المقدمة
الحمد لله الذي هدى الناس للإيمان، وقرّبهم من منازل الطاعة والصلاح وما فيه الأمان , وجعل معالم الحياة الدنيا حجة عليهم، ومدداً لجذبهم للإسلام , قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
وفاز المسلمون بأداء الفرائض والطاعات، وأسبغ عليهم الله مرتبة(خير أمة) ببعثة صاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلهم حملة لواء القرآن وهو الإمام والشفيع للناس، ليكونوا أئمة للناس، بعد أن إبتلاهم والناس بلزوم التصديق ببعثته والعمل بالسنن الواجبة، وليواجهوا صنوف الأذى من أهل الجحود والضلالة بصبر وثبات مترشحين عن التقوى.
ويرجو المسلمون توظيف أهل الكتاب للبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة، بما ينفعهم بالذات ويدرأ عن الناس الفتن , ويخفف عن المسلمين , وهل هذا الرجاء من خصائص(خير أمة) أم هو عرض متزلزل والأصل أنها تستغني عما في أيدي غيرهم.
الجواب هو الأول فقد أنبأهم الله عز وجل بوجود هذه البشارات نعمة منه تعالى على المسلمين وغيرهم، فسعى المسلمون لإستظهارها وبيانها للناس لما فيها من البيان العام وطرد للشك، ومنع للجدال والمغالطة، وجلب المنفعة للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً.
لقد كان تحريف تلك البشارات سبباً للضرر المتجدد، وأدى إلى تخلف قوم عن دخول الإسلام، أما (خير أمة) فإنها إجتازت الإمتحان المتولد عن هذه الفتنة , وتصدت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم تفرّ عن الجهاد في سبيل الله، وقد تفضل سبحانه بتوالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون برهاناً حاضراً ومتجدداً على سلامة إختيارهم.
وتبين أول آية من الآيات التي يتضمن صلتها هذا الجزء كيف أن فريقاً من أهل الكتاب يحرفون التنزيل[ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ ] ( )، لبيان حاجة أهل الأرض إلى أمة تحفظ وتتعاهد التنزيل، فكانت (خير أمة) وأنعم الله عليها بتلاوة آيات القرآن التي ليس من حصر لمنافعها في الدنيا والآخرة.
وإذ جعل الله عز وجل الدنيا مزرعة للآخرة فإنه أنعم على الناس بالقرآن ليكون النبع والشجر والثمر والضياء الذي ينير دروب النشأتين للناس.
إن منافع القرآن تفوق حدود التصور الذهني، وتتعدد مواضيعها ومصاديقها وهي توليدية، ومنها فضح ليّ الألسن بالتنزيل، وعدم ترتب الأثر على التحريف، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جعله الله أسوة للمسلمين , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، ليرتقي المسلمون في منازل المعرفة الإلهية.
وجاء القرآن بالإخبار عن عبودية وخشوع النبي المطلق لله عز وجل، وكذا بالنسبة للأنبياء السابقين، فمن أهم وظائف الأنبياء إظهار أسمى معاني الخضوع لله، لمنع الناس من الغلو فيهم، ولزجرهم عن الإنقياد للطواغيت، ونهي الأمراء والسلاطين عن دعوة الناس لإتباعّهم بغير الحق، فجاء في الآية الثانية التي يتضمن هذا الجزء صلتها بآية(خير أمة) قوله تعالى[مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ…..]( ).
إن كل آية من الآيات التي يتضمنها هذا الجزء وهو السابع والثمانون من التفسير مدرسة إعجازية في ذاتها , وفي صلتها مع آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لتستنبط المسائل والأحكام من الصلة بينها وتكون من الشواهد على حاجة الناس للقرآن، ولزوم تعاهده برسمه ولفظه وتلاوته، وهذه الصلة أكثر الصلات في هذا الجزء في عدد الصفحات، والبيان والإستدلال، فما يتصف به هذا السفر القيم بأجزائه الكثيرة خلوه من الإطالة المملة، فكله مضامين علمية جديدة مستقرأة من ذات الآية ومستنبطة مما فيها من العلوم والسنن ونعت أجزاء التفسير بالكثيرة لبيان فضل الله علينا، وفي مقدار الكثيرة ورد عن علي بن إبراهيم قال(حدثني محمد بن عمير قال كان المتوكل قد اعتل علة شديدة فنذر ان عافاه الله ان يتصدق بدنانير كثيرة او قال بدراهم كثيرة فعوفي، فجمع العلماء فسألهم عن ذلك فاختلفوا عليه، قال احدهم عشرة آلاف وقال بعضهم مائة الف فلما اختلفوا قال له عبادة ابعث إلى ابن عمك على بن محمد بن على الرضا عليه السلام فاسأله فبعث اليه فسأله فقال الكثير ثمانون، فقالوا له رد اليه الرسول فقل من اين قلت ذلك؟ فقال من قوله تعالى لرسوله ” لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ” وكانت المواطن ثمانين موطنا) ( ).
وأختتم هذا الجزء بصلة قوله تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى……]( ).
ليكون من خصائص(خير أمة) أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم نيابة عن أجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة فيعلن إيمانهم بالتنزيل وأصول الكتب التي طرأ عليها التحريف، وهذا الإعلان تشريف للمسلمين لم تفز به أي أمة من أهل الأرض لأن إعلان النبي محمد جاء بأمر من الله، وشهادته للمسلمين نوع ثواب عاجل لهم متصل ومتقدم زماناً على المعدوم منهم أيام النبوة قال تعالى[قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا] ( ).
قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]الآية 110
الصلة بين آية[وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )، والآية أعلاه
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت كل من الآيتين بصيغة الخطاب للمسلمين مع الإتحاد في ذكر أهل الكتاب على نحو التقسيم والتبعيض الموضوعي.
الثانية: تتضمن آية السياق الذم لفريق من أهل الكتاب بخصوص تحريف الكتاب، أما آية البحث فانها جاءت ثناء ومدحاً للمسلمين، ويدل وصفهم بأنهم(خير أمة) على تلاوتهم الكتاب كتنزيله، وتنزههم من ليّ الألسن به.
الثالثة: جاء الذم في آية السياق على نحو السالبة الجزئية بالتقييد بالفريق والطائفة من أهل الكتاب، وليس جميعهم، بينما جاء المدح في آية البحث على نحو العموم الإستغراقي للمسلمين ( كنتم خير أمة ) فان قلت إنه لا يدل على مدح المسلمين والمسلمات جميعاً، فحتى مع وجود أناس فاسقين ومنافقين بين صفوف المسلمين فان الأمة وبلحاظ المقارنة مع الأمم الأخرى هي (خير أمة)، الجواب من وجوه:
الأول: التقييد خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة صارفة، وهي مفقودة في المقام.
الثاني: جاء الخطاب في الآية للمسلمين والمسلمات، وذكر فيه تفصيل في موضوع الإجتباء لمنزلة (خير أمة) وهو خروج المسلمين للناس.
الثالث: من الشواهد على صدق الآية ونيل عموم المسلمين لمرتبة (خير أمة) قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا القيام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، والإنتماء للإسلام والنطق بالشهادتين وحده من الدعوة إلى الله، والحث على نبذ الشرك وأسباب الضلالة والجحود.
الرابع: لقد فتح الله عز وجل باب التوبة، وجعله قريباً من المسلمين، وندبهم إلى ولوجه، ولم يجعل حواجز بينهم وبين التوبة والإنابة.
وصحيح أن الذم جاء لقوم من غير المسلمين إلا أن مجيئه على نحو السالبة الجزئية وأن فريقاً وطائفة هم الذي يلوون ألسنتهم بالكتاب، ومجئ المدح والثناء للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي توكيد لكشف الحقائق، وإزاحة الباطل وأسباب التحريف في الكتاب، ودفع ما يترشح عنه من الأذى والضرر.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان حاجة أهل الأرض لسلامة القرآن من التحريف، ووجود أمة مؤمنة تخشى الله وتتعاهد القرآن كتنزيله، فان قلت إن الله عز وجل قال[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، وأنه سبحانه هو الذي يحفظ القرآن من التحريف.
والجواب نعم، وهو سبحانه الذي يصلح المسلمين ليقوموا بتلاوة القرآن كتنزيله، ويتوارثون آيات القرآن بذات الرسم واللفظ والترتيب، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومن مصاديق الآية أعلاه أن المسلمين يخرجون للناس بذات القرآن والآيات التي نزل بها جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تلاها النبي عليهم، وتلك آية في خلق الإنسان وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة الذين إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض، بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى أن المسلمين يتلون ذات الآيات والكلمات التي أرسل بها جبرئيل عليه السلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتتعدد الوسائط وتتجلى الأمانة في طرف البشر مثلما هي ثابتة في طرف الملائكة في ذات الإحتجاج أعلاه بما ورد حكاية عنهم في التنزيل [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، ليكون من خصائص الحياة الدنيا أن عهد الأمانة والحفظ المستديم للتنزيل إبتدأ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينتهي زمان التحريف ولي الألسن بالقرآن.
فان قلت ذكرت آية السياق قوماً يقلبون التنزيل، ويحرفون الكتاب، والجواب جاءت آية السياق لفضحهم وإنذارهم وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
وأثنت آية البحث على المسلمين ووصفتهم بأنهم(خير أمة أخرجت للناس) ليأتي المسلمون بذم التحريف في الكتاب، والتحذير منه، ودعوة الناس لإجتناب أهله بخصوص الدعوى المترشحة عن التحريف ليفيد الجمع بين الآيتين إنقضاء زمان التحريف ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جزء من مفاهيم الأمانة بعد بعثته.
ومن الآيات أن كشف التحريف لا يتوقف على المسلمين وخروجهم للناس، بل يأتي بمدد من الله، فتجري المعجزة على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تؤكد صدق نبوته، وأنه الرسول الذي بشّر به الأنبياء السابقون، فلا يكون هناك إعتبار للّي الألسن وتحريف صفاته، ويكون هذا التحريف وبالاً على أهله، وخزياً لهم بين الناس، ويتجلى هذا الخزي بترك الأتباع لنصرتهم، وإمتناعهم عن الإستمرار في الولاء لهم.
صلة (وان منهم لفريقاً يلوون السنتهم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تجلي التباين بين المسلمين وفريق من أهل الكتاب، فقد نال المسلمون مرتبة(خير أمة) بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق المعجزات التي جاء بها، ولم يضرهم تحريف هؤلاء للكتاب والتنزيل السابق للإسلام، وفيه شاهد على أن مقاليد الأمور في الحياة الدنيا بيد الله، وأنه سبحانه أراد للكتاب السلامة من التحريف، فجعل(خير أمة) يقطعون حبل التحريف في الكتب السماوية السابقة.
وهل من أثر لهذا التحريف على حفظ المسلمين للقرآن، الجواب لا، فان الله عز وجل هو الذي حفظ القرآن، وأمر المسلمين بتلاوته، مما إستلزم حفظه في صدورهم، وتدوينه في المصاحف [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
وكثير من المسلمين تعلم القراءة والكتابة من أجل تلاوة القرآن، والملايين منهم تعلموا العربية للقرآن، وأداء الصلاة وتلك آية إنفردت بها (خير أمة) بأن تغير الأمم والشعوب ألسنتها من أجل الكتاب السماوي النازل على نبيها نبي الرحمة.
ومن الشواهد على أن المسلمين(خير أمة) ميلهم لتعلم لغة القرآن العربية من غير إكراه ولا إجبار , ويأتي تعلمهم هذا طواعية وبشوق، مع أن المؤسسات العربية والإسلامية متأخرة عن وظائفها في هذا الباب، فكل مسلم ومسلمة يرغبان بتعلم العربية والنطق بلغة القرآن كما نزل به جبرئيل عليه السلام , قال تعالى[ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ] ( )، وكما تلاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , مع التدبر في معانيه ودلالاته بلذة ورضا.
الخامسة: يتصف المسلمون بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لايغادرهم ولا يتخلفون عن وظائفه السامية، وهم يقومون به بهمة وجد إمتثالاً لأمر الله، ولما يجدون فيه من المنافع العاجلة الخاصة والعامة، وأسباب الصلاح والفلاح، وما يدركون من ثوابه العظيم، وفيه آية في معاني الإيمان باليوم الآخر، فهو ليس إيماناً مجرداً بذاته بل تترشح عنه أفعال وآثار في الحياة الدنيا ذات صبغة الصلاح والهداية وبما يثبت معالم الإسلام في الأرض، ويمنع من التفريط في الفرائض، أو تحريف الكتاب، ولابد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بيان موضوعات ومصاديق المعروف، ليؤمر بها على نحو التعيين، ومعرفة أفراد المنكر والفعل القبيح فينهى عنها.
فجاءت آية السياق ببيان تحريف فريق من الناس للكتب السماوية السابقة ليظن المسلمون أنه من الكتاب والتنزيل، ومن منافع هذا البيان أمور:
الأول: صيرورة تعاهد التنزيل موضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: إنه واقية للناس من الإصغاء للتحريف.
الثالث: إنه مقدمة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تدبر المسلمين في آيات القرآن، وتعاهدها وتلاوتها كتنزيلها , قال تعالى[وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ]( ).
وصحيح أن آية السياق جاءت لتحذير المسلمين من ليَ الألسن وتحريف الكتاب إلا أن هذا التحذير عام وشامل للناس جميعاَ.
ومن إعجاز القرآن وجود موضوع وحكم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل آية من آياته، لتكون الدنيا(دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ويصاحب الأمر والنهي المسلمين والناس في ليلهم ونهارهم، فيكون المكلف أما آمراً أو مأموراً، وناهياً أو منهياً، مع التباين والتضاد بين موضوعات كل قسم منها من غير أن يحصل تداخل وإختلاط بينهما إلى يوم القيامة، فالربا مثلاً من المنكر في كل الأحوال، وهذه الأبدية مستقرأة من القرآن وأحكامه، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
فلم يأمر الله عز وجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير بيان مصاديق كل منهما، بل جاءت آيات القرآن ببيان كيفية وسبل الأمر والنهي وأسباب اللطف والحكمة والإحتجاج في الدعوة إلى الله، والهداية إلى سبل الصلاح، ومنها الأخلاق الحميدة، والصبر على الأذى، وإظهار الرضا بأمر الله، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( )، لتكون صلات الود سبباً لنشرمفاهيم الإسلام لأنها موافقة للفطرة الإنسانية، ولأن الصبر على الأذى طريق لجعل الخصم ينصت لك، ويتدبر فيما عندك , قال تعالى[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( ).
فيتلو المسلمون الآيات من غير لي الألسن وفيها البيان والحكمة، والإرشاد إلى النجاة في النشأتين، وهذه التلاوة الصحيحة من خصائص(خير أمة) وأسباب تفضيل المسلمين على غيرهم لما يتحملونه من المسؤوليات العظيمة في تعاهد التنزيل، ومنع يد التحريف من الوصول إليه.
السادسة: بينت آية السياق العلة الغائية من لي الألسن وهي أن يحسب المسلمون أن التغيير والتبديل في الكتب السماوية السابقة هو جزء منها بدليل لام التعليل في(لتحسبوه) وفيه مسألة وهي:
هل تحقق الغرض من التحريف وإحتسب المسلمون هذا اللّي والتغيير من الكتاب، الجواب لا، فقد جاءت كل من الآيتين بأسباب إحتراز المسلمين من هذا التحريف، وهو من خصائص(خير أمة) بأن يقيها الله عز وجل التحريف من وجوه:
الأول: فضح ما طرأ على الكتب السماوية السابقة من التبديل والتغيير، وجاء هذا الفضح في آية السياق، وآيات أخرى.
الثاني: إحتجاج القرآن على أهل الكتاب لإخراج الكتب السماوية التي عندهم وقراءتها وبيانها للناس , قال تعالى[قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
الثالث: لقد عصم الله عز وجل المسلمين من تحريف الكتاب، ووقاهم من إحتساب الزيادة والتبديل منه لأنه سبحانه جعلهم(خير أمة) ومن خصائص(خير أمة) السلامة من التدليس في الكتاب، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة في مأمن من تحريف الكتاب.
الصغرى: المسلمون خير أمة.
النتيجة: المسلمون في مأمن من تحريف الكتاب.
الرابع: جاءت السنة النبوية بالمحجة البيضاء في التمييز بين التنزيل وغيره، ودعوة للمسلمين للإعراض عما يأتي به غيرهم للكفاية بما في أيديهم.
الخامس: عمومات أدلة العرض، أي عرض مضامين الكتب السابقة والنصوص على القرآن، وترك ما يخالف القرآن.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط ( ).
السابعة: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات وسيادة التنزيل في العبادات والمعاملات، وليس من حصر لوظائف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الميادين، لذا نال المرتبة الرفيعة بين الأنبياء، وصارت أمته (خير أمة)، ومن هذه الوظائف أمور:
الأول: تنقيح ما يرد عن الكتب السابقة.
الثاني: طرح الزائد منها.
الثالث: فضح التحريف وبيان قبحه، قال تعالى[مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]( )، ويكون هذا الفضح بالتصريح والتعريض، وبقصده بالذات أو الإشارة إليه.
الرابع: جعل الناس يلتفتون إلى التنزيل السالم من التحريف، الخالي من التبديل والزيادة والنقصان، والذي يتصف بأنه غض طري، تلقاه أهل البيت والصحابة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أوان التنزيل، وتوارثه المسلمون بعناية فائقة جيلاً بعد جيل، وقيد العناية هنا للإشارة إلى موضوعية التقوى في التوارث كتكليف، وإجتناب سقوط حرف واحد منه.
ومن الآيات أن مصاديق تعاهد آيات القرآن لا تنحصر برسمه بل تشمل تلاوته والعمل بأوامره والتدبر في إعجازه الذاتي والغيري، ومجئ الوقائع والحوادث موافقة لمضامينه القدسية، وتحتمل هذه الموافقة وجوهاً:
الأول: إنها من الإعجاز العقلي للقرآن وبيانه للصلة بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
الثاني: إنها من الإعجاز الحسي للقرآن لإدراكها بالحاسة الباصرة والسامعة من الناس.
الثالث: المعنى الأعم للمعجزة وأنها عقلية وحسية متجددة ذات خصوصية بأنها تكون عامة وظاهرة للناس إلى جانب تذكير القرآن بالآيات الكونية، وبيان أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال تعالى[وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً] ( )، وفي هذه المعجزات إبطال عملي للتحريف، ودعوة للناس للإحتراز منه وعدم إتباع أهله، إذ أن ليّ الألسن ومحاولة جعل المسلمين يحسبونه من التنزيل له غايات خبيثة، منها محاربة القرآن، وإظهار التباين بينه وبين ما ينسبون للكتاب، ودعوة هذا الفريق الناس إلى إتباعهم.
لذا نزلت آية السياق بتحذير(خير أمة) منهم، وجعل موضوع تحريف الكتاب من مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وجاءت كل من آية السياق والبحث لتحصين الناس من الإفتتان بالتحريف وأهله، ومن خصائص(خير أمة) أنها مرآة لإتباع الحق والعمل به والإرتقاء العلمي والفقهي الذي يتجلى بطاعة الله ورسوله، وتلاوة آيات القرآن كتنزيلها.
الثامنة: لقد جعل الله عز وجل في القرآن علوم الأولين والآخرين، ودعا الناس إلى التصديق به والنهل من علومه وطلب النجاة في النشأتين باتباع أحكامه، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، وفيه زجر عن القيام بتحريف الكتب السابقة.
ومن يقوم بالتحريف لم يتركه القرآن بل أخبر عن كذبه، وفيه إعجاز للقرآن، وشاهد على حفظه بواقية من الله عز وجل، وفضح لما يعارضه، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ويمكن تقسيم حفظ القرآن في المقام إلى قسمين:
الأول: الحفظ الذاتي لآيات القرآن، وطرد التحريف والتبديل والتغيير عنها، ليبقى القرآن رسماً وتلاوة كتنزيله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه مسائل:
الأول: دفع الخصومة وأسباب الفتنة عن المسلمين، والتي تترشح قهراً وإنطباقاً عن الخلاف في التلاوة والتفسير والتأويل.
الثاني: تمسك المسلمين بالقرآن والسنة وإجتناب الإختلاف في العبادات كيفية وموضوعاً وحكماً، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، ليكون من معاني الإعتصام في المقام التشابه في الفعل بين أجيال المسلمين وان تباعدت، وتباينت أحوالها، وإختلفت أجناسها وألسنتها.
الثالث: تعاهد المسلمين لمنزلة(خير أمة) بالحفاظ على التنزيل والعمل بأحكامه.
الرابع: عدم تحريف مضامين وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن التحريف الذي يطرأ على التلاوة، يظهر مصداقه على عالم التكاليف والأفعال، فاراد عز وجل عصمة (خير أمة) منه ومن آثاره.
الثاني: الحفظ الغيري بمصاديقه وشواهده، ودفع أسباب الشك والريب فيه، ومنها التبديل في الكتب السابقة لما يدل عليه من حصول التعارض بينها وبين القرآن، فجاءت هذه الآية لمنع الإفتتان بالتباين والتعارض بينها، وحث المسلمين على الإعراض عما يخالف القرآن.
ترى لماذا جاء القرآن ببيان أمر ليّ الألسن بالكتاب، فيه وجوه بلحاظ الجمع بين الآيتين:
الأول: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً، ومنهم أهل الكتاب، وتتضمن آيات القرآن الخطابات الخاصة لأهل الكتاب، ودعوتهم للإسلام، والإخبار عن موافقة صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما عندهم من البشارات، وإقامة الحجة عليهم.
الثاني: توثيق القرآن للكتب السماوية السابقة، وبيان ما طرأ عليها من التحريف، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، وفيه نوع تحد بحث الناس على التفكر، والمقارنة بين نزول القرآن وما بين أيدي الناس من الكتاب.
ومن إعجاز القرآن أنه لم يرم الكتب السابقة بالتحريف في آية السياق، بل ورد قيام فريق من أهل الكتاب بليّ الألسن، وكأن التغيير والتبديل جرى على الألسن وليس في ذات الكتاب، وفيه نكتة عقائدية وهي أن أصل التنزيل موجود، وأن التحريف ظاهر وبيّن، وهو تحريف غيري تدركه الحواس بميل الألسن خلاف النطق السليم، وفيه حجة على الناس جميعاً بأنه بالإمكان معرفة هذا التحريف وإجتنابه وهذا الإجتناب أمر سهل ويسير على المسلمين لذا رزقهم الله مرتبة(خير أمة) فهم يحملون لواء حفظ القرآن، وفضح التبديل الذي يطرأ على الكتب السماوية السابقة.
الثاني: بيان تعدد وظائف (خير أمة) وأنها تشمل باب العقائد والتنزيل إلى جانب أداء العبادات والدفاع عن الإسلام، وتثبيت أحكامه وسننه في الأرض ومنها توكيد صدق نزول القرآن مما يستلزم فضح ما يخالفه.
الثالث:من اللطف الإلهي في المقام ظهور الخلل والنقص فيما يخالف القرآن بحيث يدركه كل إنسان عند التدبر فيه، لذا تفضل الله عز وجل ونسب التحريف إلى ليّ الألسن لعجز أهله عن إثباته وتوكيده، وتخلفهم عن إخراج التوراة للناس وما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد نسب القرآن أكل آدم وحواء من الشجرة إلى فتنة إبليس بقوله تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( )، وجاء ذكر التحريف بلي الألسن مما يدل على أنهم يعلمون الأصل من التنزيل وأنه موافق للقرآن وأحكامه، ويتضمن لزوم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
الرابع: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة عقلية متجددة، تترشح عنها الآيات البينات إلى يوم القيامة، وكل آية منها رحمة وخير محض على الناس، ومنها الإنذارات ولغة التوبيخ والتبكيت للذين يميلون عن جادة الحق، ومنه ميل ألسنتهم بمضامين الكتاب، وتلك الإنذارات من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فقد أراد الله عز وجل ببعثته أموراً:
الأول: نجاة الناس من الغواية والضلالة.
الثاني: دعوة الناس للرجوع إلى التنزيل، وطرح ما طرأ عليه.
الثالث: لزوم تنزيه مقام الربوبية، والذي يتجلى بالتنزه عن الزيادة والتبديل في التنزيل، لما في هذا التنزه من السلامة للذات والغير في النشأتين ومن أسباب وقاية القرآن من التحريف ذم الذين قاموا بتحريف الكتب السابقة .
ومن خصائص (خير أمة) وهم المسلمون أنهم لا يذمون قوماً على فعل قبيح ويأتون ذات الفعل، وجعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم للتدارك وصد بعضهم بعضاً عن هذا الفعل، ولتأتي تلاوة آية السياق إنذاراً وحرزاً من آفة التحريف , قال تعالى[وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
التاسعة: جاءت آية البحث وثيقة سماوية تؤكد صدق إيمان المسلمين بقوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] وفيه ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: أحسنت أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إسلامها، وأظهرت الصلاح والتقوى.
الثاني: تجلي بركات التنزيل على المسلمين في نهجهم، وثباتهم في منازل الإيمان، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: قراءة المسلمين للقرآن كما نزل به جبرئيل من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فتتعدد الوسائط وتتعاقب الأجيال، وتلاوة القرآن ذاتها، إذ يأخذها الصبي قبل وبعد البلوغ من أبيه وأمه وجده وجدته وجاره وأستاذه، ويشاركهم ذات التلاوة لسنوات طويلة بحيث ينشأ ويكبر عليها وهم معه لا يغادرونه، لذا فان وراثة التلاوة والتنزيل ذات خصوصية، فليس هي وراثة دفعية بحيث لا يجتمع فيما الوارث والمورث، فهما في التلاوة على وجوه:
الأول: إجتماع الوارث والمورث في الزمان والتلاوة، فيصاحب كل واحد منها الآخر في تلاوته.
الثاني: تعلم الوارث من المورث التلاوة.
الثالث: إعانة أحدهما الآخر على حفظ القرآن.
الرابع: التعاون على التلاوة وكيفيتها، والإنصات المتبادل، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الخامس: صبغة التعدد والعموم في وراثة آيات القرآن، فكل طرف من التوريث في المقام متعدد وغير محصور في مكان مخصوص، فيتعلم الذي في المشرق القرآن من الذي في المغرب، وكأنه من عمومات (قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً( ).
ومن الآيات أن حفظ وتلاوة القرآن لا ينحصران بالوارث والمورث بل يشملان حفظ المصاحف وقيام المسلمين بجمع القرآن، وسعيهم المبارك والمتصل في تدوينه وكتابته وقد جاء ذم الذين يحرفون كتابة التنزيل من أهل الكتاب في قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق بيان للوظائف السامية التي تتولاها(خير أمة) في أمور :
الأول: حفظ وسلامة القرآن.
الثاني: الذب عن التنزيل .
الثالث: تنزيه الأنبياء وإثبات أمانتهم , وصدقهم في الإخبار عن الله عز وجل.
وجاء في الآية التالية لآية السياق تبرئة الأنبياء بقوله تعالى [مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لي]( ).
إن الوظائف العقائدية التي ينهض بها المسلمون مجتمعين ومتفرقين من الشواهد على إيمانهم بالله، وعدم إصابتهم بالملل والكلل في الجهاد في سبيله تعالى، والعمل بمضامين وأحكام التنزيل.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن المؤمنين يقومون بفضح التحريف في التنزيل، ويدركون لزوم عدم السكوت عنه لأن أضراره كبيرة على أصحابه وعلى الناس ومنهم المسلمون، لما فيه من الأذى النوعي العام على الناس.
وهل هو سبب في عزوف الناس عن الإسلام ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاءت آيات القرآن بفضح التحريف، وتحذير الناس من أهله.
الثاني: تعيين الذين يقومون بالتحريف، وهم فريق من أهل الكتاب، وفيه آية إعجازية من جهة الحصر والتبعيض، فحينما يسمع الناس شخصاً منهم يتلو الكتاب السابق يظنون أنه من التنزيل، وأن أهل الكتاب كلهم على تلك التلاوة، فجاءت آية السياق بالتبعيض ليتفقه المسلمون في الدين، ويرتقوا في منازل الجدال والإحتجاج.
الثالث: لم يتوقف دخول الناس للإسلام على سلامة البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في الكتب السماوية السابقة، وإقرار أهل الكتاب بنبوته.
ومن الشواهد على عظيم قدرة الله وسلطانه، تنزهه عن الحاجة لغيره، والحاجة مصاحبة لعالم الإمكان، والله واجب الوجود , قال تعالى[وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ]( )، فهو سبحانه بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومعه البراهين العقلية والحسية التي تجعل شطراً من الناس يصدقون به ويتبعونه لينالوا منزلة (خير أمة) وهذه المنزلة لم ولن يطرأ عليها التحريف، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من خصائص المسلمين وعظيم منزلتهم عند أهل الأرض والسماء.
الثانية: تفضيل المسلمين بصفة تصديقهم ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبقاء الثناء عليهم في التنزيل إلى يوم القيامة.
الثالثة: يتلو المسلمون الآيات التي تثني عليهم، وهو مقدمة وبشارة للمنزلة الرفيعة التي أعدها الله عز وجل لهم في الآخرة.
الرابعة: تعلق التحريف وليّ الألسن بالكتب السماوية السابقة، ولا يصل إلى القرآن الذي يتضمن نعت المسلمين بأنهم (خير أمة).
الثالث: جاءت كل من آية السياق والبحث لإخبار الناس عن أهل التحريف وكيفيته وموضوعه، ودعوتهم في ذات الوقت للرجوع إلى القرآن.
فمن حكمة الله عز وجل أنه لا يذم أمراً أو قوماً في القرآن إلا ويذكر الضد الذي يستحق المدح والثناء وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الحادية عشرة: بيان صفة من صفات المؤمنين بالله، وهي معرفة التحريف وأهله، إذ تذكر آية السياق كيفية التحريف والذين يقومون به، ويدعون إليه، إذ أرادوا أن يحسبه المسلمون من الكتاب، ولم يعلموا أن الله عز وجل يأخذ بأيدي المسلمين في مسالك الإيمان التي تمتلأ بالضياء المانع من الضلالة والغواية، والكاشف لصيغ التحريف واللبس والتدليس.
وقسمت آية البحث أهل الكتاب إلى قسمين بقوله تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] .
فهل المؤمنون من أهل الكتاب يعرفون أفراد ومواضع التحريف في كتبهم ، ولغة لّي الألسن وما فيها من التبديل والتغيير في الكتاب.
الجواب يفيد الجمع بين الآيتين وجود أمة من أهل الكتاب تتجنب ليّ الألسن، لأن آية السياق ذكرت قيام فريق منهم بهذا التحريف، وبلحاظ الآية السابقة لها يكون المعنى أخص، وأنهم فريق من فريق ينقض العهد والميثاق الإلهي إذ تبدأ الآية السابقة بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
والتبعيض في قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا] آية في العدل والإنصاف في القرآن، وتفسير آياته بعضها لبعض، وفيه وجوه:
الأول: بيان نكتة وهي عدم شمول عموم أهل الكتاب بالذم في مقام التحريف.
الثاني: ترغيب أهل الكتاب بإظهار الحق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة والإنجيل وفضح التحريف الذي يقوم به فريق منهم، وحصلت شواهد عديدة له أيام البعثة النبوية، بأن تصدى بعض كبراء وعلماء بني إسرائيل للإخبار عما في التوراة.
الثالث: الإشارة إلى وجود أمة منهم تؤمن بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو نبي آخر الزمان، وأن الصفات المذكورة له في التوراة والإنجيل موافقة لشخصه الكريم وسمته.
الرابع: التخفيف عن المسلمين، ودعوتهم للإحتجاج والجدال والتوجه لسوح القتال للجهاد في سبيل الله بلحاظ أن أمر التحريف وليّ الألسن ظاهر ومذموم من وجوه :
الأول: تنزه فريق من أهل الكتاب عن ليّ الألسن، وما فيه من التدليس والإفتراء.
الثاني: معرفة المسلمين بالعلة الغائية لهذا التحريف، وهي ليحسبه المسلمون من الكتاب، وجاءت آية السياق لعصمة المسلمين من هذا الحسبان.
الثالث: مجئ آيات القرآن بأخبار التنزيل ومضامين الكتب السابقة، وقصص الأنبياء، قال تعالى[كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ]( ).
الثانية عشرة: جاء القرآن ببيان حاجات الناس في باب العقائد والأحكام والمعاشات، ومن فلسفة الحياة الدنيا أن آثار التنزيل شاملة لميادينها المختلفة، فليس من أمر من أمور الدين والدنيا إلا وجاء القرآن لبيانه، لذا فان التحريف يسبب أضراراً عامة وخاصة، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله(لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)( )، والذي يعتبر قاعدة كلية في الأحكام من باب الطهارة إلى الديات.
وتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين(خير أمة) لدفع الضرر عن الناس في الدنيا والآخرة، باعتبار أن الأولى مزرعة للثانية، فاذا تمت زراعة الأمور الضارة وعديمة النفع فان آثارها تظهر في عالم الجزاء والثواب، ومنها تحريف الكتاب فليس من نفع فيه لأصحابه ولغيرهم، لذا فان وجود(خير أمة) بين الناس رحمة بهم، ولطف دائم من الله بأهل الأرض.
وجاءت آية السياق رحمة ولطفاً بالناس لما فيها من تعاهد لسلامة القرآن، وبيان لحقيقة وهي أن الكتاب إذا ورد ذكره بين الناس مطلقاً من غير تقييد فالمراد هو ما أنزله الله عز وجل على الأنبياء، قال تعالى[ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ]( ).
وجاءت آية السياق بالبيان الإضافي بأن الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب يدّعون أنه من عند الله، وفيه تحذير للمسلمين، ومناسبة لمعرفتهم بأحوال الناس.
الثالثة عشرة: يتفضل الله عز وجل ويطلع(خير أمة) على ما يفترى عليهم، ويفضح أهل الإفتراء عندها، فمن يقوم بالتحريف وينسبه إلى الله يتبرأ الله عز وجل مما يدعيه زوراً وبهتاناً، إذ يقول الله في آية السياق [وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ليرميهم الله عز وجل بالكذب، وفيه شاهد على طرد الغفلة عن المسلمين، فلا يمكن أن يمر عليهم الإفتراء واللبس والتحريف، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام، للقبح الذاتي للغفلة، ونفرة الناس منها، ومن النعت بها، فلا يحب إنسان أن يرمى بالغفلة والجهالة، ومن يشاء أن ينجو منها فلينتمي إلى ( خير أمة) للتنافي والتضاد بين أفعل التفضيل (خير) وبين الغفلة لأن الغفلة موجودة على نحو السالبة الجزئية وبين الأفراد وليس عند الناس كلهم، لأن الإيمان واقية من الغفلة، وعلة إمتلاك الإنسان لجوارحه وتوظيفها في سبيل الله، وسبب غلبة العقل على الهوى.
وجاءت كل من آيتي السياق والبحث لتحصين الناس من الغفلة , ودفعها عنهم، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه نوع معذرة للناس للفترة بين نبوة عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها نحو ستمائة سنة لم يبعث فيها نبي فظهرت الغفلة على الناس، وقال فريق من أهل الكتاب ببنوة عيسى، وعبد فريق الأصنام، وظهر الشرك، وسادت مفاهيم الضلالة والجاهلية، لذا نال الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منزلة(خير أمة) لأنهم يجاهدون لنقل الناس من حضيض الوثنية والإفتراء على الله إلى رفعة مقامات الإسلام، ومن ليّ الألسن والتحريف إلى التنزيل الخالي من الزيادة والنقصان، الذي يعلم الناس كيفية نزوله، وإنعدام الأيام والساعات بين نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته من قبله والمسلمين، وضبطه وتدوينه ( وفي الحديث: كتب القرآن في جرائد) ( )، جمع جريدة وهي السعفة عندما تصير يابسة سميت به لأنها تجرد من الخوص، وإذا كان عليها لم يقشر بعد تسمى سعفة.
ومن الشواهد على إمتناع المسلمين عن الغفلة أن الصحابة بعضهم يسأل بعضاً ماذا نزل على النبي هذا اليوم، فمن فاته الحضور عند المسجد النبوي، ومشاهدة نزول الوحي في أحد الأيام لم يفته السؤال عن الوحي، وتلك آية ينفرد بها المسلمون وإستحقوا بها منزلة(خير أمة) وكانت سبباً في حفظ القرآن، وتوثيق كلماته وحروفه، وضبط تفسيره وتأويله.
فان قلت هذا يخص المؤمنين في الصدر الأول للإسلام، فكيف نال التابعون وتابعوهم ذات المنزلة بهذا الخصوص.
الجواب إن كل طبقة من المسلمين أولت العناية الفائقة لحفظ القرآن تلاوة ورسماً وكتابة في المصاحف، ولو أحصيت نسخ الكتب في الأرض لوجدت أكثرها هي نسخ القرآن وفيه أمور:
الأول: تعاهد المسلمين لكل نسخة من نسخ المصحف والعناية بها، وقد جاءت الأخبار بالتحذير من تركها.
الثاني: إزدياد نسخ المصاحف على نحو يومي مطرد، وتعدد الجهات التي تقوم بنسخه وتوزيعه على نحو الهدية، والكثرة الفائقة للبيوت والأفراد الذين يقومون بإقتنائه وتلاوته.
الثالث: إدراك المسلم لحاجته لإقتناء المصحف، والثواب العظيم لتلاوة القرآن في المصحف.
الرابع: إزدياد عدد المسلمين في كل جيل، وإنتشارهم في أصقاع الأرض، وتسليمهم بأن مصاحبة القرآن بركة وسلامة وأمن، وعن الإمام علي بن الحسين قال: لو مات ما بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) ( ).
لقد أراد الله عز وجل حفظ التنزيل والمنع من الإفتراء عليه سبحانه، فجعل المسلمين آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وأمدهم بمواضيع وأحكام الأمر والنهي، وجاء هذا المدد بالتنزيل السالم من التحريف لمنع الفرقة والخلاف بين المسلمين في محاربتهم للتحريف ولما للفرقة في المقام من الأضرار العامة عليهم وعلى الناس، وهذا المنع من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
فحينما يأمر الله عز وجل المسلمين بالوحدة في مرضاة الله فانه سبحانه يأتي بما يحول دون الفرقة ليعملوا بأمر من أوامره فيكتب لهم التقيد بأحكام عدم الفرقة، مع أنهم يقصدون طاعة الله، ولكن إمتثالهم لأمر الله يؤدي إلى عدم الفرقة إنطباقاًَ وهو من فضل الله عز وجل وإصلاح المسلمين لمنازل (خير أمة).
الرابعة عشرة: لما أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم (خير أمة) فانه أصلحهم للأخلاق الحميدة، وجعلهم دعاة إليه سبحانه بالحجة والموعظة والبرهان.
ونزل القرآن لبيان التعدي والإفتراء من فريق من الناس، وهذا البيان من الله عز وجل للمسلمين، ومن المسلمين إلى الناس، إذ جعله الله عز وجل آيات من القرآن يتلوها المسلمون على نحو الوجوب والندب , فتكون تلاوتهم من البيان والإحتجاج.
وهل التلاوة من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، الجواب نعم، وهي أصل في هذا الجدال وكل آية من القرآن حجة بيد المسلمين وبيان لأمور الدين والدنيا وهو من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة).
إن ذم فريق من أهل الكتاب بسبب إضافتهم للكتاب ما ليس منه، وتحريفهم للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطاب لأهل الكتاب جميعاً بلزوم الإحتراز من نصرة الظالمين وأهل الفرية والكذب على الأنبياء والمرسلين.
ويحتاج المسلمون قطع النصرة والتأييد عن أهل الإفتراء، خصوصاً وأن أهل الكتاب ليسوا من ملة واحدة، فمنهم اليهود ومنهم النصارى.
فذكرت آية السياق قيام فريق من مجموع أهل الكتاب بالإفتراء من غير تعيين ملتهم مما يفيد التحذير من ذات القول والإفتراء وفيه أمور:
الأول: إنه باب للتوبة والإنابة.
الثاني: فيه مناسبة لتبرأ كل من اليهود والنصارى من الكذب على الله.
الثالث: دعوة أهل الكتاب لذكر ما نزل في التوراة والإنجيل من غير تغيير أو تبديل.
الرابع: الحث على إعلان بشارات التوراة والإنجيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان المواثيق والعهود التي أخذت عليهم للإيمان بنبوته ونصرته.
وهل يستلزم إنتزاع هذا الإعلان والبيان منهم جدالهم والإحتجاج عليهم، الجواب نعم لذا جعل الله عز وجل المسلمين آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، فهذا البيان من المعروف، والكذب على الله وكتمان تلك البشارات من المنكر.
وكما جاء المدد الملكوتي لنصرة النبي والمؤمنين يوم بدر وأحد وحنين من السماء بآية لم تشهد مثلها الأرض، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
فكذا جاءت نصرة المسلمين في جدالهم بآيات نازلة من السماء تفضح الكذب على الله وتشير إلى جهته على نحو الإجمال التفصيلي الذي يتبين بموضوعه وهو التحريف، فمن ينسب إلى الله ما لم ينزله على أنبيائه فانه من هذا الفريق الذي يتوجه له المسلمون بالإنذار والتبكيت والدعوة إلى التوبة، وهذا التوجه إحتراز ذاتي من الكذب على الله، والقائمين به، وتنبيه لأتباعهم والناس عموماً بلزوم الحذر منهم.
لقد جاءت آية السياق بما يفيد نفرة الناس جميعاً من التحريف، وبعث المسلمين على الجهاد لفضحه، فبعد ليّ الألسن ذكرت الآية أموراً:
الأول: ما ينسبه هذا الفريق للكتاب ليس منه بشئ، وهو ليس من التوراة والزبور والإنجيل، ولا من صحف إبراهيم والكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين، وجاء توثيق آيات القرآن، والشواهد والبشارات بنزولها في الكتب السابقة قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ).
الثاني: حث المسلمين على عدم الإلتفات إلى إدعائهم بأن الذي يكتبون من عندهم هو من الكتاب.
الثالث: شهادة الله بأن الذي يفترون ليس من الكتاب[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )،، وفيه دلالة بأن الله عز وجل يتعاهد الكتب المنزلة، وأن النسخ بنزول القرآن لا يعني ترك الناس يضيفون إليها من عندهم، وينسبون لها ما ليس منها فقوله تعالى[وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ] دليل أن الكتب المنزلة كلها محفوظة عند الله، وتأتي شاهداَ يوم القيامة على الذين نسبوا لها أموراً من عندهم، وموافقة لهواهم ولمنفعتهم الزائلة كما في قوله تعالى[اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
الرابع: يقرأ فريق من أهل الكتاب التحريف ويوحون للمسلمين أنه من التوراة والإنجيل، ويعلنون صراحة أنه من عند الله، والضمير (الهاء) في لتحسبوه يعود للذي يلوون به السنتهم، ويميلون به شفاهم في كناية عن التكلف في قراءته والإيهام بأنه ليس من كلام البشر، ولا ينطق إلا بعناية وتكلف، فجاءت الآية لتخبر عن إنتفاء الجهالة والغفلة عند المسلمين وأنهم يستطيعون الفصل والتمييز بين التنزيل والإفتراء.
الخامسة عشرة: مثلما إختار الله عز وجل المسلمين لمنزلة(خير أمة) وأخرجهم للناس، فانه سبحانه يفضح الكذب والإفتراء عليه، ويذكر الفريق الذي يفتري ليحذر الناس منهم , وفيه دليل على علم الله بما يفعل الناس قال تعالى[أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
ترى لماذا لم ينتقم الله عز وجل من الذين يكذبون عليه، خصوصاً وأن هذا الكذب معصية وكبيرة، والجواب من وجوه:
الأول: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وفيها يفتتن فريق من الناس، ويصيرون فتنة لغيرهم.
الثاني: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لجذب الناس إلى منازل التوبة والصلاح، ومنعهم من الإفتراء على الله.
الثالث: تفضل الله عز وجل بجعل المسلمين(خير أمة) وأخرجهم للناس لفضح التحريف والإفتراء، ومن مصاديق هذا الخروج الإخبار بصدق عن الله، والحرص على عدم وقوع الزيادة أو النقيصة في القرآن.
الرابع: جعل الله عز وجل الآخرة دار الجزاء لينال الذي يكذب على الله أشد العقاب بما قدمت يداه، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا إجتماع الضدين فيها، ولكن ليس إحتماعاً بالمعنى الإصطلاحي، بل هو إجتماع تناصر وتنافر وتداخل وتجاذب، وليس من ثبات في عدد وقوة أي طرف منها، فكل طرف منها في حركة وتغير وتبدل، وإتجاه هذا التغير ثابت فهو زيادة في عدد المؤمنين الذين لا يخبرون عن الله إلا الحق والصدق، ونقص مستمر في الذين يكذبون على الله.
وهل هو مثل تناوب الليل والنهار بلحاظ أن النهار دليل على الإيمان، الجواب لا، فكل من الليل والنهار آية ونعمة من عند الله، وهما مجتمعين ومتفرقين دعوة للإيمان، وتعضيد للمؤمنين وحرب على الكفر والكافرين، وتذكير بلزوم التوبة والهداية والصلاح.
فمن خصائص(خير أمة) أنها إتعظت من آية الليل والنهار وتعاقبهما، وإتخذتهما ظرفاً للعبادة والجهاد في سبيل الله، وفي نوح ورد قوله تعالى[قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا]( )، ونوح من الرسل الخمسة أولي العزم، وقد شكا إلى الله عز وجل جفاء قومه، وصدودهم عن دعوته إلى الإسلام وعبادة الله، ليكون من مصاديق بشارة الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أمته(خير أمة) ولم تصد عن الدعوة النهارية أو الليلية، بل تتخذ النهار ظرفاً للجهاد في سبيل الله، والليل مناسبة للتهجد وتلاوة آيات القرآن، قال تعالى[كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
صلة آية[مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ]( )بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية، وتتضمن الدفاع عن الأنبياء، وتنزيه مقاماتهم ووصف النبي بأنه فرد من الناس يفضل عليهم بأن أكرمه الله عز وجل بنزول الكتاب عليه وآتاه الحكم وأمره بالتبليغ والدعوة إلى عبادة الله.
وفي الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى(كنتم خير أمة) أمور:
الأول: بيان عظيم منزلة الأنبياء، ودعوة المسلمين لإكرامهم.
الثاني: تفقه المسلمين في أمور الدين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية.
الثالث: معرفة المائز الذي يتصف به الأنبياء على عموم البشر، وأن النبي ينال أسمى مراتب الكمال الإنساني، وينعم الله عز وجل عليه بالمعجزة الباهرة، والعلم الحضوري والكسبي، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الرابع: حث المسلمين على تعاهد ميراث النبوة، فمن أسرار الحياة الدنيا، وفضل الله فيها أن النعمة إذا أنزلها الله عز وجل فإنه أكرم من أن يرفعها، فلا بد أن مضامين الكتاب والنبوة موجودة تتلقاها(خير أمة) جيلاً بعد جيل، وتتجلى في آيات القرآن التي جعلها الله عز وجل[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثانية: من خصائص المسلمين التصديق بالأنبياء جميعاً، وجاءت آية السياق لجعل المسلمين يعرفون النعم التي ينفرد بها النبي من بين الناس ليكون من التصديق بهم الإقرار بمعجزاتهم , وفي هذا الإقرار وجوه:
الأول: أنه سلاح للذب والدفاع عن الأنبياء.
الثاني: إنه حجة على الذين كذّبوا الرسل وأنكروا نبواتهم وآذوهم باللسان والفعل, قال تعالى[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ]( ).
الثالث: بيان حقيقة وهي أن التكذيب بالأنبياء كفر وعناد وإستكبار مخالف لإدراك العقل.
الرابع: بعث الوهن في صفوف كفار قريش والذين يعادون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وتشابه سنخية الكفار، وعلة إمتناعهم عن التصديق بالنبوة وهي العناد والإستكبار على الحق مما يدل على خسارتهم في النشأتين.
الثالثة: لما أثنت آية البحث على المسلمين، وأخبرت أنهم(خير أمة) وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون على الإيمان بالله عز وجل أخبرت آية السياق بأن النبوة أسمى مراتب الإنسانية، لأن الله عز وجل رزق الأنبياء ما لم يرزق أحداً من الخلائق.
ولـمّا إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، أخبرهم الله بأنه يعلم من أحوال الإنسان وتعاهده للعبادة ما لا يعلمون ومنه أن الله عز وجل لن يترك الإنسان في الأرض من غير صلة وواسطة له مع السماء فيتفضل ببعث الأنبياء، ومعهم الكتاب والحكم.
وعندما أختتمت النبوة بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل الله عز وجل المسلمين (خير أمة) وتتصف بأمور:
الأول: تعاهد عبادة الله في الأرض.
الثاني: حفظ سنن الأنبياء.
الثالث: جذب الناس للإسلام والتصديق ببعثة الأنبياء.
الرابع: العمل بما آتاهم الله عز وجل.
الرابعة: لم يبلغ المسلمون مرتبة (خير أمة) إلا بفضل وعناية من الله عز وجل لهم في أجيالهم المتعاقبة، وتجلى هذا الفضل بنزول القرآن وسلامته من التحريف ليتلقى كل جيل وطبقة من المسلمين ذات المرتبة من التأديب وأسباب الهداية.
إن إخبار آية السياق بأن ما عند الأنبياء فضل من الله عز وجل مانع من الإفراط والتفريط، وهو برزخ دون الغلو بالأنبياء الذي وقع فيه بعض أهل الكتاب، قال تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ] ( )، وواقية من التعدي على مقام النبوة وحرز من إنكار المعجزات التي جاء الأنبياء بها.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأعظم مسؤولية إيمانية في الأرض وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتجلى موضوعيتها وعظمتها من جهة كونها منهاج الأنبياء ودعائم للدين، وموضوعاً متجدداً للصلاح والتنزه من السيئات، ولأن المسلمين يقومون بها من أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة من غير ملل أو كلل أو تفريط.
ومن منافع بيان منزلة الأنبياء توكيد البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس للإعراض عن ليّ الألسن وتحريف الكتب السابقة.
فإن قلت كيف يعرض الناس عنهم وهم أهل كتاب.
والجواب جاءت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهداً على صدق تلك البشارات وموافقتها لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نبي آخر الزمان.
ومن فضل الله عز وجل على الأنبياء والناس جميعاً أن المسلمين هم خلفاء الأرض الذين يحفظون ميراث الأنبياء والتنزيل، قال تعالى[ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( ).
والآية أعلاه خطاب للمسلمين، وإخبار بأن الله عز وجل أهلك القرون الأولى لجحودهم برسالات الأنبياء، ليرى الله أعمال المسلمين، والنظر بالنسبة للإنسان على قسمين:
الأولى: النظر بالآلة الباصرة، وتقليب الحدقة نحو المرئي طلباً لرؤيته.
الثانية: النظر بالقلب، وهو التفكر والتدبر.
والله عز وجل منزه عن هذين القسمين ولكن إستعمال النظر في صفاته من باب المجاز والمندوحة لأن الأشياء كلها حاضرة عند الله عز وجل، وهو سبحانه يعلم ما يفعل المسلمون قبل خلق آدم وفيه وجوه:
الأول: جعل الله عز وجل القرآن جامعاً للمعارف، فجاء بما يدل على ماهية عمل المسلمين والمسلمات إذ أسماهم(خير أمة) ثم تفضل وذكر صفاتهم وسنخية عملهم بأنهم يؤمنون بالله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
الثاني: ذكر القرآن أن بعض الأنبياء أخبر قومه بأن الله عز وجل جعلهم خلفاء في الأرض وبيّن نعم الله عز وجل عليهم وأنذرهم وإجتهد في نصحهم.
وفي التنزيل حكاية عن هود[وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ]( )، ولكنهم جحدوا بالنعم، وأقاموا على عبادة الأوثان، وإختاروا لها أسماء تفيد معنى الإلوهية فبعضها ينزل عليهم المطر، وبعضها يجلب لهم الرزق، وثالث يشفي المريض، ورابع يكون صاحباً لهم في السفر وقد ذمهم الله، وقبحّ فعلهم وقال سبحانه فيها[مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ] ( ).
أما المسلمون فأنهم لا يعبدون إلا الله وينادون في الأذان خمس مرات كل يوم لا إله إلا الله، وعلى نحو متكرر في كل مرة، ويتولى الأذان بعضهم وهم يستمعون ويدركون معه دخول وقت الصلاة الواجبة فتأتي الإقامة للصلاة من إمام الجماعة، ومن المنفرد في صلاته لينطق المسلم بالشهادة، ويؤكد كلمة التوحيد، ليجدد العهد بالعبودية لله عز وجل، وتعاهد النعم، والمحافظة على مضامين الخلافة وإلى يوم القيامة.
صلة[مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد أراد الله عز وجل للنبوة الحضور في حياة الناس اليومية، وفيه تذكير بنعمة الله عز وجل، ووجوب عبادته، وعظيم قدرته بلحاظ معجزات الأنبياء التي جاءت عوناً للناس في سبل الهداية والرشاد، وشاهداً على رحمة الله بالناس وتقريبهم لمنازل الإيمان، قال تعالى[أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ]( ).
وإنقطعت النبوة بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليس من نبي بعده وإلى يوم القيامة.
فهل الأمم السابقة لإنقطاعها أفضل من الأمم اللاحقة بوجود الأنبياء بين ظهرانيهم.
الجواب لا، فإن النعمة التي ينزلها الله تبقى في الأرض ببركاتها وأنوارها القدسية لينهل الناس منها، وتكون حجة على أجيالهم المتعاقبة ومنها نعمة النبوة فشاء الله عز وجل أن يجعل المسلمين ورثة الأنبياء لذا إستحقوا مرتبة(خير أمة) والله عز وجل إذا أعطى فإنه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم فليس من حصر لأجيال(خير أمة) وهم منتشرون في أصقاع وأقطار الأرض، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تمنعهم من حفظ ميراث النبوة، وإحياء سننها والعمل بمضامينها.
وهل تأتي قوة من السماء لمنعهم، الجواب لا، فإن أهل السماء أنصار النبوة، وهم الذين تولوا نقل الوحي وتبليغ الآيات للأنبياء، وكانوا الواسطة المباركة بين الله عز وجل وبين الأنبياء، وكل سكان السماوات يتصفون بالخشوع والخضوع المطلق لله عز وجل، قال تعالى[يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ولا ينحصر عمل الملائكة الذين يبعثهم الله في شؤون بني آدم بالوحي للأنبياء، فيشمل تولي نزول النعم من الله وأسباب الرزق والمطر ومواضع القطر والتقريب إلى الطاعة، والدفع عن المعصية، وأنواع المصائب والآفات والإفتتان، والإختبار، ليكون نزولهم تذكيراً بوجوب عبادة الله، ووسيلة للجوء الناس إليه والدعاء وسؤال الفضل منه سبحانه، كما يتولى الملائكة كتابة أعمال العبد بأمانة، قال تعالى[وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ]( ). وعدم وجود قوة تمنع المسلمين من حفظ وإحياء ميراث النبوة من عمومات إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، لأن الفساد لا يصل أبداً إلى محو آثار النبوة، ولا تطال يد التحريف الكتاب الجامع للأحكام وقصص الأنبياء وهو القرآن. وتحريف التنزيل من أهم مصاديق الفساد، فتفضل الله ونزّه الأرض منه بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، وأسرار إختيار المسلمين لمنزلة(خير أمة) وحضور مبادئ التنزيل وسنن النبوة في الأرض إلى يوم القيامة، لتشع بضيائها على القلوب المنكسرة، وتكون صراطاً مستقيماً يدعو الناس لإنتهاجه، والإقتداء بالذين شرّفهم الله عز وجل بالوحي وجعلهم أئمة الهدى، وأمناء التنزيل، وقادة الأمم، وأكثر الناس أذى في جنب الله، ليكونوا أسوة حسنة للمسلمين في الصبر، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي مثل ما أوذيت) ( ). الثانية: ذكرت آية السياق نعمة الله عز وجل على الأنبياء، وهذه النعمة متعددة من وجوه: الأول: نزول الوحي والكتاب من السماء بواسطة الملائكة، ولم يرزق الله أحداً من البشر مثلما رزق الأنبياء من عظيم المنزلة في النشأتين، ورؤيتهم الملك أو سماع كلامه، وجريان المعجزة على أيديهم وإختيار الله عز وجل لهم لحمل الأمانة العظمى في الأرض وهي الكتاب وتبليغه فلا تنحصر وظائف الوحي بتبليغه، ولا يخلو تلقي الوحي من الشدة والمسؤولية. روى الحرث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال صلى الله عليه وآله وسلم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول)( ). وفيه برهان للناس بصدق النبوة، وتأديب للنبي بعظمة وثقل الوحي وأمانته ولزوم تبليغه وإيصاله للناس بما لا يضيع معه، ولا يكون تلاوة فقط، بل لابد من العمل بمضامين الكتاب المنزل. وبين الوحي والكتاب عموم وخصوص مطلق، فالوحي أعم، ويأتي أحياناً إسماً للكتاب وللقرآن خاصة، قال تعالى[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]( )، وتدخل السنة النبوية في المعنى الأعم للوحي قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وفيه تشريف إضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن سنته من عند الله عز وجل مع توكيد علو مرتبة الكتاب على السنة.
وقدمت الآية الكريمة الكتاب على الحكم والنبوة، ويحتمل وجوهاً:
الأول: موضوعية الكتاب، وتقدمه رتبة في الأهمية والرتبة، وأثره في جذب الناس والتأثير فيهم وإصغائهم للنبي، وهم يصدقون بالنبي الذي ينزل عليه الكتاب على نحو الموجبة الكلية.
الثاني: الكتاب مقدمة لنيل الحكم وطريق لإعانة الناس للنبي في بلوغ كرسي الملك بلحاظ أنه يسعى إليه بالوحي والأمر من الله عز وجل.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل لا يبلغ النبي إلى منازل السلطنة والحكم إلا بعد إتيانه الكتاب ليعمل به، ويسوس الناس بمضامينه.
الرابع: الكتاب النازل من السماء واقية وحرز من الغرور وإدعاء الربوبية.
الخامس: لـمّا جعل الله عز وجل المسلمين(خير أمة) فإنه سبحانه بيّن لهم منزلة نزول الكتاب في عصمة الأنبياء من إدعاء الربوبية، وكذا فإنه يعصم المسلمين وأولي الأمر منهم خاصة، فمن فضل الله عز وجل في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقطاع إدعاء الربوبية في الأرض فلا يستطيع سلطان بعدها التجبر والطغيان كما قال فرعون[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ).
وفيه مسائل:
الأولى: إنه من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وأمته على الأمم الأخرى.
الثانية: فيه تثبيت لمعالم التوحيد في الأرض.
الثالثة: بعث الفزع في نفوس الكفار والوثنيين وخشيتهم على أنفسهم.
الرابعة: ظهور العيب والخلل في إعتقاد وملل الكفار قال تعالى[وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ]( )، وذكر عجز إلهة الكفار عن النفع والذكر بعث لهم وللناس جميعاً للتدبر في ماهية هذه الإلهة ، وضياع الجهد والعناء في عبادتها، وبيان الغفلة والجهالة في إختيارها، ويدل في مفهومه على أن الله عز وجل هو(النافع الضار).
الخامسة: تجلي الحاجة لعبادة الله، وإدراك أنها ضرورة وأمر لازم من قبل فريق من الناس إذ يبادر إلى دخول الإسلام أو إظهار الميل لمبادئه، وأحكام شريعته.
الثاني: نيل الأنبياء الحكم والسلطنة، وعلو الشأن، وقد يظن بعضهم أن معنى الحكم في الآية هو الحكمة والعلم، ولعله لأن أكثر الأنبياء ليسوا بملوك، وإكتفى الطبرسي في تفسير(الكتاب والحكم والنبوة) بقوله: أي العلم أو الرسالة إلى الخلق) ( ).
ولكن نص الآية يتضمن معنى أعم وأوسع، والمراد من الحكم الملك والإمارة والسلطنة، وفيه نكتة عقائدية في المقام وهي أن الملك وسيلة لإطلاق اليد والدعوة وأسباب العتو والغرور، وصيرورة بعض الناس طواغيت بسبب إستيلائهم على الحكم والسلطنة مثل فرعون، ونمرود فجاءت الآية لتنزيه مقام الأنبياء الذين تولوا الحكم والملك مثل داود وسليمان، قال تعالى[وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ]( ).
وفيه دلالة على الغيرية والتباين بين الملك والحكم إلا أنه لا يمنع من تداخلهما وتوظيف أحدهما في الآخر ليتصف النبي الحاكم بالحكمة وفعل الصواب، والعصمة من الزلل والخطأ النوعي الذي يضر الأمة في باب الحكم وفصل الخطاب.
ولم تذكر الآية الملك كما في الآية أعلاه.
والجواب بين الحكم والملك عموم وخصوص مطلق، إذ أن الحكم أعم في معناه ويشمل تدبير أمور الناس، والفتوى والعمل بمضامينها وتقيد الناس بأوامر الحاكم.
وقد يكون هناك ملك في البلاد، ولكن أهل المصر والبلدة منه يتبعون الحاكم، والنبي الذي بعثه الله من بينهم، ويقوم أتباعه وأنصاره بالعمل بأوامره وسنته من بعده، وليس فيها إلا طاعة الله.
الثالث: لقد أكرم الله عز وجل الناس جميعاً بإختيار عدد منهم للنبوة والرسالة، لتكون الأرض دار الحجة والآيات المبصرة الظاهرة، وعندما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض قال الله سبحانه[قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ]( )، جاءت النبوة لبيان عظيم منزلة آدم الذي سجدوا له فلم ينزل إلى الأرض إلا وقد نال مرتبة النبوة ليدعو لله عز وجل، ويعمر الأرض بعبادته(وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام في حديث: وبشر آدم بنوح وقال: ان الله باعث نبيا اسمه نوح فانه يدعو إلى الله ويكذبه قومه، فيهلكهم الله بالطوفان فكان بين آدم ونوح عشرة أباء كلهم أنبياء وأوصى آدم إلى هبة الله أن من أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه وليصدق به فانه ينجو من الغرق) ( ).
لقد سبق الأنبياء الناس بالإقرار بالله عز وجل وشهدوا لكل نبي بالنبوة، وصبروا على ضروب الأذى، وعلى تكذيب قومهم لهم.
وجاء البيان في آية السياق لحصانة(خير أمة) وحثها على الذب عن الأنبياء بما يؤدي إلى تنزيه الأرض من الكفر والضلالة، وجعل الله عز وجل(خير أمة) الواقية للناس جميعاً من عبادة البشر أمواتاً وأحياءً، من وجوه:
الأول: تبرئة الأنبياء من الدعوة لعبادتهم.
الثاني: فضح الطواغيت والجبابرة، وبيان سوء عاقبتهم.
الثالث: بيان وتلاوة الآيات التي تتضمن نزول العذاب الأليم بالكفار في الحياة الدنيا، وهلاكهم بآفة ســماوية أو أرضية، كما في قول نوح، وقوم لوط، وقوم صالح وثمود، ومن الإعجاز في المقام تكرار ما جاء على لسان الأنبياء بقوله تعالى[يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] ( )، الذي ورد في القرآن تسـع مرات) ( ).
وفي نزول العذاب في ثمود قوم صالح(روى جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك قام فخطب الناس و قال يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات فهؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم الناقة و كانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم ورودها و يحلبون من لبنها مثل الذي كانوا يشربون من مائها يوم غبها فعتوا عن أمر ربهم فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام و كان وعدا من الله غير مكذوب ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان في مشارق الأرض و مغاربها منهم إلا رجلا كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله تعالى يقال له أبو رغال قيل له يا رسول الله من أبو رغال قال أبو ثقيف)( ).
فالنبي يدعو إلى الله، ويخبر بأنه عبده ورسوله إلى الناس، ويأتي بالآيات البينات التي تثبت نبوته وما يدعو إليه، وما يحذر منه من الشرك الظاهر والخفي، لتكون الآية والمعجزة الجسية الظاهرة حجة وسبباً في تعجيل العذاب والخزي بالذين سألوها ولم يقروا بربوبية الله عند مجيء الآية والمعجزة.
ومن عظيم قدرة الله، وسعة رحمته، عندما ينزل العذاب بالكفار نجاة النبي ومن معه من المؤمنين، مما يدل على تنزههم عن الشرك والضلالة قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا] ( )، وفيه تزكية لنبي الله صالح عليه السلام من جهتين:
الأولى: سلامة ونجاة نبي الله صالح شاهد على عدم دعوتهم إلا لعبادة الله.
الثانية: وجـــود أنصــار وأتباع مؤمنــين بالله لصـالح عليه السلام أنجـاهم الله معه، ليتعاهـدوا عبادة الله في الأرض وكل من نــزول العذاب بالكفــار، ونجــاة النبي وأتباعه المؤمنين من عمومــات رد الله عـز وجل على الملائكة حينما إحتجوا ورد الله تعالى عليهم[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الرابع: خروج المسلمين للناس بالدعوة إلى الإيمان، وزجرهم عن الكفر والضلال، فمن يفتتن الناس بسلطانه يتوجه المسلمون له بالدعوة إلى الإسلام، والسجود خشوعاً وخضوعاً لله عز وجل.
الخامس: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبما يثبت معالم الإيمان في الأرض، ويمنع من الطغيان والإستكبار، ونصرة الظالمين وجعلهم أرباباً.
ومن خصائص الإسلام دخول المستضعفين فيه، وهذا الدخول برزخ دون وجود جيوش من الأتباع عند الظالم مما يمنعه من إدعاء الربوبية.
ومن يدخل الإسلام يكون أسوة وموعظة لغيره من الناس، إذ يرونه يتلو آيات القرآن ولا يسجد إلا الله عز وجل.
السادس: إقرار المسلمين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله إختاره الله عز وجل للنبوة، قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ( )، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الأنبياء، مما يدل بالأولوية القطعية على أن كل نبي من الأنبياء هو عبد لله عز وجل.
الثانية: أثنت آية البحث على المسلمين بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) ومن أهم معاني الإيمان بالله نفي الأنداد عنه، فلا يسمى العبد مؤمناً إلا بالإقرار بأنه ليس من إله غير الله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ]( )، أي آمنوا بالله عز وجل إلهاً ورباً، وآمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه عبده ورسوله.
وفي إيمان المسلمين شاهد على إيمان الأنبياء بالله عز وجل لعلو مرتبة الأنبياء، ولأن المسلمين حفظة لسنتهم، وورثة لهم في تقوى الله، وتأتي آية السياق لأمور:
الأول: بيان وظيفة من وظائف المؤمنين، وهي الإقرار بعصمة الأنبياء من الشرك والضلالة.
الثاني: الشهادة بقيام الأنبياء بالبشارة لأهل الإيمان، والإنذار للكفار قال تعالى[رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ]( ).
ومع أن الأنبياء وأتباعهم وأنصارهم سبقوا المسلمين في الإيمان فإن الله عز وجل وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) وفيه وجوه:
الأول: المسلمون أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الخصوصية هي التي تؤهلهم لنيل مرتبة خير أمة، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الأمة التي تتبع سيد الأنبياء هي خير أمة.
الصغرى: المسلمون أتباع سيد الأنبياء.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الثاني: طول مدة بقاء وتعاقب أجيال المسلمين، فليس من أمة من أتباع الأنبياء، طال زمانها مثل المسلمين بلحاظ النسخ في الشرائع.
الثالث: كثرة عدد المسلمين وتعدد أمصارهم.
الرابع: جهاد المسلمين في سبيل الله، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكرت آية السياق.
الخامس: صدق إيمان المسلمين، وثباتهم على الإيمان، فهم ورثة الأنبياء في الإيمان.
السادس: أداء المسلمين للفرائض العبادية وتعاهدهم لها بالكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: حرص المسلمين على حفظ القرآن من التحريف، وإنفراده من بين الكتب السماوية بعدم وصول يد التغيير والتبديل إليه، ومصاديق هذا الحرص من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثامن: إختيار المسلمين لمنزلة(خير أمة) فضل من الله، ورحمة بهم خاصة، وبالناس جميعاً.
التاسع: دفاع المسلمين عن الأنبياء، وتنزيه مقاماتهم عن الضلالة والمعصية.
العاشر: حفظ المسلمين لقصص الأنبياء، وإتخاذها موعظة ومدرسة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالثة: لم تقل آية السياق(ما كان لنبي) بل ذكرت النبي بصفة الإنسانية وأنه بشر مثل باقي الناس قبل أن يكون نبياً لكن هذا لا يمنع من أهليته وحيازته لمقدمات النبوة قبل مجيئها، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى في قريش(الصادق الأمين)، وفيه تذكير للناس للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حالما يأتي برسالته، وحث لهم على التدبر في معجزته والآية البينة التي رزقه الله عز وجل.
ولم تقل الآية(ما كان لابن آدم) لأن هذا القول يخرج آدم مع أن آدم عليه السلام نبي، (أخرج الطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم، كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً) ( ).
فمن خصائص(خير أمة) الإقرار بأن آدم أبو البشر نبي آتاه الكتاب، وهل آتاه الحكم، وعلى القول بالإيجاب لماذا لم يقتص من إبنه قابيل حينما قتل أخاه، قال تعالى[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( )، والجواب من وجوه:
الأول: لا دليل على نزول حكم القصاص أيام آدم عليه السلام وهذا الحكم من خصائص(خير أمة) ودولتها في الأرض، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الثاني: يستلزم حكم القصاص ثني الوسادة ووجود أعوان لإمضاء وتنفيذ الحكم.
الثالث: يشترط في القصاص نية العمد في القتل، وإلا فالحكم هو الدية.
الرابع: لولي الدم أن يعفو عن القاتل، وولي الدم هو آدم عليه السلام، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( )، وآدم عليه السلام نبي وعاش في الجنة مع الملائكة، ونال أسمى مراتب التقوى، فحينما لم يتم القصاص فإنه يدل على العفو من قبل آدم وحواء.
الخامس: كان آدم يطلب الولد لكثرة النسل وعمارة الأرض بذكر الله عز وجل، فالقصاص يفقد إبناً آخر له، ومن خصائص النبوة الحكمة، وإعتبار المصلحة والنفع العام الحاضر والمستقبل.
السادس: قاعدة تقديم الأهم على المهم، وإرادة عمارة الأرض بكثرة النسل.
إن ذكر الآية للنبي بصفة البشر تأديب للمسلمين، ومنع من الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إقرارهم برسالته ووجوب إتباعه ونصرته، وفيه ثناء على المسلمين لتسليمهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت الذي كذّبت أكثر الأمم أنبياءها لأنهم من نسخ البشر، وفي التنزيل[قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا]( ).
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة أهل الكتاب إلى الإقرار بأمور:
الأول: الأنبياء بشر أنعم الله عز وجل عليهم من بين الناس بالكتاب والنبوة.
الثاني: ليس من فرق بين موسى وعيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أصل الإنسانية ودرجة النبوة والرسالة، وأن كلاً منهم بشر نبي، وفيه مقدمة للتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن غير إصرار على البقاء على الشريعة السابقة , وما ناله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المرتبة الرفيعة دعوة للناس لإتباعه ونصرته.
الثالث: لزوم إجتناب الغلو بالأنبياء، وعدم إدعاء النبوة لبعضهم، قال تعالى[لاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا] ( )، وهذه الدعوة من عمومات قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
الخامسة: لقد بعث الله الأنبياء وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة للحرب على الفسوق والفجور، ومنع الفساد في الأرض، وهو من رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا، وتقريبهم إلى منازل الإستقامة والصلاح.
ومن عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، إن الله عز وجل يجعل فيها(خير أمة) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو لسنن الأنبياء، والصدور عن الكتاب السماوي الجامع للأحكام الشرعية وهو القرآن.
صلة(ثم يقول للناس) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاء القرآن بقصص الأنبياء بأبهى حلة، وبما فيه تثبيت الإيمان في الصدور، وإقتباس المسلمين المواعظ والعبر، وإتخاذهم سنن الأنبياء سبيل هدى وأسوة وقدوة، لذا تفضل الله وأخبر عن جهادهم في سبيله، ونزول القتل بفريق منهم بما هم أنبياء، أي أن القتل لم يكن لأسباب شخصية، ولم يقع في معارك عامة بين الجيوش ونحوها على مصالح ومنافع دنيوية ومجيء سهم غارب للنبي، بل كان بسبب دعوة النبي لعبادة الله عز وجل، وجهاده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى في ذم الكفار[كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ]( ).
ولم يكتف الكفار بقتل الأنبياء، فقاموا بالإفتراء عليهم بعد مماتهم، ونسبوا لبعضهم الغلو بأنفسهم، فأنزل الله القرآن رحمة بالناس جميعاً للحيطة والوقاية من الكفار، وبيان لزوم عدم الإصغاء لهم، وجاء التحذير في المقام بالذب والدفاع عن الأنبياء، وبيان أنهم سادة البشر، وأن الله عز وجل هو الحكيم قال تعالى[اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] ( ).
ولم يعلم الكفار أن الله عز وجل سيغلق باب التعدي على الأنبياء وتكذيبهم وقتلهم، بأمور:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعصمته وسلامته من الناس.
الثاني: إنزال القرآن عليه آية عظمى تمنع من تحريفها وتكذيبها.
الثالث: جعل أمة محمد (خير أمة) في كل زمان من أزمنة الحياة الدنيا في أفرادها الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، وهو من معاني مجيء آية البحث بصيغة الفعل الماضي(كنتم خير أمة).
وفي هذه الصيغة إنذار للكفار في الحياة الدنيا وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تكذيبكم وقتلكم للأنبياء سيفضحه الله عز وجل على يد(خير أمة) لتكونوا محل سخط وغضب الأجيال اللاحقة من المسلمين وغيرهم لظلمكم وتعديكم بغير الحق وهو من عمومات قوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
فيغادر الأنبياء والذين آذوهم الدنيا، لتبقى(خير أمة) تنصر الأنبياء وتفضح الكفار، وتدعو الناس إلى الإتعاظ والإعتبار، وهو من الشواهد على أن الله عز وجل يجعل وراثة الأرض لأهل الإيمان، وأن الإسلام يغزو القلوب، ويجعلها حدائق ناضرة تشع منها أنوار الهداية.
الثانية: تقسم آية السياق الناس إلى قسمين:
الأول: الأنبياء، وهم الذين يقومون بتبليغ آيات الله، وحمل لواء البشارة والإنذار.
الثاني: الناس، مطلقاً من غير تقييد لهم في ملة أو مصر أو قبيلة أو سبط.
وفي هذا التقسيم رحمة بالناس بلحاظ أن الأنبياء أئمة يقودون الناس في سبيل السلام، ومسالك التفقه والسمو والرفعة في الدين والدنيا.
ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: شهادة الله عز وجل للأنبياء بأنهم يدعون لعبادته، ولم يتخذوا المعجزات والدلالات الباهرات في الدعوة لأنفسهم، قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
الثاني: في تنزيه الأنبياء من الدعوة لأنفسهم مسائل:
الأولى: بشارة الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه ونصرته، فهذه البشارة من الشواهد على أن الأنبياء لا يدّعون الربوبية لأنفسهم، بل يبشرون بخاتم النبيين وسيد المرسلين، ويدعون الناس لإتباعه في مرضاة الله.
الثانية: حاجة الناس إلى تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء قي نبوتهم، وجهادهم في سبيل الله، وجاءت آيات القرآن بالثناء على الأنبياء قال تعالى[وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا] ( )، وتضمنت السنة النبوية شواهد كثيرة عن إخلاص الأنبياء في دعوتهم إلى الله عز وجل.
الثالثة: التخفيف عن(خير أمة) في الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، ومواجهة أهل الشك والريب، وإبطال مغالطاتهم، فليس لهم أن يفتروا على الأنبياء، إذ تدعو هاتان الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين المسلمين لتبرئة الأنبياء، من الدعوة لغير الله، بلحاظ قانون كلي وهو أن(خير أمة) هي التي تعمل بمضامين آية السياق.
الرابعة: تنمية ملكة حب الأنبياء في قلوب المسلمين والمسلمات، وبعث الشوق للإقتداء بسنتهم، وإستحضار جهادهم في سبيل الله، وذكر قصصهم في المنتديات، وجعلها شواهد ومناسبة للإعتبار والإتعاظ، كما في قصة يوسف عليه السلام، وعصمته وطهارته من الدنس، وما لاقاه من الكيد، كما ورد في التنزيل حكاية عن العزيز في توبيخ إمرأته على فريتها على يوسف وشقها لقميصه من الخلف[إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ]( ).
إن إظهار المسلمين لمعاني حب وإكرام الأنبياء تجديد للولاء لهم والتصديق بهم، ودرس بليغ للناس وزجر عن التعدي والإفتراء عليهم، أو الغلو فيهم، ليكون هذا الزجر مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: قيام كل نبي بالدعوة إلى عبادة الله، وبذله الوسع في هداية الناس للإسلام، والتفقه في أمور الدين.
قانون(إنصات الناس للنبي)
جاء كل نبي بمعجزة من عند الله تشهد بنبوته، ومن خصائص تلك المعجزة مناسبتها للمال والزمان، وما يهتم الناس بشأنه ليكون أبلغ في الحجة، والبرهان، وهذه المناسبة شاهد آخر على صدق المعجزة.
فجاء موسى عليه السلام بالعصا لتلقف عصي السحرة إذ كان السحر له شأن أيام فرعون، قال تعالى[فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ] ( )، وتكون ذات المعجزة التوليدية، لها وظائف متعددة في الماهية، ومتجددة في أفرادها، كما في منافع عصا موسى وناقة صالح وغيرها، فمناسبة المعجزة لما يهتم الناس به في زمانها لا يمنع من تجلي آيات إضافية أخرى في معجزة النبي لتكون على وجوه:
الأول: إنها شاهد إضافي في أفراد الزمان الطولية على صدق نبوته.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن النبي لا يدعو إلا لعبادة الله، قال تعالى[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً] ( )، لتكون النبوة رحمة بالناس جميعاً.
الثالث: جهاد الأنبياء في محاربة الكفر والضلالة، وحثهم الناس على نبذ الند والشريك.
الرابع: بيان سعة رحمة الله عز وجل، وفضله على الأنبياء في تعدد المعجزة، فإذا إنشغل الكفار بالجدال وإثارة أسباب الريب في معجزة النبي المتحدة، جاءت معجزات أخرى لتسقط ما في أيديهم، وتجعل الناس ينجذبون إلى منازل الهداية والإيمان، ويصغون للنبي فيما يأمر به وما ينهى عنه.
فمن خصائص المعجزة أنها مقدمة وسبيل لجعل الناس يطيعون النبي، ويسمعون منه، ولا ينفردون منه رغم شدة وغلظة رؤساء الكفر عليه إذ تقابل معجزة النبي السلطان والجاه والمال الذي عند رؤوس الكفر وأقطاب الضلالة، فتتغلب المعجزة عليهم وعلى ما عندهم، قال تعالى[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فإن قلت من الأنبياء من قُتل وبقى الطواغيت والكفار في منازل الرياسة، والجواب قتل الأنبياء لم يحجب دعوتهم , كما لأن الله يتفضل بتعاقب بعث الأنبياء , والتعدي على الأنبياء بداية لظهور أسباب الضعف في دولة الكفار، وأمارات زوالها القاهرة.
إن معجزات النبي باقية بين الناس، وتلح عليهم بالأخذ بأقواله وأوامره ونواهيه، إلى جانب وجود أتبــاع له يحثون الناس على اللــحاق بهم في طاعة الله، وهو من الشــواهد الباقية بعد مغادرة النبي إلى الرفيق الأعلى والتي تؤكد أنه يدعو إلى عبادة الله، ولا يدعو إلى نفسه.
إن الله عز وجل هو الحكيم يتم فعله بما فيه النفع الأعظم، وقد جعل النبوة رحمة للناس جميعاً في الحياة الدنيا، ينهلون منها السنن الحميدة ومعاني الحكمة، ويتدبرون في معجزاتها، وتنفذ بشاراتها وإنذاراتها إلى شغاف قلوبهم، فيتناجون بمقدمات الإيمان فيرى الكفار ولاء أصحاب النبي له بعد وفاته، وتناقل الناس لأخبار معجزاته مقروناً بتصديقها، وإنكارهم للأذى الذي لاقاه بغير حق، فينتقم الظالم من المؤمنين من أتباع النبي الذين يشيعون معجزاته ويقتفون أثره بالدعوة إلى الله، قال تعالى[وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ] ( )،ولا يكتفي الكفار بهذا بل يأتون على أصل دعوة النبي فيحرفونها ويفترون عليه، وينسبون له الدعوة لنفسه.
وربما إتفق وجود من يغالي بالنبي، أو أن هذا الإفتراء سبب لحصول الغلو من بعضهم، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس، ووسيلة سماوية لهدايتهم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل في بعثته صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن مناسبة لتجديد الإصغاء للأنبياء السابقين أم أن القدر المتيقن هو وجوب إصغاء الناس له لعمومات نسخ شريعته لغيرها، ولأنه نبي آخر الزمان.
الجواب هو الأول وبما فيه التصديق بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم الإيمان به ونصرته، فجاءت قصص الأنبياء في القرآن لتحكي جهادهم.
وتضمنت آية السياق تنزيه الأنبياء على نحو العموم المجموعي، والعموم البدلي ليكون هذا التنزيه أمانة في أعناق المسلمين، وجزءً من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وليكون إصغاء الناس للنبي على وجوه:
الأول: الإستمرار والتجدد إلى يوم القيامة , قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الثاني: إنه جزء من الواقع اليومي للناس.
الثالث: هو غذاء روحي لأهل الإيمان.
الرابع: إنه سلاح وحرز من أسباب الشك والريب، وهو من الشواهد على أمور:
الأول: العناية الإلهية ببقاء القرآن سالماً من التحريف إلى يوم القيامة.
الثاني: إستحقاق دولة الكفار للمحق والزوال، وفي قوم نمرود لما أرادوا إحراق إبراهيم في النار أنجاه الله، وأخزاهم، قال تعالى[فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ] ( ).
الرابع: عجز الكفار عن الإستمرار بالإفتراء على الأنبياء، فتنقضي أيام النبي ويموت أهل زمانه، ولكن معجزته الحسية خالدة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وغضة طرية بالقرآن كمعجزة عقلية، وتلاوة(خير أمة) لآياته كل يوم، وقيامهم بتفسيره وتأويله.
ومن الآيات توثيق القرآن لبشارات وإنذارات الأنبياء لقومهم لينتفع منها المسلمون وتكون حجة في أيديهم، ويشكرون للأنبياء جهادهم وتبليغهم، ويدركون فضل الله عز وجل عليهم بتلقي البشارات والإنذارات بالقبول.
إن إصغاء الناس للنبي الذي بعثه الله معجزة للأنبياء عامة، وأمارة على صدقهم وشاهد على أن قلوب العباد بيد الله، وفي الحديث: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها) ( )، وهو من عمومات نفخ الروح في آدم والصلة بين الله عز وجل وروح العبد، وأسباب اللطف لتقريب الناس لمنازل الطاعة.
إن إنشغال الكفار بمحاربة النبي سبب لجعل الناس يلتفتون إلى مقام النبوة، ويتدبرون بأسرار فزع الظالمين منه، ومن الشواهد الحاضرة زحف قريش بجيوش عظيمة على المدينة المنورة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإجهاز على دولة الإسلام في أيامها الأولى، لإدراكهم بأن الناس يصغون لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويستجيبون له، ويجاهدون تحت لوائه، لتكون هزيمة الكفار في بدر وأحد والخندق خزياً للكفار من الأمم السابقة، وفضحاً لإفترائهم على الأنبياء، وهو من مصاديق نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) وحربهم على الكفار في الأزمنة السابقة واللاحقة، وشاهد على دفاعه وأمته عن الأنبياء، وإثبات نزاهتهم وعصمتهم من الدعوة لغير الله.
وتبين آية السياق حقيقة وهي أن الأنبياء كانوا على صلات وإختلاط مع الناس غير منعزلين عنهم إلا أن يصر قومهم على عبادة الأوثان.
وقد يطلب النبي من الكفار إعتزاله، كما في خطاب موسى عليه السلام لفرعون وملئه كما ورد في التنزيل[وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ] ( )، ولم يعتزلهم هو، بل جعلهم مخيرين في الإعتزال لأنه سبب لنزول عذاب الإستئصال بهم، فإذا إختاروه كان حجة إضافية عليهم، وإن إختاروا إستمرار الإصغاء له ففيه أمور:
الأول: الإصغاء مناسبة للإمهال قال تعالى[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ]( ).
الثاني: إنه سبب ومقدمة للتوبة وإنابة بعضهم.
الثالث: إنه مصداق لكون بعثة كل نبي رحمة على قومه والناس.
الرابع: إنه سبيل هداية ووسيلة مباركة للإصغاء لدعوة الحق.
ولقد جاء الأنبياء بأحكام الحلال والحرام التي تستلزم عمل الناس بها بعد تعلمها والتفقه فيها، مما يستدعي لقاء النبي بالناس وحضور منتدياتهم وكذا حثت آية السياق في مفهومها على التعلم والدراسة والتحصيل في علوم الدين والشريعة.
صلة[وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد جعل الله الحياة الدنيا(دار التعلم) وفيها يكتسب الناس المعارف ويتعلمون الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة، لتكون مقدمة لأداء العبادات، وثمرة لها، ووسيلة عامة لحفظها وتعاهدها، فمن أسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، إن الإنسان في تعلم متصل، وفي كل يوم يظن أنه في حال من المعرفة أفضل من أمس، ويندم على صدور بعض الأفعال منه، ويدرك أن الأمر لو تجدد لكان فعله وقوله مختلف وبما فيه النفع الأكثر، لتكون الحياة مرآة لمنازل الناس في الآخرة، وليعلموا أن العبادات وأداء الفرائض تؤدي إلى الرفعة والإرتقاء في النشأتين، وفيه توكيد لماهية بعثة الأنبياء وأنها خير محض وأمن من الآفات والأضرار التي يجلبها الإنسان على نفسه ومن حوله.
لقد أراد الله عز وجل للدنيا أن تكون دار سعادة وغبطة للناس بالتفاني في حبه وطاعته، وطهارة ذاتية من الذنوب والمعاصي، فإستجاب فريق من الناس للأنبياء ليكون من مصاديق إصطفائهم للنبوة، وصيرورتهم وسائط دائمة لنزول الرحمة الإلهية على الناس، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على خلافة الإنسان في الأرض وقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علمه تعالى في المقام أمور:
الأول: توالي نزول شآبيب الرحمة بالأنبياء.
الثاني: وراثة المسلمين للأنبياء في الدعوة إلى الله.
الثالث: تحلي مجتمعات المسلمين بالفضائل والأخلاق الحميدة.
الرابع: حرص المسلمين على بيان حبهم لله، وإخلاصهم العبودية له، وتعلق قلوبهم بحضرة القدس.
وفاز المسلمون بالنصيب الأوفى من التعلم وإكتساب المعارف في الحياة الدنيا فنالوا مرتبة(خير أمة) ليخرجوا إلى الناس بهذا العلم ويكونوا ورثة الأنبياء في التبليغ، والبشارة والإنذار بالإضافة إلى مسألة الذب عن الأنبياء والدفاع عنهم، والتوكيد العملي لبشارتهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد بشّر الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوا إلى نصرته، فكان المسلمون هم الأمة التي عملت بمضامين بشارة الأنبياء، وشكرت لهم حسن جهادهم وبشارتهم بنبوته بأن دفعت الإفتراء عنهم، ويأتي هذا الدفع بالعلم والدراسة ليكون أبلغ في الأثر، وسبباً لجذب الناس إلى الإسلام بالحجة والموعظة، وبعثهم على التنزه عن الإفتراء على الأنبياء.
الثانية: تبين آية السياق المنزلة الرفيعة التي عليها الأنبياء، وإحرازهم ملكة الإحتجاج بالبينة والبرهان، فهم كانوا يدعون الناس للإيمان، وبلوغ مراتب الفقاهة في الدين بما رزقهم الله من التنزيل ودراستهم له، فكل نبي يذّكر الناس بما إكتسبوه من المعارف من بعثة الأنبياء السابقين وما تعلموه منهم من العبادات والمناسك، وتدارسوه من أمور الحلال والحرام، ومصاديقها في الواقع اليومي وأسباب المعيشة والكسب، وفيه منافع من وجوه:
الأول: إنه برزخ دون الغلو في شخص النبي، ومانع من نسبته إلى الربوبية أو عبادته وإتخاذه إلهاً.
الثاني: توكيد صدق النبي وأنه مبعوث من عند الله عز وجل، لأن دعوته إمتداد لدعوة الأنبياء السابقين، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ]( ).
الثالث: بعث الناس على العناية بميراث الأنبياء، وحفظ ما جاءوا به من عند الله، ومنه البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم نصرته.
الرابع: إنه من اللطف الإلهي بالنبي والناس وجعلهم يتبعونه، ويجتنبون الجدال والمغالطة.
الخامس: إدراك الناس لحقيقة النسخ بين الشرائع، وهو مقدمة لتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم الإصغاء إلى ما يقوله أهل الشك والريب، وإصرارهم على البقاء على الشريعة المنسوخة، نعم ليس كل الأنبياء عنده شريعة، وفيه تثبيت للنسخ بالواسطة لأن النبي اللاحق للرسول يؤكد شريعته ويدعو الناس للعمل بمضامينها، ويبشر بالرسول اللاحق، ويحث الناس على التصديق به.
وفيه تخفيف عن الناس من وجوه:
الأول: تهيئة أذهان الناس لقبول النسخ والرضا به، قال تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( ).
الثاني: عدم النفرة من فعل الناسخ وطرح المنسوخ في العبادات والأحكام.
الثالث: الإمتناع عن الإصغاء للرؤساء الذين ينتفعون من البقاء على المنسوخ والشريعة السابقة.
الرابع: إدراك حقيقة وهي عدم تعارض النسخ مع وحدة سنخية النبوة.
الثالثة: لما بينت آية البحث أن المسلمين هم (خير أمة) فلابد أنهم ربانيون وأنهم يعلمون أحكام الحلال والحرام، ويقودون الناس في منازل الطاعة لله عز وجل.
ولقد قال الأنبياء لأممهم(كونوا ربانيين) ثم بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون المسلمون هم المصداق العملي لما أراد الأنبياء، وما دعوا إليه من طاعة الله والتحلي بالعلم ورداء الحكمة، وهو من معاني بشارة الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته أي أن الأنبياء لم يقوموا بأداء البشارة مجردة، بل تتضمن تصديقهم ونصرهم ووجود الأمة التي تمتثل لقولهم وما دعوا إليه، وتتصف هذه الأمة بأمور:
الأول: الإيمان بالله عز وجل، والأنبياء والملائكة والكتاب واليوم الآخر، قال تعالى في خطاب لخير أمة[وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثاني: إقتباس مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القرآن وآياته.
الثالث: تلاوة المسلمين لآيات الكتاب، وينفرد المسلمون بالتلاوة الواجبة لآيات القرآن، وهو من مصاديق(خير أمة) من جهات:
الأولى: مجيء التلاوة طاعة لله عز وجل، ومن الإعجاز في أحكام الصلاة الأمر إلى المسلمين بالإصغاء إلى قراءة الإمام والذي يؤدي الصلاة، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الثانية: تلاوة آيات القرآن فقاهة، ومقدمة للتفقه في أمور الدين والدنيا.
الثالثـة: تجـعـل التـلاوة المســلمين ربانيين منقادين لأوامر الله عز وجل.
الرابعة: التلاوة تعليم متصل، وسبيل هداية ورشاد.
الخامسة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين دراسة التنزيل، ومعرفة التأويل، وذات التلاوة تدبر في آيات القرآن.
الرابعة: لقد أراد الأنبياء من الناس أن يكونوا ربانيين، ويتعلموا التنزيل، ويدرسوا أحكام التشريع ليقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح النفوس، ونزع الكدورات ومنع ما إحتج الملائكة على وجوده في الأرض من القبائح كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فالغايات الحميدة لبعثة الأنبياء وما يجاهدون من أجله بين الناس من علم الله وما ردّ به سبحانه إحتجاج الملائكة وقبولهم لهذا الرد، ورضاهم به، ليأتي المصداق العملي الأبهى لهذا الرضا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن قلت إن الأنبياء لم يحققوا تلك الغايات، وبقي إحتجاج الملائكة على حاله، والجواب لا، فإن بعثة الأنبياء ذاتها حرب على الفساد.
وفي بعثة كل نبي هناك جماعة وأمة تهتدي إلى الحق، وتصبح عدوة للفساد، إلى أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل الله عز وجل المسلمين خير الأمم، وأكثرها نماء وزيادة وبركة، لتقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: أخبرت آية البحث عن خروج المسلمين للناس، بلحاظ آية السياق يتجلى هذا الخروج بتذكير الناس ببعثة الأنبياء وما قاموا به من الدعوة إلى الله عز وجل، وبذلهم الوسع لتفقه الناس في أمور الدين والدنيا، والتفاني في مرضاة الله والسياحة في الآيات الكونية، وعشق العبادة، وحب النبوة والشوق إلى التنزيل، الغرق في كنه البشارات التي تفضل الله عز وجل بها على لسان الأنبياء ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثبات الإيمان والعدل به إلى يوم القيامة.
وخرج المسلمون للناس بالحث على تعليم الكتاب ويأتي هذا الحث رشحة من رشحات مواظبتهم على تعلم آيات القرآن، وقد ذم الله عز وجل فريقاً من المليين بقوله تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] ( )، لتخرج للناس أمة تفعل البر، وتأتي الصالحات قبل وأثناء أمرها الدائم المتجدد بها، فليس من إنفكاك بين أمور ثلاثة:
الأول: عمل المسلمين بالكتاب، وتقيدهم بأحكامه وسننه.
الثاني: تعلم المسلمين لآيات القرآن ومضامينها القدسية.
الثالث: دعوة أهل الكتاب والناس عموماً لتعلم الكتاب، ومعرفة إعجازه الذاتي والغيري، وزجرهم عن الحكم على القرآن من غير الإنصات له ومعرفة أحكامه، وما يلحق بالناس من الأضرار بسبب تركه والإعراض عنه.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين إرشاد المسلمين إلى طرق الإحتجاج، وإثبات سلامة منهج الأنبياء في إظهار أسمى معاني العبودية لله والغرق في سبحات جلال قدسه، والفناء في طاعته، ورجاء مرضاته وتوكيد قيامهم بتعليم الناس للكتاب وآيات التنزيل، إذ ذكرت الآية اللازم ويفيد الدلالة على الملزوم .
فالأنبياء هم الذين علّموا الناس الكتاب، وجعلوهم قادرين على تعليمه وتوارثه وفيه نوع برهان على أن الأنبياء يحثون على تعلم الكتاب السماوي النازل وفيه توكيد العبودية المطلقة لله عز وجل قال تعالى[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ]( )، وفيه شاهد بأن المعجزات غير الكتاب وأنها مقدمة لتعلمه، وتعلمه مناسبة للتدبر في المعجزات الباهرات التي جاء بها الأنبياء، وللتسليم بأنهم رسل من عند الله، لما يدركه الناس جميعاً من القدرة المحدودة للإنسان، وأنه لا يستطيع الإتيان بالمعجزة إلا أن يجريها الله عز وجل على يديه، لذا عرّفت آية السياق النبي بأنه بشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة، ويحتمل الحكم في الآية وجوهاً:
الأول: إرادة السلطان وتيسير شؤون الرعية وأمور القتال، كما في نبيي الله داود وسليمان، فكل منهما تولى الحكم في بني إسرائيل قال تعالى[وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ]( ).
الثاني: بيان أحكام الحلال والحرام، ووجود الأنصار والأتباع، وصدورهم عنه في الدعوة إلى الله، ومحاربة الظالمين.
الثالث: الشأن الرفيع للنبي بين الناس، وتولي القضاء بينهم، وحل المنازعات لإطمئنان الناس لأمانته وحكمته.
وظاهر الآية هو الأول لإفادة الحقيقة، وعدم وجود قرينة لإرادة المجاز، ولكنه لا يمنع من الوجهين الثاني والثالث لإفادة العموم وأن الأنبياء غير الحكام لا يدعون لأنفسهم من باب الأولوية القطعية، فالنبي الذي تثنى له الوسادة يدعو إلى الله وحده، وكذا من لم يكن حاكماً، وبلحاظ معنى العموم، فالآية شاهد على نيل الأنبياء للمنزلة والشأن والجاه بين الناس بحيث يسمعون كلامهم، ويتدبرون في معجزاتهم، وأن حرب الظالمين والطواغيت ضدهم لم تمنع من ميل النفوس لهم، وإكبار وإجلال الناس لكل نبي مبعوث وفيه وجوه:
الأول: إنه مقدمة لحكم النبي بين الناس.
الثاني: الطمأنينة والسكينة لحكم وأمر النبي.
الثالث: الحكم مناسبة لبيان صدق النبوة.
الرابع: إشاعة العدل والحق بين الناس[وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] ( ).
الخامس: منع اليأس والقنوط من التسرب إلى النفوس بسبب طغيان الباطل والجور، ويكون تولي النبي الحكم ولو في المسائل الخلافية الصغيرة شاهداً على حضور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم غياب العدل عن الأرض، وفيه حث للناس على إحياء سنن الصلاح والتقيد بأحكام العدل ليكون الحكم في معناه الأعم من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متباينة قوة وضعفاً ويكون الجامع المشترك بينها أن كل نبي لا يتخذ الحكم إلا وسيلة وآلة للدعوة إلى الله عز وجل وهو من الشكر له سبحانه على نعمة الكتاب والحكم والنبوة، والأنبياء أئمة الناس في الشكر ومضامينه وكيفيته ومواضيعه.
السادسة: بين البرهان والجدل عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي إلزام الخصم، وإظهار عجزه عن الإستمرار في الإحتجاج، أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأولس: يتقوم الجدل بطرفين متخاصمين، أما البرهان فأنه قد يقوم بين طرفين، وقد يؤتى به للتعليم والإرشاد إلى الحق والحقيقة.
الثاني: قد يحدث الإنسان نفسه بالبرهان، لإختيار السلامة، والوصول إلى الحق، وقد يستحضر حالاً من الجدل حدثت له مع الخصم، ويتذكر البرهان الذي فاته ذكره.
الثالث: إتحاد البرهان، ولا يكن لطرفي النزاع الإتيان به، أما الجدل فيؤتى به عن حق وشبهة لأن الغاية منه أحياناً إلزام والخصم عن حق أو من دون حق.
الرابع: يتكون البرهان من القياس، والمقدمات التي هي حق وينتج عنها حق وصدق، وهو أمر لا يشترط في الجدل ولا يتوقف عليه، فيعتمد إلى جانب القياس الإستقراء والتمثيل والمشهورات العامة ونحوها.
وجاءت آية السياق بلغة البرهان والحجة لتكون سلاحاً بيد المسلمين في الذب عن الأنبياء وبيان عصمتهم في الدعوة إلى الله، وهذا السلاح من خصائص(خير أمة) ولا تنحصر منافعه في حال الجدال والإحتجاج فيشمل نفعه أمور الدين والدنيا، وحال السلم والحرب.
وقد خرج المؤمنون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعركة بدر وليس معهم من سلاح ومؤون وخيول إلا سلاح البرهان بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنزل الملائكة من السماء في آية وبرهان وحجة متجددة.
ومن البرهان في المقام ما هو مصداق عملي وليس برهاناً لفظياً، وهو أقوى الحجج لأنه ناطق وحسي يظهر للناس جميعاً، ويتجلى هذا المصداق بسيرة المسلمين، وتسليمهم بأن الأنبياء لم يدعو إلا إلى الله عز وجل، ومضامين ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة في المقام، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد يإظهار معاني العبودية لله في كل مناسبة، كما أنه يبادر إلى الصلاة في أول وقتها، ويحرص على أدائها جماعة، (وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )ز
وللحديث دلالات أعم من كيفية الصلاة منها توكيد عبوديته لله عز وجل , وحث المسلمين على تعاهد معاني الخضوع والخشوع لله عز وجل بلحاظ أن أداء الصلاة وسيلة لسلب الإستكبار والتعيير والأخلاق المذمومة عن الإنسان خصوصاً صلاة الجماعة إذ يقف الحاكم إلى جانب المحكوم، ويدرك كل منهما الجامع المشترك بينهما وهو العبودية لله، والإمتثال لأوامره التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن خصائص(خير أمة) أنك لم تسمع في تأريخ الإسلام أن ملكاً أو سلطاناً إشترط أن ينحى الفقراء والعبيد عن الجماعة التي يصلي فيها، أو يحتج على وقوفهم في الصفوف الأولى، وهو من الشواهد على نيل المسلمين مرتبة(الربانيين) التي بذل الأنبياء مهجهم من أجلها.
وفي بلوغها سلامة من الغلو في الأنبياء، وبرزخ دون الإفتراء عليهم وهو من فلسفة النبوة وتعاقب الأنبياء ليكون النبي السابق مبشراً باللاحق، والأخير مصدقاً لمن قبله، وكما أختتم النسخ في الشرائع بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن تصديق النبي للأنبياء السابقين أختتم بالنبي محمد، فليس من نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي يصدق به فهل يعني هذا أن الأنبياء السابقين لهم ميزة ومعجزة لم تكن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب لا , من وجوه:
الأول: جاء الأنبياء بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته وفيه شاهد على تصديق الأنبياء السابقين به فليس من نبي إلا وهو مصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: القرآن مصدق سماوي دائم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يؤت نبي مثله في المقام، وإذ أخبرت آيات القرآن بأنه مصدق للكتب السماوية السابقة فإنه يتضمن لزوم الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ] ( )، ليكون المدار والحكم على الإيمان برسالته وإثبات حقيقة الملازمة بين تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بالكتب السماوية السابقة وبين الإيمان بهما والإقرار بعدم الإنفكاك بينهما.
فلا يصح أخذ تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء السابقين وترك الإيمان بنبوته.
الثالث: جاء القرآن بالإخبار عن كونه مصدقاً على نحو الإطلاق بقوله تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا] ( )،ويحتمل التصديق في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول: إنه من المطلق الذي يمكن تقييده بالآيات التي بينت الموضوع والحكم الذي يصدق القرآن، وهو الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل , قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]( ).
الثاني: إرادة المعنى الأعم من التقييد، وأن القرآن مصدق لأمور وحقائق وقوانين أكثر من الكتب السابقة، وليس من حصر لتلك الأمور والحقائق وفق هذا المعنى، إذ أن كل آية قرآنية تتضمن علوماً وأسراراً وهي كنز للحقائق.
الثالث: يصدّق القرآن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشهد على أنها حق، والقرآن كلام الله أي أن شهادته هي شهادة من عند الله، وفيه غاية التشريف والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً]( )، وشهادة الله في المقام أعم من الشهادة بمعناها الإصطلاحي فهي على وجوه :
الأول: تعاقب المعجزات.
الثاني: تتابع الآيات التي تدل على صدق النبوة.
الثالث: إنها جسر متصل من الشواهد العقلية والحسية التي تجعل الناس يسلمون بصدق نبوة محمد .
الرابع: شهادة الله رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعضيداً ونصرة له.
الخامس: زجر الكفار عن التكذيب بنبوته .
السادس: من شهادة الله جعل المسلمين(خير أمة) وبعثهم على الدفاع عن الأنبياء والرسل.
السادسة: جاء القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ومن أفراد البيان ذكر الأنبياء وإثبات نزاهتهم وتوثيق جهادهم في سبيل الله، ومحاربتهم للشرك والضلالة، وزجرهم الناس عن الغلو بأشخاصهم.
فقد يفتتن بعض الناس بمعجزات النبي في حياته أو بعد وفاته، خصوصاً الذين يقدمون على فوات التصديق به والتخلف عن نصرته، فيقوم النبي بمنع هذا الإفتتان المصاحب لنبوته، والذي يأتي من بعده.
وقد لا ينصت الناس لهذا المنع فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أمته (خير أمة) لتكون في سمتها وسنتها حجة على الناس، فهي تتبع خاتم النبيين وتعترف بأنه عبد الله، وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
ومن فلسفة العبودية في الشريعة الإسلامية تكرار الأذان خمس مرات في اليوم، وكل مرة يكرر فيها المسلمون الشهادة، وبصيغة المفرد(أشهد أن محمداً عبده ورسوله) ولم تكتف بهذا الإعتراف بل رفعت لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهم مصاديقه منع الغلو بالأنبياء في ذات الوقت الذي يدافعون عنهم، ويحتمل قوله تعالى(ما كان لبشر) وجوهاً:
الأول: إرادة الأنبياء على نحو العموم استغراقي، وقانون دعوة الأنبياء إلى عبادة الله.
الثاني: المقصود الأنبياء الذين تولوا شؤون الحكم والرياسة في قومهم وأمصارهم مثل موسى وداود وسليمان والنبي محمد لتكون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة في باب تنزيه الأنبياء من الدعوة لأنفسهم، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث: جاءت الآية للإحتجاج بخصوص أنبياء معينين إفترى عليهم ونسب لهم دعوى الربوبية زوراً وبهتاناً، كما في نسبة البنوة لنبي الله عزير وعيسى عليهما السلام.
الرابع: لم يقصد في الآية نبي معين، بل جاءت قانوناً ثابتاً، وبياناً لوظائف الأنبياء في طاعة الله، فلما وصفت آية البحث المسلمين بأنهم(خير أمة)، أخبرت آية السياق عن إخلاص الأنبياء العبودية لله عز وجل لوجوه:
الأول: بيان جهاد الأنبياء في سبيل الله، وعدم إفتتانهم بالجاه والسلطان لذا ذكرت آية الحكم بقوله تعالى[يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ].
الثاني: توكيد عدم إفتتان النبي بالمعجزات التي تجري على يديه، وأنها لا تزيد النبي إلا خضوعاً وخشوعاً لله عز وجل، وإجتهاداً في الدعوة إليه.
الثالث: قيام النبي بتذكير الناس بتعليمهم الكتاب توكيد لإقراره ببعثة أنبياء قبله.
الرابع: من وظائف النبي اللاحق منع الناس من الغلو في النبي السابق وجاءت آية السياق لبيان هذا القانون.
الخامس: لقــد أثنت آية البحث على المســلمين، ونعتتهــم بأنهم يؤمنــون بالله فمن باب الأولوية القطعية التسليم بإيمان الأنبياء بالله عز وجل فهم قادة الأمم في مسالك الإيمان، ومن سننهم يقتبس المسلمون دروس الهداية .
ولا يتعارض هذا الإقتباس مع دفاعهم عن الأنبياء، وهما معاً من الشواهد على نعت المسلمين بأنهم(خير أمة) ومن مصاديق قوله تعالى(أخرجت للناس) وفيه مسائل:
الأولى: أداء المسلمين لوظائف متعددة في الموضوع الواحد، لذا أنعم الله عز وجل عليهم بنيل مرتبة(خير أمة).
الثانية: لقد أفتتن بعض المليين بالأنبياء ومعجزاتهم، فكان وجود(خير أمة) حاجة للناس لمنعهم من إتباع أهل الغواية فيكون خروجهم مركباً من فضح أهل الغلو، وإنذار الناس من إتباعهم.
الثالثة: خرج المسلمون للناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليصبح الغلو بالأنبياء متزلزلاً آخذاً بالإنحسار وجاء زمان العولمة لبيان حاجة الناس لسنن التوحيد، ومحاربة الغلو بالأنبياء لأن هذا الغلو حاجب عن تدبر الناس في معجزات النبوة، والإقتداء بالأنبياء.
الرابعة: سعي المسلمين في طرد الغفلة عن الناس، ومنعهم من حضيض الجهالة .
وجاء الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ] ( )، لبيان المسؤوليات العظيمة التي يتولاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هداية الناس، وبعث المسلمين لإصلاح الناس وجعلهم يتفقهون في وظائف النبوة، والنفع العظيم للأنبياء على الأجيال المتعاقبة.
الخامسة: يدل الجمع بين الآيتين على بلوغ الأمم السابقة مرتبة رفيعة في التعلم والدراسة والتحصيل، فهم يعلّمون الكتاب مما يدل على أنهم تعلموه وأخذوه من الأنبياء.
وذكر التعليم وحده دون التعلم حجة عليهم فممن أخذوا الكتاب، الجواب أخذوه من الأنبياء وتعلموه منهم وتدارسوه فيما بينهم.
ويتضمن الكتاب الأمر بعبادة الله، وتزكية الأنبياء في دعوتهم إلى الله عز وجل، وتعلم الناس شاهد على أن أي نبي لا تكون دعوته إلى الله إبتداء، بل هناك أمة من المسلمين سبقته في وجودها ودعوتها إلى الله، وتعلمت الكتاب، ومنه البشارة بذات النبي والدعوة إلى تصديقه بقيد المعجزة التي تؤكد شخصه وأنه النبي المبشر به.
وإذ وصفت آية البحث المسلمين بأنهم (خير أمة) فلا بد أنهم أكثر الأمم تعلماً وتعليماً للكتاب , وفيه دلالة على خشية المسلمين من الله عز وجل قال سبحانه[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( )، ليخرج المسلمون للناس بسلاح العلم ولباس الخشية والخوف من الله، ليكونوا أسوة حسنة للناس، ويدعونهم للتأسي والإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد قال الأنبياء للناس(كونوا ربانيين) ومن خصائص المسلمين أنهم إمتثلوا لأوامر الأنبياء فكانوا عابدين مطيعين لله عز وجل، وتعلموا الكتاب وهو القرآن، وهذا التعلم يومي لا يفارق المسلم إلى حين الوفاة لوجوب أداء الصلاة بأي حال من الأحوال، فمن لا يستطيع الوضوء مقدمة للصلاة ينتقل تكليفه إلى الطهارة الترابية، ومن لا يستطيع أداء الصلاة عن قيام يصلي جالساً ومن لم يستطع يصلي مضطجعاً.
ومن لا يقدر على الركوع أو السجود يكتفي بالمسمى منه، ولو بالإشارة لقاعدة (الميسور لا يترك بالمعسور)، وفي كل الأحوال أعلاه يقرأ المسلم آيات القرآن على نحو الوجوب من غير نقصان فيها، لتكون كل قراءة تعلم وتعليم فهي تفقه في الدين، وتهذيب للنفوس, وتعليم للناس بلزوم تعاهد الصلاة، والمواظبة على عبادة الله، وتلاوة الكتاب .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآل وسلم: وجعلت قرة عيني في الصلاة) ( ).
السادسة: ذكر لفظ(الكتاب) في آية السياق مرتين بذاته، وإرادة التنزيل مطلقاً، وذكر في آية السياق بنسبة المليين من الأمم السابقة بلفظ(أهل الكتاب) وبيان أن الإيمان خير لهم، لتكون آية السياق حجة إضافية عليهم، إذ أخبرت عن دعوة الأنبياء لعبادة الله، وأن يكون الناس ربانيين، إلى جانب قيامهم بتعليم الكتاب والذي يتضمن البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من عمومات قوله تعالى[وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ]( )، ذكر صفاته صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكرها الأنبياء، ولزوم نصرته، وأن أمته هي(خير أمة).
وهذا الوصف للمسلمين ترغيب لأهل الكتاب والناس بدخول الإسلام، وبعث للشوق في نفوسهم لبعثته وسؤال الله إدراك أوانها، وكان الربانيون من أهل الكتاب يتوارثون البشارة ببعثته، كما جاء في بعض الأخبار منها ما ورد في إسلام سلمان الفارسي، وبعض كبراء اليهود .
وتبين الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين أموراً:
الأول: موضوعية الكتاب في إصلاح الأمم.
الثاني: إقامة الحجة والبرهان، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الثالث: نصر الإسلام وإنتشار أحكامه وأن الكتب السماوية لم تترك عند نزولها، بل هناك أمم من الموحدين يقومون بتعلم مضامينها، والتفقه في الدين، وإتخاذها مادة للدراسة وإستقراء الأحكام.
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى(كونوا ربانيين) الوارد في آية السياق، و(تؤمنون بالله) في آية البحث، الجواب من وجوه:
الأول: جاء الأول حكاية عن الأنبياء وخطابهم للناس، والتقدير(ولكن يقول النبي كونوا ربانيين) وجاء الثاني خطاباً وشهادة من الله عز وجل للمسلمين بالإيمان.
الثاني: يرجو النبي أن يصل الناس إلى درجة الربانيين، وتضمنت آية السياق بلوغ المسلمين هذه المرتبة، ليكون المسلمون جزء علة لجهاد الأنبياء وسعيهم في سبيل الله.
الثالث: إن بشارة الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراك أن أمته تؤمن بالله من أسباب مواظبة أتباع الأنبياء على الدعوة إلى الله بصبر وهم يعلمون أن المسلمين سيفضحون بإيمانهم كل دعوة باطلة وخلاف الحق، وسيقومون بالثناء على كل الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وفيه إحتراز من دعوة الطواغيت ,وفي التنزيل[رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا]( ).
الرابع: المسلمون هم الأمة التي إمتثلت لأوامر الأنبياء، فقد بذل الأنبياء الوسع مع قومهم لهدايتهم , وقاموا بتذكيرهم بالكتاب وتعليمهم له، ليكون الإيمان عندهم ملكة راسخة يترشح عنها أداء العبادات، ويتوارث الأبناء إستقراره في النفوس، وثباته في المجتمعات.
قانون الإحتجاج
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وهذا الإختبار نوعي وفردي فهو لا ينحصر بالقضية الشخصية، فيواجه المكلف الإبتلاء والإمتحان في عباداته ومعاملاته، وفي حضره وسفره، ويحتاج فيها الذب عما يعتقده إن كان حقاً، والإنصات لغيره إن كان باطلاً ولا أصل له.
فليس من تكافئ بين المؤمن والكافر في المقام، فالأول يعتمد سلاح الإحتجاج والإتيان بالبرهان ومقدماته العلمية السليمة التي لا تقبل الشك والوهم، أما الكافر فإنه يقوم بالجدال ويأتي بالشبهات ويعتمد المغالطات، وينطبق هذا التباين جلياً في موضوع بعثة الأنبياء، فمع أن زمانهم إنقضى وشرائعهم نسخت بالشريعة الإسلامية , وتوجهت الدعوة السماوية للناس جميعاً لدخول الإسلام، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( )، فإن الجدال في نبواتهم لم ينقطع.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد لبناء صرح الإسلام وإنشاء دولته، وجعل المسلمين يواظبون على العبادات ويتقنونها، وتكون جزءً من واقعهم اليومي، وحجة وبرهاناً في الإحتجاج مع أهل الكتاب وغيرهم من الناس.
لقد خاض المسلمون المعارك الضارية مع الكفار، وهزموهم بمدد ونصر من الله لينزل الخزي بالكفار، قال تعالى في ذم الكفار، وبيان حالهم يوم أحد[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وكذا في ميادين الجدال حيث يصيبهم الإنكسار، ويظهر عليهم الخذلان، وكأنهم يعلنون خسارتهم وهزيمتهم أمام حجة المسلمين.
وإذ تنتهي المعارك في مواضعها وأوانها، فإن معارك الإحتجاج متجددة وباقية , وليس من حصر لميادينها فتحدث في المنتديات والمجالس العامة والخاصة.
وفي البيوت، وعند السفر، وفي هذا الزمان طرأت على الناس وسائط مرئية ومسموعة لكل فريق، ودخلت كل بيت، وترك للناس الخيار بينها، وهي في صراع ظاهر وخفي، وستنشطر الفرق ليبقى المسلمون أمة واحدة، وهم يدركون من خلال هذه الوسائل تمسكهم بالإتحاد.
ومن خصائص(خير أمة) طلب الإتحاد بعنوانه المجرد بل يكون مقيداً بالتمسك بالقرآن والسنة، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، ويدرك إنتفاء أسباب الفرقة والخلاف وتعدد المذاهب سواء كانت كلامية أو فقهية، ليمتنعوا عن الإحتجاج والجدال فيما بينهم، لأنه آفة وسبب للضعف وعدم تسخير الجهود والمساعي للإحتجاج على الخصم وإبطال شبهته، وبيان الخلل في جداله.
ولا تروم (خير أمة) إلا طلب اليقين، وإثبات الحق، وبيان صدق النبوة، وأن الأنبياء وسائط رحمة الله، وتجري على أيديهم المعجزات، لتكون القلوب حدائق ناضرة مملوءة بالغبطة والرضا بفضل الله، عامرة بشكره وتسبيحه، متوجهة له بالدعاء والمسألة، فيدخل المسلمون في جدال مع أهل الكتاب والكفار في مواضيع النبوة والتنزيل والمعجزات، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( )، ليكون الحسن في أمور:
الأول: كيفية الجدال وإتخاذ صيغ البرهان.
الثاني: مواضيع الجدال بما يفيد إثبات وجود الصانع , ووجوب عبادته، وصدق الأنبياء في رسالاتهم ودعوتهم إلى الله.
الثالث: العلة الغائية من الجدال وهي الإصلاح، ونبذ الكفر.
الرابع: التذكير بالآخرة لأنها من الأحسن في الزجر عن المعاصي وإستثمار الدنيا كمزرعة للآخرة , وتتباين ماهية وكيفية الجدال كل بحسبه، ولكن الشيء الثابت هو إنفراد المسلمين بإمتلاك البرهان وما يؤدي إلى اليقين الواجب القبول مادة وصورة فيكون تبرئة وتزكية الأنبياء وإثبات دعوتهم إلى الله وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: كل رسول من الله لا يدعو إلا إلى الله.
الصغرى: النبي رسول من الله.
النتيجة: النبي لا يدعو إلا إلى لله.
لقد أبهرت الكفار المعجزات، وجعلتهم يقفون أمامها عاجزين، ويظهر عليهم الخذلان والإنهزام، فجاءوا بإفك وبهتان، ونسبوا للأنبياء ما يبغون من ورائه حجب الناس عن التدبر في معجزاتهم، فنزل القرآن ليحمّل المسلمين مسؤوليات الدفاع عن الأنبياء، بما يجعل الناس يلتفتون إلى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتفكرون في دلالاتها قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
ويجتهد المسلمون في بيان العلة الغائية لبعثة الأنبياء وهي عبادة الله وإمتناع الناس عن الإقامة على الكفر والجحود وهم معصومون عن العدول عن هذه الغاية الحميدة بالميثاق والعهد الذي أخذه الله عليه، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ]( ).
ليكون إشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الأنبياء في الميثاق والعهد الذي أخذه الله منهم شاهداً على إتحاد سنخية السنة وحسن السمت بينهم.
وما ما يدعو إليه النبي محمد هو ذاته الذي دعا إليه الأنبياء من عبادة الله ونبذ الشريك وإبطال عبادة الأوثان، ومنع الغلو، والزجر عن إتباع الهوى، وطاعة الطواغيت.
ومن الإبتلاء في الدنيا مضامين الجدال والبراهين وأسباب اليقين لتكون الدنيا(دار الإحتجاج) وسبيل الهداية والصلاح، فلم يخرج الله المسلمين للناس إلا وقد سلّحهم بسلاح الإحتجاج، وجعلهم قادرين على إقامة الحجة على الناس بسلامة فعل الأنبياء، ولزوم إتباعهم، وفيه حرب على التحريف، وتشويه الحقائق، لذا إحتلت القصص موضوعية في القرآن لما فيها من الأحكام والبراهين وجذب الناس لمنازل التوبة والإنابة، والإعراض عن مفاهيم الكفر والضلالة.
ومن إعجاز القرآن تضمن كل آية منه الإحتجاج منطوقاً أو مفهوماً، فهو مدرسة الإحتجاج التي يتخرج منها الملايين في كل سنة وهو من أسرار وجوب تلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية، فترى سورة الفاتحة التي يقرأها كل مسلم ومسلمة كل يوم على نحو الوجوب المتعدد، وتتضمن الإحتجاج بوجوب حصر الربوبية بالله عز وجل إذ تبدأ بعد البسملة بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، للزوم توجه الناس جميعاً لله عز وجل بالشكر والثناء وهو من واجبات العبد وطاعته لربه.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد الله عز وجل بعلمهم لكل شيء، وتخلفهم عن الإحاطة بعلمه مع ما عندهم من العلوم.
ومن علم الله عز وجل في المقام أنه سبحانه جعل الدنيا ظرفاً للإحتجاج، وجعل البرهان مصاحباً للحق، واليقين إلى محاربتهم بثقة ورضا، وأمل بالقبول من عند الله فلا تنحصر منافع الإحتجاج بإفحام الخصم، ومنع كيده بل تشمل بعث العز عند ذات المؤمن الذي يأتي بالبرهان ومن يسمعه ويتعظ به.
وهل الإحتجاج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجواب نعم، وهو من أفضل مصاديقه لذا لا بد للمسلمين من التفقه في الدين، والإرتقاء في المعارف الإلهية ومعرفة قواعد الإحتجاج، وآداب المناظرة، مع القدرة على إستحضار الدليل وهو عنهم ليس ببعيد.
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها أسست لمدرسة في الإحتجاج جديدة، عالمية الصبغة، ذات برهان ساطع، وحجة دامغة وفيه نفع عظيم للناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الصلة بين آية [وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( )،بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي لغة الخطاب في الآيتين: أن مادة الإفتراق فإن بين الآيتين في جهة الخطاب عموماً وخصوصاً مطلقاً، فجاءت الآية أعلاه بلغة العموم والخطاب للناس جميعاً، وتضمنت الإستفهام الإنكاري.
أما آية البحث فهي خطاب إكرام للمسلمين على نحو الخصوص وإخبارهم بأنهم(خير أمة) ولا يقدر على هذا الإخبار إلا الله عز وجل.
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: (كنتم خير أمة ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) وفيه دعوة للمسلمين للجهاد في سبيل الله، ومواجهة أهل الضلالة والشرك وجدالهم والإحتجاج عليهم، وإبطال مغالطاتهم.
الثاني: كنتم(خير أمة أخرجت للناس ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) لبيان حقيقة خروج المسلمين للناس لأمور:
الأول: دعوة الناس للتوحيد.
الثاني: دفع الناس عن منازل الشرك ومسالك الضلالة.
الثالث: منع الناس من الإفتتان بعبادة غير الله.
الرابع: إنذار الناس من الشرك الظاهر والخفي، قال تعالى[وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ] ( ).
الخامس: تبيان موضوع من مواضيع خروج المسلمين للناس، وهو توكيد دعوة الأنبياء الناس إلى عبادة الله، وفي تنزيه لمقاماتهم، ودعوة للتصديق بهم.
السادس: منع التحريف والتشويه لجهاد ودعوة الأنبياء، وهذا المنع من خصائص(خير أمة).
ومن الآيات أن المسلمين يبقون بهذه المنزلة الرفيعة إلى يوم القيامة، وفيه بشارة سلامة جهاد وسنة الأنبياء من التحريف، لذا تفضل الله عز وجل وقال[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، لبيان موضوعية تلك القصص في حياة المسلمين والناس إلى يوم القيامة، وبيان صفة الكمال الإنساني التي عليها الأنبياء، ومشاهدتهم الحضورية لعالم الملكوت وآيات التنزيل والوحي.
الثالث: تقدير الجمع بين الآيتين تأمرون بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) وفيه وجوه:
الأول: بيان مسألة الأمر والنهي، وهي لزوم الدعوة إلى عبادة الله ومحاربة الشرك والضلالة.
الثاني: التذكير بأن الأنبياء أئمة الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: نهي أهل الكتاب عن الغلو في الأنبياء، وبيان أن الأنبياء غادروا الدنيا وهم يدعون لعبادة الله ويقرون بربوبيته المطلقة، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل[قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ( ).
الثالثة: مع أن المسلمين نالوا مرتبة(خير أمة) فإن مصاديق التأديب وأفراد الهداية تتوجه لهم من عند الله بالتنزيل السماوي، وفيه لطف وحفظ لتبوء المسلمين مقامات الأفضلية بين الأمم وأهل الملل والنحل، وبيان لقانون في الإرادة التكوينية، وهو تتابع أسباب إصلاح المسلمين مما يدل على أن مقامات(خير أمة) من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وأن المسلمين في إرتقاء متصل.
فإن قلت هل يعني هذا أن المتأخر منهم أكثر إرتقاء من المتقدم، الجواب لا، من وجوه:
الأول: نال المتقدم فضل السبق وبادر إلى تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الناس فيه بين مكذب ومحارب له.
الثاني: كان الإرتقاء إبتداء وإستدامة بنزول الآيات وقد أدركها المسلمون الأوائل.
الثالث: جاء التأديب شاهداً على تقيد المسلمين بمضامينه القدسية، وهو من خصائص(خير أمة).
الرابع: إقتبس الصحابة من مدرسة الجهاد في معارك الإسلام الأولى، وهي ذات خصوصية إيمانية وشاهد على الإخلاص في عبادة الله، لما من بذل النفس في سبيل الله، قال تعالى[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الخامس: كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية مدرسة تأديبية جامعة إغترف منها الصحابة على نحو يومي متصل ونهل ينهل منها المسلمون إلى يوم القيامة.
الرابعة: بيان حاجة الناس لخير أمة وقرب هذه الأمة منهم، فلا غرابة أن ترى مساحة المسلمين ظاهرة في أمصار الأرض، يدخلها المسلمون كل يوم خمس مرات لعبادة الله، وذكره وتسبيحه، ويعيش المسلمون مع الناس ويتعاملون معهم في الأسواق وفي السكن فيكون شريك المسلم والذي يجري معه عقود البيع والإيجار والرهن ونحوها ليس بمسلم، وليس من مدن وأحياء خاصة بالمسلمين، بل يجاور المسلمون غيرهم، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية مجيء القرآن بالوصية المؤكدة بالجار، قال تعالى[وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ]( )، والمراد بالجنب الغريب لبيان موضوعية الجوار في الإكرام مطلقاً، وأن كان الجار غير مسلم وغريباً ومن أهل الكتاب ولا يدين الإسلام، وفيه بيان للأخلاق الفاضلة التي يتجلى بها المسلمون، وليس من حصر لمصاديق الإحسان للجار، إذ أن الصلة معه يومية متصلة، ومن تلك المصاديق الأمانة والإعانة وقضاء الحاجة في مرضاة الله والإحكام وقد ذم الله عز وجل قوماً[وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ]( )، وإفشاء التحية والسلام، وعدم الضرر والخيانة.
إن إختلاط المسلمين مع غيرهم مناسبة كريمة ليرى الناس محاسن أفعال المسلمين، وخصالهم الحميدة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، إذ أن الله عز وجل هو الذي إختار لهم هذا الخروج، فلا بد أنه سبحانه يهيئ مقدماته، وييسر أسبابه، ويكتب للمسلمين التوفيق فيه، ويجعلهم لا يغادرون معه منازل(خير أمة) بل يكون مناسبة كريمة لهم للرفعة بين الناس بتعاهد سنن التوحيد، ومحاربة الكفر ومفاهيم الضلالة.
الخامسة: ذكرت آية البحث أمر المسلمين بالمعروف بصيغة الإيجاب والثناء عليهم، ووردت مادة(أمر) في آية السياق مرتين بلغة النفي والإنكار في تنزيه لمقام الربوبية والأنبياء جميعاً، فهم لا يأمرون إلا بما أمر الله عز وجل به من عبادته وتقواه والخشية منه، وفي أهل الكتاب ورد قوله تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ] ( )، وفيه توكيد لما كان يأمر به الأنبياء أتباعهم والناس من لزوم عبادة الله، وأداء الفرائض، وهو من المقدمات الشرعية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان ماهية البشارة به.
وفي الجمع بين الآيتين مدرسة في معاني(الأمر) في القرآن ووظائف المسلمين فيه، وتوكيد لحقيقة وهي عدم صدور الأوامر ذات التضاد والتناقض من الأنبياء وخير أمة، فأوامر المسلمين في طول أوامر الأنبياء بعبادة الله وفعل المعروف وإجتناب المنكر والقبيح.
وورد ذم للمنافقين وتحذير للمسلمين والناس جميعاً مما يأمرون به بقوله تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( )، وفيه مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، والفصل والتمييز في ماهية الأوامر، ومعرفته وأهلها، وفي إختصاص المسلمين بهذا الفصل أمور:
الأول: إنه من أسرار فوز المسلمين بمرتبة(خير أمة).
الثاني: إصلاح المسلمين لوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: دعوة الناس للإصغاء للمسلمين فيما يأمرون وينهون عنه، وطرد روح الشك والريب عنهم.
الرابع: تحذير المسلمين والناس جميعاً من الذين يمنعون المعروف ويصدون الناس عن سبيل الله.
السادسة: من خصائص(خير أمة) الإيمان بالله والملائكة والأنبياء، والإقرار بأن الملك والنبي عبد لله عز وجل، وفيه شاهد على تنزه المسلمين من الغلو، وإجتنابهم الشرك الظاهر والخفي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على إظهار أسمى معاني العبودية والخضوع لله عز وجل، وهو سيد الأنبياء والمرسلين ليكون فعله موعظة ودرساً للمسلمين، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( )، فيقتدي المسلمون والمسلمات به في عبادة الله وعدم الإفتتان بغيره مع الإقرار بعظيم خلق الملائكة وقدراتهم الهائلة والتسليم بمعجزات الأنبياء، إذ أن تلك المعجزات لطف ومدد من الله عز وجل لجعل الناس يصدّقون بالنبي ويتبعونه، وقد جاءت الأوامر الإلهية إلى أهل الكتاب والناس جميعاً بالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته والذب عنه، ومن مصاديق النصرة في المقام التوحيد وحفظ آيات القرآن، وسلامتها من التحريف والتبديل والتغيير وكل آية فيه على وجوه:
الأول: إنها حرب على الشرك والضلالة.
الثاني: هي برزخ دون الغلو.
الثالث: بيان وتفسير لآيات القرآن.
ومن يتلو القرآن ويعمل بأحكامه يفوز بالتنزه من الإفراط والتفريط.
السابعة: تعتبر تلاوة المسلمين للقرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيها من ذكر الله عز وجل، ومعاني الصلاح وأسباب الهداية، وتفضل الله عز وجل وجعل التلاوة واجباً في الصلاة الواجبة والمستحبة، والتلاوة في الصلاة على قسمين:
الأول: القراءة الواجبة، وهي تلاوة سورة الفاتحة وعلى نحو متكرر في الصلاة بعدد ركعاتها.
الثاني: القراءة المستحبة وهي قراءة سورة من القرآن أو بعض آيات، وتبدأ سورة الفاتحة الواجب قراءتها بقوله تعالى بعد البسملة[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، لتكون هذه القراءة واقية يومية متجددة للمسلمين من الغلو، وهي بذاتها والآثار المترتبة عليها أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليفوز المسلمون بالأمر بعبادة الله بأداء الواجب العبادي، لما له من رشحات إيمانية، وضياء ينير دروب السالكين، ويطرد ظلام الجهالة، ويفضح مفاهيم الشرك، فقد ينشغل المسلمين بأسباب الكسب والمعاش وإبتلاء الحياة اليومية، فتأتي الصلاة الواجبة وقراءة الفاتحة فيها لتبعثه على حمل الناس على التوحيد، والدعوة إلى الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
إن الله عز وجل هو رب كل شيء، ويختص سبحانه بالربوبية المطلقة، والإستغراقية فهو خالق الأشياء كلها إبتداعاً، وهو مالكها والملك عليها ومصلحها، ومدبرها، والقيم عليها، وصاحب النعمة على الخلائق كلها وهو المطاع الذي تخشع الخلائق كلها له، قال تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ] ( ).
وهو سبحانه مالك الملوك والأرباب، ويأتي الرب صفة لغير الله فيكون مقيداً بالإضافة كما يقال رب الدار، لإفادة ملك إنسان لدار مخصوصة، وكما في (قول النبي محمد لرجل: أرب غنم أم رب إبل)( )، لتتعلق ملكية الإنسان بالدواب والنبات والجماد، ليخرج ذات الإنســان منها بالتخصص، فلا يكون الإنسان مربوباً إلا لله عز وجل، قال تعالى[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ]( )، لذا جاءت آية السياق بتنـزيه الأنبيــاء عن الأمر بالربوبية لغير الله، فــأول ما يؤدب الله عز وجل به الأنبياء هو عبوديتهم لله، وإنقطاعهم لربوبيته، وأخذ الميثاق منهم بأنه إله ورب كل شيء.
ومن إعجاز القرآن أن يقترن ذكر الربوبية المطلقة لله عز وجل بالحمد والشكر له سبحانه، بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ليمتلأ القلب بالخشية من الله، ولا يرى العبد في الوجود سواه، وتنمو عند المسلم والمسلمة ملكة التقوى والصلاح، فيصون فكره وجوارحه من الفواحش والسيئات ومقدمات ومعاني الشرك والضلالة، ويتخذ من الآية أعلاه مدرسة يومية متجددة ينهل منها دروس الخشوع والذل والخضوع لله عز وجل.
الثامنة: أخبرت آية البحث عن إيمان المسلمين وعصمتهم من الشرك والجحود بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) وفيه بيان لحاجتهم وأهل الكتاب والناس جميعاً لهذا الإيمان، أي لابد من أمة تتوارث الإيمان في الأرض إلى يوم القيامة، وتحارب الكفر والضلالة، وتتجلى الحاجة إليها بلحاظ آية السياق، وما تدل عليه في مفهومها من نبذ الضلالة، ونسبة الغلو إلى الأنبياء مع تنزه مقاماتهم عن أفراد الشرك والغلو مطلقاً، فيدرك النبي أنه في أرفع منزلة من منازل البشر، وأنه يوحى إليه، ويلتقي مع الأنبياء الآخــرين بذات المرتبة الســـامية من تلقـــي الوحي والتنزيل من عند الله، ويقوم بذات الرســـالة في الدعوة إلى العبودية المطلقة لله عز وجل، نعم يذكر الأنبياء الملائكة وبديع خلقهم وعظيم قدراتهم، وعلو همتهم ولكن هذا لا يدعو إلى الغلو فيهم، خصوصاً وأن الأنبياء يذكرون خلق اللائكة لوجوه:
الأول: بيان قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
الثاني: إنقطاع الملائكة لعبادة الله عز وجل، وإنشغالهم بالتسبيح قال تعالى[وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ]( ).
الثالث: الإخبار بأن الملائكة رسل الله بالوحي والتنزيل، وهم الواسطة المباركة بين الله والأنبياء، ولما أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعل خليفة في الأرض إحتجوا بفساد الإنسان فيها[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فرد الله عز وجل عليه بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ولم يقل سبحانه(أني أعلم ما تجهلون) بل أكرمهم الله بوصفهم بالعلم، وهو أشرف وأسمى من الجهل، ولكن علمهم محدود وغير مطلق، وهل الدعوة لإتخاذ الملائكة أرباباً من الفساد الذي ذكرته الملائكة، الجواب نعم لأنه ظلم للنفس والغير، وذكر للملائكة بخلاف صفتها التي تعشقها وهي العبودية والخشوع التام لله عز وجل، وعدم الملل أو الضجر من التسبيح، فهو غذاء الملائكة فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتنزيه الأرض من هذا الفساد وجعله وأمته يجاهدون وإلى يوم القيامة في تثبيت صفة التشريف والإكرام للملائكة والأنبياء وهي عبادة الله وعدم الإستكبار عنها.
إن الغلو بالملائكة والأنبياء فسأد بالذات، ومقدمة للفساد، إذ تترتب عليه أضرار خاصة وعامة، وتعطيل للوظائف العبادية، وسيادة للظلم، والأخلاق المذمومة فحمل المسلمون لواء دفعه، والمنع من مقدماته، بتوكيد حقيقة وهي أن كل نبي من أنبياء الله، يقر ويعترف بأن الملائكة والأنبياء عبيد داخرون لله عز وجل وهذا الإقرار من العهد والميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليه قال الله تعالى في الآية التالية لآية السياق[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ] ( ).
ومن أهم مصاديق الميثاق دعوة النبي إلى عبادة الله عز وجل والإخبار بأن الخلائق كلها تعبده وتسبحه وتخشع له، وكأن إحتجاج الملائكة في الآية أعلاه من سورة البقرة يكون فيه بلحاظ موضوع آية السياق تقديم وتأخير ويكون معناها:ونحن عبيدك نسبح بحمدك ونقدس لك أتجعل فيها من يفسد فيها ويغالي فينا وينسب الربوبية لنا وللأنبياء الذين ننزل عليهم بالوحي بأمرك وفضلك).
فأخبرهم الله سبحانه بأنه يعلم بإنقطاع(خير أمة) لعبادته، وجهادها في سبيله وجذب الناس إلى منازل الإيمان والصلاح، وهو من مصاديق الإبتلاء والإختبار في الدنيا، مع إعانة ومدد الله عز وجل للمسلمين بثباتهم في منازل الإيمان وهو الذي يدل عليه قوله تعالى(وتؤمنون بالله) بصيغة المضارع التي تدل على ثبوت الإيمان وإتصاله وإستيعابه لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل.
ولو قالت الآية(آمنتم بالله) لأفادت معنى الحدوث في الزمن الماضي وإنقضائه، ولو كان يدل أيضاً على ثبات وإستدامة الإيمان في الجنان إلا أن إستعمال الفعل المضارع وفق نظم الآية وللدلالة على تجدد الإيمان عند المسلمين، ودخول فريق من الناس في الإسلام على نحو مستمر.
التاسعة: أخبر آية السياق بأن إتخاذ الملائكة أرباباً كفر وضلالة، والآية إنحلالية، فإتخاذ أي ملك من الملائكة رباً هو كفر وجحود، والملائكة دائبون في طاعة الله، منقطعون إلى العبادات الشاقة الباهظة على نحو متصل في الأوقات كلها، قال تعالى[يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ] ( ).
ولا يصيب الملائكة قنوط أو فتور أو ضعف أو وهن عن العبادة، وليس عندهم فترة سكون أو فراغ، ولا يتخلفون طرفة عين عما يأمرهم به الله عز وجل، ولا يغفلون وظائفهم العبادية في السماء والأرض لأنهم منزهون من طرو وأعراض الغفلة التي هي من خصائص الذات الإنسانية، ليكون الملائكة في أعلى مراتب الإخلاص في العبادة، قال سبحانه[وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ]( ).
والملائكة منزهون من الشهوات، لأن الله أصلحهم للعبادة على نحو الدوام والإستمرار، وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً) ( )، ومن غفلة وجهالة الإنسان أن يتخذ من الملائكة المنقطعــين إلى عبادة الله أرباباً وهم لا يرضون له هذا، ولا يصير ســـبباً للإنشـــغال عن عبـــادة الله، ليكــون ضرر المغالي الكافر على نفسـه، وهو من عمومــات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
فجاءت آيتا السياق والبحث إنذاراً وتحذيراً للناس، وطرداً لأســباب الغفلة والجهالة، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الناس بعدها على أقسام:
الأول: أمة تدين بالتوحيد، وتقر وتعترف بأن الملائكة والأنبياء عباد لله عز وجل وخلق من خلقه، وورد في التنزيل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثاني: قوم يتخذون الملائكة أرباباً، ويعبدونه، ويتقربون إليهم، ويتبرأ الملائكة منهم يوم القيامة، كما ورد في التنزيل[ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ]( ).
الثالث: أمم أخرى، تكون قسيماً للقسمين أعلاه.
ولا ينجو إلا من يقول بالتوحيد لذا جعل الله عز وجل المسلمين(خير أمة) لأنهم الأمة التي تعبد الله ولا تشرك به، وتدعو الناس إلى التوحيد ونبذ الأنداد وأسباب الضلالة.
ولقد جاءت الآيات بالإخبار عن علة خلق الجن والإنس وهي عبادة الله عز وجل، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ويحتمل خلق الملائكة وجوهاً:
الأول: ذات الصلة أعلاه وهي عبادة الله.
الثاني: إعانة الجن والإنس على عبادة الله، وتقريبهم منها، وزجرهم عن ضدها من الشرك والجحود.
الثالث: الملائكة هم سكان السماء وخلقهم الله لحفظها، والكواكب والأفلاك، ولهم وظائف عديدة يقومون بها.
الرابع: إرادة المعنى الجامع للوجوه أعلاه.
والصحيح هو الأول فإن الله عز وجل غني عن الخلائق وقيام الملائكة بوظائف عظيمة هو جزء من عبادتها لله عز وجل، قال تعالى[وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا]( ).
التاسعة: لقد أراد الله عز وجل أن تكون عبادته والخشوع له الجامع المشترك للخلائق، وهو نوع شكر لله عز وجل على نعمة الخلق وإستدامته، وسبيل لنزول الرحمة من عند الله، وتفضل وجعل الإنسان مركباً من عقل وشهوة.
فمن الناس من غلبت شهوته، وعطّل وظائف العقل في باب العبادة مع الحاجة إليها، فبعث الله عز وجل الأنبياء للإنذار والتخويف، ثم تفضل وأنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتأتي آيتا السياق والبحث للإحتجاج على الناس، وإقتران هذا الإحتجاج بتنزيه الأنبياء، وتوكيد دعوتهم إلى الله عز وجل.
ومن الناس من يقوم بإيذاء الأنبياء وقتلهم ولم يكتف بهذا الجرم، ولم يلجأ إلى الإستغفار والتوبة، بل ينسب إلى الأنبياء ما لم يقوموا به وهو من الظلم المركب، لتأتي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس جميعاً، وفضحاً لهؤلاء الظالمين، وتزكية للأنبياء والصالحين في الأمم السابقة والمسلمين إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( )، وفيه حث للمسلمين لإظهار أسمى معاني العبادة لله عز وجل، والتي تتجلى بأبهى صورها بمحاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته وصيامه وحجه ومناسكه، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ] ( ).
ونال المسلمون مرتبة(خير أمة) بهذه المحاكاة والإنضباط والدقة في إتيان العبادات على الهيئة والماهية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدوين سنته القولية والفعلية بما يمنع من ضياعها أو الإجمال والترديد فيها، ليتبقى أداؤهم لها شاهداً على إنحسار عبادة الشركاء والأنداد، ودليلاً على سلامة نهج الأنبياء، وصدق دعوتهم إلى الله، وإخلاصهم في الجهاد في سبيله.
وهل إتخاذ الملائكة أرباباً عداوة مع الملائكة، الجواب نعم، قال تعالى[مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه في ابن صوريا وجماعة، إذ سأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أسئلة فأجابه (فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك فقال: جبريل قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك) ( ).
إلا أن دلالة الآية أعم من أسباب النزول، وإن تفضيل ميكائيل يمنع من نسبة عداوتهم له، لأنهم يردون على الله عز وجل، ويعادون أحد ملائكته، ويصرون على التخلف عن منازل الإيمان.
فإن قلت: جاءت الآية أعلاه بتقديم جبرئيل على ميكائيل فكيف يكون ميكائيل هو الإمام، والجواب من وجوه:
الأول: جاء التقديم لبيان عداوة بعض الناس لجبرئيل لأنه ينزل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: التقديم لا يعني التفضيل مطلقاً بل يدل على عموم التفضيل كما في قوله تعالى حكاية عن السحرة[قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى] ( ).
وأن كان في تقديم هارون في الآية أعلاه نكتة عقائدية، وهي إرادة السحرة التورية على فرعون، وسلامة موسى، ولكنه يحتاج إلى دليل.
الثالث: جاءت الخصوص بعظيم منزلة ميكائيل وهو ملك موكل بأرزاق الأجساد، والمعرفة للنفوس والسحب، وإنزال المطر، ونمو النبات، والإنتفاع من المعادن، وله جنود وأعوان في فعل وإنجاز ما يأمره الله عز وجل به(قال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبيد الله) ( ).
الرابع: للسماء نواميس خاصة، والملائكة منقطعون إلى عبادة الله، وتسبيحه وكل من ميكائيل وجبرئيل له منزلة عظيمة عند الله.
ويلتقي الملائكة(خير أمة) بأنهم يقفون بين يدي الله للصلاة كل وقت من أوقاتها .
ليرتقي المسلمون ساعة أداء الصلاة إلى مراتب الرفعة والسمو، ومحاكاة الأنبياء في طاعة الله، والذي يدل في مفهومه على التنزه عن إتخاذ الملائكة أرباباً، للتسليم بأنهم يعبدون الله بذات الموضوع وهو الصلاة التي هي عمود الدين، ومرآة التقوى والصلاح، وهي شهادة بأن الأنبياء لم يأمروا إلا بعبادة الله عز وجل، وأنهم حاربوا الشرك والضلالة والفسوق، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لتأتي من بعدهم(خير أمة) فتكون على ذات نهجهم، وتصون ذكرهم وفيه خزي للكفار قال تعالى[الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
صلة[أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]،بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إن وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) بلحاظ إيمانهم وصلاحهم وإتباعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على أن الأنبياء لا يأمرون بالكفر.
الثانية: بيان غبطة كل نبي بوجود أتباع وأمة تقتدي به في الإيمان وعمل الصالحات، فيتفضل الله عز وجل ويختار النبي لرفع لواء التوحيد بين الناس، ويؤتيه المعجزة التي تجذبهم للتصديق بنبوته، وما من نبي إلا وجاهد في سبيل دخول الناس الإسلام، وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين للناس لتكون على وجوه :
الأول : إنها رحمة وحجة على الناس .
الثاني : فيها إنتصار للأنبياء في دعوتهم إلى الله.
الثالث : تنزيه الأنبياء من القبيح.
فإذا كان المسلمون وهم أتباع الأنبياء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فمن باب الأولوية القطعية أن الأنبياء لا يأمرون إلا بالمعروف والهداية والصلاح.
الثالثة: لقد جاءت أول آية السياق بتنزيه الأنبياء عن الدعوة لعبادة الملائكة والأنبياء وإتخاذهم أرباباً، ثم جاء الشطر الثاني لتوكيد أن هذه الدعوة كفر بالله العظيم, وقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم قال تعالى[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ] ( ) مما يدل على عبوديتهم لله وإكرامهم للإنسان.
ومن الثابت أن كل نبي يأتي لتثبيت معالم التوحيد في الأرض وترسيخ الإيمان في النفوس، وحشد الناس لعبادة الله، ومحاربة الكفر والكافرين، فأخرج الله عز وجل المسلمين للناس لتثبيت هذه الحقيقة وتجديد ذكرهاز
ويقّص الله عز وجل على المسلمين قصص الأنبياء في القرآن قال تعالى[) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( )، ليجاهد المسلمون للدفاع عن الأنبياء، وبيان سننهم الحميدة، وهو من مصاديق تسميتهم (خير أمة) فلم تقم أمة من الموحدين بما يقوم به المسلمين من تنزيه مقام الأنبياء من الدعوة لغير الله.
وإذا كان الكفار يفترون على الأنبياء فمن باب الأولوية أن يفتروا على المسلمين، ويشككوا بدعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويقلبوا مفاهيم المعروف والمنكر، فتصدى المسلمون للكفار في محاولتهم تشويه دعوة الأنبياء لزجرهم عن الإفتراء عن المسلمين.
الرابعة: بين الأمر بربوبية الملائكة والنبيين وبين الكفر عموم وخصوص مطلق، إذ أن الكفر أعم، ومع هذا أطلق على الفرد الخاص منه، وفيه إنذار للناس وتحذيرهم من مفاهيم الكفر وأن المصداق الواحد منه بخصوص الربوبية يفيد معنى الكفر والضلالة لإنحصار الربوبية بالله عز وجل إلهاً واحداً فرداً صمداً.
وفي الجمع بين الآيتين إرشاد للمسلمين في باب الإحتجاج، والجدال وإقامة الحجة على الكفار، فلم تقل الآية كيف يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، بل ذكرت المعنى الأعم للأمر وهو الكفر والضلالة ليكون أظهر في الحجة، وأبين في البرهان.
ومن المسلمات أن الأنبياء لا يأمرون بالكفر , بل يأمرون ويجاهدون من أجل الإيمان، وكلهم لاقوا الأذى في الدعوة إلى الله، ومنهم من قتل في حربه على الكفر والضلالة، وأراد منهم الكفار التواطئ والسكوت على المنكر الذي يفعلون فأبى الأنبياء إلا رفع لواء التوحيد، ودعوة الناس للإسلام وفي التنزيل [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
لقد أمر الله عز وجل الأنبياء بالتوحيد وإظهار أسمى معاني العبودية لله عز وجل وأداء العبادات والمناسك التي تدل على صدق العبودية والخضوع لله عز وجل والإقرار بان المحيا والممات لله عز وجل فما يؤمر به الأنبياء يأمرون قومهم وأتباعهم بهم، ويدعون الناس إليه، وأنعم الله عز وجل على الناس فاخرج لهم أمة محمد، وجعلها(خير أمة) لأنها ورثت الأنبياء في التسليم بالعبودية لله عز وجل، وقيامهم بدعوة الناس لها، وتنزيه الأنبياء من الدعوة الى غير الله.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين إستحقاق المسلمين لمرتبة (خير أمة) فهم مقيمون على الإيمان، مواظبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يرجون فيه مرضاة الله، وإصلاح المجتمعات، وإنقاذ الناس من عذاب الآخرة، بينما جاءت آية السياق لتبكيت غيرهم، والإنكار عليهم بان الأنبياء بذلوا الوسع لجذبهم إلى الإسلام، والإقرار بالعبودية لله عز وجل، ثم تأتي آية السياق لتنزيه الأنبياء من الدعوة إلى غير الله، وتحذر من الإفتراء عليهم، ليبقى هذا التحذير غضاً متجدداً على لسان (خير أمة) التي تسلم بانه وحي وتنزيل من عند الله، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ]( ).
الخامسة: لما أختتمت الآية محل البحث بالإخبار عن الفاسقين الذين خرجوا عن طاعة الله، جاءت خاتمة آية السياق بالإنكار عليهم والإحتجاج عليهم بأن الأنبياء لم يدعوهم إلا إلى الإسلام والثبات على الإيمان وأن كل نبي يصدق النبي الذي سبقه ويبشر بالرسول الذي بعده ويبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو إليها.
ومن منافع هذه البشارة مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتنزيه الأنبياء، وتوكيد عصمتهم، والشهادة على دعوتهم لله عز وجل، وتحملهم الأذى في جنب الله، وحث المسلمين على إكرامهم والتصديق بنبواتهم والذب عنهم , قال تعالى[وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا]( ).
وهل هذا الذب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم أن القدر المتيقن من الأمر والنهي هو عالم الأفعال والأقوال للناس.
الجواب هو الأول لما فيه من تثبيت للإيمان والحث على إتباع الأنبياء، والتدبر في معجزاتهم إذ أن الإفتراء عليهم يولد غشاوة على الأبصار تمنع من رؤية الأسرار الملكوتية والأمور الخارقة للعادة في المعجزة والتي تدل على صدق النبوة، وأنها من عند الله عز وجل.
فجاءت هذه الآيات لرفع هذه الغشاوة ودفع أسبابها، وتهيئة أذهان الأجيال اللاحقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبول الإسلام، والإقرار بعصمة الأنبياء في التبليغ والدعوة، والتسليم بأنهم لم يبعثوا إلا إلى تثبيت مبادئ الإسلام في الأرض ومحاربة الفسق، والمنع من الغواية والغلو في الملائكة والأنبياء.
قانون”حرب النبوة على الطواغيت”
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلافة في الأرض، وتفضل بالنبوة واسطة مباركة بين الله عز وجل والناس ليتعاهدوا مفاهيم الخلافة، ويعمروا الأرض بالذكر والعبادة , وهو العلة الغائية لخلقهم، وتناسلهم وتكاثرهم في الأرض لتكون هذه العلة موضوعاً ومادة للحساب يوم القيامة.
وفيه توكيد للنفع العظيم للنبوة على الناس، فهي رحمة وخير محض ونعمة دائمة ومتجددة، أعم في موضوعها ومنافعها من التبليغ، ولأن لغة البشارة والإنذار التي جاء بها الأنبياء تنعكس على أفعال المكلفين، وتظهر في المعاملات فتكون الأرض روضة نضرة تبعث البهجة بازاحة البشارات والإنذارات النبوية الظلم عن منازله، وطرد الكدورات عن النفوس، وجعل الأذهان تسبح في عالم الملكوت، والعقول تتدبر في بديع صنع الله قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
وحينما يقع الظلم في الأرض يكون الناس على أقسام:
الأول: الظالم الذي يتعدى على غيره بدون مسوغ وحق.
الثاني: التابع للظالم في ظلمه، والذي يتخذه الظالم آلة ووسيلة لتحقيق ظلمه، وهذا على شعب:
الأولى: التابع للظالم والمنقاد له على نحو السالبة الكلية.
الثانية: الذي يستعين به الظالم في قضية مخصوصة مع أنه ليس من أتباعه، كما في شاهد الزور، وفي صاحب القرار والحكم بالرشوة ونحوها.
الثالثة: الذي ينصر الظالم بلسانه وقلمه.
الرابعة: من يزين للظالم ظلمه طلباً لنواله، أو بغضاً بعدوه , ويظهر الركون للظالم وما يدل على رضاه وعدم إستهجانه من فعله , قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
الخامسة: الذي يؤازر وينصر الظالم مع إنكاره لظلمه، ولكنها حمية الجاهلية الأولى، والفهم الخاطئ لنصرة الأخ , وقد ورد في الحديث (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)( )، وتكون نصرته ظالماً بزجره عن ظلمه، وهدايته إلى التوبة، والإمتناع عن التعدي وليس إعانته في ظلمه.
الثالث: المظلوم الذي يقع عليه الظلم والضرر، ويتلقى الجور.
الرابع: الناصر للمظلوم في ظلمه , والمنكر على الظالم قبح فعله وهو على شعب في القصد والغاية منها :
الأولى: إرادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقصد القربة إلى الله تعالى.
الثانية: رجاء النفع من المظلوم، عند رفع الظلم عنه أو حتى في حال بقائه مظلوماً.
الثالثة: صاحب المقاصد الخاصة , وأسباب القربى.
الخامس: من ينأى بنفسه عن موضوع وأطراف الظلم، طلباً للعافية والسلامة.
وأفضلهم هو المنكر للظلم، الذي يسعى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الإنكار من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وظهوراً وإخفاتاً.
وجاءت آية البحث لتدعو المسلمين إلى التعاون في محاربة الظلم، ويستقرأ هذ التعاون من صيغة الجمع في خطاب المسلمين، والثناء عليهم، والإخبار عن قيامهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر على نحو الدوام والإستمرار.
وليس من تكافئ بين الظالمين وأنصارهم وبين المؤمنين الذين يحاربون الظلم، بل يتجلى الرجحان لأهل الإيمان من وجوه:
الأول: موضوعية الحق وإنجذاب النفوس له.
الثاني: نفرة عامة الناس من الباطل والظلم، فلا يميل إليه إلا الذي له نفع وفائدة فيه، وغلب عليه الهوى، والتقييد بغلبة الهوى لأن كثيراً من الناس ينكرون الظلم، ولا ينصرون الظالم وان كانت لهم منافع دنيوية عظيمة في الظلم.
الثالث: بقاء مفاهيم النبوة، وما جاء به الأنبياء من توكيد حرمة الظلم، ومحاربته بأنفسهم وأهليهم وأتباعهم طاعة لله عز وجل.
الرابع: نصرة الله عز وجل للمؤمنين، فيتآزر ويتعاون الظالمون فيما بينهم بالباطل، ولكن الله عز وجل لن يتركهم وشأنهم، ولا يجعل الغلبة تستمر لهم، بل يمد المؤمنين بفضله وآيات من رحمته وبأسباب ظاهرة وخفية للنصرة ليدحر الظلم، قال تعالى[وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
لتكون ولاية الله عز وجل بشارة لإزاحة الظلم، وإبطالاً لسحر الظالمين، وفضحهم في الدنيا، وهذا الفضح إنذار لهم ولأتباعهم ومقدمة لخزيهم يوم القيامة، وتذكير بلزوم التوبة والكف عن الظلم، والأنبياء هم أئمة المؤمنين، وقادة المتقين، وحملة لواء محاربة الظلم والظالمين.
ومن فلسفة النبوة وجوب بعث بعض الأنبياء في أيام الطواغيت الذين يستولون على الحكم ويعبثون في الأرض فساداً ويظهرون الكفر والجحود والطغيان ويحجبون عن الناس التدبر في آيات الله، ويمنعونهم من إستحضار معجزات النبوة، وما فيها من الدروس والمواعظ التي تكون وسيلة لعبادة الله عز وجل وإشاعة مفاهيم الهداية في الأرض.
ومن الآيات أن أغلب الأنبياء الذي يواجهون الطواغيت بمنزلة الرسل، ومنهم من كان من الرسل الخمسة أول العزم، كما في إبراهيم عليه السلام وإنكاره على نمرود ظلمه وعتوه وبين قواده وملئه، فعندما قال نمرود إستكباراً وعناداً كما ورد عنه في التنزيل[أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ] ( )، جاء إحتجاج إبراهيم [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ] ( ).
وفيه دلالة على علو مرتبة النبي الذي يواجه الطاغوت، وأنه رسول صاحب شريعة، ويدعو الناس إلى الإسلام، ليتعظوا من إحتجاجه ومحاربته للطاغوت، لذا ترى في آل فرعون هناك من آمن برسالة موسى عليه السلام، كما في قوله تعالى[وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ] ( )، وهو من قصص وأمثلة القرآن، وفيه بيان حقيقة وهي حتمية ظهور الأثر لدعوة النبي في ملئه وقومه وأهل بيته، كما في آسيا امرأة فرعون التي أنكرت على فرعون جوره، وأظهرت الإيمان، وكما في السحرة إذ ورد حكاية عنهم في التنزيل [قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى]( ).
وكل نبي قادر أن يواجه الطاغوت، والمعجزة مصاحبة للنبوة، وهي برهان قاهر على لزوم عبادة الله، وترك الظلم والجور.
ومجيء الرسل منذرين للطواغيت من رحمة الله عز وجل بهم وبالناس، لزجرهم عن الكفر والظلم، وحثهم على التوبة، ودعوتهم إلى الإيمان، وترك زينة الدنيا التي تأتي بالباطل، والسعي للنعيم الدائم في الآخرة.
فحينما يصول الباطل وتظهر دولته يبعث الله عز وجل الأنبياء والرسل ليتولوا جهاد الظالمين بأنفسهم ودمائهم، ويحجبوا الناس عن الإفتتان بالطواغيت الذين لا يرضون هذه الحال , وهم في أعلى مراتب تجبرهم وطغيانهم، الأمر الذي يستلزم التكرار في التبليغ والإنذار موضوعاً وحكماً، والتعدد في زمانه ومكانه.
إن إحتجاج وجدال وجهاد الأنبياء مع الطواغيت مدرسة كلامية وعقائدية يجب أن تؤلف بخصوصها المجلدات، وتقتبس منها الدروس، وتستنبط منها المسائل، وفي إحتجاج إبراهيم ورد في التنزيل[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ]( ).
وفيه شاهد بأن كل نبي لا يدعو إلا إلى الله عز وجل، وأنه يسخر نفسه وماله وأهله في سبيله تعالى، ويواجه الكفار والظالمين، ويقيم عليهم الحجة، ولكن هؤلاء الظالمين وأتباعهم يحرفون التأريخ، وينسبون إلى الأنبياء ما هم منزهون عنه جملة وتفصيلاً.
وهل هناك قانون وهو لا يبعث الله النبي إلا لطاغوت، ولابد من وجود طواغيت في زمان بعثة كل نبي.
الجواب لا، ليس من ملازمة في المقام، والله عز وجل واسع كريم.
ومن فلسفة في النبوة أن بعثة النبي حرب على الطواغيت الذين إنقضى زمانهم والذين قد يكونون في زمانه، والذين يأتون من بعده، لبيان موضوعية النبوة في حياة الناس، وحاجتهم إليها في صلاحهم وهدايتهم ونبذهم للظلم والكفر والجحود .
روى الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليه) وقال الطبرسي : هذا فيه نظر لأن من شرط حسن إنكار المنكر أن لا يكون فيه مفسدة و متى أدى إلى القتل فقد انتفى عنه هذا الشرط فيكون قبيحا( ).
ولكن على فرض ثبوت سند الحديث فلا قبح في عمله، والحديث في معناه أعم من حدوث القتل إنما يكون الراجح بأنه يُقتل على كلمة الحق، والله واسع كريم هو الذي يمحو البلاء، فلا يدل الحديث على الملازمة بين كلمة الحق والقتل وإنتفاء الملازمة من وجوه:
الأول: قد تكون كلمة الحق مناسبة لتوبة السلطان الجائر، وإمتلاء نفسه بالخشية من الله، وحب العدل والصلاح.
الثاني: حسن مشورة الملأ والوزراء.
الثالث: إنشغال السلطان عن صاحب كلمة الحق.
الرابع: ثورة الناس على السلطان الجائر المتمادي في ظلمه.
الخامس: حصول آية وموعظة من عند الله عز وجل.
السادسة: إبتدأت آية السياق بالنفي، وأن النبي لايأمر بعبادة الملائكة والأنبياء، وأختتمت بإثبات وتوكيد يدل على هذا النفي، إذ أخبرت الآية عن لزوم كون أهل الكتاب على الإسلام والتسليم بوجوب عبادة الله عز وجل وبلوغ مرتبة التسليم التي لا يتم الإرتقاء لها إلا بفضل الله ببعثة الأنبياء وجهادهم في سبيل الله، وثباتهم في منازل الإيمان، وإذ أفتتن الناس بالدنيا وزينتها، فقد بقي المسلمون يتحلون بخصال حميدة هي:
الأولى: التسليم والإقرار بوجوب عبادة الله عز وجل.
الثانية: إتيان مصاديق العبادة البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة، والبدنية المالية كالحج.
الثالثة: الإمتثال للأوامر الإلهية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتجتمع الخصال الثلاثة أعلاه بقوله تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الرابعة: التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي، وعدم الجحود بنبوة واحد منهم.
فان قلت:لم يتضمن القرآن إلا أسماء عدد قليل منهم، وكذا السنة النبوية، فكيف يؤمن ويصدق المسلمون بالأنبياء جميعاً وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والجواب من وجوه:
الأول: إن هذا الإخبار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عددهم يدل بالدلالة التضمنية على وجوب التصديق بهم.
الثاني: إتحاد سنخية عمل الأنبياء وأنهم مبعوثون من الله بالبشارة والإنذار والدعوة إلى عبادة الله.
الثالث: مجيء القرآن بالأمر بالإيمان بالأنبياء جميعاً، قال تعالى[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الخامسة: إستمرار قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حرز ذاتي وواقية من الضلالة ودعوة لأهل الكتاب لتعاهد التسليم بوجوب عبادة الله، والتي لا تصح إلا بالإيمان بالأنبياء جميعاً، وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أن الإسلام هو الشريعة الناسخة للشرائع السابقة، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
السادسة: تلاوة المسلمين لآية السياق والآيات التي تؤكد دعوة المسلمين لعبادة الله، وتحث الناس على العودة والرجوع إلى الإسلام، والتصديق بالنبوة لأنها الواسطة بين الله والعباد، والطريق المبارك الذي يهدي الناس لعبادة الله، ويمنع من الكفر والضلالة.
والثناء على المسلمين ونعتهم بأنهم(خير أمة) وأنهم يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشارة ثبوت عصمة الأنبياء وتوارث أجيال المسلمين لحقائق هي:
الأول: يدعو الأنبياء لعبادة الله.
الثاني: كل واحد منهم يأتي بما جاء به الذي قبله.
الثالث: يقر كل نبي بعبوديته وعبودية الأنبياء الآخرين لله عز وجل.
وهذا الإقرار من أهم وظائف النبي التي تتوارثها(خير أمة) إلى جانب قيامها بفضح عداوة الكفار للأنبياء، وتحذير الناس من هذه العداوة، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ]( )، مما يدل على أن حياة الأنبياء جهاد وصراع مع الكفار ومنهم إبليس ومردة الجن الذين يغوون الكفار بإيذاء النبي، وإظهار عدم القبول بما جاء به.
وقوله تعالى(جعلنا) ونسبة جعل العداوة لله عز وجل لبيان أن كفار الإنس والجن لا يستطيعون فعل شي لا يرضى به الله عز وجل، وأن إبتلاء الأنبياء بعداوة الكفار وشياطين الجن إنما هي حجة للأنبياء، وسبب لقهر الكفار وبيان أنهم مع إجتماعهم على عداوة النبي فان الله عز وجل يظهره عليهم.
وقد تفضل الله عز وجل ونصر النبي محمداً على أعدائه، وجعل(خير أمة) تتصدى للكفار ومن يغويهم من الجن إلى يوم القيامة.
إن إستدامة وجود(خير أمة) بين الناس شاهد على عجز إبليس وجنوده من الإنس والجن على محاربة الإيمان، ومنع إنتشار الإسلام، ويأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسلمين ليكون حرباً يومية متصلة على الكفار.
ومن إعجاز القرآن أن آياته مدد للمسلمين في باب الأمر والنهي، وتعيين موضوعاته وسننه وأحكامه، قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( )، في بيان عداوتهم للأنبياء مجتمعين ومتفرقين، وتحتمل عداوتهم لأتباع الأنبياء قوة وضعفاً وجوهاً:
الأول: إنها أشد وأكثر من عداوتهم الأنبياء.
الثاني: أقل حدة وشدة من عداوتهم للأنبياء.
الثالث: تكون العداوة في المقام من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة بالنسبة للأنبياء وأتباعهم.
والجواب ليس من قانون ثابت في المقام، لتكون آيات القرآن تحذيراً وإنذاراً للمسلمين، وبياناً لضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
وجاءت آية السياق للإخبار بأن عداوة شياطين الإنس والجن للأنبياء لم تنقطع عند إنتقال النبي إلى الرفيق الأعلى، ومجئ نبي آخر بشريعة ناسخة بل ينسبون للنبي السابق الدعوة لعبادة الملائكة والأنبياء، وإستمرار العداوة هذا من الإيذاء الذي يأتي للأنبياء.
فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين(خير أمة) تتحمل مسؤوليات تبرئة الأنبياء من هذا الإفتراء، وتزكية عملهم على نحو الإطلاق، وتوكيد عصمتهم، وهو من عمومات ما ورد في آية البحث[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ].
ويروم الكفار من إستمرار عداوتهم للنبي السابق إيذاء ومحاربة النبي اللاحق، فرميهم الأنبياء بالبهتان حرب وعداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل، لذا لم يسكت القرآن عن هذه الفرية، فبيّن زيفها، وأنها كذب، وفضح أهلها، وفيه أمور:
الأول: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصبر والتحمل لما يلقاه من قريش والكفار مطلقاً، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم(ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
الثاني: حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على إظهار إخلاص الأنبياء في عبوديتهم لله، وجهادهم في سبيله.
وقد تفضل الله عز وجل بقصص الأنبياء في القرآن لتكون حجة وموضوعاً للإحتجاج والبرهان، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالث: إنه مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، وعون لهم في الإحتراز من عداوة الكفار في باب العقيدة والكلام.
الرابع: دعوة الناس إلى عدم الإصغاء لأقطاب الكفر في إفترائهم على الأنبياء.
صلة الآية[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( )،بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: يتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى أهل الكتاب، أما آية البحث فالمخاطبون فيها المسلمون مع ذكر أهل الكتاب، وبيان ما ينفعهم وهو إختيار الإيمان والتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت الآية أعلاه في سياق آيات تتضمن وجوهاً:
الأول: لغة الإحتجاج والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ التشابه والإتحاد بين معالم نبوته ونبوة الأنبياء السابقين.
الثاني: بيان ما يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فريق من أهل الكتاب.
الثالث: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: التحدي بالقرآن ونزوله كحجة ناطقة، وشاهد على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: التذكير بمواثيق النبوة، وتسـليم وإقرار النـاس بها وفيه توكيد لأهليـة المسلمين لمنزلة(خير أمة) لإمتثالهم لأمـر الله عز وجل الوارد في الآية أعلاه[لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الثانية: من القوانين التي تحكم الحياة في الأرض وجود أمة تمتثل لأمر الله في كل زمان مع تعدد الأوامر الإلهية والخطابات الموجهة للناس، فهناك أمة تعمل بكل أمر منها، وفاز المسلمون في العمل بهذه الأوامر مجتمعة ومتفرقة، فنالوا رتبة(خير أمة) من بين عموم الناس، فإن قلت من الأوامر ما توجه للأمم السابقة للإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والجواب من وجوه:
الأول: جاء القرآن جامعاً للأحكام الشرعية ودستوراً للحياة.
الثاني: تعاقب الشرائع وفق قانون النسخ، فالشريعة اللاحقة تنسخ السابقة.
الثالث: جاءت أحكام الإسلام بالتكامل في التكاليف، والتداخل والتناسق بينها بما يجعل المسلم منقطعاً إلى الله من غير أن يتعارض مع سعيه في الحياة الدنيا ومكاسبها، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
لقد فرض الله عز وجل الصلاة على الأنبياء السابقين وورد في عيسى عليه السلام في التنزيل[وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( )، وكذا بالنسبة للحج والصيام كما في قوله تعالى في خطاب للمسلمين والمسلمات[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
لقد تضمنت آية السياق أخذ الميثاق على الأنبياء، ولا بد من حفظه لهذا الميثاق والشهادة عليه، فكانت(خير أمة) هي الأمة التي تتولى التبليغ بأحكام الميثاق، وتتوارث الشهادة عليها والعمل بمضامينها.
ومن خصائص (خير أمة) عدم الإجتماع على خطأ (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجتمع أمتي على الضلالة)( ).
ليكون إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية شاملاً للمواثيق والتكاليف العبادية كالصلاة والصوم والحج، وإذا كان المسلمون يؤدون التكاليف في كل يوم، ولا تمر دقيقة على أهل الأرض إلا وهناك نفر من المسلمين يؤدون الصلاة وغيره من التكاليف، فهل يكون إمتثالهم وإقرارهم بالمواثيق مرة واحدة في العمر أم على نحو التكرار.
الجواب هو الثاني إذ يتلو المسلمون آيات القرآن التي تتضمن الميثاق والإقرار بالنبوة والتنزيل قال تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ……..]( ).
الثالثة: هل الميثاق بلزوم عبادة الله والإقرار بربوبيته المطلقة حاجة لأهل الأرض، أم إنه أمر مستحب ومندوب.
الجواب هو الأول، فلا يحق للإنسان الإعراض عنه أو التفريط بمضامينه القدسية، ولا بد من البيان والتبليغ لقبح العقاب بلا بيان، وأهل الأرض في تناسل وتوارث، ومن يكون صبياً غير مكلف يصل البلوغ ويتوجه له الخطاب التكليفي، ثم لا يلبث أن يكبر ويغادر سطح الأرض إلى باطنها، ليأتي إبنه وحفيده ويحتاج إلى البيان والتكليف، وقد يتخلف أبوه عن تبليغه لقصور أو تقصير أو جحود وضلالة، أو لعدم وصول التبليغ بالميثاق والتكليف إليه، وإن بلغّه فقد لا يكون تبليغه كافياً في إصلاحه وقيام الحجة عليه.
فتفضل الله عز وجل بأمور:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً.
الثاني: نزول القرآن من عند الله وفيه مواثيق الأنبياء ومضامينها القدسية، ولزوم التصديق بها.
الثالث: جعل المسلمين(خير أمة) ليكون من وظائفها حفظ مواثيق الأنبياء، وإعلان الإقرار بها والشهادة عليها، وعدم الخشية من الكفار والظالمين في الإقامة عليها والعمل بمضامينها القدسية.
الرابع: خروج المسلمين للناس بلواء الميثاق، والدعوة إلى الإقرار به، لأن هذا الإقرار من مقدمات الإيمان والهداية، ومصاديق تكامل مبادئ وأحكام الدين الإسلامي.
ومن فضل الله عز وجل على الأنبياء وأممهم أن أخرج الله المسلمين للناس للإقرار بالميثاق.
ولكن ليس فيه فضل(لخير أمة) على الأنبياء، لأنها تابعة لهم، وهم أصحاب المنزلة الرفيعة التي نالوها بالوحي والنبوة ولا يرقى إليها أحد.
نعم إنه من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين وبيان كيف أن الله عز وجل جعل أمته تحفظ مواثيق الأنبياء على نحو الوجوب واللزوم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، والآية من مصاديق الرحمة في المقام , ولأسباب حفظ مواثيق الأنبياء، وبعث الناس لتصديقها والعمل بمضامينها.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض ويقتل بغير الحق جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل حفظ(خير أمة) لمواثيق الأنبياء وخروجهم للناس بها، وفيه أمور:
الأول: إنه سبيل للصلاح، ويحتمل الصلاح في المقام وجوهاً:
الأول: إنه خاص بالمسلمين والمسلمات.
الثاني: يتعلق الصلاح بحفظ مواثيق الأنبياء بأهل الكتاب، وزجرهم عن الغلو بهم ونسبة بنوة بعض الأنبياء إلى الله.
الثالث: المراد إقامة الحجة على الكفار، ودعوتهم للإقرار بالنبوة، وجعلهم ينبذون مفاهيم الشرك.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الصلاح، والغايات الجليلة التي تترشح عن حفظ المسلمين لمواثيق الأنبياء.
الثاني: إنه حرب على الفساد.
الثالث: فيه بيان لقبح القتل بغير حق ولزوم القصاص أو الدية.
إن التقيد بالمواثيق الإلهية، والإنقطاع إلى ذكر الله وعبادته عصمة من الفساد، وتنزه من القتل وسفك الدماء , وتلك آية في إكرام المسلمين، وأنهم أمة يحتج الله عز وجل بهم وبحسن سيرتهم وسـمتهم على الملائكة، ليكون فعلهم عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها إلى يوم القيامة في علم الله عز وجل، وفيه رضا له سبحانه ولملائكته وأنبيائه.
الرابعة: جاء القرآن بذكر أخذ الله عز وجل الميثاق من:
الأول: الأنبياء والرسل كما في آية السياق بلحاظ النسبة بين النبي والرسول وهي العموم والخصوص المطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس.
الثاني: أهل الكتاب مع تقييد الميثاق بلزوم بيانه للناس والإخبار عن البشارات الواردة في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة قال تعالى[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث: بنو إسرائيل، ومن إعجاز القرآن تكرار موضوع هذا الميثاق فيه، للدلالة على موضوعيته وحجته ولزوم تصديقهم بالأنبياء من بعد موسى عليه السلام , قال تعالى[وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا]( ).
والنقباء هم الشهداء والأئمة والقادة والرؤساء، ليكون هناك نقيب لكل سبط من بني إسرائيل، والنقيب كالكفيل والضمين من النقب وهو الثقب الواسع، ومنه النقابة على القوم.
ومن الآيات أن تعيين النقباء بإختيار من الله عز وجل وليس من موسى عليه السلام وبخصوص(خير أمة) مسائل:
الأولى: لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين فجعلهم الأئمة والنقباء للناس جميعاً بإختيار وتفضيل من الله عز وجل.
الثانية: ليس من حصر لأعداد وأفراد(خير أمة) الذين تولوا وظائف النقابة والكفالة بين الناس، وتتجلى كفالتهم بالدعوة إلى الميثاق، والإخلاص في عبادة الله عز وجل.
الثالثة: جاء إختيار المسلمين كأمة واحدة تتصف بالصلاح، وليس كأفراد، وفي الجماعة قوة إضافية عليها بالذات، وعلى أفرادها على نحو الإنضمام والإستقلال.
الرابعة: لم يخرج المسلمون إلى أمة مخصوصة كبني إسرائيل، وإنما خرجوا للناس جميعاً بالدعوة إلى الله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى(أخرجت للناس).
الخامسة: إستدامة خروج المسلمين للناس إلى يوم القيامة وبذات السنخية الإيمانية، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ومن عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )، فكل ساعة ساعات وأيام من خروج المسلمين نعمة عظيمة، وباب للهداية والرشاد.
وجاءت المواثيق التي أخذها الله على بني إسرائيل متعددة في موضوعاتها، وأكثرها في بيان تخلفهم عن الميثاق والقيام بنقضه وفيه حث للمسلمين على تعاهد الميثاق، والأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها من الميثاق.
صلة(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: التذكير بالميثاق من المعروف الذي يأمر به المسلمون الناس، فلا ينحصر الأمر بصيغة(إفعل) بل يتضمن التذكير ومصاديق الموعظة والهداية للإيمان والأوامر الإلهية للأنبياء بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الميثاق ذاته خير محض ومعروف لما فيه من صيغ الإيمان والدعوة إليه.
ولما خلق الله عز وجل آدم وأهبطه إلى الأرض بصفة الخليفة لقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، فإنه سبحانه لم يهبطه إلا بالميثاق والعهد، الذي يدل على العلم وإنتفاء الجهالة.
وحينما إنتهت أيام آدم في الدنيا وحلّ أجله لم يغادر الميثاق الأرض بل بقى مصاحباً لذريته بماهيته مع تجدد وكثرة مصاديقه ومضامينه بما فيه من البيان وتجلي معاني الإيمان، والزجر عن المعاصي والذنوب والفواحش.
وتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يتولون الوظائف التالية:
الأولى: العمل بالميثاق.
الثانية: الأمر بالميثاق.
الثالثة: حملة لواء التذكير به.
وهل نال المسلمون صفة(خير أمة) بالعمل بالميثاق وحده، أم بإضافة الأمر والتذكير به.
الجواب هو الثاني، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
وفيه أمور:
الأول: إنه آية وبيان لتخلف الأمم الأخرى عن بلوغ جهاد المسلمين وسعيهم في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: إنه حجة في نيل المسلمين مرتبة(خير أمة) من بين أمم الموحدين التي تعاقبت على الأرض، وأتباع الأنبياء والرسل.
الثالث: إنه من عمومات قوله تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابع: إنه شاهد على أن تلك الحجة ظاهرة للعيان، تدرك بالعقل والحواس، ومتعددة الوجوه والمصاديق بحيث يتعذر على الناس الجدال والإحتجاج بضدها وما يخالفها، لذا وصفها الله عز وجل بالحجة البالغة.
ومنها في المقام التسليم بأن المسلمين متقيدون بميثاق الأنبياء ويدعون إليه، ولا يتركون منازله وإن عاداهم وقاتلهم الناس.
الثانية: لقد جعل الله عز وجل الميثاق من أوتاد الحياة الدنيا، ونوراً ينفذ إلى شغاف القلوب، يتضمن حقيقة وهي أن طاعة الله واجبة وأنها لم تكن عن مبادرة وإختيار محض من الإنسان، بل سبق منه الوعد والعهد إلى الله بالتقيد بأحكام الطاعة والعبادة، وإجتناب الجحود والمعصية.
وتلك آية من فلسفة الخلافة في الأرض فلا يتولى أحد منصب الخلافة من غير بيان وميثاق وعهد من الذي ولاه، لأن الميثاق مانع من الغرور والغي وأسباب الإعراض عن الخلافة خصوصاً وأنها أمانة تتعلق بأحوال الغير، لأن موضوع الخلافة أعم من أن ينحصر بذات الخليفة فهناك موضوع ومسؤوليات ووظائف للخليفة، قال تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
ليكون قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجوه:
الأول: تعاهد وحفظ الأمانة.
الثاني: توكيد العمل بالمواثيق.
الثالث: المنع من الظلم والجهالة بتركها والإعراض عنها.
ليكون من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس إقالة عثرتهم، ودعوتهم بالحجة والبينة للرجوع عن الظلم والجهالة، فالله سبحانه لم يترك الإنسان يتمادى في الغي والظلم، بل تفضل وبعث له الأنبياء وأنزل الكتب السماوية، وجعل الأنبياء أسوة حسنة في حفظ الأمانة والميثاق.
ثم أخرج المسلمين أمة ليس عندها عصمة الأنبياء، ولا الوحي والتحديث الملكوتي، ولكنها أخرجت للناس بمواثيق الإسلام، والأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: تبين آية السياق ماهية الميثاق وأنه ليس عهداً وحده، بل هو مصحوب بكتاب منزل من عند الله مع وحي وحكمة تأتي بهما الملائكة للنبي لأمور:
الأول: إصلاح النبي للخلافة في الأرض، وقيامه بالتبليغ، وبيان المعجزات التي تدل على صدق نبوته.
الثاني: جذب الناس للإسلام، وجعلهم يتبعون النبي، ويعملون بسنن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليه، وعلى أصحابه وأتباعه بواسطته.
فإن قلت لماذا يؤخذ الميثاق على الذي يتبع النبي دون غيره ممن يجحد بالنبوة .
والجواب لقد أخذ الله عز وجل الميثاق على الناس جميعاً وفي عالم الذر، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى]( )، فيأتي ميثاق نبي الزمان ودعوة أتباعه للعمل بمضمونه رحمة من عند الله بهم وسبيلاً لنجاتهم.
ترى لماذا يحرم غير أتباع النبي، من هذه الرحمة التي تنفعهم في الدنيا والآخرة، والجواب إنه لم يحرم من هذه الرحمة لأنها فرع إتباع النبي وإتباعه مرآة للتصديق بالمعجزات التي جاء بها، وهي عامة للناس، ولكن الناس على شعبتين منهم من صدّق بها لما فيها من التحدي والخرق للعادة والقدرات البشرية متفرقة ومجتمعة.
ومع أن الكافر إمتنع بإختياره عن التصديق بالمعجزات ومواثيق النبوة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار فإن الله عز وجل تفضل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لجذب الناس لمواثيق الأنبياء، وجعل المســلمين يدعون لها وينهون عن تركهـــا والإعـراض عنـها إلى يــوم القيامة.
لتكــون هذه الدعوة والنهي من رحمة الله عز وجل بالناس، لذا جاءت آية البحث بصيغة المضارع التي تدل على الإستدامة والتجدد وعدم الإنقطاع(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
فكل جيل من المسلمين تطل عليه هذه الآية صباح كل يوم، وعند التلاوة، وعند حدوث أسبابها وموضوعاتها , إذ يستحضرها في الوجود الذهني، فتتجلى بركاتها بالواقع الخارجي ودعوة المسلمين الناس إلى تعاهد الميثاق، والتقيد بهدي الخلافة، وجعل الحياة الدنيا حدائق ناضرة تمتلأ بثمار التقوى وحب الله، والسعي في مسالك طاعته ورسوله.
الثالث: توارث سنن التوحيد، وأحكام الميثاق، فمن خصائص الخلافة في الأرض عدم مغادرة سنن الميثاق وما فيه من العهود، بل هي باقية بقاء الإنسان، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ] ( ).
الرابعة: يمكن تقسيم الناس بخصوص ميثاق النبوة والإقرار به تقسيماً إستقرائياً إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أمة تؤمن به وتعمل بمضامينه.
الثاني: فريق يجحد بالميثاق ومضامينه ودلالاته.
الثالث: فريق لا يلتفت لأمر الميثاق، وموضوعيته في الحياة الدنيا.
فتفضل الله عز وجل وأقام الحجة على الناس بالقرآن وما فيه من التذكير بالإقرار النوعي العام من قبل الناس بالميثاق ولزوم التصديق بالنبوة، والعمل بما جاء به الأنبياء لأنهم لم يبعثوا لأنفسهم، بل بعثوا لهداية الناس ودعوتهم للإيمان قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
وتتجلى بشارات وإنذارات النبي في مواضيع وأحكام العبادات والمعاملات، والتذكير بالميثاق الذي هو مدد إلهي له، من وجوه:
الأول: مواثيق الأنبياء السابقين، وما فيها من الدعوة إلى عبادة الله، وتعظيم شعائره.
الثاني: مجيء الأنبياء بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما يبشر به وتذكير القرآن بها فقد وصفت الآية أعلاه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بشير وجاء الأنبياء السابقون بالبشارة به ليتلقى الناس منه البشارة من وجوه:
الأول: بزوغ شمس الإيمان على الأرض.
الثاني: إستمرار الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة.
الثالث: صيرورة الذين يؤمنون به وينصرونه خير أمة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ]( ).
الرابع: الفوز بالجنة بهذا الإيمان والنصرة لتكون الحياة الدنيا(دار البشارة) إذ تتعاقب فيها البشارات السماوية تعاقب الأنبياء.
ومن معاني الرحمة في المقام كثرة عدد الأنبياء إذ ورد في الحديث أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، مع تعدد البشارات التي جاء بها كل نبي.
الثالث: البشارات التي تأتي في السنة النبوية والتي هي من مصاديق الوحي، وعمومات قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] لتكون تلك البشارات مما جاء به من فضل الله، وتكون الإنذارات في المواضيع التي يجب أن يحذروا منها ويجتنبوها.
الرابع: خروج المسلمين للناس بلواء البشارة الدنيوية والآخروية، إذ أن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته بشارة العز والرزق الكريم والظفر في الدنيا، وفيه بشارة المغفرة واللبث الدائم في النعيم.
لذا تفضل الله عز وجل وجعل خروج المسلمين للناس مصاحباً لأيام الحياة الدنيا، فمع إطلالة شمس كل يوم جديد تغزو البشارة القلوب المنكسرة لتكون على وجوه:
الأول: بعث الأمل في نفوس الناس.
الثاني: دعوة الناس للتقيد بمواثيق الأنبياء.
الثالث: الجذب للتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الخامسة: أخبرت آية السياق عن شهادة الله عز وجل على الميثاق وإقرار الناس بلزوم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت(خير أمة) المصداق العملي لهذه الشهادة، وهم الأمة التي تخشى شهادة الله وتتعاهدها وترجو من الله عز وجل الشهادة لها على تصديقها بالميثاق وعملها بمضامينها، قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
ولا يضر المسلمين جحود الناس بالميثاق إن تفضل الله بأخذ الشهادة من الناس على الميثاق، والإخبار عن شهادته عليه دليل على موضوعية ميثاق النبوة، وحاجة الناس للتقيد بأحكامه وسننه، ومجاهدة النفس الشهوية والغضبية.
ومن القواعد الأصولية قبح التكليف بما لا يطاق، وتتجلى معاني اليسر والإمكان في التكليف بالميثاق بأمور:
الأول: أخذ الله الميثاق والعهد من الأنبياء.
الثـاني: قيــام الأنبياء ببذل الوســع والجهــاد في ســـبيل الله عز وجل.
الثالث: تفضل الله عز وجل بمقدمات الميثاق، وبيان أحكامه التي هي حكمة وعلم ومصاديق من تقوى الله.
الرابع: وجود أتباع لكل نبي من الأنبياء يتعاهدون ميثاقه، ويقرون بالبشارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قلت أخبر القرآن الكريم عن قتل الأنبياء من قبل قومهم، كما في قوله تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
والجواب تم التعدي والقتل من قبل فريق منهم، مع وجود الأتباع والأنصار للنبي في حياته وبعد قتله ظلماً، وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على الأمم الأخرى، لكثرة أصحاب وأنصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذبهم ودفاعهم عنه، إلى جانب حصانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل بواقية من الله، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
وفي الآية أعلاه مسألتان:
الأولى: هل تنحصر العصمة من الناس بالسلامة من القتل.
الثانية: هل تختص العصمة بأيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بالنسبة للمسألة الأولى فإن عصمة النبي أعم من موضوع القتل فتشمل الجرح والتشويه.
ومن العصمة عدم ترتب الضرر على إيذاء الكفار للنبي، بل يكون هذا الأذى على وجوه:
الأول: فيه حجة على الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاء بما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة.
الثاني: إنه سبب في تعجيل عذاب الكفار.
الثالث: إنه مناسبة لدخول الناس الإسلام.
الرابع: بيان صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما تحمله من الأذى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
الخامس: فيه وجوه:
1- إنه درس لخير أمة بالصبر على الأذى في جنب الله.
2- فيه دعوة لهم للجهاد في سبيل الله.
3- إنه إعلان الميثاق والتمسك بأحكامه وسننه.
السادس: الأذى الذي يأتي من الكفار سبب للإحتراز منهم، خصوصاً وأن كيد الكفار إزداد بعد إنتصارات الإسلام وظهور دولته، ودخول الناس فيه جماعات وقبائل.
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فإن عصمة النبي لا تنحصر بأيام حياته بل هي شاملة لأيام الحياة الدنيا، من وجوه:
الأول: تقوم(خير أمة) بتعاهد الميثاق، وبشارات الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: حفظ السنة النبوية من العصمة.
الثالث: جاءت آيات القرآن بذم الكفار والمنافقين الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون حجة عليهم، وزاجراً للناس عن الإقتداء بهم في سنتهم القبيحة، علماً بأن الأخبار جاءت بتوبة وصلاح فريق منهم كما تدل عليه أسباب نزول آيات عديدة في باب التوبة، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما هبط إبليس قال و عزتك و جلالتك و عظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده , فقال الله سبحانه و عزتي و عظمتي و جلالي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها) ( ).
الرابع: نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) من الشواهد والأسباب لعصمة النبي من الناس لقيام هذه الأمة بإتباعه وتصديقه في نبوته، ونصرته.
الخامس: خروج المسلمين دعوة متجددة للناس جميعاً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزيهه وبيان عصمته، والشواهد على نزول الوحي عليه.
السادسة: لقد بينت آية البحث أن المسلمين أخرجوا للناس ويقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحتمل وجوهاً:
الأول: يقوم به المسلمون إبتداء وإقتباس من التجربة والوقائع.
الثاني: يتخذ المسلمون القرآن والسنة إماماً ومنهاجاً في خروجهم، وتعيين مصاديق المعروف والأمر بها، وضبط أفراد المنكر والنهي عنها.
الثالث: يستحضر المسلمون مواثيق الأنبياء، وما آتاهم الله من الكتاب والحكمة.
والصحيح هو الثاني والثالث، لوجوه:
الأول: إنه رحمة بالمسلمين والناس لما فيهما من أسباب الهداية.
الثاني: إنه مناسبة للوحدة بين المسلمين، وعدم الفرقة والخلاف في باب الدعوة إلى الله، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الثالث: إنه وسيلة سماوية لبلوغ المسلمين الغايات الحميدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للحجج والبراهين الساطعة التي تكون عند المسلمين، والتي يخاطبون بها عقول وحواس الناس في لزوم عبادة الله عز وجل.
الرابع: في الرجوع للكتاب والسنة والميثاق مانع من الإجتهاد في مقابل النص.
الخامس: تنمية ملكة الفقاهة عند المسلمين، والحرص على تعاهد مواثيق الأنبياء، وتجديد الإيمان والتصديق بهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، قال تعالى[قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل المسلمين آخر الأمم، وأكثرها عدداً , وأطولها بقاء، وجعل عندها ما لم يكن عند غيرها من الأمم ليكون خروجها مباركاً، وخيراً محضاً، وموضوعاً للصلاح ودرءً للفساد الذي خشي منه الملائكة يوم خلق الله عز وجل آدم عليه السلام كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( ).
ولم تبلغ أمة معشار جهاد وإخلاص وتضحية المسلمين كيلا يقولوا لو كنا بدل المسلمين لفعلنا وفعلنا.
فقد أراد الله عز وجل حفظ مواثيق وعهود الأنبياء وأممهم ليكون خروج المسلمين إتماماً وتثبيتاً لصرح التوحيد، ويتجلى هذا الحفظ بالتداخل الموضوعي في آية السياق، وإنتقال الآية الكريمة من توكيد مواثيق الأنبياء إلى الإخبار عن مجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق بالتوراة والإنجيل، وما فيهما من المواثيق وأخذ الميثاق على وجوب نصرته.
السابعة: شهدت آية البحث للمسلمين بأنهم(يؤمنون بالله) وفيه بيان لفضل الله عز وجل على المسلمين بأن يأتيهم الثناء من الله عز وجل مقترناً بالأمر بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الثناء على وجوه:
الأول: إنه نوع ثواب عاجل.
الثاني: فيه عصمة من الفسوق والمعاصي.
الثالث: إنه بيان لوارثة المسلمين للأنبياء.
الرابع: فيه دلالة على تعاهد المسلمين لمواثيق الأنبياء .
وهذا التعاهد تصديق بالأنبياء ودعوة للإيمان بنبوتهم، وبيان لحقيقة وهي أن المواثيق التي أخذها الله على الأنبياء لن تغادر الأرض، وفيه خزي إضافي في الحياة الدنيا للذين كذّبوا الأنبياء في دعوتهم إلى الله، والذين ظلموهم وقتلوهم بغير الحق فهم لم يطفئوا نور النبوة، ولم يمنعوا من وجود أتباع لهؤلاء الأنبياء بعد مغادرتهم الدنيا وقتلهم بآلاف السنين .
وفي كل زمان ومكان هناك أمة من المسلمين تعلن الولاء والنصرة لهؤلاء الأنبياء، وتبين بالقول والعمل أنهم مبعوثون من الله، وأنهم على الحق والصراط المستقيم.
والإيمان بالله عز وجل هو أصل الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الأنبياء والناس، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ] ( ).
وهل ساعد ميثاق الأنبياء في إيمان المسلمين أم ليس له صلة إيمانهم، الجواب هو الأول، إذ أن الإيمان صرح وبناء أسسه الأنبياء، وجاهدوا من أجل بقائه في الأرض .
وكل نبي لم يغادر الأرض إلا ويترك من خلفه أمة وجماعة مؤمنة سواء كانت كبيرة أو قليلة تغرق في أنعم الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فكانت أمته (خير الأمم) .
وهل من مصاديق (أفعل) التفضيل في المقام الكثرة، الجواب نعم.
وفي الحديث عن النبي محمد الله صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً) ( ).
فإن قلت ظاهر الحال في هذا الزمان والأزمنة السابقة أن المسلمين ليسوا أكثر الأمم، والجواب من وجوه:
الأول: لا تؤخذ الكثرة بخصوص زمان دون آخر.
الثاني: المسلمون أكثر الأمم بلحاظ مجموع أفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة.
الثالث: في الآية بشارة إزدياد أعداد المسلمين، والشواهد عليه كثيرة ومتعددة، فترى نسبة النمو والزيادة في أعداد المسلمين أكثر من غيرهم في الجملة.
الرابع: أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أصحاب أي من الأنبياء وكان عدد المسلمين في حجة الوداع أربعين ألفاً، ولم يكون في الموسم مشرك.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة وأفعل التفضيل فيها.
وهل من نفع لكثرة العدد في المقام الجواب نعم الأول توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أمته أكثر الأمم، مع صدق الأنبياء الآخرين وإن كانت أممهم أقل، وورد في يونس عليه السلام قوله تعالى[وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ] ( )، ليجعل الله عز وجل المسلمين يحفظون نبوة وميثاق وقصة يونس، ويتعاهدون الإيمان الذي أراده يونس من قومه، ودعا عليهم بسبب جحودهم.
ولتتجلى معاني الرحمة ببعثة النبي الذي صدق الله عز وجل عنه الأذى والكيد ودعا لقومه بالتوبة والهداية، وجعل الله عز وجل أمته(خير أمة) وأخرجها للناس بمفاهيم التقوى.
الثامنة: بيان عظيم منزلة المسلمين في الأرض، وإمتثالهم لأمر الله، وقيامهم بوظائفهم الشرعية في التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز أن آية السياق ذكرت صفتين للرسول، ولزوم قيام الناس بأمرين أما الصفتان فهما:
الأولى: أن النبي محمداً رسول من عند الله، مما يدل على أنه صاحب شريعة مبتدأة.
الثانية: إنه مصدق لما مع أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، أما الأمران فهما:
الأول: الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثاني: نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول والفعل، ولما جاءت آيات القتال والدفاع عن الإسلام فإن النصرة مطلقة في حال السلم والحرب.
وهل إمتثل أهل الكتاب لأمر الله , الجواب نعم , وعلى نحو الموجبة الجزئية، وهناك أمة منهم دخلت الإسلام، وعملت بكتاب الله، وصارت من(خير أمة) أخرجت للناس.
فمن يخرج له المسلمون اليوم يكون خارجاً للناس غداً، ومع أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً الجواب جاءت آيات القرآن بخطاب الناس جميعاً، منها قوله تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( )، فقد توجه الخطاب في آية السياق لأهل الكتاب لوجوه:
الأول: إقامة الحجة على أهل الكتاب على نحو الخصوص.
الثاني: توكيد التحدي لأهل الكتاب وتذكيرهم بأن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندهم.
الثالث: مجيء الآية بالإخبار عن تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة والإنجيل.
الرابع: دعوة أهل الكتاب للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حث للناس على التصديق بنبوته من باب الأولوية القطعية بلحاظ أن أهل الكتاب أتباع الأنبياء.
الخامس: جاءت مضامين آية السياق بالإخبار عن مواثيق الأنبياء وموضوعية الكتاب والحكمة فيها، لتكون حجة على أهل الكتاب، ودعوة لهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام.
السادس: بيان فضل الله عز وجل على أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتصديقه بالتوراة والإنجيل، وما في هذا التصديق من الشهادة بسلامة إختيار إتباع الأنبياء ولزوم إقترانه بعد البعثة النبوية بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، وهو من عمومات قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
التاسعة: إن ذكر آية السياق لأهل الكتاب وأمرهم بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لخير أمة للدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومبادئ الإسلام وبلاد وثغور المسلمين، وأن يكون خروج المسلمين للناس نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه النصرة على وجوه:
الأول: توكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: بيان البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أبهى معاني النصرة والتأييد، وفيه حرب على التحريف.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على أهل الكتاب، وسلامة لهم من المشركين، ومن وظائف أهل الكتاب الشكر لله عز وجل على هذه النعمة، وإظهار الرضا والغبطة ببعثته.
الرابع: صدّ الناس عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و(خير أمة) , وبيان حقيقة وهي خسارة من يحاربه ويقاتله.
قال النبي محمد: ” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة)( ).
الخامس: لابد من ظهور دولة الإسلام، وإنتصار المسلمين، وإتساع دولتهم، فجاءت الدعوة القرآنية لأهل الكتاب رحمة بهم، ووسيلة سماوية لهدايتهم قبل غيرهم، وليقتدى بهم , قال تعالى[فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
السادس: ليس من فوز أعظم من الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، ولا ينحصر في الدنيا بل هو شامل للدنيا والآخرة لأنه مقدمة الخلود في الجنة، فخص الله عز وجل أهل الكتاب بهذه الآية لتصديقهم بالأنبياء السابقين.
فمن إعجاز القرآن أن الأمر الإلهي في الآية القرآنية بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وبشارة وإنذار.
وهو من إجتماع الضدين الذي لا يصح، الجواب لا، للتباين الجهتي بينهما، فالبشارة بالفوز في النشأتين بالإيمان، والإنذار من المعصية والجحود بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: بيان لزوم التصديق بالنبوة، وضرورة التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن فلسفة النبوة مصاحبة البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء، ولما بعثه الله عز وجل جاء بالتصديق بالأنبياء السابقين فضلاً وثواباً من الله عز وجل عليهم لحملهم لواء البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وظائف النبوة العظيمة.
التاسعة: الميثاق بين الله وأنبيائه ومضامينه القدسية، ودلالاته من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، لأن الله عز وجل أمرهم بأخذ المواثيق على أممهم لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته ولزوم نصرته، ليكون ميثاق الأنبياء بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم في موضوعه، وهو على وجوه:
الأول: أخذ المواثيق من الأنبياء للبشارة بنبوته، والإقرار بأن تمام الدين في أيامه.
الثاني: قيام الأنبياء بإخبار أتباعهم وأنصارهم بلزوم توارث البشارة به، والتصديق بنبوته، وهو من وظائف النبوة لتكون الحجة على الناس، وهذا الميثاق ليس بالأمر السهل، فأكثر الناس أو شطر منهم لا يصدقون بنبوة نبي زمانهم وما جاء به من المعجزات فكيف يؤمنون بالذي يبشر بنبوته لاحقاً.
وتتجلى هذه الوجوه مجتمعة في قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( )، فعيسى عليه السلام أعلن تصديقه بالتوراة، وأخبر عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلغة البشارة، وما تدل عليه من مصاديق الرحمة والفوز والظفر وأن نبوته خير محض لبني إسرائيل والناس.
وفي صدور البشارة على لسان عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على النسخ في الشرائع، وجاء عيسى لقومه بالمعجزات منها إحياء الموتى , ونفخه في الطين ليكون طيراً، وإبراء ذوي الأمراض المزمنة، قال تعالى[وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي]( ).
لتكون الآية أعلاه من سورة الصف من آيات الميثاق، وبيان وجوهه وأحكامه ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أن الذي يبشر به رسول من الرسل الخمسة أولي العزم، وتكون المعجزات الحسية الجلية التي جاء بها تعضيداً للبشارة وتوكيداً لوجوب تلقيها بالقبول، وإنتظار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة، فلا بد من توارث لهذه البشارة وتفضل الله عز وجل بإنزال الكتاب ليكون هو والمعجزات والأدلة العقلية والحسية من أسباب توارث هذه البشارة مما يدل على أمور:
الأول: موضوعية البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الرسالات السماوية.
الثاني: دعوة الناس للتفقه في الدين، ومعرفة حقيقة وهي أن الأنبياء يبشرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها جزء من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم.
وتجلت بعد نزول القرآن مصاديق جزئية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الميثاق , وهي أكثر من أن تحصى منها :
الأول: ظهور ديانة الإسلام والعمل بأحكامه.
الثاني: سلامة القرآن من التحريف.
الثالث: سرعة إنتشار الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
الرابع: قتال المسلمين المتواصل دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
فالذين كذّبوا عيسى وعرّضوه للصلب والقتل جاءهم الناصر لنبوته والطالب بثأره وثأر الأنبياء السابقين وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته وهو من مصاديق نيلهم لمرتبة(خير أمة).
ويتمثل هذا الثأر من جهات:
الأولى: حث الناس على التوبة ودخول الإسلام وإلا فإن الذين قتلوا الأنبياء إنقضت أيامهم، وإندرست آثارهم، ولم يكونوا موجودين أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن جاءت الآيات بذم ذراريهم الذين أصروا على ذات النهج من الجحود بالنبوة، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثانية: تصديق نبوة الأنبياء السابقين وإخبار الناس بأن الذين كذّبوهم وقتلوهم لم ينالوا إلا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
الثالثة: مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون مع زيادة غير محصورة في الكم والكيف، وهو من الحجج على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما قال الله عز وجل[لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] فإنه سبحانه لطيف بالعباد، جعل أسباب وبراهين لزوم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته ظاهرة للناس جميعاً.
الرابعة: وجود(خير أمة) في كل زمان تدعو إلى الله والإيمان ببعثة الأنبياء السابقين.
الثالث: إستدامة الحياة الدنيا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والفرائض التي جاء بها وتقيد المسلمين بها، وأحسنوا أداءها على الوجه الأكمل، وتوارثها أجيالهم من غير زيادة أو نقصان، ويدل عليه مفهوم قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابع: تفرع البشارات عن ذات البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ففي كل يوم بشارات النصر والظفر، وإرتقاء(خير أمة) في منازل الرفعة.
الخامس: حاجة أهل الأرض لحفظ بشارات الأنبياء بإعتبارها مدرسة كلامية وعقائدية تبين تعاقب مصاديق رحمة الله عز وجل على الناس، وتعدد أسباب جذبهم إلى منازل الإيمان.
الخامسة: من أسرار خلافة الإنسان في الأرض، إقامة الحجة من الله عز وجل عليه، ليكون على بصيرة من أمره، وتحتمل هذه الحجة وجوهاً:
الأول: تأتي الحجة إبتداء وسابقة للفعل.
الثاني: الحجة المستقلة الدائمة.
الثالث: ما يصاحب الفعل من الحجة والبرهان.
الرابع: أسباب الزجر عن السيئات والمعاصي.
الخامس: الحجة المتأخرة عن الفعل، وهي على قسمين:
الأول: ما فيه توكيد صحة الفعل، ليشكر العبد الله عز وجل، ويواظب على فعل الصالحات، ويطرد عن نفسه شبح الشك والتردد.
الثاني: ما فيه بيان قبح الفعل، ليكون تذكيراً بلزوم التوبة والإنابة، وسبباً للإنزجار عن تكراره، فمن اللطف الإلهي بالإنسان في الدنيا مجيء أسباب ومقدمات تكرار الفعل الحسن، وأسباب الإمتناع عن الفعل القبيح، لذا تفضل الله عز وجل بجعل المسلمين(خير أمة) وفيه مسائل:
الأولى: المسلمون أسوة في وجوب الإيمان وأداء العبادات.
الثانية: بعث الشوق في نفوس الناس لأداء الفرائض والإلتحاق بالمسلمين.
الثالثة: توكيد الحاجة للإيمان ومنافعه الدنيوية والأخروية قال تعالى[فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا]( ).
الرابعة: النفرة من المعاصي والسيئات.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الحجة) وكذا ذات الاسم بالنسبة للآخرة فتكون الحجة حاضرة ومصاحبة للإنسان تدعوه لطاعة الله، وتمنعه من المعاصي، ويرتكز الحساب في الآخرة على الحجة والبرهان، لذا جاءت آيات قرآنية تتضمن الإحتجاج من الله على الناس، ومن الملائكة أيضاً والإحتجاج والخصومة بين أهل النار، قال تعالى[لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ] ( ).
وهل خروج المسلمين للناس حجة , الجواب نعم من وجوه:
الأول: وجوب الإيمان بالله والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: وجود أمة مؤمنة تؤدي الفرائض والواجبات وهم المسلمون.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، ليكون حجة من جهات:
الأولى: الأمر بالمعروف.
الثانية: وجود طرف آمر بالمعروف.
الثالثة: ذات المعروف ولزوم أو إستحباب فعله.
الرابع: جهاد المسلمين في الزجر عن الجحود والمعاصي , قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
الخامس: إستدامة تذكير الناس بوظائفهم، وإقتران هذا التذكير بالحجة والبينة.
السادسة: كل من الكتاب والحكمة واسطة مباركة للإيمان بالله، ووسيلة سماوية لجذب الناس للإسلام، لما فيهما متفرقين ومجتمعين من الإعجاز والدلالات الباهرات على وجوب عبادة الله والتصديق بالأنبياء.
فإن قلت إن القدر المتيقن من كتاب التوراة مثلاً التصديق بنزوله, ونبوة موسى عليه السلام.
والجواب يقتضي التصديق بنزول التوراة التسليم بما فيها من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم الإيمان بها ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار، وكذا بالنسبة للتصديق بنبوة موسى عليه السلام لأنه بشّر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعا إلى إتباعه، إن الكتاب ومضامين الحكمة حجة على أهل الكتاب خاصة، والناس عامة، وفي قوله تعالى[لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ]، وبلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى: بيان فضل المسلمين على غيرهم من الأمم لتصديقهم بالكتاب وأخذهم الحكمة والإنتفاع منها وهو من الشواهد على كونهم(خير أمة) ومجيء الآية بصيغة الفعل الماضي(كنتم).
ففي علم الله عز وجل منذ الأزل أن المسلمين يصدّقون بالكتاب ويعملون بمعاني الحكمة، ويتجلى هذا التصديق والعمل بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: يأمر المسلمون الناس بما في الكتاب، وبمفاهيم الحكمة، وهو المراد من معنى المعروف في قوله تعالى(تأمرون بالمعروف) لأن العبادات والصالحات معروفة في الكتاب، ومعلومة في الحكمة , وهي شعبة من الأخلاق الحميدة، وسنة معروفة بالتوارث يخلفها كل جيل وطبقة ترثها لمن بعدها، ويتركها الأب وصية لبنيه.
وإذ يختلف أحياناً على التركة المالية، قال تعالى[وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا]( )، فإن تركة المعروف لا يُختلف فيها , ويهبها بعض الورثة لبعضهم الآخر بالأمر بها، والنهي عن ضدها.
الثالثة: تحيي(خير أمة) سنن الأنبياء الذين بعثهم الله مبشرين ومنذرين، وتتقيد بأحكام الشريعة وتأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي نذر الأنبياء أنفسهم له، وتحملوا شتى صنوف الأذى في طريقه.
صلة[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للشكر لله على نعمة الهداية إلى الإسلام، وإيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، وفيه وجوه:
الأول: توكيد نيلهم مرتبة(خير أمة) بإختيار الواجب، وإتباع الحق.
الثاني: فيه دعوة للناس للإقتداء بالمسلمين.
الثالث: قيام المسلمين مجتمعين ومتفرقين بأداء الفرائض، وتعاهد أحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تأخذ وتقتبس الأمم من المسلمين السنن الحميدة، ولا يأخذ المسلمون من غيرهم , (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلملا تُصَدِّقُوهُمْ وَلا تُكَذّبُوهُمْ،(وَقُولُوا آمَنَّا بالَّذِي أُنزلَ إلَيْنا وأُنزلَ إلَيْكُمْ) ( ).
الخامس: إرتقاء المسلمين إلى مراتب الرفعة بين الأمم وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الأمة التي تؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنصره هي (خير أمة).
الصغرى: المسلمون هم الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصروه.
النتيجة: المسلمون هم خير أمة.
الثانية: تضمنت آية السياق وآية البحث الحجج والبراهين التي تدعو الناس للإيمان وهي:
الأول: الميثاق الذي أخذه الله على الأنبياء.
الثاني: الكتاب والحكمة اللذان عند أهل الكتاب.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان علامة من علاماته وهي تصديقه للتوراة والإنجيل، وإن أعرض اليهود والنصارى عنه وعن معجزات نبوته.
الخامس: توكيد نزول التوراة والإنجيل من عند الله.
السادس: وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: لزوم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: أخذ الله العهد والميثاق على الناس، وقبولهم له، ليكون بين الأنبياء والناس في المقام عموم وخصوص مطلق، فالأنبياء أيضاً أخذ الله الميثاق منهم ولكنه أمرهم بدعوة الناس إلى تعاهد الميثاق، والشهادة عليهم.
وفيه آية في تفضيل المسلمين على الناس فمع أن الله عز وجل أخذ عليهم الميثاق مثل باقي الناس إلا أنهم يتصفون بأمور:
الأول: شهادتهم على الناس، قال تعالى[لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
الثاني: نيل المسلمين منزلة(خير أمة) مما يدل على تعاهدهم للميثاق، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة هي التي تتعاهد الميثاق.
الصغرى: المسلمون هم خير أمة.
النتيجة: المسلمون يتعاهدون الميثاق.
الثالث: خروج المسلمين للناس بالميثاق ووجوب التقيد بأحكامه.
الثالثة: ميثاق وعهد كل نبي نعمة من الله عز وجل عليه وعلى أمته، ولا تغادر تلك النعم الأرض بل تبقى لينهل منها الناس لأنهم فيهـا شــرع ســواء، ويتجلى بقاؤها بأمور:
الأول: نزول القرآن وتلاوة آياته.
الثاني: الحضور الدائـم لخير أمة.
الثالث: خروج المسلمين للناس بمواثيق الأنبياء.
الرابع: تبليغ المسلمين أوامر الله عز وجل لأهل الكتاب والناس بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
وفي إخبار آية البحث عن كون المسلمين (خير أمة) دعوة سماوية للناس من وجوه:
الأول: إتباع المسلمين في الإيمان بنبوة محمد.
الثاني: الإقتداء بالمسلمين في نصرته والذب عنه.
الثالث: الإمتثال لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، لذا تفضل الله عز وجل وقال[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
ومن اللطف الإلهي في ترغيب الناس بالإقتداء بالمسلمين في المقام مجيء الآية محل البحث بصيغة الفعل الماضي(كنتم) وموضوعية مواثيق وبشارات الأنبياء فيه، لكي لا يتردد الناس في دخول الإسلام، ولا يستمعوا لأهل الشك والريب والجدال بالباطل وتقييد المواثيق وحفظها بالكتاب والحكمة فيه وجوه:
الأول: المواثيق هي ذاتها الكتاب والحكمة.
الثاني: بينهما عموم وخصوص مطلق، فالكتاب والحكمة جزء من المواثيق.
الثالث: عكس الوجه الثاني أعلاه.
الرابع: التعدد والغيرية وأن المواثيق غير الكتاب والحكمة، على تقدير أن(ما) في (لما) موصولة، واللام للإبتداء، وبلحاظ أن الميثاق أخذه الله عز وجل على الأنبياء، أما الكتاب والحكمة فأنها هبة ونعمة الله عز وجل التي آتاها الأنبياء .
والصحيح هو الرابع، وفيه مسائل :
الأولى: هو من الشواهد على عظيم فضل الله عز وجل على الناس.
الثانية: إنه من أسباب جذب الناس للإيمان.
الثالثة: فيه دليل على تعدد الحجج والبراهين التي تتضمن الصلاح، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
وتبين آية السياق رحمة الله عز وجل بالأنبياء والمؤمنين ليتعاهدوا الميثاق فآتاهم الله الكتاب والحكمة وجعلهما تركة عقائدية في صدور الذين آمنوا، كما أنهما مقدمة لقبول الميثاق وإعطاء العهد لله عز وجل على الثبات على الإيمان ومواجهة الكفار ومفاهيم الضلالة بسلاح الإيمان والصبر، قال تعالى[وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا]( ).
الرابعة: إن وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول من الله شاهد على أنه مبعوث بالإيمان بالله والتصديق بالأنبياء السابقين لوحدة سنخية النبوة، قال تعالى[بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ] ( )، ويجب على أتباع الأنبياء السابقين الإقرار بنبوته ونصرته عند بعثته.
وقد أنعم الله عز وجل عليهم بالمسلمين الذين إستبقوا الناس بدخول الإسلام، سواء منهم من كان كتابياً ومن أتباع الأنبياء السابقين أو من لم يكن كتابياً، وهو من وجوه إرتقائهم إلى منزلة(خير أمة).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:” سُبّاق الأمم ثلاثة : لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب ، وصاحب ياس ، ومؤمن آل فرعون “)( )، وورد الحديث بالإسناد عن عبد الرَّحْمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّاق الأُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون وعلي أفضلهم) ( ).
ليفوز المسلمون بالسبق في الخيرات من بين الأمم، وينفردون بالجمع بين السبق في القضية الشخصية بعلي بن أبي طالب عليه السلام وسبقه في المقام من الكلي الطبيعي الذي هو عز وفخر لكل مسلم.
والقضية النوعية التي يشترك بالسبق فيها كل مسلم ومسلمة، فكل مسلم هو سابق للأمم في وجوب الإيمان بالله والتصديق بالأنبياء، فإن قلت هناك مسألتان:
الأولى: القدر المتيقن من السبق هو أيام الدعوة الإسلامية الأولى بدليل الحديث أعلاه، وهل يشمل السبق الذين يتلقون الإسلام وراثة.
الثانية: من صار مسلماً بعد كفره هل يدخل في السابقين، أما بالنسبة للمسألة الأولى فإن كل مسلم هو سابق لغيره في الإسلام وداعية إلى الله، وحجة على الناس في لزوم التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] ( ).
ومن معانيه السابقون إلى طاعة الله، لأنه قدوة وأسوة لغيره في الصالحات وأداء الواجبات، وكأنه من المطلق والمقيد.
فمن بادر إلى الإسلام في بداية الدعوة الإسلامية هو سابق لغيره الذي يكون تابعاً له، وهذا التابع يكون سابقاً لغيره ومن يأتي بعده وهكذا.
فالمسلمون في كل زمان سابقون لغيرهم وهو من معاني(خير أمة) ودعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم يدعون الناس إلى الإسلام.
ومن الدلالات في الحديث النبوي أعلاه أن مؤمن آل فرعون ليس سابقاً على نحو الإطلاق في التصديق برسالة موسى عليه السلام لسبق بني إسرائيل إليه، ولكنه سابق لقومه، ويبادر إلى الإسلام مع أنه من أهل السلطان والحكم من الكفار من آل فرعون وحبيب النجار سابق في أمة عيسى، وقد ورد في معنى السبق في الآية أعلاه أقوال:
الأول: السابقون إلى الهجرة، عن ابن عباس( ).
الثاني: السابقون إلى الصلوات الخمس عن علي عليه السلام( ).
الثالث: السابقون إلى الجهاد، نسبه الطبرسي إلى القيل.
الرابع: السبق إلى التوبة وأعمال البر، عن سعيد بن جبير.
الخامس: السبق إلى كل ما دعا الله إليه.
وقد أثنت الآيتان أعلاه على السابقين، وأخبرتا عن عظيم منزلتهم وقربهم من رحمة الله، وأنهم في أسمى المراتب، وأرفع الدرجات، وفيه بشارة لهم، وبيان لفوزهم بخير الدنيا والآخرة.
وأما بالنسبة للمسألة الثانية، فالجواب نعم من وجوه:
الأول: إنه سابق لغيره من قومه وأصحابه وأسرته وذريته، ومن يسمع به ممن تخلف عن دخول الإسلام.
الثـاني: صيرورته من الســابقين بلحـاظ غــيره لطـــف من الله عز وجل، وعلة لزيادة الأجر والثواب.
الثالث: بدخول الإسلام يكون العبد آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر.
الرابع: السبق في التوبة والإنابة بالنسبة لمن أبطأ وتأخر في التوبة مع وجوبها.
الخامس: السبق في أداء العبادات، وما فيه من دعوة الناس إليها، وفي التنزيل[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ] ( )، وأسوة لأبنائه، يجب عليهم إقتفاء أثره في الصالحات، وهم يرثون عنه الإسلام طوعاً وكرهاً.
وتتضمن آية السياق ترغيب أهل الكتاب بدخول الإسلام بتوكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإخبار عن تصديقه للتوراة والإنجيل الكتابين اللذين بقيا بيد الذين يؤمنون برسالات السماء ليكونا على وجوه:
الأول: ظهير للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: مدد ومؤازر سماوي له في رسالته.
الثالث: سبب لتصديق الناس بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: حجة على من يتخلف من أهل الكتاب عن نبوته، ودعوة للناس جميعاً إلى الإحتجاج على أهل الكتاب بمسألة تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة والإنجيل، ويحتمل هذا التصديق وجوهاً:
الأول: إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن صدق نزول التوراة والإنجيل من الله، وإخباره بأن موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء.
الثاني: نزول آيات القرآن بتصديق نزول التوراة والإنجيل قال تعالى[وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ] ( )، ومن مصاديق الهداية في الآية أعلاه وجوه:
الأول: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الدعوة إلى الإيمان بنبوته كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ) لإفادة البشارة معنى الشهادة والدعوة والبعث للتصديق بنبوته.
الثالث: القتال تحت لوائه دفاعاً عن الإسلام، وتثبيتاً لأحكام الحلال والحرام، وإصلاحاً للمجتمعات ومنعاً للظلم والفساد في الأرض.
الخامسة: أخبرت آية السياق عن تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكتب السماوية السابقة بما هو رسول الله، لقوله تعالى(ثم جاءكم رسول) مما يدل على لزوم إثبات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نبي من عند الله ليكون تصديقه للتوراة والإنجيل بأمر الله عز وجل وهو أمر مختلف عن تصديق الناس لهما، وقد ورد في عيسى عليه السلام أنه مصدق للتوراة قال تعالى[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ] ( ).
وفي الجمع بين آية السياق والآية أعلاه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: جاء إخبار عيسى عليه السلام عن نفسه بأنه مصدق للتوراة، بينما تضمنت آية السياق الشهادة والإخبار من الله بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مصدق لما مع أهل الكتاب من التنزيل.
الثاني: بين الآيتين بخصوص المصدق به عموم وخصوص مطلق، فعيسى عليه السلام يصدق ما بين أيدي اليهود من التوراة أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيصدق بما معهم من التوراة والإنجيل وأخبار ومعجزات الأنبياء، ومن الدلائل عليه ورود قصص الأنبياء في القرآن، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
الثالث: جاء عيسى بالتصديق بالتوراة، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنه يصدق بالتوراة والإنجيل معاً وبالأعم منهما لذا وردت الآيات بخصوص بعثة عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، وفي التنزيل[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز في الإسلام، أن كلاً من آية السياق وآية البحث مدنيتان وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة، وبعد ظهور وتتابع معجزاته العقلية والحسية، وإنتشار أخبار نبوته بين الناس من أهل القرى والأمصار، ودخول القبائل في الإسلام، بعد أن كان أكثرهم على الوثنية والجاهلية، ليكون إسلامهم دليلاً إضافياً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة لأهل الكتاب لدخول الإسلام من باب الأولوية القطعية.
ثم تفضل الله عز وجل وأنزل الآيات القرآنية خطاباً لأهل الكتاب على نحو التعيين وفيه وجوه:
الأول: توكيد النسخ في الشرائع، وأن الذي أصر على الجحود بنبوة عيسى عليه السلام يجب عليه التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول للناس جميعاً.
الثالث: إكرام أهل الكتاب لإتباعهم الأنبياء، ويتجلى هذا الإكرام بإختصاصهم بالدعوة إلى الإسلام في آيات من القرآن كما تشملهم الدعوة العامة التي تأتي للناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
ترى ما هي صلة المسلمين بالدعوة العامة للإسلام.
الجواب لقد بادر المسلمون للإستجابة لهذه الدعوة فنالوا مرتبة(خير أمة) وخرجوا للناس يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويلحون عليهم بدخول الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى(أخرجت للناس).
ومن إعجاز الآية محل البحث عدم وجود حرف عطف بين الجملتين من الآية أعلاه، فلم تقل الآية(كنتم خير أمة ثم أخرجت للناس) لأن ثم تفيد التراخي، وتدل على إصلاح المسلمين أنفسهم لمنزلة(خير أمة) وبعدها خرجوا للناس.
فليس من مدة أو فترة بين إختيار المسلمين لمنزلة خير أمة وبين خروجهم للناس، فدخول العبد ذاته الإسلام خروج للناس بدعوتهم للإسلام، سواء كانوا كتابيين أو كفاراً، فتتوجه الدعوة للمكلفين بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته على نحو الوجوب العيني، ومن يستجب لها يصير داعية لغيره، ليكثر عدد الدعاة والتالين لهذه الآيات، ويزداد طرف الدعاة عدداً وقوة، وينقص طرف الجاحدين مع كثرتهم، وتظهر عليهم علامات الضعف والخلاف، قال تعالى[وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ] ( ).
السابعة: جاءت آية السياق بالأمر بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، والذي يحمل على الوجوب الإستغراقي الذي ينحل بعدد أفراد أهل الكتاب، وفيه مسائل:
الأولى: تلاوة هذه الآية من أمر المسلمين بالمعروف، ومن مفاهيم النهي عن المنكر.
الثانية: حث المسلمين على الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الإيمان والهدى.
الثالثة: إظهار المسلمين معاني التقوى والصلاح والشواهد على إيمانهم بالله عز وجل، وفيه تذكير للناس بواجباتهم العبادية، وترغيب لهم بالإسلام، ففي قوله تعالى(وتؤمنون بالله).
الأول: إنه حجة متجددة على الناس والتجدد بلحاظ صيغة الفعل المضارع(تؤمنون) وما تدل عليه من الإستمرار والتجدد.
الثاني: دعوة الناس للإيمان.
الثالث: بيان لحقيقة وهي أن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع الإيمان بالله عز وجل فهو الذي بعثه رسولاً وأيده بالمعجزات وأمدّه بالملائكة مقاتلين في معارك الإسلام الأولى، قال تعالى بخصوص معركة بدر[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ومجيء الآية أعلاه بصيغة الجمع وإرادة المؤمنين الذين حضروا بدراً من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة)، مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يجتهد في الدعاء يومئذ، وكان من دعائه (اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد) ( ).
الثامنة: من مصاديق الخير في قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا]، الإمتثال والإستجابة لأمر الله تعالى في قوله تعالى(لتؤمنن به ولتنصرنه) من وجوه:
الأول: مجيء الأمر أعلاه بصيغة الوجوب.
الثاني: حاجة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنصرة والإعانة لمواجهة الكفار فجاءت الدعوة من السماء لأهل الكتاب على نحو الخصوص لنصرته والذب عنه، وعن رسالته لأنه مصدق بالكتب السماوية التي معهم.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن تخلف أهل الكتاب يضرهم أنفسهم وإن بقوا على ملتهم ، وكان يهود المدينة يلاقون الأذى من الكفار، وينتظرون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , للغلبة على الكفار، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الرابع: إقامة الحجة على الناس، فعندما تخلفوا عن نصرته، وأبى أعداء الله إلا الزحف بجيوش عظيمة للقضاء على بيضة الإسلام، وكان أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلة وفي ضعف فتفضل الله وأنزل ملائكة لنصرته لتتجلى معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي عندما يمتنع أهل الكتاب عن نصرته مع توجه الأمر لهم بها فإن حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام إلى النصرة تقضى من السماء من غير واسطة وإعانة بشر، مما يدل على أن نصرته خير محض لمن يقوم بها، لذا قالت آية البحث بأن إيمان أهل الكتاب خير لهم.
ولم تأت آية السياق بالإيمان وحده بلحاظ أن ذكر النصرة يدل في مفهومه على القتال ودخول سوح المعارك، وهو ميدان يكره أكثر الناس ولوجه لميلهم بالفطرة إلى السكينة والدعة وعدم التعرض للقتال والقتل، ولكن الآية ذكرت النصرة على نحو الخصوص وعطفها على الإيمان، وفيه معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: بيان وظائف أهل الكتاب أزاء النبي من غير تورية أو حجب للواجب الأشد مما يدل على تجلي الآيات التي تؤكد صدق نبوته.
الثاني: عدم وجود فترة بين الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، مما يدل علة مناجاة الكفار بينهم للقضاء على الإسلام، وأخبار التأريخ المتواترة تدل على هذه الحقيقة، إذ هجمت جيوش الكفار على المدينة المنورة في السنة الثانية من الهجرة فكانت معركة بدر، ثم في السنة الثالثة وقعت معركة أحد، ثم في السنة الرابعة جرت واقعة وحصار الخندق، ولم يكف الكفار إلا بعد أن يئسوا من تحقيق النصر، وبعد إنتشار الإسلام.
الثالث: النصرة المذكورة في الآية أعم من موضوع القتال، وميادين المعارك، إذ تشمل النصرة باللسان، وإعلان البشارات الواردة بنبوته في التوراة والإنجيل.
الرابع: لم تستمر معارك الإسلام طويلاً، فسرعان ما إندحر الكفار ففي كل معركة يحاربون فيها المؤمنين لا يلاقون إلا الخيبة والخسران، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
إن سرعة ظهور دولة الإسلام، وشيوع الأمن في أمصار المسلمين من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الشواهد بأن نصرته في قوله تعالى(لتؤمنن به ولتنصرنه) لا تعني إستمرار القتال والخروج لميادين المعارك، وترك حياة الدعة بل هو أمر مؤقت، يعقبه الإستقرار وأداء الوظائف العبادية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
التاسعة: يفيد الجمع بين أمر الله لأهل الكتاب بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين قوله تعالى(لكان خيراً لهم) ظهور دولة الإسلام، سواء نصره أهل الكتاب أم لم ينصروه، وأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليست دعوة لأمور الدين فقط بل هي على وجوه:
الأول: إنها دعوة لمقدمات الدين والمنهج القويم.
الثاني: بعث لأداء الناس الفرائـض.
الثالث: سعي وجهاد لإقــامة دولة الإســـلام التي تحكم بما أنزل الله عز وجل.
الرابع: فيها تثبيت لدعائم التوحيد.
الخامس: إزاحة سلطان الكفر عن الأرض، وطرد مفاهيمه عن النفوس.
السادس: نشر مفاهيم الود والأخوة في مرضاة الله.
السابع: جعل الناس يسعون في ميادين البر وأسباب إكتناز الصالحات إستعداداً لليوم الآخر، وعالم الجزاء، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ]( ).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منصور من الله، وأن نصرتهم له بالدخول في (خير أمة) وفيه دليل لإمتثالهم لأمر الله، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل لأن البشارة جاءت بهما بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الألفة والأخوة تترشح عن الإيمان بالله ورسوله.
وقد أثنى القرآن على أتباع عيسى عليه السلام بقوله تعالى[وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً] ( ).
ومن الرحمة في المقام لزوم التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه صلاح النفوس والمجتمعات وخير الدنيا والآخرة للذات والوارث، وفي دخول الإسلام أمن وسلامة من الحروب والفتن التي يشعلها أرباب الكفر بغير حق.
صلة قوله تعالى[قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان موضوعية الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا، وبعثة الأنبياء على كثرتهم وتعاقبهم، لأنه رحمة للعالمين، ونبوته سبيل للتوبة عن الناس، وإصلاح أمورهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وفي نصرته نصرة لله عز وجل قال تعالى[إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( )، وتوكيد قانون سماوي وهو توثيق الأمر الإلهي للناس وإقرارهم به لوجوه:
الأول: بيان رحمة الله بالناس في تفقههم في الدين.
الثاني: توكيد اللطف الإلهي بالناس في معرفتهم بوظائفهم العبادية.
الثالث: هذا الإقرار من الحكمة التي آتاها الله الأنبياء، وتركتها بين أهل الإيمان، وفي وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و(خير أمة) ورد قوله تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
الرابع: حاجة الناس للإقرار بالميثاق في منازل الإيمان، وعدم التهاون أو التفريط بأحكام الشريعة.
الخامس: موضوعية الميثاق في أمور الدين والدنيا.
السادس: إقامة الحجة على الناس، وتحذيرهم من نقض الميثاق.
السابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار الذي يصرون على الجحود، ولا يتقيدون بأحكام الميثاق، ويقومون بتحريف أحكامه وسننه التي تيسر للناس العمل بمضامينه، ومنها البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به ونصرته في حال الحرب والسلم.
وهل أداء العبادات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله كالصلاة والصوم والزكاة والحج من نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب نعم، وهي من أحسن وأسمى مصاديق النصر المستديمة والشواهد على الإقرار بالميثاق.
الثانية: مع أخذ الله عز وجل الميثاق على الأنبياء فإنه سبحانه أخذ العهد على أتباعهم بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن وجوه تفضيل الأنبياء على عموم الناس مجيء العهد معهم بلفظ الميثاق، أما الناس فجاء بلفظ الإقرار والإعتراف، وقيل بأن الإقرار مأخوذ من الأنبياء أيضاً ولكن جاء أخذ الميثاق من بني إسرائيل قال تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] ( ).
فجاءت الآية أعلاه بذكر الميثاق والإقرار مما يدل علة عدم إختصاص الأنبياء بالميثاق، إلا إذا قلنا بأن إجتماع ما أخذ من الأنبياء ومن أتباعهم في آية واحدة يفيد التفصيل وبيان المائز بين الأنبياء والأتباع، وفيه آية إعجازية لآيات القرآن ودلالات الألفاظ فيها.
بحث كلامي
مع أخذ الميثاق من الأنبياء جاء الإقرار منهم لعظيم منزلتهم عند الله، وإنقطاعهم إلى عبادته والتسليم بربوبيته، ولأنهم يرون ما لا يرى الناس، فيأتيهم الوحي والتنزيل، ويسمع النبي كلام الملك، أما الرسول فيسمع ويرى الملك الذي يأتيه بالوحي.
والوحي لغة هو الإشارة والرسالة والكتابة، وما تلقيه إلى غيرك، أما في الإصطلاح فهو إلقاء الله عز وجل للأنبياء ما يتعلق بأمور الدين من غير واسطة بشر، إذ تكون الواسطة ملائكة السماء، قال تعالى[وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ]( ).
وقد يأتي الوحي إلى النبي برؤيا في المنام ولكن الله يجعل النبي يدرك أن هذه الرؤيا وحي، (وورد عن ابن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله:رؤيا الأنبياء وحي) ( )، وفيه دعوة في إخبارهم عما يأتيهم من الوحي في المنام، وتجلى هذا التصديق الأنبياء، وتجلى هذا التصديق بأبهى صوره عندما رأى إبراهيم أن يذبح إبنه إسماعيل كما ورد في التنزيل[قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ] ( ).
فإبراهيم عليه السلام لم يقص رؤياه على كاهن أو عارف، بل أخبر إبنه إسماعيل بها ليرى رأيه وهو من مصاديق الحنيفية التي عليها إبراهيم عليه السلام وإعراضه عن القوم الكافرين، وفيه دلالة على أن تلك الرؤيا نوع مفاعلة بين الطرفين في مرضاة الله، فلا يقوم إبراهيم عليه السلام بذبح إبنه وهو في فراشه أو غيلة، بل ترك لإبنه حق الرضا والإذن.
فجاء الجواب من إسماعيل آية تدل على حسن عبوديته لله، إذ فسر الرؤيا بأنه أمر من الله عز وجل، ليكون هذا التفسير مقدمة لمشاركة أبيه النبي إبراهيم في بناء البيت الحرام، وما فيه من العز والرفعة في النشأتين، ونيله مرتبة النبوة وبعثة خاتم النبيين من ذريته، مع أن النبوة أمر متوارث في بني إسرائيل، وقد يكون في زمان واحد عدد من الأنبياء فلم يطلب إسماعيل تقديم فداء بدلاً عنه، ولم يقل بإحتمال كون تلك الرؤيا أضغاث أحلام.
ومن فضل الله عز وجل أن الذبح لم يتم، قال تعالى[وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ]( )، ولم يأت الفداء من إبراهيم عليه السلام مع شفقته ورأفته بإبنه، ولكن الفداء جاء من الله عز وجل، وفيه ثناء وشكر لإبراهيم وإسماعيل، وتوكيد لوحي الأنبياء في الرؤيا، وأنه وحي على الحقيقة وملحق به، وليس وحياً من باب المجاز والتعليق بشرط وقيد.
ومن أسرار الوحي أمور:
الأول: إنه إســتمرار لصلة العبد بالله عز وجل، فلما نفخ الله عز وجل في آدم، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، وهو سبحانه تفضــل بالعناية واللطف بالإنسان وبعث الأنبياء لهداية الناس وإخبـــارهم عن حتمية الوقوف من بين يديه للحساب قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وأخذ الميثاق من الأنبياء للقيـــام بوظائف بين الناس، منها:
الأول: جذب الناس إلى منــازل الإيمان من غير تقيـــة وخوف من الظالمين لحاجة أهل الأرض للإيمان ودرء المفسدة.
الثاني: منع تفشي الكفر والجحود.
الثالث: إجهار الأنبيــاء بالدعوة إلى الله من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة عندما إحتجوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فالكافر والظـــالـم لم يتـــركا وشأنهما، بل يــوجه لهما الـــذم والإنذار وإن همّــا بالبطــش كمـا في إحتجاج إبراهيم عليه الســلام على التردد، وإحتجاج موســى عليه السلام على فرعون، إلى أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن، وكل آية منه تتضمن الإنذار والبشارة منطوقاً ومفهوماً، وبكيفية إعجازية تملي على الناس الإصغاء لها والتدبر فيها.
وكان العرب أهل فصاحة وبلاغة، وأظهروا عجزهم عن درك كنه القرآن، ليكون من مصاديق الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخذه الله عز وجل على الناس بلزوم الإيمان بنبوته ونصرته.
الثاني: بيان حاجة الناس مجتمعين ومتفرقين لرحمة الله وأمره ونهيه، والإنسان ممكن، والحاجة ملازمة معالم الإمكان، وليس من حصر لحاجات الإنسان، والقدر المتيقن والظاهر أنه يحتاج الإقرار بالميثاق، والتسليم بالعبودية والخضوع لله عز وجل، وعمارة الأرض بالذكر والعبادة لأن فيها مصلحة في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فأنعم الله عز وجل على الأنبياء بالوحي لأمور:
الأول: إستدامة الحياة الدنيا.
الثاني: توارث الناس عمارة الأرض.
الثالث: تنعم الناس بالطيبات وخيرات الأرض والسماء.
الثالث: بيان قدرة الله عز وجل على كل شيء، وأنه سبحانه له ملك السموات والأرض الذي تستجيب له الأشياء كلها، ولبيان وجود صلة مباركة بين أهل السماء والأرض تتقوم بطاعة الله والأمانة في تبليغ الرسالة، سواء من طرف الملك النازل بها، أو من طرف النبي الذي يتلو على الناس الوحي.
ومن الآيات شمول مصاديق هذه الأمانة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طرفاً ثالثاً هو المسلمون، إذ تعاهدوا آيات القرآن ودفعوا عنها يد التحريف سواء في رسم القرآن أو كلماته وألفاظه وتأويله، وهو من عمومات قوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) فهم يخرجون على الناس في كل يوم خمس مرات بالصلاة واجباً عبادياً يتلون فيها آيات القرآن كما أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( ).
فإن قلت الصلاة فعل ذاتي يؤديه المسلمون، وليس هو من الخروج لأن القدر المتيقن من الخروج وجود موضوع ومادة يخرج بها المسلمون ويتلقاها الناس منهم.
والجواب صلاة المسلمين من أحسن مصاديق خروجهم للناس من وجوه:
الأول: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا الأسوة الحسنة للناس، فيقتدي الناس بهم، وهو مقتدون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء الآخرين، وهو من وراثة المسلمين للأنبياء، فإذا كان الكفار والظالمين يعتدون على الأنبياء ويقومون بقتل بعضهم.
فالمسلمون ورثة الأنبياء، وأخذوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كمال الدين وتمام أحكام الشريعة ليسقط في أيدي الكفار، ويظهرون العجز القهري عن الإضرار بالمسلمين , قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الثاني: إتيان ما هو واجب على الناس جميعاً تذكير به وبعث للناس لإتيانه، وإظهار يسر وإمكان الفرائض، وأنها ليست مما لا يطاق، لقبح التكليف بما لا يطاق.
الثالث: إظهار الإعراض عن أهل الشك والريب، والتوكيد العملي للإمتناع عن الإصغاء لهم.
الرابع: إقامة الحجة على الناس بوجود أمة تؤدي الواجبات، وتتحدى الطواغيت ولا تخشى الظالمين ، وتبين المصداق العملي والإمتثال لقوله تعالى(لتؤمنن به ولتنصرنه)، ليكون أداء الفرائض والعبادات من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، وكذا الدوام عليها، وعدم قطعها.
وجاءت آيات القرآن بالتحذير في نسيانها والتقصير فيها قال تعالى[فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ] ( )، لتدل الآية أعلاه على عدم سهو وغفلة المسلمين عن الصلاة وأدائها في أوقاتها وإلى يوم القيامة، لأن الله عز وجل سماهم(خير أمة) لتعاهدهم الصلوات الخمس، فإن قلت لابد من مصداق عملي لمنطوق الآية القرآنية.
والجواب جاءت الآية من باب الوعيد والتحذير والتخويف، والله عز وجل هو الذي يهدي المسلمين إلى إتخاذه حرزاً وواقية من الوعيد، بالإضافة إلى فضل الله بالتوبة وقبولها.
الخامس: جاء ذكر الإقرار بصيغة الماضي، وما يفيد وقوعه وحدوثه، وأخذه من الناس، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إنقضاء وإمضاء الإقرار.
الثاني: تجدد الإقرار.
الثالث: إستحداث وجوه من الإقرار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وأسرار الإبتلاء في الحياة الدنيا، فإن مصاديق الإقرار مصاحبة لآيامها، وتتجلى بإظهار معاني العبودية والخشوع لله عز وجل، وأداء الفرائض الذي يعني تجديد الإيمان بالله ورسوله، والنفير إلى سوح المعارك دفاعاً عن الإسلام ومبادئ الحق والهدى.
إن صيرورة الإيمان ملكة عند المسلم أصل لإظهار وجوه متجددة من الإقرار متعددة المواضيع، والكيفية والماهية، وكل فرد منها دعوة إلى الله عز وجل، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر لما جبل عليه الإنسان من الإقتباس من الآخرين، والتأثر بهم، والتدبر في أفعالهم، خصوصاً وأن فعل المعروف عون للإنسان للهداية، وتقريب له لمنازل الإيمان، وإستحضار الإقرار والعمل بمضامينه وفي التنزيل[الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ]( ).
السادس: من خصائص الحياة الدنيا أنها (دار الذكر) يتذكر فيها الإنسان الوقائع والأحداث العامة والشخصية، ويقتبس منها الدروس والمواعظ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل عند المسلمين أحسن وأعظم القصص قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( )، لتكون على وجوه:
الأول: فيها حجة على الناس.
الثاني: إنها جامعة كلامية وعقائدية ينهل منها الناس العبر.
الثالث: كل قصة قرآنية ذكرى وشاهد على الأزمان المتعاقبة، منها أن الله عز وجل أخذ الإقرار من الناس بالإيمان بنبوة محمد والدفاع عن الإسلام، ليكون مقدمة لتحقيق الفتوحات التي تكون طريقاً لعبادة الله عز وجل، ونشر مبادئ التوحيد، وشهد الله سبحانه على إقرار الناس، وجعله حجة عليهم في النشأتين، وسلاحاً بيد(خير أمة) في الإحتجاج والجدال .
وسبق الحجة على الناس لخروج المسلمين لهم نوع تخفيف ومدد للمسلمين، إذ يجد فعلهم وقولهم قبولاً عند الناس، ليكون واقية للمسلمين من الأذى والضرر.
السابع: لقد أمن المسلمون بالله ورسوله، وهذا الإيمان دليل تمسكهم بالعهد الذي أخذه الله عز وجل على الناس، وتذكير للناس به، فمن الناس من لا يؤدي الفعل الواجب أو الندب إلا عندما يرى غيره سبقه إليه، خصوصاً مع وجود أسباب الخوف ، لينال المسلمون السبق في الصلاح والإرتقاء إلى منزلة(خير أمة) قال تعالى في الثناء على المؤمنين[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
الثامن: للشهادة موضوعية في الفصل بين الناس، وحل المنازعات ويشترط في الشاهد أن يكون عدلاً ثبتاً، وحاضراً الواقعة وعلى دراية بالموضوع الذي يشهد فيه، والشهادة بينة وحجة، وتكون من إثنين يتوافقان في الشهادة، من غير تعارض بينهما، قال تعالى[وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] ( ).
وجاءت آية السياق بتوكيد الشهادة، ليكون المسلمون شهداء على الناس إلى يوم القيامة، يذكرونهم بالميثاق والعهد بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه آية من رحمة الله بالناس جميعاً، لما في الذكرى من المنافع منها:
الأول: إستحضار العهد.
الثاني: المنع من نسيانه والإعراض عنه،قال تعالى[وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث: إنها حرب على مفاهيم الكفر والضلالة.
وشهادة المسلمين هذه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيه من الدعوة للصلاح، والتقيد بالميثاق وإجتناب قتال المسلمين، والإحتراز من العذاب في الآخرة، قال تعالى[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
التاسع: من القواعد الكلية في الشهادة أن يكون الشاهد طرفاً ثالثاً غير المدعي والمدعى عليه.
وجاءت آية السياق بالمعنى الأعم للشهادة، ويكون ذات الشخص شاهداً على نفسه وعلى غيره في الإقرار بالميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم، مما يدل على أنه جاء بصيغة العموم المجموعي، وفيه أمور:
الأول: تذكير الناس بعضهم لبعض بالميثاق.
الثاني: توكيــد الإقــرار النوعي والشخصي بالميثاق وأن الله عز وجل أخذ عليهم العهد بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
الثالث: العمل بمضامين الميثاق، وإظهار النصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإنقياد لما جاء به من أحكام الشريعة الإسلامية.
وقد فاز المسلمون بهذه الأمور مجتمعة، وأدوا وظائفهم فنالوا مرتبة(خير أمة) والشواهد على قيامهم بهذه الوظائف ظاهرة للعيان، لا تخفى على أحد.
ومن مصاديقه أداؤهم الفرائض وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المعنى الأعم للشهادة، وما يمكن تسميته(الشهادة النوعية) لطف وعون للناس للهداية والإيمان، وحضور دائم للشهادة بين الناس في الدنيا وفي يوم الحشر لتكون ذات الشهادة شاهداً عليهم.
وجاءت كل من آية السياق والآية محل البحث على وجوه:
الأول: الإنذار من يوم الحساب , وفي النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم ورسالته، ورد قوله تعالى[لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني: الدعوة للتوبة والتدارك، والتقيد بمضامين الإقرار بالنبوة.
العاشر: أختتمت آية السياق بالإخبار عن الله عز وجل أنه شاهد على الناس في إعطائهم العهد والميثاق بلزوم طاعته وطاعة رسوله ونصرته.
وأختتمت الآية محل البحث بذم الفاسقين الذين يصرون على الإعراض عن الواجبات العبادية.
وفي الجمع بينهما مسائل:
الأولى: تحذير الكفار والظالمين من الإصرار على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: وجود أمة تتعاهد الميثاق وتتقيد بما شهد الله عز وجل به وهذه الأمة هم المسلمون لذا نالوا مرتبة(خير أمة).
الثالثة: إقامة الحجة على الفاسقين لأن الإقرار والعهد سبق منهم، وفيه بيان للطف الله عز وجل بهم بأن أخرج لهم(خير أمة) تذكرهم بشهادة الله عز وجل عليهم، وتخبرهم بأنهم ينقضون الميثاق بإختيارهم الفسوق والمعصية وإتباع الهوى، الذي تتعقبه الحسرة والندامة، قال تعالى[وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
صلة(وأنا معكم من الشاهدين)، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير أمة وأنا معكم من الشاهدين) وفيه وجوه:
الأول: إكرام المسلمين بأن الله عز وجل قبل شهادتهم، ورضي عنهم عبادتهم، وصلاحهم وأهليتهم للشهادة على الناس.
الثاني: إن الله عز وجل يمضي ويوثق شهادة المسلمين، وفيه بعث لهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالميثاق، وحث الناس على التقيد به وبمضامينه القدسية من الإقرار بالعبودية لله عز وجل، والإقامة على طاعته وطاعة رسوله.
الثالث: إن الله عز وجل يشهد للمسلمين بأنهم(خير أمة) ويشهد لهم بأداء واجبات الخضوع والخشوع لله عز وجل.
الرابع: يشهد الله عز وجل للمسلمين بأنهم متقيدون بأحكام العهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم ويثني الله عز وجل على الوفيين بالعهد قال سبحانه[وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( ).
الخامس: إخبار الله عز وجل للمسلمين والناس بشهادته على كون الإيمان خيراً محضاً، ونفعاً في النشأتين لأهل الكتاب.
السادس: يشهد الله عز وجل مع المسلمين بأنهم أخرجوا للناس لدعوتهم للميثاق وجذبهم إلى منازل الهداية.
السابع: يشهد الله عز وجل مع المسلمين بأنهم يؤمنون به سبحانه، وهذه الشهادة توكيد لعملهم بالميثاق الذي أخذه الله على الأنبياء والناس، وأنهم ورثة الأنبياء في التقيد بأحكام العهد مع الله عز وجل، وفيه غاية الثناء عليهم، وبشارة الثواب العظيم.
الثانية: إن الله عز وجل يشهد للمسلمين بأنهم(خير أمة أخرجت للناس) وفيه مسائل:
الأولى: بعث المسلمين للعمل في سبيل الله تعالى، والمواظبة على الطاعات.
الثانية: إتخاذ العهد الذي أخذه الله عز وجل على الناس أصلاً وموضوعاً في جهاد المسلمين دفاعاً عن الإسلام.
الثالثة: دعوة الناس إليه وترغيبهم للعودة للعهد، والتقيد بأحكامه ومضامينه قال تعالى[وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وأنا معكم من الشاهدين) إن الله عز وجل يسمع ويرى المسلمين في جهادهم في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخبار القرآني عن شهادته لجهادهم وعد منه تعالى بالعون والمدد والنصرة.
فالله سبحانه الذي أمر الناس بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلابد أنه ينصر من يمتثل لأمره، ولا يختص هذا النصر بالحياة الدنيا، بل هو شامل للدنيا والآخرة، وتجلت أفراد هذا النصر العاجلة بنزول الملائكة يوم بدر وأحد وحنين وبعث الفزع والخوف في قلوب المشركين الذين زحفوا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، وتتجلى معاني النصرة بقوله تعالى في أمره للملائكة[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
الرابعة: تقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير امة أخرجت للناس قال فأشهدوا)، وصحيح أن لغة الخطاب في آية السياق موجهة للناس إلا أن قوله تعالى(فأشهدوا) يحتمل المعنى الأعم وإرادة شهادة الملائكة والخلائق على الناس , قال تعالى[شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ]( ).
وفي هــذه الشهادة رد على الملائكة الذين إحتجـوا على جعل آدم خليفة في الأرض، إذ أن الله عز وجل جعل الملائكة شهوداً على العهد الذي أخذه على الناس وأنهم أقروا به بحضور وشهادة الملائكة مما يدل على أن خلافة الإنسان في الأرض مقيدة ومشروطة وليست مطلقة، مقيدة بالميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الأنبياء والعهود التي أخذها على الناس، لذا جاء في بني إسرائيل قوله تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )، مما يدل على لزوم تعاهد الميثاق والعمل بمضامين العهد.
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على الثناء على المسلمين لوفائهم بالعهد وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا وصفهم الله بأنهم(خير أمة) وأخرجهم للناس للتذكير بالعهد وجذب الناس للعمل بمضامينه، وليرى الملائكة أن أمة عظيمة من أهل الأرض تعمل وإلى يوم القيامة بالميثاق والعهد الذي شهدوا عليه، وتدعو الناس إليه بكرة وعشياً، والله عز وجل يشهد دعوتهم هذه، ويشهد على الملائكة أنهم يشهدون سعي المسلمين في الصالحات وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وشهادة الله هذه من عمومات قوله تعالى في الرد على إحتجاجهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
صلة آية[أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ]( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية، والإستفهام الإنكاري في ذم الكافرين الذين يعرضون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأختتمت بالجملة الخبرية وبيان عظيم سلطان الله وخضوع وخشوع كافة المخلوقات له سبحانه.
أما آية البحث فهي جملة خبرية تتضمن الثناء على المسلمين، وذم الذين يتخلفون عن منازل الإيمان، لتجتمع الآيتان في لوم وذم الذين يعرضون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من المعجزات بعد سبق البشارات برسالته في الكتب السماوية السابقة.
الثانية: لقد قسّمت آية السياق الأديان إلى قسمين:
الأول: دين الله، وهو الإسلام.
الثاني: الأديان الأخرى التي يجمعها لفظ الغيرية (أفغير).
ومن بــديع آيات العقــائد، وأســرار خلق الإنسان أن جعل الله عز وجل دينه الواجب على الناس إعتناقه والإتيان بسننه متحداً في شخص النبي واسم ومضمون الكتاب وماهية العبادة، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء والمرسلين، والكتاب هو القرآن، قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
وقبلة أجيال المسلمين إلى يوم القيامة هو البيت الحرام، وفيه أمور:
الأول: التخفيف عن المسلمين، وبيان الأحكام، وتعيين شرائط وسنن العبادة.
الثاني: ترغيب الناس في دخول الإسلام.
الثالث: منع الجهالة والغرر.
الرابع: عصمة المسلمين من الإختلاف وتعدد الإجتهاد في المناسك والعبادات، ومن الآيات إجتماع الكتاب والسنة الفعلية والقولية على تعيين القبلة وهي حصراً البيت الحرام قال تعالى[فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( )، أما بالنسبة للأديان الأخرى فليس لها حصر وهي من الكلي المشكك الذي يكون له مراتب متفاوتة ظهوراً وخفاء، ومن غير الإسلام ما هو كتابي ومنها من هو كفر وشرك.
فجاءت الآية بذكر دين الإسلام على نحو والتعيين بينما ذكرت غيره بصيغة الإجمال لأن المقاصد السامية للآية الكريمة تتعلق بأمور:
الأول: الدعوة إلى الإسلام.
الثاني: تصديق بشارات الأنبياء ومواثيقهم في لزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الثالث: بيان التباين بين الإسلام وغيره.
ومن الناس من لم يكن على دين مخصوص، فهل يشمله الإنذار والإنكار في الآية الكريمة، أم أنه خارج بالتخصيص.
الجواب هو الأول، فهو مشمول بالإنذار لأن القسمة الثنائية في الآية جامعة مانعة، فهي جامعة لكل الملل، ويدخل فيها الناس جميعاً، ومانعة من خروج بعضهم بالتخصص أو التخصيص، لأن الآية القرآنية رحمة مزجاة للناس، ينهل منها كل إنسان بقدر مخصوص، أو بحسب الحاجة، مع وجود المقتضي للإنتفاع الأمثل من الآية القرآنية، فإن المانع الذاتي موجود عند الكفار وبإختيارهم لهم، وهذا المانع كالغشاوة المتزلزلة التي تتعرض لهجوم ضياء الآية القرآنية الساطع فيخترقها.
وتأتي تلاوة المسلمين للآية لتطرق السمع، وتدعو إلى التدبر من وجوه:
الأول: ذات الآية القرآنية، ومضامينها الإعجازية ودلالاتها.
الثاني: ماهية الحياة الدنيا، وكيف أنها دار زوال.
الثالث: مبادرة المسلمين للتصديق بنزول القرآن، والعمل بأحكام الآية القرآنية، وعدم مغادرة الدنيا إلا بالإسلام ديناً ومنهجاً، قال تعالى[فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، لأن المسلمين مرآة للهداية، وأفعالهم العبادية حجة متجددة وحاضرة، وهو من وجوه خروجهم للناس، ومن منافعه جذب الناس لسبل الإيمان، ودخولهم في الإسلام، ليكون هذا الخروج متصلاً وهو دعوة متجددة للإسلام.
الثالثة: جاء المدح والثناء للمسلمين في قوله تعالى(كنتم خير أمة) بصيغة العموم الإستغراقي الشامل لأفراد الأمة حتى يوم القيامة.
وجاء الذم في آية السياق للكفار الذين يعرضون عن الدعوة إلى الإسلام بصيغة الجمع أيضاً، ليكون الناس على قسمين:
الأول: الذين يتلقون المدح من الله عز وجل، وفيه غاية العز والفخر، ومعاني البشرى.
الثاني: الذين يتلقون الذم والتبكيت والوعيد، قال تعالى[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ]( )، والإمتناع عن أداء أمانات وأموال المسلمين من الظلم فيكون ظلم الذي يمتنع عن أداء أموال المسلمين مركباً، من وجوه:
الأول: إختيار غير الإسلام ديناً وظنه النفع بهذا الإختيار.
الثاني: إصراره على الإستحواذ ظلماً وغدراً على مال المسلم.
الثالث: العلة الغائية التي يجعلها سبباً لهذا الإستحواذ، وصيرورتها حجة عليه.
ومن الآيات في خلق الإنسان أن الخيار بيده، وهو نوع إمتحان وإختبار وكل واحد يرغب في الفوز بالمدح من الله عز وجل وما يدل عليه من رضاه تعالى، وتنفر نفسه من الفعل القبيح الذي يصاحبه ويتعقبه الذم والوعيد من الله عز وجل، فجاءت الآية لدفع الجهالة والوهم.
ومع تباين موضوع الآيتين فإنهما يلتقيان في أمور:
الأول: كل منهما بلغة لتحقيق غايات حميدة.
الثاني: دفع الناس عن الكفر.
الثالث: جعل الناس يدخلون الإسلام، ويفوزون بالنعم الدنيوية الحاضرة، والنعم الأخروية[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وهو من خصائص آيات القرآن، إذ تتوجه كل آية لإصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات، وتنزيهها من دنس الشرك والضلالة.
الرابعة: لم تقدم الآية محل البحث خروج المسلمين للناس على كونهم خير أمة، فلم تقل(أخرجتم للناس وأنتم خير أمة) بل قدمت الإخبار عن بلوغهم مرتبة(خير أمة) وبصيغة الفعل الماضي الذي يدل على الثبات والإمضاء.
وفيه آية بأن المسلمين لم يتعلموا من التجربة في خروجهم للناس،ولم يتأدبوا من مخالطة الناس، بل خرجوا لهم وهم متعلمون متخلقون بأخلاق الله وسنن القرآن، وفيه وجوه:
الأول: عصمة المسلمين من مفاهيم الكفر والضلالة، ومن وجوه تأديب المسلمين في المقام تحذيرهم من طاعة الكفار والركون للظالمين، وإتخاذهم بطانة، قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
الثاني: إكتساب الناس المعارف من المسلمين بالذات أو بالواسطة، إذ أن سيرة(خير أمة) مدرسة وموعظة.
الثالث: سلامة المسلمين من الفرقة والتشتت والإختلاف، وما فيها من أسباب الضعف والوهن، لذا جاءت آيات القرآن بأمر المسلمين وعلى نحو الوجوب بالإتحاد والعمل بأحكام القرآن، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، وفيه دعوة للناس للرجوع للمسلمين، والإقتباس منهم.
الخامسة: يتحلى المسلمون بالأخلاق الحميدة، وفيه تعاهد لمنزلة(خير أمة) وهو أمر مستقل عن خروجهم للناس، وإن تداخل معه، وأثّر أحدهما في الآخر؟
ويحتاج المسلمون المحافظة على هذه المنزلة العظيمة والبقاء في منازلها، وهو من خصائص(خير أمة) فقد نالت بعض الأمم منازل التفضيل كما في بني إسرائيل بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ولكنهم لم يتعاهدوا تلك المنزلة ومن مصاديقها الإيمان والتصديق بالأنبياء جميعاً، ومن رحمة الله عز وجل بالناس قضاء حوائجهم، وتقريبهم إلى منازل الطاعة، وبقاء المسلمين في منزلة (خير أمة) حاجة للناس جميعاً، لذا فإن الله عز وجل يتفضل على المسلمين بهدايتهم لأسباب البقاء فيها، ومنعهم من الإبتعاد عنها، ومنه مفهوم آية السياق الذي يعني إمتلاء نفوس المسلمين بالغبطة والسعادة لأنهم إختاروا الإسلام.
ومن خصائص (خير أمة) حب الخير للناس، والسعي لنجاتهم في النشأتين بصيغ اللطف والخلق الحسن.
السادسة: يتولى المسلمون القيام بالوظيفة التي تركها الأنبياء لهم، والتي تتقوم بها الحياة الدنيا، وتنزل معها البركات، وتدفع الآفات، وهذه الوظيفة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكل آية من القرآن من مصاديق هذا الأمر والنهي في منطوقها ومفهومها ودلالاتها وغايتها السامية، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين والناس، فحينما أمر الله المسلمين بالأمر والنهي فإنه سبحانه جعل لهم قوانينه وقواعده، وبيّن سننه وموضوعاته، وأخبر عن منافعه الدنيوية والأخروية، وأظهر إفاضاته ونفعه الحاضر مع تعدد مصاديق هذا البيان، ومنه السنة النبوية التي هي شعبة من الوحي، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السابعة: لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت آية السياق لأمور:
الأول: تفقه المسلمين في الأمر والنهي.
الثاني: بعث المسلمين على السعي في مسالك الصلاح، وصيرورتهم أسوة حسنة للناس، ورؤية الناس لحسن سمتهم، وكيف أن أفعالهم مصداق لما يأمرون به من المعروف.
الثالث: طرد الغفلة والجهالة والتردد والإختلاف عنهم.
ومن منافع آية السياق في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوه:
الأول: الآية حرب على الكفر والضلالة، وتتضمن التوبيخ للذي يختار غير الإسلام ديناً، وتكون من باب الأولوية زجراً عن قتال المسلمين، والتعدي عليهم، وفيه مسائل:
الأولى: هذا الزجر مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: إزاحة العوائق التي تحول دون الأمر والنهي.
الثالثة: فيه آية وهي أن الله عز وجل إذا أمر بشيء فإنه سبحانه يهيء مقدماته،وهو الذي لا تستعصي عليه مسألة، قال تعالى[وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض]( ).
الثاني: معرفة الناس جميعاً بأن الإنسان مقيد في إختيار دينه، فقد جعل الله عز وجل له طريقاً واحداً وهو الإسلام لذا جاء في تفسير قوله تعالى[أهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، (أنه الإسلام و هو المروي عن جابر و ابن عباس أنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره) ( ).
فإن قلت سلّمنا أنه ليس للإنسان إختيار دين غير الإسلام، فلماذا لم يجبر الله عز وجل الناس جميعاً على الإسلام، والإقرار بالتوحيد، وهذا الإجبار رحمة بهم.
والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهو سبحانه جعل الدنيا دار إمتحان وإختبار.
الثاني: من مصاديق الإمتحان في الدنيا ترك الإنسان يختار دينه، مع لطف من الله عز وجل بتقريبه إلى إختيار ما يجب عليه من ملة التوحيد، ومن هذا اللطف آية السياق.
الثالث: ليس للناس إلا الرضا بأمر الله، وكل فعل منه سبحانه حكمة وشاهد على سعة رحمته , قال تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الرابع: أراد الله عز وجل أن يعبده الناس، ويعمرون الأرض بذكره، وهو غير محتاج لعبادتهم، ولكنه سبحانه جعلها طريقاً لخلودهم في النعيم الدائم.
فمن خصائص عدم الإجبار على العبادة الثواب العظيم في الآخرة.
الخامس: لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليبادر لإختيار الإيمان والتصديق بالنبوة وما يصاحبها من المعجزات والدلالات الباهرات.
الثالث: بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل أمر بدين مخصوص، ولا يقبل من العباد إبتغاءهم غيره، وهذا البيان من أسرار حاجة الناس للقرآن، وبقائه سالماً من التحريف والتبديل، إذ يتضمن الأصول والفروع، وأحكام الشريعة الإسلامية، ويمنع من الجهالة والغرر.
الرابع: توكيد مصداق لقبح العقاب بلا بيان وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس، أما المسلمون فإن البيان يجري بواسطتهم وعلى ألسنتهم، وفيه الأجر والثواب، والثبات على الإيمان، وأما غيرهم فإن البيان نافع من وجوه:
الأول: إنه طرد للغفلة.
الثاني: فيه جذب للهداية والإيمان.
الثالث: إقامة الحجة على الناس، قال تعالى[أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا]( ).
السابعة: تبين آيات القرآن تعدد مصاديق وميادين خروج المسلمين للناس، وأنه جهاد دائم، وفعل دؤوب، يشترك فيه المسلمون رجالاً ونساء، ومنه أمور:
الأول: تحذير الناس من الكفر.
الثاني: الزجر عن إختيار غير الإسلام منهاجاً وطريقاً.
الثالث: إخبار الناس بالدليل بأنه ليس من بلغة إلى السعادة في اليوم الآخر إلا الذي عليه المسلمون من عبادة الله، وإتيان الفرائض، وترك ما نهى الله عز وجل عنه.
ليكون خروج المسلمين للناس في المقام من وجوه:
الأول: إظهار المسلمين التقوى والصلاح، وإقبالهم على العبادات.
الثاني: نبذ المسلمين لأفكار الضلالة، وعصمتهم من الإرتداد.
الثالث: قيام المسلمين بالجدال والإحتجاج بالحق، ودفع المغالطات، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الرابع: تلاوة آية السياق، وما فيها من الدعوة إلى الإسلام الزجر عن الكفر.
الخامس: تهيئة المسلمين للجهاد في سبيل الله، وتنمية ملكة الصبر عندهم وإتخاذها سلاحاً في محاربة الكفر والكافرين قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
ترى لماذا لم تذكر الآية الإسلام على نحو التعيين، وتقول (أفغير الإسلام يبغون) والجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية في نظم ذكر مواثيق الأنبياء، والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إشارة إلى أن أحكامها سابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبة لها، ومتأخرة عنها.
الثاني: إرادة بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية يتغشى أيام الحياة الدنيا، وتوكيد حقيقة وهي أن التكليف شامل للأمم السابقة بلزوم التصديق بنبي زمانهم وما جاء به من عند الله، ومنه البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً.
وفي دعاء إبراهيم ورد قوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( ).
وإن قيل إن الآية أعلاه جاءت خاصة بأهل مكة والبيت الحرام.
والجواب ليس فيها تخصيص وحصر إلا بخصوص تعيين إنتساب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى(منهم) وما فيه من الدلالة على أنه من العرب ومن أهل بيت الله الحرام.
أما قوله تعالى(وأبعث فيهم) فالمراد أن الله يخرج النبي من بين ظهرانيهم، ولا يأتيهم من غيرهم، وفيه توكيد بأنه ليس من بني إسرائيل.
وفيه دعوة لليهود للتصديق به، وعدم جعل قيد البنوة والنسب لإسرائيل شرطاً لإيمانهم.
وأما قوله تعالى(يتلو عليهم) فإن التلاوة على أهل مكة لا تعني عدم التلاوة على غيرهم لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الثالث: جاء في أسباب نزول الآية (عن ابن عباس قال اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم كل فرقة زعمت أنهم أولى بدينه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا و قالوا و الله ما نرضى بقضائك و لا نأخذ بدينك فأنزل الله أفغير دين الله يبغون) ( ).
لتكون الآية في مقام الإحتجاج وإقامة الحجة والبرهان على أهل الكتاب، وبيان أن المسلمين على ملة إبراهيم، قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
الرابع: يفسر القرآن بعضه بعضاً، وجاءت الآيات ببيان حقيقة وهي أن دين الله هو الإسلام , وأن الله عز وجل يظهره، قال تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( )، والظهور أعم من النصر في المعارك فيشمل الحجة والبرهان، ومنه تجلي الإعجاز في آيات القرآن، وسلامته من التحريف إلى يوم القيامة.
الخامس: في الآية دلالة على معرفة الناس بأن الإسلام هو دين الله، وأن دولة الإسلام أظهرها الله عز وجل، وأن المسلمين يؤدون الوظائف العبادية الواجبة.
الثامنة: جاءت الآية بمادة (بغى) وإرادة الكسب والطلب، فهل يختص قوله تعالى(أفغير دين الله يبغون) بالذين يسعون للإنتماء لملة غير الإسلام عن سعي وقصد، أم يشمل الذين يتوارثون تلك الملل، من غير أن يطلبوها.
الجواب هو الثاني، من وجوه:
الأول: إختيار الدين والملة الأصل الذي تتفرع عنه التكاليف الأخرى.
الثاني: تلقي الملة من الآباء دون سعي وإبتغاء.
الثالث: يتوجه الخطاب التكليفي للإنسان عند بلوغه سن البلوغ ذكراً كان أو أنثى، مع شرط العقل والإختيار، فيجب عليه أن يختار ما يجب عليه وهو دين الله.
وقد يقال إن إجتماع الإختيار والوجوب من إجتماع النقيضين.
والجواب لا، من وجوه:
الأول: التباين الجهتي، فيأتي الوجوب بصيغة الأمر من الله عز وجل، ويكون إختياراً من العبد.
الثاني: هذا الإختيار نوع إمتثال للواجب.
الثالث: إنه جزء من الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا.
الرابع: أراد الله عز وجل الأجر والثواب لعبده عند إختياره الإسلام، وصيرورته فرداً من (خير أمة).
الرابع: جاء قوله تعالى(يبغون) لتنبيه أولئك الذين يبقون على ما كان عليه الآباء من ملة الكفر والضلالة، بأن هذا البقاء سعي وطلب للحصول على هذه الملة، ولو لم يطلبها لإنحسر أمرها، وقلّ طلّابها وإقتدى به نفر من الناس.
وجاءت آية السياق بخصوص الدين، بينما ورد في القرآن خطاب وأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو قوله تعالى[قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ] ( )، وفيه آية إعجازية لأن الدين عام، وهناك المسلمون وأهل الكتاب والكفار، وأهل الكتاب يقرون بأن الله عز وجل هو الرب، ويؤمن اليهود بنزول التوراة على موسى، والنصارى بنزول الإنجيل على عيسى.
فجاءت آية السياق بذكر دين الله وأنه هو الإسلام على نحو الحصر والتعيين، لأن الآية في مقام البيان والتحدي والإصلاح، والزجر عن التولي والإعراض عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعجزات الباهرات التي جاء بها.
الخامس: تجلي معاني التكليف والسعي بلحاظ الآية السابقة لآية السياق، وعموم الذم والوعيد فيها لمن أعرض وإستكبر بعد قيام البينة بقوله تعالى[فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
لذا فإن الواو في[أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ] ضمير جماعة يعود إلى الفاسقين في الآية السابقة، وفيه آية إعجازية بعدم ترك الخارجين عن طاعة الله وشأنهم، بل يتكرر لهم الإنذار والتوبيخ مع الحجة والبرهان على سوء فعلهم، وجاءت آية(خير أمة) لأمور:
الأول: ترغيب الناس بالتوبة والإنابة.
الثاني: حث أهل الكتاب والناس على الإيمان, وبيان ضرورته .
الثالث: بعث المسلمين للتوجه لأهل الكتاب بالأمر بالمعروف وزجرهم عن الفسوق والمعاصي، وإختيار غير الإسلام ديناً، لأن هذا الإختيار علة للخسارة في الدنيا والآخرة.
التاسعة: القرآن مدرسة الإحتجاج، فكل آية منه مدرسة في الإحتجاج على الكفار والظالمين، قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا]( )، وفيه عون للمسلمين، ونصرة الله لهم في ميادين الجدال، وسوح المعارك وتلك آية في المدد الإلهي لهم، بأن تأتي الآية في ذم الكفار والمشركين، لتبعث في نفوسهم الفزع، وتمنعهم من كثرة الجدال وطلب البرهان لأن ذات الآية القرآنية حجة وبرهان على لزوم التوحيد، وعبادة الله عز وجل.
ولما وصفت الآية محل البحث المسلمين بأنهم(خير أمة) جاءت آية السياق لأمور:
الأول: تلقين المسلمين مادة وموضوع الإحتجاج.
الثاني: إرشاد المسلمين إلى البينات والدلالات الواضحات التي تكون أصولاً في إقامة الدليل على بطلان نهج الكفار.
الثالث: قبح إختيار الشرك والضلالة، وزجر الناس عنها.
الرابع: فيه تأديب للمسلمين، وإرشاد لإتيان التكاليف.
الخامس: بيان تعدد الصيغ والطرق في إنذار الكفار ودعوتهم للإيمان بالإحتجاج، فبعد الإنكار والتوبيخ في بداية آية السياق، جاءت خاتمتها بالإخبار بأن كل الخلائق منقادة لله عز وجل لبيان إنفراد الكفار من بين الخلائق بالجحود وترك وظائفهم بالتسليم لأمر الله عز وجل والإقرار له بالربوبية المطلقة والتصديق بالنبوات، وفيه توبيخ إضافي للكفار وحجة عليهم.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين إجتماع الذم والمدح مع التباين في الجهة والموضوع.
فتوجه الذم إلى الكفار لسوء إختيارهم، بينما جاء المدح والثناء على المسلمين بنعتهم بالإيمان (وتؤمنون بالله) وجاء الجزاء عاجلاً بخروجهم للناس، ليكون جزاء توليدياً، وسبباً بنيل الثواب والأجر العظيم إلى جانب إختيارهم الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن عمومات منافع هذا الخروج جهاد المسلمين لجعل الكفار يتركون الكفر والضلالة، ولجذبهم إلى الإسلام.
الحادية عشرة: جاءت آية السياق بذم وتحد الكفار لقبح إختيارهم، ويفيد الجمع بين الآيتين إنذار الكفار والإحتجاج عليهم من وجوه:
الأول: إسلام وإنقياد الخلائق كلها لله عز وجل.
الثاني: حتمية الرجوع إلى الله عز وجل، والوقوف بين يديه للحساب , قال تعالى[اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا] ( ).
الثالث: وجود أمة هي أسوة في طرق الهدى والرشاد، وهم المسلمون إذ إختاروا دين الله، وإتبعوا نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: خروج المسلمين للناس بآيات القرآن، وميراث النبوة، لتكون دعوتهم إلى الإسلام متكررة ومتجددة.
وهل تتكرر الحجة على الكفار بتعدد الدعوة، أم تكون الحجة متحدة، الجواب هو الأول، من وجوه:
الأول: إنه إنذار إضافي للكفار.
الثاني: بيان فضل الله عز وجل عليهم بعدم إنقطاع الدعوة إلى دين الله عنهم مع صدودهم وجحودهم.
الثالث: لقد جعل الله عز وجل الدنيا (دار الحجة) ومنها في المقام خروج المسلمين للناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر, ووجود القرآن حجة دائمة , وبرزخ دون الغلو أو التفريط.
الخامس: إيمان المسلمين بالله، وإنقيادهم لأوامره، وثباتهم على الإيمان، وإتيان الفرائض والعبادات بمرأى ومسمع من الناس جميعاً ليكون ترغيباً في الإسلام، وبياناً لإحراز النجاة في النشأتين به، قال تعالى[فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا] ( ).
السادس: بيان فضل المسلمين رتبة بالإيمان، ودعوة الناس للرجوع إليهم في الدنيا ليكون مقدمة للرجوع إلى الله عز وجل بأمن وسلام إذ أن خروج المسلمين للناس حث لهم على التعلم والإكتساب منهم والإنصات لهم في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتلك آية في بديع الخلق، فحينما تفضل الله عز وجل وأخرج المسلمين للناس فإنه سبحانه يجعل الناس يميلون إليهم، ويأخذون عنهم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، ليقابل خروج المسلمين لهداية الناس دخولهم جماعات وقبائل في الإسلام وعلى نحو طوعي ومن غير إكراه، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، إذ تكون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة للناس، ومن عمومات قوله تعالى في خطاب الملائكة والإحتجاج عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل أن الناس يرجعون لخير أمة، وينصتون لآيات القرآن وأن الدعوة إلى الإسلام تطرق أسماعهم بالليل والنهار، مع الحجة والبينة والشاهد النوعي العام، وهو وجود دائم للأمة عظيمة من المسلمين، تتصف بالحكمة وحسن الإختيار، وتظهر أبهى معاني الأخّوة في الله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
السادس: مجيء آية (خير أمة) بدعوة أهل الكتاب للإيمان , وبيان أنه نعمة وخير محض لهم، وفيه دعوة للكفار من باب الأولوية بالمبادرة إلى دخول الإسلام، وعدم السعي لدين آخر غيره.
الثانية عشرة: من بديع صنع الله كثرة الخلائق بما يعجز الناس عن إحصائها فضلاً عن تصورها في الوجود الذهني حالّا ومحلاً، وهذه الخلائق كلها منقادة لله عز وجل، تسبح بحمده قال تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
ويأتي(ما) لغير العاقل، وهو في المقام جامع للعاقل وغير العاقل للتغليب، وفيه مسائل:
الإشارة بأن غير العاقل من الحيوان والنبات والجماد أكثر من العاقل.
الثانية: تنبيه الناس إلى قلة جنسهم بين الخلائق , فهم آية من بديع صنع الله، ولكن ليس على سبيل الحصر الحقيقي أو الإضافي.
الثالثة: تحذير الناس من الغرور والعتو، والطغيان بكثرة العدد , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
الرابعة: إخبار الإنسان بأن الأشياء التي سخرها الله له في السماء والأرض تسبح لله عز وجل، فمن باب الأولوية أن يكون المسخرة له مسبحاً لله عز وجل مختاراً لدينه الذي إرتضاه لهم.
الخامسة: دعوة الناس لشكر الله عز وجل على تسبيح الخلائق بالإيمان وطاعة الله ورسوله.
ولم يخرج عن الإنقياد لله عز وجل إلا الكفار من البشر، ولعله من أسباب إحتجاج الملائكة عند جعل آدم خليفة في الأرض، كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )، لبيان مراتب التسليم والإنقياد لله وأن الملائكة فازوا بالمرتبة الرفيعة فيه بالتسبيح والتقديس والإنقطاع إلى الحمد والثناء على الله عز وجل.
ومن علم الله عز وجل في المقام وجود أمة مؤمنة هي(خير أمة) ترفع لواء الحمد لله، وتدعو الناس إلى الإسلام والإنقياد إلى الله، وقهر النفس الشهوية والغضبية ليكونوا صالحين , وبمرتبة الملائكة في إخلاص الطاعة لله عز وجل.
إن كثرة الخلائق وتعذرها على الإحصاء حجة على الكفار، ودعوة لهم للتوبة، وقد يكون الكافر بين أصحابه ويغتر بهم، ويظن أن كثرتهم لا تجتمع على خطأ.
فجاءت آية السياق بإبطال هذا الظن والشبهة وإخباره بأن الخلائق كلها منقادة لله، وأن(خير أمة) متمسكة بالكتاب والسنة.
الثالثة عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة أخرجت للناس أفغير دين الله يبغون) وفيه آية إعجازية في صلة الآيات من وجوه:
الأول: إنذار الكفار بوجود(خير أمة) تجتهد في طاعة الله، وهو حجة على الكفار.
الثاني: بعث المسلمين للتوجه إلى الناس جميعاً، وعدم تركهم يبغون ديناً غير الإسلام.
وليس من حصر لصيغ هذا التوجه، ولكن إختيار الكيفية يتم بهداية من الله عز وجل ، وحكمة ورشاد , وهو من خصائص(خير أمة) مع بيان قبح الكفر، وإقامة الحجة على الكفار، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ]( ).
ولو تم خلق الذباب وحيوانات أخرى بواسطة الإستنساخ فهل يتعارض مع التحدي الوارد في الآية أعلاه، الجواب لا، من وجوه:
الأول: ذكر خلق الذباب في الآية أعلاه من منازل القدرة والإبتداء في الخلق، وشواهد مقامات الربوبية التي يجعلون فيها الشركاء.
الثاني: الإستنساخ علم , وهو من عمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الثالث: لا يفتتن الناس بعلماء الإستنساخ، وكيفيته، ويسلم الجميع بأنه نتيجة للإرتقاء العلمي.
الرابع: لم يأت الإستنساخ إبتداء وخلقاً من العدم، بل هو من ذات خلايا الحيوان، في آية على حاجة الناس والعلماء لبديع صنع الله.
الثالث: ورد ذكر إبتغاء الكفار لغير الإسلام ديناً بصيغة المضارع، بينما ورد الإخبار عن كون المسلمين(خير أمة) بصيغة الماضي مما يدل على أن الإيمان ثابت في الأرض، وسابق للكفر.
الرابع: تمنع(خير أمة) إبتغاء الناس لغير الإسلام ديناً، فتقوم بتلاوة آيات القرآن، وإظهار طاعة الله، وتبكيت الكفار ودعوتهم للإسلام، ومحاكاة الخلائق بالإنقياد إلى الله عز وجل.
إن إنفراد الكفار بالكفر والشرك من بين الخلائق سبب لنزول الغضب الإلهي بهم، لذا أختتمت آية السياق بالإخبار عن رجوعهم إلى الله للحساب، ليكون عقاب من يصر على الكفر الخلود في النار، وهذا الإخبار دعوة لهم للتدارك في الحياة الدنيا، والرجوع بمعنى الإنابة والتوبة، قال تعالى[وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ).
ومن الآيات إخبار القرآن عن كون المسلمين(خير أمة) وبيان وظائفهم الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة عشرة: إبتدأت آية السياق بلفظ (أفغير) ويتكون من ثلاث كلمات وهي:
الأول: همزة الإستفهام الإنكاري.
الثاني: حرف العطف (الفاء).
الثالث: (غير) وهو مبهم، تبين إضافته إلى غيره موضوعه ومحموله على نحو الإجمال، دون أن ترفع إبهامه تماماً.
ومن إعجاز القرآن إستبانة معاني(غير) من وجوه:
الأول: ذات الآية القرآنية، ومضامينها القدسية.
الثاني: أسباب نزول الآية القرآنية.
الثالث: آيات القرآن الأخرى، وتفسيرها لذات الآية، ومعاني (غير) فيها.
الرابع: السنة النبوية وما فيها من البيان والتفسير لآيات القرآن ( وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه( ).
وتبين الآيتان موضوع التكليف بلزوم الإسلام، وترك الإدبار عن دعوة (خير أمة) لعبادة الله.
إن التولي والإعراض عن دعوة الإسلام طلب وإبتغاء لدين آخر، وهو من أسرار مجيء(غير) في الآية، وفيه تفقه لخير أمة في الدين ومعرفة أحكام الشريعة.
الخامسة عشرة: قيام الحجة على الكفار، فمن في السموات والأرض أسلموا لله عز وجل، أما الكفار فقد جاءهم الأنبياء مبشرين ومنذرين، وأخرج الله عز وجل المسلمين ليكونوا ورثة للأنبياء، ودعاة للإسلام، وأهل الإنقياد ولأمر الله.
وتبدأ هذه الدعوة من أنفسهم وذراريهم فهم يرفعون لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ويتقدمون به نحو الناس جميعاً بثبات وصبر وتحد، وجهاد في سبيل الله، ليكون فيه حجة على الكفار، وترغيب لهم بالصالحات.
ومن الآيات أن الكفار لا يتلقون هذا الأمر والنهي بالإعراض والصدود على نحو السالبة الكلية والعموم الإستغراقي، وليس كل الكفار يصرون على الكفر، فمنهم من يترك منازل الكفر، وهم على أقسام:
الأول: من يتدبر في الآيات الكونية ويتعظ منها، لذا جاءت آيات القرآن بالحث على جذب الناس للآيات الكونية، والتدبر في عظمتها ودلالاتها على وجود الصانع ولزوم عبادته، قال تعالى[قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثاني: الذين ينصتون إلى المسلم الذي يتلو آيات القرآن، ويدركون الإعجاز الذاتي والغيري فيه.
الثالث: تلقي الكفار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمتثال بعضهم للأمر، وإجتنابهم للمنكر.
الرابع: إقتداء شطر من الكفار بالمسلمين، وتجلي معاني الميل للإيمان في صدورهم.
الخامس: مفاهيم الترغيب بالإسلام بالثناء من الله على المسلمين ونعتهم بأنهم(خير أمة) وتلك آية في معاني القرآن وإعجازه الغيري، فتأتي آية في وصف ومدح المسلمين فتجعل قلوب الكفار تميل للإسلام وتنجذب إلى مبادئه ويدرك الناس إنعدام البرزخ والحاجب بينهم وبين الإرتقاء لمنازل(خير أمة).
فليس بينهم وبينها إلا القيام بالواجب الشرعي بالنطق بالشهادتين وإتيان الفرائض، وهو من إشراقات وبهاء علم الصلة بين الآيات، بل وعلم التفسير الذاتي للآية القرآنية، فقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، حرب على الكفر والضلالة، فيدخل الناس الإسلام ولا يعلم بعضهم بسر دخولهم على نحو التعيين وهو المضامين القدسية لآيات القرآن ليكون من إعجازه الندبة البيضاء التي تتركها آياته في قلب الإنسان براً أو فاجراً وتداخلها وإلتقاؤها مع نفخ الروح من الله عز وجل في آدم عليه السلام، قال تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
لتتوجه أسباب الدعوة إلى الإسلام للإنسان من ذاته وروحه، وتأتيه من الخارج بكلام الله والنبوة وخير أمة، وهو من أسرار قوله تعالى(أخرجت للناس) فلم تكن منافع المسلمين خاصة بهم، ولم يكتفوا بإصلاح أحوالهم، بل تقتضي وظيفتهم الشرعية التوجه للناس جميعاً مع تعيين كيفية وموضوع التوجه وهو لباس التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قلت لم تذكر آية البحث خروج المسلمين بالتقوى، والجواب من وجوه:
الأول: تستقرأ التقوى من مدح المسلمين ووصفهم بخير أمة، فلا ترتقي أمة لهذه المرتبة إلا بالصلاح والتقوى والخشية من الله.
الثاني: مجيء آيات القرآن التي تثني على المسلمين وتقواهم، وقد جاءت عشرات الآيات في التقوى وبلغة الشرط، والإخبار عن منزلة المتقين يوم القيامة, قال تعالى[وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ]( )، ويستقرأ وصف المسلمين بالتقوى من وجوه:
الأول: الجمع بين آيات القرآن.
الثاني: أحاديث السنة النبوية.
الثالث: إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية التي يتعلق عليها وصف التقوى والتلبس به، ومنها وصفهم بأنهم(خير أمة).
الرابع: بعث المسلمين في سبل ومسالك بلوغ مراتب التقوى، قال تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، وهو من خصائص خير أمة بأن يتسابق المسلمون في مراتب التقوى قربة إلى الله.
الخامس: اللطف الإلهي بالمسلمين بتقريبهم إلى منازل التقوى وليس من حصر لهذا الباب والآيات التي جاءت بخصوصه، وهو من سعة رحمة الله، وفضله على المسلمين والناس، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
إن إجتهاد المسلمين في منازل التقوى، وإظهارهم الخشوع لله عز وجل من عمومات خروجهم للناس، وتلك آية في جعل المسلمين(خير أمة) بأن تكون أفعالهم مرآة للهداية والرشاد، وحجة على الكفار، ودعوة لهم لدخول الإسلام.
السادسة عشرة: لقد أخبرت آية السياق عن إنقياد أهل السماوات والأرض لله عز وجل، ولم يخرج من هذا الإنقياد إلا الفاسقين من بني آدم، لتتضمن الآية الثناء على المسلمين، وأنهم ممن أسلم لله عز وجل، ويحتمل إسلامهم بلحاظ قوله تعالى[وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا]( )، وجوهاً:
الأول: المسلمون والمسلمات ممن أسلم لله عز وجل طوعاً وعن رضا.
الثاني: دخل المسلمون الإسلام قهراً، ولكنهم إنقادوا لأوامر الله فيما بعد طواعية وعن قبول.
الثالث: أسلم المسلمون لله كرهاً.
الرابع: التفصيل فمن المسلمين من يمتثل للأوامر الإلهية طوعاً ومنهم من يأتيها مكرهاً.
والصحيح هو الأول، فكل مسلم ومسلمة ينطقان بالشهادتين ويؤديان الفرائض، وينقادان للأوامر الله عز وجل طواعية وعن رضا، لذا وصفهم الله بأنهم(خير أمة).
وتدل عليه الشواهد اليومية وشوقهم لأداء العبادات فعندما يقبل شهر رمضان يتلقاه المسلمون بالبهجة والرضا لأنه مناسبة لعبادة الصوم، ونيل الثواب العظيم، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، وهذا التلقي وأداء فريضة الصوم من مصاديق إسلامهم وإنقيادهم لله عز وجل طوعاً وخروجهم للناس ودليل على تجلي أحكام دين الله للناس جميعاً، ودعوتهم للتسليم بربوبيته المطلقة.
وتتضمن آية السياق الوعيد للكفار، وإجبارهم على دخول الإسلام كرهاً، وتعددت الأقوال في تفسير قوله تعالى(طوعاً وكرهاً) وبيناها في تفسير آية السياق( ).
إن بغي وإختيار الكفار دين الضلالة ليس مستقراً ولا ثابتاً، فالدعوة إلى الإسلام تأتيهم بالحجة والبرهان والقول باللسان والفعل والإكراه أيضاً، وفيه أمور:
الأول: إنه بيان وتفسير لقوله تعالى في الآية محل البحث (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
الثاني: دعوة المسلمين للجهاد في سبيل الله، وجذب الناس لمنازل الإيمان وإزاحة جاثوم( )، الكفر عن صدور الكفار، وإنقاذهم بالموعظة والسيف من الضلالة.
الثالث: فيه إرشاد وتأديب للمسلمين، فقد يظهر بعض الكفار التردد في دخول الإسلام بما يظن معه أن السيف لا ينفعه، وإن إسلامه سيكون ظاهرياً، فجاءت آية السياق لإخبار(خير أمة) بصحة دخول الإنسان الإسلام بصيغ الإكراه والإجبار، وقبول نطقه بالشهادتين وأن لم يؤمن قلبه بعد.
فمن إعجاز القرآن ورحمة الله بالناس توجه الدعوة للكفار لدخول الإسلام بلحاظ الآيتين من وجوه:
الأول: لغة الإنكار والتوبيخ للكفار بسبب طلبهم غير الإسلام ديناً.
الثاني: توكيد القرآن لحقيقة في الإرادة التكوينية وهي الحصر والإتحاد في دين الله، وأنه الإسلام، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الثالث: إخبار آية السياق عن فوز الخلائق بالتسليم لله عز وجل، وتخلف الكفار عن هذه النعمة العظيمة مع وجود المقتضي لدخول الإسلام، وفقد المانع عنه.
قانون اسم (أحمد)
جاء في التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام في خطابه الرسالي لبني إسرائيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( )، وفيه مسألتان:
الأولى: لماذا ذكر عيسى عليه السلام النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم باسم أحمد، ولم يقل محمد وهو إسمه الذي سمي به عند ولادته، والذي عرفه الناس به، ليكون عوناً لهم في التصديق به حين بعثته بالموافقة بين البشارة والمصداق.
الثانية: صحيح أن عيسى ذكر النبي وبشّر به باسم أحمد، فلماذا لم يذكره القرآن باسم محمد وتقول[بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]، والجواب على المسألة الأولى من وجوه:
الوجه الأول: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الأنبياء السابقين، ودعوتهم الناس للإستعداد لبعثته، وإتباعه ونصرته حينئذ، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( )، فأحمد للمبالغة، وهو على شعب:
الأولى: مبالغة من الفاعل أي أنه أكثر حمداً وشكراً لله عز وجل من الناس، وفيه أمور:
الأول: بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثاني: الإشارة إلى نسخ الشريعة الإسلامية للشرائع السابقة.
الثالث: حث بني إسرائيل والناس على الحمــد والشكر لله عز وجل على نعمة النبوة والنعم مطلقاً، لأن الحمد واقية من العناد والإستكبار.
الثانية: يكون لفظ(أحمد) مبالغة من المفعول أي يحمده الآخرون أكثر مما يحمدون غيره، وفيه أمور:
الأول: حَمَدَه الأنبياء السابقون وأتباعهم من الصالحين لتثبيت صرح التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة.
الثاني: يحمده الناس على أخلاقه الحميدة ورأفته بالمؤمنين.
الثالث: يحمده المسلمون لأن الله عز وجل هو الذي أثنى عليه وعلى حسن خلقه، قال سبحانه[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
الثالثة: إرادة حمد المليين والناس أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقواها وصلاحها وجهادها في سبيل الله، وبلوغها مرتبة(خير أمة) لأن الحمد مقدمة لهذا البلوغ ونتيجة مترشحة عنه، ومصاحب له.
فما دام المسلمون في منزلة(خير أمة) فإن الناس يثنون عليهم بإعتبارهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحمدونه لأنه نبي وإمام المسلمين.
الرابعة: حمــــد وثناء الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعاؤهم له، وهو من الشـــواهد على إقرارهم بحـكمة الله عـز وجل جعل الذي[خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ] ( )، وإحتجـــاج الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمــن علـم الله عز وجل أن الملائكة أنفسهم يحمدون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإقامته حكم الله في الأرض، وصلاح أمته، فمن يدخل الإسلام ينجو من الفساد والإفساد، ومن لا يدخل الإسلام يخشى العقاب والقصاص، ويستبين عنده القبح الذاتي للفساد.
ويكون المسلمون أسوة للناس في التنزه من الفساد، مما يجعل الملائكة تثني وتحمد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ن عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ]( ).
الخامسة: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الأنبياء والناس حمداً يوم القيامة لأن المسلمين الذين يدخلون الجنة أكثر من المليين الآخرين، وهو الذي يحمل لواء الحمد يوم القيامة .
السادسة: الفرد الجامع للمبالغة من الفاعل، ومبالغة من المفعول، وهو من الشواهد على نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوسيلة والمقام المحمود، وتفضيله على الأنبياء الآخرين.
الوجه الثاني: يدل ورود اسم أحمد في الآية الكريمة بالدلالة التضمنية على تعدد أسماء النبي محمد، وقد نال بعض الأنبياء الفضل الإلهي بذكرهم في القرآن بأكثر من اسم مثل نبي الله يعقوب وإسمه الآخر إسرائيل قال تعالى[كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ] ( ).
فمع أن إسمه يعقوب ورد في القرآن ست عشرة مرة، فلم يرد باسم إسرائيل إلا مرتين، وفي الآية أعلاه نكتة وهي أن اسم إسرائيل ذكر لأمور:
الأول: إقامة الحجة.
الثاني: منع اللبس.
فالآية ذكرت بني إسرائيل، فإذا قالت يعقوب قد يقول بعضهم بتعدد المسمى بلحاظ تعدد الاسم في آية وموضوع وأحد.
الثالث: جاءت الآية للإحتجاج على اليهود، وإثبات حلية لحوم الإبل، وأن زمان إسرائيل متقدم على نزول التوراة وأيام موسى عليه السلام، ولبعثهم على الإقرار بالنسخ في الشرائع لأنهم يعلمون بشريعة موسى عليه السلام.
وكماّ ذكر القرآن بعض الأنبياء بأكثر من اسم فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهذه النعمة والكرامة وهو من الشواهد على شكر الله عز وجل له.
الوجه الثالث: لا بد من وجود نكتة عقائدية في تسمية عيسى عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحمد وهي من جهات:
الأولى: الحفاظ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صباه، والتورية على الكفار والظالمين الذين ينوون قتل النبي قبل ظهور دولته، وقد جرت محاولات لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وبعدها، وكانت تسمية أحمد واقية من محاولات أخرى أشد، كيداً ومكراً.
الثانية: بيان حقيقة وهي أن اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الأنبياء السابقين (أحمد).
الثالثة: كان اليهود يأملون أن يكون نبي آخر الزمان منهم ولهذا سكنوا مدينة يثرب لعلمهم بأنه يبعث فيها، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ] ( ).
فجاء خطاب ليس لبني إسرائيل بأن إسمه (أحمد) دليل على أن النبي عربي وليس من بني إسرائيل، لأن اسم أحمد عربي، ولم يكن بنو إسرائيل يسمّون بهذا الإسم.
ومن الآيات أنه حتى بعد بشارة عيسى عليه السلام لم تجد عندهم اسم أحمد، ولعله حتى بعد أن بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت هذه الآية وإنكارهم لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحريف صفاته الواردة في التوراة لطغيان النفس الغضبية والحسد عندهم وخشيتهم من كون التسمية به إقراراً بنبوته، وترغيباً لأولادهم بالإسلام (لما اتي بصفية بنت حيي الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم شاهد النبي صلى الله عليه واله وسلم أثراً في وجهها لم يزل بعد لم يندمل سألها ما هو؟ فأخبرته أنها كانت قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمراً وقع في حجرها وقصت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا انك تتمنين ملك الحجاز محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولطم وجهها لطمة أخضرت عينها منها وزفت لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهي لم تزل بعد) ( ).
الرابعة: بيان تعدد ماهية وسنخية البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت التوراة بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته , وتعدد مضامين ومواضيع البشرى والأخبار النبوية والكتابية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الشواهد على صدقه، وأسباب بعث السكينة في نفوس الناس لنبوته، وتلقيها بالتصديق.
الوجه الرابع: تعدد أسماء النبي محمد، ودعوة المسلمين إلى تسمية أبنائهم بها رجاء . وبعثاً للعلماء على إستنباط المسائل الكلامية والعقائدية من تعدد أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصائص كل إسم.
وفي صحيح البخاري بالإسناد عن جبير بن المطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن لي أسماء أنا أحمد وأنا محمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي و أنا العاقب الذي ليس بعدي نبي) ( ).
الوجه الخامس: لقد جاءت الآيات من سورة الصف أعلاه بإعجاز إضافي يدل على علة تسمية عيسى عليه السلام النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم باسم محمد، ومضامين التورية على الكفار وتوكيد صدق نبوته بقوله تعالى بعد البشارة باسم النبي ونبوته[فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
فلا ينحصر الأمر بالبشارة بالإسم، بل جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الساطعة والبراهين القاطعة على صدق نبوته وأنه هو نفسه الذي بشّر به عيسى عليه السلام خصوصاً وأنه ليس من نبي بعد عيسى عليه السلام إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجاء على فترة من الرسل، وبينهما نحو ستمائة عام، ليكون الاسم المتعدد دالاً على المسمى المتحد.
ومن الآيات إتحاد إشتقاق الإسمين، وإجتماعهما في مادة(حمد)، ليكون الحمد لله علامة من أبرز علامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي بإعتبار أن تسميته بفضل وآية من الله عز وجل.
وقد جاء الحمد في أول سورة الفاتحة وبعد البسملة[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، ليقرأها كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم ويكون من الشواهد العملية المتجددة على إستحقاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفوز أمته بمنزلة(خير أمة).
والذين أنكروا نبوة عيسى عليه السلام وهم اليهود، والذين صدّقوا بنبوته عليه السلام كالنصارى لم يأخذوا بهذه البشارة للتبديل والتغيير الذي طرأ على التنزيل فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء لهم بالبينات، فعليهم التصديق بها والإقرار بأنها آيات من عند الله لا يأتي بمثلها إلا نبي مرسل، قال تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ] ( ).
فذات الآيات حجة وبرهان، ومنها ورود اسم (أحمد) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بالآية المتقدمة من سورة الصف، ولزوم تلقيه بالقبول، وأن المقصود به هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسمائه، وفيه إشارة إلى أن تسمية النبي بأحمد هي من عند الله .
وقد رزق الله عز وجل النبي يحيى إسماً من عنده وبالوحي إلى زكريا بقوله تعالى[يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( )، فما رزقه الله عز وجل للأنبياء السابقين من النعم رزقه الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول: إنه إشراقة سماوية في عالم الأسماء.
الثاني: يبعث هذا الاسم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السكينة في النفوس لما فيه من اللجوء إلى الله ومعاني الطاعة والخشوع له سبحانه.
الثالث: بيان إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء على الله عز وجل.
الرابع: دعوة المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحمد والشكر لله عز وجل، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الخامس: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله وإكرامه له.
السادس: إخبار المسلمين بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الأنبياء السابقين هو أحمد.
وهل يمكن القول بمعرفة الأنبياء السابقين لاسم محمد , الجواب نعم فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفي غيره , وفي ورود البشارة بأسم(أحمد) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تورية وواقية عند ولادته، وعند ظهور أمارات ومقدمات النبوة.
السابع: توكيد نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعبوديته وخضوعه لله عز وجل.
الثامن: البشارة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام صباه، وإلى حين بعثه نبياً ومجيئه بالمعجزات والدلالات الواضحات، أما مسألة الثانية، وهي أن القرآن ذكر البشرى بذاتها وباسم أحمد ولم يقل محمد، ففيه آية إعجازية من وجوه:
الأول: لقد نزل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ومنه بشارات الأنبياء.
الثاني: الدلالة على أن البشارة تأتي بصيغتها وذات اللفظ.
الثالث: التباين في لغات الأنبياء وألسنة قومهم لم يمنع من كر الإسلام العربي (أحمد) بينهم، وأن اللفظ العربي لا يتعارض معها، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]( )، بالإضافة إلى أن إخبار عيسى عليه السلام عن قضية شخصية واسم يدل على نبي آخر الزمان فهو ذات الاسم وإن تباينت اللغات نعم فيه إشارة إلى شيوع اللفظ العربي بين عموم المسلمين من القوميات المختلفة.
الرابع: إحاطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواقية وحرز، وعدم جعل الكفار يبطشون به قبل بعثته.
الخامس: دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي ذكرتها الآية أعلاه من سورة الصف، ومع ظهور التحدي فيها، وعجزهم عن الإتيان بما فأنهم نعتوها بأنه(سحر مبين) مما يدل على إصرارهم على إنكار نبوته، ومن الآيات أنهم لم يتعرضوا إلى شخص النبي محمد ورسالته بل وصفوا تلك المعجزات بأنها سحر ظاهر وبين، وفيه مسائل:
الأولى: دعوة الناس للتدبر في حقيقة وأسرار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: بيان فضل اله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً بجعل معجزة القرآن عقلية خالدة، تتجلى آياتها الباهرة في كل زمان بمصاديق ظاهرة، وآفاق علمية متجددة وشواهد تجذب الحواس، وتدعو لعبادة الله.
الثالثة: لا يستطيع قول الكفار(سحر مبين) معارضة تلك البينات ولا البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: لقد جعل الله البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء والرسل قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت النصوص والأخبار ببشارة الأنبياء السابقين به إبتداء من آدم عليه السلام.
والنبي محمد حامل لواء الحمد يوم القيامة (أخرج الدارمي وابن عساكر عن عمرو بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله أدرك بي الأجل المرحوم واختارني إختيارا فنحن الآخرون السابقون يوم القيامة وإمي قائل قولا غير فخر إبراهيم خليل الله وموسى صفي الله وأنا حبيب الله ومعي لواء الحمد يوم القيامة وأن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث لا يعمهم بسنة ولا يستأصلهم عدو ولا يجمعهم على ضلالة)( ).
الخامسة: إنكار الكفار للمعجزات التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على أنهم لم يعترضوا على الإسم، ولم يقولوا بالتباين بين اسم أحمد في البشارة، وتسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي أنهم أيدوا التوافق بين الإسمين، أما إنكار المعجزات فقد كذّبوا بمعجزات الأنبياء السابقين .
وفي فرعون وملئه ورد قوله تعالى[فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ] ( )، كما ورد في ذم الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكتفوا بنعته بالسحر قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ] ( ).
ترى لماذا ينعت الكفار معجزات الأنبياء بأنها سحر مع التباين الموضوعي بينها وبين السحر، الجواب من وجوه:
الأول: إنه هروب من الوظيفة الشرعية.
الثاني: الإصرار على تعطيل العقل، وترك للتدبر.
الثالث: الإستمرار بالجحود والإستكبار.
الرابع: حب الرياسات في الكفر، وما يأتي بواسطتها من الأكلات على العامة، والمنافع الخاصة.
الخامس: غلبة الحسد والنفس الغضبية وحمية الجاهلية.
بحث منطقي
قسمة الشيء تجزءته وشطره إلى أفراد متعددة، والقسمة مسألة فطرية مصاحبة للإنسان في أمور حياته، وشؤونه الخاصة.
فيسمى الشيء(مقسماً) وأفراده أقساماً، ومفردها(قسم)، ويكون القسم بلحاظ صلته بالأفراد الأخرى(قسيماً).
وتتعدد القسمة بلحاظ الموضوع والحكم، فيفرق الشيء بحسب الموضوع، فما يكون قسماً في موضوع يكون جزء من قسم في موضوع آخر، وعدة أقسام في غيره.
وقد نزل آدم وحواء عليهما السلام إلى الأرض، ذكراً وأنثى، ويمكن التقسيم من جهة عقائدية إلى نبي وغير نبي، بلحاظ أن آدم نبي، وإلى خليفة وتابع له، وإلى أب وأم بلحاظ الأولاد، ولا تقف القسمة عند الثنائية بل تنشطر وتتفرق الأجزاء من الإثنين أو أكثر، فلو أردت تقسيم ما موجود في البستان لتعددت القسمة بحسب الأشجار والأثمار والخصائص.
ولا بد للقسمة من نفع وقصد للذي يقوم بالتقسيم، وفق الموضوع أو الحكم، وبما يمنع من اللبس والجهالة والغرر، فيتخذ بقواعد التقسيم فلا يكون قسيم الشيء قسماً منه، ولا يدخل في القسمة ما هو ليس من المقسم، ولا يخرج من أفراده شيء لتكون القسمة جامعة مانعة.
ويحتاج الفقيه والعالم القسمة في أمور كثيرة منها المواريث، وتقسيم الحصص، والأموال قال تعالى[وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ]( ).
وقسمت الآية محل البحث الناس إلى أقسام:
الأول: (خير أمة) وهم المسلمون.
الثاني: أهل الكتاب وبيان أن الإيمان خير لهم، وقسمتهم الآية إلى قسمين:
الأول: المؤمنون.
الثاني: الفاسقون.
الثالث: الكفار والمشركون.
وصحيح أن الآية لم تذكرهم بالاسم إلا أنها تدل عليهم بلحاظ قوله تعالى(أخرجت للناس).
وبين الناس وأفراد القسمين أعلاه عموم وخصوص مطلق، فالناس أعم، والمسلمون لم يخرجوا لأهل الكتاب فقط بل لهم وللكفار وللذين إبتغوا غير الإسلام ديناً لدعوتهم للإيمان والصلاح.
وتكون القسمة أحياناً ثنائية بتفرقة القسم إلى قسمين، وكل قسم يكون مقسماً ويجزأ إلى أقسام عديدة، ولكن القسمة الواردة في آية السياق تقبل القسمة من الطرف والقسم المجمل ولا تقبله من الطرف والقسم المبين، فالذين يبغون غير دين الله على أقسام عديدة ومتباينة، بالذات والدين والطريقة التي يبغونها.
أما الذين يبغون دين الله فهم لا يقبلون التجزئة والتقسيم، وتدل عليه الآية محل البحث إذ تصف المسلمين بأنهم(خير أمة) ويتحدون في طاعة الله ورسوله، والثبات على الإيمان، وفيه آية في حث المسلمين على الإتحاد والتآخي، وإجتناب الإنقسام إلى مذاهب وطرق شتى، وإستقلال تلك المذاهب بمشخصات ومناسك وعادات مخصوصة، ثم يزداد الأمر إلى رمي المذاهب الأخرى بالخطأ والضلالة ونحوه.
ولا تقف الآية محل البحث عند مرتبة الحث، بل هي بشارة بقاء المسلمين متحدين متآخين لا يقبلون القسمة، فإن قلت يدل الواقع على إنقسام المسلمين إلى مذاهب فقهية وكلامية ويعلن فريق من المسلمين إنتماءهم إليها، وهذا الجواب صحيح ولكن واقع المسلمين الحالي لا يصلح أن يكون قسمة تامة في ذاته وزمانه ومكانه، أما الذات فيتسالم المسلمون جميعاً على أنهم(خير أمة) واحدة، ويحرصون على العمل بالكتاب والسنة، ويقفون في صفوف الصلاة في وقت يومي متجدد مخصوص من غير إعتبار للمذهب ونحوه ويقرأون ذات السور والآيات من غير إختلاف أو تباين.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، أما الزمان فإن مسألة المذاهب متزلزلة وغير مستقرة، ويتسالم المسلمون على عدم وجودها أيام النبوة، وأيام الصحابة والتابعين.
وجاء زمان العولمة، وتقارب البلدان ليكشف تخلفها عن خصائص المسلمين كخير أمة أخرجت للناس، خصوصاً وأن الآية نعتت المسلمين بالإتحاد في خروجهم للناس وهو المستقرأ من وصفهم بالأمة الواحدة، وأنهم(خير أمة)وفيه بشارة زوال مسألة المذاهب، وإتحاد المسلمين في العمل على نحو متحد ومشترك، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
صلة(وإليه يرجعون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: أختتمت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية التي تتضمن الإنذار والوعيد للكفار، ومن الإعجاز في اللفظ القرآني تعدد وتباين أثره بين الناس، وترتب التغير نحو الصلاح عليه، فقوله تعالى(وإليه يرجعون) إخبار عن عودة ووقوف الناس جميعاً بين يدي الله للحساب، قال تعالى[وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ]( )، ليكون الإخبار عن عودة الناس لله عز وجل على وجوه:
الأول: إنه وعيد للكفار لأنهم أصروا على إختيار غير الإسلام ديناً، وإمتنـعوا عن إتيان الفرائض والواجبات، وبلحاظ تفسير القرآن بعضه لبـــعض فقد جاء بيان لحال الكفار عند رجوعهم إلى الله عز وجل، قال تعالى[مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ]( ).
الثاني: البشرى للمسلمين بالإخبار عن فوزهم بالثواب العظيم، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] ( )، وفيه ترغيب للكفار بالإسلام، ودعوة للمسلمين لجذبهم لمنازل المغفرة والرضوان.
الثالث: بيان حتمية الحشر والحساب، وتوكيد حقيقة وهي أن الدنيا مزرعة للآخرة فتأتي الآية باللفظ والموضوع المتحد، ولكن المقاصد الحميدة منه متعددة، ومتباينة، ويكون التعدد على وجوه:
الأول: كثرة وتعدد الجهات التي يتوجه لها اللفظ القرآني في منطوقه ومفهومه كما في توجهه للمسلمين وأهل الكتاب والكفار.
الثاني: التعدد في المقاصد السامية بخصوص الجهة الواحدة، فجاء قوله تعالى(وإليه ترجعون) على وجوه:
الأول: إنذار الكفار، وتحذيرهم من الوقوف بين يدي الله للحساب.
الثاني: إقامة الحجة على الكفار.
الثالث: دعوة الكفار للتوبة والإلتحاق بالمسلمين.
الرابع: توكيد وقوع النشور ، وبعث الناس بعد الموت للجزاء على أعمالهم في الدنيا.
الثالث: الدلالات والموعظة والدروس المستقرأة من الآية الكريمة.
الرابع: شمول مضامين الآية الكريمة لأحوال الإنسان في الدنيا والآخرة بلحاظ أن الآخرة دار حساب يتوقف على العمل في الدنيا، قال تعالى[وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
الثانية: من مصاديق(خير أمة) الأمن والسلامة من الإنذارات القرآنية التي تتوجه إلى الكفار.
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالتمسك بالقرآن، والعمل بأحكامه، ومن شكره تعالى لهم تفضله بجعلهم في مأمن من الإنذارات ولغة الوعيد، وهم يقومون بالتبليغ وإنذار الكفار من وجوه:
الأول: تلاوة آيات الإنذار، ومنها ما يكون الإنذار بالمنطوق والتصريح، ومنها ما يكون بالمفهوم والتعريض قال تعالى[وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ]( ).
الثاني: بيان السنة النبوية وأحكامها، وما فيها من الموعظة والتخويف للكفار، وتوكيد تخلفهم عن واجبهم في إتباع ونصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إظهار المسلمين التقوى والخشية من الله، فالمسلمون مع إيمانهم والثناء عليهم ووصفهم بأنهم(خير أمة) ومجيء آيات البشرى والأمن والسلامة لهم يوم القيامة، كما في قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، فأنهم يظهرون أسمى معاني التقوى والخوف من الله عز وجل، ويبادرون لأداء الوظائف العبادية وفيه حجة على الكفار، ودعوة لهم للتوبة والإنابة، يتضمن قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، تنبيه أهل الكتاب والناس جميعاً لأمور:
الأول: إن صبر وتقوى (خير أمة) سبب لنزول الملائكة لنصرتها وإعانتها.
الثاني: نزول الملائكة وسيلة لهزيمة كفار قريش والذين يعتدون على المسلمين.
الثالث: لزوم إجتناب التعدي على المسلمين وثغورهم.
ومن الآيات في إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) أن الله عز وجل يأمرهم بالتقوى، ويوفقهم للإمتثال لأوامره، ويكون الأمر والإمتثال مجتمعين ومتفرقين سبباً لأمور:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، بتقريب وهو أن الإمتثال مقدمة لنزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثاني: إنه حجة على الكفار إذ أنهم مكلفون بالأصول والفروع ولكنهم تخلفوا عن وظائفهم وفاز المسلمون بأدائها قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ]( ). وحجة عليهم، وسبيلاً مباركاً لهدايتهم للإسلام .
الثالث: إنه سبيل مبارك لهداية الناس للإسلام، والإقتداء بالمسلمين، وكون المسلمين يقتدي بهم الناس من الدلائل على أنهم(خير أمة)، وفيه ترغيب بتقوى الله التي لا تصح إلا بقيد الإسلام.
الثالثة: في الجمع بين الآيتين ثناء على المسلمين لأنهم أقروا برجوعهم إلى الله عز وجل، وإستعدوا له بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي وعيد وتخويف الكفار برجوعهم إلى الله عز وجل موضوع لإحتجاج المسلمين، وجدالهم مع الكفار، ودعوة للمسلمين للتذكير باليوم الآخر، وبيان مواطنه وأهواله حسب الكتاب والسنة، ليكون من صفات(خير أمة) تفسير الآية القرآنية، بما فيه التفصيل .
فمن الناس من يقف عند قوله تعالى(وإليه يرجعون) فيتعظ ويعتبر منه وينقدح في نفسه الخوف ويدرك لزوم أخذ الحائطة له بالعمل الصالح، ومنهم من يأتيه تكرار المسلمين التلاوة، وبيانهم لأهوال الآخرة فيستحضرها في الوجود الذهني ويسعى للتوبة مخلصاً، وفيه أمور:
الأول: حاجة الناس للمسلمين، ودعوتهم إلى الله عز وجل.
الثاني: ضرورة بعث الناس لإستحضار أهوال الآخرة، وحتمية الوقوف بين يدي الله سبحانه.
الثالث: التذكير بالرجوع إلى الله عز وجل حجة على الكفار، مناسبة للتوبة والإنابة.
الرابع: نيل المسلمين الثواب العظيم بتذكيرهم بالآخرة.
ومن خصائص(خير أمة) إكتناز الحسنات على نحو مركب ومتعدد في الموضوع المتحد، فإقرار المسلمين بالرجوع إلى الله مناسبة لنيل الثواب العظيم من وجوه:
الأول: إنه إمتثال لأمر الله، وتصديق بالتنزيل والوعد والوعيد قال تعالى[يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ] ( ).
الثاني: توكيد حقيقة وهي وجود أمة من أهل الأرض تؤمن بالبعث والنشور وعالم الحساب والجزاء.
الثالث: تنمية ملكة الجدال والإحتجاج عند المسلمين، وهي عون لهم في بيان ضرورة الإيمان بالله واليوم الآخر، ورد الشبهات والمغالطات بخصوص اليوم الآخر.
الرابع: سعي المسلمين لليوم الآخر وما فيه من الثواب، وكأنه حاضر عندهم فيعيشون في الدنيا، ولكن قلوبهم معلقة في الآخرة.
وهل هذا الإقرار من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب إنه مقدمة وأصل لهذا الأمر والنهي، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، بتقدير: كنتم خير أمة تقرون باليوم الآخر، وأخرجتم للناس بهذا الإقرار لتكونوا أسوة حسنة لهم، ولتدعوهم إلى الإقرار به، والعمل على النجاة من عذابه.
فمن إتقى شيئاً خاف وإحترز منه، وقد ورد قوله تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا] ثلاث مرات في القرآن كلها في سورة البقرة( )، كما ورد قوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ] مرتين في القرآن، مع بيان علة خلقها وأنها دار عقاب الكفار الذين يبغون غير دين الله، قال تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيات أعلاه وآية السياق، تولي(خير أمة) مسؤوليات تحذير وإنذار الكفار من الرجوع إلى الله، وما فيه من العذاب لهم لصدودهم عن النبوة والكتاب، وسعيهم لطمس معالم الدين، وتعطيل الأحكام، وتحريف التنزيل، ويتعلق هذا الإنذار بسر خلق الإنسان وكيف أن الله عز وجل جعل عنده العقل رسولاً باطنياً ليتدبر بلغة الإنذارات.
الرابعة: إن قوله تعالى(وإليه يرجعون) أحد ألوية التوحيد، يرفعه المســلمون كل يوم لما فيه نفعهم وإتعاظهم وإصلاح أمورهم، وإنذار الذين يصرون على طلب غير الدين الذي أراده الله عز وجل لهم، فإضافة الدين إلى الله بقوله تعالى(دين الله) فيه وجوه:
الأول: الدين الذي أمر الله عز وجل الناس بإعتناقه.
الثاني: الأحكام الشرعية التي يجب على الناس إتباعها.
الثالث: ما جاء به أنبياء ورسل الله عز وجل.
الرابع: المضامين القدسية للقرآن بإعتباره الجامع للأحكام.
الخامس: دين الإسلام الذي بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: الملة والطريقة التي لا يقبل الله عز وجل من الناس غيرها.
السابع: النهج والكيفية العبادية التي يريدها الله من الناس.
الثامن: سبيل الأمن والنجاة يوم القيامة، لذا سمي ذلك اليوم بيوم الدين في آيات عديدة، جاء أكثرها بلغة الإنذار والوعيد، قال تعالى[الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ونسبة الدين إلى الله بيان لموضوعيته وإستدامته ومنافعه في الدنيا والآخرة، ليكون هذا الدين حاضراً يوم القيامة، وشاهداً على الناس بما لا يقبل البرزخية والوسط، فأما الشهادة للإنسان أنه على دين الله وأنه مسلم، وأما الشهادة بأنه لم يبغ دين الله وأنه إختار الفسوق.
الخامسة: مضامين آية السياق معطوفة على الآية التي سبقتها والتي أختتمت بقوله تعالى(فأولئك هم الفاسقون) وجاءت خاتمة آية(خير أمة) بذم الفاسقين، وفيه تذكير لهم على نحو الخصوص بيوم النشور والعذاب الأليم على الخروج عن طاعة الله، والإمتناع عن إتباع رسوله الكريم، وتوكيد حقيقة بأنهم لن يفلتوا من العقاب ولن يستطيعوا الفرار من الله الذي جعل ما بعد الموت يتصف بخصائص:
الأولى: خلود لا موت فيه، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
الثانية: دار الجزاء ومواطن الحساب.
الثالثة: الثواب على الصالحات، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ]( ).
الرابعة: العقاب الشديد على الفسق والفجور.
وجاءت الآية ببيان أصل للفسوق وهو إبتغاء غير الإسلام ديناً والتولي عن الدعوة للإيمان، والإصرار على عدم الإمتثال للأوامر الإلهية، ويفيد الجمع بين آية السياق والبحث حاجة الناس لنزول القرآن وخروج(خير أمة) لهم لتذكيرهم بالرجوع إلى الله عز وجل وبيان ماهية هذا الرجوع وأنه حساب وجزاء، وتتجلى هذه الحاجة بإعراض أكثر الناس عن قانون الرجوع، قال تعالى[وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على لزوم جهاد المسلمين لجعل الناس يؤمنون باليوم الآخر، ويدركون أنه حق وصدق، وأن الموت ليس أمراً عدمياً، بل هو أمر وجودي، وطريق لنيل السعادة الأبدية، وهذا الجهاد من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، لما فيه من الأجر والثواب، والإستعداد الذاتي ليوم الرجوع بتعاهد دين الله.
صلة آية[فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة أخرجت للناس فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) وفيه أمور:
الأول: توكيد لنعمة خروج المسلمين للناس، وأنه خير محض، ودعوة للسلامة والأمن في النشأتين.
الثاني: بيان موضوعية المسلمين في فضح التولي، عن أسباب الهداية والرشاد، وقبح الفسوق والفجور.
الثالث: الثناء على المسلمين لإختيارهم العصمة من التولي والإعراض عن الحق والتنزيل.
الرابع: ترغيب الناس بالإسلام، وحثهم على إجتناب إتباع ونصرة الظالمين.
الخامس: بيان رحمة الله عز وجل بالناس، بالإنذار من تركهم يختارون التولي أو يفتنون بمن أعرض عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ]( ).
السادس: دعوة المسلمين والناس لشكر الله عز وجل على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها نعمة عظيمة ووسيلة سماوية لهداية الناس، ومنعهم من التولي والإعراض عن الحق والهدى.
الثانية: جاءت الآية محل البحــث بصيغة الجــملة التي تفيد الصدق القطع في إرتقاء المســلمين إلى مراتب الرفعة والعز بالإيمان، وجاءت آية الســياق بصيغة الجملة الشــرطية التي تتضمن ذم كل من يعــرض عن البينــات والدلالات البـــاهرات التي تؤكد صدق محمــد صلى الله عليه وآله وسلم في رســالته عــن الله عــز وجل، ودعوته للإسلام، وإنذاره للذين ينقضون مواثيق النبوة المتوارثة، وكأن التولي أمر متزلزل وغير مستقر عرضاً في مجموع الأفراد الذين يتولون عن النبوة بعد الإقرار والشهادة بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي معجزاته ظاهرة بينة.
أما الإسلام والإيمان فهو أمر ثابت في الأرض بدليل لغة الماضي(كنتم خير أمة).
ومن البديهيات أن الأمر الثابت يغلب ضده المتزلزل في الصراع بينهما، وهو من فضل الله على المسلمين وكذا وعلى الفاسقين الذين يتولون عن دعوة الحق، لأن هذه الدعوة مصاحبة لهم في الحياة الدنيا لمجيئها من الأمة التي لا تغادر منازل الإيمان، والتي لا تنقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: أخبرت آية البحث بأن المسلمين مؤمنون بالله، مطيعون لأوامره وهذا الإيمان حجة على الكفار وكذا تصديق المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بما جاء به من عند الله قال تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وقد لا يلتفت الذي تولى عن الحق لفسقه وضلالته، ولكن وجود(خير أمة) تنبيه له وتذكير بأنه على باطل وضلالة.
وإذ تجذب(خير أمة) الذي تولى عن المواثيق إلى منازل الإقرار بها، فهل يضر الذين تولوا عن المواثيق بخير أمة الجواب لا، لثبات المسلمين على الهدى، وتسليمهم بالعبودية لله عز وجل، وتصديقهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقوله تعالى(أخرجت للناس) الذي يدل على إكتساب الناس المعارف من المسلمين، وإمتناع المسلمين عن أخذ مفاهيم الضلالة، فخروجهم خير محض تكمن فيه أسرار دوام الحياة الإنسانية على الأرض، وتوالي النعم على الناس، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ).
الرابعة: إبتدأت آية السياق باسم الشرط بعد حرف الإستئناف(فمن)، ولا ينحصر معناه بالشرط بل يتضمن معاني الإستفهام والاسم الموصول والنكرة والموصوفة( )، ودلالاته متعددة وأعم من حصر النحويين لمفهوم اللفظ العربي، ومن منافع هذا التعدد أمور:
الأول: دعوة للمسلمين للإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: مواصلة الجهاد ضد الفسق والفجور والإعراض عن سنن النبوة.
الثالث: الإشارة إلى أن التولي والإعراض عن النبوة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الرابع: إن مواظبة المسلمين والمسلمات في الدعوة إلى الإقرار بمواثيق النبوة ولزوم تصديق الأنبياء سبيل لتوبة شطر ممن تولى عنها.
وهو من خصائص الحياة الدنيا بوجود (خير أمة) بين الناس وإستدامة أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر بأن يكون من الأمور الظاهرة، عودة الناس للإيمان، ودخولهم في دين الله، وتركهم التولي والإعراض عن النبوة، وبذا تتجلى منافع خروج المسلمين للناس بأنه حرب على ذات التولي، وجعل الناس ينفكون عنه، ويبتعدون عن الفسق والضلالة.
فمن رحمة الله عز وجل أمور:
الأول: الملازمة بين الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يغادر المسلم منازل الإيمان، ولا يترك الأمر والنهي المترشحين عنه، واللذين يقودان إليه من جهات:
الأولى: يدخل الناس في الإسلام، قال تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
الثانية: يتولون عن التولي، ويعرضون عن الفسوق.
الثالثة: يشكر الناس الله عز وجل على نعمة(خير أمة) وخروجها للناس، والإنتماء لها.
الرابعة: صيرورة من يرجع للإقرار بالمواثيق آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر.
الثاني: إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم البينونة بينهما وبين أي مكلف، فما دام الإنسان في الدنيا فأنهما يتوجهان إليه بسعي وجهاد(خير أمة)مباشرة أو بالواسطة.
الثالث: عدم الملازمة بين التولي عن الحق والهدى والمتولي ذاته، بمعنى أنه في معرض التوبة والإنابة، وترك التولي والإعراض، لأن الآيات والبراهين تترى عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينقطعان عنه، ويكشفان له صبغة الظلم والتعدي للتولي، وما فيه من الضرر على صاحبه في الدنيا والآخرة.
فخير أمة صفة للمسلمين والمسلمات في الدنيا، إلا أن منافع هذه الصفة لا تنحصر بهم أو بخصوص الحياة الدنيا، بل هي عامة وشــاملة للناس جميعاً وفي النشــأتين، وهو من عمومات قوله تعـالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأن رحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشمل المسلمين وغير المسلمين، وفي الدنيا والآخرة، فإن قلت إن الذي ينتفع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتوب إلى الله يكون من المسلمين، فكيف ينتفع من نبوته غير المسلمين، والجواب من وجوه:
الأول: إرادة المتولي وغير المسلم قبل أن يدخل الإسلام، فصحيح أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مسلم إلا أن المتلقي له أعم فيشمل الكافر والذي تول عن المواثيق.
الثاني: وجود (خير أمة) بين الناس، ومواظبة المسلمين على أداء العبادات نفع عام، وزجر عن التمادي في المعاصي، وجعل الناس ينشغلون بأنفسهم، ويتدبرون في ماهية العبادات، والصلة بينها وبين الميثاق الذي أعرضوا عنه.
الثالث: بعث الفرقة والنفرة بين الكفار، لإدراكهم أو فريق منهم أنهم على الضلالة وأن التولي إضرار بالذات والجماعة، فيأتي الضرر للكافر من وجوه:
الأول: توليه عن مواثيق النبوة.
الثاني: تولي وإعراض أصحابه عن الكفار عن النبوة ومواثيقها، وما جاءت به من الأحكام والعبادات.
الثالث: إجتماع الكفار على التولي، وإصرارهم على الجحود، وتعاونهم على الإثم والبقاء في منازل التولي، فيكون حضور(خير أمة) وفعلها في الخير على وجوه:
الأول: تفريق جمع الكفار.
الثاني: صد الكفار عن التعدي والظلم.
الثالث: دعوة الكافرين لترك التولي منفردين ومجتمعين.
الرابع: إدراك الذي تولى لزوم التخلي عن جماعة الكفار، قال تعالى[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ]( ).
وهو من الإعجاز في مجيء الآية بصيغة الشرط(من) وتضمنها لغة المفرد، إذ أنها تستوي في المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع لتكون دعوة منفردة لكل من تولى بالتوبة وترك الفسوق والمعصية، ودعوة عامة للذين تولوا عن الهدى، وفيه آية بأن إجتماع الكفار على الباطل لا يمنع من توبتهم على نحو العموم المجموعي، ورجوعهم عن التولي على نحو دفعي ومرة واحدة، لذا جاء القرآن بالبشارة بدخول الناس في الإسلام جماعات كما في قوله تعالى[يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، وفيه حث للمسلمين بالتوجه للفرد والجماعة بالأمر والنهي في آن واحد، وبما فيه صلاحهم، وتفكيك أوصال الكفر والضلالة.
الخامسة: قيدت آية السياق التولي المذموم بقوله تعالى(من بعد ذلك) وهو شاهد على اللطف الإلهي المتعدد، من وجوه:
الأول: مجيء الإنذار والوعيد بعد إقامة الحجة.
الثاني: بيان حقيقة وهي كفاية الحجة والبرهان في منع الناس عن التولي عن النبوة ومعجزاتها.
الثالث: توكيد فضل الله عز وجل بتعدد الآيات والبينات التي تقرب الناس إلى الإيمان، وتهديهم إلى سبل الطاعة.
الرابع: ذكر قانون في الإرادة التكوينية وهو مجيء الإنذار والوعيد بعد الحجج والبراهين، لذا إبتدأت الآية بالوعيد بصيغة الشرط، وبعد هذا الإنذار والوعيد هل تستمر الحجج والآيات، الجواب نعم من وجوه:
الأول: تكرار ذات الحجج، والشواهد التي تؤكد لزوم التصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: مجيء آيات وبراهين أخرى للمكلف عسى أن يتوب، ويتجنب الإعراض عن دعوة النبوة، وهذه البراهين على شعب:
الأولى: براهين أقل ظهوراً عند المكلف من الحجج السابقة.
الثانية: معجزات وبراهين بذات الظهور الذي كانت عليه تلك الحجج.
الثالثة: آيات ومعجزات أكثر تجلياً وظهوراً من تلك البينات، والبينات والمعجزات من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في التحدي والإعجاز إلا أن الظهور بلحاظ المكلف ذاته، وتدبره فيها.
الثالث: مجيء معجزات باهرة جديدة لذا أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن معجزة عقلية تتجدد في كل زمان بالبراهين التي تدل على صدق نزوله من عند الله عز وجل، وهذه البراهين على جهات:
الأولى: في ذات القرآن ورسمه وكلماته وبلاغته ومضامين الحكمة فيه.
الثانية: دلالات القرآن ومعانيه، والإعجاز في أحكامه وسننه.
الثالثة: صيرورة الوقائع والأحداث مرآة لآيات القرآن.
لقد أراد الله عز وجل من البراهين المتجددة في المقام بلحاظ آية البحث أموراً:
الأول: تفضل الله بجعل المسلمين (خير أمة) برهاناً دائماً ومتصلاً لتوكيد لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكونه ضرورة عقائدية وحاجة شخصية في الدارين.
وليس من حصر لمصاديق هذا البرهان، فهو متعدد بعدد المسلمين، وكل مسلم يأتي بكم كثير منه في أيام حياته، لتكون(خير أمة) آية الله في الأرض التي تزجر الناس عن الإقامة في منازل التولي والصدود.
الثاني: خروج المسلمين للناس برداء الإيمان والتقوى، فهذا الخروج بذاته دعوة للهداية والصلاح فقوله تعالى(أخرجت للناس) مدرسة كلامية متجددة، وصرح إسلامي تشع أنواره على عموم المعمورة ليقتبس منها الناس جميعاً، وتضاء به دروب الهداية للناس، ومنهم الذين تولوا عن النبوة، لأن قوله تعالى(أخرجت للناس) عام يشملهم .
ومن معاني الخروج في المقام أن المسلمين يقصدون الناس أينما وكيفما كانوا لتذكيرهم بوجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
السادسة: نال المسلمون منزلة(خير أمة) بفضل من الله، إذ جعلهم يتفقهون في الدين، ويعرفون أحوال الأمم، وجزاء أهل الملل، وهو من إعجاز القرآن الغيري، لذا لم تنل أمة من المسلمين من الأمم السابقة هذه المرتبة لإختصاص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزات عقلية، ومدد ملكوتي، ونزول القرآن على صدره، قال تعالى[الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] ( ).
ومن خصال(خير أمة) الفصل والتمييز بين الناس بلحاظ الإيمان والكفر، والهداية والتولي، والإستقامة والفسوق ببيان القرآن والسنة، ومنه آية السياق التي لم تعرض عن الذين أعرضوا عن النبوة، بل لاحقتهم بالذم والحجة والرمي بالفسوق، ليكون من العقاب العاجل، وإنذاراً لما يلقون يوم القيامة من العذاب الأليم، فمن تولى يأتيه الذم والتقبيح من(خير أمة) وأجيالها المتعاقبة من وجوه:
الأول: إظهار المسلمين التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يدل عليه من قبح التخلف عنه، لأنه أثر مترتب على المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يترتب المعلول على علته.
الثاني: تلاوة المسلمين لآية السياق، والتي جاءت قاعدة كلية بأن كل من أعرض عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختار الكفر والصدود هو فاسق وخارج عن طاعة الله.
الثالث: دخول الناس في الإسلام أفراداً وجماعات، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتركهم التولي المذموم عن النبوة.
الرابع: ثبات المسلمين على الإيمان، ومسارعتهم في فعل الصالحات، قال تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
لتكون الشهادة في المقام على وجوه:
الأول: إنها حجة على الكفار.
الثاني: التوبيخ بالمفهوم والدلالة على تخلف الكفار عن وظائفهم العبادية.
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام، وتجلي منافعه قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
الرابع: بيان صبر وجهاد المسلمين في إحراز مرتبة(خير أمة) وتعاهدها.
إن بلوغ المسلمين لأسمى مراتب الأمم وأكثرها رفعة إنما هو بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، ووظيفة كل إنسان الإهتداء بهما، والإقتباس من علومهما، والإقرار بصدق كل منهما ولما تخلف فريق من الناس عن وظائفهم مع تجلي البينات توجه لهم الذم بآية على وجوه:
الأول: حث المسلمين على تعاهد مبادئ وأحكام الإسلام.
الثاني: بعث النفرة من التولي والإعراض عن آيات النبوة.
الثالث: دعوة الناس للتدبر في معجزات النبوة والتولي عن أهل التولي، لذا جاءت الإنذارات لتحذير الناس من إتباع الظالمين، والركون إليهم، ومنها بيان حالهم يوم القيامة، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).
الرابع: بعث أهل التولي على ترك مقامات الفسوق، وحثهم على التوبة والإنابة.
السابعة: قد تقدم بيان الوجوه المحتملة للنسبة بين الفسوق والتولي( )، وذكرنا أن الأصح هو العموم والخصوص المطلق، وتدخل تحت الفسوق مصاديق عديدة، ولكن لماذا جاء ظاهر آية السياق بما يفيد التساوي بينهما .
الجواب من وجوه:
الأول: توكيد القبح الذاتي للتولي، وأضراره البالغة.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن التولي أعم الفسوق , والخروج عن الطاعة.
الثالث: دعوة المسلمين لبذل الوسع والجهاد لمحاربة التولي والإعراض عن النبوة.
الرابع: تحذير الناس من الفاسقين في موضوع التولي وما يترشح عنه من المعاصي والإصرار على الباطل، وتتجلى الحكمة الإلهية في المقام بقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والملازمة وعدم الإنفكاك بينهما.
فمن أسرار نعت الذي يتولى عن دعوة الحق بالفسوق، عدم الوقوف عند زجره ونهيه عن التولي، فلا بد من إرشاده إلى الإيمان بالله والنبوة والتنزيل واليوم الآخر، وجذبه إلى التوبة ودخول حدائقها الناضرة، والنهل من ثمارها بأداء الفرائض والتي تتعدد منافعها من وجوه:
الأول: الفوائد والمنافع على ذات المكلف، وتشمل صحة البدن سلامة والنفس وأسباب المعاش، والمعاملات.
الثاني: المنافع على غير المكلف الذي يؤديها، بإتخاذه أسوة، والإقتباس منه، ومعرفة وجوب الفرائض بتقيده بها.
الثالث: تلقي الأبناء والذراري الفعل العبادي تركة عقائدية، ومن الآيات في المقام أن تلك التركة يتم تلقيها وقبضها وأدائها في حياة المورث وهو الأب أو الأم أو الأخ والأخت.
الرابع: تفشي الأخلاق الحميدة بين الناس، والحرص على إجتناب الظلم والتعدي.
الخامس: تدبر الناس في ماهية العبادة والغايات الرشيدة منها، وإستحضار اليوم الآخر وعالم الحساب في الوجود الذهني، بما يفيد الميل إلى الإيمان لوجود المقتضي وفقد المانع، ودفع الأذى والضرر.
الثامنة: تلاحق(خير أمة) الذين تولوا وأعرضوا عن النبوة بالبرهان والدليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدعوهم للتوبة والإنابة، بينما لا يستطيع الذين تولوا ملاحقة المسلمين لجعلهم يرتدون عن دينهم، مما يدل على المائز العظيم بين الفريقين.
فمن خصائص(خير أمة) الحصانة من التولي الإبتدائي أو الطارئ، والعصمة من الكفر، والتنزه من الإرتداد، وهو من عمومات قوله تعالى(أخرجت للناس) ونسبة الإخراج إلى الله عز وجل، وإستدامة هذا الخروج بصبغة الإيمان.
فالمسلمون في خروج دائم للناس وعلى نحو الإطلاق المكاني والزماني .
فلا تمر ساعة على الناس إلا وترى المسلمين يخرجون لهم في أمور:
الأول: أبواب العبادات والمعاملات والأحكام.
الثاني: التقيد والإمتثال للكتاب والسنة.
الثالث: الدعوة إلى الله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: التذكير بالمواثيق التي أخذها الله عز وجل على الناس، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]( ).
وتتعدد مصاديق هذا الخروج، وتتباين كثرة وقلة، وقوة وضعفاً، بحسب الحال، والملاك فيها النفع الشخصي والعام، وإستئصال مفاهيم التولي والنقض للمواثيق ليكون خروج المسلمين للناس نعمة على الجميع، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )، فمن نعمة الله على المسلمين أمور:
الأول: خروجهم للناس بأسباب الهداية والصلاح.
الثاني: كمال الدين وأداء الفرائض.
الثالث: التفقه في أحكام الحلال والحرام وإعلان الإقرار بالميثاق.
التاسعة: يفيد الجمع بين الآيتين توكيد حسن إختيار المسلمين، وسلامة فعلهم عندما إتبعوا النبي محمداً وهذا الأتباع على وجوه:
الأول: فيه طاعة لله.
الثاني: إنه إقرار بالميثاق.
الثالث: إنه دليل على التنزه عن الفسوق والفجور.
فمن إعجاز القرآن مجيء الثناء على المسلمين بذم غيرهم، ليكون هذا الثناء ترغيباً للناس جميعاً في الإسلام.
العاشرة: لقد تضمن قوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) الدلالة على وجود أمم غير المسلمين، وأن المسلمين ليس وحدهم على الأرض، وهم غير معزولين عن باقي الناس، ولا يصح عزلهم عنهم، بل تحصل أسباب المعاملة والإختلاط بينهم وبين عموم الناس، ويحتمل هذا الإختلاط وجوهاً:
الأول: النفع العام للمسلمين وغيرهم من الناس مع التباين في ماهية ومقدار هذا النفع بالنسبة لكل من الطرفين.
الثاني: إنحصار النفع بالمسلمين، أما غيرهم فلا نفع له في هذا الإختلاط والمعاملة.
الثالث: إختصــاص النفع بغير المســـلمين لما يقتبسونه من الأخلاق الفاضــلة من المســلمين، وما يترشح من سنن الدعوة إلى الله عز وجل.
الرابع: ليس من نفع معتبر في هذه الصلة، فلا يحدث تغيير عند أي من الطرفين.
والصحيح هو الأول، فإن النفع من هذا الإختلاط عام وشامل للمسلمين والناس جميعاً، لذا جاءت الآية بلفظ(أخرجت للناس) ويدل لفظ الخروج على المفاعلة بين الطرفين، وأن المؤثر هو المسلمون، والمتلقي غيرهم، ومن أسراره أن المسلمين دائبون على طاعة الله، محافظون على منزلة(خير أمة) ويعرفهم الناس بها، وهذه المعرفة من مصاديق تلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهم، وعدم النفرة من دعوتهم إلى الله.
ومن معاني الإختلاط في المقام حصول التضاد والتعارض بين الإيمان والتولي، وبين الصلاح والفسوق، مما قد يسبب أذى للمسلمين لذا جاءت آيات القرآن بحثهم على الصبر والتقوى والإستعداد للدفاع عن النفس والملة ومنزلة(خير أمة) قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، وهو من عمومات النفع للمسلمين من وجوه:
الأول: تثبيت مفاهيم التوحيد في الأرض.
الثاني: بيان دفاع المسلمين عن منزلة(خير أمة) بالسيف، وإستحقاقهم لها ببذل النفس والمال.
الثالث: فوز المسلمين بالأجر والثواب العظيم بالدفاع عن النبوة والإسلام.
الرابع: جذب الناس للإسلام ودخولهم فيه وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا]( ).
وبلحاظ خروج(خير أمة) للناس وإخبار آية السياق عن فسق ومعصية الذين يتولون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأن المسلمين في جهاد وإبتلاء متصل، وحاجة إلى الوقاية والحصانة من أهل الفسوق وجدالهم وإغوائهم وإستهزائهم بالمسلمين وبلحاظ الأمر والنهي فإن المسلمين مأمورون مجتمعين ومتفرقين بدعوة الفاسقين إلى الهداية والإنابة، وبيان قبح التولي عن النبوة بعد المعجزات الباهرات، ودلالة القرآن وما فيه من الإعجاز على صدق نزوله من الله عز وجل.
الحادية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين التضاد والتناقض بين الإيمان والفسوق، فقوله تعالى(وتؤمنون بالله) شاهد على سلامة إختيار المسلمين، وأن الإيمان أصل يترشح عنه الإنبعاث لفعل الطاعات وإتيان الصالحات، والتوجه إلى الناس بأسباب الصلاح، ومحاربة الفسوق والفجور وتحذيرهم من الفسوق، الذي يكون مقدمة وموضوعاً وأثراً، فهو مقدمة للمعاصي، وهو بذاته كبيرة وأثم، وتتفرع عنه آثام عديدة، ليكون سعي(خير أمة) برزخاً دون هذه الآثام من وجوه:
الأول: بيان علة الفسق وأنها الكفر والجحود.
الثاني: توكيد حقيقة وهي أن الكفر ذاته فسوق.
الثالث: عدم ترك الفاسقين وشأنهم، بل يأتيهم الذم والتوبيخ من المسلمين على نحو دائم، إن وهو إستدامة وجود(خير أمة) وخروجها للناس بالحكمة والموعظة حجة على الفاسقين، ودعوة لهم للتوبة.
فمن خصائص الحياة الدنيا، أنها مناسبة لإكتناز المسلم الحسنات، ودار التحذير والإنذار للفاسقين بلزوم هجران الفسوق وترك الإصرار على العناد والتولي، ومن آثار الفسوق ضيق الصدر والإرتباك، فهل الإنذارات التي تأتي من القرآن والسنة، والأمة المؤمنة التي خرجت للناس التي تقرن الإنذار بإظهار أسمى معاني طاعة الله ورسوله وتتخذ من هذه الطاعة وسيلة مباركة لتذكير الناس باليوم الآخر وعالم الحساب فيه، وهي درس وإنذار إضافي للكفار والفاسقين، وحث لهم على الإعتبار وترغيب بالتأسي بخير أمة في الصلاح، لتكون الحياة الدنيا دار الحث على التوبة والإنابة، فتلاحق أسبابها الناس في منتدياتهم ومحلات عملهم وبيوتهم، وهو من رحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا، ولطفه تعالى بتقريبهم إلى منازل الطاعة والهداية والرشاد، ومنعهم من التمادي في الفسوق، والمناجاة والتعاون فيه.
الثانية عشرة: جاءت كل من الآيتين بصيغة الجمع، فخطاب التكريم والفضل الإلهي[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بلغة الجمع وإرادة عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وكذا في حث أهل الكتاب على دخول الإسلام، وإنشطارهم إلى قسمين كل قسم منهم بلغة الجمع أيضاً، بقوله تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]، وفيه دلالة على لزوم أخذ المسلمين الحائطة، والإستعداد لجهاد الفاسقين بالبرهان والدليل والبينة لما في صيغة الجمع في المقام من إشارة إلى كثرتهم عدداً وجماعات.
وورد لفظ(الفاسقين) بلغة الجمع في القرآن خمساً وثلاثين مرة بصيغة الرفع والنصب والجر، ولم يرد بلغة المفرد إلا مرتين، وكل منهما إرشاد وتأديب للمسلمين أحدهما قضية في واقعة، جاءت خطاباً للمسلمين[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( )، والثانية وردت من باب المثال المقارن قال تعالى[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( )، وفيه توكيد للتباين بين(خير أمة) والفاسقين ولكنه لا يعني البينونة والقطيعة في المعاملات والمواعظ، للدلالة الإعجازية في قوله تعالى(أخرجت للناس) والذي يبعث السكينة من وجوه:
الأول: عدم إقتباس المسلمين العادات المذمومة، ومفاهيم الفسوق.
الثاني: ثبات المسلمين في مرتبة (خير أمة) بنص الآية القرآنية شاهد على نصرهم وعدم هزيمتهم في الإحتجاج وميادين الجهاد.
الثالث: تجلي التباين بين الإيمان والفسوق، وإنتفاء الجهالة والغرر.
الرابع: نفرة الناس من الفسوق، وترغيبهم في الإسلام.
الخامس: صدّ الناس عن نصرة الفاسقين بالقول والفعل وفيه مسائل:
الأولى: جعل الناس يمتنعون عن مدّهم بالمال والسلاح وأسباب المعونة.
الثانية: فيه تخفيف عن(خير أمة).
الثالثة: إنه هو مناسبة لأداء المسلمين وظائفهم العبادية بمندوحة.
الرابعة: بعث الفزع في نفوس الكفار، والوهن والضعف في صفوفهم.
بحث أصولي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار تكليف وإمتحان وتقييد في القول والفعل وفق ضابطة سماوية تتجلى بالنبوة والتنزيل بما يبعث على طاعة الله ورسوله، وإفشاء الأخلاق الحميدة والسنن الكريمة، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة حين قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وبيان أن الله عز وجل يعلم أحوال الناس في الدنيا، وأنه سبحانه يأمرهم بالتكاليف، فيتلقاها المسلمون ومن أول هبوط الإنسان للأرض بالإستجابة والإمتثال، إلى أن ترثها(خير أمة) فتنهض بإعبائها.
وهل في هذه التكاليف أذى على الناس، الجواب لا، فأنها خير محض ورحمة في ذاتها، وما يترشح عنها، وأم التكاليف الإيمان بالله وإعلان الإسلام والنطق بالشهادتين، وهو الذي أخذ الله عليه مواثيق الأنبياء، فهو واجب على كل مكلف ومكلفة من وجوه:
الأول: الإسلام واجب عيني على كل مكلف وليس واجباً كفائياً، فإذا أسلم الأب فأنه يسقط هم الابن وكذا العكس.
الثاني: إنه واجب تعييني وليس تخييرياً، فلا يصح إختيار ديناً غيره.
الثالث: دخول الإسلام أمر فوري تجب المبادرة إليه من أول زمان التكليف من غير إبطاء أو تأخير.
الرابع: دخول الإسلام واجب تكليفي مطلقاً لا يتوقف وجوبه على شرط أو قيد، ومن الآيات أن التقية من الكفار والطواغيت لا تمنع من دخول الإسلام لأنه إعتقاد في الجنان ونطق بالشهادتين لا يشترط فيه عند الضرورة وإحتمال الضرر النطق به في حضرتهم، قال تعالى[إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
الخامس: دخول الإسلام واجب منجز، يتحد فيه زمان الوجوب والواجب، فحينما يدرك الإنسان سن البلوغ، يجب عليه الإسلام وأداء التكاليف.
السادس: دخول الإسلام واجب أصلي، جاء الخطاب التكليفي بوجوبه من غير واسطة، وهو واجب على نحو الإستقلال، وتتفرع عنه الواجبات التكليفية والوضعية المتعددة المطلقة كالصلاة قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( )، والمقيدة بشرط كما في الحج الذي قيده الله عز وجل بالإستطاعة.
السابع: النطق بالشهادتين، ودخول الإسلام واجب تعييني لا يجزي عنه واجب آخر في عرضه، وليس له بديل مساو له في المرتبة بل تعلق الأمر بخصوص الإسلام ملة وشريعة لكل مكلف.
الثامن: دخول الإسلام واجب مضيق ومؤقت مصاحب لزمان التكليف، فلا يجوز التأخير والتسويف فيه.
التاسع: دخول الإسلام واجب نفسي مطلوب بذاته ومقصود بالأمر الإلهي وليس واجباً غيرياً يؤتى به للتوصل إلى واجب آخر كقطع المسافة لأداء مناسك الحج.
العاشر: دخول الإسلام واجب مستديم، وهذا القسم من أقسام الواجب تأسيس من عندنا، أي أنه ملازم للمكلف مدة حياته فلا يغادره ولا يفارقه، ويحرم عليه الإرتداد والتولي عن الوظائف الشـرعية.
الحادي عشــر: إنه واجــب تعبــدي، فيه أمتثــال لأوامـــر الله عز وجل، وكل نفع ومصلحة، بالإضافة إلى حسنه الذاتي وهو الحرز والواقية من العذاب الأليم يوم القيامة، وليس هو واجباً توصلياً يكفي مجرد حصوله في الخارج، فلا بد من عزم المكلف على دخول الإسلام وإرادة قصد القربة والطاعة لله عز وجل ليفوز بخير الدنيا والآخرة.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بمرتبة (خير أمة) لما يتصفون به من الإيمان والصلاح وفعل الخيرات، ويدل أفعل التفضيل(خير) وتقييده بالأمة على التباين الرتبي بين الأمم، ويفيد خروج المسلمين للناس أنهم لا يخرجون إلا بالخصال التي بلغوا فيها درجات الرفعة والسمو لأنها لا تغادرهم بلحاظ إستدامة وصفهم بخير أمة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الإسلام باق إلى يوم القيامة.
الصغرى: صفة(خير أمة) مصاحبة للإسلام والمسلمين.
النتيجة: صفة(خير أمة) باقية إلى يوم القيامة.
وهذا البقاء زينة ومبهج من مباهج الحياة الدنيا، وفي علم الأصول مبحث يسمى (المشتق) وهو اللفظ الذي يطلق على الذات عند إتصافها بمبدأ مخصوص( )، وقد فاز المسلمون بالإتصاف بمبدأ معين هو(خير أمة) وحلولها في مقاماته، ويحتمل في أوان نيله وموضوعه وجوهاً ثلاثة:
الأول: إعتبار صفة الفرد من(خير أمة) وإن تلبس المسلم بالإيمان والصلاح كما ترى المهندس يزاول مهنته، فالذات هو شخص المهندس، والمبدأ هو العمل الهندسي، والحال هو أوان نسبة مزاولة أعمال الهندسة، فما دام المسلمون يؤدون فرائضهم ويأمرون بالمعروف فهم(خير أمة).
الثاني: إطلاق صفة الفرد من(خير أمة) على الصبي الذي لم يصل سن البلوغ ولم يؤد الفرائض، تقول للذي يدرس الطب بأنه طبيب، فإن قلت إنه قياس مع الفارق إذ أن دراسة الطب إعداد للمقدمات وإقتباس وتعلم لعلوم الطب على نحو الموجبة الجزئية، والجواب إن الصبي المسلم يقتبس أحكام الإسلام من صغره، وتنمو معه وتصاحبه، لذا يستحب تعليم الصغار في السادسة الصلاة، ويستحب الصيام للصبي في سن السابعة ولو إلى أوان الزوال على نحو التمرين.
فإطلاق لفظ المشتق في المقام عليهم أولى من إطلاقه على طالب العلم.
الثالث: تعلق لفظ(خير أمة) بالمسلم حتى عندما يغادر الحياة الدنيا، وإن كان تلبس الذات بالمبدأ قد إنقضى وإنقطع بالموت فزمان النسبة هو بعد الموت، أما أوان التلبس بالمبدأ فهو قبل الوفاة.
وبالنسبة لمبحث المشتق في علم الأصول يعتبر المثل الأول أعلاه في إستعماله في الهندسة حقيقة.
وفي الثاني بخصوص دراسة الطب مجازاً، ووقع الخلاف بين الأصوليين في الذات التي كانت متلبسة بالمبدأ كما في القاضي الذي أحيل على المعاش وهل يطلق عليه اسم القاضي حقيقة للمعنى الأعم في اللفظ، أو مجازاً لتركه وظيفة القضاء، فيه خلاف بين الأصوليين.
أما بالنسبة للمسلم فيطلق عليه لفظ الفرد من(خير أمة) في حال الصبا والبلوغ وإلى حين الوفاة، وبعد الإنتقال إلى عالم الآخرة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( )، وتلك آية بأن تجد المباحث العقلية والأصولية قاصرة عن الإحاطة بمعاني الإكرام الإلهي للمسلمين، وما خصهم به من المنزلة الرفيعة، فقوله تعالى(كنتم خير أمة) صفة تطلق على المسلمين حقيقة وليس مجازاً وبلحاظ أفراد الزمان الطولية على وجوه:
الأول: قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجود أمة الإسلام والعمل بأحكام شريعته بدليل صيغة الماضي في الآية الكريمة أعلاه.
الثاني: بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول المسلمين الإسلام، وإتخاذهم التقوى لباساً وزاداً، قال تعالى[خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( )، وإستدامة تلبسهم بالمبدأ في حال النسبة وهي أيام الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة بإعتبار أن الإسلام هو الديانة الباقية إلى يوم الدين.
وهل من صلة بين تسمية يوم القيامة بيوم الدين، وأن الإسلام هو دين الله الذي لا يغادر أهله وهم(خير أمة) الحياة الدنيا إلا عند النفخ في الصور وإنقطاع الحياة على الأرض. الجواب نعم لأنه من مصاديق موضوعية الدين في الدنيا والآخرة، وأنه العقيدة والمبدأ والعمل الذي يكون عليه الحساب يوم القيامة، وفيه بعث للناس على دخول الإسلام، وزجر عن التولي عن دعوة(خير أمة) لدين الله ونبذ الضلالة والفسق.
ويطلق نعت(خير أمة) على المسلمين والمسلمات حقيقة قبل وجودهم وصيرورتهم أمة وبعد أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصبح أتباعه وأنصاره أمة، ويبعثون بهذه الصفة بين الخلائق من غير أن تفارقهم لأنها فضل ونعمة من الله، وهو سبحانه إذا وهب وأنعم بنعمة فلا يرفع تلك الهبة والنعمة بل تبقى عند الناس.
فإن قلت قد يقوم المسلمون بما يسلب عنهم النعمة , والجواب لا يحدث هذا أبداً، إذ يتعاهد المسلمون هذه النعمة والصفة الكريمة من وجوه:
الأول: الإيمان وحسن السمت وأداء العبادات.
الثاني: الجهاد في سبيل الله لهداية الناس، قال تعالى[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]( ).
الثالث: منع من الإقامة على التولي عن مواثيق النبوة وما يصاحبها من الفسوق والفجور.
صلة آية[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بين الآيتين في موضوع الخطاب عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: التشريف والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: بيان صبغة الإيمان التي يتصف بها المسلمون، وتوكيد موضوعيته.
الثالث: تفضيل المسلمين على الأمم والملل الأخرى.
الرابع: مجيء الآيتين بلغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: وردت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية(قل) ووردت الآية محل البحث بصيغة الجملة الخبرية.
الثاني: تتضمن الآية أعلاه الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول والإعلان، أما الآية محل البحث فجاءت بالإخبار عن حال المسلمين بلغة المدح والثناء وهو من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ومن عمومات قوله تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالث: موضوع الآية أعلاه الإيمان والإعتقاد بالجنان والتسليم بالنبوات والتصديق بالكتب السماوية، أما آية البحث فإنها إخبار عن حسن سمت المسلمين وسعيهم في مرضاة الله، وسبيل هداية لهم وللناس جميعاً، قال تعالى[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا] ( ).
الرابع: جاءت هذه الآية خاصة بالمسلمين وإيمانهم، وسلامة إختيارهم , وأختتمت بقوله تعالى(ونحن له مسلمون) أما الآية محل البحث فتضمنت حال أهل الكتاب، وذم فريق منهم وأختتمت بقوله تعالى(وأكثرهم الفاسقون).
الثانية: إبتدأت آية السياق بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل آمنا بالله) وفيه تأديب للمسلمين ودعوة سماوية لهم ليتعاهدوا الإيمان الذي يتقّوم به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي أمر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان الإيمان وجوه:
الأول: هذا الإعلان شهادة بأن المسلمين (خير أمة) من جهات:
الأولى: إكرام المسلمين بأمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعلان عن إيمان المسلمين.
الثانية: جاءت السنة النبوية بمصاديق كثيرة من مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، لتكون من مصاديق أمر الله عز وجل له بــ(قل آمنا).
الثالثة: في الآية تعضيد وتفسير لقوله[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الرابعة: تشريف المسلمين بأن النبي محمداً يشهد لهم بالإيمان، وهل تأتي هذه الشهادة مرة واحدة أو تكون متعددة ومتكررة الجواب إنها متكررة ومتجددة إلى يوم القيامة، وفي كل تلاوة لآية السياق توكيد وتذكير بهذه الشهادة.
الثاني: دعوة المسلمين والناس لإستنباط المسائل والأحكام من أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة للمسلمين بحسن الإسلام والإيمان.
الثالث: توكيد إرتقاء المسلمين لمرتبة(خير أمة) وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الأمة التي يأمر الله رسوله بالشهادة لها بالإيمان بالتنزيل هي خير أمة.
الصغرى: أمر الله رسوله بالشهادة للمسلمين بالإيمان بالتنزيل.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الرابع: لقد أمدّ الله عز وجل المسلمين بوجوه ومصاديق عديدة من العون وأسباب النصرة، وسبل نيلهم لمرتبة(خير أمة) ومنها أمره تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة لهم بالإيمان وما فيه من الإخبار القاطع عن حسن سمت المسلمين، وصدق إيمانهم، وعصمتهم من أفراد الشرك الظاهرة والخفية، فقوله تعالى(قل آمنا) مدد للمسلمين، وعون لهم في جدالهم وإحتجاجهم على أهل الملل الأخرى.
الخامس: قد يسأل بعضهم كيف صار المسلمون (خير أمة) فيأتي الجواب بشهادة الله عز وجل ورسوله لهم بالإيمان والتصديق بالتنزيل، وهذا التصديق واجب على كل إنسان، ففاز المسلمون به من غير غلق بابه على الناس لأنه من مصاديق التوبة والإنابة لذا جاءت الآية محل البحث بقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] ( ).
السادس: تشريف المسلــمين بالشهــادة الســـماوية لهم بالإيمان بالله عز وجل، والإقرار له بالربوبية المطلقة، وإتيانهم الفرائض والواجبات التي أمر بها سبحانه وفوزهم بالإمتثال لعلة خلقهم ونشأتهم، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السابع: إكرام المسلمين بإقتران إيمانهم بالله بإيمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إشارة إلى وراثة المسلمين للأنبياء، وحملهم لأمانة حفظ التنزيل.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين نفي التحريف عن القرآن لدلالة الآيتين على أن الغاية من رسالة وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي أمور:
الأول: الإيمان بالله عز وجل.
الثاني: التصديق بالكتب السماوية المنزلة على الأنبياء السابقين.
الثالث: عمارة الأرض بالعبادة وذكر الله.
الرابع: بيان شرط إستحقاق الأمة لنيل مرتبة (خير أمة) وهو الإيمان والتصديق بما أنزل عليهم.
وفيه دلالة على تعاهد المسلمين للقرآن وإجماعهم على سلامته من التحريف والتبديل، وفيه برزخ دون توجه الحسد والكيد للمسلمين، وهو من الشواهد على كون القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، لما فيه من أسباب وقاية وسلامة المسلمين من كيد الأعداء.
وقال المشهور بأن الكفار مكلفون بالأصول كتكليفهم بالفروع، وهو المختار، فبدل أن يحسد الكفار المسلمين يسألون أنفسهم هل يدخلون في الإسلام ويفوزون بما فاز به المسلمون، خصوصاً وأن هذا الدخول لا يتوقف على الإذن من أحد، وهو أمر يحبه الله ورسوله وليس من حصر لأسباب الترغيب فيه التي جعلها الله عز وجل قريبة من كل إنسان.
الرابعة: لقد أبتليت بعض الأمم السابقة بالغلو بأنبيائهم، ونسبوا النبوة لله عز وجل، فتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتتصف أمته بعدم الغلو في رسولها، وهو شرط لنيلها وحفظها لمرتبة(خير أمة) .
ومن مصاديق الغلو عند المسلمين مضامين آية السياق إذ يجمع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات الإيمان بالله والتصديق بالقرآن والكتب السماوية السابقة، وهذه الكتب مجتمعة ومتفرقة تتضمن إقرار الأنبياء بالعبودية لله عز وجل، وتنفي عنهم صفات الربوبية أو البنوة لله عز وجل، قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
وفي الآية أعلاه دلالة على أن المنزلة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تخرجه عن حد العبودية لله عز وجل، ومن خصائص(خير أمة) التدبر بالتنزيل ومعرفة مضامينه القدسية والمقاصد السامية منه في إصلاح المسلمين لوراثة الأرض بالعبادة وذكر الله وتعظيم شعائره.
قانون (قل)
لقد جعل الله القرآن مدرسة التأديب للأجيال، وكل طبقة وجيل ينهلون منه ما فيه تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وهو من عمومات إحتجاج ورد الله عز وجل على الملائكة حينما[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
لقد أنزل الله سبحانه القرآن جامعة آداب متكاملة تشمل فروع العبادات والمعاملات والأحكام، وتأتي على العادات القبيحة فتكشف زيفها، وتدفعها عن الناس، ويدعو الناس للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما إقتدى به المسلمون.
ونالوا بهذا الإقتداء منزلة(خير أمة) وكانوا قادة للأمم والشعوب في الإقتباس من مدرسة القرآن الأخلاقية، وإعطوا بهاء وإشراقة للحياة الدنيا، ولتنكشف معالم جمالها بالإيمان الذي يدرك معه الإنسان أنها طريق إلى السعادة الأخروية التي حمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء البشرى بها والدعوة إليها .
فإن قلت ليس من فضل للمسلمين لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء لهم بالبشرى من الله.
والجواب ما من نبي أو رسول إلا جاء بالبشرى للناس، وحثهم على الإيمان، وترك الكفر والجحود قال تعالى[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )، نعم الأوامر الإلهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) أعم من أن تنحصر بالبشارة والإنذار، وهي مدرسة جهادية، وتتضمن سنن الإحتجاج المقرون بالدليل والبرهان، وهي تأسيس في التشريع الذي يحيط بالمسائل الإبتلائية إلى يوم القيامة كما ترد في تكرار قوله تعالى(يسألونك) وتعقبه بالأمر الإلهي الذي يتضمن الجواب وفيه دلالة على لطف الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات بعدم ترك أسئلتهم قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ] ( ).
ويرد بلغة الإستفتاء للإشارة إلى رجوع المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الفتوى والأحكام، وهو من خصائص (خير أمة) لأن هذا الرجوع له بصفة النبوة والرسالة، والعلم بأنه يخبرهم عن الله عز وجل وليس من عنده، قال تعالى[يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ]( )، وفيه شاهد بأن الله عز وجل هو الذي يفتي المسلمين بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترغيب للمسلمين بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور والحلال والحرام، فإن قلت هذا بخصوص الصحابة، فما حال التابعين وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة والجواب من وجوه:
الأول: رجوع المسلمين إلى القرآن وما فيه من الأحكام، إذ أنها أعم من أن تنحصر بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: نجدد المسائل الإبتلائية بما يجعل الحكم القرآني حاجة للناس وحجة عليهم.
الثالث: إتخاذ أسئلة الصحابة وإجابات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليها أصلاً للإستنباط، وتحتمل تلك الأجوبة وجوهاً:
الأول: إنها من الكتاب والتنزيل الذي لا يقبل الترديد والتبديل في لفظه ورسمه.
الثاني: إنه من السنة النبوية لما فيه من الإخبار عن كلام وجواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: التفصيل فما ورد في القرآن فهو من كلام الله عز وجل، وما جاء في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو من السنة النبوية القولية.
والصحيح هو الثالث، لبيان المائز بين الكتاب والسنة، وإن كانت السنة من عمومات الوحي، ويأتي لفظ(قل) إبتداء من عند الله وإن لم تكن هناك مسألة.
ويأتي في الإحتجاج والبرهان وفي علوم الغيب وخطاب أهل الكتاب، والرد على أهل المقالات الباطلة والبشارة والإنذار وبيان أهوال يوم الجزاء، قال تعالى[قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ] ( ).
وفي لفظ(قل) في القرآن مسائل:
الأولى: إنه آية إعجازية، وصيغة ثابتة من الوحي، وصلة بين أيام التنزيل وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
الثانية: إنه علم قائم بذاته، ومدرسة في عالم الأحكام، وكل لفظ(قل) في القرآن على وجوه:
الأول: إنه قانون ثابث.
الثاني: إنه دليل على نزول القرآن من عند الله.
الثالث: آية في اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس، قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
الرابع: بيان المنزلة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل ودعوة لإتباعه.
الثالثة: فيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الرابعة: إنه فعل أمر يتضمن الوجوب والحتم، فلا بد أن يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يأمره الله، وتدل السنة على أنه قاله وتلاه على نحو متكرر ومن بعده يتلوه المسلمون إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل.
الخامسة: تدل تلاوة النبي لقوله تعالى (قل) وما فيه من المضامين القدسية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يخف كلمة من القرآن، وأن المسلمين حرصوا عل سلامة القرآن من النقص والتبديل.
وورد لفظ (قل) في القرآن ثلاثمائة وإثنتين وثلاثين مرة، في آية من بديع التنزيل، وليس من الكتب السماوية السابقة مثلها.
ومن الآيات أن هذا العدد من الخطاب والأمر موجه كله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الفرد النادر كما في قوله تعالى في موسى عليه السلام[اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى] ( ).
إن هذا العدد الكثير من لفظ(قل) ومجيأه خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين مدرسة كلامية وأصولية وفقهية وإعجازية تدعو الباحثين لإفراد دراسات ومجلدات متشعبة خاصة بها من وجوه:
الأول: تقسيمها وتصنيفها بحسب الموضوع والدلالة والحكم.
الثاني: إقتباس الدروس والمواعظ منها.
الثالث: إتخاذها حجة لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إثبات نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الخامس: توكيد كون المسلمين(خير أمة) يخرجون بأمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) وإمتثالهم لهذا الأمر بتكرار القول والتصديق والعمل والإمتثال لما فيه، والتحلي بالآداب التي تتضمنها مضامين قوله تعالى(قل)، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الخامسة: لقد نال المسلمون مرتبة(خير أمة) بالإيمان بالله عز وجل إلها ورباً ومالكاً، فخرجوا للناس بهذا الإيمان يدعونهم إليه، ويبشرونهم بالنفع والثواب العظيم عليه، وهذا الإيمان شرط وضرورة في خروج المسلمين وجهادهم بين الناس، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وبه يعرفون المعروف فيدعون إليه ويأمرون به، ويجاهدون من أجل تحقيقه، ويتحملون الأذى في سبيله، فهو رشحة من رشحات الإيمان، ومقدمة ومصداق له وبواسطته يعرفون المنكر وما هو ضد الإيمان فيجتنبونه وينهون الناس عنه.
إن الإيمان بالله حرز من التفريط بالوظائف العبادية ومن خصائص خير أمة النهوض بالمسؤوليات العقائدية أزاء أفرادها وأزاء الناس جميعاً، ومنها تعاهد بقاء كل فرد منها في منازل الإيمان وإمتناعه عن الركون للكفار والميل لهم، ويصير هذا الإمتناع ملكة بمزاولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويبعث الإيمان بالله السكينة في نفوس المسلمين وعند الناس حينما يتوجه لهم المسلمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا العموم في السكينة وجوه:
الأول: إنه من أسرار نفخ الروح في آدم، قال تعالى[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ).
وصحيح أن المسلمين(خير أمة) وأنعم الله عز وجل عليها بنعم عظيمة إلا أنه سبحانه هو الرحيم الذي ينعم على الناس جميعاً، ومن هذه النعم للناس عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلقي كل إنسان قسطاً منه، وهذا القسط من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، ويفوز المسلمون بالقيام بالأمر والنهي، وتلقيهما.
فإن قلت بحصول التعارض إذ كيف القيام بالأمر والنهي وتلقيهما، فلا يأمر الإنسان نفسه.
والجواب ليس في المقام تعارض للتباين بين الآمر والمتلقي، فالمسلم يأمر وينهى أخاه المسلم، لعدم إنحصار توجه الأمر والنهي إلى غير المسلمين، ومن عمومات قوله تعالى(أخرجت للناس) أن المسلمين أخرجوا لأنفسهم ولغيرهم من الناس، لإرادة الجنس الإستغراقي في الألف واللام في قوله تعالى(للناس)، أما غير المسلمين والمسلمات فنصيبه التلقي ويتوجه له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طوعاً وكرهاً.
الثاني: إنه من إكرام الله للناس بإختيار آدم عليه السلام خليفة وأمر الملائكة بالسجود له، قال تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثالث: إنه من عمومات إحتجاج الله عز وجل على الملائكة يوم خلق آدم والإخبار عن أهلية الإنسان، للخلافة في الأرض وأن كان هناك فساد، فهذا الفساد في إنحسار ومحاصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهل يتضمن قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، البشارة بزوال الفساد في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين للناس الجواب نعم.
ولو دار الأمر بين إحتمال قلة الفساد أو زواله فالأصل هو الثاني إلا مع القرينة التي تدل على الأول ومن النصوص ما جاء بخلافه ففي خروج المهدي من آل محمد (أخرج الترمذي ونعيم بن حماد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينزل بأمتي آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم حتى تضيق عليهم الأرض فيبعث الله رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلا أخرجته ولا السماء شيئاً من قطرها إلا صبته، يعيش فيهم سبع سنين أو ثمان أو تسع)( ).
ومن منافع عموم السكينة في الأرض وجوه:
الأول: إنها من رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا.
الثاني: إنها مقدمة لقبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصغاء لهما.
الثالث: هي مناسبة للتدبر في آيات الله عز وجل.
الرابع: السكينة فضل من الله عز وجل على المسلمين وهي من خصائص(خير أمة) ومن وجوه الشكر العاجل من الله عز وجل للمسلمين على إيمانهم.
الخامس: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين زيادة الإيمان، فأنعم عليها بالسكينة مقدمة ووسيلة مباركة لصيرورته ملكة عندهم، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ).
وأما السكينة عند غيرهم فهي على نحو الموجبة الجزئية، لتجتمع مع أسباب الفزع والخوف الذي يبعثه البقاء على الكفر من غير تعارض بينهما، نعم يغلب الخوف على الكافر بما يجعله ينفر من سوء إختياره ويشتاق إلى السكينة الخالية من الضد، والتي لا تنال إلا بالإيمان لأنهما من خصائص(خير أمة) قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
السادسة: أخبرت الآيتان عن إيمان المسلمين مع التباين في الصيغة، وكل من الآيتين تذكره بشهادة من الله عز وجل، وهو نوع إكرام للمسلمين ودليل على أنهم(خير أمة).
ومن مصاديق خروجهم للناس في المقام أمور:
الأول: القطع بإيمان المسلمين، لما يدل عليه التكرار في الإخبار القرآني عن إيمانهم.
الثاني: ترغيب الناس بالإسلام للثناء المتكرر من الله على المسلمين.
الثالث: سلامة المسلمين من الإرتداد، فلن يترك المسلم منازل الإيمان، إمتناع المسلمين عن الإرتداد من عمومات قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع: وجوب الإيمان بالله، وموضوعيته في ميزان الأعمال، كأم الأصول، وجاء ذكر الإيمان في آية السياق بصيغة الماضي(آمنا بالله).
أما الآية محل البحث فذكرت الإيمان بصيغة المضارع(وتؤمنون بالله) وكأن فيه إخباراً عن إيمان أجيال المسلمين الماضي والحاضر والذي يأتي فيما بعد ، وفيه تزكية لأجيال المسلمين، ومنع من ذم بعضهم التشكيك في إيمان بعضهم الآخر، فالله عز وجل يتفضل ويشهد لأتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان به تعالى ليكون هذا الإيمان مصدر قوة وعز للمسلمين.
وجاءت الآيتان خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفي مفهومها وجوه:
الأول: بيان علة نيل المسلمين منزلة(خير أمة).
الثاني: دعوة الناس للإسلام.
الثالث: الإحتجاج على أهل الملل الأخرى.
الرابع: توكيد الدعوة إلى الإسلام بالبرهان والمعجزة.
الخامس: أهلية المسلمين للإحتجاج، ودفع المغالطات.
السادس: التخويف والوعيد للكافرين، قال تعالى[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( ).
السابعة: ذكرت آية السياق إيمان المسلمين بما أنزل عليهم، وجعلته معطوفاً على الإيمان بالله، وفيه بيان لموضوعية القرآن وآياته ومضامينه القدسية، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: إرادة أهل البيت والصحابة، لأن الآية وردت بصيغة الماضي (قل آمنا) مما يدل في ظاهره على حصول الإيمان وسبقه الزماني، ويصدق على المؤمنين أوان نزول الآية.
الثاني: المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص، ومجيء الآية بصيغة الجمع (آمنا) تشريف وإكرام له.
الثالث: تتضمن الآية الشهادة لأجيال المسلمين المتعاقبة بالإيمان بالله والتنزيل.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق، وتفضل الله عز وجل بالشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
فإن قلت كيف تأتي الآية بصيغة الماضي ويراد بها أفراد الزمان الطولية وأجيال المسلمين فيها.
الجواب إن الآية من علم الله عز وجل وإخباره عن الواقع والمغيبات، فهو سبحانه يعلم بأن أجيال المسلمين تتعاهد الإيمان بالله، والتصديق بالقرآن والكتب السماوية السابقة، وفيه نكتة وهي حضور القرآن في كل زمان، سالماً من التحريف، يجمع ويلتقي المسلمون في موضوع نزوله من عند الله.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، بلحاظ عدم تفرقهم بخصوص نزول القرآن، لأن الإجماع والتسالم على نزوله من عند الله طريق ومقدمة للوحدة الإيمانية بين المسلمين وعدم الإختلاف في القرآن فلا تقول طائفة منهم فيه زيادة أو تقول أخرى فيه نقيصة.
وهذا الإجماع على التنزيل وصحته من عمومات قوله تعالى(كنتم خير أمة) وصيغة الماضي فيه توكيد لتعاهد المسلمين للإيمان.
ولم تذكر آية السياق وآية البحث الإيمان بالملائكة والأنبياء واليوم الآخر مع موضوعية كل فرد منها، قال تعالى[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ……..]( )، والآية أعلاه مما أنزل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر آية السياق الإيمان بما أنزل عليه بقوله تعالى[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا]، يعني الإقرار بوجود الملائكة وأنهم خلق عظيم في السموات[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( )، وشهادة المسلمين ببعثة الأنبياء.
فمن إعجاز القرآن أن يأتي فيه المجمل والمبين , والمطلق والمقيد، فجاءت آية السياق بالإخبار عن تصديق المسلمين بكل آية من آيات القرآن.
الثامنة: ذكرت الآية محل البحث أفضلية الإيمان لأهل الكتاب بقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
ومن مصاديق هذا الإيمان التصديق بالقرآن لأنه كتاب نازل من عند الله، وفيه أحكام الحلال والحرام، وسبل النجاة يوم القيامة، ويفتح الإيمان بالقرآن ونزوله من عند الله آفاق المعرفة على العبد، ويجعله يسبح في عالم الملكوت، ويبصر الأشياء بحقائقها، فيحترس من المعاصي والذنوب، ويسعى في مرضاة الله.
إن إيمان المسلمين بما أنزل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على أهل الكتاب، ودعوة لهم للإيمان، وجاء وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) لترغيب أهل الكتاب والناس جميعاً بالتصديق بالقرآن بلحاظ أنه من أسباب بلوغ المسلمين لهذه المرتبة، وشرط في بلوغها.
وجاءت كل من الآيتين لإعانة المسلمين في البقاء في مقاماتها، وقد جاء الأنبياء للأمم السابقة ونزلت عليهم الكتب، ولكن الأجيال اللاحقة منها لم تتعاهد منازل الإيمان والمحافظة على التنزيل والعمل به، فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين(خير أمة) بتعاهدهم لما أنزل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان والعمل والحفظ، وإتخذوا من القرآن إماماً وهادياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التاسعة: من خصائص(خير أمة) الإيمان بالتنزيل على نحو العموم المجموعي، فكل ما أنزل الله عز وجل على أنبيائه يؤمن به المسلمون، ليكون فيصلاً بين الإيمان والكفر، وفيه شاهد على تمام الدين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
فمن شرائط الإسلام التصديق بالكتب السماوية السابقة بعرض واحد مع التصديق بنزول القرآن مع رجحان كفة القرآن بأنه مصدر التشريع، وهو الكتاب الجامع للأحكام الشرعية، والتكاليف، وهو المعجز في لفظه ومضامينه القدسية، والحاضر في رسمه في كل زمان، وإنفرد القرآن بالتلاوة اليومية في الصلاة.
وليس من تنزيل وذكر وموضوع يتعاهده الناس والعباد كل يوم معشار تعاهد المسلمين للقرآن وهو من أسرار تقديم آية السياق له في الإيـمان به من بين الكتب السماوية، ومن أسباب بقـــاء المســلمين في مراتـب(خير أمة).
فإن قلت لماذا لم تكتف الآية بالإيمــان بالله والقرآن بلـحاظ أنه جــامع للتنــزيل، وجعــله الله عز وجل[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وأن التنزيل الذي ذكرته الآية من غير القرآن لم يعد موجوداً برسمه ولفظه، والجواب من وجوه:
الأول: من الضروري التسليم والإيمان بكل ما أنزله الله عز وجل، وآية السياق من التنزيل، فلا بد من الإقرار بمضامينها القدسية، وبيان تفسيرها وتأويلها ليكون القول أعلاه أمراً زائداً، ولا تصل إليه النوبة.
الثاني: بيان صدق نزول القرآن من عند الله بالإقرار بالكتب السماوية السابقة، فبينما يكفر أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينكرون موافقة صفاته لما مذكور في التوراة والإنجيل، فإن القرآن يأتي بالتصديق بالكتب السماوية السابقة، ويجعل لها موضوعية في عالم التوحيد.
ومن خصائص القرآن بيان وحدة وتكامل التنزيل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] ( ).
وقد حمل المسلمون لواء التصديق بما أنزل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل قبله، وكان أكثر الناس على الكفر والضلالة والجحود، ولكنهم صدّقوا بمعجزات النبي محمد وما نزل عليه ومنه ضرورة التصديق بالكتب السماوية السابقة، بينما تخلف غيرهم عن التصديق بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يتضمن الإعجاز الذاتي والغيري، فحتى لو حرّف كبراؤهم البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي وجوب التصديق بنبوته من وجوه:
الأول: توالي المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تؤكد صدق بعثته وأنه رسول من عند الله.
الثاني: إعجاز القرآن البلاغي.
الثالث: إخبار القرآن عن المغيبات، ومجيء الوقائع موافقة لآياته ومضامين البشارة والإنذار الواردة فيه.
الرابع: نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجيوش المسلمين بآية ظاهرة للحواس، ويدركها كل جيل من الناس، فهم أفراد قلائل شبه عزل من السلاح يواجهون جيوشاً عظيمة زحفت عليهم، ولكنها سرعان ما تنهزم من ساحة المعركة تاركة خلفها القتلى والأسرى والغنائم للمسلمين التي يستعينون بها في إصلاح حالهم ويتخذونها وسيلة وسلاحاً للغزو.
فيتبدل حال المسلمين من ضعفاء يدافعون عن أنفسهم إلى سرايا تختار الغزو إبتداء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، أي أن النصر مطلوب بذاته , وفيه منافع إضافية حاضرة وآجلة.
وإذا كان نصر الله للمسلمين وهم ضعفاء وفي حال الدفاع فمن باب الأولوية أن يتفضل عليهم بالنصر مع إزدياد قوتهم وهم في حال الهجوم وإختيار مواضعه ومقاصده وكيفيته وزمام المبادرة فيه، إلى جانب الضعف والوهن الذي أصاب عدوهم بسبب إنكساره قال تعالىلِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
العاشرة: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، وفاز المسلمون بمرتبة(خير أمة) بأنهم إمتثلوا كأناس للأمر الإلهي، ثم خرجوا لإخوانهم من الناس الذي أبوا الإمتثال، بالدعوة إلى الإسلام ومقدماته بلحاظ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعم من أن يكون دعوة إلى الإسلام فيكون أمراً بالصالحات والخيرات والإحسان والكلمة الطيبة، وكذا النهي لا ينحصر بالزجر عن الكفر فيشمل النهي عن المعاصي والذنوب والفواحش.
وهذه الوجوه من الأمر والنهي مسائل:
الأولى: مقدمة لدخول الإسلام.
الثانية: إنها سبب لإزالة الغشاوة عن الأبصار.
الثالثة: إنها موعظة وذكرى للإنسان, قال تعالى[إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
الرابعة: من مصاديق فوز المسلمين بالرفعة والعلو بين الأمم لأنهم قادتهم وأئمتهم نحو الهداية والتصديق بالنبوة والتنزيل.
وجاءت آية السياق صريحة إذ تتضمن الإخبار عن إيمان المسلمين بالكتب المنزلة.
فإن قلت هل ذكرت الآية كل الكتب والصحف التي أنزلها الله، الجواب نعم من وجوه:
الأول: وردت الآية بذكر أسماء بعض الأنبياء والذين يعرفهم المسلمون والمليون.
الثاني: ما عند المليين أيام نزول القرآن من الكتب التوراة والإنجيل، وقد ذكرتهما الآية بقوله تعالى[وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى]( ).
الثالث: جاءت الآية بذكر الأنبياء جميعاً، وما أنزل الله عز وجل عليهم بقوله تعالى[وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ].
الرابع: لقد جعل الله عز وجل القرآن جامعاً لأحكام التنزيل، فكل المضامين القدسية التي جاءت في الكتب السابقة وردت في القرآن موضوعاً وحكماً وبذات اللفظ أو المعنى، ويتصف المسلمون بأمور:
الأول: إنهم حفظة للقرآن.
الثاني: هم التالون له في الليل والنهار وإذ يسقط الجهاد عن المرأة فإن التلاوة الواجبة لا تسقط عنها.
الثالث: هم العاملون بأحكامه إلى يوم القيامة، فإستحقوا منزلة وراثة الأنبياء.
الرابع: حمل المسلمين لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنهل والإقتباس من القرآن والإمتثال لأوامره ونواهيه.
الحادية عشرة: يدل الجمع بين الآيتين على تفقه المسلمين في الدين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية بمعرفة أسماء الأنبياء السابقين، وهذه المعرفة من وجوه:
الأول: معرفة أسماء عدد من الأنبياء وعظيم منزلتهم عند الله، ويأتي من جهات:
الأولى: ذكر الأنبياء في آيات القرآن الأخرى.
الثانية: ورود أسماء الأنبياء على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية، وتفسيره وبيانه للقرآن وذكره لبعض قصص الأنبياء.
الثالثة: ذكر هذه الآية لأسماء عدد من الأنبياء، وتوكيدها على نزول الكتب عليهم.
الرابعة: إتصال المسلمين بأهل الكتاب الذين أخبروهم بأحوال الأنبياء وأسمائهم.
وبإستثناء الجهة الرابعة فان الجهات الثلاثة الأخرى كلها صحيحة، فقد كان المسلمون في غنى عن أخبار الملل الأخرى، أن عندهم القرآن والسنة لذا جاء في القرآن مناراً للهداية، وبرزخاً دون الحيرة والتردد واللبس، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
والإقتباس من الأمم السابقة ليس نقصاً ولا يخل بمنزلة خير(أمة) التي وصل إليها المسلمون، خصوصاً وهناك أمم سابقة نالت درجة التفضيل كما في بني إسرائيل، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: من وجوه التفقه في المقام مجئ آية السياق بأمرين:
الأول: التنزيل.
الثاني:الإيتاء وهو الإعطاء لقوله تعالى[وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ] ( ).
وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالإيتاء أعم من التنزيل، وقد نال المسلمون الأمرين معاً، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شرَّفه الله عز وجل بـأمور:
الأول: نزول القرآن عليه.
الثاني: لقد أتى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الحديث القدسي.
الثالث: كانت سنته وحياً وبأمر وإذن من الله، لتكون خزينة ينهل منها المسلمون إلى يوم القيامة، وهذه الأمور من خصائص(خير أمة) إذ جعل الله عز وجل عندهم آيات القرآن، وكل آية خزينة وذخيرة للدارين، وإتعظوا من الحديث القدس وما فيه من المضامين والآداب وقاموا بتدوين السنة النبوية لتكون سوراً جامعاً لهم، ومانعاً من الفرقة والإختلاف.
الثالث: معرفة الترتيب الزماني والتعاقب بين الأنبياء وأولوية الأبوة عند إجتماعهم في الذكر وإن كان الأب نبياً، والابن رسولاً نبياً، وهو من إكرام المسلمين للأنبياء، وتوثيق نبوتهم.
الرابع: من أسرار تصديق المسلمين ببعثة الأنبياء توكيد إيمانهم بنبواتهم وكأنهم حاضرون مع المسلمين، ومؤازرون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله، وفيه تذكير بأن الكفار كذّبوا بنبواتهم أيضاً، قال تعالى[وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ).
فجاء إيمان المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالأنبياء الذين كذّبهم قومهم وفيه مصداق لبلوغ المسلمين مرتبة(خير أمة).
الخامس: دعوة المسلمين للتحقيق والإستنباط في قصص الأنبياء وأسمائهم ومواظبتهم على الجهاد في سبيل الله، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وقصة كل نبي مدرسة يقتبس منها المسلمون أنوار الهداية، ومن خصائص(خير أمة) الإنتفاع الأمثل من هذه القصص، وما فيها من إظهار الأنبياء الصبر والتقوى والإخلاص في طاعة الله وإستحقاقهم لمراتب الإمامة بين الناس.
السادس: إتخاذ المسلمين لسيرة الأنبياء مادة وموضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن إقرار المسلمين بالأنبياء وعدم إنكارهم النبوة هو بذاته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية عشرة: تؤكد آية السياق خصالاً حميدة للمسلمين، وتبين إستحقاقهم لمرتبة(خير أمة) وتدعو الناس للإلتحاق بهم، وهم بإيمانهم وفقاهتهم وضعوا حداً للغفلة والجهالة عند الناس، وهو من خصائص(خير أمة أخرجت للناس) إذ صار الناس يتلقون أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالتدبر والتفكر وهو من أسرار الآية أعلاه وإقتران الثناء على المسلمين ووصفهم بأنهم(خير أمة) بإخبارها عن خروجهم للناس وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة عشرة: لقد جاء الأنبياء بالدعوة إلى الله، ووجوب الإيمان به، والتصديق بكتبه وأنبيائه، وفاز ببلوغ مرتبة الإيمان المسلمين على نحو العموم الإستغراقي لقوله تعالى في الآية محل البحث(وتؤمنون بالله).
وفيه توكيد لثمرة جهاد الأنبياء وأنه لم يذهب سدى، وما أنزل عليهم يؤمن به المسلمون، وهذا الحفظ لجهاد الأنبياء وتعاهد ثماره جاء بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته التي لم تكتف بالإيمان الذاتي بل خرجت للناس برداء الإيمان ودعوتهم، وإصلاحهم له.
فكأن جهاد وعمل الأنبياء حاضر بين الناس، فلا غرابة أن يجتهد إبراهيم عليه السلام بالبشارة والدعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التنزيل[وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
الرابعة عشرة: لما أخرج الله عز وجل المسلمين للناس فإنه أصلحهم لوظائف هذا الخروج، وجعلهم يعملون على تثبيت معالم الإيمان في الأرض، وتنزيه المجتمعات من الكفر والجحود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مصاديق إصلاحهم هذا عدم تفريقهم بين الأنبياء.
وفيه شاهد على عدم طرو الغرور والإستكبار على المسلمين، فهم يقرون بأن الأنبياء سادة البشر وأن الوظيفة الشرعية تقتضي الإيمان بهم وأن الله شرّفهم لأعظم مسؤولية وأمانة بأن صاروا الواسطة بين الله عز وجل والناس.
ومع أن(خير أمة) أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم يؤمنون بالأنبياء جميعاً من غير تفريق بينهم، وفيه دلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يستأثر بصفة النبوة دون الأنبياء الآخرين، فببعثته إستقرت دعائم النبوة في الأرض إلى يوم القيامة بالتصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ووجود أمة عظيمة تتقيد بمفاهيم هذا التصديق، وهو من أسباب فوزها بمرتبة (خير أمة) تؤمن بالأنبياء كلهم ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل هو الذي يهدي رسوله الكريم وأمته إلى الصراط المستقيم، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وقد جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وليس من نبي بعده، ولا تستطيع أمة حفظ هذه الحقيقة التكوينية غير المسلمين، فهم(خير أمة) من جهات:
الأولى: إظهار الصلاح والتقوى عليهم.
الثانية: إعلان الإيمان بالله والأنبياء جميعاً.
الثالثة: محاربة المسلمين للنفس الشهوية والغضبية , واللهث وراء الدنيا.
الرابعة: لم ولن يدّعي أحد المسلمين النبوة، مما يمنع بالأولوية القطعية إدعاء أهل الملل الأخرى النبوة، وهو من أسرار إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) وخروجهم للناس بأمور:
الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس من حصر أو تعيين للجهة التي يتوجه لها المسلمون في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مما يدل على دخول أهل الكتاب فيها، وهذا الدخول على شعب:
الأولى: قصد أهل الكتاب بالذات بالأمر والنهي كما في قوله تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
الثانية: إرادة أفراد معينين من أهل الكتاب سواء لخصوص موضوع معين أو مطلقاً.
الثالثة: تعلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأهل الكتاب عرضاً، كما لو كان المقصود غيرهم ولكن الموضوع متحد ومتشابه وذو صبغة إبتلائية عامة.
الرابعة: إتعاظ أهل الكتاب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجه إلى غيرهم، ومن الآيات ورودهما بصفة المعروف والمنكر، فلم تقل الآية(تأمرون بالخير وتنهون عن الشر).
وفي ذكر لفظ المعروف والمنكر، وجوه:
الأول: إنه حجة على الناس بأنهم يعرفون مواضيع ومصاديق المعروف.
الثاني: لا يستطيع الناس الإنكار على المسلمين دعوتهم أو جدالهم في ذات موضوع المعروف الذي يأمرون به، ولا موضوع المنكر الذي ينهون عنه.
الثالث: الترغيب بالصالحات، وجعل النفوس تنفر من المعاصي والفواحش.
الثاني: الزجر عن إدعاء النبوة أو التعدي على مقاماتها.
الثالث: بيان فلسفة النبوة، وإتصاف النبي بإختصاصه بالوحي والتنزيل من عند الله، وهذا الوحي لنفع الناس جميعاً في الدنيا والآخرة.
وفاز المسلمون بالتصديق به والأخذ منه والعمل بمضامينه وقد ذكّر الله عز وجل بني إسرائيل بقوله تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا] ( ).
وتفضل الله عز وجل على الناس ببعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمداً وجعل المسلمين(خير أمة) ليكون الملك والحكم من رشحات وبركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن خصائص (خير أمة) وإتخاذها الملك والسلطان سبيلاً للصلاح وظرفاً وآلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته ملك وسلطان إعتباري، ومقام رفيع بين الناس وسبب لجني الحسنات وإكتساب الصالحات، وليس فيه ظلم أو تعد فهو خير محض، ونفع متصل.
الخامسة عشرة: أختتمت آية السيـــاق بالأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعــلن تســـليمه وإنقياده وجميع المســـلمين لله عز وجل(ونحن له مسلمون)، وفيه وجوه:
الأول: هو تشريف إضافي للمسلمين، وفيه برزخ دون الغلو بالأنبياء.
فمن خصائص(خير أمة) عصمتهم من الغلو , وهو الآفة التي أصابت الأمم السابقة، قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ]( )، وبين الغلو في الدين والغلو بالأنبياء عموم وخصوص مطلق فالأول أعم من الثاني.
الثالث: إن إيمان المسلمين بالأنبياء، وما آتاهم الله من الكتاب والمعجزات هو فرع إسلامهم وإنقيادهم لأوامر الله عز وجل، فمن إعجاز آية السياق أنها بدأت بالإخبار عن إيمان المسلمين على نحو العموم الإستغراقي بالله عز وجل(قل آمنا بالله) وإختتامها بإنقيادهم لأوامره تعالى.
الرابع: الشهادة من عند الله بحسن سمت وعاقبة المسلمين، لذا وصفهم بأنهم(خير أمة).
الخامس: بشارة ما ينتظرهم من الثواب العظيم، ودليل على نيلهم مرتبة(خير أمة) فليس في الدار الدنيا شيء أجمل وأكثر نفعاً من التسليم والإنقياد لله عز وجل، وهو طريق النجاة، وسبيل أداء الوظائف العبادية.
وفيه دلالة على أن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع هذا التسليم والإنقياد لله ودليل عليه، وأن الأمة التي تنقاد إلى أوامر الله لا تخشى أحداً من الناس.
وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل[قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وفيه آية وهي أن المسلمين إذا أمروا بشيء فإنهم يتلقونه بالإمتثال، فلما أمروا بالتسليم كما في الآية أعلاه جاءت آية السياق لتخبر عن تحقق هذا التسليم، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة.
الثاني: إنه يخص شطراً من المسلمين أو الأكثر منهم بما يصح إطلاقه على الأمة.
الثالث: إرادة عموم المسلمين وأجيالهم المتعاقبة والثناء عليهم.
والصحيح هو الثالث، لأصالة الإطلاق، وتجدد مضامين الآية وشمولها للمسلمين جميعاً، وفيه تشريف للأجيال اللاحقة من المسلمين من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل يعلم حال الناس قبل خلقهم، وهو سبحانه يعلم أن المسلمين ينقادون لأوامره .
ومن أسمائه تعالى العالم والعليم , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( )، لبيان إقتران الحلم بالعلم وأنه تعالى يمهل الناس لحكمته في الخلق.
الثاني: شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان، وعدم الإستكبار عن طاعة الله.
الثالث: بعث السكينة في نفوس المسلمين بخصوص أنفسهم وذراريهم من بعدهم بأنهم باقون على الإسلام لا يغادرون منازله قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع: إخبار الناس جميعاً بأن المسلمين لم يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهما من مصاديق تسليمهم وإنقيادهم لله عز وجل، وفيه دلالة على حرص المسلمين على جذب الناس لمقامات الإنقياد لله، والتسليم بربوبيته، وإجتناب معصيته.
الخامس: إقامة الحجة على الناس بأن المسلمين(خير أمة) بخشوعهم وطاعتهم لله، وتسليمهم بأنه رب السموات والأرض.
لقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض، ويقتل النفس المحرمة بغير حق، وتحقق مصداقه بجماعات وأفراد قتلوا الأنبياء، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ولم يوّبخ الله عز وجل الملائكة على إحتجاجهم لأنهم[عِبَادٌ مُكْرَمُونَ]( )، منقطعون إلى طاعة الله فلا بد أن يكون إحتجاجهم في طول هذه الطاعة والإنقياد لأمر الله.
فجاء رد الله عز وجل عليهم بالتأديب والإرشاد وما يجعلهم يواظبون على طاعته وينتظرون آيات من علم الغيب تتجلى فيها حكمة الله، وبديع صنعه في خلق الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، فقال سبحانه في الرد عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ولما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إندفع الناس للدخول في الإسلام أفواجاً وقبائل يرجون مرضاة الله، وكأنهم كانوا على موعد من عالم الذر ببعثته وأوانها.
إذا كان الفاسقون هم الأكثر بين أهل ملة مخصوصة أصبحوا هم الأقل من وجوه:
الأول: دخول الناس في الإسلام وصيرورتهم من الذين أسلموا لله وأطاعوه.
الثاني: دخول فريق من أهل الكتاب ومن رؤسائهم في الإسلام.
الثالث: ظهور معالم عبادة الله في الأرض، وإنبعاث صلاة الجماعة، وإزدياد صفوفها يوماً بعد يوم، ومعركة بعد أخرى، فكلما وقعت معركة بين المسلمين والكفار دخلت أفواج من الناس في الإسلام، لما في تلك المعارك ونتائجها من الشواهد والأمارات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودلالات غلبته ونصره على الكفار، قال تعالى[وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوقفت إتساع وتفشي الفسوق بين الناس، وإنتقال فريق من الفاسقين إلى الكفر والجحود والظلم النوعي العام في الأرض، فذات الفسق إستبان قبحه، وأصبح الناس ينفرون منه، لتسود مبادئ التسليم والإنقياد إلى الله عز وجل، وينفذ ضياء شمس الإسلام إلى القلوب، ويبعث الناس على التدبر والتفكر في ماهية الحياة وإدراك أنها دار عبادة وتقوى تفوز بها(خير أمة) التي تتصف بالسلامة من الفسوق والفجور للتضاد والتنافي بين التسليم لأمر الله وبين الفسوق.
وكلا الآيتين شهدتا للمسلمين بالتنزه من الفسوق، وفيه مدح لهم، ودعوة لهم للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر على نعمة الإسلام.
إن مجيء خاتمة الآية بصيغة العموم الإستغراقي(ونحن له مسلمون) دليل على تكامل الشريعة الإسلامية، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام والفوز بشكر الله عز وجل لهم، وهذا الشكر لا ينحصر بالقولي مع أنه نعمة عظيمة وحرز من الآفات، إلا أنه يشمل المصاديق الفعلية، للشكر الإلهي التي هي من النعم اللامتناهية، قال تعالى[نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ] ( )، ومن هذه النعم أمور:
الأول: بلوغ المسلمين مرتبة(خير أمة).
الثاني: توالي الشواهد والوقائع التي تدل على عدم مغادرة المسلمين لمنازل (خير أمة).
الثالث: الإيمان بالكتب المنزلة والذي يعني بالدلالة التضمنية والإلتزامية التصديق والإيمان بالأنبياء الذين نزلت عليهم هذه الكتب من عند الله لقانون في الإرادة التكوينية يعلمه كل إنسان بأن الكتاب السماوي لا ينزل إلا على نبي.
فإن قلت هناك مسألتان:
الأولى: سلّمنا أن المسلمين من الأولين والآخرين، وأرباب الملل السماوية يعلمون هذا القانون، فكيف يعلم به الكفار.
الثانية: هل يكون هذا العلم حجة على الكفار.
والجواب على الأولى من وجوه:
الأول: العموم في هذا العلم من خصائص الخلافة في الأرض، وتشريف الإنسان فيها.
الثاني: فيه دعوة للإيمان، وحجة على الناس جميعاً.
الثالث: بيان المائز بين المؤمنين والكفار، وموضوعية الإختيار في دخول الإسلام، والفوز بالإنضمام إلى(خير أمة).
الرابع: نزول الكتاب من السماء معجزة عقلية وحسية يدرك الناس معه مختصات النبوة، وهو شاهد على وجود الصانع، وأنه سبحانه لم يترك الناس وشأنهم بل بعث لهم الأنبياء مبشرين ومنذرين.
أما الثانية فالجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول: إنه حجة على الكفار قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثاني: بيان الحاجة لخير أمة بالدعوة إلى الله عز وجل، وإعلان التصديق بالكتب السماوية المنزلة، والإقرار بنبوة الأنبياء السابقين، ليكون المسلمون وسيرتهم وسمتهم حجة على الناس.
الثالث: علم الكفار بهذا القانون السماوي موضوع وأصل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين والناس أن الدعوة إلى النبوة والتنزيل ليست غريبة عن الناس، وفيه تخفيف مركب عن المسلمين من وجوه:
الأول: منع إستهزاء الناس بالمسلمين لتصديقهم بالكتب السماوية السابقة، ولم يقل أحد من الناس يكفيكم التصديق بالقرآن وما فيه من الإعجاز، بل تلقى الناس إيمان المسلمين بكافة الكتب السماوية السابقة بهالة من الإحترام والإكرام، وصيغ التدبر في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقابله أهل الكتاب بإنكار نبوته، ويسعى فريق منهم للإضرار بالمسلمين، ويتبع المسلمون والمسلمات جميعاً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في التصديق بالتوراة والإنجيل قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
الثاني: تجلي الحجة بذات الكتب السماوية السابقة، ووجود أمم من الموحدين تابعة لهذه الكتب، وتعمل بمضامينها القدسية، ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث: بعث الكفار على التفكر والتدبر، ودخول فريق منهم الإسلام.
الرابع: إصابة الكفار بالضعف والوهن والإنشغال بأنفسهم، ومنعهم من التعدي على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهو عون لتعاهد المسلمين لمنزلة(خير أمة).
ولو شككنا هل تصدق منزلة(خير أمة) تصدق على المسلمين إذا أحرزها جيل أو أجيال معدودة منهم، أو أنها تصدق عليهم عندما تحرزها كل أجيالهم المتعاقبة.
الجواب هو الثاني، لوجوه:
الأول: أصـــالة العموم، وهو من وجــوه نيل المسـلمين لمرتبة(خير أمة).
الثاني: تجدد الخطاب القرآن التشريفي للمسلمين بأنهم(خير أمة).
الثالث: قيام كل جيل وطبقة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: مصاحبة هذا الأمر والنهي المسلمين في كل زمان ومكان، قال تعالى بخصوص قبلة الصلاة[فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
وأداء المسلمين الصلاة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله دلالات عقائدية وأخلاقية فكيف إذا جاءوا بها جماعة وفي أوقاتها.
ومن واجبات الصلاة تلاوة آيات القرآن، وكل آية من عالم التنزيل وشاهد صدق يلح على الناس بالإيمان بنزول القرآن والذي جاء مصدقاً بالكتب السماوية السابقة، وجاءت هي مبشرة به وداعية إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ]( ).
السادسة عشرة: جاءت خاتمة الآية محل البحث بذم فريق من أهل الكتاب ونعتهم بالفسق والخروج عن الطاعة، وفيه دلالة على تخلف الأمم السابقة عن وراثة الأنبياء، ولزوم الإنقياد لأمر الله عز وجل، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأهل الكتاب والناس جميعاً.
ومن الآيات أن مكان ولادته وبعثته هو مكة والبيت الحرام حيث بقايا الحنيفية ومناسك الحج وأن دار حكمه التي إنتقل إليها هي يثرب حيث اليهود وهم ينتظرون نبي آخر الزمان، ويرجون أن يكون منهم، وسرعان ما تكونت أمة عظيمة تجتمع على قوانين وقواعد سماوية ثابتة فيها الخير والصلاح للناس جميعاً فتغيرت موازين القوى في الجزيرة.
وأصبح الكافر القوي ضعيفاً، ليس عنده للمحافظة على قوته وعزه إلا دخول الإسلام، وتعطلت الأعراف القبلية التي كانت سائدة، قال تعالى[وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وحصل أول قتل في الأرض، وجرى هذا القتل في أيام آدم عليه السلام وطرفاه ولداه قابيل وهابيل، ولم يكن هذا القتل بالحق، ولا يمكن أن يكون القصاص أول قتل في الأرض لأن القصاص لا يأتي إلا متعقباً لجناية القتل، وفيه مصداق لإحتجاج الملائكة، ومن علم الله سبق وتأخر عبادة الله عز وجل في الأرض وظهور الندم على القاتل، لقوله تعالى[فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( )، وفتح باب التوبة للناس جميعاً.
ومن علم الله عز وجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين للناس يتصفون بخصال حميدة منها:
الأول: الإنقياد لأمر الله.
الثاني: إقامة حدود الله.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الرابع: الدعوة إلى نبذ الظلم.
الخامس: إستحضار أهوال الآخرة في الوجود الذهني والواقع العلمي، وتقيم على طاعة الله ورسوله في العبادات والمعاملات والأحكام.
السابعة عشرة: ذهب جماعة من العلماء إلى القول بأن النبي الذي يكون شرعه منسوخاً تصير نبوته منسوخة( ).
ولكن لا ملازمة بين نسخ الشرع ونسخ النبوة، وجاءت آية السياق لتؤكد هذه الحقيقة، وتنفي نسخ نبوة الأنبياء السابقين، ومن الأنبياء من لم يكن رسولاً صاحب شريعة، وذكرت الآية للتأكيد أن الأسباط من أبناء يعقوب وذريته، قال تعالى[وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ]( ).
فجاء القرآن يفسر بعضه، وورد لفظ الأسباط للإشارة إلى كثرة وتعاقب أنبياء بني إسرائيل في أممهم وأن المسلمين يسلّمون ويصدقون بنبوتهم مع كثرتهم، وهل منهم الذين قتلهم بنو إسرائيل الجواب نعم، إذ ذكرت الآية الإيمان بالتنزيل وهو من سنخية واحدة.
ولتبين (خير أمة) للناس أن نبوة النبي لا تنسخ وأن نسخت شريعته، أو لم تكن له شريعة، فيقر ويعترف بهم المسلمون بصفة النبوة وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بتقريب أن الخليفة يبقى في شأنه وذكره في الأرض، ولن تغادرها معالم نبوته وإن غادرها ببدنه إلى الرفيق الأعلى.
ويكون بقاء ذكر النبي بين الناس بمساعي وعبادة(خير أمة) وتلاوتها لآيــات القرآن وتصديقها بالتنزيل مطلقاً ليشهد المسلمون بأن كـل تنزيل هو نعمة على أهل الأرض جميعاً وأن الله عز وجل إذا أنعم عليهم بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها فتفضل الله عز وجل بدوام النعم التالية:
الأولى: بقاء نعمة التنزيل بالقرآن لأنه جامع للأحكام ومضامين التنزيل.
الثانية: نعمة التصديق بالتنزيل، ومع بعثة أي نبي من الأنبياء تبادر أمة للتصديق به، مع التباين في عددهم وتعاقب أجيالهم.
الثالثة: لقد تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل أمته(خير أمة) بالإيمان بالنبوات ليكون هذا الإيمان إنحلالياً بعدد كل الأنبياء وما أنزل الله عليهم، وفي تصديق المسلمين هذا آية من فضل الله فإذا كان الذين يصدّقون ببعض الأنبياء قليلين، وربما أفراد أسرته وأهله فإن الله عز وجل جعل أعظم أمة تصدق به وبما أوحاه الله له وتعلن إيمانها بنبوته وتذب عنه وتنزه الأنبياء، وتخبر عن عصمتهم وجهادهم في سبيل الله، وتفضح الذين آذوهم وتعدوا عليهم، قال تعالى[وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ).
الرابعة: لن يستطيع الكفار طمس معالم النبوة والتنزيل بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى راية التنزيل مرفوعة في كل زمان بخير أمة أخرجت للناس، ومن مصاديقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو منهج الأنبياء، وسنتهم في الأرض، والأمر الذي جاهدوا من أجله وتحملوا بسببه الأذى، ليحفظ المسلمون وحي النبوة بالإيمان والقول والفعل، وهو من مصاديق نيلهم مرتبة(خير أمة).
الثامنة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: تأكيد كون المسلمين(خير أمة) من جهات:
الأولى: الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعلان للناس جميعاً عن قيام المسلمين بتصديقه وإتباعه، وتسليمهم بأنه نبي الله.
الثانية: أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتكلم نيابة عن المسلمين وبإسمهم وبما فيه شهادة نبوية بحسن إيمانهم، وهذه الشهادة مرآة وبشارة لشهادته لهم يوم القيامة، وبما فيه خلودهم في النعيم، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ).
وشهادة المسلمين على الناس من مصاديق(خير أمة) وكذا شهادة الرسول عليهم، إذ أخبرت آية السياق عن شهادته صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بإيمانهم بالله عز وجل والتنزيل، وفيه آية وهي أن شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإيمان المسلمين هي بأمر ووحي من الله الذي يعلم حال المسلمين أيام التنزيل وبعده وإلى يوم القيامة، والذين تتغشاهم إفاضات هذه الشهادة.
الثالثة: تصديق المسلمين بالوحي والكتاب والصحف التي أنزلها الله على إبراهيم والأنبياء الآخرين، وهو أمر إختص به المسلمون، وكانوا على ملة إبراهيم والحنفية السمحاء.
ومن خصائص(خير أمة) أن إيمانهم بإبراهيم أعم من الإعتقاد والتصديق بالجنان فيشمل عالم الفعل والمناسك، كما في محاكاته في أداء مناسك الحج، قال تعالى[وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ] ( ).
فيتجلى إيمان المسلمين بالله بعبادته وطاعته وإتباع رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهم بالتنزيل يشمل التصديق به والعمل بمضامين ما أنزل الله على الأنبياء السابقين وفق ما جاء في القرآن الكريم.
الرابعة: عدم إكتفاء المسلمين بالإيمان بما أنزل على إبراهيم عليه السلام بل أعلنوا الإقرار بالتنزيل على الأنبياء الآخرين ومنهم موسى عليه السلام إذ أنزل الله عز وجل عليه التوراة، وعيسى عليه السلام الذي أنزل الله عز وجل عليه الإنجيل.
الخامسة: تسليم المسلمين بأن النبوة مرتبة رفيعة ومقام سامي لا يرقى إليه أحد إلا الأنبياء الذين إختارهم الله عز وجل لها من بين الناس، ويؤمنون بأنه ما من نبي إلا وقد جاءه الوحي والتنزيل، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ]( ).
السادسة: إمتاز المسلمون بعدم التفريق بين الأنبياء، وهو من فضل الله عز وجل عليهم، ومن أسباب إرشادهم له آية السياق، ليكون من الشواهد على كونهم(خير أمة) ويكون بلوغ مرتبتها بشرط شيء أي بالإقرار بالنبوات على نحو العموم الإستغراقي.
السابعة: إنقطاع المسلمين إلى عبادة الله، والإنقياد لأوامره، وهو سبب لدوام الحياة على الأرض لتحقق العلة الغائية من خلق الناس، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ففي كل زمان ومكان تجد أفراد (خير أمة) يقيمون الصلاة ويؤدون الفرائض، ويزحفون من كل صوب في أيام الحج لأداء الفريضة، والنداء المجموعي العام (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك) ليشهد الملائكة والخلائق كلها على تعاهد المسلمين عمارة الأرض بالعبادة والنسك، وأن الدنيا تزدان بهم، ولا تشرق الشمس إلا على تسبيح وذكر الله صادر من أفراد(خير أمة) وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني: خروج المسلمين للناس، ويكون بلحاظ آية السياق على وجوه:
الأول: بيان رأفة ورحمة الله عز وجل بالمسلمين بأمره لرسوله الكريم بإعلان إيمان المسلمين به تعالى، وفيه دلالة على قبول إسلامهم ونيلهم لرضا الله وهو من مصاديق فوزهم بمرتبة (خير أمة) ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة التي يقبل الله عز وجل إيمانهم.
الصغرى: المسلمون قبل الله إيمانهم.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الثاني: جعل إيمان المسلمين بالله مع إيمان رسوله الذي هو يقين وقطع ورؤية للآيات والبينات، وتلق لكلام الملائكة عن الله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: إنذار الناس من محاربة المسلمين أو الإستهزاء بهم، قال تعالى[هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ]( ).
الثانية: ترغيب أهل الكتاب والناس جميعاً بدخول الإسلام، والفوز بإقتران إيمانهم بإيمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: الإشارة إلى حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس في معجزاته وما نزل عليه من القرآن وسنته التي هي رشحة من رشحات الوحي.
الرابعة: بيان عظيم منزلة المسلمين بين الناس، ولزوم الإنصات لهم، والزجر عن التعدي عليهم.
الخامسة: تجدد التنزيل، وكأن آيات القرآن تنزل على كل جيل من المسلمين لقوله تعالى(وما أنزل علينا) وفيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ).
الثالث: ما أن يولد ابن المسلم إلا ويتلقاه قوله تعالى(قل آمنا بالله) ليكون عهداً وحرزاً وأمناً من الآفات، وهو أمر ينفرد به المسلمون.
الرابع: الناس ملل شتى، ومنهم المسلمون وأهل الكتاب والكفار، ويخرج المسلمون بالتصديق بالقرآن والكتب السماوية السابقة لأهل الكتاب والكفار، ليكون الإيمان حاضراً في كل زمان، مع بيان إحدى خصال المؤمنين وهي التصديق بالكتب السماوية السابقة.
الخامس: تسليم وطاعة وإنقياد المسلمين لله عز وجل وإتخاذهم الصبر والتقوى رداء وبلغة لمرضاة الله، وفيه موعظة وعبرة للناس جميعاً، وزجر عن التعدي على المسلمين وأموالهم وثغورهم قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
الثالث: أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفيه بلحاظ آية السياق مسائل:
الأولى: الإيمان بالله عز وجل أعظم مصاديق المعروف، وورد في الآية بصيغة الأمر بالمعروف لقوله تعالى(قل آمنا بالله)، فالله عز وجل يأمر نبيه الكريم وبواسطته المسلمين جميعاً بالقول آمنا بالله ليكون من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) فيه أمور:
الأول: تلقي الأمر من الله عز وجل.
الثاني: يأتي الأمر الإلهي للمسلمين بواسطة صاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إمتثال المسلمين للأمر الإلهي على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي، وبأجيالهم المتعاقبة ويتجلى بتلاوة آية السياق والتدبر في معانيها، وتعاهد كلماتها ورسمها، ومنع طرو التغيير والتبديل عليها.
الثانية: تلاوة المسلمين لهذه الآية كل يوم أمر بالمعروف، فإن قلت سلّمنا بأن المسلمين يتلون آيات القرآن كل يوم في الصلاة على نحو الوجوب، ولكنه لا يعني بالضرورة تلاوة هذه الآية بالذات، فقد يأتي يوم لا يقرأ أحد المسلمين هذه الآية.
والجواب: يقرأ المسلمون آيات وسور القرآن كل يوم على نحو الوجوب والإستحباب والدراسة في مشارق ومغارب الأرض، وعدد منهم يختم القرآن في اليوم أو الأسبوع أو الشهر كما أنه حاضر في أذهانهم، وورد في صفة المسلمين في التوراة (أناجيلهم في صدورهم) ( ).
الثالثة: الإيمان بالكتب السماوية السابقة بذاته معروف، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، من وجوه:
الأول: بيان أن التنزيل حق والنبوة حق.
الثاني: توكيد مجيء الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب النبوة والرسالة أمران:
الأول: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصدّق بالأنبياء الذين بعثوا قبله إبتداء بآدم عليه السلام.
الثاني: لا يبشر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنبي آخر، إذ ليس من نبي بعده، وفيه بعث للإستقرار العقائدي بين الناس، ودعوة لهم للتدبر في أسرار وإعجاز القرآن وندب للدخول في(خير أمة) التي تؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آخر الأنبياء، قال تعالى[وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
الثالث: تتعاهد (خير أمة) ما نزل من السماء بالإيمان والتصديق، وعدم الجحود.
الرابعة: يؤسس المسلمون لقواعد كلامية ويعلنون تقيدهم بها, منها التصديق بكل الأنبياء، وفيه زجر عن الإيمان بفريق منهم والكفر بفريق آخر.
الخامسة: طاعة المسلمين لله عز وجل وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وهو الأصل الذي تتفرع عنه مصاديق المعروف، وهو في مفهومه نهي عن الكفر والمعاصي ومفاهيم الجحود.
السادسة: قوله تعالى(ونحن له مسلمون) ترغيب للناس بدخول الإسلام، فأفراد (خير أمة) منقطعون إلى الله عز وجل، وهذا الإنقطاع حرب على الكفار، وإحتراز من الكفر، ومن إعجاز القرآن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأتي في آياته على وجوه:
الأول: صيغة(إفعل) و(لا تفعل) التي تعني بعثاً إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في قوله تعالى[وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ] ( ).
الثاني: بيان حسن سمت المسلمين، والإشارة إلى وجوب إقتداء الناس بهم في الصالحات لتكليف الناس جميعاً بالأصول، ووجوب إيمانهم بالله عز وجل.
الثالث: ورود قصص الأمم السالفة في القرآن، وبيانها للأمور الحسنة والسنن الحميدة والترغيب فيها، والأمور القبيحة والمنكرة ولزوم إجتنابها.
الرابع: ذكر أسباب النزول المتعددة والمتباينة، وتتضمن أحياناً الذم والإنذار والوعيد على المنكر.
السابعة: التباين بين خاتمتي الآيتين، وبيان حاجة الناس إلى(خير أمة) بثباتها على الإسلام، وهذا الثبات بذاته دعوة لهم جميعاً للإيمان، وترك الفسق والفجور في رحلة الحياة الجهادية مع النفس الشهوية والغضبية، وضد مفاهيم الكفر وأرباب الظلم والتعدي.