معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 77

المقدمة
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار هداية وإيمان، وملأها بالبينات والدلالات على وجوب عبادته والإستعانة به في كل أفراد الزمان قال سبحانه [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
لتكون الحجة على الناس بالغة وعظيمة، ومتعددة في ذاتها وموضوعها وأحكامها، فذات الإنسان آيات من عند الله , ويدرك الناس تلك الآيات ويقرون بأنها من عند الله عز وجل , ويجب مقابلتها بالإيمان , وهو من تلك الآيات لشمولها للعقائد الحق ، ويؤثر ويتأثر بها .
لقد نفخ الله عز وجل في آدم من روحه كي يؤمن الإنسان بربه وخالقه، ويتلقى الآيات بالتصديق، ويجعلها موعظة وعبرة له في حياته، وضياء ينير له دروب الرشاد والصلاح، وباعثاً للجوء إلى القرآن ومعرفة الواجبات وإتيانها، والمحرمات وإجتنابها، وهي أمور من خصائص الخلافة في الأرض، وعمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ويتضمن هذا الجزء صلة سبع آيات من سورة آل عمران( )، بآية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والمسائل الإعجازية، والنكات البلاغية، والحكم العقائدية المترشحة عن الجمع بينها.
وفيه دعوة لإلتماس مصاديق من فضل الله عز وجل في العلوم التي بين الدفتين مما يمكن للعقل الإنساني إكتشافها وقراءتها وتوظيفها في تثبيت المسلمين في مراتب الإيمان، وحث الناس على الإيمان، وإختيار أسباب الصلاح، والسعي لبلوغ مراتب الكمال الممكن بهدي القرآن والسنة.
وجاءت أكثر آيات هذا الجزء خطاباً لأهل الكتاب، وإخباراً عن بقائهم على ديانتهم , وفيها دعوة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي شاهد على صدق نبوته، وسعي فريق منهم للإضرار بالمسلمين , والذي يدل في مفهومه على أن أكثر أهل الكتاب لا يسعون للإضرار بالمسلمين , وفي التنزيل [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
وفيها تذكير لأهل الكتاب بوظائفهم بنصرته، وإجتناب تحريض وإعانة الكفار عليه وعلى المسلمين ، قال تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
فجاء التحذير والإنذار لأهل الكتاب عامة وطائفة منهم خاصة تود إرتداد المسلمين , ليتعاهدوا عملياً المنزلة التي تذكرها لهم الآية أعلاه , وللإنتفاع الأمثل من فضل الله عز وجل بكل آية من آيات القرآن، وما فيها من البعث على الإيمان والهداية والصلاح،وما يصاحبها من البشارة .
وإنفردت هذه الآيات بذكر لفظ (أهل الكتاب) في أربع آيات منها ثلاثة متتاليات منها وهي :
الأولى : [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( ).
الثانية : [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ).
الرابعة : [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
كما ذكرتهم آيات أخرى منها بالفعل أو أخبرت عن قولهم وبيان صفاتهم وإنذارهم.
وفيه شاهد على الصبر الجميل الذي يتحلى به المسلمون، ويجب عليهم الإقامة عليه مع حسن السمت والرفق مع أهل الكتاب , وتعاهده في التبليغ والموعظة، وإختصاص أهل الكتاب بصيغ من اللطف في المعاملة والجدال بالجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو إتباع الكتاب السماوي، ولزوم العمل بمضامينه بإظهار الإيمان والتصديق بالنبوة والترغيب بالتقوى، والخشية من الله[فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( )، مع اجتناب الإرهاب وأسباب العداوة .

صلة آية [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
يفيد الجمع بين الآيتين إستحقاق المسلمين لنيل مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) فقد نزل الكتاب على أنبياء سابقين، فقام فريق من الناس بنقض العهود والمواثيق طمعاً في حطام الدنيا، وربح زائل، أما المسلمون فإنهم تعاهدوا كتاب الله، وحفظوه ومواثيقه من الضياع، وحرصوا على عدم تبديل كلمة واحدة منه بفضل ومدد من الله عز وجل.
الحث على التأخي من فضل الله على المسلمين أن آيات القرآن جاءت بحث المسلمين على الأخوة والمحبة والتمسك بالقرآن والسنة، ويمكن القول أن كل آية من آياته تبعث على هذه المقاصد السامية، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، وفيه شاهد على أن المسلمين متآخون متعاضدون في الله ومن الله، فليس فيهم من يبدل كلام الله، أو يحرف أحكام الحلال والحرام , ليكون من معاني قوله تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ) التسابق في مصاديق الأخوة بالبذل والإيثار والمودة والعفو , قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) ومن خصائصها عدم إستطاعة الطائفة والجماعة والأشخاص التغيير والتبديل في الأحكام، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين في أيامهم ومستقبل ذراريهم والأجيال اللاحقة منهم، وليس من أمة غير المسلمين تأتيها البشارة بسلامة كتابها وأحكامها من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة.
وإذ جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] فإنه سبحانه أخبر عن حصول التحريف في كتب سابقة لتصاحبها هذه الصفة والعنوان، لتكون على وجوه:
الأول : فيه حجة على الذين قاموا بتحريف الكتاب والذين إتبعوهم في ذات الموضوع، وتلقوا التحريف وكأنه من التنزيل، وتلك آية في الحجة السماوية التي يقوم بحمل أعبائها المسلمون، إذ أنها جهاد وباب للتضحية وتلقي الأذى لما فيها من التحدي والجرح لأهل التحريف مع ما لهم من الشأن بين الناس.
وهذا الجهاد من خصائص(خير أمة) لاسيما وأنه مستمر زماناً ومكاناً، وليس فيه فترة وتوقف، وكيف تكون هناك فترة والمسلمون يتلون كل يوم آية السياق[الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً] وما في هذه التلاوة وموضوعها من الذم والتقبيح لأهل التحريف ومن الذين يزاولون الفعل القبيح لا يرضى أن يقال له إن مقالك هذا غير صحيح.
الثاني: فيه تحذير للناس، وهذا التحذير مركب من جهات:
الأولى : ذات التحريف والتغيير في كتب وصحف سابقة، ولزوم إجتنابه، وفيه أمور:
الأول: تفقه المسلمين في أسرار التنزيل.
الثاني: دعوة المسلمين لبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، وإرادة الإطلاق فيه، وشموله عموم أجيال المسلمين بالخطاب بالتبعية والإلحاق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذا الحديث وتكراره شاهد على لزوم إجتناب الإرهاب والإضرار بالنفس والغير, ولا يجلب الإرهاب لإهله إلا الأذى والندامة .
الثالث: التدبر في آيات القرآن وما فيها من الدلالات على صدق نزوله من عند الله، قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثانية: التحذير من كفار قريش أهل التحريف، ولزوم عدم الإصغاء لهم في ذكر صفات نبي آخر الزمان، فقد بعث الله النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات والشواهد والحجج الدالة على صدق نبوته، وإشراقة المصداق العملي لتلك البشارات على الأرض والنفوس.
الثالثة : الزجر عن التصديق لآثار التحريف ومفاهيم الضلالة والشك التي تكون غشاوة دون التدبر في الآيات والمعجزات، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ] ( ).
الرابعة: التحذير من البدل والعوض الذي يؤخذ لقاء التحريف ونقض العهود، وفيه توكيد لقبحه وأنه سحت , قال تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
الثالث: تحذير المسلمين والمسلمات من أرباب التحريف، وكل آية في القرآن هي تحذير من الأعداء سواء في مفهومها أو منطوقها، ودعوة للجدال والإحتجاج بالحق والبيان.
ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) إمتلاك البرهان والدليل على حسن إختيارهم، ومعرفة كيفية إفهام خصمهم بالحجة التي جعلها الله عز وجل قريبة منهم إذ تتجلى بآيات القرآن، وما فيه من الدلالات الباهرات , قال تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) وتدل الآية في مفهومها على حرمة الإرهاب لأهل الكتاب وفي دولهم .
فجاءت آية السياق لبيان حقيقة وهي أن علة تخلف فريق من أهل الكتاب عن وظائفهم هو النفع القليل الزائل لقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً]( )، وتتجلى آيات التحذير منهم في ذات الآية الكريمة.

من وظائف خير أمة
بيان وظائف [خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) في فضح التفريط بالعهود، وأضرار عدم التقيد بالحلف واليمين ، وفي هذه الوظيفة أمور:
الأول: إنها جهاد في سبيل الله , وتنظيم لشعائر الله عز وجل , وفي التنزيل [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثاني: فيها إصلاح للمجتمعات.
الثالث: هي برزخ دون تمادي الظالمين في غيهم وتعديهم على الإسلام والمسلمين.
الرابع: فيها شاهد على أن الإسلام إنتشر بالحكمة والجدال بالحجة والبرهان , وفي التنزيل [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
الخامس: دفع اللبس والوهم عن الناس، ومنهم الذين يفرطون بالعهود والمواثيق، سواء المقصودة في آية السياق أو مطلقاً , وكان هذا التفريط عن عمد أو عن سهو ونسيان .
السادس: إنذار الذين ينقضون العهود، ودعوة المسلمين لعدم الإطمئنان إلى عهدهم من غير الإضرار بهم , قال تعالى[أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ]( ).
وهو من إعجاز القرآن من وجوه:
الأول: تأتي الآية في موضوع على نحو التعيين ولكن مضامينها أعم وأوسع.
الثاني: تنبيه الناس إلى لزوم حفظ العهود والمواثيق.
الثالث: حث أهل الكتاب على بيان بشارات الأنبياء السابقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم نصرته، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
صلة[إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ]بهذه الآية
لقد ذكرت آية البحث أن المسلمين آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر بقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
وتلك صفة كريمة مصاحبة لهم إلى يوم القيامة، ولا ينحصر موضوعها بعالم الأقوال والأفعال بل تشمل العقائد وعلم الكلام ومسائل الإحتجاج والجدال، ومنها تثبيت العهود والمواثيق التي أعطاها الناس لله عز وجل منها:
الأول: الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل كما في قوله تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
الثاني: وجوب عبادة الله سبحانه , وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث: إجتناب المعصية , وفي التنزيل [وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
و(عن أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
قلنا : بلى يا رسول الله .
قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وقول الزور .
ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)( ).
لقد نعتت آية البحث المسلمين بأنهم مؤمنون بالله عز وجل، وفيه بلحاظ آية السياق أمور:
الأول: يحافظ المؤمنون بالله عز وجل بقوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ) وهو شهادة وثناء من عند الله عز وجل ، وفي التنزيل [فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ) على عهد الله، ولا ينقضون الأيمان، ولا يشترون بها ثمناً من طعام الدنيا.
الثاني: لقد خلق الله عز وجل الناس لعمارة الأرض بالعبادة، وإستنزال الرزق بالوفاء بالعهود والذكر والدعاء، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فقامت طوائف بالتفريط بوظائفها، فبعث الله عز وجل الأنبياء مبشرين ومنذرين للناس بصيغة الإيمان بالله ليكون الوفاء بعهد الله فرع الإيمان، وشاهداً عليه .
وعن (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا شخص أحب إليه العذر من الله ولذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، ولا شخص أحب إليه المدح من الله ولذلك وعد الجنة) ( ).
ومن الجامع المشترك بين الأنبياء تعاهد العهود والحث على حفظها ، والتقيد بها ، ولوم الذي يقوم بنقضها .
الثالث: دعوة للناس للرجوع إلى المؤمنين، والإنصات لهم، والإعراض عن الذين ينقضون العهود والمواثيق.
الرابع: التوكيد العملي لقانون ثابت في الأرض وهو أن المؤمنين بالله لاينقضون عهد الله، ولا يفرطون في إيمانهم وأيمانهم.
وفيه منع من دبيب اليأس والقنوط إلى نفوس الناس، فلابد من وجود أمة تؤمن بالله، وتتصف بالوفاء بالعهد والميثاق الإلهي، وهذا الوفاء جزء من عبادتهم لله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من مصاديق الإخلاص في العبادة ، وفي التنزيل [وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( )وفي التنزيل [لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] ( ).
الثانية: فيه حجة على الناس , وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثالث: إنه درس تأديبي للمسلمين والناس , وفي حديث ضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أدبنى ربى فأحسن تأديبى) ( ).
(وقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا( ) ؟
قال: (كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظتها).
رواه أبو نعيم والبيهقي.
وقالت برة بنت عامر الثقفية سيدة نساء قومها لإخوتها: يا بني عامر أفيكم من أبصر محدا صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقالوا: كلنا قد رأينا أيام الموسم.
فقالت: أفيكم من سمعه يتكلم ؟
قالوا: نعم.
فقالت: كيف هو في فصاحته ؟
قالوا: يا أختاه إن أقبح مثالب العرب الكذب، أما فصاحته فما ولدت العرب فيما مضى ولا تلد فيما بقى أفصح منه ولا أذرب منه إذا تكلم يعجز اللبيب كلامه ويخرس الخطيب خطابه.
رواه أبو الحسن أحمد بن عبد الله محمد البكري في كتابه (أنس الواحش وري العاطش).
وقال محمد بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيدالك الرجل امرأته ؟
قال: نعم.
إذا كان ملقحا.
فقال له أبو بكر: يا رسول الله لقد طفت في العرب وسمعت فصاحهم فما سمعت أفصح منك.
فقال: (أدبني ربي ونشأت في بني سعد بن بكر).
رواه ابن عساكر.
دالكه: ماطله.
ملقحا – بضم الميم وفتح القاف اسم فاعل من ألقح الرجل فهو ملقح إذا كان فقيرا.
وهو غير مقيس.
قاله في القاموس.
وقال غيره: معناه أيداعب الرجل امرأته يعني قبل الجماع وسماه مطلا لكون غرضها الجماع .
قال: إذا كان عاجزا فيكون ذلك محركا لشهوته ولعجزه يسمى مفلسا.
وقال زكريا بن يحيى بن يزيد السعدي رحمه الله تعالى: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أعرب العرب ولدت في قريش ونشأت في بني سعد فأنى يأتيني اللحن).
رواه ابن سعد.
وقال بريدة : (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفصح الناس وكان يتكلم بالكلام لا يدرون ما هو حتى يخبرهم) رواه أبو الحسن بن الضحاك وابن الجوزي.
[ معرفته صلى الله عليه وآله وسلم بلهجات العرب ] وليس كلامه صلى الله عليه وآله وسلم مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع غيرهم، فانظر دعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم لبني نهد وقد وفدوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم في جملة الوفود فقام طهفة به رهم النهدي يشكو الجدب .
فقال: أتيناك يا رسول الله من غور تهامة بأكوار الميس ترتمي بها العيس، نستحلب الصبير، ونستجلب الخبير ونستعضد البرير، ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام، من أرض غائلة النطاء، غليظة الوطاء، قدنشف المدهن ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن، والعنن، وما يحدث به الزمن، لنا دعوة السلام.
وشريعة الإسلام، ما طما البحر، وقام يعار، وكنا نعم همل أغفال.
ما تبل ببلال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها.
وابعث رعاتها في الدثر بيانع الثمر وافجر لهم الثمد، وبارك لهم في المال والولد، من أقام الصلاة، كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا، لكم يا بني
نهد ودائع الشرك ووضائع الملك لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة ولا تثاقل عن الصلاة).
ثم كتب معهم كتابا إلى بني نهد: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد: الإسلام على من آمن بالله عزوجل ورسوله.
لكم يا بني نهد في الوظيفة
الفريضة ولكم الفارض والفريش.
وذو العنان الركوب والفلق الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم، ما لم تضمروا الرماق.
وفي لفظ: الأرماق.
وتأكلوا الرباق من أقر بما في هذا الكتاب، فله من الله الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة)( ).
الرابع: إنه إرشاد لسبل الهداية , والخلق الحميد , وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً الموطؤن أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون ، وأبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأخوان الملتمسون للبراء العنت)( ).
الخامس: فيه تبكيت للذين ينقضون المواثيق.
السادس: إنه شاهد على قدرة [خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) مجتمعة ومتفرقة على حفظ المواثيق، وعدم التفريط فيها.
صلة[أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى : التباين في الآخرة بين ثواب المؤمنين والجاحدين .
الثانية : بيان قانون وهو أن كلاً من آيات البشارة والإنذار تذّكر بالآخرة.
الثالثة : تدل آية السياق في مفهومها على فوز المسلمين يوم القيامة بالنصيب الأوفر والثواب العظيم لوجوه:
الأول: التباين والتضاد بين المسلمين وبين الذين ينقضون عهد الله في الحياة الدنيا إذ يتقيد المسلمون بأحكام العهود والمواثيق.
الثاني: تبين آية السياق حرمان الكفار من الحظ والنصيب يوم القيامة بسبب نقضهم العهود والأيمان، بينما يتعاهد المسلمون المواثيق والعهود مما يدل على نيل المسلمين المراتب العالية في الآخرة [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( )، ونقض العهود والمواثيق من الظلم للنفس والغير.
الثالث: يتولى المسلمون إنذار الكفار والذين ينقضون العهود، وهو سبب للإحتراز من نقض العهود، ليكون المسلمون أسوة للناس.
الرابعة : بيان النفع العظيم للناس بخروج المسلمين لهم، فمع أن المسلمين أحرزوا الفوز في الآخرة، فإنهم يجاهدون لجعل أهل الكتاب والناس عموماً يتقيدون بالعهود، ويحرصون على عدم نقضها، وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على رحمة المسلمين بالناس.
الثانية: فيه دعوة للناس للصلاح والنجاة يوم القيامة من العذاب الأليم.
الثالثة: إنه مصداق لكون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ] وبيان حقيقة خروجهم للناس بأسباب الهداية ومقدمات النجاة في الآخرة.
وجهاد وحرص المسلمين هذا من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في الرد على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، إذ أن الله عز وجل يعلم بأن المسلمين سيخرجون للناس يدعونهم إلى الوفاء بالعهود والمواثيق، وأهمها الإقرار بالعبودية لله عز وجل .
وهذا الإقرار برزخ دون الفساد والقتل بغير حق وهو موضوع إحتجاج الملائكة.
صلة[بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( )، بهذه الآية
من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )الوفاء بالعهد ومنه أداء الفرائض وتعاهد بنود الصلح والموادعة والسلم مع الناس .
والعهد اسم جنس تدخل تحته مصاديق كثيرة، وأعظمها عهد الله بلزوم عبادته وطاعته والخشية منه.
وقد فاز المسلمون بهذه المرتبة، وما فيها من الثواب العظيم، ليكونوا أسوة حسنة للناس، وحجة عليهم.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا ظرفاً زمانياً ومكانياً لنزول رحمته، وتفضل وهدى الناس لأسباب الفوز برحمته، ومنها أمور ذكرتها آية السياق وهي:
الأول: الوفاء بالعهد، والتقيد بالميثاق.
الثاني: الخشية من الله وتقواه، وهو من أبهى وجوه الوفاء بالعهد , قال تعالى[وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الثالث: حب الله عز وجل للذين يخشونه ،ومن إعجاز القرآن قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ] ( )ورد بخصوص لزوم وفاء المسلمين للمشركين بعهدهم ومدته ، كما في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
وجاءت آية البحث لتؤكد أن المسلمين هم الذين يوفون بالعهود, قال تعالى في بعث المسلمين على الصالحات[وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا]( ).
ليفوز المسلمون بالخطاب التشريفي السماوي [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] ليكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يوفون بالعهود هم خير أمة.
الصغرى: المسلمون هم الذين يوفون بالعهود.
النتيجة: المسلمون هم خير أمة.
فإن قلت كيف وفّى المسلمون بعهودهم، فالجواب من وجوه:
الأول: يقر المسلمون والمسلمات بالتوحيد.
الثاني: يصدّق المسلمون بالنبوات على نحو العموم الإستغراقي.
الثالث: يقيم المسلمون الفرائض ومنها الصلاة اليومية التي تكون مصداقاً متجدداً في الليل والنهار على وفائهم بعهد الله.
الرابع: يتعاهد المسلمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى[الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الخامس : الوفاء بالعهد نبذ للقتال ومنع من المكر السئ .
السادس : العهد والصلح مناسبة لأداء المؤمنين بها دائم وتنشيط للأسواق .
وجاءت آيتا البحث والسياق مجتمعتين ومتفرقتين لتبعثا في نفس المقيم على المعاصي الحسرة على قبح فعله بنقض المواثيق وعدم الوفاء بالعهود، ولا يقف الأمر عند الحسرة.
الآية علم
لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإفشاء الأخلاق الحميدة، ومنها الوفاء بالعهد وما فيه من بعث للطمأنينة بين الناس، وتوجههم للتدبر في آيات الخلق والتكوين ومعجزات النبوة، وإدراك وظائف العبودية بأداء العبادات والطاعات.
لقد جعل الله عز وجل آيات القرآن مدرسة جامعة للمسلمين، يقتبسون منها العلوم المختلفة ومنها حاجة الناس إلى الوفاء بعهد الله، وتتعلق هذه الحاجة بأمور:
الأول: ذات العهد لما فيه من النفع للناس، إ ذ أن الله عز وجل غني عن العالمين ولا يحتاج وفاءهم بعهده، ولكنه سبحانه جعل العهد رحمة بالناس ، وفي التنزيل [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ] ( ).
الثاني: وفاء الناس بالعهد والميثاق، وهذا الوفاء حاجة للناس في الدنيا والآخرة، وتكون الحياة الدنيا معه حدائق ناضرة، ذات بهجة لما فيه من الأمن والسلامة والرضا.
الثالث: عبادة الله واجب على الناس جميعاً، وهي علة خلقهم وسبيل فوزهم، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
والوفاء بعهد الله من العبادة، وكذا العبادة من عهد الله عز وجل.
وهل يعني هذا الدور بينهما , وأن أحدهما متوقف على الآخر، الجواب لا، لأن الأمر ليس إنشاء وتأسيساً، بل هو من فضل الله عز وجل، وتعدد أسباب ومصاديق رحمته، وليكون كل منهما عوناً في أداء الآخر والتقيد بأفراده في سفر الحياة الدنيا، وما فيه من الإبتلاء والإختبار.
ومن الآيات مجيء الوفاء بالعهد بصيغة الجملة الخبرية كما في آية السياق، وبصيغة الجملة الإنشائية ولغة الأمر، قال تعالى[أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ]( ).
لقد أدرك الله عز وجل للناس الإرتقاء في المعارف ، فأول ما دبّت الروح في آدم علّمه الله عز وجل الأسماء قبلاً من غير واسطة، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).

صلة(وَاتَّقَى) ( ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسالة الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين موضوعية التقوى والخشية من الله في نيل المراتب العالية، وفوز المسلمين بها بإخلاصهم الطاعة لله عز وجل، وإظهارهم الخشوع والخضوع له سبحانه وورد لفظ [وَاتَّقَى] من القرآن :
الأولى : آية السياق وهي الآية (76) من سورة آل عمران .
الثانية : قوله تعالى [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى] ( ).
وجاءت آية السياق بإقتران الوفاء بالعهد بالتقوى والخشية من الله، وفيه شاهد بأن(خير أمة) تجمع بين الأمرين.
وبين الوفاء بالعهد والتقوى عموم وخصوص مطلق، فالوفاء بالعهد جزء من التقوى، قال تعالى[الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ]( ).
ومن خصائص(خير أمة) أنها تتقي الله وتدعو إلى تقواه وكل من الأمرين من خروج المسلمين للناس، أي أن وظيفة المسلمين مركبة ومتعددة لإصلاح الذات والغير لذا نالوا مرتبة(خير أمة) وتتجلى الدعوة إلى التقوى من وجوه:
الأول: المسلمون أسوة حسنة للناس في التقوى، والخشية من الله، والإنقطاع إلى العبادات وأداء الفرائض .
روي بالإسناد أنه جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أريد هذه الناحية الحج قال: فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال : يا غلام، زودك الله التقوى، ووجهك الخير، وكفاك الهم)( ).
الثاني: صبر المسلمين في جنب الله، وتحملهم الأذى، وتلقيهم الضرر من أهل الضلالة والجحود في طاعة الله.
الثالث: تلاوة المسلمين لهذه الآيات التي تحث على التقوى والخشية من الله.
الرابع: تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قربة إلى الله عز وجل، وهو من أبهى مصاديق التقوى والدعوة إليها عَنْ أَنَسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِى) ( ).
الخامس: تخاطب آية البحث المسلمين بصفة الإيمان(وتؤمنون بالله) لبيان علة إختيارهم لمنزلة (خير أمة) والإيمان بذاته تقوى وخشية من الله عز وجل، وباعث على فعل الصالحات.
السادس: بيان المسلمين لحاجة أهل الكتاب والناس للإيمان بنص آيات القرآن، أي أن الأمر ليس إستنتاجاً وإجتهاداً من المسلمين، فهم يتلون آيات القرآن وما فيها من الأحكام.
المسألة الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين توكيد منافع التقوى ومنها الفوز بحب الله للمتقين .
ومن مصاديق هذا الحب نيل المسلمين لمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) والهداية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيه من جني الصالحات، وتهذيب النفوس وعالم الأفعال فلا تتقوم هذه المرتبة إلا بتقوى الله والدعوة إليها، أي حتى مع الوصول إلى منازل[خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) بالتقوى فلابد من الإجتهاد في تقوى الله ودعوة الناس للتقيد بسننها.
(عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقِ الله حيثما كنت ، وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها ، وخالقِ الناس بخلق حسن) ( ).
ليكون كلاً من هذا الإجتهاد والتقيد بالسنن سبيلاً لتعاهد منزلة(خير أمة) وأي من الوجوه الآتية أكثر أهمية وحاجة للسعي:
الأول: نيل مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) وبلوغ مراتبها.
الثاني: تعاهد منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) والحفاظ عليها وعدم مغادرتها، كما في قوله تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( )، بلحاظ أن الصلاة ذاتها تقوى، وتترشح عنها خشية وخوف من الله في القول والفعل ، والحفاظ على صفة التقوى يستلزم تعاهد مصاديقها وأفرادها.
الثالث: دعوة الناس إلى منازل التقوى والخشية من الله، وحث الناس على بلوغ مراتبها، وبيان منافعها بما يبعث على الشوق إليها، وتحمل وطأة التكاليف بقبول ورضا.
الجواب كل فرد من هذه الوجوه ذو أهمية خاصة، وله موضوعية في نيل المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) والمحافظة عليها، لذا فمن أسرار ورود آية البحث بصيغة الفعل الماضي(كنتم) هو بعث المسلمين لتعاهد هذه المنزلة، وتجديد السعي للحفاظ عليها بالتقوى والوفاء بالعهود.
وعن عدي بن حاتم الطائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى تِقَاءَهَا فَلْيَأْتِ التَّقْوَى) ( ) .
فإذا وجد ما هو أحسن وأنفع يأخذ به ولا يحجبه اليمين الذي حلفه , والحلف واليمين بمعنى واحد , أي كان الرجل يأخذ بيمين صاحبه عند اليمين لتأكيد القول والحلف .
فالخطاب التكليفي في المقام إنحلالي يتوجه لكل مسلم ومسلمة بلزوم الحفاظ على منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) بالتقوى.
الثالث : لقد أراد الله عز وجل تزيين الحياة الدنيا بالتقوى لتكون ضياء وطريق هدى ورشاد، فبعث الله الأنبياء بسلاح التقوى، فهم أئمة الناس في سبل الخشية من الله، والإجتهاد في طاعته وطلب مرضاته والحجة على العباد في لزوم إتخاذ تقوى الله منهجاً في العبادات والمعاملات والأحكام، وهم قادة الأمم للنجاة في النشأتين قال تعالى[وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ]( ).

الدنيا دعاء للتقوى
لقد جعل الله عز وجل الدار الدنيا وعاء ومناسبة للتقوى والخشية منه، ورغبّ في التقوى وجعلها الزاد والواقية في النشأتين، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ) .
والتقوى اسم للفعل اتقى , ومعناه خشي وخاف خوفاً معتبراً , والتقوى في الإصطلاح العمل بطاعة الله عز وجل واجتناب ما حرمه , إيماناً واحتساباً , ورجاء الثواب , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ] ( ) وهناك مسائل :
الأولى : تحتمل دعوة المسلمين الناس بلحاظ آية السياق وجوهاً:
الأول: الدعوة للوفاء بعهد الله والمواثيق.
الثاني: الندب إلى تقوى الله والخشية منه في السر والعلانية.
الثالث: المعنى الجامع، وهو الدعوة والأمر بالوفاء بالعهود وتقوى الله.
والصحيح هو الثالث، وفيه شاهد على أمور:
الأول: جهاد المسلمين في سبيل الله عز وجل بالكلمة الطيبة والحجة والبرهان , قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
الثاني: إصلاح النفوس والمجتمعات.
الثالث: جذب الناس إلى منازل التقوى، فقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( )، حث للمسلمين على أمور:
الأول: بذل الوسع في بالموعظة والدليل لدعوة الناس جميعاً للإيمان بلغة التقوى , و(عن النضر بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن عبداً بكى في أمة من الأمم ، لأنجى الله تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد؛
وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة ، فإنها تطفئ بحوراً من النار.
وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله ، إلا حرم الله جسدها على النار ، وإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة)( ).
الثاني: التصديق واليقين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم اليأس , وإحتمال إنقضاء صدودهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذا الصدود متزلزل لا يصمد عند شطر منهم في حال توالي البراهين، والحث على تقوى الله، والتذكير بعهد الله ولزوم التقيد به .
الثالث : وجوب تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثانية : من أسرار الحياة الدنيا أن كل قول وفعل مناسبة للتقوى فينهل الناس من الصالحات بقصد القربة سواء في الواجبات أو المستحبات أو المباحات أو باجتناب المحرمات لأن الإجتناب عمل وجودي وليس عدمياً , وقيل سبب نزول قوله تعالى [وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ]( ) هم كل من :
الأول : سلمان الفارسي .
الثاني : أبو ذر الغفاري .
الثالث : زيد بن عمرو بن نفيل ( ).
و(عن ابن عباس قال : لما ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإِنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي حدثان ذلك ، فظهر الجن والإِنس على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه عنا ، فأخذوه فجعلوه ديناً ، فأنزل الله { واتبعوا ما تتلوا الشياطين }( ) أي الشهوات التي كانت الشياطين تتلو ، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله) ( ).
الثالثة : تتجلى مصاديق التقوى في الآية محل البحث من وجوه:
الأول: نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) فلم يبلغوها إلا بتقوى الله، والخشية منه سبحانه، وفيه دلالة على أن المسلمين أفضل الأمم تقيداً بسنن التقوى، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة أكثر الناس تقوى.
الصغرى: المسلمون أكثر الناس تقوى.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الثاني: جاءت آيات القرآن بحث الناس جميعاً على التقوى قال سبحانه[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] ليبادر المسلمون إلى طاعة الله، والإمتثال لأمره بالتحلي بالتقوى .
ولم يكتفوا بأنفسهم بل خرجوا للناس بلباس التقوى، وحث الناس على الخشية من الله عز وجل، وقيل(أن داود عليه السلام قال : سبحانك!
تعاليت فوق عرشك ، وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض ، فأقرب خلقك إليك أشدهم لك خشية ، وما علم من لم يخشك، وما حكمة من لم يطع أمرك)( ) .
ليكون المائز بين المسلمين وبين غيرهم متعدداً، إلا أنه ليس ثابتاً من طرف الغير لإمكان لحوقهم بالمسلمين بطرفة عين، حيث يقذف الله الإيمان في صدورهم وتزول الغشاوة عن أبصارهم، ويبادرون إلى دخول الإسلام في كل زمان لتجلي الآيات والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل تنحصر السكينة بالمسلمين بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها شاملة، وكانت تتغشى المؤمنين من الأمم السابقة.
الجواب هو الثاني، وفيه مسائل :
الأولى : إنه هو من مصاديق ورشحات بشارات الكتب السماوية السابقة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إنه أسباب دعوة آية السياق الناس للوفاء بعهد الله بلحاظ أن التصديق بنبوته.
الثالثة : بيان مسألة وهي عدم تحريف البشارات من مصاديق عهد الله، ومضامين السكينة التي كانت نعمة وفيضاً على أنصار وأتباع الأنبياء قبل أن تشرق على الأرض آيات القرآن.
و(وأخرج أحمد عن أبي الجلد قال : قرأت في مساءلة داود عليه السلام أنه قال : إلهي ما جزاء من يعزي الحزين المصاب ابتغاء مرضاتك؟
قال : جزاؤه أن أكسوه رداء من أردية الإِيمان أستره به من النار ، وأدخله الجنة .
قال : إلهي فما جزاء من شيع الجنازة ابتغاء مرضاتك؟
قال : جزاؤه أن تشيعه الملائكة يوم يموت إلى قبره ، وإن أصلي على روحه في الأرواح .
قال : إلهي فما جزاء من أسند اليتيم والأرملة ابتغاء مرضاتك؟
قال : جزاؤه أن أظله في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي قال : إلهي فما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟
قال : جزاؤه إن أحرم وجهه على النار ، وأن أؤمنه يوم الفزع الأكبر .
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن أبزى قال : قال داود عليه السلام لسليمان : كن لليتيم كالأب الرحيم ، وأعلم أنك كما تزرع تحصد ، واعلم أن خطيئة [ أمام ] القوم كالمسيء عند رأس الميت ، واعلم أن المرأة الصالحة لأهلها كالملك المتوّج المخوّص بالذهب ، واعلم أن المرأة السوء لأهلها كالشيخ الضعيف على ظهره الحمل الثقيل ، وما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى ، وإن وعدت صاحبك فانجز ما وعدته، فإنك إن لا تفعل تورث بينك وبينه عداوة ، ونعوذ بالله من صاحب إذا ذكرت لم يعنك ، وإذا نسيت لم يذكرك) ( ).
ولو قام فريق من أبنائهم بتحريف البشارات فهل فيه عقوق وخيبة أمل لهم.
الجواب أما العقوق فنعم، وأما خيبة الأمل فلا، لأن الله عز وجل جعل المعجزات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أمته أكثر الأمم وخيرها، وهي دائبة في دعوة الناس إلى الإسلام.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً) ( ).
فلم يتوقف نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إقرار هؤلاء بالبشارات، وتصديقهم بالمعجزات، بل جعل الله عز وجل أمة عظيمة من الناس وفي كل زمان تتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وتحمل لواء التقوى ليكون على وجوه:
الأول: إنه دليل على صدق نبوته , قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثاني: إنه شاهد على وجوب إتباعه .
الثالث : فيه حجة على الناس , قال تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
الرابع: يقوم المسلمون بتبليغ الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمنع من تحريفها ومحاولة محوها عقلية كانت أو حسية, قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).

صلة (فإن الله يحب المتقين) بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى : يفيــد الجـــمع بين الآيتين بشـــارة المســــلمين بالفوز بحب الله عز وجل لهم، لبلوغهم بفضله مرتبة التقوى، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( )، وهو لا يتعارض مع بعث المسلمين لحب الله لهم وإستدامة هذا الحب بالإقامة على الصالحات وإقتناء الحسنات.
المسألة الثانية : من خصائص(خير أمة) السعي لبلوغ المراتب التي تجعلهم ينالون حب الله عز وجل لهم، وقد جاءت آية السياق بالإخبار بأن الله يحب المتقين على نحو التعيين ووردت آيات بحب الله عز وجل المحسنين والمتوكلين عليه سبحانه , قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( )
وفيه ترغيب للمسلمين بالتقوى، والحرص على خشية الله، ترى لماذا يحب الله المتقين، الجواب من وجوه:
الأول: لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته وعمارة الأرض بذكره، لتكون روضة يشع منها ضياء الإيمان إلى الكواكب والأفلاك الأخرى , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
عن ابن عباس المساجد بيوت الله في الأرض وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض) ( ).
الثاني: تقوى الله شاهد على الطاعة وحسن السمت والإجتهاد في مرضاة الله عز وجل.
الثالث: من أهم مصاديق التقوى إتيان الواجبات وترك المحرمات.
الرابع: تقوى الله سبب لنزول الرزق الكريم، والفضل العظيم على الذات والغير، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ) أي أن التقوى تنفع صاحبها، وتترشح منافعها على غيره، كما يتجلى في آية البحث إذ تقوم خير أمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليصغي الناس للمسلمين، فيقتبسون منهم ألف باء التقوى، وسننها الحميدة.
الخامس: التقوى طريق مباركة لدخول الجنة، وبرزخ وواقية من النار، قال تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
السادس: تقوى الله علة لجلب النصر، ودفع الهزيمة والخسارة عن المؤمنين، وتلك آية من بديع صنع الله وقانون ثابت في الأرض، لدوام ذكره تعالى وإصلاح الناس قال سبحانه [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص معركة أحد إلا أنها تفيد موضوعية التقوى في تلقي المدد والعون الإلهي.
السابع: من التقوى بذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رجاء الصلاح، ودفع المفسدة.
الثامن: عندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فإن الله عز وجل قال[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فأقروا ببديع صنعه وحكمته في جعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، ومنها أنه تعالى يحب المتقين، وفيه بعث على التقوى والصلاح، وتوكيد لوجود أمة من المتقين والمختار أن سؤال الملائكة ليس إنكارياً إنما هو توسل لهداية الناس جميعاً .
المسألة الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين هم المتقون، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة هم المتقون.
الصغرى: المسلمون هم خير أمة.
النتيجة: المسلمون هم المتقون.
المسألة الرابعة : جاءت خاتمة آية السياق على نحو القانون والقاعدة الكلية فمن أراد الفوز بحب الله فعليه بخشيته وتقواه، لأن التقوى شاهد على المعرفة بالوظائف العبادية، وأداء التكاليف، وهو مصداق لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
المسألة الخامسة : يحتمل حب الله عز وجل المتقين وجوهاً:
الأول: حبهم في الحياة الدنيا والذي يتجلى بإجتبائهم لمرتبة (خير أمة) والتوفيق لأداء العبادات وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قربة إلى الله، والتقييد هنا بالقربة لخشية المسلمين من الله وحبهم له ولعباده بجذبهم إلى منازل الهداية والرشاد.
الثاني: إرادة عالم الآخرة، للثواب العظيم الذي أعدّه الله عز وجل لهم، قال سبحانه[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: المعنى الأعم وحب الله عز وجل للمتقين في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: إن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى.
الثالث: الملازمة بين التقوى وحب الله.
وفي الآية دلالة على قبول التوبة، وأن الله عز وجل يغفر الذنوب ويحب الذي يتوب توبة نصوحاً، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
المسألة السادسة : ليس من حصر لمصاديق تقوى الله، أو الميادين التي يحتاج فيها العبد التقوى، وتنفعه فيها، وهي ملكة نفسية وإعتقاد وعمل.
ويحتمل حب الله عز وجل في المقام وجوهاً:
الأول: إحراز مرتبة التقوى على نحو الموجبة الكلية.
الثاني: التحلي بسنن التقوى على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث: الإختيار والإنتقاء في مضامين التقوى، فتارة يكون الإنسان متقياً يخشى الله، وأخرى متجرأ في فعل المعاصي.
والصحيح هو الأول، فلابد من مصاحبة التقوى للمسلم في إعتقاده، وصيرورتها واقية له من إرتكاب الذنب بإستحضارها عند القول والفعل، وجعلها مادة للتدبر وإختيار الفعل المناسب، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ).
فمع التقوى يأمن الناس شره، ولا يصدر منه إلا الخير والصلاح، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما شاهدان على التقوى، ووسيلة للفوز بحب الله عز وجل.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين هم المتقون، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم المتقون.
الصغرى: المسلمون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
النتيجة: المسلمون هم المتقون.
ولا سبيل للفوز بحب الله عز وجل إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن خصائص[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) تلقي هذا الأمر والنهي بالقبول والرضا والإستجابة للحق، وهو من التقوى، لتكون التقوى في المقام كالقبول والإيجاب في المعاملات وإن كان قياساً مع الفارق فيأمر المسلم أخاه بالمعروف قربة إلى الله وخشية منه على نفسه وعلى أخيه، ويتلقى الأخ الأمر بالقبول والرضا خشية من الله، وحباً له ولأوامره، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
المسألة السابعة : جاءت آية السياق في نظم آيات تحث أهل الكتاب على الوفاء بالعهد، وتبين لهم منافع التقوى والخشية من الله، لتكون دعوة للناس للدخول في[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( )..
وفيه شاهد على رحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا، وأن نعمه فيها ليست خاصة بالمؤمنين فتكون ترغيباً للناس بالإيمان والنهل من هذه النعم، وعدم تضييعها وتفويت ما أعدّ الله لأهل التقوى والصلاح، وإن أعرض عنها الناس.
والآية تذكير للمسلمين بهذه النعم، وإخبار بأنها في معرض الطلب وقريبة من كل الناس، فليس من برزخ بينهم وبين الدخول في[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
لذا تفضل الله وجعل باب التوبة مفتوحاً ما دام الإنسان على قيد الحياة، والتوبة من التقوى، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ] ( ).
المسألة الثامنة: لقد جاء القرآن بالبشارة والإنذار، والترغيب والترهيب، وبعث الناس على فعل الصالحات، وزجرهم عن السيئات.
وبينما أختتمت آية السياق بالإخبار عن حب الله للمتقين، وما فيه من الدلالة على الثناء عليهم، وتوالي فضل الله عليهم، جاءت خاتمة آية البحث بالذم للفاسقين من أهل الكتاب، وبيان قبح المعصية والخروج عن الطاعة، وأنه يسبب الحرمان من الفوز بحب الله، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، بتقريب أن الفسق ظلم للنفس والغير.
ويؤكد الجمع بين الآيتين التباين بين الوفاء بالعهد والتقوى من جهة , وبين الفسق من جهة أخرى لتكون كل من الآيتين إصلاحاً لأهل الكتاب، وشاهداً على أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة خاصة بهم، إذ بعثه الله عز وجل لإنقاذ الناس من الرذائل والأخلاق المذمومة , وجعل أهل الكتاب يتمسكون بالكتاب وما جاء به موسى وعيسى ومنه البشارات بنبوته.
ويبين حقيقة وهي وجود عهد عند أهل الكتاب وجوب خشيتهم من الله وإبتعادهم عن الفسق والمعصية، ليفوزوا بحب الله لهم، وهو النعمة العظمى في الدنيا، والسلاح للأمن في الآخرة، ومن يحب الله يكون من الذين[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وفي قوله تعالى(إن الله يحب المتقين) وجوه:
الأول: إنه دعوة إلى التوبة وترك الفسوق والفجور.
الثاني: فيه حث على الإيمان بالله والنبوة، وعن عبد الله بن مسعود عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى)( ).
الثالث: هو من مصاديق دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل، وإصلاح النفوس ونبذ الفساد.
الرابع: التقوى واقية من إشاعة المنكرات في الأرض.
بحث أخلاقي
تعلقت بداية آية السياق بأمرين:
الأول: الوفاء بالعهد.
الثاني: تقوى الله، وجاءت خاتمتها وموضوع حب الله متعلقين بخصوص تقوى الله وفيه إعجاز من وجوه:
الأول: بين الوفاء بعهد الله والتقوى عموم وخصوص مطلق، إذ أن الوفاء بالعهد من التقوى والخشية من الله عز وجل، فحينما تذكر التقوى كعلة لحب الله فإن الوفاء بالعهد يدخل فيها .
روي عن الإمام علي عليه السلام : أن لأهل التقوى علامات يعرفون بها: كصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد)( ).
وإذا قلت لماذا لم تقل الآية(إن الله يحب الموفين بعهده ويحب المتقين) والجواب إن الوفاء بالعهد وحده لا يكفي فلا بد من التقوى التي تظهر على الجوارح وفي الأقوال وعالم الأفعال، ليأتي الوفاء بالعهد عن ملكة تكون تركة عقائدية يتوارثها المسلمون وتدل على حسن سمتهم.
الثاني: جاءت كل آية من القرآن لتأديب المسلمين، وهو من خصائص التأديب الذي يتوجه لخير أمة وفيه أمور:
الأول: إنه نازل من عند الله عز وجل.
الثاني: يأتي التأديب الإلهي في ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية قرآنية.
الثالث: ليس من نسخ أو تحريف لمضامين التأديب الذي يتوجه إلى المسلمين.
الرابع: إن صاحب الكمالات الإنسانية محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الأسوة للمسلمين في العمل الأمثل بمضامين التأديب السماوي وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي) ( ).
وهل هذا القول من النبي خاص بشخصه الكريم أم هو عام يشمل أفراد[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) ويمكن القول أدبّ الله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وهم المسلمون فأحسن تأديبهم.
الجواب هو الثاني، ويمكن إستقراء العموم من آيات كثيرة من القرآن ومن السنة النبوية، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الخامس: التأديب في كل آية قرآنية متعدد وإنحلالي خصوصاً وأن أول الآية في شيء ووسطها في شيء، وخاتمتها في شيء آخر، وكل شطر منها تأديب مستقل، وفي إجتماعه مع غيره من أجزاء الآية تأديب، وفي صلته مع آيات القرآن تأديب آخر.
وفيه توكيد لحقيقة وهي أن القرآن مدرسة التأديب، وهو الأصل الذي تقتبس منه المدارس الإجتماعية السنن الحميدة.
ومن خصائص[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) التدبر والإتعاظ بآيات القرآن، وما فيها من القوانين والقواعد الكلية، وإتخاذها إماماً وسبيل هداية، فقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] يتضمن تأديباً للمسلمين من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل يحب فريقاً من عباده، بلحاظ العمل وعالم الأفعال، وليس النسب والإنتماء إلى قوم.
ومن خصائص[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) أن أفرادها جميعاً ذكوراً وأناثاً يحفظون ويستحضرون , ويتلون في الإحتجاج قوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الثاني: بيان قدرة الإنسان على بلوغ مرتبة التقوى.
الثالث: لزوم إكتساب المعارف وإتيان الصالحات.
الرابع: لقد جاءت آيات القرآن ببيان الثواب العظيم الذي يناله المتقون، أما آية السياق فقد ذكرت أمراً آخر وهو حب الله عز وجل لهم، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إنه من الثواب الحسي الملموس.
الثاني: إنه مقدمة للثواب والأمن من العقاب، فمن يحبه الله عز وجل يصرف عنه البلاء، وإن أبتلي فله الأجر والثواب.
الثالث: حب الله للعبد سبب لجلب المصلحة ودفع المفسدة.
الرابع: إنه من شكر الله عز وجل للعبد على حسن طاعته وإمتثاله للأوامر الإلهية.
ومن مصاديق تأديب الله عز وجل للمسلمين مجيء الآيات ببعثهم إلى ما يحبه الله، وما يفوزون معه بالمنزلة الرفيعة، وحب الله لهم كما في قوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( )،[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( )،[ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ] ( ).
وكل آية من هذه الآيات مدرسة تأديبية للمسلمين تجعلهم يتعاهدون منزلة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) ويرتقون في سبل المعرفة والتقوى، وجاء التأديب للمسلمين بالذم والتقبيح لأعداء الإسلام، والذين يفعلون المعاصي والسيئات، وأهل الخيانة[ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
ونقض العهد من الخيانة مما يدل على إنعدام البرزخ بين الوفاء بالعهد وبين نقضه، وأن الله عز وجل أصلح المسلمين للوفاء بالعهد، وجعلهم حريصين عليه ببيان قبح عاقبة الذين ينقضونه، وحرمانهم من حب الله الذي ينفع العبد في الدنيا والآخرة.
ومن إعجاز القرآن أن القواعد الكلية فيه باعث على العمل الصالح، وزاجر عن الفعل القبيح، فتلقى المسلمون قوله تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] بالغبطة والسعادة، وبذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من تأديب الله عز وجل لخير أمة.
ليكون من خصائص هذا التأديب إقترانه بالبشارة والجزاء العاجل، والثواب الآجل، إذ أن تأديب الله للناس نعمة عظيمة عليهم في النشأتين، ونهر جار يغترفون منه الخير والأمن والسعادة الدائمة، ومن الآيات أن تأديب الله للمسلمين متصل ومستمر من وجوه:
الأول: ما في القرآن والسنة من أسباب البعث على الصلاح.
الثاني: توارث المسلمين الأخلاق الحميدة.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإتخاذه وظيفة يومية، وسلاحاً حاضراً في أمور الدين والدنيا , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الرابع: أداء المسلمين للفرائض العبادية ومصاحبتها لهم كالصلاة اليومية.
الخامس: تحلي المسلمين بتقوى الله، وإتخاذها ذريعة يتوصلون بها إلى رضاه سبحانه.

صلة[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )، الآية بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: التباين في التسمية بين المسلمين وغيرهم، ونعت أهل الملل السابقة من أتباع الأنبياء بأنهم(أهل الكتاب)، وفيه مسائل :
الأولى : الثناء على أتباع الأنبياء .
الثانية : فيه مادة لتفقه المسلمين وإرتقائهم في المعارف الإلهية لما فيه مادة من تقسيم الناس تقسيماً عقائدياً بلحاظ الملة والدين.
الثالثة : والدلالة على قرب أهل الكتاب من المسلمين بالنسبة لغيرهم من الناس كالكفار والمشركين، قال تعالى[لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
الرابعة : الدعوة للرأفة بأهل الكتاب وإجتناب الإضرار بهم , قال تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
وأهل الكتاب عنوان شامل يقع تحته اليهود والنصارى، فمن إعجاز الآية عدم حصر موضوعها بطائفة منهم، بل جاءت بالكلي في المعين الشامل للفريقين لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وأنهم جميعاً ينتمون إلى كتاب سماوي، ويكون عند كل فريق منهم من يؤدي الأمانة ومن لا يؤديها.
وبينما جاءت آية البحث بصيغة العموم إذ ينحل التفضيل ليشمل كل مسلم ومسلمة، فإن آية السياق جاءت بالتبعيض ليكون أهل الكتاب على ثلاثة أقسام:
الأول: الذي يحفظ الأمانة وإن كانت كبيرة وكثيرة.
الثاني: الذي لا يؤدي الأمانة القليلة إلا مع القيام عليه.
الثالث: فريق لم تذكره الآية، وهو من أسرار التبعيض في الآية، وفيه إشارة إلى تحذير المسلمين في باب الودائع مع المنع من إطلاق الشك في كل كتابي.
فقد جعل الله عز وجل الناس بالناس، والمعاملة من أسباب الدعوة إلى الله، ونشر الصلاح، وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
أخبرهم الله عز وجل بأنه يعلم ما لا يعلمون، وهو سبحانه بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً للأنبياء لتكون أمته خير الأمم، وتجد قبلها أمماً من أهل الكتاب منهم من يخشون الله في المسلمين ويحفظون ودائعهم، وفيه مسائل:
الأولى: إنه حرب على الفساد.
الثانية: فيه دعوة إلى الصلاح.
الثالثة: إنه مقدمة لإنتشار أحكام الإسلام.
الرابعة: فيه وقاية المسلمين من الغدر والخيانة.
الخامسة : الوديعة وحفظها من أسباب الأمن والسلام بين الناس , وهي زاجر عن الإرهاب .
المسألة الثانية: من خصائص[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) الســـلامة من الخســارة, وإجتناب التفريط، وضياع الأموال، قال سبــحانه[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا]( ).
وهل هذه الســلامة بواقية ذاتية من المسلمين، أم بفضل وعناية من الله عز وجل.
الجواب هو الثاني ومن فضـل الله آية الســياق، وما فيها من البيان والتفصــيل في باب خصائص وشرائط المســتودَع-بفتح الدال- وهو الذي تحفظ عنده الوديعة ويسمى أيضاً الودعي.
وفيه دلالة على أن[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) تتلقى الأمر والنهي من عند الله، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) وأنه سبحانه يبين لها سنخية الأمم، ويعين لها كيفية التعامل معها، وأخذ جانب الحذر والحيطة.
فإن قلت هناك من أهل الكتاب من يحفظ الأمانة وإن كبرت فلماذا هذا الحذر.
والجواب لقد جاء التفصيل والتباين على نحو الإجمال والتنكير مما يستلزم الفحص والتدبر، ليكون كل من تلقي الأمر والنهي من الله، والتفصيل والتباين إنذاراً للناس عامة من الغدر والمكر بالمسلمين، لأن الله عز وجل يتفضل عليهم بأمور:
الأول: يهديهم الله إلى سبل الفلاح والأمن ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الثاني: يكشف لهم الله الحقائق.
الثالث: يبين الله لهم ما يضمره الناس لهم، وهو من عمومات قوله تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
وجاءت آية السياق رحمة من وجوه :
الأول: يتعاهد المسلمون منزلة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الثاني: يحافظ المسلمون على أموالهم.
الثالث: يختار المسلمون المعاملة الصحيحة والتي تضمن لهم حقوقهم.
الرابع : بيان أهمية الأمانة وأنها من مكارم الأخلاق .
الخامس : تنمية ملكة الأمانة عند المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً.
السادس : كلمة التوحيد أمانة ووديعة عند الناس ، فاز المؤمنون بحفظها.
فلا تختص الآية بالوديعة بل تشمل عقود البيع والشراء، وبيع النسيئة والرهن والإيجار ونحوه، ليحرز المسلمون صفة الحفاظ على الأموال العامة والخاصة.
فإن قلت ما صلة الأموال العامة بالأمانة والجواب جاءت آية السياق بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه) والمراد على وجوه:
الأول: البيان والإرشاد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كيفية المعاملة مع أهل الكتاب.
الثاني: زجر المسلمين عن المؤاخذة للمؤمنين ، في التباين في معاملته مع أهل الكتاب، فمنهم من كان يودع عنده، أو يستعير منه السلاح، ويقترض منه المال، ومنهم من يحذر جانبه ويحترز منه .
الثالث : الناس كلهم بين حافظ ومؤد للوديعة وبين خائن لها ، فجاءت الآية للتوثق ومعرفة من توضع عنده الأمانة (عن عكرمة في قوله { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك }( ) قال : هذا من النصارى) ( ).
قانون الوحي رحمة
آية السياق وكيفية فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، لتكون مصاديق الوحي متعددة فتأتي بالتنزيل القرآني، والحديث القدسي، والوحي بواسطة جبرئيل والملائكة للنبي محمد ساعة القول والفعل.
ويحتمل جهات ثلاثة:
الأولى: الإتحاد والإستقلال في مصداق الوحي للفعل الواحد، فكل فعل مخصوص من النبي يتعلق به مصداق واحد من الوحي.
الثانية: التعدد من طرف الوحي، والإتحاد من جهة الفعل، فكل فعل من النبي تأتيه مصاديق متعددة من الوحي.
الثالثة: التعدد العام، إذ تأتي المصاديق المتعددة للأفعال المتشعبة.
والصحيح هو الجهة الثالثة، وهو من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين، ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) لما في التعدد من أسباب الإستقامة والصلاح، قال تعالى[وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ).
الرابعة : إرادة المسلمين في الخطاب القرآني وتحذيرهم من الغفلة في باب الوديعة والمعاملات مطلقاً، فيأتي الخطاب والأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن، والمراد المسلمون والمسلمات جميعاً إلى يوم القيامة.
الخامسة : المقصود حفظ بيت مال المسلمين، وأموالهم وذخائرهم، وما يستطيعون معه حيازة السلاح والمؤن، ومواجهة الأعداء، إذ أن آية السياق أعم في موضوعها من الوديعة والأمانة، فجاءت لأمور:
الأول: بقاء المسلمين بمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الثاني: إتصاف المسلمين بالقوة والمنعة ، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) .
وهل للوحي موضوعية ببناء صرح العزة هذه ، الجواب نعم .
الثالث: قدرة المسلمين على التغلب على الأعداء ومباغتتهم، وعدم الإنكسار عند هجوم الكفار.
فيكون المسلمون مؤهلين للدفاع عن الإسلام ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأموالهم وأنفسهم، كما حدث يوم بدر وأحد والخندق.
إذ كان المشركون هم الغزاة والذين أصروا على القتال كما تدل عليه الأخبار ومواقع المعارك ، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتال المشركين في معركة أحد حتى صاروا على مشارف المدينة في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ،وعندما غزاه عشرة آلاف مشرك المدينة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة وهم يقصدون قتل النبي وأصحابه بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وحفر خندقاً حولها باقتراح من الصحابي سلمان الفارسي لا تزال آثاره باقية إلى الأن مع مرور ألف وأربعمائة وسبع وثلاثين سنة ، ليكون شاهداً على التأريخ أن المشركين هم الغزاة ، ومع هذا يسميها أكثر المفسرين وعلماء السيرة (غزوة الخندق ) بمعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا ، وقد سماها الله في القرآن الأحزاب بقوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ) [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وجاءت آية السياق لسلامة المسلمين في أنفسهم، إذ أن الغدر في باب الوديعة يعني ضياع الأموال، والعجز عن شراء المؤن، ومواجهة الأعداء، إن حفظ أحوال المسلمين مقدمة لقوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، وحفظ المال مقدمة ووسيلة للإنفاق في سبيل الله.
السعة في الرزق مع الإيمان
قد ذكرت خمسة وعشرين قولاً في معنى القنطار( )، ويحتمل قوله تعالى[مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ]، وجوهاً:
الأول: البشارة والإخبار عن ملك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقنطار من الذهب ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصله أموال الزكاة والغنائم فيقوم بتوزيعها قبل أن يغادر محله.
الثاني: إرادة المثل والمبالغة فيه، والأمثال تضرب ولا تقاس، والمقصود الثناء على شطر من أهل الكتاب، وأن الأمانة وحفظ الوديعة عندهم ملكة ثابتة وليست على نحو الموجبة الجزئية ، أن فريقاً منهم يحفظون الوديعة إذا كانت قليلة وموثقة بالشهادة والبينة حفظوها، وإذا كانت كثيرة وغير موثقة بالبينة خانوها وأنكروها
(وعن كعب في حديث موسى عليه السلام : إلهي فما جزاء من أدى الأمانة قال يا موسى له الأمان يوم القيامة ولا يحجب عن الجنة) ( ).
الثالث: الآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ببناء بيت المال، وفعل ما فيه حفظ أموالهم والحراسة ونحوها.
الرابع: الآية بشارة إتساع دولة الإسلام، وكثرة المكاسب، ومجيء الأموال الكثيرة من الزكاة والخمس والخراج ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] ( ).
الخامس: في الآية إخبار عن كثرة الزكوات والأخماس، وأموال الجزية وبإستثناء الوجه الثاني أعلاه، فإن الوجوه الأخرى صحيحة.
نظام الوديعة دليل كثرة الأموال
من معاني وتأويل الآية الكريمة، ودلائل الإعجاز فيها أنها جاءت وصفاً لحال أهل الكتاب وهي مدرسة في بيان ما سيكون عليه الإسلام والمسلمون من السعة، وكثرة الأموال العامة والخاصة، وإدراك لزوم إدخارها، والإحتفاظ بها.
فتوظف الأموال، ويبادر إلى إنفاقها وتوزيعها، وشراء اللوازم والحاجات بها، وبناء المشاريع والإعمار.
فإذا كان فريق منهم لا يحفظ الأمانة وإن كانت قليلة، فكيف يمكن الإستدامة والإقتراض منهم، فقد يخذلون المسلمين عند الحاجة للمال، وضرورة العون والمدد للدفاع عن الإسلام.
فجاءت آية السياق تحذيراً لخير أمة ليتوجه المسلمون إلى الله عز وجل في رجاء النصر والمدد.
وتفضل الله سبحانه وأمدهم بالملائكة في ميادين معارك الإسلام الأولى، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ليكون من إعجاز القرآن أن التحذير فيه يفتح أبواب الرحمة على المسلمين، ويدعوهم لولوجها والنهل من فضل الله، والإنقطاع إليه تعالى بالشكر والثناء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
فمع مجيء الآية ببيان حال أهل الكتاب في باب الأمانة والوديعة، وأن المسلمين سيلقون أذى في المعاملة فإنه سبحانه وعدهم النصر والغلبة على المشركين ، كما تحقق في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وهذا البيان والأذى من خروج المسلمين للناس إذ أن وظائفه مركبة ومتعددة، ليكون خروجهم جهاداً متصلاً، ولا يسأمون من وحشة الطريق، وكثرة العناء فيه، ومجيء الأذى من أقرب الناس لهم وهم أهل الكتاب الذين يتوارثون البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم طبقة بعد طبقة، وهم مأمورون بالإيمان بنبوته ونصرته، وإذا فريق منهم يخونون الأمانة، ويتبرأون من ذمة المسلمين كما ورد في آية السياق[قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]( ).

تعاهد حفظ الأمانة
إذا كان المسلمون[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) فلماذا لا يؤدي بعض الناس لهم أماناتهم، ولا يفون لهم بالعهد بلحاظ أن أداء الأمانة من الوفاء بالعهد والصدق في المعاملة، والجواب من وجوه:
الأول: إن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) عند الله عز وجل وفي الواقع، ولكن الناس على مشارب شتى، وواجه شطر من الناس المسلمين بالصدود والعناد .
فجاءت آية السياق زيادة في تفقه المسلمين، وصيرورتهم في حال حيطة وحذر.
الثاني: إخبار الله عز وجل المسلمين بالتفصيل في أمانة أهل الكتاب وعدمها عند بعضهم ، وهو شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) لما في هذا الإخبار من الإكرام والمدد السماوي، فهو برزخ دون الخسارة إذ تتناجى الجماعات فيما بينها بلزوم جانب الحيطة والحذر من آفة أو بلاء أو مكر.
أما المسلمون فقد خصهم الله بكرامة من بين الأمم، وهي أن الله سبحانه هو الذي يحذرهم ويهديهم، قال تعالى[وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
الثالث: من إعجاز آية السياق أنها ذكرت فريقين من أهل الكتاب بينهما تناقض بخصوص حفظ ودائع المسلمين، من غير تقييد بكثرة أو قلة في أحد الطرفين لتكون الآية دعوة لأهل الكتاب للتوبة في هذا الباب، وجعل أكثرهم يحفظون ودائع المسلمين، ويجتنبون خيانتهم، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) إذ يكون وجودها على وجوه:
الأول: إنها رحمة للناس.
الثاني: تذكير الناس بوجوب التدارك والإنابة.
الثالث: بعث الناس على نبذ الأخلاق المذمومة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )ومن مصاديق الخلافة حفظ الأمانة والوديعة ولزوم تعاهدها ، وتحث الآية المسلمين على تعاهد الأمانة ، وتبين أن هذا التعاهد لا يختص بهم ، ومن بديع صنع الله عز وجل أن الله عز وجل عرض الأمانة على السموات والأرض ، قال تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ) وهل تذكير القرآن بموضوع الأمانة دعوة لتعاهدها ، الجواب نعم .


صلة قوله تعالى[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ…] بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: تهيئة أذهان المسلمين لما يواجههم به الناس من الأذى والعناء بما هم مسلمين، فقد تكون من علة خيانة الأمانة والوديعة التي يجعلونها عندهم أن أصحاب الوديعة مسلمون فتحذر الآية من المشركين الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لعل المسلمين يشعرون بأن الإسلام سبّب العناء والخسارة، وفقدان الأموال إلى جانب التضحيات في الدماء ووقوع القتل بين المسلمين في سوح الدفاع ، كما في معركة بدر وأحد والخندق ، قال تعالى[وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ] ( )، لينال المسلمون مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وتكون الوقائع شاهداً عليه من وجوه:
الأول: مواجهة المسلمين لضروب متعددة من الأذى في آن واحد.
الثاني: تعاهد المسلمين للفرائض والواجبات من جهات:
الأولى: تعدد الفرائض في الماهية والكم، من الصلاح والصوم والزكاة والحج والخمس، والكم كالصلاة التي تؤدى خمس مراتب في اليوم، والصوم الذي يتجدد أداؤه كل سنة، ولم يستثن إلا المريض والمسافر، وهو ليس إعفاء مطلقاً بل نوع تعليق وإرجاء إلى أيام أخرى من ذات السنة، قال تعالى[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ).
الثانية: حداثة عهد المسلمين بالفرائض والواجبات، فأغلبهم كانوا على دين الوثنية، وحتى الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب لم يعهدوا هذه الفرائض ووجوب التقيد التام بها.
ومن المتسالم عليه في أحوال المجتمعات أن الأمر الجديد يحتاج إلى مدة مديدة كي يعتاد الناس إتيانه، وربما إستلزم جيلاً كاملاً ونحو خمس وعشرين سنة.
ولكن الصحابة الأوائل وأهل البيت كانوا يبادرون إلى إتيان الواجب العبادي حال الأمر به، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) ومعجزة إضافية ينفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء، تتعلق بإستجابة الناس.
لما يأتي به من الأوامر، وفيه دليل على تسليمهم بأنها من عند الله، ولا يكون هذا التسليم إلا عن شواهد إعجازية، ودلائل عقلية قاطعة تؤكد صدق نبوته، وتجعل المسلمين متهيئين أذهاناً وأبداناً للإمتثال للأوامر، وإجتناب الأمور المنهي عنها سواء تلك التي ترد بالتنزيل وآيات القرآن، أو تلك التي تأتي في السنة النبوية القولية والفعلية، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ]( ).
الثالثة: عدم خلو الواجبات من المشقة عند الأداء إلى جانب تهيئة مقدماتها الواجبة والمستحبة، كالوضوء وغسل الجنابة والحيض وجلب وتسخين الماء، وشراؤه آنذاك، ولم يرد في الأخبار ما يدل على حصول الملل أو السأم عند بعض المسلمين ، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
وتتضمن آيتا السياق والبحث عكسه، وتدلان على حسن إستجابة المسلمين للواجبات وما فيها من الكلفة والعناء، لذا لجأ فريق من الناس إلى إيذاء المسلمين في باب الوديعة والأمانة حسداً وبغضاً لهم، ولما أظهروه من أدب العبودية والخشوع لله، والطاعة لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
فلم يترك الناس المسلمين وشأنهم في عباداتهم ومناسكهم فمنهم من جهّز الجيوش العظيمة عليهم كما في قريش التي زحفت بخيلها وخيلائها على المدينة المنورة، ومنهم من نقض العهود والمواثيق، ومنهم من يستهزأ ويسخر من المسلمين ويخون الأمانة.
الثالث: تلقي المسلمين والأذى بالصبر والثبات على الإيمان، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ليكون الصبر الذي يتحلى به المسلمون من الشواهد التي تدل على كونهم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وإختيار الله عز وجل لهم للإرتقاء إلى هذه المنزلة، وليس من أمة عانت وتحملت الأعباء التي تحمّلها المسلمون في جنب الله، ومع هذا لم يحرف المسلمون التنزيل، ولم يفرطوا بالفرائض والواجبات ولو على نحو السالبة الجزئية.
وتبقى آيات وسور القرآن سالمة من التبديل والتحريف إلى يوم القيامة، ليعيش كل جيل من الناس حال التنزيل ويتنعمون بحضور آيات الكتاب، والتسليم بأن ذات الآيات نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
المسألة الثانية: لا ينحصر خروج المسلمين للناس بالتبليغ القولي والفعلي، لجذبهم إلى منازل الإيمان، وصرفهم عن فعل السيئات، بل يتضمن هذا الخروج تحمل الأذى من الناس، ومواجهة نقض المواثيق، وخيانة الأمانة ليصبر المسلمون، ويظهروا أسمى معاني الإيمان التي تقهر النفس الغضبية والشهوية عند غيرهم، وتجعل يرجع إلى رشده، ويدرك أن المسلمين لا يتحملون هذا الأذى إلا عن إيمان ورجاء الثواب العظيم من الله عز وجل .
ومن مصاديق الخروج للناس اليقظة والحيطة من خيانة بعض الناس للأمانة، وهو الذي جاءت به آية السياق، فينوي أحدهم الضرر بالمسلم في ماله وأمانته، ويفاجئ بإجتناب المسلم لجعل أمواله عنده وديعة، أو يفاجئ بقيام المسلم عليه، وتعذر خيانة الأمانة، أو عدم الوفاء بالشرط.
وليس من أمة من المليين جاءها التحذير من خيانة أقرب الناس لهم الوديعة، مثلما جاء للمسلمين في هذه الآية بالتحذير وإحتمال سوء وضعف الأمانة، مما يدل بالأولوية القطعية على لزوم الحيطة والحذر الشديد من الكفار والمشركين في باب الوديعة والأمانة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
فبينت الآية أعلاه بغض الله عز وجل للذين يخونون الأمانات من منازل الكفر والجحود، إذ أنهم يجمعون بين أمرين كل منهما شديد القبح، ويدل على صدور الخيانة عن إعتقاد فاسد وضلالة، وعدم خشية من اليوم الآخر ولا من الناس والسمعة السيئة بينهم.
وجمعت الآية أعلاه المتضادين في الفعل والأثر مع التباين الموضوعي، فإن الله عز وجل يحب الذين آمنوا، ولا يقف الأمر عند حب الله عز وجل لهم بل إنه سبحانه يدافع عنهم وينصرهم ويذب عنهم، مما يدل على أن عدم حب الله للخوان الكفور يعني خزيه وفضحه ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا] ( ).
وجاءت كل من آية السياق والبحث شاهداً على صدق مضامين الآية أعلاه، وهو من عمومات تفسير القرآن بعضه بعضاً، إذ أن جعل المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) من أبهى معاني نصر الله لهم، وكذا تحذيرهم من فريق من الناس لا يؤدون الأمانات للمسلمين، وما فيه من الدلالة من التحذير من مشركي قريش ومن والاهم مطلقاً في باب الأمانات وفي المواثيق والعهود ، وفي المنافقين قال تعالى [هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] ( ) والغدر صفة مذمومة ، وفي صفة المنافق ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها .
إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر) ( ).
وهل حذر وحيطة المسلمين من الكفار من عمومات قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) الجواب نعم من وجوه:
الأول: إنه من الشواهد على اللطف الإلهي بالمسلمين، وأن الله عز وجل يحبهم ويحذرهم من الكفار.
الثاني: بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار من خديعة المسلمين، والضرر بهم وأكل أموالهم.
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام، ومنهم الكفار، فيعلم الناس أن المسلمين يمتازون بخصوصية وهي حفظ أموالهم بتحذير الله عز وجل لهم، مما يدل على حقيقة وهي أن الناس يعلمون من الشواهد والوقائع أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وتلك آية إعجازية ومصداق لكون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بأن الناس يعلمون المنزلة الرفيعة التي بلغها المسلمون مجتمعين ومتفرقين.
ليكون هذا العلم على جهات:
الأولى: إنه حجة حاضرة ومتجددة على الناس، وزاجر عن التعدي على المسلمين.
الثانية: فيه دعوة للناس لدخول الإسلام، والفوز بالإنتماء لخير أمة، وتلقي التحذير من الله ، وفي التنزيل [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] ( ).
الثالثة: الإخبار العملي عن حقيقة وهي نصر الله عز وجل للمسلمين، وعدم قهر المسلمين في ميادين القتال فهم في حال دفاع ضد المشركين ، وتعذر الإضرار بهم في باب المعاملات بفضل من الله ، قال تعالى[إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ).
الرابعة: معرفة الناس بمنزلة المسلمين وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) تبكيت للكفار لبقائهم على الكفر مما يصرفهم عن الغدر بالمسلمين، ويجعلهم منشغلين بأنفسهم ، ويلقي في قلوب مشركي قريش الرعب والخوف ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ليكون من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) إصابة عدوهم بالفزع منهم لمنزلتهم عند الله، أي أن هذا الفزع لم يأت عن قدرات ذاتية فائقة عند المسلمين، بل لعلم عدوهم بما رزقهم الله، وهو الذي يتجلى بنصر المسلمين في معركة بدر مع قلتهم ونقص مؤونهم وأسلحتهم، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ليكون هذا النصر على وجوه:
الأول: توكيد عناية الله عز وجل بالمسلمين.
الثاني: تجلي المعجزة الحسية والعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: توكيد تحذير المسلمين من الركون للكفار، وجعل الودائع عندهم.
الرابع: يفيد نصر الله للمسلمين وهم أذلة البشارة بإقتناء المسلمين للأموال والجاه العظيم، فجاءت الدعوة للإيداع عند الثقة من الوديعة عند غير الثقة، وبلغة القنطار وما فيه من معاني الكثرة توكيداً لهذه البشارة، ومقدمة لها، ودعوة للإستعداد لهذه الحال وتلقيها بالشكر لله عز وجل، لتتصف[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وهم المسلمون بأن شكرهم على النعمة سابق ومصاحب لها، ومتأخر عنها.
المسألة الثالثة: من الأمر بالمعروف أداء الأمانة والوفاء بها وعليها حكم الشرع، ويدرك العقل حسنها الذاتي والعرضي، وجاء القرآن بلزوم حفظ الأمانة وأدائها بلحاظ أن حفظها مطلوب بذاته، وهو مقدمة ونوع طريقية لأدائها إلى أصحابها، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( )، لتكون السكينة في أداء الأمانة على وجوه:
الأول: السكينة عند المستودع الذي يدفعها إلى أهلها، قبل وعند وبعد الدفع لأنه يرجع الحق إلى أهله، ويريد الثواب والأجر على أداء الأمانة.
الثاني: السكينة عند أهل وأسرة المستودع أعلاه، فهم ينالون الذكر الحسن بين الناس، ويكونون محل ثقة إستصحاباً من الناس للفعل الحسن لأبيهم برد أمانات الناس.
ويمكن معرفة هذا الوجه من النفع بمفهوم ما يلقى أولاد وأهل من يخون الأمانة من الأذى والتعريض والحذر منهم، ليس في الأمانة وحدها، بل حتى في باب الدين والقرض والمضاربة والشركة والإجارة، بعكس صاحب الأمانة وأهله.
فجاء القرآن لنشر الصلاح في الأرض، وتهذيب الأخلاق، ومنع الظلم والجور بين الناس، لأن خيانة الأمانة من الظلم للذات والغير من جهات:
الأولى: ظلم الذات في الدنيا ، قال تعالى في ذم الكفار [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثانية: ظلم الغير في الدنيا.
الثالثة: ظلم الذات في الآخرة.
ترى لماذا لا يكون ظلماً للغير في الآخرة، الجواب إن الآخرة دار الحساب والجزاء، فيأخذ الذي لم يسترد ماله وأمانته وحقه من الخائن، فليس من ظلم يوم القيامة، قال تعالى[الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
الثالث: بعث السكينة عند المستودِع-بكسر الدال- وهو صاحب الأمانة أثناء بقائها عند الودعي، وبعد إعادتها، وفيه بعث للعمل وإكتناز الأموال والعروض، وعدم الخشية عليها من الضياع، أو التعرض للهلكة والضرر بسببها لأن الإيداع برزخ دون التعرض للسرقة والتلف الشخصي .
عن حذيفة قال (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر .
حدثنا أن : الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن ، فتعلموا من القرآن ، وتعلموا من السنة .
ثم حدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومة فتنتزع الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتبرا ليس فيه شيء، ثم أخذ حذيفة حصا فدحرجه على ساقه قال : فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، يقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، وحتى يقال للرجل : ما أجلده ، وأظرفه ، وما في قلبه مثقال خردلة من إيمان .
ولقد أتى علي حين وما أبالي أيكم بايعت ، لئن كان مسلما ليردن علي إسلامه ، ولئن كان يهوديا أو نصرانيا ليردن علي ساعيه، فأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا) ( ) .
الرابع: نشر الأمن ومفاهيم الود بين الناس، وهو موضوع لبيان معجزات الأنبياء، وتوكيد لوجوب عبادة الله عز وجل، والتفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
المسألة الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الناس على أقسام ثلاثة:
الأول: خير أمة، وهم المسلمون.
الثاني: أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، ومنهم من أدخل المجوس معهم، فقد كان عندهم كتاب وحرّفوه.
الثالث: الكفار المشركون.
وجاءت الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو أمة في الخير، وإمام الصلاح والهدى ، وورد في إبراهيم عليه السلام قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ).
مما يدل بالأولوية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمام في الخير والصلاح، بلحاظ تفضيله على الأنبياء الآخرين, وآية السياق من الشواهد عليه إذ جاءت الآية بصيغة الخطاب له بلغة الفرد .
المسألة الخامسة: لم تذكر الآية على نحو التعيين الفريق الذي لا يؤدي الأمانة إلا مع القوة والمنعة عند المسلمين، وفي التحذير من الوديعة عند غير الثقة تنمية لملكة الصدق عند الناس والرغبة بوثاقة الناس بهم .
لذا جاءت الآية بصيغة الإجمال الذي يتضمن التحذير على نحو الإطلاق الشمولي، وفيه نكتة وهي أن هذا الفريق غير ثابت في سنخيته وإنتمائه، مما يدل على حقيقة وهي أن أهل الكتاب غير مأمورين بخيانة وديعة المسلمين، وأن قول فريق منهم[لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] مما طرأ على كتبهم وسمتهم، مع أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
ومن وظائف عموم الأمم الأخرى إكرامهم، وأداء أماناتهم ليس من الإكرام فحسب، بل هو من الوظائف الذاتية لهم بما هم غير الثقة يتقيدون بأحكامه وسننه، ويرجون من الناس الدخول في ملتهم قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ).
فمن يخون الأمانة كيف يطمئن الناس لدينه والتفت مشركوا قريش إلى هذا الأمر فقيدوا عدم الوفاء بالمسلمين وأنه ليس عليهم عهد وطريق لهم، وأنهم يستحقون خيانة الأمانة.
فجاءت الآية لتحذير المسلمين إلى يوم القيامة من الوديعة عند أهل الكتاب، وفيه خسارة عظيمة لأهل الكتاب، ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، مجيء آية السياق بالرحمة لأهل الكتاب من وجوه:
الأول: بيان التباين والإختلاف في حال أهل الكتاب بخصوص الأمانة.
الثاني: الثناء على فريق من أهل الكتاب الذين يحفظون الأمانة ويصونون ودائع المسلمين.
الثالث: تنبيه أهل الكتاب إلى حقيقة وهي إقبال الدنيا على المسلمين، وإكتنازهم للذهب والفضة وإيداعهم لها عند الناس، لذا جاءت آيات فرض الزكاة على المسلمين وما فيه من البشارة من تحقق النصاب عند شطر منهم ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( )، وفيه ترغيب للناس بالإسلام، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع: تحذير المسلمين من الوديعة عند غير الثقة .
وفي الآية نوع تحد لأهل الكتاب والناس جميعاً في بيان سنخية الناس، وأنهم على قسمين:
الأول: الذين يردون الأمانة وإن كانت كبيرة وعظيمة.
الثاني: من لا يرد الأمانة وإن كانت قليلة إلا مع الوثوق منه، وفي حال العز والمنعة للمسلمين.
ولم تذكر الآية الكريمة أجل الوديعة، وما إذا كان هناك تباين بين الوديعة ذات الأجل القصير والطويل، بل وردت بصيغة الإطلاق مما يدل على التساوي بينهما في الحكم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وشمول التحذير لحال الوديعة مطلقاً، وإن كانت قليلة وقصيرة الأجل.
المسألة السادسة : لقد أراد الله عز وجل في خروج المسلمين للناس بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أموراً:
الأول: ضبط الودائع.
الثاني: حفظ الأمانات ,وبالإسناد عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ( ) وفيه شاهد بأن الخيانة قبيحة ،وإن كانت رداً بالمثل ومقاصة ، قال تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
الثالث: تهذيب الأخلاق (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ).
الرابع: إصلاح النفوس.
فجعل الله عز وجل المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) تتجنب إيداع أموالها عند من يخون الأمانة مطلقاً، ومن يخونها على نحو السالبة الجزئية لأن آية السياق تتضمن تباين حال المسلمين عند الوديعة، وفيه آية وأنه ليس من ملازمة بين حال المسلمين عند إبتداء الوديعة، وإستدامة أيام الوديعة، فقد تتغير الحال، وينصرف المسلم عن الودعي، ويغيب عنه، ولم يعد قائماً عليه، لأنها أموال المسلمين، لتكون[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) في مأمن من خيانة أمانتها، كما أنها لا تخون الأمانة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( ).
وفيه شاهد على أن هذا الخروج مركب ومتعدد المضمون في الموضوع الواحد فيكون للذات والغير.
أما الذات فإن المسلمين خرجوا للناس بحفظ أموالهم، وعدم التفريط بها، وعدم جعلها عند غير الأمين، قال تعالى[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ] ( ).
وهل تختص الآية بتأديب وتعليم المسلمين في باب الوديعة بالنسبة للمودع والودعي ، الجواب لا ، فالآية تأديب وهداية للناس جميعاً ، ورحمة لهم ودعوة للألفة والمحبة والوئام العام ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وبين الآية أعلاه وآية السياق عموم وخصوص مطلق إذ أن الآية أعلاه تحذر من جعل المسلمين أموالهم حيث قلة العقل، بينما جاءت آية السياق بخصوص فريق من كلي معلوم، ليكون من خصائص المسلمين أمور:
الأول: الجمع والتفريق في المعاملة، وإختيار الحسن وترك القبيح.
الثاني: معرفة موضوعية الأموال والحاجة إليها والعناية بها، وحفظها بالطرق السليمة.
الثالث: سلامة إيداع الأموال عند الثقات من المسلمين وغيرهم.
الرابع: حاجة المسلمين للتفرغ إلى العبادات، وعدم الإنشغال بضياع الأموال ومقدماته، وفي إدخارها وتوظيفها بصورة صحيحة وسليمة مسائل:
الأولى: إنه عون ووسيلة للعمل والجد والسعي.
الثانية: إنه سبب لبعث الطمأنينة في النفوس ، قال تعالى [ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الثالثة: إنه مناسبة للتفقه في الدين.
الرابعة: تنمية ملكة الحذر عند المسلمين بما فيه النفع في الدين والدنيا , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ] ( ).
المسألة السابعة: جاءت آية البحث بالإخبار عن كون المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ومن باب الأولوية أنهم يفعلون المعروف، ويجتنبون المنكر، ومن المعروف إيداع أموالهم عند من يحفظها إذا إستلزم الأمر الإيداع ، وحفظ الوديعة سواء كانت للمسلم أو لغيره .
فجاءت آية السياق لهدايتهم لسبل المعروف ومنعهم من المنكر، ليخرجوا للناس بحسن السمت، وللتلبس الدائم بالمعروف، والتنزه عن المنكر، وليتوجهوا إلى الأمر بما فيه الصلاح والنهي عن القبائح، وفيه شاهد بأن أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر إنما هو بفضل وهداية من عند الله، وهو سبحانه الذي يعلمهم كيفية فعل المعروف ، ومنه حفظ المال في حال الحضر والسفر ، قال تعالى[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ]( ) .
وفي الآية أعلاه توكيد على موضوعية المال الخاص والعام، ولزوم الحرص عليه وتعاهده وحفظه، وإجتناب مقدمات وأسباب التفريط به.
فقد يتعذر على الإنسان التثبت من عدالة أو وثاقة الشخص الذي يتم التعامل معه وبقاء المال في ذمته أو الوديعة عنده، فجاءت الآية مطلقة من جهة حال المسلم في الحل والترحال، وتكون المعاملة في هذا الباب على صور أربعة:
الأولى: المسلم والكتابي في الحل ودار مقام.
الثانية: المسلم مقيم والكتابي في سفر.
الثالثة: المسلم ضارب في الأرض، والكتابي مقيم.
الرابعة: كل من المسلم والكتابي في سفر.
وآية السياق شاملة لهذه الصور الأربعة، وعدم الإقامة في البلد من أسباب عدم القيام على المستودع.
فجاءت الآية لحفظ أموال وتجارات المسلمين، وشمول التحذير، والتنبيه للمسلمين في الأحوال المختلفة دليل على عظيم منزلتهم عند الله وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وفيه بشـارة إســتقرار حال المسلمين في طمــأنينة وأمن في باب التجارات وحفظ المال، ليكون من شكر الله عز وجل لهم العاجل على إيمانهم بالله ورسوله وأدائهم العبادات، وهو مناسبة لتوجه المسلمين بالشكر لله عز وجل.
المسألة الثامنة: للوديعة أحكام تتعلق بطرفيها المودع والمستودع، وبموضوعها وجنسها وأجلها، وحكم تلفها بتفريط أو عدمه وغيرها( ).
وفي هذه الأحكام وتكاملها في الشريعة الإسلامية مسائل:
الأولى: من خصائص[ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الثانية: فيها دليل على العناية الإلهية بالمسلمين والناس جميعاً.
الثالثة: إنها سبب لإستدامة الحياة على الأرض لما فيها بالذات والعرض من منع لإستحواذ النفس الشهوية والغضبية على الناس.
إذ أن المسلم يحتفظ بماله، ويجتنب الإنتقام، وغيره ليس عنده وديعة للمسلم يفكر بالسطو عليها، والإصرار على الإستيلاء عليها.
ومن العصمة إمتناع المعصية، فليس من مال ووديعة للمسلم متحداً أو متعدداً عند الكتابي وغيره كي ينكرها ويحصل الخلاف والخصومة.
وإنعدام الخصومة هذا مناسبة للإحتجاج والحوار وبيان المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدبر الناس فيها ، وسبب لاستدامة الأمن .
وهل منها حذر وحيطة المسلمين في باب الوديعة الجواب نعم، ويفيد الجمع بين الآيتين حث المسلمين على التفقه في أحكام الحلال والحرام، ووجوه المعاملات والتجارات، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] ( ).
المسألة التاسعة : لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وهذه الحاجة ملازمة له في حال الإتحاد والتعدد، فكما يكون الفرد في حاجة، فكذا الجماعة والأمة.
ومن وجوه الحاجة الإستعانة بالمال لقضاء الحوائج البدنية والرغائب بلحاظ أن المال رزق كريم من عند الله ، قال تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ] ( ).
وتفضل الله سبحانه وجعل حفظ المسلمين للمال نعمة أخرى منه، لتتصف النعم الإلهية على المسلمين في هذا الباب بأنها تأتيهم إبتداء وإستدامة وعلى نحو دفعي وعام.
فكانت آية السياق حفظاً سماوياً لودائع وتجارات أجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
فإن قلت جاءت الآية أعلاه خطاباً للناس جميعاً، بينما آية السياق خطاب ونعمة على المسلمين، والجواب من وجوه:
الأول: تدخل النعم الخاصة في عمومات الآية أعلاه.
الثاني: تحذير المسلمين من خيانة الناس لأماناتهم نعمة على الناس جميعاً، لما فيه من المنع من سيادة الأخلاق المذمومة، وما يترشح عن الخيانة من الفتن والإبتلاء.
الثالث: الآية من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً، لأن خيانة أمانات المسلمين سبب للبلاء العاجل والعقاب الآجل في الآخرة بالذي يخونها، وعن (عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: خَيْرُكُمْ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ لاَ أَدْرِى أَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- : إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) ( ).
الرابع: فتح باب الدخول للإسلام للناس جميعاً، ومن الحاجة في باب الأموال حفظها، وعدم تضييعها والتفريط بها إذ يكون التفريط في المال في باب الوديعة على أقسام ثلاثة:
الأول: التفريط الذاتي، بجعل المال عند الفاقد لشرط حفظ الأمانة (عن ابن عباس في قوله { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم . . } الآية . يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تضطر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم . قال : وقوله { قياماً } يعني قوامكم من معائشكم) ( ).
الثاني: التفريط الغيري، بأن يغدر المستودع بالمسلم فينكر وديعته وماله من المال في ذمته.
الثالث: المعنى الأعم والجامع بالتفريط المركب من الطرفين، فجاءت الآية من التحذير من الوجوه الثلاثة سواء على نحو الإستقلال أو الإجتماع، ويعلم كل إنسان موضوعية المال في حياته، وتحقيق آماله، وبلوغ رغائبه، إلى جانب الحسن الذاتي لإقتناء المال، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
لذا جاءت آية السياق ليتصف المسلمون بالحفاظ على زينة المال، وما فيها من أسباب الجاه ودفع الفاقة وذل الفقر، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
المسألة العاشرة: من خروج المسلمين للناس الدفاع عن بيضة الإسلام، والجهاد في سبيل الله، ويستلزم الجهاد شراء السلاح وتوفير المؤون الأمر الذي يحتاج الأموال، ليكون من منافعها التسلح الأمثل في الحرب، وتقليل الخسائر في الأنفس والأموال .
فجاءت آية السياق لبعث المسلمين على حفظ أموالهم وتوظيفها في فعل الخيرات، قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وتعددت الأقوال في معنى قوله تعالى[خِفَافًا وَثِقَالاً] ومنها إرادة أهل العسرة من المال وقلة العيال بالخفاف، وأهل الميسرة وكثرة العيال بالنسبة للثقال.
وقد يستلزم الخروج إلى الجهاد أموراً:
الأول: إيداع الأموال عند الثقات لحين العودة من الجهاد.
الثاني: الوصية بالمال وكيفية توزيع الثلث من التركة، وهو حق الميت في تركته، وجعل الأمين في تنفيذ الوصية.
الثالث: إسترداد الأمانة لشراء المؤن، والإنفاق على العيال خصوصاً وأن المرابط يتعطل عمله الشخصي إذا كان ذا صنعة أو مزارعاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الرابع: إيداع المال والأعيان التي قد تكتسب، وهذا الإيداع ليس حتمياً، ولكنه أمر محتمل، خصوصاً مع كثرة هجوم وغارات قريش وأضطر المسلين للدفاع .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن ينفروا للدفاع من غير إنشغال بالمال والحقوق الخاصة، بما يجعل المجاهد يعاني من الهمّ ويشكو لأصحابه حاله بينما يستلزم الدفاع التفرغ التام للقتال، وبذل الوسع في المكر بالعدو، والسلامة من الأخطار ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
المسألة الحادية عشرة: لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالتعاون في أعمال البر والصلاح، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
ومن مصاديق البر والتقوى حفظ المسلمين لأموالهم العامة والخاصة، ومن صيغ الحفظ إيداع المال، وجعله عند الثقة الأمين، وأصالة الصحة في العمل خاصة بالمسلم، والإيداع عنده ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ).
وجاءت آية السياق للبعث على الفحص والإطمئنان في موضوع الوديعة وسلامة المال من الآفات، ويستلزم الفحص السؤال والتحري والتعاون بين المسلمين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ( ).
فمن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) التعاون في ميادين الصلاح وسلامة الملة والدين وحفظ أموال المسلمين من الصلاح ومقدماته وأسباب تعاهد مبادئ الإسلام .
وفيه دلالة على أن الآية القرآنية تأتي أمراً أو نهياً أو بشارة أو إنذاراً في موضوع يومي مخصوص في باب العبادات أو المعاملات، ولكنها تتضمن أيضاً في معانيها وغاياتها أموراً:
الأول: تثبيت دعائم الإسلام.
الثاني: إصلاح أحوال المسلمين ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الثالث: نشر مفاهيم التعاون والتقوى، كما في آية السياق، وما فيها من الدروس والعبر، ومنها التعاون في الصالحات ومقدماتها(عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) ( ).
وتحتمل النسبة بين تعاون المسلمين في البر والأمر بالمعروف وجوهاً:
الأول: التساوي بينهما في الماهية وإن تباينت الكيفية، وأن التعاون يأتي بالتشاور والحوار والتضحية، والأمر والنهي أيضاً.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وهو على شعب:
الأولى: التعاون في الصالحات أعم من الأمر بالمعروف.
الثانية: الأمر بالمعروف أعم من التعاون في البر والصالحات.
الثالثة: نسبة العموم والخصوص من وجه، فبينهما مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق.
وليس من حصر لوجه مخصوص في الصلة بينهما بل هي بحسب اللحاظ والنية، ليكون من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) وهم المسلمون أمور:
الأول: التعدد في سبل الصلاح التي يقومون بها.
الثاني: أفعال المسلمين في باب الصلاح، وأمور الخير بعناية وأمر من الله قال تعالى[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ]( ).
الثالث: ترتب الأثر على فعل المسلمين في الصالحات، وظهور هذا الأثر ومصاديقه النافعة بين الناس.
الرابع: تكرار وتجدد فعل المسلمين للصالحات من قبل الفرد والجماعة.
المسألة الثانية عشرة: جاءت آية السياق خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة المسلمين جميعاً بأجيالهم المتعاقبة.
الثاني: المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين.
الثالث: صحيح أن الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن المسلمين بأجيالهم المتعاقبة يلحقون به.
والصحيح هو الثالث، لعمومات الخطاب القرآني إلا مع الدليل على الحصر والتعيين، وجاء الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمور:
الأول: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحفاظ على المال في باب الوديعة.
الثاني: دعوة المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته في باب الوديعة، وإقتباس الدروس والمواعظ منها، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثالث: أخذ المسلمين الحائطة في باب الوديعة، والتعاون لضبطها وتعاهدها وإستردادها، ومنه الشهادة على الوديعة، والتشاور في مأمنها، وموضعها ونصرة المؤمن لقبضها، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
ويحتاج المسلمون في باب الوديعة معاني الآية أعلاه من وجوه:
الأول: يقظة وفطنة المسلمين في باب الوديعة.
الثاني: سلامة أموال المسلمين، وإدراكهم لحقيقة وهي حاجتهم الخاصة والعامة لها.
الثالث: توارث المسلمين لصيغ الحفاظ على المال، فجاءت آية السياق في باب الوديعة، من باب المثال وليس الحصر لتوكيد لزوم تحصين المسلمين لأموالهم.
وفي الآية دلالة على نفي الحرج في أصل المعاملة مع الكتابي، وإجراء عقود البيع والشراء معه، بقيد الحذر والحيطة.
ويحتمل الحذر في باب الوديعة أموراً:
الأول: الحذر الدائم والمستديم، قبل وأثناء وبعد الوديعة وإلى حين قبضها كاملة.
الثاني: يكون الحذر مادامياً، أي مادام الكتابي مجهول الحال، أو غير موثوق.
الثالث: الحذر حال تعذر قيام المسلم وحفظ ماله ولو بالقانون العام .
والصحيح هو الثاني والثالث وبخصوص فريق من أهل الكتاب وليس جميعهم وفيه تخفيف عن المسلمين ومنع من وطأة الحذر الدائم وما فيه من الإنشغال.
وهل في الآية دعوة للمسلمين لأمرين:
الأول: إيداع بعضهم عند بعضهم الآخر.
الثاني: الإستغناء عن الإيداع عند أهل الكتاب.
الجواب هو الأول ، وتدل عليه الآية في مفهومها، وأما الثاني فلا دليل عليه وفيه وجوه:
الأول: تؤكد الآية وجود فريق من أهل الكتاب يؤدي الأمانة، وإن كانت كبيرة وأموالاً كثيرة وهو من مصاديق الجامع المشترك بين المسلمين وبينهم ،وهو أتباع الكتاب السماوي المنزل ، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
الثاني: يحتاج الصحابة أحياناً التفرغ للدفاع، وإعداد مقدماته وحفظ الودائع أمر وجودي وفعل يستلزم الحضور والحراسة كما أن تعددها عند فرد أو جهة يعرضها للسرقة والتعدي والتلف , قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
الثالث: جاء الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يفيد التوصية بالأقباط وأن المسلمين يخرجون للجهاد ويبقى هؤلاء لإدارة الأعمال والصنائع، فكذا الحال بالنسبة للودائع فإن الكتابي لا يخرج إسمه في النفير ولا يغادر للقتال، ويمكن أن يحفظ المال ، لذا يدفع الجزية ليحافظ المسلمون عليه وعلى ماله ، ويذبون عن عرضه، وسموا أهل الذمة لأنهم في ذمة الإسلام وعن الإمام علي عليه السلام (أن يهودياً كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنانير ، فتقاضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : ما عندي ما أعطيك .
قال : فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني .
قال : إذن أجلس معك يا محمد فجلس معه فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتهددون اليهودي ويتوعدونه ، فقالوا : يا رسول الله ، يهودي يحبسك؟
قال : منعني ربي أن أظلم معاهداً ولا غيره ، فلما ترحل النهار أسلم اليهودي وقال : شطر مالي في سبيل الله ، أما ولله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة : محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحشاء ولا قوّال للخنا) ( ).
الرابع: قد تقدم بأن الآية أعم من موضوع الوديعة، إذ أنها تشمل معاملات البيع بالآجل والسلف والشراء والإجارة وغيرها ، وأمر الله عز وجل بالشهادة على البيع ، قال تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
المسألة الثالثة عشرة: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) التفقه في الدين، ومعرفة أحوال الناس، وصيغ المعاملة والتي تتجلى في آيات القرآن، وما فيها من المضامين التي تكون على وجوه:
الأول: إنها تبعث على حسن العشرة (روى مسلم عن هشام بن حكيم بن حزام ومر على ناس من الأنباط بالشأم قد أقيموا في الشمس – في رواية: وصب على رؤوسهم الزيت – فقال : ما شأنهم ؟
فقال يحبسون في الجزية .
فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: [ إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ] في رواية : وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا) ( ) .
لبيان قبح العقاب بخصوص الجزية ، ومن عجز عن الجزية تسقط عنه ولا يكلف أغنياء أهل الكتاب بدفعها عن فقرائهم .
الثاني: فيها سلامة وأمن في الصلات الإجتماعية.
الثالث: إتخاذ المعاملة وسيلة لتثبيت الإيمان في نفوس المسلمين.
الرابع: جذب الناس للإسلام، وجعلهم يقرون بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيدت آية البحث تلك الصلات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من طرف المسلمين، ولم تذكر حال الناس الذي أخرج المسلمون لهم، وهي على وجوه:
الأول: يقوم الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو على درجة أدنى وأقل مما يقوم به المسلمون.
الثاني: لا يقوم الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو وظيفة عقائدية للمسلمين.
الثالث: يقوم شطر من أهل الكتاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى نحو الموجبة الجزئية، قال تعالى في وصف أمة منهم[يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
والمختار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فطرة الإنسان ، ومن رشحات نفخ الله من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) ولكن غشاوة الضلالة تحجب العمل به .
المسألة الرابعة عشرة : يفيد الجمع بين الآيتين الإعجاز في التفصيل في حال أهل الكتاب، فقد ذكرت آية البحث أنهم على قسمين بقوله تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]وكذا آية السياق التي ذكرت أن أهل الكتاب على قسمين في خصوص وديعة المسلمين عندهم.
وتحتمل الصلة بينهما وجوهاً:
الأول: المؤمنون الذين ذكرتهم آية البحث هم أنفسهم الذين يؤدون الأمانة للمسلمين وإن كانت قنطاراً.
الثاني: الفاسقون من أهل الكتاب هم الذين لا يحفظون وديعة المسلمين عندهم.
الثالث: لا ملازمة بين التفصيل المذكور في الآيتين، فقد يكون المؤمن منهم لا يؤدي الأمانة إلا مع القيام عليه، ويؤديها الفاسق منهم من غير تقييد بحال القيام عليه , ولكن صبغة الإيمان هي الأقرب للوثاقة .
لقد وصفت آية السياق للذين يترددون في أداء الأمانة بأنهم[يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] لأن المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يسعون في إيذاء المسلمين والإضرار بهم، وهو لا يتعارض مع القول الذي يفيد أن المراد من المؤمنين في الآية الذين صاروا مسلمين منهم كعبد الله بن سلام.
ويمكن إستنباط قاعدة في الجمع بين الآيتين وهي أن آية البحث تأسيس لقوانين كلية تصلح في مواضيع وأحكام متعددة، ومن هذه القوانين في المقام:
الأول: المسلمون خير أمة، فيجب عليهم السبق إلى الصالحات، وفعل الخيرات.
الثاني: تتلقى[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) صيغ المعاملة من الله عز وجل تأديباً لهم ، وكأنه شكر من الله لهم في الحياة الدنيا على عباداتهم وطاعتهم لله ورسوله، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] ( ).
الثالث: لا يستطيع الناس المكر بالمسلمين، والإضرار بهم في المعاملة.
إن خيانة وديعة المسلمين إضرار متجدد بهم في كل زمان ومكان، وفيه :
الأولى : الخسارة وضياع أموال المسلمين لهم .
الثانية: تثبيط العزائم لولا فضل الله عز وجل وفي التنزيل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالثة : بعث لليأس والقنوط في النفوس، قال تعالى في الثناء على المسلمين ووعدهم وعداً كريماً[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الرابعة : الفتنة وإرادة إنشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة , قال تعالى [لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ] ( ).
ومن العلو والرفعة للمسلمين في المقام أن جعلهم الله عز وجل يتحلون بالتقوى وهذا العلو حاجة لهم في الخروج للناس بلباس الخشية من الله عز وجل في السر والعلانية ، ومنه المناجاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتنزه عن الإرهاب ، وبيان قبحه وضرره القريب والبعيد .
وهل هو دليل على شرطية العلو في الأمر، وأن الأمر بالمعروف يحتاج أن يصدر من العالي إلى الداني، وليس من المساوي والأدنى، الجواب لا، وإن كان الإنتماء للإسلام وحده علو ورفعة بالإضافة إلى ما يترشح من علو ورفعة وعز على الآمر بالمعروف من ذات موضوع المعروف الذي يأمر به، ويدعو إليه.
ومــن مصــاديق تلقي المســـلمين صيغ وكيفية المعاملة من الله عز وجل محل الوديعة والأمانة، وأن تكون عند الثقة، مع الحذر من غير الثقة من الناس , قال تعالى [خُذُوا حِذْرَكُمْ] ( ).
وهل تشمل الآية كشف الأسرار الشخصية لهم، الجواب إن القدر المتيقن من الآية وديعة المال، وتعلقه بذمة الغير، أما الودائع الإعتبارية، كما يقال(المجالس بالأمانات) فلها دليل خاص يتعلق بها ولو على نحو القياس والإستقراء، فمثلاً جاءت آيات القرآن بالتحذير من إتخاذ غير الثقة وليجة وبطانة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ) ( ).
المسألة الخامسة عشرة: تحتمل خيانة الأمانات وعدم حفظها وردها إلى أهلها من قبل بعض الناس، وتبييت النية على عدم إعادة ودائعهم وديونهم إلا عند الضرورة وقيام البينة والحجة الدامغة وجوهاً:
الأول: تعلق أمر الخيانة بذات الفريق ممن يريدون أكل المال الباطل.
الثاني: إرادة أكل أموال المسلمين على نحو الخصوص والتعيين.
الثالث: شيوع نقض العهود، والتباري في خيانة الأمانة، ليكون إنكار وديعة المسلم فرعاً ومصداقاً لها.
وآية البحث تحذير وتنبيه بدليل التعليل الوارد في آخر آية السياق وقولهم[قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]، نعم هذا التعيين والتعليل لا يمنع من تعدي الأمر إلى خيانة ودائع غيرهم، وهو من البلاء المترشح عن إيذاء الصحابة والسعي في الإضرار بهم ليرجع الضرر على الذي يكيد بالمسلمين من غيرهم، ويكون فيه ظلم لنفسه، وسبب لإعراض الناس عنه، وظهور الكساد في تجاراته وهو من عمومات قوله تعالى[بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
فجاءت آية السياق لتحذير[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) من الإيداع عند هذا الفريق من أهل الكتاب وإنذارهم من أكل أموال المسلمين، ليكون على وجوه:
الأول: إنه سبب في نماء تجاراتهم.
الثاني: إقبال عموم الناس على الإيداع عندهم.
الثالث: إزاحة المانع من إجراء عقود البيع والشراء معهم، من غير خوف أو وجل من إنكار ما في ذمتهم وأموالهم من الديون والحقوق للناس.
ترى لماذا لم يخن هؤلاء ودائع الناس، والجواب من وجوه:
الأول: إرادة الحرب على الإسلام، بخيانة ودائع المسلمين، فالمقصود ليس الأموال المودعة، خصوصاً وأنها تودع عادة عند الغني والثري والمعروف برد الأمانات للناس عامة، ولكنها عندما تكون للمسلم فإنه يسعى لأكلها وإنكارها ليس طمعاً فيها بل للإضرار بالإسلام والمسلمين.
الثاني: جعل المسلمين عاجزين عن توفير مستلزمات الدفاع عن الإسلام، ومواجهة جيوش الكفر والضلالة، وكما يحتاج المسلمون السلاح والخيل للقتال، فإنهم يحتاجون المؤون في أوان الحرب.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين في المدينة تعرضوا للحصار وقصد إقتحام المدينة في معركة الخندق, قال تعالى[إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ]( ).
ومن الآيات وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم أثناء الحصار، وهو فرصة طمع معها المشركون لإرادة قتله، فلابد أن تكون عند المسلمين مؤن وحبوب وأغذية تجعلهم يتحملون وطأة الحصار وقد رزقهم الله عز وجل ملكة الصبر والتحمل في جنب الله، والغبطة بهذا الصبر، قال تعالى[وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] ( ).
فإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن حال فريق من الناس أكل أموال المسلمين من الوحي.
ومن حكم الله عز وجل في المقام أمور:
الأول: ظهور المسلمين، وقوة دولتهم.
الثاني: قيام الصحابة على الذي تكون وديعتهم عنده، وإستردادها منه.
الثالث: عجز المستودِع عن إنكار وديعة المسلمين متحدة كانت أو متعددة.
الثالث: بعث النفرة وحال الشك والإرباك عند المسلمين، فالذي ينكر الأمانة يدّعي عدم إستلامها أو أنه قام بردها، وقد يحلف على الأمر ويأتي بشهود زور , وتحتمل هذه الشهادة في حال وقوعها وجوهاً:
الأول: إنها من عمومات قوله تعالى[لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا].
الثاني: لا صلة لهذه الشهادة بمضامين الآية إنما هو فعل مذموم من الشاهد.
الثالث: إنها من السعي في الإضرار بالمسلمين والمكر بهم.
الجواب هو الأول والثالث، فإذا خاف هذا الشاهد من المسلمين وقدرتهم على إثبات حقهم وإنتزاعهم له , فأنه يمتنع عن تلك الشهادة.
فجاءت آية السياق متقدمة زماناً على هذا الفعل، وفيه إعجاز لتعاهد سلامة وحدة المسلمين، ومنع الخلاف والشقاق بينهم بسبب تعدي غيرهم عليهم، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
الرابع: إرادة الكفار جعل المسلمين في حال ضعف ونقص وحاجة بسبب سلب أموالهم , قال تعالى[وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا]( )، وفيه شاهد بأن المال قيام ومنعة وإستطاعة للمسلمين، وقد ذكرت آية السياق القيام أيضاً بقوله تعالى[مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ).
ففي المال يكون القيام، ويحتاج المسلمون المال للقيام على الكتابي وغيره لتعظيم شعائر الله وإحقاق الحق، ومنع الخيانة والظلم.
المسألة السادسة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين ندب المسلمين من وجوه:
الأول: إنتزاع حقوقهم.
الثاني: إسترداد أماناتهم وودائعهم.
الثالث: إستيفاء ديونهم.
الرابع: تهيئة مقدمات ومستلزمات هذا الإنتزاع، والذي يتجلى بقوله تعالى[إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا].
وما في الآية من بيان عزم وقصد فريق من الناس على عدم إرجاع ودائع وأموال المسلمين عون ومدد للمسلمين، ويعني إنتزاع المسلمين حقوقهم في المقام بذل الوسع ليكونوا في حال من القوة.
ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) أنها لا تستعمل القوة الذاتية إلا لمنع الظلم والتعدي، وفيه أمور:
الأول: إنه حجة على الناس.
الثاني: فيه دعوة لهم للإسلام لمحبوبية إفشاء العدل ومحاربة الظلم وإن كان ذاتياً , والظلم قبيح ذاتاً وأثراً , و(عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)( ).
الثالث: إنه من الشواهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن المسلمين لا يستعملونه إلا عند دفع الظلم عن أنفسهم وإرادة حفظ أموالهم.
فحينما تمنع الذي يريد الظلم عن إرتكابه يشعر بالرضا ولو بعد حين، كما في حكم القصاص في القتل، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( )، لما فيه من الحياة للقاتل والمقتول، فإذا علم الذي ينوي القتل أن القصاص ينتظره فإنه يتجنب القتل فيكون فيه سلامة وحياة للإثنين، وكذا بالنسبة للحيطة والحذر في باب الإيداع فإنه نجاة للفريقين، ودعوة للناس لحفظ الأمانة.
وكما يقوم المسلمون بحكم القصاص أو تقديم العفو عليه لقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( )، فإنهم يقومون بإنتزاع حقوقهم من الناس، ويسعون لصيانتها وحفظها، مما يستلزم أن يكونوا على حال من القوة والإتحاد.
وهل هو من عمومات قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، الجواب نعم، فصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص قتال الكفار، وأخذ الحائطة لثغور المسلمين إلا أنها تضمنت المعنى الأعم وإرهاب آخرين، بقوله تعالى[وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] ( ).
ليكون من عمومات ومعاني قوله تعالى[إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]، أن المسلمين على أهبة الإستعداد للدفاع، وأنهم يملكون السلاح الكافي لإنتزاع حقوقهم وإسترداد أماناتهم، ومتى ما علم المستودع الذي عنده المال بقوة المسلمين، وأنهم جاهزون لأخذ حقهم بأيديهم بالمعروف فإنه يقوم بإعادته .
وقد يقول قائل يمكن للمسلمين إجتناب الذي يحتمل أكله للوديعة، فلا يحتاجون للقيام عليه، فيحصرون الوديعة عند أهل الكتاب بالذي يؤدي المال وإن كان قنطاراً ومالاً كثيراً.
والجواب ذكرت الآية حال الناس بخصوص وديعة الصحابة على نحو الإجمال ولغة التنكير، فلم تبين خصائص ظاهرة ومعلومة، وقد يبدي أحدهم أمارات تبعث على الإطمئنان لأمانته، أو تتكرر منه الأمانة، ولكنه يغدر فيما بعد، فجاءت آية السياق لأمور:
الأول: سلامة المسلمين من الضرر البدني والنفسي الذي قد يترتب على هذا الغدر، والآية تطرد المفاجـأة عنهم، وتمنع من الضرر بهم.
الثاني: تحذير الناس من إنكار الأمانة، فالآية وإن جاءت لتحذير المسلمين إلا أنه لا يمنع من إتخاذ المسلمين لها وسيلة ومناسبة لتحذير أهل الكتاب من الإضرار بالمسلمين في باب الوديعة وما هو أعم.
الثالث: حث المسلمين على معرفة خصال الناس الحميدة والمذمومة، والمساهمة في الصلاح والإصلاح، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بأن جعلها الله عز وجل تقسّم الناس في باب الملل والعقائد، وفي باب المعاملات والأحكام مع ذكر علة الإختلاف بما ينفع في وقاية المسلمين من الضرر الخاص والعام، بصيغة الإنذار والتحذير، قال تعالى[لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:أداء الأمانة يجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر)( )، وفيه بيان لمصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا وأن الله عز وجل رؤوف بالناس إذ يقربهم بلطفه إلى منازل الصلاح .
وفي الحديث أعلاه بيان لموضوعية السنة النبوية في هداية الناس إلى سبل الرشاد ولم يحصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفاهيم الحديث بالمسلمين بل ذكره مطلقاً للترغيب بالأمانة والأخلاق الحميدة، ومصاديق الفضيلة.
الرابع : تنمية ملكة الأمانة عند المسلمين وعامة الناس , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
الإعجاز في الجمع بين الآيتين
تتضمن آية السياق في موضوعها بيان إعجاز القرآن على نحو متجدد في كل زمان من وجوه:
الأول: إذا أنكر أحدهم أمانة المسلم، يستحضر المسلمون هذه الآية في إنذارها وفي موضوع تلك الخيانة.
وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بأن تقرأ موضوع خيانة الأمانة بلغة الإنذار والتحذير الواردة في آيات القرآن، لتكون باعثاً لهم لإستحضار آيات القرآن في كل واقعة منها، وقبل أوان الفعل وأثناءه وبعده، وهو من عمومات إمامة القرآن، قال تعالى[وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
الثاني: يقوم نفر من أهل الكتاب برد الأمانة وإن كانت قنطاراً أي نحو ألف دينار ذهباً، وكل دينار مثقال عيار ثمان عشرة حبة، أو كما ورد في رواية(عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية) ( )، (الأُوقِيَّة أَربعون درهماً) ( ) وفيه ترغيب لأهل الكتاب والناس جميعاً برد الأمانة وفيه نشر للرحمة والمودة بينهم .
فيعلم المسلمون صدق مضامين هذه الآية، وفيه دعوة لإستمرار المعاملة معهم، ومنع كساد التجارات، وهو من عمومات القاعدة الكلية الفقهية(لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).
الثالث: يسترد المسلم أمانته بالقيام ، فيدرك أنه من هدي القرآن وتقسيم الناس بخصوص الأمانة دعوة للحيطة , ومن خصائص الأديان السماوية أنها جاءت بحفظ الأمانة , ورد الوديعة , و(عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: أحب العباد إلى الله عزوجل رجل صدوق في حديثه ، محافظ على صلواته ، وما افترض الله عليه مع أداء الامانة ، ثم قال عليه السلام: من اؤتمن على أمانة فأداها فقد حل ألف عقدة من عنقه من عقد النار، فبادروا بأداء الامانة، فان من اؤتمن على أمانة وكل به إبليس مائة شيطان من مردة أعوانه ليضلوه ويوسوسوا إليه حتى يهلكوه إلا من عصم الله عزوجل)( ) .
الرابع: في الآية دلالة على أن إعجاز آيات القرآن أعم في موضوعها، فإلى جانب الإعجاز الذاتي لها، وما فيها من البلاغة التي تفوق ملكات وقدرات البشر في صناعة اللغة والكلام، فإنها تتضمن الإعجاز الغيري، ومنه في المقام:
الأول: شهادة الوقائع على صدق القرآن ومضامينه القدسية.
الثاني: إنتفاع المسلمين من آيات القرآن في المعاملات، وإجتنابهم للضرر العرضي الذي يترشح من الغدر والخيانة ونحوهما.
الثالث: إقامة الحجة على الناس في صدق مضامين القرآن، وبيان حقيقة وهي أن إنذاراته لا تنحصر بعالم الآخرة ولزوم الوقاية من النار كما في قوله تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]( ).
الرابع: مصاحبة القرآن للصحابة في حياتهم اليومية، ليكون خير صاحب، ويتصف بصحبته الطويلة التي لا تنقطع إلى أن تقوم الساعة.
وتتخذ أجيال المسلمين القرآن صاحباً في المساجد وفي الأسواق كما في آية السياق ومضامينها القدسية، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بأن يكون الكتاب الجامع للأحكام مصاحباً لهم، وتتصف هذه الصحبة بأنها خير محض، وفيها مؤازرة وعون ومدد للمسلمين والمسلمات فحتى إذا غاب الناصح عن المسلم ساعة الفعل، فإن آيات القرآن الحاضرة في الوجود الذهني مدرسة في النصح والإرشاد , وفي التنزيل [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
وهو من أسرار وجوب تلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية، لأنها تذكير بمضامين الآيات، فلا غرابة أن تجد تشابهاً في مضامين بعض آيات القرآن، وهذا التشابه وإن كان قليلاً إلا أنه ينفع المسلمين في إستذكار مواضيعها وأحكامها، وهو من الخصال الحميدة التي إختص الله عز وجل المسلمين بها ونالوا بها مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) التي هي عز وفخر لهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى في الثناء على المؤمنين[أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الخامس: يبعث التحذير والإنذار أحياناً عند الإنسان الخوف من موضوع الإنذار، وإحتمال وقوع الخيانة لأمواله من طرف بعضهم فتضمنت الآية الكريمة ما يفيد البشارة وما يؤدي إلى طرد الخوف والبشارة من وجوه:
الأول: إمتلاك المسلمين الأموال الكثيرة، وصيرورة بعضهم يملك ألف دينار ذهباً وهذا المبلغ يودعه عند غيره، مما يدل على وجود أموال أخرى عنده , وفي التنزيل [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ).
ولم تأت الآية القرآنية بخصوص القليل النادر، فلا بد أن كثيراً من المسلمين يملك كل واحد منهم الأموال الطائلة.
الثاني: قدرة المسلم على القيام على المستودَع وإنتزاع حقه منه.
الثالث: دعوة المسلمين إلى توظيف أموالهم في التجارة والكسب وشراء الأعيان وبيان حقيقة وهي أن الوديعة عرضة للتلف والضياع والإنكار، أما الأعيان فهي موجودة ومتداولة، وفيها الربح في الغالب وقد ورد الخبر في الحث على الشراء، وأن البركة فيه.
الرابع : تنمية ونشر مفاهيم الصدق في المعاملة , وفي التنزيل [وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
فمن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) كثرة الأموال، بفضل من الله، وعدم الميل إلى إدخارها بل يعملون فيها بالتجارة والمضاربة، ويتلقون التحذير من الوديعة بالقبول , قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
ومن إعجاز الآية أن التحذير جاء على نحو السالبة الجزئية، فلا يشمل أهل الكتاب على نحو العموم، ولم يذم شطراً منهم ويترك الشطر الآخر بل مدحه وأثنى عليه بصيغة لا يقوم بها إلا الله عز وجل، وهو من الشواهد على أن الآية تتضمن إخباراً من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
وفي قوله تعالى[مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] مسائل:
الأولى: إنه برزخ دون ميل المسلمين للتراخي والكسل، قال تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ]( ).
الثانية: فيه زجر عن ترك التأهب والتسلح والتدريب.
الثالثة: فيه بعث لإتقان مقدمات الدفاع ، وتوفير مستلزماته للبقاء على حال أهبة ومنعة، وقدرة على إنتزاع الحق , ومنه إتباع طرق القانون الوضعي والأنظمة في البلد .
قد لا يكون منكر الوديعة متحداً، ربما كانوا جماعة متضامنين متعاونين، وقد يكون شخصاً واحداً، ولكن تهب جماعته وقبيلته لنصرته، مما يدل على إرادة المعنى الأعم للقيام في المقام، وأنه لا ينحصر بالقيام الشخصي، بل يدل على بعث المسلمين لإسترداد الحق الشخصي والعام، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
وتحتمل الصلة بين إنتزاع الحق الشخصي والعام وجوهاً:
الأول: كل فرد منها مستقل عن الآخر.
الثاني: لإنتزاع الحق العام أثر على الحق الخاص دون العكس.
الثالث: عكس الوجه الثاني أعلاه.
الرابع: التداخل والتأثير المتبادل بين الحقين.
والصحيح هو الرابع، وهو آية في النظم الإجتماعية وأسرار تسمية الإنسان , وما فيها من الدلالة على الإستئناس والإقتباس وتعلم الناس بعضهم من بعض.
فيتعاون المسلمون لإسترداد حقوقهم وفق أحكام الشريعة والقانون ، وودائعهم المالية، كثر المال أو قلّ , وهذا التعاون وموضوعه لبنة في صرح عز المسلمين، وسلامة أموالهم ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ووردت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصوص عديدة بلزوم نصرة المسلمين لأخيهم المسلم، منها (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”.
قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟
قال: “تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه”.)( ) لبيان أن نصرته ظالماً زجره عن الظلم , ومنعه من مقدماته وإعانته للإنصراف عنه , وترغيبه بالإستغفار , وفي التنزيل حكاية عن نوح [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] ( ).
ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن يسمع رجلا ينادي” يا للمسلمين” فلم يجبه فليس بمسلم( )) ( ).
الصلة بين قوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]،وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد سمّت آية البحث المسلمين بأنهم(خير أمة) وفيه ثناء ومدح لهم، بينما جاءت آية السياق بوصفهم بالأميين، ولكن هذا الوصف على لسان طائفة من الناس من أهل الكتاب ، ويحتمل وجهين:
الأول: صدور هذا الوصف من أهل الكتاب جميعاً، فكلهم يسمون المسلمين بالأميين.
الثاني: صدور هذا النعت للمسلمين من قبل الذين يودع عندهم المسلمون أموالهم.
الثالث: مجيء هذا الوصف من الفريق الذي يخون الأمانة ، ولا يؤديه إلا مع الغلظة والتوثيق الأكيد.
والصحيح هو الثالث بلحاظ نظم آية السياق، وذكر الوصف كتعليل وسبب لخيانة أمانة المسلمين لقوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ولكن إثبات شيء لشيء لا يمنع من شموله لغيره، فغيرهم قد يصف المسلمين بذات الوصف خصوصاً وأن تسميتهم للمسلمين بالأميين أمارة على فهم السامع للمطلوب من هذا الوصف وأن المراد هم المسلمون.
ويحتمل تسمية أهل الكتاب المسلمين بالأميين أموراً:
الأول: إرادة المدح لدلالة هذا الوصف على إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو النبي الأمي , قال تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ] ( ).
الثاني: المقصود ذم المسلمين، وأنهم أميون، لكثرة الأمية بينهم في بداية الدعوة الإسلامية، وقد جاء في ذم فريق من أهل الكتاب قوله تعالى[وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ] ( ).
الثالث: الإشارة إلى عدم أخذ المسلمين المواثيق والكتب على أماناتهم وديونهم، ويكتفون بالشهادة على المال، وهذه الشهادة غالباً ما تكون من المسلمين أنفسهم , فيكون المراد من لفظ(الأميين) في الآية صاحب المال والشهود عليه لأنهم كلهم مسلمون، ويدل عليه قرينة المال ومناسبة مجيء الآية بخصوص الوديعة.
الرابع: جاء النعت للبيان والتعريف بالمسلمين، وليس فيه مدح أو ذم، وأنهم يقصدون المهاجرين والذين جاءوا إلى المدينة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وما حولها، قال تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( ).
الخامس: وصف المسلمين بالأميين في مقام تعليل خيانة وإنكار أماناتهم دليل على إرادة الذم .
وكأن هذا الإنكار عقوبة عاجلة من جماعة من الناس للصحابة ، وحرب عليهم لإختيارهم الإسلام، وأنهم ظهروا في المدينة المنورة، وصارت لهم دولة وشأن، ولا يمكن الإضرار بهم في القتال ولا دفعهم عن منازل الإيمان، أو جعلهم يرتدون عن دينهم، فلم يكن هناك سبيل لإيذائهم والإضرار بهم إلا خيانة أماناتهم، ومحاولة جعلهم ضعفاء بحرمانهم من أموالهم .
لتكون هذه الخيانة والإنكار من عمومات قوله تعالى[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا]( )، وهذا المعنى نوع سكينة وبشارة للمسلمين.
السادس: الإشارة إلى عدم التصديق بالإسلام ونزول القرآن من عند الله، وإتفق بأن غلبت الفرس الروم في الأيام الأولى لبعثة النبي محمد وهو في مكة ففرحت قريش الكافرة.
(قال المشركون للمسلمين: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أميون)( ) فكان المشركون يجعلون المسلمين أهل كتاب، وما لبثوا أن دخلوا الإسلام بعد معارك ضارية , كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع( ).
وإخبار الآية بأن الحرب التي يتعرض لها المسلمون تشمل الحرب الإقتصادية والتجارية، ولا تختص بإنكار الوديعة بل تشمل عقد البيع فيما بين المسلمين وبينهم وبين غيرهم بالنسيئة والشراء منه بالسلم والدفع المقدم، وما يبقى في ذمة الكتابي من المال في المعاملات، وفيه شاهد بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) لأنهم صبروا على الحرب الشاملة عليهم والتي يشترك فيها أقرب الناس لهم رحماً وهم قريش ومن والاها ، فالكفار أكثروا وكرروا التعدي على المسلمين بالسيف والقتال، كما في هجوم كفار قريش على المدينة المنورة في معركة بدر وأحد والخندق، وإصرار المشركين بإنزال المكروه والأذى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ]( ).
وكأن فريقاً من الناس يقول للكفار نحن نقوم بتعضيدكم في الهجوم على المسلمين في باب التجارة، وعدم رد أموالهم، لأننا لا نستطيع قتال المسلمين، ولا تجهيز الجيوش عليهم فإذا إحتاج المسلمون أموالهم وودائعهم لشراء السلاح وملاقاة العدو، يفاجئهم الذين عندهم الودائع بإنكارها، أو الإمتناع عن دفعها مع حلول أجلها.
إذ أن الآية القرآنية أعم في موضوعها من إنكار الأمانة فتشمل المماطلة والتسويف والتأجيل من غير سبب وعذر، إذ جاءت الآية بلفظين يدلان على عموم المعاملة وهما:
الأول: صيغة الأمن والأمانة بقوله تعالى[إِنْ تَأْمَنْهُ]( ) أي أمنته وإطمأننت إليه ليس في الحفظ فقط بل الرد والدفع عند الأجل.
الثاني: الأداء الوارد بقوله تعالى(يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) و[لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ]( ) وبين الأداء والوفاء عموم وخصوص مطلق، فالوفاء وإعادة الوديعة من الأداء، بينما يشمل الأداء الدين الحال والآجل، والقرض، والبدل وما في الذمة .
وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة أمر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (أن يتخلف عنه بمكة ، حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس) ( ).
ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) الجهاد في سبيل الله، وجذب الناس لمنازل الهداية والإيمان.
الثانية: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) الصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله، فمع أن المسلمين أخرجهم الله لدعوة الناس للإسلام، وإرشادهم إلى الأخلاق الحميدة، والسنن الرشيدة، فأنه تفضل بتأديبهم على الصبر والتقوى , ومن مصاديق الصبر بلحاظ آية السياق أمور:
الأول: إمتناع جماعة من الناس عن رد وإعادة أموال المسلمين بقصد إيذائهم، وجاءت آيات القرآن بالحث على العناية بأهل الكتاب ووردت تسمية أهل الكتاب بأهل الذمة، لما لهم من ذمام وعهد عند المسلمين لدفعهم الجزية، قال تعالىحَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
الثاني: الإجمال والعموم، وعدم تعيين الفريق الذي يخون الأمانة، ولا يعطي المسلم حقه إلا مع القوة والمنعة، فإن قلت: وإذا كان عند المسلم بينة، كما لو شهد له شاهدان بما له في ذمة غيره من مال ودين ، فهل هذه البينة من عمومات قوله تعالى[إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا].
الجواب فيه تفصيل، فإذا كانت البينة مقرونة بالقوة والسلطان فإنها حجة لا يتخلف عنها المستودَع في إعادة المال والوديعة، أما إذا كانت مجردة عن القوة، ولا تجلب الضرر له عند الإنكارفقد يكون لا إعتبار لها، ولا يترتب عليها أثر, ولا ينحصر موضوع الآية بالتحذير من غير المسلمين , بل يشمل عموم الوديعة بين المسلمين أنفسهم , وتتضمن زجرهم عن إنكار الوديعة سواء كانت لمسلم أو غير المسلم , وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال : (سمعته يقول لشيعته : عليكم بأداء الامانة، فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا لو أن قاتل أبي الحسين بن علي عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لاديته إليه) ( ).
الثالث: إعلان هذا الفريق من أهل الكتاب خيانة المسلمين في أماناتهم بقولهم[لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] فالإجهار العام بالعلة يدل على الإصرار على المعلول والفعل المترشح عنها، ويتجلى معنى العموم في الإجهار من صيغة الجمع[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ].
فمع أن منطوق أول ووسط آية السياق جاء بصيغة المفرد(تأمنه)(ما دمت عليه) وصدور القول من المتعدد والمتحد، وكذا نعتهم بالكذب على الله، وفي هذا التعدد والتعليل المشترك الصادر من فريق من أهل الكتاب أذى للمسلمين، وحث لهم على الصبر والتحمل من أهل الكتاب , وهل يدل قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ) على أن أكثر أهل الكتاب يحفظون الأمانة , ووديعة المسلم الجواب نعم , فمن إعجاز القرآن أنه يأتي بالتحذير ليتضمن في مفهومه السكينة والضياء لسبل الهداية والرشاد .
ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) أنها لا تؤاخذ على النوايا، فما دام الأمر لا يرقى إلى الفعل الخارجي وما فيه من الإضرار بالنفس أو الغير ، فإنهم يظهرون أسمى معاني الصبر، وهو من عمومات خروج المسلمين للناس.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين حث أهل الملل والنحل على إكرام المسلمين، وتسميتهم بما يبيّن عظيم منزلتهم عند الله عز وجل، فإن الله عز وجل يسمي المسلمين بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) ومن الإكرام حفظ وديعتهم وإعانتهم في أداء الصلاة والفرائض العبادية , ومن معاني[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) العصمة من الإرهاب , والقتل العشوائي .
وجاءت آية السياق لتوكيد هذه الحقيقة بتحذير المسلمين بحفظ أموالهم، وعدم تركها عند الذين يضمرون الحسد والعداء لهم، وهذا الإكرام ينفع الناس جميعاً من وجوه:
الأول: أنه مناسبة ومقدمة للإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو آيات القرآن التي تنزل عليه من عند الله, قال تعالى[رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
ومن مفاهيم النور بمعناه الأعم الحذر والحيطة من أهل الغدر والخيانة.
الثاني: فيه دعوة الناس للتدبر في حال المسلمين وهم يتلون تلك الآيات في الصلاة على نحو الوجوب والتي تتعلق بالعبادات والمعاملات والأحكام.
الثالث: بيان كيف أن تلك التلاوة ووجوبها واقية من طرو التحريف والتغيير والتبديل على آيات التنزيل.
وما أن تنزل الآية القرآنية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتلقاها المسلمون بالتلاوة والقراءة، وينقلها الحاضر للغائب، والفرد للجماعة، ويقومون بقراءتها في الصلاة، فيسمع المأمومون تلك التلاوة، ويتجدد حفظهم لها، ويعيد المسلمون قراءتها يومياً لوجوب الصلاة خمس مرات في اليوم وجوباً عينياً على أجيال المسلمين، مما يدل على تلقي بعضهم آيات القرآن من البعض الآخر.
وتلاوة المسلمين لآيات التنزيل دعوة للناس لإكرام المسلمين، لما تدل عليه من حب وطاعة المسلمين لله عز وجل ورسوله، وتقيدهم بأحكام الإسلام والذي يبدأ من الصلاة وتلاوة الآيات كتنزيلها.
ومن خروج المسلمين للناس حرصهم على سلامة القرآن من التحريف، وإبلاغ الناس آياته، وعلى نحو عرضي عند تلاوة الآيات، وما يظهره المسلمون من إكرام وتقديس لهذه الآيات، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الرابعة: حينما يقول الذين يريدون أكل أموال المسلمين بالباطل كما ورد في التنزيل[لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] فإنهم يخبرون عن عجزهم عن محاربة الإسلام، والتضييق على المسلمين، ولا يستطيعون منع إنتشار الإسلام، ليكون من الشواهد على أن المسلمين(خير أمة) عدم إستطاعة الناس صدهم عن تعظيم شعائر الله وتحقيق الفتوحات، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] ( ).
ولما أرادوا المكر بالمسلمين بودائعهم وأموالهم، وجاء التحذير والإنذار من عند الله، والذي لا يتعارض مع قاعدة نفي الحرج في الدين والمستقرأة من قوله تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، إذ أنه يتضمن الإخبار عن وجود ثقاة وأمناء من أهل الكتاب، يجوز الإطمئنان لهم، وترك المال عندهم وديعة وفي الذمة، ليكون هذا الإنذار على وجوه:
الأول: فيه غلق لمكر هذا الفريق من أهل الكتاب.
الثاني: فيه بعث لليأس في نفوس الكفار الذين يرجون خسارة المسلمين، وضياع أموالهم، بإنكار وإمتناع الكتابي عن دفعها لهم، وهو من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) بسلامتهم وأموالهم من الكيد، والمكر، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
الخامسة: لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس ليدرك أهل الكتاب والناس جميعاً أن الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب المنعة والقوة، ويقيهم الشرور، ويدفع عنهم الضرر في الأموال والأبدان ليجاهدوا في سبيل الله، ويفوزوا بالثواب العظيم، فبدل أن تضيع أموالهم بالوديعة عند غير الثقة فإنهم يتعاهدون أموالهم، ويجتنبون غير الثقة، ولا يجعلونها عنده، ليقوموا بتوظيفها في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، قال تعالى[لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ] ( ).
السادسة: في الآية نوع لوم لأهل الكتاب الذين يسمون المسلمين(الأميين) لأن الله عز وجل سمّاهم المسلمين، وبذات الاسم ذُكروا في التوراة والإنجيل، وبه بشّر الأنبياء السابقون قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ( )، فإن قلت إن الله عز وجل سمّى المسلمين أيضاً بالأميين كما في قوله تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( )، والجواب من وجوه:
الأول: الآية أعلاه أعم في موضوعها من المسلمين فهي تشمل أهل مكة وما حولها بلحاظ أنها أم القرى، قال تعالى[وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثاني: الإخبار عن عدم إقرار هذا الفريق من أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيختارون الاسم الذي يجعلهم يتجرأون معه على المسلمين في أموالهم وأشخاصهم، وفيه بيان لموضوع عقائدي وأخلاقي، ودلالة على موضوعية الاسم وتأثيره إيجاباً وسلباً على منزلة الإنسان والجماعة، لذا جاءت النصوص بإكرام المولود بإختيار الاسم الحسن له.
وجاء في زكريا قوله تعالى[إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( )، ليحمل الاسم الذي إختاره الله عز وجل للنبي يحيى، معنى الحياة والدوام، وهذا الدوام ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار القرآن وهو الكتاب الباقي إلى يوم القيامة عن قصته، وهو حق من حقوقه على والديه، كما تستحب الكنية للمولود والمسلم مطلقاً.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن فريقاً من أهل الكتاب يصر على البقاء على تسمية المسلمين بالأميين، ولكن المسلمين في زيادة مطردة، وبلادهم في إتساع، ويقف تمصير بلاد المسلمين عند مكة والمدينة.
وحتى المهاجرين الذين جاءوا للمدينة المنورة، فإنهم ليس من مكة وحدها بل من قرى ومدن عديدة، كما أن ضياء الاسم إنبعث من المدينة المنورة ليشع نوره على الأرض كلها، فيقوى الإسلام ويكثر عدد المسلمين، وهذا الفريق من أهل الكتاب يسميهم الأميين، ويسعى لأكل أموالهم لتكون زيادة وقوة المسلمين من عمومات قوله تعالى[مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا].
وقيام المسلمين على الكتابي الذي يبيت النية بأكل أموالهم بلحاظ الكيف والكم يحتمل وجوهاً:
الأول: ذات القيام في كمه وأثره.
الثاني: التناسب بين إزدياد قوة المسلمين وكثرة أعداد الفريق الذي يقوم بإنكار ودائع وأموال المسلمين، بما يجعل تأثير المسلمين في ذات الرتبة.
الثالث: إزدياد قوة المسلمين، وكثرة أعدادهم بما يجعلهم في حال قيام دائم على الذي يريد أكل أموالهم وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ] ( ).
والصحيح هو الثالث، وهو الذي تدل عليه الشواهد والدلائل الواضحة.
وفيه توكيد لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة الأتباع والأنصار، وتحملهم الأذى عند دخولهم الإسلام، ومنه أمور:
الأول: إنكار أمانات المسلمين ومحاولة إلحاق الخسارة بهم.
الثاني: الإضرار العمدي بالمسلمين.
الثالث: الجحود بديون المسلمين.
الرابع: الإيهام بأنهم أميون لا يعلمون الحساب، ولا يضبطون ما لهم من الأموال عند غيرهم.
أي أن تسميتهم بالأميين تحريض للناس بعدم تصديقهم في دعوتهم بوجود أموالهم عند الكتابي، ومنع الناس من التصديق بهم، لأن هذا التصديق باعث على إجتناب الناس المعاملة معهم وإن لم يكونوا مسلمين.
فجاء قوله تعالى[إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] ( ) لإنتزاع الحق بالدليل والحجة، والقوة الظاهرة التي تظهر هذا الذي يريد أكل أموالهم في حال من الهوان والذل والصغار .
وفي تلك الحجة مسائل :
الأولى: إنها بيان عملي للناس بأن المسلمين ليسوا بتلك الحال التي يستخف بها منهم.
الثانية: المسلمون(خير أمة).
الثالثة: يعتمد المسلمون البينة والحجة في أخذ حقهم، ويلجأون إلى الحزم والغلظة لإنتزاع الحق، قال تعالى في لوط عندما أراد قومه الإعتداء على ضيفه من الملائكة[قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] ( ).
أي أن لوطاً عليه السلام شعر بالحاجة إلى المنعة والعدة والعدد الذي يدفع به عن ضيوفه لأن الضيف إذا نزل به مكروه يلحق العار بالمضيف.
وعن الإمام الصادق عليه السلام في الآية أعلاه قال: فقال جبرائيل لو يعلم -أي لوط- أي قوة له قال: فكابروه حتى دخلوا البيت فصاح به جبرائيل أن يا لوط دعهم يدخلوا فلما دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قوله تعالىفَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( ).
لقد تفضل الله عز وجل بمنح المسلمين مرتبة (خير أمة) وجعلهم يتصفون بأمور:
الأول: صاروا متحدين في الله.
الثاني: يتناجى المسلمون بالصلاح والتقوى.
الثالث: يعمل المسلمون مجتمعين على إسترداد حقوقهم.
الرابع: ينصر المسلمون المظلوم من إخوانهم، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال(انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ( ).
ومن مصاديق الظلم الذي يلحق بالمسلم أكل ماله، وإنكار حقه، وعدم الوفاء له بدينه ووديعته.
وهذه النصرة من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( )وإنذار للناس من أكل الأموال بالباطل ، فصحيح أن الآية جاءت بخصوص شطر من أهل الكتاب، إلا أنها أعم في موضوعها، فتشمل الناس جميعاً.
السادسة: إن إسترداد الأمانة، والسعي لقبض الوديعة والدين من الأمر بالمعروف، وجاء القيام بقوة القانون مقدمة وجزء له، فقد يحتاج المسلم إلى والشدة لإنتزاع الحق، ومن مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إستعمال اليد.
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
وإستعمال اليد من الكلي المشكك وهو على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، لذا فمن الإعجاز في الجمع بين الآيتين أمور:
الأول: تختار[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) الصيغة المناسبة في الأمر بالمعروف بالقول أو اليد أو القلب، والمرتبة المناسبة منها، وفيه برزخ دون حصول الأذى بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويأتي هذا الإختيار تارة على نحو القضية الشخصية بأن يرى المسلم ما يجب عليه في باب الأمر بالمعروف، وتارة على نحو القضية النوعية بأن تختار الجماعة والأمة المناسب من الفعل والقول , وعن(أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
الثاني: من خروج المسلمين للناس إختيار الصيغة المناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشدة والضعف، والمرة والتكرار، والكيفية المناسبة في كل مرة.
الثالث: ذات القيام المذكور في قوله تعالى[إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ) من الكلي المشكك أيضاً الذي يكون على مراتب متفاوتة إتحاداً وتعدداً بحسب الحال والمناسبة ليكون المراد من القيام في الآية على شعب:
الأولى: البينة والوثيقة التي تؤكد الوديعة والدين، وبما يجعل تلك الوثيقة نافعة في إحقاق الحق، ومنع التمادي في ظلم المسلم، والإستهزاء به، وسلب حقه.
الثانية: القيام بالوعظ والإنذار، والتذكير بعالم الحساب، والتخويف بالعقاب بالنار لمن يأكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى بخصوص أكل أموال اليتامى[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا]( ).
الثالثة: الغلظة مع الذي ينكر مال ووديعة المسلم.
الرابعة: إستعمال اليد للزجر عن خيانة المسلم بغير حق، ويبدأ هذا الإستعمال من الأدنى، فلا يجوز إستعمال الأشد إلا بعد اليأس من عدم نفع الأقل رتبة أو ظهور أمارات تدل على عدم إسترجاع الحق معها.
الخامسة : اللجوء إلى القضاء والقانون .
الرابع: بعث المسلمين على تحصيل أسباب المنعة والقدرة التي يستطيعون معها إنتزاع حقوقهم، وفيه آية تؤكد أهليتهم لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بأنهم يسعون لمنازل القوة لمنع تعرضهم للظلم، وليس لظلم غيرهم، فهم لا يتخذونها وسيلة لإنكار , أمانات الناس وعدم رد حقوقهم.
وتدل الآيات القرآنية والسنة النبوية على وجوب إعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى[وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] ( ).
وتارة تقوم الجماعة والأمة بالمناجاة والتعاون للتوقي من الظالم، ولطلب السلامة والأمن، ولكن بعد أن ينالوا ما يسعون إليه يتخذون تلك القوة وسيلة للظلم والتعدي، وقد تكون سبباً للخصومة والإقتتال بينهم.
أما المسلمون فأنهم يحرصون على بلوغ مراتب القوة التي ينتزعون معها حقهم، ولا يتعدون إلى غيره، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
وقد إستلم المسلمون مقاليد الحكم، وحرصوا على إمضاء أحكام الشريعة، ولا عبرة بالمخالف الذي لا يريد الحكم بما أنزل الله، لأنه يسعى للإضرار بالمسلمين، وخيانة وديعتهم، إن قوله تعالى[إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ) شاهد على رضا الله عز وجل عن المسلمين وهم في حال القوة والمنعة، وعدم إتخاذهم هذا القيام لإبتزاز الكتابي وأخذ أمواله.
وهل ينطبق على المقام.
قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ).
الجواب لا من وجوه:
الأول: القدر المتيقن من الآية أعلاه هو الدفاع في الشهر الحرام.
الثاني: المراد بالإعتداء في الرد على الكفار دفعهم , ومنعهم من الإستمرار في التعدي، وهذا الدفع وعدم تجاوزه من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الثالث: مقتضى آية السياق السعي لإسترداد أموال المسلمين، والمنع من تضييعها وإستحواذ الآخرين عليها تعدياً وظلماً، وتوظيف حال القيام المذكور في الآية أعلاه لإنتزاع أموال المسلمين، وقد لا يحتاج المسلمون التوظيف العملي لهذا القيام لإسترداد الوديعة ونحوها.
فحينما يعلم المستودع ممن يريد إنكار مال المسلم أن المسلم قائم عليه، وأنه لو أنكر ماله لتحمل الوزر ومحقه الضرر، وإضطر لإعادة المال فإنه يبادر إلى رد الوديعة والمال في أجله وحالما يطلب منه.
فمن إعجاز الآية أنها جاءت بلفظ القيام ولم تقف الآية عند [إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ) بل تعدت بحرف الإستعلاء(على) لبيان حقيقة وهي أن القيام والمنعة والقوة وحدها لا تكفي لإنتزاع الحقوق، فلابد من الحذر القيام على الذي عنده الوديعة، وأنه يخشى تعديه بأكل مال المودع ، وإلا فقد تكون قوة ومنعة عند المسلمين، ولكن الذي يخون الأمانة بعيد عن موضع المنعة والقوة قوة المسلمين، أو يستطيع إستعمال المكر والحيلة بما ينجو معه من العقاب.
وهل يخشى على الناس من قيام المسلمين عليهم، خصوصاً وأن موضوع القيام أعم، الجواب لا، لأن المسلمين خير أمة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) ويكون قيامهم وسيلة ونوع طريقة لسعيهم المتصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعملون بأحكام الكتاب وهم ورثة الأنبياء , قال تعالى في الثناء على الأنبياء [وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ]( ).
السابعة: قد بينّا في رسالتنا العملية(الوديعة تكــاد تكون ملازمة لوجود الإنسان على الأرض، ولكن الإسلام أخضعها للقواعد الشرعية وبيّن أحكامها لتكون معلماً أخلاقياً محسوساً ومناسبة للأمن والثقة والأجر والثواب لاسيما وان موضــوعها يتعــدى في العرف الإسلامي المال) ( ).
ويكون الإنسان بخصوص الوديعة على وجوه:
الأول: يكون مودعاً بأن يضع ماله عند غيره أمانة.
الثاني: يكون مستودِعاً بأن يضع الآخرون عنده أموالهم.
الثالث: أن يكون مودعاً ومستودعاً في آن واحد، وهو ليس من إجتماع الضدين، لإشتراط إتحاد الموضوع في المتضادين، فيكون مودعاً ماله عند شخص أو جهة، ويكون مستودعاً- بالكسر- لشخص آخر أو ذات الشخص ولكن جنس وماهية الوديعة مختلفة.
الرابع: الذي ليس له وديعة عند غيره، ولم يودع غيره عنده شيئاً، ولا يعني هذا أن موضوع الوديعة أجنبي عنه، لأنه في معرض الإبتلاء بها.
ولا تنحصر الوديعة بالمال فتشمل الأعيان والعروض، والأمور الثابتة كالدور والعقارات والبساتين، مما يدل على أن موضوعها واسع، وتترتب عليه آثار متعددة، منها ما يكون في البدن وطرو الأجل، فالذي تتعرض أمواله للضياع بسبب الضرر والخيانة قد يموت كــمداً وفجأة.
فجاءت الآية لتعاهد حال المسلم الصحية، ودفع الآفات العرضية عن بدنه، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بأن يهديهم الله عز وجل لما فيه سلامة أبدانهم ونفوسهم من الأذى والضرر، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
والوديعة عقد يحتاج القبول والإيجاب وفيه مناسبة للتوثيق، نعم تكفي فيها المعاطاة كما لو دفع له ماله، وفهم منه إرادة جعله وديعة عنده، كما تصح بالهاتف والكتابة ولغة الإشارة.
فجاءت آية السياق لبيان أن فريقاً من الناس يريد أن يستحوذ على الوديعة بغير حق، ويتخذ من طريقة المعاطاة، وعدم شهادة البينة والحجة مناسبة لإنكارها، الأمر الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حاجة المسلمين للتفقه في الدين، وما فيه ضبط المعاملات.
ومن القواعد الفقهية قاعدة(منع الجهالة والغرر) وتشمل باب الوديعة كمسألة إبتلائية لمن رزقه الله المال والسعة، ولا يقوى على حفظه بمفرده، ويخشى مما يأتي به الجديدان، وهو دليل على أن الإنسان كائن محتاج، فمع إزدياد النعمة تتجلى معاني الحاجة بذات النعمة، فيلجأ إلى غيره لحفظ ماله، وما له من الإعتبار والشأن في حياته ومستقبله وأمانيه , قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ]( ).
ويُظهر التباين في مقدار الوديعة في آية السياق بين طرفيها الأدنى وهو دينار، والأعلى وهو نحو ألف دينار لزوم حذر المسلم في القليل والكثير، ونصرة إخوانه المسلمين له.
ومن إعجاز الآية أن غدر وخيانة الفريق الآخر الذي تكون عنده الوديعة جاء بخصوص الطرف الأدنى، وفيه مسائل:
الأولى: حث المسلم على عدم وضع ماله عند غير الثقة , وإن كان هذا المال قليلاً , وهل ينطبق الحكم على ذوي القربى الجواب نعم .
الثانية: دعوة المسلمين لنصرة أخيهم الذي أنكروا وديعته ودَينه، ولا يقولون له إن مالك قليل ولا يستلزم الحشد والسعي لإسترداده , وهذه النصرة بالمعروف واللطف والتذكير بالآخرة وبالبينة وليس بالسيف والقتال , ومن أنكروا أمانته فله أجرها , أما الذي أنكرها فعليه وزرها , وتقتطع من حسناته يوم القيامة .
و(عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ألفين أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة، فيجعلها الله هباء منثورا قالوا : يا رسول الله ، صفهم لنا لكي لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال : أما إنهم من إخوانكم ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ( ).
الثالثة: فيه تأديب للناس، وزجر لهم عن التعدي على أموال وحقوق المسلمين وإن كانت قليلة.
الرابعة: نصرة المسلمين بعضهم لبعض لإسترداد الحقوق والودائع من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون المعاملات على وجوه:
الأول: إنها وسيلة لتثبيت معاني الأخوة بين المسلمين.
الثاني: إنها سبب لزيادة قوة المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
الثالث: تعاهد المسلمين لهذه القوة على نحو متكرر فإنهم يحافظون على قوتهم وإتحادهم وأخوتهم.
الرابع: إدراك المسلمين لحقيقة وهي أن حاجتهم للقوة لا تنحصر بميدان القتال، فقد تمر فترات على المسلمين ليس فيها قتال مع الكفار، ولكنهم يحتاجون القوة لإنتزاع حقوقهم الشخصية، والمنع من التعدي عليهم في أموالهم.
الثامنة: لما أخبرت آية البحث بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) فإن الناس على مشارب ومذاهب شتى .
ويحتمل هذا الخروج أموراً:
الأول: حصر الأمور التي خرج فيها المسلمون للناس.
الثاني: تعيين المصاديق والمواضيع التي خرج ويخرج فيها المسلمون للناس.
الثالث: الإطلاق في المواضيع، والعموم في الناس.
الرابع: المراد من الناس طائفة منهم دون الجميع.
والصحيح هو الثالث وهو المستقرأ من الآية، ولأن الألف واللام في(الناس) تفيد الجنس الإستغراقي، وفيه إخبار لأهل الملل والنحل بأن الله عز وجل لم يتركهم وشأنهم، فبعث لهم وللناس جميعاً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
ثم جعل أمته في حال خروج دائم ومتجدد، مع بيان مضامين الخروج وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتأتي خيانة وديعة المسلم لصده وإخوانه عن قيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف.
ولكن آية السياق جعلت ذات موضوع الخيانة مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وشاهداً على حاجة المسلمين للمنعة والقوة والعز، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الصلة بين الآيتين أن مضامين آية البحث تتجلى بلحاظ آية السياق من وجوه:
الأول: المسلمون[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) إذ يتفضل الله وينير لهم دروب المعاملات بما تكون فيه سلامتهم وحفظ أموالهم , و(ذم أعرابي رجلاً فقال: إن الناس يأكلون أماناتهم لقماً وإن فلاناً يحسوها حسواً.
كتبت غنج جارية الخزاعي على جبهتها: لا كنت إن خنت.
البريء جريء، والخائن خائف) ( ).
الثاني: تفضل الله بأخبار المسلمين عن باب من علم الغيب بخصوص عزم طائفة من الناس إنكار ودائعهم، والمغالطة التي تجعلها حجة للتعدي على أموال المسلمين، والإضرار بهم، وتدل على أن المقصود ليس إستباحة ودائع المسلمين فقط، بل يشمل أموراً:
الأول: إرادة الإضرار بالمسلمين، فجاءت كل من الآيتين لوقاية المسلمين من مكرهم، قال تعالى[وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ]( ).
الثاني: إستضعاف المسلمين.
الثالث: تأليب قريش الكفار على المسلمين.
الرابع: إنها رسالة تحريض عملية للحث على محاربة المسلمين.
الخامس: تهيئة لجانب من مقدمات إضعاف المسلمين بسلب شطر من أموالهم، ولا يعلم هؤلاء أن الله عز وجل ولي المسلمين، وهو ناصرهم، وليس من حصر لصيغ النصرة الإلهية، وهي خارقة للتصور الذهني، كما حصل في بدر وأحد إذ نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما يحقق النصر قطعاً لهم، ويخزي الكفار , قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) , ( ).
الثالث: لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ومن الأشياء في المقام أمور:
الأول: إن الله عز وجل هو الذي أخرج المسلمين للناس.
الثاني: ذكر المواضيع التي أخرجهم فيها وتحقيقها.
الثالث: ما تتضمنه كل آية من القرآن في منطوقها وموضوعها وكذا في مفهومها، وهو باب إعجازي يستلزم كتابة المجلدات الضخمة، ويكون على وجوه:
الأول: بيان وتعيين وظائف المسلمين.
الثاني: إستقراء مصاديق كثيرة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: إنارة طرق الهداية والرشاد للمسلمين.
الرابع: المنع من وقوع المسلمين في الخطأ والإرباك، لأن البيان ضياء وبرزخ دون اللبس والترديد.
الخامس: طرد الجهالة والغفلة عن المسلمين، ليكون كل مسلم ومسلمة خريجين من جامعة علوم القرآن , قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
السادس: إحاطة المسلمين علماً بالمسائل الإبتلائية وما يجب أو يستحب لهم فعله، وما يلزم تركه وإجتنابه.
السابع: تفقه المسلمين عموماً في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام، والإمتثال الفعلي لأوامر الله عز وجل، فلابد من إقتران العمل بالعلم.
فمن خصائص المسلمين أنهم الأسوة والقادة للأمم في طاعة الله، وميادين البر والصلاح , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثامن: توكيد إعجاز القرآن، وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث.
التاسع: بعث الفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام، ومنع الناس من التعدي على المسلمين في أنفسهم وثغورهم وأموالهم، ومنه خيانتهم في أماناتهم.
العاشر: تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين، وإعانتهم في القيام بوظائفهم العبادية، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
الحــادي عشر: حرص المسلمين على الإتحاد والأخوة فيما بينهــم، وبذلهم الوسع لبلوغ الغــايات الحميدة التي أخرجهم الله عز وجل للناس من أجلها.
الثاني عشر: إتخاذ المسلمين القرآن إماماً وهادياً، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الرجوع للقرآن والصدور عنه وهو من خصائص(خير أمة).
وليس لمنافع هذا الرجوع حصر وتعيين فهي على وجوه كثيرة وتوليدية منها في المقام:
الأول: معاني الموضوع والمحمول والحكم.
الثاني: هذا الرجوع مناسبة لإستخراج كنوز القرآن , وتعاهد آياته.
الثالث: إتخاذ الرجوع للقرآن مقدمة ووسيلة الذب عن القرآن ونصرته.
الرابع: إنه نوع تعاهد لآيات القرآن، ومنع من وصول يد التحريف إليه , قال تعالى[وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الثالث عشر: جذب النـاس لدخول الإســلام، بإدراكهــم تجدد إعجــاز القرآن، وهو من أســرار المعجزة العقلية التي إختــص الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، فتلك الرحمة متجددة، وتطل على الناس كل يوم بالعلوم المستحدثة المستنبطة من آيات القرآن في المواضيع التي أخرج الله عز وجل المسلمين للناس بها.
ليكون خروجهم من رحمة الله عز وجل بالآية أعلاه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مصاديق الرحمة الإلهية معرفة الناس لحقيقة وهي أن حفظ وتعاهد المسلمين لأموالهم بلطف وعناية من الله عز وجل[إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
إذ يتفضل الله على المسلمين فيرزقهم المال والغنائم والكسب، ويبشرهم بالكثير منه، ويحذرهم من ضياعه بالوديعة والإطمئنان لمن يريد بهم الغدر والضرر.
وهذا التحذير من الرزق الكريم الذي خص الله عز وجل به(خير أمة) وشاهد على الإعجاز الغيري للقرآن .
حسن الموادعة
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأخلاق الحميدة , قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) وجاءت الآية بالتحذير من عداوة فريق من الناس وسعيهم لأكل أموال المسلمين بالباطل، وجعل هذا الأكل سبيلاً وطريقاً للإضرار بالمسلمين.
فإن قلت هل من تعارض بينه وبين الآيات التي تمدح النصارى كما في قوله تعالى[لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ) .
الجواب لا، من وجوه:
الأول: إختصاص موضوع آية السياق بفريق من أهل الكتاب، وبين أهل الكتاب والنصارى عموم وخصوص مطلق، وجاء موضوع الخيانة على نحو السالبة الجزئية .
الثاني: على فرض قيام فريق من الناس بخيانة ودائع المسلمين، فإنه لا يضر بعموم النصارى والثناء عليهم، ويفيد الجمع بينهما دعوة المسلمين إلى عدم مؤاخذة الكل على ما يرتكبه الأفراد من الإثم والتعدي , قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
الثالث: المودة كيفية نفسانية تنبئ عن حال ميل وقبول، ويرى النصارى إقبال المسلمين على العبادات، وطاعتهم لله عز وجل، وتصديقهم بالنبوات، وتسليمهم بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتمنع الآية المسلمين من الإنتقام والبطش بأهل الكتاب ممن يريدون أكل أموالهم وخيانة ودائعهم، ويظهرون الإستهزاء بهم، ويأتون بعذر واه، ولا يتحرزون من إعلانه , و(عن ابن عباس في قوله { الذين ينفقون في السراء والضراء }( ) يقول : في العسر واليسر { والكاظمين الغيظ }( ) يقول : كاظمون على الغيظ كقوله { وإذا ما غضبوا هم يغفرون }( ) يغضبون في الأمر لو وقعوا فيه كان حراماً فيغفرون ويعفون ، يلتمسون وجه الله بذلك { والعافين عن الناس } كقوله { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}( ).
يقول : تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة واعفوا واصفحوا) ( ).
فأخبرت الآية عن فعلهم وقولهم، ليكون المسلمون على بينة من الأمر، فلا يســتحوذ عليهم الغضب، ولا تغلب عليهم روح الإنتقام، لأن الله عز وجل أمــرهم بالصبر، وحثهم عليه خصوصاً وأن الله عز وجل وقاهم من الخسارة، وضياع أماناتهم بالإنذار كما ورد في آية السياق , قال تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه في معركة الخندق، فمن باب الأولوية القطعية أن الله عز وجل يكفيهم شر الخيانة والغدر في باب الأموال، إذ أن الأموال أدنى مرتبة من النفس .
وقد نجّا الله المسلمين، وحفظهم من القتل والقتال وبطش جيوش الكفار التي زحفت على المدينة المنورة للإنتقام ممن لحق بهم يوم بدر وأحد، وفي حفظ النفوس سلامة وتعاهد للأموال، لأن المسلمين يبقون قائمين عليها.
منع خيانة الأمانة
جاءت الآية لأمور:
الأول: منع الإرباك بين صفوف المسلمين.
الثاني: تحذير المسلمين من الرجوع إلى الظالمين في حفظ أموالهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( )، لأن تبييت النية لأكل ودائع المسلمين ظلم والإطمئنان إليهم، وجعل الأموال عندهم وفي ذمتهم ركون لهم، وفيه إعجاز قرآني بأن التحذير من الإيداع عند هؤلاء لا ينحصر في آية واحدة من القرآن.
الثالث: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين، وتعدد مصاديق ووجوه الفضل من جهات:
الأولى: دفع الله القتال عن المسلمين.
الثانية: صرف الكفار عن محاربة المسلمين مع تعدد أسباب هذا الصرف، فمنها ذات خاص بالكفار وضعفهم ووهنهم، وما يصيبهم من الإبتلاء والآفات، وأخرى بالقوة والمنعة عند المسلمين.
الثالثة: نصر الله عز وجل للمسلمين في معارك الجهاد والدفاع ضد الكفار، قال تعالى[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
العاشرة: تدل آية السياق والتعليل الذي ذكره فريق من أهل الكتاب لأكلهم أموال المسلمين على صدق قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]، إذ أن الإيمان واقية من الظلم والتعدي، وملكة نفسانية تقي الإنسان خيانة الأمانة وهذه الملكة من رشحات من آيات القرآن ومنها آية البحث التي تبعث على الصلاح والتقوى، لنعتها المسلمين بأنهم(خير أمة) وقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ).
وفي الآية أعلاه بلحاظ المقام أمور:
الأمر الأول: إنها من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) فإن قلت الآية أمر من الله عز وجل، وليس فيها فعل للمسلمين والجواب من جهات:
الأولى: ذات الأمر الإلهي للمسلمين إكرام لهم.
الثانية: جاءت الآية بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين في كل أجيالهم، وصحيح أنها جاءت بصيغة المذكر إلا أنها تشمل النساء أيضاً لعموم التكاليف.
الثالثة: لا بد من تجلي الإمتثال للآية الكريمة من قبل المسلمين في الجملة، ولا عبرة بالقليل النادر، وهذا القليل لا يتجاهر بالمعصية لمضامين الآية وما فيها من لزوم الأمانة.
أما آية السياق فتتضمن الإخبار عن إصرار فريق من أهل الكتاب على الإستحواذ على أموال المسلمين بإنكار ودائعهم وأموالهم، وإصرارهك على عدم أدائها.
وبين عدم الأداء والإنكار عموم وخصوص مطلق، فكل إنكار هو عدم أداء وليس العكس، ينكر الإنسان الأمانة، ولكنه يردها فيما بعد عندما تقوم عليه البينة أو يشعر بالتعرض للأذى.
فجاءت الآية بالمعنى الأعم وهو عدم الأداء وحصوله بشرط لا، أي عند عدم القيام عليه وإجباره على الرد والإعادة.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب وفيه توكيد لموضوع رد الأمانات.
الخامسة: وردت الآية بصيغة الجمع في أطرافها وهي:
الطرف الأول: لغة الأمر وصيغة العموم (يأمركم).
الطرف الثاني: الأداء وأن يؤدي الفرد والجماعة الأمانة، ويتعانوا على ردها ليكون من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى].
وإن كانت شخصية من طرف المودع أو المستودع، وهذا التعاون من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]، من وجوه:
الأول: المسلمون خير أمة بسعيها لرد الأمانات.
الثاني: خرج المسلمون للناس برد أموالهم، وعدم أكلها بالباطل.
الثالث: تعاون المسلمين في رد الأمانات من أمرهم بالمعروف.
الرابع: أداء المسلمين للأمانات في مفهومه نهي عن المنكر، وزجر عن أكل أموال الناس بالباطل.
الخامس: المسلمون خير أمة لأنهم يشيعون الأخلاق الحميدة، ويعملون على إستقرار المجتمعات، وعدم إحداث الضغائن والكدورات التي يسببها جحود حقوق الناس قال تعالى[وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( ).
الطرف الثالث: الأمانات والأموال، فلم تقل الآية(تؤدوا الأمانة) بصيغة المفرد، بل جاءت بلغة الجمع للتعدد في الكم والكيف والنوع للأمانات التي تكون عند المسلمين.
الطرف الرابع: أصحاب الأمانات، وأهلها الذين تعود إليهم، ولم تقيد الآية ماهية الأمانات، وسنخية أهلها، بل جاءت بلغة العموم الشامل للناس جميعاً، ومنهم الذين يصرون على عدم إعادة أمانات المسلمين، وتلك آية في حسن سمت المسلمين وهم مأمورون بالتصديق بنزول التوراة والإنجيل من الله، وبنبوة موسى وعيسى عليهما السلام قال تعالى[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى]( ).
بينما ينكر أتباعهما وأهل ديانتهما نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن مع ظهور معجزاته جلية، وخصهم القرآن بتسمية تشريفية عظيمة وهي(أهل الكتاب) .
وفيه حجة عليهم في لزوم الرجوع إلى الكتاب الذي يتضمن لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، سواء كان الكتاب التوراة أم الإنجيل وهذا المعنى من إعجاز القرآن، وبعثه الناس لأسباب الهداية والصلاح، فالثناء دعوة للإيمان، وكذا ذم وتبكيت الكفار , وفيه وجوه:
الأول: إنه دعوة لأهل الكتاب للإيمان.
الثاني: نبذ للكفر.
الثالث: توكيد قبح وأضرار الكفر.
الأمر الثاني: في الآية هداية للمسلمين للمواضيع التي يخرجون فيها للناس، ومنها رد الأمانة، وإظهار العفة والتقوى إذ أن ردها خشية من الله، وطلب لمرضاته، وإمتثال لأمره سبحانه.
ومن إعجاز آية(الأمانات) أنها تضمنت أيضاً الأمر بالعدل في الحكم بقوله تعالى[وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] ( ).
وفيه إعجاز يتجلى بإستقرار معاني الملازمة بين رد الأمانة والحكم بالعدل، وبشارة تولي المسلمين لأمور الإمامة والسلطنة والإدارة العامة لشؤون الناس.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: سو بين الخصمين في لحظك ولفظك) ( ).
الأمر الثالث: تلاوة المسلمين للآية، مع الإقرار بأنها تنزيل، وتعاهدها، والحرص على سلامتها من التغيير والتبديل، وهل لتلاوة الآيات موضوعية في الإمتثال لمضامينها.
الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصائص(خير أمة) وإرتقاء المسلمين لمقاماتها.
ومن منافع التلاوة في المقام وجوه:
الأول: تجديد العهد والحرص على أداء الأمانات.
الثاني: السعي لإيفاء الديون، وإبراء الذمة.
الثالث: إستحضار المسلم للأمانات التي عنده، ولزوم حفظها ودفعها إلى أهلها عند الطلب أو حلول الأجل.
الرابع: تذكير المسلمين بمضامين آية السياق، وما فيها من تحذيرهم من الإيداع عند الذين يريدون أكل أموالهم، وإنكار حقوقهم، قال تعالى[وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ).
فحينما ذكرت آية السياق الذين لا يؤدون أمانات المسلمين على نحو التنكير، والكلي في المعين، فإن الله عز وجل يجعل المسلمين يلتفتون إلى أمارات وقرائن يميزون معها هذا الشطر من أهل الكتاب لكيلا يصير المسلمون في حيرة، ولا يقعون في شرك المكر والغدر، وهو من فضل الله عز وجل على (خير أمة).
الأمر الرابع: لقد أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاني العبودية والخشوع لله عز وجل حينما شهد الله عز وجل له بحسن الخلق، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
وأخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل هو الذي تفضل عليه بالأخلاق الحميدة والكمالات الإنسانية إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي( ).
فأراد الله عز وجل تأديب المسلمين في باب الأمانات يما يكون رحمة للناس جميعاً، ودفعاً للظلم فيها، وهو من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين بأن الأمانة صارت مع نزول القرآن حقيقة ثابتة في الأرض، يتزلزل إنكار الأمانة.
وينحسر هذا الإنكار بين الناس، ويصير الناس حذرين في إيداع أموالهم عند غير الثقة كما تأمر به آية السياق، إلا أن وجود الثقة ووجوب رد الأمانة أمر ثابت في الأرض لأن الله أمر المسلمين برد الأمانات، وهذا الأمر متجدد مع كل جيل، وفي كل يوم يمر على المسلمين والناس إلى يوم القيامة.
ويفيد الجمع بين آية السياق وآية البحث وآية الأمانات أن المسلمين لا يقابلون عدم أماناتهم بالمثل، فإذا أنكر عليهم أحد الناس أماناتهم، ثم إئتمنهم فإنهم يردون إليه الأمانة.
وتحتمل التلاوة في المقام وجوهاً:
الأول: تلاوة كل من آية السياق والبحث حث على تعاهد العهود والمواثيق.
الثاني: إختصاص تلاوة آية السياق بالحث على تعاهد العهود، لما تدل عليه في مفهومها من ذم الذين ينقضون المواثيق، وسوء عاقبتهم في عالم الآخرة.
الثالث: تدل آية البحث في منطوقها على لزوم تعاهد المواثيق، لأنها من المعروف والأمر به.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من فضل الله عز وجل في الندب إلى التقيد بأحكام العهود والمواثيق، وأهم مصداق لها عبادة وطاعة الله.
فلما جاء القرآن باعث على الوفاء بعهدهم، فإنه أخبر عن وجود أمة تفي بالعهود , وجاء الشكر من الله عز وجل لها في الحياة الدنيا بوصف المسلمين بأنهم (خير أمة).
وهذا الوصف أمارة ومقدمة لنيلهم الثواب العظيم في الآخرة، وفيه ترغيب لأهل الكتاب والناس جميعاً بالوفاء بالعهود .
المقاصة
المقاصة هي مقابلة الفعل بفعل من جنسه في الأخذ أو الإسترداد أو الضرب والحقوق .
(وتَقَاصَّ القَوْمُ : قَاصَّ كُلُّ وَاحدٍ منهم صَاحبَهُ في حِسَابٍ وغَيْرِه ” وهو مَجازٌ مَأْخُوذٌ من مُقاصَّةِ وَلِيِّ القَتِيلِ . وأَصْلُ التَّقاصِّ التَّنَاصُفُ في القِصَاصِ قال الشاعر :
فُرُمْنا القِصَاصَ وكَانَ التَّقَاصُّ … حُكْماً وعَدْلاً على المُسْلِميِنَا قال ابنُ سِيدَه : قولُه التَّقَاصُّ شَاذٌّ لأَنَّه جَمَعَ بَيْنَ الساكنَيْن في الشِّعْرِ ولذلك رَوَاهُ بعضُهم : ” وكان القِصَاصُ ” ولا نَظيرَ له إِلاّ بَيْتٌ وَاحدٌ
أَنْشَدَ الأَخْفَش :
ولَوْلا خِدَاشُ أَخَذْتُ دَوابّ … سَعْدٍ ولم أُعْطِه ما عَلَيْها ) ( ).
والنسبة بين المجازاة وبنهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالمجازاة أعم ، وجاء الإسلام بآيات العفو والصفح ، قال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وجاء العفو والصفح بصيغة الجمع بقوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وموضوع العفو أعم من المقاصة ، وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بنشر لواء السلام والطمأنينة في الأرض ، ومنها رد الأمانات ، لما في حبسها أو إنكارها من الأذى والضرر العام والخاص .
(عن مكحول : أن رجلا قال لأبي أمامة الباهلي : الرجل أستودعه الوديعة أو يكون لي عليه فيجحدني ، ثم يستودعني أو يكون له عندي الشيء أفأجحده ؟
قال : لا . سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك) ( ).
وفيه شاهد على النهي عن المقاصة في باب الودائع والأمانات ، نعم الخبر منقطع وضعيف سنداً .
وهل تخرج المقاصة بالتخصيص من هذا الإطلاق , الجواب لا، من وجوه:
الأول: المقاصة على فرض القول بها في المقام محصورة في إتحاد الموضوع.
الثاني: لا دليل على إجراء المقاصة في الأمانات، نعم تجوز في الدين والقرض وبشرط عدم ترتب الضرر، وقد ذكرت في رسالتي العملية مسألتين:
الأولى: لو امتنع المدين عن أداء الدين وجحده وحلف على إنكاره ولم يمكن أجباره يجوز للدائن المقاصة من ماله وأخذ مقدار دينه بشرط عدم الفتنة والضرر.
الثانية: تصح المقاصة في حال تحقق موردها سواء كان موضوعها الدَين أو غيره، بل يجوز بيع بعض أموال المدين وأخذ عوض الدين من قيمتها بشروط وهي:
الأول : ثبوت الدين.
الثاني: حلول الأجل.
الثالث : عدم حاجة المدين لتلك الأموال أي أنها ليست من مستثنيات ديونه.
الرابع : امتناع المدين عن أداء الدين.
أن يكون البيع وقيمته بإذن الحاكم الشرعي أو من يختاره من عدول المؤمنين( ).
قانون الإطلاق في رد الأمانة
لقد جاءت آية رد الأمانات مطلقة، ولا يجوز فيها الإستثناء إلا مع الدليل من الكتاب والسنة.
ولم يرد لفظ (الأمانات) في القرآن إلا في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( )، واقترن هذا الأمر في الآية بلزوم الحكم بالعدل والإنصاف ، والنسبة بين الحكم بالعدل ورد الأمانات العموم والخصوص المطلق ، قال تعالى [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}( )، قال : نزلت في الربا .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس {وإن كان ذو عسرة فنظرة} قال : إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ولكن تؤدى الأمانة إلى أهلها .
وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } هذا في شأن الربا {وأن تصدقوا}( )، بها للمعسر فتتركوها له .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنحاس في ناسخه وابن جرير عن ابن سيرين .
أن رجلين اختصما إلى شريح في حق ، فقضى عليه شريح وأمر بحبسه، فقال رجل عنده : إنه معسر ، والله تعالى يقول { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }.
قال : إنما ذلك في الربا إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ، فأنزل الله { وإن كان ذوعسرة فنظرة إلى ميسرة} وقال {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس { وإن كان ذو عسرة } يعني المطلوب ( ).
والمختار أن الآية عامة في الدين لصيغة الإطلاق ولورود النصوص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أبي اليسر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله( ).
وفي أسباب نزول قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، أنها ( نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح ، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المفتاح ، فقيل : إنّه مع عثمان ، فطلب منه علي فأجاب : لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح ، فلوى عليّ بن أبي طالب يده ، فأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى فيه ركعتين.
فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يردّ المفتاح إلى عثمان ، فأوعز إليه ففعل ذلك علي.
فقال له عثمان : يا علي (كرهت) وآذيت ثم جئت ترفق ، فقال له : بما أنزل الله تعالى في شأنك ، وقرأ عليه هذه الآية.
فقال عثمان : أشهد أن لا اله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، وأسلم ، فجاء جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه مادام هذا البيت أول لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وهو اليوم في أيديهم)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك حق على الرعية أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا( ).
الرابع: رد الأمانة ليس موضوعاً مالياً فقط، بل هو أمر أخلاقي، وحسن تأديب المسلمين من الله ورسوله مقدمة ودعوة للناس لدخول الإسلام، وباب للإقرار بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمور:
الأول: حسن خلق المسلمين رشحة من رشحات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الثاني: لا يمكن قهر النفس الغضبية والشهوية إلا بالإيمان الراسخ بالله عز وجل ، وإجتناب الأذى والإيذاء بغير حق.
الثالث: يتخذ المسلم حسن الخلق قربة وزلفة إلى الله، وطريقاً لنيل الثواب في الآخرة.
الرابع: أداء المسلمين الأمانات طاعة لله عز وجل، ورسالة إلى أهل الكتاب والكفار بلزوم إجتناب إيذاء المسلمين والإضرار بهم، لأنهم يطيعون الله ورسوله، ومن أهم مصاديق هذه الطاعة الدفاع عن الإسلام ، ودفع الظلم عن المسلمين، فلا يحصد الذي يسعى للإضرار بهم إلا الخزي والعار.
من مصاديق(خير أمة) إرتقاء أفرادها في الكسب والتحصيل، ومن الآيات في هذه الجامعة أن الدراسة فيها يومية ومتجددة، ولا تنقطع ولا تتوقف ولا تنتهي، يتلقى المسلم فيها الدروس خمس مرات في اليوم، ويكون مستمعاً ومتكلماً ومصلحاً لنفسه ولغيره بتلاوته لآيات القرآن والتدبر فيها، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).

قانون الحذف
يفيد الجمع بين آية البحث السياق وجود حذف، والتقدير على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة تميزون بين أهل الكتاب وغيرهم بجعل موضوعية للكتاب المنزل في المعاملات ، وفيه إكرام لليهود والنصارى من بين الناس ، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الثاني: كنتم خير أمة تصبرون على الأذى من الذين يرجى منهم العون والنصرة للمسلمين ، ومن إعجاز القرآن كثرة الآيات التي تدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الصبر على الأذى ، وفيه دعوة لهداية الناس ، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واشاعة السلم والسلام في الأرض وكان صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي ، وفيه الأجر والثواب قال تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وقال تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث: كنتم(خير أمة) بما يفيده الجمع بين الآيتين من البشارة بصيرورة المسلمين أغنياء، يقومون بإيداع الأموال عند غيرهم، ومن الدلائل على بشارة كثرة أموال المسلمين فرض الزكاة في وقت كانت الغالبية العظمى فيه من المسلمين محتاجين، ولا يملكون معشار نصاب الزكاة ومع هذا تلقوا فرض الزكاة بالقبول والرضا.
الرابع: كنتم أيها المسلمون خير أمة مع وجود أمم أخرى ، وفريق منهم يأكل أموال المسلمين بالباطل، وفيه شاهد على أن المسلمين(خير أمة) فليس فيهم فريق يبيت النية على أكل ودائع أهل الكتاب أو غيرهم، إذ أن المسلمين مأمورون بأداء الأمانات وإرجاعها إلى أهلها.
وفيه دعوة للموادعة بين المسلمين وأهل الكتاب وتنشيط للأسواق وازدهار للتجارات في الأمصار ، لقد كانت قوافل قريش تضرب في الصحراء وصولاً إلى الشام واليمن ، وقال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( )، وجاء الإسلام ليبسط السلام ، ويدعو المسلمين الى حفظ أمانات وودائع الناس.
الخامس: كنتم(خير أمة) بما أنعم الله عز وجل عليكم من الإخبار عما تلقونه من أهل الكتاب، وإرادتهم أكل أموالكم بالباطل.
السادس: (كنتم خير أمة) ( )، بما رزقكم الله من معرفة أحوال الأمم.
السابع: (كنتم خير أمة) بأن يأتي الخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن وهو الكتاب الخالد الباقي إلى يوم القيامة، وهذا الخطاب من غير واسطة من البشر.
قانون البشارة بالمال الحلال
من معاني (كنتم خير أمة) ( )، ما أنعم الله عليكم فيه من البشارة بالمال الكثير المقرون بالإيمان والخروج للناس قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( )، وفيه نكتة وهي أن المال وسيلة ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه رحمة بالمسلمين والناس جميعاً , لأن وفرة المال بيد المسلمين عون لهم في أمور:
الأول: إصلاح الذات، وإتخاذه وسيلة مباركة لأداء الفرائض ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ]( ).
الثاني: نشر مفاهيم الإيمان باللطف والحجة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
الثالث: جذب الناس للإيمان.
وفي الثناء على المسلمين وجوه :
الأول : [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) بسعيكم في باب الأمانة وإعادة الأموال إلى أهلها، واليقظة والحذر في باب الوديعة، قال تعالى[فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ]( ).
الثاني : كنتم خير أمة تتخذون من المال وسيلة لأمور:
أولاً: قانون تجلي وإحقاق الحق , قال تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( ).
ثانياً : منع الظلم والتعدي على المسلمين.
ثالثاً: الدفاع في سبيل الله ضد مشركي قريش وغزواتهم ، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ) والمال ذاته قوة، وفيه تحصيل للقوة.
الثالث : يخرج المسلمون للناس كأمة متحدة ومنه سعيهم لإسترداد ودائعهم، وحفظ أموالهم وعدم التعدي على أموال وحقوق الناس ، فمن خصائص(خير أمة) حفظ الأموال الخاصة والعامة وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( ).
الرابع : من خروج المسلمين للناس أنهم يتحملون الأذى في باب الوديعة والأمانة من غير إنتقام وبطش، فالقيام على الكتابي مقدمة لإسترداد الوديعة والوفاء بالمال المتعلق بالذمة.
ومن خصائص(خير أمة) أنها لا تنتقم من الفرد والجماعة من أهل الكتاب عند إخفاء الوديعة، بل تتخذ من القوة وسيلة ضغط لإسترداد الحق، وأداء مال المسلمين.
الخامس : كنتم خير أمة تأمرون بحفظ الأمانة ولزوم حفظها، وأدائها ونبذ الأخلاق المذمومة , ومنها خيانة الأمانة.
وقد جعل الله عز وجل العقل رسولاً ذاتياً عند الإنسان، وجعله ينفر من الخيانة مطلقاً، لذا فلا أحد يوجه اللوم عند السعي وفق أحكام الشريعة والسلم لإسترداد الحق ، ويتوجه الذم للذي يخفي ودائعهم ويعمل على خيانتهم كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] .
لأن العقل الخاص والعام ينكر خيانة الوديعة، والإضرار بالذي وثق بالآخر، وسكنت نفسه إليه.
ان البشارة بكثرة المال عند المسلمين يجب أن لا تؤدي الى الغصب أو النهب أو السلب والنميمة والغيبة ، وقد تحلى المسلمون بالأخلاق الحميدة .
وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يصوموا يوماً ولا يفطرن أحد حتى آذن له ، فصام الناس ، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول : ظللت منذ اليوم صائماً فأذن لي فلأفطرن فيأذن له ، حتى جاء رجل فقال يا رسول الله إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين فأذن لهما فليفطرا فأعرض عنه ، ثم أعاد عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما صامتا ، وكيف صام من ظل يأكل لحوم الناس ، اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا ففعلتا فقاءت كل واحدة منهما علقمة فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو صامتا وبقي فيهما لأكلتهما النار( ).
وعندما تم فتح مكة بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ لم يذهب إلى داره التي ورثها عن أبيه ، وهي في هذا الزمان مكتبة مكة العامة في شعب أبي طالب ، وعندما سئل صلى الله عليه وآله وسلم : أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِك بِمَكّةَ ؟
فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ( )( ).
ولم يرث عقيل وحده أبا طالب لوجود جعفر والإمام علي عليه السلام وأخواتهما ، ثم أن المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم داره ودار أبيه عبد الله وأملاك بني هاشم التي تم الإستيلاء عليها وبيعها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت.
السادس : جاء في آية البحث قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] .
ومن الشواهد على الخير والنفع الذي يترشح على أهل الكتاب من الإيمان، ردهم الأمانة، وإجتنابهم للغدر والتعدي في باب الوديعة وسلامتهم من العقاب الأخروي.
السابع : من نهي المسلمين عن المنكر أمور:
الأول: فضح الذين [يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ]( )، وتحذير الناس منهم.
الثاني: الإحتراز ممن يخون الأمانة، ويبيت النية على عدم ردها، وعدم جعل الودائع والأموال عنده.
الثالث: الإمتناع عن بيع أهل الخيانة بالنسيئة إلا مع الوثيقة والحجة لإسترداد المال.
وهذا الإستثناء من الإعجاز في آية السياق.
قانون توثيق الديون
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ]( )، وهو من البشارة بالمال الوفير الذي يجب أن يكون حلالاً زاكياً ، قد تم تطهيره باخراج الزكاة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( )، ومن منافع هذا القانون إزدهار الأسواق وعــدم تعطيــل التجارات، ومنع الحـــرج عن المســلمين في المعاملــة والوديعــة، وهــو مــن خصــائــص(خير أمة) إذ أراد الله عز وجل لها السعة والمندوحة في المعاملات.
يكون الناس في الوديعة على وجوه:
الأول: الذي يرد المال الكثير من نفسه وإن لم يكن الرد لبينة، وإذا حضرت أمارات الموت أوصى بالمال وذكر صاحب الوديعة والدَين من غير خشية من الورثة.
ومنهم من يجعل وثيقة وناظراً وشهوداً عليه خشية نكوص الورثة، وإمتناعهم عن دفع المال إلى صاحبه المسلم .
وهناك شواهد عديدة بأن يبعث المستودع عند صاحب المال حال الشعور بالحرج والخطر ويطلب منه أخذ ماله وإسترداد وديعته.وفي التداين بين المسلمين قال تعالى[وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]( ).
الثاني: الذي تضع عنده المال القليل فلا يرده، وإن كان هو غنياً وغير محتاج لهذا المال القليل، ورجوعك إليه، وسؤالك المتكرر منه لمالك يأخذ من وقته وجهده، ولكنه يريد إيذاء المسلمين.
الثالث: الذي لا يعيد المال إلا مع أخذ الحجة عليه، وحمله على إعادته بالشدة وقوة القانون والتلويح بها.
أختتمت آية البحث بذم فريق من أهل الكتاب بقوله تعالى (وأكثرهم الفاسقون)( ).
وجاءت آية السياق شاهداً على هذا الفسق والخروج عن طاعة الله بالإصرار على أكل مال المسلم لأنه من أمة آمنت بالله، وتلقت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق ونالت به منزلة(خير أمة) قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وجاءت آية السياق مصداقاً لخاتمة آية البحث(وأكثرهم الفاسقون) فمن الفسق إنكار الأمانة، وجحود الوديعة، والإصرار على عدم إيفاء دَين المسلم الذي وثق بالودعي وإطمئن لدينه، وفضلّه على الكافر.
أما الكتابي الذي يرد الأمانة وإن كانت ألف دينار أو أكثر، فإنه مصداق لقوله تعالى(منهم المؤمنون) فإنه يحفظ الحقوق ، ويدرك معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم أن المسلمين لمّا إختاروا التصديق بنبوته، فإنهم ليسوا على خطأ، إلى جانب إقرارهم باليوم الآخر، والعقاب الذي ينتظر من يخون الأمانة قال تعالى[لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ]( ).
إن نعت طائفة من أهل الكتاب بالمؤمنين ثناء عليهم ، ودعوة للمسلمين للعناية بهم وعدم الإضرار بهم ، وهل هو شاهد على أن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، مقيدة بزمانها ومكانها وموضوعها وأنها لا تشمل أهل الكتاب الجواب نعم ( )، وفيه شاهد على أنها لم تنسخ آيات السلم ، قال تعالى [فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ]( )، وقيل (قوله تعالى {منهم المؤمنون} تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبه بن سعية وغيرهم ممن آمن)( ).
ولكن الآية أعم لأنها تذكر المؤمنين منهم بصيغة الغائب والغيرية وموضوع من صار مسلماً مختلف لتغير العنوان.
صلة[وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: توكيد التباين بين المسلمين وغيرهم، بلحاظ أن نعت المسلمين بأنهم(خير أمة) شاهد على تنزههم عن الكذب على الله، وهذا التنزه حاجة لهم ولأهل الأرض، إذ بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لفضح الكذب عليه سبحانه، ومنع التحريف الحاصل في الكتب السماوية، فإن قلت ذات التحريف الذي تعرضت له التوراة والإنجيل باق على حاله، لم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإزالته.
والجواب من وجوه:
الأول: لقد تلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن من عند الله من غير واسطة من البشر، ولم ينزل قبله على أحد.
الثاني : في القرآن كفاية وبيان قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( )، جاهد من أجل سلامته من التحريف، وفاز بالتوفيق في تحقيق سلامة القرآن من التحريف بمدد ولطف من الله ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث : موضوعية النسخ في الأحكام في الشرائع ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إنتقل إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة، إلا أنه لم يغادر الدنيا إلا وقد صار تحريف القرآن أمراً ممتنعاً إلى يوم القيامة، وفيه أمور:
الأول: إنه دليل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، إذ طرأ التحريف على كتب سابقة بأيام النبي أو الصحابة أو التابعين من بعدهم بينما بقي ويبقى القرآن بذات الكلمات والآيات التي نزلت من عند الله عز وجل.
الثاني: نيل المسلمين مرتبة(خير أمة) بتعاهدهم لآيات القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، إذ سخّر المسلمون أنفسهم لحفظ آيات القرآن.
ومن الآيات عناية كل مسلم ومسلمة بهذه المسألة، وكل جيل وطبقة منهم، وعلى نحو يومي مستمر، وقد حبّب الله عز وجل لهم حفظ آيات القرآن، وإكرام الذي يحفظه ويحسن تلاوته.
الثالث: الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن باعث على حفظه وسلامته على نحو إنطباقي، وإدراك الحاجة لضبطه رسماً ولفظاً لترابط وتداخل معاني آياته، وتعدد مفاهيم كل آية منها.
قانون الحاجة الى التنزيل
تتجلى حاجة المسلمين والناس جميعاً لآيات القرآن في أفراد الزمان الطولية والأمور العامة والخاصة ، والحاجة للشيء سبب للعناية به وحفظه.
ويدرك أفراد(خير أمة) أن حاجتهم للقرآن متصلة ومتجددة وفي أمور الدين والدنيا، إذ جعله الله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ليكون النفع من القرآن متعدداً من جهات كثيرة منها:
الأولى: إنه المرجع في مستحدثات المسائل.
الثانية: هو المفزع عند طرو المسائل الإبتلائية.
الثالثة: هو الواقية السماوية من الفرقة والخلاف والخسارة، كما في آية السياق، وما فيها من الإنذار من الإيداع عند الذين بينهم من يريد أكل أموال المسلمين بالباطل.
الرابعة : لما تفضل الله عز وجل على المسلمين وأخرجهم للناس، فإنه سبحانه جعلهم يعرفون أهل الملل والنحل، وسجاياهم، وليس من أمة إرتقت إلى مراتب هذه المعرفة مثل المسلمين.
ما دام البحث هنا في قانون مستحدث وهو (الحاجة الى التنزيل) فهل هناك حاجة للناس للكتب السماوية التي طالتها يد التحريف أم أن طرو التحريف عليها يخرجها عن ملاك الحاجة ، المختار عو الأول ، وهي شاهد على صدق نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ]( ).
وتجمع آية السياق بين المتفرق، وتفرق بين المتحد، فتذكر أهل الكتاب على نحو الإتحاد بلحاظ رجوعهم للكتاب مع أنهم متعددون ومختلفون، فمنهم اليهود والنصارى , قال تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ]( ).
ثم ذكرت التباين بينهم في باب الأمانة والوديعة لبيان حقيقة وهي أن الكتاب الذي يتبعونه لا يأمرهم بالتعدي على المسلمين وأموالهم، لأنه جاء بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التعدي على الذين يتبعونه ويصدقونه، كما أن الأمانة حسنة بالذات والعرض، وهي من المعروف الذي تؤكد عليه الكتب السماوية، لتفيد آية السياق في مفهومها أموراً:
الأول: تذكير أهل الكتاب بما في الكتب السماوية من لزوم حفظ ورد الأمانة.
الثاني: ذم خيانة للأمانة، وتوكيد تناقضها مع الوظائف الشرعية والعقلية لأهل الكتاب.
وهل الحث على حفظ الأمانة من مصاديق الجدال بالأحسن في قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، الجواب نعم ، وفي قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( )، قال ابن عباس : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه( ).
قانون الثناء على رد الأمانة
لقد تضمن القرآن الثناء على أهل الكتاب الذين يؤدون أمانات وودائع المسلمين ، قال تعالى [مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ]( )، وتترتب عليه مسائل :
الأولى: إطمئنان المسلمين لهم في الودائع والمعاملات.
الثانية: إنه من الدلائل بأن الله عز وجل يثيب الذين يساعدون المسلمين، ويمتنعون عن إيذائهم، وإلحاق الضرر بهم.
وهل دفع الجزية في بدايات الإسلام من هذه الإعانة أم أن القدر المتيقن منها الأمن لأهل الكتاب وأنهم في ذمة الإسلام ودولة المسلمين ، الجواب هو الأول ، لذا قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
( وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول فالأمير راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع ومسئول عن زوجته ، وعن ما ملكت يمينه، والمرأة راعية لحق زوجها ومسئولة عن بيتها وولدها ، والمملوك راع لحق مولاه ومسئول عن ماله ، فكلكم راع وكلكم مسئول ، فأعدوا لتلك المسائل جوابا ، فقال : يا رسول الله ، وما جوابها ؟
قال : أعمال البر( ).
الثالثة: الإخبار عن الجزاء العاجل لمن يتجنب الضرر بالمسلمين، ويتعلق هذا الجزاء بالحياة الدنيا، وهو من عمومات رحمة الله بالناس في الدنيا، لأن الجزاء الأخروي مشروط بالإيمان.
الرابعة: دعوة هذا الفريق من أهل الكتاب إلى البقاء والثبات على نهجهم في حفظ ورد ودائع المسلمين.
الرابع: التفصيل والتقسيم في حال أهل الكتاب بخصوص رد أمانات المسلمين إخبار من علم الغيب، وشاهد على نزول القرآن ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
ومن الإعجاز فيه أن هذا التفصيل غير مختص بأيام النبوة، ومدة بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا بل هو وصف وحكم باق.
وفي قوله تعالى (ويقولون) أمران:
الأول: إنه إبتداء بحرف العطف الواو، مما يدل على إتصـاله بما قبلــه مـن مضــامين الآيـة الكــريمة، ولما كــان قول الكـــذب على الله عز وجل قبيحاً، فكذا ما قبله وهو جعلهم إنتفاء السبيل على المسلمين ذريعة لأكل أموالهم، وكل منهما من ظلم أهل الكتاب لأنفسهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
والكذب على الله كبيرة فهل قولهم[لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] كبيرة أيضاً.
الجواب نعم ، وليس من ملازمة بين الأمرين في مرتبة المعصية وإن كان كل منهما معصية وذنباً، وقول الكذب على الله أعم ولا ينحصر بموضوع الأمانة والوديعة بل يشمل تحريف التنزيل، وتبديل ما مذكور فيها من صفات النبي محمد والتي أرادها الله عز وجل عوناً سماوياً لأهل الكتاب للتصديق بنبوته.
الثاني: تجدد قول طائفة من الناس على الله الكذب، وإقامتهم على الإفتراء على الله وتدل عليه صيغة المضارع(يقولون) وهل يدخل فيه الكذب على الأنبياء .
الجواب نعم، فالكذب والإفتراء على النبي في أمور الوحي والتنزيل هو كذب على الله، وهو نوع جحود، قال تعالى[إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]( ).
قانون النهي عن التعدي في الأموال
ترى لماذا ذكرت آية السياق بصيغة الفعل الماضي ما ذكروه علة للتعدي على أموال المسلمين كما ورد في قوله تعالى(ذلك بأنهم قالوا) بينما ذكرت كذبهم على الله بصيغة الفعل المضارع، وليس بينهما في الآية الكريمة فصل فلم تقل الآية(ذلك بأنهم يقولون ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب)
والجواب من وجوه:
الأول: إن قولهم(ليس علينا في الأميين سبيل)متقدم زماناً على ودائع المسلمين عندهم، فقد كان المسلمون فقراء بداية الدعوة الإسلامية، يكتفون بالقليل، عاجزين عن إدخار الطعام والأموال، وكانوا ضعفاء، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثاني: إنتصر المسلمون في معاركهم الدفاعية ، كما في بدر وأحد والخندق( )، وجاءت الغنائم إلى المدينة المنورة، وأخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوزعها في الله على الصحابة، وشطر منهم قد يخرج إلى الغزو والنفير بعد إستلام سهمه، فطرأت حاجة على المسلمين وهي إيداع أموالهم عند غيرهم.
ويعلم المسلم أن أخاه المسلم ثقة، ولكنه يعلم بخروجه خلفه في في الكتائب والسرايا فيلجأ إلى الكتابي لأن أهل الكتاب أقرب أهل الملل إلى الإسلام، فكان شطر من أهل الكتاب يستحضر ما كانوا يقولون على المسلمين وأنه لا سبيل إلا الإضرار بهم.
وهل الغل والأخذ خفية من الغنائم من التعدي على الأموال العامة الجواب نعم لذا قال تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال : ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القَسْم، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله.
يقول: ما كان الله ليجعل نبيًّا يغلُّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم استنُّوا به( ).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(أنه قام خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال: ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول يا رسول الله، أغثني!
فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك!
ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني!
فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك!
ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ، يقول: يا رسول الله، أغثني!
فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك!
ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار( )( ) .
الثالث: الإخبار عن تثبيت شطر من الناس النية على أكل أموال المسلمين حينما ظهرت دولة الإسلام، وقويت شوكة المسلمين.
الرابع: توكيد نسبة العموم والخصوص بين القولين، وأن الكذب على الله هو المعصية الأكبر ، قال تعالى [انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا]( ).
الخامس: إمكان التدارك وإجتناب أكل الناس لودائع المسلمين بالإضرار بمن جعلها عندهم، والقيام على من يريد أكلها، ولكن الكذب على الله عندهم مستمر.
السادس: تأتي صيغة الماضي للدلالة على الثبوت والإمضاء، ليكون قوله تعالى[قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( )، شاهداً على إنتفاء السبيل والسلطان لكفار قريش على المسلمين في دينهم وأموالهم، قال تعالى[وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ).
الثالثة: الثناء على المسلمين وأنهم(خير أمة) ( )، لتنزههم عن الكذب على الله، بعد حصوله في أمم سابقة ، وفيه ترغيب بالصدق، وحض على ترك الكذب مطلقاً.
تلاوة خاتمة آية السياق
وفي تلاوة المسلم لخاتمة آية السياق أمور:
وخاتمة آية السياق هو قوله تعالى [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ) ، وقد تكرر مرة أخرى بعد ثلاث آيات( ).
الأول: إنه من الشواهد على كون المسلمين أفضل الأمم، وأنهم يشهدون على الناس في أعمالهم وحفظهم لميراث النبوة أو عدمه.
الثاني: فيه أمر بالمعروف ودعوة لإتباع الحق وترك الضلالة.
الثالث: إنه من النهي عن المنكر، بتجديد توكيد قبح الكذب على الله.
الرابع: تحذير الناس جميعاً من الكذب على الله، والذين يقومون به.
وهل يشمل هذا التحذير المسلمين أنفسهم الجواب نعم، وفيه آية في وقايتهم من الكذب على الله، والكذب مطلقاً، ومن الآيات في السيرة العامة للمسلمين حرصهم على إجتناب التحريف في كتاب الله، وبذلهم الوسع في تدوين أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعناية بعلم الرجال.
الرابعة: ذكرت آية البحث نفع إختيار الإيمان لأهل الكتاب، بقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
وتبين خاتمة آية السياق مصداقاً من مصاديق الحاجة إلى الإيمان، وباباً من أبواب الضرر على أهل الكتاب مع إصرارهم على الإعراض والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتؤكد الآية بأن دخولهم الإسلام ينجيهم ويسلمهم من أمور:
الأول: الكذب على الله (عن قيس بن خرشة قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله ، أبايعك على أن لا أخاف في الحق أحدا .
قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فلعلك إن طال بك عمر أن تدرك ولاة فلا تستطيع أن تقوم بالحق عندهم ، قال : فلبث الرجل حتى أدرك زيادا قال : فكف عنه زياد للذي بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى أدرك عبيد الله بن زياد قال : فأرسل إليه عبيد الله بن زياد وقال : أنت الذي تكذب على الله عز وجل وعلى رسوله عليه السلام ؟
قال : لا ، ولكن إن شئت أخبرتك بالذي يكذب على الله عز وجل وعلى رسوله عليه السلام ؟
قال : فقال علي بصاحب العذاب .
قال : فلما جاء قال : آتني بعذابك .
قال : فجاء بها يعذب به قال : فمات قيس من قبل المساء من غير أن يصيبه شيء ) ( ).
الثاني: الإفتراء على الأنبياء , والعذاب الأليم الذي يترشح عنه.
الثالث: التعدي على أنبياء وأولياء الله , وفي التنزيل[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع: الإصرار على إنكار المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه شاهد على المنافع الدنيوية والأخروية للإقرار بالتوحيد ودخول الإسلام، فحالما يدخل الإنسان الإسلام فإنه يتلو آيات القرآن وما فيها من الصدق وقول الحق، قال تعالى[إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ] ( ).
وفي دخول الإسلام إقرار بالبشارات التي جاء بها الأنبياء السابقون، وعصمة من الغلو بالأنبياء ويتضمن قوله تعالى [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ] ( ) الترغيب بمعالم الايمان والدعوة إلى الصلاح (عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر [كلمة] لبيد:
ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ) ( ).
ومنهم من يذكر في هذا الحديث بيت شعر كاملاً :
(أَلاَ كُلَّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ … وَكُلَُ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ) ( ).

القبح الذاتي للكذب على الله
لقد أختتمت آية السياق بالإخبار عمن كذب فريق من الناس على الله سبحانه وهم يعلمون بأنهم يختارون الكذب والتحريف.
فهل من موضوعية لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حصول هذا العلم.
الجواب نعم، فإن القرآن جاء بها محجة بيضاء من الله، إذ يخبر بذاته ومضامينه القدسية عن نزوله من عند الله، ويدعو الناس للتصديق بنبوته.
ومن خصائص(خير أمة) ( ) العلم بأنهم لا يكذبون على الله، وفيه وجوه:
الأول: بعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين، للملازمة بين السكينة وقول الحق.
الثاني: إرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة الإلهية، وتمييزهم بين الحق والباطل، والصدق والكذب ، وهل هذا الإرتقاء من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) الجواب نعم ، وهو صلاح بذاته ومقدمة للحكم بالعدل والإنصاف .
الثالث: ترغيب الناس بدخول الإسلام، لأن النفوس مجبولة علــى النفرة من الكذب مطلقاً، فمن باب الأولوية أن تنفر من الكــذب على الله، وتســعى للتنزه منه والإبتعاد عنــه، فأنعــم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كطريق للسلامة والوقاية منه.
وجعل الله عز وجل أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(خير أمة) أنعم عليهم بقول الحق والصدق، ومنه الإخبار عن قيام فريق من أهل الكتاب بالكذب على الله.
صلة قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )،بهذه الآية
وفيها مسألتان :
المسألة الأولى: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا محلاً لنزول رحمته، فهو سبحانه خلق الناس ليتلقوا رحمته، ويروا أن كل مصداق من مصاديق الرحمة الإلهية شاهد على عظيم قدرة الله عز وجل.
فإن قلت إنما خلق الله عز وجل الناس لعبادته بدلالة قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
والجواب إن عبادة الله رحمة وخير محض، فمن يتخذ من الدنيا وأيامه فيها محلاًً ومناسبة لعبادة الله فقد فاز برحمته تعالى في الدنيا والآخرة ، وبعث الله عز وجل الأنبياء لتثبيت قوانين عبادته وسنن التقوى ، فنشروا ألوية الإيمان وسنن التقوى في الأرض ، وصبروا على إيذاء قومهم لهم (عن عائشة؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
فقال: “لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني .
فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”.
قال: “فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟
إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين” ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا”، وهذا لفظ مسلم
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا) ( ) .
وهل يدل قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] على إنحصار الرحمة الإلهية بفريق من الناس.
الجواب لا، إنما جاءت لبيان خصوص وجوه ومصاديق من الرحمة التي تصيب المؤمنين على نحو التعيين، ليكون بينهم وبين باقي الناس في باب الرحمة الإلهية عموم وخصوص مطلق، بلحاظ فضل الله عز وجل على المسلمين بالهداية إلى إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأحكام والسنن وما فيه من الفوز في النشأتين ، قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ءوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) وفي الآية أعلاه ورد عن ابن عباس أنه قال (صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في رجب ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ونافع بن أبي نافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن أبي الحقيق ، وكنانة بن أبي الحقيق ، فقالوا له : يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون فتنته عن دينه . فأنزل الله { سيقول السفهاء من الناس } إلى قوله { إلاَّ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } أي ابتلاء واختباراً { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }( ) أي ثبت الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } يقول : صلاتكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم، واتباعكم اياه إلى القبلة الآخرة ، أي ليعطينكم أجرهما جميعاً { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } إلى قوله { فلا تكونن من الممترين })( ).
وتدل على المقصود الآية السابقة لآية السياق وقوله تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] ( )، لتوكيد نعمة الهداية على المسلمين، ومن الرحمة التي إختص الله عز وجل بها المسلمين أنهم(خير أمة) ( ).
وليس واجباً على الله عز وجل أن يجعل أمة من بين الأمم هي(خير أمة) ولكنه من رحمة الله بالناس جميعاً، ليفيد الجمع بين الآيتين إختصاص الرحمة بالناس جميعاً عند إختيار المسلمين لهذه المرتبة الرفيعة من وجوه:
الأول: موضوع الإختيار وهو الإيمان بالله والتصديق بالنبوة والتنزيل ، والصبر على أذى المشركين ، وأصرارهم على القتال وسقوط الشهداء وكثرة الجرحى في معارك بدر وأحد والخندق ، إلى جانب الأذى من المنافقين الذين بين ظهراني المسلمين (عن عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي قالا : قال معتب بن قشير : كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ، وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه من بني حارثة { إن بيوتنا عورة } وهي خارجة من المدينة : إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا ، فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم ، وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم ، ومقالة من قال من أهل النفاق ، { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها }( ) فكانت الجنود : قريشاً ، وغطفان ، وبني قريظة.
وكانت الجنود التي أرسل عليهم مع الريح الملائكة { إذ جاءُوكم من فوقكم } بنو قريظة { ومن أسفل منكم } قريش ، وغطفان . إلى قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } يقول : معتب بن قشير وأصحابه { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب } يقول : أوس بن قيظي ومن كان معه على ذلك من قومه) ( ) وفي معركة حنين في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة وبعد فتح مكة بنحو شهر ورد قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ).
الثاني: مواظبة المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل منهما رحمة بالناس، وتترشح عنها الرحمة وأسباب الصلاح.
الثالث: بيان فضل الإيمان، وشرف منازل الذين يختارونه، وفبه ترغيب للناس بالإسلام .
ويميل الإنسان بفطرته إلى الفوز بالمرتبة الرفيعة، والدرجة العالية بين أقرانه، فجاءت آية البحث لتؤكد للناس أن ملة الإسلام خير الملل.
الرابع: في الجمع بين الآيتين دلالة على الجزاء العاجل لأهل الإيمان.
الخامس: لقد أشرقت مع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شمس إستدامة التوحيد، بإيمان أمته المطلق بالله، وتنزهها عن الشرك والضلالة، قال تعالى[وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ] ( )، إن ذكر إختصاص رحمة الله بأمة دون الناس جميعاً، مع إشتراكها معهم بعمومات الرحمة من عظيم قدرة الله، وسعة رحمته ولطفه، قال تعالى[فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ]( ).
المسألة الثانية: لما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته، ونزول فضله على أهل الأرض ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ) فإنه سبحانه حضّهم إلى شكره على رحمته، وجعل هذا الشكر سبباً لزيادة فضله عليهم، فتأتي الرحمة من الله للناس إبتداء من عنده، ثم تأتي مصاديق منها عند قيام الناس بالشكر لله عز وجل، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( )، ويأتي الشكر في المقام على وجوه:
الأول: آية السياق وما فيها من الإخبار عن إختصاص شطر من الناس أو أهل ملة مخصوصة برحمة الله وتتجلى رحمة الله في المقام بالهداية إلى الإيمان والتقيد بسنن التقوى في العمل .
الثاني: آية البحث، وما فيها من إرتقاء المسلمين إلى مرتبة خير أمة.
الثالث: الجمع بين الآيتين، وفوز المسلمين بمراتب التفضيل, وتلقي مصاديق من الرحمة الإلهية فضلاً من الله تعالى ، وفي التنزيل قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
التقوى طريق النجاة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التقوى والخشي منه سبحانه ، وهذا الجعل لحب الله عز وجل للناس ، وإرادة الأجر والثواب لهم ، والفوز بالنعيم الأخروي ،ولو لم يكن المؤمنون [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) فهل كانت هناك مرتبة (خير أمة) بين الناس تنالها أمة أخرى غير المسلمين، الجواب تلك المرتبة نالها المؤمنون بالله ورسله وكتبه على نحو الإختصاص وهو من مصاديق قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ].
فكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء والمرسلين، والقرآن هو الكتاب الباقي إلى يوم القيامة بأحكامه ورسمه وسننه، فإن صفة[خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )خاصة بأهل الإيمان والتي تبعثهم إلى الإتحاد ونبذ الضعف والإرهاب وإلى الإمتناع عن الإضرار بالذات والغير ، فيجب أن يكون هذا الإمتناع ملازماً لسنن وسيرة المسلمين في القول والفعل ، قال تعالى [قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
فكل كلمة في الآية أعلاه دعوة للسلم وإشاعة الإحسان العام بمعنى صيرورته سنخية ثابتة للمسلم وتغشية للجميع ،ومنه :
الأولى : الأجر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي هو تكليف عام للمسلمين
الثانية : مخاطبة الآية المسلمين بلفظ عباد الله ، وهو دعوة من الله موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للرفق بالناس جميعاً ، واخبار عن تساوي الناس بصفة التشريف والإكرام وهي العبودية لله والتي تشمل البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، للمسارعة في وليكون من معاني قل ياعباد : يا أيها الرسول أرفق بالناس كافة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : بين صفة (عباد الله) و (الذين آمنوا) عموم وخصوص مطلق ، فالعباد أعم وأكثر ، قال تعالى [يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( )، وقد ورد النداء الى الذين كفروا بباء النداء العام (ياأيها) مرتين وبصيغة الإنذار والتبكيت :
الأولى : وهي تتعلق بالحياة الدنيا ، ونزلت في مكة [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ).
الثانية : وتخص يوم القيامة وحال الندامة والحسرة التي تتغشى الذين كفروا ولجوئهم الى الإعتذار حيث لا يقبل منهم العذر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
لقد تكرر الأمر من الله للناس بالتقوى والخشية من الله سبحانه، لتكون هذه الخشية سور الموجبة الكلية في تعاهد الناس للسلم باقترانه ومصاحبته للخوف من الله ، ومن مصاديق هذا الخوف لزوم الإمتناع عن الإرهاب والقتل العشوائي ، ومنه سلامة آيات السلم من النسخ.
وإذا كان الخطاب من الله يتوجه للمسلمين بتقوى الله ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] فهل يصح تقديرها : يا أيها الكفار اتقوا ربكم ، الجواب إن الخطاب والأمر بالتقوى يتوجه إلى الكفار بصفتهم بشراً وشطراً من الناس ، وليس بصفة الكفر والضلالة ، ليكون فيه حض لهم على التوبة والإنابة ويكون تقدير الآية بخصوص الكفار : توبوا الى ربكم واتقوه.
ومن التوبة الإمتناع عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولو كان الناس يتحلون بالتقوى لما وقعت الحروب بينهم ، ليكون قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ) إصلاحا للنفوس , ومنهاجا للسلم المجتمعي .
صلة(والله ذو الفضل العظيم) ( ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين كنتم خير أمة أخرجت للنا س والله ذو الفضل العظيم) وفيه أمور:
الأول: إن بلوغ المسلمين لمرتبة خير أمة بفضل من الله عز وجل، ولم يعلم الناس أن هناك مرتبة تشريف وإكرام هي مرتبة(خير أمة) ولا يعلمون الأمة التي تنال هذه المرتبة إلى أن تفضل الله عز وجل بالبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعثه ونزول القرآن ليتضمن آية السياق(كنتم خير أمة).
فأظهر المسلمون أسمى معاني التفاني والصبر والإخلاص في طاعة الله.
فعلم الناس جميعاً بالنعمة المتعددة في المقام لما في فلسفة إختيار أمة من بين الأمم للمرتبة الرفيعة من الموعظة والبعث على السعي الدؤوب في سبيل الله.
وهل كان الأنبياء السابقون يعلمون منزلة المسلمين هذه، الجواب نعم، وقد عملوا في تهيئة مقدماتها بأمور:
الأول: السؤال والدعاء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة أحكام الإسلام، وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
الثاني: البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإخبار الأتباع والأنصار بعلامات وأمارات بعثته، والدعوة إلى نصرته وإعانته ، وورد عن عيسى عليه السلام قوله تعالى[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وهذه البشرى نوع معجزة متجددة لعيسى عليه السلام، وشاهد على صدق نبوته ورسالته لما في هذه البشارة من دلالات منها:
الأولى: إنها إخبار عن المغيبات.
الثانية: من خصائص النبي بعث السكينة في نفوس الناس، وتتجلى في المقام بالبشارة بالعدل والإنصاف الذي يملأ الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: التخفيف عن أصحاب وأنصار عيسى عليه السلام لما يلاقونه من الأذى فان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آمن للمسلمين.
الرابعة: التخويف والوعيد للذين يكذّبون عيسى عليه السلام والذين سعوا في صلبه بالإخبار عن حقيقة وهي مجئ نبي لا تصل إليه أيدي الكفار، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث: إصلاح النفوس والمجتمعات للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: بعث الشوق في نفوس الناس ليكونوا من [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) بإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تنمية ملكة الصبر والتقوى عند أتباع الأنبياء للتطلع لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحمل الأذى والضرر من الكفار بالبقاء على الإسلام.
وتلقي المصائب بالمواساة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يواسي أصحابه ويحصنهم على الصبر و(عن محمود بن لبيد ، عن معاذ بن جبل ، أنه مات ابن له ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعزيه بابنه :
بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى معاذ بن جبل ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فأعظم الله لك الأجر ، وألهمك الصبر ، ورزقنا وإياك الشكر ، فإن أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله الهنيئة ، وعواريه المستودعة . متعك به في غبطة وسرور ، وقبضه منك في أجر كثير . الصلاة والرحمة والهدى .
إن احتسبته فاصبر ، ولا يحبط جزعك أجرك فتندم ، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ، ولا يدفع حزنا ، وما هو نازل فكأن قد . والسلام)( ).
وفيه نكتة وهي من السنة التدوينية الرسائل الشخصية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حتى اولئك الذين معه في المدينة.
إختيار المؤمنين لمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) نعمة , وكذا مجئ هذا الإختيار مقترناً باختتام النبوات ونزول الوحي، فلو لم يتم إختيار أمة لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ] عند نزول القرآن لما كانت أمة ترتقي لهذه المنزلة، وتلك آية في تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين عليهم السلام بان إختصه الله عز وجل بالآية التي بينت وجود مرتبة عظيمة بين الأمم وهي[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
وهذا التفضيل من مصاديق قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، وقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ].
فمن فضل الله عز وجل في المقام مجئ الآية مصداقاً على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: توجه الخطاب الإلهي لإحدى الأمم بأنهم خير الأمم منذ خلق آدم لقوله تعالى بصيغة الخطاب [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ].
الثاني:(خير أمة) هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين، فلم ترتق أمة لهذه المنزلة إلا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: (خير أمة) هي التي تتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
الصغرى: المسلمون إتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الثالث: إنقطاع الوحي بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وقد تقول:إن إنقطاع الوحي بذاته لا يدل بالضرورة على أنه من فضل الله، والجواب كل فعل وأمر من الله فضل منه تعالى، وإنقطاع الوحي شاهد على قوانين :
أولا : قانون إختتام النبوة والرسالة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليس من نبي بعده، ولا يستطيع أحد إدعاء النبوة وان كان ملكاً ذا سلطان واسع , وأموال طائلة لعجزه عن جعل الناس يفتتون به.
ثانيا : نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشرائع السابقة،.
ثالثا : قانون عدم مجيء شريعة تنسخ شريعته .
الرابع: قانون دخول الناس في الإسلام لأنه الديانة الباقية إلى يوم القيامة، وعدم خروجهم منه إلى ديانة أخرى، وان بذل فريق من الكفار الوسع ليرتد بعض المسلمين عن دينهم، قال تعالى[وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
وليس من أمة من الموحدين تعرضت للحرب من أجل ترك دينها، وظلت ثابتة على الإسلام مثل أمة محمد، لذا نالت شرف مرتبة (خير أمة)، بالإضافة إلى حقيقة وهي رجحان كفة الكفار في العدة والعدد، لولا فضل الله عز وجل على المسلمين بالمدد الملكوتي.
ومن فضل الله عز وجل على الناس خروج المسلمين لهم جميعهم بصيغة الإيمان , ورداء التقوى، وسلاح الفرائض وأدائها، فلا يستطيع الناس إستيفاء حق الله عز وجل في لزوم شكره على نعمة خروج المسلمين لهم.
ومن كان بعيداً عن المسلمين، ولم يختلط بهم، ولم يدعوه للإسلام بالقول والفعل الحسن فهل يلزمه الشكر لله على نعمة خروج المسلمين أم أنه خارج بالتخصيص.
الجواب هو الأول لأن منافع خروج المسلمين تأتي للإنسان بالذات والواسطة، وتظهر بعالم الأفعال والأحكام والسنن الأخلاقية والتي تتجلى في قوله تعالى في آية البحث[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ].
لقد أراد الله عز وجل للناس النفع الدائم في الحياة الدنيا والآخرة بخروج المسلمين لهم.
أما النفع في الحياة الدنيا فهو ظاهر وجلي، وأما في الآخرة فهو إبتعاد الناس عن الفواحش ومنعهم من التمادي في المعاصي وأسباب الضلالة.
وأما في الآخرة فان آثار ونتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتجلى في أعمال الناس وإختيارهم الصلاح الذي يكون سبباً لنيل الأجر والثواب، قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ]( ).
ولما جعل الله عز وجل الدار الآخرة دار الجزاء والثواب فانه سبحانه هيئ أسباب الصلاح للناس، وجعل أمة عظيمة قريبة من الناس جميعاً، وتحمل لواء الدعوة إلى الله وعندها ميراث النبوة، والتنزيل السالم من الزيادة والنقصان.
وفي متعلق خروج المسلمين للناس أطراف:
الأول: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المسلمون.
الثالث: الناس.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخالدة التي تؤهل المسلمين للخروج للناس، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين، فليس من رسالة ترشح عنها خروج أمة للناس إلا رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
وفضل الله عز وجل يتغشى هذه الأطراف مجتمعة ومتّفرقة، كما أن الفضل الإلهي على كل طرف منها يؤثر تأثيراً حسناَ على الطرفين الآخرين، وتلك آية في الفضل الإلهي بأن ينتفع منه الذي يصيبه الفضل وغيره، وقد يكون هذا الغير أكثر وأوسع من الذي يأتيه الفضل ، وهو من مصاديق وصف فضل الله بأنه عظيم ، قال تعالى [وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
إن قلت إن آية السياق ذكرت خصوص رحمة الله بقوله تعالى [يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ].
والجواب جاءت خاتمة الآية لتوكيد عموم الإنتفاع من رحمة الله الخاصة، وهو من إعجاز الآية، فبركات الرحمة الخاصة عظيمة على الذين تصيبهم، وهي عامة وشاملة للناس جميعاً، فمن رحمة الله عز وجل أن تكون رحمته على وجوه :
الأول : الرحمة الخاصة على فرد معين، وتأتي الرحمة من وجوه:
منها توالي النعم، والنماء في المال، والسعة في الرزق، والعافية في البدن، وتوالي النعم على شعبتين:
الأولى : الأسباب الظاهرة، ووجود المقدمات العقلية.
الثانية: بفضل من الله ومن غير أسباب ظاهرة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثاني: الرحمة الخاصة على أمة من الأمم، كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثالث : الرحمة الخاصة التي تعم المسلمين وأهل الكتاب ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابع : الرحمة التي تشمل الناس جميعاً، وكل فرد من هذه الأفراد يعم الناس جميعاً ، قال تعالى [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( )، ولكن هذا العموم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وأقواها واكثرها ما يكون على الذي تصيبه الرحمة الإلهية الخاصة، إلا في حالة وهي إذا كانت الرحمة الخاصة لغير المسلم فان المسلم ينتفع منها أيضاً ، فما يكون من الخير والنعم عند الكفار ينتفع منه المسلمون بالعرض، وتكون الثمرة تثبيت معالم التوحيد في الأرض.
وهل ينتفع الكفار من الرحمة الخاصة بالمسلمين، الجواب نعم، بدليل قوله تعالى في آية السياق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فذات الخروج رحمة بالمسلمين والناس، وفيه دعوة للمسلمين للتحلي بالخلق الحميد ونبذ الإرهاب لما فيه من التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وتتجلى تلك المنافع في أبهى مصاديقها بدخول فريق من الناس في الإسلام قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
صلة[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]بــ[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]
وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر والله ذو الفضل العظيم، وفيه وجوه:
الأول : يأمر المسلمون بالمعروف بأمر وفضل من الله عز وجل، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الثاني: الهداية إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قضل الله , ورحمته .
الثالث : أمر الله عز وجل للمسلمين بالأمر والنهي من الفضل العظيم الذي أنعم الله به عليهم وعلى الناس، وليس من حصر لمصاديق هذا الأمر على المسلمين وعلى الناس، أما فضل الله عز وجل على المسلمين، ففيه وجوه:
الأول: تشريف وإكرام المسلمين بتوجه الأمر الإلهي إليهم.
الثاني: بعث المسلمين على فعل المعروف، والمناجاة بإجتناب المنكر، إذ أن ذات الأمر بالمعروف ترغيب بإتيانه.
الثالث: تنمية ملكة الصلاح والتقوى عند المسلمين.
الرابع: تعاون وتعاضد المسلمين في سبل الخير، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق عبادة الله في الأرض، ومعاني طاعته والإمتثال لأوامره.
السادس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناسبة لشكر الله عز وجل على نعمة الهداية وهو بذاته شكر لله عز وجل.
السابع: جذب الناس للإسلام، ودعوتهم بالذات والعرض إلى الإيمان، إذ أن الدعوة لدخول الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا فإن كل أمر ونهي بعث للهداية.
الثامن: إنه وسيلة لتثبيت رفعة وعلو شأن المسلمين بين الناس، لما في الأمر بالمعروف من معاني السمو والصلاح، وقصد نفع الناس في النشأتين، إذ يدرك الفرد والجماعة بالفطرة أن الذي يأمر بالمعروف لا يريد إلا مصلحتهم ودفع الأذى عنهم.
ومن الآيات تجلي هذا المعنى في المفهوم والنتائج، إذ يرى الجميع الأضرار التي تلحق بمن يعرض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويأبى الإستماع لهما، لتكون هذه النتائج عبرة وموعظة، ومناسبة لبعث المسلمين على السعي الدؤوب في سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فضل الله عز وجل بأن تكون نتائج الإعراض عنها عبرة وموعظة مع التباين بينهما، إذ أن الإمتثال خير محض، والإعراض أذى وضرر.
وأما فضل الله عز وجل على الناس بقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو من وجوه:
الأول: تلقي الدعوة إلى طاعة الله على نحو متصل ومتجدد.
الثاني: تنمية النفس اللوامة عند الناس مطلقاً بالزجر عن الفواحش ، و(عن ابن مسعودٍ قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : استحيوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحياءِ ، قَالَ : فقلنا : يَا رسولَ اللَّهِ ، إنَّا نَسْتَحِي وَالحَمْدُ للَّهِ ، قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ ، ولكن الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ)( ).
الثالث: منع الناس من التمادي في الذنوب والإقامة على المعاصي ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النهي عن المنكر والسيئات، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فعندما احتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، باحتجاج عقلائي وجيه وهو قيام الإنسان بالإفساد في الأرض، كان الرد حجة قاطعة، وبرهاناً ساطعاً بأن هذا الإفساد متزلزل ومحاصر بالنهي عن المنكر الذي يقوم به الأنبياء و(خير أمة) وأن قيامها بالنهي عن المنكر مستمر إلى يوم القيامة وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وهذا الفعل الحسن من المسلمين شاهد بأن الفساد ليس صبغة ملازمة لفعل بني آدم في الأرض، إذ أن أفعال بني آدم في الدنيا تكون على شعب:
الأولى: فعل المعروف وإتيان الصالحات.
الثانية: الأمر بالمعروف.
الثالثة: الزجر والنهي عن الفساد والفواحش.
الرابعة: النهي الفساد في الأرض وسفك الدماء ، ومنه الظلم والإرهاب والتفجيرات العشوائية .
وفيه دلالة على أن غلبة المعروف والصلاح بثلاثة من الوجوه أعلاه متظافرة وتبعث الناس للصلاح، وهذا التعدد في وجوه الخير والصلاح من عمومات الآية أعلاه.
الرابع : وجود أمة عظيمة وهم المسلمون يتصدون للمنكر، ويجتهدون بلغة الحكمة والموعظة من أجل تفاديه، وعدم إشاعته بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : تلاوة المسلمين للآيات القرآنية التي تبين سوء عاقبة الذنوب والمعاصي، وتوكيدهم للقبح الذاتي للذنوب، وهذا البيان من عمومات قوله تعالى[وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
إذ أن النهي أعم من الزجر والمنع فيشمل مقدمات هذا الزجر، وبيان قبح وأضرار المنكر.
المسألة الثانية : لقد جعل الله عز وجل العقل عند الإنسان ليكون سبيل هداية، ووسيلة مباركة للميل إلى طريق الصلاح، وإختيار الإيمان، وإجتناب الكفر، وهو من فضل الله عز وجل، ثم تفضل مرة أخرى وجعل أمة مؤمنة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر.
وهو من وظائف ومنافع العقل من وجوه:
الأول: إدراك الحسن الذاتي للمعروف، ومن خصائص (خير أمة) توظيف العقل لمعرفة مصاديق المعروف، وملائمتها للفطرة الإنسانية ، مع حسن التوكل على الله وفي التنزيل [وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
الثاني: التسليم بالحاجة إلى الأمر بالمعروف بين الناس.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وتفضل بعدم التخلية بينه وبين الحاجة، فتفضل عليه ورزقه العقل لأمور منها:
أولاً:معرفة الإنسان حاجته وضعفه ونقصه، قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
ثانياً : تعيين الأفراد والمصاديق التي تسد هذه الحاجة، وكيفية الإنتفاع الأمثل منها.
ثالثاً: الإنبعاث لفعل المعروف.
الثالث: لزوم الأمر بالمعروف لاصلاح الغير والذات، فيدرك العقل الشخصي والجمعي أن الأمر بالمعروف إصلاح للغير، وواقية للذات من التفريط بالمنافع التي تجنى من فعل المعروف، لذا فمن خصائص (خير أمة) وهم المسلمون إكتساب المعارف وجني المنافع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو من فضل الله عز وجل عليهم وعلى الناس إذ يسعى المسلمون إلى أسباب الهداية والصلاح، ويمنعون من الحروب والظلم والإرهاب ، ويحولون إنتشار الرذيلة.
فكان الإنبياء يرفعون لواء الإيمان ، ويدعون الناس إلى الإسلام وفي كتاب سليمان النبي الى بلقيس ورد في التنزيل [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( ).
الرابع: سياحة العقل في افراد ومعاني المنافع العظيمة التي تترشح عن الأمر بالمعروف للآمر والمأمور وغيرهما، مما يجعل الفرد والأمة يتمسكون بهذا الأمر والنهي ويشعرون باللذة الفكرية عند مزاولتهما وإتيانهما، وقيام بعضهم بندب بعضهم الآخر للأمر والنهي، وعدم إعتراض أو ظهور إحتجاج بينهم على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعــدم الإعــــتراض والجدال في المقام من مصــاديق رد الله عــز وجل على الملائكة حينما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ( )، إذ أن المسلمين يقومون بأمور كل فرد منها براءة من الفساد، وحرب عليه، وهي:
الأول: فعل المعروف وإتيان مصاديقه على نحو مستديم ومتجدد.
الثاني: الأمر بالمعروف.
الثالث: الأمر بالأمر بالمعروف وهل هذا الأمر من الأمر بالمعروف أم أنه مقدمة له.
الجواب لا تعارض بين الأمرين، فكل منهما من معانيه كما أن الأمر بالمعروف أمر توليدي تتفرع عن الفرد الواحد منه أوامر عديدة.
الرابع:المدح والثناء على الذي يقوم بالأمر بالمعروف منهم، فلا تسمع ذماً أو ترى حسداً للذي يجاهد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: بذل المسلمين الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكتفون بقول وفعل متحد في مقام النصح والإصلاح.
السادس: إنفاق المسلمين المال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن عمومات قوله تعالى[لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] ( )، لما فيه من الصلاح بالذات والأثر المترتب عليه ولترغيب المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الفتور فيه إن إستلزم بذل المال.
السابع: تلقي المسلمين الأذى والضرر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحملهم الأخطار والعناء.
المسألة الثالثة: إن الله عز وجل ينعم بالأوفى والأتم، ولما تفضل وجعل المسلمين خير أمة فانه سبحانه قيّض الأسباب التي تجعلهم يقيمون على هذه المنزلة على نحو دائم ومستديم، فرزقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله واجباً عليهم، وبشّرهم بالثواب العظيم الذي ينتظرهم في الآخرة لأن إتيانه دليل على أمور:
الأول: الإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الثاني: التسليم باليوم الآخر ، قال تعالى [ لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثالث: وقوف الناس بين يدي الله عز وجل للحساب، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( )، لينال المؤمنون الأجر والثواب .
وهو من فضل الله عز وجل عليهم، وفيه دلالة على الإعجاز في الشريعة الإسلامية، والإعجاز الذاتي والغيري في آيات القرآن الكريم.
فلا يمكن النظر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو مجرد ومنفصل عن الأسباب والآثار القريبة والبعيدة، فيأتي الأمر من الله للمسلمين في القرآن بفعل مخصوص ليحافظ المسلمون على أسمى المراتب التي نالتها الأمم من بني آدم، وكل دولة يتوقع لها الضعف والزوال، إلا دولة الإسلام فانها باقية في منازلها، بذات العز والرفعة، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
إذ بينت الآية أعلاه مصاحبة العزة والرفعة والمنعة للمسلمين، وعدم مغادرتها لهم.
المسألة الرابعة : لقد وصفت آية السياق الفضل الإلهي بأنه(عظيم) وفيه وجوه:
الأول: إنه بشارة للمسلمين بتوالي أسباب الخير والنعم من الله عز وجل، وهو من ملازمة والفوز بالنصيب الأوفر من الفضل الإلهي، لخير أمة ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : خير أمة تفوز بالنصيب الأوفر من الفضل الإلهي.
الصغرى : المسلمون خير أمة.
النتيجة : المسلمون يفوزون بالنصيب الأوفر من الفضل الإلهي.
الثاني : فيه نوع إعجاز وتحد للكفار بأن الفضل الإلهي النازل على المسلمين والناس عظيم ومن اللامتناهي، وفيه دليل على أن الله عز وجل هو الخالق وهو [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، وتجب عبادته، وقد جعل الله عز وجل المسلمين على ملة إبراهيم الحنيفية، وصفة حسن العبودية لله عز وجل، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا]( ).
وهل العبادة طمعاً بالفضل الإلهي أمر مكروه.
الجواب لا، فإن قلت من العلماء من قال بكراهته لقول الإمام علي عليه السلام: إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار)( ).
والجواب جاء الحديث لبيان الفرد الأحسن والأمثل في العبادة وهو أن حب الله عز وجل والسياحة الذهنية في فضل الله والطمع فيه يجعل الإنسان يعشق العبادة، ويأتيها بشوق ورغبة مع صحة العبادة طمعاً في الجنة وخوفاً من النار.
وكأن النية في العبادة مثل مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)( ).
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام لأن الدخول فيه مقدمة وعلة للغرق في فضل الله العظيم قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ]( ).
وهذا من الآيات والدلالات القدسية على ما في الفضل الإلهي من الأسرار، إذ جعله الله عز وجل ضياءً ينير دروب السالكين.
فيأتي الفضل الإلهي على المسلمين فيرغب الناس فيه بالفطرة، لتكون هذه الرغبة من عمومات ومنافع نفخ الروح في آدم، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( ).
ليبقى هذا النفخ وسيلة سماوية مباركة لجذب الناس إلى منازل الإيمان ومقامات التقوى وليس بينهم وبين النهل من فضله تعالى إلا النطق بالشهادتين.
وإن أصر الإنسان على الكفر فهل يحرم من فضل الله عز وجل على نحو السالبة الكلية.
الجواب لا، ففضل الله سبحانه يتغشى الناس جميعاً وهو من مصاديق وصفه بالعظيم.
ومن معاني(الفضل العظيم) أمور:
الأول: شمول الفضل الإلهي للناس جميعاً ومنهم الذين إختاروا الكفر والجحد جهلاً وعناداً ، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
الثاني: تنعم الناس جميعاً بالطيبات , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
الثالث: إمهال الله عز وجل للكفار، مع أنهم يعملون بخلاف ما أمرهم الله به، ويستكبرون في أرضه وملكه قال تعالى [إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ]( ).
ولكن هذا الفضل لم يأتهم ليصروا على البقاء في منازل الكفر بل هو ذكرى وموعظة لهم وللناس جميعاً، وفي كل فرد من أفراد الفضل الإلهي النازل على الكفار وجوه :
الأول : تذكير الكفار والناس جميعاً بلزوم التوبة ، ومن إعجاز القرآن دعوة الناس جميعاً المؤمن والكافر إلى التوبة والإنابة مما يدل على حسنها الذاتي والغيري ، وأنها حاجة .
الثاني: إنه دعوة للإستغفار.
الثالث: فيه حث على ترك منازل الكفر والجحود.
الرابع: الإنذار من البقاء والإقامة في منازل الكفر، قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
صلة(والله ذو الفضل العظيم) بــ(تؤمنون بالله)
وفيه مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: تؤمنون بالله والله ذو الفضل العظيم)وفيه أمور:
الأول : الملازمة بين الإيمان بالله وفضل الله عز وجل على الذين آمنوا بآيات من اللطف وأسباب من الرحمة التي تتجلى بقوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثاني : بيان الثواب العاجل للإيمان، فحالما يؤمن الإنسان يأتيه فضل من الله معلق على الإيمان، إلى جانب النعم التي رزقه , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثالث : في الجمع بين الآيتين إعجاز وسبيل لتثبيت الإيمان في صدور المســلمين لمجئ مصاديق من الخير والنعم تأتيهم مع الإيمان بفضل من الله عز وجل ، وهو مـن معــاني وصف فضـــل الله بأنه عظيم، لما فيه من شكر الله عز وجل للعبد على الإيمان، وتثبيته في قلبه، وحث الناس على الإقتداء به.
الرابــع: توكيــد حســن إختيار المســـلمين فهــم آمنوا بالله عـــز وجل ، وهو سبحانه ذو الفضل العظيم الذي يخص المؤمنين بمغفرة الذنوب والرزق الكريم، قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ] ( ).
الثانية: في وصف فضل الله بأنه عظيم أمور:
الأول: إنه برهان على الربوبية المطلقة لله عز وجل , ومنه :
الأولى : مجئ فضل الله عز وجل إبتداء واستدامة .
الثانية : عدم حجب المعصية لفضل الله عز وجل عن العبد .
الثالثة : مجئ فضل الله عز وجل برحمة من الله عز وجل وليس عن استحقاق من العبد .
الرابعة : يأتي فضل الله عز وجل من جهة الإنسان , ومن جهة لا يظنها, قال تعالى [لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ]( ).
الخامسة : عجز الخلائق عن منع فضل الله عز وجل أو تأخيره عن الفرد والجماعة وعموم أهل الأرض , قال تعالى[وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ] ( ).
السادسة : يصلح الله عز وجل الناس بفضله , وفي التنزيل [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
الثاني: فيه دعوة للناس للإيمان والدعاء , و(عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج) ( ).
الثالث: فيه ترغيب للناس بفضل ورحمة الله عز وجل، وهذا الترغيب من فضل الله، ليكون فضل الله في المقام على وجوه:
الأول: ذات الترغيب بالإسلام فضل من الله، ويدل عليه مفهوم قوله تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( ).
الثاني: موضوع الترغيب وهو الإسلام وأداء الفرائض من فضل الله عز وجل، فهو [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ) غير محتاج لهم ولعبادتهم.
الثالث: ذات الغاية من الترغيب فضل من الله لأنه بعث للصلاح، وعلة للفوز بالثواب والخلود في النعيم , قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الثالثة: يتغشى الفضل الإلهي الناس جميعاً، والمؤمنون هم أولى بالفضل والرحمة النازل من الله عز وجل، وفيه وجوه:
الأول: تدل هذه الأولوية على النماء والبركات التي تصاحب الإيمان بالله عز وجل.
الثاني: فيه دعوة للناس لنبذ الكفر والضلالة، فإن الجحود سبب لنزول البلاء , إلا أن يشاء الله عز وجل من فضله إدامة فضله وهذه الإدامة من معاني وصفة العظيم لفضل الله عز وجل .
الثالث: بيان عظيم قدرة الله عز وجل ورحمته بالمؤمنين في الحياة الدنيا.
ليكون من مفاهيم الجمع بين الآيتين حث الناس على التوبة والإنابة وبعث الشوق في نفوسهم للفوز بالفضل العظيم من الله عز وجل الذي يكون مفتاحاً ومقدمة له.
من معاني عظمة الله عز وجل
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يتغشى فضله كل مخلوق وفي كل لحظة ومن مصاديق فضل الله عز وجل وجوه( ) :
الأول: إنطباق وصدقه على الذي يتغشى الأمة.
الثاني: إرادة التعدد في الفضل الإلهي، فكل فرد منه فضل، ويصدق النعت بالعظيم على المتحد الكثرة والمتعدد منه.
الثالث: إرادة صرف الطبيعة والفرد الواحد لأن كل فرد منه لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
الرابع : من معاني العظيم في فضل الله أن الله عز وجل فضله بيده وليس بيد ملك مقرب أو نبي أو رسول وفيه رحمة أعظم وأعم للناس جميعاً , قال تعالى [وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
وكل هذه الوجوه من مصاديق الفضل العظيم الذي يتفضل به الله تعالى، فإن قلت كيف يصح إطلاقه على المفرد والمتعدد، فإذا كان المصداق الواحد منه عظيماً، فلا بد أن المصاديق المتعددة أكثر عظمة.
والجواب كل فرد من فضل الله عظيم، ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه، وهو شاهد على بديع صنع الله، وعظيم قدرته وسلطانه، لذا جاء الإخبار عن إيمان(خير أمة) بالله ليكون دليلاً على إختيارهم ما فيه خير الدنيا والآخرة.
ويفيد الجمع بين الآيتين البشارة والمصداق لهذا الخير، من غير تعارض بينهما، بالإضافة إلى حقيقة وهي تعدد وجوه البشارة وعدم إنحصاره بالمصداق الحاضر والحال.
فمن مصاديق فضل الله العظيم توالي أفراده وعدم إنقطاعها، وتلك آية بأن يعلن العبد إيمانه فتفتح عليه أبواب الفضل ليكون كالنهر الجاري المتصل لذا فرض الله عز وجل العبادات على المسلمين , لتكون على وجوه:
الأول: إنها شكر لله تعالى على هذا الفضل.
الثاني: إنه وسيلة لدوام وزيادة ومضاعفة الفضل الإلهي.
الثالث: فيه حث للناس لدخول الإسلام.
الرابع: إنه مصداق عملي لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : ذات العبادة فضل الله عز وجل من جهات :
الأولى : نزول الفرائض العبادية من الله عز وجل .
قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وقال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
وقال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وقال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
وقال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وعن(الإمام علي بن الحسين عليهما السلام يقول : من عمل بما افترض الله عليه فهو من خير الناس) ( ).
والعبادات ذاتها فضل، وجاءت متعقبة للفضل الإلهي بالإيمان قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وتترشح عنها أفراد كثيرة من الفضل الإلهي في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
صفة (خير أمة) تتضمن التنزه عن الإرهاب
ومن مصاديق الفضل الإلهي بإيمان المسلمين صيرورتهم قدوة وأسوة للناس لدخول الإسلام.
فمن فضل الله عز وجل على الناس وجود أمة مؤمنة بالله، شهد الله عز وجل لها بالصلاح والتقوى كما جاء في آية البحث[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] لطرد الشك والريب من دخول الإسلام، وهذا الطرد مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومناسبة للتدبر في المعجزات التي جاء بها، وكل معجزة منها فضل عظيم من الله عز وجل.
وهل في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تحريم للإرهاب على المسلمين الجواب نعم فلابد من الخروج للناس بسنن الصلاح والتقوى والأخلاق الحميدة ، والتنزه عن سفك الدماء والتفجيرات والإرهاب وإخافة الناس في بيوتهم وأسواقهم .
إن الإقتداء بالمسلمين في مسالك الإيمان شاهد بأن المسلمين قد تفضل الله عز وجل عليهم وحباهم الله عز وجل مرتبة (خير أمة) ليتجلى فضل الله العظيم على أنفسهم وعلى الناس وكل فرد منه هو خير محض، وهبة ولطف في عالم الممكنات.
الرابعة: وصف الله المسلمين في آية البحث بأنهم مؤمنون بالله، وذكرت آية السياق أن الله ذو الفضل العظيم مما يدل على أن في إيمان المسلمين حجة قاطعة لهداية الناس إلى سبل الإيمان ، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
كثرة وجوه الفضل الإلهي
لا تنحصر الحجة في المقام بإيمان المسلمين ودعوتهم إلى الهداية والإيمان لأن قوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]، يتضمن في دلالاته أموراً:
الأول: تعدد وجوه الفضل الإلهي في باب الجذب إلى منازل الهدى .
الثاني: إقامة البرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل آية من القرآن مصداق لهذا البرهان ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة( ).
الثالث: لزوم الإيمان برسالته ونصرته والإقرار بنزول القرآن من عند الله.
إن إيمان المسلمين وهدايتهم للإسلام فضل من الله ليتولد عنه فضل أعم في موضوعه، فيشمل الناس جميعاً، ويطل عليهم أداء المسلمين للعبادات كل يوم ليكون حجة ودعوة للتدبر في الخلق وعلته، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( )، ليكون من الآيات في النفوس وجوه:
الأول: دخول شطر من الناس الإسلام وبلوغهم مراتب الإيمان.
الثاني: فوز المسلمين بمرتبة(خير أمة).
الثالث: وجود المسلمين بين الناس تذكير لهم بوجوب الإيمان والإقرار بوجوب التسليم بالعبودية لله عز وجل.
الرابع: بعث الناس على التفكر في الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في دخول المسلمين الإسلام، وإنبعاثهم للجهاد في سبيل الله، قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
الخامس: ذات الإسلام ديناً وعقيدة ومنهاجاً فضل من الله وآية تبعث السكينة في النفوس، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ).
السادس: أداء المسلمين للعبادات على نحو منتظم وإتيانهم لها كما أداها رسول الله آية من فضل الله، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
قانون فضل الله مانع من الإرهاب
لقد أثنى الله عز وجل على نفسه إذ وصف فضله بأن عظيم , وفيه دعوة للتفكر في رحمة الله عز وجل , والإنتفاع الأمثل منها وفي التنزيل [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
كما ذكر الله عز وجل حسن ثواب الآخرة بأنه فوز عظيم وذات الفضل من الله عز وجل هو فوز عظيم , كما في التنزيل [فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
ومن الأسماء الحسنى لله عز وجل (العظيم) لتكون صفة (العظيم) من الكلي المشكك فهناك تباين في القول والماهية بين اسم العظيم لله عز وجل وبين صفة العظيم التي وردت في فضل الله عز وجل , والماهيات المختلفة طرداً وعكساً , وقد وصف الله عز وجل العرش بأنه عظيم قال تعالى [رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ]( ) ووصف القرآن بأنه عظيم قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] ( ) .
ووصف الله البحر بقوله تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
و(عن السدي قال : ثم إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال { أسر بعبادي ليلاً }( ) فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا ، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط ) ( )، وأمر أن لا ينادي أحد منهم صاحبه ، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح ، وأن من خرج منهم أمام بابه يكب من دم( ) حتى يعلم أنه قد خرج، وأن الله قد أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل ، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط حتى أتوا آباءهم .
ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون ، وألقى على القبط الموت فمات كل بكر رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونهم فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفاً . لا يعدون ابن عشرين لصغره ، ولا ابن ستين لكبره ، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية .
وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماذيانة وذلك حين يقول الله { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون }( ) فكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى : أين أمرت؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم فمنعه موسى .
فنظرت بنو إسرائيل إلـــى فرعون قد ردفهم قالوا : يا موسى { إنا لمدركون }( ) قال موسى { كلا إن معي ربي سيهدين }( ) يقول : سيكفين .
فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح وقال : من هذا الجبار الذي يضربني؟
حتى أتاه موسى ، فكناه أبا خالد وضربه { فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم }( ) يقول : كالجبل العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل وكان في البحر اثنا عشر طريقاً في كل طريق سبط ، وكانت الطرق إذا انفلقت بجدران فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا .
فلما رأى ذلك موسى عليه السلام دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطبقات ينظر آخرهم إلى أولها حتى خرجوا جميعاً ، ثم دنا فرعون وأصحابه فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً.
قال : ألا ترون إلى البحر منفلقاً قد فرق مني ، فانفتح لي حتى أدرك أعدائي فاقتلهم ، فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل على ماذيانة .
فشمت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم . أمر الله البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم وتفرد جبريل بفرعون بمقلة من مقل البحر ، فجعل يدسها في فيه) ( ).
ليلحق الخزي بفرعون في الدنيا والآخرة
صلة (والله ذو الفضل العظيم)بـ(ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم)
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين بعث أهل الكتاب إلى منازل الإيمان، وتقدير الجمع بين الآيتين هو: ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم والله ذو الفضل العظيم).
الثانية: الوعد الإلهي الكريم لمن آمن من أهل الكتاب وغيرهم من الناس فليس من تقييد في المقام يتعلق بأهل الكتاب .
الثالثة : تشمل مضامين الآية الكفار من باب الأولوية القطعية لأنهم في ضلالة وجحود.
وفي المرسل عن الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : العلم علمان : علم في القلب ، فذاك العلم النافع.
وعلم على اللسان ، فتلك حجة الله على خلقه( ).
فيكون الإيمان نجاة لهم في الدنيا والآخرة، ومن فضل الله عز وجل بيان النفع والخير لأهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه الفوز بفضل الله عز وجل الذي ينهل منه المسلمون.
وهل ينافس أهل الكتاب الذين يدخلون الإسلام المسلمين في مصاديق الفضل الإلهي.
الجــواب لا، لأن الفضل يعني الزيادة ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
فكلما دخل فوج من الناس الإسلام إســتحدث الله عز وجل لهم وللمسلمين نوعاً ومصداقاً من فضله تعالى، مما يدل على أن الهدى والإيمان وللمسلمين والناس جميعاً وهو من خصائص(خير أمة) بأن يكون إسلام فريق من الناس سبباً لأمور:
الأول: زيادة قوة المسلمين.
الثاني: نزول آيات من الفضل الإلهي.
الثالث: فيه حجة على الذين يصرون على الكفر والجحود ، وفي التنزيل [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( ).
ويدل الجمع بين الآيتين على حرمان الذين يتخلفون عن الإيمان من فضل الله العظيم، ومن الفوز بالرحمة الخاصة التي وردت في قوله تعالى[وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ].
فإن قلت إن إمهال الكفار وعدم تعجيل الله لهم العقوبة هو من الرحمة الخاصة وهو من فضل الله عز وجل ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ]( ).
فالجواب نعم، وهو من رحمة الله في الحياة الدنيا أما في الآخرة فإن عقابهم شديد، فلذا جاءت كل من آية البحث وآية السياق ببيان عظيم منزلة المسلمين وفوزهم بالفضل العظيم، وفيه أمور:
الأول: ترغيب أهل الكتاب والناس بالإسلام، قال تعالى[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا] ( ).
الثاني: حث المسلمين على الثبات في منازل الإيمان.
الثالث: إنذار الكفار من التخلف عن الإيمان، وحجب فضل الله عنهم، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، قال تعالى[وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ]( ).
الثالثة: يبعث الجمع بين الآيتين على التفقه في أمور الدين والدنيا، وإدراك موضوعية الملة والعقيدة في منازل الناس فيهما، وأن الخير والفلاح ملازمان للإيمان , قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ] ( ).
وفيه إعجاز للقرآن بمخاطبة العقول وجعل النفوس تنفر من مفاهيم الكفر والضلالة، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم به المسلمون , ويرفعون لواءه بين الناس، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف.
وفي الجمع بين الآيتين أمور:
الأول: إنه آية في الإحتجاج، وإقامة البرهان.
الثاني: فيه دعوة للإنتفاع الأمثل من فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : فيه ترغيب للناس بالإسلام ، وبيان قانون ثابت وهو أن الإيمان خير للناس في الدارين.
ويميل الإنسان بفطرته إلى ما هو خير ونفع قال تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )، والإيمان أحسن موارد الخير وهو نهر جار بالفيض والبركة، فمن فضل الله عز وجل في المقام أمور:
الأول: جذب أهل الكتاب والناس جميعاً لمنازل وسنن الإيمان.
الثاني: التحذير من الفسق والخروج عن الطاعة الذي هو جحود بفضل الله، وإصرار على عدم الإنتفاع منه.
الثالث: الإخبار عن إمكان التوبة، وصحتها، وعدم إنغلاق أبوابها وهو من فضل الله عز وجل، فحينما يدعو الله عز وجل الناس للنهل من فضله ودخول الإسلام، فإنه ينعم عليهم بفرد عظيم من فضله وهو قبول التوبة , قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ] ( ).
ويتضمن وصف آية السياق للأكثر من أهل الكتاب بالفسق [وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] ( ) الإنذار والتحذير وهو من فضل الله عز وجل عليهم وعلى المسلمين وعموم أهل الكتاب والكفار لما فيه من البيان والتفصيل في حال أهل الكتاب، والنصح للناس جميعاً بلزوم ترك الفسق والفجور الذي يحجب التنعم بفضل الله في الدنيا والآخرة إنه من قانون أسباب الهداية للناس جميعاً في القرآن .
صلة آية[وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ…]( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه حكاية على لسان طائفة من أهل الكتاب للصد عن الإسلام، بينما وصفت آية البحث المسلمين بأنهم(خير أمة).
ويتجلى في الجمع بينهما لزوم التجافي عن الحق والتنزيل .
ومن الإعجاز في المقام أن القرآن دعا إلى إتباع ملة إبراهيم وهو أبو الأنبياء قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( )، كما أخبرت آيات القرآن عن إتباع آباء بني إسرائيل من الأنبياء الذين هم على ملة إبراهيم أيضاً.
وفي يوسف ورد في التنزيل[وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ]( ) لبيان تقييده وتعاهده لوصية أبيه يعقوب لقوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بسنن التوحيد وأحكام الشريعة.
الثانية: بدأت آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية ومعاني النهي، بينما جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وتوكيد حقيقة وهي أن المسلمين(خير أمة)من بين الأمم، مما يدل على ترغيب الناس بالإيمان، ولا يجوز للمسلمين الخروج منها، فلذا يسمى ترك الإسلام إرتداداً ، وهو محرم شرعاً وعقلاً، إذ يدرك العقل لزوم البقاء في منازل التفضيل وعدم تركه إلى ضدها وما فيه من الضرر في الدنيا والآخرة قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
الثالثة: يدل الجمع بين بدايتي الآيتين على حاجة الناس لخروج المسلمين لهم ودعوتهم للحق والهدى , قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
فمع أن أهل الكتاب يتمتعون وينتفعون من النازل من السماء، فإن طائفة منهم تلقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشروط والقيود، وفي التنزيل الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
ولم يرد لفظ (تَأْكُلُهُ) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وحث أصحابهم من أهل الكتاب على شرط إيمان المسلمين بما آمن به أهل الكتاب على نحو الخصوص، مما يقتضي البيان وإقامة البرهان على بطلان قيد إتباع ملتهم كشرط للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ] ( ).
وفي إبطال هذا الشرط نفع للناس جميعاً ودعوة لهم لدخول الإسلام من غير تعليق دخولهم على إستشارة أهل الكتاب، وسؤالهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من فضل الله عز وجل على الناس وعلى تلك الطائفة من أهل الكتاب التي تصد الناس عن الإسلام بشرط لا أصل له بجعل الناس لا ينصتون لهم في شرطهم، وفيه زجر لهم عن الإستمرار بهذا الشرط.
الرابعة: إبتدأت آية البحث بخطاب من الله عز وجل للمسلمين يتضمن الثناء والمدح، بينما إبتدأت آية السياق بنهي من أهل الفسوق لصد الناس عن الإسلام.
الإعجاز في بدايتي الآيتين
في الجمع بين الآيتين إعجاز من وجوه:
الأول: الإخبار عن المكر بالمسلمين الذي من قبل مشركي قريش ونحوهم قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ), ( ).
الثاني: بيان حقيقة وهي أن الذين يسعون في المكر ليس أهل الكتاب كلهم، بل طائفة وجماعة.
الثالث: البشارة للمسلمين بالأمن والسلامة من هذا المكر بإخبار هذه الآية عنه، قال تعالى[يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وهل يدخل إخبار هذه الآية في عمومات مكر الله الذي تذكره الآية أعلاه، الجواب نعم من جهات:
الأولى: يتضمن هذا الإخبار تحذير المسلمين من مكر وأذى الناس.
الثانية: إنذار الناس من الإنصات لكثرة الشروط الخاصة لدخول الإسلام , قال تعالى [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً] ( )
الثالثة: تنبيه عموم أهل الكتاب إلى مكر وحسد وخبث كفار قريش ونحوهم , وما يضعونه من الشروط الذي يراد منه المنع من دخول الإسلام.
الرابعة: جعل تلك الطائفة تشعر بالحسرة والخيبة لعدم إنصات الناس لها، قال تعالى في ذم الكفار الظالمين[الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا]( )، وفيه تحذير للناس من الجحود بالمعجزات والإصرار على إنكار الآيات.
الرابع: من خصائص(خير أمة) تفضل الله عز وجل بإخبارها بما يقوم به أعداء الإسلام من صد الناس عن دخوله، ليكون من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضحه، وإقامة الحجة على بطلانه والشرط الذي يضعون لدخول الإسلام.
الخامس: لم تذكر آية السياق إستجابة أهل الكتاب أو عدمها لدعوة وشرط تلك الطائفة لدخول الإسلام وتلك آية إعجازية ورد أهل الكتاب يحتمل وجوهاً:
الأول: إستجابة لهذا القول وإشتراط إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم.
الثاني: عدم حصول رد على هذا الشرط ومجيء هذه الآية في المنع من الإستجابة لهم.
الثالث: إنكار أهل الكتاب لهذا الشرط، وعدم إلتفاتهم لما تقول تلك الطائفة.
وجاءت آيتا السياق والبحث دعوة لأهل الكتاب لعدم التصديق والإنصياع للذين يمكرون للإسلام ويسعون في الإضرار بالمسلمين، قال تعالى[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ليكون من مكر الله تنبيه أهل الكتاب إلى قبح الإستهزاء بالمسلمين، وإنعدام الأثر المترتب عليه , وقد فصل القرآن بينهم وبين المشركين , فبينما كان المشركون يغزون المدينة ويريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كما في معركة بدر وأحد والخندق وإن كانت هذه المعارك تنسب في التأريخ إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتسمى غزوة بدر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزوة أحد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن المشركين زحفوا أربعمائة وخمسين كيلو متر نحو مدينة الرسول وصاروا على بعد (4) كم من المسجد النبوي فخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) الذين هم أقل من ربع مجموع جيش مشركي قريش وحلفائهم والبالغ ثلاثة آلاف رجل .
وفي معركة الخندق زحف عشرة آلاف رجل من المشركين وأحاطوا بالمدينة , وهم يريدون الإبادة الجماعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وسمّاها الله عز وجل معركة الأحزاب لإجتماعهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [َاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا *إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
فهذه الجيوش التي جاءت من كل الإتجاهات والمشارب تبغي قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإبادة الجماعية , ليكون من مصاديق مكر الله عز وجل نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإلحاق الخزي بالمشركين والمنافقين , قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ), ( ).
السادس: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وأهل الكتاب والناس بآية السياق وهو قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ) لبيان أن من لطف الله عز وجل في ملكه بعث الأنبياء وإنزال الكتب التي تدعو الناس للإيمان والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة , وتتلوها آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) ويتلوها المسلمون كل يوم لتحذيرهم من وضع الشروط على دخول الإسلام، دلالة على إستمرار التذكير بالمكر في باب لدخول إلى الإسلام.
السابع: فضح هذا المكر باعث للناس لدخول الإسلام وإزاحة للغشاوة التي يسعى هؤلاء لوضعها أمام أبصار وبصائر الناس، لتنكشف لهم المعجزات الباهرات ويتدبرون في مضامينها القدسية، وفي مدح أهل الكتاب الذين يصدّقون بنزول القرآن , ويعرضون عن أهل الشك والريب، قال تعالى[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ] ( ).
ومن إعجاز القرآن إخباره عن قول طائفة من غير بيان لكيفية تلقي أهل الكتاب له، والذي يتجلى بالمصداق العملي بدخول فريق من أهل الكتاب الإسلام، وإعراضهم عن شرط ودعوى حصر النبوة الذي لا أصل له وهو تقييد للتصديق بالتنزيل .
الثامن: بيان إستحقاق المسلمين لمنزلة(خير أمة) إذ دخلوا الإسلام عن إيمان وتسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصاروا حجة على الناس يضعون الشروط لدخولهم الإسلام.
أخبرت آية البحث عن كون الإيمان خيراً لأهل الكتاب وهذا الإخبار ليــس مجرداً بل هو مقرون بالدليل والشواهد الكثيرة التي تؤكد معــاني هذا الإخبار، ومنها ما ورد في آية الســياق وأمر الله عـز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرد والإحتجاج عليهم[قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ] ( ) ومنها ما جاء في آية البحث بالإخبار عن نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) بالإيمان بالله.
صلة(ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) بآية البحث
وفيها مسائل:
الأولى: بينما يأمر المسلمون بالمعروف وينهون عن المنكر فإن هناك طائفة من الناس ينهون عن المعروف يمنعون الناس من دخول الإسلام بوضع شرط لا أصل له , قال تعالى [وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ] ( ).
وقد سألت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً ويسألونه أن يلقي مثل عصا موسى وتكون حية تسعى , أو يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى مثل عيسى عليه السلام .
وكانوا يقسمون له لو أتى بهذه الآيات لآمنوا جميعاً , قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
فجاءت آية السياق لزجرهم وبيان ضلالتهم، وحث الناس على عدم الإنصات لهم، وهو من عمومات قوله تعالى في آية البحث[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وفيه إعجاز من وجوه:
الأول: تفضل الله عز وجل ببيان موضوعات للأمر بالمعروف التي يجاهد المسلمون فيها بالحجة والبرهان ، وليس بالعنف فلا يعلم أحد الأضرار التي تلحق بالإسلام في حال ترك تلك الطائفة من قريش ونحوهم تبث شكوكها وتمنع الناس من دخول الإسلام والتصديق بنزول القرآن بلغة الشرط والقيد.
وهذا الجهاد هو من خصائص(خير أمة) أن يدفع الله عز وجل عنها الأضرار بفضح مكر الظالمين والحساد والكفار وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وهل من أثر لآية السياق في ميادين القتال، الجواب نعم , وفيه وجوه :
الأول: تمنع الآية الإصرار على الصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يترشح عنه من المناجاة للخروج لقتال المسلمين.
الثاني: جعل الناس يحذرون من الذين يجادلون بغير حق، قال تعالى[يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ] ( ).
الثالث: إنشغال الكفار بأنفسهم بعد إقامة الحجة عليهم.
الرابع: إزدياد قوة المسلمين بإرتقائهم في المعارف الإلهية، ومعرفة أسرار إمتناع شطر من الناس عن الإسلام، وخطأ المبني الذي هم عليه بجعل شرط باطل لدخولهم الإسلام.
الثانية: يدل الجمع بين الآيتين على أمور:
الأول: إزدياد قوة المسلمين.
الثاني: إثبات مبادئ الإسلام في الأرض.
الثالث: قيام الحجة على الناس بلزوم ترك الشروط في دخول الإسلام لوجوبه وجوب عين على المكلفين.
وفي بداية الدعوة الإسلامية في مكة نزل قوله تعالى[لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، في خطاب للكفار وآية السياق مدنية، فجاءت بذم الذين يمنعون الناس عن دخول الإسلام، مما يدل على أن الصراع مع الكفار إنتهى بغلبة الإسلام وإصابة الكفار بالوهن والضعف، ودخول الشطر الأكبر منهم في الإسلام، ويدل عليه فتح مكة وإسلام أهلها، وأن اللوم يتوجه للذين يمتنعون عن دخول الإسلام، وهو من معاني النصر الإلهي للمسلمين وعمومات قوله تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( )،أي ليس لكم الإمتناع عن دخول الإسلام وأداء الفرائض التي أمر الله عز وجل بها من الصلاة والصوم وغيرهما.
لقد أرادت تلك الطائفة من الناس دخول الإسلام بشرط شيء أي مشروط بأمر خارجي والواجب يقتضي المبادرة إلى الإسلام بلا شرط خاص , لتجلي المعجزات العقلية بآيات القرآن والمعجزات الحسية , مثل إنشقاق القمر , وتكثير الماء وبنعه بين أصابع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل الطعام القليل مباركاً يُشبع الجماعة الكثيرة , و(عن جابر بن قال: كنا يوم الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرضت كدية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا : هذه كدية من الجبل عرضت فقال : ” أنا نازل ” ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعول فضرب فعادت كثيبا مهيلا.
فقلت يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فأذن لي فقلت لامرأتي: إني رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصا شديدا ما في ذلك صبر فعندك شئ ؟
فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير ولنا عناق فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها والعجين قد انكسر والبرمة بين الاثافي قد كادت أن تنضج ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبمن معه، فجئته فساررته فقلت: اطعم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال ” كم هو ؟ ” فذكرت له، قال: ” كثير طيب “، قل لها: لا تنزع البرمة والخبز من التنور حتى آتيكم واستعر صحافا ” ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” يا أهل الخندق إن جابرا صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم “، فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقلت: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم فقالت: هل
سألك ؟ قلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، قال: فكشفت عني غما شديدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” ادخلوا ولا تضاعفوا فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك ثم قال: ” يا جابر، ادع خبازة فلتخبز معك واقدح من برمتكم ولا تنزلوها ” وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبرد ويغرف اللحم ويخمر هذا ويخمر هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين ويعود التنور والقدر أملا ما كانا فكلما فرغ قوم جاء قوم حتى صدر أهل الخندق وهم ألف حتى تركوه، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليختبز كما هو ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” كلي وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة ” فلم نزل نأكل ونهدي يومنا) ( ).
فجاءت آية السياق لتبين وإلى يوم القيامة بطلان الشرط في المقام، وفيه ثناء على المسلمين الذين لم يعلقوا إيمانهم على شرط، وحجة على غيرهم في لزوم إسقاط الشرط الفاسد، ترى لماذا جاء الذم لتلك الطائفة لقولها[لاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ]( ) مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يصدّق بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام .
والجواب من وجوه:
الأول: التباين بين التصديق بالنبوة، وبين إتباع دين مخصوص.
الثاني: لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشريعة ناسخة للشرائع الأخرى، ودين متكامل الأحكام، قال تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة السماوية الخالدة، ليكون متبوعاً في سبل الهدى والخير في الدنيا والآخرة، وليس تابعاً.
الثالثة: من إعجاز القرآن بيانه لموضوعات المعروف التي يأمر بها المسلمون، ومواضيع المنكر والقبيح التي ينهون عنها، ومنها قيام جماعات وطوائف بصد الناس عن التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإيمان ، لتكون وظيفة المسلمين في الأمر والنهي في المقام من وجوه:
الأول: الإحاطة علماً بهذا المكر.
الثاني: التفقه في الدين وإقامة الحجة على وجوب عدم إتباع المسلمين لدين غير الإسلام، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
الثالث: دعوة أهل الكتاب لعدم الإلتفات للصد عن الإسلام.
الرابع: بيان المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به على نحو الموجبة الكلية.
الخامس: تلاوة آيات القرآن، ومنها الآيات التي تذم الذين يتخلفون عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
ومن خصائص آيات القرآن أن كل واحدة منها تدعو للإيمان والصلاح, قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وتتضمن لغة البشارة والإنذار منطوقاً ومفهوماً.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين الرد على الذين يقولون [لاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ]( )، وتوجيه اللوم لهم، من وجوه تتجلى في آية البحث وهي:
الأول: الدعوة إلى دخول الإسلام، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: لزوم الإنتماء لخير أمة.
الصغرى: المسلمون هم خير أمة.
النتيجة: لزوم الإنتماء للمسلمين.
الثاني: لقد أخرج المسلمون للناس لهدايتهم وصلاحهم، ويجب على الناس الإلتحاق بهم في الدعوة إلى التوحيد والتصديق بالنبوات.
ويمكن القول أن كل نبي من الأنبياء أخرجه الله عز وجل للناس في زمانه وبعده ، وكذا المؤمنون من الأمم والملل السابقة لتكون الدنيا دار الإخراج من عند الله عز وجل لأئمة الهدى قال تعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ]( ).
الثالث: من وظائف المسلمين الجهادية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه وجوه:
الأول: إنه دعوة متجددة للصلاح، قال تعالى[أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ]( ).
الثاني: هو حرب على الضلالة والفساد.
الثالث: إنه وسيلة لجذب الناس إلى سبل الهداية والرشاد.
الرابع: فضح أفكار الضلالة , وطرد أسباب الشك عن الناس.
الخامسة: بيان حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت إلا بما جاء به الأنبياء السابقون من الدعوة إلى الله، ويتجلى تفضيله على الأنبياء السابقين بإيمان أمته على نحو العموم الإستغراقي الشامل لأجيالهم المتعاقبة لقوله تعالى في آية البحث (وتؤمنون بالله)( )، وفيه أمور:
الأول: إنه شهادة على سلامة نهج المسلمين.
الثاني: فيه ثناء على المسلمين لحسن إختيارهم الإيمان، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثالث: الدعوة لتصديق وإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام التنزيل ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابع: البشارة بالثواب العظيم الذي ينتظر المسلمين , قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ]( ).
ومن يؤمن بالله لا يشترط شيئاً خاصاً لدخول الإسلام فهو طريق الحق, وسبيل النجاة , قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
صلة(قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى : من خصائص(خير أمة) إتباع هدى الله الذي تجلى بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن قيل لماذا إختص الله المسلمين بالهدى والجواب من وجوه:
الأول: إنه من فضل الله عليهم , وعلى الناس جميعاً.
الثاني: من رحمة الله أنه جعل الهدى قريباً من الناس جميعاً، وكل آية من القرآن هي هدىً وخير محض.
الثالث: من هدى الله دعوة الناس جميعاً، وحثهم على نبذ الكفر والشرك والضلالة , وجاءت هذه الآيات لإقامة الحجة على الناس، ودعوتهم للإسلام وهو من أبهى مصاديق هدى الله والوعد الكريم في قوله تعالى[إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى]( ).
الثانية: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم يدعون إلى الهدى، وإلى عبادة الله بالشريعة الناسخة، وأحكام الإسلام وليس عندهم برزخ بين الإيمان والضلالة، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
الثالثة: لما أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه سبحانه رزقهم الهدى والبصيرة ليكون موضوعاً وحكماً وعلة وغاية للأمر والنهي، فلا يخرجون عن سنن الهدى والمعرفة، وفيه زجر عن الغلو والإرهاب وليس من الهدى إتباع الظلم والجور والتعدي ، قال تعالى[وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
ومن شكر المسلمين لله على نعمة الهدى عدم إتباع دين غير الدين الذي جاء به خاتم النبيين، ومن الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول: تكامل أحكام الشريعة الإسلامية.
الثاني: دعوة المسلمين إلى الهدى , قال تعالى[وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ]( ).
الثالث : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بالسلم والأمن , واستئصال الظلم والغزو ووأد البنات قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
صلة آية[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( )،بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يتجلى التباين بين الآيتين في أمور:
الأول: في جهة الخطاب في الآيتين إذ تبدأ الآية أعلاه بخطاب أهل الكتاب على نحو التعيين، وإبتدأت آية البحث بالخطاب للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
وفيه بيان لموضوعية كل أمة منهم، ولزوم إنصاتهم جميعاً لآيات التنزيل وما فيها من الدلالات والمواعظ ولا ينحصر التباين بجهة الخطاب بل يستغرق الموضوع أيضاً.
الثاني: تتضمن آية السياق اللوم والإنذار ، بينما جاء الخطاب في آية البحث ثناء وبشارة للمسلمين.
الثالث: تعيين موضوع اللوم في آية السياق وتعدده، إذ يشمل جهات :
الأولى: خلط الحق بالباطل، قال تعالى في إنحسار الباطل[وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ]( ).
الثانية : إخفاء الحق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : العلم بإتيان هذا الفعل المذموم , أي إخفاء الآيات عن عمد .
الرابع: مجيء آية البحث بالثناء المستديم على المؤمنين ، والشهادة لهم بالقيام بالوظائف العقائدية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على القيام بأداء الفرائض والعبادات التي أمر الله عز وجل بها , مما يلزم تعاهد هذا الثناء بالتنزه عن الظلم والإرهاب .
الخامس: جاءت آية السياق بصيغة وحرف النداء (يا)، بينما وردت آية البحث بالجملة الخبرية بأن المسلمين خير أمة، وهو دليل على الثبات والقطع.
الثانية: ترغيب أهل الكتاب بالإيمان ، للكبرى الكلية التي تذكرها آية البحث وهي أن المسلمين(خير أمة) فليس من فرد أو جماعة إلا ويحبون الإنضمام إلى خير أمة، وصيرورتهم جزء منها، خصوصاً وأن وصف الله عز وجل للمسلمين بأنهم(خير أمة) ليس خبراً مجرداً، بل هو بشارة نزول الفضل الإلهي المتصل عليهم.
الثالثة: من مصاديق خروج المسلمين للناس تلاوة الآيات التي تتضمن اللوم على كتمان الحق ، ومن إعجاز القرآن في المقام أمور:
الأول: بيان موضوع اللوم.
الثاني: تجلي موضوع اللوم وظهوره في الواقع العملي ليكون حجة ومناسبة لإدراك صدق القرآن ونزاهته من الباطل , قال تعالى في القرآن وعصمته من التحريف[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
الثالث: العلة الغائية في علوم القرآن الزجر عن المعصية، والدعوة إلى الإنابة والتوبة.
الرابع: اللوم القرآني رحمة بأهل الأرض جميعاً في الحياة الدنيا، وحث لهم للإتعاظ منه، وإتخاذه برزخاً دون ولوج النار.
فمن خصائص الدنيا إعتبار وإنتفاع فريق من الناس من اللوم السماوي، وتعقب التوبة له، أما في الآخرة فيأتي العذاب مصاحباً ومتعقباً للوم لأنها دار حساب بلا عمل , وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تعدد كيفية كل منهما، ومن تلك الكيفية ما يكون باليد والمنع الفعلي للزجر عن المنكر , ولكنه خلاف الإرهاب والظلم وقتل الأبرياء من أسباب اللوم وتنزيه الناس من الفساد في الأرض .
وشرّع الله عز وجل للمسلمين الصلاة والصوم والصبر وجعله من أفضل أبواب الدخول إلى الجنة، لذا ترى الإسلام في نماء وإتساع في دولته وإنتشاره , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
صلة[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] ( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين:
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت كل من الآيتين بلغة الخطاب، مع التباين في الجهة التي يتوجه لها الخطاب.
الثانية: جاءت آية السياق بالنداء ، بينما إبتدأت آية البحث بلغة الإكرام للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ].
وهل يمكن حدوث حسد من أهل الكتاب للمسلمين بهذا التباين في الخطاب ، خصوصاً وانه ورد بصيغة الماضي(كنتم).
الجواب إن باب الإنتماء للإسلام مفتوح لأهل الكتاب والناس جميعاً، والسعي لنيل المراتب العالية أولى من حسد الذين بلغوها بحسن الإختيار، والتدبر والجهاد مع الذات والغير بالصبر والخلق الحميد فنالوا منزلة خير أمة.
الثالثة: جاء النداء لأهل الكتاب بواسطة المسلمين، وهو من الشواهد على أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) لتبليغهم أهل الكتاب ما يجب عليهم إتيانه، وما يلزم تركه وهجرانه.
ومن خصائص المسلمين تلقي النداء أعلاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخزائن ما أوحى الله إليه، وتولي التبليغ به إلى يوم القيامة من غير ملل أو كلل أو غفلة أو نسيان بدليل أنهم يتلونه على نحو الوجوب كل يوم في الصلاة بقصد القرآنية والقربة إلى الله، وفيه آية إعجازية تتجلى في إنتفاع المسلمين وذراريهم من تلك التلاوة، والدلالات العقائدية الكامنة في التبليغ، وليكون على وجوه:
الأول: إنه مادة للتفقه في الدين , قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الثاني: معرفة المسلمين لأحوال الأمم والملل.
الثالث: تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين.
الرابع: إقامة الحجة على الناس، وحثهم على التدبر في الدعوة إلى الإسلام.
الخامس: بعث أهل الكتاب للإصغاء للنداء القرآني، ومضامينه القدسية, قال تعالى[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] ( ).
الرابعة: مجيء النداء لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بلحاظ أنهم أتباع الأنبياء، ويعملون بكتب سماوية منزلة، وجاء الخطاب للمسلمين كأمة متحدة، وفيه دلالة على تحقق التلاوة والتبليغ، وعدم إمكان حجبه أو منعه أو تعطيله لتظافر وتعاون أجيال الأمة في التبليغ وتكرار النداء السماوي [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ].
صلة[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ] بهذه الآية:
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه منها:
الأول: يا أهل الكتاب: المسلمون خير أمة أخرجت للناس.
الثاني: يا أهل الكتاب المسلمون أمة أخرجت للناس.
الثالث:[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] لأهل الكتاب.
الثانية: بيان المسؤوليات العظيمة للمسلمين من إصلاح المجتمعات، وجذب الناس لمنازل الإيمان، إذ أنهم يتوجهون إلى أهل الكتاب والناس جميعاً، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فأهل الكتاب شطر من الناس.
وتحتمل النسبة بين توجه المسلمين إلى أهل الكتاب والناس في ماهيته وكيفيته وجوهاً:
الأول: التساوي في ذات التوجه وموضوعه.
الثاني: التباين فكيفية الدعوة والتبليغ لأهل الكتاب تختلف عنها لغيرهم من الناس.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، بأن تكون هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق في ذات التوجه.
الرابع: العموم والخصوص المطلق، فالتوجه إلى أهل الكتاب فرع التوجه إلى الناس جميعاً في موضوعه ومنهاجه.
والصحيح هو الثالث ، لوجود مادة إلتقاء بالدعوة إلى الإسلام، ومادة إفتراق ومنها مودة أهل الكتاب للمسلمين وجواز بقائهم على ملتهم في دولة الإسلام ليكونوا في ذمة الإسلام، بخلاف الكفار , قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الثالثة: لقد أخبرت آية البحث عن كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ويحتمل نيلهم مرتبة التفضيل هذه والخروج وجوهاً:
الأول: نال المسملون مرتبة(خير امة) بالتدريج، وتوالي نزول آيات القرآن حتى نزلت هذه الآية فكانت شاهداً على بلوغهم مرتبة(خير أمة).
الثاني: لم يبلغ المسلمون مرتبة(خير أمة) إلا بعد أن بلغوا مرتبة كمال الدين بقوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) وهي من أواخر الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن نعم الله على المسلمين بلوغهم مرتبة(خير أمة).
الثالث: نال المسلمون مرتبة(خير أمة) ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقهم لها، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده أمة، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، قال تعالى في إبراهيم [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( )، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نالا هذه المرتبة ثم أنعم الله عز وجل عليه وخصه بجعل أمته(خير أمة).
الرابع: لم تأت آية البحث بتعيين أوان نيل المسلمين مرتبة(خير أمة) بل أخبرت عنه بصيغة الفعل الماضي مما يدل على علم الله عز وجل ببلوغهم هذه المرتبة، وتفضيلهم على الأمم السابقة.
الخامس: لم يبلغ المسلمون مرتبة التفضيل إلا بعد جهادهم في سبيل الله، وصبرهم في سوح المعارك.
والصحيح هو الوجه الرابع، ويكون الوجه الثالث في طوله والوجوه الأخرى مصداقاً له، وفيه أمور بلحاظ النداء[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] منها:
الأول: بيان المائز وأسباب التفضيل التي يتصف بها المسلمون.
الثاني: توكيد حقيقة وهي أن المسلمين يمتلكون مقومات التفضيل بذاتهم.
الثالث: دعوة أهل الكتاب للتدبر بخصائص وعقيدة المسلمين من غير ذم أو تعريض بهم، فقد أشرقت على الأرض مقامات التفضيل بسنن الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة: جاءت آية البحث بالإخبار عن خروج المسلمين للناس وهو أمر
إجمالي وعام، ولكن آيات القرآن والسنة النبوية تبيان للمصاديق والشواهد التي تؤكد صدق الخروج وهي من اللامتناهي، فلا يستطيع أحد أو جماعة إحصاء تلك المصاديق والشواهد لوجوه:
الأول: في كل آية قرآنية أفراد كثيرة تؤكد خروج المسلمين للناس.
الثاني: تجدد خروج المسلمين للناس في كل يوم وليلة من أيام الدنيا وإلى يوم القيامة.
الثالث: تولي المسلمين دعوة الناس إلى منازل الهداية والإيمان.
الرابع: إجتناب المسلمين المعاصي والذنوب طاعة لله عز وجل.
الخامس: تنزه المسلمين عن مواطن الظلم والتعدي الظاهر والخفي، وليس في الأرض أمة تمتنع عن الربا إلا المسلمين، لتنكشف للناس يوماً بعد يوم أضرار الربا , قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
السادس: كل نبي خرج إلى الناس ولعله لم تخرج أمة من سكان الأرض إلى أهل الكتاب، بعد الأنبياء إلا المسلمين ، وهو من مصاديق تفضيلهم على الناس .
وفيه دعوة للمسلمين للتنزه عن الظلم والإرهاب لأن موضوع الخروج هو نشر لواء التوحيد والأمن والعدل ومن وجوه هذا الخروج مجئ آية السياق، والنداء[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] لبعث الألفة في الصلات ، قال تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ]( ).
فجاء الإسلام بدعوتهم معاً في نداء مشترك يجمعهم والمسلمين بخصوصية كريمة يمتازون بها عن باقي الناس، وكون هذه الخصوصية من الدلائل على أن المسلمين خير أمة وأنها خرجت للناس بالصلاح ومعالم التفضيل، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد عليهم الله عز وجل بأنه يعلم ما لا يعلمه الملائكة فاقروا وأذعنوا لمشيئته وأخبروا عن ثباتهم على التسليم بحكمته المطلقة.
ومن علمه تعالى أن المسلمين يدعون إلى عبادته بالحكمة والرفق ويدل عليه ورود الآية بصيغة الماضي(كنتم) وفي مدة وزمان الإستغراق في الماضي للفظ(كنتم) وجوه:
الأول : قبل خلق آدم.
الثاني : بعد هبوط آدم إلى الأرض.
الثالث : قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : عند تمام نزول آيات القرآن.
فالصحيح هو الأول، إنه من علم الله عز وجل الأزلي والسابق لخلق الملائكة والجن والإنس، وتلك آية إضافية في إكرام بني آدم ، ودعوة للناس لدخول الإسلام، ومن الشواهد على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
السابع: لقد إبتدأت مع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حال جديدة في الصلة بين الأمم وأهل الملل، فبعد أن كان فريق من الناس يرجعون ، إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمور الدين , ومن لم يرجع لهم يدرك أيضاً في الجملة أنهم يتبعون كتاباً سماوياً.
جاءت آية البحث لإخبار الناس بلزوم الرجوع إلى القرآن ، وما يجب عليهم من الوظائف العقائدية والعبادية ومنها لزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يخرج المسلمون للناس جميعاً بقوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( )، والتسليم والإنقياد لأوامر الله عز وجل وهم مسلمون بالمعجزات العقلية والحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون(كل آية قرآنية من إخراج المسلمين للناس)
يفيد الجمع بين قوله تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] و[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بيان رحمة الله عز وجل بأهل الكتاب والناس من وجوه:
الأول : لم يترك الله عز وجل الناس وشأنهم بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل أخرج لهم الأمة التي تكون أسوة حسنة لهم ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
الثاني : لما طرأ التحريف على الكتب السماوية السابقة أخرج الله عز وجل المسلمين يبينون لأهل الكتاب حقيقة التحريف، ولزوم الرجوع إلى التنزيل.
الثالث : تلاوة المسلمين لآيات القرآن وما فيها من التصديق بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، ونزول التوراة والإنجيل.
الرابع: من مصاديق خروج المسلمين للناس جهادهم في التبليغ والبشارة والإنذار وتتجلى في آيات القرآن مصاديق كثيرة من التحذير والإنذار ، وبيان قبح التخلف عن الوظائف الإيمانية، ولزوم نبذ العناد والغلو ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ]( )، ويحتمل موضوعية الآية القرآنية في الخطاب السماوي لأهل الكتاب وجوهاً:
الأول: يختص خروج المسلمين لأهل الكتاب بالآيات القرآنية التي تخاطب، وتخص أهل الكتاب.
الثاني: كل آية من القرآن من مصاديق خروج المسلمين لأهل الكتاب.
الثالث: يختص خروج المسلمين لأهل الكتاب بآية البحث[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع: من خروج المسلمين لأهل الكتاب الجمع بين كل آيتين أو أكثر من القرآن.
الخامس: إشتراك أهل الكتاب مع عموم الناس في مصاديق كثيرة.
والصحيح هو الثاني والرابع والخامس أعلاه، ليكون خروج المسلمين لأهل الكتاب من اللامتناهي، وكل فرد منه رحمة من الله عز وجل بأهل الكتاب والمسلمين، لما فيه من لغة التبليغ والمواعظ والعبر والحجة والبرهان، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، وفيه دلالة على أن الأحسن في لغة الجدال أمر بمقدور المسلمين، وفيه وجوه :
الأول : إنه من مصاديق بلوغ المسلمين مرتبة (خير أمة).
الثاني : هذا الجدال والإحتجاج من خروج المسلمين لأهل الكتاب.
الثالث : إنه من خروج المسلمين للناس جميعاً، فان قيل الجدال مع أهل الكتاب، فكيف يكون جدال المسلمين لهم خروجاً لعموم الناس، والجواب من وجوه :
الأول : الجدال كيفية، والموضوع الحجة والبرهان بالذات والأثر، وهو أمر ينتفع منه الناس جميعاً.
الثاني : قد ينتفع من جدال المسلمين مع أهل الكتاب غيرهم من أهل الملل والكفار، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس جميعاً.
الثالث : نبين هنا وجهاً لقوله تعالى[بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] بأن الحسن الذاتي لجدال المسلمين سبب في جذب الناس للإسلام، لتعدد مصاديق الأحسن في الموضوع والمحمول .
ومن منافعه منع إفتتان الناس بالذين يفترون على الإسلام ، وينكرون البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي جاء بها، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
وتحتمل الصلة بين خروج كل آية للناس وخروج المسلمين لهم وجوهاً:
الأول : العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : خروج الآية القرآنية للناس فرع خروج المسلمين لهم.
الثانية: خروج المسلمين للناس فرع خروج الآية القرآنية بلحاظ أن الآية إمام وضياء وسبيل هداية، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثاني: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الخروجين موضوعاً وكيفية وأثراً.
الثالث: التساوي بلحاظ الجهة التي يتم الخروج لها فكل من خروج الآية القرآنية والمسلمين لأهل الكتاب والناس جميعاً.
الرابع : الإتحاد بين الخروجين فانما هو خروج واحد وهو الذي ذكرته آية البحث بخروج المسلمين، وتقديره:كنتم خير أمة أخرجت للناس بآيات القرآن، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( ).
الخامس : التداخل بين الخروجين، وكل فرد منهما في طول وعرض الآخر من جهات :
الأولى : إقامة الحجة على الناس .
الثانية : دعوة الناس للإيمان ، وفي التنزيل [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
الثالثة : حضّ الناس على ترك الكفر والضلالة، وهما من عمومات إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا.
الرابعة : خروج المسلمين للناس بسنن التقوى والأخلاق الحميدة واجتناب التطرف والإرهاب .
وكل هذه الوجوه من مصاديق الصلة والنسبة بين خروج الآية وخروج المسلمين للناس، وكل آية سلاح بيد المسلمين في خروجهم للناس.
ويترشح معنى التفضيل(خير أمة) من مضامين آيات القرآن التي يتلوها المسلمون، ويخرجون بها وبآثارها عليهم إلى الناس، إذ أن كل آية قرآنية تحدث تغييراً وإصلاحاً عند المسلمين فيخرجون للناس وهم بأفضل مراتب الصلاح والكمال العقائدي التي رأتها وتراها الأرض في تأريخها ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
مما يدل على الوظيفة المركبة للآية القرآنية من وجوه:
الأول : إصلاح المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
الثاني : خروج المسلمين للناس بصبغة الإيمان والصلاح، ويحتمل أثر الآية القرآنية وجوهاً :
الأول : الترتيب إذ يبدأ أثر ونفع الآية القرآنية بالمسلمين، وبعد تفقههم وتدبرهم في الآية القرآنية يخرجون للناس.
الثاني: تتوجه الآية بالموعظة والإنذار للكفار، وتدعوهم للإسلام، ثم تنفع المسلمين في تثبيت إيمانهم.
الثالث: تنزل الآية القرآنية رحمة للمسلمين والناس جميعاً في آن واحد، فليس من ترتيب في المقام، وكل فريق وطائفة ينهلون منها، ويأخذون المواعظ والعبر من مفاهيمها، وبلاغتها ودلالاتها.
والصحيح هو الثالث فان الله عز وجل تفضل بنزول القرآن رحمة بالناس جميعاً، لذا جاءت خطاباته متعددة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ][ يَاأَيُّهَا النَّاسُ]، ومع ورود لفظ(كفروا) مائة وأربعاً وتسعين مرة في القرآن لم يرد فيه لفظ(ياأيها الذين كفروا) إلا مرة واحدة في توجيه اللوم والتوبيخ لهم يوم القيامة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
لبيان قانون وهو أن الله عز وجل لم يخاطب الكافرين بصيغة النداء إنما يشملهم النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] لرجاء اتعاظهم وتوبتهم أما في الآخرة فقد فصلوا عن الناس ودخلوا النار ، فجاءهم الخطاب الخاص ذو صبغة التوبيخ.
نعم ينتفع المسلمون من الآية القرآنية، ويجاهدون من أجل إنتفاع الناس منها على نحو دائم ، فهناك أمور في تجدد مستمر ليس لها إنقطاع وهي:
الأول: إعجاز الآية القرآنية ، والشواهد والمصاديق التي تدل على أنها غضة طرية .
الثاني : دلالات الآية القرآنية.
الثالث : سعي المسلمين في سبل المعرفة والصلاح.
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين الدعوة لهداية الناس في أمور الدين والعقيدة .
صلة(لم تكفرون بآيات الله) بهذه الآية:
وفيها مسائل:
الأولى : تجلي التباين في لغة الخطاب بين الآيتين فبينما جاءت آية البحث بالمدح والثناء للمسلمين، جاءت آية السياق بالإستفهام الإنكاري الذي يتضمن التوبيخ والذم للذين يجحدون بالمعجزات التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ] ( ).
إن التباين في لغة الخطاب دعوة للناس جميعاً للإتعاظ والإعتبار، والتدبر بدلالاته ومضامينه ، وحث على الرجوع إلى المسلمين، بلحاظ إتحاد الموضوع في الثناء والمدح، مع إقتران المدح بالإيمان، والذم بالكفر والجحود بها، وهو من رشحات الواجب العبادي لأهل الأرض إذ أمرهم الله عز وجل بالإيمان بربوبيته ، والإمتثال لأوامره، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
وفيه دلالة على أن أسباب الجذب إلى عبادة الله لم تنقطع، ولم تتوقف بل هي متصلة متجددة، وهو من اللطف الإلهي إذ أن الله عز وجل خلق الناس لعبادته، ثم تفضل وهداهم إلى سبل العبادة، وخروج المسلمين للناس من هذه السبل.
فان قلت إن المسلمين أنفسهم إحتاجوا إلى الهداية إلى العبادة فالجواب نعم، وكل من يهتدي إلى العبادة يكون وسيلة وسبباً لجذب الناس للإيمان، لذا خاطبت آية البحث المسلمين بقوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
ويكون أمر بالمعروف ونهي عن المنكر على وجوه :
الأول : إنه عبادة لله عز وجل .
الثاني: فيه دعوة لعبادة الله .
الثالث : فيه زجر عن الضلالة والجحود.
الثانية : يدل الجمع بين الآيتين على أمور :
الأول : لزوم بذل المسلمين الوسع ووفق قواعد الحكمة والأخلاق الحميدة في دعوة الناس لسبل الإيمان ، وهذه الصبغة في الدعوة من رشحات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، إلى الرشاد .
الثالث : بعث الناس على فعل الواجبات وترك المحرمات .
فإذا كان أهل الكتاب يكفرون بآيات الله وهم أتباع الأنبياء، فكيف بعامة الكفار والظالمين الذي يجحدون بالربوبية والنبوة ولا يقرون بالمعاد، ومع هذا فان المسلمين مأمورون بالتوجه لهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد أيام موسم الحج في أسواق مكة وفي منى بالدعوة والنداء بكلمة التوحيد ، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم .
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: ” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ” .
والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب ، يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب( ) .
وبذل الوسع معهم بالدعوة إلى الله عز وجل، وجعلهم يدركون لزوم التهيئ بعالم الحساب بواقية الشهادتين، والعبور على الصراط المستقيم بالعمل الصالح.
ويدل الخطاب [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] على وكل من بعثة موسى وعيسى ونزول التوراة والإنجيل من آيات الله، قال تعالى [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ]( ).
وتحذر الآية من التكذيب بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها نزول آيات القرآن بلحاظ التعدد والكثرة في الآيات والسور القرآنية ، قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ]( ).
إلى جانب الآيات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : تجلي التباين بين المؤمنين والذين كفروا من قريش ومن والاهم قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، إذ يدعو المسلمون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما بينهم، ويتوجهون إلى الناس جميعاً بالأمر والنهي بدليل قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ليكون الناس على أقسام:
الأول : أمة مؤمنة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر.
الثاني : طائفة تكفر بآيات الله.
الثالث : الكفار الذين يجحدون بالربوبية والنبوة.
ليأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملاً للأقسام الثلاثة أعلاه، وفيه دلالة على المسؤوليات العظيمة التي ينهض بأعبائها المسلمون، والحاجة إلى إتحادهم وتعاونهم وابتهاج سبل الصلاح , والإرشاد إلى المعرفة بلطف ورفق وصبر إذ أن أضرار الدعوة بالخرق والعنف والشدة أكثر من نفعها , قال تعالى [وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، فهم أخوة في الأمر بالمعروف وكيفيته وصيغه ومسائله والغايات الحميدة منه، والجهات التي يتوجهون إليها بالأمر والنهي، إذ أن الخطاب الإلهي [لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] يدل على لزوم إتحاد المسلمين وتظافر جهودهم لإصلاح النفوس والتقييد بسنن التقوى وإعانة الناس للتصديق بآيات الله عز وجل , قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ).
ويحتمل الجحود بآيات الله وجهين:
الأول: إستدامة وإستقرار هذا الكفر.
الثاني: إنه أمر تزلزل غير ثابت.
والصحيح هو الثاني بلحاظ الأفراد وإنتسابهم للملل السابقة للإسلام وبقاء باب التوبة مفتوحاً، وولوج الناس بواسطته إلى الإيمان.
فليس من ملازمة بين الأفراد المقصودين بلفظ(أهل الكتاب) وبين البقاء على ملة مخصوصة، بينما الإنتماء إلى الإسلام ثابت غير متزلزل، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( )، ولعدم جواز الإرتداد عن الإسلام.
ولم يطلق لفظ الإرتداد إلا على ترك الإسلام لحرمته، ولأنه نوع رجوع وصدود، والذي يختار الهدى والإيمان ويسلك سبل العز ورفعة الشأن في الدنيا والآخرة.
فمن إعجاز القرآن أن اللوم فيه لأمة أو فرقة أو طائفة سبيل للصلاح، ودعوة للتوبة والإنابة، وهو من أسباب قيام رؤساء لكفر والضلالة بالهجوم على المدينة المنورة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمنع الناس من التصديق بآيات الله، وإتباع الحق، والتنزه من سلطان الظلم والجور , قال تعالى[وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
لقد كانت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضحاً للكفار ودعوة لإزدراء الظلم والظالمين ، وجذباً لعامة الناس للهداية والفلاح والملاك هو آيات الله ، إذ يحاربها رؤساء الكفر , في الوقت الذي تتوجه فيه تلك الآيات إلى الناس جميعاً بعرض واحد للتصديق بها ولا يستطيع رؤساء الكفر حجبها عن الناس ، أو منع الناس من التدبر فيها ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية، وأسرار نسبة الآيات إلى الله عز وجل في آية السياق مع أنها تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجري على يديه , قال تعالى [وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
وفي قوله تعالى[لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] أمور:
الأول: إنه تحد لأهل الكتاب والكفار، وباب إحتجاج عليهم.
الثاني: دعوة أهل الكتاب بلغة الحوار للتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها آيات من عند الله.
الثالث: حث الناس جميعاً على التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإصغاء للذين يجحدون بها.
وجاءت آيات من القرآن بالنداء إلى الناس جميعاً من غير واسطة رؤسائهم أو مللهم لدعوتهم للإسلام، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ] ( ).
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق : ياأيها الناس أني رسول الله إليكم بآيات الله.
ومن مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يقوم بها المسلمون بيان تلك الآيات للناس جميعاً وحثهم وترغيبهم بالتصديق بها، والإعراض عمن يكفر بها بغير حق.
وفيه شاهد على حاجة الناس للمسلمين في جذبهم لمنازل اليقين، وعدم الإصغاء للكافرين والجاحدين.
وفي الآية دلالة على صبر المسلمين في سبيل الله، وما يلاقونه من العناء والعناد في وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل في اللوم الموجه في آية السياق عون للمسلمين في سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب نعم , لما فيه من الشهادة السماوية بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي خارقة للعادة، وكل آية منها دعوة مستقلة إلى الله بلحاظ أنها حجة قائمة بذاتها لايقدر عليها غير الله سبحانه.
لذا فان صيغة الجمع (آيات الله) دليل على التعدد في الحجة لتكون على وجوه:
الأول: كل آية ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الناس , قال تعالى[فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا]( ).
الثاني: إجتماع الآيات حجة إضافية وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثالث: تصديق المسلمين بآيات الله حجة على الناس.
الرابع: قيام المسلمين بالدعوة إلى الله، وتوجيه اللوم إلى الذين يكذبون بها نوع تحد، وبرهان على صدق نزولها من الله عز وجل.
الخامس: ترغيب المسلمين بالدعوة للتصديق بآيات الله، والنهي عن التكذيب بها، خاصة وأنها كثيرة ومتعددة من جهات:
الأولى: كل آية من القرآن هي من آيات الله، ودليل على نزولها من عند الله في مضمونها وبلاغتها.
الثانية: ما في الآية القرآنية من وجوه الحكمة , قال تعالى[يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
الثالثة : المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها نجاته ليلة المبيت إذ أراد المشركون الإجهاز عليه , وسلامته في طريق الهجرة, وإنتصاره على الكفار مع قلة أصحابه ومؤونهم وأسلحتهم ومنها أنه يتوجه إلى الكفار باللوم لتكذيبهم بآيات الله، فهو لم يختص في محاربة جهة، وممالئة جهة أخرى .
فالمدار في الجهاد هو بيان الحق، والدعوة إلى التصديق بنبوته، ولزوم نبذ الشرك والكفر بآيات الله وفي طريق الهجرة ذكر ( أن سراقة بن مالك ركب في طلب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بعدما استقسم بالأزلام أيخرج أم لا يخرج فكان يخرج له أن لا يخرج ثلاث مرات، فركب فلحقهم، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن ترسخ قوائم فرسه فرسخت، فقال: يا محمد أدع الله أن يطلق فرسي فأرد عنك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم إن كان صادقاً فأطلق له فرسه، فخرجت قوائم فرسه)( ).
وفي كثرة الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعصمتها من التحريف والتبديل أمور :
الأول: السعة ومندوحة للمسلمين في الأمر والنهي برفق.
الثاني: الحضّ على السعي في إصلاح المجتمعات بالموعظة والبشارة والتذكير بيوم الحساب .
الثالث: بيان المسلمين لقبح الكفر، ومخالفته لإدراك العقل والواقع، ودلالته على التخلف عن الوظائف العبادية للإنسان.
الرابع:كثرة الآيات مادة للجدال، وسلاح قاطع في الإحتجاج على الكفار.
الخامس:آيات القرآن والصلة بينها توليدية تتفرع عنها آيات من الواقع ويتبين للمسلمين كل يوم الحاجة للصدور عن القرآن.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين حث المسلمين على النهي عن الكفر بآيات الله، لأن الكفر أهم أفراد المنكر وأكبر الكبائر، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
وتلاوة آية البحث من مصاديق هذا النهي، وفيه مسائل:
الأولى: كل مرة يتلو فيها المسلم أو المسلمة آية البحث فهو من النهي عن المنكر.
الثانية: النهي عن الكفر زجر عن معاصي عديدة بلحاظ أنه أصل لها.
الثالثة: يأتي النهي عن الكفر بتنزيل سماوي مما يدل على صدقه، ووجود حجة وبرهان عليه، ومنه الجحود بآية السياق، وآية البحث، والإمتناع عن نعمة الإنضمام إلى[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
وتظهر الآيتان أن المسلمين يتوجهون للمشركين باللوم على الكفر والجحود بآيات الله، ويحتمل وجوهاً:
الأول : قدرة المسلمين على التبليغ ومواصلة النهي عن المنكر والقبيح بصيغ البرهان وتلاوة القرآن لبيان مسألة وهي أن الأمر من الله عز وجل بتلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني , والجد بالتلاوة في أكثر الركعات زاجر عن الإرهاب والإرهاب الموازي , لما في هذه التلاوة من التبليغ والحجة
الثاني : حصول الإستجابة والرضا بهذا النهي، وتلقيه بالإنزجار عن الكفر.
الثالث: إمتناع أهل الكتاب عن الإنصات للنهي.
الرابع: قيام أهل الكتاب بالحرب وقتال المسلمين لنهيهم عن الكفر بآيات الله.
والصحيح هو الأول والثاني وإن كانت الإستجابة والرضا على نحو الموجبة الجزئية فمن أسرار أهل الكتاب , ومودتهم للمسلمين والإنصات للآيات لذا يلزم الرفق واللين في الدعوة إلى الله عز وجل مع الناس جميعاً, قال تعالى [لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
وفيه ترغيب للمسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث لهم على الإستمرار في ذات النهج وتوسعته عرضاً في التوجه بلين ورفق لأهل الملل المختلفة بالزجر عن الكفر والضلالة، وعن المعاصي التي تجلب الويلات على الأمم والأفراد.
الخامسة : من الإعجاز في آية البحث تضمنها للبيان والدليل على صدق الآيات الأخرى ، فحينما جاءت آية السياق باللوم على الكفر بآيات الله، جاءت آية البحث ببيان أن الإيمان بالآيات خير محض لأهل الكتاب، وفيه نفعهم .
وعن(ابن عباس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلّمون؛
فكلما خلق الدين جدّدوه. أعطوهم ولا تستأجروهم ، فتحرجوهم فإن المعلّم إذا قال للصبي : قل : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
فقال الصبي : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كتب الله براءة للصبي ، وبراءة لأبويه وبراءة للمعلّم من النار) ( ).
ومن إعجاز الآية أيضاً أن الخير جاء بصيغة التنكير ليكون نوع وعد من الله عز وجل على الإيمان بالآيات، وفيه شاهد بأن اللوم الذي يرد في القرآن لطائفة أو أمة أو أهل ملة إنما هو لخيرهم ونفعهم ومصلحتهم في النشأتين .
ومن سعة رحمة الله تعليق الوعد بالخير العظيم على الإيمان وحده، ويحتمل وجوهاً:
الأول : المراد العمل بمصاديق الإيمان، وفعل الصالحات للإتيان باللازم وإرادة اللزوم.
الثاني : تعدد مصاديق وأفراد الخير فمنها ما يأتي إبتداء من فضل الله عز وجل بالآيات ، ومنها بالعمل الصالح وهو من أسرار مجئ لفظ الخير بصيغة التنكير , وفي التنزيل [فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الثالث : الإيمان هو الأصل، لأن فعل الصالحات وترتب الثواب عليه لا يتقوم إلا بقصد القربة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا]( )، وقال تعالى [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ]( )، ويدل ظاهر الآية أعلاه على أنهم كانوا على الإسلام والإيمان ، وفيه تفسير لقوله تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وإن ذهب الحسن البصري وعطاء إلى معنى آخر بالقول (كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أُمة واحدة على ملّة واحدة وهي الكفر ، كانوا كفاراً كلّهم أمثال البهائم فبعث الله نوحاً وإبراهيم وغيرهما من النبيين.
وهذا القول مُعارض بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وآيات أخرى تدل على توارث الإيمان في كل جيل من الناس .
وعن قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح أُمة واحدة، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلّهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح ، فبعث الله إليهم نوحاً وكان أول نبي بُعث ثم بَعث بعده النبيين)( ).
والصحيح هو الثاني والثالث، فان الإيمان وحده إختيار كريم ونبذ للكفر والشرك، فلذا جاءت آية السياق باللوم على الجحود بالمعجزات والدلالات الباهرات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه شاهد على عدم وجود برزخ ووسط بين الإيمان والكفر، فالذي يترك الكفر والجحود يلجأ إلى التوبة ويصير مؤمناً وفيه الخير والنفع، قال تعالى[فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ] ( ).
السادسة : من الإعجاز في آية البحث عائدية الخير على أهل الكتاب الذين يختارون الإيمان ، قال تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( )، وفي الخير في الآية ثلاثة أطراف:
الأول: مجئ وصدور الخير.
الثاني: ذات الخير موضوعاً وحكماً.
الثالث: موضع نزول الخير.
أما الأول فان الخير يأتي من الله عز وجل، وهو من أسرار التنكير فيه، إذ لا يقدر على إستدامة إعطاء الخير، وكثرة وتوالي مصاديقه إلا الله عز وجل، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ] ( ).
قانون تفرع الآيات
يحتمل بلوغ المسلمين مرتبة(خير أمة) وخروجهم للناس أموراً:
الأول : إنهما من آيات الله.
الثاني : هذه المرتبة والخروج ليسا من آيات الله.
الثالث : إنهما مقدمة وسبب لآيات الله.
الرابع : إنهما رشحة من رشحات آيات الله.
وباستثناء الوجه الثاني فان الوجوه الأخرى صحيحة ، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين وغيرهم مما يلزم الرفق وحسن المعاشرة مع الناس وهو من الشواهد على أمور :
الأول : تترشح عن الآية الواحدة آيات كثيرة ومتعددة وهو من أسرار التنزيل ودلائل النبوة.
الثاني : تتصف الآيات الفرعية بالذات التي تترشح عن الآية بأنها توليدية تتولد عن كل آية منها آيات أخرى.
لتكون آية الله كالشجرة ذات أغصان وأوراق وتكون لها ثمار.
فقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] يتضمن إصلاح المسلمين لمراتب التفضيل في باب الإيمان والتقوى والسنن والعبادات والأخلاق والآداب وغيرها من شمائل الحسن.
الثالث : مصاديق الآية من اللامتناهي في أفرادها، وتتصف بالإنبساط على أفراد الزمان الطولية، فكل جيل من الناس تطل عليه آيات الله، وتدعوه إلى الهداية والإيمان، وهو من أسرار لغة الخطاب في الآية [لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] .
فليس لأمة منهم القول إنها لم تدرك تلك الآيات ولم تكن حاضرة زمانها، فالآيات مصاحبة للناس، ومنها آيات القرآن ذات التحدي لأولي العقول والألباب.
صلة “والله شهيد على ما تعملون’’ بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء صيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب في الآيتين، ومادة الإفتراق توجه الخطاب في آية السياق إلى أهل الكتاب وبلغة اللوم والإنذار، ومجئ آية البحث بلغة الثناء والمدح للمسلمين.
الثانية: من خصائص(خير أمة) تبليغ أهل الكتاب الإنذار السماوي، وتحذيرهم من الجحود بمعجزات النبوة وإخبارهم بأن الله عز وجل يعلم ما يقومون به من أسباب الصدود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنكارهم للمعجزات، وإستخفافهم بأهل الإيمان، قال تعالى في الذين يدعون الإيمان كذباً وزوراً[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
وجاءت كل من آية السياق والبحث لأمور:
الأول: إقامة الحجة عليهم.
الثاني:عسى أن يشعروا بما يقدمون عليه من الإضرار بالنفس والطائفة.
الثالث:دعوة العامة من أهل الكتاب إلى اللجوء إلى العقل، والتدبر الشخصي بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : يحتمل قوله تعالى[وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] وجوهاً وقوانين منها:
الوجه الأول : قانون تجلي آيات الله، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الوجه الثاني: قانون تشهدون على أنفسكم أنكم تجحدون بآيات الله.
الوجه الثالث: قانون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي تدل على صدق نبوته مرتبة (خير أمة).
الوجه الرابع:من معاني الشاهد(العالم الذي يبين ما علمه) ( ).
الوجه الخامس:يشهد الكفار على أنفسهم يوم القيامة بصدودهم وجحودهم بآيات الله.
الوجه السادس: قانون تشهدون العناد والتحريف الذي يقوم به بعض الكبراء منهم لصرف الناس عن النبوة.
وجاءت آية البحث لتؤكد هذه القوانين وما تتضمنه من المعاني القدسية بالإضافة إلى المعاني والدلالات المستنبطة من الصلة من الجمع بين الآيتين من وجوه :
الأول: يشهد أهل الكتاب كيف أن المسلمين بلغوا مرتبة(خير أمة).
الثاني:دعوة أهل الكتاب لإتخاذ شهادتهم لإرتقاء المسلمين إلى دخول الإسلام، وهم يشهدون إنعدام البرزخ والحاجب بينهم وبين دخول الإسلام.
الثالث:يشهد أهل الكتاب بالتمايز بين الأمم على أساس الإيمان والتقوى لأنهم أهل كتاب، ويعلمون موضوعية الهداية والإيمان في صلاح الأمم وإرتقائها في سلم المعرفة، ونيلها مراتب العز والرفعة.
الرابع:يشهد أهل الكتاب بأن الله عز وجل لم ينس أو يترك الناس، قال سبحانه[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
وورد في الآية أعلاه قولان:
الأول:ما جاء على نحو القضية الشخصية وتتعلق بأسباب النزول بأن الآية جاءت في(أبي جهل (أن يترك سدىً) مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، عن ابن عباس)( ).
الثاني:المراد عموم الجاحدين بنعم الله، والكافرين باليوم الآخر، فانهم لايتركون من غير أمر ونهي.
ونضيف قولاً ثالثاً يتجلى بآية البحث، وهو أن خروج المسلمين للناس من عمومات الآية أعلاه، وأن الله عز وجل لم يترك الناس في زمان من الأزمنة.
فكلما تداخلت الأمصار وتقاربت البلدان، وأطلع الناس بعضهم على ما عند بعضهم الآخر، فان المسلمين يرفعون لواء التوحيد والدعوة إلى طاعة الله وإجتناب مانهى عنه، لينتفع المسلمون والناس عامة من هذه الدعوة، إن تعاهد المسلمين للواجبات العبادية من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ففوز المسلمين بمرتبة(خير أمة) في الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والحجة إقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتلك آية من رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل آية السياق من عمومات آية[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( )، الجواب نعم من وجوه:
الأول: ذكر أهل الكتاب بالصفة والخصوصية التي يمتازون بها من بين الناس , إذ أنكم أتباع الأنبياء وعندهم كتاب سماوي وقد أكرم الله عز وجل بالقرآن وهو الكتاب السماوي الجامع للأحكام قال تعالى في الثناء على نفسه بأنه المهيمن [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ) كما ورد ذات الإسم للقرآن بقوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
مع التباين في معنى المهيمن لإفادة الإطلاق في اسم الله عز وجل (الْمُهَيْمِنُ) والتقييد في اللفظ والمعنى بخصوص القرآن بقوله تعالى في الآية أعلاه بالتقييد بالجار والمجرور (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) ومعناه الأمين على كل كتاب سماوي , وهو الوثيقة السماوية الشاهد على التوراة والإنجيل .
وبخصوص الإطلاق والتقييد كما في إرادة الإطلاق من غير إضافة في لفظ (الرب) وأن المقصود هو الله عز وجل .
ويأتي التقييد بالقول مثلاً رب الدار وربّ الإبل أي مالكها , نعم يطلق اسم الرب بالإضافة على الله عز وجل عندما تدل الإضافة على الإطلاق كما في قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: الشهادة لأهل الكتاب بأنهم أهل كتاب سماوي، فمع ذكر آية السياق لشهادتهم بلغة اللوم، فان الآية تشهد لهم بأنهم أتباع أنبياء وكتب سماوية.
الثالث: يشهد أهل الكتاب بصدق الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية ودلالة الواو على الحال وإقتران الجحود بالآيات بالشهادة على حتمها.
الرابع: يشهد أهل الكتاب بأن المسلمين يتولون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أمر يحتاجه الناس، ويعتبر سراً من أسرار إستدامة الحياة في الأرض، قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
الخامس: يشهد أهل الكتاب بأن تلاوة المسلمين لآية السياق ، وما فيها من التحذير من الجحود بآيات الله من مصاديق قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس:إبتدأت آية البحث بصيغة الفعل الماضي من وجهين:
الأول: المسلمون خير أمة.
الثاني: خروج المسلمين للناس.
وإنتقلت إلى لغة المضارع بالإخبار عن قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يدل على مواظبتهم وإستمرارهم بالأمر بالمعروف، فمن مفاهيم الفعل المضارع الإستدامة والتجدد، ويشهد أهل الكتاب للمسلمين بهذا الإستدامة المباركة، وفيه مسألتان:
الأولى: ترغيب الناس بالإسلام بتلاوة المسلمين لآية السياق وما يترشح عنها من البيان، والآية من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
فمن الحسن والجدال الذي تتضمنه آية السياق وجوه:
الأول: تشريف أهل الكتاب بالخطاب من الله عز وجل.
الثاني:مجئ الخطاب الإلهي لأهل الكتاب في القرآن وهو الكتاب السماوي الخالد الذي يجب العمل بمضامينه إلى يوم القيامة، والذي لا تصل إليه يد التحريف والتغيير , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث: صيغة اللوم(لم تكفرون) التي تفيد التنبيه والتحذير والإنذار , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الرابع : التذكير بأن الذي يجحدون به هو آيات الله، وأنهم يؤمنون بالكتاب النازل من عند الله، فلا يصح عقلاً التجزئة في الإيمان في النازل من عند الله لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الخامس: عدم حصر الخطاب بالرؤساء فيتوجه إلى الذين قال الله فيهم[وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ] ( )، لذا جاءت لغة الخطاب نصاً ظاهراً خالياً من الإجمال والترديد والتركيب والوسائط في الإستدلال.
السادس: إقامة الحجة على أهل الكتاب بشهادتهم ومعرفتهم الحسية والعقلية للآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وظهوره على الكفار مع كثرة عددهم وعدتهم.
فحينما زحفت قريش بخيلها وخيلائها على المدينة المنورة لا يتوقع الذي يرقب الأحداث إلا هزيمة المسلمين المستضعفين أمامهم، لأنهم في حال نقص ظاهر قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، ليشهد أهل الكتاب نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ويكون هذا النصر دعوة للإيمان , ونبذ الخلاف والشقاق .
الثانية: إدراك أهل الكتاب والناس تجدد قوة المسلمين بتعاهدهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمنع من الغي والغرور.
ومن مصاديق تعضيد آيات القرآن بعضها لبعض أن قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، تعضيد للمسلمين وتثبيت لهم في منازل(خير أمة).
وفي خروجهم للناس بصفة التفضيل هذه أمور:
الأول: إنه وسيلة لترغيب أهل الكتاب والناس بالإنصات للمسلمين.
الثاني: فيه مانع من نفرة الناس من المسلمين في جدالهم وإحتجاجهم , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الثالث: إقامة الحجة على الناس في لزوم التصديق بآيات الله، والإقرار بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الرابع: تحلي المسلمين بالأخلاق الحميدة في الدعوة إلى الله، والإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته وسنته وفي حسن السمت، قال الله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الأمر بحسن جدال أهل الكتاب تأديباً للمسلمين، وتنمية لملكة حسن الخلق عندهم وهو من الشواهد على تسليم المسلمين بحسن إختيارهم، وعدم خشيتهم من أسباب الشك التي يذكرها أهل الريب والخصومة.
ومن وجوه المودة بين أهل الكتاب والمسلمين شهادتهم للمسلمين أنهم يؤمنون بالله عز وجل وتحتمل علة وموضوع هذه الشهادة وجوهاً:
الأول:من مصاديق هذه الإيمان دعوتهم للتصديق بآيات الله، ولزوم عدم الكفر والجحود بها.
الثاني:شهادة الله للمسلمين بأنهم يؤمنون بالله كما تدل عليه آية البحث.
الثالث: إظهار المسلمين لأسمى وأبهى سنن عبادة الله، وتقيدهم بأداء الفرائض التي جاء بها الني محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين .
وفي الرسول عيسى ورد قوله تعالى[قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
الرابع: تصديق المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهاد المسلمين وإنفاقهم الأموال في سبيل الله.
الخامس:تعاهد المسلمين للفرائض والعبادات , و(عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله حد حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)( ).
كأن كل وديعة من مسلم عند الكتابي وديعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وفيه آية إعجازية وإنذار للناس لأن خيانة النبي إثم عظيم وإضرار بالذات، قال تعالى[وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ] ( )
فإن قلت جاءت آية السياق بخصوص أهل الكتاب فكيف تكون رحمة للناس جميعاً، والجواب من وجوه:
الأول: أهل الكتاب فريق من الناس، وفي الآية رحمة بهم.
الثاني: يلجأ الكفار إلى أهل الكتاب للسؤال عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت هذه الآية لتوكيد صدق نبوته، ودعوة الناس جميعاً للتدبر فيها، وفي مصاديقها العملية من قيام فريق من الناس برد أمانات المسلمين، وقيام فريق آخر بجحودها وإنكارها.
وهل يحتمل مجيء زمان يكون فيه الناس على حال واحدة من الأمانة أو الخيانة.
والجواب لا إلا أن يشاء الله .
فمن إعجاز القرآن إستدامة أحكامه وما فيه من الإخبار عن أمور الغيب والوقائع وأحوال الناس.
وجاءت الآية بلغة التبعيض والكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً في طرفي حفظ الأمانة، وعدمه، وكل طرف منها غير ثابت كثرة وقلة، وفيه باب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلما إجتهد المسلمون في الأمر والنهي وإزدادوا قوة كثر أهل الأمانة عندهم وعند أهل الكتاب والناس جميعاً .
ولا تتعارض الوديعة مع الزكاة والصدقة , أي أن المال الذي يُودع أمانة وقد أخرج زكاته وخمسه إذا كان قد تعلقت به الزكاة أو الخمس .
الثالث: في الآية دعوة للمسلمين للحيطة والحذر من الكفار في الأمانات،والوثاقة الشخصية من الذي يجعلون عنده ودائعهم وأموالهم، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ] ( ).
الرابع: دعوة الكفار والناس جميعاً لحفظ ودائع المسلمين، وإدراك موضوعيته في إستمرار الصلات التجارية معهم، وكسب ودهم، خصوصاً وأن آية السياق تشير إلى المال الكثير القادم على المسلمين إخبارها عن إيداع النبي للقنطار من المال، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفق المال الكثير الذي يرده في ساعته مما جعل الصحابة لا يفكرون بجمع الأموال الكثيرة والإبل والأنعام الأخرى.
نعم بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، وإتساع بلاد المسلمين، وجلب الأموال والزكوات والخراج إلى المدينة صارت عند بعض الصحابة أموال كثيرة، كما يحكى عن الزبير بن العوام، وطلحة مثلاً ولكن أكثر الصحابة ظل مقتدياً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته من إنفاق الكثير والرضا بالقليل[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وظهرت معاني الزهد جلية عليهم ليكونوا أسوة للمسلمين الآخرين، وهل يكونون حينئذ في مأمن من الإيداع عند غيرهم وما فيه من إحتمال ضياعها .
الجواب لا، لأن ضياع مال أي فرد من المسلمين خسارة للصحابة , فلا ملازمة بين الملة وخيانة الوديعة , ولكنه يلزم الحيطة والحذر.
وهو المستقرأ من مجيء صيغة الخطاب في آية السياق للنبي محمد، مع قصد أهل الكتاب المسلمين جميعاً كما ورد في الآية[قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ].
قانون ضمان الوديعة مع التعدي أو التفريط
جاءت آية السياق بتحذير ملايين المسلمين من الإيداع عند غير الثقة، وبعثهم على أخذ المواثيق على الوديعة , سواء كانت عند مسلم أو غيره , وعند مصرف أو جهة .
الثالثة: تنمية ملكة المحافظة على الأموال عند المسلمين، من غير تعارض مع لزوم أدائهم الزكاة والحقوق الشرعية.
الثالث: قول فريق من الناس الكذب على الله، وقد يكون إنكار وديعة المسلم مترشحاً عنه، وفيه شاهد بأن الآية جاءت لأمور:
الأول: إصلاح حال الناس والرحمة بهم وحفظ الأمانة حميد وباعث للإستقرار في المجتمعات .
الثاني: تهذيب النفوس , وقال الطبري ( حدثنا الحسين ، قال: حدثنا سفيان : نزل القرآن بمكارم الأخلاق، ألم تسمعه يقول( لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( ).
وقال آخرون : بل عني بالذكر في هذا الموضع: الشرف، وقالوا: معنى الكلام: لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم) ( ).
الثالث: إستدامة ملكة الأمانة , وحفظ الوديعة من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الرابع: منع أسباب خيانة وديعة المسلم , وتعرف الوديعة في الأحكام الوضعية بأنها عقد رضائي يلتزم به شخص بألفاظ على ما استلمه من مال بصفة الأمانة عنده , ورده إليه عيناً .
والوديعة عقد جائز , لكل واحد من المتعاقدين فسخ الإيداع متى شاء , فإن طلبها صاحبها لزم ردها إليه وإن كان هذا الطلب قبل أوان وأجل متفق عليه بينهما , وإذا ردها الموَدع يلزم صحابها قبولها .
إذ قد تطرأ على الإنسان أسباب وأحوال يكون فيها غير قادر على حفظ ماله , لعجز أو مرض , وسفر أو فقد الحرز فيلجأ إلى غيره لحفظ ماله , والوديعة أمانة .
فلا يضمنها المستودَع إلى مع التعدي أو التفريط .
والتعدي هو فعل ما لا يجوز والتفريط ترك ما يجب لحفظ الوديعة وهي أمانة , وفي كل من التعدي والتفريط الضمان , ومنه ترك المستوَدع أو الوديع حفظ الأمانة وجعلها عند غيره بلا عذر أو إذن , وجعلها أو نقلها لموضع غير حرز .
الخامس : كما أن آية السياق أعم في موضوعها من طرف المسلمين وحفظهم لأموالهم، فإنها أعم من طرف عامة الناس لمجيئها لإصلاح أحوالهم ومعاملتهم , وحسن العشرة بينهم وبين المسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
السادس: يؤمن المسلمون بالله إلهاً ورباً وخالقاً، ويصدّقون بنزول القرآن من عنده سبحانه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في آية البحث(وتؤمنون بالله).
ينهى المسلمون عن المنكر، ومن مصاديق المنكر في المقام أمور:
الأول: عدم حفظ الوديعة ، ويشمل التحذير والنهي غير المسلم من الإيداع عند الذي لا يحفظها المسلم وغير المسلم ، إذا كان المستوَدَع يقول فيه نحو ما قال في المسلمين[قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] ( ).
وفيه مسائل:
الأولى: من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، والرحمة في المقام شاملة للعبادات والمعاملات التي تكون طريقاً لحسن العبادة والسمت.
الثانية: إقامة الحجة على الكفار , قال تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
الثالثة: توكيد حقيقة وهي أن الهداية والبيان , والفلاح في القرآن , قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثاني: إنكار وديعة المسلم، والإمتناع عن عدم رد ماله له، فجاءت آية السياق لتحذير الناس من هذا الإنكار، وكل مرة يتلو المسلم فيها هذه الآية هي نهي عن هذا الإنكار , ودعوة للوفاء بحقوق المسلم وأداء أمانته وقضاء دينه، وفيه مسائل:
الأولى: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) قيامهم بالنهي عن المنكر بصيغة واحدة مع تعاقب الأجيال، وبذات المواضيع، وما يستحدث من أفرادها بتلاوة الآيات التي تتضمن النهي عن المنكر.
فكل جيل من المسلمين يقوم بذات الوظيفة، ولا يأتي يوم على المسلمين يكون فيه المعروف منكراً أو المنكر معروفاً، ولا يمكن حصول اللبس والتداخل بينهما، وهو من عمومات نزاهة وعصمة المسلمين من التحريف في الواجبات ومصاديقها.
الثانية: قانون تلاوة آيات القرآن إصلاح للنفوس ,وتهذيب للأخلاق , (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق)( ).
الثالثة : عجز الذي يريد الإساءة للمسلمين عن الإضرار بهم، فهو وإن نوى خيانتهم في باب الوديعة، فإن النوبة لا تصل بهم إلى الإيداع عنده لأن القرآن يذكّرهم صباحاً ومساءً بلزوم الحذر منه، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، فلا تكون خيانة وديعة المسلمين أمراً واقعاً على نحو دائم، لأن المسلمين يجتنبونه من الأصل.
مما يروى في باب الوديعة أن شخصاً في البصرة أودع مالاً عند آخر، وعندما أراد إستردادها أنكرها عليه، وكان المستودع بنى على الأموال المودعة عنده الجدار، فذهب صاحب المال إلى القاضي، وأخبره، فقال له: هل أخبرت أحداً غيري، قال لا، فقال له القاضي أكتم الأمر، وأرجع لي بعد يومين، فأرسل القاضي على الذي عنده الوديعة وقال له: لقد كثرت أموالي وعجزت عن حفظها وليس عندي خزائن كافية، وسألت عن الثقة في البلد، فأرشدوني لك .
فقال: أنا مستعد لحفظها، وإعادتها لك حال الطلب، فقال له القاضي: إذهب وهيئ لها مكاناً مناسباً واسعاً.
وعندما عاد صاحب المال، قال له القاضي: إذهب له وطالبه بوديعتك فإن أنكر، فقل له سأشتكيك إلى القاضي، فلما جاءه أنكر المال مرة أخرى، فأخبره بأنه سيذهب إلى القاضي ويخبره الأمر، وعندها أدرك أن ودائع القاضي الكبيرة لن تصل إليه لجأ إلى هدم الجدار وأخرج الوديعة، ودفعها إليه، فعاد الرجل وأخبر القاضي بالأمر، فإستدعى المستودٍِع نفسه، وقال له: إذا أودع الناس عندك أموالهم فلا تخون الأمانة , أي أنه إكتفى باسترداد الوديعة , ورجوعها إلى مالكها , وتنبيه المودَع.
قانون الإقرار بالنبوة حاجة
من مصاديق الإيمان الإقرار بالنبوة وأن الله عز وجل بعث الأنبياء لهداية الناس، قال سبحانه[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
وجاءت آيات القرآن بالبشارة والإنذار في الدنيا والآخرة ومنها البشارة بالعز وصرف شر الكفار ، وإنقطاع عبادة الأصنام في الأرض والبشارة بكثرة الأموال التي ستكون عند المسلمين، ومنها ما يكون زائداً عن المؤونة، ومالاً متحركاً .
يقوم المسلمون أفراداً وجماعات بإيداعه وحفظه لأوان الحاجة أو للوارث ليكون عوناً له في أمور الدين والدنيا ، وهو من أسباب عزم بعضهم خيانة وديعة المسلم بقولهم[قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]، فهم يدركون أن أموال المسلمين سبب لأمور:
الأول: بقاء المسلمين على الإسلام.
الثاني: زيادة قوة المسلمين، ليكون المال من عمومات قوله تعالى[وَيَزِيدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ] ( ).
الثالث: ثبوت أحكام الحلال والحرام , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الرابع: دخول الناس للإسلام ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
الخامس: أداء الوظائف العبادية كما جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا سمّوا المسلمين بالأميين، ويدل بالدلالة التضمنية على شهادتهم وإقرارهم بأن المسلمين يعملون على سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويأتمرون بأوامره، ويهتدون بأقواله، لأن لفظ الأميين نسبة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من مكة وهي أم القرى ، أو لأنه لا يكتب كما تقدم بيانه( )، قال تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ومن مصاديق شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس الإخبار عن التفصيل في بخصوص أمانات المسلمين، وإرادة فريق من الناس أكل ودائعهم، والشهادة بسوء فعلهم هذا وما يترتب عليه من الأثر في الدنيا والآخرة، لما فيه من القبح الذاتي والغيري، فهو وإن جاء من فريق منهم إلا أنه يؤدي إلى الإضرار العام بأهل الكتاب، وإشاعة الحذر والحيطة من المعاملة معهم.
فجاءت الآية بالتفصيل كيلا تتعطل التجارات، ولا يتضرر عموم أهل الكتاب لأنهم أقرب الناس إلى المسلمين بلحاظ أنهم أتباع أنبياء سابقين، قال تعالى[وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ).
قانون الحسن الذاتي للعهد
لقد بعث الله الأنبياء بحفظ العهد أو الأمان والوصية والذمة وقبول الشرط أو إلزام النفس به ابتداءَ, وحفظ الشئ وتعاهده حالاَ بعد حال وعدم نقضه أو التخلي عنه , قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) .
وفي الآية أعلاه أمر من الله عز وجل بحفظ العهد حتى مع المشركين , وفي غير الحربيين حال قوة المسلمين , وضعف المشركين في السنة العاشرة للهجرة , مما يدل من باب الأولوية على لزوم وحفظ العهود مع أهل الكتاب وفيما بين المسلمين .
لقد واجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين المعاندين الذين لم يكتفوا بالبقاء على الكفر ، فأظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبر والوفاء بالعهد ، وفيه بشارة الغلبة على سجية نقض العهود، خصوصاً وأن المسلمين في إزدياد، عدداً وإيماناً، فهم في إرتقاء متصل في الفقاهة، وسلّم العلوم، وهو من مصاديق قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وتكون مواضيع الغلبة متعددة، وعلى وجوه :
الأول : بيان مضامين عهد الله للناس، ومن فضل الله على الناس والشواهد على رحمته بهم جميعاً مجيء هذا البيان بكتاب نازل من السماء لا يطرأ عليه التحريف والتغيير إلى يوم القيامة , قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
وفيه غاية الذم للذين ينقضون العهود ، ودليل على أنهم لم يضلوا أحداً من الناس , قال تعالى[وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ]( ).
ويدل على مضامين الآية أعلاه إستنكار وتقبيح عامة الناس للذي ينقض العهد غدراً ومكراً.
وجاء قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) بصيغة الإنذار والوعيد لبعث الناس على التعاون في حفظ العهود ، والإيمان جمع يمين وعدم التفريط بها .
وأخبرت هذه الآية عن إبتغائهم الثمن مما يدل على حاجة الناس للقرآن، ومنع التفريط بآيات الله طمعاً بمتاع قليل من الدنيا ، لتكون الآية حجة عليهم.
وقد جاءت الكتب السماوية بتحريم الفساد وسفك الدماء ، ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض لغة العهود والمواثيق واليمين وتعاهدها وحفظ ماتم العهد واليمين عليه ، لنشر السكينة والأمن بين الناس .
(عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً } الآية .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف ، فقالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله؟
قال : نعم . فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبداً ، فأنزل الله { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ، وكذب به قومك وهو الحق } إلى قوله { وسوف تعلمون })( ).
وقد يقال جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع (يشترون) وهو أعم من حدوث البيع والقبض فلم تقل الآية (إن الذين إشتروا) بصيغة الماضي التي تفيد القبض والتسليم وهي المعتمدة في صيغ العقود.
والجواب جاءت صيغة المضارع لبيان تجدد فعل الشراء، وعدم إنحصاره بأسباب النزول أو قضية في واقعة.
وفيه بعث للمسلمين والناس جميعاً للحذر من أولئك الذين يفرطون بالعهود وينقضون المواثيق خاصة في هذا الزمان الذي تداخلت فيه الأمم وأهل الملل والحضارات .
وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات التي تدل على كونه المقصود ببشارة الأنبياء على نحو الحصر والتعيين إذ لا نبي بعده .
(عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ،
وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم .
وبشارة عيسى بي .
ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن .
وأخرج أحمد وابن سعد والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك .
قال : دعوة إبراهيم .
وبشرى عيسى .
ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام ) ( ).
الثاني : فضل الله في صيرورة الناس في كل زمان في حال نفرة من نقض العهود ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( ).
الثالث : تعاهد وحفظ العهود من قبل المسلمين دعوة للغير لتعاهدها فان قلت قد نقض المشركون صلح الحديبية ، الجواب نعم ، وهذه صحيح لأن الشرك باعث على فعل المنكر ، إرادة كفار قريش الغدر ، ممل يلزم المسلم التنزه عن الغدر والخيانة .
قانون صلح الحديبية نصر على الإرهاب
من خصائص الصلح أنه نوع طريق للسلم العام سواء بين الدول أو الشعوب أو القبائل أو الأفراد ، وهو في علم القانون يفضّى به الإشتباك ، وينقطع به النزاع .
وجاء الصلح في القرآن بالمعنى الأعم ، إذ اخبر الله تعالى بأن الصلح خير محض ، ونفع جلي ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) وفيه نزع للكدورة ، ومنع من الدغل( ) ، وإفساد الأمور .
كما أخبر القرآن عن كون صلح الحديبية فتح ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وكيف يترجح الفوز والظفر لأهل التقوى بالصلح مع الذين كفروا ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ] ( ) .
(وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم منصرفه عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه) ( ).
لبيان قانون سماوي وهو عدم إنحصار الفتح بالقتال أو الهجوم والغزو فأبهى مصاديق الفتح تأتي للأنبياء بالصلح والمهادنة والصبر ، فمع الهدنة ووقف القتال يعلم الناس بالمعجزات ، ويدركون القبح الذاتي للكفر ، ولزوم التنزه عنه .
وهل ينحصر الفتح في الآية أعلاه بذات الصلح أم بما يصاحبه وما يترشح عنه الجواب هو الثاني ،وهو من مصاديق وصفه بأنه مبين ، ويمكن إنشاء قانون وهو في كل زمان هناك نفع لصلح الحديبية ، وهو في كل زمان هناك نفع لصلح الحديبية ، وهو حرب على الإرهاب ، وحجة على الناس في لزوم إجتنابه والنفرة منه ، وحتى المشركين مالوا إلى الصلح وتركوا غزو المدينة والتعرض للمسلمين والمسلمات .
وتم صلح الحديبية (عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنّ النّاسُ وَيَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى أَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمّنْ مَعَ مُحَمّدٍ لَمْ يَرُدّوهُ عَلَيْهِ) ( ).
وفيه شاهد على أن كفار قريش لا ينصفون حتى في الصلح ، فالأصل أن من يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرد إلى المشركين .
ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رضي بالشرط لتتجلى في الأحداث التي تلت صلح الحديبية حقائق تكشف الإعجاز فيه ، وكيف أنه فتح مبين .
وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهدنة بعد صلح الحديبية، فأتى أخواها عمارة والوليد وسألا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ردها عليهم ، فلم يردها لأن العهد خاص بالرجال ، وقد تقدم البيان والتفصيل كما حرّم الله عز وجل على المؤمنين الإمساك بعصم الكوافر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وعن المسور بن مخرمة قال : لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو على قضية المدة يوم الحديبية كان مما اشترط سهيل : أن لا يأتيك منا أحد ، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا .
فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جندب بن سهيل .
ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة ، وإن كان مسلماً ، ثم جاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي عاتق .
فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات( ).
وفي الآية أعلاه قال ابن عباس (يقول لا تأخذوا بعقد الكوافر ممن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد أنقطعت عصمتها منه وليست له بامرأة، وإن جاءتكم أمرأة مسلمة من أهل مكّة ولها بها زوج كافر فلا تعتدن به ، فقد انقطعت عصمته منها.
قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلّق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكّة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمر بن حروا الخزاعية أم عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما .
وكانت عند طلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمرو التيمي أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر.
وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ثم تزوّجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس ، فكانت ممن فرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوّجها خالداً .
وأميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرّت منه وهو يومئذ كافر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهل بن حنيف ، فولدت عبد الله بن سهل.
قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمرأة أبي العاص بن الربيع فأسملت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وأقام العاص مشركاً في مكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردّها عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
و(كان عمر بن عبسة السلمى صديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة ، وهو من أوائل من أسلم في مكة .
وعن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السّلميّ .
قال: لقد رأيتني وإني لربع الإسلام.
قال: قلت له: حدّثنا حدّيث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم.
قال: سمعته يقول : من ولد له ثلاثة في الإسلام فقبضوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجّنة بفضل رحمته إيّاهم .
ومن شاب شيبةً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدّو أصاب أو أخطأ كان له كعتق رقبة .
ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النّار،ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنّة ثمانية أبواب يدخله الله من أيّ باب شاء( ).
وكان عياض بن حِمار بن (ناجية بن) عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم حرميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية ، وكان العرب يطوفون بالبيت عراة وثيابهم بين أيديهم لتتنزه ساعة الطواف من الذنوب ، ولكن أشراف العرب الذين يتحمسون في دينهم أي يتشددون ( ).
ويعني ذلك أن قريشاً كانت من الحمس، وكانت بنو مجاشع من الحلة، وهما دينان من أديان العرب في الجاهلية، فكان الحل لا يطوف بالبيت إلا عرياناً إلا أن يعيره رجل من الحمس ثياباً يطوف بها .
فكان عياض يطوف في ثياب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وعياض هذا: ابن عم الأقرع بن حابس بن عقال .
(وكان كتّاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم :
الأول : علي بن أبي طالب .
الثاني : عثمان بن عفان .
الثالث : عمر بن الخطاب .
الرابع : أبو بكر .
الخامس : خالد بن سعيد بن العاصي .
السادس : أبي بن كعب الأنصاري .
السابع : حنظلة بن الربيع الأسيدي .
الثامن : يزيد ابن أبي سفيان .
التاسع : زيد بن ثابت الأنصاري من بني النجار)( ).
العاشر : حنظلة الأسيدي ( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn