بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي له ملك الأولى والآخرة، وأنعم على الإنسان وجعله خليفة في الدنيا ورزقه من الطيبات وسخر له ما في الأرض، لتكون النعم وشكرها مقدمة ووسيلة للخلود في دار النعيم، وجاءت آيات القرآن لإعانته في نيل مراتب الرفعة في النشأتين لما فيها من لغة البشارة والانذار، والتأديب بلغة الموعظة والإعتبار، والوعد والوعيد.
ويتلقى الانسان في حياته الدروس والعبر وأسباب الهداية في ميادين العمل والواقع اليومي، لحفظ النفس والمال والعرض، وتتضمن في مفهومها البشارة والانذار على نحو محدود، في موضوعها وأوانها، ولكن البشارات والإنذارات الإلهية النازلة من السماء تصاحب الإنسان في حياته وتشمل كافة الموضوعات والأحكام التي تهمه، ولا تنحصر بالحياة الدنيا بل تتغشى أحوال الإنسان في الحياة الآخرة، بما يؤدي الى هدايته الى السعادة الدائمة.
وجاءت هذه البشارات والإنذارات في آيات القرآن لتبقى وثيقة سماوية ملازمة للإنسان وإلى يوم القيامة، كما تتجلى في السنة النبوية، وما فيها من معاني الوحي ودعوة الصالحين وارباب العقول لإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة.
وتأتي آية قرآنية بالبشارة لتدل في مفهومها ايضاً على الإنذار، وتتعقبها آية بالإنذار لتدل في مفهومها على البشارة، ليعملا مجتمعتين ومتفرقتين على تنمية ملكة التقوى، ولا تنحصر مضامين البشارات والإنذارات القرآنية بموضوع دون آخر، أو عالم دون غيره، بل هي شاملة للحياة الدنيا والآخرة، وتهدف الى اصلاح الإنسان وتهذيب أفعاله وجذبه الى سبل النجاة في النشأتين، لتكون آيات القرآن خير صاحب للمسلم، ونعمة عامة للناس جميعاً تتغشى ايامهم ولياليهم لتنشر بينهم معاني الأخوة ومفاهيم الهداية والصلاح، وتأخذ بأيديهم بلطف الى أداء وظائف العبادة التي أمرهم الله تعالى بها باعتبارها علة خلقهم.
ويتضمن هذه الجزء تفسير الآيات (107- 109) من آل عمران، ويبدأ بآية البشارة بفوز المسلمين بنعمة بياض الوجوه، وتغشي رحمة الله عز وجل لهم يوم القيامة لتكون واقية من أهوال المحشر، وهي آية من آيات الله في تلاوتها ومقاصدها السامية، ومضامينها القدسية لذا تعقبها قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] لتكون التلاوة حاضرة عند المسلمين يستمعون لها بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتوارثونها نطقاً واستماعاً وتدبراً، فتكون مدرسة للموعظة والهداية والارتقاء في سلم المعارف الإلهية وحرزاً من الضلالة، ومقدمة للسياحة في عالم الملكوت بفضل من الله، وجاء قوله تعالى [َلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] لتوكيد عالم الجزاء، وعظيم قدرة وسلطان الله تعالى وحاجة الخلائق إلى رحمته في النشأتين، والبشارة والإنذار من مصاديق الرحمة الإلهية.
قوله تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] الآية 107.
الإعراب واللغة
قوله تعالى (واما الذين ابيضت وجوههم)
وأما: الواو: حرف عطف.
أما: حرف شرط وتفصيل.
الذين: اسم موصول في محل رفع مبتدأ.
ابيضت وجوههم: فعل وفاعل، والضمير “هم” مضاف اليه، والجملة الفعلية صلة الموصول.
ففي رحمة الله: الفاء رابطة لجواب الشرط.
في رحمة الله: جار ومجرور، واسم الجلالة: مضاف اليه.
هم: مبتدأ، فيها: جار ومجرور متعلقان بـ(خالدون).
خالدون: خبر مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
والجملة من المبتدأ والخبر حالية.
والبياض: لون بهي يكون في الحيوان والنبات والأعيان ونحوها مما يقبل اللون كعرض، وضده السواد.
وجمع الأبيض: بيض، والبياض: لون الأبيض، ويقال: هذا أشد بياضاً كذا، والبيضان من الناس: خلاف السودان.
وبيّض الشيء: جعله أبيض، وقد بيّضت الشيء فابيّض ابيضاضاً، (والأبيضان: الشحم والشباب، وقيل الخبز والماء، وقيل الماء واللبن، وقال أبو عبيد: الشحم واللبن)( ).
ولا مانع من التعدد في المعنى بلحاظ القرينة، فاذا قيل: ذهب أبيضاه، فالمراد شحمه وشبابه، واذا قيل: تغذيت بالأبيضين فالمراد الخبز والماء.
والبيضاء: الشمس لإشراقها وضيائها، قال الشاعر:
وبيضاء لم تطبع، ولم تدر ما الخنا
ترى أعين الفتيان دونها خزرا
(وبياض الجلد: ما لا شعر فيه)( )، ووصف وجوه أهل الجنة بالبيضاء يستبعد معه وجود شعر في وجوههم ، لأن البياض شامل للوجه لأصالة الإطلاق.
وفي التهذيب: اذا قالت العرب فلان أبيض وفلانة بيضاء فالمعنى نقاء العرض من الدنس والعيوب، ومن ذلك قول زهير يمدح رجلاً:
أشم أبيض فياض يفكك عن
أيدي العتاة وعن أعناقها الربقا
فيأتي البياض عند العرب لإرادة المدح، والشهادة بالكرم، ونزاهة العرض من الدنس.
وقال ابن منظور: (فلان أبيض الوجه وفلانة بيضاء الوجه ارادوا نقاء اللون من الكلف والسواد الشائن).
وفي الحديث: اعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) والمراد من الأحمر هو ملك الشام، لغلبة الحمرة على ألوانهم، وكثرة الذهب في أموالهم.
أما الأبيض فهو ملك فارس، وانما يقال لفارس الأبيض لبياض ألوانهم، ولأن الغالب على أموالهم الفضة.
في سياق الآيات
جاءت الآية السابقة بوجوه هي:
الأول: الإخبار عن يوم القيامة، وأن وقوعه أمر حتم وقطع لا يقبل الترديد، وفيه دعوة للإستعداد له، ولما فيه من الأهوال.
الثاني: تقسيم الناس يوم القيامة إلى قسمين، وفيه مسائل:
الأولى: ليس من قسيم ثالث لهما.
الثانية: كل قسيم ضد للأخر، وليس من برزخ أو وسط بينهما
الثالثة: يحل البياض والسواد على الوجوه يوم القيامة لصيغة المضارع في الآية بقوله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ).
الرابعة: يحتمل طرو البياض والسواد في أوانه وجوهاً:
الأول: إقترانه بأول ساعات يوم القيامة.
الثاني: حصوله عند الحساب.
الثالث: يترتب بياض وسواد الوجوه على الحساب.
والصحيح هو الأول، وهو ظاهر الآية الكريمة.
الثالث: بياض وجوه المؤمنين جزاء على إيمانهم وفعلهم الصالحات.
الرابع: سواد وجوه الكافرين يوم القيامة عقوبة لهم.
الخامس: توجه ألذم والتقبيح للكافرين على سوء اختيارهم الكفر، وإصرارهم على فعل المعاصي.
السادس: وقوع العذاب على الكفار مع إقترانه بذمهم وتوبيخهم.
وجاءت هذه الآية بالإخبار عن حال المؤمنين الذين تبيض وجوههم في الآخرة وانهم في رحمة الله عز وجل، ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية السابقة أموراً:
الأول: إختصاصهما بنعمة بياض الوجوه ونقمة سوادها في الآخرة، وتوكيد حقيقة اخروية وهي ان لون الوجوه في الآخرة والتباين فيه وإنقسامه الى قسمين لاثالث لهما سر من أسرار عالم الجزاء، ودليل على عظيم قدرة الله وسلطانه المطلق يوم القيامة.
وقد يحصل في الدنيا مستقبلاً تغيير للون البشرة او تأثير طبي ومعالجة لونها من حين فترة الحمل أو بعده بحيث يكون هناك أثر نسبي لإختيار الوالدين في لون بشرة المولود، أو الصبي نفسه عندما يصبح بالغاً رشيداً، ولكن في الآخرة لا ملك ولا سلطان الا لله تعالى، ومن مشيئته وسلطانه المطلق صبغة ولون وجوه الناس يوم القيامة وإنحصاره بلونين بحسب أعمالهم في الحياة الدنيا.
الثاني: الملازمة بين العمل الصالح في الدنيا وبياض الوجه في الآخرة آية من بديع صنع الله عز وجل، لذا جاءت الآية التالية بقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ] ( )، في دلالة على الإعجاز في الآية القرآنية باخبارها عن حال الانسان في الآخرة، واثر عمله في الدنيا في تعيين مقامه ولون وجهه، ومن المتسالم بين المليين أن الجنة خلقها الله للمطيعين، والنار خلقها للكافرين.
الثالث: جاءت هذه الآيات لتخبر عن حقيقة أخرى وهي موضوعية العمل في تعيين لون الوجوه الدائم.
الرابع: من منافع الجمع بين هذه الآية والآية السابقة دعوة الناس للإيمان، وزجرهم عن الكفر.
الخامس: يتضمن ذكر التضاد والتناقض بين وجوه أهل الإيمان وأهل الضلالة في الآخرة حث الناس على إختيار الأمر الحسن، خصوصاً وان الإختلاف بين الفريقين ليس جزئياً او جهتياً، بل هو تباين وتضاد.
الخامس: جاءت الآية السابقة بتوبيخ الكفار وذكر ما يتعرضون له من العذاب الأليم.
السادس: إتصاف الدنيا وما فيها بالزوال وعدم الدوام، وصيرورة الإنسان إلى عالم البقاء والخلود.
وجاءت هذه الآية بذكر رحمة الله التي تتغشى المؤمنين، وذكرت الآية قبل السابقة الكفار بان لهم عذاباً عظيماً بينما ذكرت هذه الآية المؤمنين بانهم خالدون في رحمة الله، ولا يعني هذا ان الكافرين ليسوا خالدين في النار، بل هناك آيات عديدة تؤكده قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا]( )، وفيه دلالة على ان الخلود في النار من أفراد العذاب العظيم، ومن شدة العذاب إستدامته وعدم وجود أجل معين لإنقطاعه أو رفعه عن أهل الضلالة والمعاصي، مما يدل على أن سواد وجوههم مستديم.
أما الجمع بين هذه الآية والآية التالية، ففيه وجوه:
الأول: توكيد حقيقة وهي ان مضامين هذه الآية وما فيها من الإخبار الإلهي آية وفضل من عند الله، وهل هذا الفضل متحد او متعدد، الجواب: انه متعدد من وجوه:
الأول: بيان قانون من قوانين الآخرة، وهو ان بياض الوجوه لا يقف عند حدود العرض واللون، بل يشمل الثواب والأجر الجزيل.
الثاني: الملازمة بين بياض الوجه والمكث في رحمة الله.
الثالث: بياض الوجوه يوم القيامة أمان من النار.
الرابع: خلود المؤمنين في النعيم الدائم يوم القيامة.
الثاني: يتضمن الإخبار عن بياض الوجوه في هذه الآية البشارة والإنذار، البشارة للمسلمين، والإنذار والوعيد للكافرين.
الثالث: من آيات الله في هذه الآية دعوة الكفار والناس جميعاً للإسلام فان أبطأ او قصّر او انشغل او أكره المسلمون عن دعوة شخص او جماعة للإسلام، فان هذه الآية تدعو الناس للإسلام وتبعث في نفوسهم الشوق لنيل المراتب العالية في الجنة، والفوز بإشراقة وبهاء الوجوه وما يترتب عليها من آثار حميدة، وهذه الدعوة من مصاديق خاتمة الآية التالية [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ]( ) لما في الإخبار الوارد في هذه الآية عن أحوال الناس في المحشر من كشف سماوي لعالم الآخرة، ونفي الجهالة والغرر عن الناس بخصوص ما يجري فيه من الحساب وموازين الجزاء.
الرابع: تدل هذه الآية على نزول القرآن من عند الله عز وجل، ويعجز العقل الإنساني حتى في عالم التصور عن إدراك تقسيم الناس الى قسمين بلحاظ بياض وسواد الوجوه، ومدح بيض الوجوه وذم أهل الوجوه السود، مع وجود ذوي الوجوه السود في الدنيا ومنها الجزيرة العربية موطن نزول القرآن الكثير ، والإسلام في بداية الدعوة بحاجة الى كل إنسان، وخطاب الدعوة متوجه للجميع رجالاً ونساء، وهو خال من أسباب النفرة عن الإسلام، ومع هذا جاءت الآية بالإخبار عن تقسيم الناس في الآخرة بحسب لون الوجه، مع الإشارة الى ان الوانها مكتسبة يوم القيامة ومتعلقة بالعمل في الدنيا، وهو المستقرأ من قوله تعالى في الآية السابقة [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] فأي كان لون بشرة الإنسان في الدنيا، فان لونه في الآخرة أمر آخر مترشح عن عقيدته وعمله في الدنيا.
الخامس: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه الوحي من عند الله، وهو المستقرأ من قوله تعالى في الآية التالية [نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ]، فجاء البيان عن أحوال الناس يوم القيامة، والبشارة للمسلمين ببياض الوجوه بمرتبة الرسالة التي نالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية دعوة للمسلمين والناس جميعاً لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقرار بأنه رحمة من عند الله للناس جميعاً، اذ بلغهم الرسالة بصيغة البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، وجاهد حتى جعل أمة من الناس على الصراط المستقيم، مما يؤكد صدق نبوته، وفوز الذين آمنوا برسالته واتبعوه ونصروه.
وجاءت الآية بعد التالية بالإخبار عن عائدية ملك السماوات والأرض وما فيها لله تعالى، وان الأمور كلها ترجع اليه سبحانه، مما يؤكد ان بياض وسواد الوجوه من عظيم قدرة الله الذي لا تستعصي عليه مسألة، وفيه إخبار بأن الناس عبيد وملك لله تعالى، ويعيشون في ملكه، مما يقتضي تقيدهم بأوامره واجتنابهم لما نهى عنه، وما دامت الأمور كلها ترجع لله سبحانه فانه جعل الآخرة دار الجزاء، وبياض وسواد الوجوه وجهاً من وجوه الجزاء يوم القيامة.
وفي الآية بعد التالية إخبار عن قانون في الإرادة التكوينية وهو ان المسلمين خير أمة بين أمم الأرض، وجعلها الله عز وجل داعية اليه، وسبباً في اصلاح وهداية الناس، ومن مصاديقها ان تلاوة المسلمين لهذه الآية بشارة وإنذار للناس جميعاً، وحث لهم على انتهاج سبل الرشاد وما يؤدي الى بياض الوجوه في الآخرة.
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ان المسلمين يبعثون يوم القيامة ووجوههم مشرقة بيضاء.
وجاء قبل أربع آيات الأمر الإلهي بالإعتصام بحبل الله، وتقدير الجمع بين الآيتين: اعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا كي تبيض وجوهكم في الآخرة.
كما جاء قبل ثلاث آيات الأمر الإلهي للمسلمين بالدعوة الى الخير بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] ( )، ويفيد الجمع بين الآيتين معنى مباركاً وهو: ولتكن منكم أمة يدعون الى بياض الوجوه في الآخرة، ومن مصاديق الخير في الآية أعلاه وجوه:
الأول: الدعوة الى مقدمات بياض الوجوه، ومنه حث الناس على الإيمان والعمل الصالح باعتبار ان الدنيا مزرعة الآخرة.
الثاني: الإمتثال للأوأمر الإلهية طريق وسبب للفوز بمرتبة بياض الوجه في الآخرة.
الثالث: التعاون والتعاضد بين المسلمين من وجوه الخير، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الرابع: أداء العبادات والمناسك جماعة وفرادى من الخير الذي يقود الى بياض الوجوه في الآخرة.
الخامس: بياض الوجوه في الآخرة خير محض، فيصح ان يدعو المؤمن الناس الى نعمة بياض الوجوه في الآخرة وبعث النفوس للشوق اليها، ومن أراد بلوغ غاية سعى في الوصول اليها، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
السادس: من الخير العظيم رحمة الله وهي أفضل الأماني، وأحسن الرغائب، وللمسلم ان يدعو الناس الى الصيرورة في رحمة الله، ورحمته تعالى في الآخرة أعظم وأوسع منها في الدنيا، لذا جاءت الآية ببشارة الفوز بها.
السابع: مكث المؤمنين الدائم في رحمة الله، وبحسب قانون التفسير الذاتي للقرآن فان آيات كثيرة أخبرت بان محل إقامة المؤمنين الأخروية في الجنة، فمن الآيات الإعجازية في القرآن ان تكون رحمة الله هي الجنة والنعيم الدائم، وان يأتي لفظ (الرحمة) بعنوان المحل الذي يسع جميع الذين تبيض وجوههم، ففي الدنيا تتغشى رحمة الله الناس عموماً والمؤمنين خاصة، أما في الآخرة فانها تتغشاهم وتكون وعاء ومحلاً لإقامتهم ولبثهم الدائم.
قانون العطف بين الآيات
بدأت الآية بأمرين:
الأول: حرف العطف (الواو).
الثاني: الشرط والتفصيل بالحرف (أما).
وكل واحد منهما يدل على تعلق موضوع الآية بما سبقها في الموضوع، والدلالة، ويحتمل هذا التعلق وجهين:
الاول: إنحصار مضمون العطف بالآية السابقة.
الثاني: شمول موضوع العطف لآيات سابقة أخرى.
ويصح الوجهان، ويعرف كل واحد منهما بالقرائن ووحدة الموضوع، والوجه الثاني أعلاه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وقد يتعلق العطف بآيتين او ثلاثة أو أكثر، والعطف بين الآيات سر من أسرار القرآن وفيه مسائل:
الأولى: فيه دلالة على التداخل والترابط بين آيات القرآن.
الثانية: الجمع بين وجهين في الآيات وهما:
الأول: إستقلال كل آية من آيات القرآن.
الثاني: التداخل في معاني الآيات وتفسير بعضها بعضا.
الثالثة: إتصال الآية القرآنية مع الآيات الأخرى وعدم انفصالها عنها.
ولا يعتبر هذا الجمع من التضاد للتباين في الجهة، وتعدد معاني اللفظ القرآني، ويعطي للآية معنى إضافياً يستقرأ من الإستقلال والإتحاد معاً.
تختص الآية ببيان حال الذين ابيضت وجوههم في الآخرة، اما من جهة التداخل والعطف بين الآيات فانها تبين اموراً:
الأول: الجمع بين هذه الآية وآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، وفيه وجوه:
الأول: تخبر هذه الآية عن جزاء أهل التقوى.
الثاني: بياض الوجوه شاهد على عدم مغادرةالمسلم الدنيا الا على الإسلام.
الثالث: ثواب الذين يتقون الله ويخشونه ويطيعون أوامره، هو بياض الوجوه يوم القيامة.
الرابع: إخبار الناس في الدنيا بأن المؤمنين يأتون يوم القيامة ووجوههم بيضاء ومشرقة.
الثاني: الجمع بين هذه الآية وآية [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ]( )، وفيه وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية للإخبار عن ثواب الإعتصام بالله والإلتجاء اليه والعمل بأحكام القرآن والسنة.
الثاني: لما تضمنت آية [وَاعْتَصِمُوا] الإخبار عن نجاة المسلمين من الوقوع في النار، جاءت هذه الآية لتخبر عن نيلهم الأمن من الفزع والخوف، ويتجلى الأمن والسكينة ببياض الوجوه.
وحصول بياض الوجوه ثواباً وجزاء من عندالله لا يتعارض مع كونه انعكاساً لحال السكينة والأمن والنجاة من الفزع والخوف يوم القيامة، فكما انه ثواب على فعل الصالحات في الدنيا فانه من عمومات قوله تعالى [لاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثالث: ذكرت آية [وَاعْتَصِمُوا] بيان الآيات وان الله عز وجل يظهر للمسلمين الدلالات الواضحات على ربوبيته ليزدادوا ايماناً، وجاءت هذه الآية لتوكيد حقيقة وهي ان بياض وجوه المسلمين في الأخرة من تلك الآيات البينات.
الرابع: إختتمت آية [وَاعْتَصِمُوا] بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ].
وجاءت هذه الآية لتخبر عن أمور:
الاول: الهداية طريق لبياض الوجوه.
الثاني: من مصاديق الهداية نيل مرتبة بياض الوجوه وتقدير الجمع بين الآيتين هو: لعلكم تهتدون لبياض الوجوه.
الثالث: يمكن إشتراك الآية السابقة في الجمع بين الآيات ويكون التقدير: لعلكم تهتدون لبياض الوجوه يوم تبيض وجوه.
الرابع: الجمع بين هذه الآية والآية قبل السابقة [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] وفيه وجوه:
الأول: الدعوة الى الخير طريق لنيل بياض الوجوه في الآخرة.
الثاني: من أراد بياض وجهه يوم القيامة فليأمر الناس بالمعروف ويحثهم على فعل الصالحات.
الثالث: النهي عن المنكر والزجر عن الفواحش وسيلة لنيل الثواب الكريم ببياض الوجوه في الآخرة، فمن يعمل على هداية الناس واصلاحهم ودعوتهم لتعاهد كلمة التوحيد يلقى الجزاء الحسن في الآخرة.
الرابع: لما إختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ] جاءت هذه الآية للإخبار عن صفة من صفات أهل الفلاح في الآخرة وهي بياض الوجوه، فمثلما تبين هذه الآية وجهاً من وجوه الجزاء يوم القيامة وهو بياض الوجوه، فانها تبين أحد مصاديق الفلاح وثمراته في الآخرة.
الخامس: الجمع بين الآية السابقة [تَبْيَضُّ وُجُوهٌ] وهذه الآية وفيه مسائل ووجوه:
الاول: بيان ثواب إضافي للذين تبيض وجوههم.
الثاني: بياض الوجوه مقدمة وعلة للفوز برحمة الله.
الثالث: نيل الذين تبيض وجوههم مرتبة الخلود في النعيم.
الرابع: لما جاءت الآية السابقة بذكر التفصيل يوم القيامة والتمييز بين الناس ببياض أو إسوداد الوجوه وجاءت هذه الآية ببيان منزلة أهل الايمان في الآخرة وتغشي رحمة الله لهم.
الخامس: جاءت الآية السابقة بذكر حال الذين تسود وجوهم يوم القيامة بحرف الشرط والتفصيل (اما) وجاءت هذه الآية بذكر الشق الثاني من التفصيل ومصاديق التمييز.
ولا تنحصر مضامين العطف بين الآية محل البحث والآيات السابقة بل يشمل العطف بين هذه الآية والآيات التي تليها والجمع بين الآيات، ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية التالية أموراً:
الأول: الإخبار الإلهي بان بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة من آيات الله عز وجل.
الثاني: ذكر آية بياض الوجوه في القرآن فضل عظيم من عندالله، وبيان كل آية نعمة إلهية مستقلة وتستحق الشكر والثناء على الله سبحانه.
الثالث: تنزه الباري عز وجل عن الظلم، وخلو يوم الجزاء من التعدي والظلم.
إن العطف بين الآيات علم قائم بذاته تستنبط منه علوم عديدة وبينه وبين التفسير الذاتي لآيات القرآن عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء حصول التفسير بين الآيات المتجاورات، والمعطوف بعضها على بعض.
ومادة الإقتران إفادة العطف معاني إضافية كما يستقرأ من الجمع بين الآيات دلالات عقائدية، ومضامين قدسية تدل على إعجاز القرآن وإحاطته باللامحدود من الأحداث والوقائع وفيه دعوة للنهل من كنوزه ودرره.
قانون الملازمة بين العمل ولون الوجه
يعتبر عالم الألوان عالماً متعدد الأفراد، وهذا التعدد من وجوه حسنه وسعته، ويولي له الانسان في مختلف أموره عناية خاصة، ومع انه عرض الا ان له موضوعية في إختيار الانسان في البيع والشراء، والإقتناء والملكية، والميل والإنجذاب والصداقة، وله أثر في اختيار الزوجة، والإنجاب، وأحياناً إستدامة الحياة الزوجية وكيفية الصلة بين الزوجين.
ومن الآيات ان انجذاب وميل الناس للألوان متباين، فكل انسان او جماعة يميلون الى لون مخصوص، ومن الناس من يقطع في قرارة نفسه بان اللون الذي ينجذب اليه هو أحسن الألوان ويستغرب كيف يميل آخرون الى ألوان معينة غير اللون الذي يحب ويختار، ويغيب عنه ان هذا التعدد في الألوان والميل اليها من بديع صنع الله عز وجل وآية في الخلق تدعو الى التدبر والتأمل، ومنهم من يتغير ميله واختياره فقد يكون في يوم يميل الى اللون الأحمر ثم لا يلبث ان يغير رأيه ويشعر إن نفسه تحب اللون الأخضر ثم يرى ان الأبيض يحمل عناوين الصفاء والنقاء.
وتتقارب ألوان عديدة فيما بينها الا ان التضاد يبقى بين اللون الأبيض والأسود، اذ يمثلان طرفي الألوان، وما عداهما محصور بينهما، لذا جاءت الآية بذكر الضدين.
وليس من أحد في الدنيا الا ويميل الى اللون الأبيض على نحو الموجبة الكلية او الجزئية، وان تباينت الأذواق بخصوص الألوان الأخرى كالأصفر والأحمر فانها تجتمع في جمال وحسن اللون الأبيض، وهو من الشواهد الدنيوية على موضوعية اللون الأبيض في الجزاء، والتذكير بالثواب الأخروي.
ويرغب الوالدان في الدنيا ان يكون ولدهما على طبق هيئتهما ونسختهما واقرب إلى البياض، اما في الآخرة فكل إنسان يرغب ان يكون لونه أبيض، وقد يأتي الأب يوم القيامة ووجه أسود، والولد وجهه ابيض أو بالعكس، كل بحسب عمله فكما انه لا أنساب بينهم يوم القيامة وكل إنسان مشغول بنفسه وعمله، فانه لاملازمة بين لون وجه الأب والأبن، نعم قد يتحدان بلحاظ إتحاد الملة والعمل.
واذ أخبرت هذه الآية بان الذين إبيضت وجوههم في رحمة الله، فانها تخبر في مفهومها بأن الناس جميعاً في الدنيا في رحمة الله عز وجل من وجوه:
الأول: ألوان وجوه البشر المتباينة نعمة من عندالله، فاللون الأبيض والاشقر والأسمر والأسود كلها نعم إلهية تغشت الناس، وليس من إنسان الا وهو فرح بخلقته وبشرته.
الثاني: يجعل التباين في لون البشرة لهيئة الانسان موضوعية، وتكون جزء من شأنه في المجتمع، ويزيد من فرص العمل والكسب.
الثالث: يرتبط لون الوجه بالنسب والمصاهرة ليكون وسيلة لاستدامة صلة الرحم والقربى وتثبيت الأنساب.
الرابع: الإخبار عن تغشي رحمة الله لبيض الوجوه دعوة للناس للإيمان والصلاح.
الخامس: تبين الآية ان بياض الوجوه في الآخرة غاية تطلب بالكسب، وبإمكان الأنسان الوصول اليه بالسعي والتحصيل ومن الآيات ان الملازمة بين العمل الدنيوي ولون الوجه في الآخرة مطلقة لا يحصل فيها إشتباه او خطأ مع تقادم الأيام وطول مدة إلاقامة في القبر.
ويمثل اللون الأبيض عنواناً للنقاء والصفاء، وتميل له النفس الانسانية لمناسبته للفطرة وكأن الأصل في الألوان هو البياض، ويترشح من موضوعيته في عالم الآخرة وموازين الجزاء في الآخرة حسن إضافي في الحياة الدنيا، ويختص المسلمون في الدنيا بمعرفة هذا الحسن الخاص بالبياض ويتلذذون به، ويزداد ميلهم للون الابيض اكثر من غيرهم من الأمم، وتلك آية من وجوه:
الأول: موضوعية القرآن الكريم في عالم الألوان.
الثاني: ميل المسلمين الى اللون الذي يوصف في كلام الله بالحسن، ويكون له إعتبار في الثواب والأجر.
الثالث: أثر عالم الآخرة في أذواق وميول المسلمين، اذ تدخل موازين الآخرة وعالم الجزاء في إختيارهم للألوان.
الرابع: يسيح المسلم وهو في الدنيا بمنازل الآخرة، ولا ينظر لوجهه بسحنته الحقيقية بل بهيئته وبياضه الناصع في الآخرة لما ثبت في الوجود الذهني وعالم التصور من قاعدة كلية ثابتة لدى كل مسلم وهي بياض وجه المؤمن الذي يعمل الصالحات.
الخامس: بشارة بياض وجه المؤمن في الآخرة دعوة لتنقيح عالم الأعمال وإصلاح المسلم لأفعاله، وحرصه على جعلها وسيلة لنيل الرغائب في الآخرة.
السادس: يتلقى المسلمون البشارة ببياض الوجوه، وهذا التلقي زاد عقائدي يضفي بهاءً ملكوتياً على اللون الأبيض، ويساهم في تهذيب النفوس والسعي الحثيث لنيل نعمة بياض الوجوه في الآخرة.
قانون الملازمة بين بياض الوجه والسعادة
يعيش الإنسان أيامه في الحياة الدنيا في سعي وعمل وكسب، ويفرح أحياناً ويبتئس أحياناً أخرى، ويمر في أحوال يكون فيها سيداً جزلاً، واخرى فيها كئيباً وحزيناً، وهذا التباين من خصوصيات الحياة الدنيا، وما فيها من الإبتلاء والإختيار.
ومع التباين بين السعادة والحزن فان كل فرد منها يدعو الإنسان لفعل الصالحات، وإجتناب السيئات ويكون جزء علة للتذكير بالآخرة، وما فيها من الخلود في النعيم أو العذاب الأليم.
ومضامين هذا القانون خاصة بالآخرة، اذ انه لاموضوعية لبياض أو سواد الوجه في سعادة أو شقاء الإنسان في الدنيا، فقد يكون لون وجهه أسود ولكنه في غاية السعادة في الدنيا سواء لإمتلاء نفسه بالإيمان وإختياره مسالك التقوى، او لأن الدنيا مقبلة عليه، ويتنعم بطيباتها، أو لإجتماع الأمرين معاً التقوى والخير الكثير، وكل واحد منهما نعمة من عند الله.
اما في الآخرة فان بياض الوجوه نعمة خاصة بأهل الإيمان، وهي عنوان الغبطة والسعادة في الآخرة، فمن كان وجهه في الآخرة فانه في غاية السعادة والسرور، لإمور:
الأول: بياض الوجه شاهد على نيل رضا الله تعالى.
الثاني: أنه دليل الفوز بالأجر والثواب لأن بياض الوجوه من مصاديق الثواب.
الثالث: بياض الوجه مقدمة من مقدمات الثواب، وسبيل لنيل مراتب أخرى منه.
الرابع: بياض الوجه واقية من النار والدخول فيها.
الخامس: من وجوه عذاب الكافرين شدة الخوف والحزن يوم القيامة.
وتبعث أهوال النشور والحشر الرعب في النفس، وتجعل الإنسان في حالة هلع شديد فيأتي بياض الوجه ليبعث السكينة والطمأنينة عند المسلم الذي أخلص لله في عبادته.
وجاءت الآية بالإخبار عن تغشي رحمة الله للذين تبيض وجوههم في الآخرة، وهل يعني الحصر ان رحمة الله لا تتغشى انساناً أخر سواهم ام انها اعم، وتشمل غيرهم باعتبار ان إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول: ورد تقسيم الناس بلحاظ لون الوجه الى قسمين لا ثالث لهما، فاما بياض الوجه او سواده.
الثاني: ذكرت هذه الآيات العذاب الذي يصيب سود الوجوه.
الثالث: يأتي بياض الوجه في الآخرة جزاء وثواباً عاماً للمسلمين، فقد تتعدد منازل المؤمنين في الآخرة، ومراتب إقامتهم في درجات النعيم، أما بالنسبة لبياض الوجوه فهو نعمة عامة تتغشى المسلمين من الأمم السالفة واللاحقة، ويكون شاهداً على فضل الله وسبباً لتلقي الملائكة المؤمنين يوم القيامة بالبشارة، لتغمر السعادة المسلم في عالم الآخرة، وتقترن بالبعث والنشور فحالما يبُعث المسلم يكون وجهه أبيض يشع نوراً وضياء، ويكون سبباً لبعث السكينة في نفسه من وجوه:
الأول: نيله مرتبة بياض الوجه في الآخرة.
الثاني: غبطة الخلائق له على نعمة بياض الوجه، إذ يأتيه الثناء والبشارة بالسعادة الدائمة يوم القيامة من الملائكة وأهل المحشر.
الثالث: إستبشار أهل الإيمان به، وبفوزه بمرتبة بياض الوجوه.
الرابع: نجاته من الخزي وعذاب النار يوم القيامة، فصحيح ان بياض الوجه أمر متقدم زماناً على دخول الجنة الا إنه مقدمة لدخولها وبشارة النجاة من عذاب النار.
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآية ان يكون بياض الوجه في الآخرة عنواناً للأمن والنجاة في الدنيا والآخرة من الفزع والخوف من شدائد وأهوال يوم القيامة، فمن إعجاز هذه الآية بعث الغبطة والسعادة في نفس المسلم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فانه يحرص على إتيان الصالحات لينال مرتبة بياض الوجه، ومن الآيات عدم وجود سلطان او قوة في العالم تستطيع أن تمنع الإنسان من نيل هذه المرتبة فيتنافس الناس على الحكم والسلطان والملك وجمع الأموال ولكنهم لا يستطيعون مجتمعين ومتفرقين التأثير في لون وجه واحد من الناس يوم القيامة مع ان تعيين لون الوجه في الآخرة يتم في الدنيا.وتبعث هذه الآية السعادة والغبطة والأمل في قلب المسلم وتجعله غارقاً في أنوار حضيرة القدس، تشرق نفسه ببشارة بياض الوجه يوم القيامة.
أما في الآخرة فيكون سعيداً لكونه ممن يفوز بالوعد الإلهي الكريم في هذه الآية، التي جاءت بقاعدة كلية وحكم عام يخص المؤمنين الذين يعملون الصالحات فيفرح المؤمن يوم القيامة لانه أصبح ممن نال مرتبة بياض الوجه.
قانون الأمل والخوف
من خصائص الدنيا ان الإنسان يتعرض فيها لحالات من الخوف والفزع من القادم الذي قد يطرأ عليه، ويحزن على ما فاته، وليس من إنسان معصوم من هذين الأمرين لأنهما من مصاديق الإبتلاء والإختبار في الدنيا، وهما من الكلي المشكك ذي المراتب المتفاوتة، فيختلف الخوف والحزن من إنسان الى آخر، كما يختلف عند ذات الإنسان نفسه في أيامه ولياليه بحسب شأنه وأحواله المتفاوتة، وما يؤدي اليه لسانه، وماهية فعله ومقامه ومعاملاته مع الآخرين وساعات السعد والنحس، وتقلبات الزمان.
ويحصل التباين ايضاً بين الناس بلحاظ الإيمان والكفر، لما يبعثه الإيمان في النفس من الصبر والتحمل ورجاء إحتساب الأجر والثواب عند المصيبة، واجتناب الجزع والفزع، كما تمتلأ نفس المسلم خوفاً من الله عز وجل ويقترن هذا الخوف بحال الرجاء من غير تعارض او تزاحم بينهما، قال تعالى [يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على اقتران الخوف والرجاء بالعمل واكتناز الصالحات، والسعي لنيل مرضاة الله عز وجل، فتكون للخوف عذوبة وهو من مصاديق حاجة الإنسان الى واجب الوجود، ودليل على ان الإنسان ممكن والحاجة ملازمة للإمكان، فيخشى المسلم الله عز وجل في السر والعلانية ويأمل فضله وإحسانه، وهذه الخشية واقية من الخوف من كيد الأعداء وما تخفيه الليالي والأيام من المصائب والبلاء لإدراك حقيقة وهي عدم حصول أمر الا بمشيئة الله تعالى.
ومن الآيات ان الخوف من الله في الدنيا حرز من الخوف من أهوال الآخرة، وتلك آية من بديع الخلق والتكوين ان يكون الخوف في الدنيا أمان من الخوف في الآخرة، الا ان يكون الخوف في الدنيا بسبب الدنيا وللدنيا وعليها، فيكون حينئذ وبالاً على صاحبه في الآخرة، وجاءت البشارة من عند الله منذ هبوط آدم وحواء الأرض بقوله تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، لتبقى وثيقة سماوية يتعاهدها المسلمون من ذريته، ويجتهدون في مسالك الهداية للنجاة من الخوف والحزن في الآخرة، ويفوزون بالسكينة في النشأتين، وتستقبلهم الملائكة عند مغادرة الدنيا بالبشرى، ومضامين الفوز، وتدل الآية أعلاه في مفهومها على امتلاء نفس الكافر بالخوف والحزن يوم القيامة وخسارته للدارين.
ولم تذكر الآية محل البحث موضوع الخوف والحزن الا انها تدل عليهما، من وجوه:
الأول: الخوف والحزن رشحة من رشحاتها في الدنيا والآخرة، فتلاوة الآية او الاستماع لها يسبب الغبطة والسعادة في قلب المسلم، والخوف والحزن في قلب الكافر.
الثاني: إستقراء علة كل من بياض وسواد الوجوه، وهي العمل الصالح بالنسبة للذي يبيض وجهه، والشرك والضلالة للذي يبعث ووجهه أسود.
الثالث: التضاد بين البياض والسواد وانحصار الأول بأهل الإيمان، والثاني بالكفار والمشركين، وليس من لون ثالث برزخ بينهما، ومن الآيات ان المسلم لا يرغب بأي لون غير الأبيض صبغة لبشرته، أما الكافر فانه يتمنى أي لون غير الأسود، ويرجو ان يخفف من سواد وجهه الكالح، وتتبدد أمنيته هذه وسط الخوف والحزن وشدة ألم العذاب الذي يلقاه يوم القيامة، وطول المكث فيه.
لقد أراد الله عز وجل ان يكون الخوف والرجاء مناسبة ووسيلة للدعاء والمسألة، ومن مواضيع الدعاء رجاء نيل مرتبة بياض الوجه في الآخرة.
وتنمي الآية في النفس ملكة الخوف من الحرمان منها بما يؤدي الى السعي الحثيث لبلوغها بتعاهد مقدماتها وأسبابها، وتدل على وجه إضافي من وجوه قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) بأن الخوف يوم القيامة لا ينحصر بما يخشى الإنسان ان يصيبه ويحل به، بل يشمل عدم خوف المسلم من ضياع الأمل الذي كان يعيشه في الدنيا ورجاءه في نيل مرتبة بياض الوجه، وتقدير الآية أعلاه: لا خوف عليهم من الحرمان من رجاء بياض الوجوه ولا هم يحزنون على سعيهم لنيل مرتبة الفوز ببياض الوجوه في الآخرة، اذ أنها تصبح يوم القيامة حقيقة واقعة.
وتتضمن الآية محل البحث وعداً إلهياً كريماً للمسلمين من وجوه متعددة هي:
الأول: بشارة بياض وجوه المسلمين في الآخرة.
الثاني: التساوي بين المسلمين في لون البشرة الزاهر، وفيه دعوة للمسلمين جميعاً لاجتناب مفاهيم التمييز العنصري، وهذ الإجتناب مصداق للأخوة الإيمانية، كما انه نافع للمسلين أمة وأفراداً في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فانه عون على العبادات ومصدر قوة للمسلمين، ووسيلة مباركة للعمل والإنتاج والتعاون في قضاء الحاجات، وطرد الكدورات الظلمانية، والقضاء على الجريمة والغيلة والكره الجماعي، وأما في الآخرة فانه سبب لنيل الأجر والثواب بتقيد المسلمين بأحكام الإسلام واجتنابهم الفرقة والإختلاف لما في التمييز العنصري من مفاهيم الفرقة، كما انه مقدمة لها.
الثالث: بياض الوجوه من مصاديق قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) ومن الشواهد عليه في الدنيا والآخرة، إذ أنها تجعل الأمل ملازماً المسلم في الحياة الدنيا.
وعندما يكتسي وجه المسلم عند البعث بصبغة البياض والإشراق تمتلأ نفسه وجوانحه سكينة ورضا فلا يبقى مكاناً فيها للخوف والحزن، وهل يتذكر المسلم يومئذ هذه الآية التي تلاها في الدنيا في صلاته وعند قراءته القرآن واستمع لها من إمام الجماعة والجمعة او من قارئ القرآن، الجواب: نعم، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين في النشأتين، وتوكيد إلهي لوفاء الله تعالى بعهده ووعده.
الرابع: مجيء الآية بصيغة الجمع والشمول وعدم الخوف من انحصار بياض الوجوه بشطر من المسلمين دون الشطر الآخر، او أهل مذهب دون المذاهب الأخرى لسعة رحمة الله، ولموضوعية الشهادتين، واداء الفرائض والعبادات، ولعظيم مغفرته وعفوه تعالى.
الخامس: بياض الوجوه مقدمة للصيرورة في رحمة الله في الآخرة على نحو الإطلاق والشمول، مما يعني انتفاء الخوف والألم عن المسلمين الفائزين بنعمة بياض الوجوه، وفيه دلالة على عدم انحصار التضاد بين أهل الإيمان والكفار بلوني الوجوه، بل يشمل جميع أحوالهم في الآخرة، لذا جاءت الآية السابقة ببيان حال الكفار في الآخرة بسواد الوجوه والإقامة الدائمة في العذاب بقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
السادس: الملازمة بين بياض الوجوه والخلود في رحمة الله، وهو من مصاديق انتفاء الخوف عن المسلمين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلما في هذه الآية من الوعد الكريم، وأما في الآخرة فلتحقق مضامينها الكريمة بما يفوق عالم التصور لعظيم فضل الله تعالى، وسعة رحمته في الآخرة، ومن خصائص الأمل في الدنيا مصاحبة الخوف له بوجوه:
الأول: مدة الأمل باحتمال وقوع عوائق تحول دون تحقيقه.
الثاني: تحصيل أسبابه ومقدماته، وخشية زوالها.
الثالث: عند حصول مصاديق الأمل في الواقع العملي والخوف من عدم استدامتها، او وجود ضدها.
الرابع: بعد تحقيق الأمل واقعاً للخوف من ورود أمور وأسباب تأتي عل منافع الأمل، أما أمل المسلم في مقامه في الآخرة فلا خوف فيها بشرط التمسك بحبل الله.
ومن مصاديق طرد الخوف عن المسلمين يوم القيامة عدم الخوف من زوال نعمة المكث الدائم في رحمة الله، لذا جاءت هذه الآية بالوعد الكريم والنص الصريح بخلودهم في رحمة الله.
فالأمل والطمع والرجاء الدنيوي ببياض الوجه يصبح في الآخرة حقيقة خالدة لا تقبل النسخ ولا يطرأ على المسلم الخوف من زوالها ومحوها وإثارة ذنوب عالقة لم تذكر في بداية الحساب، بل يكون بياض الوجه نعمة متقدمة ومقارنة ومتأخرة عن الحساب في الآخرة فلا يتكرر الحساب، وليس بعد العفو والمغفرة الإلهية للذنب مؤاخذة عليه، ومن خصائص النعم الأخروية انها دائمة لا تقبل النقص او الزوال، بل انها في مضاعفة وزيادة متصلة.
قانون ضياء الآية
تتضمن آيات القرآن أخبار السماوات والأرض وبيان أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة وفيها أحكام الحلال والحرام وما يحتاجه الإنسان في عباداته ومعاملاته ليتخذ الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وتتصف المزرعة بالنسبة للفلاح وصاحبها مطلقاً بأنها موضع عنايته، وتبعث في نفسه البهجة والسرور في كل مراحل الزراعة وعند جني الحاصل وحصول البيع وقبض الثمن بالإضافة الى شعور الإنسان بالرضا واللذة عند أكله مما يزرعه بيده، ولا يعلم الفلاح تحقيق الربح الا في المراحل الأخيرة من الرزاعة وجني الحاصل.
اما بالنسبة لزراعة الصالحات فان المؤمن يدرك نيل أمنيته، وتحقيق الحاصل، وجني الثمر في الأخرة من حين إتيانه العمل الصالح، يدخل المسجد ويؤدي الصلاة جماعة ويحس قبل واثناء وبعد الصلاة بتحقيق الربح من غير خوف من تلف الزراعة او تعرضها للآفات أو الكساد أو الضياع.
ويأتي هذا الإحساس المبارك لما تتضمنه الآيات القرآنية من الوعد الكريم بالثواب الجزيل، ومنها هذه الآية فمع أن نعمة بياض الوجوه لم ترد في القرآن الا في آيتين متجاورتين هما هذه الآية والآية السابقة، فان المسلمين جميعاً يعيشون بفيض هذه النعمة، ويتلذذون بحلاوتها، وكأنها قريبة منهم، ويحسون بشعاع أنوارها في نفوسهم.
ويشعر كل واحد منهم بان وجهه صار أبيض يتلألأ ببهاء أنوار الثواب والجزاء الكريم للعناء والصبر في مرضاة الله، والتوفيق لأداء الفرائض والعبادات، ومن خصائص الحياة الدنيا ان الإنسان يحزن لفراق الدنيا كلما دنا أجله، وتقادمت أيام عمره الا المؤمن فانه يشعر باقترابه من نعمة بياض الوجه، وما يترشح عنها من السعادة والغبطة، ومن إعجاز هذه الآية وجوه:
الاول: تبعث الآية ضياء مباركاً في نفس كل مسلم ومسلمة.
الثاني: يكون للوعد ببياض الوجه إشعاعاً نورانياً على النفس والجوانح.
الثالث: الوعد ببياض الوجه في الآخرة برزخ ومانع من إرتكاب المعاصي والذنوب، فالذي يسعى لبلوغ غاية يتجنب ضدها وما يكون مانعاً من الوصول اليها، ومن الآيات ان جاءت نعمة بياض الوجوه واضحة بينة في ذاتها والطريق اليها ومقدماتها، لا تقبل الترديد وممتنعة عن اللبس والجهالة، وتلك نعمة أخرى تساهم في إنبعاث ضياء الآية القرآنية في قلب كل مسلم ومسلمة.
وهذا الضياء أمر وجداني محسوس يتجلى بإعانة الآية القرآنية للمسلم في إتيانه الواجبات وإجتناب المحرمات، فحينما جاءت الآيات السابقة بحث المسلمين على الدعوة الى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وندبتهم للأخوة الإيمانية وإجتناب الفرقة والإختلاف جاءت هذه الآية بالإخبار عن بياض وجوه المسلمين في الآخرة وإفادة حسن حالهم في الآخرة.
ليكون هذا الإخبار وسيلة لجذب الناس للإسلام، ودعوة إلى عدم تضييع الفرص في الحياة الدنيا، وحثاً على إستثمار اليوم والليلة كوعاء للعمل الصالح، وجني الثمار الذي يتجلى بالفوز بمرضاة الله، وإكتناز الحسنات وخلو صحيفة الأعمال من الذنوب والآثام التي تأتي على زراعة الإنسان وسعيه في جمعه وإدخاره، ويمتاز البياض الأخروي عن الدنيوي بأمور منها.
إن البياض الأخروي يشع بالضياء والنور فهو ليس عرضاً للذات، ولوناً مجرداً، بل يبعث الضياء والنور فيما حوله فيمتلأ المحل بنور الحال وهو المؤمن، وهل يبعث الضياء في الحياة الدنيا، الجواب نعم فان إشعاع ضياء وجوه المؤمنين في الآخرة يطل على الدنيا من وجوه:
الأول: إمتلاء نفس المسلم بالسعادة والغبطة لبشارات الآخرة.
الثاني: جعل المسلم يمشي في مسالك الإيمان ببصيرة.
الثالث: إعانة المسلم على التفقه في الدين، ومعرفة عواقب الأفعال وخواتيم الأعمال.
الرابع: ترغيب الناس ببياض وجوههم في الآخرة، فلا أحد يتجافى ويعرض عن هذه النعمة خصوصاً وانه حاجة له، وله موضوعية في الفوز به وإحراز آبائه وإبنائه له، فأما الآباء فان إتيان العبد الصالحات يرجع بالثواب والاجر على آبائه، كما ان الأبناء يرثون منه فعلها، ويقتدون به في المواظبة عليها بتعضيد من هذه الآية وما فيها من البشارات والدلالات على حصول الجزاء في الآخرة.
الخامس: ما في هذه الآية من البشارة التي يفوز بها المسلمون في الآخرة، دعوة لهم لتعاهد نعمة الأخوة ونبذ الفرقة والخصومة والإقتتال.
فان قلت ان بياض الوجوه لم يحصل الا يوم القيامة فكيف يتقدم ضياؤه عليه ويشع على النفوس وعالم الأفعال في الدنيا، مع إن الضياء عرض عن الذات كنورالقمر فانه لا يقع على الأجسام والجواهر الا في الليلة التي يطل فيها القمر، والجواب انه قياس مع الفارق، فان ضياء هذه النعمة يأتي بهذه الآية فهي الواسطة بين عالم الآخرة والدنيا.
فمن إعجاز الآية القرآنية انها تبعث ضياء مباركاً ذا صبغة موضوعية وحكمية تتجلى فيه مفاهيم اللطف والرحمة الإلهية، ومن الشواهد ما ورد في هذه الآية بان الذين تبيض وجوههم في رحمة الله، لتبقى هذه الآية مصداقاً دائماً من مصاديق الرحمة الإلهية.
قانون إعجاز البيان القرآني
البيان لغة هو الكشف واظهار الشئ او تفاصيله، ومن الآيات ان يأتي القرآن تبياناً لأحوال الدنيا والآخرة وما فيها من الأسرار والآيات، ويتفضل الله سبحانه وتعالى ببيان آيات القرآن، وإظهار معانيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً قال تعالى [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] ( ).
وتتضمن نسبة البيان الى الله عز وجل الوعد الكريم وتدل على الإفاضة والإحاطة المطلقة والكشف التام، والخلو من اللبس والترديد، ويأتي البيان بآيات القرآن ذاتها وتفسير بعضها لبعضها الأخر، جامعاً لتفاصيل وأحكام الآية، ومانعاً من طرو معنى مغاير لها في الأذهان، ومن التحريف والتبديل والتغيير في اللفظ والحكم.
ومن الآيات انفراد البيان القرآني بخصوصية إعجازية لم تشهد لها الأرض مثيلاً، وهي سلطانه على النفوس وظهور آثاره في عالم الافعال، وكل آية قرآنية بيان اعجازي من وجوه:
الاول: بيان الآية لنفسها ومضامينها.
الثاني: دلالة الآية على الحكم وموافقته للموضوع.
الثالث: بيان الآية القرآنية لآية او اكثر من آيات القرآن موضوعاً وحكماً.
الرابع: دعوة الآية للجوء الى الآيات الأخرى لتوكيد بيانها لذاتها ولغيرها، فتأتي الآية القرآنية متكاملة في المعنى والدلالة، ومع هذا تدعو المسلمين والناس جميعاً للرجوع الى الآيات الاخرى لتوكيد معناها وتحصيل الزيادة والسعة في البيان.
الخامس: بعث الشوق في النفوس لإستقراء مفاهيم الآية القرآنية من ثنايا القرآن وآياته من ذات السورة أو من السور الأخرى، فلا ينحصر التفسير الذاتي للقرآن بآيات كل سوره قرآنية على نحو الاستقلال بل تراه في مجموع سور القرآن، وهو شاهد من شواهد وحدة مضامين القرآن وخلوه من التعارض في المعنى والمفهوم.
السادس: الآية القرآنية موعظة وحكمة ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، واذ جاء الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته للمسلمين ايضاً بالدعوة الى الله بالحكمة والموعظة جهاداً في سبيله، وطريقاً لإقامة الحجة على الناس وجذبهم الى مقامات الهداية والايمان، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( )، فان كل آية قرآنية دعوة قائمة بذاتها الى الله، وحكمة بالغة تحث الناس على الهدى، وتزجرهم عن المعاصي.
ومن الشواهد على كون الآية القرآنية موعظة وحكمة ودعوة الى الله الآية محل البحث وما فيها من البيان، اذ انها تؤكد نعمة من نعم الآخرة وتدعو الناس للسعي لنيلها، في بيان قرآني لا يقف عند حدود الكشف بل ان موضوعه وحكمه دعوة الى الله بالإضافة الى سلطان التنزيل على النفوس والتسليم بانه حق وصدق لا يأتيه الباطل مطلقاً.
ويطرد البيان القرآني اليأس والقنوط عن النفوس فجاء الإخبار عن بياض وجوه المؤمنين الذين يعملون الصالحات في الآخرة ناصعاً يشع بالفوز لانه من عندالله عز وجل ووعد كريم، وبشارة، وجزاء عظيم لفعل يسير من العباد يؤدونه كواجب وفريضة وجزء من مقومات وعلة الخلق والنشأة.
ومن منافع البيان القرآني انه عون على الإمتثال لمضامين وأحكام التنزيل وترغيب بفعل الصالحات، وعلة لنفرة النفوس من الذنوب والمعاصي ورؤية قبحها الذاتي وأضرارها العرضية، في الدنيا والآخرة، فتكشف الآيات القرآنية للإنسان الأضرار الدنيوية للذنوب وتبين له عاقبتها في الآخرة.
ومن الآيات هذه الآية الكريمة اذ تبين حرمان الكافرين من نعمة بياض الوجوه في الآخرة، ولم تتركهم الآيات عند موضوع الحرمان بل جاءت بما يمنع من الظن بوجود برزخ وقسيم ثالث يكون فيه لون الإنسان ليس بالأبيض او الأسود، فأخبرت الآية السابقة عن سواد وجوه الكافرين ليكون الجمع بين الآيتين شاهداً ملازماً لسواد الوجوه للذنوب والسيئات.
ومن خصائص البيان القر آني انه يبعث الأمل في النفوس، ويجعل المسلم يقبل على الطاعات بشوق ورغبة ويصبر على التكاليف لما يرجو من الثواب العظيم، ويبتعد عن المعاصي لما يتعقبها من العذاب الأليم ومنه إسوداد الوجوه في الآخرة.
لقد أراد الله عز وجل للبيان القرآني ان يكون رحمة لأهل الدنيا كافة وللمسلمين خاصة، وفيه تقريب للناس من اتيان الصالحات، وهو سلاح للارتقاء في المعارف الإلهية والتفقه في أمور الدين والدنيا، وعون للتعبد في شؤون الحياة وتصريف الأعمال والتحلي بالأخلاق الفاضلة والسنن الحميدة.
ومن الآيات ان تكون القراءة جزء واجباً من الصلاة اليومية ليتجدد البيان القرآني خمس مرات في اليوم، ويكون في كل مرة دعوة الى الله عز وجل، وحثاً على الإمتثال لأوامره، وترغيباً ببياض الوجوه يوم القيامة، وإظهاراً لرأفة الله عز وجل بالناس بتحذيرهم من إسوداد الوجوه.
فكل آية قرآنية دعوة الى نيل مرتبة بياض الوجه وتحذير من سواده يوم القيامة، والله غني عن العالمين، فالبيان القرآني رحمة مزجاة للناس جميعاً، وحاجة لكل إنسان، مما يملي عليهم ضرورة الرجوع اليه والصدور عنه، والتقيد بما فيه من الأحكام والسنن للفوز بنعمة بياض الوجوه، والاقامة في كنف رحمة الله، وعظيم فضله في الآخرة.
لقدجاء البيان في هذه الآية الكريمة من وجوه:
الأول: توكيد مضامين الآية السابقة.
الثاني: ذكر حسن منزلة الذين تبيض وجوههم، فقد يظن بعضهم ان بياض الوجوه في الآخرة كما هو في الدنيا، وانه لا إعتبار له في الكسب والرزق والشأن والجاه والعافية والأمن، فجاءت هذه الآية لتؤكد على موضوعية بياض الوجوه في نيل مراتب الصيرورة في رحمة ورضوان الله تعالى.
الثالث: بياض الوجه معلول للعمل الصالح، فهو يترتب على الإيمان وفعل الصالحات ترتب المعلول على علته، وعدم تخلفه عنها.
الرابع: دعوة الناس جميعاً للفوز بمرتبة بياض الوجه وإشراقته يوم القيامة.
قانون عموم الدعوة
كما كان خلق الإنسان نعمة عظيمة، فان النعم الإلهية مصاحبة له ولا تنفك عنه، وهي على قسمين:
الأول: النعم الدنيوية.
الثاني: النعم الأخروية.
وكل نعمة من النعم رحمة وآية من عظيم قدرة الله وكرمه وجوده وإحسانه.
ويترشح عن التباين في أفراد الزمان الطولية بين الدنيا والآخرة تباين يدل على عظمة النعم الأخروية فهي من اللامنتهي، واذا كان الإنسان يعجز عن إحصاء النعم الإلهية في الدنيا فانه أكثر عجزاً عن عد النعم الأخروية التي تتجاوز عالم التصور مما يدعو الإنسان الى المسارعة في الخيرات وإستثمار الحياة الدنيا للفوز بالنعم الأخروية.
ومن الآيات ان نعم الآخرة خاصة بأهل الإيمان والتقوى، وهي محجوبة عن الذين كفروا ولا ينحصر الأمر بحرمانهم من النعم بل يأتيهم العذاب الأليم، على نحو مستديم، بدلالة هذه الآيات التي تبين إختصاص المؤمنين بنعمة بياض الوجوه في الآخرة، وعقوبة الكافرين بسواد الوجوه يومئذ.
وفي بيان وجوه الجزاء الأخروي والتضاد فيه بلحاظ الأعمال في الدنيا دعوة للصلاح والتقوى، وتحتمل هذه الدعوة سعة وضيقاً وجوهاً:
الأول: أنها خاصة بالمسلمين، بإعتبار ان المسلمين هم الذين يؤمنون بنزول القرآن من عندالله عز وجل ويصدقون بما فيه من لغة البشارة والأنذار.
الثاني: إختصاص العلماء بخطابات الدعوة، لأن معرفة أحكام الجزاء وإستنباط الأحكام منها أمر لا يدركه الا الفقهاء والعلماء، وهم الذين يقومون بإرشاد أفراد الأمة الى سبل الفوز الأخروي.
الثالث: تشمل الدعوة أهل الكتاب، لأنهم يؤمنون بالكتب المنزلة قبل القرآن، فتأتي هذه الآية لتذكيرهم بوظائفهم وتدعوهم للإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه.
الرابع: عموم الدعوة وشمولها لجميع الناس.
الخامس: توجه الدعوة لأهل الكتاب والكفار، لأن المسلمين ايقنوا بالجزاء الأخروي ويواظبون على السعي لبلوغ السعادة والنعيم الدائم، أما غيرهم فيحتاج الى الدعوة للإقتداء بهم، والنجاة من مستنقع الضلالة وسوء العاقبة يوم القيامة.
والصحيح هو الرابع، فبيان تفاصيل الجزاء الأخروي، وما فيه من التضاد والتباين دعوة للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً لأخذ الحائطة ليوم القيامة وإصلاح الذات وإلاقرار بالعبودية لله تعالى.
فمن إعجاز القرآن انه يتضمن ذكر النعم الأخروية، ويتضمن هذا الذكر وجوهاً ومقاصد سامية منها:
الأول: البشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الثاني: التحذير من فعل السيئات، وهذا التحذير عام لا يخص جماعة او ملة، اذ يتوجه لمن يرتكب السيئات ومن لم يرتكبها، أما الأول فالتحذير زجر له، وحث على الإقلاع عنها، وأما الثاني أي الذي لا يرتكبها فالتحذير تنبيه له ودعوة للإستمرار بالإبتعاد عنها.
الثالث: إنذار أهل المعاصي والسيئات ببيان ماينتظرهم من العذاب العظيم في الآخرة.
الرابع: دعوة الناس جميعاً للإنتفاع من النعم الأخروية، فمن عموم رحمة الله تعالى وشمولها للبر والفاجر في الدنيا التذكير بالنعم الأخروية ودعوة الناس جميعاً اليها، وجعل الله عز وجل المسلمين واسطة لتبليغ هذه الدعوة من وجوه:
الأول: تصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إتباعه في سنته.
الثالث: التقيد بأحكام الفرائض والإمتثال لأحكام الحلال والحرام التي جاء بها القرآن والسنة النبوية.
الرابع: الجهاد في سبيل الله، وجذب الناس للإيمان، وجعلهم ينتفعون من النعم الأخروية طوعاً وقهراً.
ويأتي ذكر نعمة بياض الوجوه دعوة للناس جميعاً لنيلها، وبلوغ مقامات الخلود في دار النعيم، فمع أن النعمة خاصــة بأهل الإيمان الا أنها والإخبار عنها في الكتاب المنزل من عندالله دعوة للناس جميعاً للفوز بها.
وهذه الدعوة نعمة تتغشى الناس جميعاً في الحياة الدنيا وفيها ترغيب لكل إنسان بالفوز بنعمة بياض الوجه في الآخرة، وإخبار عن إنعدام الحواجز بينه وبين نيلها، ولا يفصل بينه وبين الوصول اليها الا الكفر والجحود فبالتنزه عن الكفر والضلالة تكون الطريق سالكة نحو هذه النعمة العظيمة.
إعجاز الآية
مع ان الناس على قسمين يوم القيامة بخصوص لون الوجوه، فان الآية جاءت بخصوص قسم واحد منهم، الذين يبعثون ووجوههم بيضاء مشرقة، تشع نوراً، في دلالة على الإستقلال والإنفصال عن القسم الآخر إنفصال بينونة وتضاد.
لقد أراد الله عز وجل إكرام أهل الإيمان بأن خصهم بهذه الآية وبيّن ما ينالونه من الثواب العظيم، والمنزلة الرفيعة يوم القيامة، ليكون إفرادهم بهذه الآية آية اعجازية ودعوة لهم للثبات على الإيمان والتسابق في الخيرات، وأداء الفرائض والتكاليف برغبة وبشوق وحرص على الإمتثال الأحسن لما فيه من الثواب العظيم، وفيه دعوة للكفار للتوبة والإنابة.
وبينما جاءت الآية السابقة بصيغة المضارع (تبيض وجوه) جاءت هذه الآية بصيغة الماضي(إبيضت) مما يدل على الوقوع والحدوث وكأن يوم القيامة قد جاء وبعث الناس من القبور وتجلت الأنوار والمشارق على وجوه أهل الإيمان جزاء وثواباً لهم، إن صيغة الماضي في الآية شاهد على إمضاء النعمة وحصولها.
وجاءت كلمات الآية على نحو بسيط يجعل كل إنسان يدرك أحكامها، فبعد تقسيم الناس في الآية السابقة الى قسمين، قسم وجوههم بيضاء مسفرة، وقسم وجوههم سوداء كئيبة وحزينة، جاءت هذه الآية لتخبر ان القسم الاول في رحمة الله، وفيه دعوة للناس للسعي والفوز برحمة الله، وليس من أحد الا وهو يحتاج رحمة الله عز وجل في الآخرة، ولكن المدار في الفوز بها على الإيمان والعمل الصالح في الدنيا.
ومن إعجاز الآية انها ذكرت رحمة الله، والله يعلم إن هذه الكلمة كافية للبشارة والإنذار، والترغيب والترهيب، والحجة والبرهان، فهي حجة على الكافرين وإنذار لهم، وليس لأحد منهم الادعاء يوم القيامة بعدم العلم بالمائز والتباين بين الفريقين، وأصله وعلته.
ومن إعجازها الوعد الكريم بالخلود في رحمة الله ودوام النعيم لأهل الإيمان، وفيه دلالة على عظيم فضل الله، وسعة قدرته وامتداد سلطانه المطلق في الأزمنة المعلومة والمقدرة في الأزل والى الأبد.
لقد أخبرت الآية عن الملازمة في الآخرة بين بياض الوجوه والإقامة في رحمة الله من غير ان تبين مضامين الرحمة في المقام مما يدل على أمور إعجازية منها:
الأول: تضمن الآية لمعنى الوعد الكريم.
الثاني: الإطلاق والسعة في الفضل الإلهي في الآخرة.
الثالث: الحصر والتعيين، فحينما قسمت الآية السابقة الناس الى قسمين بينهما تضاد وتنافٍ، أخبرت هذه الآية عن كون الذين إبيضت وجوههم في رحمة الله مما يفيد حرمان الذين كفروا من رحمة الله في الآخرة.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية [ابيضت وجوههمٌ].
ولم يرد لفظ (ابيضت) ولفظ (في رحمة الله) الا في هذه الآية الكريمة.
قانون الجمع بين آيتين
يمكن تسمية هذه الآية والآية السابقة بآيتي (الوجوه) لما فيهما من وصف تام لوجوه الناس يوم القيامة، وإنحصار ألوانها باللونين الأبيض والأسود.
ولم يذكر وصف الوجوه في الدنيا والآخرة الا في هاتين الآيتين من بين آيات القرآن، وفيه إشارة الى عدم موضوعية التباين في الوان الوجوه في الدنيا، والمدار فيها على ماهية العمل الذي يعين لون وصبغة الوجوه الدائم في الآخرة.
وفي عدم ورود موضوع بياض الوجوه في القرآن الا في هذه الآية والآية السابقة وجوه:
الاول: تعلق وصف الوجوه بالبيضاء بعالم الآخرة، مما يدل على ان المدار في الجمال وحسن الوجه على مايكون في الآخرة، اما لون الوجه في الدنيا فهو عنوان للإبتلاء والإمتحان، وهو عرض زائل، بمغادرة الإنسان للحياة الدنيا، بل وقبلها لما يطرأ على الانسان من تغيير سواء لتقادم الأيام وسني العمر، او للعناء والنصب والتعب.
الثاني: كفاية الآية والآيتين في بيان موضوع وحكم مخصوص دنيوياً كان او أخروياً.
الثالث: دعوة العلماء والمسلمين كافة الى العناية بكل آية من آيات القرآن، وعدم التفريط بمضامينها، خصوصاً وان صدر الآية يأتي في شئ ووسطها في شئ، وآخرها في شئ آخر.
الرابع: تقسيم القرآن الى آيات بينها فواصل لا يمنع من الاتحاد الموضوعي بين آيتين او أكثر منها.
الخامس: وجود أسرار ملكوتية في الفاصل بين آيتين مع إتحاد الموضوع فيهما، كما في هذه الآية والآية السابقة.
السادس: ابتداء الآية السابقة بلفظ (يوم) وفيه إعجاز يدل على علم الله عز وجل بفهم الناس جميعاً للمقصود من لفظ (يوم) في الآية، فمع انه ورد بلفظ التنكير والإجمال فان الناس جميعاً يعلمون ان المراد منه يوم القيامة وجميع مواطن الآخرة، فلم يستطع أحد من الكفار القول بأن المراد يوم من أيام الدنيا، او أنه في عالم البرزخ حصراً، او أنه في الآخرة ولكن بمقدار يوم من أيام الدنيا، أي بمقدار وقت النهار من طلوع الشمس الى مغيبها، او اليوم بليلته، ولم يطرأ الشك على أحد من المسلمين في المراد من هذا اليوم، والإجماع والعقل وشواهد القرآن والسنة تدل على أن المراد هو يوم القيامة وعالم الآخرة وما فيه من اللبث الدائم، لذا اختتمت هذه الآية بقوله تعالى [هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ].
السابع: تقديم بياض الوجوه على سوادها في الآية السابقة بقوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] وهما من عالم الثواب والعقاب، والشرف والرفعة في عالم الثواب وكأنهما من الوجود والعدم، والوجود أشرف من العدم، فلذا قدم بياض الوجوه.
الثامن: تقديم بياض الوجوه على سوادها من مصاديق ما ورد في الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي)( )، فمن رحمة الله عز وجل صبغة البياض لوجوه المؤمنين في الآخرة، ومن مصاديق غضبه تعالى جعل وجوه الكفار مسودة يوم القيامة ليكون مقدمة لدخولهم النار.
التاسع: تضمن الآية السابقة خطاباً فيه توبيخ للكفار المقرون بالعذاب الأليم، وليس في الآية خطاب للمؤمنين بل جاءت هذه الآية بكاملها في بيان الجزاء الحسن والمثوبة العظيمة التي يلقونها في الآخرة، وهو من مصاديق كون الآخرة عالم الجزاء ومحل إكرام المؤمنين.
العاشر: بيان علة سواد وجوه شطر من الناس وسبب عذابهم الدائم في النار، وهو الكفر والجحود، لتكون هاتان الآيتان من مصاديق اللطف الإلهي في تقريب الناس للعبادة وسبل الطاعة.
الحادي عشر: جاءت الآيتان لهداية الناس، فلم ينحصر موضوعهما بذكر أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة، ودلالة مفهومه على بياض وجه من يجتنب تلك الأسباب، بل تضمنت البيان في كلا القسمين مع الإخبار عن التضاد والتباين التام بينهما وآثارهما وعواقبهما.
ان اختصاص هذه الآية والآية السابقة في موضوع لون الوجوه يوم القيامة لا يعني استقلالهما وعدم ارتباطهما بآيات القرآن الأخرى سواء آيات سورة آل عمران ذاتها، أو آيات القرآن مطلقاً، فقد جاءت هذه الآية بذكر الخلود لأصحاب الوجوه المشرقة البهية، وبقيد أنه خلود في رحمة الله، ولم تذكر الآيتان خلود الكفار في النار، ولكنها ذكرت علة سواد الوجوه وهو الكفر، وتلقي الكفار العذاب في الآخرة، وهناك آيات عديدة تؤكد خلود الكفار في النار، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
وتدل الآية أعلاه على شمول المنافقين بسواد الوجوه والخلود في العذاب، وفيه زجر للمنافقين عن إظهار خلاف ما يخفون، ودعوة لتنقيح القلوب وإخلاص النية وإيمان الجوانح، والحرص على المماثلة والتشابه بين الظاهر والباطن للالتحاق بالمسلمين، ومحاكاتهم في القول والعمل.
الثاني عشر: يدل افتتاح الآية التالية بقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ] على توكيد مضامين هذه الآية والآية السابقة وانها من بديع صنع الله تعالى، وفيه حث على العناية الخاصة بهذه الآيات وما فيها من الدلائل والبراهين.
الآية سلاح
تعتبر الحياة ساحة للصراع بين الإيمان والكفر، يتبادلان فيها المنازل، وما ان يحل الإيمان في منزل فانه لن يغادره، اما الكفر فان مقامه متزلزل، ووجوده في المحل عرض غير دائم، فالغلبة للإيمان وان طال الاجل، وتحّمل المسلمون العناء والأذى، وجاهدوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا دفاعاً عن الإسلام وتثبيتاً لدعائم الدين.
لذا جاءت الآيات القرآنية بالحث على الصبر في مرضاة الله وأعّد الله عز وجل للصابرين ثواباً عظيماً منه ما يتجلى في هذه الآية بإشراقة وجوههم يوم القيامة وإقامتهم في رحمة الله التي تتغشاهم في منازل الآخرة المتعددة.
وتجعل هذه الآيةالمسلمين يبذلون الوسع في نشر معالم الدين، والدعوة الى التوحيد للفوز ببياض الوجوه في الآخرة وجعل الآخرين يشاركونهم هذه النعمة العظيمة، خصوصاً وان الآية الكريمة تدعو لهذه المشاركة وتحث اهل الكتاب والناس جميعاً على عدم تضييع هذه النعمة، فصحيح ان زمان نعمة بياض الوجوه تكون في الآخرة الا ان إحرازها أو تضييعها يكون من وجوه:
الأول: عمل العبد في الدنيا، وإختياره الإيمان أو إصراره على الكفر.
الثاني: الحياة الدنيا مكان تعيين لون وجه الإنسان في الآخرة، فمع ان بياض الوجه نعمة أخروية الا إن إختيارها والفوز بها لا يحصل الا في الحياة الدنيا بإعتبارها جزاء وثواباً للإيمان وعمل الصالحات.
الثالث: إنعدام الموانع بين العبد ونيل هذه النعمة، فالدعوة للفوز بها مبسوطة وقريبة من كل إنسان وفي مختلف الأمكنة والأزمنة، ولا ينحصر الأمر بالدعوة لها، بل بالإمكان نيلها والفوز بها، فهذه الآية سلاح لكل إنسان ذكراً او أنثى، غنياً أو فقيراً، ولكن المسلمين وحدهم هم الذين إنتفعوا منها، واتخذوها واقية من النار، ووسيلة لدعوة الناس للإنتفاع من الآية وتوظيفها في سلامة النفس والبدن والوجه في الآخرة، فينتفع المسلم من وجهين:
الأول: إتخاذها سلاحاً ذاتياً للسلامة في الدنيا والاخرة.
الثاني: جعلها سلاحاً غيرياً من جهات:
الأولى: دعوة الآخرين لنيل نعمة بياض الوجوه في الآخرة.
الثانية: الإحتراز في نفوسهم من اليأس والقنوط يجعل الكافرين يراجعون انفسهم ويدركون بطلان اعمالهم وخسارتهم في الدنيا والآخرة.
الثالثة: إقامة الحجة على الكافرين بالتبليغ والإخبار والإنذار.
الرابعة: تبعث الآية الحسرة في نفوس الكافرين لحرمانهم من نعمة بياض الوجوه والإقامة في كنف رحمة الله يوم الفاقة والحاجة الى رحمته تعالى.
ومن الآيات ان هذه الحسرة لا تتعارض مع الدعوة لنيل هذه النعمة، فلا تغلق أبواب الرحمة عن الأحياء من الناس، ولكن الآية تحذرهم من الموت على الكفر والجحود.
الآية لطف
يتجلى اللطف الإلهي في الآية بلحاظ موضوعها ومجيئها متعقبة لآية الإنذار والوعيد للكفار، في بيان لسعة رحمة الله تعالى وان أحكام يوم القيامة لا تنحصر بالعقاب بل تتضمن الثواب والجزاء بأبهى صوره، اذ يكفي الإخبار ان اهل الايمان يعيشون في رحمة الله، وليس من حدود او قيود لخزائن رحمة الله.
ومن لطفه تعالى انها مفتوحة للناس جميعاً تدعوهم للنهل منها والتزود من كنوزها في الدنيا والآخرة، وهذه الدعوة طرد لليأس من النفوس، وحصانة من القنوط قال تعالى [وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] ( ).
ومن غايات خلق الإنسان أنه يرجو رحمة الله، ويتطلع الى الدخول في كنفها، وهو من مصاديق العبادة التي جاء خلق الانسان علة لها، ليكون رجاء رحمة الله إلتجاء اليه واستغاثة به وتوكل عليه، [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
ومع جحود الذين كفروا وتفرقوا واختلفوا عن النبوة فان القرآن يأتيهم بقواعد اللطف التي تجذبهم للإيمان، وتدعوهم لإبتغاء الوسيلة لنيل رضاه تعالى والفوز بالنعم الأخروية.
ان نعمة بياض الوجه شاملة للناس جميعاً وان كان الإنتفاع منها محصوراً بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وإنتفاع الناس منها بما فيها من لغة الخطاب التي تنحل بعدد المكلفين جميعاً لذا ترى الآية خاصة ببشارة بياض الوجوه، وليس فيها إنذار ووعيد بسواد وجوه الكافرين، بل جاءت في الإخبار والبشارة ببياض وجوه المؤمنين، وترغيب الناس جميعاً بإحراز هذه النعمة.
فحتى الكافر يلوم نفسه على إختياره الكفر، ويساوره الأمل بنيل هذه النعمة الأمر الذي يدفعه الى التفكير بكيفية السعي لنيلها، ويفاجئ بانها قريبة منه لا تحتاج السعي الحثيث واللهث، بل بالعكس فان الأعراض عنها يسبب له التعب والنصب والشقاء في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، صحيح ان الدخول برحمة الله لا يتم الا بمشيئته سبحانه، قال تعالى [وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ] ( )، الا ان الدخول يتقوم بإيمان العبد وحسن سمته وعمله، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ]( ).
وتتضمن هذه الآية اللطف على نحو مركب من وجوه:
الأول: الثناء على المؤمنين.
الثاني: الوعد الكريم للمسلمين.
الثالث: عدم حجب رحمة الله عن أهل التقوى والصلاح.
الرابع:حث الناس جميعاً على التقوى بإعتبارها وسيلة الخلود في دار الكرامة والرضوان.
الخامس: التحذير من الحرمان من نعمة بياض الوجوه وما يلازمها وما يترشح عنها من النعم الدنيوية والأخروية.
مفهوم الآية
في الآية توكيد لنعمة بياض الوجوه، وحث للمسلمين على تعاهدها، ونشر مفاهيم الأخوة بينهم بلحاظ التقائهم بالفوز بنعمة بياض الوجوه، فكما تتغشى نعمة بياض الوجوه المسلمين جميعاً في الآخرة فانها دعوة لهم للإتحاد ونبذ الفرقة وإلاختلاف.
وإذ جاءت الآيات السابقة بذكر نعمة الأخوة في الدنيا وحث المسلمين على إجتناب الفرقة والإختلاف، جاءت هذه الآية لتبين جزاء تعاهدهم لنعمة الأخوة وإنقيادهم لأوامر الله ورسوله، وابتعادهم عن أسباب الخلاف والشقاق.
ومع ان بياض الوجوه نعمة عظيمة قائمة بذاتها جاءت هذه الآية بذكر نعمة أخرى متداخلة معها من غير تعارض بينهما، وكل واحدة في طول الأخرى وتسير الى جنبها لتغمر السعادة المؤمنين في الدنيا والآخرة.
اما في الدنيا فللبشارة والوعد الكريم في هذه الآية، واما في الآخرة فلتحقيق مصداق الوعد الإلهي بما لا عين رأت ولا اذن سمعت لعظيم النعم وإتصالها.
ومن مفاهيم الآية توبيخ الكفار لإسرافهم وظلمهم لانفسهم، فكل عاقل يدرك ان تضييع النعمة وحرمان النفس منها ظلم للذات، والكافر يحرم نفسه وغيره من هذه النعمة لأنه يكون أسوة لغيره في الجحود بالربوبية الذي يتفرع عنه سواد الوجه في الأخرة مع زيادة الوزر وثقل الإثم الذي يأتي من إغراء الغير بالباطل.
وتبين الآية ان بياض الوجوه مقدمة وملازمة لنيل المراتب العالية في الجنة، فحينما ورد قوله تعالى [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ] ( ) في مدح للمؤمنين في الحياة الدنيا لمواظبتهم على اداء الصلاة والسجود والتضامن والخشوع لله تعالى، جاءت هذه الآية في ذات الموضوع جزاء على أثر السجود في الوجوه، وكأن هناك قاعدة بان من كانت آثار السجود بادية على وجهه فانه يكون يوم القيامة من الذين تشع وجوههم نوراً وضياءً.
وتظهر الآية النعم المتعددة التي يفوز بها المؤمن، فلم يأت ذكر بياض الوجوه بإعتباره موضوعاً مستقلاً، ونعمة منفردة، بل جاء على نحو متصل ومركب ومتداخل مع غيره، لتكون النعم التي تتضمنها هذه الآية على وجوه:
الأول: نعمة بياض وجوه المسلمين.
الثاني: نعمة إقامتهم في رحمة الله.
الثالث: خلودهم في رحمة الله، وسلامتهم ونجاتهم من الخوف والحزن والذل والنصب.
وتعدد النعم في الآية مع قلة كلماتها آية اعجازية وبيان لفضل الله عز وجل على الناس كافة والمسلمين خاصة، وبعث للناس لنيل هذه النعم والفوز بالخلود في دار الكرامة والرضوان.
ومن مفاهيم هذه الآية تهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات، وتنقيح عالم الأفعال، والتجافي عن الذنوب والمعاصي وذم أهل الفسوق والمعاصي، لدلالة مدح أهل الإيمان في مفهومه على تقبيح الكفر والجحود، ودعوة الناس الى الإلتحاق بالمسلمين والفوز بنعمة بياض الوجوه.
وفي الآية إخبار عن الخلود والدوام لأهل الجنان، وعدم طرو الموت والزوال عليهم، ويرغب الإنسان في الخلود والبقاء على قيد الحياة مع الأذى والإبتلاء، ولكن الله واسع كريم، ليس من حد لرحمته.فأخبر بان خلود وبقاء اهل الجنان لا يكون الا بالنعيم والبحبوحة والغبطة والسعادة التامة.
وهذه الآية من آيات النعم اذ انها تتضمن نعماً متعددة كل واحدة تستحق الجد والسعي وبذل الوسع من أجل الوصول اليها وتعاهدها بالعمل الصالح. وفي الآية مسائل:
الأولى: الوعد الكريم والبشارة عن نعمة بياض الوجوه.
الثانية: جاءت الآية بصيغة الإخبار [وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ] للدلالة على تقرير وحصول الأمر، وان المسلمين بلغوا مرتبة نيل شرف نعمة بياض الوجوه.
الثالثة: تدل الآية على علم الله تعالى بفوز شطر من الناس يوم القيامة بنعمة بياض الوجوه جزاء لهم على حسن عملهم في الدنيا، ويأتي بعد آيتين ما يدل على أولوية المسلمين وإستحقاقهم نيل هذه المرتبة السامية والدرجة العالية لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة: الآية توكيد لوجود أمة تعبد الله وتمتثل لأوامره، فلما كانت علة خلق الإنسان هي عبادة الله تعالى، جاءت هذه الآية لتؤكد على أمرين:
الأول: وجود أمة منقطعة الى عبادة الله.
الثاني: ترتب الثواب الأخروي على العبادة في الدنيا.
الخامسة: تدعو لغة الجمع في الآية المسلمين إلى التعاون بينهم لنيل هذه المرتبة بالحث على الصالحات.
إفاضات الآية
من صفات القرآن انه يملأ نفوس المسلمين بالبهجة والغبطة، لما فيه من البشارات التي لم يتضمنها كتاب غيره، وتلك سمة إعجازية من السمات التي تجعل القرآن مهيمناً على الكتب السماوية المنزلة قبله.
وجاءت بشارات القرآن بصيغة الماضي التي تفيد الإمضاء والوقوع والتنجز وعدم تعليق النعمة على أمور إضافية عدا العمل في الدنيا، اذ أنها ثواب وجزاء حسن كالمعلول الذي لا يتخلف عن علته، فكما ان النهار يوجد اذا طلعت الشمس بمشيئة الله فكذا بياض الوجوه في الآخرة فانه نتيجة حتمية للإيمان وعمل الصالحات، لتترشح على أهل الجنة شآبيب الرحمة.
واذ تكون قواعد الضيافة عند أهل الأرض مقيدة ومحدودة زماناً بثلاثة أيام او أقل او أكثر قليلاً بحسب الاعراف والعادات، فان ضيافة الرحمن مؤبدة ودائمة وخالية من القيود في يوم لاملك الا له تعالى ولا يمكن الفرار فيه من حكمه ومع هذا فانه ينزل البشارات ويعد بالنعيم مما يدل على ان حكمه خير محض وان إنحصار الملك به تعالى يوم القيامة نعمة عظيمة ولكن لا ينهل منها الا الذين إستجابوا لرسله وآمنوا بكتبه وإمتثلوا لأوامره، وإجتنبوا نواهيه.
فتأتي هذه الآية لتخبر عن غرقهم في جلال الله، واكتسابهم النور والفيض ليصيروا مرآة لضياء الجزاء الإلهي، وشاهداً حاضراً على كرمه وإحسانه ولطفه بعباده وخلقه، وتظهر على وجوههم آيات النعم والثواب الحسن.
ومن خصائص الإنسان انه يعتني بوجهه في الدنيا ولا ينحصر هذا الإعتناء بالنساء وربات الحجال بل يشمل الذكور ايضاً، ويحرص على دفع المكروه عن وجهه، ويتخذ يده واقية له عن شعور او لا شعور، وتأتي هذه الآية لتأكد العناية الإلهية بوجوه المؤمنين وسلامتها من الآفات، وعدم الخشية عليها من الأذى الطارئ، ويصبح المؤمنون حريصين على إظهار وجوههم والتفاخر بها باعتبار ان لونها عنوان للثناء والرضا الإلهي عليهم.
ويجتمع في هذه الآية الإعجاز العقلي والحسي، اما الاول فمن وجوه:
الأول: الآية جزء من التنزيل.
الثاني: مافي الآية من الوعد الكريم الذي لا يقبل الشك او الترديد.
الثالث: عظيم النعم التي تذكرها الآية والتي يدركها العقل الانساني بالإقرار بقدرة الله على كل شئ، وعدم استعصاء مسألة عليه، فالتسليم بحصول هذه النعم من مصاديق الإيمان والإعتراف بان الله عز وجل قادر عليها وعلى كل شئ.
ومن أسمائه تعالى (القادر) وتتجلى معاني القدرة باللطف والفيض والنعم الإلهية، فكما أنه ليس من حد للكم والمقدار والكيف في النعم الإلهية، فان عدد الذين يتمتعون بهذه النعم ويخلدون فيها غير محدود لأن هذه الآية تدعو الناس جميعاً للإيمان ونيل مرتبة بياض الوجوه، وهو من خصوصيات البشارة القرآنية وتعدد منافعها من وجوه:
الاول: بشارة المسلمين الذين يعملون الصالحات.
الثاني: تثبيت أهل الإيمان في منازل الصلاح.
الثالث: دعوة المؤمنين للإرتقاء في المعارف الإلهية، وبلوغ مراتب التقوى واليقين.
الرابع: دعوة الناس جميعاً للنهل من نعم الله عز وجل الدنيوية والأخروية، وتدل عليه لغة التنكير في الآية السابقة [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ].
ومن الآيات إنعدام البرزخ والحاجز بين لغة الترغيب الإلهية والناس جميعاً، فمن إعجاز القرآن انه يبعث الى الناس رسائل الترغيب بالجزاء الحسن والثواب العظيم، ويسهل لهم الطريق اليه وذات الترغيب والحث تمهيد وضياء للطريق لنيل الثواب، ومنه هذه الآية وتقديرها: ايها الناس اجتهدوا في جعل وجوهكم بيضاء يوم القيامة، ولا تحرموا أنفسكم من رحمة الله والخلود في النعيم الدائم.
من غايات الآية
يتجلى في الآية الفضل الإلهي على المسلمين لما فيها من البشارات والآيات التي تؤكد تغشيهم برحمة الله في الدنيا والآخرة، وتؤسس الآية قواعد للإصلاح في المجتمعات، وتحارب الكفر بلغة سماوية، ووعد كريم لمن يرجو رحمة الله، فتتجلى نعمة بياض الوجوه غاية وهدفاً سامياً يسعى اليه الناس بالتقوى، والمسارعة في الخيرات، فمن غايات الآية السعي الى مقاصد سامية ومقام كريم في الآخرة، وحث المسلمين على إعلاء كلمة التوحيد ولواء الإسلام، وجذب الناس لسبل الهداية والفوز بنعمة بياض الوجه.
ان مضامين الآية القرآنية وسيلة مباركة لبلوغ غايات كريمة في النشأتين، والفوزبمقامات القرب في الآخرة، وتعمل الآية على نزع الكدورات الظلمانية والبغضاء بين المسلمين لأنها تدعو الى مبادئ واهداف نبيلة تستلزم تظافر الجهود والمساعي لنيلها ، والإحتراز من العوائق التي تحول دون بياض وجوههم في الآخرة، ووظيفة المسلم بذل الوسع للفوز بهذه النعمة ، وإعانة إخوانه المسلمين لنيلها وإحرازها، وإجتناب التفريط بها.
التفسير
قوله تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ]
بعد ان اخبرت الآية السابقة عن فوز شطر من الناس بنعمة بياض الوجوه يوم القيامة، ولم يرد بياض الوجوه الا في هاتين الآيتين ومع هذا فانها لم تذكر الذين ينالون هذه النعمة على نحو التعيين والتفسير، ولكنهم يعرفون بوجوه:
الاول: مجئ الآية السابقة بذكر صفة الذين تسود وجوههم بقوله تعالى [أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] ودلالتها منطوقاً ومفهوماً على نجاة المسلمين من سواد الوجوه يوم القيامة.
الثاني: التبادر والإنصراف الذهني الى إرادة المسلمين ببياض الوجوه.
الثالث: جاءت الآية ببيان طريق الأجر والثواب في الآخرة وهو الإيمان والعمل الصالح.
الرابع: تتضمن الآية وعداً كريماً لأهل التقوى وترغيباً بالصلاح.
الخامس: وجود قرينة في الآية تدل على إختصاص المسلمين ببياض الوجوه، وهي إقامتهم الدائمة في رحمة الله ونيلهم الكرامة في الآخرة، لقوله تعالى [فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ].
ومن إعجاز القرآن ان تستقل آية في موضوع ذي أهمية وخصوصية معينة وهو بياض الوجوه في الآخرة وما يصاحبه من النعم، لتكون هذه الآية سبباً لإنبعاث المسلمين نحو عمل الصالحات، وترغيب الناس بالإسلام ومبادئه، ووسيلة لرؤية التكاليف سهلة، وأداء الفرائض والمناسك بشوق ولذة.
فاذا أدرك الإنسان ان تعبه وعناءه يؤدي الى منافع كبيرة وغايات عظيمة فانه يقبل على العمل ولا يشعر بما يصاحبه من التعب والعناء، لذا ترى المسلمين يقبلون على التكاليف العبادية برغبة، ويحرصون على أدائها في اوقاتها كالصلاة، فمع ان التكرار الدائم للفعل يولد الملل عند الإنسان الا أن تكرار أداء الصلاة لا يولد عند المسلم الا الشوق المتصل اليها، وتلك نعمة جعلها الله مصاحبة للصلاة.
وتظهر الغبطة والسرور على المسلمين في أمصارهم المتعددة عند حلول شهر رمضان وتتغشى المجتمعات والأسر الإسلامية حال من السكينة والسعادة فيه ولا تكون في غيره من الشهور ولاعند أمة من أمم الأرض، وتلك آية اعجازية ينفرد بها الصيام ومقدمة للفرح ببياض وجوه الصائمين في الآخرة بإعتباره ثواباً على العبادة، وكما ينتظر المسلمون نعمة بياض الوجوه في الآخرة، فانهم يحرصون على رصد الشهور وحساب منازل القمر وقدوم شهر رمضان ليتحملوا الجوع والعطش بلذة ورجاء نيل نعمة بياض الوجوه.
وتأتي أيام الحج ليندفع المسلمون من كل صوب وصقع من اصقاع الأرض الى البيت الحرام ويتحملون عناء السفر، وينفقون الأموال الكثيرة طاعة لله، وطلباً لنعمة بياض الوجوه بثمن وجهد يسير في الدنيا، ويخرج المسلمون الزكاة من أموالهم بعد العناء في جمع الأموال وجني الثمار ليشتروا بها نعم الآخرة ورضوان الله.
ان نعمة بياض الوجوه في الآخرة عون للمسلمين لأداء العبادات، وباعث على التفقه في الدين حرصاً على نيل النعمة وعدم الحرمان منها، وسبب لإستدامة الأخوة بين المسلمين وعدم حصول الفرقة والإختلاف بينهم من وجوه:
الأول: الإشتراك في السعي لنيل هذه النعمة، فيعمل كل مسلم لبلوغ غاية بياض الوجوه مما يحصل له تشابه وتماثل في ذات الأفعال، وهو من مصاديق الأخوة الايمانية، فلا يجمع المسلمين نسب وقبيلة واحدة ولكن تجمعهم ماهية العمل الإيماني وأداء الفرائض والعبادات، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثاني: إتحاد الغاية سبب للوحدة والإئتلاف، مع تقييد الغاية بالحسن الذاتي، والصلاح والإستقامة في طلبها، فليس كل غاية سبباً للإتحاد والألفة، ومن أبهى وأجمل وجوه الحسن في الغاية إبتغاء السعادة، وبياض الوجوه في الآخرة.
الثالث: حب المسلم لنيل نعمة بياض الوجه، يجعله حريصاً على مقدماتها واسباب بلوغها وإعانة أخيه المسلم على مشاركته فيها.
الرابع: جاء قبل ثلاث آيات الأمر الإلهي للمسلمين بان يتولوا مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يؤدي الإمتثال فيه الى بياض الوجوه سواء بالنسبة للأمر والناهي، او المأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر المستجيب له.
ويفيد قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، في مفهومه لزوم إستعداد المسلمين لقبول الدعوة، والإمتثال للأوامر والنواهي التي تأتيهم من إخوانهم المسلمين بقيد طاعة الله ليكون نيل نعمة بياض الوجوه بالإمتثال لأحكام الآية اعلاه وبالإستجابة لما فيها من الأوامر وبلحاظ الآيات السابقة فان الذي يفوز بنعمة بياض الوجوه في الآخرة هم المسلمون لإمتثالهم للأوامر الإلهية من وجوه:
الأول: تمسكهم بالقرآن والسنة.
الثاني: حرصهم على عدم الفرقة والإختلاف بين المسلمين وتقيدهم بأحكام قوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا].
الثالث: دعوتهم الى الخير.
الرابع: إستجابتهم للدعوة الى الخير وفعلهم الخيرات وإتيانهم الصالحات.
الخامس: هم الآمرون بالمعروف.
السادس: الذين يمتثلون للأمر بالمعروف منهم.
السابع: قيامهم بالنهي عن المنكر.
الثامن: هم المنتهون عن المنكر، والتائبون الذين يجتنبون الفواحش.
التاسع: بذلهم الوسع في الإبتعاد عن سنة أهل الإختلاف والجحود.
العاشر: هم المؤمنون بآيات القرآن والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمواظبون على أداء الفرائض وعمل الصالحات.
وتكون البشارة في هذه الآية وسيلة سماوية مباركة لارتقاء المسلمين في مراتب التقوى، وأهليتهم لخلافة الأرض. ومن خصائص الخليفة في الأرض ان يأتي يوم القيامة ووجهه مشرق مسفر لاحرازه شرف الخلافة السامي في الأرض، وتنزهه عن الفساد والإفساد، والضلالة والإضلال.
ويتجلى الإعجاز القرآني في ورود الآية بصيغة الماضي عن أمر يقع في المستقبل وفي العالم الآخر من وجوه:
الاول: تبادر ارادة يوم الجزاء من الآية.
الثاني: إفتتاح الآية السابقة بقوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ] الذي يتضمن أموراً:
الاول: إرادة يوم القيامة.
الثاني: مجئ الآية بصيغة المضارع وإفادة المستقبل.
الثالث: ترتب الثواب على عمل الصالحات.
الثالث: تقريب يوم القيامة وكأن القيامة قد قامت وبعث الناس من القبور وإمتاز المسلمون ببياض وإشراقة الوجوه.
الرابع: إفادة صيغة المضارع معنى أعم فلو قالت الآية[وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ] لحملت الآية على أيام الحياة الدنيا ايضاً بتقدير: (وهم الآن في رحمة الله) ولكن الآية أرادت اليوم الأخر والملازمة بين بياض الوجوه والأمن وتعدد النعم الإلهية، لذا فان مجئ صيغة المضارع والماضي لذات اللفظ ( تبيض) في هاتين الآيتين مع إتحاد الموضوع والدلالة آية اعجازية من آيات القرآن واسرار ألفاظه والجمع بين منطوق ومفهوم الآيات والتداخل بينها.
ويؤكد قوله تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ] ما في يوم القيامة من التفصيل والفصل بين الناس بلحاظ الأعمال وان إجتمعوا في مواطن الحشر ومنازل الحساب، وفيه تمثيل ليوم القيامة بلحاظ الأمور الحسية، وصيغ التقريب البياني، وجعل وقائع حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين وعامة الناس.
فيرى المسلم وجه الذي يقف الى جانبه في الصلاة أبيض يشع نوراً، ويميل الحجاج بعضهم الى بعض لما يبعثه بياض الوجه من الشوق والرغبة في النظر خصوصاً وانه سيحصل حتماً بإعتباره وعداً كريماً من الخالق المصور، وبياض الوجه من بديع خلق الله، وعمومات قوله تعالى [خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )، ويأتي يوم القيامة ليكون أكثر حسناً، والحسن في لون الوجه خاصاً بأهل الايمان دون غيرهم.
لقد التفتت الآية الى اهتمام الانسان بوجهه سواء كان ذكراً او انثى، صغيراً او كبيراً، ولان عناية الانسان بوجهه تفوق كثيراً عنايته باي جزء آخر من جسمه، تعلق شطر من الجزاء بالوجه ليكون آية في الحكم الإلهي، وافراد عالم الجزاء ووقوع الحساب بمصاديق الشكر او الجحود في الدنيا، فالذي يشكر الله عز وجل على نعمة الوجه وبديع خلقه وهيئته يأتي ووجهه يوم القيامة أبيض مشرقاً، ومن وجوه الشكر على نعمة الوجه وهيئته أمور:
الاول: تعفير الجبين بالتراب عند السجود خشوعاً لله تعالى.
الثاني: الإنحناء والتطأطأ حال الركوع ليكون التصاق الوجه بالأرض، طاعة لله، وإستغناء عن الدنيا وزينتها.
الثالث: إستقبال القبلة بالوجه وعدم الإلتفات الى غيرها مدة الصلاة بإعتبار ان إستقبال القبلة والتوجه صوب البيت الحرام في الصلاة واجب، ومن الآيات ان يأتي الأمر بالإستقبال بإرادة الوجه قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
ولابد ان الإنسان يوم القيامة يعرف لون وجهه وهل هو أبيض ام أسود، فكيف يعرف المؤمن بياض وجهه ويطمئن اليه، فيه وجوه:
الأول: الشعور الذاتي ببياض الوجه فضلاً من عندالله، فكما يرزق الله المؤمن بياض الوجه فانه سبحانه يتفضل ويجعله يحس ببياض وجهه ويطمئن اليه.
الثاني: وجود مرآة ينظر فيها المؤمن.
الثالث: من خصائص أهل الجنة نيلهم مايشتهون فاذا اراد المؤمن معرفة لون وجهه فانه يراه مباشرة من غير واسطة كالمرآة بل يستطيع ان يرى ببصره لون وجهه، وتكون هذه الرؤية من أسباب بعث الرضا والغبطة في نفسه.
الرابع: ظهور أثر بياض الوجه في وجوه الآخرين، فالمؤمنون يغبطون صاحبه ويزفون له البشارة بالجنة.
الخامس: تولي الملائكة إشعار الناس بألوان وجوهم، وقيامهم ببشارة المؤمن وطرد الخوف والحزن عنه، وتوبيخ الكافر وإخباره بما ينتظره من العذاب الأليم.
السادس: كما يتفضل الله عز وجل بلغة الوعد والوعيد، والجزاء يوم القيامة بصيغة ولون الوجه، فانه سبحانه هو الذي يقوم بإخبار الناس بألوان وجوههم.
وهذا الإخبار على وجوه:
الأول: النص الصريح، واللفظ الذي يفيد المعنى.
الثاني: الثناء على المؤمنين، الذي يعني في مفهومه بياض وجوههم وتوبيخ الكافرين الذي يفيد الدلالة على سواد وجوههم.
الثالث: حصول العذاب للكفار، ونجاة المؤمنين منه، قال تعالى [تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ] ( ).
السابع: نزول السكينة على المؤمنين، وإمتلاء نفوس الكافرين بالفزع والخوف.
الثامن: إنبعاث النور من وجه المؤمن بحيث يبعث الطمأنينة في نفسه، ويشع على ما حوله، وتأثير وجه الكافر بنوع من السواد على ما حوله بما يبعث على الحسرة في نفسه والذم والنفرة من غيره.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، امكاناً ووقوعاً، والله واسع كريم.
ان بياض وجوه المسلمين يوم القيامة يضفي على المحشر رونقاً وبهاء وفيه تذكير بعالم الدنيا، وعمل الصالحات فيها بإعتباره سبباً وعلة للثواب الإلهي. ويبدو جمال وإشراقة تلك الوجوه أبين وأظهر، من وجوه:
الاول: مجئ بياض الوجوه جزاء على حسن العمل في الدنيا.
الثاني: أنه مصداق لفضل الله تعالى على المسلمين.
الثالث: فيه إنجاز لوعد الله تعالى، وإخبار بانه سبحانه صادق الوعد.
الرابع: وصول نعمة الله الى الوجه ببياض ناصع.
الخامس: الكثرة والتعدد في نعمة بياض الوجه، وشمولها لكل أهل الجنان.
السادس: معرفة الملائكة للمسلمين بلحاظ لون الوجوه.
كما تظهر دلالات إضافية لهذه النعمة من خلال سواد وجوه الكافرين يوم القيامة فينقسم الناس إلى قسمين بلحاظ الفارق في الخلقة والهيئة وهو أمر لم يحصل في الحياة الدنيا.
وان حصل تمييز في الدنيا بلحاظ لون البشرة فهو قبيح ومكروه، وخال من الأسباب العقلانية، وقد جاء القرآن بالتفضيل بين الناس بالصلاح والتقوى، وفيه مقدمة للجزاء بلون الوجوه، ثواباً او عقوبة.
واذ تتعالى الأصوات في الحياة الدنيا ضد التمييز على أساس اللون حتى اصبحت مسألة التمييز على اساس اللون ظاهرة عالمية تستحق التصدي لها ومحاربتها دينياً واجتماعياً واخلاقياً وقانونياً، فإن احكام الأخوة في الإسلام تضمنت الوقاية والسلامة منها، ودعوة الناس للتخلص منها بالإقتباس من الإسلام وسيرة المسلمين، مع وتوكيدها على الأخوة الإيمانية.
ويتجلى الاعجاز في الشريعة الاسلامية بالانتفاء المطلق لمسألة التمييز على اساس اللون او العرق ونحوهما، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وتأتي هذه الآية لتبين حقيقة اخروية في عالم الحساب، وهي نيل المؤمن الثواب ببياض الوجه وان كان وجهه اسود في الدنيا، ورمي الكافر بسواد الوجه وان كان لون بشرته في الدنيا أبيض، فيرى الكافر ذو البشرة البيضاء الذي يزدري ويستخف بالمؤمن ذي اللون الاسود انعكاس الأمر يوم القيامة، مع فارق الاذى والعذاب الذي يصاحب السواد، والغضارة والبشارة التي تلازم المؤمن يوم القيامة، ومنها بياض واشراقة وجهه.
وفي قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( )، ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ( ، إما البشرى في الآخرة فمنها تلقي الملائكة إياهم بالبشارة بالجنة والنعيم الدائم ومنهابياض وجوههم، وإعطاؤهم الصحائف بأيمانهم، وحجب الخوف والحزن عنهم.
قانون الوجوه
من إعجاز القرآن ان يأتي بالثواب والعقاب ليكون كل فرد بشارة وإنذاراً، لكن كيف يكون سواد الوجه بشارة الجواب انه بشارة للذين تنزهوا عن أسبابه ومقدماته في الدنيا، واجتنبوا مايؤدي بهم الى سواد الوجوه.
وكذا بياض الوجوه فانه انذار للكافرين والفاسقين لانهم اعرضوا عن مقدماته واسبابه، ويترتب على هذا الإعراض امتلاء نفوسهم بالحسرة والخيبة، قال تعالى[وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ] ( )، وذكرت الآية اعلاه الكذب على الله وجاءت هذه الآيات بذكر الكفر بعد الايمان، مما يدل على تعدد اسباب سواد الوجوه في الأخرة بما يتضمن افراد الجحود والضلالة والفسق.
ولم يأت ذكر بياض الوجوه في القرآن بخصوص الدنيا، في اشارة الى كونه نعمة اعدها الله للمؤمنين في الآخرة، وانها اكبر واعظم من بياض الوجوه المتعارف في الدنيا، انه بياض مشرق يشع نوراً قال تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ]( )، وقال تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ] ( ).
بينما ذكر حال سواد الوجوه بخصوص الدنيا وانه عرض طارئ عند الكفار فيها، قال تعالى [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ]( ).
وفيه تذكير عملي بامكان حصول سواد الوجوه في الآخرة، ودعوة للرضا بقضاء وقدر الله عز وجل، واجتناب السخط والغضب الذي يؤدي الى الجفاء والصدود، وسوء العشرة مع الاهل، وذكر ان احدهم ولدت له بنت، فهجر البيت الذي هي فيه، وقالت زوجته:
مالأبي حمــزة لايأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ان لانلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا
وانما نأخذ ما أعطينا
وجاء ذكر البياض والسواد معاً في آية من آيات الصيام قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] ( )، في دلالة على التداخل بينهما ثم التباين والفصل، وإقتران البياض بالفجر.
ويتباين وينقسم الناس يوم القيامة الى قسمين، قسم وجوههم بيضاء ثواباً لهم، وقسم وجوههم سوداء عقاباً لهم.
وكأن الناس في الدنيا يتعاملون ويتواصلون فيما بينهم، مع الامهال في الدنيا وسعة باب التوبة والإنابة، اما اذا كان يوم القيامة فيحصل بينهم التباين كطلوع الفجر، ليبقى الذين يصومون نهار رمضان في اشراقة وانوار بياض الوجوه.
لقد اراد الله عز وجل للناس نيل بياض الوجوه من وجوه:
الاول: بعثة الأنبياء مبشرين ومنذرين.
الثاني: انزال الكتب السماوية التي تتضمن الدعوة الى الاقرار بالربوبية لله تعالى.
الثالث: الآيات الكونية، وما فيها من الدلائل على وجود الصانع.
الرابع: الأمر باداء الفرائض والواجبات، واجتناب المحرمات.
الخامس: فتح باب التوبة للناس جميعاً.
السادس: انعدام الحواجز بين الإنسان ودخول الاسلام، ومن الآيات ان المرأة قد تدخل الإسلام قبل زوجها وتكون له أسوة وقدوة، فلا موضوعية لاذن الزوج في المقام لتوجه الخطاب التكليفي بوجوب دخول الإسلام الى جميع الناس بعرض واحد.
السابع: الإمهال الإلهي للناس.
الثامن: الإبتلاء والبلاء بما يكون معه التذكير بدخول الإسلام.
التاسع: تقريب العباد من الطاعة، وإعانتهم على ادراك وجوب عبادة الله.
العاشر: ورود آيات البشارة والإنذار في القرآن والتي تخاطب العقول بلغة القريب المحسوس، فتبين هذه الآيات احوال الناس في الآخرة، وكأن القيامة قد قامت كي يبادر الناس الى فعل الصالحات واختيار الطرق المؤدية الى بياض الوجوه، واجتناب الطرق المؤدية الى سواد الوجوه.
ومن الآيات ان التمييز بين هذين القسمين من الطرق لا يستلزم كثير عناء، فان الطرق التي تؤدي الى بياض الوجوه تتصف بالبياض وتشع نوراً تهدي السالكين، واما التي تؤدي الى سواد الوجوه فانها ظلماء تنفر النفس من المشي فيها.
فتأتي هذه الآيات لتخبر بان الغاية التي تؤدي اليها اكثر سواداً، الأمر الذي يستلزم هجرانها وافرادها التي تتمثل بالسيئات والذنوب والمعاصي.
قانون التضاد بين بياض وسواد الوجوه
جاءت هذه الآيات بعلم مستقل من علوم الغيب وسر من اسرار الآخرة، وفيه تفضيل للمسلمين من وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى باطلاع المسلمين على هذا السر الأخروي.
الثاني: معرفة الناس به بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فلولا نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغ الآيات، وتلاوته والمسلمين الآيات لما اطلع الناس على هذه الآيات.
الثالث: البشارة للمسلمين بان وجوههم تكون بيضاء يوم القيامة.
الرابع: شفاء صدور المسلمين في الدنيا والآخرة بسواد وجوه اعدائهم في الآخرة.
الخامس: يرى المسلم وجوه اخوانه المؤمنين في الدنيا مشرقة مسفرة، فتكون الدنيا مرآة للآخرة وتكون الموازين فيها بحسب الأعمال، ويرى وجوه الكفار مسودة وان كانت في أصل الخلقة بيضاء، واذ تحدثت هذه الآية عن العذاب العظيم للكفار فانها اخبرت بان أوان هذا العذاب هو يوم القيامة.
ثم بينت الآية صفة هذا اليوم بوجه من وجوه العذاب للكافرين، ودرجة من وجوه الثواب للمؤمنين.
فلم تذكر الآيات يوم القيامة بالاسم ولكنها ذكرته بوصف لم تذكره به أي آية من آيات القرآن، فذكرته على نحو التنكير (يوم) و عرفته بالوصف الخاص به بلحاظ لون الوجوه [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ]( ).
مما يدل على خصوصية هذه الآيات، وإفرادها باسم خاص ليوم القيامة لم يسمع به الا في هذه الآية، ويتعلق موضوعاً وحكماً بلون الوجوه، وهو شاهد على عدم وجود قسيم ثالث للون السواد والبياض في وجوه أهل المحشر، فاما او ابيض مشرق، أو أسود كالح.
ويمكن استقراء قاعدة كلية من الآية وهي ان الناس يبعثون على هيئاتهم الا ما خرج بالدليل مثل لون الوجه الذي جاءت به هذه الآية الكريمة، والتغيير فيه على نحو الموجبة الكلية.
وصحيح ان من الناس من يكون وجهه ابيض في الدنيا، ولايمانه وعمله الصالحات يكون وجهه بذات السحنة واللون في الآخرة على نحو الثواب، الا ان بياض الوجه في الآخرة أمر مختلف تماماً فانه اشراقة وضياء مبارك، ويأتي جزاء وفضلاً من الله فيشع وجه المؤمن نوراً تغبطه الخلائق عليه.
ومن خصائص هذا البياض عدم طرو التغيير عليه أو ميله للسمرة ونحوها باسباب ذاتية أو خارجية، فصحيح ان صاحبه من الذين [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) وانه لا يشعر بالظمأ والجوع يومئذ الا ان بياض الوجه فضل وهبة ثابتة ودائمة لان الله عز وجل اذا اعطى يعطي بالأوفى والأتم ومنه البياض الناصع المشرق.
ولو اكتفت الآية بذكر بياض الوجوه، لقيل بان يوم القيامة خاص بثواب المؤمنين، او ان بياض الوجوه شامل للناس جميعاً، ولكن جاءت الآية بذكر سواد وجوه الكافرين لدفع وهم، ومنع اللبس والترديد، ولمجئ الآية للتأديب والإصلاح والبشارة والإنذار، وذكر سواد وجوه الكافرين دعوة للمؤمنين للثبات على الإيمان، وزجر للكفار عن الاقامة على الكفر والجحود.
لقد أرادت الآية بيان حقيقة وهي التضاد في الجزاء، فكما ان الإيمان والكفر متضادان، وعمل المؤمن مباين لعمل الكافر، اخبرت الآية بان جزاء الكفر ضد جزاء الإيمان وبينهما تضاد وتباين تام ولا يلتقيان ابداً لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، واذ كان بامكان الفاسق التستر على ذنوبه في الآخرة وتحرم غيبته لما يخفيه ويستره من الذنوب، فان الظالم يكون في الآخرة مفضوحاً ليس بذات الفعل فحسب بل بوجه من وجوه الجزاء وهو سواد الوجه الذي يلتقي فيه الكفار والجاحدون بالربوبية والنبوة.
قانون بشارة الوجوه
يتضمن القرآن البشارة والإنذار، ومن الآيات عدم التداخل في الأحكام والمواضيع الخاصة بكل فرد منهما، فموضوع البشارة غير موضوع الإنذار وذات التباين بين حكمهما ظاهر وجلي، ومن منافعه انتفاء الجهالة والغرر.
ومن آيات القرآن ان تأتي مضامينه بينة ويستطيع كل إنسان ذكراً او أنثى ان يدرك معاني ألفاظه، ومضامين آياته، مع الإقرار النوعي العام بتعدد الكنوز في كل آية من آياته، ومع التضاد بين البشارة والإنذار موضوعاً وحكماً، فانه قد تجمع بينهما آية واحدة من غير تداخل أو تزاحم فكل له موضوعه.
ومن منافع هذا الجمع جعل الإنسان يحاسب نفسه، وينظر هل يستحق تلقي البشارة أم أنه متخلف عنها، كما يعرف من خلالهما مقامه في الآخرة.
واذ ان لون الوجوه يوم القيامة لم يذكر في القرآن إلا في هاتين الآيتين ففيهما مسألتان:
الأولى: تضمن الآية السابقة للبشارة ببياض الوجوه للمؤمنين، والإنذار بسواد الوجوه للكافرين.
الثانية: اختصاص هذه الآية بالبشارة ببياض الوجوه، فتختص هذه الآية بالبشارة، وتجتمع البشارة والإنذار في الآية السابقة، وتعدد البشارة واتحــاد الإنذار رحمــة من عند الله ودعــوة للإيمــان، وحـث على السعي لإكرام الإنسان لوجهه وما له من الشأن والموضوعية في بدنه وحياته ومقامه.
ومن بديع خلق الإنسان ظهور أمارات الأسباب الطارئة على وجهه كالخوف والحزن والفرح والخجل والألم والحياء، وفيه مقدمة وإشارة لضرورة عناية الإنسان بوجهه يوم القيامة، واذ يتمكن الإنسان من إخفاء ما يفعله، ولا تظهر دلائله على وجهه فانه يوم القيامة لا يستطيع إخفاء عمله، وتكون هناك ملازمة ثابتة بين لون الوجه وماهية الفعل.
وتعرف الخلائق كلها في المحشر عمل الإنسان في الدنيا بلون وجهه يوم القيامة، فمن كان لون وجهه أبيض فانه من أهل الإيمان الذين عملوا الصالحات وتتلقاه الملائكة بالبشرى، وتغمره الغبطة والسعادة، ويكون الخوف من أهوال المحشر ممتنعاً عليه، والحزن على ما فات مبتعداً عنه.
علم المناسبة
لقد أكرم المؤمن وجهه في الدنيا باسباغ الوضوء وغسله خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب وبقصد القربة مقدمة للصلاة لقوله تعالى في آية الوضوء [فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ]( )، والتوجه الى القبلة في أداء الصلاة طاعة لله وامتثالاً لأوامره، قال سبحانه [وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره]( ).
وقام المسلمون بأداء صلاة الجماعة في المساجد فتفضل الله سبحانه وأكرمهم يوم القيامة ببياض الوجوه.
وجاء لفظ (وجوهكم) بصيغة الخطاب ثمان مرات في القرآن، وهي على قسمين:
الأول: ورد لفظ (وجوهكم) سبع مرات خطاباً للمسلمين وفيه مسائل:
الأولى: جاء اللفظ مرة واحدة بخصوص الوضوء كمقدمة واجبة للصلاة، قال تعالى [فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]( ).
الثانية: جاء ثلاث مرات بالتوجه الى القبلة، والمراد الكعبة على نحو التعيين والحصر مرتين بقوله تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( )، ومرة بالمعنى الأعم وإفادة الصلاة بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ).
الثالثة: مرة واحدة في بيان أولوية الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى [ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر…]( ).
الرابعة: جاء لفظ (وجوهكم) مرتين بخصوص التيمم، قال تعالى [فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ]( ).
الثاني: جاء لفظ (وجوهكم) خطاباً للكافرين مرة واحدة في القرآن في تخويف لبني اسرائيل في قوله تعالى [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ..]( ).
كما ورد اللفظ بصيغة الضمير الغائب (وجوههم) في سبع عشرة آية منها أربع مرات خاصة بالمسلمين، واحدة في الثناء عليهم في الحياة الدنيا بقوله تعالى [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ]( )، وتتضمن ثلاثة منها البشارة للمسلمين والإخبار عن منازلهم ومقامهم الكريم في الآخرة، منها قوله تعالى [تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ]( ).
وجاء لفظ (وجوههم) ثلاث عشرة مرة في التخويف والوعيد للكفار، وما ينتظرهم يوم القيامة من العذاب الأليم، وتعرض وجوههم التي يحرصون عليها في الدنيا الى حر النار.
قوله تعالى [فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ]
بعد الإخبار الإلهي بنعمة بياض الوجوه التي ينالها في الآخرة أهل الإيمان والتقوى، جاء هذا الشطر من الآية لبيان نعمة أخرى متصلة ومتداخلة معها وتختص ايضاً بأهل الإيمان، وهي حلول بيض الوجوه في رحمة الله وإحاطتهم بالنعم الأخروية، وتحتمل الآية وجوهاًً:
الأول: شمول كل الذين تبيض وجوههم بالإقامة في رحمة الله على نحو المطابقة والإشتراك.
الثاني: إختصاص فريق منهم بهذه النعمة.
الثالث: إستثناء عدد من الذين تبيض وجوههم من الشمول بهذه النعمة.
الرابع: شمول غير الذين تبيض وجوههم بهذه النعمة بإعتبار ان رحمة الله تعالى أعم وأوسع، وان إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
والصحيح هو الأول فهذه النعمة خاصة بالذين تبيض وجوههم، وشاملة لهم جميعاً من غير إستثناء، وهذا الشمول من اللطف الإلهي بالمؤمنين والناس جميعاً من وجوه:
الاول: إنه لطف بالمؤمنين في الدنيا ببشارتهم بعالم الملكوت والإقامة في رحمة الله تعالى.
الثاني: لطف بغير المسلمين في الدنيا، بدعوتهم للإنتفاع من هذه النعمة والفوز برضوان الله في الآخرة، وهو من منافع وبركات القرآن وتوجه خطاباته للناس جميعاً.
ومن الآيات ان النبي محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلو الآيات على الناس بصورة علنية، وليس من آيات القرآن ماهو محجوب عن الناس في أي زمان أو مكان، بل يجتهد المسلمون لإيصاله الى أسماع الناس وبيانه وتفسيره بمختلف اللغات، وتأتي قراءة القرآن في الصلاة دعوة يومية للناس للسعي لبياض الوجوه.
ومن الآيات ان الدعوة الى بياض الوجوه في الآخرة لا تنحصر بهذه الآية التي تتضمن النص الجلي على هذه النعمة، بل كل آية من القرآن تدعو الى نيلها لان آيات القرآن تشترك بالدعوة الى التوحيد وعبادة الله، وهو من رحمة الله في الدنيا للناس جميعاً.
الثالث: لطف بالمؤمنين في الآخرة لفوزهم بمرتبة بياض الوجوه يومئذ، وانتفاعهم من هذه النعمة وإستجابتهم للدعوة الى الإيمان والتصديق بالنبوة فالدعوة تتوجه الى الناس جميعاً في الدنيا، ولكن الكافرين يحجبون عن أنفسهم نيلها والفوز بها، ويسببون في حرمان أنفسهم وأحياناً ذويهم معهم بالعناد والإستكبار، فجاءت هذه الآية خطاباً لكل مكلف على نحو الإستقلال مع انحلالها بالتوجه الى المسلم بصيغة البشارة، والى غيره بمضامين الإنذار والتنبيه والدعوة الى الإيمان، ولم تذكر الآية المؤمنين بالصفة وانهم هم الذين ينالون رحمة الله في الآخرة، وفيه وجوه:
الأول: دلالة سياق الآيات على إرادة المؤمنين.
الثاني: مناسبة الموضوع والحكم، وان المؤمنين هم الذين يستحقون الثواب ويفوزون بفضل الله ورحمته في الآخرة.
الثالث: خروج الكفار بالتخصص من نعمة بياض الوجوه في الآخرة، ومجئ الآية السابقة بالإخبار عن سواد وجوههم.
الرابع: التبادر الذهني وهو من علامات الحقيقة، فكل من يقرأ هذه الآية يتبادر الى ذهنه فوز المسلمين بالنعم المذكورة في الآية الكريمة.
الخامس: إقامة الحجة على الناس لانهم جميعاً يعلمون من هم أهل هذه الآية، وكيف انها خاصة بالمسلمين.
السادس: تدل الآية على الإرتقاء في المعارف الإلهية عند المسلمين.
السابع: التفسير الذاتي للقرآن، ومجئ الآيات الأخرى شواهد على المقاصد السامية في هذه الآية، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ] ( ).
الثامن: تفسير السنة النبوية للقرآن وورود الأحاديث التي تؤكد فوز المسلمين برحمة الله، ومن معاني الظرفية في المقام [فِي رَحْمَةِ اللَّهِ] ان رحمته تعالى موضوعاً ومحلاً وشأناً أمر تدركه الحواس، وجاءت الآية لتقريب المدركات العقلية بأمور حسية لترغيب الناس بالعبادة، والسعي لنيل مراتب الآخرة.
ولو دار الأمر في المقام بين الإطلاق والتقييد، وهل رحمة الله مطلقة ام مقيدة، فالصحيح انها مطلقة لأصالة الاطلاق، ولان الوعد الإلهي يأتي بصيغة الأتم والأكمل، ولمنطوق الآية وما تدل عليه من مفاهيم السعة والكمال والتمام في معاني الرحمة والعفو والمغفرة، والظفر بالأماني.
ويمكن معرفة الأسرار القدسية في هذه الآية بلحاظ الآيات القرآنية الكثيرة التي جاءت في بيان أهوال يوم القيامة، وما ينتظر الكفار من العذاب يومئذ، والآيات التي تبين مواطن البعث والنشور وتطاير الصحف والحساب في الآخرة، والتي تبعث على الفزع والخوف في النفوس.
وهذه الآية برزخ وواقية وحرز للمسلمين من الخوف من اهوال يوم القيامة بإخبارهم بانهم في مأمن منها، ان كل إنسان محتاج الى رحمة الله في الآخرة، وهذه الحاجة على وجوه:
الاول: الحاجة الى رحمة الله على نحو الإجمال.
الثاني: الحاجة الى كل فرد من أفراد رحمة الله.
الثالث: إستدامة الحاجة الى المتعدد من رحمة الله في كل آن من آنات الآخرة.
والصحيح هو الأخير، فكما يحتاج الإنسان رحمة الله في كل آن من آنات حياته في الدنيا، فانه يحتاج اليها في الآخرة على نحو متصل مستديم، بل تكون الحاجة في الآخرة أشد وأكثر.
قانون رحمة تدعو الى رحمة
تتضمن هذه الآية الإخبار عن حال بيض الوجوه في الآخرة، وفيه لغة الإنشاء، خصوصاً وان تقسيم الجملة الى خبرية وإنشائية تقسيم إستقرائي، وغايات الآية القرآنية أعم وأكبر من ان تدركها عقول البشر والتقسيمات البلاغية، وقواعد الصناعة النحوية، فالآية وان جاءت بصيغة الخبر وبيان حال أهل الإيمان في الآخرة، الا ان المراد منها الإنشاء والدعوة والخطاب الذي ينحل في توجهه الى جهات:
الاولى: المسلمون وفيه وجوه:
الاول: بشارتهم بما ينتظرهم في الآخرة.
الثاني: دعوتهم للثبات على إلايمان.
الثالث: ندبهم لحث الناس على الإنتفاع من الحياة الدنيا لنيل النعم الأخروية.
الثانية: أهل الكتاب والكفار من وجوه:
الاول: دعوتهم للفوز بالغرق في رحمة الله في الآخرة بالإنتماء للاسلام.
الثاني: حثهم على ترك الإختلاف والشقاق وترغيبهم بالإلتفات الى وظائفهم الشرعية.
الثالث: إخبارهم بان الدنيا دار زوال، وتوكيد ضرورة إتخاذها مزرعة للآخرة ويوم الجزاء.
الرابع: زجرهم عن التعدي على المسلمين ومحاولات الإضرار بهم.
لقد جاءت الآية للإخبار عن الرحمة الإلهية في الآخرة، ليكون هذا الإخبار نفسه رحمة للناس جميعاً، وتلك آية اعجازية من آيات القرآن ان تكون الآية منه رحمة دنيوية وقائمة بذاتها، وتدعو وتبشر برحمة أخروية، وكل الناس في الدنيا في رحمة الله ينالهم نصيبهم من الرزق، ويتنعمون بالحياة الدنيا وتأتيهم البشارات والإنذارات، ومنها هذه الآية فهي بشارة بالنعيم الأخروي، وإنذار لمن يحرم منه.
فان قلت لماذا يجتمع الإنذار مع الحرمان، الجواب ان الحرمان ذاتي فالكافر هو الذي يحرم نفسه من رحمة الله في الآخرة بالإعراض عن الآيات، والجحود بالمعجزات، والتفريط بالوظائف والعبادات، فتكون عاقبته الى النار بما كسبت يداه، فجاءت الآية لتبعث في نفسه الشوق الى الصلاح، ويسهل على كل إنسان إختيار الإيمان من وجوه:
الاول: دلالة الآيات الكونية على وجود الصانع.
الثاني: العقل رسول باطني يقود الإنسان نحو الهداية.
الثالث: آيات الأنبياء، والتي تتوجت بالمعجزة العقلية الخالدة القرآن.
الرابع: تعاهد المسلمين لأحكام الشريعة، فهذا التعاهد دعوة للناس جميعاً للإيمان.
الخامس: لغة الوعد والوعيد في القرآن والكتب السماوية المنزلة قبله ومنها هذه الآية التي تتضمن الوعد والوعيد، الوعد بمنطوقها في صيرورة أهل الإيمان برحمة الله، والفوز برضوانه، والوعيد الى الكفار بخسارتهم وحجبهم عن هذه النعمة العظيمة.
والوعد الكريم في الآية خطاب للناس جميعاً، فصحيح أنه خاص بالمؤمنين الا أنه رحمة بالكفار ايضاً لما فيه من دعوتهم للهداية والإيمان خصوصاً وانه ليس من برزخ او حاجز يمنعهم عن الإيمان والفوز بهذه النعمة، او شرط يؤخر نيلهم لها.
فبالنطق بالشهادتين يتحول الوعيد في هذه الآيات الى وعد كريم، ويتغير الخطاب من الإنذار والوعيد بسواد الوجه يوم القيامة، الى البشارة والوعد الكريم بالجنة والسعادة والبحبوحة في رحمة الله، لذا فان الآية رحمة مركبة، رحمة بالمسلمين بالبشارة والوعد الكريم، ورحمة بالكفار بدعوتهم لنيل هذه الرحمة.
ومن مصاديق الرحمة في الآية انها تدعو المسلمين للثبات في منازل الإيمان باعتبار ان الثواب الأخروي غاية عظيمة تستحق إتصال السعي لنيلها الى حين الأجل لذا جاءت الآيات السابقة بالحث على عدم مغادرة الدنيا الا برداء الإيمان قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
ومن الآيات ان هذا الثبات دعوة للناس للايمان، فالمسلمون رواد الهداية والإيمان، واهل العقول والبصائر ادركوا ضرورة الإيمان، وعدم التفريط بالرحمة الإلهية في الآخرة وبهذا يكونون أسوة لغيرهم، ودعاة للصلاح ونبذ الكفر والفرقة والإختلاف كما ان مجئ هذه الآيات حث وندب للمسلمين على تعاهد نعمة الأخوة وإتخاذها وسيلة لإكتناز الصالحات، وترغيب الناس بالاسلام ومافيه من النعم.
قانون اجتماع البياض والرحمة
من إعجاز القرآن وتعدد معاني ألفاظه وإحاطتها باللامنتهي ان تأتي الآية القرآنية متكونة من بضع كلمات ولكن مضامينها توليدية وتتفرع عنها مسائل ودروس عديدة، فكل آية مدرسة جامعة فقهية وعقائدية وأخلاقية.
وجاءت هذه الآية للإخبار عن حال المسلمين في الآخرة ولكنها تتضمن الدعوة الى الصلاح وتهذيب الأخلاق، وسيادة السنن الحميدة، ونزع الكدورات الظلمانية، وترك الفرقة والإختلاف، لأن إتحاد الغاية وإتصافها بالحسن يوحد القلوب وينقح عالم الأعمال ويجعل المحبة والتعاون سمة تتغشى الناس في عباداتهم ومعاملاتهم.
وتضمنت هذه الآية الكريمة الإخبار عن حال أهل الإيمان في الآخرة بذكر نعمتين يختصون بهما هما:
الاولى: بياض الوجوه.
الثانية: الإقامة في رحمة الله.
ويدل ذكرها على انتفاء الكآبة والحزن والخوف عنهم، وعصمتهم من الأذى والعناء والضنك والعذاب في الآخرة، فمن يكون في رحمة الله لا يخاف سخطه وغضبه تعالى، لعدم إجتماع الضدين، ولأن الآية جاءت بلغة البشارة والإخبار عن الثواب الجزيل، ومن الآيات ان تجتمع النعمتان معاً ويحتمل اجتماعهما في الآخرة وجوهاً:
الأول: التباين الزماني بين النعمتين، فكل نعمة لها أوان مخصوص وهو على وجوه:
الاول: تقدم نعمة بياض الوجوه على نعمة الإقامة في الثواب الدائم والسعادة الأبدية باعتبار ان المراد ببياض الوجوه إشراقها، وكونها مقدمة للفوز بالنعم الاخروية والوعد الكريم.
الثاني: سبق رحمة الله على نعمة بياض الوجوه زماناً، خصوصاً وانها تتغشى المؤمن من حين دخوله القبر.
الثاني: بين نعمة بياض الوجوه والإقامة في رحمة الله عموم وخصوص مطلق، فبياض الوجوه من نعمة الصيرورة في رحمة الله التي هي أعم وأوسع.
الثالث: إستقلال كل نعمة منهما، فبياض الوجوه نعمة وفضل من عندالله، وكذا الصيرورة في رحمة الله.
الرابع: الإجتماع بين النعمتين.
والصحيح هو الأخير، وهو لا يتعارض مع الوجه الثالث والثاني، فكل نعمة هي رحمة من عندالله، وأكثر مايكون الإنسان محتاجاً الى رحمة الله يوم القيامة، ومن فضله تعالى في المقام وجوه:
الاول: البشارة والوعد الكريم بالنعم الأخروية كما في هذه الآية الكريمة.
الثاني: نزول القرآن مقدمة لفوز المؤمنين بالأجر والثواب.
الثالث: الإنذار والوعيد للكافرين، وبيان شدة العذاب، الذي يتضمن سواد وجوههم يوم القيامة.
الرابع: مجئ الآية باجتماع نعمتين من نعم الآخرة ونيل كل مسلم لهما على نحو الاجتماع والتداخل.
لقد جاءت بعثة الأنبياء والكتب السماوية رحمة بالناس، ففي كل زمان تتغشى الرحمة الإلهية الناس بنزول الكتاب السماوي وما فيه من الدعوة الى الاسلام، وبخصوص التوراة قال تعالى [وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً] ( ).
ومن مصاديق الرحمة في الكتب السماوية السابقة بشارتها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالبشارة بالجنة وبياض وجوه المؤمنين واقامتهم في النعيم الدائم وهو من وجوه تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين.
وفي شمول الآية للمسلمين قبل البعثة النبوية الشريفة من أتباع الانبياء السابقين او عدمه وجوه:
الاول: الآية عامة بصفة خاصة، فتشمل كل الموحدين من ايام ابينا آدم عليه السلام والى يوم القيامة.
الثاني: اختصاص المسلمين بما في الآية من النعم.
الثالث: مجئ النعم للمؤمنين من اصحاب واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى يوم القيامة على نحو التمام والكمال، ومجيؤها على نحو الموجبة الجزئية لمن سبق من المسلمين.
الرابع: إختصاص الأنبياء جميعاً والمسلمين بإجتماع النعمتين.
الخامس: الآية خاصة بالأنبياء والمؤمنين من المسلمين، باعتبار ان بين المؤمنين والمسلمين عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس.
والصحيح هو الاول، اذ تتضمن الآية وجوهاً:
الأول: تشريف وإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: نزول الوعد الكريم للمسلمين بواسطته.
الثاني: إخباره بما تناله امته من المقام الكريم في الآخرة.
الثالث: التوكيد القرآني بما يناله اصحاب واتباع الأنبياء من الأمم السالفة من النعيم.
الرابع: دعوة الناس لتصديقه واتباعه والفوز بالجزاء الحسن الذي ينتظر المؤمنين برسالته.
الثاني: بشارة المسلمين بحسن العاقبة، وطيب الإقامة، والنجاة من العذاب في الآخرة.
الثالث: توكيد عدم ضياع أعمال المسلمين من الأمم السالفة، ودعوة المسلمين لإكرام أصحاب الأنبياء بذكرهم ذكراً حسناً، ومعرفة صبرهم وجهادهم.
ومن اسماء الله تعالى (الكريم) و (الجواد) واذا اعطى يعطي بالأوفى وتشمل نعمة اجتماع بياض الوجوه والإقامة في الجنان المسلمين جميعاً فضلاً من عندالله، وهو من خصائص مجئ الآية بصيغة التنكير، وعدم تقييد الوجوه بالاضافة الى المسلمين خاصة بل تشمل الموحدين من الامم السابقة الذين آمنوا واتبعوا نبي زمانهم، وتلقوا البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والقبول، فلم تقل الآية (يوم تبيض وجوه الذين آمنوا) بل جاءت مجملة ومبينة بآيات اخرى ومضامين اختصاص المؤمنين بدخول الجنة.
ان اجتماع نعمة بياض الوجوه، والخلود في النعيم دعوة للناس جميعاً للفوز بهما، وضرورة المبادرة الى الإسلام، ونبذ الفرقة والإختلاف، واسباب الشك والريب، والإخبار عن اجتماعهما في هذه الآية اعجاز قرآني وشاهد على إخبار القرآن عن علم الغيب بوعد كريم.
قانون الرحمة الدنيوية والأخروية
المتبادر الى الاذهان ان رحمة الله عامة تتغشى الخلائق كلها، وأصل خلق الإنسان رحمة قائمة بذاتها، وتعاهده في ليله ونهاره نعمة أخرى، بل كل نفس يتنفسه الإنسان هو نعمة عظيمة لا يقدر عليها الا الله تعالى، ولا يجري الا باذن منه تعالى.
وهو من مصاديق النعمة التي قال الله فيها [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )، ورحمة الله على اقسام:
الاول: دنيوية، وهي مصاحبة للانسان في حياته كلها، وتعتبر من الكلي المشكك الذي يتباين كثرة وقلة، وقوة وضعفاً، وتدريجياً ودفعة من إنسان الى آخر، ومن نعمة الى أخرى، وتأتي مباشرة من عندالله، وبالواسطة مع تعدد الواسطة منها النبي، والكتاب المنزل، والمؤمن والآية الكونية وغيرها، قال تعالى [وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا]( )، في إشارة الى تغشي رحمة الله الناس جميعاً على تباين مللهم.
الثاني: الرحمة الأخروية: وهي التي ينالها المؤمن في الآخرة.
وبين الرحمة الدنيوية والأخروية عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الاول: مجيؤها من عندالله.
الثاني:الرحمة الإلهية فضل ولطف من الله، وليس عن استحقاق من العباد.
الثالث: تعدد مصاديق وافراد الرحمة الإلهية وكثرة فروع كل نعمة.
الرابع: انتفاء القيد في الرحمة الإلهية فهي مطلقة.
الخامس: اتساع الرحمة الإلهية بالدعاء والتطوع الى الله سواء كانت رحمة الله في الدنيا ام في الآخرة.
اما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الاول: عموم الرحمة الإلهية في الدنيا، وشمولها للناس جميعاً في الغالب، اما الرحمة الإلهية في الآخرة فهي خاصة بالمؤمنين وقد تأتي رحمة خاصة بالمؤمنين فضلاً من عندالله لتثبيتهم على الإيمان، وجزاء عاجلاً لهم، ومقدمة للثواب الدائم، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
والرحمة إلإلهية في الأخرة أكبر وأعظم من الرحمة في الدنيا، وتتصف بالدوام لخلود المؤمنين في الجنة وفي الحديث (ان لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) ( ).
الثالث: تأخر الرحمة الإلهية زماناً بلحاظ تأخر الآخرة عن الدنيا.
الرابع: الوعد الإلهي الكريم في الكتب المنزلة بالرحمة الأخروية، وهذا الوعد من الرحمة الدنيوية مما يدل على الترابط والتداخل بين طرفي الرحمة.
الخامس: الرحمة الدنيوية واسطة ووسيلة لنيل الرحمة الأخروية، فتأتي رحمة الله عز وجل للعبد في الدنيا لتكون عوناً له على إتيان الفرائض وفعل الصالحات وإمتلاء النفس بالخوف والخشية من الله كي يرزقه الله الأمن والسكينة وبياض الوجه في الآخرة.
الثالث: الجامع للرحمة الدنيوية والأخروية، اذ تأتي بعض مصاديق الرحمة لتكون دنيوية واخروية معاً، وتقسيم الرحمة هنا وذكر الدنيوية والاخروية هو تقسيم استغراقي بياني.
ومن مصاديق الجامع للرحمة الإلهية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ أرسله الله عز وجل للناس جميعاً لإنقاذهم من براثن الضلالة والكفر، والأخذ بايديهم نحو منازل الرحمة الإلهية الأخروية التي يعجز الإنسان عن وصف فرد واحد منها مع سعة التصور الذهني، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وبعثة النبي والرسول مطلقاً رحمة من عندالله قال تعالى [ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا]( )، والجمع بين الآيتين أعلاه يدل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد وجوه الرحمة في رسالته من وجوه:
الاول: بعثة النبي زكريا عليه السلام نعمة ورحمة، مما يدل بالأولوية على ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة.
الثاني: عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الناس جميعاً.
الثالث: رسالة النبي محمد رحمة للأجيال المتعاقبة من الناس والى يوم القيامة، فليس من إنسان الا ويتوجه له الخطاب القرآني بالإيمان والإقرار بالتوحيد، وهذا العموم والإستغراق واستدامة الدعوة لطف إلهي تجلى في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآية لتبين وجهاً من وجوه الرحمة الإلهية بذكر فردين من النعم الخاصة بالمؤمنين يومئذ، وهما إشراقة الوجوه، وإمتلاؤها نوراً وبهاء، والإقامة في دار الكرامة والنعيم الدائم، ومن الرحمة الإلهية بيان النعم الأخروية ليسعى الناس جاهدين لنيلها، والتقيد بأحكام الشريعة وسنن النبوة باعتبار ان كل حكم من أحكام الحلال والحرام هو رحمة للناس وهداية وإرشاد، وفي الامتثال له أجر وثواب عظيم.
وتعتبر الآية محل البحث من الرحمة الدنيوية والأخروية من وجوه:
الاول: مجيؤها في دار الإبتلاء والإمتحان والإختبار.
الثاني: تتضمن الآية الكشف عن سر من أسرار الآخرة، وعالم الغيب ليكون هذا الكشف عوناً للمسلمين.
الثالث: إنذار الكافرين من الجحود وحرمان أنفسهم من الرحمة الأخروية وإقامة الحجة عليهم، لذا تضمنت الآية السابقة ملازمة التوبيخ لعذاب الكفار، قال تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ].
قانون في رحمة الله
من أسماء الله تعالى (الرحمن) و(الرحيم) وقد أمر الله تعالى بالرحمة بين العباد وحث عليها، وأثنى على المؤمنين الذين يتواصون بالصبر والرحمة، وينشرون مفاهيم الرحمة والرأفة بينهم في القول والعمل، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
ومن ابهى معاني الحياة الدنيا اشاعة الرحمة واستغراقها الناس جميعاً مع التباين والتعدد في الملة والمصر والإنتماء، ومن الآيات ان الذي يعمل بموازين الرحمة لن يخسر ولن يندم على اختياره الشفقة والرحمة.
وكل انسان محتاج الى رحمة الله تعالى من وجوه:
الاول: الإنسان ممكن.
الثاني: الحاجة ملازمة للإمكان، فكل ممكن محتاج الى غيره.
الثالث: تحتاج الخلائق رحمة الله، فليس من مخلوق الا وهو محتاج لرحمة الله ابتداء واستدامة.
ومن الآيات ان الحاجة الى رحمة الله ملازمة للإنسان وديمومة حياته، ولا تنحصر حاجة الإنسان الى رحمة الله في الدنيا وحدها، بل يكون اكثر حاجة لها في الآخرة، واذا كان للانسان اختيار في الدنيا يستطيع من خلاله ان يجلب عليه شأبيب الرحمة الإلهية فانه لاخيار له في الآخرة لانها حساب بلاعمل.
وتكون موازين الرحمة بحسب ما عمله الانسان في حياته من خير او شر، وجاءت هذه الآية الكريمة لتخبر عن سعة رحمة الله في الآخرة، وتدعو كل انسان للغرق في انوارها، والعيش بكنفها، والالتجاء اليها من الخوف والحزن وأهوال عالم البرزخ ويوم القيامة، ومن رحمة بالناس جميعاً عدم انغلاق باب الرحمة الإلهية عليهم او على شئ من الخلائق قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( )، لتشمل رحمة الله عز وجل اقوال وأفعال الإنسان، ومضاعفة الحسنات، ومحو السيئات، وقبول التوبة، واقالة العثرة، ومن رحمة الله إلاخبار الكريم في هذه الآية، وفيه امران:
الاول: بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة، وانبعاث النور منها ثواباً، واشعاراً بالكرامة في يوم الجزاء، ووقاية من الأذى والعذاب في مواطن يوم القيامة، وبشارة ومقدمة لدخول الجنة.
الثاني: الوعد الكريم بإقامة المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رحمة الله.
وجاءت الآيات الكريمة بوصف القرآن بانه رحمة من الله في دلالة للأخذ من القرآن والصدور عنه، وإخبار بأن العمل بمضامينه يؤدي الى الفوز بالرحمة الإلهية في الآخرة.
ومن سعة رحمة الله تعالى ان الطريق الى رحمته في الآخرة هو رحمته في الدنيا، فان قال شخص كيف السبيل الى إحراز رحمة الله في الآخرة، وهي دار حساب بلاعمل، يكون الجواب ان رحمة الله في الدنيا هي الطريق اليها، وما دامت رحمته تعالى واسعة تتغشى الخلائق كلها فان السبيل الى الفوز برحمته تعالى في الآخرة أمر سهل ويسير، يتجلى بالإنقياد الى أوامره.
ومن خصائص الرحمة الإلهية جذب الناس اليها، ومن مصاديقها أمور:
الاول: المعجزات التي جاء بها الانبياء.
الثاني: آيات الرزق والسعة.
الثالث: صدق الابتلاء، وآيات اللطف في تقريب العباد.
الرابع: شفاء المرض وصرف المكروه.
الخامس: النكاح وما فيه من المودة والرحمة وانجاب الاولاد لتكون آيات يتدبر من خلالها الإنسان في النعم الإلهية فيبادر الى شكره تعالى باداء الفرائض والعبادات.
ومع سعة رحمة الله فلا ينالها يوم القيامة الا اهل الشكر والايمان قال تعالى [يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( )، وصحيح ان هذه الآية جاءت بخصوص عالم الآخرة الا ان رحمة الله اعم من الدار الآخرة، وتصيب الناس جميعاً في الحياة الدنيا، فكل انسان في الدنيا هو في رحمة الله.
اما في الآخرة فان اهل الايمان هم الذين يقيمون في رحمة الله، ويمكث أهل الكفر والضلالة في النار ويلاقون العذاب الاليم لانهم جحدوا بآيات الرحمة الإلهية في الدنيا، وانشغلوا بالملذات واللهو والجدال والعناد، ولم ينتفعوا من الرحمة الإلهية والإمهال وأسباب الدعوة الى الله واصموا آذانهم فحرموا من نعمة بياض الوجوه، ونعمة الكون الدائم في رحمة الله، ومع ان بياض الوجوه يوم القيامة من رحمة الله فان الآية الكريمة جاءت بالظرفية والصيرورة في رحمة الله، وفيه وجوه:
الأول: تعدد مصاديق نعمة الله.
الثاني: سعة رحمة الله في الآخرة.
الثالث: عدم خروج المؤمنين من رحمة الله، فهو مقيمون فيها على نحو مستديم، وهي محل كريم، ولا أحد يرغب في مغادرة رحمة الله يوم القيامة.
الرابع: إظهار وتوكيد نعمة بياض الوجوه.
الخامس: بياض الوجوه نعمة تتعلق بالوجه واللون، ورحمة الله اعم وتشمل ذات الانسان واقامته.
السادس: من افراد نعمة الله في الآخرة نيل المؤمن رغائبه سواء تلك التي كان يتمناها في الدنيا، او التي يشتهيها في الآخرة.
السابع: إطلاق مضامين الرحمة، وعدم انحصارها بوجه دون آخر.
وتبين الآية ان الكون الدائم في النعيم من رحمة الله، وان رحمته تعالى تتغشى المؤمنين وغيرهم في الآخرة لسعة المحل والظرف بالنسبة للحال، فالملائكة مثلاً في رحمة الله، ورحمة الله ليس امراً مستحدثاً بل هي دائمة ومتصلة وأزلية باقية الى الأبد، ولا يطرأ على خزائنها وكنوزها نقص نتيجة تنعم المسلمين وانتفاعهم منها.
قانون مواطن رحمة الله
جاءت الآية بالإخبار عن بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة وصيرورتهم في رحمة الله جزاء لهم على حسن امتثالهم للأوامر الإلهية، ولم تحدد الآية موضعاً للظفر برحمة الله بل جاءت مطلقة في تعلقها في عالم الآخرة، وتحتمل وجوهاً:
الأول: المراد الجنة والنعيم الدائم، فينحصر موضوع الآية بعالم الثواب بعد الحساب ومنازل البعث والنشور.
الثاني: المراد الثواب الإلهي في الآخرة وهو على شعبتين:
الاولى: تعدد وجوه الثواب.
الثانية: انحصاره بالمكث الدائم في الجنة.
والصحيح هي الأولى ، أي تعدد وجوه الثواب وتدل عليه هذه الآية، وما فيها من الإخبار عن بياض وجوه المسلمين في الآخرة.
الثالث: شمول الآية لمصاديق العفو والمغفرة، بالإضافة الى دخول الجنة، ويأتي دخولها فضلاً إلهياً مركباً على المؤمنين، بهدايتهم في الحياة الدنيا لسبل الخير والفلاح، وبالآخرة بالعفو والمغفرة ومضاعفة الحسنات.
الرابع: المراد مواطن الآخرة مما يسبق دخول الجنة، اما دخول الجنة والمكث الدائم فيها فتذكره آيات اخرى، ولكن الآية أعم.
الخامس: اقتران رحمة الله ببياض الوجوه، وهو على شعبتين.
الاولى: أوان صيرورة وجوه المؤمنين بيضاء.
الثانية: المصاحبة بين الأمرين، فتبدأ رحمة الله بالمؤمنين من حين بياض الوجوه وتبقى ملازمة لهم.
والصحيح هي الثانية، لأن رحمة الله بالمؤمن في الآخرة اعم وذات مصاديق كثيرة ومتعددة يعجز الإنسان عن تصورها فضلاً عن عدّها.
السادس: اختصاص الآية برحمة الله في عالم البرزخ، ولا دليل على هذا الإختصاص، ومضامين الآيات القرآنية بأعم منه.
السابع: إطلاق الآية وشمولها لعالم الآخرة مطلقاً، فتشمل كلاً من الجهات الآتية:
الأولى: عالم البرزخ.
الثانية: أوان النشور والنفخ في الصور.
الثالثة: عند الحوض ويوم العطش الأكبر، ومن رحمة الله ان لا يشعرالمؤمن بالظمأ والعطش يومئذ، وقد تحمل العطش في نهار شهر رمضان في الشتاء تارة، وفي الصيف تارة اخرى.
الرابعة: يوم تطاير الصحف.
الخامسة: عند استلام الناس لكتبهم يوم القيامة، واخذ المسلم كتابه بيمينه.
السادسة: ساعة العبورعلى الصراط، وفوز المسلم بعبوره امام الخلائق، بفضل ورحمة من الله سواء بتأهيله للعبور واعانته عليه، او بتوسعة الصراط بما يجعل المسلم والمسلمة قادرين على إجتيازه، وعبوره بسلام.
السابعة: عند قيام الساعة ، قال تعالى [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ] ( ).
وهذه الجهات من مصاديق الآية الكريمة.
الثامن: من مصاديق رحمة الله دخول المؤمنين الجنة.
التاسع: الفوز بالخلود في النعيم الدائم، وعدم الخروج من الجنة.
العاشر: تغشي رحمة الله للمؤمنين في جميع منازل الآخرة مما ورد ذكره في القرآن والسنة، وما لا يعلمه الا الله عز وجل.
فحالما يغادر المؤمن الحياة الدنيا تتغشاه رحمة الله، ويكون سابحاً في بحور فضله ولطفه وكرمه تعالى، ويتبين المائز بين المؤمن والكافر من ساعة الوفاة ومغادرة الدنيا بالموت، فتأتي الملائكة الى المؤمن ساعة الموت بالبشارة وما يبعث السكينة في نفسه، قال تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]( )، وتأتي الملائكة للكافر عند زهوق الروح بالتوبيخ والتبكيت، قال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ] ( ).
وجاء ذكر الجنة معطوفاً على رحمة الله قال سبحانه [يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ]( )، ولا يعني العطف في المقام المغايرة بل هو من عطف الخاص على العام، وجاء في موضوع البشارة وتعدد مصاديقها وبيانها على نحو التفصيل.
ولو دار الأمر بين تعدد وإطلاق مواطن رحمة الله وبين حصرها وتقييدها، فالاصل هو الاول وهو من مصاديق أسماء الله الرحيم، الرحمن، أرحم الراحمين، فجاءت الآية لبيان ملازمة الرحمة الإلهية لبياض الوجه.
فمتى مابعث العبد في الآخرة ووجهه أبيض، فقد نال الرحمة الإلهية، وفاز بها في جميع مواطن الآخرة ليكون بياض الوجه علامة على تغشي رحمة الله له، وفيه دعوة للملائكة والخلائق يوم الحشر لإكرامه والثناء عليه، وفي إطلاق رحمة الله على المؤمن يوم القيامة بشارة الأمن والسلامة من مواطن الخوف والحزن والضنك، والجوع والعطش.
وما في الآية من البشارة دعوة للعمل الصالح، وهو من فضل الله عز وجل على العباد، وعمومات قواعد اللطف الإلهي، اذ يقربهم الله تعالى للطاعات، ويساعدهم على ادائها بالوعد الكريم، والبشارة العظيمة التي يشعرون معها باستحقاق النعم الأخروية للسعي في منازل العبادة والجهاد في سبيل الله، ولزوم عدم تضييع اية نعمة من النعم الأخروية.
وبين الرحمة الإلهية في الآخرة والجنة عموم وخصوص مطلق، اذ ان دخول الجنة من رحمة الله وتشمل الرحمة مواطن الآخرة كلها، كما تشمل اسباب دخول الجنة بالمدد والعفو والمغفرة، ومضاعفة الحسنات, وقبول الشفاعة في حق المسلمين، والرحمة الإلهية في الشفاعة مركبة من وجوه:
الاول: الرحمة بالشفيع من وجوه:
الاول: تأهيله لمرتبة الشفاعة.
الثاني: الإذن له بالشفاعة.
الثالث: قبول شفاعته.
الثاني: الرحمة بالمشفع له من وجوه:
الاول: نيله مرتبة المشفوع له بفضل من الله تعالى، قال سبحانه [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( ).
الثاني: وجود الشفيع الذي يشفع له عندالله.
الثالث: العفو والمغفرة بالشفاعة.
الثالث: الرحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقبول شفاعته، وتوكيد عظيم منزلته بين الخلائق.
الرابع: الرحمة بالمؤمنين لتفضل الله عز وجل بفتح باب الشفاعة وانتفاعهم منه.
علم المناسبة
وردت آيات كثيرة تذكر رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولم يرد لفظ (في رحمة الله) الا في هذه الآية الكريمة، وفيه بيان لموضوعية هذه الآية من وجوه:
الاول: قوانين البشارة الإلهية في الحياة الدنيا.
الثاني: بعث السكينة في نفوس المسلمين من أهوال وشدة عالم الآخرة.
الثالث: دعوة المسلمين لدراسة مضامين هذه الآية وما فيها من الدلالات العقائدية والكلامية، وقد تقدم في باب إعجاز الآية عدم ورود لفظ (تبيض وجوه) الا في هذه الآية.
الرابع: في الآية حث للمسلمين على السعي الحثيث للاقامة في رحمة الله، وورد قوله تعالى [رَحْمَةِ اللَّهِ] بمعاني الرجاء، ومن غير ذكر حرف الظرفية (في) بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )، وفيها ثناء على المسلمين عامة ابتداءً من أيام التنزيل والصحابة لتصديقهم بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسعيهم في دروب الجهاد والقتال دفاعاً عن الإسلام، ودعوة الناس للهداية والايمان.
وذكر الله في القرآن مثلاً لمنافع وآثار رحمته تعالى، قال سبحانه [فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا]( )، لتتغشى آثار رحمة الله المؤمن في الآخرة بالأمن من الخوف والسلامة من الأذى، وانتفاء الحزن والبؤس والعناء، وتكون الجنة مثوى دائما له، وتبين الآيات ان يوم القيامة رحمة من عندالله، قال سبحانه [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ] ( ).
وفيه بشارة نزول شأبيب الرحمة على المسلمين في الآخرة، وحتمية يوم القيامة فضلاً ورحمة من عندالله، وجاءت الآيات ببعث الشوق في النفوس لنيل رحمة الله، وانها افضل واعظم من متاع وزينة الدنيا، قال سبحانه [وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وجاءت الآية لتخبر المسلمين بانهم يتنعمون في رحمة الله في الآخرة، وفيها وعد كريم يجعل الدنيا ذات بهجة في نفوسهم بالتلبس بالتقوى والصلاح، فلا يلتفتون الى زخرفها، ولا يفتتنون باهلها، وما يمتلكون من المتاع الزائل، واسباب الغرور.
والآيةدعوة للمسلمين لجعل رحمة الله والإقامة فيها هدفاً يسعون اليه على نحو العموم الاستغراقي والمجموعي مبتعدين عن الفرقة والإختلاف، والخصومة والإقتتال، وكل واحد منهم يرجو ان يفوز يوم القيامة بلقاء كل الذين تجمعهم وإياه اخوة الايمان في رحمة الله ليس بينهم كدورة او نفرة او حسد شاكرين الله تعالى على تغشي رحمته لهم، قال تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( )، فمن رحمة الله عز وجل الالفة والمحبة بين اهل الجنان وخلو قلوبهم من الضغائن والأحقاد.
قوله تعالى [هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
من إعجاز القرآن تعاقب البشارات فيه، ومجيء البيان والتفصيل لما هو مجمل ليكون بشارة إضافية، وتثبيتاً للبشارة الأولى، وبرزخاً دون طرو الشك والريب، واسكاتاً لأهل الجدال والنفاق، فلا يستطيع أحد ان يقول بالتقييد الزماني لرحمة الله بالمؤمنين في الآخرة، فجاء هذا الشطر من الآية ليؤكد التباين بين الحياة الدنيا وبين الآخرة بلحاظ انقطاع وزوال الدنيا، والإستدامة الأبدية للحياة في الآخرة.
وأخبرت الآية عن العموم والشمول في خلود المؤمنين في رحمة الله، ومن رحمة الله تعالى في المقام انها لا تقبل القسمة الى قسمين ودوام تغشيها لشطر من المؤمنين دون الشطر الآخر بلحاظ ماهية العمل او زمان الإيمان ومراتب التقوى، بل كل مؤمن ينال نعمة بياض الوجه في الآخرة فانه يكون خالداً في النعيم الدائم، لا يغادره طرفة عين أبداً، فمن خصائص المكث في رحمة الله أزليته ودوامه بالإضافة الى عدم حصول فترة وانقطاع فيه.
وتتكون الآية من ثلاثة اقسام، كل قسم فيها يشع ضياء وتترشح عنه البركة ، وهي:
الأول: الإخبار الإلهي عن بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة، لتشع انوارهذا البياض على قلوبهم في الدنيا، ويكون ضياء ينير لهم سبل الهداية والسعي الى جنة النعيم.
الثاني: البشارة بانهم في رحمة الله في الآخرة، فمع كثرة الآيات التي جاءت بالوعيد بشدة وطول يوم القيامة وما فيه الحساب وتعدد المواطن، واستحضار جميع اعمال العبد في الدنيا ومحاسبته عليها، جاءت هذه الآية لتبعث السكينة في قلب المسلم وتصرف عنه الخوف من أهوالها، فيتلو آيات الوعيد فيزداد ايماناً ويفرح بفضل الله بالوعد الكريم بالنجاة من عذاب النار.
الثالث: الوعد الكريم بان المؤمنين خالدون في رحمة الله، وفي هذا الوعد مسائل:
الاولى: انه اعجاز اضافي في الآية الكريمة، لما فيه من البشارة والأمل.
الثانية: بيان عظيم قدرة الله وسعة رحمته، والله سبحانه وحده القادر على جعل الإنسان في رحمته، وهو وحده الذي يستطيع ان يجعل العباد في خلود دائم.
الثالثة: تؤكد الآية حقيقة الخلود في عالم الآخرة.
وفي الآية أمور:
الأول : تبعث الآية الحسرة في نفوس الكفار من وجوه:
الثاني : حرمانهم من نعمة البقاء الدائم في رحمة الله.
الثالث : بعث اليأس في نفوسهم من نيل الرحمة في الآخرة، قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الرابع: رؤيتهم للمؤمنين وهم يسعون بدأب للفوز برحمة الله.
الخامس: جهاد المسلمين لحفظ القرآن والمنع من تحريفه او تبديل بعض الفاظه، ويأتي هذا الحفظ بتقيدهم باحكام الحلال والحرام، والرجوع الى القرآن في السراء والضراء، والإنصات لما فيه من الوعد الكريم بخلودهم في النعيم الاخروي.
وتكررت في الآية مرتين الظرفية بحرف الجر (في)، مرة في قوله تعالى [فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ]، وأخرى في قوله تعالى[هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ]، فلم تقل الآية (ففي رحمة الله خالدون)، وفي الآية الكريمة اعجاز من وجوه:
الأول: تعدد الجمل، واستقلال كل واحدة مها، بما يفيد تعدد الموضوع والحكم والدلالة.
الثاني: بيان المعنى، وتوكيد مضمون الآية الكريمة.
الثالث: جاءت الآية بالبشارة والوعد الكريم، وفيها اخبار بكثرة وعظم الفضل الإلهي على المسلمين يوم القيامة.
الرابع: اراد الله عز وجل الإخبار عن تعدد النعم الأخروية في هذه الآية من وجوه:
الأول: بياض وجوه المؤمنين.
الثاني: اقامتهم في رحمة الله.
الثالث: خلودهم في رحمة الله، وفيه دلالة ان الخلود في رحمة الله وجنة النعيم فضل ونعمة إلهية غير دخول الجنة، من وجهين:
الاول: التباين بين الدخول والمكث، فقد يظن الانسان ان الاقامة في الجنة تكون بلحاظ عمر الإنسان، ومدة ايامه في الحياة الدنيا، أو مضاعفتها من جهة الزمان ، أوحسب قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، فجاءت هذه الآية وآيات اخرى مشابهة لتوكد ان الاقامة في الجنة أبدية دائمة.
الثاني: بين رحمة الله ودخول الجنة عموم وخصوص مطلق، فدخول المؤمن الجنة من رحمة الله الأخروية، وهي اعم إذ انها تصاحبه من حين دخوله القبر.
الخامس: الآية مناسبة للشكر والثناء على الله عز وجل لكثرة النعم التي ينعم بها على المؤمنين.
السادس: في الآية دعوة للمسلمين للإجتهاد في مسالك الطاعة، والسعي للفوز بالنعم المتعددة في الآخرة.
السابع: تؤكد الآية كرم ولطف الله تعالى، وان نعم الآخرة ليست عن استحقاق من العباد، بل هي فضل إلهي محض عليهم، فمع تغشي رحمة الله للمسلمين في الآخرة، فان الله سبحانه ينعم عليهم بنعمة اخرى هي السعادة الأبدية فلم تذكر الآية الخلود وحده، كي لا يتبادر الى ذهن المؤمن احتمال طرو التعب والعناء عليه في الآخرة كما هو الحال في الدنيا وما فيها من الابتلاء، فجاءت الآية بالاخبار عن الخلود في رحمة الله ، والسياحة في عالم الملكوت، والغرق في جلال الله، والاقامة الدائمة في جنة النعيم الخالية من التكاليف والتعب والشقاء.
وفي الآية مسائل:
الاولى: في الآية توكيد لعصمة المؤمنين من الفزع ساعة الموت، فكل انسان يدرك انه مغادر للحياة الدنيا، والمؤمن اكثر ادراكاً لهذه الحقيقة وهو من اسباب ونتائج التقوى.
فتأتي هذه الآية لتطرد عنه شبح الخوف من الموت، وتخبره بان رحمة الله تعالى تقهر الموت، وانه لا يفارق الحياة الدنيا للعدم والفناء، بل للخلود في الجنة، ومن رحمة الله تعالى في هذه الآية انعدام الموت في الآخرة.
الثانية:ان الله عز وجل إله في الدنيا وإله في الآخرة ليس من رب غيره، وتتجلى هذه الحقيقة للناس في الآخرة ببقائهم خالدين ولكن مع التباين والتفضيل، فالذين يبعثون ووجوههم مشرقة بيضاء، جزاء على حسن عملهم في الدنيا يكون خلودهم في النعيم، والذين يبعثون ووجوههم مسودة عقوبة على كفرهم مبعدون من رحمة الله ً، وخالدون في العذاب الأليم.
الثالثة: تؤكد الآية بالدلالة الإلتزامية على ان الله عز وجل هو الباقي وأن رحمته دائمة.
الرابعة: من صفات الله تعالى انه يمنح الخلود، ولا احد يقدر على منح الخلود غيره.
الخامسة: ليس من انسان الا ويحب الخلود والبقاء، والله عز وجل هو الذي يجعله خالداً، وهذا الخلود ليس اختيارياً بل هو أمر قهري انطباقي، ولا يكون على حال واحدة بل على حالتين متباينتين وهما:
الاولى: الخلود في رحمة الله والسعادة الأبدية.
الثانية: الخلود في سخط وغضب الله.
وفي المقام مسائل:
الاولى: يرغب الإنسان في البقاء في الحياة الدنيا، ويكره طرو الموت.
الثانية: لا يقدر الانسان على تأخير اجله ساعة من النهار، بل انه لا يعرف اوان مغادرته الدنيا، نعم قد يمد الله في عمره بالدعاء والمسألة والصدقة وصلة الرحم، من غير دخل لارادة الانسان فيه.
الثالثة: يستطيع الانسان تعيين محل اقامته والمثوى الدائم له في الآخرة، وهو في الحياة الدنيا، وتلك آية في عالم الخلق والتكوين.
ترى لماذا لم تكتف الآية بقوله تعالى [فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ] بل ذكرت انهم خالدون فيها، فيه وجوه:
الاول: الإخبار الإلهي عن تغشي رحمة الله للمسلمين في الآخرة على نحو الدوام.
الثاني: الآية انحلالية فكل مؤمن يكون خالداً في رحمة الله لان الآية وردت بصيغة الجمع [خَالِدُونَ].
الثالث: لو إكتفت الآية بذكر رحمة الله لأحتمل انها مؤقتة ومنقطعة وغير دائمة، فجاء البيان بالخلد والدوام فيها لإزالة وهم، ولتوكيد عظيم فضل الله على المؤمنين في الآخرة. و( في ) حرف يفيد الظرفية أي ان اقامة المؤمنين اهل الوجوه البيضاء المشرقة في رحمة الله ورضوانه، وفي الآية مسائل:
الأولى: سعة رحمة الله وشمولها للمؤمنين جميعاً يوم القيامة.
الثانية: بقاء الباب مفتوحاً للدخول في رحمة الله الى يوم القيامة، ولو آمن الناس كلهم بالتوحيد والنبوة، فهل تسعهم رحمة الله، الجواب نعم، وفيه وجوه:
الاول: شمول كل فرد من المسلمين بذات المرتبة والمقام من الرحمة من غير نقص في نصيب أحدهم.
الثاني: من يتوب من الكفار، ويلتحق بالمسلمين يناله نصيب ادنى من رحمة الله.
الثالث: مشاركة الذي يلتحق بالمؤمنين بذات الحصة من الرحمة على نحو الشركة والقسمة.
والصحيح هو الأول، فليس من حد او حصر لخزائن رحمة الله وكثرة وتعدد مصاديقها ووجوهها.
لذا فان منافع قوله تعالى[فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ] على وجوه منها:
الاول: البشارة للمسلمين في حسن الإقامة يوم القيامة.
الثاني: حث المسلمين على الإجتهاد في منازل الطاعة والخضوع لله تعالى، والحرص على التقيد بالفرائض والعبادات.
الثالث: دعوة المسلمين للاعتصام بالقرآن والسنة والفوز بحسن المثوى.
الرابع: اعانة المسلمين على تعاهد نعمة الأخوة الإيمانية، اذ يدرك كل مسلم انه سيجتمع مع إخوانه المسلمين في رحمة الله في الآخرة، وان هذا الإجتماع مستديم، وخال من الضغائن والغل، فيؤثر فيه من وجوه:
الاول: الإستعداد لهذا الإجتماع المبارك.
الثاني: السعي للفوز بالحشر مع المؤمنين.
الثالث: تهذيب الأقوال والأفعال بما يكون مقدمة لنيل هذه المرتبة الكريمة.
الرابع: التعاون مع المسلمين للوصول الى المقامات الرفيعة يوم القيامة وترك الفرقة والإختلاف.
الخامس: التفقه في الدين بما يساهم في بلوغ درجة الإقامة في رحمة الله.
السادس: المساهمة في جذب الناس للاسلام بما يؤدي الى صلاحهم وفوزهم في الآخرة.
السابع: الاستحضار الدائم لعالم الآخرة في الوجود الذهني وعالم الافعال، فكلما يريد المسلم عمل شئ يستحضر مقامات الآخرة ولزوم السعي لنيل مرتبة الإقامة في رحمة الله.
الثامن: الإحتجاج على الكفار وتذكيرهم بخسارتهم يوم القيامة.
التاسع: الإستغناء عما في ايدي الكفار، وعدم الافتتان بهم، لان الرجاء بما عندالله يجعل العبد غنياً عن غيره.
العاشر: صبر المسلم على العناء والأذى في الدنيا.
الحادي عشر: الإجتهاد في كيفية أداء العبادات والحرص على اتيانها في أوقاتها.
الثاني عشر: نشر مضامين الود والمحبة بين المسلمين، وتثبيت مفاهيم الأخوة بينهم، وحتمية الاجتماع الدائم بينهم وسعيهم اليه مجتمعين ومتفرقين.
الثالث عشر: الدفاع عن الاسلام.
الرابع عشر: الجهاد في سبيل الله، والرغبة في القتل دفاعاً عن الاسلام.
الخامس عشر: عدم الخوف من الموت لادراك حقيقة وهي حياة المؤمن بعد الموت وصيرورته في رحمة الله.
علم المناسبة
ورد لفظ (خالدون) بالرفع بالواو بإعتباره جمع مذكر سالم خمس وعشرين مرة في القرآن، على اقسام:
الاول: ثمان مرات بخصوص أهل الجنة ومكثهم الدائم فيها.
الثاني: خمس عشرة مرة في الإخبار عن اهل النار، ولبثهم الدائم في النار.
الثالث: مرة واحدة في الإحتجاج على الكافرين بقوله تعالى[وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ]( ).
الرابع: مرة واحدة في خلود المؤمنين في رحمة الله، وهي هذه الآية، كما ورد لفظ (خالدين) بالنصب اربع واربعين مرة في تقسيم ايضاً يتضمن لغة الإنذار والبشارة.
ان اختصاص هذه الآية بموضوع الخلود والاقامة الدائمة في رحمة الله دعوة للناس جميعاً للتدبر في نعم الله الأخروية وانها اعم من الإقامة في الجنة وفيه ترغيب اضافي بالصالحات، وتحذير من الكفر والجحود والفرقة والإختلاف، قال تعالى[ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ]( ).
فهل المراد الخلود في رحمة الله هو يوم الخلود ودخول الجنة ام المعنى الاعم، الجواب هو الثاني فرحمة الله شاملة في مضامينها وتشمل الذات والعرض، ومصاديق الزمان واستدامة افراده الطولية اللامنتهية.
لقد ارادت الآية بيان حقيقة وهي ملازمة رحمة الله للمؤمنين في الآخرة وبما ان الآخرة دار الخلود والنعيم فان الرحمة الإلهية مصاحبة لهم لا تنفك عنهم، وفيه غاية الاكرام، وعظيم الثواب، وجزيل الأجر المتصل.
وهو دعوة اضافية للتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي هي رحمة في الدنيا والآخرة، ودعوة سماوية للإنتفاع منها في الدنيا بتهذيب النفس وتنقيح الأعمال والصلاح والإصلاح، وفي الآخرة بالأجر والثواب العظيم، وان يقوم الملائكة بزف بشارة الخلود في الجنة الى المؤمنين كما في قوله تعالى [وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( )، فان الله عز وجل يتفضل ويبشر المسلمين وهم في الدنيا بانهم يلبثون في كنف رحمته في الآخرة سواء قبل دخول الجنة او بعده، فبشارته سبحانه اعظم واكبر، وان كانت بشارة الملائكة باذن ورحمة منه تعالى.
وتحتمل الآية في اوانها وجوهاً:
الأول: ارادة الحياة الدنيا وان المؤمن في رحمة الله في الدنيا سواء كان وجهه ابيض او اشقر او أسمر أواسود.
الثاني: المراد هو عالم الآخرة، وهو على اقسام:
الاول: عالم البرزخ.
الثاني: يوم القيامة.
الثالث: عالم الجزاء والإقامة في الجنة.
الرابع: يوم القيامة من اوان النشور ومواطن الحساب والاقامة في دار النعيم.
الخامس: اختصاص رحمة الله بالإقامة في الجنة العالية.
والصحيح هوالثاني فالقدر المتيقن من الآية عالم الآخرة على نحو الاطلاق ابتداء من اوان الدخول في القبر، بقرينة صفة بياض الوجه بدليل ان قبر المؤمن يكون روضة من رياض الجنة.
ولا يعني هذا انحصار رحمة الله بعالم الآخرة بل تتغشى الدنيا والآخرة، وتصيب في الدنيا الناس جميعاً، ولها مصاديق عديدة منها آيات الآفاق وبعث الأنبياء وإنزال الكتب، وفي القرآن الكتاب السماوي الجامع للأحكام ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وهذه الآية من الشفاء والرحمة، وتبعث السكينة في نفوس المسلمين، وتدعوهم الى التطلع بشوق الى اليوم الآخر ليكون الموت واسطة للعبور نحو بر الأمن والسعادة الدائمة.
قانون الخلود في رحمة الله
حينما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام لم يصدركلام او انكار من الخلائق كافة، ولكن حين اختاره الله عز وجل خليفة في الأرض جاء الانكار والسؤال من عند الملائكة وهم اقرب الخلق الى الله تعالى فقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وكان الرد الإلهي تأديباً وتعليماً واعجازاً [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى ان يبقى هذا الخليفة مع كثرة افراده خالداً في الآخرة، واذ كان اختيار الانسان للخلافة تم بفضل من الله عز وجل، فان خلوده ايضاً من عندالله، وكما يكون التباين ظاهراً بين الناس في الحياة الدنيا، فان التباين بينهم في عالم الآخرة جلي وظاهر، ولكنه يتم وفق قواعد مغايرة للتباين في عالم الدنيا، اذ ان الآخرة لها نواميسها وقوانينها الخاصة، ومنها صيرورة الناس على قسمين قسم في النعيم الدائم، وأخر في الشقاء والعذاب.
ويحصل كثيراً في الدنيا تبدل وتغير في حال الانسان على نحو كلي او نسبي، فقد ينتقل الانسان من حال الفقر الى الغنى وبالعكس، ومن حال الصحة الى السقم او بالعكس، ويكون الآمر مأموراً، والمأمور آمراً، ومن يرجو الناس نواله وطول يده، قد يمسي وهو يرجو نوالهم وعطفهم وشفقتهم.
اما في الآخرة فألأمر مختلف تماماً، فمن يكون في رحمة الله لا يغادرها، ولاهي تفارقه بل يكون حالًاً ومقيماً فيها.
ولا يأمل اهل النار ابداً ان يأتيهم شخص من اهل الجنة فمع بياض الوجه يكون الفراق الأبدي مع العذاب واهله.
وجاءت الآية لبيان قانون المكث الدائم في الجنة، وانه نعمة اضافية على المؤمنين ومصداق من مصاديق رحمة الله تعالى، وفيه دلالة على استدامة الرحمة الإلهية على المؤمن ابتداء من اوان خلقه، نعم قد يتعرض في الحياة الدنيا الى الإبتلاء والاذى في جنب الله الا ان هذا الابتلاء رحمة من عندالله بلحاظ ما له من الأجر والثواب العظيم، ومايترشح عنه من الصبر والرضا بقضاء الله، ليكون هذا الصبر وسيلة لنيل المراتب العالية في دار النعيم، والمعروف ان الخلود يكون على قسمين متباينين:
الاول: خلود اهل الإيمان في الجنة.
الثاني: خلود الكفار في الجحيم.
وجاءت هذه الآية بالإخبار عن خلود الذين تبيض وجوههم في رحمة الله، وفيه وجوه:
الاول: انه قسيم ثالث، للقسمين اعلاه وبينما جاءت الآيات بخلود المؤمنين الذين يعملون ا لصالحات في الجنة، فانه لم يرد في القرآن ذكر خلود الذين تبيض وجوههم الا في هذه الآية، ويكون خلودهم في رحمة الله.
الثاني: خلودهم في رحمة الله.
الثالث: رحمة الله اعم من الجنة زماناً وموضوعاً.
والصحيح هو الثاني والثالث اعلاه، فرحمة الله اعم من الجنة، وتشمل ما قبلها من مواطن الآخرة، وتبدأ من عالم القبر، فان قلت ان بياض الوجوه لا يكون الا عند البعث والنشور، مما يعني ان اقامة المؤمنين في رحمة الله تبدأ من عالم النشور والبعث، خصوصاً وان الآية جاءت بصيغة الماضي.
وتقدير الآية: (واما الذين ابيضت وجوهم فهم في الآخرة في رحمة الله)
والجواب على وجهين:
الاول: تشمل الآية عالم البرزخ، ويكون المؤمن في رحمة الله، وقبره روضة من رياض الجنة.
الثاني: عالم القبر اجنبي عن مضامين هذه الآية، اذ تبدأ اقامة المؤمن في رحمة الله من حين البعث والنشور.
الثالث: خروج عالم القبر من مضامين هذه الآية لا يعني عدم كون المؤمن في عالم القبر في رحمة الله، بل يمكن استفادته من آيات قرآنية اخرى.
ولهذه الآية موضوعية في عالم العقائد، وعلم الفلسفة والكلام لانها تفتح افاقاً من العلوم وتؤكد وجود نعم اخروية متعددة تكون اعم من دخول الجنة، وفيه ترغيب للناس بالايمان ودعوة لهم لعدم تفويت فرصة الدخول في الإسلام، واصلاحهم لخلافة الأرض وتثبيت كلمة التوحيد ونشر العدل والإحسان، والتقيد بأحكام الحلال والحرام.
وايهما اكبر نعمة الصيرورة في رحمة الله بقوله تعالى [فِي رَحْمَةِ اللَّهِ] ام الخلود فيها بقوله تعالى [هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] الجواب كل نعمة من النعمتين آية وفضل عظيم ، وكما في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) وعجز الناس عن عدّ وحساب النعم الإلهية الأخروية فان رحمة الله في الآخرة يعجز الناس عن تصورها وليس احصاءها فحسب لانها اكبر من عالم التصور والخيال مع انها حقيقة وخير محض.
ومن اسرار مجئ الآية بلفظ رحمة الله تحدي الناس في عالم التصور، واثبات عجز عقولهم وأوهامهم عن تصور افراد ومصاديق رحمة الله في الآخرة، فكلما تصوروا وقدروا وظنوا من مصاديق الرحمة فانها تأتي اعظم واكبر بكثير في الكم والكيف والزمان والمكان والموضوع والحكم.
وجاءت الاشارة اليها في هذه الآية باختصاص الرحمة الإلهية في الآخرة باهل الايمان وذكرهم بالصفة الأخروية، وهذا الذكر من رحمة الله عز وجل، فمن الآيات ابتداء رحمة الله بسيماء وعلامة مباركة في الوجوه وانهم باقون في النعيم على نحو التأبيد والدوام، ويكون المسلم في رحمة الله في الدنيا بهدايته للإيمان.
قانون الحاجة الى رحمة الله
من اسرار عالم الخلق حاجة الخلائق الى الله تعالى، وهذه الحاجة من فضل الله على الخلائق، وهي آية من بديع صنع الله تعالى، فليس من مخلوق الا وهو يفتخر ويعتز بتلك الحاجة.
ويدرك الانسان بما رزقه الله من العقل والبصيرة والحواس، بالإضافة الى الشواهد حاجته الى رحمة الله في كل آن من آنات حياته، وايهما افضل له الحاجة المستديمة الى الله ام عدم الحاجة، الجواب هو الاول، فعندما يكون الانسان محتاجاً الى الله افضل واحسن له في النشأتين من وجوه:
الاول: احتياج الممكن الى غيره قاعدة كلية.
الثاني: الحاجة الى الله باب لنزول رحمته تعالى.
الثالث: حاجة العبد الى الله تعالى باب للدعاء والمسألة.
الرابع: ادراك العبد لحاجته الى الله دعوة للجوء اليه سبحانه والإستعانة به.
الخامس: اقرار العبد بحاجته الى الله سبيل الى عبادته وطاعته واجتناب معصيته.
السادس: الحاجة الى الله وسيلة للتطلع الى رحمته تعالى، والسعي لنيلها والفوز بها.
السابع: معرفة العبد بحاجته الى الله واقية من اللجوء الى غيره، وسبيل للنجاة من الشرك والرياء والركون للظالم، لتكون الحاجة الى رحمة الله على وجهين:
الأول: الحاجة في الحياة الدنيا.
الثاني: الحاجة في الآخرة.
ولا تعارض بين الوجهين، واحدهما في طول الثاني كما يكون نيل الرحمة الإلهية في الدنيا وسيلة لاحراز الرحمة الإلهية في الآخرة، وايهما اكبر الحاجة في الدنيا ام في الآخرة، الجواب هو الثاني، فحاجة الإنسان الى الله تعالى في الآخرة اكبر واعظم من حاجته الى رحمة الله في الدنيا، وهذا لا يعني النقص او القلة في افراد الحاجة الى رحمة الله في الدنيا، فهي حاجة عظيمة يعجز الإنسان عن معرفتها والإحاطة بجزء يسير من افرادها، ومع عظمتها وكثرتها وتعدد مصاديقها، فان حاجته في الآخرة الى رحمة الله تكون اكبر واكثر.
وجاءت هذه الآية لبيان قرب رحمة الله من العباد، وسهولة نيلها وإحرازها باداء الواجبات والفرائض وتتعاقب مصاديق رحمة الله تعالى على العبد من وجوه:
الأول: الأمر الإلهي بالفرائض والتكاليف.
الثاني: اللطف الإلهي باعانة العبد لادائها.
الثالث: لغة البشارة والإنذار، ومنها هذه الآيات.
الرابع: الثواب الأخروي لمن اطاع الله ورسله.
ان الحاجة الى رحمة الله رحمة من عند الله، فمن فضل الله تعالى على العبد ان جعله محتاجاً الى رحمته، ليجتهد في بلوغها، ويسلك السبل المناسبة لنيلها طوعاً وقهراً، فقد ينشغل الانسان ولا يلتفت الى حاجته الى رحمة الله، وعندما يبتلى يفزع اليه تعالى.
قانون إستدامة رحمة الله
لقد تفضل الله عز وجل وأسبغ على الإنسان نعمه ظاهرة وباطنة، والألف واللام في الإنسان تفيد الجنس والإستغراق أي عموم الناس، فمن آياته سبحانه عدم الملازمة بين الإيمان وتوالي النعم، وبين الكفر وحجب النعم.
وتتعدد وتتوالى النعم الإلهية على الناس وهذا التوالي جزء من رحمته تعالى على أهل الدنيا التي تتجلى بعض مصاديقها بالثمرات والأموال، والصحة في البدن وصلات القربى وأسباب الفرح والغبطة في الدنيا، لتكون هذه النعم بعرض واحد مع وجوه البلاء في تذكير الإنسان بوجوب شكر الله عز وجل وطاعته وعبادته.
فمن خصائص الدنيا إجتماع الفرح والحزن، والخير والشر، والصحة والمرض، والرخاء والشدة، والغنى والفقر.
ومن يكون في حال حسنة يخاف من التعرض الى ضدها، وجعل الله عز وجل الدعاء والشكر له أسباباً لدوام النعم وزيادتها قال سبحانه [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، وليس من موضوع مخصوص دون غيره يتعلق به الشكر.
وكل ما في الحياة مادة وموضوع للشكر والثناء لله تعالى، حتى البلاء والأذى والضرر بإعتبارها أسباباً للثواب والأجر، وسبيلاً للصبر والتحمل، ووسيلة للدعاء والمسألة واللجوء الى الله تعالى وطلب الحاجة منه تعالى، بالإضافة الى وجود نعم إلهية عديدة على الإنسان لا تفارقه، وهي ملازمة ومصاحبة له حتى في ساعة البلاء والأذى، ولا يستطيع أحد حجبها عن الإنسان وتكون بالذات والعرض مناسبة للشكر لله تعالى.
ويرغب كل إنسان ان يكون في بحبوحة من العيش، وسلامة من الآفات والأدران، وغرق دائم في النعيم، الا ان سؤاله يقيده بلحاظ الواقع والزمان، وملاحظة الذين افضل منه ممن نالوا النعم وحازوا الشرف والرفعة، فتطل على الناس هذه الآية لتخبر بان رحمة الله أكبر من عالم التصور والأماني التي يرجون.
وتخبر الآية عن إقامة المؤمنين الدائمة في رحمة الله، والخلود في رحمة الله فضل محض من عند الله تعالى، وجاءت الآية بالبشارة به، وهو وعد كريم، ووسيلة سماوية مباركة لجذب الناس الى الإيمان، وحثهم على فعل الصالحات، فمن اللطف الإلهي آيات البشارة، وما أعد الله عز وجل للمسلمين الذين يعملون الصالحات وتفضله بالإخبار عنها في القرآن، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
فهذه الآية وما فيها من البشارة فضل ورحمة من عند الله، وهذه الرحمة مقدمة للرحمة التي يكون المسلمون خالدين فيها في الآخرة، وهل يمكن جعل هذه الآية من رحمة الله المذكورة في الآية، الجواب نعم لأنها بشارة الرحمة وما فيها من ندب الى فعل الصالحات، وبعث للغبطة والسعادة في نفس المؤمن، وهي بلغة السالك نحو الهداية، لتكون مقدمات الخلود ظاهرة في الدنيا، وهي دعوة للناس جميعاً لنيل مرتبة الخلود في رحمة الله.
فمن كرم الله تعالى انه جعل مقدمات النعمة قريبة من الناس جميعاً، ولم يحجبها عن بعضهم وحتى الذي يعرض عنها تأتيه آيات إضافية في الحث على التوبة والإنابة لنيل النعمة، والفوز بمرتبة الخلود في رحمة الله.
بحث كلامي
بعد ان ذكرت الآية قبل السابقة تقسيم الناس الى قسمين يوم القيامة، قسم تكون وجوههم بيضاء، وقسم تكون وجوههم سوداء، وذكرت الآية السابقة الذين تسود وجوههم، وما يلقون من العذاب المقترن بالذم والتوبيخ، وعلة سواد الوجوه، جاءت هذه الآية لتبين حال الذين تبيض وجوههم، اذ تتغشاهم رحمة الله من وجوه:
الاول: الإبتداء، واقتران الرحمة ببياض الوجوه.
الثاني: الاستدامة، ودوام رحمة الله عليهم في مواطن المحشر.
الثالث: دخول المؤمنين الجنة رحمة من عندالله بهم.
الرابع: الخلود في رحمة الله.
ومن اسمائه تعالى الرحمن الرحيم، ورحمته عامة شاملة للخلائق جميعاً في الدنيا والآخرة، وتصيب رحمته تعالى في الدنيا البر والفاجر، بينما جاءت هذه الآية باختصاصها باهل الايمان الذين تبيض وجوههم، فهل هو من اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره وان غير المؤمنين تنالهم رحمة الله يوم القيامة، الجواب لا.
فمن الآيات الإعجازية في القرآن ان يبدأ موضوع لون الوجوه في الآية قبل السابقة بذكر بيض الوجوه، ثم ينتهي بخلودهم في رحمة الله، وبعد ان حصرت الآيات الناس بقسمين لاثالث لهما، ذكرت حال الذين تسود وجوههم وانهم في العذاب.
وتدل الآية على استدامة عذابهم الذي يعني حرمانهم من رحمة الله بما كسبت ايديهم وباعراضهم عن مضامين هذه الآية التي هي من رحمة الله في الدنيا للناس جميعاً، اما رحمته تعالى في الآخرة فلا تصيب الا الذي يتعظ من آيات القرآن ويؤمن بالله والنبوة، وجاء قوله تعالى [فِي رَحْمَةِ اللَّهِ] بحرف الجر (في) الذي يفيد الظرفية، وكأن رحمة الله وعاء للذين تبيض وجوههم، وفيه إكرام لهم، وهذا الوصف من رحمة الله.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (التكميل) وهو ان يؤتى بكلام فيه تتمة لغيره لدفع وهم، ومنع الاجمال والشك كما في قوله تعالى [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ) ولو اختصر على موضوع الشدة لتوهم ان الشدة سجية ثابتة لهم، والغلظة ملكة عندهم، فجاءت الآية بالشطر الثاني وهو افشاء الرحمة بين المؤمنين ولما جاءت الآية السابقة ببيان سوء عاقبة الكافرين وما يقترن بسواد الوجوه من العذاب.
جاءت هذه الآية لدفع وهم، فلو اختصر الأمر على ذكر مايصيب الذين تسود وجوههم لظل أمر الذين تبيض وجوههم نكرة ومرددا بين تركهم وشأنهم، وبين نيلهم الثواب، فجاءت الآية لطرد الشك ودفع الاجمال، بالتوكيد على الغرق في رحمة الله، وتبين الآية استدامة وعدم انقطاع الثواب والاقامة في رحمة الله.
ومن خصائص التكميل في القرآن انه رحمة بالمسلمين، ومدرسة عقائدية تستنبط منها الدروس والمسائل الكلامية والعقائدية والاحكام الشرعية الى جانب الصبغة البلاغية فيكون بين التكميل في القرآن ومثيله في البلاغة عموم وخصوص مطلق، فكل واحد منهما يفيد البيان ودفع الوهم والترديد.
ويمتاز التكميل في القرآن بانه اعجاز مركب من وجوه متعددة، وباب لاستنباط الدروس والعبر، وعلم مستقل تقتبس منه المسائل والاحكام والسنن، وحجة على الكافرين، ودعوة للهداية والايمان، وجزء من التفسير الذاتي للقرآن ووسيلة للتفقه في الدين، وباب للتدبر في معاني الآيات، وتأتي تلاوة الآيات التي تذكرها الآية التالية لتكون عوناً على التدبر في معاني الآيات.
قانون الانتفاع العام من الآية القرآنية
يتضمن القرآن آيات البشارة والانذار، ومن اعجاز القرآن انها تتوجه لكل انسان مع التباين في موضوعها ودلالتها واثرها والجهة التي تتوجه اليها.
فتبعث آيات البشارة على البهجة والغبطة والرضا والامل، وتبعث آيات الانذار على الخوف والفزع ولا تنحصر جهة الخطاب في آيات البشارة بالمؤمنين، بل تشمل الكفار مع التباين في الأثر، فبينما تنمي آيات البشارة عند المؤمنين ملكة الرجاء فانها تجعل الكافر والمنافق والمخادع في حسرة وخيبة وخوف من يوم القيامة.
وتتوجه آيات الانذار فانها تتوجه الى الكافر بالتخويف والوعيد ولكنها تبعث في نفس المسلم السكينة للنجاة من مضامين الانذار، والاحتراز منه بالايمان، وفي هذا التعدد وجه من وجوه رحمة الله تعالى ورأفته بالناس في الحياة الدنيا، ودلالة على انتفاعهم جميعاً من رحمته في الدنيا، وشاهد على ان الآية القرآنية رحمة بالناس جميعاً، فليس من آية الا وينتفع منها المؤمن والكافر، والغني والفقير، والذكر والانثى، وفي هذا الانتفاع وجوه:
الاول: انه من عمومات اللطف الإلهي.
الثاني: انه شاهد على الافاضات الإلهية في كل آية من آيات القرآن.
الثالث: فيه دعوة للناس للرجوع الى القرآن والاخذ منه، والتزود من مضامينه وعلومه واسراره.
الرابع: من الناس من لا يتعظ من آيات الانذار، فتأتي آيات البشارة لتبعث في نفسه الرجاء والطمع برحمة الله، ومنهم من لم يلتفت الى آيات البشارة والرجاء، وما فيها من الحث على فعل الصالحات، فتأتي آيات الانذار ليصيبه الفزع والخوف من عذاب النار، ويهجر السيئات والمعاصي لانه لا يرضى لنفسه الذل والهوان، ومع هذا فايهما يكون الانتفاع منه اكثر فيه وجوه:
الاول: الانتفاع من آيات البشارة اكثر، واثرها اعظم.
الثاني: آيات الانذار هي اكثر نفعاً.
الثالث: كلاهما بعرض واحد.
الرابع: كل آية من آيات القرآن لها نفعها واثرها.
والصحيح هو الرابع، خصوصاً وان كل آية بشارة تتضمن في مفهومها الانذار والوعيد، وكل آية انذار تتضمن في مفهومها ودلالتها البشارة والرجاء، وهو من علوم القرآن وكنوز آياته، ومصاديق اعجازه ودلالته.
وتنمي الاية القرآنية ملكة المعرفة عند الانسان، وتجعله يدرك حقيقة الحساب وضرورة الاستعداد له، ويتشوق الى عالم الاخرة لان القرآن يذكره وكأنه قصة مستقبلية واقعة حتماً، فيسعى الانسان للاطلاع عليها وفهم مضامينها، ويدرك حينئذ انه من روادها وهو طرف في تلك القصص، لا يمكنه ان يتخلف عن المقام فيها، ولكن مقامه مردد بين أمرين، وتعيينه راجع اليه مادام في الحياة الدنيا، فاذا داهمه الموت فقد القدرة والارادة على التعيين، وتأتي هذه الآية لتجذبه الى عالم الصالحات بالترغيب والرجاء، والاخبار عن الاشراقة التي تعلو وجوه المؤمنين في الآخرة، وتغشي رحمة الله لهم.
وليس من حصر لطرق الانتفاع من الآية القرآنية، وهي على وجوه:
الاول: تلاوة الآية القرآنية.
الثاني: الانصات للآية القرآنية.
الثالث: التدبر في معاني ومضامين الآية القدسية.
الرابع: الشواهد الواقعية التي تدل على اعجاز الآية القرآنية وضرورتها والحاجة اليها في الحياة العملية للانسان.
الخامس: الاقتباس من سيرة وسنن اهل الايمان الذين يهتدون بضياء الآيات القرآنية، والتعلم بالواسطة من الآية القرآنية، فقد لا ينصت الانسان الى آيات القرآن، ولكنه يرى المسلمين يعملون الصالحات ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، طاعة لله تعالى.
فيحب سمتهم ويميل اليهم، ويقتدي بهم، خصوصاً وان مبادئ الاسلام امتازت بآية اعجازية وهي ان التوبة ماحية للذنوب، ووسيلة للانضمام الى معاشر المسلمين في الحقوق والواجبات، وتلقي البشارات ومنها اشراقة الوجه يوم القيامة ثواباً ورحمة من عندالله.
قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ] الآية 108.
الاعراب واللغة
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ: تلك: اسم اشارة مبتدأ، آيَاتُ اللَّهِ: آيات: خبر مرفوع وهو مضاف، واسم الجلالة مضاف اليه.
نَتْلُوهَا: فعل مضارع، والواو: فاعل، والضمير مفعول به، والجملة حالية أي ان الآيات تأتي متلوة.
بِالْحَقِّ: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ: الواو: استئنافية، ما: نافية، اسم الجلالة: اسمها، يريد: فعل مضارع والفاعل ضمير مستتر يعود لله تعالى والجملة في محل نصب خبر (ما)،
ظلما: مفعول به منصوب بالفتحة، للعالمين: اللام: حرف جر، العالمين: اسم مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لانه ملحق بجمع المذكر السالم.
يقال تلوته تلواً: تبعته، وتلوت القرآن تلاوة: قرأته (وعم به بعضهم كل كلام، انشد ثعلب:
واستمعوا قولاً به يكوى النطف
يكاد من يتلى عليه يجتأف
وفي حديث عذاب القبر: ان المنافق اذا وضع في قبره سئل عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به فيقول لا أدري، فيقال: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت)( ).
والظلم: التعدي على الغير، والميل عن القصد، ووضع الشيء في غير موضعه، وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم، أي ما أقتبسه وتعلمه من أبيه، (وقال الأصمعي: أي ما وضع الشبه في غير موضعه) ( )، وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد.
وفي التنزيل: [[ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ…]( ).
ويجوز تعديه الى مفعولين بتقدير لا يظلم الناس او الخلائق.
وتظلم من زيد أي شكى ظلمه وتعديه.
وقال الشاعر:
اذا نفحات الجود أفنين ماله
تظلم حتى يخذل المتظلم
أي أغار على الناس حتى يكثر ماله.
ومن صفات الله تعالى انه عدل لا يظلم أحداً، ومن الآيات في الخلق ان الله عز وجل منزه من ظلم وتظلم العباد، فليس من إنسان يشكو الله عز وجل، فما يبتلى به العبد أما من نفسه او من غيره من الناس ليتوجه الى الله تعالى في التظلم والشكوى ورجاء كشف الغمة، وصرف الأذى.
في سياق الآيات
جاءت الآية السابقة بذكر رحمة الله واقامة المؤمنين فيها يوم القيامة على نحو الدوام والمكث المؤبد الذي لا يقبل الانقطاع، وجاءت هذه الآية لتشير الى آيات الله تعالى وفيه وجوه:
الاول: ارادة ما في رحمة الله من الآيات المتعددة.
الثاني: المقصود الآيات والدلالات الاعجازية في الآية السابقة وهي:
الاول: بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة.
الثاني: تغشي رحمة الله لهم.
الثالث: خلود المؤمنين في رحمة الله، وعدم مغادرتهم لها، او مغادرتها لهم.
الثالث: المراد مضامين الآيتين السابقتين، والدلالات الباهرات في بياض الوجوه وسوادها يوم القيامة وفق قوانين الجزاء الاخروي، اذ ذكرت الآية السابقة وجهاً من وجوه الجزاء الأخروي ذا شقين متباينين، هما بياض وسواد الوجوه.
الرابع: ماينتظر الكفار من العذاب الأليم بسبب إختيارهم الفرقة والخصومة والشقاق.
الخامس: لغة البشارة والإنذار في القرآن.
السادس: آيات القرآن مطلقاً، ومافيها من الإعجاز واحكام الجزاء، والاسرار القدسية التي تتضمنها، ودلالتها على تنزه واجب الوجود عن الظلم.
والصحيح هو الأخير لوجوه:
الاول: اصالة الإطلاق.
الثاني: انطباق عنوان الآية على كل آية من آيات القرآن.
الثالث: لغة الجمع في الآية اذ وردت بلفظ (آيات).
الرابع: كل آية من آيات القرآن تتلى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق, وارادة مطلق آيات القرآن لا يمنع من موضوعية الآيات السابقة في المقام، ومافيها من لغة البشارة والانذار، ودعوة الناس الى العناية بمضامينها باعتبارها نازلة من عندالله بالحق.
وهذا لا يمنع من إرادة الآيات السابقة وإرادة آيتي الوجوه على نحو الخصوص.
وجاءت الآية التالية بالاخبار عن عائدية ملك السماوات والارض لله عز وجل وكما ينعدم الشريك لله في الربوبية، فكذا ينعدم المشارك له في الملك وفيه توكيد لمضامين الجزاء التي جاءت بها الآيتان السابقتان، وانه جزء من ملك الله تعالى، ولا ينحصر ملك الله تعالى بعالم الآخرة، بل يشمل الحياة الدنيا ايضاً في دعوة للمسلمين للتوكل على الله والامتثال لاوامره وابتغاء الوسائل لنيل رضاه تعالى والفوز بالثواب الاخروي.
ومن اعجاز نظم الآيات حث هذه الآية على تلقي آيات القرآن بالتصديق والقبول لانها نازلة من عندالله عز وجل.
وفي جهة الخطاب في هذا الحث وجوه:
الاول: انه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ صيغة الخطاب (نتلوها عليك).
الثاني: ارادة المسلمين، لان الخطاب يتوجه لهم بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: توجه الحث على قبول الآيات الى الناس جميعاً لان الآيات السابقة تتضمن البشارة والانذار واختصاص المسلمين بالبشارة، والكفار بالانذار.
والصحيح هو الاخير ففي الآية توكيد لمضامين الآيات السابقة ودعوة الناس جميعاً للإعتبار والاتعاظ، ان تقييد تلاوة آيات (بالحق) شاهد على حتمية يوم القيامة، وبعث اهل الايمان بسحنة الإشراق والإسفار، واهل الفسوق والفجور بسواد وقبح الوجوه.
ومن التلاوة بالحق ورود الآية السابقة ببشارة صيرورة المسلمين في رحمة الله في الآخرة واذ اخبرت الآية السابقة عن اختصاص المسلمين برحمة الله في الآخرة، فان هذه الآية جاءت لنفي صدور الظلم من عند الله للناس جميعاً، في اشارة الى ان حرمان الكفار من رحمة الله في الآخرة ليس ظلماً، بل هم الذين حرموا انفسهم منها، وتنزيه مقام الربوبية من الظلم رحمة اضافية بالناس، ودعوة لهم لعبادة الله عز وجل والخشية من سخطه، وقد جاءت الآيات القرآنية في هذه السورة متعاقبات بذكر آيات الله، ومعاني الحكمة فيها كالآتي:
الاول: ذكر الآيات التي في البيت الحرام، قال تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ).
الثاني: لغة التوبيخ والتقبيح لاهل الكتاب لجحودهم بآيات الله، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( ).
الثالث: لغة المدح للمسلمين وتوكيد موضوعية آيات القرآن، قال تعالى [وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ]( )، وفيه دلالة على ان تلاوة القرآن باب للهداية والرشاد.
الرابع: هذه الآية الكريمة التي ذكرت تلاوة الله تعالى الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: ذم الذين يجحدون بآيات الله من اهل الكتاب، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( ).
السادس: مدح امة من اهل الكتاب ممن صدق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما انزل عليه من القرآن قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ]( ).
السابع: توكيد بيان الآيات والبراهين الدالة على لزوم الايمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( )، وهذا التعدد في تلاوة الآيات وتكرارها سبع مرات خلال اثنتين وعشرين آية اعجاز في نظم الآيات، ودعوة للتدبر في آيات القرآن والمبادرة الى تلاوتها والإنصات لها مع الإتعاظ والإعتبار والعمل بمضامينها، وفي ختم الآية بانتفاء الظلم عن مقام الربوبية بلحاظ نظم الآيات مسائل:
الأولى: سواد وجوه الكافرين يوم القيامة عقوبة عادلة لهم، وليس فيها ظلم.
الثانية: ليس في بياض وجوه المسلمين يوم القيامة ظلم او جور على الكافرين.
الثالثة: مجئ لغة الانذار في القرآن، والاخبار عن وجوه الثواب والعقاب فيها، وهي حجة على الكافرين، وشاهد على عدل الله تعالى وعدم ارادته الظلم للعباد.
الرابعة: لم يأت سواد وجوه الكافرين بسبب ظلم الآخرين لهم، بل بسبب ظلمهم لانفسهم.
واذا اخبرت الآية عن بياض وجوه المؤمنين واقامتهم في رحمة الله في الآخرة، فان هذه الآية رحمة بالمسلمين في الدنيا بالاخبار عن تلاوة الله عز وجل آياته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته يتلوها المسلمون.
وتلاوة الآيات رحمة وخير محض، وطريق الى الفوز ببياض الوجوه ورحمة الله في الآخرة، فتكون التلاوة بلغة السالك الى نيل الرحمة الإلهية في الآخرة.
ومن اراد بياض وجهه في الآخرة فالطريق اليه محصور بتلاوة آيات القرآن والعمل بمضامينها، وليس امامه فرصة اخرى غير الحياة الدنيا، وليس من كتاب نازل من عند الله بعد القرآن، وهذا المعنى يستقرأ من هذه الآية التي تؤكد ان القرآن هو آيات الله، وفيه دلالة على عدم نسخ القرآن بكتاب آخر ابداً.
فالقرآن هو آيات الله في المقام، ويعرف المراد بقرينة التلاوة، وقد يسأل الكافر يوم القيامة عن تغشي رحمة الله للمؤمنين في الآخرة، وحرمانه منها، فيأتيه الجواب من عندالله بان كل آية من القرآن كانت رحمة لك، ولكنك لم تنتفع منها في الدنيا، فحجبت عن نفسك الإنتفاع من رحمة الله في الآخرة.
اعجاز الآية
مع ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم علم اليقين ان ايات القرآن منزلة من عندالله، فقد جاءت الآية بمخاطبته بلغة التوكيد بان آيات القرآن من الله عز وجل، في دلالة على لغة البيان في القرآن وعمــومات خطــاباتــه، ودعوة الناس للاقــرار بان القــرآن كـــلام الله عز وجل.
ومن الآيات ان القرآن بذاته يؤكد هذه الحقيقة لما فيه من الإعجاز، فاعجاز القرآن شاهد على سماويته وتدل الآية بالدلالة التضمنية على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى القرآن بالوحي والتنزيل، ولم ينحصر موضوع الآية بتوكيد نزولها من عند الله، بل تضمنت وجوهاً:
الأول: جاءت الآية بصيغة الجمع، في توكيد لنزول آيات القرآن كلها من عندالله.
الثاني: لا يكون نزول الآيات الا بالحق والصدق، ومايفيد القطع.
الثالث: فضح أهل الخصومة والجدل بغير الحق بعد ثبوت نزول آيات القرآن من عندالله.
الرابع: يتضمن الإخبار عن نزول آيات القرآن بالحق من عند الله طرد الشك والريب واللبس في آياته، والتحذير من البحث عن وجود تعارض بينها لانتفائه موضوعاً وحكماً.
الخامس: تفيد الآية الجمع بين تلاوة الله عز وجل للآيات ولو بواسطة الملك، ونزولها من عنده تعالى دلالات عقائدية ودعوة الى الإيمان، ووحث الناس على اجتناب سخط وغضب الله.
السادس: انتفاء الظلم عن مقام الربوبية.
السابع: حجب الله الظلم عن الناس فيما بينهم، ومن البهائم والدواب.
الثامن: في الآية رد سماوي على اهل الشك والريب وإبطال جدالهم بالإخبار الإلهي عن نزول القرآن وانه كلام الله.
التاسع: لم تكتف الآية بالإخبار عن نزول الآيات من عندالله بل اخبرت بتلاوة الله للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو تشريف اضافي له وللقرآن.
العاشر: نفي الآية بالدلالة التضمنية التحريف عن القرآن، ومن الآيات ان تكون هذه الآية توثيقاً إلهياً لقيام جبرئيل بوظيفة نقل الوحي بامانة لنسبة تلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الله تعالى.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (نتلوها عليك).
الآية سلاح
مع ان آية قرآنية تتضمن المقومات الذاتية والدلالات التي تفيد نزولها من عندالله، جاءت هذه الآية لتؤكد حقيقة نزول القرآن من عند الله بلغة القطع والجزم، لتكون سلاحاً بيد المسلمين ومادة للدفاع عن القرآن والدعوة الى الإيمان به، ورد جدال أهل الباطل والضلالة، وإقامة الحجة عليهم وإسكاتهم.
وتبين الآية عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، وما اكرمه به من نزول القرآن على صدره، وتفضله تعالى بتوكيد هذا النزول وتلاوة القرآن.
وفيه دعوة للناس للتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصدور عن القرآن وعدم التفريط باي كلمة أو آية من آياته وما فيها من الدلالات والأحكام والسنن, ودعوة خاصة للمسلمين للعمل بمضامين آيات القرآن وما فيها من المسائل واحكام الحلال والحرام واحسن القصص والمواعظ.
وتبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين لما فيها من الإخبار عن تنزه الباري عز وجل عن الظلم والتعدي، وفيه حث للناس على التقوى والصلاح، واخبار بان عقاب الكافرين والظالمين عن استحقاق، فمع ان الدنيا كلها دار زوال، وان الذنب الذي يفعله الانسان ينقضي في زمانه، ولا تستمر اثاره طويلاً، بل تزول مع تقادم الإيام بفضل الله، فان العقاب على الكفر والشرك والظلم هو التأبيد في نار الجحيم.
ان نفي ارادة الظلم عن الله تعالى، دعوة للمسلمين للتنزه عن الظلم مطلقاً، وحث على بذل الوسع لتنقية المجتمعات من الظلم، ومنه ظلم الإنسان لنفسه، واشهر وجوه الظلم الذاتي اختيار الكفر والضلالة.
مفهوم الآية
جاءت الآية لتؤكد نزول آيات القرآن من عندالله، وانه خال من الزيادة او النقيصة، لذا جاءت بصيغة تلك آيات، ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدرك ويعلم حقيقة نزول القرآن من عندالله، ولا يشك في هذا طرفة عين ابداً، وكان الصحابة يتلقون آيات القرآن بالقبول والرضا، ولا يشكًون في نزول القرآن، فما هي مفاهيم الإخبار الإلهي في هذه الآية بنزول الآيات من عندالله، فيه وجوه:
الاول: اعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة اهل الكفر والضلالة، والصبر على مايثيرونه من الشبهات.
الثاني: دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمواصلة الجهاد في سبيل الله وتبليغ الآيات.
الثالث: تمكين معنى نزول آيات القرآن من عندالله في نفوس المسلمين.
الرابع: طرد اسباب الشك من نفوس المسلمين، واعانتهم على الايمان والصلاح والتقوى.
الخامس: بيان عظمة القرآن وموضوعية كل آية من آياته بحيث ينزل قرآن يؤكد نزولها من عندالله عز وجل.
السادس: حث المسلمين والناس جميعاً على التصديق بآيات القرآن، وان كل واحدة منها آية من عندالله.
السابع: الإخبار عن تفضل الله بتلاوة آيات القرآن قبل ان يتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريف للقرآن والمسلمين.
الثامن: نسبة آيات القرآن الى الله تعالى شاهد على بقاء القرآن وكل آية منه وعدم إرتفاعه أو تعرضه للتحريف.إذ أن الله هو الذي يتعاهد آياته وفي التنزيل [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
التاسع: في الآية توكيد لسماوية الآيات القرآنية وقدسيتها وما فيها من الإعجاز والدلالات.
التاسع: تنزيه مقام الربوبية عن الظلم، ومافيه من الضرر والأذى.
وفي الآية مسائل:
الاولى: العناية الإلهية بكل آية من آيات القرآن.
الثانية: التوثيق السماوي لكل آية من آيات القرآن.
الثالثة: ضرورة التصديق بالقرآن، والايمان بنزوله من عندالله على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، فليس من آية الا وجاءت هذه الآية لتوثيقها وتوكيد تلاوة الله عز وجل لها، ونزولها من عند الله بما فيها هذه الآية، فكما توثق هذه الآية سماوية آيات القرآن الاخرى فانها توثق نفسها ونسبتها الى الله، ونزولها من عندالله عز وجل.
الرابعة: كل آية من آيات القرآن هي آية من عند الله عز وجل.
الخامسة: نزول آيات القرآن حق وصدق، وحكمة وحاجة للناس ورحمة لهم.
السادسة: من مصاديق تنزه مقام الربوبية عن الظلم وكل مافيه قبح، وتلاوة الآيات من عندالله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على أن نزول القرآن من مصاديق العدل الإلهي.
السابعة: من صفات الله تعالى تنزهه عن الظلم والاضرار بالخلائق، وهو الذي ابتدعها وانشأها، وخلق الله الانسان من طين، ونفخ فيه من روحه ليبقى في رحمته ونعمته.
الثامنة: لم ينحصر تنزه الباري عز وجل عن الظلم بخصوص المسلمين بل يشمل الصالحين، وفيه اشارة بان الله سبحانه لا يعاقب بدون حق.
التاسعة: لايريد الله عز وجل الا نفع العباد، ومافيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة، لذا تفضل بتلاوة الآيات وانزالها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وجوه نسبة تلاوة الآيات الى الله امضاء تلاوة الملك لها، وتوكيد الوحي.
إفاضات الآية
كل آية من آيات القرآن سياحة في عالم الملكوت، ورحمة نازلة على المسلمين، تبعث الإيمان في نفوسهم، وتجعلهم ينطلقون في ميادين العبادة والصلاح مستضيئين بانوار الآيات التي تلاها الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآية لتؤكد للمسلمين نسبة آيات القرآن الى الله تعالى، وانها ليست آيات كتاب منزل من السماء فحسب، بل هي آيات الله عز وجل، وسر من اسراره وعلم مكنون تفضل بجعله هبة دائمة للمسلمين، وكنزاً من المعارف أطل على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحمل وامته لواء الجهاد الى يوم القيامة بسلاح القرآن الذي نزل بالحكمة والصواب والعلم بدليل قوله تعالى [نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ]، والذي يؤكد علمه تعالى بالنفع العظيم من آيات القرآن، وسيادة مبادئ الإسلام، ورفعة مبادئه، وعز اهله، ونيلهم الدرجات السامية في الآخرة، وكما تفضل الله عز وجل بتلاوة آيات القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فان المسلمين يرددون ذات التلاوة، وفيه تشريف لهم من وجوه:
الاول: تلاوة آيات الله عز وجل.
الثاني: قراءة ماتلاه الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوة الآيات، بإلاضافة الى افاضات الآيات القرآنية على اقوالهم وافعالهم، وتبعث الآية المسلمين على اقامة العدل في الأرض واجتناب الظلم، فكما يقومون بتلاوة آيات الله، فانهم يمتنعون عن الظلم لقبحه الذاتي، وهي رحمة بالناس جميعاً لانهم عباد الله الذين يتغشاهم جميعاً برحمته في الدنيا.
وتبعث الآية الغبطة في نفوس المسلمين لان الله يتفضل ويؤكد ان الآية القرآنية من عنده تعالى، وتدعوهم للغرق في بحورها، واستخراج درر الاحكام من مضامينها، والتنزه عن فعل المنكر والسيئات.
الآية لطف
تعتبر هذه الآية من اللطف الإلهي بالمسلمين لما فيها من الإخبار عن تلاوته تعالى للآيات، فصحيح ان جبرئيل هو الذي نزل بالقرآن، ولكنه واسطة ملكوتية يقوم بالنزول بالقرآن وابلاغه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما صدور الآيات فمن عندالله تعالى، وفي اثبات عائدية آيات القرآن الى الله مسائل:
الاولى: تشريف القرآن الكريم وتوكيد قدسيته.
الثانية: اكرام بني آدم بان القرآن نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: دعوة الناس للمبادرة الى تلاوة القرآن لإمور:
الأول: القرآن كلام الله.
الثاني: كل آية من آيات القرآن هي آية لله تعالى ومنه سبحانه.
الثالث: تلاوة الله عز وجل للقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد انعم الله عز وجل على المسلمين بهذه الآية لبعث الشوق في نفوسهم لتلاوة القرآن، والأخذ باحكامها وعدم التفريط بها، واراد الله عز وجل تقريب العباد الى الطاعة، واعانتهم عليها فانزل هذه الآية لتخبر عن ضرورة تعاهد آيات القرآن، والعمل بما فيها من الفرائض ومسائل الحلال والحرام، وتؤكد رحمته ولطفه تعالى بالناس بهدايتهم بآيات القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى سبل الهداية.
فصحيح ان الآية تتعلق بآيات القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى سبل الهداية الا انها تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه لم يأت بشئ من عنده ولامن الملائكة المقربين، بل يأتيه التنزيل من عندالله عز وجل ويحمل ما انزل عليه صفة كلام الله، وان الله عز وجل شرّف القرآن والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً به، وليس المسلمين فقط، وهي تدعوهم وتلح عليهم بلزوم دخول الإسلام وتلاوة القرآن والانتفاع من نزوله باعتباره رحمة لهم، ومقدمة لنيل الرحمة الاخروية التي ذكرتها الآية السابقة.
ومن اللطف الإلهي إخبار الآية عن عدله تعالى، ورحمته بالناس، واعانتهم على اجتناب الظلم بقسميه بان لا يكونوا ظالمين ولا مظلومين، ومن اللطف الإلهي ان يولد الانسان وهو لا يتحمل ظلماً وليس من ظلم عليه كمخلوق وعبدالله، ولكن الانسان يقوم بظلم اخيه فيتحمل وزر ظلمه بان يحرم نفسه من النعم الأخروية ومنها الاقامة في رحمة الله.
من غايات الآية
هذه الآية شهادة سماوية على نزول القرآن من عندالله، وكل آية فيه حكمة وعلم وموعظة وصدق، لقد اراد الله عز وجل تثبيت معاني الصبر في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله مستعداً لتحمل الأذى في جنب الله.
وتدعو الآية النبي محمداً والمسلمين لنشر كلام الله عز وجل، وتعليم تلاوة وحفظ الآيات والعمل بمضامينها، وتؤكد ان كل آية من آيات القرآن ثروة وخزينة سماوية انعم الله بها على اهل الأرض عامة والمسلمين خاصة بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويجب عليهم الانتفاع منها وعدم تضييعها او اهمال ما فيها من الأحكام والسنن والمواعظ والدروس.
وتبين الآية عصمة التنزيل من التغيير والتحريف، فما يصل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كله كلام الله ليس فيه زيادة او نقيصة لذا سمي جبرئيل بالامين, لانه مؤتمن على التنزيل، وقام بتبليغه كما هو، بالاضافة الى الأسرار في نسبة تلاوة الآيات الى الله تعالى، لقد جاءت آيات عديدة تخبر عن انتفاء الظلم في الآخرة، وتؤكد الحكم بين الناس بالعدل.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن العدل الإلهي مطلقاً في الدنيا والآخرة، فمن غايات الآية تنزيه الباري عز وجل عن الظلم لتكون تلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم على الناس حجة بالغة عليهم ودعوة للصلاح وسبباً للهداية والرشاد، وتحذيراً من ظلمهم لانفسهم قال تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ومن غايات الآية دعوة الناس للإلتفات الى عالم الآخرة ومافيه من وجوه الجزاء واسرار الحساب ولزوم الاستعداد له، والاخبار بان كل آية من الآيات السابقة نازلة من عندالله وان الله عز وجل تلاها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون دعوة للناس جميعاً للفوز برحمة الله في الآخرة واجتناب ظلمهم لانفسهم.
ومنها بيان مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه افضل الأنبياء لان الله عز وجل يتلو عليه آياته، وان المسلمين افضل الأمم لان كلام الله عندهم ويتلونه في كل يوم في صلاتهم الواجبة وغيرها.
التفسير
قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ]
ابتدأت الآية باسم الإشارة (تلك) والمراد بها اسم اشارة لجمع المؤنت، والدلالة على الآيات، ودعوة الناس للعناية والإلتفات الى هذه الآية وما تشير اليه من وجوه:
الاول: جاء اسم الاشارة من عندالله.
الثاني: ارادة الجمع والكثرة، وليس المفرد والمتحد.
الثالث: قدسية موضوع الاشارة وهو آيات الله.
وجاءت الآية بصيغة الإخبار الا انها تحمل معنى الخطاب وارادة جهة مخصوصة، وحصرها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مضمون الآية ودلالة الإشارة فيها، والتقدير: يامحمد تلك آيات نتلوها عليك) ويدل على هذا المعنى وجود ضمير المخاطب المفرد في (عليك) فلم تقل الآية نتلوها عليكم، وفي هذا الحصر مسائل:
الأولى: تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمسلمين.
الثانية: توكيد سماوي لانفراده بنزول آيات القرآن على صدره دون غيره من الأنبياء الآخرين.
الثالثة: اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات الله عليه، وبلوغه مرتبة لم ينلها احد من الأنبياء قبله وهي تلاوة الله تعالى عليه آياته وبيناته.
الرابعة: الآية شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على غيره من الأنبياء.
الخامسة: في الآية دعوة للناس جميعاً لتصديقه في نبوته وإتباعه ونصرته.
لقد اراد الله عز وجل للقرآن اثبات سماويته بذاته، فجاءت هذه الآية لبيان هذه الحقيقة، وتحدي الناس، وجعلهم يقرون بتنزيله من عندالله، ولا يقف الأمر عند الاقرار بل لابد من اتباعه بالتقيد باحكامه والانقياد بمافيه من الاوأمر واجتناب ما فيه من النواهي.
والمراد من اسم الإشارة في الآية جميع آيات القرآن النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان حقيقة وهي كل آية من آيات القرآن تتلى من عندالله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه دلالة على ان تقسيم آيات القرآن وما بينها أمر توقيفي ومن عند الله عز وجل، وجاءت هذه الآية لتضفي عناية خاصة على مضامين الآيات السابقة، والإخبار بان الله عز وجل يدعو المسلمين للإعتصام بالقرآن والسنة، ويتلو على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يحذّر امته من الفرقة والاختلاف، ويحثهم على اجتناب سنن الامم الاخرى التي اختارت الخصومة والشقاق، ويبين لهم شطراً من احكام عالم الجزاء وبياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين يوم القيامة، وتحتمل الآية وجوهاً:
الاول: ارادة آيات القرآن.
الثاني: الآيات الكونية كالشمس والقمر وإختلاف الليل والنهار.
الثالث: الآيات البينات في الآفاق وفي الأرض.
الرابع:الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن، ومنها التوراة والزبور والإنجيل.
الخامس: بعثة الأنبياء، وما آتاهم الله من الآيات والمعجزات كما في معجزات موسى عليه السلام، قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ] ( ).
السادس: المضامين القدسية التي تتضمنها آيات القرآن، ففي كل آية قرآنية كنوز من العلم، وآيات إعجازية، ودلالات على لزوم عبادة الله تعالى.
والصحيح هو الاول والسادس، فالمراد آيات القرآن وما فيها من المعاني، بقرينة التلاوة، وقوله تعالى [ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ]، وقوله تعالى في مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإخبار عن أدائه لوظائف النبوة [رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ] ( ).
ويدل اسم الاشارة في المقام (تلك) على لزوم التفات الناس الى آيات القرآن وعدم جواز الإعراض عنها او الغفلة عن مضامينها القدسية.
وجاءت الآية بينة خالية من اللبس ، فمع اسم الاشارة جاء ذكر الآيات وانها آيات الله عز وجل ولم تقل الآية (تلك آيات القرآن) او آيات النبوة او آيات التنزيل، بل نسبت الآيات الى الله تعالى، وفيه تشريف سماوي لكل آية من آيات القرآن لان الآية انحلالية، وتنبسط صيغة الجمع فيها (ايات) على جميع آيات القرآن، وتكون الاشارة الى كل آية من آيات القرآن بانها آية الله، لذا فان كل آية منها لها قدسية وأحكام خاصة مثل عدم جواز مس الجنب والحائض للحرف القرآني، وفي قراءة كل آية من آيات القرآن ثواب وأجر، ويحتمل لفظ الآيات في المقام وجوهاً:
الاول: ارادة الآيات الطوال من القرآن.
الثاني: المقصود آيات الأحكام.
الثالث: ارادة كل آية من آيات القرآن، وفق الفواصل المبينة بينها.
الرابع: كل شطر من آية يستقل بموضوع اوحكم مخصوص فهو آية من آيات الله التي تشير اليها هذه الآية.
الخامس: المراد آيات القرآن على نحو الإجمال باعتبار انه كلام الله عز وجل من غير تعيين لتقسيمه الى آيات مستقلات.
والصحيح هو الثالث، فالمراد من لفظ آيات الوارد في الآية الكريمة هو آيات القرآن والتي يبلغ عددها ستة الاف ومائتين وست وثلاثين آية قرآنية.
ومن الاعجاز ان تأتي الاشارة اليها جملة في آية واحدة للإخبار القاطع بانها جميعاً من عندالله، وتوكيد نزولها على نحو التفصيل وليس الإجمال.
وهذه الآية من آيات اللطف الإلهي واسباب الهداية لما فيها من الإعانة للناس على الايمان، والاقرار بنزول القرآن من عندالله، فتوجه الخطاب الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان القرآن كلام الله حث للناس على تصديقه وقبوله ودعوة الى الرجوع اليه، وقد مدح الله موسى عليه السلام بقوله تعالى[اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي]( ).
وجاء تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة الله عز وجل اليه لآيات التنزيل، ليتلوها على المسلمين، ويحضر الناس من كل جدب ومكان لينصتوا الى آيات القرآن فيؤمنوا بها، ومنهم من كان يترقب نزول الوحي ليرى حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنده فيدرك صدق النبوة لان حالته عند الوحي والتنزيل آية من عندالله اذ يغلب عليه العرق والعناء، وتظهر معالم ثقل الوحي حتى ينفصل عنه، فيقوم صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الآيات المنزلة وكأنها نور اشرق على الأرض وضياء ينفذ الى القلوب فينطبع فيها وتترجمه الجوارح بالعمل وحسن الإمتثال.
وقد ورد في الأخبار ان الملك يأخذ الآيات من اللوح المحفوظ فينزل بها ويتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل في ظاهره على عدم سماع الملك لتلاوة الآيات، ولكن نسبة تلاوتها الى الله تعني وجوهاً:
الاول: اضافة مايفعله الملك الرسول الى الذات المقدسة لان الله عز وجل هو الذي ارسله.
الثاني: الإخبار الإلهي عن صحة تلاوة جبرئيل للآيات.
الثالث: موضوعية التلاوة في نزول القرآن، وفهم معاني آياته، وفيه دعوة للعناية بقراءة آيات القرآن على نحو التلاوة والترتيل.
الرابع: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى قراءة آيات القرآن بصيغ التلاوة، وحث المسلمين على التقيد بأحكام واداب التلاوة والترتيل.
فمتى ما علم المسلمون ان الله عز وجل هو الذي تلا آيات القرآن فانهم يتعاهدون التلاوة ويتدبرون في معانيها وما لها من المنافع، ومن تلك المنافع أمور:
الأول: بيان الفاظ وكلمات القرآن، والنطق بالحروف من مخارجها.
الثاني: اختصاص قراءة القرآن بصيغة التلاوة فيعلم المسلمون وغيرهم ان آيات القرآن تتلى تلاوة.
الثالث: تزيد صيغة التلاوة واقترانها بآيات القرآن من انصات الناس لها، ورغبتهم في الإستماع لها.
ومتى ما سمع الانسان صيغة التلاوة يستحضر آيات القرآن، وتتبادر الى ذهنه معاني الوحي وكذا اذا سمع آيات القرآن فانه يشعر بموضوعية التلاوة في قراءتها.
الخامس: تلاوة الآيات، فرع تنزيلها، ويقوم الملك الرسول بالنزول بالآيات من عندالله، ويتلوها بأمانة تامة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآية للاخبار عن نزول الآيات بصيغة التلاوة الإلهية لها، والمراد هو تنزيل الآيات من عندالله وليس تلاوة الله، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ( ).
السادس: ارادة توكيد صيغة التلاوة في نزول الآيات، وان الوحي لا يعني النقر في قلب النبي او قراءته للآيات في لوح معين، بل يسمعها وتعيها اذنه، ويتلقاها بصيغة التلاوة، التي تفيد البيان، وهذه التلاوة من عندالله.
السابع: المراد بتلاوة الله للآيات هو أمر الله عز وجل الملك بان يتلو الآيات على الله، في دلالة على انها تأتي بأمر الله.
الثامن: بيان قدسية الآية القرآنية، لان الله تلاها قبل ان يتلوها النبي او أي مسلم.
وبين آيات الله وآيات القرآن عموم وخصوص مطلق، فكل آية من آيات القرآن هي آية من آيات الله عز وجل وليس العكس، اذ ان الآيات الإلهية أكثر وأكبر من أن تحصى، ومنها خلق الإنسان والآيات الكونية والسماوات والأرض وإستدامتها وعدم حاجتها لغير الله الله عز وجل، وعدم قدره غيره سبحانه على إحداث تغيير في أنظمتها.
ومن الآيات مجئ هذه الآية نازلة من عند الله الفاظاً وكلمات وتتضمن في معانيها ومصاديقها أسرار عالم الخلق والإبداع، وهو من مصاديق تبيان القرآن لكل شيء، فيتضمن اسم الإشارة “تلك” معانِ:
الأول: إرادة آيات القرآن.
الثاني: مايترشح عن تلاوة القرآن من معاني وأسرار آيات الخلق والإبداع.
الثالث: الإخبار عن علم الغيب، ومنه حال الناس يوم القيامة وكيف ان لون الوجه يكون بلحاظ العمل في الدنيا، فيأتي المؤمن يومئذ ووجهه أبيض، ويأتي الكافر ووجهه أسود.
قانون تفسير الآية للآيات القرآنية
من اعجاز القرآن قانون التفسير الذاتي، وهو مجئ آية قرآنية مفسرة لآية اخرى من آيات القرآن سواء كانت مجاورة لها، او من نفس السورة او من سورة اخرى من سور القرآن، وفيه دعوة إلهية للعلماء والمسلمين كافة للرجوع الى القرآن في علم التفسير والتأويل، وهو عون على ترك التفسير بالرأي المنهي عنه في السنة السنة النبوية الشريفة، ولم يأت هذا النهي عن الرأي الا عن استغناء وعدم حاجة له.
وقد تأتي الآية القرآنية مفسرة لآيتين او اكثر من آيات القرآن بلحاظ وحدة الموضوع او بيان الحكم المشترك وجهة التشابه في الدلالة، اما ان تأتي آية قرآنية مفسرة لآيات القرآن كلها على نحو جهتي مع كثرتها وتعددها فتلك آية اعجازية لا تطرأ على العقل الانساني، ولكنه أمر سهل على الله تعالى، وآية من آيات كلامه المجيد.
واثبات تلك الحقيقة وكون الآية القرآنية تفسيراً لآيات القرآن كلها بلحاظ موضوع وجهة مخصوصة يحتاج الى دليل وبرهان، ويمكن الإستدلال عليه بهذه الآية التي تبين حكم كل آية من القرآن بانها آية من آيات الله تعالى، وليس من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا من جبرئيل او الملائكة المقربين.
فكما تكون الشمس آية من آيات الله، والأرض آية اخرى، والانسان آية من بديع صنع الله، فان كل آية قرآنية آية إلهية قائمة بذاتها وتنحل الى عدة آيات بلحاظ كلماتها ومضامينها، مما يدل على ان القرآن جامع للآيات غير المتناهية، وفيه دعوة للناس للتصديق به، والاقتباس منه واستنباط الدروس والأحكام من آياته.
فالمراد من قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ] جميع آيات القرآن، ويتضمن التفسير لآيات القرآن من وجوه:
الاول: اسم الإشارة وانحلاله الى الاشارة المتعددة إلى جميع آيات القرآن، فكل آية من القرآن يشار اليها على نحو الانحلال والإنفراد والتقدير(تلك آية الله).
الثاني: نسبة الآيات الى الله تعالى فكل آية هي من عندالله.
الثالث: تلاوة الله تعالى لكل آية من آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( )، وافادة الصلاة من الله عز وجل معنى الرحمة وان الله تعالى يرحم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكذا جاءت هذه الآية بالاخبار بان الله عز وجل يتلو آيات القرآن.
الرابع: كل آية يتلوها الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق والصدق، وتكون معجزة وحجة دائمة على الناس أجمعين.
الخامس: تلاوة كل آية من آيات القرآن من عندالله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي تفسير الآية الواحدة لجهة مخصوصة من جهات الآيات القرآنية كافة مصداق لوحدة القرآن وانه كلام الله، وتوكيد لخلوه من الزيادة وعصمته من التحريف، وفيه دعوة لتعاهد آيات القرآن، والرجوع اليها في معرفة وجوه التفسير القرآني، فقد تجتمع اكثر من آية من آيات القرآن في تفسير الآية القرآنية اوجهة واحدة او جهات منها.
فمثلاً قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، يتضمن تفسيراً جهتياً لمئات من آيات القرآن التي تتضمن القصة والخبر التأريخي، وهي شاهد على ان كل قصة من قصص القرآن هي من احسن القصص في عالم التنزيل والوجود الإنساني، ولا ترقى أي قصة الى قصص القرآن ومضامينها العقائدية، وفيه دعوة للرجوع الى القرآن في اثبات الوقائع والأحداث، ومن الآيات التي يمكن اعتبارها تفسيراً جهتياً لآيات القرآن كافة قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ).
وتدعو الآية الى كيفية قراءة الآيات القرآنية، واشتراكها جميعاً في أحكام التلاوة والقراءة، ومنها قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، فكل آية نزلت مبينة من عند الله.
وفي الآية محل البحث دلالة على التفسيرالعام للآيات القرآنية من وجهين:
الاول: بيان نزول كل آية من آيات القرآن من عندالله عز وجل.
الثاني: كل آية من آيات القرآن وسيلة سماوية لهداية الناس، ودعوة للتدبر بآيات الله، ووجود آيات قرآنية مفسرة لآيات القرآن كلها بلحاظ جهة مخصوصة آية اعجازية، فآية تدل على تلاوة كل آية من عندالله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، واخرى تؤكد بيان الله للآيات للمسلمين والناس جميعاً، وتخبر عن وظيفة من وظائف كل آية من آيات الله، وفيها حث للناس لتوظيف العقل في عالم الاقوال والأفعال، واتخاذه مادة للهداية والرشاد وسلاحاً للاحتراز من الضلالة والغواية.
ويمكن اعتبار الآية قبل السابقة من مصاديق التفسير الجهتي لآيات القرآن كلها لما تتضمنه من الإخبار عن انقسام الناس الى قسمين يوم القيامة، فمنهم من تبيض وجوههم، ومنهم من تسود وجوههم، لتكون دعوة لتلاوة آيات القرآن والعمل بأحكامها، واجتناب الإعراض والغفلة عنها.
وتؤدي تلاوة الآيات والعمل باحكامها الى نيل الثواب الإلهي في الاخرة والفوز ببياض الوجوه، ويؤدي الجحود بالقرآن وآياته الى سواد الوجوه يوم القيامة.
ومن اعجاز القرآن ان تأتي آية قرآنية لبيان وظائف آيات القرآن ومنافع كل آية من آياته في الآخرة باعتبارها طريقاً ومقدمة لنيل نعمة بياض الوجوه والإقامة في النعيم الدائم.
قانون آيات الله
من بديع الخلق، إنحصار نسبة الآيات بالله عز وجل، فالآيات لا تصدر الا من عند الله تعالى، وتأتي بأمره وبمشيئته تعالى وتتجلى بالدلالات الكونية، والبراهين العقلية، والعلامات الحسية، ومعجزات الأنبياء والمرسلين، وبآيات القرآن والتنزيل مطلقاً، وفي مضامين وأحكام آيات القرآن تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين.
فكل نبي عنده آية أو آيات حسية معدودة من عند الله عز وجل اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء بأكثر من ستة آلاف آية قرآنية عقلية الى جانب الآيات الحسية الكثيرة، وفيه دلالة على عظيم فضل الله عليه وعلى المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وكل آية من آيات القرآن رحمة بالناس، ودعوة للهداية، ووسيلة لبياض الوجوه وواقية من سوادها يوم القيامة، وهي برهان على لزوم عبادة الله تعالى وحجة في لزوم تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته ودعوة للتفكر في أسرار الخلق وتوظيف الآيات لجلب المصلحة، ودفع المفسدة، وإحراز الثواب والنجاة من العقاب قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام ان الله عز وجل بعث موسى عليه السلام الى فرعون ببضع آيات قال تعالى [فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ]( ).وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالآلاف الآيات وليس الى طاغوت واحد او الطواغيت والملوك وحدهم، بل الى الناس جميعاً لهدايتهم للإسلام.
لقد جاءت الآيات للأنبياء على نحو الآحاد والأفراد المعدودة ولكنها جاءت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفعة لتكون رحمة بالناس، وتنبيهاً سماوياً للزوم اتباعه، وانذاراً من الجحود والصدود والإعراض عن نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا] ( )، مما يدل على ان الآيات تؤدي بحكم العقل والواقع الى الإيمان والهداية والرشاد.
ويمدح الله عز وجل الآيات التي أنزلها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخبر بانها منزلة الى المسلمين كافة، وانها مبينة قال تعالى [وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ]( )، وتفضل الله عز وجل وبين موضوعية كل سورة، وبيان آياتها، قال تعالى [سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ).
وقد ورد لفظ آيات بصيغة الجمع مائتين وثلاث وتسعين مرة منسوبة كلها لله تعالى وكلامه فلا يقدر على الآيات الا الله تعالى، وكل شيء من خلقه هو آية من بديع صنعه تعالى، كما ان الآية الواحدة تنشطر الى عدد غير محدود من الآيات بلحاظ استدامتها وتفاصيلها، وجاء لفظ الآيات مرة مضافاً الى القرآن، قال تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ]( )، وجاء مرة واحدة مضافاً الى السماء “آياتها” قال تعالى [وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ]( ).
ان آيات الله قانون ثابت في الأرض والسماء، وفي الدنيا والآخرة، وهي من اللامنتهي، وكل آية رحمة بالخلائق، ومن الآيات بياض وجوه المؤمنين، وسواد وجوه الكافرين يوم القيامة، من وجوه:
الأول: الإخبار عنها في القرآن.
الثاني: تلاوتها من عند الله تعالى على نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تضمنها لغة البشارة والإنذار.
الرابع: في الآية وعد كريم لأهل الإيمان والطاعة، ووعيد وتخويف لأهل الكفر والفسوق.
الخامس: الآية حرز من ظلم الإنسان لنفسه، ومن آيات الله تعدد الآيات في الموضوع المتحد، بالإضافة إلى بيانها لجهاته المنعددة بما يؤهل الآية للإحاطة بلا محدود من الوقائع والإحداث، وملائمتها حكماً وموضوعاً لكل الأزمنة وإلى يوم القيامة، مما يدل على كرم ولطف الله تعالى، وعظيم قدرته، وسعة رحمته بالناس، لتكون كل آية مناسبة للتفكر والتدبر في الخلائق.
ومن الآيات وحي الآيات، فكل وحي وتنزيل لآية قرآنية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو آية من آيات الله عز وجل، لتكون آيات القرآن نعماً متجددة تتغشى أهل الأرض وتدعوهم للإيمان، وتذكرهم بالله عز وجل ووجوب عبادته وشكره على كل آية من آياته، وهذا الشكر هو الآخر آية من عند الله بالتسبيب والإعانة والتوفيق، ليكون مادة للأجر والثواب.
ومن أسرار إنفراد الله تعالى بالآيات أنها رحمة مستديمة على الخلائق، ونعمة لا تنقطع وباب للشكر لله والثواب على الشكر، ومدرسة في المعارف الإلهية، ولا يقدر على الآيات والدلالات الباهرات الا الله تعالى.
علم المناسبة
يعتبر لفظ “آيات” من الألفاظ التي وردت بكثرة في القرآن، وهذه الكثرة عنوان الموضوعية ودليل العناية الإلهية بها، خصوصاً وان القرآن تبيان لكل شيء.
فمن البيان القرآني ان تأتي ألفاظ مخصوصة بكثرة في القرآن لتوكيد ما لها من الشأن والإعتبار، ولتمكين معناها في النفس، واستنباط الدروس والمسائل منها موضوعاً وحكماً واعجازاً.
ومجيء لفظ الآيات بصيغة الجمع بأكثر من ثلاثة اضعاف المفرد مع كثرته يدل على تعدد الآيات وانها تأتي دفعة وعلى نحو ظاهر وبيّن، باعتبار ان الكثرة والزيادة تؤدي الى التفقه والكشف والمعرفة والعلم.
ومن الآيات تعدد وكثرة آيات القرآن، وكل آية انحلالية تتضمن آيات كثيرة في الإعجاز والبيان والدلالات وعلوم الغيب وأحكام الحلال والحرام والدعوة الى المصالح والتحذير من المفاسد.
ومنها هذه الآية التي جاءت باسم الإشارة للتوكيد على الإعجاز في آيات القرآن وانها هبة من عند الله للناس جميعاً بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تشريف لمقام النبوة وانه أسمى وأشرف المقامات، ومحل الكمالات الإنسانية لأن آيات الله لا تحل الا على أفضل الناس وأسناهم مرتبة ورفعة.
وقد ورد قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ]( )، في ثلاث آيات في القرآن وهي:
الأولى: جاءت بتمامها خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه من المرسلين( )، في دعوة للناس للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه رسول من عند الله يتلقى الآيات ويقوم بتبليغها الى الناس، والجهاد من أجل تثبيتها في الأرض لفظاً ومعنى ومضموناً وحكماً.
الثانية: الآية محل البحث، وتعقبها للأوامر والنواهي والأخبار في الآيات السابقة إذ ورد في آية (واعتصموا) خمسة أوامر ونهي وثمانية أخبار، ومجيؤها بعد آيتي الوجوه.
الثالثة: في إنذار وتوبيخ الذين يعرضون عن الآيات، قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] ( )، كما جاءت الإشارة الى الآيات بنسبتها الى الكتاب والقرآن ست مرات كما في قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ]( ).
قانون الإشارة الى آيات الله
لقد أنعم الله على الإنسان وفضله على الخلائق بخصوص خلافة الأرض، ورزقه العقل والفهم والإدراك والتمييز بين الأشياء ثم تفضل الله عز وجل عليه مرة أخرى بان بين له مصاديق الحق، وأفراد الباطل، ودعاه لإتباع الحق وإجتناب الباطل، وجاءت هذه الدعوة بالكتب السماوية المنزلة وبعثة الأنبياء فأنزل الله الكتب السماوية على الأنبياء، وختمها بالقرآن جامعاً للأحكام في آيات مفصلات مبينات خاليات من اللبس والتعارض.
ومن العناية الإلهية بالعباد أنه سبحانه يشير الى آياته باسم الإشارة “تلك” للتنبيه وبيان عظمة وقدسية الآيات، فليس من شيء من الموجودات أفضل وأحسن من آيات الله، وكل شيء في الخلائق آية من عند الله عز وجل.
ومع ان التنزيل يشمل كتباً سماوية متعددة الا ان اسم الإشارة جاء بخصوص آيات القرآن ويحتمل وجوهاً:
الأول: وجود آيات أخرى من التنزيل غير آيات القرآن بإعتبار ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الثاني: تدل الآية على الحصر والتعيين، وان آيات الله هي آيات القرآن التي جاءت الإشارة لها في هذه الآية.
الثالث: يتضمن القرآن آيات جميع الكتب المنزلة قبله.
الرابع: في الآية دليل على النسخ، وإخبار بان آيات القرآن نسخت آيات التنزيل السابقة.
الخامس: ليس في الكتب السابقة آيات كآيات القرآن الإعجازية، خصوصاً وان آيات الأنبياء السابقين حسية، ولكن وردت آيات تفيد تلاوة الرسل على الناس آيات الله، قال تعالى [أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ]( ).
السادس: في القرآن ذكر لآيات الأنبياء وما فيها من الإعجاز، وكذا الآيات الكونية، ومن مصاديق الإعجاز في آيات القرآن انها تثبت وتوثق آيات الأنبياء الى يوم القيامة، وتبين ما فيها من الأسرار والمضامين القدسية، والأمور الخارقة للعادة.
وليس من تعارض بين هذه الوجوه وقد يبدو تعارض بين الوجه الأول والثاني منها، ولكن الجمع بين الوجوه ورد بعضها الى بعض يبين ان هذا التعارض غير مستقر وشبهة بدوية، خصوصاً مع لحاظ تبيان القرآن لكل شيء ومنها مضامين الكتب السماوية السابقة.
ومن فضل الله ان ينزل آياته على نبي واحد هو خاتم النبيين، وتكون بين دفتين في كتاب أسماه الله تعالى “القرآن” ليبقى هذا الاسم خالداً في النشأتين، ويترشح هذا الخلود من كونه آيات الله، وتطوى السماوات والأرض كما في قوله تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( )، أما القرآن فهو شاهد حاضر في الآخرة، ومصاحب للمؤمنين في الجنة، وليس هناك فرد يشارك القرآن في اللفظ او المعنى، لتبقى الإشارة الى آيات القرآن قانوناً ثابتاً في الأرض، وجذباً للناس للهداية والرشاد، ووسيلة للإيمان وحجة على أهل الكفر والضلالة، فليس لأحد ان يحتج بالجهالة وعدم العلم.
وفي مضامين قانون الإشارة الى آيات الله وجوه:
الأول: توكيد التنزيل من عند الله.
الثاني: اثبات موضوع نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الإخبار الإلهي عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان ما عنده من الله عز وجل.
الرابع: الإشارة الى حقيقة وهي ان الملك الذي ينقل الوحي ليس الا رسولاً من عند الله.
الخامس: تمنع الآية من التيه والضلالة والغواية.
السادس: الإشارة الى آيات الله برزخ دون إدعاء وجود آيات او تنزيل غيرها، ولقد إدعى مسيلمة الكذاب نزول الوحي عليه فأخزاه الله.
السابع: في الآية تحدِ ودعوة لإستقراء الأسرار القدسية في آيات القرآن.
الثامن: تتضمن الإشارة الى آيات القرآن ونسبتها الى الله الترغيب بالرجوع اليها والصدور عنها، وكل آية مدرسة في العلم والفقه ومرتبة في المعارف.
التاسع: من فضل الله على الناس ان يشير الى آياته ويدعوهم اليها، فهذه الآية من عمومات اللطف الإلهي بالناس جميعاً.
العاشر: في الآية رد على أهل الريب والشك، ودفع للشبهات، وإفحام للخصم وأهل الجدل واللجاج والعناد.
الحادي عشر: في الآية تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ ان الله عز وجل هو الذي يخبر الناس جميعاً بان هذه الآيات آياته، ومن عنده تعالى.
الثاني عشر: تدل الإشارة الإلهية الى آيات القرآن على المدد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وإعانتهم في الدعوة الى الإسلام، وتثبيت دعائمه في الأرض.
الثالث عشر: لا تقف الإشارة الإلهية الى آيات القرآن الى ألفاظها وما فيها من الإعجاز فحسب، بل تتضمن التدبر في معاني ودلالات كل آية من آياته، فالآيات السابقة تدعو الإنسان الى السعي الحثيث الى بياض وجهه يوم القيامة.
الرابع عشر: لا يجد الإنسان بياض الوجه الأخروي الا في آيات القرآن والإمتثال لما فيه من الأوامر، وهي تحذره من سواد الوجه في الآخرة الذي لا يأتي الا بالتكذيب بآيات الله وعدم العمل بمضامين القرآن قال تعالى [كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ]( ).
الخامس عشر: جاء الآيات باسم الاشارة (تلك) مع التعريف بالاضافة[آيَاتِ اللَّهِ] وكأنها تفيد الحصر والتعيين، في دلالة على ان القرآن جامع للآيات.
وومع أن لغة الخطاب في الآية الكريمة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي أعم وتشمل المسلمين والناس جميعاً بالتبعية، وتقدير الآية على وجهين:
الأول: تلك آيات الله نتلوها عليكم ايها المسلمون.
الثاني: تلك آيات الله نتلوها عليكم ايها الناس.
ومع إتحاد الخطاب التقديري الا ان الوجه الأول يتضمن البشارة والإكرام للمسلمين، اما الوجه الثاني فيتضمن التنبيه والتخويف والإنذار والوعيد، والتباين بينهما بلحاظ إقرار المسلمين بنزول الآيات من عند الله، وجحود الكافرين.
قوله تعالى [نَتْلُوهَا عَلَيْكَ]
جاء افتتاح الآية بالإشارة الى آيات الله والتوكيد على موضوعية كل آية من آيات الله وجذب الناس اليها واستقراء ما فيها من المضامين القدسية، ثم جاء هذا الشطر من الآية متمماً لفاتحتها ومتصلاً به ويبين حقيقة عقائدية وهي ان هذه الآيات تتلى من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل التلاوة في المقام معاني متعددة هي:
الأول: القراءة، وهو المعــنى اللغـوي الظاهر من اللفظ أي ان الله عز وجل يقرأها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: القصص والأخبار والشعر، فالله عز وجل يقص الآيات على رسوله الكريم ويخبره بها.
الثالث: البيان والكشف والإيضاح فيتفضل الله عز وجل ويبين آيات القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الوحي والإملاء فتأتي الآيات الى النبي بالوحي.
الخامس: جاءت الآية لبيان كيفية الوحي وان الآيات تأتي بالقراءة المتأنية التي تظهر معها الكلمات بوضوح من غير تداخل او خلط بينها، فتكون مفهومة وبينة وخالية من اللبس والإشكال، وبعيدة عن الشك والوهم.
السادس: تعريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين وتفسير آيات القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه والأصل فيها الوحي والقراءة بتأنِ وبيان ووضوح مع التتابع في نزول الآيات نجوماّ، قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
وفي الآية تشريف مركب من وجوه:
الأول: تشريف وإكرام آيات القرآن بان الله عز وجل يتلوها.
الثاني: تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان الله عز وجل يتلو عليه الآيات.
الثالث: اكرام المسلمين بان آيات القرآن التي بين أيديهم تلاها الله عز وجل وهم يقرأون ويعملون بما تلاه الله عز وجل.
وجاءت الآية بصيغة المضارع التي تفيد الحاضر المستديم، فمع نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي التأكيد من عند الله بتلاوتها من عنده، وفيه وجوه:
الأول: المقصود تلاوة الله عز وجل للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: تلاوة الملك، فجبرئيل هو الذي يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونسب الله عز وجل التلاوة له، لأن جبرئيل رسول من عند الله ينقل ما يأمره الله تعالى به.
الثالث: ان الله عز وجل يتلو الآيات على الملك، ويتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تقل الآية “نتلوها بالحق” بل جاءت مقيدة بالتلاوة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبصيغة الخطاب مما يعني سماع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتلاوة، وقد ورد في القرآن ما يدل على ان كلام الله مع البشر يأتي بالواسطة قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ( )،
فجاءت الآية للإخبار والبيان والتوكيد.
والصحيح هو الثاني فتلاوة الملك الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي تلاوة من عند الله من وجوه:
الأول: ما يتلى من الآيات هو من عند الله عز وجل، لذا تجدها منسوبة اليه.
الثاني: ليس للملائكة آيات خاصة بهم، والملك وما عنده آيات من آيات الله تعالى.
الثالث: وظيفة جبرئيل هي نقل الرسالة، فيتلو آيات الله وهي من عند الله، فيصدق على فعل الرسول ان التلاوة من عند الله.
الرابع: لا يفعل الرسول الا ما يأمره الله تعالى به، ويتشرف بنقل آيات الله تعالى.
وفي نسبة التلاوة لله تعالى وجوه:
الأول: ان الملك ينقل ألفاظ الآيات كما هي من غير تغيير او تبديل.
الثاني: كيفية نطق الوحي، ومخارج الحروف هي من عند الله وليس من عند الملك.
الثالث: خلو الوحي من التحريف او التغيير.
الرابع: ما أراد الله عز وجل وصوله الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي وصله كاملاً تاماً غير منقوص.
الخامس: خلو آيات القرآن من الزيادة.
السادس: نسبة التلاوة الى الله اكرام وتزكية لجبرئيل، وإخبار بسلامة الواسطة بين الله عز وجل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن فضل الله على الناس ان آياته لم تحجب عنهم مع انه الخالق وهم المخلوقون، وهو الباقي وهم الميتون، فتفضل سبحانه وأوحى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آياته، وأمره ان يتلوها على الناس جميعاً، ويحثهم على تلاوتها، ويدعوهم للفوز بالأجر والثواب العظيم في قراءتها والعمل بمضامينها وأحكامها القدسية، والتدبر بمعانيه.
والآية وان جاءت خطاباً الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا انها موجهة الى المسلمين والناس جميعاً من وجوه:
الأول: الإخبار عن وجود آيات الله تتلى في الأرض.
الثاني: عموم النفع من آيات الله، فلا يتعذر على الأمي معرفتها، فتأتي التلاوة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس وهم ينصتون ويسمعون.
ومن الآيات ان معرفة الناس بآيات القرآن لم تنحصر بالإستماع والإنصات مع دعوة القرآن لهما بل يحصل الغرض والتبليغ بالسماع العرضي، وفيه دعوة للمسلمين بتلاوة القرآن على الناس وبيان مضامين آياته، التلاوة الواجبة في الصلاة.
وتبين الآية فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الناس بان خصه الله تعالى بتلاوة الآيات عليه وبواسطته للمسلمين والناس جميعاً، وليس من أحد من أهل زمانه ولا الأجيال اللاحقة خصه الله بتلاوة الآيات عليه، مما يوجب عليهم إتباعه والإقتداء به والإنتفاع مما رزقه الله من النعمة التي خصه الله بها من بين الأنبياء والناس جميعاً.
وفي الآية وقاية من أهل الشك والريب لأن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة الآيات على الناس انما جاء محاكاة لتلاوة الملك الآيات عليه فكأن الآية تقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اشكر الله على أمور:
الأول: تلاوة آيات الله عليك.
الثاني: ان الذي يتلو الآيات هو الله تعالى.
الثالث: نزول الآيات عليك بصيغة التلاوة.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على عدم انقطاع التنزيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان تلاوة الآيات مستمرة وفعلاً لم يغادر الوحي والتنزيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى حين مغادرته الى الرفيق الأعلى.
وتحتمل التلاوة لآيات القرآن اطلاقاً وتقييداً وجوهاً:
الأول: تلاوة الله عز وجل لآيات القرآن كلها.
الثاني: تلاوة شطر من آيات كل سورة.
الثالث: تلاوة بعض سور القرآن دون بعضها الآخر.
والصحيح هو الأول، فتدل الآية على الإطلاق في تلاوته تعالى لكل آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون “نتلوها عليك”
لقد إختار الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمامة الناس فكما كانت رسالته رحمة للناس جميعاً فان امامته رحمة لهم جميعاً برهم وفاجرهم في الحياة الدنيا، وخصه بما لم يخص به أحداً من الأنبياء اذ انزل عليه أفضل كتاب سماوي وهو القرآن الكريم الجامع للاحكام الشرعية، والعلوم والمعارف والمواعظ وأسباب الهداية والرشاد.
ومن الآيات ان تأريخ النبوة لم يحفظ كيفية هبوط الوحي على نحو التوثيق ورواية الأصحاب وشهود العيان الا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو النبي الوحيد الذي يسجل التأريخ الإنساني كيفية تلقيه الوحي، وحالته ساعة نزوله، وكيف انها امارة ودليل على صدق نبوته، وما يلاقيه من العناء لتثبيت الآيات القرآنية في قلبه وقيامه بنقلها الى المسلمين ساعة انفصال الوحي عنه، وقد أسلم كثير من الناس لرؤيتهم حال النبي ساعة الوحي ودلالة القرآن على سماويته.
ومن صفات كل نبي عدم وجود واسطة من البشر بينه وبين الله عز وجل، فلا يكون تلقيه الوحي بواسطة أحد من الناس، بل يقوم به أحد الملائكة، وتفيد الإخبار المتواترة ان الرسول الذي ينزل بالوحي من السماء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة هو جبرئيل عليه السلام، واتحاد جهة التبليغ ونقل الوحي عنوان تسهيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للوثوق من شخص الملك الرسول.
فجاءت الآية للإخبار عن صدور التلاوة في الأصل من عند الله، وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه رسول من عند الله تعالى، لما في نسبة التلاوة لله تعالى من الشهادة بنبوته وان ما عنده آيات نازلة من عند الله، وتبين عظيم منزلة القرآن لأن الآية لم ترد بصيغة القراءة أو الحديث او الخبر بل وردت بصفة الآيات التي تتلى تلاوة، وترتل ترتيلاً بما يدل على موضوعية كل آية وعظيم درجتها ولزوم تلقيها بالعناية والإهتمام.
وفي الآية إخبار عن قانون واحد لنزول الآيات وصيغة ثابتة وهي التلاوة، فمع كثرة آيات النزول وعدد المرات التي ينزل فيها الملك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون الوحي بالآية القرآنية الا بصيغة التلاوة سواء كانت الآية طويلة او قصيرة او متحدة او متعددة، والتتابع في التنزيل.
والوحي أعم من القرآن وبينهما عموم وخصوص مطلق فكل قرآن هو وحي وليس العكس، وقد لا يكون عموم الوحي تلاوة، ولكن آيات القرآن لا تنزل الا بالتلاوة والترتيل، وفيه تفضيل لآيات القرآن من بين أفراد ومصاديق الوحي، وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على معرفة آيات القرآن والقيام بحفظها بمدد من عند الله عز وجل ليقوم بتبليغها كما هي من غير نقص او تبديل كلمة او حرف.
ان نسبة تلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الله تعالى، وانه سبحانه هو الذي يقوم بتلاوتها عليه من أسباب حال التعرق والسياحة في عالم الملكوت التي تصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساعة نزول الوحي، فعندما يعلم النبي ان الذي يتلو عليه الآيات هو الله عز وجل ففيه مسائل:
الأولى: إمتلاء قلبه حباً وشوقاً لله.
الثانية: الغرق في جلال قدسه سبحانه.
الثالثة: الإنصات الى الوحي بجوارحه وأركانه.
الرابعة: تلقي كل كلمة من التنزيل المبارك بالقبول والرضا والإقرار بفضل الله.
الخامسة: الشكر لله تعالى على نعمة الوحي والتنزيل.
السادسة: الإستعداد التام للإمتثال لما في آيات القرآن من أحكام الحلال والحرام.
السابعة: بلوغ اعلى مراتب المعرفة، والأهلية للعمل بالناسخ وترك المنسوخ.
الثامنة: الشوق للتالي من الآيات.
قانون الصلة بين النفخ والتلاوة
يعتبر خلق الإنسان آية في الخلائق، ودخول نوع جديد الى عالم الممكنات يتصف بتكريم خاص من لدن الله تعالى، اذ تفضل سبحانه وخلق الإنسان من طين، وجعل بداية حياة الإنسان بالنفخ فيه من روحه، ليكون هذا النفخ تغييراً نوعياً وإستحالة في ذات المخلوق، فتتبدل ماهية المخلوق من ذات الطين الى كائن حي متحرك عاقل يتصف بالتلقي والقدرة على الإستجابة والإمتثال، وأنعم الله عز وجل عليه مرة أخرى وجعله خليفة في الأرض، وحمّله مسؤولية حفظ كلمة التوحيد واعلاء لواء الإسلام، وتلك وظيفة عظيمة يستطيع الإنسان الإهتداء لها، والقيام بها بفضل الله من وجوه:
الأول: النفخ فيه من روح الله، وموضوعية النفخ في صلاح ذات الإنسان.
الثاني: نعمة العقل التي رزقها الله الإنسان، وتوظيفها في مرضاته تعالى.
الثالث: الآيات الكونية الدالة على وجوب عبادة الصانع.
الرابع: النبوة وبعث الأنبياء والرسل.
الخامس: تنزيل الكتب من السماء.
ولأن فضل الله تعالى على الإنسان من اللامنتهي، ولعمومات قواعد اللطف الإلهي، وإعانة الإنسان على التوفيق في أداء وظائفه العبادية، فان الله سبحانه أنعم عليه ببعث الأنبياء وجعلهم محلاً لتلقي الكتب النازلة من السماء ليكون كل من النبي والكتاب اماماً يقود الناس نحو الهداية.
ومن الآيات الملازمة بين إمامتهما واشتراكهما في قيادة الإنسان نحو دروب الهداية والرشاد، وفيه إعانة ومدد إضافي للإنسان في الإمتثال الأحسن للأوامر والنواهي الإلهية.
ومن الآيات في المقام ان اختيار الأنبياء من عند الله تعالى، ليس للإنسان فيه موضوعية، ومن خصائص اختيار النبي كونه جامعاً للكمالات الإنسانية، فينجذب الناس اليه، ويقوم بتليغ الرسالة على الوجه الأتم والأحسن، ويكون مؤهلاً لحمل أوزار الرسالة، وتعاهد أمانة السماء التي تجلت بأفضل وجوهها بآيات القرآن، ومن إعجازها انها لا تقبل التبديل حتى بالمرادف.
فكل كلمة من القرآن فريدة وجوهرة يتعاهدها الملك الرسول ويبلغها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم بنقل الرسالة كاملة الى المسلمين والناس جميعاً من غير تحريف ولا تبديل، فتدوم الصلة بين الله عز وجل وبين عباده، وهذه الصلة إستمرار وإستدامة لنفخ الروح في الإنسان من عند الله.
فلما بعث الله عز وجل الروح في آدم وأهبطه الأرض بعد ان كان في جنته، أراد سبحانه أن تبقى الصلة بينه تعالى وبين آدم وذريته، والتي تتقوم بخضوعهم وعبادتهم له سبحانه، فنزلت آيات الكتاب التي اختتمت وتتوجت بالقرآن، ولأنه سيد الكتب والجامع لأحكامها ونازل على أشرف النبيين، تفضل الله تعالى وتلاه بنفسه على نبيه ونسب التلاوة اليه وان كانت بواسطة الملك الرسول.
والنفخ في آدم من روح الله آية من عند الله تسري الى يوم القيامة في أبدان بني آدم وتخالط دماءهم وتساهم في توجيه عقولهم ومداركهم وتجذبهم لمنازل الشكر لله والثناء عليه، وجاءت آيات القرآن لتتداخل مع وظائف الروح التي نفخها الله في آدم عليه السلام، وتجعلها ذات منهجية ثابتة، وعامة وشاملة للناس جميعاً تدعوهم لعبادة الله والتقيد بأوامره في العبادات والمعاملات والأحكام.
فالنفخ في الإنسان من روح الله أمر فعلي روحاني لطيف، أما آيات القرآن فانها جامع للأمور العقلية والروحية والفعلية، فتنفذ الآيات الى شغاف القلوب وتبعث في النفس الشوق والرغبة في عمل الصالحات وتقود الجوارح نحو الطاعات، وتقهر النفس الشهوية والغضبية وتمنعهما من الأستحواذ على عمل الإنسان في نهاره أو ليله، ومن مصاديق الصلة بين نفخ الروح في الإنسان وبين آيات القرآن، ان تلاوتها تمت من عند الله عز وجل ليكون أخذ وقبول الناس لها امراً حتمياً.
وكما لا يستطيع الإنسان الإستغناء عما نفخ الله فيه من روحه لأنه الجزء الذي تتقوم فيه حياته فانه لا يستطيع الإستغناء عن آيات القرآن لأن الله عز وجل تلاها بنفسه وانها آيات الله الدالة على ربوبيته وبديع صنعه، ولزوم عبادته وبين النفخ والآيات بلحاظ الموضوعية في وجود الإنسان عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هنا من وجوه:
الأول: حاجة الإنسان الى كل من روح الله وآياته.
الثاني: كل واحدة منها نعمة وفضل من عنده تعالى.
الثالث: لا تبقي الحياة على الأرض الا بالنفخ والتنزيل.
الرابع: كل واحدة منهما باب للإبتلاء والإختبار.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: ابتداء حياة الإنسان بما نفخ فيه من روح الله، وقبل النفخ كان آدم عليه السلام جثة هامدة، وآيات الكتاب نزلت على الأنبياء بعد هبوط آدم الى الأرض.
الثاني: إستدامة حياة الإنسان بما نفخ الله فيه من روحه، فيحتاج الإنسان ذكراً أو أنثى ما نفخ فيه من روح الله في كل لحظة من لحظات حياته في اليقظة والنوم، والحضر والسفر، والصحة والمرض، أما آيات القرآن فإنه يحتاجها عند العبادة والمعاملة وإكتناز الصالحات ونيل الحسنات.
وأيهما أكثر أهمية في المقام الذي تتقوم به حياة الإنسان أصلاً وهو الروح، أم الذي تتقوم به أعماله وهو الكتاب، الجواب كل واحد منهما له أهميته وموضوعيته وخصوصيته، وأحدهما في طول الآخر وليس من تعارض أو تزاحم بينهما، وللروح موضوعية أيضا في الهداية والعمل الصالح.
نعم الحاجة لآيات القرآن في الآخرة هي الأهم والأكبر لأن مقامه الدائم في الآخرة فينال بياض الوجه على التقيد بأحكامها، ويبتلى بسواد الوجه عند إعراضه عنها وإختياره الفرقة والخلاف.
الثالث: تقدم نعمة النفخ على نعمة تلاوة الآيات زماناً ومكاناً، فلولا نعمة النفخ في الإنسان لما استطاع ان يتلقى ويتعاهد ويتوارث آيات التنزيل.
الرابع: لم يستلزم النفخ من روح الله الى جهد وعمل من الإنسان، اما تلقي الآيات والوحي فانه يحتاج من الإنسان الفهم، والقبول والقصد، والعمل.
الخامس: عندما نفخ الله في آدم من روحه قال الحمد لله، وكذا الأنبياء عندما تلقوا آيات الله فانهم أظهروا الخضوع والخشوع لله تعالى، ولكن الناس لم يؤمنوا جميعاً بالتنزيل فمنهم من آمن به ومنهم من كفر، وفاز المسلمون بالإيمان بالنبوة والتنزيل.
ومن الآيات ان نعمة الروح لم تنفصل عن الذي كفر ولم تغادره وليس من فارق في الدنيا بين المؤمن والكافر بخصوص نفخ الروح لأنها جاءت للإنسان بصفته الإنسانية وماهيته وأصل خلقه من طين، وأسرار تكوينه.
نعم يكون الفارق عظيماً في الآخرة للتباين والتضاد بينهما، ولصيرورة المؤمن في النعيم الدائم مع بياض وإشراقة الوجه، والقاء الكافر في النار كالح الوجه.
بحث كلامي
لقد فاز الإنسان بحب الله تعالى له، فجعله خليفته في الأرض، وفضله على كثير من الخلائق وشرفه بانزال الكتب السماوية عليه، ومنها آيات القرآن التي شهدت الأرض بها تحولاً نوعياً نحو ثبوت كلمة التوحيد، ونشر مبادئ الإسلام في أصقاع الأرض، وهو من إفاضات تلاوة الله تعالى للآيات.
ونال المؤمن مرتبة الحب الإلهي على نحو الخصوص، لتلقيه الأوأمر الإلهية بالقبول، وإظهاره الإمتثال لها.
وجاءت هذه الآية لبيان حب الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والمسلمين عامة، اذ شرفه الله عز وجل وتلا عليه الآيات وفيه شهادة بانه بلغ أسمى مراتب الحب الإلهي، وإرتقى الى مرتبة الشهود في عالم الغيب.
ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين.وهو آخرهم وخاتمهم ادخار نعم عديدة خاصة له منها في المقام:
الأولى: نزول آيات الله على صدره.
الثانية: تلاوة الله عز وجل الآيات عليه.
الثالثة: حسن قيامه بالتبليغ وأدائه لأمانة الرسالة.
قانون التلاوة
أصل التلاوة من الإتباع يقال: تلا يتلو تلواً: تبع، وأستعمل في القراءة لما تعنيه من إتباع الحروف، وتتابع بعضها لبعض، وبين القراءة والتلاوة عموم وخصوص مطلق، فكل تلاوة قراءة وليس العكس، وكما جاءت الآيات بالتلاوة، فانها وردت ايضاً بالقراءة، قال تعالى [سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى]( ).
وجاءت الآيات التي ذكرت القراءة بخصوص القرآن من الأعم الغالب، اما التلاوة فجاءت بخصوص القرآن والكتب السماوية الأخرى، ووردت في ذم الذين اتبعوا الشياطين في كذبهم وإفترائهم على ملك سليمان قال تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ]( ).
كما جاء ذكر التلاوة في القرآن بخصوص بني اسرائيل وتلاوتهم للتوراة وما فيها من صفة ونعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن يتلو الكتاب ويدعو الناس الى ما فيه من الأحكام والسنن ولا يتقيد هو بمضامينها، قال تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ]( ).
وتعتبر التلاوة ملازمة للكتاب السماوي، فقد جاء الرسل بالكتب السماوية وقاموا بتلاوتها على الناس، قال تعالى [أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ]( ).
وتعدد الرسل وأممهم ومجيؤهم بلسان قومهم يدل على عموم صيغة التلاوة، وعدم انحصارها باللغة العربية بإعتبارها لغة القرآن، مما يدل على خصوصية في التلاوة تساعد في الفهم وتلقي الناس للكتب السماوية بالفهم والإستيعاب والعلم، والتلاوة وسيلة للتحصيل والكسب العلمي.
ولقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتفضله تعالى بالإخبار عن تلاوته لآيات القرآن لتكون تلاوته سبحانه للآيات فيضاً وبركة على آيات القرآن، وسلاحاً سماوياً لتثبيتها في قلوب المسلمين والأرض، وفي بركات التلاوة الإلهية وجوه:
الأول: انها من أسرار شوق المسلمين لآيات القرآن وتلذذهم بتلاوتها، وامتلاؤهم غبطة وسعادة عند سماع قراءتها.
الثاني: انها سبب لعشق المسلمين للآية القرآنية.
الثالث: تجعل التلاوة الإلهية للآية القرآنية المسلم يشعر في كل مرة يقرأ فيهاالقرآن وكأنه يقرأه لأول مرة.
الرابع: تسهل تلاوة الله للآيات القرآنية حفظ المسلم لها.
الخامس: تلاوة الله للآيات حرز من تحريفها وتغييرها وتبديلها.
السادس: نيل المسلم والمسلمة الأجر والثواب على تلاوة ما تلاه الله عز وجل.
السابع: في تلاوة الله للآيات ترغيب وبعث للناس للإيمان بها وتلاوتها.
وجاءت الآية بصيغة المضارع “نتلوها” وفيه صبغة الإستمرار، و مع انقطاع الوحي والتنزيل بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى، الا ان منافع وأسرار التلاوة باقية الى يوم القيامة ببقاء القرآن بين الناس.
وتعتبر تلاوة المسلمين لآيات القرآن حفظاً للحياة الإنسانية وديمومتها على الأرض، وكما ان تلاوة القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأتي بواسطة الملك مع نسبتها الى الله عز وجل، فكذا بالنسبة لتلاوة المسلمين آيات القرآن فانها باب هداية للناس، وسبب للإحتراز من الشيطان ووساوسه.
لقد أراد الله عز وجل لتلاوته البقاء في الأرض على لسان المسلمين وكما نفخ الله عز وجل في الإنسان من روحه، وجعله عاقلاً مميزاً مدركاً، فانه سبحانه جعله يتلو ما تلاه من الآيات.
ومن الإعجاز في المقام تلاوة المسلمين لآيات القرآن خمس مرات في اليوم، وما من دقيقة تمر على أهل الأرض الا وشطر من المسلمين يقرأون القرآن في شرق الأرض أو غربها، بلحاظ أمور:
الأول: التعدد في فرائض الصلاة اليومية
الثاني: التباين في اوان وأوقات الصلاة بالنسبة للأمصار، وهو ظاهر للحواس، فذات اللحظة تكون في بلد صباحاً وفي ثان ظهراً وفي آخر عصراًوهكذا.
الثالث: المندوحة والسعة في وقت الصلاة إذ يستمر وقت صلاة الصبح مثلاّ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
الرابع: موضوعية وقت الفضيلة في الأداء، وثبوت وقت مخصوص يؤدي فيه أكثرأهل كل بلد صلاة الفريضة.
وتتناوب الأنظمة والسلاطين والأمم، والتلاوة باقية شامخة يصدح بها أهل الإيمان وتتلقاها الملائكة بالرضا والقبول، فكما نزل بها جبرئيل فان أصوات المسلمين تصعد بذات التلاوة الى السماء كل ساعة من ساعات النهار والليل.
واذ سأل الملائكة عن علة جعل الإنسان خليفة في الأرض مع انه يفسد فيها، وتفضل الله عز وجل واجابهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] وكيف انه علم آدم الأسماء كلها، وأقام الحجة في علة خلق الإنسان، فانه سبحانه جعل الملائكة يرون المسلمين كيف يتلون بشوق وخشوع ذات الآيات التي تلاها الله عز وجل، وهو من معاني ودلالات تعليمه تعالى لآدم الأسماء.
لقد انعم الله عز وجل على الناس بتلاوة آيات القرآن لينجذبوا إليها، وينهلوا من علومها، ويكرروا تلاوتها من غير ملل أو ضجر، وجاءت الآيات بحث المسلمين على الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباع سنته، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
أما وان تأتي تلاوة المسلمين للقرآن تحاكي تلاوة الله عز وجل فتلك آية في الخلق لم يرق اليها جنس من الخلائق، ودعوة لدخول الإسلام وقراءة القرآن.وهو من مصاديق تفضيل المسلمين على أهل الملل الأخرى.
لقد أراد الله عز وجل بتلاوته الآيات بقاء تلاوتها في الأرض الى يوم القيامة، وبقاء تلاوة الآيات قانون ثابت يجذب الناس الى طرق الهدى، ويساعدهم في الثبات في منازل التقوى والتفقه في الدين، والإرتقاء في المعارف الإلهية واكتساب العلوم، ويتجلى هذا الأمر بملازمة العلم والمعرفة للإسلام وإنتقال الناس بالبعثة النبوية من حال الجهالة والضلالة الى حال المعرفة والعلم، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ).
لقد جاءت آيات القرآن بمدح جبرئيل وأنه أمين، قال تعالى [ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ] ( ) وتؤكد هذه الآية أمانة جبرئيل في باب التلاوة ايضا وتلك آية أخرى في التنزيل، وبيان الآيات.
علم المناسبة
جاءت مادة “تلى” في القرآن بمعنى القراءة نحو خمسين مرة لتؤكد على موضوعية تلاوة الآيات ونزول الكتب السماوية على الأنبياء، ولزوم الإتعاظ والإعتبار من التلاوة، واتخاذها سبيلاً للإيمان والعمل بأحكام التنزيل، وتتضمن لغة التوبيخ والتقبيح للذين يصدون عن تلاوة الآيات ويجحدون بها قال تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا]( ).
وورد قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ]، ثلاث مرات في القرآن فقد جاء في سورة البقرة( )، وفي الآية محل البحث، وفي سورة الجاثية( ).
وجاء في سورة البقرة بإعتباره آية كاملة مما يدل على موضوعيته وما له من الدلالات العقائدية، وجاء في هذه الآية مقترناًَ بنفي الظلم عن الله تعالى، وفيه إشارة الى كون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات دعوة للناس جميعاً للهداية، وقيام البرهان على لزوم عبادة الله تعالى من وجوه:
الأول: نزول الآيات من عند الله.
الثاني: مجيؤها على نحو التلاوة لتكون بينة جلية خالية من اللبس والترديد.
الثالث: تلاوة الآيات من عند الله عز وجل، وهو فضل إضافي على الناس وسبب لإنجذاب النفوس للآيات.
الرابع: لا تأتي التلاوة الإلهية للآيات الا على الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة للتصديق بنبوته واتباعه، فمن عدل الله تعالى وعدم ظلمه لأحد تلاوته للآيات على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الدلالات والحجج، ومنها الحث على الإيمان.
أما في سورة الجاثية فقد جاءت الآية بذم الذين يتخلفون عن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] ( )، وفيه إشارة الى موضوعية تلاوة الله عز وجل للآيات على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب الإيمان والإقرار بالعبودية لله تعالى، ودليل على حصول التبليغ وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قام بتلاوة الآيات وتبليغها الى الناس.
بالإضافة الى الشواهد ومنها إيمان الصحابة وخروجهم للجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام، ودعوتهم الناس لدخوله وكانوا يتخذون من تلاوة آيات الله وسيلة لجذب الناس للإسلام حتى في ميادين القتال، ولا يبدأون أحداً بقتال بل يقومون بتلاوة آيات القرآن في السلم والحرب، والشدة والرخاء، وفي سوح المعارك، وكان لها أثر كبير في حصول التغيير في نفوس أعداء الإسلام، فيكون العدو عند سماع الآيات على أقسام ثلاثة:
الأول: الذي تمتلأ نفسه بالخوف والفزع لأنه يدرك ولو على نحو الموجبة الجزئية الأسرار الملكوتية في آيات القرآن.
الثاني: من يترك محاربة الإسلام، ويرضى بالشروط التي يضعها المسلمون، ومنها الجزية على أهل الكتاب.
الثالث: الذي يختار دخول الإسلام، ويترك الكفر ويهجر الجحود والعناد.
قوله تعالى [بِالْحَقِّ]
ان الإخبار الإلهي عن تلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة كلامية تفتح الباب لدراسات عقائدية تؤكد إكرام الله عز وجل له، وتشريفه بحمل اكبر أمانة في الأرض، وأهليته لأدائها.
ويدل على تكليم الله تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان جاء التكليم بواسطة الرسول، ومما فضل الله تعالى به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ان تكليمه تعالى له جاء بالقرآن وآياته، وعلى نحو التلاوة، وما فيها من البيان واسباب التثبت.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ان جاء الإخبار عن تكليم الله تعالى له بواسطة ذات الكتاب الذي أنزل عليه ولا يحتاج هذا الإخبار كتاباً آخر ينزل من السماء خصوصاً وان التنزيل إنقطع عند انتقاله الى الرفيق الأعلى، ومع ان نزول الآيات من عند الله لا يكون الا صدقاً وحقاً، فقد جاءت هذه الآية بتقييد النزول بانه بالحق، وفيه وجوه:
الأول: انه تشريف إضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يفيده هذا التقييد من الدلالات على القطع بحصول التنزيل من عند الله عز وجل، وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن أمانة الملك الرسول الذي ينزل بالقرآن.
الثاني: ترسيخ ملكة السكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان كل ما ينزل عليه جبرئيل هو آية من آيات الله عز وجل.
الثالث: فيه تحدِ إضافي لأهل الكتاب والكفار، وكان فريق من الكفار ومنهم كفار قريش يحاولون التشكيك بآيات القرآن، فجاءت هذه الآية للرد عليهم.
ومن إعجاز القرآن ان تأتي الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتضمن التوبيخ والتقبيح للكفار، فاذا كانت الآيات نازلة عليه بالحق، فلماذا يصرون على الكفر والجحود.
الرابع: حصر سبيل الإيمان بالتصديق بالآيات النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الخامس: ان الله عز وجل يرى ويسمع الملك في تبليغه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات، وتلك خصوصية ينفرد بها الله تعالى، فلا أحد يستطيع ان يرى ويسمع الرسول الذي ينقل رسالته الا الله تعالى، فان قلت بإمكان المرسل في هذا الزمان أن يرى ما ينقله رسوله عبر نقل الأقمار الصناعية والصور المسجلة، والجواب انه أمر مستحدث مما علم الله الانسان، ولم يكن موجوداً في الأزمنة والأجيال السابقة، ويأتي عن جهد وسعي، ولا يكون الا على نحو الموجبة الجزئية في وقت ومكان مخصوص وبإمكان الرسول ان ينقل ويتكلم في مناسبة وحال، وموضع محجوب عن التصوير فيقول كلاماً أو يفعل فعلاً غير الذي جاء به، والله عز وجل محيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
السادس: تدعو الآية المسلمين الى تعاهد آيات القرآن وعدم التفريط بآي آية منها.
السابع: تعلق الجار والمجرور “بالحق” بتلاوة الآيات انحلالي، فكل آية من آيات القرآن نزلت بالحق، ومنها هذه الآية، وما فيها من الإخبار بان الله تعالى هو الذي يتفضل بتلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبلحاظ تعدد معاني حرف الجر الباء، فان الآية لها دلالات عديدة منها:
الأول: من معاني الباء الإستعانة، وهي الداخلة على آلة الفعل كما تقول: سافرت بالطائرة، وتخبر الآية ان التلاوة كانت بصيغة الحق ولغة الحكمة والصواب.
الثاني: تدل الباء على السببية وان مجرورها سبب لحدوث الفعل كما في قوله تعالى [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( )، وبسبب الحق نزلت الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق الحق في المقام ان الله عز وجل رؤوف بالعباد، يأخذ بأيديهم الى سبل الجنة والرضوان.
الثالث: تأتي الباء للمصاحبة، ومصاحبة المجرور لمتعلقه من الفعل، وتفيد الآية ان الحق والحكمة والعدل تلازم تلاوة الآيات ولا تغادرها في دلالة على صدق كل آية من آيات القرآن، وان الله عز وجل هو الذي تلاها.
الرابع: من معاني الباء مرادفة (في) كما في قوله تعالى [ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ] ( )، وجاءت تلاوة آيات الله في الحق والصدق وأحسن القصص ذات الصدق.
الخامس: من معاني الباء مرادفة “عن” كما في قوله تعالى [فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا] ( )، أي اسأل عنه خبيراً، وتفيد قراءة الآية بهذا المعنى ان تلاوة الآيات عن الحق وفيه وجوه:
الأول: تلاوة الآيات عن الله عز وجل، وبيان صفاته.
الثاني: تتضمن تلاوة الآيات الإخبار عن السماوات والأرض وقصص الأنبياء وما فيها من الحق والصدق.
الثالث: من الحق انباء الغيب وعالم الجزاء، وما فيه من بياض وجوه المؤمنين وخلودهم في النعيم، وسواد وجوه الكافرين وإقامتهم الدائمة في الجحيم.
السادس: من معاني “الباء” التبعيض، فتأتي مرادفة للحرف “من” فيكون معنى الآية ان تلاوة الآيات جزء من الحق والحكمة والعدل الإلهي، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ]( ).
السابع: من معاني “الباء” انه حرف جر زائد، ويفيد التوكيد وكما تزاد الباء في “النفس والعين” لتوكيد دلالتها على ذات التلاوة فان زيادة الباء في المقام “بالحق” يفيد التوكيد بانه لا آيات تنزل بتلاوة الا من عند الله عز وجل.
الثامن: تأتي الباء للدلالة على الماهية والصفة والتمييز بالنعت، والقرآن هو حق وصدق وحكمة، قال تعالى [وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ]( ).
لقد أراد الله عز وجل أن تتغشى مضامين الحق آيات القرآن على نحوالإبتداء والإستدامة، فتبدأ بان يتلوها الله تعالى بالحق، ثم الملك الرسول ثم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليأخذها المسلمون أمانة سماوية عظيمة، وكل آية خزينة من العلم والحكمة، وتنطق بالحق والصدق.
قانون توثيق الملك الرسول
نزلت الآيات القرآنية من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة ملك وهو جبرئيل اختاره الله عز وجل لنقل آيات القرآن.
ومن الكنوز التي تظهرها هذه الآية عدم إنحصار أمانة جبرئيل بتعاهد نص الآيات، بل تشمل الأمانة في تلاوتها فذات التلاوة التي تلا الله عز وجل الآيات او ارادها الله تلاها جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء والبشر جميعاً اذ خصه بالإنصات الى تلاوة الله عز وجل للقرآن.
ولا يضر وجود الواسطة في نقل التلاوة الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها واسطة ملكوتية تتصف بالأمانة والقدرة على النقل بدقة تامة، وأمانة الملائكة أمر ثابت ومعروف عند المليين، وكل أتباع الأنبياء يدركون حقيقة أمانة الملائكة مطلقاً ومنهم الذين يقومون بنقل الآيات والكتب السماوية الى الأنبياء، ومع هذا تأتي هذه الآية الكريمة لتوثيق الملك الذي نزل بالقرآن، وتخبر عن أمانته وصحة نقله للتنزيل.
ويستقرأ هذا التوثيق من خلال توكيد الآية على ان الآيات التي يسمعها النبي بالوحي والتنزيل هي من عند الله، وجاءت بتلاوته تعالى لها، فتكون تلاوة الملك للآيات نقلاً لتلاوة الله عز وجل على سبيل الأمانة والعهد، وفيه أسرار ملكوتية من وجوه:
الأول: تعرف الملائكة القرآن بتلاوته.
الثاني: تتضمن تلاوة الله تعالى للآيات معاني قدسية.
الثالث: لا ينقل الملك الرسول الا ذات التلاوة الإلهية كما هي من غير تبديل في الصيغة واللفظ.
لقد أخبر القرآن بان الله عز وجل لا يكلم أحداً من الناس الا بالوحي او بالواسطة قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ( ).
فجاء الإخبار عن تلاوة الله عز وجل للآيات شهادة على إمانة جبرئيل عليه السلام، وانه قام بتبليغ الرسالة كاملة من جهة اللفظ والمضمون والتلاوة، وانه لم يخطأ في غاية التنزيل مرة واحدة، فجبرئيل عليه السلام يعرف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه وعلامته ونعته ويميز بينه وبين غيره من الناس، فلم ينزل بالقرآن على غيره ابداً.
وليس لأحد ان يدعي ان جبرئيل أضل مرة سبيله، ولم تسمع احداً يفتري على التنزيل بحصول خطأ في الرسالة، وعدم الإفتراء هذا عصمة وتنزيه أنعم الله به على كل من:
الأول: جبرئيل عليه السلام، واقرار الناس بأمانته وأدائه الرسالة.
الثاني: آيات القرآن وان الله عز وجل تفضل بتلاوتها.
الثالث: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم إذ نزلت عليه آيات الله بصيغة التلاوة ، وما فيها من العذوبة والجذب الإلهي لمفاهيم الإيمان.
الرابع: إن الله عز وجل يرى جبرئيل في نقله وتلاوته للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ووردت في القرآن إضافة الآيات الى الكتاب ، قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ] ( )، وأخبر القرآن عن جزئية الآيات من السورة قال تعالى [سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ).
وجاءت التلاوة والتنزيل للآيات بوصفها آيات الله تعالى في توكيد على منزلتها وشرفها وصدورها من عند الله وانه سبحانه لا يتلو الا آياته، ولم يأتِ في القرآن ذكر لآيات الا لآيات الله سواء الآيات الكونية او آيات القرآن والكتب المنزلة والبراهين الدالة على ربوبيته تعالى وكلها آيات من عنده تعالى، ورشحة من رشحات قدرته سبحانه.
ان شهادة هذه الآية بأمانة جبرئيل عليه السلام حث للناس على الأمانة مطلقاً، ودعوة لهم لإجتناب التحريف والتبديل في كتاب الله، ويدل بالدلالة الإلتزامية على عصمة القرآن وعدم طرو التحريف عليه لما فيه من الإشارة الى حفظ الله للقرآن وعنايته به، وتعاهده لكلماته وتهيئة الأسباب والوسائط التي تساعد في بقاء الآيات كما أنزلت من غير تغيير او تحريف.
قانون آيات الله من أسماء القرآن
من خصائص القرآن تعدد أسمائه، وكل اسم منها له دلالاته العقائدية، ويتضمن أسراراً ومفاتيح للعلم والعمل، ومن أسمائه الفرقان، والكتاب والذكر.
وجاءت آيات القرآن لتخبر عن اسم آخر له، وهو آيات الله، كما في هذه الآية التي تأتي بهذه التسمية بلحاظ تلاوته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتكون القرآن من سور، والسور من آيات عديدة، فكل سورة تنقسم الى آيات بينات، وبينها فواصل تعين انتهاء الآية وابتداء التي بعدها، ومع هذا لم ترد الآية الا باسم آيات الله في تشريف لها، ولموضوع التلاوة، فحينما يتلو الله الآيات لا يرد ذكرها الا باسم آيات الله مع ورود تسميتها بآيات القرآن في آية أخرى قال تعالى [طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
وقد يقال ان المراد من الآيات هو ذاتها والمتعدد منها اما المقصود من الاسم فهو العنوان الدال على المسمى والمعنون، والجواب ان اسم آيات الله جامع لآيات القرآن، بلحاظ ان كل آية معجزة وعلامة بينة وبرهان وحجة.
وقد جمعت آيات الله في القرآن ليكون اسماً لها، وفي هذه الاسم تشريف للقرآن اسماً ومسمى لما فيه من التوكيد على قدسية كل آية من آيات القرآن، فلو لم يكن لآيات القرآن الا نزولها من عند الله عز وجل لكان هذه النزول عنواناً لشرف عظيم وقدسية خاصة للآيات لما يترشح عليها من موضوع وحكم النزول من عند الله سبحانه، ولكن هذه الآية أخبرت عن أمور إضافية يزيد كل واحد منهما آيات القرآن قدسية ودلالة وهي:
الأول: وصف آيات القرآن بانها آيات الله تعالى ومعجزات صادرة من عنده لتكون حجة على العالمين.
الثاني: تلاوة الله عز وجل للآيات.
الثالث: اقتران تلاوة الله للآيات بنزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلك خصوصية إضافية، بحيث يسمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلك التلاوة، ومن يسمعها بالوحي ترسخ في قلبه ولا تغادره، وتكون عوناً له، وواقية من الشر والكيد ووسوسة الشيطان، وسلاحاً في العمل بمضامينها، وهو من خصائص النبوة وأسرار تفضيل الأنبياء على الناس.
لقد تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين اذ سمى الكتاب الذي انزل عليه بانه آيات الله، وفيه دعوة للناس جميعاً لعدم الجحود بآياته وانذار من الصدود عنها، ومن الآيات الإعجازية في هذه التسمية اضفاء قدسية خاصة لكل آية من آيات القرآن لتكون حثاً للناس للأخذ بها، وتحذيراً من الإعراض عنها، قال تعالى [يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا]( ).
ومن منافع هذا الاسم التسليم بمضامين القرآن والتصديق بآياته والعمل بما فيها من الأوأمر والأحكام، واجتناب ما نهت عنه، ومنها الزجر عن الجدال في القرآن، قال تعالى [ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ]( ).
ان تسمية القرآن بآيات الله اخبار عن حقيقة من الإرادة التكوينية وسر من أسرار الخلق، وخلافة الإنسان في الأرض بان جعل عنده آياته لتكون امانة وسلاحاً ونوراً يضيء له دروب الدنيا والآخرة، وفيها ترغيب بحفظ وتلاوة آيات القرآن، وتلقي آياته بشوق وتصديق وتدبر.
ووصف الله عز وجل آيات القرآن بانها مبينات وانه سبحانه بينها للناس قال تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، والتلاوة من مصاديق البيان والكشف الى جانب ما تضفيه من القدسية على الآيات.
وتدل تسمية القرآن بانه آيات الله على ما فيه من الإعجاز والأسرار الملكوتية، ولزوم تعاهد الناس لآياته، وإقبالهم عليه، وصدورهم عنه، وعدم التفريط في أحكام أي آية منه.
وفي إضافة اسماء مباركة للقرآن مثل اسم آيات الله شاهد على عظيم منزلته عند الله وانه كنز سماوي ادخره الله لخاصة اوليائه، وفاز به المسلمون فكانوا بالقرآن ورثة الأنبياء لأنه آيات الله التي انزلها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتبقى ملازمة للإنسان في وجوده في الأرض، وتمنحه الحياة الإيمانية، وتفتح أمامه آفاق العلم وتجعله متسلحاً بالحكمة والتقوى.
قانون التلاوة من البيان
لقد أنعم الله على الأنبياء والمسلمين والناس جميعاً بان جعل آياته مبينات، اما الأنبياء فبيان الآيات سلاح سماوي يصاحبهم ويذب عنهم، ويدعو الناس لتصديقهم.
واما المسلمون فان بيان الآيات يثبت اقدامهم في منازل الإيمان، ويحثهم على الإنفاق والجهاد في سبيل الله، والتقيد بأداء الفرائض والواجبات.
واما غير المسلمين فالبيان حجة عليهم وفضح لما هم عليه من الضلالة والغواية.
ويأتي بيان الآيات على وجوه متعددة منها:
الأول: تبين الآية القرآنية ذاتها وموضوعها وحكمها.
الثاني: الآية القرآنية كشف لمضامين غيرها من الآيات.
الثالث: يأتي البيان بالسنة النبوية، ومن وظائف النبوة بيان الايات، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( ).
الرابع: تكون الوقائع والحوادث شواهد على بيان القرآن ودليلاً على احاطته باللامحدود منها، وفي الآية دعوة لإظهار جمال وبهاء ألفاظ القرآن بالتلاوة، واجتناب القراءة بالهذي والسرعة.
وتترشح من التلاوة مدرسة لضبط الكلام العربي، وتحسين صيغ الخطابة وصيغ المخاطبة، لتكون عوناً على حفظ آداب اللغة، وأسباب التأثير بالمخاطب.
وقد وصف القرآن آياته بانها مبينات، فهل التلاوة من البيان، فيه وجوه:
الاول: انها من بيان الألفاظ، ومخارج الحروف.
الثاني: التلاوة من بيان المعاني ودلالاتها.
الثالث: العنوان الجامع لبيان اللفظ والمعنى.
الرابع: ليست التلاوة من البيان.
الخامس: يصح البيان من غير تلاوة، والتلاوة أمر اضافي يزيد من البيان.
والصحيح هو الثالث فتتضمن تلاوة الله عز وجل للآيات بيان اللفظ والمعنى بالاضافة الى الاعجاز في البيان ومنافعه.
لقد اراد الله عز وجل ان تكون تلاوة آيات القرآن مناسبة كريمة لتدبرها، والاتعاظ مما فيها من المعاني القدسية، وجزئية التلاوة في زيادة البيان من اسرار عربية القرآن واللغة التي نزل فيها، ومن قدسية واعجاز الآية القرآنية انها مبينة بذاتها، فحتى لو قرأت من غير تلاوة فهي مبينة وظاهرة في معناها ودلالتها، قال تعالى [رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ] ( ).
ودأب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تلاوة الآيات وبيان الدلالات التي تؤكد وجوب عبادة الصانع، ولزوم تصديق نبوته، وجاءت تلاوة القرآن لتضفي على آياته عند سماعها عذوبة خاصة، وتجذب الاسماع لها وتكون سببا لعناية السامع الخاصة بالآية القرآنية ولزوم اقتباس الدروس منها.
وتساهم تلاوة الآية في المساعدة على حفظها ورسوخ معانيها في النفس، وتؤكد حقيقة وهي اختصاص كلام الله بصيغة من القراءة تختلف عن كلام الناس فيما بينهم، وتلك آية اعجازية في الإرادة التكوينية.
ويتكلم الناس والخطباء بصيغ الخطاب والحديث ويختار بعضهم صيغ مخصوصة يسعى من خلالها الى البيان ووضوح معنى كلامه عند السامع، ولكن تلاوة الآيات تبقى منفردة في صيغتها ونطقها وكيفية القائها، فاذا سمعها الناس علموا انها آيات القرآن تتلى عليهم وان عليهم الإنصات والإصغاء، واذا اسمعوا آيات القرآن او ارادوا قراءتها يتبادر الى اذهانهم لزوم اختيار التلاوة لما فيها من الحسن الذاتي والعرضي.
ومن مقومات تبليغ الرسالة البيان، فلايمكن ان تصل الرسالة كاملة، ويتحقق الغرض منها من دون بيان مناسب للمخاطب في لغته وفهمه ، ولما كانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً جاءت بوجوه من البيان في التلاوة لتتيح للانسان فرصة اضافية للتدبر لما فيها من مد الحروف واخراجها بصورة صحيحة.
قانون التلاوة تقويم للغة
لقد شرّف الله عز وجل اللغة العربية بان جعلها لغة الكتاب الجامع للاحكام والشرائع، والناسخ للكتب السماوية الاخرى، واذ حصل الإختلاف في لغة الكتب التي انزلت على بعض الانبياء كصحف ابراهيم، فلم ولن يختلف احد بلغة القرآن الى يوم القيامة، والكل يشهد بانه لغته هي العربية وبها نزل.ومن وجوه تثبيت هذه الحقيقة عجز الترجمة عن بلوغ معاني ومضانمين القرآن القدسية.
وهذه الشهادة من علل قراءة القرآن في الصلاة الواجبة باللغة العربية باعتبارها لغة التنزيل، وفي هذه القراءة حفظ لتعيين لغة النزول، وتعاهد للغة العربية، ومنع من تداخلها مع اللغات الاخرى، ودخول ألسنة ولهجات اخرى عليها.
ولقد هجمت على اللغة العربية لغات البلدان التي فتحها المسلمون وغزتها لغات المحتلين في بعض الثغور والأزمنة، وظهرت آفة اللهجات العامية والدارجة وسرت في المجتمعات، ولكنها جميعاً بقت متخلفة عن السريان في اوصال اللغة العربية ببركة وفضل القرآن باعتبار انها لغة التنزيل، ومن اسباب درأ ضرر اللغات الأخرى واللهجات العامية عن اللغة العربية في المقام وجوه:
الاول: نزول القرآن باللغة العربية.
الثاني: قراءة القرآن بالعربية في الصلاة.
الثالث: تجدد الصلاة خمس مرات في اليوم.
الرابع: عدم انحصار قراءة القرآن بالعربية بالعرب من المسلمين او ببلاد العرب، بل هي شاملة لجميع المسلمين في امصارهم المنتشرة في اقطار الأرض.
الخامس: قراءة المسلمين للقرآن في المساجد والبيوت والمنتديات والاسواق وغيرها بلغة التنزيل.
السادس: موضوعية اللغة العربية في التفسير والتأويل، وبيان مافيها من وجوه الإعجاز البلاغية والكلامية والفقهية.
السابع: تلاوة آيات الله اذ ان التلاوة علة لحفظ لغة القرآن، وتعاهد مضامينها، لذا اصبحت التلاوة علماً مستقلاً له قواعد وآداب خاصة، والفت فيها الكتب والدراسات، ودخلت عالم الفتوى باحكام وسنن عديدة تستلزم الدراسة والتحصيل لاحراز الاتيان بها على الوجه الاحسن والأتم، لحفظ قواعد وآداب تلاوة القرآن، ونيل الأجر والثواب.
ومن منافع التلاوة وراثة أجيال المسلمين لها وسعيهم لاتقانها رجاء محاكاة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون طريقا سالكة للمسلمين ودعوة للناس جميعاً لدخول الاسلام، والإنضمام الى المسلمين في تلاوة آيات التنزيل والمساهمة في حفظ القرآن بتلاوة آياته وسلامة العربية من أدران التداخل مع اللغات الأخرى.
وقد يكون التداخل بين اللغات تنقيحاً لها ولكن العربية لا تقبل هذا التداخل، لانها اللغة التي يتلى بها القرآن، والتلاوة عصمة للعربية من التداخل مع اللغات الأخرى، وهو من اعجاز القرآن وفضله على العربية.
ويحتاج الناس من مختلف الأمم الى اللغة العربية والنطق به كل يوم، ومع التلاوة تبقى أمة تتعاهد اللغة العربية، وتحرص على ضبط كلماتها ومعانيها، والتمييز في ارادة اللفظ الواحد للحقيقة او المجاز وتدخل معها امم اخرى من المسلمين، ولم تنل آية لغة من لغات الأرض مانالته العربية من الحفظ بالتلاوة.
ولكل لغة سبب متحد او متعدد لحفظها وتوارثها، وتتباين الأسباب قوة وضعفاً في الأثر والمسبب، اما اللغة العربية فتنفرد بخصوصية وهي انها اللغة التي يجب ان يتلى بها القرآن كل يوم، وفي كل مصر من امصار الأرض، لذا فان العربية وصلت الى بلدان واماكن ما كان لها ان تصلها ابداً لولا القرآن وتلاوته.
وتبعث التلاوة في نفوس الناس الحب للقرآن والميل الى لغته، وعدم النفرة من المسلمين، وتدل بالدلالة الإلتزامية على ان الاسلام دين العلم والإنقطاع الى الله والإنشغال بافراد العبادة، ومنها التلاوة خصوصاً وانها تستلزم التعلم والتقيد بآدابها وقواعدها وتوظيفها في الصلاة اليومية وقراءة القرآن مطلقاً اذ ان الحاجة للتلاوة لا تنحصر بالصلاة والقراءة الواجبة فيها، والتي يمكن ان يقوم المسلم بأدائها جماعة مأموماً، ولكنه يحتاج الى اتقان أداب التلاوة عند قراءة القرآن المستحبة، وعند دراسة الآيات وتعلم معانيها.
وكما ذكرت اعداد مخارج الحروف ووضعت قواعدها، فقد سميت بعض الحروف باسماء مخصوصة لها والقاب بلحاظ مخارجها واعضاء النطق بها، واجزاء الفم التي تخرج منها كاللهاة، والنطع وهو موقع اللسان في الحنك، ويأتي فيما ظهر من غار الفم الاعلى، وسقف الحنك.
وهو علم استقرائي بلحاظ مواضع خروج الحروف وفيه اعانة للمسلمين لاصلاح السنتهم لتلاوة وترتيل وقراءة القرآن ومنها الحروف الهوائية وهو لقب يخص حروف المد الثلاثة، وسمي بالجوفية لانها تخرج من الجوف.
والحروف الحلقية، وهي حروف الحلق الستة، والحروف اللهوية، والحروف الشجرية مثل الشين والجيم، والحروف الذلقية، والحروف اللثوية وهي الظاء والدال والتاء، والحروف الاسلية التي تخرج من اسلة اللسان أي طرفه وهي السين والصاد والزاي.
لقد أسست التلاوة علوماً خاصة بالقراءة واسرارها وكيفية اتقانها، ومن الآيات ان العناية بمخارج الحروف جاءت من قراءة القرآن وكيفية تلاوته.
قانون تعليم التلاوة
جاءت الآية الكريمة بنسبة تلاوة الآيات الى الله عز وجل، وانه تعالى يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دلالة على عدم اهلية غيره صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي تلك التلاوة، لان المقام ليس من اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، بل لانه لم يرد في التنزيل مايسمى آيات الله غير آيات القرآن وانها تتلى من عنده سبحانه الا في القرآن.
ومن الآيات ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منح هذه الامانة كاملة الى المسلمين فقام بتبليغ الرسالة وآيات التنزيل فتلقوها منه بالحفظ والاقتداء الحسن.
وكان التبليغ واخبار المسلمين بالوحي وآيات التنزيل وحده مدرسة في التعليم والتفقه في الدين، بلحاظ موضوعية آيات القرآن وتلاوتها في حياة المسلمين، وتفتح هذه الآية باب التعليم عند المسلمين، وجعلته سنة ثابتة، لان الاتيان بتلاوة الآيات على النهج العربي الصحيح، ووفق صيغ التنزيل يتطلب ضبطاً واتقاناً للقراءة، ومعرفة مخارج الحروف مما يستلزم الدراسة والتعلم.
ومن الآيات ان تعلم تلاوة الآيات له منافع متعددة وهي اكثر من أن تحصى بلحاظ استدامتها، وتوارثها من قبل اجيال المسلمين، ففي تعلم وتعليم التلاوة وجوه:
الاول: تثبيت آيات القرآن لفظاً ونطقاً عند المسلمين.
الثاني: تساعد التلاوة على حفظ آيات القرآن، فيتعلم المسلم كيف يتلو الآية تلاوة صحيحة، وهو يدرك حقيقة وهي أن التلاوة الصحيحة تنحصر بقراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويلتفت واذا هو قد حفظها ورسخت في ذهنه.
الثالث: تعلم التلاوة وسيلة مباركة لاداء الصلاة على النحو الاتم والاحسن، وتشملها عمومات قاعدة الاشتغال اليقيني يستلزم الفراغ اليقيني.
الرابع: في التلاوة وحدة للمسلمين، ونبذ للفرقة والخلاف.
الخامس:التلاوة من مصاديق التمسك باحكام وسنن الشريعة ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ] بلحاظ ان المراد من حبل الله هو القرآن والسنة.
السادس: استدامة نعمة الأخوة بين المسلمين، وادراكهم للالتقاء في مضامين التلاوة.
السابع: اكرام القرآن، وإفراده بعناية خاصة.
الثامن: الارتقاء في سلم المعارف الإلهية، والتفقه في الدين.
التاسع: اتقان قواعد النطق بلغة القرآن وهي العربية، ومعرفة معانيها واحكامها.
العاشر: انتشار لغة القرآن وجعلها معروفة وتجري على السنة المسلمين في اقطار الأرض المختلفة.
الحادي عشر: التلاوة جهاد لحفظ القرآن وكلماته.
الثاني عشر: اكتناز الصالحات، واكتساب الحسنات بتلاوة القرآن خصوصاً وان في قراءة كل حرف منه عشر حسنات.
الثالث عشر: السعي الحثيث نحو الفوز بنعمة بياض الوجوه في الأخرة.
الرابع عشر: التأدب بآداب القرآن، والتحلي بما يدعو اليه من الاخلاق الفاضلة، اذ ان مزاولة التلاوة وتعلمها يؤدي الى العلم الانطباعي.
لقد جاء دعاء الأنبياء السابقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في تلاوة الآيات، وورد في التنزيل حكاية عن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] ( )، وفيه دلالة على أن الأنبياء يعلمون بادخار آيات الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان بعثته كانت معروفة عند الأنبياء السابقين بآيات مخصوصة، وبينت الآيات القرآنية قيام المسلمين بتلاوة الآيات واخبرت عن محاربة الكفار للمسلمين الذين يتلون الآيات، قال تعالى [يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا]( ).
وفيه حث للمسلمين على تلاوة الآيات على الناس بلغة الانذار والترغيب في الإسلام، والصبر على الاذى الذي يتعرضون له من قبل الكفار فمنهم من يستجيب للنداء السماوي، ويتعظ من الآيات وتكون للتلاوة موضوعية في انابته وتوبته، ومنهم من لا يكتفي بالكفر والجحود بل يحاول البطش والفتك بالمسلمين.
وقيل في اسباب نزول الآية اعلاه ( ان اهل مكة كانوا إذا سمعوا الرجل من المسلمين يتلو القرآن كادوا يبطشون به) ( )، وقد أنعم الله على المسلمين بصرف أذى الكفار لتستمر التلاوة في الأرض بتدبر وجني للحسنات، ولتبقى من مصاديق حبل الله التي أمر الله المسلمين التمسك به بقوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) ومن الشواهد الإعجازية في المقام عدم حصول الفرقة والإختلاف بين المسلمين في القراءة.وتلاوة القرآن، وهذا الإختلاف أمر ممتنع إلى يوم القيامة لعصمة القرآن وعدم طرو التحريف على أي آية من آياته.
قانون التلاوة دعوة للتوبة
هبط آدم وحواء الى الأرض بعد الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، وغادرا الجنة ومافيها من القرب من ساحة القدس، وتلقي الأوامر الإلهية، والصلة مع الملائكة وانعدام التعب والعناء، لتبدأ رحلة الإبتلاء والإختبار والتدبر في الآيات، واخبرهما الله عز وجل بان اقامتهما وذريتهما في الأرض مؤقتة ومحدودة، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( )، وشاركهما ابليس الهبوط الى الأرض ليكون عنواناً اضافياً للابتلاء.
فاذا لم يستطع آدم وحواء التوقي من وسوسة ومكر ابليس، مع أنهما في الجنة وتحيط بهما الآيات الباهرات، ويعيشان في نعيم الجنة، فمن باب الأولوية القطعية ان تفتتن ذريتهما بحبائل ابليس وتكون العواقب وخيمة، والشر طاغياً.
ولكن الله عز وجل انعم على الناس بالتنزيل والنبوة بما يجعل ابليس عاجزاً عن الإغواء، اذا انهما سلاحان سماويان لحصانة الانسان، وطرد ابليس وشروره، فكما طرد الله عز وجل ابليس من الجنة فان التنزيل والنبوة يتعاضدان لطرده من قلب المؤمن، ويفضحانه ليبقى في الحياة مدحوراً خائباً في وقت يتنعم المسلم بالتكاليف باعتبارها طريقاً للعودة الى الجنة والخلود فيها من غير ان تكون لإبليس فرصة اخرى لإغوائه، وهبط الى الأرض من الجنة ثلاثة وهم:
الاول: آدم عليه السلام الذي خلقه الله بيده.
الثاني: حواء زوجة آدم.
الثالث: ابليس عدو الله.
تفضل الله بالتنزيل ليكون مصاحباً للإنسان في الأرض، وحرزاً من الشيطان والأخلاق المذمومة، وهل يمكن القول ان الأرض افضل للإنسان من الجنة بخصوص وسوسة ابليس، اذ تعذر على آدم وحواء وهما كل البشر يومئذ التوقي من اغوائه، بينما يستطيع المؤمنون الاحتراز منه ومن شروره، الجواب لا، ولكن الحياة الدنيا طرية الى الخلود في الجنة من وجوه:
الاول: وجود التنزيل، والكتب السماوية التي تجذب الناس للإيمان، وتحبب لهم مفاهيم الإسلام، وتبين عداوة ابليس للناس، ولزوم الاحتراز منه والتوقي من اغوائه.
الثاني: مجئ الأنبياء بالدعوة الى الصلاح، وإمامتهم الناس في سبل العبادة والتقوى.
الثالث: اعتبار بني آدم مما حصل لابيهم في الجنة وكيف ان وسوسة ابليس كانت سبباً في هبوطهم الى الأرض.
الرابع:نعمة العقل التي جعلها الله عند الإنسان للتدبر في أفعاله وأعماله.
الخامس: قانون التوبة والمغفرة الذي تفضل الله تعالى به على الناس، فأكل آدم عليه السلام من الشجرة مرة واحدة، فاهبط الى الأرض، على القول بانه كان في جنة في السماء، وليس من جنان الأرض، ولعل من قوانين وسنن السكن في الجنة ان لا يخالف من فيها أمر الله مرة واحدة ولا يترك الاولى وما ندب الله اليه، ومن يخالفها يغادر الجنة.
فان قلت وان خالف فرد من أهل الجنة والنعيم الخالد أمر الله في الآخرة فهل يخرج منها، الجواب انه قياس مع الفارق إذ ان مخالفة اهل الجنة لأوامر الله في الآخرة أمر ممتنع ذاتاً، ولا يمكن ان يحصل لان الخلود فيها ثواب وفضل وجزاء من عندالله، يصلح له سكنتها اما في الأرض فان الذنب مغفور بالتوبة والاستغفار، وهو القانون الذي يؤكده القرآن ويندب الناس اليه، ويدعوهم للمبادرة الى التوبة والإنابة عند ارتكاب الخطيئة والذنب.
وليس من آية في القرآن الا وتشير الى التوبة في منطوقها أو مفهومها أو إحدى الدلالات الثلاثة، المطابقية والتضمنية والإلتزامية، وتأتي تلاوة آيات القرآن للترغيب بالتوبة والندب اليها.
وحينما يتلو المسلم آيات القرآن يعرض أقواله وأعماله عليها، ويرى مدى ملائمتها للأوامر والنواهي الإلهية، واذا أدرك صدور ما يخالفها منه وإرتكب الذنب والإثم فانه يلجأ الى التوبة والمغفرة التي تدعو لها آيات القرآن، وذات التلاوة توبة وإستغفار.
وتلك من خصوصيات القرآن أن تكون آياته دعوة للتوبة وهي ذاتها توبة فهي تحث على الندم والإستغفار من الذنوب، ووسيلة لنيل الثواب والأجر الذي يأتي على الذنوب فيمحوها، والتلاوة وسيلة لتنمية ملكة التقوى في النفس، والإحتراز من الذنوب والسيئات، لأنها مناسبة للتدبر في الآيات ورسوخها في الذهن لفظاً ومعنى، ويكون رسوخ كل واحد منهما صاحباً كريماً وسلاحاً عند النية والعزم على الفعل.
وقد ترى المؤمن يهم بالسيئة ولكنه يعرض عنها وتنفر نفسه منها بسبب حصانة آيات القرآن وتلاوتها.
وبين الإعراض عن السيئات والنفرة منها عموم وخصوص مطلق، فالنفرة أعم اذ انها تشمل الإعراض عن الذنوب إبتداء وإستدامة.
فحتى الذي يرتكب السيئة تنفر نفسه منها، وهذه النفرة من ثمرات تلاوة آيات القرآن، وإمتلاء النفس بها، خصوصاً عند انقضاء اللذة، وعودة غلبة العقل والبصيرة الى النفس والجوانح والجوارح.
لقد أراد الله عز وجل بالتلاوة الإنتفاع الأمثل من مضامين التوبة في القرآن، وإستحضار المسلم لضرورة الإستغفار عند إرتكاب الذنب، بالإضافة الى أثرها المبارك بعد المبادرة الى التوبة، اذ ان التلاوة تجعل المسلم غارقاً في جلال الله، وسائحاً في عالم الملكوت، نازعاً رداء المعصية، مغتبطاً بفضل الله ووعده الكريم بقبول التوبة، قال تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ]( ).
قانون التلاوة حاجة
جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ممكناً ومن صفات الممكن الحاجة، وتتباين حاجة المخلوقات من جنس الى آخر، وبين أفراد الجنس ذاتها، وبخصوص التلاوة وحاجة الناس لها وجوه:
الأول: يحتاج الأنبياء دون غيرهم التلاوة لأنها طريقة للتبليغ والعلم الإنطباعي.
الثاني: التلاوة حاجة للمؤمنين خاصة، لأنها وسيلة لتثبيت الإيمان في النفوس، وتذوّق حلاوته.
الثالث: يحتاج المسلمون التلاوة للعمل بأحكام الإسلام، والإرتقاء في المعارف الإلهية واكتساب العلوم.
الرابع: يحتاج الناس جميعاً التلاوة وينتفع منها المسلم وتكون مادة لجذب الناس الى الإسلام، وإقامة الحجة على الذين يصرون على الكفر والجحود.
والصحيح هو الأخير، فالتلاوة واقية وعلاج، وحرز من الجهالة والضلالة والجحود، وعلاج من الذنوب والسيئات، وفيها صلاح للمجتمعات، ولو لم تكن قراءة الآيات بتلاوة فماذا يحصل؟ الجواب ان فضل الله على الناس عظيم، وتنفذ آيات القرآن الى شغاف القلوب حال سماعها ولكن التلاوة تخفيف ورحمة ومدد إلهي، وحاجة الإنسان للتلاوة على قسمين:
الأول: الحاجة الدنيوية: اذ يحتاج الإنسان التلاوة للتدبر في ألفاظ القرآن، فلا تنحصر مضامين التدبر وإستقراء الدروس والعبر من معاني الألفاظ ودلالات الآيات، بل تشمل ألفاظ القرآن، فاللفظ القرآني مدرسة في التدبر والهداية والصلاح.
وتتجلى عناوين إضافية للتدبر في اللفظ والمعنى بالتلاوة بما يغني الإنسان في طلب المعرفة وإدراك ما عليه من الواجبات، ويجتمع في التلاوة النطق السليم للفظ القرآني، والتدبر في المعنى وبهاء الحروف والعناية بخروجها من الحلق على نحو مستوفِ لها، مما يجعل السامع يعشق ألفاظ القرآن ويحب لغته ويميل الى قراءته في حال الرخاء واللجوء اليها في حال الشدة والرجاء.
الثاني: الحاجة الأخروية: لقد جعل الله الحياة الدنيا مناسبة مباركة لحصاد الصالحات، وجني الحسنات، وتفضل سبحانه وأعان العباد بوضع الطرق والسبل الكفيلة بإحرازها والتوفيق لنيلها، ومن هذه السبل قراءة القرآن تلاوة اذ ان قراءة القرآن وحدها حسنة وباب للثواب والأجر، وتأتي التلاوة لتكون باباً إضافياً للثواب وباعثاً على حب قراءة القرآن والنظر الى المصحف الذي هو من مصاديق العبادة، وتكون تلاوة القرآن واقية من عذاب النار يوم القيامة.
ومن وجوه الحاجة الى التلاوة انها تأديب وتعظيم ومدرسة لها قواعدها ويعتبر السعي في تحصيلها مناسبة للثواب لأنه سعي في سبيل الله، وكسب في المعارف الإلهية، وتعاهد لعلوم القرآن وإكرام للتنزيل وإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن على صدره من عند الله، وحفظ لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوة آيات القرآن، وإقرار بجهاده في تثبيت قواعد قراءة القرآن، وتعاهد لأرث السلف الصالح في حفظهم لتلاوة وترتيل القرآن وضبط حروفه ومخارجها، وفيه إعلان للتقيد بآداب القرآن، ومنع من التفريط بأحكامه وسننه.
قانون التلاوة جهاد
لم يكن القرآن اول كتاب نازل من السماء، فقد سبقته كتب سماوية عديدة، كل واحد منها نزل على رسول من الرسل وآمن به قوم، ثم نزل القرآن ليكون خاتماً لها، وهذا الختم رحمة للناس جميعاً لما فيه من الآيات والنعم التي لا تحصى.
وجاء القرآن باحكام الحلال والحرام وما يحتاجه الناس الى يوم القيامة، وامتازبعناية إلهية عن الكتب السماوية بانه محفوظ من التحريف، ومعصوم من النقص او الزيادة.
وجاءت قراءته على نحو التلاوة الخاصة التي ينفرد بها من بين الكتب السماوية بلحاظ لغته التي نزل بها وهي العربية والتباين بين تلاوة المسلمين له بقدسية خاصة وبين قراءتهم للكتب والشعر وصيغ الخطابة، لقد تفضل الله سبحانه بتلاوة وتنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون هذه التلاوة وحدها سبباً للهداية العامة.
وكان الناس في تلقي التلاوة على قسمين:
الأول: شطر من الناس آمن بالتنزيل، واظهر التصديق باللسان والفعل، قال تعالى [وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا]( ).
الثاني: قوم اصروا على الكفر والجحود بالتلاوة، قال تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا]( ).
وعن ابن عباس في المراد من آيات الرحمن انه القرآن.
ولتلاوة القرآن موضوعية في إسلام جماعات عديدة لما فيها من البيان، وكشف وجوه من إعجاز القرآن، وجاءت الحروف المقطعة في بداية آيات بعض السور لتكون من أفراد التلاوة ومقدمة لها، ودعوة لإنصات الناس للقرآن وسماع مافيه من الأحكام، والتدبر في اسراره والغوص في كنوزه
لقد كانت تلاوة آيات القرآن جهاداً مستقلاً قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطرق اسماع الكفار وتحديهم به، كما انه نوع احتجاج وحجة على اهل الكتاب، ودعوة لهم لاظهار التوراة والانجيل، واجراء المقارنة مع القرآن للتأكد من وحدة السنخية، والصيغة السماوية التي نزلت بها هذه الكتب الثلاثة، ووجوه رجحان القرآن العقائدية والإعجازية ومصاديق لزوم العمل بأحكامه وسننه.
لقد اراد الله عز وجل لتلاوة القرآن ان تكون جهاداً متصلاً بدأ به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما لاقاه في سبيل الله وايصال آيات القرآن الى اسماع الكفار مع ضجيجهم واستخفافهم وسخطهم، ولكنه واظب عليه، لتنمو من بينهم ورغماً عنهم شجرة الايمان وتأخذ باتساع اغصانها.
وشارك الصحابة في الدعوة الى الله بتلاوة القرآن في بداية البعثة في مكة المكرمة، وقراءة آيات القرآن على افراد اسرهم وارحامهم واصدقائهم مما ادى الى اسلام جماعة من كبار الصحابة وتكون نواة الاسلام وخروج المسلمين كجماعة متحدة ذات كيان مستقل.
فكانت التلاوة تتم بصورة شبه سرية لتصبح مادة للتبشير بالاسلام، ثم اصبحت علنية يسمعها الملأ والأشراف وعامة الناس التي تنفر من الجديد، وتتبع الملأ وارباب السلطان في التصدي لما يخالف هواهم ومصالح الملأ والرؤساء، فجاءت التلاوة لمخاطبة العقول على نحو القضية الشخصية، وجعل العاقل يتدبر في مضامينها واسرارها ووجوه الإعجاز فيها.
وفي أسباب نزول قوله تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ] ( ).
قيل انها نزلت في خمسة نفر من قريش ذكرت أسماؤهم، اذ قالوا للنبي: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وليس فيه عيبها او بدله، تكلم من تلقاء نفسك، عن مقاتل.
لقد ادرك كفار قريش ان احكام القرآن تتضمن اتيان التكاليف واجتناب النواهي، وقولهم (غير هذا) اي إئت بقرآن غير هذا أي معه وفيه تخفيف في الاحكام، اما قولهم (بدله )فانهم يريدون رفعه والإتيان باحكام للحلال والحرام مغايرة لما عليه القرآن، فكان الرد عليهم قرآنياً وان النبي ليس له ان يبدله، لان القرآن والوحي والتنزيل من عندالله، ولابد من العمل باحكامها وسننها، لتكون التلاوة وسيلة لأموروحقائق هي:
الأول: تثبيت آيات القرآن في الأرض.
الثاني: التلاوة الإلهية للقرآن رحمة إضافية بالناس.
الثالث: التلاوة الإلهية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقية وحفظ له.
الرابع: إنها صلة دائمة بين الله عز وجل وبين المسلمين
الخامس: لزوم عمل المسلمين والناس بأحكام القرآن.
السادس: بقاء أحكام القرآن، ودوام العمل بها إلى يوم القيامة، بلحاظ أن العمل فرع التلاوة.
ان مدرسة التلاوة عون ومدد للمسلمين في جهادهم في سبيل الله، ومانع من التعدي على القرآن وعلى المسلمين، لما فيها من الدلائل على صدق نزول القرآن من عندالله، ووجوه الحكمة وأمور الغيب التي تجذب الأسماع، وتكون مناسبة للتحدي وتوكيد الصدق بانطباق الحوادث والوقائع على مضامين آيات القرآن.
قانون تلك آيات الله
تتكون كل من هذه الآية والآية التالية من احدى عشرة كلمة، والآية السابقة من عشر كلمات، ومن اعجاز القرآن ان يكون هذا العدد القليل آية اعجازية ومدرسة للعلوم تتفرع عنها مدارس عديدة في الميادين العقائدية والإجتماعية والأخلاقية، وابتدأت الآية بالاشارة الى آيات القرآن بانها آيات الله، ولم ولن ينال غير القرآن هذا التشريف وهو غاية الاكرام، اذ يشهد الله عز وجل بان الذي يتلوه المسلمون هو آياته تعالى لإنبساط معنى الآيات على كل ألفاظ وكلمات القرآن.
وجاءت اسماء عديدة للقرآن في الكتاب منها:
الاول: آيات الله.
الثاني: كلام الله، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( ).
الثالث: كتاب الله كما في قوله تعالى [نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ] ( ).
والنسبة بين هذه الاسماء العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي نسبة القرآن الى الله تعالى وافادة معاني الإعجاز فيه، وان الالف واللام في الاسماء الثلاثة للعهد والتعيين.
واما مادة الافتراق فهي ان آيات الله صيغة للجمع وإخبار بان كل آية من القرآن هي اعجاز مستقل من عندالله.
واما كلام الله فيدل على ان القرآن صادر من عندالله تعالى، والجمع بين تسمية القرآن (كلام الله) وبين قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] شاهد على ان الله عز وجل كلم النبي محمداً ولو بالواسطة بأن جاءت التلاوة بواسطة الملك جبرئيل، ولان جبرئيل رسول من عندالله فكأن التلاوة من عندالله وحتى على هذا المعنى فان الجمع بين الآيتين له دلالات خاصة في المقام تؤكد موضوع التكليم وانه تم بالواسطة.
واما اسم كتاب الله فانه يدل على ان القرآن كتاب نازل من عندالله، ويتضمن بيان الاحكام الشرعية التي أمر الله تعالى بها.
لقد ابتدأت الآية باسم الاشارة (تلك ) الذي يتضمن التفخيم والتعظيم، ولم تقل الآية (نتلو عليك آياتنا) بل قدمت الإشارة الى آيات القرآن، وفيه توكيد لحقيقة وهي انها آيات الله عز وجل، ثم ذكرت موضوع تلاوتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه حجة بأن القرآن يتكون من آيات اعجازية، تفضل الله تعالى فانزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون امانة شرعية بيده وبيد المسلمين من بعده إلىيوم القيامة، وانه الكنز السماوي الذي لم تشهد السماوات والأرض له مثيلا، وان القرآن محفوظ عندالله، وله خصوصية وشأنية عظيمة عند الله.
لقد ارادت الآية بيان حقيقة في الارادة التكوينية وهي ان كل آية من القرآن هي آية لله تعالى، وان نزولها الى الأرض لا يغير منها عنوانا وموضوعاً وحكماً.
وتلك آية اعجازية اخرى، فكل شئ في الأرض يتغير ويتبدل الا آيات الله فانها ثابتة وباقية على حالها، وقد يحصل التبدل في يوم ما بالآيات الكونية قال تعالى [يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
اما آيات الله عز وجل فهي آيات القرآن التي لا يطرأ عليها التبديل والتغيير، وهو عنوان تشريف اضافي، وتفضيل للمسلمين بان خصهم الله عز وجل باياته التي لا تقبل التغيير، وفيه بعث للمسلمين على الاقبال على العبادات والتقيد التام باحكام الحلال والحرام لما في الآية من الدلالة على انتفاء النسخ عن آيات القرآن، وعما فيه من الاحكام والمضامين القدسية وأخبار المبدأ والمعاد.
قانون التلاوة بمعنى التتابع
تأتي التلاوة بمعنى التتابع، يقال تلوته تلواً أي تبعته، وهذا تلو هذا أي تبعه، ونزلت آيات القرآن نجوماً وعلى مراحل متعددة، فكل مرة ينزل جبرئيل بآية او آيات من سورة، او سورة كاملة، ويخبر النبي محمداً بموضوعها من القرآن، وهذا التتابع في نزول الآيات آية اعجازية اتصف بها القرآن.
فقوله تعالى [نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] يتضمن معنى القراءة، ومعنى التتابع في التنزيل، ولا تعارض بينهما في الدلالة، وان كان معنى القراءة هو الظاهر في آيات القرآن اذ وردت التلاوة بمعنى قراءة النبي والمسلمين لآيات القرآن، كما وردت التلاوة بمعنى القراءة في الاحتجاج القرآني على اليهود، وبخصوص التوراة قال تعالى [قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
لقد اكرم الله عز وجل موسى عليه السلام بان انزل عليه التوراة دفعه واحدة، فاراد اليهود من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن دفعة واحدة، فبين له الله عز وجل ان انبياء كثيرين لم ينزل عليهم الكتاب دفعة واحدة ومع هذا يقر اليهود بنبوتهم قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ).
وقد ذكرت الآية أعلاه اثني عشر نبياً واشارت الى رسل كثيرين لم تقصهم الآية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت الآية التي بعدها لتخبر عن تكليم الله عز وجل موسى عليه السلام قال سبحانه [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] ( ).
وعدم تكليم الله الرسل الآخرين لا يخل بنبوتهم ورسالتهم وكذا عدم انزال الكتب عليهم دفعة واحدة، لقد بعث الله عز وجل الأنبياء مبشرين ومنذرين.
فيأتي الكتاب لاتمام الغرض وتحقيق المطلوب، سواء نزل دفعة واحدة او منجماً، والله تعالى اعلم بالمصلحة وماينفع العباد، ونزول القرآن مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة شاهد على صدق نزوله من عندالله تعالى من وجوه:
الاول: ان آيات القرآن هي آيات الله عز وجل.
الثاني: الاعجاز الذاتي والغيري لكل آية من آيات القرآن.
الثالث: اقتران نزول القرآن بمعجزات حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين اجتماع الآيات العقلية والحسية عنده، واذا كان نزول التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام آية من آيات الله، فان نزول القرآن منجماً آيات متعددة من عنده سبحانه، وهو الاحسن والاكثر نفعاً، وكل آية تنزل لها إعجاز وشأن مستقل.
إن تفريق نزول الآيات ضرورة وحاجة للمسلمين، وجذب للناس للايمان فالقرآن يختلف عن غيره من الكتب، فهو جامع لاحكام الحلال والحرام والتكاليف العبادية.
وقد لا يطيق بعض الناس الدخول في الاسلام واداء الفرائض كلها دفعة واحدة ، فجاء التنجيم عوناً على قبول التكاليف والتفقه في الدين. ودعوة للمسلمين لتلقي الاحكام والتكاليف برضا، والاقبال على ادائها بشوق وحمل اهلهم على اتيانها، وفي اسماعيل ورد قوله تعالى [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ]( ).
وتضمنت آيات القرآن احكام المبدأ أو المعاد وهي من اشرف العلوم، وتستلزم الإستعداد لها، لقد اراد الله عز وجل للقرآن البقاء سالماً من التحريف والتغيير ولا يطرأ التبديل على كلمة او حرف من حروفه ولو بالمرادف، ويتضمن القرآن ستة الآف وست وثلاثين آية، وكل آية تتكون من آيات عديدة، فاراد الله للمسلمين حفظ وتعاهد كل آية منها.
ونزول الآيات نجوماً رحمة وتخفيف وصيغة سماوية لتثبيت معانيها وتفسيرها في النفوس، بالاضافة الى تعلمها وتعليمها قبل الانتقال الى غيرها، وكان نزول الوحي في كل مرة مناسبة لاسلام الكثير من الناس سواء ممن يحضر التنزيل او من ينقل اليه خبره وموضوعه.
وجاء نزول آيات القرآن نجوماً رحمة بالناس جميعاً ودعوة لهم لدخول الاسلام، وهو من اعجاز القرآن وآياته في باب التنزيل، والنفع والاثر، ومنع ثقل التكاليف على المسلمين، لذا قيدت التلاوة في الآية بانها (بالحق).
ومن الآيات وقوع التنزيل في حال الحضر والسفر، والسلم ومصاحباً لحروب المسلمين مع اعدائهم ومواجهة اهل الكتاب من اليهود في المدينة ومقاتلة الكفار والمشركين.
قانون تلاوة الآيات بشارة وانذار
لقد جاءت الآيات السابقة بالاخبار عن علم المعاد، وهو من اشرف العلوم، ومعرفة اخباره ولو اجمالاً من افضل وجوه المعارف.
فاراد الله عز وجل للمسلمين الفوز بنيل مرتبة معرفته والتفقه فيه لتكون هذه المعرفة واقية من الغفلة وطرداً للجهالة.
ومن مصاديق المعرفة مجئ هذه الآيات بالاخبار عن احوال الناس، من خلال لون وصبغة الوجه التي تأتي جزاء على الافعال، وفي حصر الوان وجوه الناس باللون الأبيض والأسود تخفيف عنهم في الدنيا والآخرة، ومنع للبس والتردد.
وتتعدد الوان وجوه الناس في الدنيا، ففيها الابيض والاسود والاحمر والاصفر والاشقر، والاسمر وهو برزخ بين البياض والسواد (وفي صفة رسول الله: كان اسمر اللون، وفي رواية: أبيض مشرباً بحمرة)( ).
وكل لون من هذه الالوان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وهو آية في بديع خلق الانسان، ومن عمومات قوله تعالى [خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، بلحاظ ارادة العموم والتباين في خلق الناس في لون البشرة، والطول والقصر، والبدانة والهزال، وطول وقصر العمر، وقوة التحمل او عدمها، إلى جانب الإختلاف بين الرجل والمرأة في أصل الخلق.
وهذا التباين من اسباب الالفة بين الناس وتوثيق صلات الرحم، وتيسير الحوائج، وملائمة الناس لاداء الاعمال، ليأتي القرآن فيدعوهم جميعاً للاسلام، والتمسك بالاخوة الايمانية وجعل التباين في لون البشرة ونحوه مادة لقوة المسلمين، وسببا لعزتهم وتعاونهم من اجل فوزهم جميعاً يوم القيامة بنيل نعمة بياض الوجوه في الأخرة جزاء من عندالله، وهو عنوان آخر للأخوة الايمانية لما فيه من التشابه والالتقاء في الاجر والثواب قال تعالى [إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( )، وبياض وجوه المؤمنين في الآخرة جزاء وثواباً من ثمرات تلقي آيات الله بالقبول والرضا، والعمل باحكامها وسننها.
لقد انعم الله عز وجل على الناس بان جعل آياته بشارات وانذارات، فكل آية مدرسة مستقلة في البشارة والانذار.
ومنها هذه الآيات التي جاءت اعجازاًَ وآية في التعليم والارشاد والتأديب قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فهذه الآيات تأديب للمسلمين والمسلمات ودعوة لتعاهد الايمان، وتنزيه عالم الاقوال والاعمال من دنس الخطيئة والرذيلة لضمان الوصول الى نعمة بياض الوجوه.
فجاءت الآية بالاخبار عن الجزاء في الآخرة، وبيان مصداق من مصاديقه الا انها تكون حاضرة في افعال المسلمين والكافرين معاً، وهو من اعجاز القرآن.
اما المسلمون فانهم يستبشرون بما ينتظرهم، ويتعاهدون الفرائض والواجبات باعتبارها طريقاً لنيل نعمة بياض الوجوه، وواقية من العقاب بسواد الوجوه.
واما الكفار فانهم يشعرون بالحسرة والاسى لانهم يصرون على حرمان انفسهم من نعمة بياض الوجوه، ويسيرون في دروب الضلالة وتداهمهم هذه الآيات كل يوم وعند كل فعل وإثم يرتكبونه، وخير يضيعونه وبر يفرطون به.
فمن اعجاز القرآن ان إنذاراته لا تأتي للكفار والفاسقين عند جلب المفسدة فحسب، بل عند ترك ضدها، وتفويت المصلحة والإعراض عن المنفعة أيضاً، وتداهمهم بالانذار، وتتودد اليهم بالبشارة والترغيب فآية الانذار نفسها تكون بشارة عند ترك متعلق الفساد.
وآية البشارة تكون انذاراً ان فوت الإنسان الخير والمصلحة، لتجتمع الآيات في دعوة الانسان للاسلام وجعله يتعاهد مسالك الهداية والايمان ومنها هذه الآيات التي بينت ان ملك السماوات والأرض كله لله تعالى، لا يشاركه فيه احد، وانه سبحانه خلق الانسان وجعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء وإختبار، وخلق الأخرة وجعلها دار الحساب والجزاء وندب الناس للفوز بنعمة بياض الوجوه، والنجاة من العذاب بسواد الوجوه يوم القيامة.
قانون التلاوة على النبي
جاء القرآن جامعاً للاحكام الشرعية، وتبياناً لكل شئ، وانفرد من بين الكتب السماوية بخصائص اعجازية، تتضمن تشريفا وارتقاء للمسلمين من بين امم الأرض.
واسرار القرآن الاعجازية من وجوه تفضيل المسلمين على غيرهم، فليس عند امة غير المسلمين مثل القرآن، ومن الآيات ان هذا الاختصاص ليس حصراً على اناس معينين، فالاسلام غير محجوب عن أي شخص او جماعة او أمة، فكل انسان مؤهل ان يكون مسلماً، ويتزود من علوم القرآن، ويسبح مغتبطاً في بحار انواره، ويتدبر بما في آياته من الاسرار والكنوز.
ومن خصائص القرآن نزوله من السماء بصيغة التلاوة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهالة من الاكرام والاجلال من الملائكة، فالقرآن رد إلهي متأخر زماناً على الملائكة حين انكروا خلافة الانسان للأرض بسبب افساده فيها، فجاء القرآن ليخبرهم ان المسلمين يعمرون الأرض بالصلاة والمناسك والدعاء وان كلام الله يكون لهم واقية وحصناً وحرزا واماناً وقائداً.
ومن خصائصه ان نزوله يتصف بامور:
الاول: نزل القرآن ليبقى في الأرض، ولا يغادرها مادامت السماوات والأرض.
الثاني: يحتمل بقاء القرآن وجوهاً:
الاول: البقاء الاجمالي بالاسم والمضمون.
الثاني: البقاء التام لحروفه وكلماته وآياته وسوره.
الثالث: عمل المسلمين المستديم باحكامه وسننه.
الرابع: بقاء التلاوة ذاتها، فقد نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة التلاوة، وأراد الله عز وجل لها البقاء في الصدور وعلى الألسن وفي الأرض.
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع، وتلك خصوصية للقرآن لم ولن تكون لكتاب غيره، فمع عدم طرو التغيير عليه، وعدم وصول يد التحريف له، فان العمل باحكامه لن ينقطع طرفة عين ابداً، اذ ان المسلمين يتخذونه اماماً وقائداً نحو سبل الفلاح والظفر.
فحينما جاءت الآيات السابقة بتقسيم الناس الى قسمين، قسم تبيض وجوههم، وقسم تسود وجوههم يوم القيامة.جاءت هذه الآية لتوكد ان تلاوة القرآن هي الفيصل بين المسلمين، وكل انسان له ان يختار القسم الذي يكون فيه بلحاظ صلته او عدمها مع القرآن، ومن يتبع القرآن يفوز بنعمة بياض الوجه جزاء وشكرا من عندالله، ومن يعرض عنه يسود وجهه.
والتلاوة من مصاديق كون القرآن كلام الله قال تعالى [[ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ] ( )، في دلالة على ان التلاوة الإلهية للقرآن فرع كونه كلام الله، وأنه رحمة للناس جميعا.
وتتضمن التلاوة معنى القراءة والترتيل، كما تتضمن معنى التتابع في التنزيل، فقوله تعالى [نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ] أي ننزلها تباعاً وعلى نجوم يقال تلوته تلواً: تبعته، وتتالت الامور: تلا بعضها بعضاً) ( )، (وتلا يتلو تلاوة: قرأ قراءة) ( )، وفي قوله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ]( )، قيل: ما تحدث وتقص.
ومن الآيات ان كلا المعنيين ذو دلالات إعجازية تتضمن تشريف كل من:
الاول: القرآن بتنزيله من عندالله عز وجل نجوماً، وتلاوة الملك الرسول له على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: اهلية القرآن للتشريف والاكرام، لانه لم ينزل إلا على سيد الكائنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونيله الدرجة الرفيعة والمرتبة السامية من بين البشر بنزول القرآن عليه كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية والسنن.
الرابع: تشريف المسلمين بنزول القرآن وقد جاءت الآيات بقوله تعالى [ قُلْ آمَنَّا ِباللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا] ( )، في دلالة على وقوع التنزيل على المسلمين، بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنوان تشريف إضافي.
الخامس: تشريف الناس جميعاً، فالقرآن هبة السماء لأهل الأرض، ومائدة ملكوتية مباركة بامكان كل انسان ان يتزود منها، ويأخذ منها الزاد والمتاع للدنيا والآخرة، ولكن هذا التزود مقيد بالإسلام، فلا يمكن للإنسان ان ينهل من القرآن لآخرته ويتنعم بنعمة بياض الوجوه الا بالاسلام واتيان الفرائض والواجبات.
لقد نزلت تلاوة آيات القرآن مرة واحدة في تأريخ الانسانية لتبقى وتستمر وتكون منعطفاً يغير مجرى التأريخ، ويشيد صرح التوحيد في الأرض الى يوم القيامة.
ولتلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منافع ذاتية وغيرية، فاما الذاتية فتتعلق بآيات القرآن، ومساهمة التلاوة في حفظها وتعاهدها وتوارثها.
واما الغيرية فان التلاوة وسيلة مباركة لتثبيت معاني الآيات في الأذهان، وعون للمسلمين على حفظ آيات القرآن وضبط قراءتها وترتيبها، وهي حجة على الناس جميعا، ودعوة لهم للانصات والاستماع لآيات القرآن والتدبر في معانيها.
وقد كان لتلاوة آيات القرآن في ايام التنزيل اثر عظيم في جذب الناس للإسلام، وإقرار اساطين اللغة والبلاغة من العرب باعجاز القرآن وامتناعه عن المحاكاة والتشبيه في الفاظه.
وحتى على ارادة نزول القرآن على نحو آيات وسور بصورة التتابع فانه آية اعجازية في حفظ وسلامة القرآن، والتدبر في معانيه وآياته، وجعل النفوس تتشوق للمزيد من آياته وما فيها من الاسرار والكنوز العلمية وامور الغيب واخبار الآخرة وثواب الصالحين ببياض الوجوه، وعقوبة الكفار بسواد الوجوه وكيفية اجتناب العقوبة بالتوبة، ونيل النعمة جزاء وفضلاً من عندالله عز وجل.
قانون تلاوة النبي للقرآن
يجتمع في هذا القانون ثلاثة اطراف:
الأول: التالي للآيات، وهو سيد البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المتلو: وهو القرآن، الكتاب الجامع للأحكام الشرعية، والناسخ لما قبله من الكتب، وليس له ناسخ ابدا فضلاً من عندالله.
الثالث: التلاوة وهي كيفية القراءة، وفيها بيان واظهار للحروف والكلمات القرآنية.
ومع ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين وسيد المرسلين الا ان التلاوة جاءته من عندالله لقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] فهو لم يتل القرآن الا بالكيفية التي سمعها من جبرئيل الأمين.
لتكون تلاوته القرآن على المسلمين تلاوة سماوية محضة، وهبة من عندالله تشع منها انوار الهداية والرشاد، والتلاوة جزء من الرسالة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي ليست فرعاً مترشحاً عنها، بل جزء منها له موضوعيته، قال تعالى [رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً] ( ).
وجاءت الآيات بمدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته الآيات على المسلمين، وتضمنت التفضيل بالبيان، منها قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ]( )، كما جاءت التلاوة بخصوص قصص الأنبياء وهذه التلاوة من اسباب نعتها بانها احسن القصص قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ] ( ).
وجاء ذكر نوح عليه السلام من باب المثال الأمثل وليس الحصر، والمراد قصص الأنبياء الواردة في القرآن وقراءتها على المسلمين بصيغة التلاوة التي تبين صيغة جديدة للالقاء، غير متعارفة عند العرب، وكانت البلاغة تتجلى عندهم بالشعر ثم السجع والخطابة.
فجاءت التلاوة رداء صوتياً لآيات من الإعجاز اللفظي والابداع البياني والكشف المتوالي في اسرار الغيب، فتنقل الآية القرآنية الاذهان الى عوالم متعددة، وتجعل الانسان يرتقي في ميادين المعارف ويشعر بحصول زيادة في علمه لم تكن موجودة عنده، وهذه الزيادة بسبب قراءته او انصاته للآية القرآنية.
فمن اعجاز القرآن الغيري شعور السامع لآياته بالإرتقاء في المعرفة، ويؤدي هذا الارتقاء به الى الإلتفات الى القرآن، والعناية بآياته والتدبر بمضامينه والنهل من علومه، والإنتفاع من اسراره والاغتراف من كنوزه وخزائنه.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في تلاوة الآيات وقد اسس صرحاً شامخاً في تلاوة الآيات تجلى بقواعد كلية وضوابط لاتقان آداب الترتيل واحكام القراءة، بما يدل على اكرام اللفظ القرآني وجعل خصوصية لقراءة القرآن تساعد في إكرامه وبعث حبه في النفوس، وجذب الناس للانصات له، وصيانته من الهذي ونحوه.
ومن وجوه تفضيل المسلمين على غيرهم تلاوة آيات القرآن، فقد انعم الله عز وجل بالقرآن على المسلمين بتلاوة الآيات على النبي، ثم تفضل بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآياته بعناية وتوفيق منه تعالى.
وتحتمل تلاوة النبي في زمانها وجوهاً:
الاول: خاصة باصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته.
الثاني: شمولها للصحابة جميعاً من المهاجرين والانصار.
الثالث: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن للصحابة، كما يسمعها اهل الكتاب والمشركون.
الرابع: وصول تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين جميعاً.
والصحيح هو الاخير فان كل مسلم يسمع تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ولكن بالواسطة، اذ تتوارث اجيال المسلمين تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن بصفتها امانة وتركة نبوية كريمة، وهذا التوارث من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فليس من امة تحفظ كتابها وتلاوة نبيها له مثل المسلمين.
ومن الآيات استمرار ترتب الاثر المبارك على تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن عند اجيال المسلمين المتعاقبة بما تبعثه من السكينة في النفوس، والرغبة في تلاوة الآيات وتعاهد الصلاة بذات الماهية التي أداها رسول الله، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال (صلوا كما رأيتموني اصلي)( ).
لقد جاء قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( )، شاهداً على الحاجة لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الله على المسلمين، ودليلاً على الإرتقاء العلمي الذي حصل عندهم بسبب التلاوة ومافيها من علوم الكلام والفقه والأحكام، واسرار الغيب.
قانون التلاوة تفضيل
لقد انعم الله عز وجل على المسلمين بالتفضيل على الأمم بنزول القرآن، وصيانته من التحريف والتغيير، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، وبدأت بنزول القرآن ايام جديدة من الحياة الدنيا تتصف باسباب الصلاح والهداية للناس، ووجود شاخص سماوي مبارك بين الناس يدعوهم كل ساعة للإيمان.
وادى نزول القرآن الى بعث الحياة في حقيقة نزول التوراة والانجيل، وعناية اهل الكتاب من اليهود والنصارى بما عندهم من كتبهم من وجوه:
الاول: شهادة القرآن بنزول التوراة والانجيل من السماء.
الثاني:تصديق المسلمين بالقرآن ونزوله من السماء.
الثالث: مبادرة المسلمين للعمل باحكام القرآن، و تقيدهم التام بمضامينه، وتلك آية لم يعهدها الناس على مختلف ازمنتهم، واجيالهم المتعاقبة، فليس من امة اظهرت الالتزام التام باحكام كتابها مثل المسلمين.
الرابع: حرص المسلمين على حفظ القرآن وتدارسه، وتفسير آياته، وتعاونهم في بيان مضامينها، وشرح احكامها.
الخامس: قيام المسلمين بحفظ آيات القرآن، وتعاهدها، وتلاوتها بأعذب الاصوات.
السادس: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب وهو وسيلة لحفظه وآية في اكرامه من عموم المسلمين.
وقراءة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية في جميع انحاء الأرض أمر اعجازي لا يصل اليه العقل الانساني ابدا، فتتجلى سماوية هذا الغرض بمنافعه الدنيوية والأخروية على المسلمين عموماً وعلى كل مسلم ومسلمة على نحو الخصوص، وفيه حفظ لوجودهم وكياناتهم ومساجدهم ومجتمعاتهم ودولهم وارزاقهم وحرمتهم وسيادتهم، وفلاحهم، وشأنهم المستقل بين الناس.
وفي القراءة اثناء الصلاة بصيغ التلاوة امور:
الاول: حفظ قراءة القرآن.
الثاني: التقيد المتوارث بقواعد التلاوة.
الثالث: تعاهد الأخوة الايمانية.
الرابع: منع الفرقة والخلاف في القراءة وغيرها.
الخامس: درء الفتن وأسباب الخصومة.
السادس: الاتحاد في التلاوة مقدمة للصلح بين المسلمين، ونشر مفاهيم الود والمحبة فيما بينهم.
السابع: في قراءة الآيات وفق احكام التلاوة دعوة للتفقه في الدين.
الثامن: جعل موضوعية للتلاوة في اكرام القراء الذين يحسنون تلاوة الآيات.
التاسع: التلاوة من مصاديق الاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على حرص المسلمين على اتباع سنته، وعدم الخروج عنها، ويشعر معها المسلم بصلة مباركة محسوسة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء بتلاوة الآيات او عند الاستماع لها.
العاشر: تلاوة المسلمين للقرآن واقية من الأعداء، وزاجر للكفار من التعدي على المسلمين وثغورهم، وباعث للفزع في نفوسهم من التلاوة وما تعنيه من وحدة المسلمين.
الحادي عشر: تنمي التلاوة ملكة التقوى عند المسلم، و تجعله ينقطع الى الله تعالى، ويغرق في جلال قدسه، ويسيح في انوار الملكوت لما فيها من الانشغال بمخارج الحروف، والتدبر في معاني الكلمات والشعور الذاتي بانه يقرأ امراً سماوياً يختلف عما يقرأه ويتحدث به، فقد اتخذت التلاوة صبغة خاصة اقترنت بالقرآن وقراءته، وماعداه لا يقرأ على نحو التلاوة.
فمن الآيات انه لو قرأ غير كلام الله بذات الصيغ من التلاوة التي يقرأ بها لكان امراً نادراً غير مألوف، ولو قرأت آيات القرآن بصيغة ما يقرأ من النثر او الشعر او السجع لاعتبر امراً مخالفاً للقواعد، ويحصل التغيير في كل شئ في القراءة الا تلاوة القرآن فانها قانون ثابت وباب لنيل الثواب وامانة سماوية ونبوية عند المسلمين يبذل كل جيل منهم الوسع في تعاهدها وحفظها.
الثاني عشر: تلاوة الآيات مقدمة للصلاح ووسيلة للسعي في ميادين التقوى، وتثبيت للايمان وحرز من السيئات، وقد ذم الله قوماً يتلون الكتاب ولا يعملون الصالحات، قال تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ] ( ).
الثالث عشر: تلاوة آيات القرآن شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الإعجاز العقائدي فقد اراد الله عز وجل لسنته الحفظ والبقاء لتكون سبباً للهداية والصلاح.
وتبقى تلاوة القرآن شاهداً يومياً متجدداً على تفضيل المسلمين على غيرهم وعنواناً للعز والقوة والمنعة.
قانون تلاوة القرآن إعجاز
نزل قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] وفيه مسائل اعجازية:
الاولى: تسمية كلمات القرآن بانها آيات وعلامات باهرات.
الثانية: نسبة آيات القرآن الى الله تعالى ولو انحصر الاسم بآيات القرآن لقال أهل الكتاب مثلاً: انها آيات بالنسبة لكم وللقرآن وليست هي عندنا آيات، ولا تكون حجة علينا.
فجاءت هذه الآية لتخبر بان القرآن كلام الله وان كل آية من عنده آية من آيات الله موجهة للناس جميعاً.
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الجمع، وفيه دلالة على وجوب عدم التفريط في أي كلمة من كلمات القرآن، وان كل آية منه آية مستقلة قائمة بذاتها، وفيه اكرام لآيات القرآن، ودعوة للتدبر في معنى كل آية بالذات والأثر.
الرابعة: لو قالت الآية (تلك آية الله) لصدق الاسم على القرآن كله باعتباره آية الله في العالمين، ولكن لغة الجمع دليل على عظمة آيات القرآن ومافيها من الإعجاز والحجج الساطعة.
الخامسة: تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص بتنزيل آيات الله عليه، وفيه دعوة للتصديق به ونصرته والذب عنه واعانته في دعوته الى الله، والدفاع عنه لبقائه في أمن وحرز ليتلقى آيات الله، خصوصاً وان الآية جاءت بصيغة الفعل المضارع (نتلوها).
السادسة: ان الله عز وجل هو الذي يتلو الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: تقيد التلاوة بانها بالحق والصدق، وحاجة الناس جميعاً لها، وفيه إخبار بان الله عز وجل اخذ على نفسه عهداً بان ينزل هذه الآيات المباركات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الناس.
فكانت آيات القرآن هي الهبة السماوية العظمى التي تنتظر بعثةالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا غرابة ان تضج الملائكة في السماء بالبشرى والغبطة ممن علم حينها بحلول أوان بعثته كما في حديث الاسراء.
الثامنة: ان وصف القرآن بانه آيات الله شاهد على حفظه وتعاهده، وانه لن يغادر الأرض الى يوم القيامة، لان كل آية نعمة من عندالله، واذا انعم الله عز وجل على الناس بنعمة فانه لا يرفعها، بل تبقى في الأرض قريبة من الناس، تدعوهم لها، ويترشح عليهم من انوارها، ويقتبسون من ضيائها وبركاتها ما ينير لهم دروب الحياة.
التاسعة: في الآية حث للمسلمين على الأخذ بكل آية من آيات القرآن، فقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّه] أي تعاهدوها بالتلاوة والعمل، ولا تفرطوا بها.
العاشرة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، ويواجه الانسان فيها اسباب الخوف والفزع، ولأنه كائن ممكن محتاج فانه بحاجة الى غيره دائما.
فتأتي آيات القرآن لتسد حاجة المسلم، وتدله على طريق النجاة وهو اللجوء الى الله، والإنشغال بذكره وتلاوة آياته.
وفي قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّه] دليل على إعجاز القرآن، وانحلال الإعجاز ليشمل كل آية من آياته، وتأتي التلاوة لتكون آية اعجازية اخرى تترشح عن ذات الآيات وتتعاهدها، وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن بان تتفرع عن آياته آيات اخرى، وهذه الآيات توكيد لاعجاز آيات القرآن ووسيلة لحفظها وسلامتها.
قانون استدامة التلاوة إعجاز
لقد لازمت تلاوة آيات الكتاب الانسان من اول عمارته الأرض، وهي عنوان العبادة ووسيلة لنزول البركة، وتعاهد لآيات التنزيل وكان آدم عليه السلام نبياً، ومع النبوة تأتي الآيات ويجتهد الانبياء وانصارهم في حفظها وتعاهدها.
وتحتمل التلاوة من جهة الأثر امورا:
الأول: ظهور آثارها على الجوارح، وبافعال المسلمين.
الثاني: انها مجرد قراءة لسانية وفق قواعد مخصوصة.
الثالث: التلاوة واجب تعبدي، له احكامه وضوابطه وهو عبارة عن ترتيل آيات القرآن في الصلاة، وعند ساعة الذكر، قال تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ).
والصحيح هو الاول والثالث، فان التلاوة واجب تعبدي، وتظهر اثارها على الجوارح وفي عالم الأعمال بما يساهم في تثبيت المسلمين في منازل الايمان.
لقد اراد الله عز وجل للقرآن ان يكون معجزة خالدة واول ماظهر من إعجازه بلاغته واخباره في المغيبات القربية منها والبعيدة، وفي القريبة نوع تحد يتجلى بحدوث الوقائع التي تكشف عن صحتها فتكون دليلاً على صدق النبوة والتنزيل، وما فيه من الاخبار عن علوم الغيب الدنيوية والأخروية.
ومن اعجاز القرآن تلاوته وترتيله وامتلاء نفوس المسلمين بالشوق الى آياته، وانتفاء الملل والضجر من تلاوته، وجعل الله عز وجل التلاوة باباً للأجر والثواب، واكتناز الحسنات.
وجاءت الآيات بمدح المسلمين لانهم يتلون آيات القرآن قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]( ).
وفي الآية مسائل:
الاولى: قدمت الآية الكريمة تلاوة الآيات على الصلاة والزكاة وفيه دلالة على موضوعية التلاوة واهميتها، وكأن التلاوة شاهد على الإيمان.
الثانية: جاءت الآية بواو العطف بين التلاوة واقامة الصلاة، مما يعني التعدد والمغايرة بينهما، وان القصد ليس الصلاة او قراءة الآيات فيها، ويدل على موضوعية تلاوة آيات القرآن في حياة المسلمين ولزوم تعاهدها.
الثالثة: جاءت التلاوة مع اقامة الصلاة بعرض واحد، وبصيغة الجمع، مما يدل على لزوم قيام المسلمين جميعا بتلاوة الآيات والتدبر في معانيها.
الرابعة: ارادة المسلمين جميعاً الموجود منهم والمعدوم وابتداء من ايام الصحابة، ولو تردد الأمر بين ان تكون تلاوة الصحابة كتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، او تختلف عنها فالاصل انها متحدة معها وتحاكيها. وهذه التلاوة ورثتها وتعاهدتها بالحفظ اجيال المسلمين بصيغة من الاكرام والاجلال، ويحرص المسلمون في كل زمان على اخراج الحرف عند التلاوة من مخرجه، ويجتهدون في اتقان النطق (بالضاد) مثلاًَ في قوله تعالى [وَلاَ الضَّالِّينَ] ( )، مع التباين في السنتهم ولغاتهم.
فتجد قوماً لا يحسنون النطق بالضاد وليس هو من حروف المعجم في لغتهم، او انهم عرب والعربية لغتهم، ولكنهم يتحدثون بلهجة عامية دارجة يقلبون معها الضاد ولا يحسنونه ومع هذا تجدهم اذا وقفوا بين يدي الله للصلاة، ينطق امامهم بالضاد على الوجه العربي الصحيح، لتكون التلاوة جذباً للغة القرآن، وتعاهداً لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن اداء وكيفية ولبيان المعنى وعدم التحريف والتغيير فيه.
ان استدامة قراءة القرآن بصيغ التلاوة وشمولها لعموم المسلمين في أقطار الأرض آية من آيات القرآن، وشاهد على إعجازه، ودليل على نزوله من عندالله، والمدد الإلهي لحفظه، وهي من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، فاحكام التلاوة والمحسنات الصوتية كالإدغام والامالة والتفخيم والترقيق، والإحاطة بالقراءات السبعة امور تساهم في تثبيت كلمات القرآن، ووقايتها من التحريف والتغيير.
قانون التلاوة وحدة
جاء قبل آيات قوله تعالى [إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( )، وهذه النعمة تحتمل وجوهاً:
الاول: انها نوع ود ومحبة يقذفها الله في قلب كل مسلم ازاء إخوانه المسلمين.
الثاني: انها من الأجسام اللطيفة التي تحكم الصلات والمعاملات بين المسلمين.
الثالث: انها أمر محسوس يدرك بالحواس وعبارة عن اقوال وافعال.
الرابع: المراد من النعمة اسباب الاخوة ودوامها.
الخامس: النعمة سبب هذه الاسباب وعلتها التي بها حصلت مقدمات وأسباب الأخوة بين المسلمين.
السادس: الإسلام هو النعمة التي جعلت المسلمين أخوة.
السابع: الفرائض والواجبات التي يؤديها المسلمون بصورة جماعية، ويشتركون في كيفية أدائها وأوانها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق نعمة الله، التي هي اعم في افرادها ومنها تلاوة القرآن، وهي نعمة مما أنعم الله عز وجل به على المسلمين، وتساعد في دوام نعمة الأخوة والمودة بينهم، من وجوه:
الأول: التلاوة برزخ دون الفرقة والتشتت، ومن الآيات تضمن الأحكام الشرعية لضوابط التلاوة، وبيان مستحباتها لمنع الفرقة والخلاف في المقام.
الثاني: التقاء المسلمين في التلاوة عنوان للأخوة، وسبيل للمحافظة عليها.
الثالث: في إتحاد التلاوة توكيد للغنى عن المذاهب في القراءة، وتعدد الآراء والإجتهاد في مقابل النص.
الرابع: التلاوة وسيلة عبادية مباركة للإرتقاء العلمي والتفقه في الدين، وهي عون للمسلمين في معرفة واجباتهم ووظائفهم في لزوم الاعتصام بالقرآن والسنة واحكام الشريعة، ونشر مفاهيم الأخوة والمودة بينهم.
لقد اراد الله عز وجل للمسلمين الوحدة والإتحاد فيما بينهم، وتتجلى في التلاوة معاني الوحدة بابهى معانيها، فكل مسلم يدرك ان عليه اتباع ذات القواعد والأحكام في التلاوة، وتجمعه مع كل المسلمين والمسلمات آيات القرآن تلاوة ونطقاً وسمعاً وعملاً، فالتلاوة لم تطلب بذاتها فحسب بل هي وسيلة ومقدمة مباركة للتعاون وترسيخ الإيمان، ومواجهة الأعداء.
ومن الآيات ان جعل الله عز وجل تلاوة القرآن في الصلاة اليومية واجباً على كل مسلم ليقرأ المسلم الآية والسورة القرآنية ويشعر خلالها بالأخوة التي تجمعه مع كل من يقرأها من المسلمين ذكرا او انثى، غنياً او فقيراً، قريباً او بعيداً.
وتطرد التلاوة النفرة بين المسلمين، وتمحو المسافات بينهم، وتكون سبباً لنصرة المسلم او المسلمين الذين يتعرضون للعدوان والظلم من غيرهم.
ففي كل مرة يقف المسلمون بين يدي الله يتذكرون احوال وشؤون المسلمين الآخرين وثغورهم، لان التلاوة رابطة ملكوتية مباركة، وصلة عقائدية بينهم، تدعوهم الى النصرة خصوصاً وانها لم تأت عن اجتهاد ورأي بل جاءت اقتداء بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الله، لتكون لتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية في المقام، واثر حسن في ندب المسلمين الى الصلاح والتقوى والتقيد بمبادئ الاخوة الايمانية.
ان رؤية منافع التلاوة على المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم تجعلهم اكثر تمسكاً وتقيداً بها، وتلك نعمة اخرى وآية من اعجاز القرآن التوليدية التي لا تنحصر بزمان دون آخر، وهي متجددة كل يوم فمع اطلالة كل يوم تتجلى منافع عديدة على المسلمين من التلاوة وآثارها المباركة.
علم المناسبة
الحق ضد الباطل، ويقال حق الشيء يحق حقاً أي وجب، ويأتي الحق بمعنى الصواب ومعاني الصحة والصدق، يقال تحقق عنده الخير أي صح “وحقق قوله وظنه تحقيقاً” أي صدق.
والحق: صدق الحديث، والحق: اليقين بعد الشك( )، وآيات القرآن حق وصدق في موضوعها وحكمها وتنزيلها.
ومن الآيات ان تكون تلاوة الآيات من الحق وبالحق مما يعني موضوعيتها ووتجلي مفاهيمها، وهناك وجوه متعددة للتقييد بالحق وهي:
الأول: نزول القرآن بالحق قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ] ( ).
الثاني: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق والإخبار بانها صدق وخير ونفع للناس في النشأتين، قال تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثالث: الحق هو القرآن والتنزيل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الرابع: خلق السموات والأرض، وانهما ليس من الباطل، والله عز وجل منزه عن الباطل ، وكل ماليس له غاية حميدة، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ]( ).
وهل تقييد التنزيل والتلاوة بالحق أمر متحد ام متعدد، الجواب هو الثاني لتعدد الموضوع، فالتلاوة غير التنزيل وان كانت متحدة معه في الذات، ولكنها تبين طريقة وصيغة تنزيل الكتاب، ومن الآيات الاعجازية ان كيفية التنزيل عون على اتقان احكام وسنن التلاوة من وجوه:
الاول: نزول القرآن نجوماً وعلى فترات متعددة اذ بلغت مدة التنزيل ثلاثاً وعشرين سنة.
الثاني: يتألف القرآن من سور، والسور من آيات تفصل بينها فواصل في الرسم، والوقوف عند نهاية الآية للتدبر في معانيها ومضامينها القدسية وتكون التلاوة عوناً على الوقوف عند آخر الآية ورسوخها في الوجود الذهني، مما يسهل استحضارها عند وقوع مايناسبها في الموضوع والحكم.
الثالث: التعدد في مواضيع ومضامين الآيات.
قوله تعالى [ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ]
جاءت خاتمة الآية بقاعدة كلية ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل وهي نزاهة الباري عز وجل عن الظلم والتعدي، ومن صفاته تعالى انه “رحيم” و”رحمن” و”عدل” ولا تجتمع الرحمة والعدل مع الظلم، للتناقض بينهما.
وتؤكد الآية على حقيقة وهي ان الله عز وجل لا يريد وصول الظلم الى الناس، فلا ينحصر موضوعها بانتفاء الظلم عن الله عز وجل بل يشمل عدم إرادة وقصد الظلم وفيه وجوه:
الأول: انتفاء مقدمات الظلم، فالله عز وجل منزه من تهيئة مقدمات وأسباب ظلم الناس.
الثاني: عدم إرادة ظلم الناس للناس، ففي الآية تحذير من الظلم وانذار من التعدي على الآخرين، وما لا يريده الله عز وجل يعاقب على إرتكابه، قال تعالى [وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
فمع ان القوة كلها لله تعالى فانه لا يظلم ولا يريد الظلم، وفيه تأديب وإرشاد للناس ولزوم كون العدل مصاحباً للقوة والسلطان، وقد يقال ان عدم الظلم لا يدل على الرحمة والعدل، ولكنه يدل على نفي ضد التعدي وما هو ضد العدل، وإنتفاء الظلم وعدم إرادته عنوان للرحمة والرأفة والحصانة من التعدي.
وجاءت الآية بمضامين العدل من وجوه:
الأول: تنزيه مقام الربوبية عن الظلم مطلقاً ما قل أو كثر منه، وما إستدام او انحصر بزمان مخصوص او قضية في واقعة.
الثاني: شمول انعدام إرادة الظلم عن الناس جميعاً، البر والفاجر، والسيد والعبد، والحاكم والمحكوم، ولو قام انسان بظلم غيره فهل يظلمه الله، الجواب لا، فتخبر الآية عن إمتناع الظلم عن مقام الربوبية مطلقاً ومن يظلم غيره متحداً أو متعدداً ينال عقابه في الآخرة، وهو من مفاهيم هذه الآية، فعدم إرادة الظلم من عند الله تعني العقاب على الظلم والمؤاخذة عليه، وجاءت مواضيع الآية في أمور:
الأول: الإخبار السماوي بكون القرآن آيات الله عز وجل.
الثاني: تلاوة آيات القرآن من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إنتفاء إرادة الظلم مطلقاً عن إرادة الله عز وجل.
ترى ما هي الصلة بين تلاوة آيات الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين عدم إرادته الظلم للعالمين، الجواب من وجوه:
الأول: تلاوة الآيات من عند الله عز وجل من مصاديق العدل.
الثاني: التلاوة وسيلة للهداية، والهداية حرز من الظلم، فمتى ما إهتدى الإنسان فانه يجتنب الظلم والتعدي.
الثالث: أراد الله عز وجل للناس الإسلام، وهو حرز وواقية من الظلم من وجوه ثلاثة:
الأول: تتضمن مبادئ الإسلام حرمة الظلم، وتنهى أحكامه عن أفراد الظلم والجور والتعدي.
الثاني: إجتناب المسلم الظلم.
الثالث: إظهار الإسلام على الملل، وقوته وسلطانه مانع من تعدي الناس على المسلمين.
الرابع: تنشر تلاوة الآيات الرحمة في عموم الأرض وبين الخلائق، وفي الجن ورد قوله تعالى [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ] ( )، ومن مفاهيم الرشد إجتناب الظلم لقبحه الذاتي، وإدراك عواقبه الوخيمة وترتب العقاب الإلهي عليه.
الخامس: تبين الآية حاجة الناس لتلاوة الآيات بما يمنع من إنتشار التعدي والظلم بينهم، وتؤكد الآية الملازمة بين تلاوة الله للآيات ورأفته بالناس وعدم تعرضهم للظلم.
وهل المراد الملازمة بين التنزيل وعدم الظلم، ام لابد من وجود موضوعية في المقام لتلاوة الله للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إنتفاء الظلم.
الجواب هو الثاني، وهو من إعجاز الآية، وما فيها من المضامين القدسية، وفيه مسائل:
الأولى: عدم التعارض بين موضوعية تلاوة الله عز وجل للآيات ونزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين انتفاء إرادة الظلم عن الله عز وجل، فالملازمة في المقام تنحل الى أمور:
الأول: تلاوة الله للآيات موضوع للعدل وشاهد على إنتفاء الظلم عنه تعالى.
الثاني: نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة التلاوة.
الثالث: إستماع الملائكة وأهل السماء لتلاوة آيات القرآن.
الرابع: إنصات الناس لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يتلوها كما نزلت عليه صيغة ولفظاً وكلمات.
الخامس: تلاوة المسلمين للآيات وفيها وجوه:
الأول: التلاوة حصانة من الظلم، فمن يتلو الآيات يتجنب الظلم والتعدي على الناس.
الثاني: تبعث تلاوة الآيات في نفس الذي يسمعها النفرة من الظلم والتعدي.
الثالث: في التلاوة إنذار وتحذير من العذاب الأخروي للظلم، سواء للقارئ والمستمع او السامع، وتأتي التلاوة لتؤكد هذا التحذير لما فيها من صيغ البيان وأسباب التدبر والفهم والإنصات، ويأتي هذا التحذير من وجوه:
الأول: البشارة بالجنة والنعيم الدائم لمن يجتنب التعدي على الآخرين، واذا حكم يحكم بالحق والعدل، قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( ).
الثاني: الترغيب بآيات القرآن بالعدل والإنصاف، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأمر بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى]( ).
الثالث: آيات الوعيد والتخويف للظالمين، ومن الآيات مجيء الوعيد للظالمين بعرض واحد مع الكافرين، وبينت آيات القرآن وجوه الشبه بينهما قال تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
ولم ينحصر العدل الإلهي وانتفاء الظلم عن مقام الربوبية بالناس بل يشمل الجن وعالم الحيوان، ويحتاج كل كائن ذي حس الى العدل والنجاة من الظلم الذين قد يؤدي الى هلاكه، وعدم إستدامة حياته.
ولم تقل الآية “ولم يرد الله ظلماً بالعباد” مع ان لفظ العباد عنوان يشمل كل انسان بلحاظ العبودية لله تعالى، سواء كان العبد حراً أم عبداً، حاكماً أو محكوماً، مسلماً كان او كتابياً او كافراً وثنياً، ولكن الآية جاءت بلفظ العالمين لوجوه:
الأول: إفادة المعنى الأعم وشمول الجن في الآية.
الثاني: الإشارة الى انتفاء الظلم عن الناس بلحاظ الإمكان والحياة والحس.
الثالث: ورود آية أخرى بلفظ “العباد”( )، فجاءت الآية لبيان شمولهم بالرحمة والعدل والإنصاف لجزئيتهم من عالم الموجودات الحية.
وتبين الآية أهمية تلاوة الآيات وما فيها من الأحكام وضرورة التقيد بها، والعمل بمضامينها، وقد يظلم الإنسان نفسه فهل تشمله الآية الجواب نعم لإطلاق الآية، وفضله تعالى بتنزيه الأرض من الظلم، وإصلاح الإنسان لما ينفعه في الدنيا والأخرة، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وفي الآية دليل على ان الله لا يؤاخذ الإنسان بغير جرم ولا يعاقب من دون إثم، كما انه سبحانه لا يزيد في عقاب مذنب، وهو العفو الحليم.
وجاءت الآيات القرآنية ببيان عدل الله تعالى، وتنزهه عن الظلم مطلقاً، فالظلم قبيح، وواجب الوجود منزه عن القبيح، وقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليكون ميزاناً باطنياً، وواعزاً ذاتياً يدل الإنسان على سبيل العدل.ويجعله يدرك ظلمة الظلم، واضراره.
ومن إعجاز القرآن انه يؤكد على حقيقة وهي ان الظالم لا يظلم بالإصل الا نفسه وفيه اشارة الى ماينتظره في الآخرة من العذاب الاليم سواء في ظلمه للناس أو في جحوده بالآيات، واصراره على انكار الرسالة.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وداراً لنزول رحمته، وما النبوات والكتب السماوية المنزلة إلا مصاديق من رحمة الله، وشاهداً على عظيم فضله ورأفته بالناس جميعا ونجاتهم من الظلم.
ومن اشد وجوه الظلم الكفر والجحود، لذا ندب الله عز وجل الناس للايمان وبعث الأنبياء بالمعجزات لجذب الناس الى الهداية والايمان، وحبب اليهم العدل ليكون مقدمة ووسيلة للإيمان وأداء الفرائض والمناسك بشوق وسكينة.
ومن الآيات ان منافع العدل تقترن به وتتعقبه، وتظهر على صاحبه بالذكر الحسن والرزق والبركة والسلامة من الآفات، وهو وسيلة للفوز بالذرية الصالحة وحسن العاقبة، اما الظلم فانه سبب المحق والنحس وقطع الدابر، وسوء الذكر والعاقبة، قال تعالى [فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
وقد ورد لفظ (ظلماً) ثمان مرات في القرآن، خمس منها في الوعيد والتخويف للظالمين، وواحدة في بشارة المسلمين الذين يعملون الصالحات بانتفاء الظلم عنهم في الآخرة، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا]( ).
واختلف في المراد من العالمين على اقوال:
الأول: كل الخلائق والممكنات بلحاظ استقلال كل جنس منها واستدل عليه بقوله تعالى [وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ( )، ولكن الجواب اعم من التفسير بل جاء للبيان وتوكيد سعة ملك الله وعظيم سلطانه، وكأنه من عطف العام على الخاص، الى جانب إرادة معرفة الخالق بلحاظ مخلوقاته.
الثاني: جمع العالمين بلحاظ التعدد بالقرون ، ( وقيل إنه اسم لكل صنف من الأصناف، وأهل كل قرن من كل صنف يسمى عالما، ولذلك جمع فقيل عالمون لعالم كل زمان، وهذا قول أكثر المفسرين كابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم( ).
الثالث: ارادة عالم الملائكة والجن والانس بلحاظ الجامع بينها وهو العقل والتمييز.
الرابع: المراد من لفظ العالمين الجن والإنس على نحو الخصوص، وهم الذين تتوجه لهم الرسالات.
الخامس: هم الإنس على نحو الخصوص، ويدل عليه بقوله تعالى [أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ]( ).
والله عز وجل منزه من الظلم مطلقاً، وليس من كائن موجود الا وهو في رحمة الله عز وجل.
وجاءت هذه الآية لبيان فضل الله عز وجل في دفع الظلم عن الناس بآيات القرآن، فتلاوتها مدرسة عقائدية وقانون ثابت لتنزيه الأرض من الظلم وتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وهو من أسرار بقاء التلاوة غضة متصلة لا تصل اليها يد التحريف، ولا يمكن منع وصولها الى الناس، لأنها مادة لإنتفاء الظلم.
علم المناسبة
وردت مادة “ظلم” في مواضع كثيرة من القرآن، وتبين متفرقة ومجتمعة القبح الذاتي للظلم، وأضراره في الدنيا والآخرة على الذات والغير، مع التفصيل اذ يضر صاحبه في الدنيا والآخرة، وان ظهرت له بعض المنافع فانما هي عرض زائل وتخلف آثاراً ضارة عليه، أما في الآخرة فان الظلم يرجع على صاحبه وينال بسببه العقاب الأليم، وجاء لمرة واحدة في القرآن قوله تعالى [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ]( ).
والنسبة بين لفظ “العالمين” و”العباد” عموم وخصوص مطلق، فالعباد من العالمين، وإختصاص العباد بالناس، دليل على اللطف والعناية الإلهية بالإنسان، وتهيء الآيات القرآنية المدد الإلهي للمسلمين الذين يتعرضون للظلم، قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ]( ).
وقد أكدت الآيات تنزه الله عن الظلم وأخبرت بانه سبحانه لا يريد الظلم للعباد، ومع هذا فان الظلم يقع بين الناس، وليس من راد أو مانع لإرادة الله عز وجل، والجواب ان الآية جاءت للإخبار عن قوانين الحياة الدنيا ولزوم سيادة أحكام العدل فيها، وأنه سبحانه لا يريد ان يظلم الناس، ولا يبغي ظلمهم، أما صدور الظلم من العباد فهو معصية وجزء من الإبتلاء في الحياة الدنيا.
وجاءت الآية بالتحذير من الظلم، والوعيد عليه بالعذاب الأليم، قال تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ]( ).
ومن الآيات ان عقوبة الظلم لا تنحصر بعالم الآخرة، فقد تكون في الدنيا قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ]( )، ومن أشد أنواع الظلم إختيار الكفر، والإصرار عليه والصدود عن دعوة النبوة، والقيام بمحاربة المسلمين.
قانون ” الله ليس بظالم”
الظلم هو التعدي والجور وهو من أشر الإمور في الأرض، ومدخل لكثير من افراد الفساد والإفساد، وحاجب دون تغشي الخير والصلاح الناس، وهو ضد العدل، وليس من واسطة وبرزخ بينهما، ولا ينحصر موضوع الظلم بالطغيان والسيادة والاستبداد، فقد يأتي الظلم من الأدنى الى الأعلى، وقد يكون الظلم من الإنسان لنفسه، وجاء الأنبياء بالحرب على الظلم على نحو مركب:
الأول: اظهار العدل في سيرتهم.
الثاني: الصبر على الأذى، ودرء السيئة بالحسنة.
الثالث: بيان قبح الظلم.
الرابع: محاربة الظلم.
ونزلت الكتب السماوية بالزجر عن الظلم، ومن خصائص المسلمين وكونهم خير امة اخرجت للناس تعاهدهم للأمر بالمعروف ومن احسن مصاديقه العدل، والنهي عن المنكر ومن اقبح افراده الظلم.
والمسلمون دائبون بالدعوة الى العدل والحث على اجتناب الظلم بمراتب الأمر والنهي الثلاث اليد واللسان والقلب، وكل مرتبة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة.
لقد اراد الله عز وجل للمسلمين ان يكونوا جنوداً لله تعالى في حفظ موازين العدل في الارض، ومنع الناس من التعدي فيما بينهم افراداً وجماعات فان قيل بأن الظلم يحصل بين المسلمين انفسهم فكيف يقومون بمنع غيرهم من الظلم.
والجواب ان وقوع الظلم بين المسلمين خلاف مايجب عليهم، ولا يفعله الا القلة منهم مع انكار وعدم رضا الغالبية العظمى منهم، كما انه يكون محدوداً وضيقاً ومؤقتاً لا يلبث ان يزول، ولو تدبرت الوقائع والشواهد التأريخية لتجلت لك الآيات والمدد الإلهي في القضاء على الظلم الذي يحصل بين المسلمين، والذي يقع عليهم من غيرهم، ومن فضل الله تعالى ان الظلم مطلقاً بين الناس لا يدوم.
ويبين قوله تعالى [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ] قانوناً ثابتاً وهو ان الله عز وجل يدرء الظلم عن الناس ويدفعه عنهم وهو أمر لا يقدر عليه غير الله عز وجل، فقد تغلب النفس الشهوية والغضبية على سلطان او جماعة او فرقة او قبيلة ويقومون بظلم غيرهم فيمهلهم الله الى حين مع بيان الآيات والإنذارات ثم يأتي الفرج وزوال الظلم، ومن اسباب منع الظلم نزول القرآن الكريم، وهو الذي تدل عليه هذه الآية باقتران نفي الظلم عن الله بذكر تلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية بذكر تلاوة الله عز وجل للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام مما يدل على موضوعية تلاوة الله تعالى للآيات عليه في توكيد حقيقة عدم ارادة الله الظلم للناس.
وبعد ان جاءت الآية السابقة بالاخبار عن اقامة المؤمنين في رحمة الله في الآخرة جاءت هذه الآية لتخبر بان رحمة الله في الدنيا مطلقة، لدفع وهم بان رحمته في الدنيا خاصة بالمؤمنين، بل هي عامة للناس ومن عموماتها رفع الظلم عن الناس، ليكون هذا الدفع وسيلة لتبصرتهم وتدبرهم بالآيات وإقرارهم بالربوبية لله تعالى.
لقد خلق الله عز وجل الانسان لعبادته، ورزقه من الطيبات، فنزول الظلم بالانسان خلاف لعلة الخلق، كما ان الظالم يتصرف بظلمه بغير حق، ونقيض ما أمر به من طاعة الله واجتناب التعدي والظلم، وهو انما يقوم بظلم نفسه، وظلمه لغيره يزول بزوال اثره وزمانه، اما ظلم الظالم لنفسه فهو باق الى يوم القيامة لما يترتب عليه من العقاب الأليم قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] ( ).
ومن الآيات ان الله فتح باب الدعاء للناس جميعاً، واذا كان الظالم يحرم المظلوم من حقه في موضوع مخصوص، فانه لا يستطيع ان يحول بين المرء وبين الدعاء، وليس ثمة مسافة بين العبد والخالق تعالى.
قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، واستجابة الدعاء من مصاديق هذه الآية، وشاهد حاضر كريم بان الله عز وجل لا يريد ظلماً لاي انسان مطلقاًَ.
ومن الآيات ان الظلم لا يمنع الإنسان من الإيمان بالآيات، فلا يستطيع الظالم وان كان امة عظيمة ان يمنع فرداً واحداً من الإيمان لأنه تصديق بالقلب وإقرار بالجوانح، لذا فان الظلم والظالمين لا يستطيعون الوقوف في طريق من يسعى لنيل نعمة بياض الوجوه في الآخرة.، فردا كان أو جماعة أو أمة.
قانون “الله لا يريد ظلماً”
كل ما في الوجود رشحة من رشحات الله عز وجل وفضل منه تعالى، وهو الذي أوجد الأشياء من العدم، ومنح الحياة للخلائق ومنها الإنسان الذي شرّفه الله بالخلافة في الأرض، رحمة من عنده تعالى، وتأتي رحمة الله تعالى مصاحبة لقدرته المطلقة فهو سبحانه قادر على كل شيء ولا تستعصي عليه مسألة مما يعني ان رحمته تصل الى كل شيء، وان الظلم بين الناس لا يتم الا بعلمه تعالى وهو جزء من الابتلاء في الدنيا، ولو شاء لمنع الظلم أي ظلم الإنسان لنفسه ولغيره.
ولكنه تعالى أنذر الناس وحذرهم من الظلم ووعد أهل الإيمان والعدل بالجنة والمغفرة، ومع ان الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء فانه تعالى لم يترك الناس يظلم بعضهم بعضاً على نحو السالبة الكلية، فيدفع الإنسان عن الظلم، ويجعله يفقد الوسائل التي يظلم بها غيره، ومن العصمة إمتناع المعصية، ويحول الله بين الإنسان وبين الظلم، فيزيحه عن منازل الظلم، ويمنع الآخرين من ظلمه، وكل مرة يمنع بها الله عز وجل الإنسان عن ظلم غيره، ينجو أفراد من الظلم والتعدي ويسلمون من وقوع الظلم عليهم.
وكذا اذا صرف الله الإنسان عن ظلم غيره له ونجاه من وقوع الظلم عليه فانه سبب لنجاة غيره بان لا يكون ظالماً له، لأن الظلم مفاعلة يكون أحد الطرفين ظالماً، والآخر مظلوماً، فتأتي الرحمة الإلهية للطرفين، وتأتي لعامة الناس بالدعوة الى الهداية والإيمان، وكل بعثة نبي هي حصانة من الظلم وتجديد لأحكام العدل بين الناس، وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتمنع الظلم، ويتضمن القرآن إقامة الحدود، ومعاقبة كل بحسبه وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين من وجوه:
الأول: تضمن القرآن للأحكام الجزائية والقصاص والديات.
الثاني: عصمة القرآن من التحريف والتبديل.
الثالث: عمومات أحكام الشريعة الإسلامية، ومنها الحدود، فكما ان التكاليف والفرائض شاملة للمسلمين جميعاً فان الحدود والعقوبات شاملة للناس جميعاً، وهناك مسألتان:
الأولى: لماذا لا تنحصر الحدود والعقوبات بالمسلمين مثلما هو في الفرائض كالصلاة والصوم والحج.
الثانية: لماذا لا يعفى المسلمون من الحدود لأنهم إنفردوا من بين الناس بأداء الفرائض.
والجواب على الأولى ان الفرائض العبادية واجبة على الناس جميعاً، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس كافة، ولكن الكافرين حجبوا عن انفسهم نعمة الإيمان وأداء الفرائض التي لا تقبل الا بقيد الإسلام وشرط القربة، وتكون إقامة الحدود على الكفار من باب الأولوية القطعية.
أما الثانية فان أحكام الحدود عامة على الناس جميعاً، ومن وظيفة المكلفين التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية فيأتي المكلف بما أمره الله، ويترك ما نهاه عنه، وتقام الحدود على من يعصي الله سواء في عدم الإمتثال للأوامر او المخالفة وإرتكاب المعاصي والذنوب التي نهى الله عنها العباد، نعم جعل الله عز وجل باب التوبة والمغفرة مفتوحاً للناس، وهو لا يتعارض مع إقامة الحدود.
الرابع: تضمن السنة النبوية لتفصيل الأحكام والتطبيق الفعلي لها بالسنة القولية والفعلية بما يساعد المسلمين عامة والحكام والفقهاء منهم خاصة على إقامة الحدود ومعرفة الناس لها، وما في هذه المعرفة من الزجر عن الظلم والتعدي.
ومن الآيات في خلق الإنسان ان الله عز وجل أعانه على فهم حقائق الأشياء ودعاه الى التدبر في معانيها ومضامينها، ورزقه العقل للاهتداء للايمان والتمييز بين الحسن والقبيح، وإدراك لزوم المصلحة في إتيان الحسن وإجتناب القبيح.
ومن الآيات في مفاهيم عالم الدنيا ان الظلم سوء جامع للكثير من الأفعال المذمومة، ويتضمن الإضرار بالآخرين بغير حق، وإلحاق الإجحاف والأذى بهم من غير إستحقاق له، وفيه عون للعقول لمعرفة القبح الذاتي للظلم، ولزوم إجتنابه.
وليس من إنسان الا ويكره أن يكون مظلوماً، وهذه الكراهة حجة عليه في لزوم عدم قيامه بظلم الآخرين والأضرار بهم، ولكن غلبة النفس الغضبية والشهوية تجعل بعضهم يميل الى ظلم الآخرين وتتعارض رغباته مع مصالح وحقوق الآخرين عندما تكون عنده قدرة على الظلم او يقوم بظلم نفسه باختيار الجحود والاصرار على الكفر، والإعراض عن آيات الله.
فجاءت هذه الآية لمنع الإنسان من الاصرار على المعصية والإستكبار والصدود، باخبارها عن ماهية آيات القرآن وانها آيات من عندالله تعالى. ومن اللطف الإلهي اقامة الحجة على الناس بنزول الآيات، وفيها دعوة لهم الى ترك الكفر والجحود.
وتلاوة آيات القرآن رحمة من عندالله وشاهد على انه سبحانه لا يريد ان يظلم احداً، مما يدل على كفايتها في التبليغ والحجة، والهداية الى سبل الرشاد.
قانون في الآية القرآنية آيات
تعتبر الآية القرآنية مدرسة في المعارف الإلهية، وسراً سماوياً في الأرض، جعله الله قريباً من الناس، ويزيدهم بصيرة وعلماً، وقد انزل الله عز وجل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون آية دائمة تتحدى العقول، ومعجزة تدعو للايمان والصلاح، ووثيقة سماوية تمنع من الظلم والتعدي والفجور، وجاءت هذه الآية بتلاوة آيات الله، وهناك مسألتان:
الاولى: ماهي النسبة بين آيات الله وآيات القرآن، والجواب على وجهين:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل آية من آيات القرآن هي من آيات الله عز وجل، وآيات الله اعم، فتشمل الآيات الكونية والخلق والآيات الحسية، والعقلية غير المتناهية.
الثاني: التساوي والتشابه بين آيات القرآن وآيات الله المتلوة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيد التلاوة دليل على ارادة الآيات التي نزل بها جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبها تخرج الوجوه الأخرى للوحي، ومضامين السنة النبوية الشريفة.
ووردت الآية بصفة آيات الله، فلم تقل الآية (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ) مع ورود هذا الاسم في القرآن، قال تعالى [طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ] ( )، وتحتمل النسبة بين آيات الله وآيات القرآن وجوهاً:
الأول: التساوي إجمالاً وتفصيلاً، فالمراد هو المحصور بين الدفتين، والذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس، وكل آية من القرآن هي آية واحدة من آيات الله.
الثاني: كل آية من آيات القرآن تتألف من عدة آيات من آيات الله، لذا ترى صدر الآية في شئ ووسطها في شئ وآخرها في شئ آخر.
الثالث: آيات الله اعم من آيات القرآن وان المراد من الآية التي تتلى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السورة او عدة آيات من القرآن بلحاظ أمور:
الأول: إتحاد موضوع الآيات، فكل آيات متحدة في الموضوع تكون آية من عندالله.
الثاني: الإتحاد والتشابه في اللفظ، فتكون كل آيات متشابهات في اللفظ آية واحدة كما في قوله تعالى [فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ] الذي ورد ثلاثين مرة في سورة واحدة هي سورة الرحمن، ولم يرد في غيرها من السور، وتلك آية اعجازية ان يتكرر اللفظ وعلى نحو الآية المستقلة بهذا العدد في سورة واحدة لا يزيد على عدد آياتها على ثمان وسبعين آية.
الثالث: الآيات المتعاقبات التي تختص بموضوع او حكم معين.
والاصح هو الثاني ، ولا يتعارض مع الاول وان كل آية قرآنية هي آية من آيات الله، وكل آية قرآنية تتضمن آيات عديدة من آيات الله من وجوه:
الاول: الإعجاز في اللفظ القرآني.
الثاني: تعدد معاني الكلمة في القرآن.
الثالث: كثرة الوجوه المستقرأة من الآية الكريمة.
الرابع: تعدد المقاصد والغايات السامية في الآية القرآنية.
الخامس: ذات التلاوة الإلهية للآية القرآنية آية اعجازية، فكل تلاوة لاحدى آيات القرآن هي آية من آيات الله عز وجل.
السادس: العلوم المستنبطة من الآية القرآنية.
السابع: تجلي معاني إعجازية من الآية القرآنية، من خلال الوقائع والحوادث، ففي كل يوم تظهر للناس آيات من ثنايا القرآن بلحاظ الأحداث وموافقتها لعلوم القرآن.
الثامن: تضمن آيات القرآن لعلوم الغيب وأسرار يوم القيامة.
التاسع: تزيين القرآن بصفات الكمال والجلال لله عز وجل، ومنها هذه الآية التي جاءت بالاخبار عن تنزهه المطلق عن ظلم الناس والخلائق.
قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ] ( ) ولا يقف الأمر عند عدم الظلم بل ينعم الله عز وجل على الناس برحمته ويتغشاهم بفضله واحسانه، فلم يتركهم وحكم العقل ولزوم توظيفه للاقرار بالصانع، وانزل الكتب السماوية التي تدعوهم للايمان.
وجاء القرآن خاتماً لها وجامعا للاحكام ليكون الطريق الوحيد الى النعيم الدائم في الجنة، لذا خصه الله عز وجل باكرام خاص وهو تلاوته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة “التدبيج” بأن يأتي المتكلم والشاعر بلونين أو أكثر بصيغة الكناية لما يقصده من الغايات، (والتدبيج النقش والتزيين، فارسي معرب)( ) والديباج ضرب من الثياب قال صفي الدين الحلي:
بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا
وقيل منه ما ورد في هذه الآيات من وصف الوجوه بالبياض والسواد كناية عن المبالغة والتهويل والتباين في عاقبة كل من الفريقين، ولكن الآية أعم، وتتضمن الإخبار عن حال وأمر واقع على نحو المبرز الخارجي، فبياض وسواد الوجوه ليس كناية أو تورية، بل جزء من ثواب وعقاب أخروي.
ومن إعجاز القرآن ان يأتي الوصف عن أمر واقع حتماً ليكون أكثر أثراً وبهاء من الكناية والتلميح، وهو فضل من عند الله على الناس جميعاً، ووجه من وجوه لغة البشارة والإنذار في القرآن بأن يكون البلاغ الإلهي صريحاً بيناً خالياً من اللبس والترديد.
ومن غايات الخطاب القرآني إرادة جميع الناس على مختلف مشاربهم وتباين مداركهم، فيأتي بالإخبار عن الواقع وعالم الغيب وأسرار الحساب ويوم الجزاء على نحو الحقيقة والقطع وليس الكناية والتورية، فيستحضر الإنسان يوم القيامة ، وحال الناس فيها وإنقسامهم الى قسمين:
الأول: المؤمنون الذين يشع النور من جباههم ووجوههم من أثر السجود وطاعة الله وترتسم على سيماهم الغبطة والسعادة والرضا بفضل الله.
الثاني: الكفار الذين تكون وجوههم يومئذ كالحة يكسوها السواد عقوبة، مما لم يكن يعرفونه في الدنيا بل جلبوه على أنفسهم من ذنوبهم في الدنيا.
قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] الآية109.
الاعراب واللغة
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ: الواو: استئنافية، لله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
ما: اسم موصول مبتدأ مؤخر.
في السموات: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة للموصول لامحل له من الاعراب.
وما في الأرض: الجملة معطوفة على ما في السموات.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: الواو: حرف عطف، الى الله: جار ومجرور متعلقان بترجع.
ترجع: فعل مضارع مبني للمجهول، الأمور: نائب فاعل مرفوع بالضمة.
ورجع يرجع رجعاً ورجوعاً ومرجعاً: انصرف.
وفي التنزيل [إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا…]( ).
والأشياء والأعيان والأفعال حاضرة عند الله عز وجل في النشأتين لا تغيب عنه سبحانه، وجاء موضوع الرجوع الى الله للإخبار عن انغلاق باب العمل مع الدنيا، واختصاص الآخرة بالحساب والجزاء، فيقف الناس بين يدي الله عز وجل.
وتحضر الأفعال والأعيان للحجة والبرهان، وبيان ان بياض الوجه فضل من عند الله يتغشى المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وان سواد الوجه عقوبة يستحقها الكافر لجحوده وسوء فعله، وان الله عز وجل منزه عن الظلم مطلقاً، فالدنيا دار عمل وإنذار وبشارة وإمهال، والإنتفاع من أي فرد من هذه الوجوه الأربعة كاف للصلاح، والنجاة يوم القيامة، ولكن الكافر لم ينتفع من أي فرد منها.
والأمور جمع أمر، بمعنى الشئ والشأن والفعل والعمل والحادثة والذوات والاعيان.
ويأتي بمعنى الطلب والارادة والذي يجمع بصيغة (اوامر) والشئ عام يدل على الذوات، ويدل على الصفات كالحسن والقبح، والملكات كالايمان والصدق، والافعال كالكتابة والقراءة.والاعيان كالأرض والسموات في توكيد ان ملكية الله عز وجل للأشياء تعني انقيادها لامره تعالى، وعودتها اليه..
في سياق الآيات
وفي نظم الآيات وجوه:
الاول: الصلة بين هذه الآية والآية السابقة من وجوه:
الاول: تلاوة الله عز وجل للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع لملكه تعالى للسموات والأرض.
الثاني: ان الله تعالى هو الغني، الذي له ملك كل شئ، ولا يحتاج الظلم ومنزه عنه، وعن التعدي مطلقاً.
الثالث: تدعو الآية الناس جميعاً للأخذ بأحكام آيات القرآن والعمل بمضامينها وسننها.
الرابع: تلاوة الله للآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء من عالم التكليف في الدنيا، وحث للناس على الإيمان بها، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: موضوعية تلاوة الآيات في عالم الحساب والجزاء لان الأمور ترجع الى الله تعالى ومنها احوال ومنازل الناس في الآخرة.
السادس: في الآية بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بحسن العاقبة، ودعوة لهم للجهاد والصبر في جنب الله.
السابع: قد يقول قائل ان الله عز وجل في السماء والآيات تنزل من السماء فكيف يتلوها الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت الآية بتوكيد حقيقة وهي ان الله ليس في محل، ولا يحد بجهة فكل شئ هو ملكه وممتثل لأمره، وهو آله في الأرض وإله في السماء، وليس من موضع منهما ابعد عن موضع آخر.
الثامن: في الآية اشارة الى صدق الآية وتلاوتها على النبي وتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما انزلت لان التلاوة ووصولها من غير نقص الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء من شؤون الملكية المطلقة لله تعالى.
التاسع: إنتفاء الظلم عن الله تعالى من مصاديق الربوبية المطلقة له سبحانه، وهو أمر ينفرد به سبحانه.
الثاني: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقات من وجوه:
الاول: قدرة الله تعالى على بعث الناس من القبور، والحساب والجزاء، وبياض وجوه المسلمين وسواد وجوه الكافرين في الآخرة.
الثاني: عدم امكان اخفاء شئ من الأفعال عن الله، والاعمال كلها حاضرة عنده يوم القيامة.
الثالث: في الآية توكيد لحث الناس على الهداية وجذبهم للإسلام، فما دام كل شئ له سبحانه واليه يرجع، فعلى الناس ان يبادروا الى الطاعة والإنقياد لاوامر الله تعالى.
الرابع: يتلقى الكفار العذاب في الآخرة ووجوههم مسودة لمعصيتهم لرب السماوات والأرض.
الخامس: ليس من مانع يحول دون عذاب الكفار، وليس لهم شفيع يشفع لهم عندالله، فقد عصوه سبحانه.
السادس: في إخبار المسلمين بان ملك السماوات والأرض لله تعالى حث لهم على عدم الفرقة والتشتت، وبشارة نيل الثواب على الإتحاد والائتلاف.
السابع: لما جاءت الآيات السابقة بدعوة المسلمين للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاءت هذه الآية بالإشارة الى التوفيق في الإمتثال لأوامره تعالى، ونشر مبادئ الاسلام ومحاربة الضلالة والكفر والفسوق.
الثامن: لما جاءت الآيات السابقة بالأمر الإلهي الى المسلمين بالاعتصام بحبل الله( ) جاءت هذه الآية في توكيد وجوب الإعتصام بالقرآن والسنة، ورجاء نائلته وفضله تعالى.
التاسع: لما جاءت الآيتان (105-106) بالإخبار عن سواد وجوه الكفار، وبياض وجوه اهل الايمان يوم القيامة جزاء، جاءت هذه الآية لتؤكد عظيم قدرة الله على تبديل لون بشرة الوجوه يوم القيامة، وان الناس يومئذ في ملك الله عز وجل ايضاً، ولا يستطيعون الخروج من سلطانه.
الثالث: الصلة بين هذه الآية والآية التالية، وفيها وجوه:
الاول: من ملك الله المطلق للسماوات والأرض ان جعل المسلمين خير أمة اخرجت للناس.
الثاني: الآية بشارة توفيق المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: ان الله عز وجل أهل ان يؤمن به الناس ويعبدوه لان له ملك السماوات والأرض، وجميع الأمور تعود اليه، ومنها خواتيم الأعمال.
الرابع: في الجمع بين الآيتين لوم وذم للذين يختارون الكفر والجحود والضلالة.
إعجاز الآية
للملك والتملك موضوعية في حياة الناس، وتتباين ملكيتهم للأشياء قلة وكثرة، ولكن الكثرة ايضاً قليلة بالاضافة الى قصر زمانها اذ ان الملك ينقطع بموت الإنسان وينتقل الى الوارث، وجاءت هذه الآية لتخبر عن أمور:
الأول: عائدية كل ما في السماوات والأرض لله تعالى في الملك مما يدل على عدم وجود ملكية حقيقة لغيره سبحانه.
الثاني: يفعل الله مايشاء في ملكه، وليس من حائل او حاجز يحول دونه ودون التصرف المطلق في ملكه.
الثالث: الناس جميعاً من ملك الله.
الرابع: في الآية دعوة للهداية والإيمان والإستجابة لأوامر الله عز وجل.
السادس: لم ينحصر موضوع الآية بالإخبار عن إطلاق ملك الله عز وجل وشموله لكل شئ، بل أخبرت عن رجوع كل الامور اليه، وبيده مقاليدها.
وفي الآية تحد لأهل الجحود والكفر، واشارة الى خسارتهم في النشأتين، ويمكن استقراء إمكان البعث والنشور من هذه الآية باعتبار ان ملكية الإنسان تعود لله تعالى، والأمور كلها ترجع اليه.
ويمكن ان تسمى هذه الآية آية [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ].
الآية سلاح
في الآية دعوة للمسلمين للجوء الى الله تعالى وطلب الخير والرزق منه سبحانه فما دام الملك كله بيدالله فيجب التوجه اليه سبحانه رجاء رفده ونائلته، واجتناب سخطه وعضبه.
وتطرد الآية اليأس عن نفوسهم وتبعث على الأمل في نيل الغايات والمقاصد السامية في الدنيا والآخرة بالإيمان وحسن السمت.
ومن الآيات في المقام اجتماع امرين:
الاول: ملكية الاشياء المطلقة لله تعالى.
الثاني: عودة الأمور كلها له سبحانه.
لذا ترى المسلمين يندفعون في سوح الجهاد وهم يرجون فضله تعالى ولا يخافون العدو وان كان ذا عدد وعدة وبطش.
وتعتبر مضامين الآية حجة وبرهاناً في الاحتجاج على الكفار ورد شبهاتهم، ودفع مغالطاتهم، وهي مادة للتحذير والإنذار من الكفر والجحود.
مفهوم الآية
تخبر الآية عن حقيقة ثابتة وهي ليس من ملك لغير الله سبحانه، وملك الناس للاشياء والأعيان انما هو على نحو المجاز وكأنه عرض بدليل إحتمال زواله سواء بلحاظ عين مخصوصة اومطلقاً، اما ملك الله تعالى للأشياء والموجودات فهو ثابت ودائم، لا يشاركه فيه احد وانى تكون المشاركة، والخلائق كلها ملك لله تعالى.
وجاءت معاني الملكية في الآية مطلقة لتبعث في نفوس المسلمين العز والفخر وتنهاهم عن الافتتان بأهل الدنيا والسلطان، ومن عندهم الأموال والثروات، فان الملك كله لله.
والانسان بطبعه كائن محتاج ومن اراد قضاء حاجته فليتوجه الى المالك المطلق الذي بيده كل شيء، ومن صيغ التوجه هذا اداء الفرائض والعبادات، وتحث الآية على ادائها، وتدعو الى التقيد بالفرائض والعمل بأحكام الآيات التي تفضل الله بتلاوتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتؤكد الآية عالم الآخرة ورجوع الناس الى الله والوقوف بين يديه للحساب، وحضور الأعمال يوم القيامة، وفي الآية مسائل:
الأولى: ان السماوات والأرض مع كبرها وسعتها وعدم إحاطة الإنسان بها مملوكة، وتعود في ملكيتها لله تعالى.
الثانية: مجيء الآية بإجتماع السماوات والأرض وانضمام بعضها الى بعض في الملكية.
الثالثة: في الآية دليل على عظمة قدرة الله، وسعة ملكه وسلطانه، فهو سبحانه مالك للسماوات والأرض واليه يرجع كل شيء، وتؤكد الآية في مفهومها انتفاء أسباب الكفر، وتدعو الناس جميعاً الى الهداية والرشاد وان الغرور والعتو يؤدي بصاحبه الى الهلاك وانه لا يستطيع الفرار من حكم الله لأنه سبحانه له ملك السماوات والأرض، كما ان الأمور كلها تعود اليه في الدنيا والآخرة.
ولقد جاءت كل آية من التي تضمن تفسيرها هذا الجزء بثلاثة أطراف أما الآية الأولى فتضمنت:
الأول: ذكر حال الذين تبيض وجوههم يوم القيامة.
الثاني: انهم في رحمة الله.
الثالث: خلودهم في النعيم.
وأما الآية الثانية ففيها أطراف:
الأول: الإشارة الى آيات القرآن بانها آيات الله.
الثاني: ان الله عز وجل يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق.
الثالث: ان الله منزه عن الظلم ويدفع الظلم عن العباد.
اما الآية الثالثة فأطرافها:
الأول: لله ما في السماوات.
الثاني: لله ما في الأرض.
الثالث: الأمور ومقاليدها وخواتيمها كلها بيد الله.
لقد جاءت هذه الآية مدحاً وثناء على الله عز وجل، ودعوة للتصديق بآيات القرآن، وما في هذه الآيات من علوم الغيب وحال الناس يوم القيامة.
ومن الآيات ان هذا التصديق ليس مجرداً، بل له آثار عملية عاجلة وآجلة على الإنسان والجماعة والأمة، منها ان ادراك حقيقة لون الوجوه يوم القيامة والتباين فيها يجعل الإنسان ينفر من سواد الوجوه يوم القيامة ويود الفرار والنجاة منه، ولا يتحقق الا بالإيمان وعمل الصالحات، ويحرص على نيل نعمة بياض الوجوه، فمن آيات الله في المقام إمامة هذه الآيات للناس في الحياة الدنيا، وأخذها بأيديهم نحو سبل الهداية والرشاد.
إفاضات الآية
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بان جعل عنده الحواس ليرى ويسمع ويدرك ما حوله من الكائنات والموجودات، ثم تفضل سبحانه وجعل تلك الحواس وسيلة للهداية والإيمان، ومنعها من الطيش والغرور بالإخبار بان كون هذه الكائنات مع كبرها وسعتها هي أمور مملوكة لله تعالى، وفيه زجر عن الإفتتان بها، وذم لأولئك الذين عبدوا الشمس والقمر والكواكب والملائكة والطواغيت فكلها مملوكة لله، وتلتقي مع الإنسان في أمور:
الأول: الملكية لله تعالى.
الثاني: الإنقياد له سبحانه.
الثالث: رجوعها لله تعالى في وجودها واستدامتها وشؤونها وأحوالها، وتصريف أمورها.
ولا ينحصر ملك الله للموجودات والخلائق بعالم الحياة الدنيا، بل يشمل الآخرة لأصالة الإطلاق ومضامين خاتمة الآية وما فيها من الإخبار عن رجوع الأشياء وتصريف الأمور به سبحانه، ومفاهيم الملكية وإستدامتها ودلالة الآيات القرآنية الأخرى.
وتمنع الآية من رجاء غير الله، وطلب نائلة الخلائق والموجودات فكلها محتاجة ومملوكة لله تعالى واذا كان الملك الجبار ذو الجلال والكمال قريباً من العباد ويعطي بغير حساب، وليس من حواجز دون سؤاله، فلماذا لا يكون التوجه الشخصي والنوعي اليه تعالى.
فمن إفاضات الآية الكريمة حث الناس على الدعاء وطلب الحوائج من عند الله، ورجاء ما عنده، والسؤال من خزائن وكنوز رحمته، وتبين الآية بركات تلاوة ونزول الآيات من عند الله، وتحث الناس على المسألة والدعاء وتمنعهم من القنوط، وتبعث في نفوس المسلمين الغنى والتنزه عن الحاجة الى الكفار وأعداء الدين فاذا كان الملك كله لله فكيف يكون السؤال من غيره.
وفي الآية دعوة للناس جميعاً للنهل من رحمة الله، والغرق في أنوار القدس، وبهاء الملك الأحد الذي تنقاد له الكائنات، وتدرك عائديتها له سبحانه في الملكية والتصرف والتدبر والله على كل شيء قدير.
وتجعل الآية الإنسان يذكر الله في كل فعل يقدم عليه، ويستحضر الحساب، وحتمية العودة والرجوع الى الله عز وجل والوقوف بين يديه للحساب.
الآية لطف
تبعث الآية في نفس المسلم الغبطة والسعادة على حسن اختياره والتوفيق الى الإيمان، وهذا التوفيق من مصاديق ملكه تعالى للسماوات والأرض اذ جعل الله سبحانه قلوب العباد في يده، يقلبها كيف يشاء.
ومن اللطف الإلهي ان جعل الله عز وجل ملكية الموجودات له سبحانه لا يهبها لغيره، وتلك حقيقة ثابتة مطلقة في الإرادة التكوينية لا يطرأ عليها النسخ والتغيير، وفيه إكرام ورحمة للخلائق بان تستديم ملكيتها بيد الله، ودعوة للناس للشكر لله تعالى على اننا عبيد مملوكون لله تعالى، ويحصل التباين في امتثال المؤمن لأوامر المولى، وجحود الكافر.
فجاءت الآية لتتضمن في طرفيها البشارة والإنذار والطرف الأول هو اطلاق وشمول ملكه تعالى لكل شيء، وفيه بشارة للمؤمن بانه يسيح في ملك سيده وربه ومعبوده، وانذار للكافر الذي يتصرف بجحود وعناد وإستكبار.
اما الطرف الثاني فهو عائدية الأمور كلها لله تعالى، وفيه بشارة فوز المؤمن ببياض الوجه والإقامة في الجنة والنعيم الدائم وخسارة الكافر، ومجيؤه مسود الوجه يومئذ.
من غايات الآية
بدأت الآية بلام الملك والإختصاص، وما دام الأمر يتعلق بملكية كل شيء، فانها لا تصلح الا لله تعالى الهاً ورباً وسيداً، وانحصار الملكية به سبحانه دليل على عدم وجود ملك حقيقي لغير الله تعالى، فليس من ملك للإنسان في السماوات والأرض وما فيهما، وما يظنه الإنسان له من أرض أو بناء او أعيان او عروض يحتمل وجوهاً:
الأول: الإشتراك في الملكية مع الله تعالى.
الثاني: ملكية الإنسان في طول ملكية الله تعالى.
الثالث: ملكية الناس مجازية مؤقتة، أما ملكية الله تعالى فهي حقيقية.
الرابع: ملكية الإنسان للأشياء وهم، وأمر لا أصل له.
والصحيح هو الثالث، فليس من ملك حقيقي للإنسان ولكنه تصرف بالأشياء على نحو مؤقت لا يتعدى في أقصى حالاته عمر الإنسان، فمع مغادرته الدنيا تنقطع صلته بالملك ويزول سلطانه عليه وينتقل الى غيره، من غير أن يستلزم الدور لرجوعه الى الله تعالى، وهوالمالك الحقيقي كما تدل عليه خاتمة الآية، واذا كان الملك كله لله في الدنيا والآخرة، فهل يعتبر استحواذ المالك وتصرفه فيه من الغصب، الجواب لا، انما هو أمر اذن الله تعالى به للناس في الحياة الدنيا ليكون محلاً للإبتلاء والإختبار لذا يحرم الظلم والتعدي على حقوق الغير وما يملك، ويكون التعدي حسرة يوم القيامة في نفس صاحبه.
وتجعل الآية المسلم يستعد للحساب، ويدخر الصالحات ليوم الرجوع الى الله تعالى، ويصبر على الأذى وما يلاقيه في جنب الله، وهو يعلم ان الله عز وجل ينتقم ممن يتعدى عليه ويغتصب حقه، كما تدعو الآية المسلم الى عدم القنوط من رحمته تعالى، وعدم الإستسلام للتعدي وآثاره، فالله عز وجل بيده كل شيء وهو القادر على دفع الضرر والأذى عن المسلم، وتمنع الآية الناس من الجهل والعتو والظلم والغصب، وتدعوهم الى السعي لبلوغ الغايات ونيل الحاجات من عند الله تعالى.
التفسير
قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ]
في الجمع بين هذه الآية والآية السابقة مسائل:
الأولى: تفضل الله تعالى بتلاوة آيات القرآن منزلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما في هذا الإخبار من قدسية آيات القرآن، وجاءت هذه الآية لتزيد من شأنها وتؤكد قدسيتها، وتبعث في نفوس المسلمين العز والغبطة اذ انهم يتلقون آيات الله الذي له ملك السماوات والأرض، وتؤكد ان القرآن صلة بينهم وبين مالك في السماوات وما في الأرض، فهي دستور العمل في الحياة الدنيا والآخرة، وميثاق الملك الجبار الى عباده.
الثانية: تبين الآية منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرفيعة بين الخلائق، وليس بين الناس فقط فالله الذي يتلو عليه الآيات له ملك السماوات والأرض، والخلائق كلها ترجع وتعود اليه، ومع هذا لم يخص أحداً بالتلاوة من بينها الا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الإختيار ليس فيه ظلم لأحد لقوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ].
الثالثة: تدعو الآية سكان السماوات والأرض للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالعالمين، وإكرام لبني آدم من بين الخلائق، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض، وموضوعية النبوة في تلك الخلافة، وانفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمنزلة الرفيعة في موضوع النبوة لأنه فاز بتلاوة الله عز وجل للآيات.
فاذ نفخ الله عز وجل في آدم من روحه وأسكنه جنته ثم أهبطه الى الأرض، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تلقى آيات القرآن تلاوة من عند الله، واستمرت التلاوة والتنزيل تترى عليه الى ان غادر الى الرفيق الأعلى، ومن الآيات ان كلاً من التلاوة والتنزيل لم يغادرا الأرض ولن يغادرا الى يوم القيامة فهما باقيان تركة كريمة عند المسلمين وهذا البقاء على وجوه:
الأول: انه خاص بالمسلمين، لا يطلع غيرهم على آيات الله التي انزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: يقرأ المسلمون الآيات، ولكن تلاوتها ومضامينها لا يعرفها الا العلماء منهم على نحو الخصوص.
الثالث: يتوارث المسلمون آيات القرآن التي انزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما بينهم بصورة خفية وعلى نحو السرية والكتمان.
الرابع: وجود برزخ وحاجب يمنع اطلاع الناس على آيات القرآن.
الخامس: وجود القرآن وآياته عند المسلمين على نحو ظاهر ومكشوف، ويستطيع كل انسان ان يستمع لتلاوة الآيات، ويتدبر في معانيها.
والصحيح هو الأخير وهو من الشواهد على رحمة الله بالناس، وان تلاوة الآيات جزء من ملكه للسماوات والأرض والعباد، لذا تتضمن هذه الآية انتفاء الحواجز دون أمور:
الأول: وصول التلاوة الإلهية للآيات الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله.
الثاني: تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات، فما في الأرض ملك لله، ولا يستطيع احد منع وحجب الدعوة الإلهية.
الثالث: وراثة المسلمين لآيات القرآن، وقيامهم بتلاوتها مطلقاً، وفي الصلاة خاصة.
ومن الآيات في المقام انه لم تهم أمة أو دولة بمنع الصلاة والتلاوة فيها، ولا تقدر أي جهة على منع التلاوة في الصلاة لتبقى الصلاة وسيلة ملكوتية يومية لحفظ التلاوة الإلهية لآيات القرآن ومن الإعجاز في المقام وجوب تلاوة الآيات جهراً في شطر من الصلاة اليومية ليتعاهد المسلمون القرآن وتلاوة آياته.
الرابع: سماع الناس الآيات على نحو التلاوة وما فيه من أسباب التدبر في المعنى والمضمون فلا ينحصر سماع الآيات بالمسلمين، بل يشمل غير المسلمين، لتكون التلاوة مدرسة للناس جميعاً لذا ترى دخول الناس الإسلام امراً متصلاً ودائماً.
وجاءت الآية بلفظ “ما” وتفيد الإطلاق والشمول للعاقل وغير العاقل فلم تقل الآية “لله ما في السماوات والأرض” وان جاء في آية اخرى ( )بل جاءت بما يفيد التوكيد على ملكيته تعالى لما في الأرض، وان كل شيء يعود لله سبحانه سواء كان جوهراً أو عيناً او عرضاً.
وتنهى الآية في مفهومها عن الشرك والكفر، فكل مخلوق وموجود هو ملك لله تعالى، فلا يمكن أن يعبد المالك والمملوك معاً، ولا يكون المملوك الا عابداً خاشعاً لله تعالى، ومن يلتقي مع الإنسان في العبودية والخشوع لله تعالى لا يصح اتخاذه الهاً ورباً.
ومن مفاهيمها انذار الكفار، والإخبار عن قدرة الله تعالى على عقابهم وعدم وجود ما يمنعهم من الوقوف بين يديه، وفي هذا الإخبار رحمة بهم.
ومن الآيات ان يأتي القرآن رحمة للناس جميعاً، ومتضمناً للتحذير والإنذار من الكفر وهو شاهد على ان الله تعالى لا يريد ظلماً بالعالمين، كما أكدته خاتمة الآية السابقة، ولم تذكر الآية أفراد الموجودات في السماوات والأرض التي هي ملك لله تعالى، بل ذكرتها على نحو الإجمال والعموم وفيه مسائل:
الأولى: الآية دليل على كثرة المخلوقات، وسعة السماوات، فجاءت الآية بصيغة الجمع للسماوات التي تدل على الكثرة، والتعدد أيضاً.
الثانية: اخبرت الآية عن ملكية الله عز وجل لما في السماوات، ولم تذكر الآية ملك السماوات، فلم تقل ولله السماوات والأرض وما فيهما، وفي وجوه:
الاول: جاءت الآية للاخبار عن ملكية كل ما في السماوات والأرض من الموجودات لله تعالى.
الثاني: وردت آيات اخرى بالاخبار عن عائدية ملك السماوات والأرض لله تعالى، قال سبحانه [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ( )، فذكرت الآيات عائدية ملك مابين السماء والأرض لله تعالى ايضاً لإرادة الاطلاق والشمول في ملكه تعالى.
الثالث: بين ما في السماوات والأرض، وبين ملك السماوات والأرض عموم وخصوص مطلق، والسماوات والأرض تدخل في عمومات ما في السماوات والأرض.
الثالثة: تدعو الآية المسلمين الى السياحة في عالم السماوات ومعرفة الموجودات الأرضية وما فيها من الأسرار، في خلقها وإستدامتها ودلالتها على قدرة الله تعالى.
الرابعة: يصاحب الإقرار بربوبيته تعالى المسلم في الدراسة والتحصيل والكسب، فلا يفتتن عند الاطلاع والإرتقاء العلمي المتجدد وأسباب الإفتتان.
وتمنع الآية من الغفلة عن ذكر الله، وتجعل الإنسان يستحي منه سبحانه في السر والعلانية، ويجتنب الظلم والتعدي، ويقر بضعفه وعجزه وقصوره، فمع تعدد اقطار الأرض والبحار، وسعة السماوات فان الأنسان لا يستطيع ان يرى منها الا على مد البصر واي حاجز بسيط كالجدار يعزله عما هو خارج محله.
واذا اراد السفر والانتقال الى بلد آخر فانه يحتاج الى الواسطة من الراحلة ونحوها ولا يصله الا بجهد وعناء وكلفة، حتى اذا ما وصل اليه وجد أمة ومجتمعات تعيش حياة يومية منتظمة ولا يستطيع الإحاطة باحوال الناس في امصارهم المتعددة الا الله تعالى، فهم جزء من ملكه المطلق.
وجاءت الآية بذكر السموات بصيغة الجمع، ولم تذكر العدد، ولكن آيات قرآنية تذكر عددها وانها سبعة قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ]( ).
بحث عرفاني
لقد انزل الله عز وجل القرآن من السماء، وتفضل بتلاوته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون التلاوة الإلهية له شاهداً اضافياً على إعجازه، وهو مدرسة الاجيال، ومن اعجازه تجدد وجوه الاعجاز الذاتي والغيري فيه فلا تقف عند حد في موضوعاتها ومصاديقها، وتتجلى بوجوه:
الاول: يؤدي البحث والتحقيق في القرآن الى استنباط علوم مستحدثة فيه.
الثاني: تؤكد الوقائع احاطة القرآن باللامحدود من الوقائع، والأحداث,
الثالث: تلاوة المسلمين للآيات باب لإكتساب المعارف الإلهية ووسيلة للصلاح، وسلاح للعصمة من الذنوب والسيئات.
وجاءت هذه الآية الكريمة لتنمية ملكة التقوى والغرق في صفات الجلال والقدرة والكمال، وليس من حد لحاجات ورغائب الانسان، والحاجة ملازمة له في ليله ونهاره.
فتأتي هذه الآية للإخبار بان حاجاته بيدالله وفي ملكه وهو القادر عليها، وفيها تأديب للإنسان بان لا يتوجه لغير الله تعالى، من غير ان يتعارض هذا التأديب مع قانون الاسباب والعلة والمعلول، واذا كانت احكام الشرائع تؤكد على حقيقة وهي عدم جواز تصرف الإنسان في ملك غيره. وان كل شئ هو ملك لله تعالى بما فيه الإنسان نفسه ومايملك من الأعيان والعروض مما يستلزم طلب مرضاة الله تعالى في التصرف بها.
ويتجلى هذا الرضا بالشكر لله تعالى على اباحة الأشياء وحصول الملكية الشخصية للأعيان وهو وضع اليد والتصرف فيها، وصياغتها وفق قواعد شرعية، فحرمة الغصب رحمة لان فيها حفظ لاموال الناس ويلازم الحاجة الدعاء كوسيلة لنيل البغية والغرض اذ تخبر الآية الكريمة ان كل شئ في السموات والأرض هو لله تعالى وهو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
فلم يطلب الله سبحانه عوضاً ولم يشترط شرطا، لنيل الرغائب، ولكنه سبحانه أمر العباد بعبادته، وهداهم الى المسألة والدعاء، والانسان كائن ضعيف لا يستطيع العلم بالمجهول. فتأتي هذه الآية لتبعث السكينة في نفسه وتطرد الخوف عن قلبه، بادراك حقيقة وهي ان كل شئ ملك لله، والله عز وجل هو الرؤوف الرحيم، فيصبح الانسان لا يخشى المجهول بل انه يرجو ما في الغيب، ويأمل فضل الله ويستجير بالعبادة ويستعين بالتقوى.
ويتوجه الإنسان في هذا الزمان الى عالم الفضاء بصورة غير مسبوقة وهناك اشارات الى اكتشاف أسرار عديدة عن السماوات وما فيها من الكائنات، لتكون شواهد حسية مستحدثة عن بديع صنع الله، والتقارب بين عالم السماء وأهل الأرض.
وجاءت هذه الآية حرزاً وواقية متقدمة من الشرك والضلالة والوهم، اذ تخبر الناس بان كل مايكتشف في السماوات فهو ملك لله تعالى، وليس من إله في السماء غير الله قال تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( ).
قانون لله ما في السماوات
ليس من شيء أبهى وأعظم في الخلائق من عالم السماء، وفيه من الأسرار الخفية ما يعجز الإنسان عن تصورها وإدراك دلالاتها، ويبدو معها صغيراً ضعيفاً لا حول له، ولا قدرة على بلوغها والإطلاع عليها، واذا كان الإنسان يتصرف فيما حوله وفي ملكه بشيء من الإرادة والإستقلال، فان عالم السماء يطل عليه في كل لحظة ليؤكد له ضعفه وعجزه، ولزوم الإقرار بالربوبية لله تعالى، لأنه خالق السماء ومالكها ومدبر أمرها.
وتخبر هذه الآية في دلالتها التضمنية عن وجود عوالم ومخلوقات وكائنات وأعيان في السماء فلم تقل الآية “لله السماوات” بل أكدت أموراً:
الأول: ملكية الله تعالى للأشياء والمخلوقات التي في السماوات.
الثاني: ورود لفظ السماء بصيغة الجمع، وما فيه من بيان عظيم وسعة ملك الله.
الثالث: الإطلاق في ملكيته تعالى، وشمولها للعاقل وغير العاقل.
الرابع: دخول السماوات في ملك الله، فان ذكر الحال لا يخرج المحل من الحكم بلحاظ القرينة، فقوله تعالى [مَا فِي السَّمَوَاتِ] يشمل ذات السماوات خصوصاً وانها مركبة تتكون من أجزاء، وكل ما فيها يعود في ملكيته لله تعالى.
وقد وردت آيات أخرى تؤكد ملكية السماوات والأرض لله تعالى قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وتؤكد مضامين هذا القانون انتفاء الشريك، فليس من أحد له سلطان وشأن في السماء غير الله، فمن كان في السماء كالملائكة فهو من ملك الله وخاضع لأمره، ومن كان في الأرض فانه لا يستطيع التصرف في شؤون السماء ويعجز عن الإحاطة بها.
واذ يتيه الإنسان في أسرار السماء، ويبذل الأموال الطائلة ويصنع المركبات بسلطان العلم للوصول الى القمر وأقرب الكواكب الى الأرض، فان هذه الآية تخبره بانه دائماً في ملك الله، ولا يستطيع الهروب من حكمه وسلطانه.
وهذا الإخبار رحمة من عند الله بالناس جميعاً، لما فيه من المنع من الغرور والعتو والضلالة والشرك، بالإضافة الى انه دعوة للهداية والإيمان وسبيل الى الرشاد، ولا يعلم الإنسان من السماء الا ما يراه منها ويدركه بحواسه فتطل عليه الشمس كل يوم، وما ان تختفي حتى يأتي الظلام.
فيأبى الله ان يترك الإنسان بعيداً عن آيات السماء أوان الليل، وما قد يؤدي اليه هذا البعد من افتتان بعضهم بالموجودات الأرضية، او السماوية كالشمس في بزوغها، فيأتي الليل بالقمر ونوره الجميل، والنجوم تملأ السماء ولا تفارق بصر الإنسان الا عند طلوع الشمس، وكأنها تتناوب على حراسته من الشياطين وإغواء النفس وأسباب الضلالة وتلح عليه بالدعوة الى الإيمان والتسليم والإقرار بالربوبية لله تعالى.
ومن الآيات ان الله ابتلى ما يطل على الإنسان من السماء بالنقص والتبدل والتغيير، فترى القمر يبدو هلالاً في أول الشهر ثم يأخذ بالإتساع وما ان يبلغ التمام حتى يبدأ مرحلة النقصان الى ان يختفى عن الأبصار، ويأخذ الناس في الاستهلال ليلة الشك التي يحتمل ان تكون الأولى من الشهر، وفيه دليل على عجز القمر عن الظهوروالبزوغ الا بمشيئة الله وتقديره.
ويهرب الإنسان من حر الشمس عند الظهيرة ويحرص على اللجوء الى الظل، ولكن الشمس لا تستطيع البقاء في كبد السماء بل تأخذ في أوان مخصوص وهو الزوال بالميل الى جهة الغروب مقهورة بارادة الله حتى تغادر الأرض وتودع الناس، وهي مملوءة باللطف والجمال والبهاء ساعة الغروب وكأنها تعتذر عن شدة حرها في الظهيرة، وتخبر بان الأمر ليس بيدها وانها مأمورة ومسخرة من عند الله، الذي له ملك السماوات والأرض.
لقد ضلت أمم بعبادتها للشمس والقمر والكواكب والملائكة فجاءت هذه الآية حصانة للناس من الشرك، وإخباراً عن عائدية تلك الموجودات في ملكيتها لله تعالى، وبذا استطاع القرآن ان يحارب الشرك وعبادة ما في السماوات ويقضي عليها، فلا تسمع بعد نزول القرآن احداً من أهل الأرض يعبد الكواكب او الملائكة، وان كان مقيماً على الضلالة فانه ينكر عبادته لها، ويحاول التستر على فعله، وتطارده هذه الآية وتفضحه وتبين له فساد عقيدته وتدعوه للإسلام.
وصحيح ان الآية وردت بصيغة الجملة الخبرية الا انها من آيات الجهاد والحث على الدعوة الى الله والحرب على الشرك وإتخاذ آلهة من دون الله.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ] في القرآن عشر مرات، وهذا العدد شاهد على موضوعية هذه الآية، والإخبار عن ملك الله عز وجل لما في السماوات بالإضافة الى دلالتها موضوعاً وحكماً بلحاظ كلمات ونظم الآيات التي جاءت فيها، فورد في سورة النساء قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا] ( )، وتبين الآية أمراً آخر مع الملك، وهو ان قدرة الله اعظم من السماوات، وانه عالم بما فيها لا تخفى عليه أحوالها وشؤونها.
كما جاء في سورة النساء الإخبار عن ملك الله للسماوات والأرض كمقدمة للإيمان وتقوى الله بلغة البشارة للمؤمنين والوعيد للكافرين قال تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ]( ).
فالملكية المطلقة لله تعالى سبب مبارك لبلوغ مراتب التقوى ووسيلة للأخذ بالأحكام الشرعية وما وصى به الله عز وجل الناس بواسطة الأنبياء والكتب السماوية المنزلة.
وجاءت خاتمة سورة النور بالإخبار عن إطلاق ملك الله وعلمه سبحانه بأحوال وعقائد الناس وحتمية رجوعهم اليه يوم القيامة واخبارهم بأفعالهم، ومن آيات القرآن واعجازه ان يأتي الإخبار عن ملكه تعالى للسماوات والأرض ليكون على وجوه:
الأول: فيه بيان مستقل عن عظيم ملك الله تعالى.
الثاني: الآية دعوة للثناء عليه سبحانه، ومدحه بسعة ملكه وانفراده بالملك والجبروت.
الثالث: تأتي هذه الحقيقة الكلية الثابتة مقدمة لبيان موضوع آخر معها في ذات الآية او الآيات المجاورات لزيادة الإيمان وترسيخه في قلوب المسلمين، ولإعانتهم في طرد الشرك من الأرض، وتنزيه النفوس من الضلالة والغواية.
الرابع: تمنع الآية من الجهالة والغفلة في ماهية الخلق، وعالم السماوات والأرض، وتؤكد للناس سلامة اختيار المسلمين الإسلام وتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: ليس في القرآن الا ما يدل على عظيم قدرة الله عز وجل وانفراده بالربوبية ومقام الألوهية، وفيه ترسيخ لمبادئ التوحيد في الأرض، ودعوة للناس لنبذ الفرقة والإختلاف، وترك عبادة الأصنام وإتباع الطواغيت.
السادس: في الآية إصلاح للمجتمعات، وتهذيب للنفوس، وواقية من عودة الوثنية والجاهلية الى الأرض.
بحث كلامي
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض، وأنزل عليه الكتب من السماء، وقيده بالعبادات والتكاليف، ونهاه عن المعاصي والذنوب، فما هي الصلة بين ملكية الله المطلقة للأشياء وبين خلافة الإنسان للأرض، الجواب: ليس هناك منافس من الخلائق للإنسان في خلافته لأن المخلوقات كلها ملك لله تعالى، وجاء سؤال الملائكة عن أهلية الإنسان للخلافة، ولم يذكروا جنساً آخر مؤهلاً لها من بين الخلائق وان أشاروا الى عبادتهم وصلاحهم، وعصمتهم، كما ورد في التنزيل حكاية عن لسان الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
وأراد ابليس فتنة آدم وهو في الجنة فكان إيذاؤه لآدم سبباً لخروجهما من الجنة ولكن هذا الخروج مقدمة لتولي مسؤوليات الخلافة في الأرض، وفيه مصداق لهذه الآية الكريمة فقوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ] إشارة الى وجود آدم وهو في الجنة في ملك الله، وقوله تعالى [وَمَا فِي الأَرْضِ] دليل على هبوط آدم الى ملك الله ايضاً، والتنعم بالخلافة فيها، فضلا من عنده تعالى.
وقوله تعالى [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] اخبار عن عالم الآخرة، فتبين الآية مراحل حياة الإنسان وان الله عز وجل يعلم بمحل سكناه من ابتداء نشأته الى حين عودته اليه وبعثه ونشوره.
وتدعو الآية الإنسان للخضوع والخشوع لله تعالى، فاذا كان الإنسان عاجزاً عن معرفة أسرار السماوات وهي ملك لله تعالى، فانه عاجز عن الإحاطة بالخلائق مطلقاً مما يدل على عظمة خلق الله، والعجز عن التفكير في ذات الله عز وجل.
قانون تقديم السماوات على الأرض
ورد تقديم السماوات بصيغة الجمع على الأرض في القرآن نحو مائة وتسع واربعين مرة وتلك آية اعجازية في عدد وكثرة المرات، ومع هذا فان التقديم ليس مطلقاً فقد ورد تقديم الأرض على السماوات في أربع منها واحدة تتعلق بالتنزيل والخلق قال تعالى [تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلاَ]( )، مع ورود آيات اخرى تتعلق بالخلق تتضمن تقدم السماوات على الأرض قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
وأخرى في حال النشور وتبدل الكائنات قال سبحانه [يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ] ( )، وهذا العدد القليل في تقديم الأرض لا يمنع من أصالة تقديم السماوات.
لقد جاء تقديم السماوات مدرسة في الإرادة التكوينية، وشاهداً على بديع خلق الله، ودعوة للتدبر في الخلائق والتسليم بعظيم قدرة الله عز وجل، وعجز الإنسان عن الإحاطة بكنه مخلوقاته، وجاءت آية بالإخبار عن تقدم خلق الأرض، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ] ( ).
وفي تقديم السماوات مسائل:
الأولى: اعتبار التعدد والإتحاد، أي التعدد في السماوات، والإتحاد في الأرض لإتحاد إبتلاء الإنسان فيما يخص الأرض.
الثانية: عظيم خلق السماوات.
الثالثة: كثرة الخلائق في السماوات، وشرف الملائكة الذين يسكنون السماوات.
الرابعة: جذب الإنسان الى عالم السماوات، والتفكر في خلقها وماهيتها، ودلالتها على وجوب عبادة الصانع.
الخامسة: تبدو آيات الأرض ظاهرة للإنسان فيدرك شطراً منها بحواسه، وتكون الحاجة سبباً للتدبر في خلقها اما السماوات فانها عالم أوسع ولا يستطيع الإنسان أن يسبر أغوارها ويغوص في بحارها وما فيها من الخفايا والأسرار، فلذا جاء تقديمها.
السادسة: موضوعية السماوات في عالم الخلق والتكوين، ولم ينحصر تقديم وبيان أهمية السماوات بالتنزيل، بل جاء في الخطاب الإلهي للملائكة والإحتجاج عليهم، قال سبحانه [قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ]( ).
ومع سعة السماوات فان الآية لم تذكرها وحدها بل ذكرت ما فيها من الخلائق قال تعالى [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا]( )، كما وردت بلفظ “ما” [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، مما يفيد العموم في سجود المخلوقات التي في السماوات، وهل يشمل السجود لله السموات ذاتها، الجواب نعم، قال تعالى [فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ]( ).
واذ جاءت الآية الكريمة بالإخبار عن ملكية ما في السماوات والأرض لله تعالى فان القرآن أخبر عن وجود خزائن وكنوز في السماء قال تعالى [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، وتحتمل خزائن السماوات وجوهاً:
الأول: أنها مثل خزائن الأرض كماً ونوعاً.
الثاني: خزائن السماوات أكبر وأوسع من خزائن الأرض.
الثالث: انها أقل وأدنى من خزائن الأرض.
والصحيح هو الثاني فان خزائن السماوات أكبر وأعم وأوسع من خزائن الأرض، وهو من أسرار مجيء لفظ السماوات بصيغة الجمع والأرض بصيغة المفرد، وفيه دعوة للإنسان لرجاء فضل الله تعالى وانتظار نزول رحمته، وإشارة الى الكنوز التي في السماء وحث للإنسان للتوصل الى جزء منها، بالسياحة في عالم السماء.
بحث بلاغي
مع ان الإيجاز والإطناب من المتضادين، الا انهما يجتمعان في البلاغة والفصاحة، فكل فرد منهما وجه من وجوه البلاغة اذا جاء في موضعه، فيؤتي بالإيجاز في موارد الإجمال والتعيين ونفي تعدد الإحتمال والمراد من اللفظ بلحاظ موضوعية كل من:
الأول: القرينة المقالية أو الحالية او الموضوعية.
الثاني: التبادر الذهني، وصحيح ان التبادر من علامات الحقيقة الا انه قد يحصل في حال كثرة استعمال اللفظ في معنى مخصوص وإن كان من المنقول، فيأتي الإيجاز بإفادة المراد بلفظ خال من الزيادة والإطناب، وإرادة المقصود بألفاظ أقل من المتعارف.
ويجمع القرآن بين الإيجاز والإطناب، وكل واحد منهما آية من بديع البلاغة ومن إعجاز القرآن إجتماع الإيجاز والإطناب في الموضوع الواحد، فيأتي ذكره في آية على نحو الإيجاز، ويذكر في آية أخرى بصيغة الإطناب وزيادة الألفاظ مع ان كل فرد منهما واف ومجزِ.
ومن منافع هذا الوجه من الإعجاز والإفاضة والتيسير في التفسير والتأويل وإتخاذه وسيلة لإستنباط الأحكام والدروس من آيات القرآن بالإضافة الى منع الحرج ودفع العسر وإقامة الحجة والبرهان، وإرشاد المسلمين الى سبل الإحتجاج بالقرآن وآياته، ومع تعدد السماوات وكثرة ما في كل سماء من الخلائق لا يعلم أنواعها ولا يحصيها الا الله تعالى فانه سبحانه أخبر عن ملكيته لها بلفظ “ما في السماوات” ولهذا الإيجاز دلالات عقائدية منها:
الأول: اقتران الملك بالكبرياء والعظمة.
الثاني: انعدام الشريك ومدعي الشركة.
الثالث: انحصار التصرف والسلطان والقوة بالله تعالى.
الرابع: إهتداء العقول الى الإقرار بإطلاق ملكية الله تعالى للأشياء.
بحث بلاغي
من مسائل علم البيان إفادة تقديم المفعول على الفاعل الحصر، كما في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وجاءت هذه الآية بتقديم الجار والمجرور الذي يفيد الحصر والإختصاص في المقام، ومن معاني الحصر إثبات المذكور ونفي غير المذكور، فليس من مالك غير الله تعالى لأي جزء أو شيء في السماوات والأرض، وتفيد اللام في قوله تعالى “لله” الملك والإختصاص.
فجاءت الآية بكلمات معدودات لتؤكد ملكه تعالى لكل ما في السماوات والأرض من غير خشية من وجود شريك، ومن يدعي الربوبية يكون بذاته وماهيته ملكاً لله تعالى.
وجاء الحصر هنا بالتقديم وصدور الحكم على نحو القطع والثبوت في منطوق الآية، قبل البحث في الآيات البيانية التي تؤكد ملك الله للموجودات مطلقاً، ومن غير أن تصل النوبة الى المصاديق والشواهد، وان كان كل فرد منها يؤكد ربوبيته تعالى المطلقة، وإنحصار الملك به سبحانه.
ومن الآيات ان الله عز وجل لم يكتفِ بذكر إنعدام الشريك، وما يعنيه من انحصار الملك به سبحانه، بل أخبر بالنص الصريح على عائدية ملك كل شيء في السماوات والأرض له سبحانه، لتدل في مفهومها على عجز أي من الخلائق عن إدعاء الربوبية، وأنى له تلك الدعوى وهو جزء مملوك له سبحانه.
وينقسم الناس الى قسمين أحرار وعبيد، وأن قل او أنعدم العبيد لغيرهم من البشر في هذا الزمان، وبالنسبة للعبد هل يشترك في ملكه السيد، مع الله عز وجل أم انه ملك طلق لله تعالى، الجواب هو الثاني، فكل إنسان مملوك لله تعالى، السيد والعبد، وملكية السيد مجازية وعرض زائل لذا فان العبد في معرض العتق والحرية، ولكن عبوديته وملكه لله لا تنفك عنه أبداً في الدنيا والآخرة، وعبودية الإنسان للإنسان محل ذل وأذى للعبد، وإبتلاء وإمتحان للسيد في كيفية التصرف مع من هو أدنى منه، أما العبودية لله تعالى فهي محل فخر وعز للإنسان، وباب لنيل المراتب العالية في مراتب الهداية والصلاح.
قوله تعالى [وَمَا فِي الأَرْضِ]
بعد إخبار الآية القطعي عن ملكية الله عز وجل للسماوات السبع وكل ما فيها من الخلائق والأعيان، جاء هذا الشطر من الآية معطوفاً عليه، ليخبر عن إتحاد الحكم مع التباين في الموضوع، فالحكم هو ملكية الله عز وجل المطلقة، اما الموضوع فهو هنا الأرض وما فيها، ولم تأتِ الآية بالإخبار عن ملكه تعالى للسماوات وحدها، او الأرض وما فيها على نحو الإنفراد بل جاءت هي وآيات مشابهة عديدة لها بالإخبار عن ملكه تعالى لكل من:
الأول: السماوات السبع.
الثاني: ما في السماوات.
الثالث: من في السماوات باعتبار ان “ما” تدل على غير العاقل، و”من” تدل على العاقل، ويراد منها في المقام المعنى الأعم أي العاقل وغير العاقل.
الرابع: الأرض.
الخامس: ما في الأرض من الجمادات والأعيان، والكائنات الحية غير العاقلة.
السادس: العقلاء من سكان الأرض، وهم الناس مطلقاً المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والسيد والعبد.
وجاءت هذه الآية لتكون عوناً للمسلمين في خلافتهم في الأرض، وتطرد عن نفوسهم الخوف والوجل من أعداء الدين، وتدل بالدلالة الإلتزامية على انتصار الإسلام، وظهوره على الأديان كلها فما دام كل شيء في الأرض لله تعالى فانه تعالى يدفع عن المسلمين ويهيء لهم أسباب النصر والظفر، لذا تجد من الناس من يكون من أشد أعداء الإسلام ويكثر من الجدال واللجاج ثم لا يلبث فجأة ان يمتلأ صدره بالإيمان، وينتقل الى منازل الهداية والإسلام.
وكما جاء الشطر السابق من الآية بشمول ملكية الله لكل ما في السماوات تضمن هذا الشطر ملكيته تعالى لكل ما في الأرض من الأعيان والأشياء والموجودات ومنها الإنسان، ومتى ما أدرك الإنسان انه عبد مملوك لله تعالى فانه يخضع لأوامره، ويتلقاها بالقبول والرضا ويحذر من معصيته، فكيف وقد جاءت خاتمة الآية بالإخبار عن عودة ورجوع الأمور كلها له سبحانه.
فتتصف ملكية الله تعالى للأشياء بخصوصية وهي عودتها وأحوالها وشؤونها الى الله تعالى فليس من خفاء وزوال لأفراد الملك فمن يموت من العباد يبعث من جديد ويحضر للحساب بين يدي الله، وتكون النعم التي سخرها الله له في الدنيا حجة عليه.
ومن الآيات ان ما في الأرض عنوان جامع للعقلاء والكائنات الحية والنباتات والجمادات، ومنها ما هو ثابت ودائم كالجبال، ومنها ماهو توليدي متجدد كالنباتات، وقد جعل الله عز وجل الأرض منشأ الأشياء، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ] ( ).
وتشير الآية الى عظيم سلطان وقدرة الله عز وجل اذ انه خلق الأرض، وجعل ملكها له، فلم يخلقها ويتركها او يعرض عنها، ولم يهب من ملكها شيئاً لغيره، كما تنفي الآية خروج الأرض اوجزء منها من ملك الله امس واليوم وغداً، لان أحكام آيات القرآن دائمة، وكذا الاخبار الوارد فيها عن ملك الله تعالى للأرض وما فيها من المخلوقات والممكنات، ولم تترك الآية للناس التوجه الى الظنون والاحتياط او الاجتهاد في تعيين ملكية الأرض او شطر بل جاءت بالنص الصريح بملكية الله لها على نحو الإطلاق الخالي من التقييد.
وصيغة الشمول لكل ما فيها من الخلائق والموجودات، ولغة القطع واليقين تبعث في النفوس حب الله، والإقرار بربوبيته، ولزوم عبادته، واجتناب معصيته.
ولم تقل الآية “ولله ما في السموات والأرض” بل جاءت بالذكر لما في الأرض على نحو الخصوص الذي يفيد التحصيل والدعوة الى السياحة في الخلائق والموجودات في عالم الأرض وما فيها من الخزائن والكنوز التي هي على قسمين:
الأول: ما يكون دائماً متصلاً.
الثاني: ما يكون مستحدثاً.
وكل قسم من القسمين من اللامحدود، وآية في بديع صنع الله.
وحصل في السنوات الأخيرة إتساع في الصلات بين الأمم، وتداخل بين الحضارات وتقارب بين الشعوب، وإطلاع على عموم الأرض والسكان فيها، فجاءت هذه الآية لمنع الإفتتان والإنشغال بالصلات العامة والدولية اذ انها تخبر ان كل ما في الأرض ملك لله تعالى، فالإطلاع على وجود أمم عديدة وشعوب كثيرة شاهد على عظيم سلطان الله تعالى وسعة ملكه.
إقترن ذكر السماوات والأرض في آيات كثيرة تدل على ان الله عز وجل هو الذي خلقهما وإبتدعهما، وهما ملك له سبحانه ابتداء وإستدامة لا يشاركه فيهما أحد من الخلق، وتشهد الخلائق في ماهيتها على الملكية المطلقة لله تعالى.
وجاءت هذه الآية بتوكيد ملكية الله لها جميعاً بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] لتبين ان ما موجود على الأرض، وفي داخلهما من الخزائن هو ملك لله تعالى وحده، وفيه زجر للناس عن الإختلاف والإقتتال بسبب الملك وتوسعة السلطان بقصد إجتناب الظلم الذي أكدت عليه الآية السابقة، فعائدية الملك مطلقاً لله تعالى تحذير للناس من الغصب والتعدي على حقوق الآخرين.
وقد جاءت الآية بصيغة الجمع في السماوات وبصيغة المفرد في الأرض، وقيل ان صيغة المفرد هذه “لثقل جمعها وهو أرضون، ولهذا لما أريد ذكر جمع الأرضين قال (ومن الأرض مثلهن)” ( ).
ولكن هذا المعنى ليس علة تامة للتباين بين صيغة جمع السماوات، وإتحاد الأرض، ولو تكرر لفظ الأرضين في القرآن لأصبح سهلاً يسيراً على اللسان ببركة اللفظ القرآني وتلاوته، واذ ان الإنسان يجهل عالم السماوات جاءت الآية بتوكيد عددها في بيان لكثرتها وما تدل عليه الكثرة والعدد من العظمة وبديع الصنع، لأن كل سماء تكون فوق السماء الأخرى، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا]( ).
وإفراد الأرض بالذكر دعوة للتدبر في آياتها، وعدم الغرور في زينتها ومباهجها والإنقطاع الى جمع المال لحيازة الملك لأن عائدة وراجعة الى الله ابتداء وإستدامة، ومع هذا فقد جاءت آيات ذكرت السماء بصيغة المفرد قال تعالى [الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً] ( ).
ولماذا الاخبار في القرآن بان كل ما في الأرض لله تعالى فيه وجوه:
الاول: انه اخبار عن حقيقة وحق وصدق.
الثاني: في الآية مدح لله تعالى وثناء عليه سبحانه.
الثالث: جاءت الآية تأديباً للمسلمين والناس جميعاً.
الرابع: تدعو الآية المسلمين الى التوجه الى الله تعالى بالسؤال وطلب الحاجة.
الخامس: لابد من مالك للأشياء، فليس من شئ الا وله مالك، وجاءت الآية للاخبار عن ملكه تعالى لكل ما في السموات والأرض.
السادس: تمنع الآية من الغرور والزهو والطغيان، اذ تبين للانسان عجزه عن تملك شئ مما في الأرض.
السابع: ادراك الانسان لحقيقة من الإرادة التكوينية وهي انه عبد قن مملوك لله تعالى.
الثامن: فضح الطواغيت، ومن يدعون الربوبية، بتوكيد حقيقة وهي انهم عبيد لله تعالى.
التاسع: الإخبار عن كون الموت امراً وجودياًَ وليس عدمياً، وانه مناسبة للانتقال الى عالم آخر من العوالم التي تعود في ملكيتها لله تعالى.
العاشر: اثبات عدم خروج الإنسان بالموت والدفن في الأرض من ملك الله اذ ان الأرض وباطنها ملك لله سبحانه.
الحادي عشر: زجر الناس عن الحروب المدمرة التي تأتي على الأخضر واليابس، فان الأشياء والأعيان ملك لله تعالى، وفي مثل هذه الحروب تعد على ملك الله تعالى، وظلم للذات والغير.
الثاني عشر: بيان سعة ملك الله تعالى وعظيم قدرته وسلطانه، والقرآن تبيان كل شئ، وهذه الآية من البيان وفيها دعوة للتدبر في ملك الله.
الثالث عشر: لا ينحصر موضوع السموات والأرض بملكيتها لله تعالى بل انها منقطعة الى التسبيح والذكر، فمع كثرة وتعدد الخلائق وسعة السماوات والأرض فانها منشغلة بذكر الله تعالى ويلتقي اهل السموات والأرض بالسجود لله تعالى، وفي التنزيل [ ولله يسجد مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الرابع عشر: الإخبار عن غناه تعالى، وانه سبحانه غير محتاج قال سبحانه [سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ).
الخامس عشر: بيان حاجة الناس والخلائق كلها لله تعالى، حاجة المملوك الى المالك.
السادس عشر: في الآية توكيد لعلم الله تعالى بالغيب، واحاطته بكل ماخفي عن الأبصار، لان الله هو العالم الخالق المالك المصور، قال سبحانه [وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
السابع عشر: الإخبار عن ان النعم التي يتنعم بها الناس انما هي فضل ورحمة من عندالله عز وجل، فليس للإنسان ان يظن بان ماعنده جاء بسعيه وجهده وكسبه.
الثامن عشر: التحذير من الإفساد في الأرض، لان التصرف في ملك الغير قبيح، فكيف بمن يفسد فيه ويهلك الحرث والنسل.
التاسع عشر: في الأرض كنوز لا يعلمها الا الله عز وجل، فجاءت الآية لتخبر عن ماهيتها وملكيتها وطلبها بالدعاء والمسألة، قال سبحانه [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
العشرون: في توكيد ملك الله تعالى للأرض إخبار عن انتصار الاسلام، ودحض الشرك، وهزيمة الكفار، وفي قصة نوح عليه السلام، ورد في التنزيل [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( ).
الحادي والعشرون: بشارة المؤمنين بسعة الجنة والترغيب فيها بالسعي لها، قال تعالى [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثاني والعشرون: ان الله عز وجل حي قيوم، وهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والسنة، قال تعالى[لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
الثالث والعشرون: نفي الشريك والند لله تعالى، لان الملك المطلق عنوان الربوبية، قال تعالى[لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ] ( ).
وجاءت الآية بالجمع بين ملك الله لما في السموات وما في الأرض، وفيه وجوه:
الاول: بيان إطلاق ملك الله تعالى وعدم انحصاره في موضوع او خلق دون اخر.
الثاني: مدح الله عز وجل لنفسه.
الثالث: تعليم المسلمين المدحة وجعلها مقدمة للدعاء، باعلان الإقرار بالربوبية المطلقة لله تعالى.
الرابع: الآية جواب وبيان لتفكر الناس في ملكوت السموات والأرض، فمن يسيح بفكره وتصوره في عالم الملكوت، والآيات الحسية في خلق السموات والأرض، تأتيه هذه الآية وتتبادر إلى ذهنه لاخباره بان ملك السموات والأرض كله لله تعالى.
الخامس: لغة البشارة والإنذار فلما جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن عالم الجزاء وتقسيم الناس الى قسمين، قسم وجوههم بيضاء، وقسم وجوههم سوداء، جاءت هذه الآية لتخبر عن علم الله تعالى بافعال العباد واحصائها كلها من غير ان يغيب عنه منها شئ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]( ).
السادس: انتفاع الناس من الكنوز والبركات المشتركة التي تأتي من السماء ومن الأرض، قال تعالى [وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
السابع: في الآية اخبار سابق في زمانه للانسان الذي يسيح في السموات وينزل في بعض الافلاك، بان السموات تلتقي مع الأرض في ملكيتها لله تعالى.
بحث أصولي
تقسم الدلالة الى قسمين:
الأول: الدلالة التصورية: وهي التي ينتقل معها ذهن الإنسان الى معنى اللفظ حال صدوره من المتكلم وبلوغه السمع، وانه علم ان المتكلم لم يقصد هذا المعنى كانتقال الذهن الى المعنى الحقيقي عند إستعمال اللفظ في المعنى المجازي، فاذا قلت: جاءنا أسد وتقصد رجلاً شجاعاً، فان الذهن يستحضر المعنى الحقيقي للفظ وهو الحيوان المفترس، وان صدر الكلام من باب الوصف وإرادة المعنى المجازي.
الثاني: الدلالة التصديقية: وهي دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ومراد المتكلم منه، وانه قاصد لإستعماله فيه، وهذا القسم من الإرادة متوقف على أمور وهي:
الأول: إحراز كون المتكلم في مقام البيان وإرادة الفهم والتعيين.
الثاني: انه جاد في كلامه، لم يقصد الهزل واللغو.
الثالث: انتفاء القرينة الدالة على خلاف الموضوع له، والا فان الدلالة التصديقية تتبع القرينة المنصوبة.
وهذا التقسيم إستقرائي، والدلالة التصورية ليست بعرض واحد مع الدلالة التصديقية وان سميت بانها دلالة، وقيل ان تقسيم الدلالة الى تصورية وتصديقية من باب تقسيم الشيء الى نفسه والى غيره ويدل الدال على وجود المدلول، فيحصل من العلم به العلم بالمدلول، سواء كان الدال لفظاً او غير لفظ.
وخلق الأرض دليل على وجود الصانع، وإستدامة بقائها وما أثبته العلم من كونها سابحة في فلكها شاهد على إستدامة تعاهد الله عز وجل لها، ولما عليها من الكائنات.
وجاءت هذه الآية للثناء على الله تعالى، لبديع صنع الله وملكيته تعالى لها، وفي الآية دعوة لإجتماع الدلالة التصورية والتصديقية في معنى متداخل فجاءت الآية للإخبار بان كل ما في الأرض هو ملك لله تعالى وفيه مسائل:
الأولى: مملوكية الأرض وانها ليست ذاتاً مستقلة في نفسها، بل ترجع الى مالك وهو الله تعالى.
الثانية: استحضار الأشياء والخلائق الموجودة على الأرض واتصافها جميعاً بالعائدية لله تعالى في الملكية.
الثالثة: انتقال الذهن الى التفكير بعظمة خلق الله، وكيف ان الأرض وما عليها شاهد على ربوبيته تعالى وانفراده بالملك والسلطان، والذي يتفرع عنه قهراً وانطباقاً وجوب عبادته وطاعته.
ومن علامات الحقيقة التبادر وهو دلالة استناد اللفظ على المعنى من ذات اللفظ وإنسباق المعنى وإرادة المتكلم له بمجرد التلفظ به، وملكيته تعالى للأرض وما فيها من الحقيقة وليس المجاز.
ومن خصائص هذه الحقيقة الإستدامة والثبات وعدم طرو تغيير عليها، وليس من شيء مستثنى أو خارج بالتخصص او التخصيص من ملك الله، وتصاحب أصالة الحقيقة في المقام أصالة العموم لتكون هذه الآية حجة على الناس جميعاً.
بحث كلامي
تعتبر الأرض آية من بديع صنع الله عز وجل، ويدل خلقها على عظيم قدرته سبحانه، ومن الآيات في خلقها ان الإنسان يعيش على سطحها، ولا يغادرها الا بالموت والدفن فيها، وهو لم يستطع الإحاطة علماً بأسرارها وكنوزها.
وفي كل حين تطل علينا أمور وأخبار جديدة عن كنوز الأرض وما فيها من الأسرار والخزائن، ويبدو ان النعم المدخرة فيها أكثر من التي أكتشفت وأستخرجت، وهذه النعم من عموم قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] ( ).
ومع ملكية الله تعالى لما في الأرض، فانه سبحانه لم يحجب خيراتها عن الناس، ولم يشترط الإيمان والتقوى والصلاح للنهل من كنوز الأرض، بل جعلها في متناول البر والفاجر، والمحسن والمسيء يصيبان منها ما يقدران عليه، ليكون موضوعاً للإبتلاء في الدنيا، ومادة للحساب والجزاء في الآخرة.
وجاءت الآية بالإخبار عن عائدية كل ما في الأرض لله ولابد ان المراد أمور وأشياء إعجازية كثيرة تدل على عظمة خلق الأرض، وفيه دعوة للهداية والإيمان ويدل عالم الأرض على إتصاف خلق الله تعالى بالإتقان، وان أعماله محكمة ومنها التركيب العقلي من الجنس والنوع والفصل، والتركيب الخارجي كتركيب الجسم من المادة وإلهيئة والصورة، وتركيب المقادير.
بالإضافة الى حقيقة وهي اتصاف المركّبات بالحاجة الى الأجزاء بالإضافة الى ما يحدث في الأرض من التفاعلات والتغييرات، وما تتصف به من الأمور العجيبة، وما تسكنها من الخلائق ومنها الإنسان الذي هو آية من بديع خلق الله.
وليس للإنسان ان يتفكر في المخلوقات الأخرى وينشغل بأسرار عالم الفلك ويترك آيات الله عز وجل في نفسه وصورته، وحفظه لمبادئ النبوة وتعاهده لأحكام التنزيل، وإحيائه الأرض بالصلاة والصيام ومضامين التقوى والصلاح.
ومن خصائص الإنسان امتلاكه لقوة جاذبة، اذ انه محتاج جائع سواء الحاجة العلمية اوالحاجة البدنية للغذاء، فتراه يسعى في التحصيل، ومن أهم مصاديق القوة الجاذبة اكتساب المعارف الإلهية، والتزود بأسباب التقوى، والنهل من علوم التنزيل والنبوة، وجاءت الآية بشارة للمسلمين بان كل شيء مسخر لهم، ليكون وسيلة وموضوعاً لطاعة الله والإمتثال لأوامره.
وفي الآية ارتقاء في المعارف الإلهية لما فيها من بعث المسلمين إلى نشر مبادئ الإسلام في الأرض، والتوكل عليه سبحانه في السياحة في الأرض بحثاً عن الرزق وسعياً للصلاح، وتأتي أصالة الإباحة رحمة وفضلاً من عند الله، لأنها اذن عام للناس في التصرف والإنتفاع من ملكه تعالى.
بحث عرفاني
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالشكر، وجعله وسيلة للإخبار عن الإمتنان والقبول والرضا وامتلاء النفس بالغبطة نتيجة تلقي الإحسان، ويعتبر الشكر من مقامات السالكين له علم يعرف من خلاله المنعم وانه الله تعالى، ويدرك معه العبد حقيقة نفسه وانه مملوك ومحتاج لله عز وجل وجزء من ملكه، فهو وما حوله من الأشياء وما يحيط به من الناس من ملك الله تعالى، ولا يمكن لأحدهم الخروج من ملكه وسعة سلطانه.
وعدم الخروج هذا نعمة إضافية من عند الله، فأشد ما على الإنسان أن يكون عبداً مملوكاً لغيره من البشر، ويكون ملزماً بالإمتثال لأوامره.
أما العبودية لله فهي محل امتنان الإنسان، وسبب لتغشي السعادة له ويلتقي فيها السيد والعبد، والإنسان كائن ممكن تلازمه الحاجة في دنياه وآخرته، وليس له شأن في ولادته ونشأته، وليس من حد لحاجات الإنسان سواء على نحو القضية الشخصية أو النوعية، ولا يقضي حاجات الإنسان الا الله تعالى، ولا يقدر عليها غيره لأن ملك السماوات والأرض له سبحانه، ومفاتيح خزائن النعم عنده سبحانه.
وهذه الآية عون للربط بين عالم المادة وعالم الغيب وإدراك الآيات العقلية والحسية في خلق الأرض وماهيتها وخزائنها وكيف انها خير محض ونفع دائم تتجلى فيها أنواع البهجة والسعادة، وتجعل الإنسان على صلة دائمة مع الباري عز وجل، بإعتبارها مظهراً لجماله وجلاله، وآية على بديع خلقه ومحلاً لخلافته.
ان ملكية الله تعالى للأرض رحمة بالخلائق ولولاها لأختل النظام العام، ولوجدت العوائق دون إتصال عبادة الله في الأرض، فلما خلق الله الإنسان لعبادته فانه تعالى سخر له أسباب ومقدمات العبادة ومنها ملكيته سبحانه للأرض وما فيها.
وجاءت هذه الآية لتبعث السكينة في نفوس المسلمين بانه ليس من برزخ أو مانع يحول دون أدائكم للتكاليف، وفي الآية نشر لمبادئ المساواة بين الناس فكل فرد يكون بعرض واحد مع غيره من الناس في كونهم ملكاً طلقاً لله تعالى.
قانون (ما في الأرض)
جاءت الآيات القرآنية بالإخبار عن الأرض وان الله عز وجل هو الذي خلقها وبسطها وسواها، قال سبحانه [وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا] ( )، ويبين سبحانه انه وضعها للناس لتكون لهم سكناً وفراشاً، قال تعالى [وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ]( ).
ولم تنحصر آيات الله في الأرض بخلقها وتسخيرها للناس بل تعاهدها بالعناية الإلهية، وجعلها جلية تنبت بالثمار والأشجار، وتخرج الكنوز في كل زمان، فليس من زمان الا والأرض تعطي من سطحها ومن جوفها وباطنها، وتلك آية لكل جيل من الناس وباب للدعوة للإيمان، وفضل متصل على الناس جميعاً.
وما أن تتحدث الأخبار عن قرب نضوب ثروة أو كنز من كنوز الأرض، حتى تأتي الإخبار بما هو أعظم وأكبر من الكنوز وكأنه من عمومات قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( )، بلحاظ ان كل كنز وثروة من ثروات الأرض آية من عند الله، ومن لطفه تعالى اعطاؤه وعداً للناس جميعاً بان الأرض لن تتوقف عن إخراج الثمرات والبركات والكنوز، قال سبحانه [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] ( ).
وبخصوص الأرض وملكيتها جاءت الآيات بتوكيد عائدية ملك الأرض لله عز وجل وأغلب الحروب والمعارك والخصومات تقع على ملكية أجزاء من الأرض أو الإستيلاء على بلدة مخصوصة، كما ان الناس يختلفون ويتنازعون في ملكية أشبار من الأرض.
فجاءت الآية لتخبر ان ملك الأرض كلها لله تعالى، ومن أراد من الأرض شيئاً فليسأل الله عز وجل، ولكن الفضل الإلهي في المقام لا يخرج الأرض من ملكيتها لله تعالى، لأن ملك الإنسان متزلزل ومجاز، وهو مناسبة لشكر الله تعالى على النعم.
وجعل الله عز وجل سعة الأرض وتعدد الأمصار وعجز الطواغيت عن الإستيلاء عليها مقدمة لعبادته وإستدامة الإيمان في الأرض قال سبحانه [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( )، فمن أسرار كبر وتعدد أقطار الأرض حفظ كلمة التوحيد ’ والمندوحة للمسلمين، لذا فما ان يحارب الإيمان في بلد إلا وظهرت دولته في بلد آخر.
وقد كانت آية في المقام الوقاية من محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بداية البعثة النبوية الشريفة مقترنة بالآيات الباهرات العقلية والحسية التي جاء بها، ومع أنهم قومه وأهل بلده فقد آذوه وأصحابه.
فأنعم الله عز وجل عليه بالأنصار من الآوس والخزرج وهاجر الى يثرب التي فيها اليهود وهم أشد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش لأن اليهود أهل كتاب ويلجأ اليهم الناس وقد حرفّوا علامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنكروا أن يكون هو نبي آخر زمان.
ومع هذا سرعان ما قامت دولة الإسلام في يثرب وهي المدينة المنورة ليدخل بعد سنوات مكة فاتحاًُ في دلالة على توظيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رزقه الله عز وجل من الوحي لإقامة دولة الإسلام، ومحاربة الشرك والكفر في عقر داره بمدد وعون من الله.
فمن وجوه تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى انهم لم يكتفوا بإسلامهم والعمل بأحكام الإسلام في بلدانهم بل قاموا بغزو الأمصار القريبة لإصلاح أهلها وتخليصهم من براثن الكفر والشرك، وبما يساهم في حفظ بيضة الإسلام، والذب عن الثغور الإسلامية.
قانون لله ما في الأرض
لقد خلق الله السماوات والأرض، وهو سبحانه ليس محتاجاً لها او لغيرها، وهو الغني عن غيره مطلقاُ، ولكن هذا الخلق رحمة من عند الله على الخلائق ولطف منه تعالى، وتفضل مرة أخرى برحمة إضافية لاحقة من وجوه:
الأول: خلق الكائنات الحية في الأرض، وبعث الحياة فيها.
الثاني: ايجاد أسباب استدامة الحياة فيها، بالماء والنبات والهواء في آية إعجازية تدل على بديع صنعه تعالى.
الثالث: تعيين خليفة في الأرض، وعدم ترك الخلائق والكائنات في الأرض من غير خليفة.
الرابع: عمارة الخليفة الأرض بالعبادة و ذكر الله مما يدل على ان الخلافة لا تكون الا مقيدة بوجودها، وهو الذي يسمى في علم الأصول بشرط شيء وهو في المقام العبادة، كما انها مقيدة بعدم شيء آخر، وهو الذي يسمى بشرط لا، فيجب على الإنسان ان لا يرتكب المعاصي والآثام في ملك الله، وفي الآية وجوه:
الأول: الإخبار عن حقيقة في عالم الخلق والإبداع.
الثاني: التذكير بأصل خلق الأرض وما عليها.
الثالث: اخبار الإنسان بانه مملوك لله تعالى.
الرابع: إستدامة ملك الله للأرض والخلائق قبل ولادة الإنسان وأيام حياته وبعد وفاته.
الخامس: الآية حجة على الكافرين ودعوة للإيمان، وموضوع للإحتجاج وإقامة البرهان على وجوب عبادة وطاعة الله، قال تعالى [قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( )، وفيه إخبار عن موضوعية ملك الله للأرض في تحصيل العلم.
السادس: تعاهد الله تعالى للأرض وما عليها فان الله عز وجل رؤوف بعباده وملكه، وحافظ للمكنات، وهذا الحفظ في ظرفيه وموضوعه من وجوه التباين بين واجب الوجود والممكن، قال تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( )، ولا تنحصر معاني الربوبية بخصوص الأرض في خلقها وملكيتها بل تشمل علم الله تعالى بما في الأرض قال سبحانه [وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( )، وليس من شخص يحيط علماً بملكه وما فيه وان كان صغيراً وقليلاً.
اما الله عز وجل فانه سبحانه يحيط بملكه مع سعته وتعدده، وتشمل التصرف المطلق في ملكه وعدم وجود من يعارضه، ومن الآيات ان الله عز وجل هو العدل الذي لا يظلم أحداً، وجاءت الآية على نحو الإطلاق في الملكية.
وتفيد ايضاً الإطلاق الزماني وشمول ملكيته لما في الأرض في جميع الأزمنة المعلومة والمقدرة، وكل ملك يطرأ عليه التبدل والتغيير، إلا ملك الله تعالى فهو ثابت ودائم ومتصل لا يتعرض أي جزء منه للزوال او الإندثار.
ومن آثار ومنافع مضامين هذا القانون زجر الإنسان عن الغرور والإستكبار، اذ انه يلتقي مع غيره من الناس ومع أنواع الحيوانات والنباتات والجمادات في الملكية لله تعالى، وهذا الإلتقاء دعوة للناس جميعاً للتواضع والخشوع لله سبحانه، ويكون بالنسبة للمسلم موضوعاً للأخوة الإيمانية، وتعاهداً لصلاة الجماعة، والمناسك، وإجتناب الفرقة والإختلاف.
ومنها الحث على الصبر في جنب الله، وهو مدرسة في التوكل على الله وتحمل المشاق لتثبيت معاني العبادة في الأرض بما يليق بالإنسان كخليفة رزقه الله عز وجل العقل، وجعله يتدبر في خلق الله ويعيش في رزقه سبحانه.
فمن الآيات اقتران السلطان والمشيئة بالملك وليس من مفر أو فرار من ملكه وسلطانه سبحانه، قال تعالى [وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ]( )، نعم يأتي الإخبار عن عائدية كل ما في الأرض لله وسيلة للفرار الى الله عز وجل والغرق في أنوار جلاله ليكون قلب المسلم أشرف البقاع، وليس من بساتين عامرة أو رياض ناضرة أبهى وأجمل من القلب المملوء بحب الله، والغارق في حبه تعالى قال سبحانه [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ]( ).
قانون الإنسان ملك لله
من أسرار القرآن انه نازل للتحدي والإعجاز، وكما يتحدى أهل البلاغة والفصاحة، فانه يتحدى الطواغيت والظلمة، ويخبر عن حقائق كلية ثابتة تدل على بديع صنع الله وانقياد الخلائق كلها من غير استثناء او تخصيص له سبحانه، وجاءت هذه الآية بصيغة “ما” لتخبر عن ملكية كل شيء في الأرض لله تعالى، ومنها الإنسان باعتبار شمولها للعاقل وغير العاقل.
فمن الآيات الإعجازية ان هذه الآية تدعو الإنسان الى المعرفة واتخاذها وسيلة للإيمان والتقوى والصلاح، من وجوه:
الأول: ملكية الأشياء المحيطة بالإنسان لله تعالى.
الثاني: كل الخلائق والموجودات الأرضية التي تقهر الإنسان هي ملك لله.
الثالث: حاجات الإنسان، ومادة رغائبه ملك لله تعالى.
الرابع: الإنسان نفسه ملك لله تعالى، وثبت في الفلسفة عدم إجتماع النقيضين، ولكنك ترى العاقل وغير العاقل، والمحتاج والحاجة، وكل فرد منهما يلتقي مع الآخر في الملكية والإنقياد لله تعالى.
ومن الآيات ان هذا الإنقياد لا ينحصر في زمان مخصوص بل هو مستديم ودائم ومتى ما أدرك الإنسان حقيقة انه مملوك لله تعالى، فانه يمتنع عن الإستكبار والتجبر.
ومن الآيات ان من تكبر وطلب التجبر كانت عاقبته الى زوال مع الذل والمهانة كما في نمرود وفرعون، لتبقى قصصهم عبرة للأجيال وموعظة للناس، ومن الآيات ان تلك القصص لم تأتِ مستقلة قائمة بذاتها بل مصاحبة لإخبار القرآن بان الإنسان وما يملك هو ملك لله تعالى.
ومن إعجاز القرآن وسعة ملك الله عز وجل ان القرآن لم يذكر الإنسان على نحو الخصوص فليس من آية في القرآن تقول للإنسان انت ملك لله، وفيه مسائل:
الأولى: الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ومن الإبتلاء فيها الإشارة الإجمالية لملكية الله عز وجل للإنسان.
الثانية: لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل وجعله يتدبر بنفسه حاجته لله تعالى، وحقيقة خلقه من العدم، ومغادرته الدنيا بالموت.
الثالثة: مجيء الآيات بالملكية المطلقة لله تعالى الشاملة للإنسان وغيره من الخلائق.
الرابعة: عدم ذكر ملكية الله للإنسان على نحو الخصوص مع ثبوتها يدل على الفضل الإلهي على الإنسان، وجاءت الآيات بذكر خلافة الإنسان في الأرض وهو عنوان إكرام إضافي، ومن الآيات ان ملك الله للإنسان دائم غير منقطع، فمع مغادرة الإنسان الدنيا، وإنفصال روحه عن جسده فان ملك الله له باق ومستمر في الدنيا والآخرة.
واذا كانت بعض الموجودات في الأرض تصير الى العدم والزوال والإضمحلال أو الإستهلاك في غيرها فان الإنسان يبعث يوم القيامة لينال النعيم الدائم، او الشقاء والعذاب والخلود في النار، فهو من ملك الله مما في الأرض، ومن ملكه تعالى في الآخرة، وإستدامة مملوكية الإنسان لله عز وجل هذه عنوان لنزول الرحمة الإلهية وسبب للعفو والمغفرة.
قانون الملازمة بين الخلق والملك
من بديع صنع الله خلق الأرض وما فيها من الأسرار التي تدل على عظيم قدرته تعالى، قال سبحانه [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ]( ).
وجاءت الآيات بالإخبار عن عائدية السماوات والأرض في ملكيتها لله تعالى، وآيات أخرى أعم منها وتتضمن ملك الله للسماوات والأرض وما فيهما من الخلائق والموجودات كما في هذه الآية الكريمة، مما يدل على الملازمة بين الخلق والملك، فكل ما هو مخلوق لله تعالى فهو جزء من ملكه.
وهل يمكن للمملوك ان يخرج عن ملك الله تعالى، الجواب لا، فمن الآيات ان ملكية الله تعالى للأشياء ثابتة ودائمة وملازمة لها، فالملكية لله تعالى لا تنفك عن الأشياء جميعاً، ومنها الإنسان فكل إنسان مملوك لله تعالى، وهذه الملكية تدل على وجوب خضوع وخشوع الإنسان لله تعالى، وهي عنوان العبودية المستديمة لله، وملك الله عز وجل على أقسام:
الأول: الملك في الحياة الدنيا.
الثاني: الملك في الحياة الآخرة، قال تعالى [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ]( ).
الثالث: إستدامة الملك في الدنيا والآخرة، ولا ينحصر الملك بالخلق إبتداء، بل هو وعاء وعنوان للخلق المستحدث، قال سبحانه [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ]( )، ومن الدلائل والبراهين على إنعدام الشريك للباري عز وجل الملكية المطلقة لله تعالى، فاذا كان الشيء او الذات ملكاً لله تعالى فلا يصح ان يكون شريكاً لله تعالى، ولا يجوز للناس أن يتخذوا شريكاً لله من وجوه:
الأول: انهم ملك لله تعالى، فكل إنسان هو مما في الأرض، وتشمله عمومات هذه الآية.
الثاني: كون الشيء مملوكاً يسقط عنه الأهلية للربوبية، لأنه لا يستطيع ان يغادر منازل العبودية والذل أبداً.
الثالث: اتخاذ الشريك كفر وجحود، ومجلبة للشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
الرابع: وجود المانع وفقد المقتضي للشريك، فالله عز وجل هو الرب وكل شيء مربوب، والله هو الخالق، وكل شيء هو مخلوق، والله هو المعبود، وكل شيء خاشع عابد ساجد لله تعالى.
ان الملازمة بين الخلق والملك رحمة بالخلائق، ودعوة للصلاح والتقوى، وباب للهداية والرشاد، وبرزخ دون العناد والإستكبار ومن آيات الخلق ان الملكية لم تأتِ لاحقة ومتأخرة عن الخلق، بل هي ملازمة له، فحالما يوجد الإنسان او الشيء مطلقاً فانه يكون ملكاً طلقاً لله لا يشاركه فيه أحد.
واذ لا يستطيع العبد أن يغادر منازل الملكية فيجب عليه ان يحافظ على وظائف الملكية والعبودية له تعالى بالتقيد بأحكام الشريعة، وملك الله عز وجل برهان للدعوة، وموضوع للإحتجاج، وقد إتخذ منه الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لجذب الناس للإسلام، وهدايتهم لمنازل الإيمان، وفي التنزيل [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
قانون الملازمة بين الملك والسجود
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان اذ جعله مملوكاً له، ومن آيات الربوبية ان الله سبحانه لم يخلق الإنسان ويتركه لشأنه او يجعله عرضة لأهوائه او استحواذ الخلائق الاخرى عليه سواء الصالحة او الشريرة، فالصالحة كالملائكة خاضعة لله عز وجل، منقطعة الى العبادة والتسبيح، والشريرة عاجزة عن التأثير على الإنسان الا على سبيل الوسوسة والغواية التي تدل على قبح فعل الشيطان وذله وضعف كيده، ليبقى الانسان عبداً مملوكاً لله تعالى.
وتتصف هذه الملكية بالاستقرار والثبات، وليس هي متزلزلة.
ولا تستطيع أي قوة ان تتعرض لها او تدخل مزاحمة او معارضة لها، وهذه العصمة في الملك من عظيم فضل الله تعالى على الانسان، لما فيها من الحصانة من الأعداء ومنهم ابليس، وواقية من الغرور والعتو، وسلاح للنجاة من الرياء للآخرين.
وهل تختلف ملكية الله للإنسان عنها للجمادات الجواب لا، فالنسبة في العبودية متساوية، لذا جاءت الآيات بالاخبار عن ملكه تعالى للعقلاء ايضاً قال سبحانه [أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ] ( ).
وكل مملوك يسجد لله تعالى، الا ان سجود الانسان له خصوصية وكيفية معينة، وهو عنوان الإنقياد الى الله تعالى، وشاهد غلبة الاقرار بالربوبية على الجحود، والعقل على الهوى، والخضوع على الاستكبار، واول ما رأى آدم من الملائكة السجود، اذ امرهم الله تعالى بالسجود له باعتباره خليفته في الأرض ليبادر آدم الى السجود الى الله ويتعاهد السجود، والتطامن باعتباره عنوان الخضوع لله تعالى.والتسليم بحكمه، والرضا بقدره.
وليس من مملوك لله تعالى الا ويسجد له سبحانه عاقلاً كان او غير عاقل قال سبحانه [لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( )، ويأتي السجود طوعاً او قهراً، مما يدل على انه جزء من سنخية المخلوقات، وصفة ملازمة للملك لا تغادر المملوك ابداً، وهي عنوان فخر للملوك وحاجة له.
فبالسجود تستديم الحياة، وتنزل على للناس البركات ، وهو من الحبل الصاعد من العبد الله، وواقية من كيد ووسوسة الشيطان، وشاهد على تعاهد الانسان لمسؤوليات الخلافة التي لا تتقوم الا بالسجود واذا كان السجود ملازماً للملك في الحياة الدنيا، هل يسجد الإنسان في الآخرة، الجواب ان الآخرة دار حساب بلاعمل، والجزاء فيها على قسمين ثواب وعقاب، واهل الثواب متنعمون في الجنة، متوجهون الى الله تعالى بالشكر والثناء على نعمة الاقامة في دار الكرامة، ويكثرون من الحمد لله، وفي التنزيل[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ]( ).
واما اهل النار فهم منشغلون بانفسهم وماهم فيه من العذاب الاليم ومع هذا فانهم يضجون الى الله تعالى ويسألون تخفيف العذاب، الذي نزل بهم بسبب تخلفهم عن السجود لله في الدنيا مع ثبوت ملكه تعالى لهم في الدنيا والآخرة.
علم المناسبة
ورد اسم الأرض في القرآن اربعمائة واحدى وستين مرة، وتعتبر هذه الكثرة مدرسة كلامية وعقائدية تقتبس منها دروس عديدة، وتتفرع عنها مسائل في ميادين العلم، وتستنبط منها احكام شرعية، وفيها دليل على ملكية الله عز وجل للأرض وما عليها، وتتضمن أحوال الأمم السابقة، وجهاد الأنبياء.
وتبين فضل الله تعالى على المسلمين في الأزمنة والرسالات المتعاقبة، وبالاخص بعد مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة، والمحجة البيضاء التي اراد الله عز وجل لها ان تبقى ظاهرة في الأرض الى يوم القيامة.
وورد لفظ الأرض في القرآن بالإضافة الى المتكلم مرة واحدة (ارضي) قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( )، فاكدت الآية ان الأرض لله تعالى وهي ملك له، وسخرها للمسلمين يتنقلون فيها طلباً للسلامة واقامة شعائر الله، وقد يدعي الكفار امتلاك الأرض، ويقومون بنسبتها لانفسهم، وورد حكاية عن فرعون في التنزيل [قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى]( ).
وجاءت الآية محل البحث لتخبر عن عائدية الأرض وكل ما عليها لله تعالى، وفيه نقض لكلام فرعون وملئه والطواغيت، ويدل بالدلالة الالتزامية على انتصار الاسلام، وزوال ملك فرعون، لان الأرض لله قال تعالى [إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ( )، وتوجه الأنبياء بالدعاء الى الله لتنزيه الارض من الكفار وافعالهم، قال تعالى [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( )، فتشمل ملكية الله للأرض التصرف المطلق بها، والذي تتضح معالمه بعلو كلمة التوحيد، ورفعة الإسلام، وعز المسلمين، ودحر الكفر، وهزيمة الباطل.
وفي الجمع بين آيات الأرض القرآنية إنذار وتحذير للكفار، ودعوة لهم للتدارك وإصلاح الذات، وفيه إشارة الى تقييد إستدامة البقاء في ملك الله في الدنيا بالهدى والإيمان، وتهذيب النفس وتنقيح الأعمال، ومن الآيات ان الله عز وجل يهيء للأنبياء وعباده المخلصين والصالحين الإنتفاع من ثروات الأرض، وفي يوسف ورد في التنزيل [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ).
ويملي ملك الله للأرض على الناس التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، وإجتناب التصرف بما لا يرضي المالك، وجاء الأنبياء بالإنذارات والتخويف من المعاصي، والوعيد على مخالفة أحكام الشريعة قال تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وطمعاً]( )، وهذه الآية الكريمة من الآيات التي يتعاهد الله فيها الأرض، ويمنع إشاعة الفساد فيها ومنها قوله تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ] ( ).
واذ جاءت الآية محل البحث بالإخبار عن ملكية الله تعالى للسماوات والأرض، فان آيات أخرى أكدت ألوهيته المطلقة وانعدام الشريك، وأخبرت عن تعرض السماوات والأرض للفساد والخراب لو كان فيها شريك ومالك غير الله، قال تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] ( ).
وفيه بيان منافع التوحيد وأنه من مصاديق حاجة الناس والمخلوقات جميعاً لله تعالى.
ومع ان الحياة الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب، فقد جاء القرآن بأحكام جزائية وعقوبات أليمة لمن يتعدى على ملك الله في الأرض ويجحد بالنبوة، ويظهر الفساد في الأرض قال سبحانه [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ ] ( ).
ومن كرمه ورحمته تعالى ان اذن للناس جميعاً في التنعم بخيرات الأرض، ولم يحجب عنهم ثرواتها وكنوزها، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا]( ).
قانون الطرد والعكس البلاغي
من وجوه البديع “الطرد والعكس” وهو الإتيان بكلامين يقرر منطوق كل واحد منهما مفهوم الآخر، ويقرر مفهوم أحدهما منطوق الثاني، وإستدل عليه بقوله تعالى في الملائكة [لا َ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ولا تنحصر معاني هذا الوجه في القرآن بصيغ البلاغة وان كان الإعجاز فيها ظاهراً جلياً، بل تشمل معاني عقائدية، ومضامين قدسية تبين خفايا اللفظ القرآني وتعدد الغايات والمقاصد السامية منه كما في هذه الآية الشريفة، من وجوه:
الأول: هناك نوع ترابط وتداخل بين ما في السماوات وما في الأرض، وجاءت الآية بالإخبار عن ملكية الله تعالى المطلقة لكل ما فيهما.
الثاني: من إعجاز الآية بيان حقيقة مناسبة للإكتشافات العلمية الحديثة، وقيام الإنسان بغزو الفضاء وسعيه لإيجاد موضع قدم فيها وهي ان السماء وما فيها من ملك الله تعالى، وان الإنسان لا يستطيع الفرار من ملك الله تعالى، وفيه زجر عن الغرور والزهو، ومنع من العتو والإستكبار.
فتتصدى الآية لوعظ الإنسان الذي يصعد الى السماء او يختار السكن في الكواكب مستقبلاً بانه لا يزال في ملك الله وانه لابد وان يرجع اليه سبحانه ويقف بين يديه للحساب، مما يقتضي ان يتقيد بأحكام العبادات والفرائض وكأنه في الأرض لإتحاد الحكم، وعدم موضوعية التباين في المحل.
فكل من الأرض والسماء ملك لله تعالى، فالعبد يعيش ويعمر ثم يموت، ويدفن ويبعث في ملك الله، وفيه حث على الإيمان، والتخلي عن الدنيا وزخرفها، وإعطاء الأولوية للصلاح والتقوى وتهذيب النفوس، وتعاهد الأخوة الإيمانية ونبذ الفرقة، والسعي للفوز ببياض الوجه واجتناب سواد الوجه في الآخرة.
ويظهر التحقيق في آيات القرآن الكريم تعدد وجوه الطرد والعكس، وعدم إنحصاره في آية أو في الجمع بين كل آيتين على نحو الحصر والتعيين، بل تجده بين عدة آيات تلتقي في موضوع وحكم متحد، فمنطوق آيات عديدة يبين مفهوم الآية الواحدة، ومفاهيم آيات كثيرة يقرر منطوق آية واحدة ايضا، وهذا من إعجاز القرآن وعلومه اللامتناهية.
ففي كل يوم تطل علينا علوم جديدة مستنبطة من نظم الآيات والصلة بينها وتأكيد بعضها لبعضها الآخر، وأسرار حصر عدد من الآيات في سورة واحدة، وتداخل المضامين القدسية لآيات في السورة المتعددة كنز متجدد من كنوز القرآن.
ولم يمنع الفصل بين السور وتعدد أسمائها من الإتصال والتداخل بين الآيات القرآنية، وهو مناسبة لإستنباط الدروس والعبر، ودراسة الوقائع والأحداث والمسائل الإبتلائية المستحدثة على ضوء تداخل الآيات، وتوكيد مفهوم الآية لمنطوق الأخرى، وما له من الموضوعية في تنقيح المسائل والأحكام، ومنع اللبس والترديد والوهم.
ويتجلى الطرد والعكس في ذات الآية القرآنية وما فيها من التخفيف والتيسير، وفيه تقريب لمعاني الآية القرآنية، وإنتفاع من التلاوة، ووسيلةللتبادر الذهني لفهم معاني الآية القرآنية، وإقرار منطوق شطر منها لمفهوم الشطر الآخر من غير تقييد بالتقدم والتأخر بين الشطرين، فمنطوق ومفهوم الشطر الأول يقرران مفهوم ومنطوق الشطر الثاني او الثالث منها، وكذا منطوق ومفهوم الشطر الثاني يقرر مفهوم ومنطوق الشطر الأول، وهكذا لتتجلى إشراقات الآية على القلوب المنكسرة، وتجذب النفوس الى التقوى وتبعث السكينة فيها.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب “الإستقصاء” وهو ان يذكر المتكلم موضوعاً فيستقصي معانيه بان يذكر الماهية والذات والعوارض واللوازم بما يمنع من اللبس والترديد في الذات أو العرض، ويدل الإستقصاء على القدرة على إختيار الألفاظ المناسبة، والفصاحة والبلاغة، واللفظ القرآني مدرسة في الفصاحة والبلاغة، والجامع بينهما الى جانب إعجازه الإضافي في العقائد والعلوم المستنبطة والتوليدية التي تتفرع عنه على نحو متصل ومتجدد.
وتتألف هذه الآية من بضع كلمات جامعة قاطعة مانعة واقية، فهي جامعة لكل ما في السماء والأرض، وقاطعة في عودة ملكيتها لله تعالى، ومانعة من ادعاء خروج شيء منها من ملك الله، وواقية من دعوى الشريك في الربوبية والملك.
ومن منافع الإستقصاء في المقام تأديب المسلمين وتعليمهم آداب العبودية، وإماتة البدعة والضلالة، وفضح الجبابرة والطغاة الذين يدعون الربوبية، وتكرر لفظ “ما” في الآية ويراد من الأول الإنحلال والتعدد وما في كل سماء من السماوات السبع، ومن الثاني كل ما في الأرض ويشمل ما دق وما كبر، والعاقل وغير العاقل، والآية من مصاديق إحاطة الله عز وجل علماً بكل شيء.
قوله تعالى [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]
مع قلة كلمات الآية فانها جاءت بثلاثة قوانين من الإرادة التكوينية، كل واحد منها كنز من كنوز السماء وثروة عقائدية أنعم الله عز وجل بها على المسلمين لتكون مدرسة للإرتقاء في المعارف الإلهية وهي:
الأول: ملك الله للسماوات السبع، وكل ما فيها من الخلائق والكائنات، وجميع ما يكشف من الأسرار والموجودات في السماء فهو ملك طلق لله تعالى.
الثاني: الأرض وما فيها من ملك الله عز وجل، أي ان ملك الله عز وجل أعم منها وأكبر من ان تحيط به العقول او الإكتشافات العلمية الحديثة، وهو أعم من التصور الذهني للإنسان، فكل ما يتصوره الإنسان بخصوص ملك الله يكون قاصراً عن الإحاطة بملك الله تعالى الذي هو سر مكنون من عالم الغيب لا يطلع عليه أحد من الخلائق في الدنيا والآخرة الا الله عز وجل.
الثالث: رجوع الأمور كلها الى الله تعالى، فليس من شيء الا ويرجع الى الله تعالى في كل شأن من شؤونه وكيفيته وهيئته، ولا يستطيع الخروج عن ملكه وسلطانه.
والملك أعم من التصرف والسلطان والعنوان الإعتباري ‘ فقد لا يستطيع الإنسان التصرف في ملكه او لا يحيط به علماً من جهة التفاصيل والتغيير والحال المتبدلة، وهو شاهد على أن ملكية غير الله عرض زائل وأمر مجازي لا أصل له.
ومن خصائص ملك الله لما في السماوات والأرض إحاطته علماً بها على نحو التفصيل، والأشياء جميعاً حاضرة عنده، مستجيبة لأمره وجاءت خاتمة الآية لتخبر عن حقيقة أخرى وهي رجوع كل شيء لله سبحانه.
ترى ما هي النسبة بين ما في السماوات والأرض وبين الأمور المذكورة في خاتمة الآية، الجواب: يراد من الأمر الشأن والحادثة، قال تعالى [وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا] ( ) أي شأنها وما يصلحها وما تحتاج اليه إستدامتهامن الأنظمة والقوانين الكونية.
وجاءت الآية بصيغة الجمع ( الأمور) ويحتمل الألف واللام في الأمور وجهين:
الأول: العهد، وإرادة أمور مخصوصة.
الثاني: الجنس والإستغراق.
والصحيح هو الثاني، فالمراد جميع الأمور والحوادث والوقائع ومنها:
الأول: أمور السماوات السبع.
الثاني: أمور الخلائق والموجودات التي في السماوات.
الثالث: ذات الأرض وما فيها من الكنوز.
الرابع: الخلائق الأرضية ومنها عالم الإنسان.
الخامس: أمور الخلائق مطلقاً، ومنها ما يستحدث من الوقائع والحوادث.
وتبين خاتمة الآية رحمة الله تعالى بالخلائق والإنسان منها خاصة، باعتبار انها ممكنات وكل ممكن محتاج، ومن فضل الله تعالى ان تكون حاجة الخلائق لله عز وجل دون غيره فتجتمع ملكيتها وتصريف شؤونها وعودة أمورها لله تعالى، فمن الآيات ان تكون خاتمة الآية بشارة للمسلمين جميعاً من وجوه:
الأول: عودة أمورهم وشؤونهم لله تعالى.
الثاني: رجوع أمور الناس جميعاً الى الله تعالى تخفيف عن المسلمين، وإعانة لهم في جذب الناس للإيمان، وصرف أذى الكفار وأعداء الدين.
الثالث: مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل، وفيه حث للمسلمين على الدعاء والتوجه اليه سبحانه بالمسألة لقضاء الحاجات، وتحقيق الرغائب.
وتبعث الآية السكينة في قلب المسلم من المستقبل المجهول، وتجعله يقبل على العبادات والفرائض بنفس مطمئنة، ورضا وأمل كما انها تبعث الفزع والخوف في قلب الكافر لإختياره العداوة مع الله الذي له ملك السماوات والأرض.
ان رجوع الأمور كلها لله شاهد إضافي على عبودية وانقياد الخلائق كلها لله، وسبب مبارك للنظام الأكمل وعدم وقوع الظلم والتعدي، وان وقع فانه لن يستمر ولن يذهب سدى، بل يكون الرجوع الى الحساب والجزاء أمرا حتميا، ومتعقبا له.
والآية الكريمة زجر للناس عن اللجوء الى غير الله، لأن أمورهم وأمور غيرهم كلها بيد الله، فمن رحمة الله تعالى بالعباد ووجوه تهيئة أسباب العبادة والإنقطاع الى الله تعالى رجوع أمور العباد في تفاصيلها، وآثارها وعواقبها لله تعالى.
وفي الآية حجة على الكفار وانذار لهم، ودعوة لهم للإيمان لأنها تخبر بالدلالة الإلتزامية عن خسارة وعدم فلاح الكفار لأن أمورهم وأمور غيرهم بيد الله، والله عز وجل لا يفعل الا ما هو حسن ذاتاً وعرضاً.
وتدل الآية على ان الدنيا دار امتحان وامهال الى حين، ولابد من عودة الأمور كلها لله ومن الأمور الدنيا وانقضاء أيامها، وكل يوم ينقضي ترجع الأعمال والحوادث التي جرت فيه الى الله تعالى.
فتكون وفق القياس الإقتراني كالآتي:
الكبرى: كل الأمور ترجع الى الله
الصغرى: الحياة الدنيا وما فيها من الأمور
النتيجة: الحياة الدنيا وما فيها ترجع الى الله.
وجاءت الآية بذكر اسم الجلالة مرتين، فلم تقل الآية (وله ترجع الأمور)، واصل الضمير انه يوضع للإختصار وفيه نوع بلاغة، والقرآن هو إمام البلاغة، وفي قوله تعالى [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ] ( )، ذكر ان فيها خمسة وعشرين ضميراً.
والأصل ان يؤتى بالضمير المتصل، ولا ينتقل الى المنفصل الا لعدم كفاية المتصل في تحقيق المعنى والقصد.
وتكرار اسم الجلالة في المقام آية إعجازية تتضمن دلالات عقائدية الى جانب البلاغة والبيان، من وجوه:
الأول: لقد أراد الله عز وجل التوكيد على انه الأول والآخر، وابتدأ الخلق بارادته ومشيئته، واليه سبحانه تعود ألاشياء كلها.
الثاني: ان السماوات والأرض وما فيها مأمورة بالعودة الى الله تعالى.
الثالث: ورد قوله تعالى [إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ست مرات في القرآن وليس فيها الاشارة بالضمير (واليه ترجع الامور).
و هذا الشطر من الآية قاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهو ثابت منذ اصل الخلق والتكوين، ولعله ثابت في الكتب السماوية بهذا اللفظ على نحو الحصر والنص المفيد للبيان، وقد ورد في سورة الحديد قوله تعالى [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ).
فمع مجئ الضمير في قوله تعالى [لَهُ مُلْكُ] فان خاتمة الآية جاءت بذكر اسم الجلالة، وورد قوله تعالى [قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ).
وفيه ذم للكافرين، وبعث للسكينة في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وإشارة بان المراد من رجوع الأمور اعم من العاقبة.
قانون رجوع الأمور الى الله
لقد ثبت ان الله خالق الأشياء والخلائق كلها وليس من شئ في الوجود الا وهو رشحة من رشحات الباري عز وجل، وفضل منه تعالى ومن مصاديق الربوبية المطلقة لله تعالى بقاء الخلائق بحفظ الله عز وجل لها، فهو الذي يجعلها مستديمة باقية، اذ يتعذر بقاؤها من غير مدد ولطف إلهي.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن حقيقة أخرى تتعلق بالأمور وخواتيمها، وخواتيم الأشياء وعائدية كل شيء الى الله عز وجل في موضوعه وحكمه، فليس من فصل للأمور الا بيد الله، وهذا الحصر عنوان إضافي لإنعدام الشريك، وشاهد على إنحصار الربوبية بالله تعالى، وعدم وجود سلطان لأحد غيره في شؤون السماوات والأرض، ودليل على إنقياد الأشياء كلها لله، ودعوة لكل إنسان للهداية والإيمان، وإجتناب الجحود والكفر.
وجاءت الآية بصيغة الإستغراق والعموم بقرينة الألف واللام في الأمور، وفيه خطاب للإنسان مطلقاً بان أمرك وأمر غيرك راجع لله تعالى.
ولا ينحصر موضوع الآية بخواتيم الأشياء بل يشمل الأحوال العامة، فمن ضمن الأمور أحوال الناس، وأمورهم وأرزاقهم وتقلبات حياتهم، فكل شأن من شؤون الإنسان هو بيد الله عز وجل حدوثاً أو عدم حدوث، وإستدامة وبقاء أو زوالاً وانقطاعاً، فيجتهد الإنسان في الحياة الدنيا لنيل الأماني والغايات، ويبذل وسعه لجلب مصلحة أو دفع مضرة.
فتأتي هذه الآية لتخبره بان الغايات لا تتحقق الا باذن الله، ومن أراد شيئاً او سعى لنيل بغية فعليه ان يدرك حقيقة ثابتة وهي ان المشيئة لله تعالى، وان الأمور لا تتم الا باذن منه سبحانه، وتؤكد الآية مضامين خواتيم الأمور، وان كل شيء من المخلوقات له أجل هو بالغه، وهذا الأجل باذن الله عز وجل، وتكون نهاية وعودة الأشياء لله تعالى، وفيها رحمة بالناس والخلائق.
فليس من أحد يظلم الناس بحجة ان عودتهم تكون اليه، واذا أدعى بعضهم كنمرود الربوبية فانه لا يستطيع إدعاء عودة الناس اليه، مما يفضحه ويجعل الناس يدركون قبح وزيف إدعائه، للإخبار بان عاقبة ورجوع الأمور لا يكون الا لله سبحانه، ومن الأمور الآثار الغيرية لعالم الأفعال.
ومن منافع رجوع الأمور الى الله سبحانه هو نشر البركات لفعل الخير، وإتساع أثره، وبيان حسنه الذاتي، ودفع أذى المنكر وحصر ضرره، والمنع من إتساعه، لذا ترى النفوس تميل الى الفعل الحسن، وتنفر من الفعل القبيح.
وفي الآية ثناء على الله تعالى ومدح له سبحانه لأن كل شيء يرجع اليه، وهذا الرجوع مناسبة لأمور:
الأول: الشكر لله تعالى على نعمة عودة الأمور اليه سبحانه.
الثاني: انه وسيلة للدعاء والمسألة، وطلب الحاجة من عند الله، وتبين الآية ان طلب الحاجة أعم من موضوع الإبتداء، فيشمل الإستدامة والثمرة والنتيجة فيسأل العبد الله عز وجل التوفيق في أموره وعمله، وحسن العاقبة.
الثالث: الرضا بقضاء وقدر الله عز وجل، لأن الأمور ترجع اليه، ولا تخفى عليه خافية.
الرابع: ان الله عز وجل أرحم الراحمين، ومن رحمته ان جعل خواتيم الأمور بيده سبحانه، لتكون على الوجه الأفضل والأتم، والأحسن للعباد.
ان رجوع الأمور لله عز وجل رحمة بالعباد، وجزء من حاجة الناس لله تعالى وتهيئة اسباب هذه الحاجة، اذ لا يستطيع احد قضاء حوائج العبد الا الله، وهو الكريم الذي يعطي بغير حساب، ويرزق من سأله ومن لم يسأله.
ومن كرمه انه لم يفوض للملائكة والأنبياء شؤون بعض الامور في عواقبها اليهم، بل ابقاها بيده لتنحصر الحاجة بالله عز وجل، وينتفع الناس من عدم اللجوء الى غير الله ومادامت الأمور بيدالله عز وجل فان الذي يلجأ ويستعين بغير الله عز وجل لا يحصد خيراً، لانه يطلب السراب.
لذا ترى الكافر يصاب بالخيبة والخسارة في الدنيا من اقرانه، ومن مصاديق الامور (الاعمال) فكل عمل عمله ويعمله الانسان في حياته هو من الأمور التي ذكرتها الآية، وفيه تنبيه وتحذير للناس كافة للاستعداد لعالم الآخرة، ودعوة للمسلمين لاقتناء الصالحات، والإكثار من الحسنات.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس في الحياة الدنيا، وجعل كل شيء فيها مسخراً لهم، يأخذون منها ما يحتاجون، وما لا يحتاجون اليه فضلاً من عند الله تعالى، ليكون هذا الأخذ وسيلة للصلاح والتقوى، ومناسبة للهداية والإيمان، وكما ان الأرض والسماوات وما فيهما من النعم آيات من بديع صنع الله عز وجل فان عالم الدنيا وجعلها مزرعة للآخرة من آيات الله عز وجل ولم يقدر عليها غيره سبحانه، وفيها دعوة للتدبر بالآيات والإعتبار والإتعاظ منها، فإذا كان الإنسان في سفر يكون غير مستقر، ويجتهد في الإعداد لعودته الى وطنه ويحسب الأيام والليالي للعودة، وقد يكون مبتهجاً في أول سفره ، ولكن حينما يطول عليه الأمس يسأم السفر، ويشتاق للعودة ويعد العدة لها، أما سفر الدنيا فان الإنسان لا يحب أن ينفصل عنها وعما فيه من النعم والمتعة، والرغبة بعدم مغادرة الدنيا ليس أمراً محرماً ولكنه يملي على الإنسان وظائف عقائدية وأخلاقية تتقوم بالشكر لله عز وجل على النعم وطول العمر والإمهال في الأجل واذا كان الإنسان يستطيع تحديد يأوان سفره وقطعه والعودة منه، فان سفر الآخرة خارج عن إرادته ويأتيه مباغتاً، ولا يدفعه الحذر وليس فيه رشوة أو بذل أو شراء، فأموال الدنيا كلها لا تمكن الإنسان من شراء دقيقة واحدة زيادة على الأجل، نعم فتح الله عز وجل باب الدعاء سلاحاً لقضاء الحوائج ونيل الرغائب، وجاءت خاتمة هذه الآية في الإخبار عن عودة الأمور كلها لله تعالى.
وتحتمل النسبة بين أول الآية وخاتمتها، وبين ملكية كل ما في السماوات والأرض لله وبين رجوع الأمور اليه سبحانه:
الأول: التساوي بينهما.
الثاني: العموم والخصوص المطلق وان أحدهما فرع الآخر.
الثالث: العموم والخصوص من وجه.
الرابع: التباين.
والصحيح هو الثالث، فمادة الإلتقاء الإخبار عن الملكية والربوبية المطلقة لله تعالى، وكل شيء عائد اليه راجع له سبحانه، واما مادة الإفتراق فيتعلق أول الآية بملكية الأشياء وجميع ما في السماوات والأرض أما خاتمتها فتشمل الأمور والوقائع والأحداث وفيه إشارة الى ان الظالم لم يفلت من الحساب، ولو شاء الله لمنعه من الظلم وحال بين الإنسان وبين الظلم والكفر والتعدي مطلقاً، وإذ بينت الآية عودة ملكية ما في السماوات والأرض لله إبتداء وإستدامة، وجاءت الخاتمة لتخبر عن عواقب الأمور، وخواتيم الأشياء في دلالة على ان اله عز وجل هو الأول والآخر وان كل شيء يعود اليه، وفيه تفسير لقوله تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
فلا يعني فناء الأشياء زوالها بل عودتها الى الله تعالى والقدر المتيقن من الفناء في المقام هو إضمحلالها وإنقراضها وزوالها في الحياة الدنيا وليس مطلقاً وجاءت الآية في مدح الله عز وجل وبيان عظيم سلطانه وحكمه.
علم المناسبة
الأمور سور جامع للذوات والأشياء والأفعال من غير تقييد بماهية وشرط مخصوص، ومن الآيات ان تأتي الآية بصيغة الإطلاق في الموضوع والمحمول، أما الموضوع فانه ما من شيء او فعل يتخلف عن الحضور بين يدي الله عز وجل، وأما المحمول فان رجوع الأشياء جميعاً الى الله على نحو العموم الاستغراقي، وهل تحضر الأشياء والذوات يوم القيامة بصورة دفعية أم تدريجية، الجواب: هو الأول لإطلاق الآية وعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وعدم وجود تخصص او دليل على استثناء بعض الأفراد منها.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المبني للمجهول (ترجع) فهل ترجع الأمور يوم القيامة الى الله طوعاً أم انها تحضر كرهاً، الجواب: انها تحضر بأمر الله عز وجل ومشيئته، وتدل صيغة الفعل على حض ورها كرهاً وانطباقاً، وعدم إمكان تخلف بعضها، مما يعني ان الكافر لا يستطيع الفرار او التأخر او التباطئ في الحضور بين يدي الله عز وجل للحساب، كما ان الأفعال والأشياء جميعاً لا تستطيع الغياب او الإختفاء، وتدل الآية في مفهومها ان جميع الأشياء والأفعال موجودة غير غائبة لم ولن تتعرض للمحو او الزوال او التبديل او التغيير، بل تحضر يوم القيامة بذات الماهية التي كانت لها في الدنيا.
وجاء القرآن بالإخبار عن كون عاقبة وخواتيم الأمور لله تعالى مرتين، قال سبحانه [وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( )، كما جاء بصيرورة الأمور جميعها لله تعالى، قال سبحانه [لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ]( ).
بحث بلاغي
من صيغ الاطناب “الإيغال” والمراد منه ختم الكلام بنكتة يتم المعنى بدونها، وتأتي خواتيم الآيات لتوكيد معاني الآية ومافيها من المضامين، بالإضافة الى مافيها من الدلالات الخاصة.
فجاءت الآية بالأخبار عن ملكية ما في السماوات والأرض لله تعالى، مما يعني ان الأمور كلها بيد الله، وهو الذي يفعل مايشاء، وقد ينشغل الانسان بالدنيا وما فيها من وجوه الافتتان، ويلهث وراء زينتها وكأنها باقية له.
فتأتي هذه الآية لتذكره بحقيقة وهي عدم امكان نيل شئ من حطام الدنيا او نعيم الآخرة الا بمشيئة الله، وتؤكد رجوع الإنسان في الآخرة لله تعالى.
ومن منافع خاتمة الآية تحدي الكافرين وإخبارهم بزوال سلطانهم وما يملكون.
والشواهد التأريخية تدل على صدق الآية ومافيها من الإعجاز فليس من ملك مستقر بيد الناس وان حصل فيه توارث وتعاقب فلابد ان ينتقل الى الغير، وهذا الانتقال ليس تسلسلاً ثابتاً بل هو من المنقطع، اذ يعود في النهاية الى الله تعالى.
ومن الشواهد مرور الانسان على الاطلال، وآثار المدن فلا يرى أثراً لأهلها وأيامهم الخالية، وان بقي له ورثة بين الناس فليس من ملك ينتفع منه، ولكن الأعمال التي عملوها كلها حاضرة عندالله عز وجل لن تغيب عنه.
ورد لفظ (الأمور) بلغة الجمع ثلاث عشرة مرة، منها ست مرات وردت بذات الصيغة التي جاءت بها هذه الآية [َإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] وتدل هذه الكثرة على لزوم العناية بهذه القاعدة الكلية، وانها حقيقة ثابتة لابد من الإلتفات اليها، وإستنباط الدروس منها، واتخاذها وسيلة للصلاح والارتقاء في سلم التقوى، فمتى ما ادرك العبد ان أموره كلها ترجع الى الله فانه يستحي منه، ويتجنب غضبه وعدم رضاه، وجاءت الآية هنا ضمن سياق الإخبار والإعلام والجملة الخبرية بان ملك كل شئ لله تعالى.
وجاءت في آية اخرى خطابا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
وفيه بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، واشارة الى ظهور وانتصار الاسلام، والحاجة لاتخاذ قصص الأمم السابقة مناسبة للإعتبار، ووسيلة للدفاع عن الاسلام، وقال تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( )، في دلالة على علم الله عز وجل بالوقائع والاحداث، وما يجري بين المسلمين والكفار من القتال والمحاربة، والمدد الإلهي للمسلمين.
ومن الشواهد على رجوع الأمور له سبحانه تحقيق النصر للمسلمين في المعارك، وفي الآية اشارة الى الثواب والعقاب، وحسن عاقبة من ينال الشهادة من المسلمين لان امره بيد الله فيجعله خالداً في الجنة.
وتبعث خاتمة الآية الغبطة والسرور في قلوب المسلمين، ليروا كل إنفاق في الدنيا ربحاً وفوزاً لانه تجارة مع الله، قال تعالى [لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( ).
كما وردت آيتان بالإخبار عن رجوع الأمور في خواتيمها الى الله تعالى، قال سبحانه [وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] ( )، وفيه دعوة للمسلمين للصبر، وانتظار الفرج، ودلائل النصر، وفي النسبة بين قوله تعالى [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] وقوله تعالى [وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] وجهان:
الاول: التساوي، وان المراد من رجوع الأمور هو خواتيمها وعواقبها.
الثاني: العموم والخصوص المطلق فرجوع الامور اعم من عواقبها، لان عواقب الامور جزء عائديتها لله تعالى.
والصحيح هو الثاني فرجوع الامور اعم، ويتعلق بمواضيعها واحكامها ابتداء واستدامة وعاقبة.
قانون اجتماع الملك والعاقبة
جاءت الآية بحقيقتين من الإرادة التكوينية التي لا تقبل التغيير وليس للانسان فيها شأن مع انه من الأفراد التي تشملها مضامين أحكام كل واحدة منهما، وهما:
الأولى: الملك المطلق لله تعالى.
الثانية: الأمور بيد الله تعالى.
اما عدم إمكان تصرف الإنسان فيهما فمن وجوه:
الأول: الإنسان ملك لله.
الثاني: أمور الإنسان بيد الله تعالى.
الثالث: عاقبة ورجوع الإنسان الى الله تعالى.
الرابع: وقوف الإنسان بين يدي الله للحساب.
ويتعلق الملك بالاعيان والجواهر والأشياء، اما الأمور فهي اعم وتشمل أيضاً عالم الأعمال والعقائد، كما تشمل في المقام على نحو الخصوص المعدوم وما تعرض للتلف والزوال، وهو خارج عن تعريف ومعنى الأمور الاصطلاحي ولكن الآية تشمله، فكل ما إنقرض وزال وإضمحل وانمحى، يعلمه الله عز وجل ويرجع اليه سبحانه.
وتضمنت الآية الجمع بصيغة الإطلاق بين كل من:
الأول: ملك السموات والأرض، فليس من شئ فيهن الا ويعود في ملكه وشؤونه الى الله تعالى.
الثاني: كل أمر وشأن وحادثة ترجع الى الله تعالى، ولا ينحصر هذا الرجوع بالخاتمة والنهاية بل يشمل الإبتداء والإستدامة موضوعا وحكما، وهو من معاني الإنقياد لله تعالى، وتغشي احكام المشيئة الإلهية الخلائق كلها.
والأمور جمع (امر) وليس من أمر يحصل في السماوات والأرض الا بمشيئة واذن الله تعالى، وكل أمر هو آية من بديع صنع الله، وهناك مسألتان:
الأولى: هل ارتكاب الانسان المعصية يحصل بمشيئة الله.
الثانية: هل فعل المعصية آية من آياته سبحانه.
اما الاولى فقد اراد الله عز وجل للحياة الدنيا، ان تكون دار امتحان واختيار، ولو شاء الله ما عصى احد من الناس الله عز وجل، واما الثانية فلا، وتتجلى آيات الله عندئذ بوجوه:
الأول: إمهاله للكافر، وعدم مؤاخذته على جرمه وذنبه ساعة ارتكابه.
الثاني: توالي الآيات والبراهين ومضامين اللطف الإلهي التي تقرب الناس من الطاعة وترغبهم بالهدى، وتجعل نفوسهم تنفر من المعصية، ولا يخرج من مضامين اللطف هذه فرد من الناس لابالتخصص ولابالتخصيص أي انها تشمل الكافر ومرتكب المعصية.
الثالث: اتصال رحمة الله على الانسان مطلقاً، البر والفاجر، فنزول الرزق الكريم من عندالله عز وجل وسيلة للتذكير بالنعم الإلهية، ودعوة للإقلاع عن المعصية.
الرابع: رجوع الأمور الى الله تعالى، فهو سبحانه لا يخاف الفوت، ولا يهرب منه احد.
الخامس: امهال العبد شاهد على حلم الله تعالى، ودعوة للناس للتراحم فيما بينهم.
ومن دلائل انحصار الملك بالله تعالى الملكية المطلقة وعاقبة الامور له سبحانه، فليس من شئ الا وهو ملك لله، ويرجع في موضوعه وحكمه وخاتمته لله تعالى، مما يعني ان ملك الله لا يفنى ولا يزول، وهو من اسرار هذه الآية الكريمة، وما تدل عليه من طرد الوهم بزوال بعض من ملك السموات او الأرض، وفيها توكيد لبقاء وثبات ملك الله الى يوم القيامة، ويتعرض ملك اهل الدنيا الى الزوال ليرجع الى ملك الله تعالى، من وجوه:
الاول: يهلك المالك وينتقل الملك من بعد موته الى اجل معين.
الثاني: يفنى المال والملك في حياة المالك، ويبقى المالك يندب حظه، ويتحسر على ما فقده وخسره.
الثالث: اقتران ضياع الملك بموت المالك، كما لو هدمت الدار على ربها، وما يحصل في الزلازل والفيضانات والحروب المدمرة الحديثة، الرابع: تخلي المالك عن ملكه، كما لو دار الأمر بين محافظته على المال والملك وبين نجاته فاعطى الأولوية لسلامته ونجاته.
الخامس: استحواذ سلطان ظالم، والظالم مطلقا على مال وملك الغير بغير الحق.
ولكن ملك الله عز وجل باق، وسلطانه دائم، وتعجز الخلائق عن الإستحواذ على شيء من ملكه، وكل شئ يعود اليه بما فيه المالك والملك اللذان يتعرضان للزوال والفناء.
ومن الآيات ان زوال الملك والمالك لا يتعارض مع حضورهما الدائم عندالله عز وجل، ليقف الملك شاهداً على المالك يوم القيامة في كيفية اقتنائه والتصرف فيه، واداء حقوقه الشرعية او عدمها، وموارد الإحسان او الظلم فيه.
قانون الملازمة بين كنوز القرآن وكنوز السماوات والأرض
ان آيات الله أكثر من ان تحصى، فقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] الذي جاء في الآية السابقة لا يعني حصر الآيات بآيات والفاظ القرآن، بل هناك آيات حسية عظيمة تتجلى في السماوات والأرض وملكيتها، أي تكون الآيات كالآتي:
الأول: آيات القرآن الذي تنزل على نحو التلاوة.
الثاني: السماوات السبع.
الثالث: ما في السماوات من الملائكة والموجودات والخلائق.
الرابع: الأرض.
الخامس: ما في الأرض ومنها الإنسان والحيوان والنبات.
السادس: رجوع الأمور كلها لله تعالى، وعدم تخلف بعضها.
وغيرها من الآيات التي لا يعلمها إلا الله.
ومن الآيات ان كلاً من السماوات والأرض فيها كنوز عظيمة أكثر من أن تحصى، وكذا القرآن فان كنوزه وذخائره لا حصر لها، من وجوه:
الأول: انه جامع للعلوم.
الثاني: فيه تبيان لكل شيء.
الثالث: انه مادة الإرتقاء في المعارف الإلهية.
الرابع: القرآن إمام للناس، يقودهم في سبل الهداية والصلاح.
الخامس: القرآن وسيلة النجاة في الآخرة.
والصلة بين كنوز كل من القرآن والسماوات والأرض على وجوه منها:
الأول: التجدد في كنوزها، فتطل عليك في كل حين كنوز متجددة من كنوزالأرض والسماء والقرآن.
الثاني: دلالة كل واحد من الكنوز على وجود الصانع.
الثالث: كنوز السماوات والأرض والقرآن شاهد حاضر على رحمة الله بالناس جميعاً، فمن رأفته ورحمته تعالى تعدد الكنوز والخزائن السماوية والأرضية وجعلها في متناول الإنسان وعدم استهلاك الأجيال السابقة لها، وحرمان الأجيال اللاحقة منها، فكما ان خزائن القرآن لا تنفد، فكذا خزائن السماوات والأرض باقية ومتجددة.
الرابع: الكنوز الثلاثة دعوة للناس للتوجه بالشكر لله، وحث على وجوب طاعته، ولزوم عبادته والتقيد بأوامره ونواهيه.
الخامس: انها دليل على عظيم قدرة الله تعالى، وانه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
السادس: لقد أراد الله عز وجل للناس ان يعيشوا وسط كنوز وخزائن عقلية ومادية وحسية لأنه سبحانه الكريم الجواد.
السابع: الملك المطلق دليل السلطان والقوة والمنعة، وهو الأمر الذي ينفرد به الله سبحانه.
الثامن: جاءت هذه الآية متعقبة لخاتمة الآية السابقة التي تنزه مقام الربوبية وتنفي الظلم عن الله عز وجل، فالله الذي له ملك كل شيء واليه ترجع الأمور لا يظلم أحداً من عباده، والظلم عنوان للحاجة والنقص، وكل إنسان محتاج، ومنهم من يختار الظلم لسد حاجته وبلوغ غايته، والله عز وجل هو الغني الذي لا يحتاج أبداً، فهو غني عن الناس وظلمهم.
وفي خاتمة هذه الآية [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] إشارة الى ما جاء في الآية السابقة من تلاوة الله لآياته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوة للناس للأخذ بها، وحث للناس جميعاً للرجوع الى القرآن، وهذا الرجوع واقية وحرز يوم ترجع الأمور كلها لله تعالى.
لقد أراد الله عز وجل لكنوز القرآن ان تكون صلة بين الإنسان وخالقه، ووثيقة سماوية تحفظ افراد الفرائض وكيفيتها وأوانها، وهي صلة بين العبد وكنوز السماوات والأرض، ووسيلة للإهتداء اليها والإنتفاع الأمثل منها، وإدراك حقيقة وهي ان هذه الكنوز فضل من عند الله عز وجل.
ومن الآيات كشف كنوز القرآن لخزائن السماوات والأرض، وهو شاهد سماوي على ملكيتها لله تعالى، وكذا فان خزائن السماوات والأرض دليل على نزول القرآن من عند الله لما فيه من الإعجاز والإخبار عن غيب السماوات والأرض وملكيتهما وما فيهما لله تعالى.
وكنوز السماوات والأرض وسيلة مباركة للتصديق بنزول القرآن من عند الله، الأن أي كشف فيها شاهد على إعجاز القرآن وصدق إخباره عن الغيب.
وجاءت خاتمة هذه الآية [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] حكماًثابتاً ومطلقاً ويتضمن الوعد والوعيد، الوعد للمسلمين بالثواب والأجر الحسن يوم القيامة، لتصديقهم بآيات الله وعملهم بأحكامها، والوعيد للكافرين بالعذاب الأليم لجحودهم الآيات وصدودهم عن النبوة وإصرارهم على الكفر.
بحث بلاغي
بدأت الآية بالجار والمجرور، وجاء حرف الجر اللام لارادة الملكية والاختصاص [للَّهُ مَا] في دلالة على حصر الملك بالله تعالى وانه ليس من مالك غيره، اما (ما) فهي على شعبتين:
الاولى: الإسمية: ولها معان متعددة وهي:
الاول: ترد( ما) موصولة بمعنى الذي، واكثر استعمالها فيه، وتأتي للمفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، وتكون معرفة نحو قوله تعالى [قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
الثاني: استفهامية: بمعنى أي شئ، ويؤتى بها للسؤال عما لا يعقل وجنسه وصفاته مثل قوله [يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا] ( )، [وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ]( ).
واذا جاءت مجرورة تحذف الألف، وتبقى الفتحة دليلاً عليها للتفريق بينها وبين (ما) الموصولة نحو [قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ] ( ).
الثالث: اسم شرط ويكون في محل مفعول به مقدم لفعل يأتي بعدها ومنه قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( ).
الرابع: تأتي نكرة بمعنى شئ وتفيد التعجب وتسمى (التعجبية) ومحلها الرفع بالابتداء كما في قوله تعالى [مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] ( ).
الثانية: الحرفية: وهي على اقسام اذ ترد مصدرية زمانية وغير زمانية، وتأتي نافية تعمل عمل ليس مثل [مَا هَذَا بَشَرًا] ( )، او غير عاملة بالفعل الذي بعدها كما في قوله تعالى [وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ]( ).
وجاءت (ما) في قوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] اسماً موصولاً مبتدأ مؤخراً، لإفادة الإطلاق في الملك، وأن كل ما في السموات والأرض لله تعالى.