معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 76

المقدمة
الحمد لله الذي جعل رحمته ولطفه بالعباد من اللامتناهي الذي ليس له حد ولا رسم , والحد التام هو المشتمل على الجنس القريب، والفصل القريب، كما يقال في تعريف الإنسان أنه حيوان عاقل، والرسم التام هو بيان صفات وخصائص مضافة إلى الذات لا تفصل بينها وبين سائر الأنواع.
وكما إعترف الفلاسفة بالعجز عن الإحاطة والحصر للحد التام للأشياء لأنه يتقوم بكشف ذاتيات الأشياء وهو أمر يتخلف العقل الإنساني عن دركه، الذي هو بذاته ممكن محتاج، لذا فإن التعريف بالحد التام نوع مسامحة، ويتجلى بوضوح في باب رحمة الله فإن أوهام البشر لا تستطيع الإحاطة بماهيتها وحقيقتها، وفيه دليل على عظيم قدرة الله، وسعة رحمته.
لتكون رحمة الله شاهداً على إحاطته علماً بكل شيء ووسيلة لجذب الناس للإيمان , وفي التنزيل ورد حكاية عن حملة العرش من الملائكة[رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا]( ).
وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل : زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سموات، وأنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع( ))( ).
ومع إنقطاع حملة العرش والملائكة مطلقاً إلى التسبيح , فإنهم يستغفرون الله عز وجل إلى التائبين وعموم المؤمنين، لأن الله يحب أهل التوبة[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( )،
أي أن الملائكة لم يستغفروا إلا لعلمهم بأن الله عز وجل يرضى بهذا الإستغفار ويأذن به.
لتكون الآية أعلاه على وجوه:
الأول: إنها مدرسة متجددة في رحمة الله.
الثاني: الآية لطف من الله عز وجل بالمسلمين.
الثالث: في الآية إخبار عن كنز من كنوز السموات مدخر لأهل الإيمان.
الرابع: الآية باعث على الأمل بالفوز بالسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة إذ أن المغفرة مطلوبة بذاتها ولغيرها في موارد جلب المنفعة , ودفع البلاء والضرر الذي يترتب على التلبس بالمعاصي، والإصرار على الذنوب.
وتبعث الآية من القرآن على التوبة والإنابة، والتلبس برداء الإيمان، وإتخاذه طريقاً للهداية والفلاح، وفي التنزيل[وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ]( ).
وهذا البعث على وجوه:
الأول: دلالات الآية القرآنية على نحو مستقل بلحاظ التكامل في اللفظ والمعنى في ذات الآية القرآنية.
الثاني: شطر الآية القرآنية الذي يختص بموضوع أو حكم مستقل.
الثالث: صلة الآية القرآنية مع غيرها من آيات القرآن، وليس من حصر للعلوم المستقرأة من هذا الوجه، وبه جاءت الثورة العلمية التي في هذا السِفر المبارك والتي لم تطرأ في التصور الذهني، إذ أن أجزاءه تصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين جزء وفق هذه المنهجية , وعلى العلماء في الأجيال اللاحقة بذل الوسع لإتمام الأجزاء والتوسعة فيها كماً وكيفاً، وإبتداع وإستقراء سبل وأبواب من التفسير أعم وأكثر نفعاً.
وفيه شاهد على الحاجة لجامعات خاصة بعلوم القرآن، ومؤسسات كبيرة تضم كل واحدة نخبة توليدية من العلماء في الإختصاصات المتعددة يتولون دراسة وتفسير الآية القرآنية، وصلتها بآيات القرآن الأخرى لتتجلى كنوز لامتناهية من رشحات سياق الآيات، قال تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي]( ).
ومن رحمة الله عز وجل في هذا التفسير قيامي بكتابته وتصحيحه ومراجعته بمفردي لا يساعدني فيه إلا ولدان يطويان الليل مع النهار في تنضيد وكتابة أجزاء التفسير، وليس من مدد وعون إلا من الله عز وجل، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ويتجلى عدد الملايين من الأجزاء في هذا التفسير بلحاظ ما صدر من أجزائه في سياق الآيات فإذا كان هذا الجزء يتضمن صلة سبع آيات بآية واحدة وهي آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ), ومنها صلة الآية السابعة والتسعين.
فإن أفراد الصلة بين الآيات بلحاظ مجموع آيات القرآن هو 6236×6235=460,881, 38 مع رجحان السعة والزيادة في الأجزاء اللاحقة بفضل وفيض من الله عز وجل.
لقد أطل على أهل الأرض زمان العولمة بالإرتقاء التقني والتقارب بين البلدان، وغزو الإعلام والترجمة وأخبار العالم كل بيت من بيوت المعمورة.
لتكون تلاوة كل مسلم ومسلمة لقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، على نحو الوجوب العيني عدة مرات في الصلاة اليومية على وجوه:
الأول: فيها حرز واقية من الأضرار العرضية للتداخل بين أمصار وشعوب الأرض.
الثاني: إنها دعوة لأهل الكتاب للجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو كلمة التوحيد، وشهادة لا إله إلا الله).
الثالث: إنها زجر للكفار عن الضلالة والجحود والإستكبار.
ومن الأسرار في هذا الجزء تضمن آياته الخطابات لأهل الكتاب، ومرة يأتي الخطاب من الله عز وجل[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ]( )، وأخرى يأتي النداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخاطبهم[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ].
وتبين هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة رحمة الله عز وجل في ذخائر وفلسفة الخطاب القرآني، ومنزلة أهل الكتاب في هذا الخطاب، ودعوة المسلمين للتفقه في الدين، ومعرفة مقامات أهل الملل الذين يتبعون الكتاب السماوي.
وجاءت أربع آيات من آيات هذا الجزء في نفي دعوى اليهود والنصارى نسبة إبراهيم إليهم، بقوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا]،
ومن إعجاز القرآن أن تلك الدعوى لم ترد فيه بالذات، ولكن ورد فقط نفيها وإبطالها بالحجة والبينة التأريخية.
وتتبين أسرار وموضوعية هذا البيان والنفي لأن المقاصد من تلك الدعوى أعم، والمراد منها صدّ الناس عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]( ).
وفيه آية في تأديب المسلمين وإرشادهم إلى صيغ المعاملة مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى بلغة الجدال والحجة والبينة، وعدم اللجوء إلى الشدة والقسوة في الرد عليهم، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وكأن الآية أعلاه نزلت في هذا الزمان لحاجة المسلمين وغيرهم لها بلحاظ التداخل بين الشعوب وتجلي المبادئ والمفاهيم، وفيها دفع للنفرة والكدورة، وتدل مضامين آيات هذا الجزء وحسن جدال المسلمين مع أهل الكتاب على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله.
والجدال بالأحسن برزخ دون غلبة النفس الشهوية والغضبية، وعصمة من الزلل، قال تعالى[وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ]( ).
ليرتقي المسلمون في مدرسة القرآن في الجدل والإحتجاج والبرهان وفضح المغالطة في الجدل وهي المجيء بوهميات لا أصل لها لتكون مقدمات يتبين مع أدنى تأمل أنها ليست من المشهورات ولا من الأمور المحسوسة.
ومن الآيات في نبوة محمد هجرته إلى المدينة المنورة بعد أن لاقى وأهل بيته وأصحابه شتى صنوف الأذى من كفار قريش.
ومنها وجود طائفة من اليهود في المدينة قبل وبعد الهجرة ليكون الإحتجاج والجدال معهم ضياءً ينير دروب الصلاح للمسلمين، ومرتكزاً للصلات مع أهل الكتاب، وإعطاء الأولوية فيها للغة البرهان والدليل والمناظرة.
روى العياشي بإسناده رفعه إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يقال له حداد.
فقالوا حداد و أحد سواء فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء و بعضهم بفدك و بعضهم بخيبر فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه و قال لهم أمر بكم ما بين عير و أحد فقالوا له إذا مررت بهما فأذنا بهما فلما توسط بهم أرض المدينة قال ذلك عير و هذا أحد.
فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا.
فكتبوا إليهم : أنا قد استقرت بنا الدار و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أمنهم فنزلوا عليه.
فقال لهم إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلا مقيما فيكم فقالوا له ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي و ليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده و نصره فخلف حيين تراهم الأوس و الخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم.
أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى [وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا] إلى آخر الآية) ( ).
والصلة بين آيات هذا الجزء تأديب للمسلمين، وصفحة مشرقة في حسن السمت، والرفق بأهل الكتاب، وتذكيرهم على نحو يومي متجدد بوجوب التقيد بسنن التوحيد التي جاء بها الأنبياء جميعاً، قال تعالى[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ]( ).

صلة قوله تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت كل من الآيتين بلغة الخطاب، وجاءت آية البحث خطاباً تشريفياً للمسلمين وفضلاً عليهم، وضياء ينير لهم سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويتضمن أموراً:
الأول:الثناء على المسلمين والمسلمات.
الثاني:نعت المسلمين بانهم أمة واحدة متحدة، ويستقرأ من وصفهم بأنهم(خير أمة) أن هذا الإتحاد في مرضاة الله، وهو من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الثالث:ذكر الخصال الحميدة للمسلمين التي يمتازون بها على أهل الملل الأخرى، ومن الآيات أن الإنتماء للإسلام مفتوح في آنات الليل والنهار، وتصاحب الإنسان هذه الدعوة إلى حين مغادرته الدنيا، وليس بينه وبين نيل مرتبة الإنتساب لخير أمة إلا النطق بالشهادتين.
الرابع:جاء تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم بقوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ليكون هذا التفضيل لطفاً وفضلاً من عند الله عز وجل، وإمتحاناً وإختباراً، بينما جاء الثناء على المسلمين بالإخبار السماوي عن بلوغهم مرتبة(خير أمة) وفيه آية بعصمتهم من اللوم والتوبيخ القرآني، فاذا جاءت صيغة لوم للمسلمين فلابد من توجيهها على وجوه:
الأول: ما فيه نفع وصلاح المسلمين لمنزلة الإمامة.
الثاني: تعاهد المسلمين لمقامات(خير أمة).
لثالث: إمتلاك المسلمين ومقومات خروجهم للناس بلواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وجاءت آية السياق بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص، ليشمل المسلمين والمسلمات بالتبعية والإلحاق، وتقديره: قولوا يا أهل الكتاب.
وتدل على هذه العموم خاتمة آية السياق[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ].
وفيه شاهد على إكرام المسلمين ودليل على بلوغهم مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ] من وجوه:
الأول: شمول المسلمين والمسلمات بالخطاب الإلهي المتوجه لخاتم النبيين وسيد المرسلين.
الثاني: دعوة المسلمين ليخاطبوا أهل الكتاب بالدعوة إلى الإيمان، فكما أن شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة للشرائع وليس من ناسخ لها، فكذا يدعو المسلمون أهل الكتاب والناس إلى التوحيد وعبادة الله،
ولا يأتي يوم من الدنيا يكون فيه من يدعو المسلمين للإيمان لأنهم لم ولن يغادروا منازله , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( )، وهو من البشارات التي في ثنايا خطاب التشريف الذي خصهم الله عز وجل به[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لما في صيغة الماضي من الثبات والإمضاء، وليس من شهادة تنبسط على أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل إلا شهادة الله عز وجل، وفي التنزيل[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
الثالث: دلالة مضامين آية السياق على تأكيد لزوم عبادة الناس جميعاً لله، وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
الرابع:تأكيد حقيقة وهي أن آية البحث أصل، تتفرع عنه وظائف عقائدية وعبادية كثيرة ومتجددة، ليس لمصاديقها الملقاة على عاتق المسلمين من نهاية وحد ومنها أمور:
الأول: الخطاب والإحتجاج على أهل الكتاب في الأصول والفروع.
الثاني: تنمية ملكة الجدال والنقض والإبرام عند المسلمين.
الثالث: توارث المسلمين لصناعة البرهان , ويتجلى هذا التوارث بتلاوة آيات القرآن، وما يترشح عنها من العلوم.
الرابع: تأهيل المسلمين للمناظرة المستمرة وترك المراء، النقض والإبرام.
والنسبة بين الجدال والمراء هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الخصومة ومحاولة الغلبة، ومادة الإفتراق أن المراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره .
الثانية: لقد بلغ المسلمون مرتبة(خير أمة) بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده في سبيل الله، ومجيئه بأحكام الشريعة المتكاملة، وإتخاذه كل آية من القرآن نبراساً وضياء، ومدرسة مباركة في الدعوة إلى عبادة الله، وإقامة الحجة على الذين يتخلفون عن وظائفهم العبادية وبالإسناد عن الربيع:قال أبو العالية:كلمة السواء: لا إله إلا الله( ).
وهل يصح القول أن المسلمين بلغوا مرتبة(خير أمة) باتباعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب نعم، فهو صاحب الكمالات الإنسانية الذي إنفرد بالخطاب لأهل الكتاب بدعوتهم إلى الإيمان، بعد أن كانوا يتفاخرون على المشركين بنسبتهم إلى الكتاب السماوي وعملهم بالتوراة والإنجيل.
فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الناسخة، والكاشفة للتحريف، وتوجه بالخطاب للناس جميعاً مجتمعين ومتفرقين، وخصت آية السياق والآيات التي بعدها أهل الكتاب بالخطاب والدعوة إلى الإسلام بالمنطوق والمفهوم.
فمثلاً جاءت آيتان متعاقبتان كل واحدة منهما خطاب لأهل الكتاب بصيغة اللوم[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]( )، [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( )،
وهذا التعدد من أسرار تسمية السورة بسورة(آل عمران) وما فيه من الإعجاز والدلالات.
الثالثة:لقد وصفت آية البحث المسلمين بأنهم (خير أمة) أما آية السياق فانها لم تصف اليهود والنصارى بأنهم أمة، بل ذكرتهم بصفة الإنتساب إلى الكتاب السماوي لعدم تحقق صفات الأمة والإتحاد والجماعة الواحدة عليهم، وفي التنزيل[قَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ]( ).
وهل المقصود من هذا اللفظ إفرادهم بالخطاب والدعوة إلى إظهار معاني التوحيد من بين الناس،
الجواب نعم، ولكنه ليس علة تامة لهذا الوصف، بل إنه يتضمن أموراً:
الأول: مدح أهل الكتاب، بالمقارنة مع غيرهم من أهل الملل والنحل بأنهم إتبعوا الكتاب السماوي.
الثاني:جعل المائز بين الناس هو الكتاب والتنزيل.
الثالث:دلالة خطاب ( ياأهل الكتاب) في مفهومه على ذم الكفار والمشركين، فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أهل الكتاب إلى كلمة جامعة بين المسلمين وبينهم وهي التوحيد , فان الكفار لا يقبل منهم إلا الإسلام، والنطق بالشهادتين، لذا جاء فرض الجزية على أهل الكتاب لإدخالهم في ذمة المسلمين، وتعاهد أمنهم وسلامتهم وأموالهم في الدولة الإسلامية دون المشركين الذين لا تقبل منهم جزية أو بدل للزوم هجرانهم الضلالة، وتوبتهم من الشرك، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ] ( ).
الرابع:تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة المائز بين الناس بلحاظ الكتاب السماوي.
الخامس:تأكيد حقيقة وهي أن المسلمين(خير أمة) لأنهم إتبعوا القرآن الكتاب السماوي الجامع للأحكام الشرعية، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وجاء ذكر البيان في مضامين التوراة ولكن على نحو الموجبة الجزئية، قال تعالى[وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً] ( )، والمراد ألواح التوراة، وهو المروي عن ابن عباس( ).
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال : كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح( ).
وقد نزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبرئيل عليه السلام نجوماً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وتفضل الله وجعله آيات وسوراً تنزل بالتعاقب قال تعالى[لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ]( ).
ويفيد حرف الجر (في) في الآية أعلاه التبعيض، بينما جاء الإطلاق في علوم القرآن بقوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
السادس: بعث اليهود والنصارى على العمل بمضامين الكتاب الذي ينتسبون إليه، والتذكير بقانون، وهو وجوب العمل بالكتاب السماوي الذي تنتسب إليه الفرقة أو الطائفة، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]( ).
الرابعة:من الشواهد المستديمة والمتجددة خروج دعوة المسلمين لأهل الكتاب لكلمة التوحيد باعتبار الجامع المشترك بين المليين، والأصل الذي جاءت به التوراة والإنجيل والقرآن، وهذه الدعوة من خروج المسلمين من جهات:
الأولى:خروج المسلمين لأنفسهم بلزوم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجوه:
الأول: الأمر والنهي الذاتي بين المسلمين، بأن يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف، وينهى بعضهم بعضاً عن المنكر، قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، أي المجادلة من جهات:
الأولى: عمل الصالحات.
الثانية: حث بعض المسلمين بعضهم الآخر على المسارعة في الخيرات.
الثالثة: المبادرة إلى طاعة الله.
الرابعة: ترك معصية وما فيه البلاء والعذاب في الآخرة.
الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، فبعضهم يأمر بعضهم الآخر بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: تلقي المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقبول والرضا، وهل في هذا التلقي ثواب أم أن القدر المتيقن من الثواب في الإمتثال،
الجواب هو الأول لما في تلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرضا والقبول من مصاديق الإيمان , وترغيب الآمر وغيره بالإستمرار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: حرص المسلم الذي يأمر بالمعروف على إتيان ذات الأمر، وحرص الذي ينهي عن المنكر على إجتنابه، ليكون المسلم إماماً في فعل الصالحات.
الخامس: توارث المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جيلاً بعد جيل وطبقة بعد طبقة، وهو من مصاديق نيلهم لمرتبة(خير أمة).
السادس: قيام المسلمين بالمناجاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق إيمانهم بالله.
وهو من أسباب نزول الرزق الكريم لهم، وإخراج الأرض كنوزها لهم بما يبعث السكينة في نفوسهم بغد كريم ومستقبل إيماني مشرق لأولادهم الذين يتلقون الوصية بتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالنص في معاني الوصية، والمضامين العملية لكل من الأمر والنهي.
الثانية:إدراك المسلمين لمنازل العز التي هم فيها بدعوتهم أهل الكتاب إلى الإيمان والصدور عن سنن التوحيد، وهذه الدعوة أمر مستحدث في الأرض بدأ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مستمر إلى يوم القيامة،
فلم ولن تكون هناك أمة أو فرقة تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان وإلى الإلتقاء تحت راية كلمة التوحيد غير المسلمين , وهو من الشواهد المتجددة لتعاهدهم وثباتهم في مقامات (خير أمة أخرجت للناس)( ).
الثالثة:تفقه المسلمين بوظائفهم الجهادية، والتفاتهم ومعرفتهم بلزوم الخروج إلى الكفار والمشركين من باب الأولوية القطعية ودعوتهم إلى الإسلام.
الرابعة: الجمع بين آية البحث والسياق مدرسة كلامية لإرشاد المسلمين لصيغ الحجاج مع أهل الكتاب بما فيه حفظ كلمة التوحيد والعمل بسنن النبوة، وإجتناب الغلو بالأنبياء، قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ]( ).
الخامسة:خروج المسلمين لأهل الكتاب بهدايتهم إلى عبادة الله وحده، وفيه وجوه:
الأول:لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإحياء كلمة التوحيد، وجعلها ملازمة للأرض، لا يخالطها الشرك وأسباب الضلالة.
الثاني: أصبح المسلمون حجة على أهل الكتاب والناس جميعاً، ورحمة لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من الكفار والمشركين بجذبهم لإظهار معاني العبودية والخضوع لله عز وجل بدخول الإسلام للقرب من جنابه، والوقوب ببابه، ومناجاته والتوجه إليه بالمسألة وحاجات الدنيا والآخرة، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث: خروج المسلمين بالمتعدد من الوظائف أزاء أهل الكتاب، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة، ويحتمل وجوهاً:
الأول: الخروج التدريجي والبدء بالإيمان بالله وتثبيته في النفوس، ثم التوجه إلى الناس، ويكون هذا الخروج ترتيبياً، كما بدأ بالنهي عن الشرك بإعتباره أم الكبائر.
الثاني: الخروج دفعة واحدة للناس عموماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث: الإنشغال أولاً بإصلاح حال المسلمين، وتعاهد الفرائض.
الرابع: تدل الوقائع على إبتداء الدعوة الإسلامية بالتبليغ ثم الدفاع عن الإسلام، وصد هجوم وغزوات قريش، قال تعالى بخصوص الأحزاب يوم الخندق[إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ]( )، وبعد إستقرار دولة الإسلام قام المسلمون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والصحيح هو الثاني، فليس من فترة بين دخول الإسلام والتوجه لأهل الكتاب والناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من خصائص(خير أمة) بأن تؤدي الوظائف العبادية مجتمعة من غير كلل أو ملل، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
السادسة: خروج المسلمين للناس بدعوتهم أهل الكتاب إلى كلمة سواء وجامعة بين المسلمين وأهل الكتاب، فان قلت إذ كان المسلمون يحملون لواء الدعوة إلى التوحيد، وأهل الكتاب هم المدعوون، فكيف يكون خروج المسلمين للناس في المقام،
والجواب من وجوه:
الأول: لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس]( ).
الثاني: معرفة الناس بحدوث التحريف في الكتب السماوية السابقة.
الثالث:بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من إجتماع المسلمين وأهل الكتاب على كلمة التوحيد وعبادة الله عز وجل.
الرابع:بيان قانون ثابت، وهو وجوب البراءة من كل معبود سوى الله [رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ] ( ).
الخامس:تأكيد القبح الذاتي للشرك.
وروي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنْحَنِى بَعْضُنَا لِبَعْضٍ قَالَ:لاَ، قُلْنَا أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا قَالَ:لاَ وَلَكِنْ تَصَافَحُوا( ).
السادس: خروج المسلمين للناس على وجوه متعددة، منها:
الأول: الخروج للأفراد.
الثاني: الخروج للجماعات.
الثالث: الخروج لأهل الملل والنحل.
الرابع: الخروج للناس جميعاً.
وكل فرد من الوجوه أعلاه ينتفع منه الناس بالذات والعرض فما يكون لأشخاص أو ملة معينة يتعظ منه غيرهم , والنسبة بين إتعاظ الذين يتوجه لهم الخطاب وبين إتعاظ غيرهم من الكلي المشكك، فقد يتعظ المخاطب أكثر من غيره، وقد يكون العكس، ولكن القاعدة الكلية في المقام أن الإتعاظ من الخطاب القرآني , وخروج المسلمين عام وشامل للناس جميعاً.
السابعة: قد توجه الخطاب إلى الناس جميعاً بعبادة الله بقوله تعالى[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( )، وفيه أمور:
الأول:إنه شاهد على خروج المسلمين للناس جميعاً بالدعوة إلى الله.
الثاني: تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: موافقة القرآن لما جاء به الأنبياء السابقة.
والآية الكريمة أعلاه من الكلمة السواء التي تدعو آية السياق أهل الكتاب لها.
صلة[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من خصائص(خير أمة) القيام بالإمتثال للأمر الإلهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت آية السياق بالخطاب الخاص (قل) ليبذل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوسع في التبليغ، ودعوة أهل الكتاب إلى التوحيد، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
الثانية:جاء الخطاب للمسلمين من عند الله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] وجاء الخطاب لأهل الكتاب بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] وفيه دعوة لهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإخبار بأنه الرسول الذي جاءت به بشارات موسى وعيسى عليهما السلام، وفي التنزيل حكاية عن عيسى[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
الثالثة: لما جاءت آية البحث بالإخبار عن خروج المسلمين للناس، أخبرت آية السياق بخروجهم لأهل الكتاب بكلمة عدل وحق، وهي عبادة الله عز وجل، وفيه منع للجهالة والغرر، فلم تترك آيات القرآن موضوع الخروج مبهماً أو مجملاً، بل ذكرته على نحو البيان والتفصيل.
وهو من مصاديق مجيء الخطاب في آية السياق لأهل الكتاب عل نحو الإنحلال والإنبساط لكل مكلف منهم مستقلاً ومنضماً للآخرين، كيلا يحتاج اللجوء إلى الرؤساء والرهبان لتفسير مضامين ومقاصد الآية الكريمة.
الرابعة: بيان توجه الدعوة إلى عبادة الله عز وجل إلى أهل الكتاب بلغة الحجاج والترغيب، وبيان المسؤوليات العظيمة للمسلمين والمسلمات في إصلاح المجتمعات، وجذب الناس جميعاً للإسلام فقيام المسلمين بدعوة أهل الكتاب إلى التوحيد لايشغلهم أو يمنعهم عن دعوة الناس جميعاً إلى الإسلام ونبذ الشرك والضلالة.
ليجمع المسلمون بين الجدال بالأحسن مع أهل الكتاب، والجهاد في سبيل الله، قال تعالى[لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ]( ).
الخامسة: يحتمل قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وجوهاً:
الأول: خروج المسلمين للناس مجتمعين.
الثاني: خروج المسلمين للناس بلحاظ إنقسامهم إلى فرق وملل مختلفة.
الثالث: التفصيل والتعدد في الخروج، فمرة يخرج المسلمون للناس على نحو العموم الإستغراقي وان تباينت مذاهبهم، وأخرى يخرج المسلمون لفرقة وطائفة من الناس.
والصحيح هو الثالث، ومن الشواهد آية السياق إذ جاءت خطاباً لأهل الكتاب في التذكير بعلة خلق الإنسان والجذب إلى تعاهدها، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وفيه تأكيد بأن الإسلام دين الفطرة، والإستقامة.
فاستحق المسلمون مرتبة(خير أمة)بعبادتهم لله عز وجل وطاعتهم له ولرسوله، وخرجوا لأهل الكتاب والناس بالدعوة إلى عبادة الله، وظاهر آية السياق عبادة أهل الكتاب لله وفق التوراة والإنجيل وما فيهما من السلامة من الشرك، ومن إتخاذ بعض الرؤساء أرباباً.
السادسة: لما جاءت آية البحث بالإخبار عن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف جاءت آية السياق بأبهى معاني الأمر بالمعروف من وجوه:
الأول: مجيء الأمر من عند الله عز وجل(قل) بصيغة(افعل) التي تدل على الوجوب،
فلا بد أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد التي يتساوى فيها المسلمون وأهل الكتاب، وجاء في وصية إسرائيل لبنيه[إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )،
وأخرج الله عز وجل المسلمين لدعوة بني إسرائيل للإسلام، وتفضل الله عز وجل بآية السياق لتذكير أهل الكتاب بوصية إسرائيل لأبنائه وأحفاده.
الثاني:توجه الأمر بالتبليغ إلى سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وورد عنه أنه قال:إتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً( ).
ويحتمل الأمر الإلهي(قل) وجوهاً:
الأول: مجيء الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية لله سبحانه.
الثاني:توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة.
الثالث: الجامع المشترك لصفتي العبودية والرسالة.
والصحيح هو الثالث، إذ اختص الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن من بين الأنبياء، وأمره بأن يعبد الله عز وجل فهو الإمام في إخلاص العبادة لله، ودعوة الناس للعبادة، وقد جاهد كفار قريش في مكة، وأنكر مفاهيم الشرك والضلالة التي كانوا عليها، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ).
وحينما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة غزوه والمؤمنين في عقر دارهم للإجهاز على الإسلام فاخزاهم الله عز وجل في معركة بدر وأحد والخندق , ليواظب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على العبادة والنسك (عن أنس رضي الله عنه قال : تعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار كالشن البالي، فقالوا : يا رسول الله، ما يحملك على هذا الإِجتهاد كله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟)( ).
ومن طبع الإنسان إستصحاب الفعل الذي يحرز فيه أو معه نجاحاً ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وســلم لم يســتعمل السيف مع أهل الكتاب الذين لم ينقضوا المواثيق ولم يجهزوا الجيوش على المســـلمين، بل دعاهم إلى الصـدور عن التــوراة والإنجيــل اللـــذين جاءا بعبادة الله عز وجل، والإلتقاء في الجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو كلمة لا إله إلا الله.
(وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلاً ومعنا جعفر بن أبي طالب ، وبعثت قريش عمارة ، وعمرو بن العاص ، ومعهما هدية إلى النجاشي ، فلما دخلا عليه سجدا له وبعثا إليه بالهدية ، وقالا : إن ناساً من قومنا رغبوا عن ديننا وقد نزلوا أرضك ، فبعث إليهم حتى دخلوا عليه فلم يسجدوا له.
فقالوا : ما لكم لم تسجدوا للملك؟! فقال جعفر : إن الله بعث إلينا نبيه فأمرنا أن لا نسجد إلا لله . فقال عمرو بن العاص : إنهم يخالفونك في عيسى وأمه .
قال : فما يقولون في عيسى وأمه؟ قالوا : نقول كما قال الله : هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسسها بشر فتناول النجاشي عوداً
فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذه.
مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده ، فأنا أشهد أنه نبي، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه، فانزلوا حيث شئتم من أرضي)( ).
وهذه الدعوة إشراقة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأسيس صيغة مباركة في هداية الناس إلى عبادة الله، وشاهد بتعدد صيغ وكيفيات الأمر بالمعروف.
السابعة:أخبرت آية البحث عن قيام المسلمين على نحو دائم ومستمر بالنهي عن المنكر، وأقبح أفراد المنكر الشرك بالله، ولا يترشح عنه إلا الضرر , والإضرار بالذات والغير , وسوء العاقبة للمشرك , قال تعالى[إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ]( ).
ومن خصائص(خير أمة) وهم المسلمون إتصافهم بأمور:
الأول: الإحتراز من الشرك.
الثاني: الوقاية من مفاهيم الشرك والضلالة.
الثالث:النهي عن الشرك.
الرابع:تغشي نهي المسلمين عن الشرك الناس جميعاً، فلم يحصر المسلمون حربهم على الشرك بأهل الكتاب خاصة، أو الكفار المشركين وحدهم ، بل يتوجهون إلى الناس جميعاً لنبذ الشرك والضلالة , خصوصاً وأن الشرك متعدد الصيغ والوجوه، ومنها ما هو ظاهر وخفي، قال تعالى[يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ]( )، فجاء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمحجة البيضاء، الممتنعة عن أٍسباب الشرك والضلالة.
الخامس: نهي المسلمين عن الشرك بالقول واليد والسيف، وجاءت آية السياق من الأول وهو النهي بالقول والحجة.
الثامنة: جاءت آية السياق بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوجه إلى أهل الكتاب بالقول والدعوة بالبينة إلى عبادة الله، ويحتمل وجهين:
الأول:الزجر عن إستعمال اليد والضرب مع أهل الكتاب في الدعوة إلى الله عز وجل.
الثاني: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فان قوله تعالى(قل) لا يمنع من توظيف اليد والقوة لحمل أهل الكتاب على عبادة الله، إذا ما جاءت آية أخرى تدل عليه، أو فعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة، قال تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )،
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { تعالوا إلى كلمة . . . } قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك فأبوا عليه . فجاهدهم حتى أتوا بالجزية( ).
التاسعة: يحتمل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب لعبادة الله وجوهاً:
الأول: القدر المتيقن من الآية اليهود لأنهم كانوا يسكنون المدينة المنورة، وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الكلمة السواء( ).
الثاني: المراد هم النصارى، ووفد نصارى نجران الذين قدموا إلى المدينة، وأخرج عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله { قل يا أهل الكتاب تعالوا }، قال : فدعاهم إلى النُصَف وقطع عنهم الحجة . يعني وفد نجران، وأخرج عن السدي قال: ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني الوفد من نصارى نجران فقال { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء( ).
وأستدل عليه أيضاً بما ذكره محمد بن إسحاق: وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نجْران، وقال الزهري: هم أول من بَذَلَ الجزية، ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح( ).
الثالث:إرادة اليهود والنصارى مجتمعين ومتفرقين، جماعات وأفراداً.
والصحيح هو الثالث، فالدعوة عامة لكل أهل الكتاب بأشخاصهم وانتمائهم، وإلمدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول , والآية إنحلالية، وصيغة خطاب المفرد منه:قل يا كتابي.
وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعدد وتوالي التبليغ، وعدم الإمتناع عن الإحتجاج على الفرد والجماعة القليلة، والكثيرة من الناس، وتأديب للمسلمين بالتوجه لكل كتابي، وعدم اليأس من هدايتهم.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنعدام الحجّاب بينه وبين الناس، فكل شخص مسلماً أو غير مسلم يستطيع الوصول إليه، ويستمع له، ولم يقف الأمر على الذين يأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في وفد نصارى نجران، أو الذين يجاورونه من يهود المدينة بل إنه يقوم ببعث الرسائل إلى الملوك والأمراء.
وبالإسناد عن ابن عباس عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح، كما هو مُصَرّح به في الحديث، ولأنه لما قال هل يغدر؟ قال : فقلت: لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه، والغرض أنه قال: ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه:
بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين،[ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
وقد أسست قسيماً رابعاً لأقسام السنة الثلاثة وهو السنة التدوينية ليضاف إلى:
الأول:السنة القولية.
الثاني:السنة الفعلية.
الثالث:السنة التقريرية.
وقد يقال إن كتابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة إلى قيصر ترجمة عملية للأمر الإلهي(قل) لتكون الرسالة من مصاديق السنة القولية، كما كان علماء السلف يجعلون الرسائل من السنة القولية.
والجواب لا تعارض بين إستقلال التدوين بقسم خاص به وبين كونه في شطر منه ترجمة للقول بالإضافة إلى أن كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر أعم في مضامينه لما جاء فيه من دعوة هرقل إلى الإسلام، وبيان السلامة والثواب العظيم الذي يأتيه بدخول الإسلام بقوله صلى الله عليه وآله وسلم(فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ) وفيه وجوه:
الأول:بشارة النجاة والأمن.
الثاني:دوام حكم هرقل لو كان قد أسلم، كما في فرعون فانه لو آمن بنبوة موسى عليه السلام لبقي في حكمه وسلطانه.
الثالث:الثواب المضاعف للحاكم والسلطان عند دخوله الإسلام، لأن أمته تتبعه وتلحقه في سبل الهدى والثواب، ويكون قد أسس سنة رشاد، وفي الحديث: يا علي لأن يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس( ).
الرابع: دخول الإسلام بجعل الإنسان ينتمي إلى(خير أمة) ويكون أسوة حسنة لغيره من الناس، ويقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد القربة إلى الله، ورجاء نواله ورضاه.
الخامس: جاءت آية البحث بقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتهم إلى الإيمان، وأرسل إلى ملك من ملوكهم يدعوه إلى الإيمان، ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين أن إبراهيم عليه السلام حاجّ نمرود وأمروا بايقاد النار له، وأن موسى عليه السلام دخل على فرعون وجمع له السحرة للإيقاع به وفي التنزيل[فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا] ( )،
وكان الملوك عاجزين عن التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقوا كتبه بالتدبر , لما جعل الله عز وجل له من الهيبة في النفوس والشأن في المنتديات وعند أهل الحل والعقد، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم التي تستلزم البيان والإستقراء.
وأخرج عن أنس، قال: لما نزلت هذه الآية { وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به } كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل ، وليس النجاشي الذي صلى عليه)( ).
ويفيد قوله(وكل جبار) أي أن رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعددة وكثيرة في هذا الباب ولعل منها ما لم يصل إلينا، أو أن الرسول الذي يذهب إلى قيصر أو كسرى يحمل معه رسائل إلى غيرهم في طريقه إليهم، سواء بالعقد والتعيين، أو التفويض إلى الرسول.
العاشرة: شهدت آية البحث للمسلمين بتعاهد مراتب الإيمان بقوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ليكون هذا الإيمان الأصل الذي تتقوم به صلات المسلمين مع غيرهم وصيغ هذه الصلات التي تتباين كيفيتها بحسب اللحاظ والموضوع والجهة، فتكون مع أهل الكتاب بالجدال بالأحسن , قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( )، والجذب بالحجة والبينة إلى منازل الإيمان، والتذكير بما جاء في التوراة والإنجيل من الدلالات والبشارات.
وهل من تعارض بين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد وبين دعوتهم للإسلام , بقوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
الجواب ليس من تعارض بين آيات القرآن، وما فيها من الدعوة المتعددة الخاصة والعامة، والجمع بين الآية أعلاه وآية السياق من رحمة الله في إصلاح الناس لسبل الهداية والرشاد بآيات القرآن وما لا يدرك كله لا يترك جله.
لقد أراد الله عز وجل بآية السياق أموراً:
الأول: تفرغ المسلمين لجهاد الكفار.
الثاني: تنزه أهل الكتاب عن الشرك.
الثالث: بعث أهل الكتاب لإستحضار ما في التوراة والإنجيل، ومنه البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وإدراك الجامع المشترك مع أهل الكتاب على نحو الخصوص، ومعرفة صبر وسعي اليهود والنصارى قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحفظ الإنتساب للتوراة والإنجيل، وأخبار النبوة، ومجيء الدعوة إلى التوحيد حرباً على التحريف الذي طرأ على كل منهما
(عن أبي بن كعب قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم، ثم قرأ [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( )، ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا) ( ).
ومن إعجاز القرآن تضمنه لتفصيل مجمله، فما من مجمل في القرآن إلا وتجد بيانه وتفصيله في آية أو آيات أخرى من القرآن، مع إتصاف بيان القرآن بخصائص عظيمة من جهة تهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات، ومن تفصيل الآية أعلاه، وبيان ماهية الجدال فيها،قوله تعالى[تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ].
فان قلت القدر المتيقن من الجدل هو سعي كل طرف من المتخاصمين للغلبة، وإبطال حجة الخصم.
والجواب من وجوه:
الأول: الجدل لغة هو شدة الفتل، لأن غاية الجدال فتل الخصم عن مذهبه، ( قال ابن منظور: المجادلة:المناظرة والمخاصمة( ).
الثاني: المراد من الأحسن في الجدال هو إقامة البرهان، الذي هو حق في مقدماته، وما ينتج عنها.
الثالث:بيان وإظهار المسلمين لإيمانهم من أسباب رجوع الناس عن الشرك والضلالة، ليكون هذا البيان من مصاديق الجدل، وأسباب الزجر عن المراء الذي هو مذموم في ذاته لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره، قال تعالى[مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى]( )، وقد تعددت وجوه التفسير في الأخبار الواردة في تفسير الآية أعلاه.
وعن أبي العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هل رأيت ربك ليلة المعراج قال رأيت نهرا و رأيت وراء النهر حجابا و رأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك.
وروي عن أبي ذر و أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سئل عن قوله: ما كذب الفؤاد ما رأى، قال رأيت نورا و روي ذلك عن مجاهد و عكرمة.
وذكر الشعبي عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم رأي ربه.
قال الشعبي و أخبرني مسروق قال سألت عائشة عن ذلك فقالت إنك لتقول قولا إنه ليقف شعري منه قال مسروق قلت رويدا يا أم المؤمنين و قرأت عليها و النجم إذا هوى حتى انتهيت إلى قوله قاب قوسين أو أدنى فقالت رويدا أنى يذهب بك إنما رأى جبرائيل في صورة من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم رأى ربه فقد كذب( ).
وقد لا تكون هناك ملازمة بين حديث المعراج وما رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلته، وبين قوله تعالى[مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى]، وتعددت الأقوال فيما رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
الأول: رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه بفؤاده، روي عن ابن عباس، وروي عن محمد بن علي عن أبيه عليه بن أبي طالب عليه السلام.
الثاني: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبرئيل على صورته التي خلقه الله عليها، عن ابن عباس ( ).
الثالث:رأى ملكوت الله تعالى وأجناس مقدراته، عن الحسن البصري الذي قال:عرج بروح محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء وجسده في الأرض،
والمشهور والمختار أنه عرج بروحه وجسده.
وقد جادل كفار قريش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة ليلة الإسراء، فقالوا له:صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في طريق الشام، ونحوه فنزل قوله تعالى[أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى] لزجر الناس عن الجحود بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وجاءت الآية أعلاه بصيغة المضارع لإرادة المعنى الأعم من الإنذار وعدم حصره بأسباب النزول.
ويدل قوله تعالى[تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ] إلى بيان خصلة من خصال المسلمين، ومصداق من مصاديق إيمانهم وهو جذب الناس إلى الإيمان وعدم تركهم وشأنهم، وليس من حصر لوجوه وكيفية هذا الجذب ويأتي بالذات والعرض، والمنطوق والمفهوم،
وتحتمل دعوة المسلمين لأهل الكتاب إلى كلمة التوحيد وجوهاً:
الأول: إقامة الحجة على أهل الكتاب.
الثاني: تأكيد مغادرة أهل الكتاب لمنازل التوحيد، ولو على نحو السالبة الجزئية.
الثالث: لا دليل على هذا المغادرة، والقدر المتيقن من الدعوة هو الإجتماع والإلتقاء بين المسلمين وأهل الكتاب على الكبرى الكلية، وعلة خلق الإنسان وهي العبادة في مقابل الكفار والمشركين.
والصحيح هو الأول والثاني، وفيه بيان لتصديق آيات القرآن لمضامين التوراة والإنجيل، وإقتران هذا التصديق بجهاد المسلمين لإستدامة رفع لواء التوحيد , وهو من عمومات وصفهم بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن التصديق جاء بالقرآن والسنة، قال تعالى[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( )، وقال تعالى في تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكتب السماوية , وما جاء به الأنبياء السابقون[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
لقد قال فلاسفة يونان بأن الله عز وجل خلق الكون ثم أدار ظهره عنه.
فجاءت كل آية من آيات القرآن لتبين أن الله عز وجل يتعاهد الناس والخلائق، ويمدّهم بأسباب الحياة وإستدامتها، ويجعل الإيمان يتغشى آفاق الأرض، وسخّر المسلمين لدعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد، والإخلاص في عبادة الله، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، ليكون المسلمون جنوداً لله عز وجل من وجوه:
الأول: قهر النفس الشهوية والغضبية عند الذات والغير، لأن الأصل هو إصلاح الذات، وإختيار سبيل السلامة في النشأتين.
الثاني: دعوة أهل الكتاب للإيمان، وبعث النفرة من الشرك وأسباب الكفر والضلالة.
العاشرة: جاءت آية السياق بقوله تعالى[بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين إذ ورد قوله تعالى[وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] ( ).
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق والآيات التي بعدها والتي تنكر على أهل الكتاب نسبة إبراهيم إلى اليهودية أو النصرانية وجوه:
الأول:بيان جهاد إبراهيم والذين آمنوا معه في سبيل الله.
الثاني: لقد جاهد إبراهيم الكفار، وأبى المهادنة مع الكفار، وهو من مصاديق قوله تعالى[حَنِيفًا مُسْلِمًا]( ).
فإن قلت جاهد إبراهيم بمفرده أمة عظيمة من الكفار، وفي دولتهم وأيام حكمهم وجبروتهم، فلماذا يتقي المسلمون من الكفار مع كثرة المسلمين قال تعالى[لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
والجواب من وجوه:
الأول: إنه تخفيف عن المسلمين ولطف بهم، وإعانة لهم.
الثاني: فيه أمن وسلامة للمسلمين والمسلمات وحفظ لأموالهم ومقاماتهم.
الثالث: عدم التعارض بين التقية وبين قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتقية مقدمة ووعاء للأمر والنهي في مرضاة الله.
الرابع: جاءت الآية أعلاه ببيان الرخصة في التقية بقوله تعالى(ويحذركم الله نفسه) لتكون التقية بقدرها وكأنها من أحكام الضرورة،
وروى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأحدهما أ تشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أ فتشهد أني رسول الله فقال نعم ثم دعا بالآخر فقال أ تشهد أن محمدا رسول الله قال نعم ثم قال أ فتشهد أني رسول الله فقال إني أصم قالها ثلاثا كل ذلك يجيبه بمثل الأول فضرب عنقه .
فبلغ ذلك رسول الله فقال أما ذلك المقتول فمضى على صدقه و يقينه و أخذ بفضله فهنيئا له , وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه)( ).
الثالث:بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعودة أهل الكتاب إلى عبادة الله والحنيفية التي كان عليها إبراهيم.
الرابع: في إستجابة أهل الكتاب لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى كلمة التوحيد والعدل أمور:
الأول: تثبيت صرح الإسلام في الأرض.
الثاني: زحزحة مفاهيم الكفر عن النفوس.
الثالث: تنزيه المجتمعات من أسباب الضلالة والشرك.
الرابع: فيه سلامة وأمن للمسلمين، وغلق لأبواب من الكيد والمكر بهم، سواء من قبل، وتحذير الكفار, قال تعالى[يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ] ( ).
ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وتفضيل المسلمين بلحاظ الجمع بين آية البحث والآية أعلاه من سورة الممتحنة وجوه:
الأول:أخرج الله عز وجل المسلمين للناس لإحياء سنة إبراهيم ولكن على نحو أعم، وشمولها لمشارق الأرض ومغاربها , وهو من الشواهد على أمور:
الأول: وراثة المسلمين لملة إبراهيم وحملهم لواء التوحيد، وتذكير الناس بلزوم إخلاص العبادة لله عز وجل.
الثاني: معرفة الناس بنبوة إبراهيم بواسطة المسلمين، وهذه المعرفة خالية من التحريف والتبديل، فلا يقول المسلمون أن إبراهيم منهم، كما يقول اليهود والنصارى، ولكنهم يشهدون له بالنبوة وأنهم يتبعونه في نهجه وسنته وفي التنزيل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
وفيه دعوة لأهل الكتاب والمشركين لإتباع نهج إبراهيم الذي هو الإستقامة والميل عن الملل الباطلة، فإن قلت هل يعني الإلتقاء بالإسلام بين المسلمين وإبراهيم عليه السلام تعبد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق شريعة إبراهيم، الجواب لا، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب شريعة مستقلة وليس تابعاً لملة ودين من سبقه من الأنبياء السابقة، بل جاء بالشريعة المتكاملة التي هي نعمة عظيمة على المسلمين وعلى أهل الأرض، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
وينتسب كل من اليهود والنصارى إلى إبراهيم، وحتى مشركي مكة يقولون بهذه النسبة من جهتين:
الأولى: أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
الثانية: قيامهم بأداء مناسك الحج التي جاء بها إبراهيم وإن كان على نحو محرف وناقص.
فجاء الأمر في القرآن بإتباع ملة إبراهيم لوجوه:
الأول: ميل أهل الكتاب والمشركين لملة إبراهيم.
الثاني: الترغيب بالإسلام.
الثالث: طرو النفرة من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتباعه ونصرته، للموافقة والتشابه بين ملة إبراهيم ونبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إنتشار الإسلام، وصيرورة المسلمين في حال من العز والقوة والمنعة التي تتقوم بها دعوة الناس إلى سبل الهدى، وبعثهم على ترك ما إعتادوا عليه من العادات والإعتقاد المخالف للحنيفية والإيمان بالله عز وجل، قال تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الخامس: تأكيد الملازمة بين العقل والحكمة مع إتباع ملة إبراهيم، وإقتران تركها بالسفه وخفة العقل، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( ).
الثالث: عموم دعوة المسلمين لأهل الكتاب إلى كلمة التوحيد, وخلوها من الضرر , فان خاتمة الآية جاءت باللطف، وعدم قطع حبل الود معهم لقوله تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع : جاءت دعوة المسلمين إلى أهل الكتاب بأمر من الله عز وجل لنبيه الكريم[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] وفيه منع للحرج من هذه الدعوة، وبرزخ دون التشديد على النفس والجماعة، وإلا لقالت طائفة من المسلمين بلزوم الغلظة والشدة مع أهل الكتاب والحرب عليهم، وما فيه الإضرار بالنفس وبأهل الكتاب وبما لا ينتفع منه إلا الكفار والمشركين.
فجاءت آية السياق لمنع الفرقة والإختلاف بين المسلمين في دعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وجاء إعتصام وتمسك المسلمين بالقرآن على وجوه:
الأول: إنه سابق لدعوتهم أهل الكتاب للتوحيد.
الثاني: إنه مصاحب لهذه لدعوة.
الثالث: إنه متأخر عنها، لذا قال تعالى في خاتمة آية السياق[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
أي أن المسلمين والمسلمات متمسكون دائماً بالقرآن والسنة.
الحادية عشرة: ورد لفظ(أهل الكتاب) في كل من آية البحث والسياق، وجاء في أول آية السياق وبصيغة النداء، وفيه وجوه:
الأول:موضوعية أهل الكتاب في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس.
الثاني: إعانة المسلمين في بيان المنهج الذي يجب أن يتبعوه مع أهل الكتاب خاصة، والناس عامة.
الثالث: قيام المسلمين بتبليغ آيات القرآن، ومضامينها , وهو من خصائص(خير أمة) فآية السياق دعوة لعقد وعهد بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الكتاب , يتولى المسلمون مسؤولية إستدامة التبليغ به والدعوة إليه في كل زمان ومكان.
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ : وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)( ).
الرابع:تنبيه المسلمين إلى منزلة أهل الكتاب، والمائز بينهم وبين الكفار.
الخامس: إذا تخلف أهل الكتاب عن الإيمان ومضامين[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] تأتي دعوتهم إلى كلمة التوحيد بإعتبارها جامعاً مشتركاً بينهم وبين المسلمين.
وهذا الترتيب من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
الرابع: نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله عز وجل إلى أهل الكتاب للإلتقاء في كلمة التوحيد شاهد على صدق نبوته، ودعوة لهم للإيمان، أي أن الترتيب المذكور أعلاه يتعارض مع دعوتهم للإسلام إبتداء لوجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه.
بينما جاءت آية البحث بالخطاب للمسلمين والمسلمات(يا أيها الذين آمنوا) إبتدأت آية السياق بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) ,
ومن خصائص هذا الخطاب إنضواء أجيال المسلمين والمسلمات تحت لوائه إلى يوم القيامة، والعمل بمضامين الأمر الإلهي المتجدد بدعوة أهل الكتاب إلى الجامع المشترك بين الفريقين وهو التوحيد، والتسليم بالربوبية لله عز وجل .
وفي التنزيل حكاية عن عيسى[إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( ).
صلة[أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من معاني(كان) في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] إرادة صيرورة المسلمين خير أمة , وإرتقائهم من وجوه:
الأول: المسلمون أمة واحدة متماسكة.
الثاني: لابد من جامع مشترك يجمع أفراد الأمة، ويترشح الحسن الذاتي والعرضي لهذا الجامع من مضامين آية البحث من جهات:
الأولى:وصف المسلمين بأنهم(خير أمة).
الثانية:خروج المسلمين للناس بما هو محمود، ومقبول حسب الفطرة الإنسانية، وعمومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، بتقريب أن منافع ورشحات النفخ أعم من أن تنحصر بمادة الحياة فتشمل تلقي اليقينيات والضروريات بالقبول والتسليم إلا من أصر على العناد والإستكبار.
الثالثة:قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة:إيمان المسلمين بالله، فلا يخرجون إلا برداء الإيمان ونشر مفاهيم التوحيد.
الخامسة: دعوة المسلمين أهل الكتاب للإيمان والإلتقاء عند كلمة التوحيد وسنن النبوة.
الثالث:نال المسلمون مرتبة(خير أمة) بالصلاح والتقوى، وتعاهد الإيمان، ودعوة أهل الكتاب والناس إلى الهداية والإيمان.
الرابع:ثبات المسلمين على كلمة التوحيد، وتعاهدهم لآيات التنزيل، وتحملهم الأذى في جنب الله، وهذا التعاهد حرب على الظلم والطغيان، لإقتران الصبر باستدامة أداء الفرائض والواجبات العبادية، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
الثانية: لقد أراد الله عز وجل أن تكون الكلمة السواء بين المسلمين وأهل الكتاب نوع عهد وميثاق، فلابد من موضوعية لها في أحوال الناس، وبما يشمل أمور الدين والدنيا، والكلمة مصدر لا تثنى ولا تجمع والجمع كلمة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كلمة السواء: لا إله إلا الله( ).
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله [سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] قال: عدل، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: نعم أما سمعت قول الشاعر :
تلاقينـــــا تعاصينا سواء
ولكن حم عن حال بحال( ).
ومن معاني (تعالوا إلى كلمة) أمور:
الأول: الأصل في المجيء المكاني وهو ظاهر في الآية لإرادة القرب ودنو أهل الكتاب من المسلمين.
الثاني: تأكيد أن المسلمين باقون على عهد الله وعبادته، وعدم الشرك به وهذا المعنى لا يتعارض مع دلالة حرف الجر(إلى) وإرادة إنتهاء غاية النداء والمجيء إلى الكلمة لقوله تعالى[تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ].
الثالث: في الجمع بين المعنيين تأكيد للملازمة بين المسلمين وعبادة الله، وأنهم لا ينفكون عنها حتى وإن لم يقبل أهل الكتاب الدعوة الكريمة بالإلتقاء في عبادة الله، وفي دعاء إبراهيم وإسماعيل[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] ( ).
الرابع:حث أهل الكتاب على هجران إخفاء الآيات والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله عز وجل بعثه رحمة لأهل الكتاب والناس.
السادس:إرادة السلامة لأهل الكتاب في الدنيا والآخرة.
السابع:التذكير بوجوب عبادة الله عز وجل، قال تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ).
الثالثة:لقد جاء الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوجه إلى أهل الكتاب بالجامع المشترك، وهو من وجوه:
الأول: كلمة عدل وسواء بين المسلمين وأهل الكتاب وهي كلمة التوحيد، وهل يمكن تسمية هذه الدعوة (عهد التوحيد) باعتبار أن هذه الدعوة كالعهد والميثاق.
الجواب نعم فهو نوع عهد في باب التوحيد وان وردت التسمية على نحو التعيين في ذات الآية القرآنية، إذ سمّاها الله(كلمة سواء)، ولكن نعتها بالعهد والميثاق تفسير وبيان لها.
الثاني: تغشي عهد التوحيد عموم المسلمين وأهل الكتاب، فهو يشمل اليهود والنصارى.
الثالث: لزوم تنزه المسلمين وأهل الكتاب عن الشرك والضلالة.
الرابع:المنع من الإنقياد للرؤساء في معصية الله.
الخامس: الإقرار بطاعة الله في العبادات والمعاملات، وإجتناب الظلم والتعدي، قال تعالى في ذم فريق منهم[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
الرابعة: إن الله عز وجل يأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يتكلم عن نفسه وعن أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بقوله تعالى[بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ].
بينما جاء الخطاب إلى أهل الكتاب على نحو العموم الإستغراقي ليتوجه إلى كل فرد منهم ذكراً أو أنثى على نحو مستقل ليكون هذا الخطاب تكليفاً لكل مكلف منهم.
فمن إعجاز آية السياق أن يتكلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسم المسلمين والمسلمات الموجود والمعدوم منهم، بينما يأتي خطابه لكل كتابي من غير واسطة الرؤساء والرهبان منهم.
ليكون من إعجاز الآية عدم جعل موضوعية لأولئك الذين لهم أكلات على أهل الكتاب، والذين إعتادوا المقامات السامية بينهم، ويخشون زوالها وان كان خطاب ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين شاملة لهم لأفراد من أهل الكتاب والرؤساء.
إن كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نيابة عن المسلمين تشريف لهم من وجوه:
الأول: إنه من الشواهد على أن المسلمين(خير أمة).
الثاني:بيان إشراقة ووجه إضافي من وجوه خروج المسلمين للناس، وهو كلام وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس باسم المسلمين، وليس من أمة نالت شرف ومنزلة كلام سيد الأنبياء والمرسلين باسمهم.
الثالث: يتكلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين بما يكون لهم فيه أسوة وإماماً، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، في جهاده وصبره.
الرابع: موضوع العهد والميثاق هو الإخلاص في عبادة الله، وهو من الشواهد على إستحقاق المسلمين في كل زمان ومكان لمرتبة(خير أمة) لأن النبي محمداّ صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم نيابة عنهم في الإحتجاج على أهل الكتاب.
الخامسة:يحتمل نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الكتاب بلحاظ أفراد الزمان وجوهاً:
الأول: القدر المتيقن من النداء هو أهل الكتاب في أيام النبوة المباركة لأن النبي محمداً حاضر بينهم، وحصول قيد المواجهة بينه وبين أهل الكتاب ’ ومن خصائص المناظرة المواجهة والمقابلة بين طرفي المناظرة .
الثاني:إرادة عموم أهل الكتاب أيام النبوة وما بعدها.
الثالث:المقصود رؤساء أهل الكتاب وأهل الحل والعقد منهم.
والصحيح هو الثاني.
فتتغشى الدعوة النبوية أجيال أهل الكتاب المتعاقبة، ففي كل زمان يلاقيهم هذا النداء السماوي من وجوه:
الأول: حضور وذكر شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: آية السياق وآيات القرآن الأخرى.
الثالث:تلاوة المسلمين لآية السياق، وهذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لتكون تلك المصاديق من اللامنتهي بلحاظ أن كل تلاوة من المسلم أو المسلمة لآية السياق هو من مصاديق الآية أعلاه، وهو من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة على نحو الوجوب، وفيه تشريف وإكرام لهم.
فيتلو المسلم آيات القرآن عشر مرات في الصلاة اليومية، لتكون تلاوته كل مرة على وجوه:
الأول: إنها مصداق للآية أعلاه.
الثاني: في التلاوة تثبيت للمسلمين في منازل التفضيل والرفعة وعلو الشأن، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالث:دعوة لأهل الكتاب لكلمة التوحيد.
الرابع: تنمية لملكة الجدال والإحتجاج عند المسلم.
الخامس: إنه مناسبة للثواب وإكتناز الحسنات.
السادسة:لقد أشرقت كلمة التوحيد على الأرض من جديد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتتصف هذه الإشراقة بأمور:
الأول: تعاهد المسلمين والمسلمات لعبادة الله.
الثاني: دعوة النبي والمسلمين أهل الكتاب إلى التوحيد ونبذ الشرك وإدعاء البنوة على الله.
الثالث:طرد الغفلة والجهالة عن الناس , وبعثهم على التفكر باستمرار الدعوة إلى عبادة الله، فصحيح أن آية السياق جاءت بدعوة أهل الكتاب إلى التوحيد إلا أنها تدل في مفهومها على دعوة الناس جميعاً إلى الإسلام، والتوبة من الكفر والضلالة، قال تعالى[فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تبقى في الأرض الى يوم القيامة، فخصه الله عز وجل بخصال ووظائف سامية من بين جميع الأنبياء، منها إتصافه بحمل لواء دعوة أهل الكتاب إلى عبادة الله، فان قلت ذات الصفة جاء بها موسى وعيسى والأنبياء السابقون، وقد ورد في عدة آيات وعلى لسان هود ونوح وصالح وشعيب[يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ] ( )، إلى جانب ورود ذات المعنى على لسان أنبياء أخرين قال تعالى[وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]( ) والجواب من وجوه :
الأول: الدعوة إلى عبادة الله من العرض العام الذي يشترك فيه الأنبياء، ويميز دعوتهم.
الثاني: يجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الغلو بالأنبياء، وهذا الجهاد عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب وفي التنزيل[إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ]( ).
الثالث: زجر الناس عن اللجوء إلى الطواغيت، وإتباعهم في معصية الله.
الرابع: تنزيه المسلمين عن الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون برزخاً دون غلوهم بغيره من الأئمة والخلفاء، وهو الذي يدل عليه ثبات المسلمين في منازل التوحيد.
وجاءت الآيات بوصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه رسول الله، وأنه عبده، قال تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ]( ).
السابعة: وصفت آية البحث المسلمين بأنهم[يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] فهل كلمة السواء، ودعوة أهل الكتاب منهما.
الجواب نعم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، ببيان حقيقة وهي من وجوه:
الأول: وجود أمة من الناس تدعو أهل الكتاب والناس إلى عبادة الله.
الثاني:تعاهد(خير أمة) لعبادة الله، وهي علة إستدامة الحياة على الأرض.
الثالث:عدم خلو الأرض من عبادة الله، والدعوة إلى العبادة ليمهل الله عز وجل الكفار والمشركين، ويقيم عليهم الحجة البالغة، قال تعالى[فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا]( ).
وهذه الآية بالذات شاهد على إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجوه:
الأول:بقاء هذه الآية رسماً وتلاوة ودلالة إلى يوم القيامة، فمن معاني النص في الآية تجلي معانيها، وخلوها من التعدد في التأويل.
الثاني: إستدامة تلاوة المسلمين للآية الكريمة.
الثالث:تجدد الدعوة إلى الهداية والإيمان، مع كل مرة يتلو المسلم أو المسلمة هذه الآية الكريمة وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، ليكون من خصائص(خير أمة) بلحاظ الجمع بين آيتي البحث والسياق أمور:
الأول:تولي المسلمين الوظيفة العقائدية العبادية العامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: إستمرار قيام المسلمين بهذه الوظيفة العبادية في كل زمان ومكان.
الثالث:تلقي المسلمين مصاديق وأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الله عز وجل.
الرابع:هداية المسلمين إلى كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنها دعوة وإرشاد، وبيان لما يلتقي به المسلمون مع أهل الكتاب، ويدل في مفهومه على إجتناب إستعمال القسوة.
الخامس (خير أمة) أسوة للناس جميعاً في العبودية والتذلل لله عز وجل، وفيه آية في إمامة المسلمين للناس جميعاً في منع الغلو بالأنبياء، والحرب على الطواغيت الذين يدّعون الربوبية.
لقد بعث الله عز وجل موسى وهارون إلى فرعون الذي قال[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، وبعث إبراهيم إلى نمرود الذي إدعّى الربوبية فاقام عليه الحجة بالبرهان العقلي بقوله تعالى[فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] ( )، وبالبرهان الحسي بآية الأمن والسلامة من النار.
قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنّة وأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا إبراهيم إنّ ربّك يقول : أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي، ثمَّ نظر نمرود من صرح له وأشرف على إبراهيم وما شكّ في موته.
فرأى إبراهيم جالساً في روضة، ورأى الملك قاعداً إلى جنبه، وما حوله نار تحرق ما جمعوا له من الحطب فناداه نمرود : يا إبراهيم، كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى لم يضرّك، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها.
قال : نعم، قال : هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرّك؟ قال: لا.
قال : فقم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلمّا خرج إليه.
قال له : يا إبراهيم، مَن الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال : ذلك ملك الظلّ أرسله إليَّ ربّي ليؤنسني فيها،
فقال نمرود : يا إبراهيم إنّي مقرّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزّته فيما صنع بك حين أبيت إلاّ عبادته وتوحيده، إنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة.
فقال له إبراهيم : إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني.
فقال : يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له، فذبحها له نمرود، ثمَّ كف عن إبراهيم ومنعه الله سبحانه منه( ).
وأختتمت النبوة بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتنتهي بنبوته دعوى الربوبية في الأرض بخروج (خير أمة) للناس جميعاً، ويكون هذا الخروج في المقام مركباً، من وجوه:
الأول: زجر السلاطين والملوك عن دعوة الربوبية.
الثاني: تحذير وإنذار الناس من إتباع الطواغيت.
الثالث: التذكير بعالم الآخرة قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).
الرابع:زجر الناس عن تهيئة مقدمات تمرد وعتو السلطان.
الرابع: دعوة أهل الكتاب إلى عبادة الله لتكون العبادة الصبغة الشائعة بين الناس، وفيها واقية من دعوى الطواغيت الربوبية.
الخامس:تولي المسلمين على نحو مستديم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيها من إصلاح المجتمعات، والحرب على الكفر وأسباب الضلالة والمنع من قول وفعل الباطل، قال تعالى[لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ] ( ).
لقد حارب الكفار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف ومحاولة اضلال الناس وصدّهم عن التصديق بالمعجزات التي جاء بها، وهناك من أدعّى القدرة على التنزيل وهو ليس حاكماً أو سلطاناً، وفي التنزيل[وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ] ( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي خلف الأعمى قال: كان ابن أبي سرح يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي ، فأتى أهل مكة فقالوا : يا ابن أبي سرح كيف كتبت لابن أبي كبشة القرآن؟ قال : كنت أكتب كيف شئت ، فأنزل الله[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا].
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحيَ إلي ولم يوح إليه شيء } قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ، أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه ( سميعاً عليماً ) كتب ( عليماً حكيماً ) وإذا قال ( عليماً حكيماً ) كتب ( سميعاً عليماً ) فشك وكفر، وقال : إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إليّ( ).
وهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه لإفترائه على التنزيل والنبوة، وقيامه باضلال الناس، وفي يوم فتح مكة جاء به عثمان( )، إلى رسول الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد الحرام.
فقال يارسول أعف عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ثم أعاد فسكت ثم أعاد فسكت , فقال هو لك , فلما مّر قال رسول الله لأصحابه ألم أقل من رآه فليقتله , فقال عباد بن بشر كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله فقال صلى الله عليه وآله وسلّم الأنبياء لا يقتلون بالإشارة( ).
الثامنة:جاءت آية السياق لتؤكد بأن قوله تعالى في آية البحث[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] دليل على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: المسلمون مع إيمانهم يدعون أهل الكتاب وبواسطتهم الناس جميعاً إلى الإيمان والعبودية الخالصة لله عز وجل.
الثاني:تعاهد المسلمين لأداء الفرائض العبادية من الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس.
الثالث: يدعو المسلمون إلى ما كان عليه إبراهيم من عبادة الله، قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ).
الرابع:المسلمون أسوة حسنة للناس في الإيمان.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية وثابتة في الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
السادس: تنزه المسلمين عن الشرك ومفاهيم الضلالة، فهم يدعون أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد لتكون سواء وعدلاً بينهم، وأصلاً تتقوم به الصلة وأسباب التقارب بين المسلمين وبين أهل الكتاب وموضوع للإنصاف بينهم، وبالإسناد عن قتادة في قوله تعالى كلمة سواء بيننا وبينكم).
ومن معاني(سواء) في المقام إستواء وتساوي المسلمين وأهل الكتاب في كلمة التوحيد فقد قالت اليهود بنبوة موسى عليه السلام وانكروا نبوة عيسى عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال النصارى بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، ولم يقولوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحرّفت البشارات التي جاء بها الأنبياء السابقون بنبوته، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
فجاءت آية السياق من الشواهد على صدق إختصاص المسلمين بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بعدم الوقوف عند إنكار أهل الكتاب لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل حمل المسلمون لواء النداء المتكرر والخطاب لأهل الكتاب بالإلتقاء عند كلمة التوحيد والإقرار بالربوبية لله عز وجل.
ويتساوي الجميع بالتسليم بالعبودية لله عز وجل، ولدلالة تصديق اليهود بنبوة موسى، وتصديق النصارى بنبوة موسى وعيسى على أنهما مبعوثان من الله عز وجل بجذب الناس إلى عبادة الله والإعتراف بانه خالق السموات والأرض وما فيهن وما بينهن , قال تعالى[وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ).
التاسعة: من خصائص(خير أمة) محاربة الشرك بالله، والجهاد بين الناس جميعاً لإنذارهم من الشرك، لقبحه الذاتي، وضرره على النفس في الدنيا والآخرة، وليس من فعل مذموم أشد قبحاً وضرراً مثل(الشرك) وفيه نزول البلاء والعذاب العاجل والآجل بالناس، فمن رحمة الله عز وجل بهم جميعاً إخراج المسلمين لهم بالزجر عن الشرك، والمنع من إستيلائه على النفوس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، باعانة الله عز وجل للناس بالتنزه عن الشرك من وجوه:
الأول: وجود أمة عظيمة هي (خير أمة) تتصف بالسلامة من الشرك الظاهر والخفي.
الثاني: قيام(خير أمة) ببيان أضرار الشرك.
الثالث: نزول القرآن حرباً من السماء على الشرك.
والصحيح أن الآية جاءت بدعوة المسلمين لأهل الكتاب للإلتقاء في كلمة التساوي بين الفريقين وهي التوحيد إلا أنها حجة على المشركين والكفار من باب الأولوية القطعية.
فاذا كان المسلمون وأهل الكتاب تجمعهم كلمة التوحيد، ويسلمون بأن الله عز وجل هو رب العالمين الذي تجب عبادته، وهو الذي بعث الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين، فان الكفار مدعوون إلى إتباعهم والإقتداء بهم في التسليم بالربوبية لله عز وجل، وإظهار معاني العبودية له سبحانه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ] ( ).
بأن يتفضل بأسباب ومقدمات جذبهم إلى منازل الإيمان، فليس من إقامة للكفار في منازل الكفر، بل تلبسهم بالكفر متزلزل وغير ثابت، لأن(خير أمة) تهجم على العقائد الفاسدة، فتكشفها وتزيحها عن القلوب، وتأتي من غير واسطة إلى الغشاوة التي على أبصار المشركين فتمحوها بضياء الإيمان الذي يشد الأبصار ويصل إلى البصائر.
العاشرة:لما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بسبب فساد بني آدم كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، تفضل الله عز وجل باقامة الحجة على الملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وجاء هذا الرد أعم في موضوعه وأحكامه من مسألة الفساد، فامتثل الملائكة لأمر الله بالسجود لآدم عليه السلام قال تعالى[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
ومن علم الله عز وجل الذي ذكرته الآية أعلاه من سورة البقرة أمور:
الأول:نفخ الله الروح في آدم ودبيب الحياة فيه وتأهيله بالنفخ والتعليم لإكتساب المعارف الإلهية , قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الثاني:تفضل الله بتعليم آدم الأسماء من غير واسطة من الملائكة أو غيرهم، ليكون هذا التعليم واقية من سريان وطغيان الشرك في ذريته.
الثالث:بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاملاً لواء التوحيد في الأرض، ومؤسساً لصرح قائم للتوحيد لا يقبل التصدع، أو الميل.
الرابع:تقيد المسلمين والمسلمات بأحكام التوحيد وإلى يوم القيامة، ففي كل زمان هناك أمة من المسلمين توحد الله.
الخامس: خروج المسلمين للناس بالجهاد ضد الشرك ومفاهيمه.
الحادية عشرة: تتجلى الجمع بين الآيتين منافع قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحاجة إلى كل واحد منهما، ومن الإعجاز في المقام توجه الأمر بالمعروف إلى أهل الكتاب، ومصاحبة النهي له إلى أهل الكتاب وغيرهم من الأولوية القطعية، والشرك أم الكبائر، وأصل المنكرات والموبقات والفواحش , قال تعالى[وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ).
ومع تنزه الفرد والجماعة من الشرك فانهم يتخلصون عن معاصي وذنوب كثيرة، لإنقطاع شريان الحياة عنها، وتجلي زيفها وضررها عند من يؤمن بالله، ويصلح نفسه لأسباب الهداية والرشاد.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مناسبة للإمتحان والإبتلاء وتفضل بالهدى والدعوة إليه، فمن لم يكن مؤمناً مهتدياً، تأتيه الدعوة للإيمان بواسطة(خير أمة) التي تنال الثواب العظيم بهذه الدعوة وخروجها للناس، قال تعالى[وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا(دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من جهات:
الأولى: بعث الله الأنبياء بأمور:
الأول:الأمر بالمعروف.
الثاني: الأمر بالأمر بالمعروف.
الثالث: النهي عن المنكر.
الرابع: الأمر بالنهي عن المنكر.
الثانية:قيام المسلمين بالأمر بالمعروف فيما بينهم ليكون هذا المعروف مقدمة متجددة لخروجهم للناس، قال تعالى[وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ]( ).
الثالثة:مصاحبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناس إلى يوم القيامة.
الرابعة: إستدامة الحياة، ونزول البركات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صلة[وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا]بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى:تقدير الجمع بين الآية أعلاه وأول آية البحث على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة لا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً.
الثاني:كنتم خير أخرجت للناس بإعلان لا يتخذ بعضا بعضاً أرباباً.
الثالث: كنتم خير أمة أخرجت للناس بأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً.
الثانية:جاءت آية السياق بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أهل الكتاب إلى التوحيد، وهذه الدعوة متعددة من وجوه:
الأول: عبادة الله عز وجل.
الثاني: البراءة من أي معبود غير الله، وإجتناب الشرك بالله.
الثالث:عدم طاعة الرهبان والأمراء في معصية الله وكتمان الآيات وأسرار التنزيل، قال تعالى[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا]( ).
الثالثة: من خصائص(خير أمة) خروجها للناس بأسباب الهداية والصلاح، وليس من حصر لمواضيع ومصاديق خروج المسلمين للناس.
وهذه الكثرة والإطلاق من الثوابت التي تجعل إقامتهم في منازل أفضل وأحسن أمة مستديمة وثابتة إلى يوم القيامة، فاخلاص المسلمين لعبادة الله من خروجهم للناس من جهة الأسوة الحسنة التي يقتدي بها عموم الناس بالإضافة إلى مضامين آية السياق التي تتضمن الخروج الفعلي بالدعوة والإحتجاج والجهاد من قبل أجيال المسلمين،
ويهدي الله عز وجل بلطفه المسلمين إلى أسباب الصلاح، ويبعثهم في طاعته، ويبصّرهم في أمور دينهم ودنياهم، وهو من الجزاء العاجل على خروجهم للناس بلباس التقوى، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
لتكون الآية نوع عهد وميثاق سماوي يتقيد به المسلمون بأن يتوجهوا إلى أهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة مساواة بين الفريقين وهي التوحيد لترفع من شأنهم، وتزيد من رزقهم.
ومن خصائص (خير أمة) وجوه:
الأول: تلقي هذا العهد بالقبول، فلم يقف العهد على إمضائهم له، بل تلقوه بالقبول والرضا.
الثاني: شكر المسلمين لله عز وجل لتفضله بأمرهم بدعوة أهل الكتاب للتوحيد.
الثالث: إمتثال المسلمين المتجدد لمضامين آية السياق، فلم تأت عليهم فترة يقصّرون فيها في دعوة أهل الكتاب إلى التوحيد ففي كل يوم وكل مصر هناك دعوة لأهل الكتاب للإيمان، وهو من الإعجاز في وجوب التلاوة في الصلاة اليومية الواجبة، قال تعالى[اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ]( ).
الرابعة: من الشواهد على أن المسلمين(خير أمة) تلقيهم التعليم والتأديب من الله عز وجل، فقد تفضل سبحانه وهدى الناس للإيمان، وأرشدهم إلى الصراط المستقيم، وفاز المسلمون بنعمة تعاهد هذه الهداية وسبلها، وإجتناب العزوف عنها، وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا]( ).
وجاءت آية السياق لمنع دبيب الغرور لنفوس المسلمين، وحثهم على إقتران الصلة مع أهل الكتاب والناس بالخشوع والخضوع لله عز وجل فصحيح أن الآية تتضمن دعوة المسلمين لأهل الكتاب إلى الإلتقاء والإحتجاج إلا أنها تطرد في مفهومها الغلو بالأنبياء عن المسلمين، وتجعل المسلمين الأئمة في السلامة من الغلو، والزعماء والقادة الذين يفضحون الغلو, قال تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن مادة غلا لم ترد فيه إلا في آيتين متشابهتين باستثناء أداة الإستثناء(إلا) (غير)، (وغلا الناس في الامر، أي: جاوزوا حده)( ).
وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي ( )، ويتجلى حسن التأديب في كل آية من آيات القرآن، ومنه آية السياق إذ أنها حرب ذاتية وغيرية على الشرك والغلو بالأنبياء، ولم يرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينحني المسلمون بعضهم لبعض كما تقدم في حديث أنس بن مالك سواء لقبح الإنحناء ذاته، أو لكراهيته باعتباره مقدمة للغلو والسجود بلحاظ أنه يقترن بالشأن والمقام.
وقيل أن أبا رافع القرضي من اليهود و رئيس وفد نجران قالا : يا محمد أتريد أن نعبدك و نتخذك إلها فقال معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني و لا بذلك أمرني فأنزل الله الآية عن ابن عباس و عطاء و قيل نزلت في نصارى نجران عن الضحاك و مقاتل( ).
وكل كلمة من آية السياق تأديب للمسلمين، وتعاهد لسنن العبودية لله عز وجل ومن إعجازها تعدد معاني قوله تعالى[كَلِمَةٍ سَوَاءٍ] فهي كلمة واحدة تتضمن مواضيع وأحكاماً متعددة في ذات الآية تبدأ بعبادة الله عبادة خالصة ليس فيها شائبة الشرك والضلالة.
وفي دعاء إبراهيم عليه السلام [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]( ).
ويحتمل المطلوب في دعوة المسلمين لأهل الكتاب أمور:
الأول:تحتمل عبادة أهل الكتاب لله مثل عبادة المسلمين بأداء الصلاة بالكيفية التي يؤديها المسلمون، وصيام شهر رمضان على نحو التعيين وحج بيت الله الحرام لأن الله عز وجل فرض الحج على الناس جميعاً لقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
الثاني: إرادة عبادة كل من اليهود والنصارى لله على الكيفية التي جاءت بها التوراة والإنجيل.
الثالث: لقد طرأ التحريف على الكتب السماوية السابقة فلابد من الرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان مواطن التحريف كي تأتي العبادة مطابقة لما في الكتب السابقة.
الرابع: جاءت آية السياق ببيان ماهية العبادة التي يدعو المسلمون لها أهل الكتاب، وخلوها من الشرك.
الخامس: إعادة أهل الكتاب إلى ماجاء به أنبياء بني إسرائيل من ضروب العبادة، قال تعالى[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ]( ).
والصحيح هو الرابع والوجوه الأخرى في طوله ولا تتعارض معه، فمن إعجاز الآية التعدد في الغايات السامية لها.
لذا ترى تكرر حرف النفي(لا) عدة مرات في الآية، وهذا التكرار طريق للحصر والبيان والتعيين في ماهية العبادة بمصاديق تمنع من دبيب الشرك من جديد بين أهل الكتاب، وتكون عوناً للكفار للتخلص من عبادة الأصنام.
فيجاهد المسلمون الكفار بالسيف، ويحولون دون إستباحتهم للمدينة المنورة، وهو المصر الوحيد للإسلام وفيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون.
وجاؤوه مهاجرين من مكة هرباً من بطش كفار قريش، وبعد أن ذهب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للطائف وأوذي فيها، وهجرة نفر من المسلمين برئاسة جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة , قال تعالى[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً]( ).
وخرج المسلمون إلى معركة بدر وأحد، مع قلتهم والنقص الظاهر في عدتهم ومؤنهم بالذات وفي مقابل كثرة عدد الكفار المهاجمين وعدتهم وخيلهم وخيلائهم، ويدرك المسلمون أنه ليس من مدد يأتيهم من داخل المدينة أو من خارجها، فجاءهم المدد من الله عز وجل قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وعلى فرض حصول الهزيمة للمسلمين يوم بدر أو أحد فأين يذهبون، ومن يؤويهم.
الجواب من وجوه:
الأول: نصر الله للمسلمين يومئذ بفضل ومدد من الله عز وجل.
الثاني: إن الله عز وجل هو الواسع الكريم وهو الذي يمنع الكفار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته.
الثالث: في إنحصار إقامة المسلمين في المدينة المنورة شاهد على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في سبيل الله، وفيه حث لأجيال المسلمين بلزوم الإخلاص في عبادة الله.
الرابع: إن الأرض وما عليها ملك لله وهو الذي يذب عن المؤمنين قال تعالى[رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً]( ).
الخامسة: من مصاديق(خير أمة) تعدد وجوه جهاد المسلمين، وبذلهم الوسع في تعظيم شعائر الله، فهم يذبون بأنفسهم وأموالهم عن الإسلام وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويتعاهدون آيات القرآن بالتلاوة والتفسير، ويقيمون الفرائض والعبادات، ويتوجهون إلى أهل الكفار بالإحتجاج وطلب الإتحاد في عبادة الله، ونبذ إظهار معاني الربوبية لغير الله عز وجل.
وقال الحسن: بلغني أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك، قال :لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله( ).
فحفظت أجيال المسلمين علماء وعامة هذا الحديث نصاً ومضموناً، وتقيدت بأحكامه، وفيه وجوه:
الأول: الحديث أعلاه تفسير لآية السياق وتأكيد للزوم الإمتناع عن الغلو بالأنبياء.
الثاني: إنه من مصاديق قوله تعالى[خَيْرَ أُمَّةٍ] بالتنزه عن السجود لغير الله.
الثالث: إذا كان المسلمون، لا يسجدون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد بني آدم فمن باب الأولوية القطعية أنهم لا يسجدون لغيره، وبالإسناد علي عليه السلام: قال سمعت رسول الله يقول يا علي سيد البشر آدم و سيد العرب محمد و لا فخر و سيد الفرس سلمان و سيد الروم صهيب و سيد الحبشة بلال و سيد الجبال الطور و سيد الشجر السدر و سيد الشهور الأشهر الحرم و سيد الأيام يوم الجمعة و سيد الكلام القرآن و سيد القرآن البقرة و سيد البقرة آية الكرسي يا علي إن فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة( ).
الرابع: بيان مصداق شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يبغ الدنيا ولا الجاه، إنما بعثه الله لإصلاح الناس لعبادته، وفي التنزيل[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الخامس: عدم التعارض بين إجتناب عبادة غير الله وبين إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن دلالات الحديث النبوي عدم حصر الإكرام بشخصه الكريم بل قال صلى الله عليه وآله وسلم (واعرفوا الحق لأهله) ومن أهل الحق المسلمون إذ يخلصون العبادة لله، يدعون أهل الكتاب إلى التنزه عن إتباع الذين يكون في إتباعهم وكيفيته نوع شرك وضلالة.
وهل يلزم توجه الخطاب للمسلمين وإكرام بعضهم بعضاً الدور.
الجواب لا، وان نال كل مسلم الإكرام بلحاظ الفعل العبادي والجهادي وتكراره وتعدده من كل مسلم ومسلمة.
السادس: فيه ترغيب للمسلمين والمسلمات بتعاهد عبادة الله وإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات أن المسلمين مجتمعين ومتفرقين حريصون على عدم السجود لغير الله عز وجل، قال تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( ).
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر، فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحاً، فيأتون نوحاً فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول: ائتوا موسى.
فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول: إني قتلت نفساً ، ولكن ائتوا عيسى، فيأتون عيسى عليه السلام فيقول: إني عُبِدْتُ من دون الله، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال : من هذا، فأقول: محمد، فيفتحون لي ويقولون : مرحباً، فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد، فيقال: ارفع رأسك ، سل تُعْطَ، واشفع تُشَفّعْ، وقل يسمع لقولك، فهو المقام المحمود الذي قال الله[عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا] ( ).
وفي الجمع بين الحديثين أعلاه آية في إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتجلي ثواب جهاده وأمته في سبيل الله بإنفراده بمنزلة في الشفاعة لا يرقى اليها غيره من الأنبياء والصالحين.
السادسة: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين ورزقهم مرتبة العدل والشهادة عند الله عز وجل على الناس , قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( )، ليشهدوا على أفعال الناس في الدنيا والآخرة.
ومن فضل الله عز وجل أن هذه الشهادة لا تنحصر بالرؤية الحسية، والإطلاع على الأفعال، بل تتضمن الخروج للناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأسوة في الإيمان بالله ونبذ الشرك والضلالة.
ومن شهادة المسلمين على الناس خروجهم لأهل الكتاب بأمر من الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتهم إلى كلمة يتساوى فيها الجميع، وهي(لا اله إلا الله) (سأل ابن الكواء الإمام علي عليه السلام: قال: يا أمير المؤمنين كم بين موضع قدمك إلى عرش ربك ؟ قال: ثكلتك أمك يا ابن الكواء سل متعلما ولا تسأل متعنتا، من موضع قدمي إلى عرش ربي أن يقول قائل مخلصا: لا إله إلا الله قال: يا أمير المؤمنين فما ثواب من قال: لا إله إلا الله؟
قال عليه السلام: من قال مخلصا: لا إله إلا الله طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرق الأبيض، فإذا قال ثانية: لا إله إلا الله مخلصا خرقت أبواب السماوات وصفوف الملائكة حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة الله، فإذا قال ثالثة: لا إله إلا الله مخلصا لم تنهنه دون العرش، فيقول الجليل: اسكني فوعزتي وجلالي لأغفرن لقائلك بما كان فيه، ثم تلا هذه الآية[إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ])( ).
وشهادة المسلمين على شعبتين:
الأولى: الشهادة على الناس في الدنيا، وهو على وجوه:
الأول: البعث على الهداية والإصلاح.
الثاني: إظهار معاني العبادة والتقوى بمرأى ومسمع من الناس، فلا غرابة أن يؤدي المسلمون الصلاة خمس مرات كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني المنبسط على كل مكلف ومكلفة.
الثالث: من الشهادة تلاوة آيات القرآن، فقد تلقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل بواسطة جبرئيل، وقام بتبليغها للمسلمين فحفظوها ووعوها وعملوا بأحكامها.
ويقوم المسلمون بتبليغها إلى الناس، وإيصالها لأسماعهم، قال تعالى[هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ] ( ).
الثانية: شهادة المسلمين في الآخرة، وهي على وجوه:
الأول: الشهادة على الناس بالخروج لهم، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الشهادة بوجود أمة مؤمنة تطيع الله وتجتنب المعاصي، فلا يقول أحد يوم القيامة أنه لا يعلم بمفاهيم الإيمان.
الثالث: شهادة المسلمين على أنفسهم، بالإيمان بالله وحسن السمت، والسعي في سبيله تعالى.
الرابع:الشهادة على أعمال الناس وما خالفوا الحق والواجب به، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامس:شهادة المسلمين بقيامهم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد التي جاء بها الأنبياء السابقون.
السابعة:إبتدأت الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) وفيه إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان عظيم منزلته وأنه مبعوث للمسلمين ولأهل الكتاب والناس جميعاً بمصابيح الهدى، وسنن التوحيد.
ويحمل الأمر في الآية على الوجوب فلابد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أهل الكتاب إلى التوحيد، وفيه شواهد كثيرة في السنة القولية والفعلية والتدوينية، ولذا أختلف في المراد من أهل الكتاب ومنهم من قال المراد يهود المدينة.
وبالإسناد عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم وزعموا أنه مات يهودياً ، وأكذبهم الله ونفاهم منه فقال[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ]( ).
ومنهم من قال المراد نصارى نجران وبالإسناد عن ابن زيد قال: إنّ هذا لهو القصص الحقّ، في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى،قال: فأبوا يعني الوفدَ من نجران ، فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا[ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] ( ).
وقال جمع من العلماء المراد اليهود والنصارى وهو الصحيح.
فالمورد لا يخصص العام، ويتوجه الخطاب إلى اليهود والنصارى بعرض واحد، من غير ترجيح، وحصر لأحد الفريقين وفي عموم الخطاب لأهل الكتاب آية من وجوه:
الأول: بعث أهل الكتاب للتباري بينهم في قبول دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإلتقاء في كلمة التوحيد.
الثاني:حث كل فرد وجماعة من أهل الكتاب على المبادرة لقبول دعوة النبي محمد صلى الله وعليه وآله وسلم لأنها حق، وموافقة لكتاب السماوي سواء التوراة التي يرجع إليها اليهود، أو الإنجيل الذي يرجع إليه النصارى.
الثالث: وجود المقتضي وفقد المانع، فقد جاء موسى وعيسى عليهما السلام بكلمة التوحيد، وجاءت آية السياق لتبين حقيقة وهي أن مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشريعة جديدة وناسخة للشرائع الأخرى لا يبطل ماجاء به الأنبياء السابقون من الدعوة إلى التوحيد، ورفع راية(لا إله الا الله).
بالإسناد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَعْجَبُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ)( ).
لقد أراد الله عز وجل للصلة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال اليهود والنصارى أن تكون مستمرة وباقية في أفراد الزمان الطولية مادام هناك أفراد وطوائف من اليهود والنصارى، ففي كل يوم تطل آية السياق عليهم، ومنها دعوة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الدعوة بأمر من الله عز وجل، ويحملها المسلمون والمسلمات إلى أهل الكتاب.
ولا تنحصر الدعوة بتلاوة الآية الكريمة بل تظهر مضامينها على سجايا وحسن سمت المسلمين في كيفية توجيه الدعوة لأهل الكتاب، والمعاملة الكريمة معهم، وإجتناب الظلم والتعدي الذي قد يكون برزخاً دون التدبر في مضامين الدعوة، لذا تفضل الله عز وجل وقال[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
ومن الأحسن تلاوة هذه الآية، وإستحضار دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم للتوحيد، وصيرورة المسلم مرآة لهذه الدعوة.
وهل أداء المسلمين الوظائف العبادية البدنية والمالية أو البدنية المالية من عمومات هذه الدعوة، الجواب نعم وهي تأكيد للدعوة، ومصداق عملي لماهية الدعوة، وإخبار بأن كلمة التوحيد تتقوم بالعبادة.
الثامنة:أخبرت آية البحث عن تولي المسلمين وظيفة النهي عن المنكر على نحو مستديم ومتجدد , بقوله تعالى[وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] وجاءت آية السياق بمصاديق في النهي عن المنكر وهي:
الأول:النهي عن عبادة غير الله وبيان قبح الشرك، وسوء عاقبته، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ]( ).
الثاني:حرمة الشرك بالله سواء الشرك الظاهر أو الخفي، ويستقرأ هذا الإطلاق من عموم لفظ(شيئاً).
الثالث:المنع من إتخاذ أرباب من بين الناس من الرهبان والرؤساء، والنهي عن طاعة الذين يخفون أسرار التنزيل والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في التوراة والإنجيل، قال تعالى[مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ] ( ).
التاسعة:ترى لماذا جاءت آية السياق بصيغة الجمع(أرباباً) ولم تقل (رباً) فيه وجوه:
الأول: ورود نظم الآية بصيغة الجمع.
الثاني:بيان تعدد وجوه المعاصي، ولزوم التحذير من الإنقياد والإتباع فيها.
الثالث: في صيغة الجمع في الآية إعجاز، وهو تعدد وكثرة الذين يتولون الرياسة في منازل المعصية، وتحريف الآيات، وصد الناس عن سبيل الله.
الرابع: توكيد حقيقة وهي أن إتخاذ البعض أربابا من دون الله قبيح موضوعاً وأثراً، ومنهي عنه بالذات والعرض، ومما يترتب عليه الصدود عن الدعوة إلى كلمة التوحيد والإعراض عن الدلالات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تؤكد صدق نبوته, ومنها محاكاة الأنبياء السابقين بالزجر عن إتخاذ الأرباب المتعددين, وورد في التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام[أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
صلة[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين هو:كنتم خير أمة أخرجت للناس فان تولى أهل الكتاب فقولوا اشهدوا بانا مسلمون).
فمن إعجاز آية السياق أمور:
الأول: حصر التولي بأهل الكتاب.
الثاني: الإخبار عن التولي على سبيل الإحتمال لمجيء الآية بصيغة الشرط(إن تولوا) بينما جاء خروج المسلمين للناس جميعاً على نحو القطع.
ومن منافعه أن المسلمين يدعون أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد باعتبارها الجامع المشترك بين الفريقين فيسمع أو يستمع الكافر الوثني للدعوة فيدخل الإسلام، ويخلص إيمانه، ويدعو قومه إلى الإسلام، ويتلو آية السياق ويكون داعية لأهل الكتاب إلى كلمة التوحيد.
ومن الآيات أن أهل الكتاب لم يعيّروا هذا المسلم بالقول بأنه كان بالأمس كافراً، ليكون من الإعجاز في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الإسلام يجب ما قبله( )، وقاية المسلم من أسباب التعدي والإساءة من قبل غير المسلمين، سواء أصحابه من الكفار الذين كانوا معه أو غيرهم.
الثالث: إكتفت الآية بذكر تولي أهل الكتاب باعتباره منتهى الإعراض والجحود، وفيه بشارة الأمن من أهل الكتاب بخصوص الدعوة إلى التوحيد والإجتماع على(لا إله إلا الله) والإتفاق على عدم إتخاذ أرباب من دون الله عز وجل والرب هو الله عز وجل، وله الربوبية المطلقة على الخلائق جميعاً،
فالله سبحانه واجب الوجود الذي خلق الأشياء كلها، وما عداه ممكن تلازمه الحاجة، لا يقدر على البقاء والإستدامة إلا بفضل من الله عز وجل، ويتلو كل مسلم ومسلمة في كل يوم ليلته قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، عدة مرات.
ليكون هذا الحمد تضرعاً ورجاء لإستدامة نعمة الخلق، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس بالحمد والدعاء وأسباب رجاء ديمومة الحياة، و(الرَّبُّ يُطْلَق في اللغة على المالكِ والسَّيِّدِ والمُدَبِّر والمُرَبِّي والقَيِّمِ والمُنْعِمِ ولا يُطلَق غيرَ مُضافٍ إِلاّ على اللّه عزّ وجلّ وإِذا أُطْلِق على غيرِه أُضِيفَ فقيلَ ربُّ كذا) ( ).
الرابع:تقييد النهي عن إتخاذ الأرباب بأنه من دون الله عز وجل، لبيان قبح طاعة الناس في المعاصي وإن كانوا أصحاب سلطان وجاه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق( )، ولمنع الحرج في إتباع الذين يقودون الناس نحو أسباب الهداية والإيمان، وبعث الناس للتمييز والفصل بين دعوة الحق والصلاح وبين الدعوة إلى الباطل.
وفي الآية نكتة إعجازية، وهي الإخبار عن إظهار أمة من أهل الكتاب تتولى قبول دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموافقتها للفطرة وما في الكتب السماوية السابقة، وما لم يطرأ عليه التحريف منها، لتدل الآية في مفهومها على دعوة عموم أهل الكتاب للإصغاء لهم.
صلة خاتمة آية السياق بفاتحة آية البحث:
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين:
الأول: كنتم خير أمة فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) وفيه تفسير وبيان لخصال(خير أمة) وهي إنتسابهم للإسلام ملة وعملاً.
الثاني: تأكيد ثبات المسلمين في منازل الإيمان حتى ولو أعرض وصدّ عنهم أهل الكتاب الذين هم أقرب الناس إليهم، وهذا الثبات من الشواهد على إستحقاق المسلمين لمنزلة(خير أمة) من جهات:
الأولى: توجه المسلمين لأهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة جامعة وهي التوحيد.
الثانية: مجيء هذه الدعوة بأمر من الله عز وجل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: بيان موضوعية شهادة(لا إله إلا الله) وأنها الأصل الذي ترتكز عليه الديانات السماوية، فلا يصدق على المسلم أنه مسلم، والكتابي أنه كتابي إلا بالنطق بقول(لا إله إلا الله)لذا وصفتها آية السياق بأنها كلمة سواء يتساوى فيه المسلم واليهودي والنصراني.
ومن إعجاز الآية أنها لم تأت بالف ولام التعريف والحصر(الكلمة سواء) بلحاظ إرادة شيء بعينه بالألف واللام، كما لو قلت دخلت مسجداً، فإنما تقصد دخلت مسجداً يقع عليه هذا الاسم من غير تعيين، أما لو قلت دخلت المسجد، فإنك تريد مسجداً مخصوصاً يعرفه المخاطَب-بالفتح- بصيغة التنكير(كلمة سواء) مما يدل على وجود كلمات وأحكام متعددة يلتقي فيها المسلمون مع أهل الكتاب منها التصديق بنبوة إبراهيم وموسى، عليهما السلام، ونزول التوراة من عند الله , لذا ورد قوله تعالى[هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ]( ).
فصحيح أن اليهود لا يعترفون بنزول الإنجيل، والنصارى لا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الجميع متفقون على نبوة موسى عليه السلام، ونزول التوراة من عند الله.
ثم أنه ذات الكلمة السواء التي تذكرها آية السياق متعددة، من وجوه:
الأول: التوحيد.
الثاني: عبادة الله عز وجل.
الثالث: عدم عبادة غير الله.
الرابع: التنزه عن الشرك، قال تعالى[وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ]( ).
الخامس: عدم إتخاذ أرباب من دون الله عز وجل.
الرابعة: إبتدأت آية البحث بالإخبار عن خروج(خير أمة) وهم المسلمون للناس، ومن خصائص القرآن مجيء التفصيل، فهو درر وذخائر في ثنايا آيات القرآن، وليس في ذات الآية التي فيها المجمل وحدها، فجاءت آية السياق لبيان مصاديق متعددة من خروج المسلمين للناس منها:
الأول: تلاوة أمر لله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل).
الثاني: محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء به بالقول والخطاب لأهل الكتاب .
لقد خلق الله عز وجل آدم لتنتشر ذريته في الأرض، وتملأ مشارقها ومغاربها وتصعد إلى السماء والكواكب، وتضيق بها الأمصار مع إتساعها وإنشطارها المستمر، وكذا نزل قوله تعالى(قل) أمراً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليتلوه الملايين من المسلمين في أمصار الأرض كل يوم , ومن قبل كل جيل وطبقة من طبقاتهم وإلى يوم القيامة , قال تعالى[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ]( ).
الثالث: مع أن خروج المسلمين للناس جميعاً، فإنهم يتوجهون بالخطاب إلى شطر وفريق منهم، وإذ كان الخطاب خاصاً فإن منافعه وآثاره عامة وشاملة للمسلمين وأهل الكتاب والكفار.
الرابع: دعوة أهل الكتاب إلى القرب من المسلمين (تعالوا) , وهذا القرب عقائدي , إلا أنه لا يمنع من إرادة القرب المكاني، وفيه آية من وجوه:
الأول: عدم النفرة من الكتابي.
الثاني: هذا القرب ولغة الحوار مع أهل الكتاب لن تضر المسلمين في دينهم ودنياهم.
الثالث: تقوم القرب والصلة الدعوة إلى التوحيد فإن قلت إن قوله تعالى(تعالوا) مقيد بتعيين الغاية والقصد الذي يأتي إليه أهل الكتاب وهو الكلمة التي يتساوى فيها المسلمون وأهل الكتاب[تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ].
والجواب هذا صحيح ولكن هذا المجيء عنوان للإشتراك والقرب والإلتقاء في موضوع مخصوص هو أسمى وأبهى ما في الأرض، وبه قامت السموات والأرض، وصارت كلمة سواء بين المسلمين وأهل الكتاب لأن إبراهيم عليه السلام تركها إرثاً عند إسماعيل وإسحاق وذريته عن بعده، قال تعالى[وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]( ).
فجاءت كل من آية البحث والسياق ليرجع أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد، ودين الإسلام إن قيام المسلمين بدعوة أهل الكتاب لكلمة التوحيد ضمن الآيات التي تذكر بإبراهيم وتؤكد أنها كان[حَنِيفًا مُسْلِمًا]( ).
لتأكيد حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بذات الحنيفية والإسلام الذي جاء به إبراهيم عليه السلام صادقة، وفيه ترغيب لأهل الكتاب بالإسلام، وعدم التولي والإعراض عن الدعوة إلى كلمة التوحيد ، والإلتقاء عند القاسم المشترك بينهم وبين المسلمين .
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة أهل الكتاب والناس إلى الإصغاء إلى دعوة المسلمين للإلتقاء والإجتماع عند كلمة التوحيد لأن هذه الدعوة صادقة من (خير أمة) لما جبلت عليهم النفوس الإنسانية من جعل موضوعية لجهة الصدور، ومقامات أصحاب الدعوة إذ جاءت الدعوة على لسان النبي محمد صلى الله علية وآله وسلم وتلقفتها (خير أمة) لتخرج بها إلى الناس، بإعتبار أن الخروج بهذه الدعوة واجب على المسلمين، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إنه فرض عين على كل مسلم.
الثاني: إنه فرض على كل مسلم ومسلمة من المكلفين، ويدل عليه خاتمة الآية[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الثالث: إنه واجب كفائي، إذا جاء به بعض المسلمين سقط عن الباقين.
الرابع: إنه أعم من التقسيم الثنائي للواجب إلى واجب عيني وواجب كفائي.
والصحيح هو الأخير، إذ أن وجوب دعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد متجدد في اليوم والليلة ولا ينحصر بموضوع مخصوص، ولا تكفي فيه المرة الواحدة، لذا تأتي الدعوة من السماء بآية قرآنية يتلوها المسلمون في الصلاة وخارجها، والتقسيم أعلاه تقسيم إستقرائي من الأصوليين.
وأنواع الواجب أعم منه بلحاظ المرة والتكرار والواجب المؤقت وغير المؤقت والمنجز والمعلق وغيرها.
لقد إبتدأت آية السياق بصيغة الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) وتتفرع عنه صيغة الوجوب بأعداد غير متناهية لإنبساطها مكررة على كل مسلم ومسلمة، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، ترى لماذا لم تقل الآية(قولوا يا أهل الكتاب) خصوصاً وأن خاتمة الآية جاءت بصيغة الجمع(فإن تولوا فقولوا).
الجواب من وجوه:
الأول: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل.
الثاني: تأكيد جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله سبحانه .
الثالث: تأكيد حقيقة تأريخية وهي قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج والمناظرة مع أهل الكتاب، ومما تتقوم به المناظرة المواجهة، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يحجب نفسه عن أهل الكتاب، وهم لم يقاطعوه، بل كان على صلة معهم، يصلون إليه ويدخلون المسجد النبوي كما في وفد نصارى نجران.
الرابع: تأديب المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تخبر الآية الكريمة عن الواقع والحال، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتولى فعلاً التبليغ ووظائف الإحتجاج، وكان يدعو أهل الكتاب إلى النُصف ويقطع عليه الحجة، قال تعالى[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
السادس: موضوعية أسباب النزول في لغة الخطاب في الآية الكريمة(قال المفسرون : قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنّا اختلفنا في إبراهيم ودينه فزعمت النصارى أنّه كان نصرانياًروهم على دينه وأولى النّاس به، وقالت اليهود: بل كان يهودياً وأنّهم على دينه وأولى النّاس به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفاً وأنا على دينه فأتبعوا دينه الإسلام.
فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتّخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً. وقالت النصارى: واللّه يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنزل اللّه تعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} عدل {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ})( ).
السابع: تأكيد حقيقة وهي أن الذين كان يدعوهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى كلمة التوحيد هم من أهل الكتاب، وهو من الأخبار التأريخية المتواترة التي تفيد القطع، وعندما دخل وفد نصارى نجران مسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحان وقت صلاتهم قرعوا نواقيسهم فهمّ بعض الصحابة بمنعهم، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أشار بتركهم وشأنهم، وفيه آية في النبوة، وعدم الخشية على الصحابة من الإفتتان بهم.
الثامن: بيان إتحاد سنخية النبوة، وأن الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو نفسه الذي جاء به موسى وعيسى، وإن الرجوع إلى كلمة التوحيد قطع لدابر الفتنة، ومنع من الخصومة والشقاق بين أتباع الكتب السماوية.
صلة خاتمة آية السياق[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد خرج المسلمون للناس بالحق ولواء الهدى والرشاد، ولا يعني هذا الخروج إستجابة الناس لهم على نحو الموجبة الكلية.
فجاء قوله تعالى(فإن تولوا) لبيان حقيقة وهي إحتمال صدود وإعراض أهل الكتاب أو فريق منهم عن الدعوة إلى كلمة التوحيد ونبذ الشرك وإتخاذ الأرباب من دون الله وفيه طرد للشك والريب، ومنع لدبيب اليأس إلى نفوس المسلمين، قال تعالى[وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الثانية: يحتمل حال المسلمين عند إعراض أهل الكتاب عن دعوتهم إلى القرب منهم والإلتقاء عند التوحيد وجوهاً:
الأول: الإستمرار بدعوة أهل إلى كلمة التوحيد.
الثاني: ترك وهجران أهل الكتاب.
الثالث: التوجه إلى الكفار والمشركين بالدعوة إلى دخول الإسلام، وليس إلى كلمة سواء، أي أن الكافر لا يبقى على ملة الكفر فلا بد من النطق بالشهادتين.
الرابع: الإنتقال من الإحتجاج مع أهل الكتاب إلى إستعمال السيف سلاحاً لحملهم على كلمة التوحيد.
الخامس: إقامة الحجة، وبيان ثبات المسلمين على دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم ومن سبقه وتأخر عنه من الأنبياء.
والصحيح هو الأول والثالث والخامس، وهو من إعجاز القرآن، قال تعالى[لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( )، فجاءت آية البحث بخروج المسلمين المتجدد للناس جميعاً من وجوه:
الأول: بما هم ناس تجمعهم مع المسلمين أخوة الإنسانية.
الثاني: الفرق والطوائف وهل من موضوعية في خروج المسلمين لتقسيم أقطار الأرض إلى بلدان مستقلة، وأمصار يجمع أهلها إعتبار الوطن الواحد وإن كانوا من مذاهب وأصول متعددة، الجواب نعم وهو من أسرار الإطلاق في خروج المسلمين للناس جميعاً، وفيه آية بعدم التزاحم أو التعارض مع مفاهيم الإنتماء للوطن والإسلام.
الثالث: الخروج للناس بلحاظ أنهم أفراد وجماعات، لأن الخروج إنحلالي فيكون تارة للناس جميعاً، وتارة للجماعات، وأخرى للأفراد على نحو القضية الشخصية.
الثالثة: من إعجاز آية السياق إستمرار وتجدد دعوة المسلمين أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد وإن أحد أهل الكتاب على الإعراض عنها، ولكن هذا الإعراض لا يترك سدى، بل يتعقبه إعلان المسلمين الثبات على الإيمان وكأن هناك ملازمة طولية بين الدعوة والإعلان أعلاه، وصدورهما يعرض واحد من المسلمين، لإحتمال تحقق التوبة والهداية، وقبول الدعوة عند شطر منهم قال تعالى[قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وهو من أسرار إفتتاح الآية بصيغة الخطاب والأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختتامها بصيغة الجمع والأمر للمسلمين(فقولوا) مع إستقلال الدعوة في بدايتها لأن التولي في حال حصول لا يأتي إلا بعد تلقي الدعوة، سواء كان عن تشاور أو لا.
وهل يمكن أن يقال بإحتمال حصول التولي عن حجة الجواب لا، فالحجة والبرهان في لزوم قبول هذه الدعوة ومن شرائط صناعة البرهان إنحصاره بطرف واحد من طرفي الجدال والخصومة لأنه متحد لا يقبل التعدد في الموضوع الواحــد.
ومن الشواهد في ذات الآية على إستمرار الدعوة مجيؤها بصيغة المضارع في مضامينها(تعالوا) (ألا نعبد) (ولا يتخذ) (فإن تولوا) (فقولوا).
الرابعة: تقدير خاتمة آية السياق: فإن تولى أهل الكتاب عن الكلمة السواء فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون)وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس جميعاً، فبينما كان كفار مكة يسألون أهل الكتاب عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت آية السياق لتخبر الناس جميعاً عن ماهية الصلة بين الناس وأهل الكتاب(قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا أ ما وجد الله رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله تعالى هذه الآية[لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ])( ).
وكما جاءت آية السياق دعوة لأهل الكتاب للإجتماع والإلتقاء مع المسلمين على حكمة التوحيد فأنها جاءت للكفار بالإنذار والتوبيخ على الرجوع في أمر نبوة محــــــمد صـــلى الله عليه وآله وسلم إلى غير المعجزات التي جــاء بها والمســـلمين وفيه دعـــوة لهم بالتـــدبر والتفكر برحمة الله عز وجل بهم ببعثته صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو من مصاديق خروج المسلمين ليكون تقدير أول آية البحث: كنتم أمة أخرجت للناس برحمة الله) قال تعالى[فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ).
ومن مواضيع نزول الآية أعلاه التائبون، والترغيب بالتوبة، والسعي للفوز برحمة الله عز وجل بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله عز وجل رحمة لأجيال الناس إلى يوم القيامة.
الخامسة: من منافع خروج المسلمين للناس، إرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة الإلهية، والتفقه في الدين، والسعي لإقامة الحجة والبرهان على الخصم، وإفحامه، فبعد أن جاءت آية السياق بالدعوة إلى كلمة التوحيد، إنتقلت في حال إعراض أهل الكتاب عن هذه الدعوة إلى طلب الشهادة على إيمان المسلمين وتمسكهم بإتباع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل هذه الشهادة من أهل الكتاب مطلوبة بذاتها، أم أنها أعم في موضوعها ودلالاتها، الجواب هو الثاني، وهي بلحاظ خروج المسلمين للناس على وجوه:
الأول: طلب المسلمين من أهل الكتاب الشهادة على إسلامهم.
الثاني: شهادة أهل الكتاب بصدق إيمان المسلمين.
الثالث: إتعاظ الناس من هذه الدعوة وطلب الشهادة.
وقد ينتفع غير أهل الكتاب من طلب المسلمين منهم الشهادة بإسلامهم وحسن سمتهم وإتباعهم لملة إبراهيم، قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( )، وفي الآية أعلاه تشريف وإكرام لعموم المسلمين، بنسبتهم إلى إبراهيم بالبنوة وليس الحنيفية وحدها، فإبراهيم عليه السلام هو أبو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينتسب له أهل الكتاب بواسطة إسرائيل لذا جاءت آيات القرآن بالخطاب(يا بني إسرائيل).
أما المسلمون فمع أنهم من أصول شتى، فإن الله عز وجل نسبهم إلى إبراهيم، ونعته بأنه أبو المسلمين، وهو الذي إختار لهم هذا اسم الإسلام، فمن عادة الأب أن أسماء أبنائه أما إبراهيم عليه السلام فأنه إختار التسمية العقائدية التشريفية لأبنائه وهي(الإسلام) وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
السادسة: لقد جاءت آيات القرآن بشهادة المسلمين على الناس جميعاً قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( )، ومما تتقوم به شهادة المسلمين أنها لله وفي الله ومن الله عز وجل وفيها تذكير باليوم الآخر، وقانون الوعد والوعيد، وإستحضار علة الثواب، والأسباب التي تجلب العذاب الآخروي.
وكما يشهد المسلمون على الناس فأن خاتمة آية السياق تدل على أمور:
الأول: شهادة المسلمين لأنفسهم بالإسلام.
الثاني: دعوة أهل الكتاب للشهادة على إسلامهم .
الثالث: ترغيب الناس جميعاً بالإسلام والإنتماء إليه.ومع أن المسلمين شهداء على الناس فان آية السياق جاءت بطلب شهادة الناس للمسلمين ، وليس عليهم ، أذ أن المدار ، في الفوز والسلامة بالإنتماء للإسلام ، فبعد أن إبتدأت آية بالجهاد بلغة الإحتجاج ، ومواجهة أهل الكتاب بلزوم عبادة الله، والتقيد بسنن التوحيد، ونبذ الشرك والضلالة أختمت بالدعوة بلإقرار بحسن أيمان المسلمين ،وفيه وجوه.
الأول: بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين ، مجتمعين ومتفرقين قال الله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني: إنه مناسبة لشكر المسلمين الله عز وجل على نعمة الإسلام والهداية إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: تأكيد إتباع المسلمين لنهج إبراهيم الذي كان[حَنِيفًا مُسْلِمًا]( ).
الرابع: ترغيب أهل الكتاب وغيرهم من الناس بالإسلام .
فإذا كان أول الآية دعوة لأهل الكتاب وغيرهم إلى كلمة التوحيد فان خاتمتها دعوة إلى الإسلام والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها ، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وإذا كان المسلمون خرجوا للناس جميعاً ومنهم المسلمون أنفسهم، فهل تكون شهادة المسلمين عامة ومطلقة، ويدخل فيها ذات المسلمين، الجواب نعم، فالمسلمون يشهدون لأنفسهم بالإسلام، كما يشهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ]( ).
وليس من أمة تشهد على الناس وتشهد لنفسها إلا المسلمين، وهو من خصال(خير أمة) ودليل على المرتبة العظيمة التي بلغها المسلمون.
السابعة: لما وصفت آية البحث المسلمين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بين الناس على نحو مستديم، أختتمت آية السياق بأمر وقول المسلمين إلى أهل الكتاب بإشهادة لهم بالإسلام ويحتمل هذا القول وجوهاً:
الأول: إنه من الأمر بالمعروف لما فيه من بيان للحق والصدق، ودعوة أهل الكتاب للتسليم بماهية الإسلام وتجلي مفاهيمه على قول وفعل المسلمين.
الثاني: إنه من النهي عن المنكر لما فيه من أسباب الإمتناع عن نسبة إبراهيم إلى اليهودية أو النصرانية.
الثالث: قول المسلمين(إشهدوا) ليس من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، إنما ورد للإحتجاج.
والصحيح هو الأول والثاني، وتلك آية في خروج المسلمين للناس، مجتمعين ومتفرقين، وتوجههم إلى أهل الكتاب بالدعوة إلى الإجتماع على كلمة التوحيد، والشهادة للمسلمين بأنهم منقادون لأمر الله، مستجيبون لأمر الله، مستجيبون ومذعنون له سبحانه.
ومن مصاديق الأمر بالمعروف في المقام دلالة هذا القول والشهادة في مفهومه على سلامة إختيار الإسلام، ونبذ الشرك، وإتخاذ الأرباب من دون الله، وفيه تذكير بعالم الحساب، والحاجة إلى الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
وهل يصح القول بإفادة الجمع بين الآيتين هو: فإن تولوا فقولوا إننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، الجواب نعم، للملازمة بين الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإخلاص وجهاد إبراهيم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نال مرتبة الإمامة بين الناس، قال تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ).
وهل يمكن إعتبار المسلمين هم ذرية إبراهيم في الآية أعلاه لقوله تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( )، فأبوة إبراهيم للمسلمين تدل على أنهم هم ذريته، الجواب لا، لأن الذرية أخص وتتعلق بالنسب، وكذا منزلة الإمامة وهي تخص مرتبة النبوة التي رزقها الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: جاءت آية البحث بالشهادة للمسلمين بلغة الخطاب(وتؤمنون بالله) وفيه مدح وثناء على المسلمين، ودعوة لهم لتعاهد الإيمان بالله بإعتبار ومنزلة رفيعة لم يبلغوها إلا بالفقه والتدبر والصبر والجهاد.
فلم يكن طريق الإيمان وإختيار التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمراً سهلاً، فكان الكفار والمشركون حرباً على الإسلام والمسلمين، ولم ينقطعوا عن إيذائهم وتجهيز الجيوش عليهم، فأمر الله المسلمين برفع سلاح الصبر ولواء التقوى، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
وأختتمت آية السياق بطلب المسلمين من أهل الكتاب بالشهادة لهم بالإسلام، والذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور:
الأول: شهادة المسلمين بعضهم لبعض بالإيمان.
الثاني: يتغشى الإيمان المسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الثالث: شهادة المسلمين لأنفسهم بالإسلام من مصاديق قوله تعالى(كنتم خير أمة).
الرابع: من خروج المسلمين للناس طلب المسلمين من أهل الكتاب الشهادة لهم بالإسلام.
الخامس: لغة التحدي في مواجهة أهل الكتاب، لإرادة معنى الإنقياد والإستسلام لأمر الله بالإسلام.
السادس: وراثة المسلمين للأنبياء ملة الإسلام، وسنن الإنقياد لأوامر الله عز وجل.
السابع: التذكير بحسن ثواب المسلمين يوم القيامة، وإنذار الكفار والمشركين من العذاب، قال تعالى[أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ]( ).
وكان الكفار يقولون : إن كان هناك بعث وجزاء كما يتوعدنا محمد فإن حالنا في الآخرة مثلما هو في الدنيا من النعم والجاه، فجاءت الآية أعلاه لتوبيخهم ودحض حجتهم، وتأكيد عظيم منزلة المسلمين في الآخرة، لذا فإن المسلمين يريدون من أهل الكتاب الشهادة بحسن الثواب في الآخرة.
التاسعة: إن قــوله تعــالى(أشـهدوا بــأنا مســلمون) شــهادة مـن الله عـز وجل بحســن ســمت المسلمين، وإقرارهــم بالعبــودية والخضوع لله عز وجل، فســواء شــهد أهل الكــتاب أم لم يشـــهدوا، فقد شــهد الله عـز وجل للمسلمين بما فيه العز والفخر في النشأتين، قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
ومن الآيات أن الله عز وجل يأمر المسلمين بإعلان إسلامهم، وفيه دليل على بلوغ المسلمين مرتبة من القوة والمنعة بحيث لا يخافون من إشهار إسلامهم، وفيه وجوه:
الأول: المسلمون أمة متحدة، يجمعها الإنقياد لأمر الله.
الثاني: تصديق المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بداية إعلان الدعوة إلى الإسلام، وإستمرارها إلى يوم القيامة، فإن قلت ليس في خاتمة آية السياق ما يدل على هذه الدعوة.
والجواب تترشح الدعوة عن إعلان الإسلام وطلب شهادة أهل الكتاب عليه بالدلالة التضمنية.
العاشرة: قيدت خاتمة آية السياق طلب شهادة أهل الكتاب على إسلام المسلمين بحال تولي وإعراض أهل الكتاب لقوله تعالى(فإن تولوا) ترى عن ماذا يتولى عنه أهل الكتاب،
الجواب من جهتين:
الأولى: إستقراء الجواب من مضامين ذات آية السياق من وجوه:
الأول: الإعراض عن المجيء إلى كلمة جامعة بين المسلمين وأهل الكتاب وهي التوحيد.
الثاني: الإمتناع عن إختصاص الله عز وجل بالإلوهية والربوبية وترك نسبة البنوة له.
الثالث: عدم التنزه عن إتخاذ الرؤساء والرهبان أرباباً.
الثانية: إرادة معاني وأمور يتولى عنها أهل الكتاب كما في قوله تعالى بخصوص اليهود والنصارى[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ]( ).
الحادية عشرة: من خصائص(خير أمة) هداية الله عز وجل لأفرادها مجتمعين ومتفرقين في ميادين الجدال والإحتجاج، وتتغشى هذه الهداية أموراً:
الأول: البعث على الإحتجاج.
الثاني: تعيين الجهة التي يحتج عليها ويجادلها المسلمون وهي في آية السياق أهل الكتاب، ويأتي على وجوه أخرى منها:
الأول: إرادة بني إسرائيل على نحو مخصوص، كما في قوله تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ]( ).
الثاني: الإحتجاج على الكفار والمشركين.
الثالث: فضح المنافقين، وبيان قبح فعلهم، ودعوتهم للتوبة.
الرابع: الجدال والإحتجاج على الناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الخامس: الإحتجاج على النصارى على نحو الخصوص، كما في مفهوم قوله تعالى[أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ]( ).
بحث لغوي
تأتي(دون) بمعان متعددة:

  1. بمعنى فوق، كقولك إن إبراهيم لحنيف مسلم، فيجيب آخر فيقول ودون ذلك أي فوق ذلك للإشارة إلى مرتبة النبوة.
  2. بمعنى تحت (دونَ قَدَمِك خَدُّ عدوّك أَي تحت قدمك)( ).
  3. اسم فعل أمر بمعنى خذ: دونك الكتاب أي خذه.
  4. بمعنى أمام، يقال: رأيته دون القوم: أي أمامهم، قال حسان ثابت: ترك الأحبة لم يقاتل دونهم
    ونجا برأس طمرة ولجام( ).
  5. بمعنى وراء، يقال: صلى دون الإمام أي خلفه، ذكر ابن منظور مثلاً : هذا أمير على ما دون جيحون) ( ).
  6. بمعنى(قبل) وفي المثل: دون ذلك خرط القتاد) والقتاد هو شجر شاك صلب، له سنقة وجناة كجناة السمر، ينبت بنجد وتهامة، واحدته: قتادة)( ).
  7. بمعنى أقل من: كما في قوله[وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
  8. إرادة التفصيل وإستبعاد ما يضاف إليه لفظ(دون) كما لو قلت: كل السمك دون اللبن) أو الصوم في النهار دون الليل.
  9. إفادة معنى الإختصاص والحصر: قالت إعرابية لخالد القسري: ونصيحتي للأمير أن يأمر لي بخادم وما يصلحني وإياها، قال خالد: هذه نصيحة لكِ دوننا، قالت : لك أجرها وذكرها وثناؤها وعلاؤها، ولي نفعها.
  10. بمعنى التقصير عن بلوغ الغاية: يحبس الجهل صاحبه دون ما ينفعه.
  11. بمعنى الوعيد(كقولك دُونك صراعي ودونك فتَمرَّسْ بي)( ).
  12. بمعنى الأغراء كقولك دونك الصلاة أي تعاهد الصلاة.
  13. بمعنى سوى، كما في قوله تعالى[وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ]( )، أي سوى الغوص.
  14. (قال الفراء: دون تكون بمعنى على، وتكون بمعنى علّ، وتكون بمعنى بعد، وتكون، بمعنى عند)( )،
    والذي نؤسسه في المقام هو إمكان إجتماع أكثر من معنى للفظ
    المتحد من(دون) في الآية القرآنية، إذ أن التقسيمات أعلاه إستقرائية، ويجتمع في قوله تعالى[وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، معنى سوى معنى أقل من، وللإشارة إلى الشرك، والجمع بين عبادة الله وبين إتباع الرؤساء بالباطل وغير الحق.

بحث منطقي
يعتبر أرسطو( )، أول من قال بالكليات الخمسة للتمييز بينها، وتحديد معانيها وإيجاد الرابط وما يسميه بالحد الوسط للوصول إلى تعريف ماهية الأشياء في التمييز بينها.
والكليات هي:
الأولى: الجنس وهو الذي يشمل أنواعاً متعددة تربطها ماهية مشتركة مثل الحيوان.
الثانية: النوع , وهو الجامع الشامل لأفراد متعددة من جنس واحد.
الثالثة: الفصل وهو الذي يفصل بين الأنواع على نحو جلي ومانع من التداخل.
الرابعة: الخاصة وهو فارق غير أساسي يميز بين الأنواع.
الخامسة: العرض العام.
فالحيوان مطلقاً جنس، ويكون الإنسان نوعاً من أنواعه، ويتميز عن غيره من الحيوانات بالنطق، وهذا المائز وهو النطق أطلق عليه أرسطو اسم الفصل لأنه فارق فاصل وأساسي بين الإنسان والحيوانات.
أما الخاصة وهي الرابعة من الكليات الخمسة أعلاه فهي تميز الإنسان أيضاً عن الحيوانات , ولكن ليس لها موضوعية كالنطق بل هي أمر عرضي سواء كان ملازماً أو مفارقاً كالضحك لأنها فوارق ظاهرية طارئة غير فاصلة.
وأما العرض العام فهو الفارق الذي لا يميز نوعاً عن نوع، كالمشي عند الحيوانات.
ولو كان الجنس هو الإنسان وليس الحيوان فإن العرض العام بين أفراده مثلاً اللسان والكلام فإنه لا يكون مائزاً بين المسلم والكتابي والكافر، ويكون الإنسان بالنسبة للحيوان نوعاً ويصح أن يكون جنساً، قال تعالى[خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
وهذا الحسن في الخلق يصح أن يكون نوعاً كالسكن والقارة فيقال آسيوي، أوربي، أفريقي، أو بلحاظ القومية أو بلحاظ اللغة التي يتكلمون بها، ويكون هناك فصل وخاصة تفصل وتميز بين كل فريق منهم، وهناك عرض عام وشامل للجميع.
وأخبرت آية البحث بأن المسلمين(خير أمة) وهذا الإخبار فصل ومائز يفصل المسلمين عن غيرهم بلحاظ أنهم(خير أمة) وتكون دعوتهم لأهل الكتاب لكلمة التوحيد في آية السياق خاصاً وعرضاً، ومن خصائص(خير أمة) تعدد الفصل بينها وبين أهل الملل والنحل الأخرى، وكل فرد ومائز يفصلهم عن غيرهم خصلة حميدة، وسنة رشيدة مستقرأة من الكتاب العزيز، وشاهد على أنهم ( خير أمة ) أرادوا للناس جميعاً التحلي بهذه الخصال، فتولوا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتكون هذه الوظيفة على وجوه:
الأول: إنها فصل بين المسلمين وبين الناس.
الثاني: فيها شاهد على رحمة الله بالمسلمين والناس.
الثالث: فيها دليل على حب المسلمين الخير للجميع بإصلاحهم وتقريبهم إلى منازل الهداية .
وكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانة عند المسلمين، قال تعالى[وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( ).
وأختتمت آية السياق بفصل دائم عند المسلمين وليس خاصة أو عرضاً ملازماً أو مفارقاً، لقوله تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ].
ليكون الإنتماء إلى الإسلام حداً جامعاً مانعاً.
جامعاً لدخول أجيال المسلمين والمسلمات فيه.
ومانعاً من دخول غير الذين ينطقون بالشهادتين فيه.
الثانية عشرة: من إعجاز القرآن التباين في القول والفعل عند التولي والإعراض من الناس بحسب الموضوع والإنتساب، فيكتفى مع أهل الكتاب بطلب شهادتهم وإقرارهم باسلام المسلمين، أما الكفار فالأمر مختلف معهم عند توليهم وإعراضهم عن دعوة الحق، قال تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( )، وهو الذي تدل عليه آية السيف[فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
وهذا التباين من إعجاز الأحكام في الشريعة الإسلامية، وعدم وجود تعارض فيها، كالذي يحصل في القوانين الوضعية، وحاجة المشرعين المتجددة إلى التبديل والتغيير والتفصيل فيها.
فكما جاءت أحكام الجزية خاصة بأهل الكتاب، دون الكفار الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام فكذا جاءت آيات القرآن باستمرار الإحتجاج على أهل الكتاب بالكلمة السواء التي بينهم وبين المسلمين،وهي التوحيد, فاذا تولوا عن الدعوة إلى الإتحاد في عبودية الله , والإنقطاع إلى عبادته فان المسلمين باقون في مقامات العبودية، ويجددون الدعوة لأهل الكتاب في كل زمان،
وليس من دعوة متجددة ومستديمة مثل هذه الدعوة المباركة فلا يستطيع المسلمون إعلان إنتهاء الدعوة الواردة في آية السياق لأهل الكتاب وهو من مصاديق إبتداء الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ]
ليحمل المسلمون في أجيالهم المتعاقبة لواء هذه الدعوة، ومسؤولية إيصالها إلى أهل الكتاب وترغيبهم بمضامينها القدسية، من غير ملل أو كلل، وإذا إستلزمت هذه الدعوة إنفاق الأموال، فيحتمل وجوهاً:
الأول:وجوب هذا الإنفاق.
الثاني:إستحباب الإنفاق في ميادين هذه الدعوة، وعدم وجود دليل على الوجوب، فالقدر المتيقن تلاوة آية السياق وبيان مضامينها، وإهتداء المسلمين لسبل الإحتجاج.
الثالث: إباحة الإنفاق في هذه الدعوة لعدم وجود راجح ومؤونة زائدة تدل على الندب والإستحباب.
الرابع: كراهة الإنفاق في هذه الدعوة، إذ يكفي تلاوة الآية الكريمة، وإن تولى وأعرض أهل الكتاب فان الضرر يقع عليهم، قال تعالى[وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ]( ).
والصحيح هو الأول، لأنه من الإنفاق في سبيل الله , قال تعالى[لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] ( )، ولا يعلم أحد من الناس منافع آية السياق، وتلاوة المسلمين لها، وإستماع أهل الكتاب وغيرهم لهذه التلاوة ,لأنها منافع متجددة كماً وكيفاً، وفيها نماء بفضل من الله عز وجل.
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآية الفصل والبينونة بين أهل الكتاب والكفار بخصوص تلقي ومواجهة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعاملة مع المسلمين، فقد آذى كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل البيت والصحابة الأوائل أشد الأذى.
بينما جاء وفد نصارى نجران مثلاً للإحتجاج والجدال ومعرفة أحوال النبوة، ولم يحاربهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل دعاهم للمباهلة فاعتذروا ورضوا بالجزية، قال تعالى[تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
الثالثة عشرة: تكررت(واو الجماعة) في خاتمة آية السياق ثلاث مرات في كلمات متعاقبة[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا]
أما الأولى فتتعلق بأهل الكتاب وحال إعراضهم عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجتمعين ومتفرقين، وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب
قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي، أما بعد: فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
فلما أتى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر فقرأه قال: إن هذا الكتاب لم أره بعد سليمان بن داود:بسم الله الرحمن الرحيم( ).
وتتصف هذه الرسالة بأمور:
الأول:إنها من السنة التدوينية.
الثاني:بيان حقيقة وهي أن السنة التدوينية تفسير للقرآن.
الثالث:إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية سلاحاً وحجة في الدعوة إلى الله عز وجل.
الرابع: إنحصار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى كل من كسرى وقيصر والنجاشي بآية قرآنية بخصوص رؤساء أهل الكتاب تذكير لهم بما في التوراة والإنجيل من سنن التوحيد، والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى بالنسبة لكسرى فانه كان على دين المجوسية، وكان عندهم كتاب مقدس اسمه(أوستا).
وأما واو الجماعة فتحتمل وجوهاً:
الأول: أهل الكتاب مطلقاً.
الثاني: الطائفة الذين تولوا من أهل الكتاب.
الثالث: عموم الناس.
وتدل بداية آية السياق على الأول لأنها توجهت لأهل الكتاب بالخطاب، وهذا لا يمنع من العموم والتخصيص معاً.
وأما الثالثة فتلحق بالثانية لنظم الكلام، ففي إقرار أهل الكتاب بإسلام المسلمين أمور :
الأول : فيه حجة ودليل على تسليم أهل الكتاب بحسن سمت المسلمين .
الثاني : إنه برزخ دون إفتتان الكفار والمشركين بانكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث: فيه شاهد على التباين بين المسلمين وغيرهم في العبادة، وإظهار المسلمين الإخلاص في طاعة الله عز وجل.
وهو مصداق من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ودعوة للناس للإحاطة والعلم بحقيقة إيمان المسلمين، وجعل موضوعية للإيمان في الحياة العامة للناس .
وهو من الإعجاز في فرض الصلاة على كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم بأوقات متفرقة تستغرق النهار والليل، قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] ( )، لبعث الناس على الإقرار بوجود أمة مسلمة بين ظهرانيهم، وهي تدعو إلى الله عز وجل بالقول والفعل، وتذّكر الناس جميعاً بلزوم عبادته ونبذ الشرك والضلالة وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة عشرة: إتخذ علماء المنطق الجدل والبرهان مقياساً لسلامة أو وهن الأفكار لذا سمي علم المنطق(علم الميزان) و(علم المقياس).
أما التجريبيون فانهم إتخذوا مقياساً للوصول إلى الحقائق يتقوم بالتجربة والوجدان.
أما العقليون فانهم يقولون بوجود قواعد وأصول عقلية تكون مقياساً لمعرفة سلامة وصحة الأفكار أو عدمها كالقواعد البديهية والنظرية، وكل فريق منهم لا ينكر ما للآخر من أثر وموضوعية، ولكنها لا ترقى إلى مرتبة ما يذهبون إليه من المقياس، فلا أحد من التجريبيين ينكر أن الكل أكبر من الجزء وإمتناع إجتماع المتناقضين، أو حلول جسم واحد في مكانين في آن واحد.
وجاءت آية البحث بالإستدلال والإحتجاج الجامع للعلوم الثلاثة أعلاه وباستحضار تأريخ النبوة،، وما له من موضوعية في بيان الحقائق، وتأكيد الوقائع، وفضح المغالطات .
وتدل عليه خاتمة الآية فالشهادة والإقرار لأتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم مسلمون أمر عقلي وتجريبي، وظاهر للوجدان، إذ أن هذا القول نوع تحد، ودعوة للتدبر فيما يفعله المسلمون من الشواهد التي تدل على صدق إسلامهم، ليكون فعلهم برهاناً على صدق إيمانهم، وسبباً لترغيب الناس بالإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة عشرة: ذكرت خاتمة الآية حال تولي وإعراض أهل الكتاب عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى كلمة التوحيد، ولكن ماذا لو إستجابوا للدعوة , فيه وجوه:
الأول: فيه نصر للمسلمين.
الثاني: إنه حرب على الكفار.
الثالث: فيه سبب وعلة لإصابة مفاهيم الشرك بالوهن والضعف.
ويحتمل تولي أهل الكتاب وجوهاً:
الأول: إنه على نحو السالبة الكلية فكل أهل الكتاب يعرضون عن الدعوة إلى كلمة التوحيد.
الثاني:على نحو السالبة الجزئية بأن يعرض عن الدعوة شطر من أهل الكتاب وليس جميعهم.
الثالث:أهل الكتاب فريقان هما اليهود والنصارى، والذي يتولى فريق منهم دون الآخر.
والصحيح هو الثاني، فلا يمكن أن يكون مصداق عملي وإمتثالي للدعوة التي تأتي في القرآن، وإن كانت خاتمة آية السياق حجة عليهم جميعاً إذا أعرضوا عن الدعوة إلى كلمة التوحيد.
ولقد دخلت جماعات من أهل الكتاب إلى الإسلام، وكانت الدعوة لهم في آية السياق مناسبة لمعرفة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإستحضار البشارات التي جاءت بنبوته في التوراة والإنجيل، وتدل على هذا المعنى خاتمة آية البحث في أهل الكتاب [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
ليكون من خصال(خير أمة) المجيء بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد، ويكون هناك نوع ميثاق بين الموحدين في الأرض، وبداية لإزاحة مفاهيم الكفر من الأرض، ومنع الطواغيت من الإستحواذ على مقاليد الحكم وإستعباد الناس , قال تعالى[فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]( ).
فشطر عظيم من أهل الأرض وهم المسلمون لا يعبدون إلا الله، وإخلاصهم العبادة زاجر للطواغيت عن إدعاء الربوبية، وإن إدعوها فان الموحدين باقون في منازل الإيمان، وتنقطع أيام الطاغوت والجبارين ولكن مضامين كل من آية البحث والسياق باقية بين الناس، تدعوهم لعبادة الله، والفوز بالخير والفلاح في النشأتين.
لقد أراد الله عز وجل للدعوة إلى التوحيد الإٍستدامة في الأرض وفيه إبطال للأثر المترتب على تحريف الكتب السماوية، وتلك آية من آيات القرآن , ومنافعه العامة المتجددة.
صلة قوله تعالى[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( )،بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية البحث بالخطاب للمسلمين، وإبتدأت آية السياق بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنداء ودعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ومن الآيات أن المسلمين والمسلمات هم الذين يتلون كلاً من هاتين الآيتين، وتتصف تلاوتهم هذه بأمور:
الأول: التسليم بنزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل.
الثاني: التصديق بمضامين الآية القرآنية.
الثالث: إتخاذ الآية موعظة وعبرة، وهو من مصاديق[كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية: بيان التباين بين المسلمين وغيرهم، إذ جاءت آية البحث بالثناء على المسلمين، ونعتهم بأنهم(خير أمة) بينما جاءت آية السياق بالخطاب بلغة اللوم لأهل الكتاب لإحتجاجهم وجدالهم في نبوة إبراهيم بما يخالف الحق ,
وهل هذا الجدال من التحريف , الجواب نعم , وفيه دلالة على أن الآية القرآنية حرب على التحريف .
الثالثة: إن تلاوة قوله تعالى(يا أهل الكتاب) من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] من وجوه:
الأول: توجه المسلمين لأهل الكتاب بالخطاب والنداء السماوي.
الثاني: لم يمنع إنكار أهل الكتاب لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مجيء الآيات خطاباً لهم في أمور الدين والعقيدة.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث: قيام المسلمين بتوجيه اللوم لأهل الكتاب على إدعاء كون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً بينما جاء نزول التوراة والإنجيل متأخراً زماناً عنهما وعن علة ومناسبة هذه التسمية (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا أَبُو غَسَّانَ زُنَيْجٌ، ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعُ بْنُ جَارِيَةَ، وَسَلامُ بْنُ مثكَمٍ، وَمَالِكُ بْنُ الضَّيْفِ، وَرَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَتَشَهَدُ أَنَّهَا حَقٌّ مِنَ اللَّهِ ؟ قَالَ:”بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسٍ، فَتَبَرَّأْتُ مِنْ أَحْدَاثِكُمْ”، فَقَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُ مَا فِي أَيْدِينَا، فَإِنَّا عَلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ وَلا نُؤْمِنُ بِكَ وَلا نَتَّبِعُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ])( ).
الرابع: تنبيه الناس جميعاً من جهات:
الأولى: نزول القرآن من عند الله سبحانه وفيه تأديب لأهل الكتاب، وزجر لهم عن الإدعاء الذي لا أصل له، بالإضافة إلى تحذيرهم من كتمان الآيات والبشارات، والذي يجمعه قوله تعالى[وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
وتحتمل آية السياق بالنسبة للعلم المذكور في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول: إنها تحذير وتحصيل للعلم عند أهل الكتاب بأنهم يخلطون الحق بالباطل، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه الآخر،
وورد في الآية عن ابن عباس:لا تخلطوا الصدق بالكذب)( )، وفيه وجوه أخرى ذكرناها في تفسير الآية( ).
الثاني: العلم بالتحريف والتبديل متحقق عند بني إسرائيل أثناء التلبس بالتغيير والتبديل.
الثالث: حصول العلم بالتحريف واللبس عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومجيئه بالمعجزات الظاهرة الممتنعة عن التحدي والمثلية .
الرابع: جاء القرآن تذكيراً لبني إسرائيل وأهل الكتاب عموماً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وبعضها يعضد بعضاً في تأكيد علم بني إسرائيل بقبح خلط الحق والباطل , ودعوتهم للكف عن إدعاء يهودية أو نصرانية إبراهيم عليه السلام.
الثانية: في القرآن كشف لحقائق التنزيل , قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة: بقاء آيات القرآن وتلاوة المسلمين لها سالمة من التحريف إلى يوم القيامة.
الرابعة: جعل الناس جميعاً يعرفون إبراهيم عليه السلام وأنه نبي من عند الله، وفيه جذب لهم لأحكام النبوة، ودعوة للتدبر في ماهية وأسرار الخلق.
الخامسة: تحذير الناس من الإستماع لتحريف البشارات التي جاءت في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل(وفي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله.. } الآية: قال ابن عبَّاس: نزَلَتْ هذه الآيةُ بسبب أنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دخَلَ بيْتَ المِدْرَاسِ على جماعةٍ من يَهُود، فدعاهمْ إِلى اللَّه تعالى، فقال له نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، والحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: على أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَنا على مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم، فَقَالا : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ ، فَهِيَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ، فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَنَزَلَتِ الآيةُ)( ).
السادسة: صدّ أهل الكتاب عن التوجه إلى الناس وتحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، لأن خطابات القرآن جاءت للناس بالحق والصدق ، وهو من مصاديق خروج المسلمين لهم جميعاً , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
السابعة : التوقي العام من الجدل بغير علم , والكذب على الله , وتحريف حقائق التنزيل.
المسألة الثالثة: جمعت بدايتا الآيتين الأطراف الثلاثة:
الأول: المسلمون بتوجه الخطاب التشريفي لهم(كنتم خير أمة).
الثاني: أهل الكتاب من اليهود والنصارى بإختصاصهم بالخطاب الذي يتضمن اللوم.
الثالث: الطوائف والفرق الأخرى من الناس جميعاً بقوله تعالى(أخرجت للناس).
وبين قوله تعالى أعلاه وبين(يا أهل الكتاب) عموم وخصوص مطلق بلحاظ أن أهل الكتاب فريق وشطر من الناس، ولكنهم يتصفون بصفة خاصة وهي نزول الكتاب لهم، وإتباعهم للأنبياء السابقين، فالتوراة نزلت على موسى عليه السلام، واليهود أتباعه.
والإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام، والنصارى أتباعه وأنصاره, وفي التنزيل حكاية عنه[قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ]( ).
وهذا الجمع له دلالات منها:
الأول: تأكيد عموم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إنحصارها بالعرب أو المسلمين، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن عموم رسالته لا تنحصر بالتبليغ بل تشمل مضامين آيات القرآن، والخطابات الخاصة والعامة فيها ومضامينها القدســية، فكل خطاب قرآني شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أرسـله الله عز وجل للناس جميعاً.
الثاني: إقامة الحجة على الناس , ولزوم رجوعهم إلى القرآن والتدبر في آياته.
الثالث: ترغيب الناس في الإنصات للقرآن، وما في آياته من الإعجاز والإحاطة بأمور الدين والدنيا , قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
(وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه، وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قيل: وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال: يسري عليهم ليلاً فيصبحون منه قفراً وينسون قول لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم)( ).
أراد تفسير وبيان قوله تعالى[وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ]( )، ولكن ابن مسعود لم يرفع الحديث، وهو يتعلق بأشراط الآية ومجيء زمان تغلب فيه الجاهلية والعناية بالدنيا على أكثر أهله، وليس مطلقاً، إذ أن خروج المسلمين للناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق ومتجدد إلى يوم القيامة، وعن السدي في الدابة(تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام)( ).
وعن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود اُتلى ولا يعمل فيَّ)( ).
صلة[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ]،بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس بسلاح القرآن، فليس عندهم إلا القرآن والسنة , وإنقطع كل منهما بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولا تنقطع منافعهما إلى يوم القيامة، وإستقلت كل آية من القرآن بعلوم وفرائد تنير سبل الهداية للناس جميعاً، وتبقى السنة النبوية ثروة من الوحي عند أجيال المسلمين في كل زمان.
فكل آية قرآنية وحديث نبوي ضياء ينير مسالك الهداية للمسلمين، وسلاح للرشاد، ومادة للإختيار الحسن والسلامة من الآفات.
الثانية: هل يدل ذكر إبراهيم في آية السياق على خروج المسلمين للأمم السابقة لأن إبراهيم متقدم في زمانه وبعثته، وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبينه آباء كثيرون.
الجواب لا، فالمراد من الناس هم الأجيال المتعاقبة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم جاء قوله تعالى(كنتم خير أمة) شاهداً على تفضيلهم بالذات على الأمم السابقة، وبالعرض من جهة الخروج، فلم تخرج أمة مثلهم تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتثبّت أقدام أجيالها في منازل الإيمان، ويتلقى كل جيل الإيمان والوظائف العبادية من الجيل السابق، ويتركها تركة مباركة للجيل اللاحق مع الأصول من التنزيل والسنة النبوية.
الثالثة: أخبرت آية البحث عن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجدد هذه الوظيفة عندهم، وجاءت آية السياق لتبين موضوعاً وحكماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليس على المسلمين إلا تلاوة هذه الآية ليصدق عليهم أنهم يقومون بالأمر والنهي، وهذه التلاوة واجبة عليهم في الصلاة، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وجاء أول آية البحث بصيغة الفعل الماضي الذي يدل على وقوع الفعل، وأنه مقطوع به، ولكنها ذكرت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة المضارع بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
وفيه آية إعجازية من وجوه:
الأول: تجدد قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لدلالة الفعل المضارع على تكرار وتوالي الحدوث.
الثاني: تأكيد علم الله عز وجل بأفعال البشر مطلقاً، وصيغة فعل كل أمة وأهل ملة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
وعن سعيد بن المسيب في سبب نزول الآية أعلاه: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى فيقول بعضهم لبعض بمكة: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} فأنزل الله جل وعز جوابا لهم)( ).
إجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً. فأنزل الله فيهم { يا أهل الكتاب لما تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} إلى قوله { والله ولي المؤمنين } فقال أبو رافع القرظي : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟
فقال رجل من أهل نجران: أذلك تريد يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره . ما بذلك بعثني، ولا أمرني فأنزل الله في ذلك من قولهما { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } إلى قوله { بعد إذ أنتم مسلمون } ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم ، وإقرارهم به على أنفسهم فقال { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } إلى قوله { من الشاهدين}( ))( ).
وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ خلفه قوم فخلطوا، فنزلت :[ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ] ( ).
ولا يقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند تلاوة آية السياق، ولكنها أصل متعدد المنافع من وجوه:
الأول: تفقه المسلمين في الدين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية.
الثاني: تلقين المسلمين مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من مصاديق(خير أمة).
فلم ينل المسلمون هذه المنزلة إلا بفضل ولطف من الله عز وجل، وفيه شاهد على عدم بلوغ غير المسلمين هذه المنزلة إلى يوم القيامة لإنفراد المسلمين بالتلقين، وتلقي صيغ ومسائل الإحتجاج من الله عز وجل.
وهل يحتمل أن حال الأمم في إرتقاء وتبدل مستمر، وصحيح أن منزلة المسلمين وتفضيلهم وأنهم(خير أمة) ثابتة في كل زمان إلا أنها ومنازل الأمم الأخرى متحركة في خط بياني متدرج، فما إستحق عليه المسلمون منزلة(خير أمة) تصل إليه أمم أخرى لاحقاً , ولكن عند إرتقاء المسلمين في مراتب عالية ليبقى المائز والفارق بين المسلمين وغيرهم مستمراً.
الجواب لا فإن الله عز وجل خصّ المسلمين بفصل ثابت , وبنعم عظيمة مفقودة عند غيرهم من جهة الكيف والكم من وجوه:
الأول: الإيمان بالله والتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثاني: إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتيان ما أمر الله عز وجل[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
الثالث: خروج المسلمين للناس بالدعوة إلى التوحيد، ولزوم تعظيم شعائر الله، والحرب على الشرك والضلالة.
الرابع: تعاهد المسلمين للقرآن وآياته، وسلامته من التحريف .
الخامس: ليس من حصر لإنتفاع المسلمين بآيات القرآن , وتتصف منافع التلاوة بالكثرة والتجدد منها:
الأول: إتخاذ التلاوة جزءً واجباً من الصلاة.
الثاني: تثبيت الإيمان في النفوس , قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالث: التلاوة سلاح في الإحتجاج، وكل آية قرآنية برهان قائم بذاته، وحجة دامغة.
الرابع: فضح الكذب على الله والأنبياء.
الخامس: تأكيد صدق نزول القرآن من عند الله، أي أن القرآن بذاته سلاح سماوي لبيان وتثبيت نزوله من عند الله، قال تعالى[وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
السادس: تصديق الكتب السماوية السابقة، والإخبار عن طرو التحريف فيها.
السابع: إتخاذ المسلمين القرآن إماماً في القول والعمل , حرزاً في الحضر والسفر , وأخرج ابن عساكر وولده القاسم في كتاب آيات الحرز، عن العباس بن محمد المنقري رضي الله عنه قال: قدم حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المدينة حاجّاً، فاحتجنا إلى أن نوجه رسولاً، وكان في الخوف ، فأبى الرسول أن يخرج ، وخاف على نفسه من الطريق، فقال الحسين رضي الله عنه: أنا أكتب لك رقعة فيها حرز لن يضرك شيء إن شاء الله تعالى، فكتب له رقعة وجعلها الرسول في صورته، فذهب الرسول فلم يلبث أن جاء سالماً، فقال: مررت بالأعراب يميناً وشمالاً فما هيجني منهم أحد، والحرز عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب، وإن هذا الحرز كان الأنبياء يتحرزون به من الفراعنة : { بسم الله الرحمن الرحيم} {قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون} {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً} أخذت بسمع الله وبصره وقوّته على أسماعكم وأبصاركم وقوتكم يا معشر الجن والإنس والشياطين والأعراب والسباع والهوام واللصوص، مما يخاف ويحذر فلان بن فلان، سترت بينه وبينكم بستر النبوّة التي استتروا بها من سطوات الفراعنة، جبريل، عن أيمانكم، وميكائيل، عن شمائلكم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم أمامكم، والله سبحانه وتعالى من فوقكم يمنعكم من فلان بن فلان في نفسه وولده وأهله وشعره وبشره وماله وما عليه وما معه وما تحته وما فوقه، {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} {وجعلنا على قلوبهم أكنة} إلى قوله {نفوراً} وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً) ( ).
الثالثة: من خصائص(خير أمة) تأكيد نزول كل من:
الأول: التوراة وأنها نزلت على موسى عليه السلام.
الثاني: الإنجيل ونزوله على عيسى عليه السلام.
الثالث: نزول القرآن من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً جامعاً للأحكام، وقد إجتمع ذكر الكتب السماوية الثلاث في الثناء على المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله، بقوله تعالى[وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ]( )،
ويمكن القول أن آية السياق تدل على نزولها جميعاً من عند الله، إذ نزل الإخبار السماوي عن(التوراة والإنجيل) في هذه الآية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليحمل المسلمون لواء التنزيل وحفظه إلى يوم القيامة، وفيه أمور:
الأول: شهادة أجيال المسلمين بنزول التوراة والإنجيل.
الثاني: الفخر للمسلمين ولأهل الكتاب بالتنزيل والتصديق به.
الثالث: بعث المسلمين للرفق بأهل الكتاب في الجدال والمعاملة، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الرابع: دعوة أهل الكتاب للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه الإلتقاء بين الكتب السماوية الثلاثة.
الخامس: منع وصول يد التحريف إلى التوراة أو الإنجيل من جديد.
السادس: إستغناء الناس عن الجزء الذي طرأ عليه التحريف في الكتب السابقة مما يتعارض مع آيات القرآن.
السابع: حمل المسلمين للواء التنزيل برزخ دون حصول وتصاعد الفتن بين المسلمين وأهل الكتاب، وهذه البرزخية من مصاديق قوله تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ]( ).
الرابعة: بيان التعدد والسعة في الموارد التي يقوم المسلمون فيها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتشمل النهي عن المقالات التي لا أصل لها في باب العقائد والنبوات.
وفيه شاهد بأن عهد الحق وزمان الصدق في أخبار النبوة قد أشرق على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا تستطيع فرقة و طائفة أن تقول فيه بخلاف الحق، وكان شائعاً عند الجماعات والشعوب مسألة القصاصيين في المنتديات، وأماكن الإجتماع، ويأتي هؤلاء بما يجذب الإنتباه ويلائم الهوى من الأخبار والحكايات من غير إحتراز من جهة صحة الصدور.
فتفضل الله عز وجل بنزول القرآن، وتلاوة المسلمين لآياته، وفيها من الإخبار بالحق والصدق لتكون جامعة لأسرار التنزيل، مانعة من الإفتراء والظن في باب العقائد، قال تعالى[إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ]( ).
الخامسة: جاءت آية البحث بتأكيد إيمان المسلمين وأنهم علم النهج القويم في التسليم بالعبودية لله عز وجل , فقوله تعالى(وتؤمنون بالله) مع إبتداء الآية بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] شاهد على تكامل إيمان المسلمين، وأنهم منزهون عن الشرك وأسباب الضلالة.
وفيه حجة وترغيب للناس بدخول الإسلام، وتلك فريدة في إعجاز القرآن , فإن الآية القرآنية منفردة أو مجتمعة مع غيرها من الآيات دليل على سلامة إختيار المسلمين، وسعيهم في سبل الحق والرشاد، فجاء الخطاب من الله لأهل الكتاب(لم تحاجون) للإحتجاج عليهم، وإبطال حجتهم، ولا بد أن يكون هذا الإبطال بحجة حاضرة، ويحتمل قوله تعالى(لم تحاجون) وجوهاً:
الأول: إنه من الجدل وموضوعه وهو الحكم المنفرد الذي تتشعب عنه أحكام جزئية.
الثاني: إنه من البرهان والقياس المؤلف من يقينيات ولا ينتج إلا يقيناً.
الثالث: إنه من المناظرة التي هي من صيغ الجدال وتتقوم بالمواجهة، وإستماع كل من طرفي الجدال لحجة الآخر، والرد عليها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وهو من إعجاز الآية القرآنية، إذ التقسيم إلى الجدل والبرهان والمناظرة والخطابة تقسيم إستقرائي لأهل الميزان بلحاظ نسبة العموم والخصوص بينها، ولكن الآية القرآنية أعم في موضوعها ودلالتها، وقد ورد حكاية عن قوم نوح في التنزيل[يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا]( ).
وفيه شاهد على كثرة جدال نوح وأنه كان يتقن صناعة الجدل، ويأتي بالبرهان اللّمي والإني، ويقوم بالمناظرة، ويدفع المغالطة المؤلفة من الوهميات، والقضايا الكاذبة.
وفي الآية أعلاه شاهد على عجز الكفار عن مواصلة الجدال مع نوح عليه السلام، وأنه أقام عليهم الحجة بالقياس الجدلي، ومقدمات البرهان وما فيه إلزام المبطلين منهم، وعن ابن عباس في الآية أعلاه(فأكثرت جدلنا)( )، بدل أكثرت جدالنا.
السادسة: جاءت الآية بلفظ(تحاجّون) لبيان كثرة الإحتجاج من أهل الكتاب، وفيه:
الأول: كثرة إحتجاج اليهود بأن إبراهيم كان يهودياً.
الثاني: كثرة إحتجاج النصارى بأن إبراهيم كان نصرانياً.
الثالث: تعاون اليهود والنصارى في نسبة إبراهيم عليه السلام لهم.
الرابع: إكثار كل من اليهود والنصارى القول والإحتجاج بنسبة إبراهيم لهم.
والصحيح هو الرابع، إلا مع الدليل والقرينة الصارفة إلى الوجه الأول، بلحاظ أن التوراة سابقة في نزولها للإنجيل وأن اليهود أتباع موسى عليه السلام،
فجاءت آية السياق لتنفي مثل هذه القرينة وجاء تأكيد الإطلاق وأن كلاً من الفريقين يدّعي نسبة إبراهيم له بقوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا]( ).
ويحتمل إدعاء كل من اليهود والنصارى هذا وجوهاً:
الأول: إنه شاهد على الوئام والوفاق بين اليهود والنصارى.
الثاني: فيه دليل على الخلاف والخصومة بين اليهود والنصارى لإتحاد موضوع الإدعاء.
الثالث: موضوع إدعاء نسبة إبراهيم خارج مسألة الخلاف أو الوئام بين اليهود والنصارى، لأنها من الزمن الماضي وتأريخ الأنبياء.
والصحيح هو الثاني، فإن إستقلال كل فريق بالدعوة بنسبة إبراهيم شاهد على التباين بينهما، وتكذيب كل فريق للآخر في دعواه، فجاءت آية السياق لبيان الحق، وسلامة أهل الكتاب من الكذب في هذا الباب وهو من عمومات رحمة الله بأهل الكتاب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ]( ).
وبين الجدال والإحتجاج عموم وخصوص مطلق، فالجدال أعم والغاية منه الرجوع عن المذهب والقول , أما المطلوب من الإحتجاج فهو ظهور الحجة،
فجاءت الآية لبيان بطلان حجة أهل الكتاب وإلزامهم بالحق , وفيه بالدلالة الإلتزامية أمور:
الأول: بعث اليأس في نفوس الذين يفترون على الأنبياء ويقولون الكذب عليهم.
والنسبة بين قول الكذب والإفتراء عموم وخصوص مطلق، فالإفتراء أخص، ويشمل قول الكذب نقله وروايته، قال تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ]( )،
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الإستفهام الإنكاري الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على جوابه لبيان إنفراد أهل الشرك والضلالة بقبح الفعل وظلم الذات، (وعن ابن عباس: ومن أكفر ممن إختلف على الله كذباً فأشرك به الآلهة)( ).
الثالث: عدم خشية المسلمين من الإحتجاج، وسماع حجة ودليل الطرف الآخر لأن الله عز وجل تفضل وجعلهم(خير أمة) في الجدال والإحتجاج، ونالوا هذه المرتبة السامية بالحجة القاطعة التي جعلها الله عندهم، والتي تتصف بالوضوح الجلي وتدل عليه هذه الآية، فبعد لوم أهل الكتاب على نسبة إبراهيم عليه السلام إلى ملتهم , جاء البرهان بقوله تعالى[وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ]( ).
السابعة: يحتمل إخبار آية السياق عن نزول التوراة والإنجيل بعد إبراهيم وجهين:
الأول: إرادة التقدم الزماني لأيام إبراهيم.
الثاني: بيان معاني أعم من هذا.
والصحيح هو الثاني، وتلك آية في دلالات اللفظ القرآني، ومنها الإشارة إلى أمور:
الأول: جهاد إبراهيم عليه السلام في سبيل الله، وبذله الوسع في تهيئة مقدمات نزول التوراة والإنجيل.
وكان سعيد ببن المسيب يقول كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف و أول الناس إختتن و أول الناس قص شاربه وإستحد و أول الناس رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال هذا الوقار قال يا رب فزدني وقارا و هذا أيضا قد رواه السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام.
ولم يذكر أول من قص شاربه و استحد و زاد فيه و أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم و أول من أخرج الخمس إبراهيم و أول من اتخذ النعلين إبراهيم و أول من اتخذ الرايات إبراهيم) ( ).
وكان بنو إسرائيل حينما نزلت التورا ة أمة عظيمة تجتمع على كلمة التوحيد ببركة نبوة موسى عليه السلام، ولا يضر بهذا المعنى قول فرعون كما ورد عنه في التنزيل[إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( ).
الثاني: تذكير بني إسرائيل بفضل إبراهيم عليهم، وبعثة الأنبياء من أبنائه فيهم، لأن كلاً من موسى وعيسى يرجعان في نسبهما إلى إبراهيم، نعم يرجع عيسى عليه السلام بواسطة أمه لأنه ولد من غير أب بآية من الله عز وجل.
الثالث: تقدير الآية(وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعد نبوة وجهاد إبراهيم.
الرابع: دعوة المسلمين إلى التحلي بالصبر في جنب الله مثلما صبر إبراهيم وهو يدعو الكفار إلى الإسلام.
الخامس: بيان التغيير الذي طرأ على الأرض بنبوة إبراهيم عليه السلام، وإتساع رقعة الإسلام، وإنتشار عقائد النبوة.
ومع ذكر نزول التوراة والإنجيل بعد إبراهيم عليه السلام فإن آية البحث لم تقل(كنتم خير أمة أخرجت للناس من بعد إبراهيم) بل جاءت بصيغة الإطلاق الزماني والمكاني، فمن أيام آدم عليه السلام إلى يومنا هذا لم تخرج للناس أمة أفضل وأحسن من المسلمين والمسلمات.
الثامنة: بيان تعدد أفراد الزمان الطولية بين الرسل أولي العزم من أصحاب الشرائع.
فنزلت الصحف على إبراهيم قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( )، ونزلت التوراة على موسى عليه السلام , ونزل الإنجيل على عيسى عليه السلام(وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة)( )، وإن كان ذكر وتعداد آبائهما وطبقات نسبهما إلى إبراهيم قليلة ولا تصل إلى هذه المدد المديدة.
صلة(أفلا تعقلون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: صحيح أن خاتمة آية السياق جاءت بخصوص الزجر عن إدعاء نسبة إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية، إلا أن دلالاتها أعم، إذ أنها برهان ذو مقدمات كلية يفيد إلزام المبطلين، وإقناع الناس عموماً، وقياس عقلي يدفع المغالطة.
وقوله تعالى(أفلا تعقلون) مسألة سيالة تصح في الجدال والحجاج في موارد عديدة من مضامين آيات القرآن، والمطلوب في الجدال الكف والإمتناع عن القول المخالف والرجوع عن الرأي الخاص، أما الحجاج فهو إظهار للحجة والبينة.
وجاء قوله تعالى(أفلا تعقلون) لتأكيد موضوع آية السياق، وبراءة إبراهيم من دعوى نسبته لليهودية أو النصرانية، وما يترشح عنه بالدلالة الإلتزامية أنه كان يحج البيت ويستقبل القبلة ويختن، ويدعو إلى عبادة الله.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين: أفلا تعقلون أن المسلمين(خير أمة) , وأن الإقرار والتسليم بأنهم (خير أمة) حق يتجلى للعقول، ويدرك بالحواس.
ومن الشواهد عليه فضحهم الإستقراء الناقص الذي هو مغالطة في البرهان، ويتجلى هذا الفضح ببيان التعاقب الزماني بين الرسالات، ومنع الجهالة والغرر فيه.
وإذا كان المسلمون يصرفون أهل الكتاب عن المغالطة بالحجة والبرهان , فإنهم يدفعون الكفار عن منازل الكفر والضلالة بالذات والعرض وبصيغ وسبل أكثر من أن تحصى , منها الجدال والإحتجاج , وفضح قبح الكفر , وتلاوة آيات الإنذار والوعيد ,قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ]( ).
وفيه دليل على أن المسلمين(خير أمة) للتعدد والتباين في صيغ التعامل مع أهل الملل والنحل، كلاً حسب ما يلائمه ويناسبه.
وهل نفي المسلمين نسبة إبراهيم إلى اليهود والنصارى من الجدل أو البرهان الجواب هو الثاني، لإرتكاز هذا النفي على مقدمات هي حق وصدق وتنتج حقاً ويقيناً.
أما الجدل والمجادلة، فهي المقابلة بما يعرف الخصم عن مذهبه وقوله بحجة أو شبهة، ومعنى الجدل في اللغة(شِدَّة الفَتْل وجَدَلْتُ الحَبْلَ أَجْدِلُه جَدْلاً إِذا شددت فَتْله وفَتَلْتَه فَتْلاً مُحْكَماً)( ).
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين(أفلا تعقلون أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس) ومن مصاديق هذا الخروج مخاطبة أهل الكتاب، والإحتجاج عليهم بصيغة حسنة، ومن غير توبيخ أو ذم.
لقد بنى القرآن صرح الصلات مع أهل الكتاب بالجدال والبرهان بمقدمات يقينية بعيداً عن الشبهات والمغالطة، قال تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ]( ).
الرابعة: كما أن زمان إبراهيم متقدم على نزول التوراة والإنجيل، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متقدم عليهما، وهو عبادة ملازمة للإنسان من يوم هبوطه الأرض إلى أن حمل لواءه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
فشهدت لهم آية البحث بتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلابد أن يتعظ أهل الكتاب، ويجعلوا موضوعية لهذه الحقيقة المستديمة في الأرض بالإنصات للمسلمين في أمرهم ونهيهم في مرضاة الله.
وهل تدخل تلاوة(أفلا تعقلون) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجواب نعم لما فيها من منافع منها:
الأولى: إصلاح النفوس.
الثانية: تهذيب السنن.
الثالثة: منع سيادة الوهم وأسباب المغالطة.
الرابعة: التصدي للجدال الخالي من الحجة والبرهان.
الخامسة: فيه دعوة لتوظيف العقل والفطنة والتدبر في معرفة الحقائق، والتمييز بين الحق والباطل.
السادسة: دعوة الناس للإسلام.
السابعة: تأكيد قبح إخفاء الآيات والبشارات.
الخامسة: من إعجاز القرآن تأكيد مضامين الآية القرآنية في ذات الآية وبآيات أخرى، ومن الشواهد آية السياق من وجوه عديدة منها:
الأول: ورود خاتمة الآية بما يدعو إلى تحكيم العقل، ودفع الهوى والوهم.
الثاني: نزول آية البحث بدعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله والتصديق بالتنزيل ومنه آية السياق.
الثالث: مجيء آيات أخرى تؤكد مضامين آية السياق، منها قوله تعالى[إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ]( )، إذ تدل هذه الآية بالأولوية القطعية على سبق زمان إبراهيم على نزول التوراة والإنجيل، لأن إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم.
السادسة: جاءت آية البحث بأمرين متضادين في موضوع واحد، وهو إيمان المسلمين والإخبار بأن الإيمان خير لأهل الكتاب، وباب لفوزهم بالسعادة الأبدية.
لذا إختتمت آية السياق بقوله تعالى(أفلا تعقلون) في تنبيه لأهل الكتاب بأن العقل يدرك وجوب الإيمان بالله سبحانه ، والعقل رسول باطني، وحجة ذاتية على الإنسان يدعوه إلى الإيمان في كل آن، لمخالطة الآيات الكونية الوجود الذهني، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن رؤية الإنسان للآيات لا تنقطع حتى لو كان داخل جدران أربعة وليس معه أحد، لأن الله عز وجل يذكّره ويبّصره بالآيات التي في بدنه ونفسه وقوله وفعله،
وجاء الإخبار عن إيمان المسلمين، ودعوة أهل الكتاب للإيمان , وفيه وجوه:
الأول: ترغيب الناس بالإيمان من باب الأولوية القطعية.
الثاني: بيان عظيم النفع في دخول الإسلام.
الثالث: دعوة أرباب العقول للتفكر بماهية وحقيقة الحياة الدنيا , وأنها مزرعة للآخرة.
صلة[هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )،بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها مسائل:
الأولى: من خصائص(خير أمة) وهم المسلمون أنهم لا يحاجون فيما ليس لهم به علم، وتوجههم باللوم والذم للذين يقومون بمثل هذا الإحتجاج , وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة تتنزه عن الجدال بغير علم.
الصغرى: المسلمون يتنزهون عن الجدال بغير علم.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الثانية: من خصائص القرآن توثيق الجدال بين المسلمين وأهل الكتاب, ويحتمل هذا الجدال وجوهاً:
الأول: إرادة ذات التوثيق، وبيان مفردات الجدال.
الثاني: إصلاح المسلمين للجدال، وتنمية ملكة الإحتجاج عندهم، قال تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
وبين القول الصواب من القول والجدال بالأحسن عموم وخصوص مطلق .
الثالث: إقامة الحجة على أهل الكتاب، وتأكيد حقيقة وهي حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تأكيد موضوعية العلم والمعرفة في الإحتجاج.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق وغايات الآية الكريمة.
الثالثة:جاءت آية البحث بصيغة الخطاب للمسلمين الذي يتضمن الثناء والمدح لهم، وجاءت آية السياق بالخطاب لأهل الكتاب ولكن بصيغة الذم وإقامة الحجة عليهم، والتذكير بلزوم إعتبار موضوع الجدال، ومسائل الإحتجاج.
وهذا التذكير رسالة قرآنية إلى كل من:
الأول: المسلمون.
الثاني: أهل الكتاب.
الثالث: الناس جميعاً.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ]( ).
الرابعة: من مصاديق خروج المسلمين للناس تنبيه وتحذير أهل الكتاب من الجدال من غير برهان، لما فيه من القبح الذاتي والعرضي لأنه لم يبتن على البرهان،
ليفيد الجمع بين الآيتين المدح والثناء على المسلمين , لدلالة مفهوم النهي عن الإحتجاج بغير علم على حقيقة وهي أن المسلمين منزهون عن الجدال والإحتجاج بغير علم . وفيه دعوة للناس للإنصات لهم , وتلقي حجتهم بالقبول .
الخامسة: من خصائص خروج المسلمين للناس إتصافه بالبيان والتفصيل، ومنع الجهالة والغرر، لأن هذا الخروج خير محض ونفع للمسلمين والناس جميعاً،
ومن منافعه بلحاظ آية السياق أمور:
الأول: إنه نفع للمسلمين من جهات:
الأولى: تثبيت إيمان المسلمين.
الثانية: تفقه المسلمين في الدين.
الثالثة: إحراز المسلمين لمقامات إجتناب الجدال بغير علم.
الرابعة: التخفيف عن المسلمين من وطأة أذى الذين يجادلون بغير علم.
الثاني: إنه نفع لأهل الكتاب من جهات:
الأولى: تحذير أهل الكتاب من التمادي في الجدال.
الثانية: إقامة الحجة على الفريق الذي يجادل بغير حق من أهل الكتاب.
الثالثة: منع أهل الكتاب من إيذاء المسلمين بالجدال بغير حق.
الرابعة: إصلاح أهل الكتاب للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكانت كل آية من آيات القرآن معجزة عقلية تضيء دروب الهدى للسالكين سبل الرشاد، فلا غرابة أن يأتي تفسيرنا هذا بإختصاص كل آية بتفسير مستقل، ومجئ أجزاء مستقلة كل جزء في آية( ).
مع رجاء إستنباط العلماء سابقاً وفي المستقبل العلوم من الآية القرآنية بإعتبارها ثروة علمية وعقائدية وكنزاً نازلاً من السماء.
الثالث: إنه نفع للناس جميعاً من جهات:
الأولى: زجر الكفار عن الجدال بغير حق من باب الأولوية القطعية.
الثانية: تحذير الناس من الإنصات إلى القول الخالي من الحجة والبرهان، ليكون من خصائص خير أمة وهم المسلمون التأكيد على موضوعية العلم والدليل عند الإحتجاج.
الثالثة: دعوة الناس جميعاً إلى الحجة والبرهان الذي جاء في القرآن، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تنفرد من بين معجزات الأنبياء بأنها عقلية حسية وكانت معجزات الأنبياء حسية كعصا صالح، وسفينة نوح، وعصا موسى ، وإحياء عيسى الموتى، ورد في التنزيل خطاباً لموسى عليه السلام[أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
الخامسة:لقد جعل المسلمين(خير أمة) من جهات:
الأولى: رزق المسلمين سلاح الحجة والبرهان.
الثانية: تحذير أهل الكتاب من الجدال بغير علم.
الثالثة: دعوة الكفار للجوء إلى أهل الحجة والبرهان ومن بديع خلق الله للإنسان ونفخه فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض إن آتاه الله العقل،
وفي الحديث(أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر)( ).
فجاءت خطابات القرآن للناس بلحاظ ما جعل عندهم من العقل والفطنة والقدرة على التدبر وإختيار الحق والهدى، وهو من المصاديق المركبة، لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، والتعدد في المصداق في المقام من جهات:
الأولى: وجود العقل عند الإنسان ومصاحبة التكليف له، لذا قال مشهور علماء الإسلام بتكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول، وهو المختار.
الثانية: التنافي والتعارض بين توظيف العقل والجدال بغير علم.
الثالثة: نزول القرآن حجة عقلية توليدية متجددة، لتعدد الإعجاز في ذات القرآن، وفيه آية في المقام، وهي أن أفراد المصداق معجزات، وذات الأفراد معجزات إنشطارية.
الرابعة: مجيء الخطاب في آية السياق لأهل الكتاب وإنتفاع الناس جميعاً منه.
الخامسة: من خصائص(خير أمة)الإنصات، وإجتناب إيذاء الناس بغير حق، فقد أخبرت آية السياق عن أمرين:
الأول: إحتجاج المسلمين بآيات التنزيل.
الثاني: إحتجاج أهل الكتاب من دون علم.
وفيه شاهد على قانون تفضل به الله عز وجل على المسلمين والناس من وجوه:
الأول: أخرج الله المسلمين للناس بالعلم والبينة.
الثاني: إقامة المسلمين الحجة على الناس.
الثالث: ترغيب أهل الكتاب والناس للإنصات للمسلمين أي أن الله عز وجل حينما أخرج المسلمين للناس فإنه جعل عند الناس الميل والرغبة للإستماع إليهم , والصدور عنهم، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
ومن مصاديق تلك الرغبة الأمر الأول أعلاه بإخبار الآية الكريمة عن إحتجاج أهل الكتاب عن علم ودراية، ومن منافع الإنصاف الذي يتصف به المسلمون أمور:
الأول: إنه دليل على كون المسلمين هم(خير أمة) وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة تنصف الناس.
الصغرى: المسلمون ينصفون الناس.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
فإن قلت جاء الإنصاف بآية السياق وليس هو من سجايا وأفعال المسلمين المبتدأة،
والجواب من جهات:
الأولى: من فضل الله عز وجل على المسلمين صدورهم في القول والفعل عن القرآن.
الثانية: جاءت آيات القرآن تأديباً للمسلمين، وإرشاداً لهم في سبل المعرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي)( ).
ليكون التأديب للمسلمين من وجوه:
الأول: تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاته تأديب للمسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين.
الثاني: إقتباس المسلمين من سيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية.
الثالث: تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين قال الله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ويحتمل المراد من تداخل الذم والإنصاف مع التباين في الجهة وجوهاً:
الأول: بعث أهل الكتاب على التنزه من سبب الذم بالتخلص من الجدال بغير علم.
الثاني: الإخبار بأن الإحتجاج عن علم لا ينفع الذين يجمعون معه الجدال من غير علم، كما في علم الرجال فإن الذم يكون غالباً مقدماً على المدح إذا وردا في راو واحد، وإن كان قياساً مع الفارق.
الثالث: الزجر عن الجدال بالباطل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيه شاهد على خروج المسلمين للناس بمضامين الهداية والرشاد وإظهار معاني الحق.
الثالثة: تلاوة المسلمين لآية السياق من عمومات قوله تعالى في آية البحث[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] لأن التوبيخ على الإحتجاج من دون علم من النهي عن المنكر، وفيه بعث على طلب العلم لتقوم الجدال بالعلم، فقد جادل اليهود والنصارى بأن إبراهيم عليه السلام نبي رسول، وهذا الجدال عن علم لشهادة الكتب السماوية السابقة لإبراهيم بالنبوة , وفيه دليل بأن التحريف لم يأت على كل مضامين التوراة والإنجيل.
أما إدعاء أنه من اليهود أو النصارى فيفتقر إلى الحجة والبينة، ويتنافى مع الصدق والواقع، ولكن الآية لم تنعتهم بالكذب، بل توجهت لهم باللوم لأنهم يجادلون بغير علم مما يكون سبباً للمغالطة إذ أن الجدل أسلوب وصيغة من صيغ الإستدلال، ولكن قد يتخذه المجادل لإفحام خصمه وإن لم تكن مقدماته حقاً وصدقاً.
ومن خصائص الجدل أنه يتقوم بطرفين متخاصمين، لتدل آية البحث على حقيقة تأريخية وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واجهه أهل الكتاب بالجدال لإيذائه وجاءت آية البحث لتأكد عدم قدرتهم على إلزامه والمسلمين بما هو خلاف الحق والصدق.
(وفي الحديث: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( )، ليكون من خصائص(خير أمة) عصمتهم من إفحام الخصم لهم، فهم يقيمون الحجة على الخصم لأنهم لا يغادرون الحق، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، ومما يتصف به البرهان، ويختلف فيه عن الجدال أمران:
الأول: لا يستلزم البرهان وجود طرفين متخاصمين، فقد يصدر من شخص لأخر للتعليم والإرشاد.
الثاني: إتحاد البرهان في المسألة والموضوع الواحد لأنه بسيط لا يقبل التنافي الذاتي، بينما تكثر صيغ الإستدلال في الجدل.
الثالث: صدور البرهان من طرف واحد، بينما يأتي الجدل وأدلته من طرفين أو أكثر.
الرابع: هناك ملازمة بين البرهان والحق، إذ تتصف مقدمات البرهان بأنها حق، وينتج عنها حق، أما الجدل فلا يشترط في مقدماته أن تكون حقاً ويكفي أن تكون مشهورة وذائعة، فجاءت آية السياق لغلق باب الشهرة والذياع عن مقدمات دعوى إنتماء إبراهيم لليهودية أو النصرانية، فقد كان الناس على فريقين:
الأول: أهل الكتاب مع الإنقسام بينهم[وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ]( ).
الثاني: الكفار والمشركون، فيأخذ الفريق الثاني من الأول أخبار النبوة وقصص الأنبياء، فيكون ما يذيعه أهل الكتاب هو المشهور بين الناس(عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم القديم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العاني، ونصل الأرحام، ونسقي الحجيج، وديننا القديم ودين محمد الحديث، قالا: بل أنتم خير منه وأهدى سبيلاً، فأنزل الله تعالى [أَلَم تَرَ إِلى الَّذينَ أُوتوا نَصيباً مِنَ الكِتابِ])( ).
فجاء القرآن بالبرهان والإخبار عن حقائق النبوة والتنزيل ليفضح التحريف الذي طرأ عليها، وما يقصد فيه صد الناس عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتكذيب بالبشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بنبوته ولزوم نصرته، والقتال تحت لوائه جهاداً في سبيل الله.
الرابعة: من منافع آية السياق أمور:
الأول: رياضة الأذهان.
الثاني: تنمية ملكة تحصيل المقدمات عند المسلمين، وإن كان تحصيل مقدمة الواجب ليس بواجب كما في علم الأصول.
الثالث: إكتسابهم المعارف لأن الآية نوع جدل وحجة على أهل الكتاب وهم أكثر الناس في زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب المعرفة وإكتساب العلوم لأنهم أهل كتاب.
لتمتاز (خير أمة) وهم المسلمون بخصلة حميدة وهي إقتران الجدال بالحجة والبرهان بما يجعل الناس يميلون إلى المسلمين، ويدركون أنهم أصحاب حق، وهل هو من عمومات دعاء إبراهيم الذي ورد في التنزيل[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( )، خصوصاً وأن إبراهيم هو موضوع الجدال.
الجواب نعم لتضمن الآية أعلاه الميل والود للمسلمين لأنهم على سبيل الهدى والرشاد فيحتج المسلمون على أهل الكتاب ليكون هذا الإحتجاج واقية لهم ومناسبة لمعرفة المشهورات والمسلمات ونحوها من ألف باء الجدل،
فحينما يتلو المسلم الآية يعلم أن زمان إبراهيم سابق لنزول التوراة والإنجيل، وتفرع اليهودية والنصرانية عنهما وأن هاتين الديانتين متأخرتان في زمانهما عن بعثة كثير من الأنبياء، لتسقط دعوة الناس للإنتساب إليهما، قال تعالى[وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]( ).
فجاءت آية السياق لبيان حقيقتين:
الأولى: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على حنيفية إبراهيم.
الثانية: سبق زمان إبراهيم لليهودية والنصرانية.
فإن قلت لماذا هذا الجدال مع أهل الكتاب، مع أنهم أقرب الناس إلى المسلمين
الجواب إنه من بيان الحق، وهداية أهل الكتاب إلى الجدال بالمقدمات الصحيحة التي توصل إلى الحقيقة , وقد جاءت الآية قبل السابقة لآية السياق في دعوة أهل الكتاب إلى الجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو التوحيد[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( )، وجاءت آية السياق لمنع الكذب في تأريخ النبوة وما يترشح عنه من الخصومة والخلاف، وصد الناس عن الإسلام.
الخامسة: جاءت آية السياق بذم فريق من أهل الكتاب يجادل من غير علم أو بينة بخصوص إبراهيم، وهل في الآية حث لأن يكون جدالهم عن علم في هذا الباب.
الجواب إن العلم ينفي موضوع الجدال، لأن الموضوع متحد لا يقبل الترديد، فحالما يرجع أهل الكتاب إلى العلم يتركون الجدال فيه.
فمن العلم تقدم زمان إبراهيم عليه السلام على بعثة موسى وعيسى ونزول التوراة والإنجيل، فكأن آية السياق تقول لأهل الكتاب كفوا وإتركوا إدعاء نسبة إبراهيم عليه السلام إلى اليهودية أو النصرانية، وفيه مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )،من جهتين:
الأولى: المسلمون خير أمة، وفيه وجوه:
الأول: إحاطة المسلمين بعلوم وتأريخ النبوة، ولو في الجملة.
الثاني: نهي المسلمين عن الجدال بغير حق، ولأول مرة في التأريخ تأتي أمة لإبطال إدعاء أهل الكتاب، وفضح التحريف الطارئ على الكتب السماوية السابقة، فلذا نال المسلمون مرتبة(خير أمة).
الثالث: الأصل في صناعة البرهان والإحتجاج أن الذي يمهى عن شيء يحرص على إجتنابه، ومن خصائص(خير أمة) وهم المسلمون إمتناعهم عن الجدال بغير علم.
الثانية: خروج المسلمين للناس، وفيه وجوه:
الأول: دعوة أهل الكتاب لجعل العلم أصل الجدال والمادة التي يتقوم بها.
الثاني: من خصائص(خير أمة) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدل آية السياق على أن هذا التكليف والوجوب لا يختص بالقضايا الشخصية وفعل الصالحات، وإجتناب السيئات بل يشمل باب العقائد، والنهي عن إدعاء ما ليس بحق وصدق في النبوة والتنزيل.
الثالث: إرتقاء صيغ الجدال والحوار بين أهل الملل والنحل بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن الشواهد آية السياق وتولي(خير أمة) للإحتجاج على أهل الكتاب.
لقد جاءت أحكام الجزية ليبقى أهل الكتاب بين ظهراني المسلمين، ويكونوا جزء من دولتهم ومجتمعاتهم، ويختلطون معهم في الأسواق والتجارات والمنتديات والحضر والسفر.
فجاءت آية السياق للإحتراز مما يترشح عن هذا البقاء من الجدل بغير علم وبما يخالف الواقع، فقد يطابق الجدال بغير علم الواقع، كما لو كان الأمر مردداً بين أمرين فيحتمل المحاور أحدهما فيوافق الواقع، ولكن المقام يختلف فجاءت آيات السياق بإعجاز يتجلى بأمرين:
الأول: مجيء الآية السابقة لآية السياق بالإخبار عن نزول التوراة والإنجيل بعد أيام إبراهيم عليه السلام.
الثاني: مجيء الآية التالية لآية السياق بنفي كون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً , ليفيد الجمع بينهما حقيقة وهي أن اليهودية والنصرانية جاءتا بعد إبراهيم عليه السلام.
صلة[هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يأتي الزجر لأهل الكتاب عن الجدال بغير علم، ليكون درساً للناس جميعاً، وتحذيراً من هذا الجدال وأهله، وفيه إعجاز لآية البحث يتجلى بقانون وهو صيرورة خطاب وخروج المسلمين لطائفة , وفريق من الناس خطاباً وخروجاً للناس جميعاً، وهو من شمول كلمات القرآن المحدودة للامتناهي من الناس وأجيالهم المتعاقبة، فليس من ذكر أو أنثى إلا ويتوجه له الخطاب القرآني من جهات مجتمعة ومتفرقة وهي:
الأولى: خطاب المسلمين.
الثانية: الخطاب والخروج لأهل الكتاب.
الثالثة: الخطاب القرآني وخروج المسلمين للناس جميعاً.
وهل يدخل المسلمون في قوله تعالى(أخرجت للناس) فيه وجوه:
الأول: إرادة الغيرية والتعدد بين المسلمين والناس في آية البحث.
الثاني: شمول المسلمين بعموم الناس الذين خرج لهم المسلمون أنفسهم.
الثالث: التفصيل إذا كان الخطاب والخروج لأهل الكتاب فإنه يشمل المسلمين، وإذا كان الخطاب والخروج للكفار فإنه لا يشمل المسلمين.
الرابع: التفصيل الإجمالي، فمرة يشمل خروج المسلمين للناس ذات المسلمين أنفسهم وأخرى يأت الخطاب بلغة الإنذار للكفار فإنه لا يشمل المسلمين لإحرازهم الإيمان وما يترشح عنه من الفعل الحسن.
والصحيح هو الثاني لإرادة العموم بلفظ الناس، بلإضافة إلى الدلالة منطوقاً ومفهوماً , فقد وردت خطابات القرآن بلفظ الناس كما في قوله تعالى[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )،
وفيه آية فإن المسلمين يخرجون لأنفسهم أيضاً مع التباين الطولي والعرضي بين خروجهم لأنفسهم وخروجهم لغيرهم، لذا جاءت آية البحث بوصف المسلمين بقوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] وهذا الأمر والنهي مطلق وعام ومتجدد، وتتجلى مصاديقه الذاتية بين المسلمين في كل يوم، وفي كل مكان إذ يقوم المسلمون بأمر بعضهم بعضاً بفعل الصالحات، ويتناهون عن المنكر، ليكون خروجهم لأنفسهم، على وجوه:
الأول: إنه دليل على نيل المسلين مرتبة(خير أمة).
الثاني: إنه شاهد على تعاهد المسلمين لمنزلة(خير أمة).
الثالث: إستدامة بقاء المسلمين في مقامات(خير أمة).
الرابع: إنتفاع الناس من خروج المسلمين لهم إذ يكون المسلمون الأسوة الكريمة في الإنتفاع من هذا الخروج.
وهل يكون خروج المسلمين لأنفسهم من الدور إذ كيف يخرج ذات الشيء لنفسه، الجواب إنه ليس من الدور، من وجوه:
الأول: إن المسلمين أمة عظيمة من أفراد وقبائل وشعوب , قال تعالى[وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الثاني: مناجاة المسلمين بالصالحات وأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وتناهيهم عن المنكر من أسباب بلوغهم مراتب التقوى وفوزهم بالكرامة والمرتبة الرفيعة.
الثالث: الأمر بين المسلمين بالمعروف من الشواهد على أنهم(خير أمة) وصدور الأمر والنهي بينهم من وجوه:
الأول: من الفرد إلى الجماعة.
الثاني: من الجماعة إلى الجماعة.
الثالث: من الجماعة إلى الفرد، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثانية: جاء القرآن ببيان التباين بين أهل الكتاب والكفار كما يتجلى في إختصاص أهل الكتاب بقبول الجزية منهم دون الكفار ليكون أهل الكتاب وعوائلهم وأموالهم في ذمة المسلمين ودولتهم، وإختصت آية السياق بالخطاب لأهل الكتاب، والشهادة لهم بأنهم يجادلون أحياناً بما لهم به علم والذي يدل بالدلالة التضمنية على وجود علم وأثر للكتاب عندهم، قال تعالى[وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ] ( ).
وفيه آية في الإنصاف في ثنايا الذم، والدعوة إلى تعاهد الوصف الحسن بتعاهد موضوعه وأسبابه، وهل ينسخ ذم أهل الكتاب على الجدال بغير علم الثناء عليهم بالجدال بما فيه علم.
الجواب لا، لأن الآية لم تأت بالناسخ والمنسوخ , ولا المطلق والمقيد، بل جاءت لبيان أمرين متباينين في موضوع واحد:
الأول: الجدال عن علم.
الثاني: الجدال عن غير علم.
وجاء آيات القرآن بحث المسلمين على العدل والإنصاف وقول الحق، قال تعالى[وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( ).
صلة[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]،بهذه الآية
وفيه مسائل:
الأولى: من صفات الله الثبوتية أنه عالم، وجميع الأشياء حاضرة عنده، إذ أن العلم الإنطباعي ممتنع عن الله عز وجل، وهو سبحانه يعلم الأشياء قبل وجودها وبعد إنعدامها، لا يخفى عليه منها شيء، وفيه إبطال لقول فلاسفة اليونان بأنه سبحانه لا يعلم الجزئيات،
وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام إنه قال: لما صعد موسى عليه السلام إلى الطور فناجى ربه عز وجل، قال: يا رب أرني خزائنك، فقال: يا موسى إنما إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون) ( ).
ويحتمل متعلق خاتمة آية السياق وجهين:
الأول: إرادة العلم بخصوص موضوع الجدال وهو سبق زمان إبراهيم على نزول التوراة والإنجيل، ونشوء اليهودية والنصرانية بعدهما.
الثاني: المقصود العلم المطلق، وأن الله عز وجل عالم بكل شيء من الموجود والمعدوم، وفي التنزيل[وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، والصحيح هو الثاني، فالآية جاءت على نحو الإطلاق وفيه مسائل:
الأولى: إقامة الحجة على الناس.
الثانية: بيان قانون وهو لزوم الرجوع إلى القرآن وما فيه من العلوم وحقائق التنزيل.
الثالثة: بيان وجوب عبادة الله عز وجل لأنه العالم المختار الذي خلق الأشياء جميعاً، والذي أمر بعبادته وطاعته، قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية: جاءت خاتمة آية السياق[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] لإقامة الحجة على أهل الكتاب، وزجرهم عن إدعاء ما ليس بحق بخصوص الأنبياء، ومنع ما يترشح عن هذا الإدعاء من الصدود عن الإسلام .
ويحتمل الخطاب أعلاه بالنسبة للمسلمين وجوهاً:
الأول: صدق توجه ذات الخطاب للمسلمين.
الثاني: جاءت خاتمة آية السياق بلغة الذم والتوبيخ، للذين يجادلون بغير حق، أما المسلمون فإنهم يقرون بأن الله عز وجل يعلم ما لا يعلمون.
الثالث: صحيح أن قوله تعالى[اللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] قانون ثابت ومائز بين واجب الوجود وبين الخلائق جميعها إلا أن القدر المتيقن من الخطاب فيها إرادة تذكير أهل الكتاب والناس بهذا القانون وإقامة للحجة عليهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه بخصوص دلالات ومنافع قوله تعالى[اللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]، وهو رحمة للناس جميعاً , وكل أمة وطائفة تأخذ منه الدروس والعبر التي تساعد في إصلاحها، فهو سبيل للتوبة والإنابة من الجدال بالباطل، والإحتجاج بغير حق، وإتخاذ التحريف والتبديل في الكتب السابقة مقدمة ووسيلة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وقد خاطب الله عز وجل الملائكة بذات الخطاب حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة له في الأرض، بأن الإنسان يفسد في الأرض، ويكثر فيها الفساد، فجاء الرد من الله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فبادر الملائكة إلى التسليم والخضوع لله عز وجل، والذي تجلى بالإستجابة للأمر بالسجود لآدم عليه السلام، قال تعالى[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
الرابعة: أخبرت آيات القرآن عن تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، قال تعالى[وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وجاءت آية البحث بالإخبار عن تفضيل المسلمين وبيان أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فبالإضافة إلى التفضيل والحسن الذاتي الذي يدل عليه أفعل التفضيل، فإنهم خرجوا للناس بأمور:
الأول: الإيمان وترغيب الناس بالإسلام، وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر والنفاق، قال تعالى[وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ]( ).
الثاني: العلم.
الثالث: القيام بالأمر بالمعروف.
الرابع: النهي عن المنكر.
وقد يقول بعضهم لماذا نال المسلمون على نحو الخصوص مرتبة التفضيل جاءت خاتمة آية السياق[اللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]، جواباً على مثل هذا السؤال.
ومن علم الله عز وجل خروج المسلمين للناس، ولا يعلم الناس المنافع العظيمة في هذا الخروج، والذي جاء بعد طرو التحريف والتبديل على الكتب السماوية السابقة.
فتفضل الله عز وجل بإستدامة فتح باب الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين للناس جميعاً، فلم يحجب عنهم التحريف في الكتب السابقة، وكتمان آيات العلم وإخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى التوحيد، والنجاة في النشأتين بدخول الإسلام، لتكون هذه الدعوة جهاداً في سبيل الله، قال تعالى[فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الخامسة: وردت مادة(علم) في آية السياق أربع مرات، مع قلة كلمات الآية، وفيه آية إعجازية بتأكيد موضوعية(العلم) في الإحتجاج وإتخاذه برهاناً في الإحتجاج , وفيه إشارة إلى ترشح تعدد أبواب العلم عن إبتداء نزول آيات القرآن بقوله تعالى[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
وهو من المدد الإلهي للمسلمين في خروجهم للناس، بأن يكون البرهان سلاحهم في الجدال بما يجعل خصمهم من غير أنصار وأتباع، إذ خلق الله الإنسان على الفطرة السليمة، فإذا كان الخصم يختار العناد والجحود، ويبذل الوسع للحفاظ على ما تجلبه له الرئاسات من المنافع، ويخشى زوالها، فإن أكثر الناس يتخذ من العلم والحجة مائزاً للفصل بين الحق والباطل، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وتكون معاني ودلالات خاتمة آية السياق بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول: الله يعلم أن المسلمين خير أمة وأنتم لا تعلمون، فجاءت الآية لتذكير أهل الكتاب بالإسلام وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآل وسلم هو الذي جاءت به البشارات في الكتب السماوية السابقة.
الثاني: الله يعلم أن المسلمين أُخرجوا للناس وأنتم لا تعلمون بحقيقة ومنافع هذا الخروج وإستدامته، ولكن الله عز وجل[بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
فجاءت الشواهد التأريخية والمصاديق الخارجية لتؤكد هذه الحقيقة وتكون تذكيراً متجدداً بلزوم دخول الإسلام، والإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: من خروج المسلمين للناس، تعاهدهم وتلاوتهم لقوله تعالى[اللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] وما فيه من التذكير بالله والإقرار بأنه سبحانه يفعل الأمور المتقنة .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أصدق كلمة قالها شاعر:
كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل)( ).
الرابع: الله يعلم أن المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولكن أهل الكتاب لا يعلمون بهذه الوظيفة السامية للمسلمين، وأن الإحتجاج عليهم في تقدم زمان إبراهيم على اليهودية والنصرانية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيه من المنع عن تحريف تأريخ الأنبياء، وإتخاذ هذا التحريف وسيلة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وهل تلاوة المسلمين لقوله تعالى[اللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الجواب نعم لما فيه من البعث على اللجوء إلى كتاب الله، والمنع من القول على الله بغير علم.
ويصاحب عالم الإمكان التخلف عن الإحاطة بالعلوم، فلا يستطيع الممكن العاقل أن يعلم إلا ما علّمه الله عز وجل , وتلك آية في بديع الخلق، وقد أقرّ بها الملائكة وهم أعظم خلق الله، وحملة عرشه، وسكان سماواته، والمنقطعون إلى عبادته بقولهم[سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( ).
ومن إعجاز آية السياق أنها لم تخبر عن حصول العلم عند أهل الإحتجاج، بل جاءت بالإخبار عن عدم علمهم بقوله تعالى(وأنتم لا تعلمون)، بصيغة المضارع التي تفيد التجدد والإستدامة، إلا بالتوبة وإختيار الإنتماء لخير أمة أخرجت للناس بالعلم والمعرفة بلحاظ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة المتعلم العارف الذي يستطيع معرفة قواعد وأصول كل من المعروف والمنكر.
الخامس: تقدير الآية الله يعلم أن المسلمين يؤمنون بالله وأنتم لا تعلمون).
فجاءت الشهادة من الله عز وجل للمسلمين بأنهم يؤمنون بالله، ومن الإعجاز في إصلاح الناس للهداية أن المصاديق العملية تؤكد هذه الحقيقة بتجلي معاني الإيمان بالله في أقوال وأفعال المسلمين وتقيدهم بأحكام العبادات والفرائض البدنية كالصلاة، والصوم، والمالية كالزكاة، والبدنية والمالية وهو حج بين الله الحرام.
وقد أثنى الله في بدايات القرآن على المسلمين بقوله [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( )، وفي إقرار أهل الكتاب بأن المسلمين يؤمنون بالله أمور:
الأول: فيه دعوة لترك الخصومة والشقاق مع المسلمين.
الثاني: إنه برزخ دون إخفاء البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: حث الناس على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في معجزاته.
الرابع: بيان أن منزلة(خير أمة) التي فاز بها المسلمون رشحة من رشحات الإيمان بالله عز وجل، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ]( ).
وفيه ترغيب للناس بالإسلام، ودعوة لهم للتنزه عن الشرك بالله، بعد أن تجلّت معاني التوحيد في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن الذي تدل كل آية فيه على لزوم التسليم بالعبودية لله عز وجل، قال تعالى[وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى]( ).
السادس: الله يعلم لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم وهم لا يعلمون).
وتدل عليه آية البحث لأنها من علم الله المكنون الذي تفضل به على أجيال الناس إلى يوم القيامة، فقد خصت أهل الكتاب بالإخبار بأن الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحسن وأفضل لهم, والأصل إرادة الإطلاق من هذا الحسن فيشمل الحياة الدنيا والآخرة.
وهو مناسبة لإرتقائهم إلى مقامات[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بدخول الإسلام، ليكونوا من الذين يخرجهم الله عز وجل بالهداية والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وتلك آية في منافع القرآن بأن يصبح الذي خرج له المسلمون من الذين يخرجون للناس بمنطوق آية البحث مع وحدة موضوع الخروج فلا يتقوم إلا بالإسلام، قال تعالى في القرآن[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ومن علم الله عز وجل ما ورد من التفصيل في آية السياق في موضوع الجدال، فجدال أهل الكتاب بأمور دينهم , ومجيء موسى بالتوراة وعيسى بالإنجيل هو حق وصدق وعن علم،
أما الخصومة والجدال في دين إبراهيم وأنه يهودي أو نصراني فليس له أصل في التوراة والإنجيل، قال تعالى[قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
السابع: تقدير الجمع بين خاتمتي الآيتين الخطاب للمسلمين : الله يعلم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون وأنتم لا تعلمون)
وفيه دليل على موضوعية ومنافع علوم الغيب التي أوحاها الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها خزائن ينهل منها المسلمون في باب الإحتجاج والجدال، قال تعالى[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ]( ).
وجاءت آية السياق حرباً على الفسق والمعصية، والصد عن سبيل الله لأنها دعوة سماوية للتنزه عن الجدال بغير علم، فمع أن الآية جاءت في موضوع خاص إلا أنها أعم في دلالاتها وغاياتها لما تتضمنه من النهي عن الجدال بغير علم وعلى نحو الإطلاق سواء في الموضوع والحكم.
صلة[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]( ) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية، أما الآية محل البحث (كنتم خير أمة) فجاءت بلغة النداء، ويمكن الجمع بينهما لإتحاد الموضوع إرادة المسلمين في الآيتين،
وتقدير الجمع على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة أولى الناس بإبراهيم.
الثاني: إن أولى الناس بإبراهيم خير أمة أخرجت للناس.
الثالث: خير أمة أخرجت للناس أولى الناس بإبراهيم.
الثانية: بين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق، فالمسلمون جزء من الناس، وليس كلهم، لذا أخبرت آية البحث بأنهم أخرجوا للناس، ومن مصاديق هذا الخروج ما ذكرته آية البحث من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
ومنها بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: بيان موضوعية ولاية إبراهيم عليه السلام بين الناس والثناء على الذين يتولونه كما يدل عليه قوله تعالى[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ]( )، والذي جاء رداً على الذين نسبوا إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية من أهل الكتاب , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الثاني: الترغيب في دخول الإسلام لأنه طريق ولاية إبراهيم والإنتساب العقائدي له.
الثالث: طرد الغفلة والجهالة عن الناس , وبعثهم للتدبر في المائز بين الناس بلحاظ الهداية والإيمان.
الرابع: بيان حقيقة وهي حفظ النبوة وذكر الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، وتلاوة المسلمين لآياته، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: تأكيد تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، بالذب والدفاع عن الأنبياء السابقين، والثناء على الذين إتبعوهم من أهل الإيمان.
السادس: لقد كان إبراهيم عليه السلام رسولاً من الرسل الخمسة أولي العزم، وأراد الله عز وجل بيان عظيم منزلته بين الأنبياء بالإخبار عن ولاية أعظم له، وتلك آية في الثناء عليه وعلى المسلمين.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تصف المسلمين بأنهم(أحسن أمة) أو(أشرف أمة) أو(أعظم أمة) بل ذكرت المسلمين بأنهم(خير أمة) و فيه مسائل:
الأولى: فيه دلالة على التفضيل بلحاظ الهداية والإيمان.
الثاني: فيه شاهد على بلوغ المسلمين أسمى مراتب الصلاح.
الثالث: دعوة الناس لفعل الخيرات، قال تعالى[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( )، ويأتي التفضيل على أقسام:
الأول: الإقتران بالألف واللام.
الثاني: مجيء(من) الجارة معه.
الثالث: الإضافة إلى غيره.
وجاء تفضيل المسلمين من القسم الأخير وتأكيد أنهم(خير أمة) في تأريخ الإنسانية، ومن فضل الله عز وجل عدم إرتفاع هذه الصفة عن الأرض، فهي ملازمة للمسلمين، ومصاحبة لآيات القرآن وأحكامها الباقية في الأرض إلى يوم القيامة بفضل ولطف من الله عز وجل، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ]( ).
ثم جاءت آية السياق لتخبر بتأكيد الإطلاق الزماني والموضوعي لتفضيل المسلمين لإلتقائهم مع المؤمنين من الأحقاب الأولى بالأولوية لإبراهيم عليه السلام، فإن قلت ما داموا قد إلتقوا مع أتباع إبراهيم في أيامه فهل يجمعهم التفضيل على الناس أم أن التفضيل خاص بالمسلمين.
والجواب هو الثاني، وفيه وجوه:
الأول: جاءت آية البحث بذكر خصائص المسلمين التي نالوا بها مرتبة(خير أمة).
الثاني: موضوع التفضيل أعم من ولاية إبراهيم، إذ أنه يتضمن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل الله، وتعاهد الفرائض والعبادات، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الثالث: حصرت آية البحث التفضيل بالمسلمين لتوجه الخطاب التشريفي لهم(يا أيها الذين آمنوا).
الرابع: إنقطاع الذين إتبعوا إبراهيم بزمانهم، وإستدامة أيام الإسلام، وتوارث أجيال المسلمين منزلة(خير أمة).
الخامس: إختتام آية البحث بالبشارة للمسلمين بولاية الله لهم بقوله تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]، فلا يغادر المسلم الدنيا إلا وهو يعلم بولاية الله له ولأولاده وذريته من بعده لأنهم يتوارثون الإيمان.
ترى لماذا لم ترد آية في القرآن تذكر الأولوية والأحقية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلما جاءت آية السياق بخصوص إبراهيم، فليس من آية تقول(إن أولى الناس بمحمد للذين إتبعوه).
والجواب في آية البحث تأكيد لهذا المعنى وإخبار بدوران التفضيل بإتباع ولاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: جاءت آيات كثيرة في القرآن تثني على المسلمين، وتذكر فضائلهم، وموضوعية إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتتضمن البشارة لهم بالثواب العظيم في الآخرة، قال تعالى[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا…….] ( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : قال كعب وأصحابه ونفر من النصارى: إن إبراهيم منا، وموسى منا، والأنبياء منا، فقال الله {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً})( ).

صلة(إن أولى الناس بإبراهيم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: مجيء القرآن بلغة الإحتجاج على أهل الكتاب، ومنع إفتتان الناس بما يقولون، فقد كانت قريش مثلاً ترجع إلى اليهود لتسألهم عن صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارهم أهل كتاب، وعندهم أخبار التنزيل وصفات نبي آخر زمان، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على تصديقهم يما يقولون بأن إبراهيم كان يهودياً.
فجاءت هذه الآيات ببيان الحق والصدق في أولى وأحق الناس بإبراهيم، ونفي الإدعاء بأنه يهودي أو نصراني، قال تعالى[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ]( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين إعجازاً يتجلى بتفقه الناس عموماً بالعقائد والملل، ومعرفة حقيقة وهي أن السلامة في النشأتين بدخول الإسلام، وقد أنعم الله عز وجل على الناس جميعاً بتعدد لغة الخطاب في القرآن ومجيئها على وجوه:
الأول: الخطاب للناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة، قال تعالى[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
وفيه آية إعجازية من وجوه:
الأول: إقتران نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأيام الحياة الدنيا.
الثاني: إنفراد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوجه إلى الناس على نحو العموم المجموعي والإستغراقي وإلى يوم القيامة.
الثالث: بيان مصداق من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)( ).
الرابع: نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق، وحاجة لأهل الأرض، وحجة عليهم، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الثاني: الخطاب لأهل الكتاب خاصة.
الثالث: الخطاب للمسلمين على نحو الخصوص مع التباين أو الإتحاد في الموضوع , ومجيء الإنذار لمن يتخلف عن وظائفه العقائدية من الناس، والبشارة والوعد الكريم للمسلمين الذي يعلمون الصالحات.
ومن الإعجاز أن لغة الخطاب الخاصة في القرآن ينتفع منها الناس جميعاً بالمفهوم وقد تفضل الله على الناس بجعل آيات القرآن وتلاوتها تصل إلى الناس جميعاً.
وفي آية البحث إحياء لذكر إبراهيم، وإنتشار لإسمه ونبوته بين الناس ما كان يحدث لولا بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تذكير للناس بما دعا إليه إبراهيم من التوحيد، وإقامة الفرائض، كما في مناسك الحج وقيام إبراهيم ببناء البيت الحرام، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
المسألة الثانية: تكرر لفظ(الناس) في آية البحث وآية السياق، وهو من دلالات عالمية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
وجاءت كل من آية البحث والسياق بشارة وإنذاراً للناس منطوقاً ومفهوماً، فكل منهما بشارة للمسلمين، وإنذار للكافرين.
لقد تضمنت آية البحث البشارة للمسلمين، وتفيد حرمان غيرهم من أهل الملل والنحل من ولاية إبراهيم والإنتماء إليه.
ترى ما هي الصلة بين لفظ(الناس) في الآيتين.
الجواب فيه وجوه:
الأول: إرادة العموم الإستغراقي للناس جميعاً في كل زمان، إذ أن الألف واللام في كلا الموضعين للجنس , وليس للعهد.
الثاني: المسلمون الذين أخرجهم الله للناس هم أولى من غيرهم من الناس بالأنبياء والرسل، وأحق بالإنتساب إليهم.
الثالث: من مصاديق خروج المسلمين للناس في المقام مسائل:
الأولى: شهادة الله للمسلمين بأحقية الإنتساب لإبراهيم عليه السلام.
الثانية: تكذيب إدعاء غير المسلمين الأحقية بالإنتساب لإبراهيم لإنحصار ترشح هذا الإنتساب عن الإسلام وكلمة التوحيد.
الثالثة: تأكيد حقيقة وهي أن إبراهيم عليه السلام كان مسلماً حنيفاً، ولم يكن يهودياً ولا نصرانياً.
الرابعة: دعوة الناس مجتمعين ومتفرقين ليكونوا الأولى والأحق بإبراهيم عليه السلام، والتفاخر بالإنتماء إليه بدخول الإسلام وصيرورتهم من(الذين آمنوا).
الخامسة: البيان المتجدد للملازمة بين التصديق بنبوة إبراهيم ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: نفي الحرج عن نبوة إبراهيم وما فيها من الحنيفية والدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشريك، قال تعالى[قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
السابعة: تأكيد نزول الوحي على إبراهيم ولزوم التصديق به، فإن قلت الكتاب الذي أنزل على إبراهيم غير متداول بين الناس، فكيف يكون التصديق به.
والجواب من وجوه:
الأول: المراد المعنى الأعم للتصديق، وتعلقه بماهية التنزيل، وليس هو من التصديق الإجمالي، بل التفصيلي ولكنه الخاص بحقيقة وهي أن إبراهيم نبي رسول أنزل الله عليه الوحي، قال تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الثاني: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس بأن جعل ما أنزل على إبراهيم في القرآن، الذي هو تبيان لكل شيء، قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ).
الثالث: من خروج المسلمين للناس إعلان التصديق بالتنزيل مطلقاً، والإقرار بحقيقة وهي الملازمة بين النبوة والوحي.وإنقطاع الوحي بإنتقال خاتم النبيين إلى الرفيق الأعلى .
الثامنة: إظهار الحرص على إتخاذ سنة وجهاد إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة، والإقتداء به في الإستقامة وفعل الصالحات، قال تعالى[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ]( ).
التاسعة: إقامة الحجة على أهل الكتاب بإتباع أنبياء بني إسرائيل إبراهيم عليه السلام في التوحيد والحنيفية.
العاشرة: لقد كان إبراهيم عليه السلام إماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاده في هذا الباب معروف عند المليين، وحتى المشركين.
وأولى الناس بإبراهيم الذين يحاكونه في جهاده هذا، ويخلصون في الدعوة إلى الله ونبذ الشرك والضلالة، وهذا الإخلاص أمر إختص الله عز وجل به المسلمين، إذ رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته لواء التوحيد، وهم يتوارثون حمله إلى يوم القيامة.
ومن الآيات أن هذا اللواء لم يرفع من قبل شخص أو جماعة قليلة، بل كل جيل من المسلمين يرفع اللواء على نحو العموم المجموعي، وكأن أيديهم تمسك مرة واحدة اللواء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
وهل رفع اللواء هذا المتعدد والمتجدد متشابه ومتحد في سنخيته وماهيته أم أنه متباين، وكل جيل يرفعه بكيفية تختلف عن الكيفية التي ترفعها الأجيال الأخرى بلحاظ القرائن الحالية، وأحكام التقية ونحوها الجواب هو الأول، إذ يتوارث المسلمون ذات السنخية، ويقومون بالإمتثال لذات الأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( ) (وخذوا عني مناسككم)( ).
مما يدل على علوه وثباته فليس من لواء يرفعه الملايين في آن واحد، ولا تقدر جهة أو سلطة الوصول إليه، أو النيل منه , قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وفيه آية في الأرض بما يدل عليه هذا التعاضد والشأن لكلمة التوحيد وأهل الإيمان وضعف ووهن للكفار، قال تعالى[وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( ).
مما يدل على قانون ثابت في الأرض، يتجلى بأمور:
الأول: تنزه المسلمين عن السيئات طاعة لله عز وجل.
الثاني: نشر الصلاح في الأرض.
الثالث: إزاحة الباطل وأسباب الفساد.
الحادية عشرة: لقد أدّعى أهل الكتاب أن إبراهيم عليه السلام منهم وعلى ملتهم.
وهذا الإدعاء متعدد ومتباين، إذ قال اليهود أنه على ملة اليهود، وقال النصارى أنه على ملة النصارى، ولا يستطيع أحد الرد عليهم أو تكذيبهم لأنهم أتباع الكتاب المنزل في الأرض.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأفة مستحدثة بالناس من وجوه:
الأول: كشف الحقائق ، وإظهار أسراروآثار النبوة
الثاني : إزاحة التحريف الذي طرأ على الملل والنحل، قال تعالى[وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( ).
الثالث: الإنذار من القول على الله والأنبياء بغير علم، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الرابع: فضح الإستصحاب القهقري في العقائد الذي قال به اليهود والنصارى.
الخامس: البيان بالحجة السماوية القاطعة أن إبراهيم عليه السلام متقدم زماناً على اليهودية والنصرانية.
ومن إعجاز آية السياق أنها لم تكتف بذكر هذا التقدم إذ أن حال إبراهيم العقائدي تحتمل معه وجوه متعددة، فجاءت الآية بالحصر وبيان ملة إبراهيم.
وأنه كان(حنيفاً مسلماً) مستقيماً في ذات لله، مخلصاً في طاعته لله، وهو حرب على الكفر والشرك، وذات السنخية عند المسلمين.
وفيه دعوة للأمر بالمعروف، وحث للمسلمين للعمل وفق منهج إبراهيم، وإستدامة التنزه عن الشرك الظاهر والخفي، ولتكون آية السياق شاهداً على خروج المسلمين للناس، ورحمة عامة من وجوه:
الأول: الآية رحمة بأهل الكتاب، من جهات:
الأولى: فضح وبيان التحريف.
الثانية: تأكيد عدم صحة نسبة إبراهيم إلى اليهودية أو النصرانية.
الثالثة: التعدي لحصول الخصومة والشقاق بين اليهود والنصارى بخصوص إنتساب إبراهيم ومنع إتساع الخلاف بينهم، وهذا الخلاف من عمومات قوله تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ]( ).
المسألة الثالثة: دعوة أهل الكتاب بإتباع ملة إبراهيم إلى اليهودية أو النصرانية صد عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحث على الإكتفاء بالإنتماء لملة موسى وعيسى عليهما السلام.
فجاءت هذه الآية لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله، وإزاحة للغشاوة التي تترشح عن إدعاء نسبة إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية.
لذا ترى الخطابات القرآنية تتوجه إلى أهل الكتاب بعرض واحد العالم منهم وغيره، والذكر والأنثى، والكبير والصغير، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
الأول: الآية رحمة بالمسلمين من جهات:
الأولى: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة دين الأنبياء، والإتحاد بينهم بالدعوة إلى الله، والثبات على الإيمان، ومحاربة الشرك والكفر.
الثانية: جهاد المسلمين في سبيل الله، وإحياؤهم لنهج الأنبياء.
الثالثة: فوز المسلمين بالأجر والثواب العظيم في سعيهم بين الناس للهداية.
الرابعة: تجلي معاني الأخوة بين المسلمين، وتعاضدهم في الدعوة إلى الله والصلاح، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثاني: الآية رحمة بأهل الكتاب من وجوه:
الأول: بعث السكينة في نفوسهم من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إذ يقوم المسلمون بتلاوة آيات القرآن، وجدال أهل الكتاب بالأحسن.
الثاني: توجيه اللوم إلى أهل الكتاب بلحاظ إنتسابهم إلى الأنبياء السابقين، والأصل أن الجامع الذي يجمعهم مع المسلمين هو الإيمان بالله ورسله، قال تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ]( ).
الثالث: ترغيب أهل الكتاب بدخول الإسلام.
الرابع: تذكير أهل الكتاب بلزوم عدم إخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالـى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ]( ).
الثالث: الآية رحمة بالناس من غير المسلمين وأهل الكتاب، وفيه مسائل:
الأولى: طرد الغفلة والجهالة عن الناس، ببيان الحنيفية التي عليها إبراهيم عليه السلام.
الثانية: ندب الناس إلى التفقه في الدين، ومعرفة العقائد والملل.
الثالثة: حث الناس على إكرام الأنبياء، ومعرفة حقيقة وهي إلتقاؤهم في الدعوة إلى الله، وتأكيد وظائفهم الرسالية في إصلاح المجتمعات، ومحاربة الكفر والضلالة، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الرابعة: دعوة الناس للصدور عن القرآن، والإعراض عما يخالف مضامينه القدسية، وما فيه من أخبار الأنبياء وقصصهم وبيان أحوالهم.
الخامسة: آية السياق من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيها من خروج المسلمين للناس جميعاً ببيان ملة إبراهيم عليه السلام، وثباته على كلمة التوحيد وجهاده في سبيل الله.
السادسة: بيان فضل الله على الأنبياء والناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحفظ مواثيق الأنبياء بنزول القرآن جامعاً للأحكام، وسبيلاً للهداية والرشاد، قال تعالى[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
السابعة: ترغيب الناس بدخول الإسلام بالإقتداء بإبراهيم عليه السلام ونهجه في التوحيد والحنيفية السمحاء، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( )، ومن خصائص النفس الإنسانية النفرة من السفه وأسبابه.
الثامنة: زجر الناس عن التعدي على المسلمين، وإجتناب محاربة الإسلام، لأن المسلمين على نهج إبراهيم عليه السلام، وهو أبو الأنبياء والنبي الذي حارب الطاغوت، بمفرده وإستحق صفة(الأمة)، قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
(قال أبو عبيدة : كان أمة أي إماماً) ( ).
التاسعة:تجلي مصداق عملي لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إذ ينتفع الناس جميعاً من نبوته، وما فيها من بيان لحال الأنبياء، والإحتجاج على أهل الكتاب.
المسألة الرابعة: المسلمون أولى بإبراهيم لأنهم يؤمنون بالله، لقوله تعالى(وتؤمنون بالله)، وتتقوم الصلة والإنتساب لإبراهيم بالإيمان بالله، وقد وصف القرآن إبراهيم بأنه أبو المسلمين والمسلمات، مع أنهم من أمم وقوميات مختلفة ولا يجمع بينهم إلا الإنتساب لآدم عليه السلام، والإنتماء للإسلام , وبين آدم وإبراهيم من البطون ما لا يعلمه إلا الله، قال تعالى[أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ), وعلى صيغة السبر والتقسيم فإن نسب المسلمين لم يتحقق فلزم الثاني.
وفي نسبة المسلمين والمسلمات جميعاً إلى إبراهيم , ونفي نسبته إلى اليهودية والنصرانية , وبقاء كل واحد منهما موضوعاً وحكماً مدرسة في النسب وأصول الإنتساب .
فإن قلت الإيمان بالله سور جامع للمسلمين ولأهل الكتاب وملل أخرى في الأرض، فلماذا يختص المسلمون بإبراهيم بسبب الإيمان، والجواب من معاني الإيمان في المقام تقييده بعدم الشرك بالله، لذا جاء في الآية السابقة لآية السياق قوله تعالى في الثناء على إبراهيم[وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
وجاء هذا الثناء في الإحتجاج على أهل الكتاب ونفي إنتساب إبراهيم عليه السلام لهم، لتكون صفات الحسن التي يتصف بها إبراهيم والتي تحدد معاني الإنتساب له على وجوه:
الأول: الإسلام لقوله تعالى(مسلماً) والمراد التسليم بالعبودية لله عز وجل والإنقياد لأوامره.
الثاني: الإستقامة والصلاح لقوله تعالى(حنيفاً).
الثالث: العصــمة من الكفر والضلالة.
فإن قلت لماذا أثنى الله عز وجل على إبراهيم لتنزهه من الكفر، وهذا التنزه أمر عام بين المؤمنين.
والجواب من وجوه:
الأول: كان إبراهيم عليه السلام إماماً ورائداً في باب التنزه عن الشرك، وهو من عمومات قوله تعالى في إبراهيم[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي]( )، ليكون الإيمان التركة الكريمة لإبراهيم والجامع المشترك بينه وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين.
الثاني: لقد وُلد إبراهيم عليه السلام في أيام طاغوت يدّعي الربوبية، وهو نمرود، وليس من منكر عليه كفره وإضلاله للناس، فكان إبراهيم أمة في الخير، ورسولاً يحارب الشرك الضارب أطنابه بين القوم.
الثالث: ترغيب المسلمين والناس جميعاً بسنة ونهج إبراهيم عليه السلام، وبيان أن الإرتقاء في منازل الإيمان أمر ممكن بالصبر والتقوى، وهو من الغايات الحميدة لنزول هاتين الآيتين، وما فيهما من أسباب الصلاح.
الرابع: البشارة لأهل الإيمان بالثواب العظيم في الدنيا والآخرة، إذ تدل آية السياق على خلود إبراهيم بين الأجيال المتعاقبة من الناس بثباته على الإيمان في زمان الشرك، وبنيله مرتبة النبوة، قال تعالى[وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
الخامس: إتصاف إبراهيم بخصائص في باب الجهاد والدعوة إلى الله بين قوم مشركين، لذا ورد مدحه لوفائه، قال تعالى[وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى]( ).
وفي قوله تعالى[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ] ورد بالإسناد عن ابن مسعود « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ثم قرأ[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ])( ).
صلة[وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين:
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين:كنتم خير أمة ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)
وفيه شاهد على الإمتحان والإبتلاء الذي يتعرض له المسلمون، وحاجة المسلمين والناس جميعاً إلى إجتياز المسلمين لهذا الإمتحان، وثباتهم على مبادئ التوحيد، وسنن الإيمان، وحينما تقابل جيش المسلمين مع جيش الكفار يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لاَ تُعْبَدْ) ( ).
ويجعل كفر أهل الكتاب بالآيات المسلمين في حال جهاد متصل ودائم من وجوه:
الأول: إظهار الإيمان بآيات الله.
الثاني: بيان الآيات والحجج التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها تلاوة آيات القرآن.
الثالث:أداء المسلمين للفرائض والعبادات.
الرابع:تحلي المسلمين بالصبر والتقوى، وإتخاذها وسيلة ومادة في الدعوة إلى الله.
الخامس:تذكير أهل الكتاب بالبشارات التي وردت في كتبهم بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
المسألة الثانية:خروج المسلمين للناس متحداً ومتعدداً، فهو خروج خاص وعام، بمعنى أنهم يخرجون للناس جميعاً ويخرجون أيضاً لكل أهل ملة وطائفة فيشمل أهل كتاب من وجوه:
الأول:[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ]بلحاظ أن أهل الكتاب من عموم الناس، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ] ( ).
الثاني:الخطاب الخاص[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ]الجامع لليهود والنصارى، كما في آية السياق.
الثالث:الخطاب الخاص لكل طائفة منهم،ومجئ الخطاب القرآني خاصاً باليهود، أو خاصاً بالنصارى.
وهل ينحصر الخروج الخاص بأهله وموضوعه الجواب لا، فخروج المسلمين لأهل الكتاب إنما هو خروج للناس جميعاً بالواسطة من وجوه:
الأول: التقاء الكفار مع أهل الكتاب في الكفر والجحود بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إقرار المسلمين بالتمايز بينهما بالكتاب الذي يتلوه اليهود والنصارى.
الثاني: تجلي معاني الجدال والإحتجاج عند المسلمين،وتوجهه لأهل الكتاب وغيرهم.
الثالث: دعوة الكفار والناس جميعاً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع:حث الكفار على التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس:إخبار الناس جميعاً بوجود آيات الله عز وجل بين ظهرانيهم قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ]( )، وفيه حجة عليهم، وآية في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها ليست خاصة بالعرب أو أهل الجزيرة، بل جاءت للناس جميعاً، فكلما يزداد سكان الأرض، وتتعدد الأمصار والدول فان قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ] يلاقيهم، ويتعقبهم ويصاحبهم، ويتضمن الأوامر والنواهي والإنذار والوعد والوعيد لهم جميعاً.
الثالثة: إن قوله تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ] دعوة للمسلمين للجهاد في سبيل الله بالحكمة وبيان تلك الآيات التي يجحد بها أهل الكتاب، ولزوم إيمانهم والناس جميعاً بها.
ولا يختص هذا البيان بموضوع معين، بل هو متعدد ومتجدد.
ويملي زمان العولمة على المسلمين وظائف ومسؤوليات إضافية، فلم تنحصر وظائف الأب المسلم باصلاح أبنائه، فينبغي أن يقوم هو وأبناؤه في الجدال والذب عن الإسلام، وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب والناس جميعاً.
لذا جاءت آية البحث بالثناء على المسلمين، وبالإخبار عن قيامهم في زمان العولمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وهل أداء المسلم للفرائض العبادية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم لما فيه من الدعوة الذاتية والشخصية لهداية الناس، والتحلي بالتصديق العملي بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدرك الناس معها أن أداء المسلمين للفرائض هو من آيات الله التي جعلها ثابتة في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون دعوة إضافية للناس بالتصديق بمعجزاته ويكون هذا الأداء من مصاديق قوله تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( ).
فأهل الكتاب يشهدون كيف أن المسلمين يواظبون على ذات النهج والكيفية في العبادات التي كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير تبديل أو تغيير ويتعاهدون القواعد القرآنية والنبوية التي تحث على هذه المواظبة منها ( قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:صلوا كما رأيتموني أصلي( )، ويتقيدون بالأوامر والنواهي التي جاء بها القرآن، ومنها الإمتناع عن شرب الخمر، وعن أكل الربا طاعة لله عز وجل قال تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ) ( ).
ومن الإعجاز حاجة المسلمين إلى الثبات في مقامات الإيمان في زمن العولمة، ومواجهة التحديات المتعددة والتي تأتي من هنا وهناك لزحزحتهم عن منازل التقوى.
لذا جاء القرآن بالحث على الصبر، وليس من مصداق للصبر في تأريخ الإنسانية مثل الذي يتجلى في عبادات المسلمين، لذا جاء وصفهم في آية البحث بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
المسألة الثالثة: من سمو مقامات المسلمين، وعلو شأنهم تشريفهم بإخبار الله لهم بما يوده أهل الكتاب أزاءهم من الأذى والضرر، وهل في هذا الإخبار تحريض للمسلمين للإنتقام من أهل الكتاب وتجهيز الجيوش لقتالهم ومنعهم مما يحملونه من سوء القصد أزاء المسلمين، الجواب لا، من وجوه:
الأول: نعت المسلمين بأنهم (خير أمة) مما يدل على مرتبة التهذيب والصلاح التي يتصفون بها.
الثاني:تقيد المسلمين بأحكام وضوابط شرعية منها قبول الجزية من أهل الكتاب.
ويدل في مضمونه على صيرورة أهل الكتاب في ذمة المسلمين ودولتهم، ويدل في مفهومه على إقرار أهل الكتاب على ملتهم وديانتهم، وعدم إكراههم على دخول الإسلام، وهو أبهى معاني التعدد والمندوحة وما يسمى في هذا الزمان بالديمقراطية، فمع أن الحق عند المسلمين، ودخول أهل البلد والمصر الإسلام باختيار ورغبة فان أهل الكتاب لهم البقاء على ملتهم وكتابهم، ويكون لهم شأن في التجارات والصنائع والطب.
وحينما يخرج المسلمون للجهاد والقتال، فان أهل الكتاب لايندبون للنفير، وهو غاية الإكرام وقوانين إحترام الأقليات مما لم يعمل به أي نظام في العالم القديم والحديث , لموضوعية المواطنة في هذا الزمان التي تتغشى واجباتها جميع الأفراد في البلد.
ومن الآيات فيه أن تلك القوانين الإسلامية مستمرة إلى يوم القيامة، لا تقبل التغيير لأنها تتقوم بجهتين:
الأولى: سلامة القرآن وآياته وأحكامه من التحريف.
الثانية: تعاهد المسلمين لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث: إستمرار لغة الإحتجاج على أهل الكتاب، كما في آية السياق التي تدل على إظهار المسلمين لحسن السمت والمعاملة مع أهل الكتاب.
وتلاوة المسلمين لآية السياق تأديب لهم في صيغ السلوك مع أهل الكتاب وإجتناب الإضرار بهم في باب الملة والعقيدة.
الرابع: تعدد مواضيع الجدال ومصاديق الإحتجاج التي يحتج بها المسلمون على أهل الكتاب من جهات:
الأولى: تحريف أهل الكتاب لكتبهم.
الثانية: تخلف أهل الكتاب عن الوظائف العبادية.
الثالثة: جحود أهل الكتاب بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: حال الغلو التي عليها أهل الكتاب، قال تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ]( ).
الخامس: مجئ السنة النبوية بقواعد حسن المعاملة مع أهل الكتاب، وقبول الجزية منهم، وعدم إيذائهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وكان مجئ وفد نصارى نجران آية في صيغ الإحتجاج، والبيان والمباهلة، قال تعالى[قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ).
قال الكلبي إن وفد نجران يا محمد تعيب صاحبنا إلى إدعوهم إلى الإسلام) ( ).
السادس:تسلح المسلمين بالإيمان، ومواصلتهم الجهاد في سبيل الله، وتلقيهم أسباب التوفيق والفلاح من الله عز وجل.
السابع: مجيء آية السياق بالتبعيض، وأن الذين يريدون ضلالة المسلمين هم فريق وطائفة من أهل الكتاب وليس جميعهم، وفيه زجر عن تعدي المسلمين على أهل الكتاب.
المسألة الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن (خير أمة) تتعرض للأذى من قبل أقرب الملل لها بسبب إختيارها الإسلام والتصديق بآيات الله، بلحاظ الجامع المشترك بين المسلمين وأهل الكتاب وهم أتباع أنبياء الله، قال تعالى[لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
ترى هل يضر هذا الأذى المسلمين في عقيدتهم الجواب لا، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وبما أن الآية القرآنية غضة طرية في كل زمان، فان الرغبة في إضلال المسلمين باقية عند أهل الكتاب الأمر الذي يدل في مفهومه الموضوعي على أن المسلمين باقون على حال الإيمان , فود فريق من أهل الكتاب باضلالهم شاهد على ثباتهم على الإيمان، وتنزههم من أسباب الضلالة.
ومن مصاديق إصلاح المسلمين لمراتب الإمامة بين الناس في المقام, وقيامهم بوظائفها أحسن قيام أمور:
الأول: مجئ آية السياق بلغة التبعيض والتنكير في الذين يرغبون بإرتداد المسلمين، وأن هذه الرغبة غير موجودة عند جميع أهل الكتاب، ومن غير بيان لسنخية واسم تلك الطائفة.
وهل المراد اليهود على نحو الحصر والتعيين أم أنه أعم، الجواب هو الثاني وفيه دلالة على لزوم إتخاذ المسلمين الحيطة والحذر في ذات الحال التي يجتنبون فيها الإضرار بأهل الكتاب.

قانون”الإعجاز في زمن العولمة’’
ينبغي حث الناس على عدم الإلتفات إلى الذين يكذبون بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألا يكونوا برزخاً بينهم وبين التدبر بما فيها من الشواهد التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيه وجوه:
الأول:لوم وتحذير أهل الكتاب من الكفر بالآيات.
الثاني: زجر الناس عن الإنصات للذين يكفرون بمعجزات النبوة.
الثالث:توجيه اللوم إلى عموم الكفار الذين يكفرون بالنبوة والمعجزات فوصفت قريش مثلاً تلك المعجزات بالسحر، قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
الأمر الذي يدل على ما يلاقيه المسلمون في الثبات على الإيمان من صدود وجحود أهل الكتاب والكفار عن المعجزات، وعظيم الثواب الذي يفوز به المسلم عندما إختار التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثبات على الإيمان وسط عالم الكفر والصدود، وهل هذا الأمر خاص بالمسلمين الأوائل والصحابة وأهل البيت وما لاقوه من الأذى من الكفار أم يشمل باقي المسلمين فانهم توارثوا الإسلام، وتلقوه والفرائض عن آبائهم.
الجواب هو الثاني، فهو أمر عام للمسلمين جميعاً، ومتجدد في كل زمان ومكان، من طرفي الإبتلاء والثواب ,وهو الذي يتجلى في زمان العولمة، وتداخل الأمصار، وتلاقح الثقافات ’ قال تعالى[وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ]( ).
ومن إعجاز آية السياق في زمن العولمة توجه الخطاب فيها لعموم أهل الكتاب من غير تقييد بمرتبة وخصوصية لذوات منهم كالقسيسين والرهبان.
فالخطاب الإلهي (ياأهل الكتاب) إنحلالي، ينحل بعدد أهل الكتاب عموماً، يتساوى فيه الذكر والأنثى , والعالم والجاهل منهم , وفيه آية إعجازية وحجة قائمة، ودليل على حاجة الناس لحفظ القرآن من التحريف والتغيير، وإدراكهم لهذه الحقيقة عون لهم لتلقي هذا الخطاب بالإصغاء والتدبر.
وعندما نزلت آيات القرآن في بداية البعثة النبوية في مكة المكرمة لجأ الكفار إلى التصفيق لكيلا يستمع الناس إلى القرآن.
ولم تدم هذه الحالة كثيراً لأمور:
الأول:توالي نزول آيات القرآن.
الثاني:مجئ آيات القرآن بالبشارات والإنذار، والوعد والوعيد بما يجعل الناس يتدبرون في دلالاتها.
الثالث:إنجذاب الناس لآيات القرآن طوعاً وقهراً، وإصغاؤهم لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها، وتولي المؤمنين تلاوتها على الناس في البيوت والمنتديات الخاصة.
لقد شاء الله عز وجل أن تصل آيات القرآن للناس عموماً، فحينما قال الله تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] فانه سبحانه يعلم بوصول هذا النداء إلى عامة أهل الكتاب رجالاً ونساءً.
وهل يتفضل الله سبحانه بهدايتهم إلى الإستماع له الجواب نعم، وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالقرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا] ( ).

صلة(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بهذه الآية:
وفيها مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي أن خروج المسلمين للناس بمدد وتوفيق من الله عز وجل فهو سبحانه الذي يبين لهم أحوال الناس وكيفية المعاملة معهم، لذا أخبرت آية السياق بأن طائفة من أهل الكتاب يودون إرتدادهم،
وتفيد لغة التبعيض[طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] بأنهم يودون ضلالة المسلمين بصفتهم أهل كتاب وليس بسبب الإنتماء إلى قومية أو مصر أو بلد مخصوص، أو لأسباب تجارية وقتالية، وأمور دنيوية، بل جاءت رغبتهم وودهم في إرتداد المسلمين بلحاظ أنهم أهل كتاب، ومن اليهود أو النصارى، فيجب أن تكون المواجهة عقائدية تتضمن الإحتجاج وإستحضار البرهان الذي يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
لذا جاءت الآية التالية بلغة اللوم لعموم أهل الكتاب بقوله تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]( )، وفيه هداية وإرشاد للمسلمين لسبل مواجهة ود ورغبة فريق من أهل الكتاب بضلالة المسلمين، وإختص هذا الود بطائفة من أهل الكتاب بينما توجه اللوم على الجحود بالآيات والمعجزات بصيغة العموم الإستغراقي الشامل لأهل الكتاب، لبيان نسبة العموم والخصوص المطلق عند أهل الكتاب بين كفرهم بآيات الله وود فريق منهم ضلالة المسلمين، قال تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ] ( ).
فجاءت آية البحث لهداية المسلمين لسبل الصلاح، وتوكيد إمتناعهم عن الضلالة والغواية، وتوليهم لوظائف الجهاد في بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلالتها على لزوم التصديق بنبوته وإتباعه في مرضاة الله عز وجل.
الثانية: أخبرت آية البحث عن خروج المسلمين للناس، وهل أخبرت آية السياق عن خروج أهل الكتاب للمسلمين بالرغبة في إرتدادهم وإضلالهم،
الجواب لا من وجوه:
الأول:المراد من الخروج هو السعي للإصلاح، بينما يريد أهل الكتاب إخراج المسلمين من مراتب الإيمان، وما في تعاهد المسلمين للعبادة من إستدامة الحياة في الأرض، وقد جاء ذم إبليس في التنزيل [يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ] ( ).
الثاني: لقد خرج المسلمون إلى الأمم والملل الموجودة في الأرض، وليس من أمة تخرج على المسلمين، وهو من الشواهد على أن نبوة محمد خاتمة النبوات، وأنه لا نبي بعده .
فان قيل قد تخرج أمة للناس بعد المسلمين , ولكنها لن تكون(خير أمة).
والجواب جاءت الآية بصيغة الفعل الماضي المبني للمجهول(أخرجت) المستمر في حكمه ومضامينه، وخرج المسلمون للناس جميعاً، فليس من فرد أو جماعة أو أمة إلا وقد خرج ويخرج لها المسلمون.
الثالث: أصل وظيفة أهل الكتاب الدعوة إلى الله والإصلاح، قال تعالى[فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ]( ).
الرابع: الذي يود الضلالة للمسلمين فريق من أهل الكتاب وليس كلهم، وجاءت الآية بصيغة اللوم لهم.
الخامس: وردت آية السياق في تحذير المسلمين ممن يريد لهم الضلالة والغواية، وهذا التحذير من مصاديق إخراج الله عز وجل المسلمين للناس بأن تكون وظيفتهم مركبة من الدعوة إلى الإسلام والتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصبر والثبات في مواجهة أسباب الضلالة والغواية، لذا يتصف المسلمون بالمنعة والقوة في سعيهم في سبيل الله، قال تعالى في الثناء عليهم[أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
السادس: من فضائل المسلمين أنهم مستمرون في خروجهم للناس مع الموانع التي يضعها أقرب الناس لهم وهم أهل الكتاب، وهو شاهد بأن جحود وصدود الكفار لم يوقف سعي وجهاد المسلمين في جذب الناس للإسلام .
ومن الآيات أن الذي كان في منازل الكفر وكان أهل الكتاب أعلى منه مرتبة بلحاظ إنتسابهم لكتاب سماوي، تراه يصبح بين عشية وضحاها مسلماً، ويتلقى التحذير من أهل الكتاب وما يبيتون له من أسباب الضلالة, قال تعالى[ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
الخامسة: يفيد الجمع بين بدايتي الآيتين تحذير المسلمين من الكفار والوثنيين من باب الأولوية القطعية، فإذا كان أهل الكتاب الذين يتبعون أنبياء سابقين يرغبون في ضلالة وإرتداد المسلمين فان الكفار أشد رغبة فيه، وإذا كان الذين يرغبون بضلالة وإرتداد المسلمين فريقاً من أهل الكتاب , فحال الكفار يحتمل وجوهاً:
الأول: يحارب جميع الكفار المسلمين.
الثاني:تحارب طائفة من الكفار المسلمين، وطائفة أخرى تلتقي مع غيرهم في ضلالتهم.
الثالث:جميع الكفار يرغبون في ضلالة المسلمين.
والصحيح هو الثاني، فلم يقم الكفار جميعهم بمحاربة الإسلام بل قام فريق من الكفار بقتال المسلمين , ويدل عليه تجهيز رؤوساء الكفر من قريش الجيوش العظيمة للإجهاز على الإسلام، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذي صدّقوا برسالته سواء الذين خرجوا منهم للقتال أم الذين لم يخرجوا، ومن الكفار من إمتنع عن الخروج مع قريش، ومنهم من دخل في عهد النبي بعد الحديبية.
إن التقسيم والإنشطار في حال الكفار أزاء الإسلام، وحصول بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمن من الدول العظمى أنذاك آية من التخفيف وأسباب الرحمة الإلهية.
لقد قام الجاحدون ببعثة عيسى عليه السلام بتحريض وكيل السلطان عليه، والحكم عليه بالصلب قال تعالى[وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ] ( ).
وقد سعى جماعة من كبار مشركي قريش عند هرقل ملك الروم للتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجماعة منهم عند ملك الحبشة وهم يستحضرون غزو إبرهة بن صباح الأشرم في ذات السنة التي ولد فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع حساب ومكر وقياس منهم، فاذا كان إبرهة غزا مكة ليهدم الكعبة، ويحج العرب لكنيسة ضخمة أقامها في صنعاء اليمن، فظنوا أن النجاشي سيغزو مكة والمدينة مجدداً لمحاربة النبي وأصحابه وللقضاء على الإسلام من باب الأولوية خصوصاً وان إبرهة جد النجاشي الذي كان أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن فضل الله تعالى أن النجاشي يتصف بأمور:
الأول: معرفة النجاشي بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي جاءت في الكتب السماوية السابقة.
الثاني:التباين بين حال إبرهة والنجاشي، وقد أراد الله عز وجل أن تكون الهزيمة والخزي الذي لحق إبرهة وجنوده عبرة وموعظة لأهل الحبشة وسلاطينهم.
الثالث: من الإعجاز في نزول القرآن نزول سورة الفيل في مكة، وما فيها من توثيق لهزيمة وهلاك إبرهة وجنوده بآية من الله عز وجل , قال تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ]( ).
الرابع: كان منع إبرهة وجنوده من الإستيلاء على مكة والمدينة، وعجزه عن هدم الكعبة آية من عند الله ومقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في أرض ليس فيها سلطان وحاكم جائر.
ومن الآيات أن أرض الحجاز لم تخضع وتتبع يومئذ لحكم إحدى الدول العظمى آنذاك كالدولة الرومانية والدولة الفارسية، ليبشر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وهم محاصرون يوم الخندق بفتح بلاد فارس والشام، وملك خزائن كسرى وقيصر، فحينما تعسر على الصحابة تفتيت صخرة واجهتهم عند حفر الخندق لجأوا إلى رسول الله فتفتتت في ثلاث ضربات.
وقال عند الضربة الأولى(الله أكبر . أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة.
ثم ضرب الثانية ، فقطع ثلثاً آخر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور المدائن البيض.
ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله . فقطع بقية الحجر وقال : الله أكبر . أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء)( ).
وتحتمل هذه البشارة وجوهاً:
الأول: إرادة ملك جزء من خزائن كسرى وقيصر وتحقيق المسمى وصرف الطبيعة من تلك الخزائن.
الثاني: تحقيق ملك خزائن كسرى وقيصر كاملة.
الثالث: جاء ذكر الخزائن من باب ذكر الجزء والفرد الأهم وإرادة الكل والمقصود فتح بلاد فارس والروم.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق، ولأن ملك الخزائن لا يتم إلا بالفتح، والمراد من كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه الذي هو من الوحي هو الفتح والملك والإستيلاء , لأن المتبادر من لفظ الخزائن في المقام هو الملك الدائم، وعائدية الأموال كلها لرسول الله والمسلمين بأن يكون أهل تلك الأمصار من المسلمين، وتوزع عليهم موارد وثروات البلاد.
وأكدت الشواهد التأريخية كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثبتت صدقه ووقوعه على نحو الإعجاز سواء في ميادين القتال أو في النتائج والآثار،
فتتجلى في كل زمان المصاديق العملية والتأريخية للبشارة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أولى لأهل الكتاب أن يتعظوا من الآيات ويعتبروا من بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنذارات القرآن ويجتنبوا إيذاء المسلمين، والسعي في الإضرار بهم، ولكن طائفة منهم إستمرت على الكيد للمسلمين.
فجاءت آية البحث في مواساة المسلمين وإخبارهم بأنهم(خير أمة)، وجاءت آية السياق بتحذيرهم وإنذارهم، وجعلهم يدركون أن البشارات القرآنية والنبوية بالفتح لا تتعارض مع لزوم أخذهم الحيطة والحذر من الكفار عامة، ومن أهل الكتاب ممن يريد إغواءهم وإرتدادهم.
ومن معاني قوله تعالى [أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] والعموم الوارد في لفظ(الناس)، بعث المسلمين للعمل بالكيفية المناسبة من المعاملة مع كل طائفة وفريق وملة وجماعة من الناس مع الحفاظ على الثوابت العقائدية، وصيغ الدعوة العامة للناس جميعاً، وجاء القرآن بالبيان والتفصيل عن أحوال الملل والأمم، وما يأتي من ناحيتهم وجهتهم من الأذى للإسلام والمسلمين، وفيها مسائل:
الأولى: بعث المسلمين للتوجه إلى أهل الكتاب بأمور:
الأول: الأمر بالمعروف، وفيه وجوه:
الأول: دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، وحث الذين يودون ضلالة المسلمين على ترك الضلالة العامة والخاصة، ومن الضلالة الخاصة رغبتهم ضلالة وإرتداد المسلمين، قال تعالى[وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ]( ).
الثاني: منع أهل الكتاب من وقوع المصداق العملي للود بضلالة المسلمين بالتعدي والخيانة والإضرار بالمسلمين، وهو من إعجاز الآية، ومصاديق فوز المسلمين بمرتبة(خير أمة) بأن يقوموا بتلاوة آية البحث وما فيها من تذكير أهل الكتاب بما يدور في منتدياتهم، وتحذيرهم من الكيد والمكر بالمسلمين.
الثالث: توكيد نزول القرآن من عند الله بما في آية السياق من إعجاز.
الرابع:دعوة الناس إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإتعاظ من حال المسلمين وثباتهم على الإيمان , قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
الثاني: قيام المسلمين بالنهي عن المنكر، وفيه وجوه:
الأول: تحذير وإنذار أهل الكتاب من السعي لإرتداد المسلمين.
الثاني: بيان قبح الرغبة وسوء القصد في إضلال المسلمين.
الثالث: دعوة أهل الكتاب إلى إجتناب إنكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: النهي عن السعي لإغواء بعض المسلمين.
الثالث: تجلي مصاديق الثبات على الإيمان في سيرة وعمل المسلمين، بما يبعث اليأس في نفوس أهل الكتاب وغيرهم من إضلال المسلمين، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ).
الثانية: يحتمل قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره على أهل الكتاب وجوهاً:
الأول: تخلص أهل الكتاب من الود والرغبة بضلالة المسلمين , ويدل على إحتمال وقوعه مجئ آية السياق بصيغة الفعل الماضي.
الثاني:ترجل رغبة أهل الكتاب باضلال المسلمين بالواقع العملي، وشواهد فعلية من الكيد والمكر والإغراء لمستضعفي المسلمين لمحاولة إرتدادهم وعدم تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأهل الكتاب.
الثالث: بقاء ذات الرغبة عند أهل الكتاب في ذات السنخية من غير زوال لها أو خروج لها في الواقع العملي.
الرابع: جاءت آية السياق ببيان حصول الود بضلالة المسلمين عند فريق وطائفة من أهل الكتاب , ويأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع إتساع هذا الود بين أهل الكتاب، وشموله لهم جميعاً، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
الخامس:القدر المتيقن من الأمر بالمعروف ومنافعه ثبات المسلمين في منازل الإيمان وبقاؤهم في حال يقظة دائمة، وعدم ترتب الأثر على ود ورغبة أهل الكتاب بإضلالهم.
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان كل الوجوه الأخرى محتملة وممكنة، فمن إعجاز الآية إخبارها عن حصول الود بضلالة المسلمين بفريق وطائفة من أهل الكتاب، لتكون منافع ووظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعددة ومتشعبة، وذات أثر وتأثير متصل، وهو من مصاديق مجئ الآية بصيغة المضارع[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] خصوصاً وأن المسلمين يواجهون الحرب والتعدي من الكفار ليصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلاحاً بيد المسلمين للنجاة والوقاية من رغبة أهل الكتاب في ضلالتهم وغوايتهم.
الثالثة: يحتمل ود ورغبة طائفة من أهل الكتاب في إضلال المسلمين وجهين:
الأول: إنه من المنكر الذي ينهى عنه المسلمون.
الثاني: القدر المتيقن من المنكر هو الذي يكون في عالم الفعل، والود ليس من الأفعال فلا يدخل ضمن ما ينهى عنه المسلمون.
والصحيح هو الأول فان هذا الود أمر قبيح، ومقدمة للكيد والإضرار بالمسلمين , ولمجئ الآية الكريمة كناية في الفعل المترشح عنه والجدال وإثارة أسباب الشك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإخفاء البشارات التي وردت في نبوته في التوراة والإنجيل مع التقيد بالآداب القرآنية في نهي أهل الكتاب عن الإضرار بالمسلمين، لعمومات قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )،
وجاءت الآية الكريمة لتحذير أهل الكتاب والناس منه ودعوتهم لنبذ الكراهية لعملة راية التوحيد في الأرض، وتوكيد حقيقة وهي أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وصحيح أن الود كيفية نفسانية إلا أن ممضامين آية السياق والمراد من الود فيها أعم من الرغبة من وجوه:
الأول: ذات الآية، وقوله تعالى[وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] والإضلال هنا فعل وجلب للأذى والضرر للنفس والجماعة.
الثاني: إخبار الآيات القرآنية بماهية جدال أهل الكتاب وما يأتون به من أسباب الشك والريب والجدال , قال تعالى[قَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ] ( ).
الثالث: مجئ الشواهد والوقائع التأريخية التي تظهر هذا الود عند فريق منهم، وإعانتهم لقريش في هجومها على المسلمين.
الرابعة: من خصائص آية البحث تضمنها البشارة للمسلمين فصحيح أن قوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] جملة خبرية تفيد الشهادة للمسلمين بالإيمان، إلا أنها بشارة عظيمة في الوقاية من آثار رغبة أهل الكتاب بضلالتهم، وفيه درس وموعظة لأهل الكتاب وعموم الكفار، ورسالة سماوية بأن المسلمين مقيمون بثبات في منازل الإيمان، وأن رغبة أهل الكتاب بارتدادهم لا تضر إلا أهل الكتاب أنفسهم، لتتجلى في قوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] مسائل:
الأولى: بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثانية: طرد أسباب الفزع عن المسلمين من آثار ود ورغبة أهل الكتاب باضلالهم.
الثالثة: إنه آية في حسن خلق المسلمين.
الرابعة: إجتناب المسلمين ظلم أهل الكتاب أو البطش بهم بسبب رغبتهم الإضرار بالمسلمين، وتبين الآية أن إيمان المسلمين عون لأهل الكتاب في الإمتثال لقوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
فيلجأ المسلمون للجدال مع أهل الكتاب بصيغ الطمأنينة، وإنتفاء الغضب والسخط، وهو من مصاديق الحسن في الجدال مع أهل الكتاب.
الخامسة: لما جاءت آية البحث بالإخبار عن الخير والصلاح لأهل الكتاب لو إختاروا الإيمان لقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( )، وجاءت آية السياق ببيان مصاديق من هذا الخير والحسن من وجوه:
الأول: الرغبة بضلالة المسلمين أمر قبيح، ولو إختار أهل الكتاب الإيمان لتخلصوا من تلك الرغبة، وأسباب الحسد للمسلمين.
الثاني: يريد فريق من أهل الكتاب إضلال المسلمين، ولو إختاروا الإسلام والهداية فان بقاء المسلمين في مراتب الإيمان خير لهم وللناس جميعاً، فهم حينما يسعون في الإضرار بالمسلمين إنما يضرون أنفسهم، قال تعالى[ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الثالث: جاءت آية السياق بالإخبار القاطع عن إضرار الكفار بأنفسهم، ومن خصائص الإنسان والجماعة دفع الضرر والفساد عن النفس والذات، والسعي لجلب المنفعة للنفس والجماعة، فجاءت آية البحث بهداية أهل الكتاب والناس إلى السبيل القويم، والصراط المستقيم، وأسباب النجاة في النشأتين، بالإيمان بالله ورسوله.
السادسة: يعلم الله عز وجل بأن أهل الكتاب يودون ضلالة وغواية المسلمين، وهو سبحانه الذي أخبر المسلمين به، ومع هذا فانه تعالى لم ينتقم منهم عقوبة لهم، ودفاعاً عن المسلمين، بل تفضل وأخبر بأن الإيمان خير لهم لوجوه:
الأول: الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ويكون الإنسان فيها مخيراً.
وتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الناس , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )، لذا تضمنت آية السياق إنذار أهل الكتاب لسوء رغبتهم في إرتداد المسلمين، وتضمنت آية البحث البشارة لهم إذا إختاروا الإيمان، وفيه شاهد بأن بشارات القرآن عامة وليست خاصة بالمسلمين ولكن البشارة لغير المسلم معلقة على إختياره الإيمان.
الثاني: بيان وجه من إعجاز القرآن ، وجاءت أحكام الإسلام بالمائز بين أهل الكتاب والكفار ببقاء أهل الكتاب في ذمة المسلمين وأخذ الجزية منهم، وعدم قبولها من الكفار.
(وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما العرب فلا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية، فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك : منافقوا أهل مكة : عجباً من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه.
وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب؟ فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ]، يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ])( ).
فتكون أمصار المسلمين خالية من الكفار، ولكنها تضم إلى جانب المسلمين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مما يعني الإختلاط معهم، وحصول المعاملات اليومية والعقود بين المسلمين وبينهم، فكذا بالنسبة للعقائد، وكيفية التعامل مع أهل الكتاب والكفار، ولا غرابة أن يفتي كثير من العلماء بجواز نكاح الكتابية, وهو المختار( ).
فجاءت آية البحث بترغيب الناس بالإيمان، ليكون وسيلة لنجاتهم من إضلالهم لأنفسهم برغبتهم بضلالة المسلمين , قال تعالى[فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]( ).
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في الآية قال : كانت العرب ليس لها دين ، فاكرهوا على الدين بالسيف ، قال : ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية) ( ).
الثالث: تذكير أهل الكتاب بحقيقة وهي أن الإيمان مرتبة خاصة بالمسلمين، وأن أهل الكتاب وغيرهم لم يرتقوا إلى تلك المرتبة، بدليل مفهوم قوله تعالى[لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ] للتباين بين حال أهل الكتاب وبين مرتبة الإيمان.
السابعة: يدل الجمع بين الآيتين على إنتفاء التعارض بين آيات القرآن، إذ جاءت آية البحث بالتفصيل في حال أهل الكتاب[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ].
وجاءت آية السياق بحصر الود والرغبة بارتداد المسلمين بطائفة وفريق من أهل الكتاب دون الجميع.
وأخبرت آية البحث عن كون أكثر أهل الكتاب فاسقين، بينما جاءت آية السياق بالإخبار عن رغبة طائفة وفريق منهم بضلالة المسلمين، وبين الأكثر والطائفة عموم وخصوص مطلق فالأكثر أعم من الطائفة، وتحتمل الصلة بينهما وجوهاً:
الأول: الطائفة التي تود ضلالة المسلمين جزء وشطر من الفاسقين الذين هم الأكثر من بين عموم أهل الكتاب.
الثاني: صحيح أن الطائفة التي تود ضلالة المسلمين هي جزء وفريق من أهل الكتاب، إلا أنها من جهة الأفراد الأكثر، ليكون أهل الكتاب على أقسام متعددة.
الثالث: التفصيل في الطائفة التي تود ضلالة المسلمين ، فبعضهم من أكثر الفاسقين، وبعضهم ليسوا من الفاسقين.
والصحيح هو الأول، فان الود بضلالة المسلمين إنعكاس لحال الخروج عن طاعة الله عز وجل، ورغبة تتم عن حسد لأهل الإيمان، لتكون من وظائف آية السياق دعوة أهل الكتاب لنبذ الفسق وأسباب الجحود،
إن ثبات المسلمين على منهج الإيمان حجة على أهل الكتاب، وتذكير لهم بلزوم التقيد بأحكام التنزيل وما فيه من العبادات وسننها وآدابها، ليكون المسلمون مرآة للتنزيل، وشهوداً في كل زمان على صدق نزوله من عند الله , قال تعالى في خطاب للمسلمين [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).
صلة[وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] بهذه الآية:
وفيها مسائل:
الأولى:من صفات (خير أمة) العصمة من الضلالة والغواية ,وإن أرادها لهم الناس، فجاءت آية السياق، على وجوه:
الأول: الوعد الكريم للمسلمين بالأمن والسلامة من الضلالة والإرتداد، وورد حكاية عنهم في التنزيل[آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ] ( )،
ومن مقاصد هذا المكر أمور:
الأول: إدعاء أنهم لم يجدوا في الإسلام ما يجعلهم يستمرون في البقاء والإستمرار في الإنتماء إليه.
الثاني: إرادة إرتداد المسلمين إمكان الخروج من الإسلام، وترك الفرائض.
الثالث: ترغيب المسلمين بالإرتداد وترغيبهم بمحاكاتهم في الكفر آخر النهار.
الرابع: محاولة صد الناس عن دخول الإسلام، ومنعهم من التدبر في آيات التنزيل، قال تعالى[الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا]( )،
وجاء القرآن بأمور:
الأول: بفضح وخزي الذين يفترون على الله ويصدون الناس عن الإسلام.
الثاني: بيان قبح ما يفعلون.
الثالث: إقامة الحجة عليهم من كلامهم ذاته لأنهم يشهدون بأن الذي يؤمن به المسلمون تنزيل من عند الله.
لتكون الآية أعلاه وثيقة سماوية تبين أموراً:
الأول: إن صيغ الإضلال التي يتخذها أعداء الإسلام واهية في ذاتها، وفاقدة لأسباب الأثر والتأثير.
الثاني: في الآية حجة دامغة على أهل الضلالة بأنهم يقرون بنزول القرآن من عند الله.
الثالث: يعترف هؤلاء بنيل المسلمين مرتبة الإيمان، وانهم أمة مجتمعة على التصديق بالتنزيل لقولهم[آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا].
الثانية: تتضمن آية السياق البشارة المتعددة لخير أمة بالنجاة من مكر طائفة من أهل الكتاب، وتخبر بأن كيدهم يرجع إلى نحورهم، وأنهم يضرون أنفسهم بأسباب الضلالة،
وفيه موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتعلق بأهل الكتاب، ودفع الضلالة عن أنفسهم بحثهم على الكف عن السعي للإضرار بالمسلمين، ودعوتهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] ( ).
وهل يترك المسلمون الناس في إضلالهم لأنفسهم , الجواب لا، ويدل عليه منطوق آية البحث وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فنعت المسلمين بأنهم خير أمة يدل على جهادهم لإستئصال الضلالة من الأرض، ويفيد خروجهم للناس العموم،
وضلالة النفس من المنكر الذي يقوم المسلمون بالنهي عنه، والسعي لإزاحته كغشاوة وبرزخ ذاتي يحول دون التدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن إزالة أسباب الضلالة الذاتية باعث للتدبر في المعجزات، والتحقق منها مما يدل على كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مادة للتحدي، ومناسبة لإثبات صدق المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة:من خصائص(خير أمة) سلامتهم من محاولات إضلالهم والإضرار بهم، لذا جاءت آية البحث بالإخبار عن إيمان المسلمين بالله، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يدل على عصمتهم من الضلالة، والتي تكون حاجباً دون الجهاد في الإصلاح والصلاح.
لقد أراد فريق من الناس منع المسلمين من القيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسعي في إضلالهم وإغراء المستضعفين منهم بالإرتداد عن الإسلام.
فجاءت آية السياق بفضحهم والإخبار عن بطلان كيدهم، وسفاهة أحلامهم، وفي آية البحث أمور:
الأول: الرفق بأهل الكتاب ببيان الأضرار الذاتية على النفس لمن يريد المكر بالمسلمين.
الثاني:الإخبار عن سلامة وعصمة المسلمين من الضلالة والغواية[أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ]( ).
الثالث: التوكيد لأهل الكتاب والناس جميعاً، بأن المسلمين(خير أمة) وتعمل على فضح أسباب الضلالة.
الرابع: بعث السكينة في نفوس أهل الكتاب من المسلمين فمع أنهم يريدون إضلال المسلمين فان المسلمين يخرجون إليهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويدل قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] على حقيقة وهي أن المسلمين يأتون للناس ويبادرون لدعوتهم للهداية والرشاد، ولاينتظرون مجئ أهل الكتاب والناس إليهم , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ).
صلة[وَمَا يَشْعُرُونَ] بهذه الآية:
وفيها مسائل:
الأولى:تقدير الجمع بين الآيتين وما يشعر أهل الكتاب بأمور:
الأول: المسلمون خير أمة.
الثاني: وظيفة الإنسان الإلتحاق بخير أمة.
الثالث: التصديق بنبوة محمد سبب للفوز بالإنتماء لخير أمة.
الرابع: خروج المسلمين للناس جميعاً.
الخامس:إشراقة عهد جديد على الأرض بخروج خير أمة للناس، وقد كان الأنبياء يخرجون للناس ويتحملون الأذى، ومنهم من لاقى القتل , قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( )، فتفضل الله فاخرج أمة للناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يجعل الظالمين عاجزين عن إسكات دعوة الحق والهدى، فلم تعد الدعوة شخصية بل تنهض بها أمة عظيمة، وهو من الشواهد والبراهين على عجز أهل الكتاب عن إضلال المسلمين، وعلى صيرورة كيدهم إضراراً بأنفسهم.
السادس: ما يشعرون بأن تلاوة آية السياق من خروج المسلمين للناس جميعاً، فصحيح أن موضوع الآية هو أهل الكتاب إلا أنها تتضمن في الدلالة الإلتزامية تحذير الناس جميعاً من أسباب وصيغ التعدي على المسلمين، والسعي لبث الشك والريب في نفوسهم.
السابع:إن الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب المنعة من الضلالة والإرتداد، لذا تفضل سبحانه وجعل القرآن معجزة عقلية وكنزاً.
الثامن: لا يشعرون بتعاهد مواصلة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التاسع: لا يشعرون أن الله عز وجل يبين للمسلمين ما في نفوس الذين يودون ضلالتهم.
العاشر: لا يشعرون بأن وبال إضلالهم يرجع على أنفسهم , ويصير ضررا عليهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ]( ).
الحادي عشر: لا يعلمون أن محاولات إضلال المسلمين خلاف وظيفة الكتابي، لأن المسلم يؤمن بالله، ويتبع منهاج النبوة، ويصدق بالكتاب.
الثاني عشر: وما يشعرون أن الله عز وجل يدل المسلمين على سبل النجاة من كيد الكفار، وود أهل الكتاب إرتدادهم وهلاكهم.
الثالث عشر: لا يشعرون أن المسلمين يؤمنون بالله، لقوله تعالى في آية البحث[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] وهو واقية من الضلالة، وحرز من الغواية.
الرابع عشر: لا يشعرون أن فريقاً منهم يدخلون الإسلام فيكون خزياً للذي يقيم على السعي لإضلال المسلمين.
الخامس عشر: وما يشعرون أنهم لو آمنوا إنكشف لهم الغطاء، وتبين لهم خطأ قصد إضلال المسلمين.
السادس عشر: السعي في إضلال المسلمين فسق وخروج عن طاعة الله، وتأكيد أن باب التوبة مفتوح لهم، قال سبحانه[فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ] ( ).

صلة قوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في هدايتهم لصيغ الجدال.
الثانية: جاءت آية السياق في الإحتجاج على أهل الكتاب مما يدل بالأولوية القطعية على إحتجاجهم على الكفار والمشركين، وتحتمل منافع الإحتجاج على أهل الكتاب وجوهاً:
الأول: تنمية ملكة الجدال عند المسلمين، وإرشادهم إلى سلاح البرهان الذي يفيد القطع واليقين.
الثاني: إقامة الحجة على أهل الكتاب.
الثالث: دعوة الناس جميعاً للإعراض عن أسباب الشك والريب في الإسلام، ومنهم من أراد صدّ الناس عن الإسلام فجاءت كل من آية البحث والسياق لإبطال فعله، وبعث الناس للصدود عنه، قال تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، والشواهد على ما فيها منطوقاً ومفهوماً من الكنوز والعلوم ، فيكون موضوعها متحداً , ولكن مفهومها متعدد ومتجدد , وشامل لأحوال الناس المتباينة.
الثالثة: تأكيد موضوعية الجدال والإحتجاج في حياة(خير أمة)، فهم لا يكتفون بأداء الفرائض، ولا يحصرون عملهم فيما بينهم، بل المسلمون أمة تجاهد في سبيل الله بإعلاء كلمة التوحيد، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ويفيد الجمع بين آية البحث والسياق أن المسلمين هم أهل(الجدال الحسن) إذ أن قيد الأحسن والأفضل في الجدال مطلق وشامل لمن يجادل بالحسنى وغيره، فحتى الذي يفتري على الأنبياء ويغالي فيهم، ويقول غير الحق ويخفي البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكون جدال المسلمين له بالأحسن.
ومن أبهى معاني الحسن والفضل في الجدال آيات القرآن لحسنها الذاتي والغيري وخلوها من التعارض ولأنها خير محض، ونفع دائم ومتجدد، وهي حرب على المغالطة والوهم، قال تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ]( ).
والجدال نوع مواجهة في الحديث، يكون القرآن فيه أبهى وأمضى سلاح للمجادل، ويبعث الطمأنينة ويطرد الجهالة عن الذي يحتج عليه بالقرآن.
عن الإمام علي عليه السلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنها ستكون فتن ! قلت: فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال: كتاب الله، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، هو الذي من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم)( ).
الرابعة: تتصف (خير أمة) بأمور:
الأول: الإقرار والإعتراف بأن إبراهيم نبي رسول، فلم ينحصر تصديق المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحدها، بل يعلنون تصديقهم بالأنبياء السابقين , وما أنزل عليهم ويذبون عنهم , قال تعالى[لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ]( ).
الثاني: بلوغ المسلمين مراتب التفقه في أمور النبوة.
الثالث: تصديق المسلمين بالأنبياء على نحو العموم المجموعي بلحاظ الوحي والرسالة، وهو بيان للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً، ومدرسة في علم الكلام جعل الله عز وجل كل مسلم ينهل منها، ويكتسب علوماً من قوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا] إذ أن الآية تتضمن وجوهاً:
الأول: أداء النفي(ما).
الثاني: ذكر إبراهيم عليه السلام وما في هذا الذكر من الإكرام والتشريف.
الثالث: ذكر اليهودية والنصرانية ليس بالذات، ولكن بالإخبار بأن إبراهيم عليه السلام ليس من اليهود والنصارى، ومن منافع البيان الذي جاءت به آية السياق إبطال حصر اليهود والنصارى للذين يدخلون الجنة بهم، دون غيرهم من الموحدين، كما ورد في التنزيل[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( )، ولا يتعلق الأمر بإبراهيم عليه السلام للتسالم على نبوته بين المسلمين واليهود والنصارى، ولكنه يشمل أتباع الأنبياء من الملل السابقة قبل بعثة موسى وعيسى،
ومن وجوه وأسباب تسمية اليهود نسبتهم إلى يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم فسموا اليهوذ، وعرب بالدال(يهود).
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان وظيفة من وظائف(خير أمة) بالإخبار عن كون إبراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً، ويحتمل وجوهاً:
الأول: تقدم زمان إبراهيم على اليهودية والنصرانية.
الثاني: وجود اليهودية والنصرانية أيام إبراهيم ولكنه كان حنيفاً مسلماً.
الثالث: وجود اليهودية وحدها دون النصرانية أيام إبراهيم عليه السلام.
الرابع: تقدم زمان اليهودية والنصرانية على زمان أيام ونبوة إبراهيم عليه السلام.
الخامس: إبراهيم عليه السلام نبي من الرسل الخمسة أولي العزم، وهو أكبر من الإنتماء لليهودية أو النصرانية.
والصحيح هو الأول والأخير، فقد جاءت اليهودية والنصرانية بعد أيام إبراهيم عليه السلام إذ أن اليهود أتباع موسى والنصارى أتباع عيسى، وكل واحد منهما نبي من ذرية إبراهيم، قال تعالى[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
والمراد من قوله تعالى في الآية أعلاه(ومن ذريته) أي من ذرية إبراهيم, وقيل ذرية نوح عليه السلام لأمرين:
الأول: إنه الأقرب في الذكر للضمير.
الثاني: ورد في الآية أعلاه ذكر من ليس من ذرية إبراهيم , وهما لوط وإلياس.
إذ أن لوطاً ابن أخي إبراهيم وقيل ابن إخته، وموسى عليه السلام بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
أما عيسى عليه السلام فهو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا.
وأختلف في إلياس(فقيل أنه إدريس كما قيل ليعقوب إسرائيل عن عبد الله بن مسعود)( ).وقيل إدريس جد نوح .
والإدعاء بأن إبراهيم يهودي أو نصراني يرجع إلى ذريته من الأنبياء، ومنهم إسماعيل جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هو أبو العرب جميعاً فجاء منطوق الآية بخصوص إبراهيم، ولكنه أعم في دلالته ومفهومه لتحمل(خير أمة) لواء الدعوة إلى الإسلام، وإبطال الشبهات، ودحض الباطل، وقد جاء في إبراهيم وذريته قوله تعالى[وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
فجاءت آية البحث لتؤكد أن التفضيل بصفة النبوة وشرف الوحي وأنهم غير منتمين لليهودية أو النصرانية.
السادسة: من خصائص(خير أمة) أنها مجتمعة على نهج إبراهيم عليه السلام، فيجب ألا تكون على ملة اليهود والنصارى، وفيه تـأديب للمسلمين، وتفقه في الدين وبيان للناس بالصلة وأسباب القرب بين الإسلام وأهل الكتاب وأن(خير أمة) تقتفي سنة الأنبياء السابقين.
جاءت آية السياق ببيان متعدد في تأريخ النبوة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]( )،
وتضمنت آية السياق قصص الأنبياء من وجوه:
الأول: قصة إبراهيم عليه السلام، وذكره بالإسم، وبيان سبق زمانه، على اليهودية والنصرانية.
الثاني: قصة موسى عليه السلام ونزول التوراة عليه في زمان متأخر عن أيام إبراهيم عليه السلام.
الثالث: قصة عيسى ونزول الإنجيل عليه، وتأخر زمان نزول الإنجيل على نزول التوراة، قال تعالى[وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ]( ).
قانون(الجدل الإيماني)
الجدل لغة هو شدة الفتل(ويقال جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلاً أَي غلبته)( )، وفي الحديث: ما أوتي الجدلَ قوم إلا ضلوا) ( )، (وفسره ابن منظور بأن المراد به في الحديث الجَدَلُ على الباطل وطَلَبُ المغالبة به لا إَظهار الحق)( ).
وهذا صحيح ولكن ظاهر الحديث أعم، وهو إنتقال ذات القوم بالجدال فيما بينهم بخصوص أمور دينهم ودنياهم، فإن الجدل يورث الفرقة والتشتت، وسبب للسأم، والتجرأ والبدعة لذا ورد النهي عن الجدال في الحج مثلاً , كما في قوله تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
ومن مصاديق حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه إنحسار الحضارة اليونانية مع تميزها بخصال علمية وعسكرية في زمانها، وقيل نقل مناطقة العرب هذه الكلمة وإستعملوها في الصناعة والتي تسمى باليونانية(طوبيقا) ولا يخلو هذا الكلام من تكلف، فالجدل معروف عند العرب، وعند أهل الأرض جميعاً بدليل قوله تعالى[وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً]( )، وورد في الآية أعلاه سبب خاص للنزول على وجهين:
الأول: يريد الإنسان النضر بن الحارث عن ابن عباس.
الثاني: المراد أبي بن خلف، عن الكلبي( ).
إلا أن الآية أعم في دلالاتها لأن المدار على عموم اللفظ، وليس سبب النزول.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإمتحان، لا يترك فيها المؤمنون وشأنهم بل يأتيهم من يبدي أسباب الشك والريب، ويكون له أعوان من جهات:
الأول: الظهير.
الثاني: العضد.
الثالث: التابع.
وفيه زيادة في الإبتلاء وأسباب الأذى، قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( )، وفيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين، والتمسك بأحكام الإسلام، فلا يضرهم الجدال، بل يتخذون هذه الصناعة لتثبيت معالم الإيمان، وقهر الباطل، وفضح مفاهيمه ولزوم نبذ الجدال بين المسلمين لأنه من أسباب صيرورة المسلمين مذاهب وطوائف، وهذه المذاهب عرضة للإنقسام مع تقادم الأيام وكثرة أفرادها بتشعب الجدل في الجزئيات والفروع , مع أن هذه المذاهب وتعددها أمر طارئ على الإسلام وهذا الأمر إلى زوال لأن الله عز وجل جعل المسلمين(خير أمة),
ويتقوم الجدل بطرفين كل واحد منهما خصم للآخر، وكل فريق يأتي بإستدلاله سواء كان صحيحاً وحقاً أو لا.
لأن المطلوب إفحام الخصم ويقابله البرهان الذي هوحق في مقدماته وما ينتج عنها فقد يستعمل الخصمان الجدل، وقد يقيم أحدهما البرهان ويلجأ الآخر للجدل،
ولا يمكن أن يأتي الخصمان معاً بالبرهان، فالبرهان في المسألة الواحدة واحد سواء كان بسيطاً أو مركباً، قال تعالى[قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، بلحاظ أن البرهان حجة وقاطع للجدل.
وقد جاءت الآية السابقة بإبطال جدال أهل الكتاب بقوله تعالى[فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ]( ).
وجاءت هذه الآية بالبرهان القاطع بنفي كون نبي الله إبراهيم عليه السلام يهودياً أو نصرانياً، ومن منافعه وجوه:
الأول: بيان حقيقة كلامية، وإظهار سر من أسرار النبوة.
الثاني: تعليم أهل الكتاب، وكشف الحقائق.
الثالث: البيان للناس جميعاً، وإرشادهم إلى علوم النبوة، وبعث الشعر في النفوس لمعرفة تأريخ الأنبياء.
الرابع: دعوة المسلمين والناس جميعاً للصدور عن القرآن في معرفة أخبار الأنبياء والأمم السالفة، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
الخامس: تأكيد حقيقة في الخلق والتكوين، وهي أن الله عز وجل يتعاهد الإنسان بالرزق وأسباب الهداية.
وكان فلاسفة يونان يقولون إن الله عز وجل يدير ظهره للكون، وأنه سبحانه لا يعلم الجزئيات، فجاءت الآية بالبيان والكشف في تأريخ النبوة، لهداية الناس للإسلام، ومنعهم من الضلالة والصدود عن سبيل الله بلحاظ أن القول بيهودية أو نصرانية إبراهيم لم يقصد بذاته، بل هو مقدمة لصد الناس عن الإسلام ومحاولة لإرتداد فريق من المسلمين، وفي التنزيل[وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا]( ).
وتؤسس آية السياق لمدرسة في الجدال الإيماني الذي يتقوم بالصدور عن القرآن، الذي يكون بالفطرة والجري والإنطباق،
لتكون من أسباب فوز المسلمين بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالبرهان وفضح الجدال، وإزاحة الباطل عن أوهام الناس، ومنع الضلالة في الأرض، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ولن ينتشر بالسيف بل إنتشر بلغة البرهان، وصناعة الجدل الإيماني، وجعل المقدمات البرهانية من المشهورات بين المسلمين، والمعروفة عند الناس في الجملة بتلاوة كل آيات القرآن، وهو من فلسفة وجوب القراءة في الصلاة اليومية، ولزوم الجهر في شطر منها ليكون هذا الجهر برهاناً يملأ أسماع الناس عرضاً وقهراً، وإزاحة لما موجود في الأذهان من المقدمات الجدلية المشهورة التي تتعارض مع البرهان، وفي التنزيل[قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
صلة[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من خروج المسلمين للناس الإخبار بأن إبراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً، وهو من علوم الغيب التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين، فإن قلت إنه إخبار تأريخي يتقوم بتقدم زمان إبراهيم على زمان موسى وعيسى إذ ولدت اليهودية والنصرانية بعد بعثتيهما.
والجواب هذا صحيح، ولكن هذا البيان لم يثبت في الأرض إلا بنزول القرآن لطرو التحريف على الكتب السابقة، قال تعالى [مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]( ).
وهل إدعاء نسبة إبراهيم لليهودية أو النصرانية من التحريف، الجواب نعم، ليكون من خصائص(خير أمة) منع التحريف في تأريخ النبوة وما يترتب عليه من الضرر على المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً.
لقد تولى المسلمون مسؤولية بيان أمور متلازمة لماهية واحدة وهي:
الأول: إن إبراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً.
الثاني: سبق زمان إبراهيم على أيام موسى وعيسى عليهما السلام.
الثالث: ملة إبراهيم هي الإسلام ودين الحنيفية.
الرابع: تنزيه إبراهيم عليه السلام من الشرك والضلالة، قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]( )،
ويحمل المسلمون لواء التوحيد، ويحاربون الشرك في الأرض بتأكيد كلمو التوحيد وملة الحنيفية التي كان عليها إبراهيم عليه السلام والأنبياء السابقون.
الثانية: بيان التباين بين المسلمين وأهل الكتاب فجاء اسم التفضيل(خير) خاصاً بالمسلمين وإن قيل كيف صار المسلمون(خير أمة) الجواب من وجوه:
الأول: يؤمن المسلمون بقوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا].
الثاني: المسلمون على ملة إبراهيم الحنيفية.
الثالث: وراثة المسلمين لإنقياد إبراهيم لله عز وجل.
الرابع: تصديق المسلمين بخاتم النبيين الذي دعا له إبراهيم عليه السلام، قال تعالى[وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]( ).
الثالثة: من مصاديق خروج المسلمين للناس إعلان عدم إنتساب إبراهيم لليهود أو النصارى، ليشمل هذا الخروج كلاً من:
الأول: اليهود.
الثاني: النصارى.
الثالث: عموم الناس ويكون خروج المسلمين بخصوص آية السياق على وجوه:
الأول: كيفية واحدة لأهل الكتاب وغيرهم.
الثاني: التعدد في صيغة وكيفية الخروج، فالخروج لليهود غير كيفية الخروج للنصارى، وكذا الناس جميعاً.
الثالث: يكون الخروج في كيفيته على شعبتين:
الأولى: ما هو خاص بأهل الكتاب.
الثانية: خروج خاص بالناس من غير المليين.
الرابع: التفصيل في الخروج فمرة يكون الناس جميعاً بعرض واحد، وأخرى يستلزم الأمر حجة ودليلاً لكل فريق، ومن الآيات أن ورود آية السياق جاءت ضمن إحتجاج وجدال مع أهل الكتاب، ويكون باقي الناس فيه عرضة للإفتتان، بمقدمات الجدال المشهورة حقاً كانت أو متخلفة عن الحق والصدق.
الرابع: صحيح أن قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، خطاب موجه للمسلمين والمسلمات إلا أنه في مفهومه دعوة للناس لمعرفة ما يأتي به المسلمون، لأن لفظ(أخرجت) بقيد مجيء المسلمين بأمور لم تكن عند الناس، أو أنها عندهم ولم يعملوا بها أو معها بوظيفتهم قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وتقدير الآية بهذا اللحاظ على وجهين:
الأول: يا أيها الذين آمنوا ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً.
الثاني: يا أهل الكتاب ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً.
الثالث: يا أيها الناس ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً)
إذ تخبر الآية عن حقيقة عقائدية ثابتة، وفيه حث للناس جميعاً على عدم الإفتتان بما يقوله أهل الكتاب بخصوص إنتساب إبراهيم لهم.
وهل في الآية تحذير للناس من تحريف أهل الكتاب للبشارات الواردة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل، الجواب نعم وتلك آية في فلسفة الجدال القرآني.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، بلحاظ إتصاف جدال المسلمين المترشح عن آيات القرآن بتعدد الغايات الحميدة وإن جاء في موضوع متحد، لتتغشى دلالاته مواضيع كثيرة، وتكون نافعه أكثر من أن تحصى.
الخامسة: ليس من حصر لمواضيع وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهات التي يتوجه لها المسلمون للإصلاح وتهذيب النفوس، وإزاحة الضلالة عن الأذهان، والباطل عن الواقع.
ومنها خروج المسلمين لبيان حقائق التنزيل، وفضح ما ليس بحق بخصوص إنتساب إبراهيم عليه السلام.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس فجعل النبوة ملازمة للإنسان منذ هبوطه إلى الأرض، إذ كان آدم نبياً، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال: نعم، كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً) ( ).
وتــوارث الأنبياء الوحــي والتنــزيل نبياً بعد نبي , وتلك آية من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً، وأسباب الهداية والرشاد، وكان في الأنبياء من أولي العزم مثل إبراهيم عليه السلام.
فجاءت الآية لتأكيد أنه على الحنيفية ودين التوحيد والإنقياد لله عز وجل، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً للنبيين , وإماماً للمتقين.
السادسة: يحتمل إدّعاء نسبة إبراهيم عليه السلام إلى اليهودية والنصرانية وجوهاً:
الأول: إنه من المنكر الذي توجه للمسلمين خطاب النهي عنه على نحو الوجوب الكفائي.
الثاني: إنه مقدمة للمنكر وفعل القبيح.
الثالث: ليس فيه ما يدل على أنه من المنكر، إذ أن القدر المتيقن من المنكر هو الفعل الخارجي المذموم الذي تنفر منه النفوس.
والصحيح هو الأول والثاني لما فيه من أسباب الضلالة والوهم وحجب الحقائق عن الناس، لذا جاءت الآية القرآنية بالتصدي والذم لهذا الإدعاء، والدعوة لمنعه وإجتنابه.
ومن إعجاز القرآن التخفيف عن المسلمين في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع أن كلاً منهما واجب فإن تلاوة الآية القرآنية تكون من هذا الأمر والنهي، لما فيها من بيان للحقيقة، وكشف لعلوم الغيب، وإزاحة للأوهام عن الأذهان.
ومن الدلائل على كون المسلمين(خير أمة) شمول معاني نهيهم عن المنكر أمور التأريخ والعقائد بما ينفع الناس في هدايتهم إلى الإسلام، وإزالة الغشاوة التي تمنع من التدبر في آيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيء هذا النهي بنص سماوي لا يقبل التبديل والتحريف، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
فليس على المسلمين إلا تلاوة آية السياق ليبلغوا مرتبة النهي عن المنكر في هذا الباب، ويساعدوا الناس على كشف الباطل والإشتباه في تأريخ النبوة.
وفي تلاوة آية السياق منع للناس من التصديق بخلاف الحق، فمن الحق والصدق تقدم زمان إبراهيم عليه السلام على اليهودية والنصرانية، وأنه لم يدع لإحداهما بل كان مسلماً حنيفاً يدعو إلى الإسلام ويبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وجاءت هذه البشارة بصيغة الدعاء.
فجاءت آية السياق ليتلوها المسلمون ويؤمنون بمضامينها، وتنتهي مرحلة رجوع الكفار لأهل الكتاب في أخبار النبوة السابقة كنبوة إبراهيم عليه السلام، واللاحقة كالبشارات بنبي آخر الزمان.
السابعة: من خصائص آية السياق مجيء الفعل الماضي الناقص فيها(كان) ثلاث مرات، وتتعلق كلها بإبراهيم عليه السلام، ورد إسمه إسماً ل (كان) في المرة الأولى(ما كان إبراهيم) ثم جاء مرتين على نحو الضمير المستتر.
وجاءت مرتان منها بلفظ(ما كان) لتأكيد إسلامه، وأنه على دين التوحيد، وفيه دعوة من(خير أمة) لليهود والنصارى للرجوع إلى دين التوحيد والحنيفية التي كان عليها إبراهيم عليه السلام، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا]( )، وورد لفظ(كان) في آية البحث مرتين، إحداهما في خطاب للمسلمين(كنتم خير أمة) والأخرى في بيان لحال أهل الكتاب، وأن الإيمان أفضل وأحسن لهم[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
الثامنة: قدمت آية السياق اليهودية على النصرانية، وفيه وجوه:
الأول: تأكيد السبق الزماني لليهودية، لأن اليهود أتباع موسى عليه السلام، وهو متقدم في زمانه على عيسى عليه السلام وبعثته.
الثاني: قرب اليهود مكانياً من المسلمين، لأنهم كانوا معهم في المدينة المنورة، ويختلطون بالمسلمين.
الثالث: يتصف اليهود بأنهم أكثر جدلاً وإدعاء بنسبة إبراهيم عليه السلام لهم.
الرابع: تحذير المسلمين من دعوى اليهود بنسبة إبراهيم لهم.
الخامس: إقرار النصارى بتقديم اليهودية عليهم زماناً، فإذا تم نفي نسبة إبراهيم لليهودية فمن باب الأولوية نفي نسبته للنصرانية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق وإعجاز الآية، وأسرار تقدم اللفظ القرآني، وما فيه من الدلالات وصيرورة تقدم أو تأخر اللفظ القرآني مدرسة للمسلمين والمسلمات ينهلون منه العلوم.
وفي تقديم اليهود على النصارى في آية السياق مناسبة لأمور:
الأول: تفقه المسلمين في الدين.
الثاني: جعل حنيفية إبراهيم موضوعاً للجدال مع يهود المدينة.
الثالث: الدعوة للإسلام.
الرابع: تأكيد إعجاز القرآن وأنه نازل من عند الله عز وجل.
التاسعة: تضمنت آية البحث الشهادة للمسلمين بالإيمان بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) وفيه بلحاظ آية السياق تذكير لأهل الكتاب بالجامع المشترك بينهم وبين المسلمين، قال تعالى[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن تذكرة وموعظة، ودعا الناس إلى التدبر في آياته، والإنتفاع الأمثل مما فيه من الحكمة والمعارف الإلهية التي تفضل بها على الناس، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )،
ليكون بيان حقيقة عدم إنتساب إبراهيم عليه السلام لليهودية والنصرانية من الحكمة، ومجيء هذا البيان بآية قرآنية من الحكمة بالذات والعرض.
فمن خصائص(خير أمة) الإيمان بالله، وتلاوة آيات التنزيل التي تثبت الإيمان في قلوبهم، وتجعلهم في حرز من الإدعاء غير الصحيح بالنسبة للأنبياء.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التفقه والإرتقاء في سبل معرفة علوم التأريخ، وبيان حقيقة وهي تقوم التأريخ بالنبوة، نعم جاء ذكر بعض الطواغيت وأرباب الكفر كفرعون في القرآن للعبرة والموعظة وبيان سوء عاقبة الظالمين، قال تعالى[فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ) , ومعرفة جهاد الأنبياء , وبعثهم لفضح ومواجهة الطواغيت , فعدم إتباع الناس للظالم يمنع من صيرورته طاغوتاً.
مما يدل على حاجة المسلمين والناس جميعاً لمعرفة تأريخ قصص الأنبياء، وجهادهم في سبيل الله، ولزوم الإقتداء بهم ، وإقتباس دروس الصبر والتقوى من سننهم، فإبراهيم عليه السلام واجه نمرود وقومه الكفار المشركين، قال تعالى[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ]( ).
العاشرة: جاء القرآن بولاية المسلمين لإبراهيم عليه السلام وحفظ ميراث نبوته، والمنع من نسبته إلى ملل متأخرة عن زمانه ولم يدع لها، فقال تعالى[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا]( ).
وليس من حصر لمصاديق ولاية المسلمين لإبراهيم , ومنها تلاوتهم لقوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا] ومن الآيات أن الذين إتبعوا إبراهيم عليه السلام من الأمم السابقة لم ينفوا عن إبراهيم دعوى إنتسابه لليهودية والنصرانية، لأن هذه الدعوى متأخرة عن زمانهم , فتولى محاربتها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وإنفرد المسلمون بنفيها , وهذا الإنفراد وتلقي الأذى من هذه الدعوى من الشواهد على كونهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحادية عشرة: من مصاديق قوله تعالى(وتؤمنون بالله) أمور:
الأول: رفع المسلمين لواء التوحيد في الأرض.
الثاني: دعوة المسلمين الناس للإسلام.
الثالث: تنزيه تأريخ النبوة عما لا صلة له بالأنبياء.
لقد جاء دعاء إبراهيم عليه السلام للمسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدايتهم إلى مرتبة(وتؤمنون بالله)، فقد ورد في التنزيل على لسان إبراهيم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
ولم يعلم أحد أن دعاء إبراهيم يتضمن مصداقه العملي الدفاع عن إبراهيم نفسه ودفع ما ينسب إليه من ملل مـتأخرة عن زمانه،( عن أبي أمامة قال : قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام)( ).
لقد تبوأ المسلمون منزلة لم ترق إليها أمة من الأمم يدل عليها الجمع بين آيتي البحث والسياق من وجوه:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: التصديق بالتنزيل.
الثالث: الدفاع عن الأنبياء قربة إلى الله , وورد في التنزيل في إتباع المرسلين[اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( )، وجاءت آية السياق بنفي إنتساب إبراهيم لليهودية أو النصرانية من باب المثال الأمثل، والمصداق على جهاد المسلمين في تعاهد مقامات الأنبياء.
الرابع: جدال المسلمين لأهل الكتاب بحقائق النبوة، ومنازل الأنبياء، ودفع الوهم في هذا الباب.
الخامس: التحدي بأن المسلمين على ملة إبراهيم، وعجز الآخرين عن نفي هذه الحقيقة، إذ أن قوله تعالى[مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا] مناسبة لدفاع المسلمين عن أنفسهم، وإحترازهم من جدال أهل الكتاب الذي يراد منه التشكيك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة المسلمين إلى اليهودية والنصرانية كما ورد في التنزيل[وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا]( )، ليكون إدعاؤهم نسبة إبراهيم لليهودية والنصرانية تعضيداً منهم للدعوة أعلاه، ومحاولة لمنع الحرج فيه، وتحريف حقائق وتأريخ الأنبياء .
ولّما جاءت آيات القرآن بلزوم إتباع المؤمنين لإبراهيم عليه السلام وأن هذا الإتباع من خصائص(خير أمة) جاءت آية البحث بخروج المسلمين لأهل الكتاب والناس جميعاً بنفي كون إبراهيم على دين اليهودية أو النصرانية، ولا نقول أنه بريء منهما، نعم هو بريء من الشرك والضلالة، ولكن ملة اليهودية والنصرانية إتّباع لأنبياء من أبناء إبراهيم عليه السلام، فلم يأت الأنبياء من بني إسرائيل إلا بعد إنتقال إبراهيم إلى الرفيق الأعلى، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
الثانية عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين: ولو آمن أهل الكتاب ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً لكان خيراً لهم.
لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وأحاطت كلماته المحدودة باللا محدود من الوقائع والأحداث، ومنه الرجوع إلى أيام الأنبياء، وكشف علوم الغيب التي تتعلق بجهادهم، ولم يكن توثيق في زمانهم، فجاء القرآن أسمى وأبهى توثيق رآه ويراه أهل الأرض من وجوه:
الأول: سلامة توثيق القرآن من التحريف، وعدم حصول التباين في تأويله.
الثاني:تضمن قصص القرآن لجهاد الأنبياء.
الثالث: حفظ القرآن للترتيب الطولي لأفراد الزمان، نعم قد يبعث الله نبيين أو أكثر في زمان واحد، ولكنه لايكون برزخاً دون معرفة المسلمين بتقدم زمان بعض الأنبياء وتأخر بعضهم، وأوان نشوء الملل والنحل.
الرابع: من خصائص توثيق القرآن تعاهد المسلمين لمواثيق الأنبياء، ووراثتهم لهذه المواثيق، والتي تتقوم بكلمة التوحيد والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به وإتباعه ونصرته، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الخامس: إعانة أهل الكتاب لإختيار طريق التوحيد، وإكرام الأنبياء والإيمان بهم على نحو العموم المجموعي، وتدل آية السياق على لزوم إيمانهم بالأنبياء السابقين على اليهودية والنصرانية كإبراهيم، وخاتم النبيين الذي بعثه الله عز وجل بعد موسى وعيسى عليهما السلام، وجعل شريعته ناسخة للشرائع السابقة.
الثالثة عشرة: إن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للسلامة من الجدل والإحتجاج بغير حق، وفيها تسليم بأن إبراهيم ليس يهودياً أو نصرانياً، ومنع من إنشغال المسلمين بالجدال وأسباب الخصومة.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ).
وتضمنت آية البحث البشارة والدعوة إلى الإسلام، وتضمنت آية السياق الزجر عن إدعاء ما ليس بحق، إذ أن كشف الآية لعدم إنتساب إبراهيم لليهودية أو النصرانية دعوة لأهل الكتاب لإجتناب إخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ]( ).
الرابعة عشرة: جاءت خاتمة آية البحث بالتفصيل في أهل الكتاب, فمنهم المؤمنون بالله الذين يقرون بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم الذين يخالفون أمر الله عز وجل.
وجاءت آية البحث خطاباً عاماُ لأهل الكتاب جميعاً، ومنعاً من الخلط بين الإيمان والضلالة.
إن ذكر القرآن لمسألة كلامية وتكذيب إنتساب إبراهيم لليهودية أو النصرانية شاهد على موضوعيتها، ولزوم تقيد أهل الكتاب بمضامينها، وهجران إدعاء كونه يهودياً أو نصرانياً، ليكون هذا الهجران مقدمة للتدبر في أسرار النبوة، ووراثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإبراهيم عليه السلام وأن الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام هي ذاتها التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليها المسلمون جميعاً مع إتصاف شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكمال والتمام في باب العبادات والمعاملات، وهو الذي تدل عليه آية البحث قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
صلة[وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا] بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: من إعجاز آية السياق أنها لم تكتف بنفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم عليه السلام بل ذكرت أنه على ملة التوحيد، والإستقامة التي إتصف بها كل الأنبياء ليكون من بركات إبراهيم البرزخية بين الأنبياء السابقين ودعوة الإنتساب لليهودية والنصرانية، فلا أحد يجرأ بعد نزول هذه الآية ويدّعي نسبة الأنبياء الذين سبقوا إبراهيم لليهودية أو النصرانية، وكذا فان الآية واقية من شمول تلك الدعوة للأنبياء من أبناء إبراهيم قبل موسى وعيسى عليهما السلام.
وجاء القرآن ببيان وصية يعقوب وهو إسرائيل لأبنائه عند حضور الموت[إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ]( ).
والآية أعلاه من مصاديق الحنيفية التي تركها إبراهيم إرثاً عقائدياً عند ذريته وأبنائه، ترى هل في إنتماء أتباع موسى عليه السلام لليهودية، وأتباع عيسى عليه السلام للنصرانية خروج عن الحنيفية،
الجواب لا، إنما الخلاف فيما طرأ على التوراة والإنجيل من التحريف، قال تعالى[يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ] ( )، ولموضوعية النسخ في الشرائع، وتأكيد الكمال والإستقامة في الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاءت آية البحث للإخبار بأن المسلمين على الصراط المستقيم وأنهم منزهون عن التحريف.
وجاءت آية السياق لتأكيد سلامة نهج إبراهيم عن التحريف في الملة والدين، ليكون فيه مصداق لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قاتل الكفار بقلة من المؤمنين، فكانت الغلبة له ولأصحابه , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وجاهد أهل الكتاب بالبيان والحكمة , والجدال بالبينة والبرهان.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين تأديب المسلمين، وإرشادهم إلى سبل الحنيفية والإستقامة، والإرتقاء إلى مراتب الصلاح التي كان عليها إبراهيم عليه السلام.
فلقد جعل الله عز وجل(خير أمة) على نهج إبراهيم , وهو المستقرأ من صيغة التفضيل في (خير أمة) قال تعالى في الثناء على المسلمين[حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ]( ).
ويتجلى الإعجاز في الجمع بين الآية أعلاه وقوله تعالى في آية السياق في مدح إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وفيه تأكيد لسلامة نهج المسلمين وعمارتهم المسجد الحرام إقتفاء لأثر إبراهيم ورفعه وإسماعيل قواعد البيت ودعوته الناس للحج، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثالثة:تقدير الجمع بين الآيتين:كنتم خير أمة حنفاء مسلمين وما كنتم من المشركين، وفيه دلالة على تولي المسلمين مسؤولية عبادة الله في الأرض، ومحاربة الشرك، وقهر أسباب الضلالة، قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
وفي نفي إنتساب إبراهيم لليهودية والنصرانية أمور:
الأول: تثبيت الإيمان في صدور المسلمين.
الثاني: إخبار المسلمين أنهم على نهج إبراهيم عليه السلام.
الثالث: غلق باب الجدال الذي يراد منه إيذاء المسلمين.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين لأن نهج الحنيفية شاهد على إتحادهم في مرضاة الله، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الحنيفية في الأرض ببركات نبوته.
الثالث:تعاهد المسلمين للحنيفية.
وجاءت آية السياق لبيان وتأكيد أول آية البحث، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى:خير أمة على حنيفية إبراهيم.
الصغرى:المسلمون على حنيفية إبراهيم.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
ويدل إدعاء نسبة إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية إبتعاد المليين عن منهاج الحنيفية والإسلام، فلو كان بينهما تساو لما جاءت هذه النسبة مما يعني حاجة أهل الأرض لإحياء الحنيفية لأنها مصداق السلامة من التحريف التي أراد الله عز وجل لها أن تسود الأرض، وتكون مقدمة ومادة ونتيجة لطاعة وعبادة الله وهو من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ] ( ).
فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعيد دورة العبادة إلى أصولها، وأراد الله عز وجل لها الثبات والدوام من غير نسخ في ذات الشريعة الخاتمة.
ومن الإعجاز أن المسلمين لم يكتفوا بالقول أن إبراهيم كان مسلماً وان كان هذا القول تاماً وصحيحاً , لما فيه من الدلالة على الإنقياد والتسليم بالربوبية لله عز وجل، ولكن جاءت آية البحث ببيان أن إبراهيم[كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا] , بالإضافة إلى ورود الآيات بالإخبار عن إتباع المسلمين لنهج وسنة إبراهيم ، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ] ( ).
وفي الآية أعلاه تحذير من الصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه جاء بالحنيفية المستقيمة، وفي أسباب نزول الآية أعلاه انه(روي ان عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجرا إلى الإسلام فقال لقد علمنا أن صفة محمد في التوراة فأسلم سلمة و أبي مهاجر أن يسلم فأنزل الله هذه الآية) ( ).
الخامسة:لقد جاء لفظ(الناس) في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، عاماً شاملاً لجميع الملل والأديان، ليس فيه إستثناء، نعم قد يرد الإستثناء والتخصيص للعام في آيات قرآنية أخرى،
فمن المعروف أن في القرآن مطلقاً ومقيداً , ولكن لم يرد في المقام إستثناء، فيبقى عموم لفظ(الناس) على حكمه وإطلاقه، وفيه إبطال لقاعدة (ما من عام إلا وقد خص) فيدل القرآن على حقيقة وهي أنه ليس من قاعدة سليمة إلا القاعدة القرآنية، فينكشف للناس قصور القواعد التي يأتي بها الحكماء والعلماء وان كانت ذات أصول عقلانية، ولها شواهد ومصاديق كثيرة في الواقع الخارجي، ولكنها تنخرم في حالات مخصوصة ليكون قصورها دعوة للناس جميعاً للصدور عن القرآن، وإستنباط القواعد والقوانين منه، ومنها عدم إستثناء فريق وطائفة من الناس من خروج(خير أمة) لهم.
لذا جاءت آيات القرآن بدعوة وخطاب الناس على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم، من وجوه:
الأول:دعوة الناس جميعاً للإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] ( ).
الثاني:خطابات القرآن لبني إسرائيل دعوة إلى الإسلام.
الثالث:دعوة أهل الكتاب للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ] ( ).
ومن الإعجاز في خطابات القرآن أن الخطاب العام يتوجه إلى الخاص أيضاً، وكذا العكس فان الخطاب الخاص يتوجه إلى العام في مفهومه ودلالته وهو من إسرار بقاء الخطاب القرآني غضاً طرياً، ومنه آية السياق فانه نفي إنتساب إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية يتوجه إلى الناس جميعاً بلزوم عدم التصديق بهذه الدعوى.
ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، منع الناس من التصديق بالدعاوى الباطلة التي تخالف نص القرآن، وإعراض الناس عن أصحاب تلك الدعاوى، لذا ترى إنعدام إنتماء الناس إلى الديانات الأخرى غير الإسلام في المجتمعات التي يكثر فيها المسلمون وتشيع فيها الثقافة الإسلامية ومعاني آيات القرآن، لأن القرآن يفضح الباطل، ولأن(خير أمة) تقوم بتبليغ أحكام القرآن وتتلو آياته وما فيها من كشف الحقائق , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ).
وفيه بشارة سيادة مفاهيم التوحيد ومبادئ الإسلام في زمان العولمة وتداخل البلدان، وتقارب الحضارات.
وهل يحتمل رد فعل معاكس للإجهاز على الإسلام ومبادئه ومنع تأثيره على الشعوب ببيانه للحق وسبل الهدى.
الجواب نعم، مما يستلزم الصبر والتقوى وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بعبادة الله وفق ما أنزل من الأحكام والسنن، والدعوة إلى الحنيفية، وعدم مغادرة منازل الإيمان عند تلقي الأذى.
وجاءت آيات القرآن بالثناء على المسلمين , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
ويمكن تقدير وتفسير الآية (كنتم خير أمة أخرجت للناس زمن العولمة) لبيان الوظائف العقائدية للمسلمين، وتأكيد وجوه الإبتلاء المستحدث في هذا الزمان وكل زمان.
ومن خصائص المسلمين أهليتهم لتولي مسؤوليات الإمامة في ميادين التوحيد في كل زمان، وجهادهم في سبيل الله من غير كلل أو ملل، وقد يقال ليس من حاجة في زمن العولمة لبيان نفي إنتماء إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية بل الأهم هو الواقع الحال والمستقبل، وخطابات التوحيد والنبوة والصلاح والإصلاح،
والجواب من وجوه:
الأول:هذا النفي من مسائل النبوة.
الثاني: فيه إزاحة لمانع من دخول الإسلام، قال تعالى[وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى]( ).
الثالث: إنه مقدمة لهداية الناس إلى الحق والرشاد.
الرابع:لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل.
السادسة:أخبرت آية البحث عن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبصيغة المضارع التي تدل على التجدد والإستمرار.
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تذكر موارد ومواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل جاءت مطلقة لتبعث المسلمين على التفقه في الدين، ومعرفة تلك المواضيع وكيفية ومراتب كل من الأمر والنهي.
وجاءت آية السياق لبيان وجهين:
الأول:النهي عن القول بيهودية أو نصرانية إبراهيم.
الثاني:الأمر باعلان حقيقة وهي أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً.
وهل من تناقض بين الأمرين، كما في المبحث الأصولي أن الأمر بالشئ نهي عن ضده بمعنى أن نفي إنتساب إبراهيم لليهودية والنصرانية والإستدراك بـ(لكن) للإخبار بأنه كان[حَنِيفًا مُسْلِمًا] يدل على التباين والتضاد بين اليهودية والنصرانية من جهة وبين الحنيفة التي كان عليها إبراهيم.
الجواب إن الأمر لا يصل إلى مرتبة التضاد والتناقض في الإصطلاح الفلسفي، ولكنه جاء لأمور:
الأول: منع اللبس في المفاهيم، وهو من النهي عن المنكر الذي ذكرته آية البحث.
الثاني: إنه من الدفاع عن الأنبياء في الدنيا، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الثالث:كشف حقائق النبوة من الأمر بالمعروف.
الرابع:الترغيب بالإسلام.
الخامس: تأكيد موضوعية الإستقامة والحنيفية في الأرض، ليحمل لواءها المسلمون، وهذا الحمد من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
السابعة:تتقوم الحنيفية بالإيمان بالله عز وجل والجهاد في سبيله، وكان إبراهيم عليه السلام الإمام في الجهاد لمواجهته الطاغوت وأمة كافرة، ليس فيها مؤمن غيره، فاحتج على نمرود وتعرض للحرق والقتل وهو صابر ومتوكل على الله .
وعن عبدالله بن عمر :كانت كلمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، فقال:”حسبنا الله ونعم الوكيل( ).
قال ابن جريج : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة، قال الكلبي : بنواْ له أتوناً ألقوه فيه ، وأوقدوا عليه النار سبعة أيام ، ثم أطبقوه عليه وفتحوه من الغد ، فإذا هو عرق أبيض لم يحترق ، وبردت نار الأرض فما أنضجت يومئذ كراعاً( ).
إلى جانب ما امتحنه الله به من سنن الإسلام وتعاهدها، وعن ابن عباس: أنه ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام لم يبتل أحدا بها فأقامها كلها إبراهيم فأتمهن فكتب له البراءة فقال (و إبراهيم الذي وفى ) و هي عشر في سورة براءة التائبون العابدون إلى آخرها و عشر في الأحزاب إن المسلمين و المسلمات إلى آخرها و عشر في سورة المؤمنين قد أفلح المؤمنون إلى قوله أولئك هم الوارثون( ).
وكان سعيد بن المسيب يقول: أول الناس أضاف الضيف و أول الناس اختتن و أول الناس قص شاربه و استحد و أول الناس رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال هذا الوقار قال يا رب فزدني وقارا و هذا أيضا رواه السكوني عن أبي عبد الله و لم يذكر أول من قص شاربه و استحد و زاد فيه و أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم و أول من أخرج الخمس إبراهيم و أول من اتخذ النعلين إبراهيم و أول من اتخذ الرايات إبراهيم( ).
ليأتي زمان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقتبس المسلمون دروس الحنيفية من إبراهيم، ولا يميلون عن الإسلام إلى المذاهب والملل الأخرى التي تعرضت للتحريف، وعلى فرض أنها لم تتعرض للتحريف فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بذات الحنيفية التي عليها إبراهيم ليتبين للناس أن المسلمين يتبعون إبراهيم في سنته وصلاحه وسمته، وهم على إستعداد للذب عن الإسلام، والقيام بجهاد الكفار الظالمين،
فاذا كان إبراهيم منفرداً في دعوته إلى الله[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( )، فان المسلمين أمة عظيمة تواجه الطاغوت وهو الذي يصير منفرداً وليس المسلمين، وفيه آية في بعثة وبركات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فلا يستطيع الطاغوت حشد الناس وجعلهم أتباعاً لهم في الباطل بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يقدرون على إسكات قول الحق لأن المسلمين على الحنيفية , وما فيها من معاني الإستقامة والثبات على كلمة التوحيد.
السابعة:من خصائص(خير أمة) الإيمان بالله عز وجل، وهم يخرجون بالإيمان للناس جميعاً، ليكونوا أسوة حسنة للناس في سبل الهداية والرشاد، ومنها نفي إنتماء إبراهيم لليهودية والنصرانية.
وأخبرت آية السياق بأنه كان(حنيفاً مسلماً) ومن الحنيفية إتيان الصلاة والزكاة والصيام، وأداء مناسك الحج، وعمارة البيت الحرام، وإستقباله في الصلاة، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، وما فرض على الناس جميعاً يؤديه النبي من باب الأولوية القطعية، ولا يقوم اليهود والنصارى بالحج إلى بيت الله الحرام، فحينما يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أنا على ملة أبي إبراهيم).
يحصل بالجمع مع القول بانتماء إبراهيم لليهودية أو النصرانية نوع تعارض بين فعل إبراهيم من جهة وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة أخرى , فيشكك الآخرون بالعبادات التي يأتي بها المسلمون
فجاءت آية السياق لأمور:
الأول:ثبات المسلمين في منازل الإيمان، قال تعالى[كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] ( ).
الثاني: تفقه المسلمين في أحكام الإسلام.
الثالث:بيان قانون في المعرفة الإلهية، وهو أن النبي محمداً لم يأت بأمر خارج عن الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام.
الرابع: تأديب أهل الكتاب، وجعلهم يتركون إدعاء إنتساب إبراهيم لملتهم وهذا الترك رحمة بهم، ومناسبة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدل الوقوف عند مسألة ودعوى لا أصل لها قال تعالى في خطاب لأهل الكتاب[وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ]( ).
وأخرج ابن جرير عن سالم بن عبد الله قال: لا أراه إلا يحدثه عن أبيه: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه ، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينه وقال : إني لعلّي أن أدين دينكم فأخبرني عن دينكم؟ فقال له اليهودي : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله قال زيد : ما أفر إلا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال : ما أعلمه الا أن تكون حنيفاً . قال : وما الحنيف؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلا الله .
فخرج من عنده فلقي عالماً من النصارى فسأله عن دينه؟ فقال : إنّي لعلّي أن أدين دينكم فأخبرني عن دينكم؟ قال : إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله قال : لا أحتمل من لعنة الله شيئاً ، ولا من غضب الله شيئاً أبداً فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحو ما قاله اليهودي : لا أعلمه إلا أن تكون حنيفاً .
فخرج من عندهم وقد رضي بالذي أخبراه ، والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم . فلم يزل رافعاً يديه إلى الله وقال : اللهم إني أشهدك اني على دين إبراهيم( ).
والحديث ضعيف سنداً بالإضافة إلى ضعفه موضوعاً، فكيف يعترف أهل الكتاب بضلالتهم وخطئهم في أيام لم يكن من دين سماوي إلا ديانتهم، إلا أن يقال أن الذي تم سؤالهم من علماء اليهود والنصارى وأنهم كانوا يعلمون بأمرين:
الأول: البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه وإتباعه.
الثاني: التحريف الذي طرأ على التوراة والإنجيل.
الثامنة: لقد خرج المسلمون للناس بدين الإسلام وبيان حقيقة وهي أن الأنبياء السابقين كانوا مسلمين، وفيه آية في إكرام المسلمين وبيان عظيم منزلة المسلم عند الله عز وجل .
فتكون بين النبي والمسلم عموم وخصوص مطلق فكل نبي هو مسلم وليس العكس مع الفارق في رفعة مقام النبي وان الأنبياء سادة البشر، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )، إذ يلتقي المسلمون مع الأنبياء بأمرين مباركين:
الأول: الحنيفية.
الثاني: الإسلام.
أما النبوة والرسالة فهي مرتبة خصّ الله عز وجل بها أشرف خلقه، ورزقهم الوحي والتنزيل ونالوا منزلة الواسطة بينه وبين عباده، وإختص المسلمون من بين الناس بأمور:
الأول: تلقي أخبار الوحي بالتصديق بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني:إكرام الأنبياء.
الثالث: الذب والدفاع عن الأنبياء.
وهل في الدفاع عن الأنبياء نفع أم ضرر على المسلمين، الجواب هو الأول، ومن دون الدفاع عنهم يأتي الضرر للمسلمين لأن التحريف الذي يطال التنزيل والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يضر المسلمين والناس جميعاً، لما فيه من الصد عن سبيل الله والتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمنع من محاكاة الناس لإبراهيم في حنيفيته، وتنحصر هذه المحاكاة بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه.
فجاءت آية السياق رحمة بالمسلمين والناس جميعاً وهي من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، إذ يجتهد المسلمون بتكذيب وإبطال دعوى نسبة إبراهيم إلى اليهودية أو النصرانية فيحترز الناس منها.
ومن إعجاز القرآن ما يتعلق بآثاره وما يترتب على آياته من الإصلاح في العقائد والمجتمعات والأخلاق، ومنها تضاؤل وإنحسار إدّعاء نسبة إبراهيم عليه السلام إلى اليهودية والنصرانية،
فلم يلتفت الناس إليه خاصة بعد إزدياد قوة الإسلام، وإطلاع الناس على مبادئ التوحيد التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ويدرك العقلاء بأدنى تأمل إتحاد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع دعوة الأنبياء السابقين، وأنه جاء لإحياء ذكرهم وسننهم وهي على ثلاثة أقسام:
الأول: ما طرأ عليها التحريف.
الثاني:ما بقي موجوداً متوارثاً عند المليين كاليهود والنصارى بل وحتى الكفار، مثل مناسك الحج التي كانت قريش تؤديها مع كفرها وضلالتها.
الثالث:ما ضاع مع تقادم الأجيال وظهور الكفار والظالمين، وجعلهم الناس ينقادون إليهم، كفرعون مثلاً إدّعى الربوبية كما ورد في التنزيل حكاية عنه[فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، مما يدل بالأولوية القطعية إدعاءه أنه أكبر من النبي فابتلاه الله بنبوة موسى ومعجزاته الحسية الظاهرة كالعصا، فكان فيها هلاك فرعون وجنوده.
فجاءت آية السياق لتبين إشراقة الإسلام وأنه الحلة البهية التي عُرف الأنبياء بها من قبل أهل زمانهم، لتصبح وظيفة(خير أمة) معرفة الأجيال المتعاقبة من الناس لهذه الحقيقة، ولولا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطمس الكثير من حقائق النبوة وأسرار التنزيل، وصار التحريف هو الغالب فيه، وكثر القصّاصون الذين يسيحون في نقل الأخبار التي تتقوم بجذب إهتمام الناس وكسب المال، وإتباع الرغبات والأهواء، أما الحنيفية التي كان عليها الأنبياء فهي الإستقامة والإخلاص في الدعوة إلى الله، والصبر وتحمل الأذى في مرضاته، والشوق إلى لقائه.
لقد بنى إبراهيم عليه السلام صرح التوحيد في الأرض، وأسس للإسلام وكأن قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]( )، إشارة إلى جهاده في وضع قواعد الإسلام في الأرض، وسعيه في الدعوة إلى التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنطلاق ضياء الإسلام من مكة إلى عموم الأرض.
وقال بعض أرباب الهندسة المساحية والفلك( أن مكة المكرمة هى مركز لدائرة تمر بأطراف جميع القارات)، لتكون أبعاد الأرض بالنسبة لمكة على إنتظام مستديم، وتكون الكعبة وسطاً للأرض تشع منه معاني البركة على ربوعها.
فلا غرابة أن تكون قبلة لأهل المشرق والمغرب، وتهوى لها القلوب لأنها أشرف بقعة من الأرض التي خلق منها الإنسان، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام ورد في التنزيل[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ).
وفي الآية أعلاه عن سعيد بن جبير قال: لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود و النصارى و المجوس و لكنه قال من الناس فهم المسلمون( ).
وعن مجاهد قال إن إبراهيم عليه السلام: لو قال أفئدة الناس تهوي إليهم ، لازدحمت عليه فارس والروم( ).
ولكن فارس دخلت الإسلام وزحفوا شوقاً وعشقاً للبيت الحرام، وكذا شطر من الروم وغيرهم من أهل الأرض نالوا مرتبة الإنتماء ل( خير أمة ) ،
ومن إعجاز الآية أعلاه مجئ ميل قلوب الخلق إلى الكعبة وبيت النبوة إنما هو بقيد فريضة الصلاة، وكأن هذا الميل والإنجذاب من أسرار خلق الإنسان من طين والنفخ فيه من روح الله، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، ليكون الميل إلى أشرف بقاع الأرض وبقيد العبادة وإقامة الصلاة.
وجاءت الآية بالتبعيض[أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ] بينما جاء ذم وإنذار فريق آخر من الناس بقوله تعالى[وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ]( )، وعن ابن عباس: أي قلوبهم خالية من كل شيء فزعا و خوفا( )، فجاءت كل من آية البحث والسياق لبعث الناس للنجاة في النشأتين.
التاسعة:لقد أثنت آية البحث على المسلمين بخمسة وجوه:
الأول: إنهم خير أمة.
الثاني: إخراج الله عز وجل المسلمين للناس.
الثالث:قيام المسلمين بالأمر بالمعروف.
الرابع:نهي المسلمين عن المنكر.
الخامس: إيمان المسلمين بالله عز وجل وتنزههم عن الشرك.
وجاءت آية السياق بالثناء على إبراهيم وبيان عظيم منزلته من خمسة وجوه أيضاً وهي:
الأول:نفي كون إبراهيم على دين اليهودية.
الثاني:إبراهيم ليس على دين النصرانية.
الثالث: الإخبار عن كون إبراهيم(حنيفاً) منقاداً لأمر الله، مطيعاً له فيما يأمره، لا يترك الإستقامة والصلاح مع وجوده بين قوم كافرين، وفي أيام حكمهم وسلطانهم.
الرابع: الشهادة لإبراهيم بكونه (مسلماً).
الخامس: الشهادة لإبراهيم بالعبودية الخالصة لله، ونفي الشرك عنه.
العاشرة: إختصت آية السياق بالثناء على إبراهيم عليه السلام ليكون له ذكر حميد عند أجيال المسلمين والى يوم القيامة، ويتخذوه أسوة كريمة في التوحيد والصبر في طاعة الله والتذلل له بالجوارح والأركان.
ومن إعجاز الآية الكريمة أنها لم تكتف بنفي إنتساب إبراهيم لليهودية والنصرانية، ولو اكتفت به لإحتمل الأمر وجوهاً متعددة ومتباينة بل ذكرته الآية صفة النبوة وخصال كريمة , يقتضي الأصل وعلة الخلق وجودها عند الناس جميعاً , قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )،
ولا يعرف كنه حنيفية ومرتبة يقين إبراهيم إلا بلحاظ المجتمع الذي كان يعيش فيه وكيف أنه كان يصارع أمة عظيمة من المشركين بيدها السلطان والحكم.
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: لما هرب إبراهيم من كوثي وخرج من النار ، ولسانه يومئذ سرياني ، فلما عبر الفرات من حران غيّر الله لسانه فقلب عبرانياً حيث عبر الفرات ، وبعث نمرود في نحو أثره وقال : لا تدعوا أحداً يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به ، فلقوا إبراهيم يتكلم بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته .
وليكون تنزهه عن الشرك , واقية إعجازية من القوم الظالمين , فمع أن إبراهيم عليه السلام بين قوم كفار ومشركين فانه تنزه عن الشرك , ولم يفتتن بهم وبمفاهيم الضلالة.
الحادية عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين: ولو آمن أهل الكتاب أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً لكان خيراً لهم، وفيه سلامة من إدعاء ما ليس له أصل، وإبتعاد عن الجدال بغير حق، وهذا الخير لا ينحصر بالتخلص من دعوى أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، بل يشمل الإنعتاق من الإصرار على الجحود بمعجزات النبوة، وإجتناب الكيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة من وجوه:
الأول: إنها فضل من الله عز وجل على الناس جميعاً.
الثاني: إنها مناسبة لإخلاص الإيمان لله عز وجل.
الثالث: يتجلى في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنقياد لأوامر الله، وإتباع أنبيائه.
وقد فاز المسلمون بهذا الخير فاقروا بأن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولم يلتفتوا إلى دعوى إنتسابه لليهودية أو النصرانية.
لقد كان إبراهيم عليه السلام مدرسة في الجهاد في سبيل الله، وأظهر الخضوع والخشوع لله عز وجل، والتذلل في طاعته بين قوم مشركين، وأراد الله عز وجل له أن يكون أسوة كريمة يقتدي به المسلمون ويتخذونه إماماً في بذل الوسع في عبادة الله ومحاربة الضلالة، وهو من أسرار وصفه في آيات عديدة في القرآن بصفة(حنيفاً مسلماً).
وفيه بعث لليأس في قلوب أهل الكتاب وغيرهم بأن المسلمين لا يحيدون عن نهج إبراهيم , قال تعالى[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ]( ).
الثانية عشرة: لقد بعث الله عز وجل إبراهيم بالنبوة والرسالة لمحاربة الكفر والفسوق اللذين شاعا في الأرض، وإستطاع أن يدحض الطاغوت، ويبطل حجته ,
وجاء القرآن بتوثيق إحتجاجه على نمرود[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( )، وبعث الله بعد إبراهيم أنبياء من ذريته ليجدوا أنصاراً واتباعاً بفضل من الله، وبجهاد إبراهيم في محاربة الكفر وإستئصاله من الأرض، فكان إبراهيم[أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( )، وحتى أبوه أو عمه آزر كان ضده،
أما حينما بعث الله موسى بعده بأجيال فان بني إسرائيل الذين هم من عقب وذرية إبراهيم كانت عندهم أحكام من الحنيفية , وعن ابن عباس: ان الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث و كان موسى في ستمائة ألف و عشرين ألفا فلما عاينهم فرعون قال إن هؤلاء لشرذمة قليلون و أنهم لنا لغائظون و إنا لجميع حاذرون فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون( ).
لتتجلى آثار ومنافع بعثة إبراهيم على بعثة موسى عليه السلام وأجيال بني إسرائيل ، فيلزم من اليهود شكر إبراهيم على تركته الحميدة لهم، وإنتفاعهم الأمثل منها، ولكنهم بدل هذا الشكر إدّعوا عليه أنه يهودي.
وبعث الله عز وجل عيسى وهو من ذرية إبراهيم بواسطة أمه مريم بنت عمران ليجد أنصاراً من بني إسرائيل أي بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وفي التنزيل حكاية عن عيسى[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
ليكون أنصار عيسى من أبناء وذرية إبراهيم أيضاً وقد ترك فيهم الإسلام والحنيفية أي الإنقياد لأمر الله والإستقامة في سبل الحق والرشاد، فأنعم الله عز وجل على أهل الكتاب والناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيها مسائل:
الأولى: دعوة أهل الكتاب إلى حقائق التنزيل وفلسفة النبوة.
الثانية: معرفة مقامات الأنبياء.
الثالثة: تجلي المنزلة العظيمة لإبراهيم في تأريخ ملل التوحيد.
الرابعة: تأكيد المائز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن أمته(خير أمة) وليست من نسل واحد، بل هي من أنساب وشعوب وأمم الأرض عامة , يجمعها التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
صلة[وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين أول آية البحث وخاتمة آية السياق تنزيه المسلمين من الشرك والضلالة، لأن المسلمين هم(خير أمة) للتنافي والتضاد بين اسم التفضيل(خير) وبين الشرك والضلالة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى:خير أمة منزهة عن الشرك.
الصغرى:المسلمون خير أمة.
النتيجة:المسلمون منزهون عن الشرك.
ومن بركة نبوة إبراهيم عليه السلام أن يأتي ذكره في القرآن فتستقرأ منه مسائل في الثناء على المسلمين بنفي الشرك عنهم لإلتقائهم مع إبراهيم في الإسلام والحنيفية، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( )، من وجوه:
الأول: الحسن الذاتي لقصص القرآن.
الثاني:الحسن الغيري لقصص القرآن.
الثالث:إقتباس المواعظ والدروس من قصص القرآن.
الرابع: إستقراء الثناء على المسلمين من قصص القرآن، ودلالتها على أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الخامس:تبعث قصص القرآن في النفوس النفرة من الشرك والضلالة، ومن الآيات تسالم المليين على صلاح إبراهيم، فجاءت آية السياق لتأكيد براءته من الشرك وجهاده لمحاربته.
من خصائص خير أمة المواظبة على الجهاد في سبيل الله، وعدم وجود فترة وسكون عندهم، والقدرة على تغيير صيغة الجهاد بحسب الحال والمقام، وإن لم تصل النوبة إلى السيف، فدعوة أهل الكتاب إلى كلمة التوحيد من جهاد المسلمين ومصاديق خروجهم للناس، وإن لم يستجيبوا للدعوة فإن المسلمين يستمرون في تحذيرهم وجذبهم إلى الإسلام، وإعلانهم التسليم بصدق المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل هذا الإعلان وقول المسلمين(إشهدوا بأنا مسلمون) وجوهاً:
الأول: إنه من عمومات [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الثاني: لا صلة لهذا القول بموضوع الجدال الذي غايته إفحام الخصم.
الثالث: إنه من نتائج صيغة الجدال بالأحسن التي إتخذها المسلمون منهاجاً في خطاب أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام.
والصحيح هو الأول والثالث، وليس من تعارض بينهما، وأحدهما في طول الآخر، إذ أن الشهادة بإسلام المسلمين إقرار بأنهم على دين إبراهيم، وإبطال لنسبته لليهودية أو النصرانية، قال تعالى[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ]( )،
(قال ابن عباس : قال رؤساء اليهود : واللّه يا محمد لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنّه كان يهودياً وما بك إلاّ الحسد لنا، فأنزل اللّه هذه الآية)( ).
الثانية: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهم المسلمون محاربة الشرك، الظاهر منه والخفي، ومن وجوه محاربة الشرك أمور:
الأول: الإخبار بأن إبراهيم عليه السلام لم يشرك بالله.
الثاني: الدفاع والذب عن الأنبياء وتنزيه مقاماتهم من الشرك.
الثالث: لما جاء القرآن بدعوة المسلمين للإقتداء بالأنبياء، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، جاءت آية السياق لبيان حقيقة وهي سلامة نهج إبراهيم، ومحاربته للشرك بالتنزه عنه، وأخرج أحمد وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن ابزى عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال « أصبحنا على فطرة الإِسلام ، وكلمة الاخلاص ، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ، وإذا أمسى قال ذلك)( ).
الرابع: الترغيب بدخول الإسلام بنفي الشرك عن الأنبياء، فصحيح أن قوله تعالى(وما كان من المشركين) جاء بخصوص إبراهيم إلا أنه أعم في موضوعه ودلالاته للتضاد والتناقض بين الإيمان والشرك فيكون من باب الأولوية سلامة الأنبياء من الشرك، والأنبياء أئمة المؤمنين في محاربة الشرك والضلالة.
الثالثة: لقد أنعم الله عز وجل بأن جعل المسلمين (خير أمة) ومن صفات خير أمة السلامة والتوقي من الشرك، لقد بعث الله عز وجل إبراهيم نبياً رسولاً ويدعو الناس للإسلام، ثم تفضل ببعث الأنبياء , ثم بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نهج إبراهيم لتخرج أمة عظيمة للناس تدعوهم لنبذ الشرك والضلالة.
ومن رحمة الله عز وجل أن الإيمان يأخذ بالقوة والمنعة مع تقادم الأيام، وأن الشرك يتآكل ويأخذ بالضعف والوهن، فإذ إشترك الملأ من الكفار أيام نمرود بجمع الحطب لحرق إبراهيم عليه السلام، فلا يستطيع جبار أو طاغوت أن يحارب المسلمين ويمنعهم من أداء وظائفهم العبادية على نحو العموم المجموعي.
وهو من مصاديق قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، وإستدامة هذا الخروج بلحاظ أن الله عز وجل هو الذي أخرجهم فلا تستطيع جهة أن تمنع أو توقف هذا الخروج والذي يتقدم بالسلامة من الشرك، ودعوة الناس لنبذه، وتدل هذه الحقيقة الساطعة على أن خروج أجيال المسلمين يأتي ثماره في حينه وفيما بعده من الأيام.
وتلك آية وإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنافع تبليغه وجهاده لا تختص بزمانه بل هي متصلة وتوليدية ومتجددة إلى يوم القيامة،
ومن الشواهد عليه أن الذي يدخل الإسلام يبقى على إسلامه وتتبعه ذريته المتكثرة مع الأجيال، فإن قلت إن الكفار أيضاً يتكاثرون كالمسلمين، مما يستلزم بقاء ذات النسبة بينهم.
والجواب إنه قياس مع الفارق، فالذين يدخلون الإسلام في إزدياد متصل في كل يوم , أما الكفار فهم في نقص وإلى ضعف ووهن , وكلما دخل شخص الإسلام فإن عدد الكفار ينقص، بالإضافة إلى أسبب النماء والبركة التي يجعلها الله عند المسلمين، ومنها أداؤهم العبادات التي هي صحة وسلامة من الأدران.
وورد في الحديث بخصوص الصيام عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(صوموا تصحوا)( )،
وفي صلة الرحم ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلة القرابة مثراة (1) في المال ، محبة في الأهل ، منسأة في الأجل) ( ) وجاء القرآن والسنة بتأكيد لزوم تعاهد صلة الرحم.
الرابعة: لقد إبتلى الله إبراهيم بضروب من الإختبار والإمتحان منها:
الأول: وجوده بين قوم مشركين يعبدون الشمس والقمر من دون الله، قال تعالى[فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ).
الثاني: عبادة قومه للأصنام وكسر إبراهيم لكبيرها , وإرادتهم حرقه بالنار , وكان أبوه آزر من القوم المشركين، فجاء قوله تعالى(وما كان من المشركين) آية في قوة وثبات الإيمان , والإمامة في الحرب على الضلالة والكفر.
الثالث: إشعال الحطب وإرتفاع لهب النيران وهو في وسطها قالوا: فلمّا جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة فذلك قوله[قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ]( )، ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعنّ حطباً لإبراهيم
وكانت المرأة تنذر في بعض ممّا تطلب ممّا تحبّ أن تدرك لئن أصابته لتحتطبنّ في نار إبراهيم التي يحرق بها احتساباً في دينها.
قال ابن إسحاق : كانوا يجمعون الحطب شهراً، قالوا: حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كلّ ناحية من الحطب، فاشتعلت النّار واشتدّت حتّى أنْ كان الطّير لتمرّ بها فتحرق من شدّة وهجها، ثمّ عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه، ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيّداً مغلولاً.
فصاحت السموات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلاّ الثّقلين صيحة واحدة : أي ربنّا، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يُحرق فيك فائذن لنا في نصرته، فقال الله سبحانه وتعالى لهم: إنِ استَغاث بشيء منكم أودعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك
وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيّرت النار في الهواء، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم.
ثم رفع رأسه إلى السّماء فقال : اللهمّ أنتَ الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل)( ).
الرابع: الهجرة إلى الشام تعاهداً لسلامة الدين, ولجوءً إلى الله , قال تعالى[وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ]( )، ولوط ابن أخ إبراهيم.
الخامس: القتال في سبيل الله، وأخرج ابن عساكر عن حسان بن عطية قال : أغار ملك نبط على لوط عليه السلام فسباه وأهله، فبلغ ذلك إبراهيم فأقبل في طلبه في عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، فالتقى هو وتلك النبط في صحراء معفور ، فعبى إبراهيم ميمنة وميسرة وقلباً ، وكان أول من عبى الحرب هكذا، فاقتتلوا فهزمهم إبراهيم واستنقذ لوطاً وأهله)( ).
السادس: الأمر الإلهي بذبح إبنه بواسطة الرؤيا، ورؤيا الأنبياء وحي في التنزيل[يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى]( ).
السابع: الختان، وقيل أن عمر إبراهيم تسعون سنة حينما أُمر بالختان.
الثامن: بناء البيت الحرام وقيامه وإبنه النبي إسماعيل برفع قواعد البيت الحرام.
التاسع: دعوة الناس لحج بيت الله الحرام، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، ومجيء الناس له من الأماكن البعيدة من ضروب الإبتلاء لجذبهم إلى منازل الإيمان، وبعثهم على التنزه من الشرك، ومحاربة أرباب الكفر والضلالة.
فصحيح أن الآية أعلاه تقول(يأتوك) ولكنهم يأتون حجاجاً لبيت الحرام وليأخذوا أحكام الحنيفية، ويتلقوا البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في دعاء إبراهيم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
الرابعة: يخرج المسلمون للناس بقوله تعالى في إبراهيم(وما كان من المشركين) فهذه الآية ودلالاتها من جهاد المسلمين بين الناس، وخروجهم لهم بالدعوة إلى الهداية والإيمان.
ومن خصائص(خير أمة) أن تجعل إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة، وإماماً في التوحيد، وفي قوله تعالى[وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ *إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ]( ).
الخامسة: وصفت آية السياق إبراهيم عليه السلام بأنه كان[حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] وهذه الصفات تنطبق على كل مسلم ومسلمة ببركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه شاهد على تفضيله على الأنبياء السابقين، وقيل أن معنى(حنيفاً) أي مخلصاً.
ومن الآيات أن المسلمين لم يقولوا بأن إبراهيم منهم، بل يقولون إننا على نهج إبراهيم وفي التنزيل[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( ).
السادسة: جاء قوله تعالى(وما كان من المشركين) لنفي الشرك عن إبراهيم إبتداء وإستدامة، وأنه لم يكن مشركاً ثم تاب وأصبح مؤمناً، بل كان معصوماً من الشرك قبل النبوة وبعدها، وطيلة أيام حياته، وفيه تفسير لقوله تعالى[فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ]( )، لإفادة أنه(قال هذا ربي) للإحتجاج على المشركين وهو يعلم أنه مخلوق مبتلى بالزيادة والنقيصة، والظهور والغيبوبة فيكون قوله تعالى(وما كان من المشركين) قانونا عاما منبسطا على كل أيام حياة إبراهيم عليه السلام ليكون من خصال(خير أمة) أمور:
الأول: ذكر الأنبياء بصفة الإسلام والنبوة، ويدل بالدلالة التضمنية على التسليم بنبوتهم.
الثالث: تأكيد عصمة الأنبياء من الشرك والضلالة.
الرابع: إعلان المسلمين لإتباعهم لنهج إبراهيم عليه السلام في الإسلام والإنقياد لأوامر الله.
السابعة: جاءت الآية بأمور ثلاثة واحد نفي، وإثنين إيجاب، أما النفي فهو:
الأول: نفي نسبة إبراهيم إلى اليهودية.
الثاني: نفي نسبة إبراهيم إلى النصرانية.
الثالث: نفي الشرك والضلالة عن إبراهيم.
وأما الإيجاب فهما:
الأول: إبراهيم مسلم منقاد لأمر الله.
الثاني: تأكيد حنيفية وإستقامة وإخلاص إبراهيم.
ترى لماذا جعلت آية السياق الإيجاب بين أفراد النفي، فلم تبدأ الآية بالإيجاب[كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ].
ولم تجعل الآية الإستدراك في خاتمتها: ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً وما كان من المشركين ولكن كان حنيفاً مسلماً) بل جاءت الآية بصيغة خاصة بأن إبتدأت بالنفي ثم الإيجاب بلغة الإستدراك ثم رجعت إلى النفي .
وفيه إعجاز ودلالة على التباين بين النفي الأول والثاني، فلم تجعل الآية نفي إنتساب إبراهيم لليهودية والنصرانية بعرض ومرتبة واحدة مع تنزهه عن الشرك والضلالة.
وفيه إكرام لدين اليهودية والنصرانية وبيان التباين بينهما وبين الشرك لما فيهما من إتباع للنبوة وتأكيد أن نفي نسبة إبراهيم لليهودية والنصرانية خاص بسبق زمانه لزمانهما، ولأنه كان مسلماً مستقيماً وإماماً في الهداية والإيمان وأن الشرك لم يتسرب إلى نفسه، ولبيان أن الشرك ضد الإسلام والإنقياد .
ويتجلى مصداق هذا التباين في جواز بقاء اليهودي والنصراني على ملته في دولة الإسلام بخلاف الشرك لحرمة الشرك وعبادة الأوثان أصلاً، قال تعالى[كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ] ( ).
ولبيان تنزه المسلمين عن الشرك إلى يوم القيامة، قال تعالى[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ]( )، والمراد من الملة أصول التوحيد والإنقياد والإمتثال لأوامر الله ,دونه في الفروع، لتكون بين الرسالات عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء هي أصول التوحيد وطاعة الله عز وجل وإتيان فروع الدين، والتنزه عن الشرك.
أما مادة الإفتراق فتتعلق بتفاصيل الفروع الشرعية، والتي هي من جنس واحد ولكن بينها فصل يميز كل شريعة عن غيرها، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة , قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
ويقال ملة إبراهيم وملة موسى، وملة عيسى، وملة محمد، ولا يقال ملة الإمام الفلاني لأنه مذهب وإجتهاد في ذات الفروع الشرعية التي جاء بها النبي .
لذا فإن ملة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سور جامع للمسلمين وثابتة وباقية إلى يوم القيامة , وهو من عمومات[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
أما المذاهب فأنها في تبدل وتغير على نحو الموجبة الكلية والجزئية ولو بعد مرور أحقاب، وكذا تجد المسلم قد ينتقل من مذهب إلى آخر ولكنه على ملة الإسلام، ولو قيل ملة أو دين الإمام الفلاني فينصرف قهراً وإنطباقاً إلى الإسلام وهو السور الجامع لكل المسلمين، وعموم المذاهب الفقهية والكلامية فيه.
إن إتحاد ملة ودين الأنبياء وإنتفاء التغاير والتضاد بينها هو من رحمة الله وعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثامنة: هل نفي المسلمين الشرك عن إبراهيم، وتلاوة قوله تعالى(وما كان من المشركين) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول: إنه جهاد لإصلاح النفوس، ومن مصاديق التقوى[اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ]( ).
الثاني: فيه حرب على الشرك والضلالة.
الثالث: إنه برزخ دون ظهور معاني الشرك بين الناس، وعبادة الأوثان.
الرابع: فيه زجر عن الإنقياد للطواغيت بظلمهم وطغيانهم.
ومن منافع تلاوة المسلمين لآية السياق وجوه:
الأول: إنها مناسبة شكر الله عز وجل على نعمة التوحيد، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: تجديد العهد بالتوحيد، ونبذ الشرك.
الثالث: الحيطة والحذر من المشركين ومكرهم.
الرابع: ترغيب المشركين بالإسلام وبعث النفرة في نفوسهم من الشرك والضلالة، قال تعالى[رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ]( ).
الخامس: تلاوة الآية حرب على الشرك متصلة ومتجددة.
التاسعة: جاءت آية البحث بالثناء على المسلمين، والشهادة لهم بالإيمان بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) وجاءت آيات القرآن في ذم بعض أهل الملل ممن لا يتعاهدون أحكام التوحيد، قال تعالى[وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ]( ).
وجاءت آية السياق لتأكد صدق إيمان إبراهيم، وأنه مخلص في توحيده، وكان جهاده فناءّ في مرضاة الله عز وجل , وتؤكد أن المسلمين يؤمنون بالله وملائكته ورسله وكتبه، وأنهم منزهون عن الشرك، والآية وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: المسلمون على ملة إبراهيم.
الصغرى: إبراهيم منزه عن الشرك.
النتيجة: المسلمون منزهون عن الشرك.
الصلة بين الآية[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين , وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث خطاباً للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي، أما آية السياق فإبتدأت بجملة خبرية عن البيت الحرام بقوله تعالى[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ].
الثانية: موضوعية البيت الحرام في مناسك(خير أمة).
الثالثة: بعث المسلمين والمسلمات للتدبر في آيات البيت، وما جعل الله فيه من الدلالات وهي على وجوه:
الأول: إنها علامات على عظيم قدرة الله وبديع صنعه.
الثاني: إنها آيات خاصة بالبيت الحرام يمتاز بها عما في الأرض من الصروح والبيوت ونحوها.
الثالث: تملأ آيات الله الأرض، ولكن البيت له خصوصية، وفيه آيات خاصة بها غير موجودة في بقعة أو موضع آخر من الأرض.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
الرابعة: لزوم تعاهد المسلمين لآيات وعلامات البيت الحرام.
الخامسة: بعث الشوق في نفوس المسلمين لمعرفة آيات البيت الحرام، والتدبر بالإعجاز الذي فيها.
السادسة: من خصائص آيات الله والمعجزة أنها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحري، سالم من المعارضة ولا بد أن آيات البيت تتصف بهذه الخصائص فلذا جاءت آية البحث بالنص عليها.
السابعة: من خصائص(خير أمة) أداء مناسك الحج الذي هو من آيات البيت الحرام، لقوله تعالى في آية السياق[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )،
ويحتمل الحج أمرين:
الأول: إنه من آيات البيت البينات.
الثاني: الحج ليس من آيات البيت الحرام المذكورة في آية السياق، لأن القدر المتيقن منها هو الآيات الثابتة مثل مقام إبراهيم وأمن الذي يدخل البيت الحرام.
والصحيح هو الأول، فإن حج البيت من آياته وما فيه من المعجزات.
الثامنة: إن قوله تعالى(فيه آيات بينات) كنز سماوي مدخر إختص المسلمون بتلقي الإخبار عنه، فالإخبار بقوله تعالى(فيه آيات بينات) نعمة عظيمة فاز المسلمون بتلقيها.
التاسعة: من إعجاز القرآن أنه يتضمن الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار ويحتمل قوله تعالى(فيه آيات بينات) وجوهاً:
الأول: إنه بشارة للمسلمين.
الثاني: إنه إنذار للكفار.
الثالث: ليس فيه بشارة أو إنذار إنما هو إخبار عن آيات كونية.
والصحيح هو الأول، ويدل على الثاني في مفهومه، فمن إعجاز آية البحث أنها قدمت خصائص البيت الإعجازية، ثم جاءت بوجوب الحج على الناس جميعاً، وهذا العموم ترغيب للناس بأداء الحج، ورؤية تلك الآيات والحضور عندها، والتشرف بزيارتها، وتوثيق هذه الزيارة من قبل الناس والملائكة، قال تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( )، وكون الآية إخباراً عن علامات كونية خارقة لا يتعارض مع البشارة والإنذار بل هو موضوع ومادة للبشارة والإنذار، قال تعالى[إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( )،
ومن مصاديق البشارة في المقام الأمر الإلهي للناس بحج البيت والصلاة عند مقام إبراهيم.
التاسعة: في قوله تعالى(فيه آيات بينات) دعوة للمسلمين للتفقه في الدين، وهو من خصائص(خير أمة) بأن جعل الله عز وجل لها الآيات البينات ظاهرات بما يساعد المسلمين في إستنباط المسائل والدروس منها.
وشمول بيانه لذات آياته ومضامينها وأحكامها، فلما إبتدأت آية البحث بالإخبار عن وجود آيات بينات في البيت الحرام ذكرت جنس وماهية هذه الآيات فقال تعالى(مقام إبراهيم) وفيه مسائل:
الأولى: إخبار(خير أمة) وهم المسلمون بآية من آيات البيت الحرام وهي مقام إبراهيم.
الثانية: منع الخلاف والخصومة في تعيين آيات البيت سواء بين أفراد(خير أمة) أو بينهم وبين أهل الكتاب، أو بين الناس عموماً فتعيين الآيات رحمة مزجاة من الله، وهو ذاته آية لما يصرفه من البلاء والضرر الناجم عن الخلاف والجدال في أفراد آيات البيت الحرام.
الثالثة: لو لم يأت القرآن بالإخبار عن كون مقام إبراهيم آية بينة من آيات الله في البيت الحرام لربما تخلف الناس عن تعاهده وحفظه.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين الشهادة للمسلمين بأنهم(خير أمة) لعنايتهم الفائقة بمقام إبراهيم.
الخامسة: لما نال المسلمون منزلة(خير أمة) بفضل من الله، زاد الله عليهم ورزقهم الإخبار السماوي بأن(مقام إبراهيم) آيات الله.
السادسة: دعوة(خير أمة) للإنتفاع الأمثل من مقام إبراهيم والذي تجلى بأبهى مصاديقه بقوله تعالى[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( ).
السابعة: دعوة(خير أمة) لتلقي أخبار السنة النبوية في مقام إبراهيم وماله من القدسية والموضوعية في مناسك الحج.
الثامنة: توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على النعم في المقام ومنها وجوه:
الأول: نعمة الآيات البينات في البيت الحرام.
الثاني: آية مقام إبراهيم.
الثالث: آية مقام إبراهيم بفضل من الله، فإن قلت إن المسلمين هم الذي حفظ نعمة(مقام إبراهيم) والجواب من وجوه:
الأول: وجود مقام إبراهيم في البيت الحرام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المسلمون حفظوا المقام وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث: لقد جعل الله البيت الحرام آمناً وهو من عمومات ما جاء في التنزيل على لسان إبراهيم[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا] ( ).
الرابع: لما ذكر آية البحث الأمن لمن دخل البيت الحرام فأن الله حفظ ذات الآيات التي في البيت.
ترى ما هي النسبة في الأمن بين المقام، والذي يدخل المسجد، فيه وجوه:
الأول: سلامة وأمن المقام سبب لأمن الشخص الذي يدخل البيت الحرام.
الثاني: أمن الذي يدخل البيت تذكير بلزوم سلامة وحفظ المقام.
الثالث: لا ملازمة أو صلة في الأمن بين الأمرين.
الرابع: كل فرد منهما يؤثر في الآخر، ويكون دعوة إليه.
والصحيح هو الأخير، وتتعدد مصاديق الأمن في البيت الحرام منها ما يكون ذاتياً ومنها ما يأتي بالعرض من داخل البيت أو خارجه وهل أداء المسلمين مناسك الحج وصلاتهم جماعة وأنفرادا في البيت، وعدم إنقطاع الطواف بالبيت من أسباب الأمن في البيت الحرام .
الجواب نعم، فقد جعل الله آيات البيت لنفع الناس جميعاً والمسلمين خاصة.
الصلة بين قوله تعالى(فيه آيات بينات) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من المواضيع والأحكام التي خرج بها المسلمون للناس أن البيت الحرام فيه آيات بينات.
الثانية: قوله تعالى(فيه آيات بينات) عون ومدد للمسلمين في خروجهم للناس، وهو من إسرار مجيء الآية بصيغة البناء للمجهول (أُخرجت) لما فيه من التنكير , ومعاني الإطلاق , وكثرة مواضيع الخروج.
الثالثة: من أشرف ما أخرجت به أمة على الناس، هو ما في البيت الحرام من(آيات بينات).
الرابعة: حفظ البيت الحرام وآياته حسن ذاتاً وعرضاً، وله منافع عظيمة على الذي يقوم بحفظها وعلى الناس جميعاً.
الخامسة: (خير أمة) وهم المسلمون يتعاهدون مقام إبراهيم، على نحو الوجوب في ذات التعاهد، ومصاديقه.
السادسة: في الجمع بين الآيتين حجة على الناس بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس جميعاً، لما فيها من أسباب حفظ آيات البيت الحرام البينات).
السابعة: وصفت آية البحث آيات البيت الحرام بأنها(بينات) وتحتمل وجوهاً:
الأول: إنها بينة وظاهرة في إعجازها بالذات بفضل الله، ولا تحتاج من يبينها.
الثاني: جاء بيان آيات البيت الحرام بأسباب وسبل , ومن جهات:
الأولى: تبين آيات البيت الحرام من قبل(خير أمة).
الثانية: جاء بيان آيات البيت بالكتب السماوية المنزلة، وعلى لسان الأنبياء.
الثالثة: يكون بيان الآيات بأداء الأنبياء والمؤمنين مناسك الحج.
الرابعة: ذات الآيات تبين نفسها.
الثالث: التفصيل وهو أنها لم تكن مبنية في السنين والأجيال الأولى من وجود الإنسان في الأرض، أما فيما بعد بعثة الأنبياء , قاموا والمؤمنين بتأكيد بيانها، قال تعالى في خطاب لإبراهيم عليه السلام[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الرابع: المعنى الأعم الجامع للوجوه الثلاثة أعلاه، وهو أيضاً من فضل الله وعمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )،
والأقوى هو الأول فإن الله عز وجل جعل تلك الآيات مبينات، وهذا الجعل من فضل الله وعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )،
لتكون آيات البيت الحرام حجة على الناس، ووسيلة مباركة لجلب الناس للهداية والإيمان، فإن قلت هل للجهات المذكورة أعلاه من نفع وأثر في إظهار الآيات
الجواب نعم، ويدل عليه قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: (خير أمة) هي التي تؤمن بتلك الآيات.
الثاني: (خير أمة) هي التي تبين هذه الآيات لذاتها وأفرادها ولأهل الكتاب والناس جميعاً.
الثالث: خروج المسلمين بآيات البيت الحرام للناس جهاد في سبيل الله.
الرابع: لقد جاهد الأنبياء والأولياء وأتباع الأنبياء بتعاهد البيت الحرام والحج إليه.
الثامنة: من خروج (خير أمة للناس) تلاوة قوله تعالى(فيه آيات بينات) فتلت التلاوة لا يقدر عليها وعلى المواظبة عليها بقيد التسليم بأنها تنزيل إلا أفراد(خير أمة) ولذا نال المسلمون هذه المنزلة من بين الناس.
التاسعة: لا بد من أمة تتعاهد العناية بالآيات البينات في البيت الحرام، فتفضل الله عز وجل ورزق المسلمين هذه المرتبة العظيمة وإلى يوم القيامة.
قبض النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة ودخل به البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح) ( ) فإن الله عز وجل تفضل على المسلمين وجعلهم الأمة التي تقر وتعترف بأن ما في البيت الحرام آيات بينات من عند الله عز وجل.
العاشرة: أخبرت آية البحث بأن المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , ومن مصاديقه بلحاظ الصلة مع قوله تعالى(آيات بينات) أمور:
الأول: تلاوة المسلمين لقوله تعالى[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ].
الثاني: تعاضد وتعاون المسلمين في حفظ آيات البيت الحرام والتدبر في مضامينها القدسية.
الثالث: قيام المسلمين بتوارث الحفاظ على آيات البيت الحرام.
الرابع: الذب عن آيات البيت، ودفع الشبهات وزجر أهل الخصومة والخلاف في هذا الباب .
وآية البحث سلاح عقائدي للمسلمين في ميادين الإحتجاج والجدال عن قدسية البيت الحرام أنه[أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس: أداء المسلمين لمناسك الحج وعمارتهم للمسجد الحرام من عمومات قوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
وهو من الإعجاز في مجيء الآية أعلاه بصيغة المضارع التي تفيد الإستمرار والتجدد.
السادس: دعوة المسلمين للمناجاة في أداء فريضة الحج، وبيان خصائصها ومنافعها.
السابع: لقد جاءت آية البحث بالثناء على المسلمين من وجوه عديدة، وذكرت لهم خصالاً كريمة تفضل الله عز وجل بها عليهم، لتكون رحمة بهم وبالناس جميعاً،
ومن آيات الله أن كل خصلة من هذه الخصال مصداق لقوله تعالى(فيه آيات بينات) من غير تعارض بينها.
الحادية عشرة: تضمنت آية البحث الشهادة للمسلمين بالإيمان بقوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]، وفي دلالاته وصلته بقوله تعالى(فيه آيات بينات)وجوه:
الوجه الأول: من إعجاز القرآن أن كل آية وموضوع وحكم فيه لها مصاديق خارجية في كل زمان، بما فيها أمثال القرآن التي تكون بمصاديقها قريبة من الناس حاضرة في الوجود الذهني وكذا فإن تلك الآيات والأمثال دعوة للمسلمين والناس للتدبر في الأفراد الواقعية لتلك الأمثال، والإعجاز في التداخل والصلة بين أمور وهي:
الأول: الأمثال القرآنية.
الثاني: المصاديق الخارجية المتجددة لتلك الأمثال.
الثالث: الإعجاز في مضامين ودلالات أمثلة القرآن.
الرابع: الدروس المستقرأة من إجتماع أمثلة القرآن , ومصاديقها في الواقع العملي.
الوجه الثاني: من أفراد الإيمان التسليم بأن في البيت الحرام آيات بينات، ويتجلى الإيمان في المقام من وجوه:
الأول: آيات البيت الحرام هي فضل من الله عز وجل من جهات:
الأولى: بقاء تلك الآيات، فلا يقدر على إيجاد وإستدامة تلك الآيات إلا الله عز وجل.
الثانية: تجلي وظهور آيات البيت الحرام، وعدم إمكان إخفائها.
الثالثة: آيات البيت عون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الدعوة إلى الله.
الرابعة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الثبات على الإيمان، فجعل لهم في البيت الحرام آيات بينات.
الخامسة: يتوجه كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم إلى المسجد الحرام كقبلة على نحو التعيين والحصر طيلة وقت الصلاة وإبتداء من تكبيرة الإحرام وإلى أوان التسليم والخروج منها .
فتفضل الله وجعل في البيت آيات بينات، وهل توجه المسلمين في الصلاة للبيت الحرام من الآيات , الجواب نعم، قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ).
الوجه الثالث: من خصائص المؤمنين معرفة الآيات البينات التي في البيت الحرام والإيمان بها، وقد ذكرت آية السياق آيات وهي:
الأولى: مقام إبراهيم وهو الذي قام إبراهيم حين رفع قواعد البيت بقوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ]( )، (وكلما طال البناء إرتفع الحجر في الهواء حتى كمل البناء) لقد طبع أثر إبراهيم في الحج وكأنه طين، وفيه وجوه:
الأول: بقاء أثر قدم إبراهيم آية وحجة قال أبو طالب الطويل:
وموطٍئ إبراهيم في الصخر رطبة
على قدميه حافياً غير ناعِلِ( ).
الثاني: فيه دليل على أن آيات البيت الحرام توليدية، وأن كل آية تتفرع عنها آيات متعددة، لذا قيل في صناعة النحو بأن(مقام إبراهيم) بدل من(آيات) وجاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يتضمن آيات عديدة، وصلاة كل مؤمن عند المقام هي آية من عند الله , قال سبحانه[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( )، وهذه الصلاة من عمومات قوله تعالى(وتؤمنون بالله).
الثالث: وجود شاهد عملي يكون مصداقاً لآية أو لآيات متعددة من آيات القرآن، فأثر قدم إبراهيم شاهد على الآية أعلاه، وعلى آية السياق، وآية البحث لأنه مصداق الإيمان المسلمين , وفيه شاهد على صدق نبوة إبراهيم ولا بد من دلالات لتقديم آية السياق معجزة مقام إبراهيم , ولزوم إقتباس المسائل الإيمانية منها، ومقام إبراهيم حجر مبارك نازل من السماء.
الثانية: الأمن والسلامة من الفزع لمن دخل البيت الحرام، سواء كان من جهة السلطان والعدو أو السباع والوحوش الضارية(إن الله عطف قلوب العرب في الجاهلية على ترك التعرض لمن لاذ بالحرم و التجأ إليه و إن كثرت جريمته و لم يزده الإسلام إلا شدة)( )،
والأمن آية خصوصاً وإن الأجيال المتعاقبة من الناس جميعاً يعلمون بأن العرب يغير بعضهم على بعض , ويستحوذ على ماله ويسبي نساءه ظلماً وجوراً ومع هذا فإنهم يوقرون هذه البقعة المبارك، وقيل المراد من الهاء في(من دخله) هو الحرم.
الثالثة: وجوب حج البيت الحرام.
الرابعة: شمول وجوب الحج الناس جميعاً، ذكوراً وأناثاً، وحجب الكافر عن نفسه نعمة حج البيت لإختياره الكفر، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الخامسة: أداء الحج لله عز وجل وليس للبيت أو لذات الحاج أو لغيره، لقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ]( )، وجاءت خاتمة الآية لتؤكد قانونا ثابتا وهو غنى الله عز وجل عن العالمين أي أنه سبحانه تعبّد الناس بأداء الحج من غير حاجة منه تعالى،
فالحاجة ملازمة لعالم الإمكان، وواجب الوجود منزه عن الحاجة ليكون وجوب الحج لصالح ونفع النــاس جميعاً وإن أداه فريق منهم وهم المسلمون الذين أثنى الله عز وجل عليهم في آية البحث بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) ومن الآيات الأخرى في البيت الحرام:
الأولى: عدم علو الطيور على البيت الحرام.
وقيل إذا علاه طير فإنما لمرض به ويستشفي بالبيت، ومنهم من ضعّف هذا القول .
الثانية: نبع بئر زمزم بهمز جبرئيل عليه السلام الأرض بعقبه، وحفر عبد المطلب لها بعد دثورها برؤيا مشهورة، وإزدياد ماء زمزم أيام الموسم، ونفعه لما شرب له.
الثالثة: صد الجبابرة عن البيت الحرام، كما في هلاك أصحاب الفيل، قال تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ).
الرابعة: حج بيت الله الحرام كل عام في وقت مخصوص في العاشر من ذي الحجة وإزدياد وفد الحاج كل عام بآية من عند الله.
الخامسة: وقوع البيت في أرض قاحلة جرداء , وفي التنزيل[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]( ).
السادسة: مجيء الثمار والأرزاق للبيت الحرام من أماكن وأمصار بعيدة ونائية، قال تعالى[أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ]( ).
السابعة: قيل لا يدخل السيل من الحل إلى الحرم.
الثامنة: ذكر أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد أخصبت آفاق الأرض، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه في ذات العام.
التاسعة: إجتماع المسلمين في الموسم كل عام من جميع أنحاء الأرض، وتوثيق أواصر الأخوة بينهم، وتبادل المعارف وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )،[ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
العاشرة: إنفراد البيت الحرام بالحج في كل عام، والملل الأخرى وإن أظهرت الحج لأماكن مخصوصة عندهم إلا أنها مجتمعة لا ترق إلى حج بيت الله الحرام، لقد جعل الله عز وجل أمة عظيمة من أهل الأرض وهم المسلمون يؤمنون بآيات البيت الحرام ويحافظون عليها، ويتخذونها وسيلة لزيادة الإيمان.
وهل إنحصرت آيات البيت عند الآيات التي ذكرت في القرآن والسنة والأخبار، أم أنها متجددة .
الجواب هو الثاني، فإلى جانب آيات البيت الدائمة هناك آيات أخرى متجددة سواء التي تتولد عن تلك الآيات أو التي تستحدث بذاتها فضلاً من الله، فآيات البيت الحرام متصلة ومستمرة إلى يوم القيامة.
الوجه الرابع: جاءت آية البحث ببيان حقيقة وهي أن إيمان أهل الكتاب خير محض.
وهل يمكن القول بأن تقدير الجمع بين الآيتين: ولو آمن أهل الكتاب فيه آيات بينات).
الجواب المراد من آية البحث هو لو أمن أهل الكتاب بالله ورسوله، أما الآيات البينات فهي فرع الإيمان بالله، ومن مصاديق كون الإيمان خيراً لأهل الكتاب أداؤهم حج البيت الذي هو من دعائم الإسلام والتنعم بآيات البيت الحرام.
وهل من آيات البيت دخول أفراد وجماعات من الناس الإسلام لأداء فريضة الحج والطواف بالبيت الحرام .
الجواب نعم، قال تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، ومنها صيرورة الكافر مسلماً , وحدوث الشوق عنده لأداء الحج ومجيئه لإتيان المناسك مع التلذذ برؤية آيات البيت بملاك الشكر لله على نعمة الهداية والصلاح.
ويحتمل تقييد الخير بقوله تعالى(خيراً لهم) وجوهاً:
الأول: وقوع الخير لأهل الكتاب خاصة.
الثاني: ذكر الخير والنعمة على أهل الكتاب , ويشمل المسلمين أيضاً، لما فيه من زيادة قوة المسلمين , وإنقطاع خصومة وخلاف أهل الكتاب.
الثالث: إيمان أهل الكتاب خير و رحمة للناس جميعاً، لأن الكفار يهتدون بأهل الكتاب، ويقتدون بهم في إختيار الإسلام، وكانت قريش تسأل اليهود والنصارى عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبار أنهم أهل كتاب، وعندهم أخبار النبوة والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
نعم تخلف أهل الكتاب عن الإيمان لا يمنع من دخول الكفار الإسلام، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، وليس من نبي إلا وقد حج بيت الله الحرام، ثم أن قواعده رفعها إبراهيم عليه السلام، وكل من اليهود والنصارى ينتسبون إليه.
صلة آية البحث بقوله تعالى(مقام إبراهيم) وفيه مسائل:
الأولى: من خصائص(خير أمة) الطواف بالبيت الحرام وجعل موضوعية لمقام إبراهيم في الطواف بأن يكون الطواف في المطاف بين الركن والمقام إلا مع الحرج وكثرة الطائفين.
الثانية: إن جعل مقام إبراهيم آية بينة دعوة للناس جميعاً للتسليم بها، ومن خروج المسلمين للناس لبيان هذه الآية، ويتجلى هذا البيان بعناية المسلمين بالمقام.
وورد لفظ(مقام)ثمان مرات في القرآن إثنتين منها في مقام إبراهيم، وكل آية منهما حجة بينة وشاهد على إعجاز القرآن في حفظ هذه الآية النازلة من السماء
فآية السياق تذكر المقام بالاسم وتخبر عن كونه آية من عند الله، وآية تأمر أخرى بإتخاذه مصلى لتكون له موضوعية في ذات الموضع المبارك في البيت الحرام، وشرطية في ركعتي الطواف، التي تتصف بخصوصية وهي تعيين مكان الصلاة، وأنه آية بينة من آيات الله مما يدل على حاجة الناس لنزول القرآن، وما فيه من حفظ آيات البيت والإنتفاع الأمثل منها ، وإتخاذها موضوعاً وموضعاً للعبادة .
لتكون فيه إستدامة الحياة لعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فيخرج المسلمون للناس بآية المقام وحفظها ليكون فيه سبب لبقائهم في الحياة الدنيا وعدم حدوث مقدمات الفناء.
الثالثة: من خروج المسلمين للناس إعلان التصديق بنبوة إبراهيم، وبيان منزلته بين الأنبياء، وجهاده في بناء البيت , وإن كان البيت موجوداً من أيام آدم عليه السلام.
وسيبقى مقام إبراهيم شاهداً على هذا الجهاد، ومعجزة حسية تنظر فيها آثار قدمي إبراهيم مع أنها من الحجر الصلد لبيان حقيقة وهي أن المقام وإن ورد باسم إبراهيم إلا أنه آية من الله لعدم إمكان طبع أثر القدمين فيه إلا بمعجزة، وكذا حفظ وتعاهد وبقاء المقام فإنه فضل من الله عز وجل، ولم يكن لإبراهيم عون ومؤازر في بناء البيت إلا إبنه إسماعيل، فجعل الله عز وجل المقام عوناً له في سعيه لتطهير البيت في قوله تعالى[وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، ففي تجلي المعجزة أمور:
الأول: إنه باعث على الإنصاف لإبراهيم عيه السلام .
الثاني: فيه زاجر عن فعل المعاصي قريباً منها.
الثالث: إكرام وإجلال المعجزة أمر موافق للفطرة الإنسانية.
ومن مصاديق تقييد البيت بأنه بيت الله حفظ المسلمين للمقام، وحرصهم على طهارته وسلامته، وإبعاد أسباب الرجس والنجاسة عنه.
الرابعة: جاء النبي محمد يوم الفتح إلى البيت الحرام فَطَافَ بَهْ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِ( ) فِي يَدِهِ)( )، فلما فرغ من طوافه دخل الكعبة(رَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ فَرَأَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مُصَوّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ثُمّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصّوَرِ كُلّهَا فَطُمِسَتْ)( ).
صلة آية البحث بــ(ومن دخله كان آمنا) وفيها مسائل:
الأولى: تتولى(خير أمة) سلامة من دخل البيت الحرام وأن كان صاحب جناية وهذه التولية ليس إجتهاداً بل هي نص وحكم تتقيد به(خير أمة) من مصاديق الحكم في المقام قوله تعالى أعلاه الذي يخبر عن الأمن والسلامة للذي يدخل البيت الحرام، فإن قلت إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر يوم فتح مكة بقتل خمسة(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ عَهِدَ إلَى أُمَرَائِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكّةَ ، أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلّا مَنْ قَاتَلَهُمْ إلّا أَنّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمّاهُمْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ)( )، والذي أمر النبي بقتلهم هم:
الأول: عبد الله بن سعد، وكان قد أسلم، وقام بكتابة الوحي لرسول الله، فإرتد مشركاً، ورجع إلى قريش، وفي يوم الفتح ذهب إلى عثمان بن عفان وهو أخوه من الرضاعة،(فَغَيّبَهُ حَتّى أَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ أَنْ اطْمَأَنّ النّاسُ وَأَهْلُ مَكّةَ ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَمَتَ طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ نَعَمْ ؟ فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُ عُثْمَانُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَقَدْ صَمَتّ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : فَهَلّا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ إنّ النّبِيّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ . قَالَ ابن هِشَامٍ : ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَوَلّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ أَعْمَالِهِ ثُمّ وَلّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بَعْدَ عُمَرَ)( ).
الثاني: عبد الله بن خطل، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثه مصدّقاً وكان معه مولى فأمره بذبح تيس، ليصنع له طعاماً، ونام وعندما إستيقظ لم يجد المولى عمل الطعام فقتله وإرتد مشركاً , وقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو بزرة الأسلمي.
الثالث، والرابع: قينتان لعبد الله بن خطل، كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقتلت أحداهما، وهربت الأخرى حتى أستؤمن لها رسول الله، فآمنها.
الخامس: الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان ممن يؤذي رسول الله في مكة، ونخس بإبنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وأم كلثوم عندما توجهتا إلى المدينة فرمى بهما إلى الأرض، وقتله الإمام علي ابن أبي طالب.
السادس: مقيس بن حبابة، وأمر النبي بقتله لأمرين:
الأول: قتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، وفي قتل الخطأ الدية وليس القصاص.
الثاني: إرتداده مشركاً، وقتله نميلة بن عبد الله، رجل من قومه.
السابع: عكرمة بن أبي جهل، وهرب بعد الفتح، وأسلمت إمرأته (فأستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فآمنه، فخرجت في طلبه إلى اليمن، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب، وأستؤمن لها فآمنها.
فيكون مجموع الذين قتلوا أربعة، فإن قلت إذا كان البيت أمن فكيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل هؤلاء، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، الجواب من وجوه:
الأول: أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتلهم بأي حال وعدم التردد في الإجهاز عليهم, وسنة النبي حجة.
الثاني: عظم الجريمة والجناية التي قاموا بها في التعدي على الإسلام والنبوة.
الثالث: قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته يوم فتح مكة(ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرامٌ بحرمة الله، لم تحل لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ كائنٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من النهار)( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn