيه فتنة وإختلاف وخصومة تضر بالإسلام ووحدة المسلمين.
الخامس: إشاعة مفاهيم النصح والتراحم والرأفة والمودة بين المسلمين لتكون واقية من دبيب الإختلاف.
السادس: سيادة مبادئ العدل والإنصاف، ونبذ الظلم والتعدي بين المسلمين، ونفي أسباب الخلاف والفرقة والنزاع، دفع أسباب الفتنة، ومنع غلبة النفس الشهوية.
السابع: إيجاد صيغ ثابتة لتدارك الإختلاف في حال حصوله، وصحيح ان هذه الآية تنهى عن الفرقة والإختلاف، الا انها تدعو ايضاً بالدلالة التضمنية الى محاصرة الخلاف ومنع إتساعه، وطرو شروره العرضية، لأن النهي فيها متعدد ويشمل:
الأول: أسباب الإختلاف.
الثاني: وقوع الإختلاف.
الثالث: إستدامة الإختلاف.
الرابع: تعدد مواضيع الإختلاف، فقد يبدأ في مسألة ثم تتعدد مسائله ومواضيعه.
الخامس: إتساع رقعة الخلاف، وكثرة أطرافه، فالآية الكريمة تدعو الى إجتناب الإختلاف إبتداء وإستدامة وتدعو لمحاربته ومنع اتساعه، وتحذر من صيرورته واقعاً ثابتاً عند المسلمين سواء في الاسم او المسمى، أما الاسم فكما لو مذهب وفرقة من المسلمين باسم خاص لها تعرف به، وأما المسمى فيكون لكل فريق قواعده وأحكامه ومناهجه، بل ولباسه الخاص، وتكون هناك موضوعية للمذهب والفرقة في الصلات والمعاملات والنكاح والنصرة والإعانة، فجاءت الآية لتحث المسلمين على إجتناب الإختلاف جملة وتفصيلاً، وتحذر من أسبابه ونتائجه وآثاره.
وتتضمن الآية بالدلالة الإلتزامية التحذير من المنافقين الذي يظهرون الإيمان ويخفون الكفر فهؤلاء لايترددون في بث روح الفرقة والفتنة بين المسلمين وفيها إنذار للمنافقين وإخبار عن خزيهم وبطلان مكرهم.
ومن مضامين الآية القدسية حث المسلمين على الإحتراز من كيد أعداء الإسلام وسعيهم للفرقة بين المسلمين، وهذا السعي على وجوه:
الأول: إثارة أسباب الخلاف بين المسلمين.
الثاني: تأبيد وتعضيد طرف وفرقة من المسلمين بما يؤدي الى الفرقة والإختلاف.
الثالث: تأييد أكثر من فرقة وطرف من المسلمين لإذكاء نار الفتنة والخلاف بينهم.
الرابع: تعميد الخلاف بين فرق المسلمين كما لو أستغل الأعداء وجود خلاف فقهي بين علماء المسلمين، وعملوا على إظهاره والتوكيد عليه، وإعطائه الأولوية في الواقع اليومي، أو وجود خلاف في أمور الدنيا مثل الحدود والملكية وجعله موضوعاً ومادة للكدورة والخصومة بين المسلمين.
والآية الكريمة وتحذير من الرجوع الى أهل الإختلاف فيما يخص مسائل الخلاف بين المسلمين، ودعوة لحلها ضمن قوانين الأخوة الإيمانية ووفق أحكام القرآن والسنة بإعتبار انه من مصاديق وعمومات [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ].
بحث منطقي
يحصل احياناً بين شخصين أوطرفين خلاف ونزاع في الرأي والمصلحة والمواضيع المتعددة، فيسعى كل طرف الى نصرة قوله وتأييد حجته وإلتماس ما يبطل قول الطرف الآخر بصناعة الجدل وتسمى باليونانية (طوبيقا)، والجدل لغة هو اللدد واللجاج، وقد يستعمل الجدال لإقامة البرهان والإتيان بالحجة وإبطال المغالطة ودفع الوهم لذا ورد قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( )، وللجدل عند المسلم وظيفة مركبة تتجلى بوجوه:
الأول:بيان وهن حجة خصم.
الثاني: الإتيان بالبرهان والدليل القاطع على سلامة حجة المسلم.
الثالث: إفحام الخصم لسبل الإيمان، وجذبه للإسلام، وجعله ينبذ الجدل وصيغ العناد ويتلمس الطرق التي تؤدي به الى النجاة في الآخرة ويكون من الذين تبيض وجوههم يوم القيامة كما ورد في الآية التالية بقوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ].
والجدل نتيجة من نتائج الإختلاف، فقد يصر كل فريق على قوله ويظهر العناد والتحدي للفريق الآخر، ويمتنع عن لغة البرهان والتسليم بالحجة، وقد يكون كلا الفريقين بلا حجة ودليل فيستمر الخلاف والعناد كما هو ظاهر الذم الوارد في الآية للأمم السابقة، والجدل أعم من لغة البرهان، لذا جاءت الآية الكريمة بنهي المسلمين عن أسباب الإختلاف ونتائجه ومنها الجدل.
ويتجلى هذا المنع في الحج وأداء المناسك، ومع حصول الجدل بين المسلمين فيجب ان لايصل الى الإختلاف او يكون سبباً للفرقة والشقاق بل يكون وسيلة لرياضة الإذهان وتحصيل الملكات، وإكتساب المعارف، وإستحضار المقدمات التي تساهم في تثبيت مفاهيم الإيمان في نفوس المسلمين، وتؤدي الى تعاهد وتوارث مضامين نعمة الأخوة وظهورها في عالم الأقوال والأفعال، والمحافظة على أحكام الحلال والحرام خالية من التحريف والذب عن مبادئ الإسلام ونصرة المسلمين، والإقبال على العبادات بشوق وزجر الكفار عن إثارة الريب والشبهات والشغب.
قانون الواقية من الاختلاف
جاءت الآية بالنهي عن الإختلاف ومحاكاة الأمم الأخرى وما حصل بين أفرادها من التفرق والتشتت، وإستقلال كل فرقة منها إسماً ومسمى، ومع إن هذا النهي نعمة مستقلة، لما فيه من الفضل الالهي بالزجر عن أسباب الفرقة والضعف والذل فأنه لم يأت مجرداً بل جاء مصاحباً لنعم أخرى تلازمه وتكون عوناً على النجاة وهي:
الأول: نزول القرآن الكريم وعصمة آياته من التحريف والتبديل والتغيير.
الثاني: وجود السنة النبوية بين المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
الثالث: تغشي نعمة الأخوة للمسلمين جميعاً، ونفاذها الى منتدياتهم وبيوتهم ومواضيع حياتهم المختلفة.
الرابع: الأداء الجماعي والمتحد للعبادات والفرائض فما فمن فريضة من فرائض إلاسلام الا وفيها ملاك للإتحاد والوحدة بينهم بالذات والعرض، فوجوه الإتحاد وعدم الإختلاف في الصلاة مثلاً كثيرة منها:
الأول: إتحاد وقت أداء الصلاة اليومية.
الثاني: توجه الخطاب التكليفي للمكلفين جميعاً.
الثالث: وحدة أفعال الصلاة من القراءة والركوع والسجود ونحوها.
الرابع: إختصاص المسلمين بأداء الصلاة بكيفية معينة لاتقبل الترديد.
الخامس: أداء الصلاة جماعة، وهي من أهم أسباب طرد الفرقة والإختلاف بين المسلمين، ولايعلم عظيم نفعها في هذا الباب الا الله تعالى.
السادس: قراءة القرآن في الصلاة وما فيه من الدعوة الى الوحدة والألفة والأخوة الإيمانية.
السابع: الثواب العظيم لمن يؤدي الصلاة مطلقاً مع مضاعفة الثواب لمن يؤديها جماعة، وكذا النعم المتعددة في الصيام والزكاة والحج التي تكون عوناً للمسلمين على الإتحاد ونبذ إلاختلاف.
الخامس: تجلي منافع وحدة المسلمين وإدراكهم لما فيها من النفع العظيم وهذا الإدراك باب لتعاهد الوحدة والألفة بينهم.
السادس: كفاية النطق بالشهادتين في صدق إسلام المرء وحلّية نكاحه، وعصمة دمه، فالشهادتان سور جامع للمسلمين، ومانع من الفرقة والإختلاف، وبرزخ دون دخول غيرهم معهم في مضامين ومعاني الوحدة.
السابع: تعتبر النعم المصاحبة لعدم الاختلاف بين المسلمين ترغيباً للناس بدخول الاسلام، ودعوة لهم لنبذ الفرقة الذي يتحقق بالإنضواء تحت لواء الإسلام والنطق بالشهادتين والعمل بأحكام القرآن والسنة.
الثامن: عظيم الثواب الذي وعد الله به المسلمين على إتحادهم وإجتنابهم إلاختلاف والفرقة.
ومن الآيات في عالم العقائد التباين بين المسلمين وغيرهم في وجود علة الاختلاف أوعدمها فتجد الأمم الأخرى تختلف بينها لعدم وجود الحجة والبرهان القاطع عند طرف منها، فتتعدد المذاهب ويكثر الجدال، اما المسلمون فقد أنعم الله عليهم بالقرآن والسنة وما فيها من بيان لأحكام الحلال والحرام وما يحتاج اليه المسلم في يومه وليلته، وان حصل إختلاف فعن خلل في المقدمات، وتصور شخصي وغلبة النفس الشهوية.
فجاءت هذه الآية للوقاية من الإختلاف وعلته بالنهي عنه والحث للرجوع للقرآن والسنة ومع تقييد المسلمين بالكتاب والسنة ينعدم الخلاف بينهم، فمن فضل الله تعالى على المسلمين ان جعل عندهم الواقية من الإختلاف، وهذه الواقية من المتعدد وليس من المتحد، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين وتقريبهم الى منازل الطاعة وإعانتهم على نبذ أسباب الفرقة والخصومة، وان قلت: ان الفرقة والإختلاف أمران حاصلان عند المسلمين في الواقع، وهناك فرق متعددة عند المسلمين، كما وقعت فتن ومعارك بينهم، والجواب من وجوه:
الأول: تمنع الآية من وقوع الإختلاف والنزاع والخصومة، وصحيح انه حصلت فرقة ونزاع بين بعض الأطراف منهم، ولكن الذي إنصرف وتم تدارك أسبابه من الفتن والمعارك أكثر وأشد، وهذا التدارك على قسمين:
الأول: إحتراز وتسلح المسلمين بعقيدة التوحيد وحرصهم على نبذ الفرقة.
الثاني: بفضل من عندالله قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ]، ويترشح القسم الأول عن الثاني بالواسطة، ومن الوسائط هذه الآية الكريمة.
الثاني: إعتبار المسلمين من الأمم الأخرى، وما أدت اليه الفرقة بينهم الى ظهور الضعف عندهم.
الثالث: حاجة المسلمين للوحدة وهذا الحاجة مركبة من وجوه:
الأول: تعاهد الفرائض وسنن الشريعة.
الثاني: الدفاع عن ثغور وأمصار المسلمين.
الثالث: حفظ النفس والعرض والمال.
الرابع: حاجة المسلمين الى الوحدة في سوح المعارك ومقدمات القتال، والمدد والعدة والعدد.
الخامس: نشر مبادئ الإسلام.
الرابع: في حال حصول فرقة وخلاف وقتال فانه لن يستمر ، بل يسارع المسلمون الى الإصلاح بين المتحاربين ودعوتهم الى الكتاب والسنة، والتخلص من الفرقة، ثم لايلبث المتحاربان أن يجتمعا ويتقاربا فلا تمر سنوات قليلة الا وتعود الصلات الأخوية بين الفريقين، وتلك آية ينفرد بها المسلمون من بين الناس.
فمن تفسير الآية والتباين بين المسلمين وغيرهم ان الفرقة لن تدوم بينهم فلابد ان تزول الفرقة والمسميات الفرعية والمذهبية ليعود المسلمون الى الجماعة، ويكون كل فرد منهم جزء منها، وغير خارج عنها لذا يمكن تفسير الآية بتقدير ولاتكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا وأستمروا بفرقتهم واختلافهم) فالى جانب وجود أمة من المسلمين لاتختلف عن الحق، فان الآية تشير الى إستدامة وحدة المسلمين، وإنقطاع الفرقة، وزوال الخلاف بينهم.
الخامس: الإختلاف من الكلي المشكك، ومنه مايكون بالأصول، ومنه مايكون بالفروع، وقد يختلف المسلمون فيما بينهم في المسائل الاجتماعية والصغروية، او في الأمور الدنيوية والمصالح والمنافع، أما أفراد الأمم الأخرى التي ورد ذمها والتحذير من سننها فإن إختلافهم بإختيار فريق منهم الكفر قال تعالى [وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا] ( ).
علم المناسبة
جاءت مادة أختلف في القرآن مرات عديدة وبصيغ متعددة وهي:
الأول: لفظ “اختلفوا” بصيغة الماضي ولغة الجمع إحدى عشرة مرة.
الثاني: ورد بلغة المخاطب “أختلفتم” مرتين.
الثالث: بصيغة الماضي “أختلف” أربع مرات.
الرابع: بصيغة المضارع الجمع المخاطب “تختلفون” ست مرات.
الخامس: لغة الغائب الجمع “يختلفون” عشر مرات.
السادس: صيغة البناء للمجهول “أختلف” مرتين.
السابع: جاء بلفظ الجمع المرفوع “مختلفون” مرة واحدة قال تعالى [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ* عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ* الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ] ( ).
الثامن: جاء بلفظ الجمع المفعول به قال تعالى [إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ]( ).
وتبين آيات الإختلاف تفرق الأمم والملل الأخرى ومنهم أهل الكتاب، وليس فيها ذم للمسلمين او اشارة الى إختلافهم، وتلك آية في إكرامهم كما اخبرت بان القرآن أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإزالة الإختلاف بين الناس، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( )، مما يدل على تعدد وظائف القرآن وانه بيان لأهل الكتاب فيما إختلفوا فيه، وزيادة في الهدى والتقوى للمسلمين.
ولاتعارض بين البيان والرحمة في الآية فكلاهما دعوة للإسلام والثبات عليه، كما تبين هذه الآيات ان أسباب الإختلاف من عند الناس ومن لطف الله تعالى بهم ان جعلهم أمة واحدة ولكنهم إختاروا الفرقة والإختلاف قال تعالى [وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا] ( ).
وقد أنعم الله عزوجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعيدهم الى الوحدة وإلائتلاف، لذا جاء نهي المسلمين عن ألاختلاف كي يتعاهدوا الوحدة، فكأن الناس مروا بثلاثة أدوار:
الاولى: الوحدة بينهم، بالفطرة والحنيفية وبعثة الأنبياء، وإتباع الناس لهم.
الثاني: الفرقة والإختلاف وكثرة المذاهب.
الثالث: الوحدة بالبعثة النبوية، ونزول القرآن وتكامل الشريعة الإسلامية والدعوةالسماوية للوحدة مستمرة بإشراقة الإسلام على الأرض تحث الناس جميعاً على الوحدة بدخول الإسلام وتقوى الله والإعتصام بحبله وإجتناب الفرقة.
فإلاسلام إنقاذ للناس من الفرقة والإختلاف، فلا يصح ان يدخلوا الاسلام ليعملوا على الفرقة والخلاف من داخله، وان أراد المنافقون بث بذور الفرقة فانهم لن يفلحوا سواء في الدنيا او الآخرة، أما في الدنيا فان الآيات القرآنية جاءت ببغضهم وذمهم والتحذير منهم، وأما في الآخرة فان النار مثواهم.
ومع الإختلاف في الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ]( )، فجاء القرآن ممتنعاً عن الإختلاف فيه ومانعاً منه وزاجراً عن الإختلاف مطلقاً، وتلك رحمة من عندالله، وآية تدل على إعجاز القرآن العقائدي، وعظيم نفعه وحاجة الناس له، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع انه قال : الا وإن الزمان قد أستدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض.
فجاء دين الاسلام وهو دين الفطرة، ليقضي على الإختلاف بين الناس، ويتضمن تحذير المسلمين منه، وقد شكى عدد من الأنبياء قومهم، وما كانوا يلقون من الأذى وورد بخصوص نوح عليه السلام في التنزيل [رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا] ( )، وفي صالح عليه السلام، وعقرهم الناقة ماهو ومتعارف عند المسلمين جميعاًً، والأذى الذي لاقاه ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وحمل الصحابة لواء الإسلام، وإندفعوا نحو سوح المعارك جهاداً في سبيل الله، وتعلًموا القرآن وعلموه لمن بعدهم ليكون موضوعاً وحكماً برزخاً دون الإختلاف بين اجيال المسلمين.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب عطف أحد المترادفين على الآخر، والغاية منه التوكيد، وإستدل عليه بآيات قرآنية منها قوله تعالى [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ] ( ).
وأنكر المبرد هذا النوع في القرآن، وهناك قول ثالث وهو حصول معنى يجمع المترادفين لا يحصل بإنفراد أحدهما، بإعتبار ان التركيب يحدث معنى زائداً.
والحق أنه لا تعارض بين معنى التوكيد في عطف لفظ “إختلفوا” على “تفرقوا” وبين إفادته معنى إضافياً آخر، وهذا التعدد من مصاديق إعجاز القرآن، وشاهد على كثرة خزائنه ودعوتها الناس لينهلوا منها، خصوصاً وان الآية من آيات التأديب والتعليم والإرشاد، فهي تحث المسلمين على الإنتفاع من نعمة الأخوة وعدم الإعراض عنها، وإجتناب الفرقة التي تعتبر معصية من خلال نظم هذه الآيات من وجوه:
الأول: موضوع هذه الآيات خطاب للمسلمين واكرامهم ووصفهم بالايمان، والفرقة ضد الايمان، فلا يجتمعان.
الثاني: جاءت الآيات بالأمر بتقوى الله، والفرقة إبتعاد عن صيغ التقوى وخالية من الخشية من الله عز وجل.
الثالث: في الفرقة إنشغال عن مصاديق وأفراد التقوى التي تتجلى بأداء العبادات والفرائض جامعة للأجزاء والشرائط، وقصد الفرقة والمساهمة فيها والإعانة عليها خلاف التقوى.
الرابع: أمرت هذه الآيات بالتمسك بالقرآن والسنة بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] وفي الإمتثال لأحكامها خير الدنيا والآخرة، ومن مصاديق الإعتصام بالله إجتناب الإختلاف والخصومات
الخامس: جاءت الآية قبل السابقة بالنهي عن الفرقة، بقوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] والإختلاف من مصاديق الفرقة والتشتت، وهذا التعدد في النهي عن الفرقة يدل على حاجة المسلمين للوحدة.
السادس: جاءت هذه الآية لتثبيت معاني الأخوة والإئتلاف بين المسلمين، والتآلف بين قلوبهم ونزع الكدورة وأسباب الخصومة من النفوس.
السابع: لقد جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن إنقاذ الله تعالى للمسلمين من طرف حفرة من النار، والإختلاف عودة للإشراف على الهاوية، فأراد الله عز وجل ان يحافظ المسلمون على نعمة الإنقاذ بالوحدة والتعاون فيما بينهم.
الثامن: جاءت الآية قبل السابقة ببيان الآيات من عند الله، وتحذير المسلمين من الإختلاف بصيغة التشبيه من بيان الآيات.
التاسع: إجتناب الإختلاف نوع هداية وصلاح.
العاشر: في الجمع بين أفراد الآية السابقة والنهي عن الإختلاف في هذه الآية مسائل:
الأولى: حث المسلمين على نهي بعضهم بعضاً عن الفرقة والإختلاف، والسعي لتدارك أي إختلاف يحصل بين المسلمين جماعات وافراداً، لذا وردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالإصلاح بين المؤمنين ودرء الفتنة ونبذ الخصومة وإصلاح ذات البين قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] ( ).
الثانية: جاءت الآية السابقة بالدعوة الى الخير والوحدة، ونبذ الإختلاف من مصاديق الخير والفلاح قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
الثالثة: الأمر بالوحدة وتعاهد الألفة والأخوة من المعروف والإحسان وقد ورد في الآية السابقة الحث على الأمر بالمعروف قال تعالى [يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ].
الرابعة: تدعو الآية المسلمين الى نشر معاني الوحدة، ومفاهيم الأخوة بينهم، فالأمر بالمعروف برزخ دون الإختلاف وسلاح للتدارك وحفظ وحدة المسلمين، وحث للمسلمين للتدخل لمنع الفرقة والإختلاف، فالإختلاف في حال وقوعه يصدر من فئة أو جماعة أو أهل مصر، فجاءت الآية السابقة لحث المسلمين على التصدي له، وعدم الإكتفاء بالإلتزام بالأخوة والجماعة، وتنطبق على هذا التصدي مراتب الأمر بالمعروف والدعوة الى الوحدة بصيغ الأخوة والود واللطف والرأفة.
الخامسة: جاءت الآية السابقة بالنهي عن المنكر، ويكون بخصوص الإختلاف على وجوه:
الأول: النهي عن الإختلاف والتحذير منه وإن لم يكن أمراً واقعاً، لأن النهي عن المنكر أعم من حدوثه فيأتي النهي للأمة والأفراد وان لم يرتكبوا معصية الفرقة والإختلاف، وفيه وجوه:
الأول: نيل الناهي عن المنكر الأجر والثواب لإمتثاله للأمر الإلهي في الآية السابقة.
الثاني: فيه دليل على التفات المسلمين للأحداث والمسائل الإبتلائية.
الثالث: حرص المسلمين على تعاهد النعم الإلهية التي تتغشاهم جميعاً كنعمة الأخوة.
الرابع: النهي عن الإختلاف سلاح لبعث القوة والمنعة عند المسلمين وترى الذي ينهى عن الإختلاف، ويسعى في الإصلاح بين المسلمين، ويحرص على الإمتناع عن الفرقة وتعميقها يحظى بإحترام الجميع، ويسمى بالمصلح والمحسن ونحوهما من العناوين التي تدل على الرضا النوعي العام عنه، فتراه يزجر صاحب الإختلاف، وينكر عليه فعله وسعيه في الفرقة، ومع هذا فانه يلاقي الإكرام والإحترام من الأخير.
الخامس: جاءت خاتمة الآية بمدح المسلمين الذين يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ونعتهم بأنهم المفلحون، مما يدل على ان الحث على الوحدة والعصمة من الإختلاف فلاح وفوز.
السادس: لا ينحصر الثواب بالناهي عن المنكر، بل يشمل الذي يساعد ويمهد للنهي وكذا الذي ينصت للنهي ويتعظ منه.
السابع: بعد أن أختتمت الآية ببشارة الفلاح والفوز، وما فيها من الحث للسعي لنيل هذه المرتبة السامية جاءت هذه الآية للتحذير من الحواجز والموانع عن الاتحاد والاخوة التي دبت وتفشت بين الأمم الأخرى، وفيه تفضيل للمسلمين بلحاظ النهي عن التشبه بالأمم الأخرى التي أختلف أهلها فيما بينهم.
الثامن: من نعم الله عز وجل على المسلمين ورود الآية السابقة كواقية من الفرقة والإختلاف.
السادسة: هل يمكن إعتبار الآية السابقة من البينات التي جاءت للمسلمين، الجواب نعم لما فيها من لغة الوعد الكريم، والحث على الصالحات والتعاون لإجتناب السيئات، والفرقة والإختلاف من أفراد المنكرات.
والإختلاف الذي تذكره الآية بصيغة الذم، وتحذر المسلمين منه على وجوه:
الأول: الإختلاف والنزاع بين أهل الملة الواحدة، وهو على وجوه:
الأول: حصول الإختلاف في أمور الدنيا والمعاملات والمكاسب على وجوه:
الثاني: الإختلاف فيما ورد عن نبي تلك الملة، في النص والتأويل.
الثالث: تعدد وجوه الإجتهاد في الأحكام.
الرابع: الإختلاف في الكتاب المنزل، كما في إختلاف بني إسرائيل في التوراة وأحكامها قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ] ( ).
الخامس: الإختلاف على الرياسات والسلطنة والملك.
السادس: إنقسام أهل الملة الواحدة الى فرق وطوائف مستقلة بذاتها.
الثاني: الإختلاف بين أهل الملل المتعددة، وهو على وجوه:
الأول: الخصومة والنزاع بين الملل، ودعوى بطلان عمل الفرقة والأمة الأخرى.
الثاني: إكتفاء كل أمة بما عندها، وتكذيبها لما عند غيرها من التنزيل وأخبار النبوة.
الثالث: الإختلاف في الناسخ والمنسوخ، وإصرار قوم على عدم وقوعه، كما في إنكار اليهود وقوعه في الشرائع.
الثالث: الإختلاف عند الناس عامة، قال تعالى [وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً]( ).
وفي هذه الوجوه من الإختلاف أعباء إضافية في جهاد الأنبياء وتبليغ الرسالات التي جاءوا بها، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام ديناً للناس جميعاً، وجامعاً للأحكام الشرعية، وناسخاً للأديان الأخرى فتكون دعوته للناس بعرض واحد، لذا جاءت معجزاته عقلية لتصل الى مدارك العقول، وتبلغ الناس جميعاً، وتنتفي الحجب بين دعوته وبين الأمم المختلفة.
وتظهر الدعوة الى الإسلام إنعدام موضوع الإختلاف، وأنه أجنبي عن الوظيفة الشرعية للناس التي تتمثل بالإستجابة لما جاء به القرآن من عند الله الذي تجذب آياته الأسماع، وتبهر العقول والأوهام، وتحث الناس على ترك خصوماتهم ونبذ خلافاتهم ، وتبين إنعدام موضوعها ، وتدعو بإلحاح للصدور عن جهة واحدة هي القرآن والسنة النبوية، وهذا الصدور مانع من الفرقة والإنقسام الى يوم القيامة.
وبينت هذه الآية أضرار آفة الإختلاف في الدنيا والآخرة، فقد يعيش الناس في حال مكروهة وضارة ولكنهم لا يحسون بالضرر وكأنه جزء من كيانهم ووجودهم.
ومنه الإختلاف والإنقسام فيولد الإنسان ليرث حال الفرقة والتشتت والتفاخر بما عند أهل ملته وقومه، وأزدراء غيره، فجاءت هذه الآية لتؤكد كراهة الإختلاف وأضراره الدنيوية والأخروية وتنهى عنه بلغة الإنذار والوعيد.
ومن إعجاز القرآن ان الآية لم تكتفِ بذم الإختلاف بل جاءت بأمور:
الأول: تقدم سلطان وأثر هذه الآية على النفوس على التركة المخالفة لمنطوقها ودلالاتها.
الثاني: ذكر العذاب الأليم الذي ينتظر أهل الفرقة والخلاف.
الثالث: تحذير المسلمين من سيرة وسنن أهل الإختلاف، اذ ان النهي عن التشبه بأهل الإختلاف أعم من موضوع الإختلاف فلا ينحصر نهي المسلمين عن الفرقة والإختلاف بل يشمل السنن وكل ما يخالف القرآن والسنة، خصوصاً مع إرادة معنى الجحود بالتنزيل من لفظ الإختلاف.
الثالث: دعوة الناس للسلامة والنجاة من درن الإختلاف، وينحصر طريق النجاة منه بالإسلام ديناً وعقيدة ومنهجاً.
لقد جاءت الآية بذم الإختلاف وبيان طرق الإحتراز منه وكيفية معالجته، أن وحدة المسلمين سبيل لتخلص الناس من الإختلاف، لما في وحدتهم من الكشف لقبح الإختلاف، وحسن الوحدة وهذا الحسن مقيد بصبغة الإيمان لذا ترى المسلمين يصدقون بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ويجعلون لأهل الكتاب خصوصية من بين الملل لأنهم أتباع النبوات السابقة، مع دعوتهم لنبذ الفرقة والإختلاف وحصهم على الإنضواء تحت لواء الإسلام الذي هو سور سماوي مبارك مانع من الإختلاف وما يتعقبه من العقاب الأليم في الآخرة.

قانون درء الإختلاف
تعتبر الآية وثيقة سماوية تؤكد وجود حال مستديمة عند الأمم الأخرى وهي الفرقة والإختلاف، ومن الآيات ان الإختلاف مذموم ذاتاً وعرضاً من وجوه:
الأول: إنعدام أسباب الإختلاف، فليس هناك سبب شرعي أو عقلاني يؤدي الى الفرقة والإختلاف.
الثاني: معارضته لأصول وأحكام الشرائع السماوية، التي جاءت جميعها بالوحدة والإتحاد، فمع كثرة تعدد الأنبياء وتعدد الشرائع التي جاء بها الرسل منهم، فالجميع يدعو الى الوحدة في مرضاة الله، وينهى عن الفرقة والإنقسام.
الثالث: من الآيات تكاثر وتفرع الناس من زوجين هما آدم وحواء ليس معهما على وجه الأرض من الناس غيرهما، وهذا الإتحاد في أبوة الناس جميعاً دعوة لهم للإتحاد.
الرابع: علة خلق الإنسان هي العبادة، ولا يستثنى منها أحد من البشر ذكراً كان أو انثى، فيجب أن تكون العلة الغائية لخلق الناس سبباً لإتحادهم.
الخامس: رؤية الناس لمنافع الإتحاد والأخوة في الميادين المختلفة وتجلي بركاتها على الأفراد والجماعات والأمم اذ تبدو معها الحياة أكثر بهجة والناس في غبطة وسعادة.
السادس: ملازمة الفتن والنزاعات للفرقة والإختلاف، وحصول الإقتتال وسفك الدماء بين الفرقاء من غير منافع مستديمة، وتأريخ المعارك والحروب في العالم يحكي عدم خروج منتصر على نحو الموجبة الكلية فيها، أو أنه إنتصر في الحرب ولكنه لا يستطيع المحافظة على المكاسب والغنائم التي أخذها لزمان طويل فما تتعاقب الأيام والسنين الا يحصل تبدل وتغيير في طرف المنتصر أو المغلوب.
السابع: تبديد الأموال الكثيرة في العدة والعتاد والإستعداد للحروب، وتكليف عامة الناس مبالغ باهضة منها.
الثامن: إنتفاء الغرض الشرعي من الحروب التي تجري بين الأمم والفرق، نعم جاء الإسلام بالجهاد وحث على بذل النفوس من أجل إعلاء كلمة التوحيد وجذب الناس للإيمان، والقتال تحت لواء الإسلام آية ووجه من وجوه تخليص الناس من الفرقة والإختلاف ومنع الحروب والمعارك بين الأمم، كما أنه لا يأتي الا بعد التبليغ والإنذار والنصح والموعظة وبيان الحجة والبرهان .
فاذ تحصل المعارك والحروب بين الأمم والبلدان نتيجة الفرقة والإختلاف فان قتال المسلمين للقضاء على الإختلاف، وجاءت هذه الآية من التبليغ والإنذار لكي لا تصل النوبة الى القتال لحمل الناس على الإتحاد في ظلال الهداية.ولجعل المسلمين يستعدون لمراحل القتال في سبيل الله والقضاء على الإختلاف بالوحدة بينهم.
ومن أهم صيغ القضاء على الإختلاف حث الناس على الإنقياد لأوامر الله تعالى، والتصديق بالتنزيل والصدور عما جاءت به النبوة، لذا ترى الآية تبدأ بمخاطبة المسلمين وتنهاهم عن التشبه بالذين أختلفوا وصاروا شيعاً، الذي يستمر الإنقسام والإنشطار بين فرقهم، بينما يبقى المسلمون أمة واحدة متحدة وهو عنوان قوة إضافي.
لقد كان الإختلاف جزء علة لضعف ووهن الملل الأخرى، وتخلفها عن وظائفها وطرو التحريف على أحكامها، وأراد الله عز وجل للإسلام البقاء والدوام الى يوم القيامة معصوماً من النسخ والتبديل، خالياً من التحريف .
فجاءت الآية بالتحذير من أسباب ضعف ووهن الفرق والملل الأخرى، والإخبار عن إستدامة الإختلاف فيما بينهم، وفيه بشارة للمسلمين بالنصر والظفر على الأعداء لأن المتفرق لا يستطيع مواجهة المتحد والوقوف بوجهه، بالإضافة الى موضوعية الحق والصدق والإيمان.
فالمسلمون على مناهج الهدى وسنن التنزيل، وغيرهم على الضلالة مع فرقته وإتحاده، والإختلاف عند أهل الملل الأخرى من أسباب حاجة الناس الى الإسلام، وشاهد على عدم منافسة وأهلية الملل الأخرى لمعارضة الإسلام و عجزها عن منع مبادئه من إتساع رقعتها , اوالحيلولة دون سيادة أحكامه، ودوام سلطانه ، كما يدعو القرآن أهل الخلاف الى الرجوع اليه، وإستنباط مواضيع وأحكام الإختلاف من علوم آياته قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى] ( ).
ولقد فضل الله بني إسرائيل بنزول التوراة على موسى عليه السلام ولكنهم إختلفوا فيها ،قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ] ( ).
فجاءت النعمة الإلهية بوجوه:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خارج بني إسرائيل
الثالث: إتصاف بعثة النبي محمد بالعموم في جهتها وتوجهها للناس جميعا .
الرابع: إنتشار الإسلام بين الناس عند مجاوري البيت الحرام الذي رفع إبراهيم قواعده , وبين القبائل العربية ومنها الأوس والخزرج في المدينة المنورة قبل أن تصل الدعوة إلى بني إسرائيل ومقابلتهم لها بالصدود
الخامس: عصمة القرآن من التحريف والتبديل .
وجاء ذكر بني اسرائيل من باب المثال المثل والا فان القرآن يدعو أهل الملل والنحل جميعاُ الى الرجوع اليه والصدور عنه، وهو من مصاديق التبيان المطلق الذي جاء به القرآن ويعتبر إختلافهم حجة عليهم في الدنيا والآخرة، لذا جاءت هذه الآية بذم أهل الإختلاف وإنذارهم بالعذاب العظيم، والآية التالية بالإخبار عن إسوداد وجوههم يوم القيامة، وفيهما مجتمعتين ومتفرقتين توكيد لسلامة إختيار المسلمين الوحدة والإعتصام بالقرآن والسنة.
واذ يكون الإختلاف قانوناً مصاحباً لأهل الكفر والضلالة والغواية، فان الله عز وجل رزق المسلمين نعمة الأخوة الإيمانية، وجعلهم قادرين على درأ ودفع اسباب الإختلاف والعصمة من الإنقسام المخل والضار بالعقيدة.
ان التصدي للفرقة وتدارك أسباب النزاع والخصومة بين المسلمين صفة يتحلى بها المسلمون الى يوم القيامة ، وسبيل للفوز بالسعادة في دار النعيم.
قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ]
الآية إخبار عن حال الأمم الأخرى من وجوه:
الأول: لم تحصل الفرقة والإختلاف عندهم ابتداء وعن غفلة وجهل ،بل بعد مجئ الآيات والدلالات الواضحات. لذا ذكر ان الآية تتعلق باليهود والنصارى.
الثاني: تغشي الأمم الأخرى بفضل الله، ونزول الآيات واقامة الحجة بوجود الصانع ووجوب عبادته.
الثالث: كفاية البينات التي جاءت لكل أمة وملة لتقيدهم بأحكام الوحدة والأتحاد فيما بينهم.
الرابع: إستحقاق الذم للذين يختلفون بعد مجئ البينات لهم، ودلالة حجية العقل عند الإنسان في لزوم الأخذ بالبينات وطرد الغفلة والعناد.
الخامس: ذكرت الآية تقدم مجئ الآيات على التفرق والإختلاف، فهل كانوا متحدين قبلها، الجواب نعم ويتجلى الإتحاد ببعثة الأنبياء واتباع أصحابهم لهم، ثم تطرأ الفرقة والإختلاف بين الأتباع مع تقادم الأيام.
السادس:تفيد الآية تغشي نعمة البينات لأفراد تلك الأمم كافة، فلم تأت البينات لجماعة دون أخرى، او فرقة دون غيرها، بل جاءت لهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، ثم حصلت بينهم الفرقة، ومن الآيات ان حجة ودلالة البينات تبقى حتى بعد التفرق والإختلاف، وهو من أسرار تسميتها بينات لما فيه من معاني الظهور والكشف والدلالة الواضحة.
وتبين الآية ماانعم الله به على الأمم الأخرى، وان البينات ليست حصراً على المسلمين بل هي عامة، جاءت للناس جميعاً، ولكنهم لم يعتبروا منها، وأعرضوا عما فيها من الدروس والعبر، فجاءت الآية لتحذر المسلمين من أفعالهم ومحاكاتهم، ومن التفريط بالآيات والبينات، كما تؤكد بان الآيات والبراهين حجة على الناس في نبذ الفرقة والإختلاف، وهو المستقرأ من ذكرها في المقام، وفيها لوم وذم مركب للذين تفرقوا من أهل الكتاب وغيرهم من وجهين:
الأول: ذم أصل وذات وموضوع التفرق والإختلاف لقبحهما الذاتي.
الثاني: مجئ الفرقة والاختلاف بعد مجئ البينات والأصل انها تثبت الوحدة بينهم، وتمنع من الانقسام والخصومة والنزاع، وجاءت الآية بصيغة الجمع (البينات) مما يدل على الكثرة والتعدد، وهو من فضل الله على الناس وتمام الحجة عليهم، وتحتمل الآية اموراً:
الأول: مجئ آية بينة لكل أمة من الأمم.
الثاني: مجئ البينات للأفراد على نحو الإنحلال، فكل فرد تأتيه بينة.
الثالث: مجئ البينات للأمم، فكل امة تأتيها البينات على نحو التعدد والكثرة.
الرابع: مجئ البينات للناس جميعاً.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول: مجئ الأنبياء والرسل بالبينات في دعوة الناس للإيمان.
الثاني: مخاطبة الآيات والبينات والعقل الإنساني.
الثالث: عموم حجة البينات قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ] ( ).
فقد جاء الانبياء بالمعجزات الباهرات التي تؤكد صدق نبوتهم ولزوم اتباعهم، وهذا إلاتباع عنوان للوحدة وسور جامع يمنع من الفرقة والإختلاف، وما حصل التفرق والإختلاف الا بإلابتعاد من مناهج النبوة والإختلاف فيها.
وفي الآية تحذير إضافي للمسلمين من الفرقة بإعتبار ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالآيات العقلية والحسية التي توجب التمسك بالقرآن والسنة واجتناب الفرقة.
وورد لفظ (وجاءهم البينات) مرتين في القرآن كلاهما في سورة آل عمران( )، ومع جواز حذف علامة من فعل المؤنث لتقدمه ولأن التأنيث مجازي( )، الا انه يدل على موضوعية واهمية البينات وانها حجة قائمة بذاتها تكفي للإتفاق على التوحيد والتصديق بالأنبياء وعدم التفريق بينهم وبلحاظ تعدد آيات الأنبياء تحتمل البينات في المقام وجوهاً:
الأول: المراد البينات التي جاء بها كل نبي الى أمته، فيتوجه اللوم لأهل كل ملة لأنها تركت البينات التي جاء بها رسولها.
الثاني: البينات التي جاء بها نبي تلك الأمة ومن سبقه من الأنبياء، كما في بينات موسى عليه السلام لبني إسرائيل، والمعجزات التي جاء بها الإنبياء السابقون كصالح ومعجزته وهي ناقة صالح.
الثالث: معجزات النبي الذي آمنوا به، والبينات التي جاء بها الأنبياء الذين جاءوا من بعده.
الرابع: ما جاء به الأنبياء من البينات مطلقاً.
والصحيح هو الأخير، فمعجزات الأنبياء حجة على الناس من وجوه:
الأول: لزوم الأيمان بالله تعالى.
الثاني: التصديق بالأنبياء.
الثالث: التقيد بما يأتي به الأنبياء من أحكام الحلال والحرام.
الرابع: تصديق البشارات التي يأتي بها النبي السابق، وإخباره عن النبي اللاحق، كما في بشارة موسى وعيسى عليهما السلام بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت ان التفرق والإختلاف بينهم سابق لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلت: ان إتصال البينات وظهور المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة متجددة لهم لنبذ الفرقة والخلاف، بتصديق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام الكتاب والسنة.
ويفيد لفظ (جاء) تعلق البينات بما جاء به الرسل من عند الله مع أنها أعم وتشمل الآيات الكونية، ولكن بينات ومعجزات الأنبياء تدعو الى الوحدة والإتحاد فالفعل (جاء) يدل على المجئ الآيات الكونية سابقة في أغلبها الإنسان في وجوده ولايضر سبق وتقدم زمان الآيات الكونية في حجتها في المقام، ومخاطبتها العقل الانساني لنبذ الفرقة ومخالفة احكام الشريعة.
ولاينحصر موضوع البينات بمعجزات النبوة بالذات بل يشمل ما يترشح عنها من المنافع والفيض والبركة، تتجلى فيها آيات اضافية، تؤكد صدق التنزيل وصحة النبوة، ولزوم تعاهد الوحدة بين المسلمين، فان قلت ان ورد الفعل (جاء) بصيغة الماضي، والمنافع والآثار المباركة للآيات من اللامنتهي، الجواب من وجوه:
الأول:كفاية ماجاء من الآيات ومنافعها للحجة والبرهان وضرورة ترك الفرقة وإجتناب الاختلاف.
الثاني: الاصل هو الآيات البينات الظاهرة لكل الناس فقد يصر المستكبر على إنكار بركة تلك البينات.
الثالث: بيان تعدد البينات التي جاء بها الأنبياء ويحتمل هذا التعدد وجهين:
الأول: كل نبي جاء ببينة واحدة.
الثاني: شطر من الأنبياء جاء كل واحد منهم ببينة واحدة، وشطر جاء كل واحد منهم ببينات متعددة.
الثالث: يأتي النبي ببينة واحدة، ويأتي الرسول ببينات متعددة.
الرابع: كل نبي ورسول يأتي ببينات متعددة.
والصحيح هو الأخير، وهو من فضل الله على الأنبياء والناس جميعاً، وفي موسى عليه السلام قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( )، وفي مجئ البينات مسائل:
الاولى: الآية ثناء على الله تعالى، لأنها تبين عظيم قدرته في مجئ البينات والآيات الباهرات.
الثانية: في الآية بيان لفضل الله تعالى على الناس عامة، وعلى أهل الكتاب وأتباع الأنبياء خاصة بمجئ الأنبياء بالآيات والمعجزات.
الثالثة: مدح الأنبياء لتبليغهم البينات والآيات التي جاءوا بها من عندالله، ففي الآية إخبار الهي عن قيام الأنبياء بوظائفهم الرسالية أحسن
قيام، وإعانة الناس في دروب الهداية والرشاد.
الرابعة: تنزيه الأنبياء من أسباب الفرقة والإختلاف ولم تحصل الفرقة والإختلاف إلا خلافاً لما جاءوا به، وما دعوا الناس اليه.
الخامسة: وصول البينات وثبوت أثرها وموضوعيتها عند الناس، وتضمنها الزجر عن الفرقة والإختلاف بين الموحدين، مما يدل على الإثم العظيم والعقاب الأليم لمن شارك في الفرقة وتوسيعها.
السادسة: المدح والثناء للذي تقيد بأحكام النبوة ، وإجتنب الفرقة والضلالة، وتلقى البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة: وحدة الموحدين مقدمة للتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع ان الفرقة والإختلاف بين أهل الكتاب تخفف عن المسلمين أسباب المواجهة والقتال معهم جاءت الآية للتوكيد لاهل الكتاب على قبح الفرقة.
وبين المسلمين وبين أهل الكتاب في المقام عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء مجيء البينات، فكل من الفريقين جاءته الآيات الباهرات التي تدعوه لعبادة الله، والإتفاق على كلمة التقوى والتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية في دلالة على ان طاعة الله ورسوله أمر ظاهر جلي لا يقبل الترديد.
أما مادة الإفتراق فان المسلمين متعاهدون للوحدة، مجتمعون على كلمة واحدة هي التوحيد والنطق بالشهادتين، لا يزيغون عنها الى يوم القيامة ولا يختلفون فيها، فكل مسلم مؤمن بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله نزل عليه القرآن كتاباً جامعاًُ للأحكام الشرعية، ومع هذا فان الآية جاءت للتحذير من الفرقة والإختلاف مطلقاً لتكون واقية منهما، ومانعة من الخصومة والإقتتال من باب أولى.
قانون الواقية من الفرقة
جاءت الآية بالنهي عن الفرقة بين المسلمين، ولزوم عدم محاكاة الأمم السالفة في إختلافهم، ولابد ان الله جعل عند المسلمين حرزاً من الفرقة، وواقية من إتباع سنن الأمم السالفة في الفرقة، ومنع حصول تمام العلة لحدوث الفرقة والإختلاف بينهم، وتلك آية في الإرادة التكوينية وشاهد على بديع صنع الله عز وجل وتعاهده للأمة التي ورثت الأنبياء، وتحملت أعباء الدعوة الى الله بين الناس، ومن مصاديق تلك الواقية أمور:
الأول: إلتقاء المسلمين في النطق بالشهادتين، وهما سور جامع يلتقي داخله المسلمون، وجاءت الأحاديث بكفايتهما في تعيين هوية المسلم وحقن دمه، وصيانة أمواله.
الثاني: أداء الفرائض، وكل فريضة حرز من الفرقة، ومنها الصلاة، وهي حرز يومي متصل ويتصف بالشمول لأنه يتغشى المسلمين في جميع أصقاع الأرض.
الثالث: سنة الأذان وما فيه من الإشعار والإعلان، والدعوة الى وحدة المسلمين من جهات:
الأولى: توجه الخطاب التكليفي لكل مسلم ومسلمة بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم.
الثانية: إستحباب أداء الصلاة جماعة وحرص المسلمين على أدائها متحدين.
الثالثة: التذكير بوحدة المسلمين، ولزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الخروج على سنن الشريعة.
الرابع: إمامة القرآن للمسلمين، وصدورهم عنه، وهو قائد للوحدة والإتحاد، فمن الآيات في القرآن انه خال من أسباب الفرقة، وواقية من الإختلاف، وبرزخ دون الإنقسام وتعدد المذاهب، ومن آيات ومنافع عصمته من التحريف والتبدل والتغيير موضوعيته في عدم الفرقة بين المسلمين.
الخامس: تجرأ الكفار بالتعدي على ثغور وأمصار المسلمين، وإدراك المسلمين الحاجة للوحدة للتصدي للعدوان.
السادس: كثرة الأخطار وإتصال التهديد من أعداء الإسلام، مما يستلزم الوحدة بين المسلمين، لبعث الفزع في قلوب الأعداء، والاحتراز من أذاهم.
السابع: الشواهد التأريخية والحوادث التي تؤكد للمسلمين ضرورة الوحدة بينهم.
الثامن: سنة الصحابة في إجتناب الفرقة، وكذا التابعين ولم يعلم أرباب المذاهب الفقهية أنه سيكون لهم هذه الكثرة من الأتباع، أو أنه سيحصل تقسيم مذهبي وإختيارهم للإتباع والتقليد لأنهم كانوا في زمان خال من المذاهب والإنتماء المستقل للمذهب، مع القول بان الإجتهاد في المسائل الفرعية الصغروية ليس من الإختلاف المنهي عنه ما دام غير مخالف للنص والقواعد.
التاسع: ورود آيات القرآن التي تدعو الى وحدة المسلمين، وتمنع من الفرقة والإختلاف ومنها هذه الآيات الكريمة التي تعتبر مدرسة في الوحدة الإسلامية، وحصناً وواقية من الفرقة والتشتت.
العاشر: إدراك المسلمين لأضرار الفرقة والإنقسام، وحرصهم على إجتنابها.
الحادي عشر: مصاحبة الأضرار لحال الفرقة في حال حصول بداياتها، لذا تجد مضامين وقواعد الإتحاد والتذكير بنعمة الأخوة تأتي لوأدها في مهدها وتلك الأحداث ليست مجردة، بل تأتي مع الحجة والبرهان من القرآن والسنة والإجماع والإعتبار والقياس بالأمم الأخرى وما أصابها من الضعف والهوان بسبب الفرقة.
الثاني عشر: خوض المسلمين معارك الجهاد في سبيل الله، وهي من المناسبات لإدراك الحاجة للوحدة ونبذ الفرقة.
ويدرك كل مسلم لزوم قيامه بواجبه لمنع الفرقة، وتدخله بحسب حاله وشأنه للحيلولة دون وقوعها ، ويعلم مسؤوليته ووظيفته في المساهمة في محاصرة الفتنة والقضاء عليها في حال حصولها.
قانون الشهادتين حصن
لقد أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بالبعثة النبوية المباركة باعتبارها أعظم وأكبر دعوة للتوحيد في تأريخ الإنسانية وعالم النبوة، فمع كثرة عدد الأنبياء، وتعاقبهم إبتداء من أبينا آدم عليه السلام، فانه لم تشهد الأرض دعوة جهادية للتوحيد أوسع وأشمل من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما انها أنفردت بكثرة الأعداء، وتأليب الكفار بعضهم بعضاً على الإسلام.
ولقد واجه إبراهيم بشخصه الكريم نمرود وقومه، وواجه موسى عليه السلام وبنو إسرائيل فرعون وأضطروا الى الخروج الى التيه، وجاء عيسى بالآيات الحسية فلاقى القتل وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام فقاد الجيوش وخرج للغزو وتم له فتح أرجاء الجزيرة، وبعث الرعب في قلوب أعدائه، ولم يطلب من الناس الملك والسلطان بل أمرهم بالإقرار بالربوبية لله تعالى، والنطق بالشهادتين، ولم يأتِ هذا النطق الا مع رؤية الآيات الباهرات الحسية، وإدراك الآيات العقلية ومنها الإعجاز المتعدد في الآية القرآنية، لذا فانه لم يطلب من الناس الا ما هو واجب عيني على كل مكلف ومكلفة.
والنطق بالشهادتين أمر بسيط وليس مركباً، ولا يحتاج الى نوع مفاعلة وأذن من الغير، بل هو موضوع خاص بين العبد وخالقه فمع ان النبوة واسطة بين الله عز وجل والناس، فان النطق بالشهادتين خال من الواسطة ولا يستلزم مقدمات او إستحصال إذن من أولي الأمر والشأن ومن الآيات إستقلال العبد في قرار النطق بالشهادتين، فلا يحتاج الابن اذن أبيه أو رضا أمه مثلما تكون الآيات الدالة على التوحيد ظاهرة لكل إنسان.
ان التخفيف في النطق بالشهادتين آية إعجازية في الإرادة التكوينية والتشريعية ووسيلة لتثبيت الأخوة بين المسلمين، ومنع الأحقاد والثأر وأسباب البغضاء من التأثير عليهم، ومن مصاديق الحصانة في الشهادتين.
ان النطق بهما يجعل العبد مساوياً للمسلمين في الحقوق والواجبات، فبعد أن كان عدواً للإسلام، ويخشى المسلمون كيده وشره، يتلفظ بكلمتين فيكون أخاً لهم، ويفتحون له صدورهم وبيوتهم، ويكون أخاً لهم في الدين والإيمان، ويدرك ان هذه الأخوة أعظم وأكبر من الأخوة النسبية وصلات المصاهرة، وأنها أعم وأكبر، وتبدو معها الحياة أكثر بهجة وبهاء، ويزداد الأمل ويتسع ليشمل عالم الآخرة والسعي لنيل ما فيه من النعيم الدائم بأداء الفرائض والواجبات ويدرك الإنسان ان النعم تأتي مع النطق بالشهادتين دفعة واحدة، بالإضافة الى مجيء نعم أخرى على نحو التدريج والتوالي والتعاقب مما يستلزم منه الشكر لله.
ومن مصاديق الشكر تعاهد نعمة الأخوة، والحفاظ على الوحدة الإسلامية لأن رؤية النعم وكثرتها يبعث المسلم على إجتناب التفريط بها من ومن غيره، فيدخل العبد الإسلام ويبادر لإنقاذ غيره من أخوانه المسلمين من أسباب الفرقة لما يراه من النعم المترشحة عن الوحدة والتآلف، ويسعى في نشر معاني المودة والمحبة بينهم ويعطيهم درساً في لزوم الثبات على الوحدة وعدم الخروج عن الجماعة، كما انه يتلقى الدروس من المسلمين في لزوم تعاهد الوحدة الإسلامية وإجتناب الفرقة وأهلها.
وحاجة الفرد الواحد من المسلمين الى أخوانه في هذا الباب اكثر من حاجتهم لهم، وتتغشى الجميع منافع الشهادتين وما جعل الله لها من الموضوعية في الأحكام والمعاملات فلا يقف موضوعهما عند النطق ودخول الإسلام بهما، والتبدل النوعي في هوية الفرد، بل جعل الله ورسوله لهما في الشريعة ما يجعلهما حاضرين في الحياة اليومية للمسلمين، وفي كيفية التصرف مع المسلم وهما عهد يلزم المسلمين بالعناية بكل من ينطق بهما وحفظه وأمواله وعرضه، كما يؤهلانه للنكاح من المسلمة لنيل مرتبة التكافئ معها بالنطق بالشهادتين وفيه حرز من الفرقة والتشتت ووسيلة للإنشغال اليومي المتصل بتعاهد مضامين الأخوة بين المسلمين والمحافظة على أحكامها.
قانون التفضيل بعدم الفرقة
من مصاديق الإرادة التكوينية التفضيل بين الخلائق وقد فضل الله عز وجل الملائكة في الخلق وموضع السكن وطول العمر والإنقطاع الى العبادة والعصمة من الشهوة، وفضل الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض وبعث من بني آدم الأنبياء والمرسلين، كما تغشت مضامين التفضيل الأنبياء أنفسهم مع إكرامهم جميعاً بمرتبة النبوة التي هي أشرف مراتب التفضيل بين بني آدم قال تعالى [وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ]( ).
وفضل الله بني اسرائيل على أهل زمانهم في دعوة لهم لتعاهد الإيمان بالله والنبوة، بإعتبارهما علة التفضيل قال تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( )، وفضل الله المسلمين بالإسلام والإقرار بالتوحيد وهذا التفضيل على قسمين دنيوي وأخروي والأول على قسمين:
الأول: ما يشمل المسلمين قبل الإسلام ومنهم بنو اسرائيل الذين آمنوا برسالة موسى عليه السلام ثم رسالة عيسى عليه السلام.
الثاني: ما يخص المسلمين بعد البعثة النبوية وله مصاديق عديدة منها ما يستقرأ من هذه الآيات وهو على وجوه:
الأول: الشهادة لهم بالإيمان، بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] قبل ثلاث آيات، ويحمل الإيمان هنا على الإطلاق بالإقرار بالربوبية لله تعالى والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدل عليه ايضاً قرينة الحث على تقوى الله في ذات الله.
الثاني: الموت على الإسلام، ومغادرة الدنيا بتعاهد الشهادتين، ومن مصاديق الإسلام الإتحاد والأخوة الإيمانية ونبذ الفرقة والخلاف، قال تعالى في ذات الآية أعلاه [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( )، ومجيء الآية بصيغة الجمع دعوة الى تعاهد الوحدة، وبيان لموضوعيتها في الإسلام.
الثالث: الأمر الإلهي بالتمسك بالقرآن والسنة بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه].
الرابع: الأمر الإلهي بأن يكون التمسك بالقرآن والتمسك شاملاً للمسلمين جميعاً، لا يخرج منه فرد منهم.
الخامس: الزجر والنهي عن الفرقة والإختلاف، وإجتناب تعدد التأويل، وتباين التفسير لآيات القرآن وأحكام الحلال والحرام، وورد هذا النهي قبل آيتين بقوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] وفيه وجوه:
الأول: انه تفضيل للمسلمين.
الثاني: فيه دلالة على العناية الإلهية بالمسلمين وتأهيلهم لخلافة الأرض.
الثالث: المائز بين المسلمين والأمم الأخرى بلحاظ الفرقة وعدمها، فاذا تفرقت وأختلفت الأمم الأخرى فان المسلمين متحدون متآخون وغارقون بنعمة الأخوة.
السادس: نعمة الأخوة بين المسلمين، وهو شاهد على تفضيل المسلمين، وإعانتهم وجعلهم يتعاهدون الاخوة وينبذون الفرقة والاختلاف.
السابع: جاءت الآية بالأمر بالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عنوان تشريف وتفضيل للمسلمين، وتضمنت هذه الآية تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، بالأمر الإلهي بإجتناب الفرقة وما فيها من القبح الذاتي والكراهة العوضية، والآثار السلبية الضارة، لتبقى وحدة المسلمين شاهداً على وحدتهم وتمسكهم بالقرآن والسنة وحفظهم لمبادئ التوحيد.
بحث اخلاقي
الخلق حال في النفس يبعث على الأفعال عن سجية وملكة، وهو كالمرتكز للأقوال والأفعال الشخصية، وجاءت آيات القرآن لتجعل خلق المسلم ذا صبغة قرآنية ويأتي بالأفعال بداعي رضا الله تعالى، ومن الإعجاز في إعداد وتأديب المسلم قراءة القرآن في الصلاة اليومية لتكون تنقيحاً لأقواله، واستحضاراً لأفعاله وعرضها على القرآن وإصلاح الخطأ والزلل الشخصي، وتتضمن كل آية قرآنية تعليماً وإرشاداً للمسلمين، ومنها هذه الآية التي تتضمن المدح والذم، المدح للمسلمين لتنزههم عن أسباب الفرقة والإختلاف، والذم لغيرهم ممن أختار الفرقة والخلاف، ولقد حاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكمالات الانسانية، وجاء بالشريعة السمحاء التي تمنع من الفرقة والإختلاف، ولم يسجل التأريخ حصول فرقة او إختلاف بين الصحابة مدة أيام النبوة وتلك حجة وبرهان على إمكان التدارك ونبذ الفرقة والإختلاف، فقد عاش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة النبوية مدة ثلاث وعشرين سنة ولم يحصل بين المسلمين خلاف مع أنهم من قبائل شتى، وبينهم غير العربي، والسيد العبد، والغني والفقير، والمهاجر والأنصاري.
وهذه الآية مدرسة للأخلاق، لأن الدعوة الى عدم الفرقة والإختلاف يعني بالدلالة التضمنية على حسن خلق المسلمين من وجوه:
الأول: حال التقوى عند المسلمين، وجهاد النفس لمواجهة الهوى ومنع غلبته وسلطانه.
الثاني: تحلي المسلمين بالصبر في مواجهة الأحداث، وإجتناب مايحركهم نحو الغضب والإنفعال .
الثالث: حرص المسلمين على التقيد بما في القرآن من الأوامر والنواهي.
وهذه الآية تتضمن الأمر والنهي من وجوه:
الأول: إبتداء الآية بأداة النهي (لا).
الثاني: مجئ الآية بخصوص السجايا والمزاج، وما يحرك الانسان نحو التروي والتأني والوحدة وإجتناب الغضب والإنفعال وإختيار الفرقة والتشتت.
الثالث: التنزه عن طبائع الأمم الأخرى من الذين لم يتدبروا في أفعالهم، ولم يجعلوا موضوعية للآيات والدلالات الواضحات في أعمالهم وولائهم.
الرابع: السعي للسعادة الدائمة والإبتعاد عن أسباب العذاب الأخروي ومنها الفرقة والإختلاف.
وتنمي هذه الآية الفضيلة في نفس المسلم وتجعله يتسابق لفعل الخيرات، ويقدم العون لأخوانه المسلمين من غير مائز او فارق بينهم، ويحرص على تهذيب أفعاله بما يؤدي الى جلب النفع ودفع المضرة عن المسلمين وتوجيه القوى التي يرتكز عليها عمله من القوة الناطقة او العاقلة، والقوة الشهوية والغضبية لتعاهد وحدة المسلمين وهذا التعاهد على قسمين:
الأول: حرص المسلم على البقاء مع الجماعة.
الثاني: التقريب بين الأفراد والفرق، والمساهمة في تقليص الخلاف بينها. وتعمل هذه الآية الكريمة على جعل الحرص على وحدة المسلمين ملكة ثابتة عند المسلم لاتفارقه وان بلغ مراتب الجاه والشأن والسلطان، وهو من مصاديق شمول الخطاب التكليفي لكل المسلمين، لتكون هذه الملكة حرزاً من الفرقة.
ومن اللطف الالهي تعاهد الآية الكريمة لهذه الملكة، فلاتترك المسلم يختار عدم الفرقة إبتداء، كما تكون حرزاً له وتجعله مدة حياته حريصاً على الوحدة والإتحاد بين المسلمين، وهو من مصاديق التقوى الذي حثت هذه الآية المسلمين على بلوغ تمامها بالاجتهاد في مسالك الإيمان ومنها الوحدة بين المسلمين التي تعتبر إرتقاء في عالم الهداية، وعنواناً للفخر بين الأمم، وتهذيباً للأخلاق وتخلصاً من الكدورات وأسباب النفرة.
قانون البينات
البينات جمع بينة، وهي العلامة الواضحة، والحجة الظاهرة ويأتي لفظ البينات في القرآن على نحو الإستقلال لكفايته في الدلالة على المعنى، ويأتي ايضاً صفة للآيات كما في قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ]( )، والبينات من نعم الله تعالى على الناس ولم تنحصر بقوم دون غيرهم، وتلك آية من آيات الرحمة والرأفة الإلهية بالناس جميعاً، وأسباب تقريبهم الى الطاعة، وجعل نفوسهم تنفر من المعصية.
ويدل قانون البينات على ان الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم، ولم يكلهم الى عقولهم مع عظيم نعمة العقل، ولم يخلِ بينهم وبين الدنيا ووسوسة الشيطان، بل تفضل عليهم بتوالي البينات وتعاقب الآيات، وبعثة الأنبياء وكل نبي يأتي بآيات واضحات، ويغادر الى الرفيق الأعلى ولكن معجزاته باقية ويأتي نبي آخر من بعده بآيات ومعجزات إضافية أخرى تعضد وتؤكد معجزات الأنبياء السابقين وتكون صرحاً جديداً في عالم البينات الباهرات التي تدعو كل واحدة منها الناس للهدى والإيمان، ولا ينحصر الأمر بالبينات التي جاء بها الأنبياء، فهناك آيات كونية وبراهين في خلق الإنسان وحياته اليومية تحثه على الإتحاد مع غيره، وهذا الإتحاد على قسمين:
الأول: الإتحاد وفق مصالح ومنافع دنيوية.
الثاني: الإتحاد في مرضاة الله.
وجاءت الآية لتدعو الى الثاني، وتحذر من الفرقة بسبب المنافع الدنيوية، لأن الإتحاد بسببها مؤقت ولا يرتكز الى مباني ثابتة، فجاء الإتحاد بصبغة الإيمان واجباً على الموحدين لما فيه من تثبيت لمبادئ الإسلام في النفوس وصلاح للمجتمعات وطرد لأسباب الضلالة والشرك، ومن الآيات ان طاعة الله ورسوله تؤدي الى الوحدة بين المسلمين، فتارة تطلب الوحدة بالذات وأخرى تترشح بالعرض عن التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية.
ولموضوعية الإتحاد في عالم الأفعال والثواب تفضل الله تعالى بالبينات الواضحات والدلالات الباهرات لإعانة الناس على الإيمان والهدى بإعتبار ان الإتحاد رشحة من رشحات الإيمان، ومصداق عملي من مصاديقه، ودليل على الإقرار بالربوبية والتصديق بالنبوات والتقيد بأحكام الشرائع السماوية، وليس من حد محدود للبينات في الزمان والمكان، فصحيح ان النبوة ختمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا نبي بعده الا ان آيات الأنبياء باقية بين الناس في الوجود الذهني، والأخبار المتواترة وفي القرآن بإعتباره آية عقلية ووثيقة سماوية تثبت مضامين البينات وتؤكدها، وتدعو الى الإقرار بها وإستدامة تصديقها.
والبينات حصن من الفرقة وواقية من الإختلاف، لذا جاءت الآية بذم أهل الكتاب لحصول الفرقة بينهم مع ان البينات سبيل للنجاة من الفرقة والإختلاف، وفي الآية مدح للمسلمين لإتعاظهم بالبينات، وإتخاذها سلاحاً ضد الفرقة وضياء ينير لهم دروب الهداية والجهاد في سبيل الله.
وبالإسلام تبقى البينات حية غضة تنهل منها الأمم الدروس والعبر، ويرجع اليها الناس للإعتبار والإتعاظ وتلمس دروب الصلاح، فالبينات آية سماوية حافظ الإسلام على بقاءها بين الناس، وحضورها في الوجود الذهني والخارجي، وهي دعوة يومية للتخلص من الفرقة والإختلاف بدخول الإسلام والتقيد بأحكامه التي هي حصن من الفرقة الى يوم القيامة، وما يحصل الإختلاف والنزاع الا بخروج أحد الأطراف عن مبادئه وأحكامه وسننه، وأحكام الإسلام ثابتة الى يوم القيامة، وخروج بعض الجماعات أمر عرضي فلابد ان يزول لأنه لا يستطيع معارضة البينات الثابتة والظاهرة بوضوح للناس جميعاً.
علم المناسبة
ورد لفظ “بينات” في القرآن اثنتين وخمسين مرة، وكلها تؤكد ان البينات من عند الله وأنها رحمة بالناس لما فيها من الدلالة الواضحة والبرهان القويم على التوحيد والنبوة وجاءت البينات في القرآن على وجوه:
الأول: مجيء الأنبياء بالبينات والآيات الباهرات قال تعالى [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ]( )، وقال سبحانه [وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ]( ).
الثاني: ذكر مجيء البينات على نحو الإستقلال، كما في هذه الآية وتحتمل وجوهاً:
الأول: المراد مجيء الأنبياء بها.
الثاني: مجيؤها على نحو الإستقلال.
الثالث: تلاوة الأنبياء وأصحابهم وأنصارهم الآيات، وتذكير الناس بها.
الرابع: نزول البينات من عند الله.
الخامس: العنوان الجامع للوجوه أعلاه، والصحيح هو الأخير من غير تعارض بينها، والله واسع كريم فمن صفاته تعالى أنه قادر على كل شيء لا تستعصي عليه مسألة، وانه رحيم بالعباد لطيف بهم، يقربهم الى سبل الطاعة لذا تأتي البينات بكيفيات وصيغ متعددة.
ومن الآيات ان جاء القرآن يحث المسلمين على تلاوة آيات القرآن، كما انه يتضمن البراهين الدالة على وجود الصانع ووجوب عبادته، ومع أن الله عز وجل هو الذي يبين الآيات ويجعلها منكشفة ظاهرة، وكافية في البرهان فان القرآن وصفها في ثلاث مواضع بانها مبينات في دلالة على ما فيها من البيان الذاتي، وهو دعوة للإتعاظ والإعتبار بها، وكفايتها في الحجة والبرهان
وورد ذكر البينات بإعتبارها شاهد النبوة ومصداق الرسالة والحجة في الدعوة الى تصديق وإتباع النبي قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( )، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فجاءت الآيات لتخبر بان موسى عليه السلام جاء بالبينات الى بني اسرائيل لتكون دعوة الى تصديق نبوته وإتباعه قال تعالى [وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ]( ).
وفيه إشارة الى سبب من أسٍباب الفرقة والإختلاف وهو الإستكبار والإصرار والعناد، وعدم اتباع الأنبياء مع ما جاؤوا به من الدلالات الواضحات.
قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
بعد الآيات التي جاءت بحث المسلمين على تقوى الله، وعدم مغادرة الدنيا الا بالإسلام، ولزوم التمسك بالقرآن والسنة واجتناب الفرقة، وبعد ندبهم الى الدعوة الى الخير وفعل الصالحات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاءت هذه الآية في التحذير من سنن أهل الفرقة والإختلاف، ثم أختتمت بآية من الإرادة التكوينية، تبين عاقبتهم وما ينتظرهم من العذاب، وتحتمل الآية وجوهاً ثلاثة:
الأول: ارادة العذاب الأليم للذين إختاروا الفرقة والإختلاف في الدنيا.
الثاني: العذاب الأليم في الآخرة.
الثالث: المعنى الجامع للدنيا والآخرة، والقدر المتيقن من الآية هو الثاني، فان المراد في الآية هو الوعيد والتخويف من عذاب النار في الآخرة للذين يسعون في الفرقة والإختلاف بعد مجيء الآيات والبينات وقيام الحجة عليهم وهذا لايمنع من العذاب الابتدائي في الدنيا بما يكون درس وموعظة ودعوة للتدارك والندم، لذا ورد ان لفظ (يوم) الذي ابتدأت به الآية التالية متعلق بخاتمة الآية السابقة والتقدير: ولهم عذاب عظيم يوم القيامة.
وهل من ملازمة بين أول الآية وخاتمتها بمعنى ان الآية جاءت خطاباً للمسلمين للإمتناع من الفرقة، والإحتراز من محاكاة الأمم الأخرى التي إختارت الخلاف بين فرقها، فهل يعني هذا إنذار المسلمين بالعذاب الأليم، الجواب لا من وجوه:
الأولى: جاءت الآية للإخبار عن حال الكفار في الآخرة.
الثانية: الإنذار من محاكاة الكافرين في المعنى أعم من المماثلة في عالم الجزء.
الثالث: ترشح الثواب على المسلمين من وجوه عديدة منها أداء الصلاة والصيام والحج والفرائض الأخرى.
الرابع: شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته.
الخامس: قيام المسلمين بالدعوة الى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: يعتبر الإختلاف عند المسلمين في حال وقوعه جهتياً.
السابع: دلالة منطوق الآية على حصر العذاب بأهل الفرقة والخلاف من الأمم الأخرى، اذ جاء اسم الإشارة لإفادة الحصر والتعيين، وان الذين يصيبهم العذاب الأليم هم أهل الفرقة والإختلاف من الملل الأخرى.
الثامن: إرادة توكيد التحذير، وإكرام المسلمين بدعوتهم للتنزه عن فعل الذين كفروا، والذين يلاقون العذاب الأليم في الآخرة، وكأن الآية تقول للمسلمين، كما انكم لا تجتمعون مع الكفار في الآخرة وبينكما تضاد فكذا في الدنيا يجب أن يكون بينكما تضاد وتنافِ بان تكونوا متحدين في مقابل اختلافهم.
التاسع: من وجوه نجاة المسلمين من الفرقة والإختلاف تصديقهم بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه في سنته.
العاشر: تعتبر خاتمة الآية إنذاراً إضافياً للكفار، ودعوة لهم لدخول الإسلام للنجاة من العذاب وعلته وأسبابه، فصحيح ان الآية جاءت بصيغة الغائب الا انها تحكي حال الكفار يوم القيامة ليصل الى أسماعهم ومنتدياتهم نبأ ما ينتظرهم من العذاب الأليم.
الحادي عشر: جاءت الآية باسم الإشارة “اولئك” للبعيد الغائب والمراد ذم أهل الفرقة والإختلاف، وجاءت آيات القرآن لإكرام المسلمين والثناء عليهم وتحذيرهم من يوم الحساب وما فيه من العقاب، وحثهم على نيل الدرجات العلى فيه.
الثاني عشر: تدل خاتمة الآية بالدلالة الإلتزامية على سلامة وتخلص المسلمين من الفرقة والإختلاف، فهذه الآية وما فيها من المضامين تطرد الفرقة عنهم، وتلاحق أسبابها، وتدعو الى محاصرتها وعدم توسعتها سواء من جهة عدد الأطراف او المواضيع أو الأحكام والقواعد، لذا وردت الآيات بالصلح بين المؤمنين إن اقتتلوا، ومحاربة الطائفة التي تبغي وتصر على القتال.
الثالث عشر: وجود أمة من المسلمين في كل زمان تدعو الى الوحدة والإتحاد.
الرابع عشر: جاءت الآية ببشارة المسلمين بالنعيم الخالد، ووعدهم الجنة، مما يدل على ذكر عذاب الكفار في الآية للإشعار والبيان.
وجاءت الآية بالإخبار عن شمول أهل الفرقة والإختلاف بالعذاب على نحو العموم الإستغراقي لصيغة الجمع في الآية التي تدل عليها صيغة الجمع في اسم الإشارة “اولئك” الا ان يرد دليل خاص يخرج بعضهم بالتخصص او التخصيص وهو مفقود في المقام خصوصاً وانهم أعرضوا عن الدعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم تكتفِ الآية بذكر العذاب الذي ينتظر أهل الضلالة والفرقة، بل وصفته بانه عظيم لبيان كبر الذنب الذي إقترفوه، خصوصاً وان الفرقة والإختلاف لا يقفان عند حدود الإختيار والرأي بل هما فعل متجدد يظهر على اللسان والجوارح بصورة متتالية في اليوم والليلة، ويأتي فيها العذاب للظالم من عمله وعمل من يقتدي به من الموجود والمعدوم.
فيتحمل الأب وزراً من وراثة ابنه منه الفرقة والإختلاف، وان كان هذا الوزر لايسقط عن الابن مسؤوليته لأن البينات جاءته ايضاً على نحو الإستقلال، وتقتضي الوظيفة الشرعية ترك تركة الكفر والضلالة، بعد مجيء البينات وقيام الحجة.
ويحتمل العذاب بلحاظ جهة الإستحقاق وجوهاً:
الأول: يأتي العذاب نتيجة إختيار الكفار للفرقة والإختلاف.
الثاني: العذاب بسبب الإصرار على الكفر والجحود، والفرقة والإختلاف أمران يتفرعان عن الكفر.
الثالث: يأتي العقاب الاخروي بسبب إجتماع معاً، الكفر مع إختيار الفرقة والإختلاف بعد مجيء البينات وقيام الحجة عليهم.
الرابع: كل وجه من الوجوه أعلاه يستحق العذاب الأليم، وجاءت الآية للإخبار عن حال الكفار يوم القيامة والإخبار عن خلو موازينهم من الصالحات.
وبلحاظ لغة التشبيه في الآية، والتحذير من محاكاة أهل الفرقة فان العذاب الأليم يأتي نتيجة إختيار الفرقة والإختلاف والإعراض عن البينات والآيات الباهرات التي تكون دعوة سماوية للوحدة والإتحاد وإتباع سنن الأنبياء.
وتبين الآية موضوعية الحجة في عالم الحساب يوم القيامة ومع ان الآية تتضمن الإنذار والوعيد فانها جاءت لدعوة الكفار الى الإسلام والتخلي عن أسباب الفرقة والشقاق، والتخلص من الإختلاف والمغالطة والجدال وفساد العقيدة والشك والريب، ان الوعيد بالعذاب الأليم من اللطف الإلهي بالناس للنجاة منه بإجتناب أسبابه، ويتعلق الإخبار في الآية بالموجود والمعدوم من أهل الفرقة والإختلاف، فيشمل الأحياء منهم بتحذيرهم ودعوتهم للتخلص مما عليه أسلافهم والنجاة مما ينتظرهم من العذاب الأليم فكأن في الآية تشبيهاً اضافياً خاصاً بالكفار وأهل الفرقة والضلالة وتقديره تخلصوا من العذاب الأخروي بالإيمان والإقرار بالبينات ولا تكونوا كأسلافكم الذين إختاروا الفرقة والإختلاف.
وفي الآية إنذار من التفريق بين الأنبياء فلا يصح الإيمان بنبوة شطر منهم والكفر بشطر آخر، بل لابد من الإيمان والتصديق بنبوتهم على نحو العموم المجموعي، وهذا الإيمان برزخ دون الفرقة والنزاع لأنه يتضمن إتباع الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالشريعة الباقية الى يوم القيامة، ومن الآيات في القرآن انه يخبر عن نبوة الأنبياء السابقين ويدعو الى التصديق بها ويمنع هذا التصديق من الفرقة والإختلاف، فمن أسباب الفرقة تخلف فريق من أتباع النبي السابق عن تصديق النبي اللاحق، وإصرارهم على إنكار النبوة اللاحقة، فجاءت الآية للإنذار والزجر عن هذا التخلف، وبيان سوء عاقبته في الدنيا والآخرة، أما عاقبته في الدنيا فاختيار الفرقة والإختلاف والخصومة مع أهل الإيمان وغيرهم مع التباين الموضوعي في الاختلاف، فالذين يتخلفون عن الإيمان تحصل بينهم فرقة وإختلاف لترشحهما قهراً عن الضلالة وإتباع الهوى.
ان إختتام الآية بلغة الإنذار والوعيد للكافرين بسبب سلوكهم طريق الفرقة والإختلاف، دعوة للمسلمين لتعاهد الوحدة بينهم، والمحافظة على معاني ومفاهيم الأخوة التي جعلها الله نعمة دائمة يتخذونها واقية من النفس الشهوية والغضبية، فجاءت الآية بالإخبار عما ينتظر الكافرين بسبب الفرقة والإختلاف مما يدل على ان الخروج عن طاعة الله ورسوله ووحدة المسلمين فعل يستحق مرتكبه أشد العذاب يوم القيامة، والمسلمون منزهون عن الفرقة والإختلاف، ومن أسباب تنزههم تلاوة هذه الآية والمناجاة بالتمسك بالقرآن والسنة ونبذ الفرقة والإختلاف والإقتتال بينهم.
قانون تعدد الغاية من اللفظ القرآني
من الإعجاز في الآية القرآنية تعدد الغاية منها وهذا التعدد على وجوه:
الأول: التعدد بلحاظ مضامين الآية القرآنية، فيأتي أول الآية في شيء وأوسطها في شيء، وآخرها في شيء آخر، فتتعدد الغايات فيها.
الثاني: عدم إنحصار موضوع الغاية في كل شطر من الآية بالفرد المتحد، بل تكون الغايات المتعددة في كل واحد منها، فاذا جاء أول الآية في شيء فان الغايات السامية فيه عديدة، فمن الغايات في هذه الآية وجوه:
الأول: إختصاص المسلمين بالخطاب القرآني.
الثاني: عدم إنحصار الخطابات القرآنية بالأوامر، بل أنها تتضمن النواهي.
الثالث: فضح الأمم الأخرى، وبيان سوء ما إقترفوا.
الرابع: عدم الإفتتان بأهل الكتاب.
الخامس: دراسة حال الأمم الأخرى، والإلتفات الى الجوانب القبيحة التي يحاولون إخفاءها ومنها الفرقة والإختلاف.
السادس: ضرورة وحدة المسلمين والتقيد بأحكام الحلال والحرام.
السابع: بشارة المسلمين بأنهم أمة عظيمة سيكون لها شأن في التأريخ، وان قلتهم في بداية التنزيل ليس عنوان ضعف بل هي نواة للأمة التي ترث الأرض، وتنفرد بشرف تصديق الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي.
الثامن: تهيئة أذهان المسلمين لما سيواجهونه من الفتن والتعدي من الآخرين ولزوم الإحتراز منها بالإتحاد، والتقيد بسنن نعمة الأخوة.
التاسع: تفضل الله تعالى بإنزال البينات على اهل الكتاب وقيام الحجة عليهم.
العاشر: وجوب الإتعاظ من البينات والبراهين الشرعية.
الحادي عشر: إخبار المسلمين عن حال الكفار يوم القيامة، وما ينالهم من العذاب الأليم، وفيه شفاء لصدور المسلمين، وإشارة الى الفلاح وحسن إختيار الإيمان والتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني عشر: حث الكفار على التوبة والإنابة، وترك الفرقة والإختلاف، وهذا الترك لا يتحقق الا بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام الكتاب والسنة.

علم المناسبة
ورد لفظ العذاب في القرآن مائتين وأربع وستين مرة، ويحكي هذا العدد الكثير شدة العقاب الذي يلاقيه الكفار والمجرمون، ومع أنه يأتي غالباً بصيغة الإخبار، الا انه يتضمن في مفهومه أموراُ:
الأول: الوعيد والتخويف للكافرين.
الثاني: التحذير والإنذار من المعاصي والذنوب.
الثالث: الوعد الكريم للمسلمين بالأمن من العذاب يوم القيامة.
الرابع: مدح المؤمنين الذين يحرصون على السلامة من العذاب الأخروي، ويجتنبون أسبابه.
الخامس: توكيد حقيقة يوم القيامة، ووقوع الجزاء في الآخرة على الأعمال في الدنيا.
وقد يأتي لفظ “العذاب” في القرآن بخصوص واقع حاصل في الدنيا كما في قوله تعالى [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ]( ).
ولكنه يبين إنصراف العذاب الدنيوي وتفضل الله عز وجل بدفعه عن بني إسرائيل، وتبين الآيات الأخرى سوء عاقبة آل فرعون وما ينتظرهم من العذاب الأليم، في إشارة الى ان الله عز وجل هو الذي يعاقب بالعذاب، ولا يعاقب الا من قامت عليه الحجة وإستحق العقاب الأليم.
وجاء في القرآن وصف العذاب بانه عظيم أربع عشرة مرة في توكيد لشدته، وان الإنسان يعجز عن تصوير ما فيه من الأذى والألم الشديد، ويتعلق وصف العذاب بانه عظيم بعقاب الكفار يوم القيامة لبيان إنفراده بشدة لا تحصل في الدنيا خصوصاً وان العذاب الأخروي مستديم ودائم بخصوص الكفار والمنافقين والذين يميلون الى الكذابين، ويقومون بتحريف التنزيل ولا يقبلون الا ما يلائم أهوائهم قال تعالى [لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
وقد يظن المرء ان التفرق والإختلاف لا يستحق العذاب الأليم وأنه من الصغائر، وقد يختلف إثنان ولكن كل واحد منهما متقيد بالأصول والقواعد فجاءت هذه الآية لتؤكد قبح الإختلاف، وانه ذنب عظيم يستحق العقاب الأليم في الآخرة، وتحتمل جهة الإنذار والوعيد في الآية وجوهاً:
الأول: توجه الإنذار والوعيد الى الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: شمول الإنذار لأهل الفرقة والإختلاف، من أهل الكتاب.
الثالث: تنبيه المسلمين الى ضرورة إجتناب الفرقة والإختلاف، وحثهم على الإمتناع عن سنن الأمم الأخرى التي إختارت التشتت والإنقسام.
الرابع: من مصاديق الفرقة والإختلاف، ترك إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختلافهم مع أحكام النبوة، فيحصل الإختلاف من طرف واحد يختار الفرقة والإنشقاق وعدم إتباع سنن النبوة والتصديق بالآية الكريمة، وبما ان المسلمين مؤمنون بالتنزيل ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم مطهرون عن هذا الوجه من الإختلاف فيكون المراد من التشبيه في الآية تحذير المسلمين من إتباع أهل الكتاب وأهل الفرقة والإختلاف في الطبائع والسجايا، الذين اظهروا العناد والإصرار والصدود.
وتؤكد خاتمة الآية نزاهة المسلمين من هذا الإختلاف بدليل إنحصار العذاب الأليم بأهل الفرقة والإختلاف، وتكون الغاية من التشبيه دعوة المسلمين الى الإتحاد في إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإجتماعهم على الإعتصام بالقرآن والسنة وعدم الخروج عن أحكامهما لنهي المسلمين عن ادنى درجات الإختلاف، وصرف الطبيعة من الفرقة ومقدماتها.
فالآية تمدح المسلمين لاجتنابهم طريق الفرقة والإختلاف والخروج على النبوة، وجاءت على نحو الجزاء على حسن إختيارهم الإسلام بتحذير من صفات وأفعال أهل الفرقة والإختلاف، وتحثهم على لزوم عدم التشبه بهم فيما هو أعم من الفرقة والإختلاف.
قانون عذاب عظيم
من الآيات الإعجازية في الآخرة أنها عالم الحساب والجزاء، فلا تقف أحكامه عند الحساب، مع ما فيه من الأهوال ويمكن إعتبار الحساب وجهاً من وجوه الجزاء، لأن المؤمنين حينئذ في مأمن من الفزع والخوف، قال تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، ومن أحكام يوم القيامة تضمنه للحساب وأفضل وجوه الثواب، وأشد أنواع العقاب، وتلك آية ينفرد بها يوم القيامة،
فترى الناس في الدنيا منهم من ينال مراتب من النعيم والثراء والأمن والعافية، ومنهم من يتعرض للإبتلاء والأذى، ويصاب بالفقر والجوع والمرض من غير حصر للفريق الأول بأهل الإيمان، والفريق الثاني بأهل الكفر لأن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان فيكون كلاً من الغنى والفقر إمتحاناً للعبد، وكذا الغنى والفقر، والجاه والشأن ونحوها.
أما في الآخرة فالأمر مختلف إذ أنها دار الحساب والجزاء، ويقف فيها الناس للحساب، ليفوز المؤمنون بالثواب العظيم الذي لا يأتي عن إستحقاق بل يأتي فضلاً من عند الله، وإنجازاً لوعده الكريم للمؤمنين الذين عملوا الصالحات بالجنة والنعيم الدائم.
ولا يكسب الكافرون الا الخسارة والخزي، والعقاب الأليم لما إرتكبوه من الآثام، وفي عقابهم وجوه:
الأول: يكون العقاب بمقدار الإثم، الحاقاً له في إحتساب الإثم في الدنيا وعمومات قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا]( ).
الثاني: إنحصار العقاب بموطن مخصوص من مواطن يوم القيامة، ووقوعه في زمان يساوي زمان الذنب والمعصية.
الثالث: إستدامة العقاب وشدته.
والصحيح هو الثالث، وعليه الآيات القرآنية فالعقاب عنوان للسخط الإلهي، وهو جزاء على كفر وفسوق العبد وإختياره المعصية مع أن الله عز وجل خلقه لعبادته وطاعته قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، لذا تصف الآيات عذاب الكافرين بانه اليم، وأنه شديد وأنه عظيم لبيان هوله وإتصاله وشدة وقعه على الكافرين، وفي هذا البيان تحذير وإنذار إضافي من المعصية ومنها الفرقة والإختلاف، ودعوة للمسلمين للتدبر في منازل الإيمان، وتبكيت وتوبيخ للكفار، وحث لهم على التوبة والإنابة والنجاة من شدة العذاب.
لقد جاءت الآيات القرآنية بالوعيد على الكفر بالخلود في الجحيم وأنذرت الناس من شدة العقاب يوم القيامة،وحذرت من الفرقة والإختلاف وعدم إتباع الأنبياء، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات العقلية والآيات الباهرات لجذب الناس بالحجة والبرهان الى منازل الإيمان ونجاتهم من العذاب الأليم يوم القيامة.

بحث بلاغي
من وجوه البديع “التعليل” ويؤتى به للتقرير، ومخاطبة العقل الإنساني لقبول الأمر أو الحكم وجعله أكثر رسوخاً في الوجود الذهني ويأتي التعليل بوجوه منها:
الأول: مجيء الحروف التي تدل عليه مثل اللام، وكي، ولعل كما في قوله تعالى قبل آيتين [ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ].
الثاني: بيان الحكمة من الأمر.
الثالث: ذكر المنافع التي يتضمنها الأمر أو الحكم.
الرابع: ورود الغاية منه، كما في قوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]، فالله عز وجل ليس محتاجاً لأفعال العباد، ولكنهم هم الذين يحتاجون الى فعل الصالحات ومنها تعاهد المسلمين للوحدة فيما بينهم ضمن التقيد بأحكام الشريعة، وينالون العقاب بفعل السيئات وإرتكاب الذنوب، ومنها الإختلاف والنزاع وعدم الإقرار بالنبوات، فصحيح ان عدم الإقرار بالنبوة كفر وضلالة الا انه يدخل ايضاً ضمن مصاديق الإختلاف، لأنه مخالفة للوظيفة الشرعية للعباد ولزوم اتحادهم في تصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من غايات الآية
في الآية مقاصد سامية منها:
الأول: بعد الأمر الإلهي المتوجه الى المسلمين بالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاءت هذه الآية لتحذر من محاكاة أهل الفرقة والإختلاف، والجمع بين الآيتين يدل على وجوه:
الأول: ان غير المسلمين تخلفوا عن الوظائف الشرعية ولم يقوموا بالدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاءت هذه الآية لندب المسلمين الى الإمتثال للأوامر الإلهية في الآية السابقة.
والتحذير من محاكاة الذين إنشغلوا بالفرقة والإختلاف عن الدعوة الى الخير والأمر بالصلاح والنهي عن الفواحش والسيئات، ولولا الفرقة لإلتفتوا الى وظيفتهم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالمعجزات التي تدل على صدق نبوته وتقدير الآية: لا تكونوا كالذين تفرقوا وإختلفوا ولم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
الثاني: إرتقاء المسلمين في مراتب التقوى بالتنزه عن أفعال أهل الفرقة والخلاف.
الثالث: تأهيل المسلمين لوظائف خلافة الأرض، التي خلق الله عز وجل الإنسان من أجلها.
الرابع: تترتب على مجيء المعجزات مسؤولية عظيمة على الإنسان وتملي عليه لزوم العمل بمضامينها، والتقيد بأحكامها، وهي حجة وبرهان على وجوب عبادة الله والإمتثال لأوامره التي تتجلى في أحكام القرآن، فتحث الآية المسلمين للإنتفاع الأمثل من آيات النبوة والمعجزات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: كما يظهر التباين يوم القيامة بين المسلمين والكافرين، ونيل المسلمين المراتب في الجنة العالية، ويلقى الكفار في الجحيم، فان الآية تدعو المسلمين الى فعل الصالحات وإظهار الإحتراز من أفعال الكفار.


قوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]الآية106

الاعراب واللغة
قوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ]
يوم: ظرف زمان منصوب متعلق بمحذوف، والتقدير: اذكروا يوم، ويجوز ان يكون العامل فيه الصفة التي اختتمت بها الآية السابقة والتقدير: عظيم عذابهم يوم.
تبيض: فعل مضارع مرفوع، وجوه: فاعل مرفوع بالضمة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة الظرف اليها.
تسود وجوه: عطف على جملة تبيض وجوه.
فاما الذين أسودت وجوههم: الفاء للتفريع، وتتضمن معنى الإستئناف.
أما: حرف شرط وتفصيل، الذين: اسم موصول في محل رفع مبتدأ.
أسودت: فعل ماضِ، وجوه: فاعل مرفوع بالضمة، وهو مضاف، والضمير (هم) في محل مضاف اليه، وجملة أسودت وجوههم صلة الموصول.
قوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ]
الهمزة: للإستفهام الإنكاري، كفرتم: فعل ماضِ وفاعل.
بعد: ظرف زمان متعلق بكفرتم، ايمانكم: مضاف اليه وهو مضاف، والضمير الكاف مضاف اليه.
[فَذُوقُوا الْعَذَابَ]
الفاء: الفصيحة لأنها أفصحت عما هو مقدر.
ذوقوا: فعل وفاعل، العذاب: مفعول به منصوب بالفتحة.
[بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]
بما: جار ومجرور، وما مصدرية، مؤولة مع مدخولها بمصدر مجرور والتقدير بسبب كفركم.
كنتم: فعل ماضِ ناقص وأسمه، تكفرون: جملة فعلية من فعل مضارع، والواو: وهو فاعل.
وجملة تكفرون في محل نصب خبر كنتم.
في سياق الآيات
جاءت الآيات السابقة في خطاب للمسلمين، وحثهم على التقيد بمضامين الإيمان والإرتقاء في منازل التقوى، وتعاهد نعمة الأخوة وتذوق ما فيها من الفيض والبركات، واجتناب محاكاة أهل الضلالة والكفر الذين اختاروا الفرقة والتشتت والخصومة، الذاتية فيما بينهم بترك التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي، اذ لا يصح الإيمان ببعضهم وإنكار نبوة بعضهم الآخر،
وجاءت هذه الآية الكريمة لترغيب المسلمين بفعل الطاعات بالإخبار عن حسن الثواب الذي ينتظر المسلمين، وشدة العقاب الذي ينتظر الكفار وما يفيد التضاد في الجزاء، ومحل الإقامة والآثار المترتبة على الحساب والجزاء التي تظهر في الحال على الناس من كلا الفريقين، مما يدل على الحياة والإحساس في عالم الآخرة وهو سبب يجعل الناس يحرصون على الإستعداد ليوم الحساب والسعي لما فيه من البشارات، وإجتناب ما فيه من العقاب الأليم.
وبينت الآية ان التباين في الدنيا لن يترك سدى، وان عالم الآخرة أشد وأكثر تبايناً، لمضاعفة الثواب لأهل الطاعة، وشدة عذاب أهل المعصية، وبلحاظ نظم الآيات فان الفرقة والإختلاف سبب للندم يوم القيامة، وعلة لإسوداد وجوه الذين يختارون الفرقة ويسعون في دروب الإختلاف.
ومن الإعجاز في سياق الآيات ان الآيات السابقة لم تذكر سبل الطاعة وحدها، بل ذكرت أسباب المعصية التي تتمثل في المقام بالفرقة والإختلاف وما يدلان عليه من معاني الكفر والجحود والعناد، ليأتي بيان حال الآخرة شاملاً لأهل الطاعة وما هم فيه من النعيم، وأهل الفرقة والإختلاف وعذابهم في النار، واذ ذكرت هذه الآية إسوداد وجوه الكفار كسمة من سمات أهل النار فان الآية التالية اختصت ببيان حال أهل الجنة وبياض وجوههم وما يتغشاهم من رحمة ألله، لتوكيد التباين بين الفريقين، ولما أختتمت الآية السابقة بإنذار الكافرين والجاحدين الذين تفرقوا وإختلفوا وأخبرت بان لهم عذاباً عظيماً ابتدأت هذه الآيات بلفظ “يوم” للإشارة بان العذاب العظيم يكون في قوم القيامة.
واذ جاءت الآية السابقة بذكر البينات وكفايته كحجة ودليل يدعو الناس للإيمان، جاءت هذه الآية لتؤكد على حسن عاقبة من يؤمن بالبينات ويتبع الأنبياء على نحو العموم المجموعي والصدود عن البينات وترتب العقاب عليه.
وجاء لفظ يوم بعد ان أختتمت الآية السابقة بالإخبار عما ينتظر الكفار من العذاب العظيم، ويدل على ان يوم القيامة هو الوعاء الزماني لهذا العذاب فتستقرأ وجوه ومفاهيم من شدة العذاب، منها طول هذا اليوم وتعدد المواطن فيه، قال تعالى [وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]( ).
إعجاز الآية
بدأت الآية بالظرف “يوم” وفيه مسائل:
الأولى: انه عنوان ليوم القيامة وزمان الجزاء، ومع طول زمان وعدة هذا اليوم وهو من عالم اللامنتهي فانه جاء بلفظ ينصرف في عالم الدنيا الى ساعات نهار واحد يمتد من طلوع الفجر او من طلوع الشمس الى مغيبها، الا ان المقصود أعم واكبر للتباين في الموضوع والماهية والحكم بين الدنيا والآخرة.
الثانية: من الآيات ان الناس جميعاً يعلمون حقيقة طول هذا اليوم وكأن اليوم في الدنيا اسم مجازي، وان اليوم حقيقة هو اليوم الآخر،.
الثالثة: هذا الإتحاد في اللفظ والتباين في المعنى وسيلة عقائدية ولغوية وعرفية لحث الناس على الإنتفاع من كل يوم من أيام الدنيا في مرضاة الله.
الرابعة: الآية تذكير بيوم القيامة، والإستعداد له.
الخامسة: في الآية دعوة للإحتراز في كل يوم من الفرقة والخلاف، فاذا كان الجزاء يوم القيامة على الإتحاد او الفرقة في أيام الدنيا، فلابد من الحرص على الإتحاد وطاعة الأنبياء في كل يوم من أيام الدنيا.
وقدمت الآية الجزاء الحسن لأهل الطاعة وبياض وجوههم وفيه أي في هذا التقديم ترغيب بالطاعة وندب الناس اليها، ودعوة المسلمين لتعاهد الوحدة والألفة والأخوة والمحبة بينهم، ومن الإعجاز ان الآية لم تكتفِ بالإجمال في ذكر الذين تسود وجوههم بل ذكرت علة وسمهم بسواد الوجه وهي إختيارهم الكفر بعد الإيمان، في دعوة للكفار للتدارك والإنابة والتوبة، وحث للمسلمين على تعاهد سبل الإيمان والفوز بالثواب العظيم.
واذ جاء أول الآية بتحذير ونهي المسلمين من الفرقة والشقاق فان خاتمتها جاءت بالإخبار عن حال أهل الفرقة والإختلاف من الأمم الأخرى، وما ينتظرهم من العذاب الأليم يوم القيامة.
لتكون خاتمة الآية حثاً إضافياً للمسلمين للتنزه عن الفرقة والإختلاف للتباين بينهم وبين الكفار في الدنيا والآخرة، وبذا يتجلى وجه من وجوه المثل القرآني بان يأتي المثل في القرآن لبيان المائز الذي يميز المسلمين وفوزهم بالنجاة من العذاب الأليم لإختيارهم التصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه في سنته، وهذا التصديق والإتباع من أهم مصاديق الوحدة والإتحاد عن حال الكفار في الآخرة، لينتفع المسلمون مما في القرآن من لغة الوعد والوعيد، الوعد لهم بالجنة، والوعيد للكفار وأهل الفرقة والإختلاف بالعذاب الأليم الذي تكون الشهادتان واقية منه بفضل الله تعالى.
ومن إعجاز الآية بيان موضوعية الحجة في عالم الحساب يوم القيامة، اذ انها ذكرت أمرين:
الأول: مجيء البينات بما يكفي للهداية والإيمان.
الثاني: حصول الفرقة والإختلاف بعد مجيء البينات، ليتحمل كل مكلف وزر عمله وإختياره الفرقة والخصومة والخروج على سنة الأنبياء وعدم امكان الإعتذار بوراثة الفرقة، ولا تنحصر مسؤوليات المسلمين ووراثتهم لسنن الأنبياء باصلاح الذات بل بالسعي ووعظ ونصح الآخرين ودعوتهم للايمان باعتباره مصداق الاتحاد.
وجاءت الآية بخصوص عالم الآخرة، ولم تذكره على نحو التعيين ولكنها أشارت اليه بذكر اليوم مما يدل على إقرار الناس بعالم الآخرة وانه المتبادر عند المسلمين من لفظ اليوم، وتبين الآية جانباً من أحوال يوم القيامة بما يبعث الفزع والخوف في نفوس الكافرين، والسكينة في قلوب المسلمين.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (تبيض وجوه)، ولم يرد لفظ (تبيض) ولفظ (تسود) الا في هذه الآية الكريمة.

مفهوم الآية
تبين الآية الملازمة بين عالم الأفعال في الدنيا، وعالم الحساب في الآخرة، والآخرة في طول الدنيا وليس من فصل بينهما، بإعتبار ان المكث في البرزخ والقبر من عالم الآخرة، وفي الآية اخبار عن عدم ترك الناس سدى مما يعني لزوم إستعدادهم لعالم الحساب، ويتجلى هذا الإستعداد بمصاديق عديدة منها تعاهد الأخوة الإيمانية، والتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية التي يترشح عنه الفلاح في الآخرة، ومن مفاهيم الآية ان الناس ليسوا سواء في الآخرة بل على طرفي نقيض، فأما سعادة كاملة وأما إقامة في العذاب الأليم.
لقد جاءت حقيقة الجزاء الأخروي بسيطة في كل طرف من طرفيها، ليسهل على الناس إدراك عالم الجزاء والإحتراز له، والسعي لنيل السعادة الأخروية، اذ تبعث الآية الشوق في النفس لبياض الوجه، والنفرة من سواده، خصوصاً وان البياض والسواد جاءا كناية عن الثواب والعقاب ومصداقاً لهما وتخبر الآية عن قاعدة كلية وحكم ثابت من أحكام يوم القيامة، بتقسيم الناس الى قسمين بلحاظ أعمالهم في الحياة الدنيا.
وجاءت الآية بصيغة الإستفهام الإنكاري بخصوص أهل الجحود والإختلاف، ويدل في مفهومه على أمور:
الأول: توكيد إقامة الحجة عليهم.
الثاني: لزوم تعاهد الإيمان، وعدم ترك منازله.
الثالث: قبح الكفر مطلقاً.
الرابع: سوء عاقبة الكفر، وشدة عذاب من يكفر بعد الإيمان.
الخامس: الثناء على المسلمين لمبادرتهم للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الآيات والتنزيل من عند الله.
السادس: إنتفاء الإرتداد عند المسلمين، وبشارتهم ببياض الوجوه يوم القيامة.
السابع: منع الإفتتان بالكافرين وما عندهم من زينة الدنيا، والإخبار بانه سيكون وبالاً عليهم يوم القيامة لأنهم إختاروا الكفر والجحود.
الثامن: مع إسوداد الوجه يأتي التوبيخ والتبكيت الذي يزيد في حسرة وألم الكافرين ووطأة العذاب عليهم.
التاسع: الملازمة بين الكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة.
العاشر: تذكير الكافرين أوان العذاب الأخروي بعلته، وان الكافر هو الذي ظلم نفسه وسبب بعذابه لقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] ويدل في مفهومه على نجاة المؤمنين من العذاب يوم القيامة، وانه خاص بالكافرين والجاحدين، وتتضمن الآية مسائل:
الأولى: الوصف العرضي لحال أهل الإيمان بما يدل على فوزهم وسعادتهم ونيلهم لما كانوا يرجون ويسعون اليه.
الثانية: ظهور علامات الأسى والألم والحزن على وجوه الكافرين.
الثالثة: سوء عاقبة الكافرين.
الرابعة: التحذير من الكفر بعد الإيمان.
الخامسة: نزول العذاب الأليم بأهل الفرقة والإختلاف والجحود بالربوبية والنبوة.
الآية سلاح
ان بيان أحوال الناس يوم القيامة وسيلة لتنقيح الأقوال، وتهذيب الأخلاق، وبرزخ دون العناد والإصرار والريب وإثارة الشكوك، ويتضمن وصف حال المؤمنين في الآخرة، مدحاً وثناء عليهم اذ ان بياض الوجوه عنوان البشارة والإستبشار، وهو وسيلة للحرص على الثبات في دروب الإيمان وإجتناب مسالك الضلالة والغواية.
لقد جاءت الأيات بندب الناس الى الإيمان، وجاء الأنبياء بالمعجزات الباهرات لتكون وسيلة سماوية مباركة للتصديق بالنبوة، وبرزخاً دون الإقامة على الكفر والصدود، وأنزل الله الكتب السماوية لبيان الأحكام الشرعية، وجاءت هذه الآية لتتتضمن الوعد والوعيد، الوعد بالجنة وبياض الوجه، وما فيه من معاني الرضا والسرور، والوعيد بالنار وسوء الوجوه وما فيه من الحزن والحسرة والألم، لتكون الآية عوناً على الإيمان، وسبباً للصلاح، وحرزاً للنجاة.
لقد أراد الله عز وجل ان يكون عالم الآخرة مفتاحاً للعلوم، ومناسبة للتدبر في آيات الخلق والنشأة وعواقب الأمور، وإستحضاره في عالم الأفعال، فمتى ما أدرك الإنسان ان وراءه ثواباً وعقاباً فأنه يعمل ما يرجو به الثواب، ويتجنب ما فيه العقاب.
إفاضات الآية
تضمنت الآية الثناء على المسلمين ببيان وصف عرضي لهم يبعث على الغبطة والفرح بفضل الله، ليسبح المؤمن في أنوار البهجة والكرامة، ويؤدي الفرائض والطاعات عن ملكة، ويدرك ببصيرته إشراقة البياض على وجهه وفي أقواله وأفعاله، ويلتقي المؤمنون بآية في الخلق والتكوين وهي بياض الوجوه المعنوي والإعتباري مع أنه يوجد في المؤمنين من هو أسود وأسمر ونحوهما.
الا ان اللقاء في الإيمان ينعكس على الوجوه والسنخية، فتجمعهم سمة مباركة تتغشى جميع المؤمنين والمؤمنات، فتكون مرآة لثباتهم على التوحيد والنبوة، وعنواناً لمقامات العز والرفعة والخلود في النعيم، كما يأتي بياض الوجوه من التفاني المحض في مرضاة المعبود، والمشاهدة الحضورية.
وفي الآية دعوة لمعرفة عظيم قدرة الله وسعة فضله، وحتمية الحساب والجزاء الأخروي وانه لطف ورحمة من عند الله بالمسلمين، ليفوزوا بالنعيم الخالد كما فازوا بوراثة الأرض وتعاهدوا سنن الأنبياء وواظبوا على العبادات والفرائض.
ان بياض الوجوه في الآخرة شاهد على إصطفاء الله عزوجل للإنسان وأهليته لمباهلة الله به الملائكة، فقد سأل الملائكة كيف يجعل الله فيها من يفسد فيها، فصدرت من الإنسان معاني التقوى والإنقطاع الى الله، فجزاه الله اشراقة الوجوه في الآخرة والبشارة والسعادة الدائمة، وإحاطة الملائكة به من كل جانب فرحاً به وثناء عليه وعرفاناً بحسن صنيعه وإخلاصه العبودية لله تعالى، وتجعل الآية نفس المسلم تمتلأ رضا واستبشاراً بما أعد الله له من الثواب والجزاء الحسن.
الآية لطف
من آيات الربوبية والفضل الإلهي على العباد، ان المؤمن يحظى بعطاء غير متناهِ من الله عز وجل ويأتي هذا العطاء عن غير إستحقاق، ولكنه لطف وشاهد متصل على كرمه وجوده سبحانه، وجاءت هذه الآية لبيان عرض خاص بأهل الجنة لا يعرض لغيرهم، عرض كريم يبعث الإنسان على السعي الدؤوب لنيله والفوز به، فهذه الآية الكريمة لطف بالناس من وجوه:
الأول: الإخبار الإلهي عن حال من أحوال الآخرة.
الثاني: ذكر الضدين معاً، حال المؤمنين وما هم فيه من السعادة، وحال الكافرين وما هم فيه من البؤس والحزن.
الثالث: بشارة المسلمين بحسن العاقبة.
الرابع: ظهور أثر النعمة والفضل الإلهي على وجوه المسلمين في الآخرة.
الخامس: حث الكفار على ترك الكفر والفرقة والإختلاف والجحود بالترغيب بحسن عاقبة المؤمن وإنعدام الحواجز بينهم وبين الإيمان، فمن اللطف الإلهي ان جعل الله عز وجل أبواب الجنة مفتوحة للناس جميعاً، وبإمكان العبد ان يتخذ طريقاً معبداً نحوهما بالنطق بالشهادتين وعدم الخروج عن الجماعة.
السادس: تحث الآية الناس لبذل الوسع في الإستعداد لعالم الآخرة وتلمس دروب الهداية وكيفية إحراز بياض الوجوه فيها، فمن الآيات أن أسباب نيل هذه النعمة ليست إجمالية تقبل الترديد، او عسيرة وبعيدة المنال، ومن اللطف الإلهي ان جعل النعيم الدائم ثواباً على عمل قليل يحمل صفة الوجوب والفرض كي ينبعث العباد لإتيانه ليبقى الإيمان هو العرض المبارك الملازم الذي يتغشى أهل الأرض، والمعروف ان الإنسان يتجنب ما فيه حرج له عند الناس، ويخشى الفضيحة والخزي، ويسعى لما يزيده عزاً وفخراً أمام الآخرين من الأقارب والأصدقاء والجيران.
فجاءت هذه الآية لتبين ان يوم القيامة هو يوم الفوز والعز للمؤمنين يوم تبيض وجوههم فتغبطهم الخلائق كلها، وحري بالإنسان ذكراً او انثى ان يسعى لهذا الفخر والسعادة.
ومن يفعل السيئات في الدنيا يفتضح في الآخرة ليس بين أهله وأصحابه فحسب بل عند الناس والملائكة والخلائق بإسوداد الوجه وظهور الحزن والحسرة عليه مع إنعدام الناصر والشفيع.
من غايات الآية
موضوع الآية هو يوم القيامة، وما فيه من الثواب والعقاب، الا ان غاياتها أعم فتشمل أحوال العبد في الدنيا، وتلك آية إعجازية من آيات القرآن، اذ تأتي الآية في موضوع واحد مخصوص ولكن أثرها يتشغى غيره ويتصف أثرها في الدنيا بالتعدد الجهتي من وجوه:
الأول: إنتفاع الناس كافة من الآية وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن الجزاء يوم القيامة على الأعمال في الدنيا.
الثاني: التباين والتضاد يوم الجزاء، فمن الناس من تبيض وجوههم، ومنهم من تسود وجوههم.
الثالث: القطع بوجود العالم الآخر بعد الموت، وبعث الناس للحساب.
الرابع: إطلاق اسم اليوم على أحوال يوم القيامة، مع تعدد وكثرة المواطن فيه قال تعالى [وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ]( ).
الخامس: جاء الأنبياء جميعاً بالإخبار عن يوم القيامة.
السادس: دعوة الناس للإستعداد ليوم القيامة والفوز ببياض الوجوه، والنجاة من سوادها.
الثاني: إنتفاع المسلمين من الآية، وفيه مسائل:
الأولى: إكرام المسلمين بإخبارهم عن يوم القيامة.
الثانية: نزول الآية وما فيها من الإخبار عن أحوال عالم الآخرة بواسطة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بشارة المسلمين بما أعد الله لهم في دار الكرامة والنعيم.
الرابع: بشارة المسلمين بنعمة بياض الوجوه.
الخامس: بياض الوجوه في الدنيا من النعم والأمور الإبتلائية، أما في الآخرة فانه جزاء على عمل الصالحات.
السادس: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وإطلاعهم على أحوال يوم القيامة وما فيها من الثواب والعقاب.
السابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثامن: إخبار المسلمين عما سيناله الكافرون من العقاب الأليم.
التاسع: حث المسلمين على الوحدة والتمسك بالقرآن والسنة، وإجتناب الفرقة والخلاف.
الثالث: إنذار الكفار والمشركين، وفيه مسائل:
الأولى: الإنذار بالجزاء يوم القيامة وحتمية وقوعه.
الثانية: بعث الحسرة في نفوس الكفار لما يناله المؤمنون من الغبطة والسرور الذي يتجلى ببياض وجوههم في الآخرة.
الثالثة: الوعيد والتخويف بسوء العاقبة الذي ينتظرهم في الآخرة.
الرابعة: التوبيخ والتبكيت لعدم الإنتفاع من الآيات الباهرات والبينات.
الخامسة: الإخبار عن شدة عذاب الكافرين يوم القيامة وحثهم على ترك الفرقة والإختلاف، ولزوم الإيمان وأداء الفرائض.

التفسير
قوله تعالى [يَوْمَ]
ابتدأت الآية الكريمة بكلمة [يَوْمَ] وهو عنوان جاء بصيغة التنكير ويحتمل وجوهاً:
الأول:يوم من ايام الدنيا.
الثاني:النهار وليلته.
الثالث: يوم مخصوص من ايام الدنيا، ينقسم فيه الناس الى قسمين
الرابع: عالم البرزخ وحال الناس في القبر وهو على قسمين:
الأول: اليوم الاول لدخول الانسان القبر.
الثاني: مدة القبر الى حين النفخ في الصور، وبعث الناس من القبور.
الخامس: يوم النشور، وما يصيب الناس من الفزع.
السادس: يوم الحساب والوقوف بين يديمدة القبر الله عزوجل.
السابع: يوم تطاير الصحف، ومعرفة كل انسان لعمله.
الثامن: اليوم الذي يدخل فيه المؤمنون الجنة، والكافرون النار.
التاسع: يوم القيامة.
والصحيح هو الآخير، فالمراد يوم القيامة، وبينه وبين عالم الآخرة عموم وخصوص مطلق اذ ان عالم الاخرة اعم ويبدأ من دخول القبر، والنكرة في مقام الاثبات لاعموم لها إلا ان المتبادر والانصراف والشواهد والنصوص المتواترة تفيد ارادة يوم القيامة، ومن معاني الوحدة والاتحاد بين الناس في المقام وجوه:
الأول: انصراف معنى (اليوم) الى يوم القيامة من غير ترديد فهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا تراهم لايختلفون في خصوص المراد من اليوم في الآية فاجماع المليين والناس كافة ان المراد هو يوم القيامة، وفيه دعوة لنبذ الفرقة والإختلاف.
الثاني: فيه شهادة على خلو القرآن من الاجمال والترديد، لان اليوم ذكر على نحو التنكير ولكن معناه يفيد التعيين.
الثالث: فيه دعوة لنبذ الفرقة، وحث على اجتناب الاختلاف والمعصية.
الرابع: من مضامين الوحدة في يوم القيامة بعث الناس حميعاً، فلا يتخلف عن البعث والنشور واحد منهم، وتلك دعوة اخرى للوحدة .
الخامس: في الآية حث للناس للاستعداد الى هذا اليوم الذي يعلمون وقوعه على نحو الحتم والقطع، باتخاذ سبل الطاعة على نحو الاطلاق الشمولي والعموم الاستغراقي.
السادس: جاء وصف يوم القيامة باليوم لانه ما من انسان في الوجود الا ويكون حاضراً في اليوم الذي يمر على الكون واهل الارض، ويتحسسه ويستعد له، ويحتهد في توفير رزقه وسد حاجته خلاله وتكون الاشياء واضحة منكشفة فيه بضياء الشمس، وكذا في اليوم الاخر فان الأعمال منكشفة بضروب متعددة منها وجوه العباد التي تكون كالمرآة تنعكس فيها الاعمال بما لايقبل الخطأ والاشتباه، فلا يكون الناس الا على فريقين بينهم تضاد وتباين.
السابع: التذكير بيوم القيامة دعوة لعمل الزاد الى الآخرة، وفعل الصالحات واجتناب الفرقة والإختلاف.
الثامن: تتضمن الآية لغة البشارة والانذار، وكل واحدة منها تنفع الانسان، والبشارة من وجوه:
الأول: تثببيت المسلمين في منازل الايمان.
الثاني: الشكر العاجل للمسلم في الدنيا على الاهتداء والتبصرة.
الثالث: الحث على البقاء على الوحدة والإتحاد.
الرابع: العز والرفعة التي تملأ صدور المسلمين بسبب ما اعد الله لهم من الثواب.
الخامس: دعوة الكفار لاتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبذ الإختلاف والخصومات.
اما منافع لغة الانذار فمن وجوه:
الأول: بعث الخوف والحزن في قلوب الكافرين.
الثاني:بيان الذنب العظيم باختيار الفرقة والإختلاف.
الثالث: حث الكفار على ترك منازل الفرقة والتعدد في الولاء والإنتماء.
الرابع: رؤية سوء عاقبة الكفار وكأنه أمر قريب.
الخامس:لغة الانذار عون للمسلمين في جدالهم وتحديهم للكفار وتعضيد لهم في دعوتهم الى الله تعالى.
السادس: حث المسلمين على تعاهد الوحدة بينهم وإجتناب المعاصي، ومن فضل الله تعالى على المسلمين الإخبار عن يوم القيامة وعدم تركهم في غفلة او جهالة، ومن الآيات ان الناس جميعاً ينتفعون من هذا الاخبار من وجوه:
الأول: مجئ الكتب السماوية.
الثاني: وجود امة مؤمنة في كل زمان تدعو الى الله تعالى، وتحذر من يوم الحساب وتحث الناس على الاستعداد له.
الثالث: ادراك العقل الإنساني لإمكان الحساب، وحاجة الإنسان للجوء الى الله تعالى، والإستجابة له.
وبعد اربع آيات في خطاب وأوامر للمسلمين تتعلق بعالم الافعال في الدنيا، وتتضمن الحث على النفوس والصلاح، جاءت هذه الآية لتخبر عن عالم الحساب، وتنقل الأذهان الى عالم الأخرة،
فهل من تباين في المقام الجواب لا، ولكنه وجه من وجوه الإعجاز في نظم الآيات، ومافيه من الأسرار والكنوز العقائدية التي تساعد المسلمين على تعاهد مضامين الآيات السابقة، وتطلعهم على الإرتباط بين عالم الاعمال وعالم الحساب واذ يتوقف الحساب على العمل في الدنيا، فان الإخبار عن يوم القيامة يساهم في تنمية ملكة الخشية من الله على نحو القضية الشخصية والقضية النوعية، ويشترك الفرد والجماعة في إجتناب الفرقة والإختلاف، ويتعاون المسلمون للنجاة في عالم الحساب، والفوز بالخلود في دار الكرامة.
قانون (اليوم)
ينقسم اليوم في الإصطلاح الى قسمين:
الأول: دنيوي وهو الفترة المحصورة مابين الشمس الى مغيبها او من طلوع الفجر الى مغيب الشمس، على إختلاف في ساعة الفجر، وهو وعاء زماني يتغشى الناس جميعاً مع تباين باوانه بلحاظ المكان مما اصبح معروفاً عند الناس جميعاً، فقد يكون النهار في بلد وفي نفس الوقت يكون بلد آخر سابحاً في ظلمة الليل.
ويقترن اليوم بالشمس وحركتها ولايتخلف عن اوانه، لعدم تخلف المعلول عن علته، ويكون اليوم والليلة مناسبة للعمل الا ان اليوم اكثر ملائمة ومناسبة للأعمال لما جعل الله فيه من النشر، ومن الآيات ان الصلاة اليومية تتغشى اليوم والليلة، فتختص صلاة الظهر والعصر بالنهار، يبنما تكون صلاة الصبح في ساعة الفجر، وصلاة المغرب والعشاء بعد سقوط قرص الشمس.
وكل يوم يأتي على الناس هو جديد وان تشابه مع غيره من ايام السنة، او مع شبيهه من السنوات الفائتة من جهة مطلع الشمس وغروبها واوان كل منها، ويغادر اليوم الناس عند الغروب ثم لايعود ابداً، وفيه اشارة الى زوال الدنيا وان ايامها من المنتهي، ويأتي اليوم بمعنى الحادثة والواقعة وان استمرت اياماً وشهوراً وسنوات والمدار على اتصالها وتغشي تلك الواقعة اياماً متعاقبة.
الثاني: اليوم الآخر، وهو يوم القيامة، وعالم الحساب، وهناك تباين
بينه وبين ايام الدنيا، فمع كثرة ايام الدنيا وتعذر عدها وحسابها فانها لاتكون معشاراً من اليوم الأخر.
وليس من سبيل الى المقارنة بين اليوم في الدنيا واليوم الأخروي، للتضاد من جهة آنات الزمان، قصرا وطولا بالإضافة الى التباين في الماهية ، لان اليوم الآخر دائم وهذا التباين دعوة للناس للعمل بطاعة الله واستثمار العمل في المنتهي للنجاة من الحساب في اللامنتهي، ومن الآيات ان جاء اسم يوم القيامة (باليوم) وورد في الآية من غير ذكر القيامة وعالم الحساب على نحو التعيين، ولكنه المتبادر بالاضافة الى وجود القرائن التي تدل على ارادة يوم القيامة منها:
الأول: اختتام الآية السابقة بالإنذار والإخبار عن العذاب الأليم الذي يلقاه الكافرون.
الثاني: تقسيم الناس الى قسمين، وينصرف الذهن الى قسمة الناس الى فريقين، فريق في الجنة، وفريق في النار.
الثالث: ورود آيات كثيرة تصف يوم القيامة بانه (يوم) وتذكر شطراً من اخباره، وقد ورد لفظ يوم في القرآن ثلاثمائة وتسع وأربعين مرة، ويتعلق اكثرها بيوم القيامة وعالم الحساب، وورد في سورة آل عمران وحدها ثلاث عشرة مرة كلها في يوم القيامة وعالم الحساب الا آيتين بخصوص معركة أحد، قال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )، وهي من الشواهد على الملازمة بين اليوم في الدنيا واليوم في الآخرة، وبيان وتفسير للآية محل البحث، لان المسلمين الذين قاتلوهم من الذين تسود وجوههم يوم القيامة الا من تاب واناب.
وما يجري من الوقائع والاحداث في اليوم الدنيوي يكون موضوعا للحساب في اليوم الأخروي، وبه جاءت هذه الآية الكريمة التي تحث على التوظيف الحسن لليوم الدنيوي في عالم الأخرة وهذه الدعوة عامة وشاملة للناس جميعا لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولكن المسلمين هم الذين انتفعوا من هذه الدعوة واذ يطل اليوم على الانسان كل صباح يدعوه الى العمل الصالح فانه يغادره ولايبقى منه الا العمل الذي عمله فيه الانسان خيراً او شراً، تحصيه الملائكة، ويكون مصاحباً للإنسان في الآخرة، وعليه يكون المدار في بياض الوجه او سواده، كما يذّكر يوم الدنيا بيوم القيامة، الذي هو حجة على الانسان بخصوص إستثماره لليوم الدنيوي، وجاءت هذه الآية عوناً للانسان في إستدامة تذكر يوم القيامة ، واستحضار مافيه من الحساب والجزاء، وتعدد مواطنه وعدم انقطاع ساعاته واحكامه .
قوله تعالى [تَبْيَضُّ وُجُوهٌ]
بعد كلمة اليوم، ومافيه من معاني تعيين الوعاء الزماني للحساب بما لايقبل الشك والريب، وشموله للناس جميعا من غير استثناء، جاء هذا الشطر من الآية ليخبر عن حال شطر من الناس يوم الحساب، والبياض عرض ولون يعطي معاني البهجة ويبعث في نفس الرائي السرور، وبياض الوجوه على قسمين:
الأول: في الدنيا، بلحاظ اصل خلقة الإنسان وسنخيته.
الثاني: في الآخرة ويكون بلحاظ حسن العمل واكتناز الصالحات.
وجاءت الآية بإرادة المعنى الثاني، فاخبرت عن حال ولون وجوه المؤمنين، والمعروف انه لاصلة بين لون بشرة الإنسان وبين ايمانه او كفره، فمن المؤمنين من هو ابيض، ومنهم اسمر ومنهم احمر، او اشقر، او اسود اللون .
وفي بياض وجوههم يوم القيامة وجوه:
الأول: يصبح وجه كل مؤمن يوم القيامة ابيض ناصعاًً.
الثاني: المراد اشراق وإسفار الوجه، والإستبشار بفضل الله تعالى.
الثالث: المعنى الجامع للأمرين، تحول سنخية وجوه المؤمنين لتصبح بيضاء، مع بريق نور الفرح والرضا والإستبشار بفضل الله، بحيث لايكون التمييز بين المؤمنين يومئذ من جهة البياض، بل من جهة المعاني والملامح، او بواسطة طرق ونواميس خاصة بيوم القيامة، والله لاتستعصي عليه مسألة، فاذا انظر شخص لآخر يقذف الله بقلب الرائي انه فلان بن فلان لاسيما وان اهل الحشر ليس من مصر او جيل واحد من الناس.
الرابع: التباين في بياض الوجوه بحسب ميزان الاعمال، فمن كان اكثر صلاحاً وتقوى يكون اكثر بياضاً وإشراقاً، ثم الأدنى فالأدنى.
والأقرب ان المراد من البياض المعنى الحقيقي للبياض من غير اعدام لملامح الشخص الأصلية مع اشراق واسفار ونور يكسوه فضلاً من الله تعالى،
ومن الشواهد في الدنيا ما رزق الله عزوجل موسى عليه السلام قال تعالى [فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ] ( )، فكانت يده ذات لون ابيض مباين للونها الاصلي ولون اعضاء جسمه الاخرى لتكون آية وحجة قال تعالى [تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى]( )،
كما ورد البياض بعنوان مجازي وعلى نحو عرضي في قصة يوسف عليه السلام وحزن ابيه يعقوب عليه السلام قال تعالى [وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ] ( )، والاصل في الكلام ان يحمل على المعنى الحقيقي الا ان ترد قرينة صارفة وهي معدومة في المقام، فبياض الوجوه جزء من الثواب والجزاء الحسن للمسلمين على طاعتهم لله ورسله.
وهل تنحصر البشارة في هذه الآية بالمسلمين الذين اتبعوا النبي محمداًً صلى الله عليه وآله وسلم ام هي عامة لأهل الجنة، الجواب هو الثاني فالآية شاملة لكل المسلمين من الأزمنة المتقدمة على زمان البعثة النبوية المباركة والمقارنة لها والمتاخرة عنها الى يوم القيامة،بالإضافة إلى حقيقة عقائدية وهي إيمان المسلمين الأوائل بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم لبشارة الأنبياء السابقين به .
لذا فان الآية تتضمن المدح والثناء على المسلمين لاتباعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بما أتاهم من عند الله، ومدح المسلمين من الأمم السابقة الذين اجتنبوا الفرقة والخلاف والخروج عن طاعة الأنبياء، وحرصوا على التصديق بالبشارات التي جاءوا بها، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه وإتباعه.
وصحيح أن الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء الا انها مملوءة بالنعم الإلهية الظاهرة والباطنة، وتأتي نعمها على أقسام:
الأول: نعم الله على المسلمين بتثبيتهم في منازل الايمان.
الثاني: نعم الله على الكافرين بتقريبهم الى الطاعة.
الثالث: النعم الإلهية على الناس جميعاً كعباد الله عزوجل، منها مايتعلق بالرزق والعافية والسلامة من الآفات، ودفع الفتن وأسباب الهلكة، ومن الآيات ان تكون هذه النعم رحمة للمؤمن في الآخرة لانه انتفع منها في مرضاة الله، وادى الشكر عليها.
والله عزوجل يضاعف الحسنات، ويزيد من الثواب عليها، وفي بياض من الوجه يوم القيامة ضروب من النعم الالهية منها:
الأول: رؤية المسلم لاعماله تثقل كفة الميزان، فالميزان حكم عادل لايتكلم، ولكنه لايقبل الخطأ، نعم ثقل الميزان يأتي فضلاً واحساناً من
عندالله بنماء الصالحات قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الثاني:بياض الوجوه نعمة اخروية، وفضل من عندالله، وهو من النعم الاخروية على الانسان فلا تنحصر النعم بالحياة الدنيا بل تشمل الآخرة، ونعم الدنيا وسيلة ومقدمة لنعم الآخرة ، فمثلاً نعمة الأخوة التي وردت قبل ثلاث آيات بقوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ]( )، فانها وسيلة مباركة لتثبيت المسلمين في مسالك الايمان، وعون على فعل الصالحات.
الثالث: انه عرض وأثر يحل بالمسلم يوم القيامة لوجوه:
الأول: استبشار المسلم برؤية صحيفة اعماله وما فيها من الصالحات.
الثاني: ما يتلقاه من البشارة والإكرام من الملائكة.
الثالث: رؤيته لحسن عاقبة اهله واولاده الذين ادبهم على احكام الإسلام وأمرهم بأداء الصلاة والفرائض الأخرى.
الرابع: السرور والفرح بالنجاة مما يصيب الكفار من الأذى والعذاب الأليم.
الخامس: الغبطة والسعادة بفضل الله تعالى، وسعة رحمته، وآيات جوده وكرمه.
السادس: تصديقه بيوم الحساب، وعدم المفاجئة بوقوعه، فالمسلم يقرأ الآيات التي فيها ذكر يوم القيامة فيبذل الوسع في الإستعداد له، ويتلو آيات الجنة فيشتاق اليها، وآيات الوعيد بالنار فيفزع منها، فيكون يوم القيامة يوم الجزاء على التصديق او التكذيب به.
السابع: بياض الوجوه استبشار بالفوز بالجنة، والنعيم الخالد فيها، فالنعم الالهية في الآخرة اعم واكبر من التصور الذهني ويعجز الانسان عن الاحاطة بالشطر الاكبر منها، فتكون يومئذ آية تبهر العقول ، فتكون وجوه المؤمنين مرآة للغرق في انوار الجلال والكمال.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (وجوه) ويحتمل وجوهاً:
الأول: حصول البياض في وجوه شطر من المسلمين الذين اتقوا الله حق تقاته وعملوا بمضامين آيات القرآن ومنها الآيات السابقة وقاموا بوظائفهم الشرعية على اتم واكمل وجه.
الثاني: عموم نيل مرتبة بياض الوجوه للمسلمين الذين عملوا الصالحات جميعاً وهناك تباين في مراتب الفعل.
الثالث: بياض الوجوه خاص بالأنبياء واهل بيتهم وأصحابهم.
والصحيح هو الثاني، ففي الآية اخبار عن حال اهل الجنة وما ينالهم من الغبطة والفرح بفضل الله كما انها جاءت بقسمين لا ثالث لهما، فريق تبيض وجوههم، وفريق تسود وجوههم، مما يدل على عدم وجود فريق ثالث في البين، الا ان يقال هناك اناس ينتظرون رحمة الله، ويرجون العفو والمغفرة، ولم يتأكدوا من مصيرهم كما لو لم يحصل رجحان في ميزانهم او انهم يتطلعون الى الشفاعة، ولكن وجود قسيم ثالث لهذين القسمين يحتاج الى دليل وقرينة سواء من الكتاب او من السنة، وهو معدوم في المقام خصوصاً وان الآية جاءت للبشارة والانذار.
والقدر المتيقن من اوان بياض الوجوه انه في الآخرة، وهي على مواطن متعددة فمتى يكون اوانه فيه وجوه:
الأول: ساعة دخول المسلم القبر، باعتبار انه أوان انقطاع العمل، وبداية أيام الحساب.
الثاني: مدة أيام البرزخ الى حين البعث.
الثالث: يوم النشور وحصول الفزع والخوف عند الناس، فيكون المسلم في امن وواقية من عند الله قال تعالى [َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الرابع: عند الحوض، والفوز بالشرب منه.
الخامس: عند عبور الصراط، وعدم الوقوع في النار.
السادس: حال الإطلاع على صحيفة الاعمال.
السابع: عند الميزان، ورجحان كفة الصالحات.
الثامن: عند دخول الجنة، والإستقرار في النعيم.
التاسع: بياض الوجوه عرض دائم يتغشى حال المؤمن يوم القيامة.
والصحيح هو الاخير لأصالة الاطلاق، وصدق اسم اليوم على مواطن يوم القيامة ومنه عالم النشور والحساب والحوض والميزان والصراط.
وورد لفظ الوجوه بصيغة التنكير ولم تذكر الآية العدد او الصفات الخاصة التي تؤهل الذين تبيض وجوههم، وبلحاظ سعة رحمة الله وعظيم فضله فان المسلمين جميعاً يرجون ان تتغشاهم هذه النعمة وان تكون ملازمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولاعبرة بما يرمي به بعضهم بعضاً من الأقوال ، فالشهادتان فان جسر عقائدي مبارك للفوز بهذه النعمة.
وجاءت الآية بصيغة المضارع (تبيض) للاخبار عن حتمية الوقوع، وتنكير الوجوه وعدم التعيين يدل على بقاء هذه النعمة معلقة وفي معرض التحصيل، بامكان كل انسان ان ينالها، فلم يحجب الفوز بها عن الإنسان ما دام النفس يجري فيه خصوصاً وان باب التوبة والانابة مفتوح للناس جميعاً.
وهل بياض الوجوه من الكلي المتواطئ وان أهل الإيمان على درجة واحدة من البياض، ام انه من الكلي المشكك الذي له مراتب متفاوتة في ظهور وشدة البياض وقلته بلحاظ مراتب العمل الصالح في الدنيا.
والصحيح هو الأول فضلاً من عند الله لأنه سبحانه اذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، في الدنيا والآخرة، ومن خصائص رحمته انها تكون في الآخرة أضعافاً مضاعفة لرحمته في الدنيا، وفي الحديث “إن الله تبارك وتعالى خلق يوم خلق السموات والارض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والارض ، فأنزل منها إلى الارض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض، حتى أن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين، فأكملها مائة رحمة فيرحم بها عباده”( ).
فمن رحمة الله تعالى الأخروية بياض الوجوه الذي يكون عاماً يتغشى المؤمنين جميعاً ويدل عليه إستبشارهم جميعاً قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ *ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ]( )، فلو كانت هناك مراتب وتفاوت في بياض الوجوه لأحتمل أن يكون عند شطر من المؤمنين حسرة لعدم الإرتقاء الى منازل إخوانهم الذين نالوا بياضاً في الوجه أكثر منهم.
ولقد أراد الله لاهل الجنان السلامة من الحسرة وأسباب الندم أو الحسد.
وتحتمل كيفية بياض الوجوه وجوهاً:
الأول: تقوم الملائكة بتبييض وجوه المؤمنين.
الثاني: يتولى المؤمنون تبييض وجوههم بأنفسهم.
الثالث: يشربون من نهر أو يأكلون من ثمر يكون سبباً لبياض وجوههم.
الرابع: يحصل البياض على نحو التغيير والتبدل النوعي فحالما يرى المؤمنون رجحان كفة حسناتهم وما أعد الله عز وجل لهم من الجزاء الحسن تبيض وجوههم.
الخامس: بياض الوجوه فضل ونعمة من عند الله، ورحمة مزجاة لأهل الجنان، وجزاء لعمل الصالحات في الدنيا.
والصحيح هو الأخير فمن خصائص يوم القيامة بياض وجوه المؤمنين جزاء لهم بما فعلوا، كما انه نعمة لا يقدر عليها الا الله تعالى، ولم تقل الآية تُبيض وجوه، بضم التاء، بل قالت تبَيض، بحصول التغيير الذاتي بمشيئة وأمر من عند الله عزوجل.
قانون بياض الوجوه
لقد جعل الله الدار الآخرة دار جزاء وهذا الجزاء لايقدر عليه الا الله تعالى وهو عنوان الربوبية المطلقة، وشاهد على إنحصار الملك به سبحانه دون غيره، قال تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( )، ويحتمل بياض الوجوه وجوهاً:
الأول: انه لطف وفضل من عند الله عزوجل.
الثاني: يأتي عن إستحقاق من المسلمين.
الثالث: انه وعد كريم من عند الله بدليل هذه الآية الكريمة.
الرابع: انه مباهاة من عند الله بالانسان امام الملائكة الذين سألوا عن جعله خليفة في الأرض مع افساده فيها.
الخامس: لالقاء الحسرة والندامة الإضافية في قلوب الكافرين والمشركين.
وكل الوجوه صحيحة الا الوجه الثاني، فبياض الوجوه لطف وفيض من عند الله، وآية في جوده وكرمه واحسانه تعالى، وعمل الانسان لايرقى من جهة الإستحقاق الى هذه الدرجة من الجزاء وبياض الوجه وإشراقته وإسفاره والخلود في الجنة ولكنها آيات النعم التي تتغشى الإنسان من ساعة خلقه وتصاحبه في الدنيا، لتأتي في عالم الآخرة على نحو دفعي ومتعدد يفاجئ المؤمن ويتجلى اثرها على وجهه بانوار قدسية، وتلك الأنوار نعمة أخرى من نعم الآخرة، ووجه من وجوه الجزاء التي يتفضل الله بها على المؤمنين، ومن الآيات ان بياض الوجه نعمة تشمل المؤمنين جميعاً كي لاتكون حسرة في نفوس شطر منهم، كما ان الحسد واسبابه منتفية عند اهل الجنة.
ويأتي بياض الوجه في أصل خلقة الإنسان، فيكون بعض الناس ابيض، ويأتي جزاء وثوابا والثاني خاص بعالم الآخرة، وهو مضمون هذا القانون وفيه مسائل:
الاولى: انه شاهد على إتصال نعم الله تعالى على الإنسان بما يفوق أصل الخلقة والتكوين.
الثانية: تحصيل الرغائب في الخلق والسنخية بالعمل الصالح.
الثالثة: طاعة الله ورسوله وإجتناب الفرقة والتشتت باب لنيل النعم الدنيوية والاخروية.
الرابعة: يدل بياض الوجوه على تعدد النعم على المؤمنين في الآخرة وظهور الإستبشار والسرور على وجوههم جميعا من غير استثناء، فليس هناك احد بينهم يظن انه يستحق تلك النعم، او انه لم يفاجئ بها.
بل كل واحد منهم فاز بفضل الله بما لم يفرح مثله في حياته الدنيا كلها.
ويحتمل بياض الوجوه في الآخرة امرين.
الأول: انه عرض مفارق وزائل، يقترن بالبشارة بالجنة والأمن من الفزع، ثم يعتاد المسلم على تلك النعم.
الثاني: انه أمر ثابت ومستديم.
والصحيح هو الثاني فبياض واشراق الوجوه نعمة دائمة ينالها اهل التقوى والصلاح على نحو العموم المجموعي والاستغراقي، لوجوه:
الأول: انه نعمة من عند الله ونعمه سبحانه باقية لاتغادر المحل.
الثاني: تجدد النعم والفضل الإلهي على اهل الجنة في كل أوان بما يجعلهم في سرور ونعيم دائم.
الثالث: كل نعمة من نعم الله عزوجل في الآخرة تجعل المؤمن سابحاً في عالم الغبطة والسعادة.
الرابع: بياض الوجوه في الآخرة، اعم من العرض بقسميه الملازم والمفارق.
بحث منطقي
ينقسم الكلي الى ذاتي وعرضي، والأول المحمول الذي يكون جزء من ماهية الشئ ولاتتقوم الا به، كالقلب بالنسبة للانسان، وكالجدار بالنسبة للدار، ويشمل الذاتي النوع والجنس والفصل.
اما العرضي فهو المحمول المتعلق بذات الشئ فهو ليس جزء منه ولا موضوعية له في الذات وقوامها، كالكلام والضحك بالنسبة للانسان، فهو يوجد في الانسان ولكن على نحو عرضي، ويقسم العرضي الذي هو مقابل الذاتي الى قسمين:
الأول: الملازم: وهو المصاحب عقلاً للموضوع، ولن يتخلف عن ملازمته كالحرارة بالنسبة للنار، والزوج للأربعة.
الثاني: المفارق وهو غير المستقر، ويمكن زواله وانفصاله عن موضوعه عقلاً من غير ان تتغير ماهية وذات الموضوع، وينقسم الى اقسام:
الأول: الدائم: وهو المصاحب للموضوع وان لم يكن على نحو متصل كالنور بالنسبة للقمر، اذ ان القمر يكون احياناً هلالاً لايكاد يرى فضلاً عن عدم صدور اشعاع منه ويكون احياناً في المحاق ، وكالضياء بالنسبة للشمس.
الثاني: سريع الزوال: وهو العرض الحال بالموضوع والذي لايلبث ان يزول، كالبكاء عند الألم وحمرة الخجل.
الثالث: بطئ الزوال: وهو العرض الذي يستمر مدة من الزمان مصاحباً للموضوع والذات.
ولكن إنفكاكه امر بطئ، كالرضاعة والحضانة للصبي، وسواد الشعر بالنسبة للانسان.
ويقسم العرضي اللازم الى قسمين بيّن وغير بيّن، وينقسم البيّن الى بيّن بالمعنى الأخص، وبيّن بالمعنى الأعم.
وهل بياض الوجوه وسوادها يوم القيامة من العرضي اللازم ام المفارق، الجواب هو انه من البين بالمعنى الأخص الذي يلزم من تصور ملزومه تصوره وبالعكس، وحالما يرى الانسان يوم القيامة يعرف انه من اهل السعادة ام من اهل الشقاء، فمن كان وجهه ابيض فانه من اهل الجنة والفائزين بمرضاة الله والخلود في النعيم، ومن كان وجهه مسوداً فانه من أهل العذاب، فيكون البياض والسواد سمة ثابتة يعرف بها صاحبها يومئذ.
وجاءت في هذه الآية ليبذل الانسان وسعه لنيل مرتبة بياض الوجه، فهي مقام عظيم، ورفعة وسمو لايظهر به الا الذي امتلأ قلبه ايماناً وخشي الله في السر والعلانية ونعمة من نعم الأخوة، جاءت هذه الآية للإخبار عنها والندب الى نيلها والفوز بها، ويمكن القول ان بياض الوجوه في الآخرة اعم من العرض ويتعلق بذات الانسان لانه يصبح جزء من ذاته ومقومات وجوده، وهو نعمة دائمة ومصاحبة له.
ومن الآيات في نعم الله انها لاتغادر محلها بل تبقى على نحو الاجمال فضلاً من عند الله لذا فنعمة بياض الوجوه التي اخبر الله عنها في هذه الآية لتبقى ملازمة للإنسان ممتنعة عن الإنفكاك عنه.
علم المناسبة
مع أن لون البياض، عرض شائع وتميل له النفوس الا انه لم يرد في القرآن الى مرات عديدة وهي:
الأول: ورد لفظ (بيضاء) خمس مرات في موسى عليه السلام وما
رزقه الله من أية بياض يده( )،وورد مرة واحدة في خصوص اواني اهل الجنة قال تعالى [يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ]( ).
الثاني: ورد لفظ الابيض مرتين احداهما في الآية التالية ويتعلق بهذا الموضوع ايضاً وحال المؤمنين في الآخرة.
الثالث: جاء لفظ الأبيض بخصوص علامة الفجر، واوان الامساك في الصيام، قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ] ( ).
الرابع: جاء وصف بعض الجبال بانها بيضاء قال تعالى [وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ]( ).
وكل مواضيع الآيات اعلاه تتعلق بعالم الدنيا الا بياض وجوه المؤمنين وبياض آنيتهم، وكأن هناك ملازمة بين الفضل الالهي على الانسان ذاتاً وعرضاًً، فضل في ذات الانسان يتجلى بإشراقة وسرور وسمت بهي، وفضل في أوانيه ومستلزماته وما يحتاج اليه ليكون البياض يوم القيامة من مختصات اهل الجنان .
ولعل مما يحرم منه اهل النار هو رؤية لون البياض وما فيه من الإشراق والبهاء، وهو إنذار وتحذير اضافي للكافرين، وحث لهم على التدارك والإنابة والتوبة ، وعدم الحرمان من الاعراض الجميلة، والألوان الزاهية التي هي نعمة من نعم الدنيا مبذولة للناس جميعاً بفضل الله تعالى، وكلها من مصاديق الثواب وتختص في الآخرة بالمسلمين دون غيرهم.
وحرمان الكافرين من رؤية اللون الابيض يوم القيامة على فرض حصوله يحتمل وجهين:
الأول: ان شدة الحزن والغم والفزع والألم امور تبعث انشغال الذي في النار عما حوله.
الثاني: عدم امكان رؤية ماهو جميل.
الثالث: كل ما هو حسن في لونه ينقلب في عين الكافر يوم القيامة الى ضده,إلا ما شاء الله كما في لون وجوه المؤمنين الذين عملوا الصالحات إذ يراها اهل النارعلى بياضها لتكون سببا لحسرتهم وتضييعهم نيل تلك النعمة .
وقد ورد قوله تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ] ( )، فهل يحمل بياض الوجوه على الإسفار والإستبشار وإرادة المجاز، وسوادها على الحزن والفزع والحسرة الجواب لا لحمل لفظ البياض على حقيقته وعدم معارضته مع الإسفار والإستبشار بل انها نعم اضافية متعددة.
بحث كلامي
تتعلق قدرة الله تعالى بجميع المقدورات مطلقاً، وقدرته سبحانه بالحياة الدنيا بل تشمل عالم الأخرة وهو اوسع واكبر، ولايوصف الله سبحانه بوصف في قدرته الا كانت قدرته اعظم واكبر، ولاتستعصي عليه مسأله ولايوصف بعجز.
وفي التنزيل [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )والاشياء جميعها مستجيبة لامره، خاضعة لإرادته معترفة بربوبيته، محتاجة اليه في وجودها ابتداء واستدامة، وقدرته تعالى متعلقة بالممكنات كافة لوجود المقتضي وفقد المانع والله تعالى منزه عن القبيح ولايفعل العبث ويأتي فعله محكماً متقناً نافعاً للخلائق.
وجاءت هذه الآية لتحكي وجهاً من بديع قدرته في عالم الدنيا والآخرة، فصحيح ان مضامين الآية تتعلق بعالم الآخرة الا انها تشمل الحياة الدنيا باصلاح النفوس وتنقيح الاعمال، وجعل الناس يستعدون للحساب، ويسعون لنيل مقامات الشهود، ومنازل الرفعة فيها.
لقد اخبرت الآية عن عظيم قدرة الله بتبديل السمات وعلامات الوجوه يوم القيامة بلحاظ الاعمال في الدنيا، ليصبح كل انسان قادراً في الحياة الدنيا على تعيين حسن او قبح وجهه في الآخرة فمن شاء ان يكون وجهه جميلاً وبهياً وابيض فليؤمن بالله والرسول، ويعمل الصالحات ويتجنب الخروج عن الكتب السماوية والأحكام الشرعية.
ومع ان الآيات والمعجزات والبينات كلها امور تهدي الى الإيمان الا ان الله عزوجل تفضل واخبر عن عظيم قدرته يوم القيامة، وكشف عن حال الناس يومئذ ليكون هذا الكشف مادة اخرى للهداية، ووسيلة للنجاة من العذاب العظيم الذي اختتمت الآية السابقة بالتحذير منه.
ومن صفات الله تعالى انه عالم وجميع الأشياء حاضرة عنده، منكشفة لديه، ولا تغيب عنه، فالآية اخبرت عن حال الناس في يوم القيامة الذي لم يحن اوانه بعد، الا ان بياض وسواد الوجوه أمران حاضران عند الله سبحانه، فهو سبحانه اخبر بما هو واقع ظاهر لديه منذ الازل، ونستمر اليه في وجوده وظهوره .
وجاءت الآية بصيغة التنكير في الوجوه وفيه دعوة للتوبة والانابة وطرد لليأس والقنوط من النفوس، وحث على فعل الصالحات، واعانة الناس مطلقاً على ترك المعاصي ومجئ البشارة والانذار في هذه الآية واخبار الناس عن هذه الحقيقة الاخروية، ليكون الاخبار رحمة وحجة وباعثاً على الفعل الحسن وتنقيح الاعمال في الدنيا بما يؤدي الى كثرة بياض الوجوه في الآخرة.
قانون بياض الوجوه رحمة دنيوية
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار عمل وميدان للبناء في الميادين العقائدية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية والعمرانية، أما العقائدية فان الدنيا دار عبادة لله تعالى وقد تجلت مراحل البناء بنزول الكتب السماوية وما فيها من الأحكام والتكاليف الى ان تم صرح البناء العقائدي بالبعثة النبوية، فهي الرسالة الناسخة الجامعة للأحكام الشرعية.
وأما البناء الإجتماعي فان الحياة الدنيا دار تجربة ووقائع وحوادث تبين للناس الأنفع والأحسن لهم، وفيها تثبيت لصلات النسب وأواصر القربى، ومن الآيات فيها ان جعل الله عز وجل النكاح سبباً لإتساع وتعدد صلات القربى.
ومن الآيات ما للنكاح من قواعد وأنظمة منها الإطلاق في الإختيار مما عدا المحارم، فالتكافئ بلحاظ النطق بالشهادتين، وإستثناء المحارم سبب لتثبيت صلات الرحم، والتذكير بالقيود السماوية في الزواج والمعاملات مطلقاً، ان ما في الحياة الدنيا من أحكام العبادات وقواعد المعاملات وسيلة لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات ونشر لغة التفاهم ومنطق العقل بينهم.
اما الإقتصادية فقد سخر الله عز وجل الأرض وما فيها للإنسان يوظفها في حاجته ورغائبه، وأنزل الكتب السماوية وهي تتضمن الضوابط الشرعية في الإنتفاع من النعم الإلهية في الدنيا، ومن خصائص الدنيا ترى إتساع حاجات الإنسان وتراكم المنافع والوسائل في خدمته، وأما السياسية فان أنظمة الحكم تتجه فيها نحو الضبط والدقة الا في حالات الفتن والإبتلاء، أما العمران فان الجهد الذي يبذله الإنسان في الإعمار وإصلاح الأرض وبناء المساكن والمصانع يتركها تركة لمن بعده ليقوم بتوسعتها والزيادة عليها وتبرز موضوعية النبوة وسلطان القوانين الشرعية في الميادين أعلاه وما فيها من الإرتقاء وتترك هذه الآيات أثرها على غير المسلمين والجواب ان الناس يقتبسون من سيرة المسلمين لما فيها من الحسن الذاتي، وموافقتها لإدراك العقل، والتذكير بالموت وعالم ما بعده وما فيه من الحساب والجزاء.
وتتجلى في عمل المسلمين في الدنيا غاية كريمة وهي لبياض الوجوه في الآخرة، فيسعون لها على نحو متحد ومتعدد وبالإجتماع والإفتراق، وتظهر آثارها المباركة على الميادين المختلفة ففي الميدان العقائدي يبذل المسلمون الوسع في طاعة الله، ويحرصون على أداء الفرائض والعبادات ويتوارثون القرآن بقيد الحرص على حفظه من التحريف والتغيير والتبديل، اي ان توارثهم للقرآن لا يكون إجمالياً بل بقيد حفظ وسلامة كل كلمة وكل حرف منه، مع تعاهد آياته وسوره بالحفظ عن ظهر قلب، على نحو متعدد في الأشخاص متحد في الزمان والمكان، ففي كل مصر وبلد تجد في كل زمان عدداً من حفظه القرآن، والقراء الذين يحسنون قراءته ويضبطون قواعد التلاوة مع إكرام عموم المسلمين لهم إذ ان جعل منزلة لحفظ القرآن بين الناس وسيلة من وسائل سلامته من التحريف ودعوة لإكرامه والعناية به والعمل باحكام آياته وهو من أسباب الإرتقاء في الميادين الإجتماعية فجعل موضوعية للقرآن وحفظه عند الناس إصلاح للنفوس والمجتمعات ووسيلة للتدبر في عالم الآخرة لأن حفظ القرآن يعني حفظ آيات البشارة والإنذار، والوعد والوعيد ومنها إدراك حقيقة ان كل ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى وانه سبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة ومناسبة للعمل الصالح، ومادة للإختبار والإمتحان ووسيلة للخلود في الآخرة، وسبباً وعلة للون الوجه في الآخرة، فكما ان المعلول لا يتخلف عن علته فكذا ترتب لون الوجه في الآخرة على عمل الإنسان في الدنيا، فيدرك الإنسان بما رزقه الله من عقل ضرورة السعي لنيل نعمة بياض الوجه في الآخرة.
ومن الآيات ان الله عز وجل جعل وسائل سماوية مباركة عند الإنسان لإدراك هذه الحقيقة، فلم يكن العقل وحده في الميدان فقد ينشغل الإنسان بأمور الدنيا وتغلب عليه شهوته وينقطع العقل لتصريف شؤونه الشخصية والمالية والتجارية والتمتع بالحياة الدنيا، فتأتي المعجزات والآيات لتجذب العقل الى مفاهيم التقوى والصلاح وتقوده نحو دروب الهداية وتجعل العبد يرتقي في سلم الإيمان والتقوى فجاءت هذه الآية بصيغة البشارة والإخبار عن أمر حتمي وواقع في الآخرة لتبعث المسلمين للهداية وتدعوهم للصلاح والتقوى، وتنجيهم من براثن الذنوب والمعاصي.
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآيات ان تكون دنيا المسلمين ذات بهجة وسعادة ينفردون بها، وتحكم صلاتهم ومعاملاتهم مفاهيم التقوى والصلاح، ويحرصون على الإبتعاد عن التعدي والظلم، ويدعون الناس لإجتناب الكفر والفسوق لما في هذه الدعوة من الثواب والأجر الذي يكون مقدمة لنيل نعمة بياض الوجوه.
قانون بياض الوجوه والتمييز العنصري
لقد جاءت هذه الآيات بمضامين صريحة تفيد النص والتعيين بعيداً عن الإجماع وتعدد وجوه التأويل وما يترتب عليها من بطلان الإستدلال بسبب تعدد الإحتمال في القصد والغرض والتفسير، وجاءت خالية من الترديد واللبس، ومانعة من الجهالة والغفلة إذ قسمت الناس الى قسمين في الآخرة بلحاظ لون الوجوه، وهو أثر وعاقبة وجزاء لماهية ونوع الأفعال في الدنيا، على نحو العلة والمعلول، ومن مصاديق قانون السببية، وقد جعلت الآية بياض الوجه بشارة كريمة فيالآخرة وجزاء حسناً وتدل في مفهومها على ان بياض الوجوه أفضل من سواده، فهل يدل المفهوم على التمييز والتفضيل وان صاحب الوجه الأبيض في الدنيا خيراً من صاحب الوجه الأسود، الجواب لا، فان المقصود بالآية عالم الآخرة وتتضمن الآية الإخبار عن وجه من وجوه الجزاء في الآخرة ومعاني السعادة او الحزن فيها، وتختلف القوانين التي تحكم عالم الآخرة عن القوانين والأحكام التي تحكم عالم الدنيا، وقد بينت الشرائع السماوية كلها ملاك التمييز بين الناس وانه الإيمان والتقوى، وكان أصحاب الأنبياء من مختلف الأمم وبينهم الأبيض والأسود، وليس من فارق بينهم على أساس اللون والعرق، وقد تجلت هذه المضامين واضحة في الشريعة الإسلامية من وجوه:
الأول: فضل الله عز وجل على المسلمين بنعمة الأخوة قال تعالى [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ) فالأخوة سور جامع يشمل المسلمين بقيد الإيمان والإنتماء للإسلام، فيكون كل مسلم أخاً للمسلم الآخر من غير إعتبار للون والبشرة والغنى والفقر ونحوهما من الوجوه المتباينة، والأسباب العرضية.
الثاني: التمايز والتفضيل بلحاظ التقوى قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( )، وفيه بعث للمسلمين الى العمل الصالح، وبإمكان كل مسلم سواء كان أسود أو أبيض أن يرتقي في منازل التقوى والصلاح.
الثالث: الدلالات العقائدية في السنة النبوية الشريفة، وما فيها من إكرام المسلمين جميعاً، وعدم ورود تمييز فيها بلحاظ لون البشرة.
الرابع: مجيء الذم والتقبيح للكفار بلحاظ الكفر والجحود وإختيارهم الشرك بالله مما يدل في مفهومه على ان لون البشرة الأسود ليس عيباً أو نقصاً.
الخامس: سيرة المسلمين بعدم وجود فارق بينهم بلحاظ لون الوجه، ومن الآيات في قوة سلطان الشريعة الإسلامية على أقوال وأفعال المسلمين انهم لم يتأثروا بما يجري حولهم من التمايز بلحاظ اللون، مع التداخل الحاصل في هذا الزمان بين الشعوب وما تحمله من أفكار وآراء.
السادس: إنتفاء وجود شرط لون البشرة في إختيار الإمام أو القائد أو الحاكم.
السابع: إجماع علماء الإسلام على حرمة التمييز بين الناس بلحاظ لون البشرة.
وقد يكون الإمتياز في الدنيا في بلد من البلدان لصاحب اللون الأسود فلا يتولى الحكم أو القضاء الا الأسود، وتجعل بعض النسوة لون البشرة الأسود شرطاً في الزوج، أو يجعله الزوج شرطاً في زوجته لا للتماثل في اللون بل هو الأفضل والأحسن عنده، مما يعني انه ليس من قاعدة كلية في التفضيل بين الناس بحسب اللون وهناك شطر من الناس لا يجعلون موضوعية للون البشرة في التفضيل والمعاملة، أما في الآخرة فالأمر مختلف من وجوه:
الأول: يكون لون الوجه جزاء على الأفعال.
الثاني: في لون الوجه في الآخرة ترغيب بالعمل الصالح، وإنذار وتحذير من السيئات والذنوب وإذا غزت بعض الملل المجتمعات في أفريقيا وجذبتهم اليها بالأموال والتبشير، فان هذه الآية الكريمة سلاح سماوي للتوجه الى المجتمعات في بلدان جنوب أفريقيا ونحوها لشراء اللون الأبيض المشرق والخلود بالنعيم بدخول الإسلام والتقيد بأحكامه ومبادئه.
قوله تعالى [وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ]
بعد الاخبار عن بياض الوجوه، وما فيه من البشارة وشاَبيب الرحمة، ومصاديق الجزاء الحسن، جاء هذا الشطر من الآية معطوفاً على بياض الوجوه ولكنه يحكي الضد والنقيض منه، وتلك آية في عالم الجزاء، وسر من اسرار يوم القيامة، تفضل الله سبحانه وجعله من مضامين القرآن، وآية من آياته، لتكون اخبار القرآن شاملة للدنيا والآخرة.
وايهما اهم قصص الأنبياء والأمم السابقة ام أخبار الأخرة، الجواب لكل فرد منها اهميته ودلالاته الخاصة، وكلاهما من فضل الله ويعملان على تهذيب النفوس، وجذب الناس الى منازل الايمان والهدى، وكل له موضوعه واحكامه الخاصة واثره في النفوس وعالم الأفعال، لتتداخل هذه القصص والأخبار والمواعظ والبشارات في تنمية ملكة التقوى عند المسلم لذا تراه يستغرب اختيار فريق من الناس الكفر والضلالة مع وضوح الآيات وانكشاف الحجج.
لقد جاءت الآية بصيغة الإنذار لتنفر النفوس من الكفر، وتحذر من أسباب الفرقة والمعصية والإختلاف الذي يؤدي الى العناد والإستكبار.
ومن معالم يوم القيامة ان الناس على قسمين: قسم تبيض وجوههم وأخرون تسود وجوههم، ترى لماذا لا يقف الامر عند بياض وجوه المؤمنين، ويترك الكافرون على حالهم من غير ان تسود وجوههم الجواب من وجوه:
الأول: يوم القيامة هو أوان الجزاء.
الثاني: عدم انحصار الجزاء بالثواب للمحسنين، بل يشمل العقاب لاهل المعاصي.
الثالث: الدنيا دار امتحان واختيار.
الرابع: في العقاب حث للناس على االصالحات، وزجر عن المنكرات والقبائح.
الخامس: جاءت الآية لبيان عاقبة فعل المعاصي، ولزوم اجتنابها.
السادس: ذكر العقاب، يجعل المسلمين يمتلئون غبطة وهم يفعلون الصالحات، ويدركون حسن إختيارهم
و يأتي سواد الوجوه من امرين:
الأول: العذاب والخوف من شدته.
الثاني: يكون عرضاً واثراً للعذاب
الثالث : عقوبة مستقلة
ولا تعارض بين الوجوه اعلاه ، وتدل على عدم وجود احد من الكفار لايصيبه الحزن والغم والفزع يوم القيامة.
ويحتمل فزع وهلع الكفار يوم القيامة امرين:
الأول: انه عرض زائل ومفارق بلحاظ الخشية منه، او بداياته ثم الاعتياد عليه، او شدته.
الثاني: انه امر ثابت، وجزء من حال الكافر يوم القيامة.
والصحيح هو الثاني خصوصاً مع شدة واتصال العذاب الذي يتعرض له
والإخبار عن العذاب الاليم الذي ينال الكافرين انذار ووعيد لهم، ودعوة للتوبة والإنابة والتدارك، فهو لطف من عند الله ورأفة بالناس جميعاً، ولكن الكفار لم ينتفعوا منه ، فان قلت ان القرآن نزل للمسلمين، والكفار لم يعلموا بمضامين الآيات على نحو التفصيل والبيان، وفيه وجوه:
الأول: خطابات القرآن عامة، وشاملة للناس جميعاً.
الثاني: عدم إنحصار الجزاء بالثواب، بل يشمل العقاب أيضاً.
الثالث: الدنيا دار إمتحان وإختبار.
الرابع: في العقاب حث للناس على الصالحات، وزجر عن المنكرات والقبائح.
الخامس: جاءت الآية لبيان عاقبة فعل المعاصي ولزوم إجتنابها.
السادس: ذكر العقاب يجعل المسلمين يمتلئون غبطة وهم يفعلون الصالحات، ويدركون حسن إختيارهم.
السابع: الإخبار عن العذاب الأليم الذي ينال الكافرين إنذار ووعيد لهم، ودعوة للتوبة والإنابة والتدارك، فهو لطف من عند الله ورأفة بالناس جميعاً، ولكن الكفار لم ينتفعوا منها، فان قلت ان القرآن نزل للمسلمين، والكفار لم يعلموا بمضامين الآيات على نحو التفصيل والبيان، وفيه وجوه:
الأول: يتضمن القرآن آيات الانذار، ومنها هذه الآية الكريمة.
الثاني: جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الأرض كافة من دون إستثناء، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثالث: إمتنع الكفار عن دعوة الهدى والإيمان بإختيارهم، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الرابع: من لطف الله تعالى أنه مع امتناع الكفار عن الإيمان فان الآيات القرآنية وأمهات الأحكام الشرعية تصل اليهم بالإستماع او السماع، أي بإنصاتهم عن قصد، او بطروها على آذانهم على نحو عرضي خصوصاً في هذا الزمان وتداخل البلدان ووسائل الإعلام الحديثة المرئية والمسموعة.
الخامس: الكتاب السماوي المنزل حجة الله على الناس، والقرآن سيد الكتب السماوية، وعلى الناس الرجوع اليه والأخذ منه، والصدور عنه.
السادس: اتصال دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأجيال المتعاقبة، فالمسلمون مستمرون في دعوة الناس للهداية والإيمان.
السابع: أداء الفرائض العبادية حث للناس على الفوز بالثواب، وإجتناب أسوداد الوجوه يوم القيامة.
الثامن: من منافع قراءة القرآن في الصلاة إبلاغ الناس آيات الإنذار والوعيد، وجذبهم وحثهم على إغتنام الحياة الدنيا لنيل السعادة الأبدية.
وجاءت الآية بالإخبار عن إسوداد الوجوه، والسواد هنا عنوان الحزن والغم والحسرة والألم بالإضافة الى انه اثر للتعرض الى وطأة العقاب الشديد، ويحتمل هذا السواد أمرين:
الأول: انه على مرتبة واحدة بالنسبة لأهل النار، ووجه كل واحد منهم أسود.
الثاني: التباين في السواد شدة وضعفاً بحسب مراتب الإنغماس في المعاصي والذنوب.
والصحيح هو الأول، فأهل النار يواجهون العذاب الشديد ومعه الحزن والفزع والهلع، بأشد أحواله، كما ان سواد الوجه يأتي على وجوه:
الأول: أنه مقدمة للعقاب الأليم.
الثاني: اثر عرضي لحال الفزع والخوف التي تلازم الكافر يوم القيامة.
الثالث: هو عقوبة مستقلة قائمة بذاتها، فمن عقاب الكافرين إسوداد الوجوه.
الرابع: انه يكون علامة يعرف الكافرون بها يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وهي مجتمعة ومتفرقة من شدة عذاب الكفار يوم القيامة.
“ويقال سودت الشيء: اذا غيرت بياضه سواداً”( ).
مما يدل على ان المدار يوم القيامة في لون الوجوه ليس الحال في الدنيا إنما المدار فيها هو الأعمال، فالمؤمن ذو البشرة السوداء في الدنيا، يتغير لون وجهه يوم القيامة ويكون أبيض يشع نوراً، وكأنه اذا حزن يوماً للون وجهه فان هذه الآية وما فيها من البشارات تصاحبه وتلازمه وتطرد عنه هذا الحزن بالفرح الدائم الموعود ببياض الوجه وحسن المقام الدائم.
وفي الآية دعوة للناس تتعلق بالاعمال في الحياة الدنيا من وجوه:
الأول: من كان وجهه حسناًٍ جميلاً فعليه ان يتعاهده ويحفظه يوم القيامة بالايمان والعمل الصالح.
الثاني: من كان وجهه اسود او غير جميل فله ان يجعله بهياً مشرقاً ابيض بالتقوى والصلاح.
الثالث: الآية انذار لذي الوجه الحسن الذي يعمل الصالحات، يتنعم بحسن وجهه في الدنيا، ولكنه يخسره في الآخرة اذا لم يتب الى الله.
الرابع: الآية دعوة للمرأة الحسناء بالتقوى والصلاح وتعاهد جمالها وما رزقها الله من الحسن بالعفة والورع ليثبت عندها والى الابد جمال الوجه.
الخامس: تدعو الآية المرأة التي تصيبها الحسرة احياناً على فقدها الجمال الى الفوز بالجمال الذي يبهر الابصار يوم القيامة بالتقوى والصلاح ،ومن الآيات ان أمارات وعلامات الفوز تأتي لها عاجلا في الدنيا بما يسببه الورع ومظاهر الإيمان من الإكرام والإحترام والذكر الحسن بين الناس .
ويأتي السواد كناية عن القبح كما يقال: كلمته فما رد علي سوداء ولا بيضاء، أي كلمة قبيحة ولا حسنة( )، فهل المراد في الآية الكناية عن قبح وجوه الكافرين يوم القيامة، الجواب يحمل الكلام على المعنى الحقيقي وإرادة اللون الأسود لوجوه ا لكافرين،
ولا دليل أو قرينة على صرف اللفظ عن معناه الحقيقي وإسوداد وجوه الكافرين، نعم القبح عنوان عرضي إضافي لهذا الأسوداد، وهذا القبح خاص بالدنيا ، فقد تكون بشرة الرجل او المرأة في الدنيا سوداء ولكن معاني الجمال والحسن والقبول تبدو عليهما في الملامح وحتى اللون، كما ان البشرة السوداء أمر متعارف عند الناس وهو من بديع خلق الله والإرادة التكوينية التي ليس للإنسان فيها شأن أو أثر،فلا قصور أو خلل عند صاحبها .
وقد إتضح للناس جميعاً قبح التمييز العنصري الذي ظهر لحقبة من الزمن في بلدان غير إسلامية، وكان شطر من أسباب زواله تنزه العالم الإسلامي وخلو مبادئ الإسلام منه، ورفض المسلمين لفكرة التمييز على أساس اللون، بل ان المناصب والشأن والإمامة تعطى في الإسلام على أساس الكفاءة والورع والتقوى.
“ويقال: أتاني القوم أسودهم وأحمرهم، أي عربهم وعجمهم”( ).
مما يدل على عدم اعتبار اللون في النعت بالسواد والبياض في اللغة العربية والمتعارف عند المسلمين، فيكون العربي ابيض، ومن الأعاجم من هو أسود ويطلق عليه نعت أحمر في إشارة الى انه ليس عربي، ففي الآية اشارة الى عدم التمييز بين الناس بلحاظ اللون او العرق او القومية، فالمدار على الايمان والصلاح قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
واذ لا يكون سواد الوجه في الدنيا نقصاً أو عيباً، فانه يوم القيامة يكون عنواناً للقبح وشاهداً على سوء العمل، ويعكس حال الأذى التي فيها صاحبه.
لقد جعل الله عز وجل إختلاف وتعدد ألوان الناس، آية في الخلق والإرادة التكوينية، وموعظة ودعوة للإيمان والتصديق بالنبوة، قال تعالى [ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ]( ).
وكما جعل الله عز وجل لون البشرة آية في الدنيا وباباً للإمتحان فانه يكون في الآخرة مصداقاً من مصاديق الجزاء، فمن كان جزاؤه حسناً فوجهه يومئذ أبيض مشرق، ومن كان جزاؤه عقاباً فوجهه أسود، وفيه إنذار للناس وحث على شكر الله عزوجل على نعمة الخلق والتكوين بإجتناب الجحود بالنبوة والتنزيل.
وجاء سواد الوجوه يوم القيامة بخصوص الكذب والإفتراء على الله، قال تعالى [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ]( ).
ويحتمل وجوهاً:
الأول: الكذب على الله من مصاديق الفرقة والإختلاف الذي تذكره الآية السابقة، وسواد الوجوه من العذاب العظيم الذي اخبرت عنه.
الثاني: تعدد أسباب العقوبة المتحدة، فسواد الوجوه يوم القيامة جزاء الذي يختار الفرقة والإختلاف، وجزاء الذي يكذب على الله عزوجل وعقوبة للكافرين.
الثالث: سواد الوجوه عقوبة لكل أهل النار، ونتيجة للفزع والخوف وشدة العذاب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه يؤكد ان الكذب والإفتراء على الله من وجوه ومواضيع الفرقة والإختلاف اللذين حذرت منهما ومن أهلهما الآية السابقة.
علم المناسبة
وجاءت آيات عديدة لبيان التضاد بين المسلمين والكفار، وما يمتاز به المسلمون يوم القيامة قال تعالى [ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ ] ( )، ومن وجوه الفوز يوم القيامة بياض الوجوه، وينال الكفار يومئذ سوء عاقبة فرط الغفلة، والتهالك على زينة الدنيا والإنشغال بالفرقة والإصرار على العناد والإستكبار وإتباع الشهوات “وعن مالك بن دينار مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدمنا، خسرنا ما خلفنا”( ).
قانون سواد الوجه
لقد أراد الله عز وجل ان يكون عالم الآخرة داراً للثواب والعقاب، ولا ياتيان الا بعد الحساب وكشف الأعمال وإقامة الميزان بالعدل، ومواطن يوم القيامة كلها من الثواب والعقاب وان كانت مقدمة ومدخلاً لهما وتلك آية إعجازية خاصة بالعالم الآخر، وتملي على الناس وجوب الإستعداد لتلك المواطن والمنازل التي تبدأ من دخول القبر، والحساب الإبتدائي فيه، ليأتي فيما بعد يوم النشر، ويبدأ الحساب التام والمتصل وساعات الفزع والحزن والخوف، وعرض صحائف الأعمال.
ليتبين مقام كل انسان وما يؤدي اليه عمله، ولكن الأمر لا ينحصر بالحساب فمن عظيم قدرة الله ان جعل الجزاء ظاهراً على الناس يوم القيامة في ألوان الوجوه.
فيظهر على المؤمنين البياض والإشراق رحمة بهم، وعلى الكافرين السواد والغبرة، ليكون إشعاراً بشدة العذاب وعنواناً لغضب الله عز وجل عليهم، وفي عموم إسوداد وجوه الكافرين أو عدمه وجوه:
الأول: شمول الكافرين كافة يوم القيامة بسواد الوجوه:
الثاني: إختصاص السواد برؤساء الكفر والشرك.
الثالث: تغشي السواد لأهل الفرقة والإختلاف الذين ذكرتهم الآية السابقة، بالإضافة الى أقطاب الكفار.
الرابع: إنحصار سواد الوجوه بالكفار الذين كانوا على الهداية والإيمان، ثم ارتدوا على أعقابهم.
والصحيح هو الأول لوجوه:
الأول: إصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني: عموم الحكم القرآني، وورود الحكم بعنوان الجزاء والعقاب الأليم.
الثالث: ذكر لوني البياض والسواد من غير قسيم ثالث لهما.
وتبين مضامين هذه الآية وما فيها من قانون سواد الوجه أموراً:
الأول: القبح الذاتي للكفر، ولزوم التنزه عنه.
الثاني: سواد قلب الكافر بإختياره الضلالة وإصراره على المعصية فسواد وجه الكافر في الآخرة يحكي قبح سريرته وسوء خلقه في الدنيا وأنشد إعرابي لعنترة بن شداد:
علّي قميص من سواد وتحته قميص بياض…بنائقه( )
وكان عنترة أسود اللون، وأراد بقميص السواد لون بشرته، وقميص البياض قلبه وسمته.
ومن الإعجاز ان تأتي الآية بوصف لون الوجه ولم تذكر كلاًً من:
الأول: لون البدن.
الثاني: لون الشعر وهل يكون على أصل الخلقة أسود، أم أنه أبيض أم بحسب الحال التي غادر بها الكافر الدنيا.
الثالث: القلب وما إذا كان أسود أيضاً.
أما الأول فان الآية جاءت بخصوص سواء الوجه وهو القدر المتيقن منها، والشمول بحاجة الى دليل، وقد ورد في القرآن ما يدل على حصول أثر الحزن والحسرة في الدنيا بسواد الوجه قال تعالى [ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ]( )، ولكن السواد في الدنيا يأتي على نحو طارئ وعلى مبنى خاطئ، أما في الآخرة فهو عرض ملازم ويأتي عقوبة فيمكن ان يكون بدن الإنسان اوان التغيير الذي يحصل فيه أدنى درجة من سواد الوجه وقد ذكرته آية أخرى قال تعالى [يوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا]( )، من خصائص بشرة الانسان ان انفعال وتأثر بشرة الوجه بالامور الخارجية الحسية والعقلية اكثر من بقية جلد الانسان فيكون التباين في الوصف القرآني بين وجه وبدن الكافر يوم القيامة اعجازاً في المقام والسواد اشد درجة من الزرقة ،لأن الوجه أكثر تأثرا.
وأما الثاني فلون شعر الكافر يكون أبيض لهول العذاب وشدته والفزع من يوم القيامة موضوعاً وحكماً، أما القلب فان وصفه بالسواد في الشعر والأدب ولغة التخاطب إنما هو كناية عن سوء الفعل وقبح النية والمقصد، وليس حقيقة.
نعم يمكن ان يكون بدن الكافر وأعضاؤه الداخلية يوم القيامة سوداء من شدة العذاب والإقامة فيه، إن قانون سواد الوجه في الآخرة يحكي العقاب الأليم الذي ينتظر الكافر، وفيه دعوة للنفرة من الكفر، والإبتعاد عنه، حث على اللجوء الى الإقرار بالربوبية لله تعالى والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون واقية وحرزاً من سواد الوجه وسبيلاً لنيل مرتبة بياض الوجه.
قانون البياض والسواد
جاءت هذه الآية ببيان قاعدة كلية وقانون من قوانين الآخرة يتعلق بلون الوجوه يوم القيامة، ويتكون من قسمين:
الأول: بياض وجوه الذين آمنوا.
الثاني: سواد وجوه الذين كفروا.
ولم تذكر الآية قسيماً ثالثاً بل حصرت القسمة بين البياض والسواد، فهل تشمل أحكام الآية الناس كافة يوم القيامة، أم ان بياض الوجه خاص بالذين أخلصوا في إيمانهم وعباداتهم، وانحصار سواد الوجه بالذين أصروا على الكفر وأرتكبوا الكبائر، أعرضا عن البينات وقال المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، وانه من الناس من ليس بمؤمن ولا كافر.
وأحتج عليهم الأشاعرة بهذه الآية وان الله عزوجل لم يذكر فيها إلا قسمين، يكون الناس يوم القيامة اما مؤمن واما كافر وليس من قسيم ثالث لهما، وان الآية وصفت أهل الجنة بأنهم أصحاب بياض الوجوه، وأصحاب النار بأنهم أصحاب الوجوه السوداء، ورد عليهم القاضي من رؤساء المعتزلة بان عدم ذكر قسم ثالث أعم من عدم وجوده، بمعنى أنه قد يكون هناك قسم ثالث ولكن لم يذكر في هذه الآية كما إستدل بتعلق سواد الوجوه بالذين كفروا بعد الإيمان، والكافر الأصلي من أهل النار قطعاً ولكنه لم يذكر في القسمين.
وأستدل بلغة التنكير في الآية في لفظ “وجوه” والتي لا تفيد العموم.
والنزاع صغروي ومعاني هذه الآيات والآيات المتعلقة بذات الموضوع أعم في دلالتها وجاءت الآية لبيان حال الناس للإنذار والتحذير ودعوة المكلف الى ان يختار أحدهما أما بياض وإشراقة الوجه، أو أسوداده وقبحه فالأولى هو الإهتمام بدلالات الآية العقائدية، ولغة الوعد والوعيد والبشارة والإنذار فيها ولعل قوله تعالى[أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ].
ثم ان لغة التنكير من إعجاز الآية فلو جاءت الآية بالتعريف “يوم تبيض الوجوه وتسود الوجوه” فحتمل تبادل البياض والسواد على ذات الوجوه، وان كل انسان يبيض وجهه مرة ويسود أخرى، من غير تمايز بين المحسن والمسيء، فمن خصائص التنكير هنا أمور:
الأول: إفادة المغايرة بين الوجوه التي يكسوها البياض، والأخرى التي تتشح بالسواد.
الثاني: في الآية دعوة للعمل الصالح، وإخبار الإنسان بان باب الأمل ونيل المراتب العالية في الجنة لا يزال مفتوحاً أمامه.
الثالث: من منافع لغة التنكير الإشارة الى حقيقة وهي ان بياض او إسوداد الوجه بلحاظ العمل.
أما ألكافر في الأصل فانه يدخل في مضامين الآية من باب الأولوية، فاذا كان الذي يكفر بعد الإيمان من أهل النار، فمن باب أولى أن يدخل النار الذي إختار الكفر من الأصل ولم يتلبس بالإيمان في حياته لأنه متلبس بالكفر والجحود من الأصل.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: عدم وجود فريق ثالث، فالآية تحصر أهل المحشر بفريقين أحدهما يتصف ببياض الوجوه، والثاني بسوادها.
الثاني: وجود فريق ثالث ولكن الآية لم تذكره لأسباب:
الأول: انهم عدد قليل ليس لهم شأن بلحاظ وكثرة أفراد الفريقين أعلاه.
الثاني: هذا الفريق من المتزلزل غير الثابت، فلابد ان يكون كل واحد منهم من أحد الفريقين.
الثالث: جاءت الآية بذكر من إمتلأت نفوسهم بالإيمان، ومن أصروا على الكفر، وتركت غيرهم من المستضعفين ونحوهم.
الثالث: موضوع وجود فريق ثالث أو عدمه لا تتعرض له الآية.
الرابع: الآية أعم من حالات الجزاء فيشمل موضوعها يوم القيامة مطلقاً، ابتداء من أوان النشور، وقد يبعث ترك فريق من الناس غير مقصود في الخطاب والتقسيم على التهاون من بعضهم، وزيادة جدال وريب أهل الضلالة وإدعائهم أنهم من فريق ثالث ليس في الجنة ولا النار.
الخامس: لقد جاءت آيات أخرى تبين ان سواد الوجوه أعم من أن ينحصر بالذين كفروا بعد إيمانهم، فيشمل الذين كذبوا على الله وان آمنوا ببعض الأنبياء قال تعالى [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ]( )، وكما يأتي سواد الوجوه عقوبة فانه عبارة عن أثر الحسرة والندامة على إرتكاب المعاصي، ورؤية الكافر لما ينتظره او يلاقيه من العذاب العظيم.
لقد أراد الله عز وجل في هذه الآية بعث الخوف والحزن في قلوب الكافرين مطلقاً، والسكينة في قلوب المؤمنين لتأتي وقائع يوم القيامة كما اخبر الله تعالى عنها، شاملة للناس على نحو العموم الإستغراقي، وجاء البياض والسواد مقدمة للتفريق والفصل بين أهل الجنة والنار.
ويحتمل البياض والسواد في سعتهما ومحلهما وجهين:
الأول: الإنحصار بالوجه من الإنسان يوم القيامة.
الثاني: الإطلاق وشمول البياض أو السواد للبدن كله، وجاءت الآية بذكر الوجه كجزء مع إرادة الكل وهو الرأس والوجه والبدن، كما ان البدن لم يذكره لستره باللباس والكفن ونحوهما.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: هو القدر المتيقن من الآية، فقد ورد ذكر البياض والسواد وبخصوص الوجه، والتعدي الى غيره يحتاج الى دليل.
الثاني: تظهر علامات التأثر عند الإنسان في الدنيا على بشرة الوجه مباشرة دون سائر البدن، وتبدو عليه حمرة الخجل وصفرة الخوف، ويتصبب عرقاً عند الحياء بخلاف باقي الأعضاء.
الثالث: جاءت الآية لبيان فرد من أفراد الثواب والعقاب يتعلق بالوجه وما يطرأ عليه من عرض ملازم وفي الآية مسائل:
الأولى: جاءت الآية للفصل المسلمين والكفار، فاذا كان الفصل بينهم في الدنيا بالعقائد والأعمال، وان المسلمين يؤمنون بالله ويصدقون بالأنبياء على نحو العموم المجموعي ويؤدون الفرائض العبادية، والكفار يكذبون بآيات الله ويجحدون بالأنبياء والكتب السماوية المنزلة ولا يأتون ما كتب الله من الفرائض العبادية على المكلفين، فيأتي يوم القيامة ليكون المصداق العملي البين للفصل بينهما بإعتبار أنه جزاء لعالم الأعمال.
الثانية: تتعدد ألوان وجوه الناس في الحياة الدنيا، فمنهم الأبيض والأحمر، والأشقر، والأسمر، والأصفر، والأسود، وتجد الإيمان يتغشى الناس من مختلف الألوان والشعوب والقبائل، وكذا ضده وجاءت هذه الآية الآية لتبين أحد قوانين يوم القيامة وعالم الحساب، وهو إنحصار ألوان الناس بلونين لا ثالث لهما، فأما أن يكون لون الوجه أبيض أو أسود.
الثالثة: بياض وإشراق الوجه يوم القيامة نعمة ورحمة تبعث على الغبطة والسعادة، وسواده عقاب وعذاب.
الرابعة: بإمكان الإنسان وهو في الدنيا أن يحدد لون وجهه في الآخرة، وتلك آية إعجازية في خلق الإنسان والإرادة التكوينية والتشريعية، لذا جاءت الآية لبعث المسلمين والناس جميعاً على الفوز ببياض وإسفار الوجه،فان قلت لقد أخبرت الآية عن وجود فريقين متضادين يوم القيامة، ويظهر التباين بينهما في لون الوجه، فلو آمن الناس جميعاً فلا يبقى من يسود وجهه منهم، وهو مخالف لمنطوق الآية.
وفيه وجوه:
الأول: ذكر سواد الوجوه على نحو العقوبة المعدة، لإمكان حدوث الكفر والكذب على الله، وعالم الإمكان أعم من عالم الوقوع.
الثاني: الآية من شواهد العلم الإلهي المطلق، وإحاطته بالموجود والمعدوم، وان الله عز وجل يعلم بوجود الكفار مع آيات الدعوة ومجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات التي تحث الناس على الهدى والإيمان، ونزول القرآن بآيات البشارة والإنذار.
الثالث: حتى لو حصل إيمان الناس جميعاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا مؤهلين لتلقي نعمة بياض الوجوه في الآخرة، فان مضامين الآية تتعلق بالأمم السالفة وحصول الكفر والجحود وأسباب الفرقة والإختلاف عندهم.
والصحيح هو الثاني ولا يتعارض معه الثالث أو الأول، وتلك من آيات الله تعالى، فجاءت الآية لبشارة المسلمين وترسيخ أقدامهم في منازل الإيمان، ووسيلة للتوبة والإنابة، فمن الناس من يقرأ هذه الآية فيقلع عن المعاصي، ويتوب عن الكفر، ويدرك ان المعاصي والذنوب لا تستحق ان يلقى بسببها إسوداد الوجه في الآخرة وما يعنيه من الخزي والأذى، وجاءت الآية بالإخبار عن حالي البياض والسواد ومع تضادهما فان هناك تأثيراً متبادلاً بينهما من وجهين:
الأول: في الحياة الدنيا، وهو على وجوه:
الأول: تبعث البشارة ببياض الوجوه الندم في قلوب الكافرين.
الثاني: تحث الآية أهل الفرقة والإختلاف على نبذهما والرجوع الى النبوة والتنزيل.
الثالث: تبعث الآية الفزع والخوف في قلوب الكفار ما داموا مقيمين على المعاصي.
الرابع: تجعل الآية الكفار منشغلين بأنفسهم، وتمنعهم من إيذاء المسلمين ولو على نحو السالبة الجزئية، مما يسهل للمسلمين تثبيت معالم الدين.
الخامس: تعتبر لغة البشارة والإنذار في الآية من مصاديق الموعظة والإعتبار والإرشاد.
السادس: رؤية الكفار لحال المؤمنين في الدنيا وما هم عليه من الوحدة والصلاح والمنعة يبعث على السعي لنيل نفس مرتبتهم بالتوبة والإنابة، فانت ترى أصحاب المهنة والتجارة والصنعة الواحدة يحاكي بعضهم بعضاً في كيفية طلب الرزق والإرتقاء في عملهم، وهو من خصائص الإنسان وحب المنافسة والتسابق عنده.
فتأتي هذه الآية لتحث الإنسان على المنافسة والسباق في الخيرات، والإنتقال الى منازل الإيمان التي تحقق له اعظم ربح في الدنيا والآخرة وتجعله بالإيمان غنياً دفعة واحدة لا يصل اليه الفقر بعدها أبداً.
السابع: أن علم المسلمين بحال الكفار يوم القيامة يبعث السعادة في نفوسهم ليس شماتة بل لحسن إختيارهم الإسلام، ونجاتهم من شدة العقاب، وإذا لم يكن في البلدة كافر فان المسلم حينما يقرأ هذه الآية يشعر بالرضا والغبطة ويشكر الله على نعمة الهداية.
الثامن: الآية موضوع لدعوة وجذب الناس لسبل الإيمان، وتجعل المسلم يحرص على نجاة غيره من سواد الوجه يوم القيامة فيدعوه للإيمان ويزينه في نفسه.
التاسع: تجعل الآية المسلمين يصبرون على البلاء، وما يلاقونه من صنوف الأذى من الكافرين، لأنهم يرون ما يصيب الكافرين من العذاب الشديد يوم القيامة وكأنه قريب وأمر واقع بهم.
العاشر: جاءت الآية لبيان المدركات العقلية والقواعد الكلية بالأمر المحسوس الذي يدركه الإنسان بحواسه، وهو من مصاديق اللطف الإلهي في الآية وتقريب المسلمين الى سبل الطاعة.
الحادي عشر: التقسيم المعنوي بين المسلمين وغيرهم، فيكون بياض الوجوه في الآخرة مادة للتعارف بين المسلمين في الدنيا وسواد وجوه الكفار في الآخرة سبباً للنفرة منهم في الدنيا وإرشادهم مع الإمكان.
الثاني: في عالم الآخرة وهو من وجوه:
الأول: نيل المسلمين الجزاء الحسن مصداق لبشارة القرآن، وهو باعث على الحسرة والندم في قلوب الكافرين.
الثاني: يستحضر المسلمون يوم القيامة أفعالهم من الصالحات التي هداهم الله لها وصارت مادة للثواب.
الثالث: بعث الحسرة والندم والخيبة في قلوب الكافرين، لتخلفهم عن مراتب الإيمان وإعراضهم عن الدعوة الى الهداية، وفي القرآن تبيان لكل شيء وقد جاء بالإخبار عن لوم أهل النار بعضهم بعضاً، لقيامهم بالصدود عن سبيل الله والإغراء بالمعاصي والسيئات، وهو خالِ من إعتذار الكافرين بان المسلمين لم يدعوهم الى الإيمان، بل العكس هو الصحيح، اذ تخبر الآيات عن إقامة الحجة على الكافرين والجاحدين.
وهذه الآية من آيات الدعوة الى الله، ومن وظائف الإنذار من عذاب سواد الوجوه الذي يشمل الكفار يوم القيامة نفرة الناس من الكفر ورؤيتهم للقبح الذاتي للجحود والمعصية، وجذبهم الى منازل الهداية والإيمان.
الرابع: رؤية المسلمين للخزي الذي يصيب الكفار في الآخرة بسواد وجوههم واليقين بصدق إنذارات القرآن.
الخامس: حصول الفصل بين الفريقين يوم القيامة، ففي الدنيا إختار الكفار الفرقة والإختلاف، ولم يلتفتوا الى المواعظ وآيات الإنذار والوعيد، وجاء يوم القيامة ليغرق ويبتعد عنهم المسلمون، ويرى الكافر المسلم غارقاً في النعيم فيزداد الكافر حسرة وألماً، ويدرك الخسارة العظيمة التي لحقته بإصراره على الكفر وإعراضه عن دعوة الإيمان والتحذير من إسوداد الوجه في الآخرة.
قانون النجاة من سواد الوجه
أخبرت الآية عن حال الناس يوم القيامة من خلال حصة معينة يومئذ هي لون الوجوه، وتلك آية إعجازية تبين تعدد أحكام يوم القيامة وشمولها لأحوال الناس وهيئاتهم وابدانهم ورؤية بعضهم لبعض، ورؤية الخلائق لهم في آية من بديع صنع الله عز وجل، وعظيم قدرته ووفائه بما وعد به أهل الإيمان، وإنجاز عالم الحساب والجزاء.
وقسمت الآية الناس الى قسمين متضادين لا تداخل بينهما، والمائز هو لون الوجوه، وهو لا يمنع من وجود أمور تفيد التباين والتضاد بينهما، وذكر سحنة ولون الوجوه على نحو الخصوص في آية مستقلة يؤكد موضوعية هذا الأمر أي لون الوجوه في الدنيا والآخرة.
وتخاطب الآية العقل الإنساني وتدعوه للإنتفاع الأمثل منها ومما فيها من التقسيم الأخروي، وهل من مصداق لهذا التقسيم في الحياة الدنيا، الجواب نعم ولكن على نحو الموجبة الجزئية، فترى النور يكسو وجه المؤمن في الدنيا، وترى الكافر منشغلاً بالدنيا وزينتها وتظهر آثار اللهث وراء الدنيا وعناء الفرقة والإختلاف ظاهرة على وجهه، ولكن بياض وسواد الوجوه في الآخرة يأتي على نحو بيّن وواضح ومن خصائص الدنيا دون الآخرة التوبة والإنابة، وهو قانون ثابت وباب جعله الله عز وجل مفتوحاً للناس على وجهين:
الأول: القضية الشخصية وإمكان الإنسان التوبة حتى آخر حياته وإختيار الإيمان ونبذ الكفر.
الثاني: القضية النوعية الدائمية، وهي ملازمة التوبة للإنسان ما دام حياً، وعدم غلق بابها، وتلك نعمة عظيمة من نعم الله، وحجة على العباد، فلم يأتِ سواد وجوه الكافرين في الآخرة عن غفلة وجهالة من الناس، ولم تباغتهم تلك الحال، اذ يعترف الكافرون يومئذ باستحقاقهم العذاب، ومن مصاديق الإعتراف والإقرار بالذنب ظهور السواد على وجوههم ومن اللطف الإلهي ان قوله تعالى [وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] يتضمن وجوهاً:
الأول: الإخبار عن حال من أحوال يوم القيامة.
الثاني: بيان جانب من الأذى الذي يلح قالكفار.
الثالث: عدم إنحصار عقوبة الكفار بدخول النار، بل يبدأ لاعقاب بإسوداد الوجوه وحال الفزع والخوف الملازمة لهم من حين البعث والنشور، ولا تنحصر منافع التوبة من النجاة من أعباء الذنوب كي يحتمل ان يكون التائب يوم القيامة برزخاً ومنزلة بين المنزلتين، بل ان التوية ناقلة للإنسان من منازل الكفر الى الإيمان، ومبدلة سواء وجهه في الآخرة الى بياض مسفر، قال تعالى [إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ]( ).
ومع وجود المقتضي وفقد المانع فان التائب يلحق بأهل الإيمان ويكون ممن تبيض وجوههم يوم القيامة، ومن الآيات في التوبة ومنافعها في الدنيا أنها تطرد الخوف والحزن من قبل التائب، فلا يبقى متردداً يخشى ان لا تقبل توبته او انها لا تنفعه في الآخرة، فمع التوبة تنزل السكينة على نفس التائب ويتطلع الى غدِ مشرق، والى مقام كريم في الآخرة، ومن أفراد السكينة هذه الآية التي تبشره ببياض وجهه، وتخلصه من سواد الوجه يوم القيامة، وتلك نعمة دنيوية عظيمة، وشاهد على إعجاز الآية، وموضوعيتها في إصلاح النفوس والمجتمعات، وإنجذاب الناس الى الهداية والإيمان، وتعضيدها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل البيت والمسلمين عامة في الدعوة الى الله عز وجل ونبذ الفرقة والإختلاف.
ومن خصائص التوبة الفوز بمحبة الله قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ]( )، ومن ينال مرتبة محبة الله فان سواد الوجه يبتعد عنه ولا يستطيع أن يصل اليه لأنها واقية من العذاب الأخروي.
قوله تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ]
من إعجاز القرآن البيان والتفصيل، وتضمن هذه الآية بخصوص الكافرين وجوهاً:
الأول: الإخبار عن سواد وجوههم.
الثاني: إفرادهم بخطاب التوبيخ يوم القيامة.
الثالث: ذكر زمان سواد الوجوه وهو يوم القيامة.
الرابع: بيان علة سواد الوجوه وهو الكفر والجحود.
الخامس: التوكيد على ترتب العقاب والعذاب على الكفر بقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ].
وفي المقام مسائل:
الأولى: هل يرى أهل الإيمان الكفار وسواد وجوههم.
الثانية: هل يسمع المؤمنون التوبيخ والتبكيت الموجه للكفار.
الثالثة: في الآية حذف والتقدير: فينادون أكفرتم بعد إيمانكم فمن الذين يناديهم ويقول لهم هذا القول.
الرابعة: لماذا هذا التوبيخ.
أما الأولى فان أهل الإيمان يرون الكفار في المحشر ومواطن الحساب وإسوداد وجوه الكفار مطلق في زمانه يوم القيامة، ويكون أمارة وقرينة على ان صاحب الوجه الأسود يوم القيامة من أهل العذاب، وفي الآية دلالة على ان المؤمنين من الذين بشرتهم في الدنيا سوداء لن يكونوا يوم القيامة على ذات البشرة بل تكون بشرتهم بيضاء على الضد من حال الدنيا، وهل يؤثر هذا في معرفته الناس وأصحابهم في الدنيا لهم، الجواب لا، لوجوه:
الأول: بقاء ذات الملامح التي لهم في الدنيا.
الثاني: فضل الله تعالى في جعل الناس يعرفون بعضهم بعضاً لتمام الحجة، وبيان عظيم قدرة الله تعالى.
وأما الثانية فان المؤمنين يسمعون التوبيخ الموجه للكفار، يكون مناسبة للشكر لله تعالى، ومحل هذا التوبيخ لا ينحصر بالنار بل يشمل ما يسبق دخول الكافرين لها، وفي المواطن التي يجتمع فيها الناس، ومن الإعجاز ان الآية ذكرت خطاب التبكيت والذم الموجه للكفار، ولم تذكر خطاباً للمؤمنين ولكنها أخبرت بانهم في رحمة الله.
أما الثالثة فالنداء الموجه للكفار بالذم والتوبيخ يحتمل وجوهاً:
الأول: ان الله عز وجل هو الذي ينادي على الكافرين بالذم والتوبيخ، وقد ورد آيات عديدة تتضمن توجه النداء من عند الله الى أهل النار توبيخاً، قال تعالى [وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ] ( ).
الثاني: مجيء النداء من الملائكة لتبكيت الكافرين وتذكيرهم بذنوبهم وإتمام الحجة عليهم قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ…] ( ).
الثالث: يأتي إنكار فعلهم من أنبياء زمانهم، فكل أمة تفرقت وإختلفت ولم تستمر في تصديق النبوة يخاطبها نبيها بلغة اللوم والذم ويكون عليها شهيداً قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ]( ).
الرابع: ان الذي يوجه لهم اللوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم تفرقوا وأعرضوا عن نصرته، ويكون يوم القيامة شهيداً عليهم.
الخامس: يوجه المسلمون اللوم الى أهل الفرقة وإلانقسام وهجرانهم الإيمان وما فيه من الثواب العظيم.
السادس: يلوم الكفار بعضهم بعضاً، ويوبخ كل فرد أو جماعة منهم اقرانهم لإختيار الكفر، ونسبة الضلالة والأغواء اليهم.
السابع: يأتي توبيخ الكافر من ذاته، حينما تشهد عليه جوارحه سواء يكون بذات الشهادة، او مترشحاً عنها أو أنه موضوع مستقل وفرع من أهلية الأعضاء يوم القيامة على الشهادة واللوم الذاتي قال تعالى [ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ]( ).
الثامن: تعدد جهات اللوم والتوبيخ للكافرين يوم القيامة، اذ يأتيهم الذم على ترك الوظيفة العقائدية والعبادات يوم القيامة من أهل المحشر، وهذا الذم يحتمل وجوهاً:
الأول: مجيؤه إبتداء فيسمع الكفار الذم من هنا وهناك.
الثاني: يعتبر الذم والتوبيخ ضرباً من ضروب العذاب يوم القيامة، وفيه زيادة في حسرة الذين كفروا، وتذكير بسوء صنيعهم.
الثالث: يأتي الذم رداً على الكفار عند سؤالهم الشفاعة، أو قيامهم بالجدال.
الرابع: يأتي تارة إبتداء وأخرى رداً وجواباً على سؤالهم.
الخامس: أنه جزء من وجوه الحساب يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ولا مانع من تكرار القول وتعدده بلحاظ الجهة والزمان والموضوع، وتلك عقوبة إضافية وسبب للألم والحسرة المتصلة عند الكفار، وفيه دعوة لهم في الدنيا للإتعاظ والتدارك والتخلص من الكفر والجحود والإختلاف بالتوبة والإنابة.
وبينما جاء الإخبار عن سواد الوجوه في أول الآية بصيغة المضارع [َتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] جاء هذا الشطر منها بصيغة الماضي “اسودت” فلم تقل الآية [فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ].
وتفيد صيغة الماضي في المقام الإمضاء والتقرير والإخبار عن حتمية حصول الأمر وانه لابد من إسوداد وجوه أهل الفرقة والإختلاف بسبب كفرهم وجحودهم وإصرارهم على الخلاف، وفيه توكيد على حصول الإنقسام والفصل بين الناس يوم القيامة بلحاظ الأعمال في الدنيا، وعدم إنحصار الفصل بينهم بدخول الجنة والنار بل يشمل لون الوجوه والكلام الذي يقال لهم.
ويتضمن الكلام الموجه للكافرين يومئذ التوبيخ والتبكيت واللوم، وإقامة الحجة عليهم، وذمهم لحرمان أنفسهم من النعم الأخروية والتسبيب بالأذى والعقاب الذاتي، وتخبر الآية عن شدة العقاب وانه لا يقف عند إسوداد الوجه، فقد يظن بعضهم ان الناس في الدنيا يتعايشون فيما بينهم مع التباين في الوان الوجوه، وقد تجد الأبيض يتزوج امرأة سوداء اللون أو العكس.
وليس من ملازمة بين منازل الناس في الدنيا وبين ألوان وجوههم، فجاءت هذه الآية ان سواد الوجه في الآخرة عقاب وعذاب وانه سبب لتلقي اللوم والذم لسوء العمل، فلا أحد في الدنيا يوجه اللوم لصاحب الوجه الذي يتغشاه السواد لأنه من الإرادة التكوينية وأصل الخلق، ولأن المدار على الأعمال والأفعال.
أما في الآخرة فالأمر مختلف، اذ ان سواد الوجه يجلب الحزن والغم، ويكون سبباً لتلقي التقبيح وإنكار الأفعال في الدنيا، وهو مانع من الكذب والإعتذار وإدعاء غير الواقع، فسواد الوجه فاضح لصاحبه، وفي الدنيا لا تجوز غيبة من لم يتجاهر بذنبه، ولو كان يأتي الذنوب ومنها ما يفعله جهرة ومنها خفية وتستراً، فلا تجوز غيبته فيما يأتيه خفية، عسى أن يتوب الى الله فيستر عليه أما في الآخرة فالأمر مختلف، إذ يشمل العقاب الذنوب مطلقاً الا من تاب وأناب الى الله عز وجل.
فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية، تحضر افعال العباد كلها، وجاءت هذه الآية لتوكيد هذه الحقيقة، والتذكير بيوم الحساب، وسوء مقام الكافرين الذين يصرون على الجحود بالنبوة والتنزيل.
والجمع بين الأخبار عن إسوداد الوجه بصيغة الماضي في هذه الآية وتوجه كلام الإنكار والتوبيخ لهم يفيد إستمرار سواد الوجوه وأنه لا ينحصر بموطن واحد من مواطن يوم القيامة مع تعددها وكثرتها.
ومع ان هذا الشطر من الآية يخبر عن حال الكافرين في الآخرة فانه لطف بالمسلمين من وجوه:
الأول: يدل الإخبار في مفهومه على البشارة للمسلمين بحسن العاقبة، ونجاتهم من إسوداد الوجوه.
الثاني: في الآية حث على فعل الطاعات والتسابق في الخيرات احترازاً من إسوداد الوجوه وإبتغاء لبياضها في الآخرة.
الثالث: في الآية شفاء لصدور المؤمنين لما فيها من الإخبار عن حال أعدائهم وما ينتظرهم يوم القيامة.
الرابع: الآية مادة للإحتجاج، ووسيلة لدعوة الناس الى الإيمان شفقة عليهم.
الخامس: طرد الغفلة عن المسلم وجعله يعلم بنوع من أنواع الحساب يوم القيامة، وان الثواب والعقاب لا ينحصران بالأثر الخارجي الذي يأتي الى العبد من صيغ الإكرام في الثواب، وضروب العذاب والبطش في العقاب، بل يشملان التغيير والأثر الذاتي في أهل الموقف، ويأتيان على بدن الإنسان وخلقته ولون وجهه، فيكون الإنسان بلحاظ لون الوجه على أربع وجوه:
الأول: من يكون وجهه أبيض في الدنيا وفي الآخرة، وهو المؤمن الذي يعمل الصالحات.
الثاني: من يكون وجهه أبيض في الدنيا في أصل خلقته، ولكن إرتكابه الفواحش والذنوب، وإصراره على الكفر والكذب على الله يجعل وجهه أسود يوم القيامة.
الثالث: من يكون وجهه أسود في الدنيا في الدنيا والآخرة، فان لون بشرته في الدنيا من بديع صنع الله، سواء في ذات السواد او في التعدد والتباين في ألوان وجوه الناس، وما له من الدلالات ومعناوين الإبتلاء ولكن سواده يوم القيامة عقوبة وسخطاً من عندالله.
الرابع: من يكون لون وجهه أسود في الدنيا ولكنه يمتلأ نضارة في الآخرة مع جمال هيئته إستبشاراً بثواب ما عمله من الصالحات.
الخامس: من يكون وجهه بمنزلة بين المنزلتين في الدنيا فلا هو بالأبيض ولا بالأسود ويأتي يوم القيامة، فرحاً جذلاً ببياض وجهه جزاء على إيمانه وتقواه.
السادس: الذي يكون وجهه في الدنيا ليس بالأبيض أو الأسود، وليس أمامه يوم القيامة الإختيار وإقامته على المعاصي تجعل عاقبته الى سواد الوجه.
وجاءت هذه الآية للتنبيه على جمال الوجه وعظيم فضل الله تعالى على الناس بجمال وجوههم وسيمائهم وهيئاتهم ولزوم تعاهد هذه النعمة، والمحافظة عليها ونيل الأحسن والأجمل فيها يوم القيامة بالهداية والتقوى.
وتبين الآية اهمية لون بشرة الوجه للإنسان وأثرها في نفسه ولا يستطيع الإنسان أن يعرف مدى إهتمام وعناية والتفات غيره الى وجهه ولون بشرته، نعم يمكن أن يعرف حاله هو نفسه وكثرة نظره للمرآة ورسوخ صورته في الوجود الذهني، وإعتبارها في الصلات والمعاملات، فلذا جاءت الآية لتدعوه للعمل الصالح وتنهاه عن السيئات بالإشارة الى موضوع ذاتي له خصوصية عنده وهو لون الوجه.
ومن الإعجاز في الآية انها لم تحصر موضوعها بخصوص البشارة، او الإنذار وحده، بل جاءت شاملة للأمرين معاً، ومبينة لحال كل من المؤمنين والكافرين لتكون أبلغ في الموعظة والإعتبار كما جاءت بصيغة الجمع لينظر الإنسان وهو في الدنيا الى الآخرين بمنظار هذه الآية وفيه وجوه:
الأول: يرى المسلم إخوانه المؤمنين وكأن وجوههم بيضاء مشرقة ويفوح منها عطر التقوى، وليس بين هذه الرؤية ورؤية البياض حقيقة، وعلى نحو الدوام والثبات الا مغادرة الدنيا وبهذا لا يصيبه الفزع من الموت لأنه واسطة لعالم أبهى وأجمل، وفيه حث له على المواظبة على الصالحات وإعانة المسلمين على تعاهد الإيمان.
الثاني: رؤية المسلم للكفار وأهل الفرقة والإختلاف من الملل الأخرى وجوههم سوداء قاتمة مما يصلونه من النار يوم القيامة، مما يبعث النفرة في نفسه من الكفار وتزداد حذراً من الذنوب والفواحش.
الثالث: رؤية الكافر للمؤمنين، وكأن القيامة قد قامت وجاءوا ووجوههم بيضاء، في أمن من الخوف والفزع من أهوال الآخرة، وفيه دعوة له لدخول الإسلام، وإنقاذ من براثن الذنوب من أجل اللحاق بالمسلمين وليس بينهم وبين الفوز بهذه النعمة الا التخلص من القبائح والمنكرات.
الرابع: رؤية الكافر لأصحابه من الكفار وهم بمنظر قبيح، يصبغ وجوههم اللون الأسود عقوبة، فتزدري نفسه منهم، ويستبين له قبح أفعالهم ويتلمس وجوه الفرقة والإختلاف فيما بينهم لتركهم الإتحاد في الخضوع والخشوع لله تعالى.
فالنجاة من الفرقة والخلاف في الدنيا، وسواد الوجوه في الآخرة يكمن بالخضوع لله تعالى، فهو عنوان الإتحاد لأنه يرتكز على مضامين العبودية.
قانون الوجوه
لقد جعل الله عز وجل وجه الإنسان من أشرف أعضائه، وخصه في أفضل عمل وهو الرأس وليس في بدن الإنسان جزء تتعدد فيه الأعضاء مثل الوجه مع صغره بالنسبة لمطلق البدن، وفيه ثلاث من الحواس الخمسة ففيه البصر والسمع والذوق.
ومن خصوصيات الوجه ان جعل التباين والفرز بين الناس بلحاظه، وحسب ما فيه من الملامح والأوصاف.
ومع كثرة أعداد الناس وهذه الزيادة في أهل الأرض التي تفوق حد التصور الذهني فان الإتحاد والتباين في الوجوه يحتمل وجوهاً:
الأول: التشابه بين بعض الأفراد من الأمصار المختلفة، فقد لا يكون للإنسان شبيه له في المصر الذي يقيم فيه، ولكن يوجد له شبيه في مصر وبلد آخر من بلدان الأرض.
الثاني: التشابه بين الأقارب فقد يحصل شبه تام بين والد وولده احياناً.
الثالث: وجود الشبيه في الأجيال السابقة، فينعدم الشبيه في الجيل والطبقة الواحدة، ولكنه يكون في الأجيال السابقة، ولو أستعمل العلم الحديث في خزن وحفظ الصور، فانه يظهر التشابه الكثير بين الأجيال.
الرابع: عدم وجود تشابه بين إنسان وآخر وان تباينت الأزمنة وإختلفت الأمكنة، وتعاقبت الأجيال.
والصحيح هو الأخير، وتلك آية إعجازية مصاحبة لخلق الإنسان، وهو من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، وليس من تشابه تام في لون بشرة وسمة ولون ولين وهيئة الوجوه.
وكل وجه له خصوصية يمتاز بها عن غيره من الناس ابتداء من آدم والى آخر الدنيا، وان ظهر للعيان شبه بين وجهين ،فعند التدقيق والتحقيق تتجلى علامات فارقة، وتلك آية في الخلق وبديع الصنع، فمع صغر الوجه، وكثرة الناس وأجيالهم ينعدم الشبه التام بين أي اثنين معهم، ذكرين كانا أو امرأتين، أو ذكراً وأنثى، والتباين وعدم التشابه في الوجوه رحمة بالإنسان ودعوة له لتعاهد هذه النعمة في الدنيا والآخرة.
وقد شرف الله عز وجل الوجه بان نسبه الى الذات المقدسة مع انه سبحانه لا يوصف قال تعالى [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ] ( ). اراد إياه سبحانه ، في إشارة الى شرف الوجه.
وقد ورد التشابه في الوجوه والأوصاف بخصوص الحيوان وفي التنزيل [إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا]( )، ولكنه ليس من تشابه بين الناس في دلالة على تشريف الإنسان وإكرامه من بين الخلائق بإنتفاء التشابه بين الناس ، ومن شرف الوجه انه مقدم ومستقبل الإنسان” ووجه كل شيء: مستقبله”( ).
وجاء ذكر الوجه في القرآن عنواناً للعمل ، وفي إبراهيم ورد قوله تعالى [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ]( )، كما جاء الخطاب بإستقبال القبلة في الصلاة متعلقاً بالوجه قال سبحانه [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
وجعل الله عز وجل السجود من أشرف أعمال الإنسان في الدنيا لأنه دليل الخشوع والخضوع لله تعالى، وأنعم عليه بان جعل علامة الورع والتقوى في وجهه قال سبحانه [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ] ( ).
والوجه نعمة من نعم الله عز وجل على الإنسان سواء بخصوص وجهه او بنظره ومعاملته مع غيره، وتتجلى نعمة الوجه في الحياة الزوجية وهي من أسباب الألفة والمودة بين الزوجين.
وكما يكون الوجه نعمة في الدنيا فهو محل للحساب في الآخرة ويظهر أثر الجزاء عليه، وتلك آية أخرى، وشاهد على لزوم شكر الله تعالى على النعم الدنيوية سواء في الخلق او الرزق والجاه او غيرها.
فجاءت هذه الآية لتبين ضرباً من ضروب الجزاء الخاصة بالوجه يوم القيامة، وهي على قسمين:
الأول: جزاء أهل الإيمان بخصوص الوجه وفيه فروع:
الأول: بياض الوجه كما أخبرت عنه هذه الآية.
الثاني: نضارة وإشراق الوجوه قال تعالى [ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ]( ).
الثالث: الإستبشار والغبطة وأمارات السعادة قال سبحانه [ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ] ( ). الرابع: اللين والنعومة وظهور علامات الرضا على الوجوه، قال تعالى [ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ]( ).
الخامس: السلامة من الأذى والوجل والصغار قال تعالى [وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ]( ).
الثاني: جزاء الكفار، وفيه فروع:
الأول: سواد وجوه الكفار يوم القيامة، وبه جاءت هذه الآية المباركة.
الثاني: قلب الكفار والمجرمين على وجوههم في النار عقوبة ومبالغة في شدة العذاب قال تعالى [يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ]( ).
الرابع: إصابتهم بالعمى والبكم والصمم عند الحشر يوم القيامة، وتلك عقوبة أخرى مقارنة لسواد وجوههم ، قال تعالى [وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا]( ).
الخامس: ظهور الإعياء والذل والهوان على وجوه الكافرين قال تعالى [وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ *تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ]( ).
ومضامين الجزاء في الوجوه يوم القيامة سر من أسرار خلق الإنسان والحياة الدنيا وعالم الآخرة، وكما يعتني الإنسان بوجهه، ويحرص على نضارته فانه مدعو بهذه الآية لسلامته في الآخرة، ونجاته من العذاب الشديد، فكما تكون بشرة الوجه أكثر تأثراً من بشرة وجلد باقي أجزاء الجسم فان شدة الألم تظهر عليه ومع أن الآية تذكر الضدين الثواب والعقاب فان كل فرد منهما رحمة بالناس، وكذا إجتماعهما والمقارنة والإلتفات الى التباين بينهما، وهذا من اعجاز إجتماع لغة البشارة والإنذار والوعد والوعيد في القرآن، وهي من مصاديق رحمة الله عز وجل في الدنيا بالعباد كافة.
قوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ]
لقد أفردت الآية الكريمة الكافرين والمجرمين بخطاب خاص يتعلق بوجوه:
الأول: ما يتصف به الكافرون من سوء الفعل في الدنيا.
الثاني: إقامة الحجة عليهم بإرتكابهم الشرك وإصرارهم على الضلالة.
الثالث: جحودهم لفضل الله عليهم بعد ان هداهم للإيمان.
الرابع: إعراضهم عن البينات مع أن الوظيفة الشرعية والعقلية تحكم بلزوم إعتبارها والإتعاظ منها.
الخامس: بيان علة سواد الوجوه في الآخرة، فمن عظيم رحمة الله عز وجل انه سبحانه لم يترك الكفار يواجهون العقاب اكتفاء بالبينات التي جاءتهم في الدنيا، بل توجه لهم اللوم في الآخرة ليكون حجة إضافية مع ما فيه من صيغة العذاب والعقاب، ليعلم الجميع أن الله عز وجل عادل لا يظلم، ومع ان ملكيته في الآخرة مطلقة فانه سبحانه يبين للكافرين أسباب عذابهم وأنها تتعلق بسوء إختيارهم.
وتبين الآية حقيقة وهي ان الأصل هو الإيمان، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إقرار الناس بالتوحيد، والعبودية لله تعالى في عالم الذر، قبل ان يبعث الروح في آدم عليه السلام.
الثاني: مجيء البينات شاهد على حصول الإيمان عند الناس، اذ انها لم تأتِ معلقة ويترك للناس إظهار الإيمان بها أو الإعراض عنها، بل مع مجيء الآيات والمعجزات الدالة على وجوب عبادة الصانع وصحة نبوة الأنبياء فان الحجة تقوم على الناس ويعتبر من أختار الكفر كافراً بعد الإيمان، بلحاظ كفاية مسمى الإيمان وصرف الطبيعة منه، فيكفي الإقرار باللآية والمعجزة ساعة وقوعها اوالإطلاع عليها وبلوغ خبرها قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ]( ).
الثالث: إرادة الذين آمنوا بالنبوة وصدقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم إرتدوا على أعقابهم كفاراً.
الرابع: موضوع الآية اعم من معاني ألفاظها، والوارد لا يخصص المورد، فالمراد ليس الذين إرتدوا فحسب بل تشمل الآية الذين كفروا مطلقاً.
الخامس: المراد أهل الكتاب لإيمانهم بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وكفرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالنسبة بين الذين آمنوا وصدقوا بنبوته وكفروا بها ليس التساوي كما يبدو للوهلة الأولى، بل النسبة هي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء هي وحدة الموضوع وهو التوحيد والنبوة ومادة الإفتراق هي الإيمان بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ان موسى وعيسى عليهما السلام بشرا وحثا الناس على تصديقه، كما ان الآيات والمعجزات جاءت معه.
فتقدير الآية: على وجوه:
الأول: مخاطبة الآية لليهود أكفرتم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانكم بنبوة موسى عليه السلام.
الثاني: توجه الآية للنصارى والتقدير: أكفرتم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانكم بنبوة عيسى عليه السلام.
الثالث: توجه الخطاب للكفار مطلقاً، أكفرتم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أصل الإيمان عند آبائكم ورؤية الآيات ومجيء البينات.
بحث إعجازي
من وجوه الإطناب “الإستقصاء” وهو أن يتناول المتكلم موضوعاً ويستقصي جوانبه ويذكر خواصه وعوارضه ولوازمه بما يفيد الفهم ويدفع الترديد ويطرد الإيهام، ولغة القرآن قائمة على الإستقصاء على وجوه:
الأول: الإستقصاء في ذات الآية بان تأتي مبينة بمضامينها موضوعاً وبياناً وحكماً.
الثاني: التفسير الذاتي للقرآن، بأن تأتي آية قرآنية تتناول موضوع وأحكام آية أخرى على نحو البيان والتفصيل بما يمنع من اللبس والجهالة.
الثالث: موضوعية السنة النبوية المباركة في بيان وإستقصاء مضامين الآية القرآنية، بإعتبار ان السنة من أقسام الوحي.
الرابع: مجيء عدة آيات متتاليات في إستقصاء موضوع الحكم.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن ان الوجوه أعلاه تأتي مجتمعة ومتحدة في تفسير الآية القرآنية، لتكون كل آية كنزاً من العلم تتناثر درره في الآيات الأخرى، وفيه شاهد على صدق نزوله من عند الله ودعوة للناس للإيمان، لينهل المسلمون من خزائن العلم وكنوز القرآن ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم.
وجاءت هذه الآية في الدعوة الى الخير والحث على الأمر بالمعروف والصلاح، وإجتناب السيئات والفواحش، والتحذير من محاكاة أهل الضلالة الذين أصروا على الكفر، وجحدوا بالنبوة، وركبوا جادة العناد.
ومن خصائص أهل العناد والكفر أن تتعدد مذاهبهم ومشاربهم، ويلقي الله بينهم العداوة والبغضاء لإعراضهم عن الوظيفة التي خلق الإنسان من أجلها وهي العبادة والخضوع لله تعالى، وأخبرت الآية السابقة عن العذاب الأليم الذي يلاقيه أهل الفرقة والشقاق من الكافرين، ثم جاءت هذه الآية لتبين التباين بين المسلمين والكفار، ويتجلى في هذه الآية والآية السابقة ، فأما الآية السابقة فقد تضمنت أمرين:
الأول: حال المسلمين في الدنيا وإختيارهم الإيمان وارتداء لباس التقوى بلحاظ صيغة التحذير من الفرقة والإختلاف.
الثاني: سوء فعل الكافرين في الدنيا وإختيارهم الفرقة والشقاق معصية وإستكباراً.
أما هذه الآية فتضمنت أمرين أيضاً:
الأول: بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة.
الثاني: سواد وجوه الكافرين يوم القيامة.
فبين هذه الآية والآية السابقة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الإخبار عن حال كل من المسلمين ، والكافرين، أما مادة الإفتراق، فجاءت الآية السابقة ببيان عمل المسلمين وعمل الكافرين في الدنيا.
وجاءت هذه الآية بالإخبار عن جزاء كل فريق منهما كما تبين هذه الآية شدة العقاب وعلته وأسبابه وهو من البيان الذاتي للآية الكريمة، وتتضمن آيات قرآنية عديدة التحذير من الجحود والكفر، وبيان سوء عاقبة الكافرين.
وفي السنة النبوية إخبار عن حال كل من المؤمنين والكافرين يوم القيامة، ووصف للنعيم الذي يعيشه المؤمنون في جنات الخلد، والشقاء والعذاب الذي يلقاه الكافرون في النار.
قانون علة النهي عن الفرقة
من الآيات في القرآن انه تضمن ما يحتاجه المسلمون بل الناس جميعاً في أمور دينهم ودنياهم، وجاءت آيات القرآن بلزوم التوحيد والإتيان بالشهادتين وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتقيد بأداء الفرائض والواجبات، كما انها ذكرت المحرمات بلغة الوعد والوعيد، وتضمنت هذه الآية الزجر عن الفرقة والإختلاف بصيغة النهي الذي يفيد الحرمة فلماذا جاء هذا النهي وما هي علته فيه وجوه:
الأول: من علامات الأمة التي ترث الأنبياء ان تكون متحدة غير متفرقة.
الثاني: الوحدة من مقومات تعاهد التوحيد في الأرض، فبالإضافة الى الإتحاد في العقيدة والمبدأ فانه يجب على المسلمين أن يتحدوا في الفعل والعمل.
الثالث: إعتبار قانون العلة والمعلول في المقام، فمع الإقرار بالشهادتين تأتي الوحدة بين المسلمين، مع حرصهم على إجتناب الفرقة والتشتت.
الرابع: الوحدة وعدم الفرقة آية إعجازية في ميادين السلوك تدل على صدق الدعوة الإسلامية، وقوة أثرها في النفوس والمجتمعات.
الخامس: الإخبار العملي عن حقيقة وهي ان الإعجاز في البعثة النبوية لا ينحصر بنزول القرآن بل يشمل سيرة المسلمين التي تدل على اللطف والعناية بهم ومنها فرارهم من الفرقة والإختلاف.وإن كانت هذه السيرة المباركة فرع إعجاز القرآن .
السادس: بيان وجه من وجوه الإعجاز الغيري لآيات القرآن وهو تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن.
السابع: أخبر القرآن عن وجود أعداء للمسلمين، وقيام الكفار بمحاربتهم ومحاولات إخراجهم من ديارهم، لذا فان الوحدة بين المسلمين والإبتعاد عن الفرقة حاجة عقائدية، ووسيلة لحفظ النفوس والأعراض والأموال.
الثامن: من وظائف المسلمين الجهاد في سبيل الله والذي لا يتم الا بالتآلف والتعاون وإنتفاء الفرقة وأسبابها، فجاءت الآية مقدمة للإشتراك في سوح المعارك.
التاسع: من ذخائر الإسلام الشهادة والقتل في سبيل الله، وجاءت هذه الآية لمنع الأسباب التي تشغل المسلمين عن الإشتراك في القتال دفاعاً عن الإسلام ونيل مرتبة الشهادة.
العاشر: تبعث الوحدة الرعب في قلوب الأعداء، فجاءت هذه الآية للتخفيف عن المسلمين، ومنع الكفار من غزو المسلمين والتعدي على ثغورهم، يحرص المسلمون على الوحدة ونبذ الفرقة فيخشاهم الكفار وتمتلأ قلوبهم رعباً منهم.
الحادي عشر: اذا تعاهد المسلمون الوحدة وظهروا للناس متحدين وبعيدين عن أسباب الفرقة خشى الكفار على انفسهم وأمصارهم، وأصبحوا خائفين وهم في ديارهم، ويبذلون الوسع لإستمالة المسلمين وإجتناب غضبهم وسخطهم، ويميل أهل الكتاب لدفع الزكاة لشراء سلامتهم.
الثاني عشر: الوحدة دعوة للإسلام ووسيلة لجذب الأفراد والجماعات والأمم لدخول الإسلام لما فيها من معاني القوة، ومصاديق الإعجاز والإيمان بالنبوة.
الثالث عشر: كان العرب قبل الإسلام يغزو بعضهم بعضاً، تتفشى بينهم عادات الثأر والنهب والإستحواذ بالقوة على مال الغير وسبي عياله، فجاء الإسلام ليأخذ بأيديهم الى سبل العز والمنعة، ويصون أموالهم وأعراضهم بنبذ الفرقة والإختلاف فيما بينهم.
الرابع عشر: يريد الله عز وجل للمسلمين القوة والعز والمنعة، والفرقة وما تؤدي اليه من نقيض القوة والعز، فلذا جاءت الآية للنهي عن ضد المنافع والغايات الحميدة في الإسلام.
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين تنزيههم ومساجدهم ومجتمعاتهم من أدران الفرقة والخلاف، فأمرهم في هذه الآية بالإحتراز من الإنقسام وداء الإختلاف.
وأنعم الله عز وجل على المسلمين بنعم تتنافى معها الفرقة منها:
الأولى: نعمة خلافة الأرض، ووراثة الأنبياء، ولقد كانت مدرسة النبوة مرآة الأخوة الإيمانية والتفاني في مرضاة الله، والغرق في أنوار جلال القدس، فأراد الله عز وجل إكرام المسلمين، وجعلهم مؤهلين لحمل أمانة تلك الوراثة وحفظها.
الثانية: جاءت الآيات السابقة بذكر نعمة الأخوة قال تعالى [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( )، ولابد ان نعمة الأخوة تحجب الفرقة وتأتي عليها، لذا ترى فرق ودول المسلمين اذا حصل بينهم نزاع وقتال فانه سرعان ما تكثر الوساطة الإسلامية بينهم ويتم الصلح، ثم تسمع الندم لحصول النزاع، وبعضهم يكره ان يذكر ويستحضر ما حدث تأسفاً.
الثالثة: وجود القرآن حاضراً في الواقع اليومي للمسلمين، لا يغادرهم ابداً وهو صلة للوصل والإتصال بينهم وان تباعدت أمصارهم وبلدانهم، فهو يتلونه تلاوة واحدة، وينجذبون الى آياته وما فيها من النهي عن الفرقة، فهذه الآية يقرأها المسلم الذي في المشرق وأخوه الذي في المغرب كما قرأها آباؤهما، ويتلوها أولادهما.
قانون علاج الإختلاف
يعتبر الإختلاف داء يصيب النفوس والمجتمعات وابتلاء ينجم عن فتنة وجهالة وعناد، وهو على قسمين:
الأول: الإختلاف بالخروج عن الصراط السوي، والطريق القويم، ويكون من طرف واحد أو أطراف متعددة، وتنجو منه الأمة التي تبقى على الحق والهدى.
الثاني: تفرع الإختلاف عن الفرقة والإختلاف نفسه، فمن مساوئ الإختلاف انه توليدي ينقسم الى عدة أقسام، فالإختلاف الأول يكون أصلاً للإختلاف والإنقسام الثاني، والثاني فرعاً له ثم يكون الثاني اصلاً لإختلاف آخر، لتنقسم ذات الجماعة وهكذا، فجاءت الآية الكريمة للنهي عن الإختلاف بين المسلمين من الأصل ومنع حدوثه ابتداء، والحصانة منه على نحو الدوام.
ليبقى الإحتراز من الفرقة من أهم وظائف المسلمين على نحو الدوام، ولا تنحصر مسؤوليته بفئة أو صنف من الناس ، بل يشمل الحكام والفقهاء والعلماء والملأ وذوي الشأن والجاه ، وعامة المسلمين رجالاً ونساء.
فحرص المسلم على أداء صلاة الجماعة من غير تقييد إمامتها ومسجدها وجماعتها بمذهب معين هو احتراز من الإختلاف وجهاد لوأده، فحتى لو أراد الملأ وأرباب السلطان والجاه ان يتولوا مسائل الفرقة والإختلاف فان العامة تستطيع منهم وافشال عملهم، وارجاعهم الى الجماعة بعدم مناصرتهم ،ودفع اسباب الحمية والشهوة والغضب ،وحثهم على الصبر لحين زوال الظلم ، إعانتهم على طرد الوهم بان طريق الإنقسام هو السبيل لإنقاذ الحق ومنع عدم الإنصاف،
ومن وجوه علاج الإختلاف تصدي نفر من العلماء وأهل التقوى له، والحرص على لباس التقوى والهداية، وإظهار التقيد بصيغ الوحدة ونشر علوم القرآن والسنة، وبيان الأحكام والدعوة الى إستنباطها من أصولها التفصيلية والإنتفاع من وسائل الإعلام كل بحسبه وزمانه من جهات:
الأولى: بيان قبح الإختلاف.
الثانية: إظهار إنتفاء الحاجة الى الإختلاف.
الثالثة: التوكيد بلغة البيان والتفصيل على لزوم إجتناب الفرقة، وبيان مساوئها وشرورها وآثارها الضارة في الدنيا والآخرة.
الرابع: إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرص الصحابة على العمل تحت لوائه وإنقيادهم لأوامره ونواهيه.
الخامس: حث المسلمين على الوحدة والإتحاد، الذي يتقوم بالإتحاد وذكر منافعه في الدنيا والآخرة.
السادس: إظهار مضامين الإيثار والتضحية والأخلاق الحميدة التي تكون في نفس الوقت واقية وعلاجاً.
السابع: التحلي بالصبر، من أجل تعاهد الوحدة الإسلامية، وتحمل الغبن والأذى الذي يأتي من الآخرين اذا كان هذا التحمل سبباً لبقاء الجماعة متحدة، أو يكون عوناً على بقائها وإجتناب إختيار الفرقة بسبب هذا الغبن والأذى.
لقد جاءت الآية للنهي عن الفرقة والإختلاف، ويتضمن هذا النهي في عموماته لزوم التدارك وعلاج الإختلاف في حال وقوعه ، وإستدامة الفرقة والإختلاف اشد من إبتداء وقوعهما ومن دلائل عموم المعنى للآية وشمولها حال الفرقة والإختلاف بعد وقوعهما هو النهي عن محاكاة الكفار وأهل الضلالة.
اذ انهم في حال مستديمة من الإختلاف، وكم من إختلاف ونزاع وقع بين بعض فرق المسلمين فتم تداركه وحصول المصالحة ونسيان الحدث، وفيه بعث للغيض في قلوب أعداء الإسلام وتذكيرهم بالمائز والخصال الحميدة التي يتصف بها المسلمون وتعاهدهم لأحكام القرآن وما فيه من النهي عن الفرقة والإختلاف.
وفي الوقاية الفرقة والإختلاف ، وعلاجهما من جهة الإجر والثواب وجوه:
الأول: ثواب التوقي والحيطة من الفرقة هو الأكثر لأنه إمتثال للنهي الوارد في الآية الكريمة ولأن النهي إبتدأ بذكر الفرقة ولزوم الإحتراز منها.
الثاني: الأجر والثواب في إجتناب الإختلاف هو الأكثر.
الثالث: الوقاية من الفرقة والإختلاف هي الأهم لأنها تمنع من وقوعهما من الأصل، وفيه طاعة لله وإظهار لمعاني الخضوع التام لأوامره سبحانه.
الرابع: يعتبر العلاج والتدارك دليلاً على تمسك المسلمين بوحدتهم، فيأتي الإختلاف من بعضهم، فتتماسك الأمة، وتتداعى كأعضاء الجسد الواحد اذا اصابته الحمى ويستحضر المسلمون هذه الآية، ويسعون وفق صيغ المودة والمحبة والأخوة لتدارك الفرقة والإختلاف، فيكون الثواب فيه أكثر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من أفضل مراتب الثواب والجزاء الحسن، وكل بحسبه وحاله والجهد والسعي وما يبذله العبد فيه سواء من وقته أو جهده او ماله، والله عز وجل يضاعف الثواب للذين يتعاهدون وحدة المسلمين، والنهي عن الشئ يقتضي في مفهومه الأمر بضده، والنهي عن الفرقة في هذه الآية يقتضي لزوم حرص المسلمين جميعاً على الوحدة الإسلامية بينهم، لذا جاءت الآية بصيغة الجمع “ولا تكونوا”
ومما ثبت في علم الفلسفة تنافي الضدين، وإمتناع إجتماعهما في المحل المتحد، وبما ان الله عز وجل أنعم على المسلمين بنعمة الأخوة الإيمانية، وجعلها ملازمة لهم، فان الفرقة والإختلاف لن يحلا في مجتمعاتهم، وأن طرأت الفرقة على نحو السالبة الجزئية فهي محودة موضوعا وزمانا والى زوال وإضمحلال ليبقى المسلمون في كنف رحمة الله وعظيم إحسانه عليهم.

وجاءت الآية بصيغة الجمع التي تدل على اشتراك الكفار في أمرين:
الأول: الكفر والجحود.
الثاني: حصول الكفر بعد الهداية والإيمان.
وبلحاظ الآية السابقة فان الإيمان حصل عندهم بعد مجئ البينات والدلالات الباهرات وفيه مسائل:
الأولى: توكيد رأفة الله بالناس وانه سبحانه أنعم عليهم بالبراهين التي تدعوهم للإيمان، وباللطف وتقريبهم الى سبل الطاعة.
الثانية: إقامة الحجة على الكفار، بان جحودهم جاء عن اسراف منهم، وظلم لأنفسهم خصوصاً وان البينة الواحدة تكفي للهداية والإيمان، قال تعالى [ وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ] ( ) فكيف وقد جاءتهم البينات والبراهين على نحو المتعدد ، ويحتمل تعدد البينات وجوهاً:
الأول: مجئ بينة لكل واحد من الكفار، فلغة الجمع بلحاظ تعدد الكفار ومخاطبتهم بسؤال إنكاري واحد (أكفرتم).
الثاني: مجئ البينات المتعددة لكل واحد منهم، وهو على قسمين:
أولاً: تأتي البينات لكل واحد من الكفار على نحو مستقل.
ثانياً مجئ البينات للكفار على نحو العموم المجموعي.
ثالثاً: التباين في عدد البينات، فمنهم من تأتيه البينات جملة وعلى نحو متعدد، ومنهم من تأتيه بينة واحدة.
رابعاً: اعتبار ذات البينة، فاذا كانت البينة اعجازاً ظاهراً وآية باهرة فانه تكفي الآية المتحدة،، واذا كانت البينة غير مبهرة فتأتي عدة بينات.
خامساً: موضوعية ذات المكلف وشأنه ودرجة فهمه، فاذا كان من ارباب العقول فتكفي بينة واحدة، واذا كان من العامة الذين لا يدركون الأمور الا بالواسطة فتأتيه عدة بينات رأفة به واتماماً للحجة.
والصحيح ان البينات تأتي على نحو متعدد لكل مكلف وان كل آية هي حجة ودليل قاطع على وجوب عبادة الله تعالى والخشوع له، وليس في البينات ما تكون غير خارقة للعادة او يمكن معارضتها، ويمكن ان نؤسس قاعدة وهي – لو شككنا هل تأتي البينات متحدة او متعددة فالأصل هو التعدد والكثرة لوجوه:
الأول: البينات من فضل الله ورحمة بالناس، وهو أرحم الراحمين.
الثاني: انها من خزائن علم الله، وليس لعلمه سبحانه منتهى.
الثالث: من عمومات قاعدة اللطف هداية الناس لمنازل الإيمان وإعانتهم على الطاعة، والبينات من الوسائل السماوية المباركة للهداية، قال تعالى [انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفورا].
الرابع: ان الله عز وجل اذا اعطى يعطي بالأوفى والأتم، والمتعدد من البينات هو الأوفى.
الخامس: يفيد ظاهر الآية مجئ البينات على نحو المتعدد بلحاظ صيغة الجمع فيها.
السادس: بالاضافة الى التنزيل ومعجزات الأنبياء، فان البينات تملأ الكون، وكل واحدة منها تلح على الإنسان ليتدبر فيها بلحاظ ما تدل عليه من وجود الصانع ولزوم طاعته.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على حصول النفع العام من البينات والآيات التي جاء بها الأنبياء، ويحتمل الإيمان في المقام وجهين:
الأول: انه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الثاني: الإيمان من الكلي المتواطئ الذي يكون عند جميع الناس على درجة واحدة، ولكنه عند الكفار من المتزلزل غير المستقر.
والأصح هو الأول، ولكن كل درجة من الإيمان تكفي لوجوب تعاهده والبقاء عليه وعدم تركه، ويدل عليه اللوم الموجه الى الكفار والذي يعني لزوم عدم ترك الإيمان او التخلي عنه الى منازل الكفر والجحود خصوصاً وانه جاء عن حجة وبينة قاطعة.
فان قلت: ان نعم الله عز وجل على الناس كثيرة ولا يمكن احصاؤها، فلما لا ينعم عليهم الله عز وجل بالبقاء في منازل الإيمان وعدم تركها الى الكفر والجحود.
الجواب: ان الله عز وجل جعل الدنيا دار امتحان واختبار، وبعث الأنبياء وانزل الكتب من السماء لهداية الناس وارشادهم لسبل الصلاح، واعد لهم دار الجزاء وجعل الخلود في النعيم ثواباً للمؤمنين، والمكث في النار والعذاب الأليم عقاباً للكافرين، وتفضل بلغة البشارة والإنذار، والوعد والوعيد وكلها من وسائل التقريب الى الطاعة ودعوة الإنسان للفوز بالسعادة الأخروية التي تكون بالنسبة للإيمان كالعلة التي لا يتخلف عنها معلولها، لذا اثبتت هذه الآية حصول الإيمان عند الكفار ولكنهم اختاروا الكفر بعده،
و تبين لغة اللوم الواردة في الآية إقامة الحجة على الكفار وانهم اخطأوا وأضلوا وأضروا أنفسهم وغيرهم، فالسؤال الاستنكاري في الآية دليل وحجة على الكافرين لأنهم اضاعوا بأيديهم الخلود في دار النعيم، وعرضوا أنفسهم الى سواد الوجوه التي تؤكده الآية التالية على نحو الإخبار اليقيني بأمر حتمي الوقوع.
وفي الآية تحذير للمسلمين من الردّة واتباع الهوى، ومن الآيات ان تأتي الآية السابقة بنهي المسلمين عن محاكاة أهل الفرقة الذين اختاروا الجدال والخصومة ومخالفة أوامر التنزيل والنبوة بعد الإيمان بالآيات، لذا فان اللوم الوارد في الآية تحذير اضافي من الفرقة وما قد تؤدي اليه من الكفر والجحود.
قانون ذم الكفر بعد الإيمان
أخبرت الآية عن حقيقة وهي وجود إناس يكفرون بعد إيمانهم، ويجحدون بعد رؤية الآيات والإقرار بالبينات، وهذا الفعل يستحق اللوم والذم من وجوه:
الأول: لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بان جعله خليفة في الأرض وفضله على كثير من الخلائق، وثبت في علم الأصول ان شكر المنعم واجب، ويتجلى الشكر لله تعالى في المقام بالإيمان والتقوى.
الثاني: جاءت البينات آية اضافية وتذكيراً بلزوم الصلاح والتقوى والهداية والإيمان.
الثالث: الكفر قبيح ذاتاً، وفيه اضرار بالنفس والغير، فجاءت الآية للنهي عن الضرر والاضرار.
الرابع: تملي آيات الوعد والوعيد في القرآن على الإنسان لزوم الإيمان والتقوى.
الخامس: علة خلق الإنسان هي العبادة، ويجب ان لا يتخلف المعلول عن علته، وانعم الله عز وجل على الإنسان فجعله مختاراً في الامتثال للأمر الإلهي بعبادته والخشوع لله والإتيان بالفرائض والعبادات كي ينال الثواب الدائم، وقربه الى سبل الطاعة والاستجابة لأوامره سبحانه، ومن صيغ التقريب للطاعة نزول هذه الآية بذم الذين كفروا بعد ايمانهم وفيه مسائل:
الأولى: عدم ترك الكفار وشأنهم وان كان هذا الترك لن يضر الله شيئاً، فمن اللطف الإلهي ان لا يترك الكفاروشأنهم لأن هذا الترك يؤدي بهم الى استمرار الاقامة على المعاصي ودخول النار.
الثانية: تنبيه الإنسان الى وجوب اجتناب الكفر واهله، وجاءت الآية بخصوص الذين كفروا بعد الإيمان، ولكن مفهومها أعم ويتضمن تحذير وانذار كل إنسان من الكفر واهله.
الثالثة: ملازمة الذم السماوي للكفر والكفار، فيلاحق الذم كل كافر في شخصه واعماله مما يبعث النفرة منه، ويجعل الناس يدركون قبح عمله.
الرابعة: الكفر عرض وليس أمراً متأصلاً في ذات الإنسان، فمن وظائف الذم إعانة الكافر على ترك منازل الكفر والابتعاد عن مفاهيمه وسننه.
الخامسة: تحث الآية الكفار على التدبر في علة واسباب توجه المدح والثناء للمسلمين في القرآن، وكيفية محاكاتهم والانضمام اليهم، ومن الشواهد السماوية في المقام ان تأتي الآية السابقة بارشاد المسلمين الى اجتناب سنن الذين كفروا، وتأتي هذه الآية في بيان عاقبة كل من المؤمنين والكفار، انها مدرسة القرآن التي تهدي الى الصلاح والتقوى، وتمنع من الضلالة والكفر، وتدعو لاجتناب الضلالة والجحود بلحاظ سوء عاقبتهما.
السادسة: تعدد وكثرة الآيات التي تذم الكفار في منطوقها، وتتضمن مفهوم الآيات الاخرى لذمهم وتقبيح فعلهم وتبكيتهم وبعث الحسرة في نفوسهم لتركهم سبل الإيمان ولعنادهم وسوء اختيارهم.
ومن آيات اللطف الإلهي عدم انحصار مضامين ذم الكفار بآيات القرآن بل تشمل وجوهاً:
الأول: مجئ السنة النبوية القولية بتبكيت وحث الكفار على التوبة والإنابة، ودعوة المسلمين للنفرة من افعالهم.
الثاني: دلالة السنة النبوية الفعلية على لزوم الدفاع عن الإسلام ومحاربة الكفر والكفار.
الثالث: الأمر الإلهي للمسلمين بالجهاد في سبيل الله مع الحث على تعاهد الاخوة بين المسلمين ونبذ الفرقة بينهم.
الرابع: كثرة الآيات الكونية، والبراهين الدالة على وجود الصانع والتي تدعو الإنسان الى الإيمان.
الخامس: تعدد المعجزات التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، فمن الآيات ان تكون آيات الأنبياء السابقين تركة وثروة وحجة تعضد النبي اللاحق، وقد اجتمعت كل معجزات الأنبياء السابقين لتعضيد نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تفضيل له على الأنبياء الآخرين لانفراده بكثرة افرادها،
فموسى عليه السلام تعضده معجزات الأنبياء الذين سبقوه، وعيسى عليه السلام تؤيده تلك المعجزات بالاضافة الى معجزات موسى عليه السلام، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان آيات كل الأنبياء بما فيهم موسى وعيسى عليهما السلام تاتي مجتمعة ومتفرقة لنصرته وتعضيده، بالاضافة الى تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتباين في السنخية في الآيات اذ ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم انفرد بالآيات العقلية التي جاءت مصاحبة للآيات الحسية، فبينه وبين الأنبياء الآخرين بخصوص المعجزات عموم وخصوص مطلق، فيلتقي معهم بالآيات الحسية، وينفرد عنهم بالآيات العقلية وهي نزول القرآن وما فيه من الإعجاز الخالد.
السادس: ادراك الكافر لقبح الكفر، وتلك آية اعجازية في خلق الإنسان، والانتفاع العام من نعمة العقل، فليس من إنسان الا ويوظف العقل ولو على نحو الموجبة الجزئية في التدبر بالافعال وعواقبها، وتأتي هذه الآية لتحرض العقل على القيام بأدنى وظائفه في معرفة قبح الكفر، وقبح الشيء يعني حسن ضده وسعي الإنسان للتخلص من القبيح، فجاءت هذه الآية لإعانة الإنسان لترك الكفر.
السابع: ذم الكفار بعضهم لبعض، وانشغالهم بالفرقة والاختلاف فيما بينهم وهو الأمر الذي أكدته الآية السابقة التي تتحدى الكفار بفضح سوء حالهم، وهذا السوء ملازم للكفر وشاهد على ما فيه من الأذى العاجل والآجل.
الثامن: آيات الإنذار والوعيد بالعقاب الأليم لمن اختار الكفر، وهي انذار متصل يطارد الكافر اينما كان، يقض مضجعه، ويكون حاجباً بينه وبين السعادة فلا يشعر باللذة في كفره وان حاول العناد والمكابرة.
ومن الآيات القرآنية ان قانون ذم الكفر مصاحب له ولا ينفك عن الكافر في حياته كلها، فيأتيه من داخله والنفس اللوامة، ومن اقرانه ورؤسائه في الكفر، ومن خلال سوء الفعل وما يؤدي اليه من النتائج في الدنيا التي تثبت قبحه وضرره المحسوس.
وأيهما أسهل للإنابة والتوبة، الكفر بعد الإيمان، أم الكفر الأصلي، الجواب: هو الأول، فان بلوغ الإنسان لمراتب الإيمان يكون له أثر في ذاته وقوله وعمله، ويسبب لوماً مستمراً في قرارة النفس لترك الإيمان وحلاوته، واختيار الكفر وقبحه، كما ينبعث في النفس شوق للعودة لمنازل الإيمان، لذا فان جعل الإيمان هو الأصل نعمة من عند الله تتغشى الناس جميعاً برهم وفاجرهم، وتكون حجة على الكفار في الدنيا والآخرة.
ومن مصاديق الحجة هذه الآية وما فيها من السؤال الاستنكاري الذي يدل على أمور:
الأول: توكيد سبق الإيمان على الكفر عند كل إنسان، بلحاظ صيغة الجمع الشاملة لكل الكفار، وهل يمكن وجود استثناء في المقام، ولكنه لم يذكر او يستبين مع صيغة الجمع، الجواب: الأصل هو العموم، ويحتاج الاستثناء والتخصيص الى دليل او قرينة وهي مفقودة في المقام.
الثاني: توجه اللوم للكافرين على سوء اختيارهم، وهو شاهد على ارتكابهم الذنب والمعصية، وانهم تركوا وظيفتهم العبادية عن اصرار واستكبار.
الثالث: صحيح ان الاستفهام في المقام يسمى في صناعة النحو بالاستفهام الانكاري الا ان مضامينه في المقام أعم وتتضمن وجوهاً:
اولاً: لغة التخويف والوعيد بلحاظ صدورها من الأعلى الى الأدنى.
ثانياً: يتوجه الخطاب الى المذنبين الذين ثبت جرمهم وادانتهم وفيه وجوه:
الأول: يكون وقع اللوم أشد وأمر عليه.
الثاني: بلحاظ صيغة الجمع وتوجه الخطاب لكل الكافرين فان سكوتهم واقرارهم بذنوبهم يجعلهم أكثر ذلاً.
الثالث: يدل الاستفهام الانكاري هذا بالدلالة الالتزامية على اقرار الكفار بان كفرهم لم يحصل الا بعد الإيمان.
الرابع: يزيد اللوم الحسرة في نفوس الكافرين.
ثالثاً: مع شدة عذاب النار وسواد الوجوه فان اللوم يعتبر عذاباً اضافياً.
رابعاً: يعتبر هذا الإنكار واللوم تذكيراً بالحجج والبراهين ولغة الإنذار والوعيد التي كانت تترى على الناس والكافرين منهم خاصة في الحياة الدنيا.
ويحتمل اللوم الموجه الى الكفار في أوانه وجوهاً:
الأول: مخاطبة الكفار في الحياة الدنيا، وحال تلبسهم بالكفر والجحود.
الثاني: توجه اللوم الى الكفار في عالم الآخرة وعند تعرضهم للعذاب.
الثالث: العنوان الجامع للحياة الدنيا والآخرة.
الرابع: توجه اللوم للكفار في الآخرة، ويشمل الحياة الدنيا بالتبعية.
والصحيح هو الأخير، اذ يتوجه اللوم الى الكفار في عالم الآخرة وأوان حصول اسوداد وجوههم لبيان استحقاقهم لهذه العقوبة وزيادة في العذاب، وهذا لا يمنع من ترتب الأثر في الحياة الدنيا وتوجه اللوم لهم في الحياة الدنيا وكأن الحساب الأخروي قد تم وحصل اسوداد وجوه الكفار، وتعتبر هذه الآية دليلاً عليه اذ انها تخبر عن حال وقوع أمرين:
الأول: سواد وجوه الكفار.
الثاني: توجه اللوم لهم على سوء اختيارهم.
وصحيح ان هذه الآية تحكي اللوم الموجه للكفار في الآخرة، الا انها تتضمن لوم الكفار في الحياة الدنيا على اختيارهم الكفر، وهجرانهم لمنازل الإيمان، فهي مدرسة مستقلة تتضمن أموراً:
الأول: نزولها من عند الله عز وجل.
الثاني: تبليغها بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الناس جميعاً.
الثالث: صفة القرآنية وعنوان الآية السماوية المعصومة من التحريف والتبديل.
الرابع: اخبار الآية عن عالم الغيب وما يجري في الآخرة.
الخامس: الآية حجة في الدنيا والآخرة، فاما في الدنيا فانها زاجر عن الكفر، وبيان بالذات والواسطة لقبحه، أما بالذات فلما فيها من لغة اللوم والتوبيخ، وأما بالواسطة فلما تذكره من سوء العذاب الذي ينتظر الكفار.
السادس: في الآية اعجاز اضافي بذكرها لتفاصيل عالم الآخرة، وما يتعرض له الكفار، فلم تكتف الآية بذكر اسوداد وجوه الكفار، بل أخبرت عن اللوم الذي سوجه لهم يوم القيامة بما يجعلهم يقرون في الحياة الدنيا استحقاقهم لهذا اللوم، وعجزهم عن رده او دفعه او ايجاد العذر لسوء فعلهم، فاذا كان الإنسان عاجزاً عن الاعتذار في الدنيا، فمن باب أولى ان يكون عاجزاً عن الاعتذار في الآخرة.
ومن الآيات ملائمة صيغة الماضي لحال التلبس بالكفر في الدنيا، وحال العقاب في الآخرة، وهل يشمل الخطاب في الدنيا الذين تابوا، الجواب: لا، فالآية خاصة بالذين ما زالوا مقيمين على الكفر، واللومم في الآية متوجه للذين يتلبسون بالكفر، وحالما يتوب العبد ويصلح اعماله فانه يصبح خارج موضوع الآية لتبدل الحكم بتغير الموضوع، أما في الآخرة فتتعلق الآية بالذين يموتون على الكفر، ويغادرون الدنيا تحت وطأة الذنوب والمعاصي، وليس الذين مدحهم الله عز وجل قبل آيات بقوله تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( )
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول: انتفاء اسباب العدول من الإيمان الى الكفر.
الثاني: العدول من الإيمان الى الكفر ظلم للنفس في الدنيا والآخرة.
الثالث: شدة عقاب العدول من الإيمان الى الكفر.
الرابع: لزوم تعاهد الإيمان وعدم ترك منازله.
واخرج ابن أبي حاتم وابن الشاهين بالإسناد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها إذا ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين من دخل النار منهم في الباب الأول من جهنم لا تزرق أعينهم ولا تسود وجوههم ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل ولا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران في النار حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد وحرم صورهم على النار من أجل السجود منهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم وأعمالهم فمنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج ومنهم من يمكث فيا سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشئ مما مضى فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله تعالى رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.
وفيه دلالة على عدم اسوداد وجوه المسلمين يوم القيامة، سواء بلحاظ عدم شمول المسلمين بعذاب أهل الكبائر الذي يبينه هذا الحديث، او بلحاظ شمول أهل الكبائر من المسلمين بعذاب النار يوم القيامة على نحو مؤقت كما مذكور في حديث آخر، كما ورد بالاسناد عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان أناسا من أمتى يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله ان يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد الا أخرجه الله تعالى من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ]( ).
وعدم شمول المسلمين بعقوبة اسوداد الوجوه يوم القيامة نعمة اخرى على المسلمين وهو من الشواهد على تغشي السواد لوجوه الكفار في مواطن يوم القيامة، واراد الله عز وجل تنزيه المسلمين من هذه العقوبة، وبيان المائز بينهم وبين الكفار، واذا انتفى سواد الوجوه.
ويحتمل العذاب بسواد الوجوه ضرورياً:
الأول: انه من الكلي المتواطء، وكل الكفار بمرتية واحدة من سواد الوجوه الكالح.
الثاني: انه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، فكل الكفار وجوههم سوداء، ولكن السواد متباين في شدته وضعفه بلحاظ كثرة الذنوب والآثام، فيعرف الأشد كفراً وفسقاً بشدة سواد الوجه مع قبح الجميع.
الثالث: اتحاد مرتبة السواد، ولكن التباين في الكآبة والمقت الذي يبدو على الوجوه.
والأرجح هو الثاني، فكل وجوه الكفار سوداءالا انها على مراتب في شدة السواد، وهذا لا يتعارض مع الضرب الثالث من ظهور الكآبة والحزن على وجوههم كما تكون النفرة من الأشد سواداً وظلماً أكثر من غيره من أقرانه.
ومن وجوه السعي لنيل مرتبة بياض الوجوه، والسلامة من سوادها في الآخرة اجتناب سنن أهل الفرقة والضلالة الذين جحدوا بالنبوة وآياتها، والتباين في الدنيا بين المسلمين وبين الكفار مقدمة للتباين بينهم في الآخرة.
ومن اعجاز الآية جمع موضوع بياض وسواد الوجوه فيها، ليحس الناس جميعاً بعقولهم وبصائرهم باشراقة بياض الوجوه والحسن الذاتي للإيمان وعمل الصالحات، وكلحة وجوه الكافرين يوم القيامة، وقبح اعمالهم في الدنيا، فالبياض يبدو أكثر جمالاً وبهجة عندما يكون جزاء ً وتواباً والى جانب السواد، كما ان السواد عقوبة وعذاباً يبدو أكثر قبحاً وكراهة عندما يكون الى جانب البياض الناصع، وفيه دعوة للهداية والصلاح، وحث على ترك المعاصي والذنوب.
قانون اقتران الامهال بالانذار
من الآيات في عالم الحياة الدنيا سعة رحمة الله عزوجل، فصحيح ان رحمة تعالى في الآخرة اضعاف مضاعفة للرحمة الدنيوية الا ان رحمة الله في الحياة الدنيا واسعة وعظيمة وينهل منها كل انسان بما تعجز الخلائق عن احصائه وعده.
ومن وجوه رحمة الله عزوجل بعث الأنبياء وانزال الكتب واحكام الشرائع واتصال الرزق، والسلامة من الآفات ودفع اسباب الهلكة، وجعل الانسان في مندوحة ليتدبر امره ويتوجه الى وظائفه في العبادة والصلاح، بالاضافة الى مصاديق الرحمة التي تصيب الافراد بصورة شخصية.
ومن آيات نفخ الروح في آدم وجود صلة خاصة وحبل ممتد بين العبد وخالقه عزوجل، لايستطيع ملك او انسان ان يكون طرفاً فيه، او برزخاً يحول دون دوام اتصاله وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]، فكل انسان له صلة واتصال خاص بينه وبين ربه، تنعدم فيها المسافة والبعد المكاني او الزماني.
وتتقوم هذه الصلة بأمرين:
الأول: الرحمة النازلة من عند الله، وتتصف بوجوه:
الأول: الدوام، وعدم الانقطاع، فالرحمة الإلهية على العبد متصلة دائمة، وهي على شعبتين:
الاولى: الرحمة النوعية العامة الشاملة للناس.
الثانية: الرحمة الشخصية التي تتوجه لكل فرد من الناس.
الثاني: اقتران الرحمة بالرأفة والعفو.
الثالث: مجئ البشارات والإنذارات، ولغة الوعد والوعيد.
الرابع: وجوه الإبتلاء في الدنيا بما يؤدي بالعبد الى الهداية وتلمس دروب الرشاد.
الخامس: لغة الإعتبار والإتعاظ مما يقع في محيط الإنسان ودويرته من الوقائع والحوادث النوعية والشخصية.
السادس: ملازمة النبوة والتنزيل للأنسان في حياته، فمن الآيات ان النبوة انقطعت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته الى الرفيق الأعلى، ولم ينزل بعده قرآن ووحي ، ولكن آيات القرآن وأخبار النبوة حاضرة عند الناس في الكتب وفي الواقع اليومي فلا ينحصر حضور النبوة والتنزيل بالكتب ودور العبادة، وما يستلزم قصده والرجوع اليه، بل تراها تدنو او تهجم على العبد فتخالف سمعه وبصره، وتلح عليه باللجوء الى الله عزوجل، ومنها منهج الصالحين، وظهورهم بالسمت الحسن، وادائهم للعبادات، وتلاوتهم لآيات القرآن في الصلاة وغيرها، ونشر علوم الإسلام، ورسوخ كلمة التوحيد في الأرض، فترى الافكار والمبادئ الوضعية تظهر وتشيع بين الناس ثم لاتلبث ان تفتر وتموت وتكون جزء من الماضي ، ويتحدث الناس عن مساوئها وآثارها السلبية، اما الاسلام فهو عقيدة سماوية باقية في الأرض خالية من الشوائب والأدران.
السابع: حاجة الانسان للجوء او الاستجارة بالله تعالى، خصوصاً في حال الشدة، ونزول الرحمة عليه، وصرف الأذى والبلاء عنه.
وليس من حصر لوجوه رحمة الله في الدنيا وهي متعددة في كل ساعة من حياة الانسان، ورحمته تعالى به في الحياة الدنيا آية من بديع صنع الله وشاهد على ان خلافته في الأرض رحمة مطلقة، ومن صفات الله تعالى (الرحمن) و (الرحيم).
ومن رحمة الله بالعبد في الدنيا امهاله، وعدم التعجيل في مؤاخذته على ارتكابه الذنوب والمعصاصي، بل يمهله ويؤخره الى يوم الحساب، ومن رحمته بالناس ان الإمهال لم يكن مجرداً بحاله، بل يقترن بلغة الإنذار والبشارة.
وتتضمن هذه الآية الأمرين معاً، فسواد الوجوه عنوان للإنذار والوعيد، وبياض الوجوه عنوان للبشارة والوعد الكريم، فالإمهال مناسبة للتدبر ودعوة للتفكر وطريق لتلقي المعارف واكتساب العلوم، والهداية الى سبل الرشاد لانه وعاء زماني للانذار والبشارة.
الثاني: العمل الصاعد من العبد، وهو على قسمين فأما أن يكون عملاً صالحاً وتكون الجنة وبياض الوجه جزاؤه، وأما أن يكون عملاً قبيحاً سيئاً، وجحوداً وكفراً، وتكون النار وسواد الوجه عاقبته.

بحث بلاغي
من وجوه الإطناب “المطابقة” وتسمى أيضاً الطباق، وهو الجمع بين متضادين في الجملة، وقد يكون من الحقيقي أو المجازي وجاءت الآية لتخبر عن تضاد حقيقي حتمي الوقوع ولكن في عالم الآخرة وليس في الدنيا، لذا إبتدأت الآية بقوله تعالى “يوم” وهو اليوم الذي يجتمع فيه الناس يوم يجمعهم في الدنيا أبداً، أما في الآخرة فلا يتخلف منهم أحد عن عالم البعث والنشور والحساب.
وقد يأتي الطباق والمقابلة بإثنين اثنين ومنه قوله تعالى [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا] ( )، ومنه هذه الآية الكريمة اذ يتعلق الطباق ببياض وجوه، وسواد وجوه أخرى، وقد يأتي الطباق من باب المجاز كما في قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ]( )، لإرادة معنى الإيمان والهداية من الحياة، والضلالة والكفر من الموت.
فيعمل كل من مفاهيم الحقيقة والمجاز في إصلاح النفوس ودعوة الناس للإقلاع عن الكفر والضلالة، وان تباينا في الزمان فالموت والحياة في الآية أعلاه كفاية عن الكفر والإيمان في الحياة الدنيا، أما بياض وسواد الوجوه فهما في عالم الآخرة، ومع هذا التباين فالموضوع والغاية متحدان، اذ تتعلق الآيات بالدعوة الى الإسلام وبيان السبيل للفوز بالسعادة الأبدية.
قانون أثر الآخرة في الدنيا
من المعروف عند المليين جميعاً ان الآخرة دار الحساب والجزاء، ويتعلق المقام فيها بحسب عمل الإنسان في الدنيا فأما أن يكون من أهل الإيمان والصلاح فيفوز بالسعادة الدائمة، وأما أن يكون من أهل الضلالة والكفر فيكون من أصحاب الجحيم.
ولا يعني هذا القانون إنتفاء ما يأتي مقابلاً له وبالإتجاه المعاكس فهو لا يمنع من وجود تأثير لعالم الآخرة في الدنيا، وهذا التأثير من بديع الخلق ونشأة الإنسان، والتداخل والترابط بين العوالم الطولية المتعددة ليكون هذا التداخل وسيلة مباركة لجذب الناس، وتقريبهم الى سبل الطاعة، ومنها الإتحاد تحت لواء النبوة الذي جاءت الآية السابقة بالأمر به والتحذير من تركه والإعراض عنه.
ومن الآيات ان لا تقف وظائف العالم الآخر عند حدود الجزاء، ولا يبقى تأثيره معلقاً الى حين حصول البعث والنشور، أو أنه يبدأ من دخول الإنسان القبر، بل ان تأثير وآثار العالم الآخر تصاحب الإنسان في الدنيا، وليس هذا من الإستصحاب القهقري الذي أجمع الأصوليون على بطلانه، والتأثير اًمر آخر غير الإستصحاب وموضوعه، كما أنه ليس من الدور لأن المقام ليس مقام التأسيس والإنشاء ويكون أحدهما جزء في علة وجود الآخر.
فكل من عالم الدنيا والآخرة خلق وملك لله تعالى، ومن أسرار خلقهما وجود الأثر والتاثير بينهما، وما هي النسبة بين تأثير كل واحد منهما بالآخر فيها وجوه ثلاثة:
الأول: التساوي في التأثير، فكل من العالمين يؤثر بنفس الرتبة والدرجة.
الثاني: تأثير عالم الدنيا بالآخرة اكثر.
الثالث: أثر عالم الآخرة في الدنيا أشد وأكثر،
والصحيح هو الثاني، لأن عالم الجزاء والمقام في الآخرة يتوقف على العمل في الدنيا، فان قلت قد ينال الإنسان الشفاعة في الآخرة والجواب ان العمل من أسباب ومقدمات الشفاعة، ولا تتعارض الشفاعة مع موضوعية العمل الدنيوي في عالم الحساب الأخروي، ومع هذا فان تأثير الآخرة في الدنيا عظيم ووجوهه متعددة منها:
الأول: ما أعد الله عز وجل من الثواب للصالحين وسيلة للهداية والرشاد.
الثاني: تعتبر نار جهنم زاجراً عن المعصية، فهي وان كانت غائبة عن الحواس لأنها من عالم الغيب، فان العقول تدرك أثرها، وتخشى النفوس منها، ويحرص الإنسان على إجتنابها والعقاب فيها.
الثالث: موضوعية عالم الحساب في فعل الإنسان كماً وكيفاً، فمتى ما علم الإنسان ان وراءه حساباَ فانه يتجنب التفريط والإسراف ونحوهما.
الرابع: تتجلى معاني حب الإنسان لذاته، وسعيه لجلب النفع ودفع الأذى بالسعي للجنة، والإحتراز من النار.
الخامس: ان عالم الحساب من الشواهد على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وان مقاليد الأمور بيده تعالى، ومتى ما أدرك العبد هذه الحقيقة فانه يسعى لنيل رضاه سبحانه، ويتجنب سخطه.
السادس: أخبرت الآية السابقة بمجيء البينات، وإقامة الحجة على الكفار، ومن البينات ما يؤكد حتمية يوم القيامة، ووقوف الناس بين يدي الله عز وجل للحساب، لتصاحب هذه البينات الإنسان في يومه وليلته، وتترك أثرها في قوله وعمله، وان كان هذا الأثر من الكلي المشكك الذي له مراتب متفاوتة،
وهل يشمل هذا الأثر الكفار أم انهم خارجون عنه بالتخصص لثبوت عنادهم وجحودهم وما يدل على إعراضهم عن البينات والدلالة الواضحات، الجواب انه شامل للناس جميعاً، فلابد ان تترك البينات اثراً عند الإنسان، ولكن الكافر يختار الأعراض عن البينات وعدم الإلتفات لما فيها من الحجة والبرهان.
السابع: مجيء الأنبياء والرسل بالبشارات والإنذارات التي تقوم على بيان أحكام يوم الجزاء ومواطن الحساب وإقامة المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار.
الثامن: نزول الكتب السماوية بالإخبار عن وقوع يوم القيامة وذكرها لتفاصيل من أخباره وكأنها قريبة في أوانها وحدوثها، وقيام الملائكة بإكرام المؤمن، وتوبيخ الكافر.
التاسع: لغة الوعد والوعيد التي تضمنها القرآن , ومن الآيات ان لفظ “تبيض وجوه” و”تسود وجوه” لم يردا في القرآن الا في هذه الآية، وفيه دلالة على إختصاص آية من القرآن بوجه من الجزاء ومجيئه في آية مستقلة.
وفيه دعوة للناس للإلتفات لها وأخذ الحائطة والعمل على بلوغ مراتب بياض الوجوه والوقاية والى الأبد من سواد الوجوه، فمع ان ضروباً كثيرة من العذاب أشد وأمر من عقوبة سواد الوجوه، فان هذه العقوبة لا يمكن للإنسان ان يتحملها ويصبر على ما فيها من الألم والحسرة والشقاء.
وبالنسبة لنعمة بياض الوجوه فان نعماً اخرى عظيمة في الآخرة اكبر منها، الا انها وحدها نعمة عظيمة تستحق بذل الوسع لنيلها والفوز بها، وذكر نعمة بياض الوجه، ونقمة سواد الوجه في آية واحدة دعوة للدراسة المقارنة ووسيلة لحسن الإختيار وسبب لرؤية اهل الجحود لقبح أفعالهم وإدراك ما ينتظرهم من العذاب بما كسبت أيديهم.
وفي قوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] توكيد لموضوعية أخبار عالم الآخرة في تحقيق الإيمان عند الناس، وأثر الإيمان في معرفة حقائق يوم الجزاء ولزوم الإستعداد له، فالمؤمن يرى من عالم الآخرة ما لايراه غيره لذا فان الآية تذكير للكفار بما ينكشف لهم من أسرار عالم الحساب الذي يأتي عن طريق الكتب السماوية المنزلة وأخبار النبوة.
ان خلق آدم عليه السلام في الجنة، ونزوله الى الأرض دعوة للناس للسعي للعودة الى الجنة، خصوصاً وانه ليس من برزخ في العاقبة، فلا ينحصر الأمر بدخول الجنة أو عدمه، فأما ان يدخل الإنسان الجنة ويكون من الذين تبيض وجوههم، وإما ان يدخل النار ويكون من الذين تسود وجوههم.
وبه جاءت هذه الآية التي توجه اللوم الى الكافرين على نحو مركب من وجوه:
الأول: إختيارهم الكفر خلافاً لحكم العقل، وما تؤدي اليه الآيات والبينات من الهداية.
الثاني: مجيء الكفر بعد الإيمان.
الثالث: التفريط بالنعم الأخروية التي أعدها الله للمؤمنين، وشراء العذاب الأليم الذي جعله الله عقاباً للكافرين.
ومن مصاديق وقواعد اللطف الإلهي ان تأثير عالم الآخرة في الدنيا مستمر ويتجلى للعبد بالوقائع والأحداث، والفرائض وأحكام العبادات والمعاملات، فالأذان تذكير بالآخرة مع ما انه إعلام للصلاة، وإقامة الصلاة ترغيب بالنعيم والإنذار من العذاب، ولا ينحصر الإنتفاع من الصلاة بمن يقيمها بل يشمل الناس جميعاً، فيؤديها المسلمون وتمتلأ صدورهم غبطة بالتوفيق لأدائها، ويعتبر صونها خطوة نحو الجنة، ويراهم الكافرون فتستولي عليهم الحسرة والندامة لتفريطهم بطريق من الطرق المؤدية الى الجنة، ويأتي الموت على الأب أو الجار او الصديق ليذكر بالآخرة ومنازل الناس فيها، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن العذاب الأليم الذي يصيب الكفار والمعاندين يوم القيامة ليكون انذاراً ووعيداً ودعوة للإستعداد لعالم الآخرة.
ومع ان قوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] إخبار عن حال وأمر يقع في الآخرة الا ان ذكره في القرآن وفي هذه الآية بالذات شاهد على تأثير عالم الآخرة في الدنيا، وفيه تنبيه للناس لأحد قوانين عالم الآخرة وهو عدم انحصار جزاء الكافرين بالعذاب والعقوبة، بل يشمل لغة اللوم والتوبيخ.
وترى كثيراً من الكفار يعيشون حالة من الإستكبار والعناد، بالإعراض عن لغة اللوم وقد لا يسمحون لأحد أن يوجه لهم اللوم والعتاب والتوبيخ، لذا فان الآية تدعوهم لتعاهد حالة إجتناب اللوم في الآخرة وتحثهم على إظهار الخشوع والخضوع لله تعالى، فمن أراد العز فانه يطلب بتقوى الله.
قانون ترشح النعم
قد تقدم قانون (فروع النعمة) ( )، وتفرع نعم متعددة من النعمة الالهية المتحدة في الدنيا من غير ان تنقص او تزول النعمة الأصلية، اما هذا القانون فيتعلق بالنعم الأخروية، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: نزول النعمة من عندالله.
الثاني: عظيم فضله سبحانه بكل نعمة من نعم الدنيا والآخرة.
الثالث: ترشح وتفرع نعم متعددة عن النعمة الإلهية.
اما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: إستدامة النعم الأخروية.
الثاني: عموم النعم الالهية في الدنيا فينال البر والفاجر منها، اما النعم الأخروية فهي خاصة بالمسلمين ومحجوبة عن الكافرين.
الثالث: إطلاق النعم الأخروية، وبامكان المسلم ان ينهل منها مايريد.
وكما تتفرع النعم عن النعمة الدنيوية، فان فروع النعم الأخروية متعددة وكثيرة، فبياض الوجوه نعمة من عند الله وتتفرع عنها نعم كثيرة منها:
الأول: بعث السكينة في نفوس المسلمين في الآخرة، وسلامتهم من الفزع والخوف يوم القيامة.
الثاني: بياض الوجوه بشارة عبور الصراط، والنجاة من النار.
الثالث: معرفة المسلمين بعضهم لبعض.
الرابع: الغبطة والفرح بفضل الله عزوجل والتوفيق لطاعته والشكر لله على نعمة بياض الوجوه، قال تعالى [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ] ( ).
الخامس: تلقي سلام وبشارة الملائكة، قال تعالى [وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
واذا كانت النعمة الواحدة في الدنيا تتفرع الى نعم متعددة فمن باب الأولوية ان تتصف نعم الأخرة بهذه الصفة لانها هي الحياة الأبدية الدائمة، ولان الله عزوجل اعد فيها للمؤمنين الذين يعملون الصالحات مالا عين رأت ولا اذن سمعت وفيها كل مايشتهي الإنسان، وما حرم عنه في الدنيا وما فاته تحصيله فانه يدركه في الآخرة من غير عناء او شقاء او كسب وتعب، وترشح النعم من النعمة الواحدة في الآخرة من عمومات الوعد الإلهي، ومن الآيات ان النعمة الفرعية لاتكون بسيطة وفرعاً فقط، بل تكون اصلاً لغيرها وتترشح منها نعم عديدة، وكل نعمة من النعم المستحدثة تتفرع هي الأخرى الى نعم كثيرة وتترشح عنها نعم اخرى، فهناك فرق بين تفرع وترشح النعم.
فالفرع نعمة من الأصل اما الترشح فهو نعمة إضافية اخرى متصلة بالنعمة الأصلية، فمع بياض الوجوه تكون النضارة والتطلع الى رحمة الله، قال سبحانه [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] ( )، وتكون النعومة والاشراق والرضا على الذات للهداية وصالح الاعمال في الدنيا، قال سبحانه [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ]( ).
ومن افاضات النعم الأخروية ماتبعثه من الأمل في نفوس المؤمنين، والحرص على نيلها ببذل الوسع في مرضاة الله والإجتهاد في الطاعات، والامتناع عن الفواحش والمعاصي، فليس من امل في الدنيا افضل من الفوز بالنعم الأخروية، وهذا الأمل من رشحات تلك النعم وما لها من الضياء الهادي الى سواء السبيل.
قانون مفهوم جهة الخطاب
تعتبر جهة الخطاب القرآني آية من آيات إعجاز القرآن وشاهداَ على توجهه للناس كافة، فيأتي الخطاب الى جهة مخصوصة بلحاظ الصلة والعمل ولكنها أعم من وجوه:
الأول: جهة الخطاب، وإرادة جهات أخرى غير المخاطب، بفتح الطاء في الآية.
الثاني: تعدد الموضوع، فيأتي ذكر موضوع الآية، من باب المثال والفرد الظاهر والأهم في الإبتلاء ونحوه.
الثالث: شمول الآية لمستحدثات المسائل، وظهور جهات أخرى غير الجهة المخاطبة فيها وهو من مصاديق إحاطة القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث.
الرابع: توجه الآية في مفهومها الى جهات اخرى تتباين في حالها وفعلها مع الجهة التي يتوجه اليها الخطاب، وهذا الوجه هو موضوع قانون مفهوم الخطاب وبخصوص قوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] يكون المفهوم على وجوه:
الأول: ملازمة اللوم للكافر في الحياة الدنيا وتصاحبه النعم الإلهية الكثيرة في الخلق ودوام العافية وأبواب الرزق وغيرها.
الثاني: فضح الكفار في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلما في الآية من الإخبار عن قبح العدول عن الهداية وشدة عقابه، فان الإخبار عن العقاب اللاحق يبين مرارة وسوء الفعل الذي يكون سبباً له، ويجعل صاحبه يشعر بالمرارة والحسرة اثناء القيام به، وأما في الآخرة فان الخزي يأتي للكفار من جهات:
الأولى: إسوداد وجوههم.
الثانية: توجه اللوم والتبكيت لهم.
الثالثة: بياض وجوه المؤمنين، وما يبعثه من الحسرة في نفوس الكفار.
الرابعة: انتفاع المسلمين من مضامين هذه الآية من وجوه:
الأول: تغشي رحمة الله للمسلمين في الآخرة.
الثاني: مدح المسلمين على بقائهم في منازل الإيمان، وتعاهدهم الفرائض والواجبات، وجعلهم يزدادون ورعاً وتقى، فبعد أن جاء قبل اربع آيات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] جاءت هذه الآية لإعانة المسلمين لترسيخ إقدامهم في مسالك التقوى، وحثهم على الإرتقاء في المعارف الإلهية بمعرفة حال الكفار في الآخرة، وشدة عذابهم، واللوم الذي يأتيهم على سوء فعلهم في الدنيا.
الثالث: بعث المسلمين الى التوجه الى الله تعالى بالشكر على نعمة الهداية وبياض الوجوه والنجاة من إسوداد الوجوه في الآخرة، فيدرك المسلم انه لم ينج من العذاب في الآخرة إلا بفضل من عند الله.
الخامس: شفاء صدور المسلمين في الدنيا لما يلقاه الكافر من العذاب في الآخرة، وهو لا يتعارض مع شفقتهم عليه وسعيهم لنجاته من الكفر والضلالة، وهو من أسرار الإيمان وخصال المسلمين ويتجلى بابهى معانيه بالجهاد في سبيل الله ، وما يتضمن من دعوة الناس قهراً الى الإيمان بكلمة التوحيد، وتعرض المسلم للقتل من قبلهم بسبب إصلاحهم، فلا غرابة ان ينال المقتول من المسلمين في الجهاد رتبة الشهادة.
السادس: اطلاع المسلمين على جانب من أسرار يوم القيامة، والتباين بين حال المسلمين والكفار، ففي ذكر الخطاب الإلهي الأخروي للكفار إخبار للمسلمين بسوء عاقبة الكفر والجحود.
السابع: عصمة المسلمين من الإفتتان بالكفار وما يبدون فيه من جاه وشأن في الدنيا، وادراك انه نعمة من عند الله، وعرض مفارق ، وسبب مفارقتها لهم جحودهم وكفرهم، فتصاحبهم النعم في الدنيا، وتكون سبباً لتعرضهم للعذاب الشديد في الآخرة لعدم أدائهم الشكر عليها، ومن أهم مصاديق الشكر الإقرار بالربوبية لله والتصديق بالأنبياء جميعاً، وعدم التبعيض فيه، فلا يصح الإيمان ببعض الأنبياء والكفر بنبوة بعضهم الآخر.
الثامن: ذكر منعة وعز المسلمين اذ يزيدهم العلم بسوء حال عدوهم قوة، ويجعلهم قادرين على مواجهته ودحره.
التاسع: حرص المسلمين على عدم ترك منازل الإيمان، وإجتنابهم لمقدمات الكفر والشبهات وأسباب الريب.
الخامس: مشاركة القرآن في دعوة الكفار الى الإسلام، والآية من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( )، فكم من إنسان دخل الإسلام وأصلح حاله، لإتعاظه وإعتباره من آيات القرآن وما فيها البشارة والإنذار، وتلك من الأسرار السماوية في القرآن، والشواهد على نزوله من عند الله عز وجل.
السادس: إخبار الكفار بان الله عز وجل لم ينسهم من رحمته، فجاء تحذيرهم في الكتاب الناسخ للكتب السماوية، والجامع للأحكام الشرعية، فأنذرهم ليكون الإنذار دعوة لهدايتهم وصلاحهم.
السابع: ذكر تفاصيل وأفراد من الكافرين يوم القيامة قال تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] ( )، وإسوداد الوجوه من شدة العذاب، وجاءت هذه الآية للإخبار عنه، ومن معاني التحذير الزجر عن الإقامة على الكفر والدعوة اليه.
لقد جاءت الآية بالإخبار عن حال الكفار يوم القيامة وما يوجه اليهم من اللوم المقارن للعذاب، ليكون هذا الإخبار مدرسة للموعظة والإصلاح، وباعثاً على نشر مفاهيم الفضيلة، وسبباً لانحسار مضامين الكفر والجحود.
قانون دراسة حال الكفار
جاءت هذه الآية للإخبار عما يصيب الكفار يوم القيامة وذكرت وجهاً من وجوه عذابهم بإسوداد وجوههم، نتيجة الكفر، وفيها دعوة للمسلمين لدراسة حال الكفار في الدنيا والآخرة، وهو من إعجاز للقرآن ووظائفه العقائدية، فمع أن الآية من آيات الإنذار والوعيد فانها تتضمن تنبيه المسلمين الى مسؤولياتهم في باب إصلاح الناس، ومنع التمادي في الضلالة.
وتعتبر معرفة المسلمين لأسباب الكفر وجنوح شطر من الناس الى الضلالة وكيفية معالجتها وتداركها من أهم صيغ الإصلاح، فلا تصل النوبة للجهاد بالسيف لنشر كلمة التوحيد، بل يتبع المسلمون الموعظة وبيان مضامين هذه الآية وآيات الإنذار الإخرى، الى جانب آيات البشارة التي جاءت خاصة للمسلمين والتي تتضمن دعوة الناس جميعاً للإسلام، ومن منافع معرفة أحوال الكفار وجوه:
الأول: انها من مقدمات العمل بقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثاني: فيها عون على إصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس.
الثالث: أنه من مصاديق نبذ الفرقة والإختلاف، ودعوة للإلتقاء والإتحاد في ظلال كلمة التوحيد.
الرابع: فيها إحتراز من مفاهيم الكفر، وحث على أخذ الحائطة من الكفار ومنع لتعديهم على الإسلام والمسلمين.
الخامس: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية وسبر أغواء الإنسان.
السادس: بعث الفزع والخوف في نفوس الكافرين، فمتى ما علموا ان المسلمين يدرسون أحوالهم، ويعرفون خفايا أمورهم وأسباب غوايتهم فانه يسقط في أيديهم ويتعذر عليهم إخفاء عيوبهم.
وتتعدد موضوعات وكيفية الإحاطة بأحوال الكفار من وجوه:
الأول: أسباب إعراض الكفار عن سبل الهداية والإيمان.
الثاني: طرق إعادتهم الى الإيمان، وكيفية إرشادهم الى الإسلام.
الثالث: صيغ البرهان والدعوة المناسبة للإحتجاج عليهم، وتخليهم عن الإصرار على الكفر والجحود.
الرابع: بيان القبح الذاتي والعرضي للكفر والجحود.
الخامس: كيفية إعانتهم على ترك منازل الكفر.
السادس: إستحضار منافع الإيمان في الدنيا والآخرة، وتعتبر هذه الآية من مصاديق معرفة المسلمين لأحوال الكافرين في الدنيا والآخرة اما في الدنيا فمن وجوه:
الأول: إختيارهم الكفر بعد الإيمان، اذ تبين الآية أنهم آمنوا بالله والآيات التي أنزلها، ثم إختاروا الكفر والجحود.
الثاني: نزول الآيات القرآنية بذم وتبكيت الكفار.
الثالث: مجيء لغة التخويف والوعيد للكفار، وأما في الآخرة فمن وجوه:
الأول: سواد وجوه الكفار عقوبة.
الثاني: توجيه اللوم والتقبيح للكفار لإختيارهم الكفر والجحود بعد الإيمان.
الثالث: تعرض الكفار للعذاب الشديد بسبب كفرهم وإصرارهم على الضلالة.
ولا تنحصر موضوعات هذه الآية بمعرفة المسلمين لأحوال الكفار، بل انها مدرسة في تحصيل المعارف، ونماء في العلوم المكتسبة، وثروة عقائدية وواقية من الشرك ومفاهيمه الظاهرة والخفية.
ومن نعم الله عز وجل على المسلمين تفضله بإحاطتهم علماً بأحوال الكفار في الآخرة ، وفيه عون لهم على الثبات على الإيمان، والحذر من أهل الكفر والنفاق، والصبر على أذاهم في جنب الله، وعدم الخشية منهم.
ولا تعارض بين الصبر وعدم الخشية وكلاهما من مصاديق المعرفة ويمكن دراسة أحوال الكفار من وجوه:
الأول: أحوالهم وشأنهم في الدنيا سواء في العقائد الزائفة أو المعاملات أوالصلات.
الثاني: أحوالهم في الآخرة وما يتعرضون له من العذاب الشديد.
الثالث: الجامع لأحوالهم في الدنيا والآخرة، وتأثير كل فرد منهما بالآخر، وحال الشقاء والتيه والحيرة التي يعيشونها في النشأتين.
وهل يدرس الكفار أحوال المسلمين، الجواب نعم سواء كانت دراسة منهجية أو عرضية وبحسب الظواهر، وتلك الدراسة مناسبة لعروجهم الى التوبة والإنابة ، لما فيه المسلمون من الرخاء والغبطة في الدنيا وفي الآخرة، لذا جاءت الآية السابقة بالزجر عن الفرقة والخلاف وعدم محاكاة الكفار، ليكون المائز والتباين بين المسلمين والكفار دعوة لكل كافر لنبذ الكفر ،وحث على دخول الإسلام.
أن قانون دراسة أحوال الكفار حاجة للمسلمين للإحاطة علماً بعددهم وما هم فيه من الثغرات والعثرات، وكيفية إصلاحهم وإجتناب أذاهم، وتأتي هذه الآيات لتبين جانباً من أحوال الكفار في الدنيا بإختيارهم الفرقة والإختلاف، بعد مجيء البينات وثبوت الحجة عليهم بلزوم تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاضافة الى معرفة حالهم في الآخرة وما يتعرضون له من العذاب الشديد.
علم المناسبة
وردت مادة (كفر) في القرآن في آيات كثيرة وجاء لفظ (كفروا) في مائة واربع وتسعين آية، وورد كل من لفظ (تكفرون)، و(يكفرون) اربع عشرة مرة، وجاء لفظ (الكفر) في القرآن سبع عشرة مرة، وتتضمن ذم الذين كفروا وبيان سوء اختيارهم، كما وردت بالفاظ اخرى، وهذه الكثرة في ورود مادة (كفر) شاهد على حب الله تعالى للعباد، وتحذيرهم من الكفر باعتباره أبغض شيء يقدم عليه الإنسان.
وجاء لفظ (كفرتم) بلغة جمع المخاطب ثمان مرات في القرآن وكلها بصيغة اللوم والتوبيخ للكافرين، مما يدل على ارادة معنى الجحود والشرك والضلالة في اللوم الموجه في المقام للكافرين، ولم يرد فيها الاستفهام الانكاري الا في هذه الآية الكريمة (أكفرتم) مما يدل على موضوعية هذه الآية وما فيها من المضامين القدسية.
وجاءت احدى هذه الآيات الثمانية بخصوص الكفر بعد الإيمان في ذم وتوبيخ للمنافقين، قال تعالى [لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] ( ) والجمع بين هذه الآية والآية محل البحث يفيد شمول المنافقين بعقوبة اسوداد الوجوه يوم القيامة.
وتدل الآيات القرآنية على اجتناب الاصرار على الكفر، وتتضمن الإنذار والوعيد لمن يتمادى فيه، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ] ( )، كما تخبر الآية عن حجب المغفرة عمن يموت على الكفر، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ).
ومن اسباب سواد الوجوه يوم القيامة بطلان اعمال الكافرين، ولأن فعل الصالحات لا يتقوم الا بالإيمان والنية وقصد طاعة الله تعالى والقربة اليه، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ] ( )، وهو إنذار وتحذير اضافي، واخبار عن خلو صحائف اعمال الكفار من الحسنات وحسرتهم على ضياع اعمالهم وذهابها ادراج الرياح، وما يزيد في الحسرة ان الكفر لم يأت ابتداء، فهم لم يولدوا على الكفر بل الأصل هو الإيمان، وان الإنسان يتلقى دعوات الإيمان مما حوله من الآيات والبراهين والحجج، ولكن الكفار اختاروا الضلالة والغواية.
ومن معني سواد وجوه الكفار انهم يعجزون عن صد لهيب النار عن وجوههم، قال تعالى [لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ] ( )، وليس لهم يومئذ وسيلة وآلة يصدون بها حر النار عن وجوههم الا الأكف ووضع الأيدي حاجزاً دون الوجه باعتبار ان الوجه أكثر تأثراً بالحرارة، وجلده أرق من غيره من أجزاء البدن ولكن شدة حرارة النار تدفعهم الى سحب أيديهم، وكذا فان حرارة النار تنفذ الى الوجوه حتى وان رفعوا أيديهم دونها فانها لا يمكن ان تكون ساتراً لها من النار لأن النار لا تتوجه بخطوط مستقيمة بل تأتي قاصدة وجوه الكفار، وهي مأمورة بالتوجه اليها.
قوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ]
من الآيات في اللفظ القرآني تعدد معناه، وكثرة مقاصده السامية، وعدم انحصارها بالتعريف وفق الصناعة النحوية والكلامية، فالشطر السابق من الآية [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] اعم من الإستفهام الإنكاري اذ انه يتضمن لغة الحجة والبرهان والإخبار عن حقيقة وهي وجوب الثبات على الايمان، وعدم الإرتداد، والوعيد لمن عصى وارتد وجحد، ليأتي هذا الشطر فيخبر عن نتيجة الجحود، وعدم تخلف العذاب عنه، وكأنه من العلة والمعلول وقوانين السببية، في اشارة الى ان الإنسان هو الذي يجلب لنفسه العذاب بما عملت يداه، وانتفاء الظلم في الآخرة، ويحتمل اوان هذا الخطاب التوبيخي وجوها:
الأول: انه وعيد في الدنيا واخبار عما سيصيب الكفار من الأذى يوم القيامة.
الثاني: عدم التلبس بالكفر والإصرار عليه.
الثالث: حال اسوداد الوجوه في الآخرة باعتباره من أفراد العذاب.
الرابع: مقارنة الخطاب لساعة العذاب.
الخامس: تأخر الخطاب عن العذاب، فبعد ان ينالوا العقاب ويحسوا بالم العذاب يأتيهم الخطاب التوبيخي [فَذُوقُوا الْعَذَابَ] ويدل عليه زمانه وتأخر التوبيخ عن الكفر بدليل قوله تعالى [بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] والتقدير: بما كنتم تكفرون وانتم في الحياة الدنيا.
السادس: يأتي هذا النداء بعد دخول الكفار النار واقامتهم فيها.
السابع: مصاحبة هذا الخطاب وما فيه من التوبيخ للكفار يوم القيامة.
الثامن: المعنى الأعم للفظ، وشمول الخطاب لافراد الزمان الطولية في الحياة الدنيا والآخرة، اذ يأتي في الدنيا بهذه الآية الكريمة وتلاوتها والآيات المشابهة الأخرى من قبل الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
التاسع: شمول عالم البرزخ بموضوع هذا الخطاب، فالى جانب توبيخ الكفار يوم القيامة، باستحقاقهم للعذاب فان ذات الخطاب يتوجه اليهم في عالم البرزخ لما فيه من العذاب الإبتلائي.
ولاتعارض بين هذه الوجوه وهو من الإعجاز والآيات في خلق الإنسان ولغة الوعد والوعيد لإتصال وإستدامة العذاب يوم القيامة،هو لايمنع من الإشتراك ، فيشمل الوجه السادس والوجه الثامن معه ، وتغشي الوعيد والتوبيخ لعالم البرزخ، ومجئ تعدد الخطاب في الدنيا كما يتجلى في هذه الآية القرآنية، وهل يسمع الكفار هذا الخطاب ، الجواب نعم وفيه وجوه:
الأول: يسمعه الكفار في الدنيا بواسطة التنزيل، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، فهذا الخطاب رحمة في الدنيا، وعذاب للكفار في الآخرة .
فهو رحمة في الدنيا بالمسلمين والكفار، اما المسلمون فانهم يعتبرون ويتعظون منه، ويحرصون على الثبات في مقامات الايمان، ويفرحون بما رزقهم الله تعالى من نعمة الإيمان، واما الكفار فان نفوسهم تمتلأ خوفاً وفزعاً، ومنهم من يتوب الى الله ويختار الإيمان ويهجر الكفر وما يؤدي اليه من الأذى والعذاب الأليم.
وهل يأتي التوبيخ بحصول العذاب متصلاً باللوم على الكفر بعد الإيمان ام ان قوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ] منفصل عن اللوم على الكفر، الجواب هو الاول من وجوه:
الأول: تقدير الآية يقال لهم اكفرتم بعد ايمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
الثاني: في اتصال الكلام وتعدد مضامينه زيادة في شدة عذاب الكفار.
الثالث: وحدة الموضوع، فالآية تتعلق بموضوع واحد وهو وقوع العذاب ولوم الكافر على ظلمه لنفسه.
ويأتي الذوق عنوانا لاحدى الحواس ، والاصل أن يكون في اللسان، وجاء استعماله هنا آية اعجازية اذ ان البدن كله يتحسس العذاب، ويشعر به، ويأتي العذاب للكافر من كل جهة وبكيفيات متعددة ومتباينة، وفي هذا اللفظ عذاب اضافي ، وابعاد للكفار عن رحمة الله، وبعد الاخبار عن اسوداد وجوه الكفار جاء توبيخهم لتركهم الايمان واستحقاقهم العذاب لتكون هذه الآية توكيداً لشدة العذاب، وعدم انحصار موضوعه بالتخويف والوعيد.
وفيها اخبار عن حصوله وتحققه واقعاً يوم القيامة، ويحتمل العذاب الوارد في الآية وجوهاً:
الأول: إسوداد الوجوه، وانه المقصود من العذاب في المقام والتقدير: فذوقوا عذاب اسوداد الوجوه.
الثاني: ما في البرزخ وعالم القبر من الأذى والعذاب.
الثالث: يوم القيامة ابتداء من ساعة النشور.
الرابع: المراد عذاب الناروشدته.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق العذاب الذي يصيب الكفار في الآخرة، وفي كثرتها زيادة في شدة العذاب، ووقعه على الكفار.
ويتضمن هذا الشطر من الآية تخويفاً ووعيداً للكفار، بما يكون نوعاً من انواع عذابهم في الدنيا.
ولايتعارض هذا المعنى مع اعتباره رحمة بهم وحثاً لهم على التوبة والانابة، ولايأتي بصورة مجردة، بل يأتي مقترناً بمعجزات النبوة التي تدعوهم الى الإسلام ، ويحتمل هذا القول في اتحاده وتعدده وجوهاً:
الأول: اتحاد وجهة الصدور، ووصوله الى جميع الكفار مرة واحدة فجميع الكفار يسمعون الكلام عند صدوره.
الثاني: الخطاب انحلالي، فكل فرد وجماعة من الكفار يأتيهم التوبيخ بصورة مستقلة بحسب الزمان او المكان.
الثالث: يأتي هذا التوبيخ ساعة العذاب.
الرابع: يأتي رداً على شكوى وضجيج الكفار، فيكون احتجاجاً عليهم لذا تضمن ذكر علة العذاب وهو إختيارهم الكفر بعد الايمان.
الخامس: في الآية اخبار عن حال من أحوال يوم القيامة وما يتعرض له الكفار من الأذى والعذاب، وليس بالضرورة ان يكون لهذا التوبيخ زمان مخصوص.
السادس: صدور هذا الكلام من الملائكة والمؤمنين عندما يرون اهل النار، وقد لايسمعه الكفار، ولكنه اخبار عن إطلاع اهل المحشر على حال الكافرين واستحقاقهم للعذاب، وفيه دلالة على عدم الشفاعة لهم.
ولاتعارض بين هذه الوجوه بما فيها السماع الاستغراقي للخطاب المتحد، وإنحلاله وتعدده، فمرة يأتي الخطاب متحداً، ومرة متعدداً، ويأتي من عند الله، ومن الملائكة، كما يأتي سابقاًً لدخول النار بلحاظ اسوداد الوجوه فحالما ترى الملائكة ذا الوجه الاسود يوم القيامة فانها تنذره بما ينتظره من عذاب النار .
قانون إنقطاع أمل الكفار
يعتبر الأمل من خصال الانسان، وهو مصاحب له في حياته كلها، ولايكون على مرتبة واحدة، بل هو على مراتب متفاوتة، فيختلف في موضوعه وكمه وكيفيته من انسان لآخر، بل ذات الانسان الواحد يتباين عنده الامل في موضوعه والعناية والانشغال به، فقد يستحوذ على الانسان في نهاره وليله، وقد يمر عليه امل في موضوع مخصوص، ولكنه سرعان ماينساه سواء لعدم اهميته، او التسليم بالعجز عن تحقيقه.
وهل يدخل الاعتبار الشرعي في تعيين نوع الأمل عند الانسان الجواب نعم، فلابد ان يكون الامل حلالاً وليس بالمحرم، نعم لايترتب الاثم إلا على التلبس بفعل الحرام ومقدمته.
ومن اعجاز القرآن ان لفظ الأمل لم يذكر في القرآن الا مرتين بينهما تباين متعدد، وهما:
الأول: جاء خاصاً بالكفار وفي الحياة الدنيا، قال تعالى [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ]( ) .
فجاء الأمل كوسيلة وسبب للتلهي والانشغال غير النافع به، وجزء علة لصرفهم عن وظائفهم العقائدية، وما يجب عليهم فعله واتيانه.
الثاني: مدح المؤمنين بما يأملون يوم القيامة قال تعالى[وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ]( ).
فالمسلم يأمل رحمة الله ويرجو فضله واحسانه وجزاءه، ويأتي بالصالحات لأن الثواب حق، يصح الأمل بنيله لمن أتى بشرائطه ومقدماته واسبابه، ومن صفات الدنيا انها دار أمل يطمع فيها الانسان في نيل بغيته وتحقيق رغائبه، وجاء الاسلام ليلبس الأمل لباس التقوى ويجعله جزء من صلاح العبد، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله ما يفيد قصر الأمل، ورجاء الأمل في الآخرة.
وروي أن اسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر ، فسمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ألا تعجبون من اسامة المشتري إلى شهر ! إن اسامة لطويل الأمل ، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا طننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي ، ولا رفعت طرفي وظننت أني خافضه حتى اقبض ، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا اسيغها لحصرتها من الموت . ثم قال : يا بني آدم ، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى ، والذي نفسي بيده [ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ] ( ).
ويكون الأمل على وجوه:
الأول: ما يتعلق بالدنيا وزينتها ومباهجها والانقطاع اليها وهو مذموم.
الثاني: ما يكون في الدنيا ايضاً ليكون مناسبة للثبات على الإيمان، وواقية من الفقر واسباب الافتتان، كالذي يأمل الحصول على مال للزواج والإنجاب، وهذا الأمل ليس مطلقاً بل يكون وفق الحاجة وبلحاظ الممكن والقدرة وقوانين السبب والمسبب، ليكون وسيلة للعمل والسعي والكسب في أمور الدين والدنيا.
الثالث: الأمل في الآخرة وما فيها من الأجر والثواب، ونيل المراتب في دار الكرامة والرضوان.
ويأتي الدعاء سلاحاً لتحقيق الأمل في النشأتين، وفي أمور الدين والدنيا، فمن الآيات ان يكون الأمل سبباً للتوجه الى الله عز وجل في تحقيق الرغائب ونيل الأماني، ولا ينحصر موضوعه بآمال الآخرة بل يشمل أمور الدنيا ايضاً والله واسع كريم، وتلك آية اعجازية في شرف الدعاء وعظيم نفعه في الدنيا والآخرة.
ويكون الأمل وسيلة للدعاء، فيأمل المسلم شيئاً ويرجو حاجة فيتوجه الى الله تعالى بالدعاء فيثاب على دعائه لما فيه من الإقرار بأن مقاليد الأمور بيد الله تعالى، وانه لا يقدر على تحقيق الآمال الا الله تعالى، وبذا يمتاز المسلم بخصوصية في باب الأمل وهي اقراره بأن ما عنده من الله عز وجل، وانه لا يستطيع تحقيق شيء من أمانيه الا بفضل الله تعالى.
ولابد من استجابة من عند الله للدعاء لعمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، قد تأتي الاستجابة بخصوص المسألة والأمنية التي دعا بها العبد، وقد تكون في موضوع آخر والله لا تستعصي عليه مسألة.
ويظهر موضوع الأمل التباين بين المسلم والكافر، فيتمنى المسلم في أمور الدين والدنيا، كما انه ينال مُنيته في الآخرة بفعله الصالحات والأمل بنيل الثواب عليها، أما الكافر فينحصر أمله في الدنيا دون الاخرة، وبما هو سراب وما يتعلق بزخرف وزينة الدنيا، ولا يرجع عليه امله الا بالعناء والوزر، وليس من امل في الآخرة للكافر.
وجاءت هذه الآية للاخبار عن انقطاع آمال الكفار فهم مشغولون بانفسهم، يعانون من شدة العذاب، ويمنع قوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ] من الأمل بنجاتهم من اسوداد الوجوه او تخفيف العذاب.
ومن الحري بالإنسان ان يُولي موضوع الأمل وموضوعيته في حياته عناية خاصة، وتتحقق تلك العناية بالإيمان والتقوى، فمتى ما آمن الإنسان بما أنزل الله تعالى وصدق بالأنبياء وسعى ليوم الحساب فأنه يأمل بياض وجهه يومئذ فيسعى لنيل هذا الأمل ويبذل الوسع من أجل الفوز بالنعيم الدائم، أما الكفار فأن أملهم ينقطع مع مغادرة الدنيا ليتبين لهم ان آمالهم كانت سراباً لأن متعلقها هو زينة الدنيا وليس الآخرة.
علم المناسبة
وردت مادة (ذوق) ثلاثاً وستين مرة في القرآن، جاء اغلبها في توبيخ الكافرين والإخبار عما يلاقونه من العذاب الاليم، ولم ترد مادة (ذوق) ومشتقاتها في سورة البقرة، وهذه الآية هي اول آية في ترتيب سور القرآن يرد فيها موضوع الذوق ويتعلق بيوم القيامة، واحساسهم به.
كما وردت في اكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها وهما في الجنة قال تعالى [فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا] ( ).
في تنبيه وانذارللناس بالعناية بحاسة الذوق ، وموضوعية الذوق في ترتب الأثر والجزاء، فذوق الشجرة اهبط آدم وحواء من الجنة، وفيه دعوة للانسان للإحتراز في حاسة الذوق، وجعلها وسيلة للحيطة والحذر مما يؤدي الى التعرض للعذاب، والمعروف ان الانسان يوظف حاسة الذوق توظيفاً ظاهرياً قليلاً لمعرفة حلاوة او حموضة او نضج الاكل، او طعمه وجودته وحسن طهيه ونحوها في آية من بديع خلق الانسان، وقد لايحتاج الانسان حاسة الذوق فيكتفي بالرؤية البصرية ويعرف ذوق الطعام، او يسمع من الآخرين ما يغنيه عن قيامه بالتذوق، اما هذه الآية فجاءت بامور:
الأول: لابد ان يتذوق الكفار العذاب.
الثاني: شمول الكفار كافة بهذا التذوق، من غير استثناء ، لأصالة الاطلاق والاشتراك في العذاب.
الثالث: شدة ألم تذوق العذاب، فقد يستعمل الإنسان طرف لسانه للتذوق، اما هذه الآية فتدل على إشتراك اعضاء البدن كلها بتذوق العذاب.
الرابع: حصول الألم الشديد، نتيجة العذاب، فتنفي الآية احتمال كون العذاب مجازياً، اوان اهل النار يعتادون عليه بمرور الأيام بل يذوق كل واحد منهم شدة العذاب على نحو مستديم.
وجاء ذكر ذوق العذاب في الآية بسبب اختيار الكفر بعد الإيمان، وجاء في آيات اخرى على وجوه:
الأول: الإحساس بحرارة كنز الاموال وعدم اخراج زكاتها قال تعالى [فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ]( ).
الثاني: قبح العمل، وارتكاب السيئات، قال الله سبحانه [ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
الثالث: اختيار الكفر مطلقاً من غير التقييد بتعقبه للايمان، في دلالة على شمول اسوداد الوجوه، والأقامة في العذاب للكافرين جميعاً قال تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
الرابع: التعدي وظلم الآخرين، قال تعالى [وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا] ( ).
ان كثرة الآيات التي جاءت بذوق عذاب النار شاهد على السخط الإلهي على الكفار، واخبار عن شدة الألم الذي يتعرضون له، ودعوة للتوبة والإنابة والإنتفاع من الحياة الدنيا وجعلها وعاء ومناسبة لفعل الصالحات وإجتناب السيئات.
قانون ذوقوا العذاب
تبين آيات القرآن اسرار يوم القيامة، والوقائع والحوادث التي تجري فيه على نحو الاجمال، فيكشف عن الحساب وضروب من الجزاء الذي يأتي جامعاً للضدين من غير تزاحم او تعارض بينهما، للتباين والتعدد في المحل، فيأتي الجزاء الحسن لأهل الإيمان، والعذاب الأليم للكافرين، ومن الآيات اقتران العذاب باللوم والتبكيت للكفار ويتجلى بقوله تعالى [ذُوقُوا الْعَذَابَ] وفيه وجوه:
الأول: لغة التوبيخ زيادة في شدة العذاب.
الثاني: تمنع لغة التوبيخ الكفار من الجدال والإحتجاج، فقد جعل الله عزوجل لهم وللناس جميعاً الحياة الدنيا دار امتحان واختبار، وبعث الأنبياء وانزل الكتب من السماء لانذارهم ودعوتهم الى الهدى ولكن الكفار اصروا على الكفر، واخذوا يكثرون من الجدال واللجاج، فيأتي توبيخهم زاجراً لهم عن الجدال، وتذكيراً بعنادهم واستكبارهم في الحياة الدنيا فلم ينتفعوا من أيام الحياة الدنيا، ولم يوظفوا موضوع الجدال للهداية والرشاد.
الثالث: يأتي لوم وتبكيت الكفاربالنداء الإلهي [ذُوقُوا الْعَذَابَ] وهم يعجزون عن الرد او الجدال او الاحتجاج، مما يدل على ضعفهم وذلهم وخزيهم يوم القيامة.
وتدل صيغة الجمع والشواهد القرآنية، والواقع العملي في الحياة الدنيا على كثرة الكفار، ولكنهم مع كثرتهم في النار تراهم يتلقون التوبيخ والذم بالسكوت لوجوه:
الأول: اقرار الكفار بذنوبهم.
الثاني: عدم اتعاظهم من آيات الإنذار والوعيد التي جاء بها الأنبياء.
الثالث: انشغال الكفار بالعذاب وشدته، وإذا كان الانشغال بالعذاب يجعل الكافرين غير قادرين على الرد على التوبيخ، فهل له موضوعية في سماعهم له فيه وجوه:
الأول: لايسمع الكفار اللوم والتوبيخ الوارد بقوله تعالى [فذُوقُوا الْعَذَابَ] لوجوه:
الأول: شدة عذاب النار على كل واحد من الكفار.
الثاني: الألم الشديد الذي يعاني منه الكفار في النار.
الثالث: انشغال الكفار باللوم فيما بينهم، فكل واحد منهم يلقي باللائمة على صاحبه وينعته بانه كان السبب في دخوله النار.
الثاني: يسمع الكفار اللوم والتوبيخ عرضاً، و منهم من لا يستطيع الاصغاء الى النداء بسبب الالم الشديد الذي يصيبه من حر النار.
الثالث: يتوقف عذاب النار هنيئة لحين استماع الكفار النداء والتوبيخ ثم يعود العذاب من جديد.
الرابع: يستمع الكفار الى التوبيخ عن قصد من غير ان يتوقف العذاب.
والصحيح هو الاخير فان التوبيخ يصل الى أسماع الكفار، ومع شدة العذاب الذي هم فيه فانهم يصغون له ويزيدهم حسرة والماً.
ويأتي النداء والتوبيخ في القرآن ليستمعوا له في الدنيا، ويتدبرون معناه، ويتعظون مما فيه من الأنذار والوعيد، فكما ان قوله تعالى في هذه الآية [ذُوقُوا الْعَذَابَ] تحذير من عذاب النار، فان ذات التوبيخ يوم القيامة تذكير بهذا النداء القرآني، وتضييع الكفار فرصة الحياة الدنيا، وعدم الإنتفاع منها ومما فيها من المواعظ السماوية والآيات النبوية.
ان توجه اللوم والتوبيخ للكفار [ذُوقُوا الْعَذَابَ] جزء من العذاب في الآخرة، وهو امر ثابت وحتمي وناتج عن الضلالة والكفر، وملازم لإسوداد الوجوه، ومصاحب للكفار في الدنيا والآخرة، ويأتي في الدنيا بلغة التحذير والوعيد بما يجعل يوم القيامة وكأنه امر قريب، ويستحضر الناس وقائعه في الوجود الذهني والتصوري، مع الإلتفات الى جهة الإخبار والإنذار فانه لم يأت من الناس وأرباب العقول، بل جاء من عندالله عزوجل وفي الكتاب السماوي الخالد وهو القرآن، ويأتي في الآخرة مقارناً للعذاب وبما يمنع من رأفة ملائكة النار بالكفار، ويحتمل الخطاب في عدد المرات التي يأتي بها وجهين:
الأول: يأتي لمرة واحدة، يسمعه فيها الكفار ويكون عالقاً في اذهانهم وهذه المرة على وجوه:
الأول: عند البعث والنشور.
الثاني:حال إسوداد الوجوه.
الثالث: اوان ابتداء الحساب.
الرابع: عند دخول النار، والتعرض لعذابها.
الثاني: تكرار هذا القول، وتعدد جهة صدوره.
والصحيح هو الثاني، فان لغة التوبيخ والذم مصاحبة للكفار في الآخرة لان وجودهم فيها كله عذاب ومنه إسوداد الوجوه وحال الفزع والخوف الذي لاينفك عن كل واحد منهم.
وهل في هذه الآية وقوله تعالى في القرآن [ذُوقُوا الْعَذَابَ] أذى وألم وعذاب للكفار، اما انها انذار وتحذير فقط ، الجواب هو الاول فان هذه الآية وان جاءت إخباراً عن حال الكفار يوم القيامة، وتوجه التوبيخ لهم مقارناً للعذاب، فان هذا الإخبار يتضمن الأذى والعذاب للكفار بما يجعل النفوس تنفر من الكفر ويستبين معه قبحه الذاتي، وما يأتي بسببه من الأذى والألم الشديد، وفيه تثبيت لأقدام المسلمين في منازل الايمان، وبعث للحرص في نفوسهم على الاحتراز من الكفر واجتناب افراده الظاهرة والخفية.

قوله تعالى [بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]
بعد ان اختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] جاءت خاتمة هذه الآية لبيان علة نزول العذاب الأليم باهل النار، وانه جاء نتيجة فختيارهم الكفر، وإصرارهم على الجحود، وفي هذا الترابط بين معنى خاتمة الآيتين المتعاقبتين شاهد على إعجاز القرآن، وتداخل معاني ألفاظه بما يفيد البيان والكشف عن أحوال الدنيا والآخرة وموضوعية هذا البيان في هداية الناس الى سبل الرشاد.
وجاءت في الآية ثلاثة أفعال تتعلق بأحوال الكفار وتتصف بالتباين في صيغتها وهي:
الأول: مجيء الفعل المضارع في قوله تعالى [وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ].
الثاي: ورود فعل الأمر في قوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ].
الثالث: مجيء صيغة الفعل الماضي بقوله تعالى [بِمَا كُنْتُمْ]، ثم أختتمت الآية بالجملة الفعلية “تكفرون” بصيغة المضارع.
ولم تقل الآية “فذوقوا العذاب بما كفرتم” بل ذكرت ما كانوا عليه من الكفر بما يفيد إقامتهم على الجحود وإصرارهم على الكفر، وطول تلبسهم بالكفر، وتكرار صدور أفعالهم منهم، وإشتراكهم بالكفر والضلالة ومحاربة النبوة فكما يجمعهم في الدنيا الكفر فان سواد الوجوه، والعذاب الأليم يجمعانهم في الآخرة.
وبعد إقتران العذاب بالتوبيخ والتبكيت بقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ] ومجيء الآية بصيغة الماضي التي تدل على الحدوث والوقوع، وان المقام ليس مقام الإنذار والوعيد بل العقاب ونزول العذاب بالكفار، جاءت خاتمة الآية ببيان سبب عذاب الكفار اذ ان الباء في “بما” للسببية، وفيه شاهد على تنزيه مقام الربوبية من الظلم وهو الذي تؤكده خاتمة الآية بعد التالية بقوله تعالى ٍ[وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ]
وفي الآية توكيد لقاعدة كلية في موازين الحساب، وهي ان الكفر يؤدي الى العقاب والعذاب في النار وهناك مسألتان:
الأولى: هل يحتمل خروج واستثناء جماعة أو فرقة من الكفار من مضامين هذه الآية، أم ان أحكامها عامة وشاملة.
الثانية: إختصاص الآية بالذين أسودت وجوههم من الكفار، أما الأولى فان الآية مطلقة وشاملة لجميع الكفار، وليس من استثناء فيها، فالعذاب الأخروي ملازم للكفر في الدنيا، وكل من مات كافراً يذوق العذاب.
وأما الثانية فالنسبة بين أسوداد الوجوه وبين العذاب هي التساوي، فكل كافر يسود وجهه يوم القيامة ويلقى العذاب الشديد.
ومن الآيات ان يأتي الإخبار عن العذاب الأخروي في الدنيا ليكون انذاراً ودعوة للصلاح ونبذ الكفر والجحود، والإنسان بطبعه كائن محتاج، فيحتاج التنبيه والتحذير والإنذار، ولا تنحصر الحاجة لهذه الآية وما تتضمنه خاتمتها من الوعيد بأهل الجحود والكفر بل تشمل المسلمين ايضاً، ومن الآيات ان يأتي الإنذار الى الكفار في القرآن الذي هو كتاب سماوي نازل من عند الله . لينتفع منه المسلمون من وجوه:
الأول: الرضا والإستبشار والغبطة بإختيار الإسلام.
الثاني: توجههم بالشكر لله على نعمة الهداية.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار والإحتجاج عليهم، والتصدي لشبهاتهم.
الرابع: ازدراء الكفار وعدم الإفتتان بما هم عليه من الحال والجاه والعدة وإدراك حقيقة ثابتة وهي زوال النعم عنهم، وإقامتهم الدائمة في العذاب.
وينتفع الكفار من هذه الآية وما فيها من الوعيد من وجوه:
الأول: تلقي الإنذار بكتاب سماوي.
الثاني: وجود صلة تربطهم بالقرآن بإعتبارهم من عباد الله، وجاء القرآن لإصلاحهم وهدايتهم.
الثالث: الإلتفات الى حقيقة وهي نجاة المسلمين من العذاب، وان الإنذار خاص بأهل الكفر والجحود.
الرابع: إتعاظ شطر من الكفار بهذه الآيات، ودخولهم الإسلام ونزعهم لرداء الكفر والجحود هرباً من شدة العذاب الأخروي.
الخامس: الإنشغال بالذات، وإجتناب محاربة المسلمين، وكثرة الجدال معهم، والآية إخبار عن أمر واقع حتماً، في الآخرة، ومن إعجاز القرآن الإخبار عن عالم الغيب ، وبيان علة عذاب الكفار يومئذ وأنهم السبب في جلب العذاب على أنفسهم، فهو عقاب على سوء أعمالهم في الدنيا.
وجاءت هذه الآية لإقامة الحجة عليهم ودعوتهم للتدارك وبيان القبح الذاتي للكفر وآثاره الضارة على صاحبه وجاءت الآية بصيغة الجمع، وهي إنحلالية والمراد وجوه:
الأول: يذوق كل كافر العذاب بسبب كفره وجحوده.
الثاني: يأتي العذاب على قسمين:
الأول: عام يشمل الكفار جميعاً.
الثاني: خاص يتوجه الى كل كافر.
الثالث: الملازمة بين الكفر في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.

علم المناسبة
ورد لفظ (تكفرون) اربع عشرة مرة في القرآن، كما ورد بصيغة جمع الغائب (يكفرون) بذات العدد ايضاً، وهذا التساوي في العدد آية اعجازية تتعلق بذم الكفار في صيغة الخطاب وعند ذكرهم بلغة التخويف والوعيد، ودعوة للمسلمين للاحتراز من اهل الضلالة والكفر والعلم بحالهم في الدنيا والآخرة.
اما في الدنيا، فالكفار معروفون بالجحد والمعصية، وعدم الايمان بالله ورسله.
واما في الآخرة فان هذه الآية تبين ما يصيبهم من العذاب الاليم.
وورد قوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] اربع مرات وفيه دلالة على تعدد مواطن توبيخ الكفار وامضاء عذابهم، وحجبهم الرحمة الإلهية عن انفسهم.
ووردت آية تؤكد صدور هذا التوبيخ للكفار من عند الله قال سبحانه [وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ).
فيأتي التوبيخ واللوم للكفار من عند الله يوم القيامة ليكون عنواناً للسخط الالهي، وحجة على الكافرين وإخباراً لأهل المحشر باستحقاق الكافرين العذاب الأليم، وفيه دعوة للناس للتنزه من الكفر في الدنيا لقبحه الذاتي، ولمخالفته لدلالة الآيات الكونية والمعجزات التي جاء بها الأنبياء، وإدراك العقل باعتبار أن الإقرار بوجود الصانع من البديهيات والضروريات الظاهرة للحواس والمدركة بالوجدان.
وفي الآية مسائل:
الأول: ابتدأت الآية بذكر يوم القيامة في اشارة الى ان مضامين الآية واقعة فيه فلا يغتر الكفار بما عندهم من حطام الدنيا انما هو من ابتلاء والفتنة فيها، وفيه تحذير للمسلمين من الافتتان بالكفار وتوكيد لحقيقة وهي ان المدار في الامور على خواتيمها وعواقبها، خصوصاً وان دار الآخرة دار الخلود والدوام.
الثاني: بعد ذكر يوم القيامة جاء ذكر اهل الجنة بصفة بياض الوجوه جزاء لهم على حسن اسلامهم، ومن الآيات ان النعمة الإلهية لاتنحصر بموضوعها بل تترشح عنها نعم متعددة.
الثالث: بعد ذكر المؤمنين ببياض الوجوه، جاء ذكر الكافرين بسواد الوجوه، والآية لم تذكر المؤمنين والكافرين على نحو التعيين او الصفة فكما ذكرت يوم القيامة على نحو التنكير ليتصرف المعنى عند الناس جميعاً الى يوم القيامة، فقد ذكرت حصول امرين متضادين، فهناك وجوه تصبح بيضاء، واخرى تصبح سوداء في اشارة الى عدم موضوعية اصل الخلقة في الدنيا بخصوص لون البشرة يوم القيامة، بل يرتبط لون الوجه بالعمل في الدنيا.
فمن كان مسلماً يعمل الصالحات تجلى عمله في وجهه بالبياض لإلتقاء الصلاح والبياض بالحسن الذاتي، ومن كانت عقيدته فاسدة وعمله سيئاًً انعكس على وجهه بالسواد لالتقاء الذنوب والسواد بالقبح، لايكون السواد في الدنيا قبيحاً إلامع القرينة، وجاءت القرينة هنا ببياض وجوه المؤمنين ومجئ السواد كوجه من وجوه العذاب ومقدمة له.
الرابع: عدم ترك الذين تسود وجوههم وحالهم، بل يصاحبهم اللوم الذي يأتيهم من عند الله ومن الملائكة واهل المحشر بما جلبوه على انفسهم من العار والأذى، وهل ينحصر اللوم والتوبيخ بقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ] ام له افراد ومصاديق اخرى، الجواب هو الثاني فهذه الآية تبين احدى صيغ اللوم والتكبيت وهناك صيغ اخرى من التوبيخ والتقبيح والتعيير التي يتلقاها الكفار في الآخرة منها قوله تعالى [قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
الخامس: فضح الكفار يوم القيامة، بالإعلان عن كفرهم، وعدم التستر عليهم، فمن خصائص الدنيا امكان التستر والتخفي فيها، وبامكان الانسان ان يخفي المعصية، ويأتي بالفاحشة من غير ان يطلع أحد على ذنبه، ولكن الله عز وجل يراه ويعلم مايفعل، ويمهله لأحد امرين:
الأول:دنيوي، ويتجلى برجاء ندمه وتوبته واقلاعه عن المعاصي.
الثاني: اخروي بان يفضح الله من مات على الكفر والمعصية فكلاً منهما نال نعمة الامهال في الدنيا، ولكن الاول انتفع منها، اما الثاني وينتفع منها فلحقه الخزي في الآخرة اسوة بالذي يتجاهر بمعصيته وكفره وجحوده وهو من خصوصيات يوم الجزاء بان يفتضح الكافر وان كان متسترا في الدنيا، ومن وجوه الفضح قوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] ويدل في مفهومه على حرمة الارتداد وشدة عقاب المرتد، وفيه دعوة للناس للايمان لانه الاصل.
السادس: تعرض الكفار للعذاب الشديد في الآخرة، وعدم امكان هروب او نجاة فرد او جماعة منهم من العذاب.
السابع: ترتب العذاب على الكفر، وعدم تخلفه عنه لوجود المقتضي وفقد المانع، اما المقتضي فان العذاب الشديد عقاب للكفار على جحودهم، واما انعدام المانع فلان الملك لله يوم القيامة، وقد انذر سبحانه بالعذاب على الكفر وحذر منه، وانزل الآيات التي تجذب الانسان للهداية واسباب النجاة من العذاب الأخروي، ولكن الكافرين صموا اذانهم، واغمضوا عيونهم الى ان جاءهم الاجل.
واذ بدأت الآية بقوله تعالى [يَوْمَ] وارادة يوم القيامة منه، فان خاتمة الآية توكيد لوقوع يوم الجزاء، وانذار للكفار من العقاب فيه، ومن الآيات ان انذار الكفار لم ينحصر بالاخبار عن يوم القيامة بل بما يصيبهم من العذاب الاليم ليكون الانذار السماوي اشارة الى قرب يوم القيامة وحتمية وقوعه، ودعوة للكفار للهداية والايمان.
بحث بلاغي
جاءت الآية بضامين عامة وخاصة، أما العامة فبينت قسمة الناس جميعاً في الآخرة الى قسمين، وبدأت بالقسم الحسن وهو أهل الوجوه البيض في حث على الطاعات، وترغيب في فعل الصالحات وجاءت بلغة التنكير “تبيض وجوه” في دعوة للتوبة والإنابة، وإخبار عن بقاء الباب مفتوحاً أمام الناس جميعاً للفوز بمرتبة بياض الوجوه في الآخرة، والنجاة من إسودادها اذ انه لا برزخ بين المنزلتين أو بين بياض وسواد الوجوه يومئذ، فالإنتقال الى بياض الوجوه يعني السلامة من سوادها، الأمر الذي لا يتم الا بالهداية والصلاح والتقوى، وبعد التقسيم والبيان، وجاءت تتمة الآية خاصة بالقسم الثاني منهما، اذ تعلق بسواد وجوه الكافرين بأمور ثلاثة:
الأول: توجه اللوم والتوبيخ لهم في الآخرة بسبب إختيارهم الكفر والجحود والعناد، وتركهم لمنازل الإيمان وكأن الآية تخبر بامور:
الأول: ان الكفار تركوا نعمة بياض الوجوه بإختيارهم.
الثاني: الأصل هو بياض الوجوه للناس جميعاً، وتلك آية إعجازية في عالم الخلق والجزاء، لقد أراد الله عز وجل للناس جميعاً بياض الوجوه في الآخرة، وندبهم الى نيل هذه المرتبة، وبعث لهم الأنبياء والمرسلين للقرار في دار النعيم، ولكن شطراً منهم أعرضوا عن الدعوة الإلهية والمعجزات التي جاء بها الأنبياء، فجاء القرآن بقاعدة كلية من عالم الآخرة تبين خسارة الكفار بسواد الوجوه.
الثالث: تضمن اللوم والتوبيخ الحجة على الكفار في الدنيا والآخرة، اذ ان العقل يستهجن اختيار الضلالة ومغادرة الهدى، والسعي للعذاب وترك النعيم.
الرابع: تعيين علة سواد الوجوه في الآخرة، وهو الكفر، مما يدل على إمكان السلامة والأمن من عقوبة سواد الوجوه بسبب صغائر الذنوب والمعاصي التي يرتكبها المسلم مع الندم والتوبة.
الخامس: حصول المصاحبة والإقتران في عقاب الكفار بين كل من:
الأول: سواد الوجوه.
الثاني: التبكيت والتوبيخ.
الثالث: التذكير بسبب العقوبة في الدنيا.
الرابع: العذاب الشديد.
الخامس: توكيد العذاب ووقوعه.
السادس: إستحقاق الكفر والجحود لعقوبة العذاب.
ان هذا التعدد آية في التأديب والإصلاح، وحجة في دعوة الناس الى الإيمان وترك الكفر وما فيه من الأضرار على الذات في الدنيا والآخرة.
قانون ملازمة الألم لسواد الوجه في الآخرة
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالخلق والخلافة في الأرض، وجعله سيداً في عالم الدنيا، حراً في إختيار الفعل، وسخر له الأشياء كلها، ودعاه الى عبادته وطاعته، والتقيد بأداء التكاليف الشرعية لتكون سيادته مجازية ومقيدة بالخضوع لله تعالى، وإطاعة أوامره، وإجتناب ما نهى عنه.
ويختلف موضوع الإمتثال للأوامر الإلهية عن غيره، فقد يأمر السيد العبد، والحاكم المحكوم، والأب إبنه، ورب العمل العامل، وينتهي الأمر بالإمتثال او عدمه وقد لا تكون للآمر سلطة وقدرة على إثابة ومحاسبة المأمور وان توعده، أما بالنسبة للأوامر الإلهية فان الأمر مختلف تماماً، وينفرد بقانون خاص بلحاظ العواقب والثواب والعقاب ، لا تشاركه أي أوامر أو نواهي أخرى، وتلك آية إعجازية في عالم الخلق والتكوين فمن الآيات وعالم الحساب أكبر وأعظم من عالم التكليف، وتتصف الدار الآخرة بالدوام والإستمرار والخلود، وليس فيها فرصة للعمل والتوبة والإنابة، نعم فيها تمني يصدر من الكفار للرجوع الى دار الدنيا، دار الإختبار والإمتحان كما ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا] ( ).
مما يدل على تسالم أهل الآخرة على عدم وجود فرصة للتدارك في عالم وانها دار حساب محض ليس معه عمل، كما يقف بين يدي الله للحساب السيد والعبد، والحاكم والمحكوم، والذكر والأنثى، والأب والابن وجاءت الآيات بالإخبار عن عذاب الكافر بالنار، ولكن هذه الآية تخبر عن وجه آخر من وجوه العذاب وهو سواد وجوه الكافرين، وتلك آية أخرى في أنواع العذاب وصيغ العقاب.
فالمتبادر الى الذهن ان سواد الوجه لون وعرض في البشرة بلحاظ ألوان وجوه الناس في الدنيا، وتخبر الآية عن كون سواد الوجوه عقوبة وعذابا، ولكن هل يلازمه عذاب إضافي خاص به، الجواب نعم، فسواد الوجه يوم القيامة يسبب ألماً لصاحبه، ويشعر معه بالأذى في موضع السواد بالإضافة الى الحسرة والندامة على المعصية، وعلى حرمان الذات من نعمة بياض الوجوه
وفي الآية إشارة الى الألم المصاحب لسواد الوجوه، لأنها لم تذكر من وجوه العقاب الا سواد الوجوه، ومع هذا جاء توبيخ الكفار بقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ] ومع ان المراد من العذاب المعنى الأعم الشامل لوجوه العذاب في الدنيا، فانه يتضمن بالدلالة التضمنية الإخبار عن كون سواد الوجه في الآخرة عذاباً وأذى فالتباين بين سواد الوجه في الدنيا والآخرة تباين في الموضوع والحكم،
ففي الدنيا يكون سواد الوجه عرضاً وصبغة تكسو البشرة خالية من الضرر، وقد تتضمن منافع منها تحمل حرارة الشمس وشدة الحر والبرد، أما في الآخرة فيأتي مع سواد الوجه الألم والأذى، وهذا الألم غير عذاب النار، بل هو خاص بذات لون السواد بإعتباره عقوبة أخروية، وليس من عقوبة في الآخرة الا ويلازمها الأذى والألم.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “النزاهة” وهي خلو ألفاظ الهجاء من الفحش، وهو شاهد على نزاهة وعفة المتكلم وإبتعاده عن القبيح من القول، والقرآن من كلام الله النازل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله عز وجل مع تنزيل القرآن بتلاوته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو معصوم من الفحش مع ما فيه من الذم للكفار والمنافقين وأهل المعاصي والذنوب، ومن الآيات ان ذم الكفار يأتي رحمة لهم وإنذاراً من العذاب يوم القيامة، وجاءت هذه الآية بهجاء الكفار من وجهين:
الأول: دنيوي وهو قبح اختيارهم الكفر بعد الإيمان.
الثاني: أخروي ويتضمن الإخبار عن سواد وجوه الكفار يوم القيامة، وهذا الذم خالِ من الفحش، من جهات:
الأولى: لم يأت الخطاب الا بصيغة الجملة الخبرية، وليس بصيغة الخطاب والإنشاء.
الثانية: لغة التنكير المركبة في القسمين وهما بياض الوجوه وسواد الوجوه، فلم تذكر أمة أو ملة مخصوصة بسواد الوجوه، وفي التنكير دعوة للإنسان للنجاة من سواد الوجه ونيل مرتبة بياض الوجه.
الثالثة: حصر علة سواد الوجوه بالكفر بعد الإيمان في إشارة الى ان الذي يتوب ويموت على الإيمان لا يشمله العذاب بسواد الوجوه.
الثالث: مجيء البشارة والإخبار عن بياض الوجوه في ذات الآية لمنع الإنسان من اليأس والقنوط وان كان كافراً، اذ ان ذكر الثواب والعقاب في جهة مخصوصة وهي الوجه في آية واحدة دعوة للناس جميعاً لنبذ الكفر وترك المعاصي، وحث على المبادرة الى الإيمان والإقامة على الطاعات والفرائض.
الرابع: يتعلق الإنذار بعالم الآخرة وليس الدنيا فمن يجحد بالربوبية والنبوة لا يسود وجهه في الحال، ولا في أيامه في الدنيا مطلقاً بل يمهله الله عز وجل فيها.
الخامس: مجيء الآية التالية بالثناء على الذين يتركون منازل الكفر ويتوبون الى الله عز وجل، والبشارة بفوزهم برحمة الله، والخلود في دار النعيم.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn