المقـــــــــدمة
الحمد لله الذي جعل القرآن خزينة للعلوم، وذخائر للإعجاز التي تتجلى بذات الآية القرآنية، وما يترشح عنها من المنافع الظاهرة على المسلمين وغيرهم من أهل الأرض، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
فمن مصاديق الرحمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المواعظ والأحكام المستقرأة من الصلة بين الآيات القرآنية، وما تدل عليه من التكامل في النص القرآني وإحاطة كلمات القرآن التي تبلغ 6236 بالوقائع والأحداث غير المتناهية، وقد أنعم الله علينا بفتح باب هذا العلم، وإستخراج كنوز منه، ليكون مقدمة ومدرسة جامعة يغوص العلماء في بحارها لإستظهار الدرر واللآليء التي تضيء دروب السالكين .
ومن الآيات أن هذا الغوص سياحة في إفاضات النص القرآني، وتكامله ومصاديق ما فيه من البيان الذي يتغشى أحوال الناس في النشأتين، لتكون لهم الدنيا حديقة ناضرة تعطي الثمار ذات الغذاء الروحي والبدني، وما فيه الوقاية من الذنوب والمعاصي .
وعندما شرعت في كتابة التفسير قبل أكثر من عشرين سنة، وصدر لي يومئذ تفسير سورة يوسف، ثم الجزء الأول للتفسير ويقع في سورة الفاتحة ظننت أن التفسير يقع في مائة جزء للقرآن كله , وملأت الغبطة طلابي، والمؤمنين، ولكن الفضل الإلهي ليس له حد ومنتهى، والله سبحانه[يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( )، فأنعم عز وجل عليّ بصدور أجزاء متعددة كل واحد منها في تفسير آية واحدة ضمن هذا السفر المبارك .
ثم تفضل سبحانه بالتوفيق إلى موضوع الصلة بين الآيات، والذي يقع بأكثر من مليون جزء، بذكر وجوه صلة كل آية في القرآن بآياته كلها فمثلاً يتم بحث قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) مع كل آية من آيات القرآن على نحو الإستقلال، وإستنباط المسائل منها في علم الكلام والفقه والأحكام والإجتماع والأخلاق والسنن والقوانين التي تنظم حياة الفرد والجماعة، بما يهذب النفوس ويصلح المجتمعات، وإعمار الأرض بعبادة الرحمن، وظهور معاني التقوى والخشية من الله في أفعال المسلمين، وبعث الشوق في نفوس الناس للإيمان، والنهل من علوم القرآن وإتخاذها سلاحاً وضياء وسيبل هدىً , لأمور الدنيا والآخرة .
وهذا هو الجزء التاسع والسبعون من التفسير، والخامس من أجزاء سياق الآيات التي سأصدر منها أكثر من ثلاثين جزء إن شاء الله، ليتم العلماء في الأجيال اللاحقة أجزاءه وبعلوم أكثر سعة، ومعارف مستحدثة مقتبسة من الصلة بين آيات القرآن هذا البحر الزاخر من العلوم الذي يجذب قلوب العلماء وعموم المؤمنين .
وجاء هذا الجزء في الصلة بين تسع آيات( )، من سورة آل عمران مع آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه بيان لحاجة الناس للإسلام، وتجليات الفضل الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرتقاء المسلمين في ميادين الإحتجاج والجدال، وقدرتهم بآيات القرآن على الإتيان بالحجة والبرهان، والإحتراز بهدي القرآن ومنهاج الإيمان وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب الخسارة , قال تعالى[الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]الآية 110
الصلة بين هذه الآية وآية [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( )
وفيها مسائل:
الأولى: بيان القسمة الثنائية للناس في باب الدين والملة، فلا يقبل غير الإسلام، وفيه شاهد على حسن إختيار المسلمين وأن لفظ(خير أمة) ليس من التفضيل الترتيبي، فيفيد الجمع بين الآيتين عدم وجود أمة أخرى هي على خير ولها رتبة في التفضيل غير المسلمين.
فإن قلت وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية (كنتم خير أمة)أما آية السياق فجاءت بصيغة الجملة الشرطية وإرادة دين الإسلام.
وفي الجمع بينهما نفي الوجود أمة مسلمة غير المسلمين، وفق قاعدة السبر والتقسيم , وأفعل التفضيل(خير) في قوله تعالى(كنتم خير أمة) للإشارة إلى خروج أمم من الموحدين من أتباع الأنبياء إلى الأجيال السابقة.
والمسلمون أفضل وأحسن في خروجهم، وجاء عموم الخروج وأنه(للناس) لدلالة بأن تلك الأمم التي خرجت للناس في السابق كأتباع موسى وعيسى عليهما السلام إنما صاروا متلقين لخروج المسلمين، وما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي قوم لوط حينما بعث الله عز وجل لهم ملائكة للإنتقام منهم، لم ينج منهم إلا لوطاً وإبنتيه، وقيل الذين نجوا ثلاثة عشر، قال تعالى[فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ *فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
وفي نجاة المؤمنين مسائل :
الأولى: إنها شاهد على اللطف الإلهي بالمسلمين.
الثانية: سلامة المسلمين من العذاب والآفات التي تأتي إنتقاماً من القوم المجرمين.
الثالثة: تحذير الكافرين من الإصرار على الكفر والإجرام، وقال الزمخشري (وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام واحد ، وأنهما صفتا مدح) ( )، ولكنه لا يصلح للإستدلال.
وبين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس، نعم قد يكون الإتحاد بينهما في الشرائع السابقة، ولكنه يحتاج إلى إثبات، أما الآيتان أعلاه ففيهما إعجاز وبيان من وجوه:
الأول: أما بالنسبة للبيوت والأسر فليس من بيت يتغشاه الإسلام إلا بيت لوط عليه السلام بجميع أفراده, وفيه إشارة إلى تقوى أهل بيت النبوة .
الثاني: وجود مؤمنين آمنوا بلوط، ولكنهم أفراد في بيوتهم وأسرهم، يجتمعون داخل البيوت مع ذويهم من الكفار.
الثالث: لما جاء العذاب نجّا الله عز وجل جميع المؤمنين وخرجوا مع لوط وأهله، ولعل بعض هؤلاء المؤمنين كانوا على تقية من المجرمين وأنهم كانوا يخفون إيمانهم خصوصاً وأن الأخبار لم تؤكد وجود ناصر للوط على هؤلاء الظالمين عندما جاءه الملائكة ضيوفاً.
الثانية: يفيد الجمع بين بدايتي الآيتين الثناء على المسلمين لسعيهم لإختيار الإسلام وتحملهم الأذى في تحدي الكافرين والظالمين وإظهار التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومفهوم آية السياق هو: ومن يبتغ الإسلام ديناً يقبل منه وهو في الآخرة من الفائزين، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( )، لتأتي البشارة للمسلمين من وجوه:
الأول: الثناء الصريح على المسلمين، كما في قوله تعالى(كنتم خير أمة).
الثاني: مفهوم توبيخ الكفار وعدم قبول أعمالهم.
الثالث: تكليف المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: حصر قبول الأعمال بالإسلام، وفيه توكيد للزوم إتخاذه طريقاً للنجاة في النشأتين.
ويحتمل القبول من الله وجوهاً:
الأول: القبول المجرد من الثواب الإضافي العاجل.
الثاني: قبول الإسلام مع الثواب العاجل.
الثالث: المراد من القبول فراغ الذمة من التكليف، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الرابع: إنحصار الثواب بعالم الآخرة.
الخامس: المراد من القبول الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الخامس فهو سبحانه يتلقى المؤمن بالفيض والبركة والثواب العاجل والآجل، قال تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( )، ليفيد الجمع بين الإنذار الوارد في آية السياق والثناء الوارد في الآية محل البحث البشارة للمسلمين والإخبار عن رضا الله عز وجل عنهم وقبول أعمالهم في ميادين الواجبات والمستحبات.
الثالثة: تبعث كل آية في القرآن السكينة في نفوس المسلمين سواء في منطوقها أو مفهومها، لتكون هذه السكينة من فضل الله عز وجل على المسلمين، والثواب العاجل على إختيارهم الإسلام، وتأتي صريحة أو تتضمنها دلالة الآية، وهو من خصائص (خير أمة) وأسباب تعاهدها لآيات القرآن ومضامينها القدسية، وجاءت آية السياق بالإخبار عن قانون ثابت مصاحب للإنسان وهذا القانون مركب من وجوه:
الأول: ضرورة إتخاذ الإنسان لدين وعقيدة، وهذا الدين هو الإسلام على نحو التعيين والحصر.
الثاني: موضوعية القبول للدين والمبدأ، فلا يقبل الله عز وجل غير الإسلام ديناً.
الثالث: عدم إنحصار الأمر بالقبول أو عدمه، بل يكون الثواب على الإنتماء للإسلام، والعقاب على ترك الإسلام، وإذ تأتي الآية القرآنية بالسكينة للمسلمين، فأنها تأتي بالفزع والخوف للكافرين، والدعوة للتوبة والإنابة.
وهو من إعجاز القرآن بإجتماع الضدين في موضوع واحد، فمن رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الحياة الدنيا أن السكينة قريبة منهم، فمنهم من نالها وفاز بها وهم أفراد (خير أمة) ومنهم من تدنو منه وتتزين بزي بهيج هو لباس التوبة والإنابة.
وجاءت هذه الآية بالإنذار والوعيد لمن يأبى الدخول في الإسلام، ومن إعجاز الآية ومعاني اللطف فيها أنها لم تذكر الأديان والملل الأخرى، مع أنها ليست على مرتبة واحدة، وهي على وجوه:
الأول: الملل الكتابية.
الثاني: الملل غير الكتابية من أهل الشرك والضلالة.
الثالث: الذين ليس عندهم ملة ودين يجمعهم.
الرابعة: لما ذكرت آية البحث صفة المسلمين، وما يقومون به من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاءت آية السياق للإخبار عن أمور:
الأول: الدعوة إلى دخول الإسلام، وطلب النجاة فيه، وهذه الدعوة من أصل للمعروف ومدخل لمصاديق عديدة منه.
الثاني: تلاوة آية السياق ذاتها أمر بالمعروف ودعوة إليه، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من فضل الله عز وجل على المسلمين.
الثانية: فيه دلالة على تفقه المسلمين في الدين.
الثالثة: إنتفاء الجهالة والغرر عن المسلمين، فكل مسلم يتلو آية السياق ليس بجاهل، لما فيها من البيان والوضوح والقطع الموضوعي، وإخبار عن إنعدام مراتب ودرجات في الدين الذي يقبل من الناس، بل هو دين واحد ظاهر وبين ومعلوم عند الناس جميعاً يتقوم بالنطق بالشهادتين قال تعالى[ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ]( ).
الثالث: جهاد المسلمين في نهي الناس عن البقاء في منازل الكفر والضلالة، وبعث الخوف في نفوسهم من العذاب الأخروي الذي ينتظر الكفار.
الرابع: في الجمع بين الآيتين بيان لموضوع من مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو إنحصار القبول بالإسلام، فلا يقبل الله عز وجل من العبد إلا الإسلام ديناً وعقيدة.
الخامس: يأتي الإنتماء للإسلام على نحو القضية الشخصية النوعية العامة، وتحث الآية المسلمين لترغيب الناس جميعاً بالإسلام.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنعمة الهداية، ونيل مرتبة(خير أمة) ثم تفضل وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الأمر نعمة أم تكليف ومشقة، الجواب إنه نعمة وخير محض، ويتضمن التكليف الذي هو نعمة توليدية تتفرع عنه النعم الكثيرة، وهل تنحصر نعمة التكليف بالمسلمين الجواب نعم، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم به المسلمون نعمة على أهل الأرض جميعاً، وتتجلى بأمور:
الأول: توبة فريق من الناس ودخولهم الإسلام.
الثاني: بعث الخوف والفزع في قلوب الكافرين، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الثالث: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً.
الرابع: حضور الإسلام وآيات القرآن وأحكام الحلال والحرام في الأمصار المختلفة والمنتديات فمن خصائص(خير أمة) مجي التكليف لها، ولكن منافع هذا التكليف عامة تشمل الناس جميعاً، وتتحقق تلك المنافع بإمتثال المسلمين وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم إكتفائهم بإسلامهم وحسن سمتهم، إذ تقتضي وظيفتهم الشرعية تعاهد الفرائض، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: جاءت آية(كنتم خير أمة) بصيغة الفعل الماضي، وجاءت آية السياق بلغة الفعل المضارع وفي الجمع بينهما آية إعجازية، فقد ثبت المسلمون في منازل الإيمان، ونالوا مرتبة(خير أمة) وصاروا يدعون الناس إلى الإسلام، ويخبرونهم بأن الدين والملة التي تغاير الإسلام باطلة.
والدين هو السنة والطريقة الشرعية، وأخبرت الآيتان بأن المدار على القبول فيها هو الإسلام وهو الدين الذي إرتضاه الله لعباده وأخذ عليهم موثقهم , قال تعالى[أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ] ( ).
ومن خصائص الفعل المضارع الإستمرار والتجدد ليكون الخطاب في الآية الكريمة إلى الأجيال المتعاقبة من الناس جميعاً ومن الآيات أن نفي القبول جاء بصيغة المضارع أيضاً (لن يقبل منه) وهو شاهد على إستمرار دولة الإسلام وبقاء مبادئه وأحكامه وإمكان الإنتماء له في كل زمان من غير عسر أو حرج أو شدة، قال تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
والآية وإن كانت في أحكام الحلال والحرام وأبواب التخفيف عن المسلمين ومنع العسر والشدة والحرج إلا أنه لا يمنع من الإطلاق في دلالاتها ومضامينها القدسية وتضمنها للبشارة للأجيال المتعاقبة من الناس بالأمن والسلامة عند دخول الإسلام، وهذه البشارة مقدمة وأمارة على قبول العمل مع الإسلام، فالله عز وجل الذي لم يقبل من الناس إلا الإسلام وتفضل ويسر الدخول إليه، والقيام بوظائف العبادة.
السادسة: تتجلى معاني الرحمة في القرآن بالسعة والمندوحة في سبل تقريب الناس إلى منازل الطاعة والصلاح.
وتجدد فتح باب التوبة والإنابة، ودعوة الناس للهدى بأسباب الترغيب والوعيد، وتتجلى بلغة القطع والتوكيد التي تأتي بها مضامين الأحكام العبادية التي تتعلق بأصول الدين وسننه، كما في قوله تعالى[أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، وما فيها من لغة القطع والوجوب والعموم، وعدم الإستثناء، وجاءت آية السياق بالقطع والحصر في العقيدة والدين، والإخبار من الله بأن الدين الذي يقبل من الناس هو الإسلام دون غيره.
وفيه دلالة على إبتداء عهد عقائدي جديد على الأرض، يتضمن وجود الناسخ في باب الدين، وإنقطاع النسخ فيه إلى يوم القيامة، ومن الشواهد عليه أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، والقرآن جامع للأحكام الشرعية في الأصول والفروع، ومع السعة والمندوحة في القرآن، جاءت آية السياق بالإخبار عن لزوم الإنتماء للإسلام وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: يجب الإنتماء للدين الذي يقبل عند الله.
الصغرى: الإسلام هو الدين المقبول عند الله.
النتيجة: يجب الإنتماء للإسلام.
وهل هذا الوجوب من الوعد أو الوعيد أم منهما معاً، الجواب هو الأخير، لما فيه من البشارة لمن يدخل الإسلام والإنذار والتخويف لمن يصر على الإعراض عن المعجزات والدلالات البينات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتدل عليه خاتمة آية السياق، قال تعالى[وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا] ( ).
السابعة: تبين لغة الشرط في قوله تعالى(ومن يبتغ) وقوله تعالى(كنتم خير أمة) موضوعية الإختيار في الحياة الدنيا وتقوم الجزاء عليه، وفيه دلالة على فلسفة الإبتلاء في الحياة الدنيا وأنها مزرعة للآخرة، وعلى الناس أن يجتهدوا في طلب مرضاة الله عز وجل وإجتناب الكفر والضلالة وأسباب العناد.
وجاءت آية السياق من اللطف الإلهي لما فيها من رفع الجهالة والغرر عن الناس وبيان الواجب العبادي على كل فرد ذكراً كان أو أنثى، وهو السعي لدخول الإسلام عن نية وقصد وإختيار، وإجتناب السعي للإنتماء إلى غيره من الأديان.
وفيه شاهد على حب الله عز وجل للناس جميعاً بأن يأتي البعث على الإيمان على وجوه:
الأول: الثناء على المسلمين لإختيارهم الإسلام ونعتهم بوصف لم تنله أمة قبلهم من المليين مع أنهم جاهدوا في سبيل الله وتحملوا الأذى في جنبه، وتعرضوا للتشريد والتهجير والقتل، وفيه إحتمالان:
الأول: يلقى المسلمون أذى أكثر من المليين من الأمم السابقة.
الثاني: المدار في نيل المسلمين منزلة(خير أمة) الإنتماء للإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: عدم موضوعية الأذى في جنب الله ومقداره في نيل مرتبة (خير أمة).
والصحيح هو الأول والثاني، خصوصاً وأن المسلمين يواظبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتلقون الأذى في جنب الله أيام البعثة النبوية وأفراد الزمان الطولية وإلى يوم القيامة من غير فترة أو خمول أو تقصير، وجاءت آية السياق لأمور:
الأول: التخفيف عن المسلمين بدعوة الناس بالنص الجلي إلى الإسلام .
الثاني: بعث الناس للتدبر والتفكر في وظائفهم العبادية.
الثالث: تنمية ملكة الصبر عنه المسلمين، وإتخاذهم صيغ الحكمة والجدال بالحجة والبرهان.
الرابع: توكيد موضوعية الإختيار في الملة والدين، قال تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ).
وتعددت الأقوال في أسباب نزول الآية أعلاه، كما أختلف فيها هل هي(منسوخة بآية السيف كما عن ابن مسعود) ( )، أو أنها محكمة وهو المشهور، وفي الآية بيان لعلة إنتفاء الإكراه وعدم الحاجة له، لتجلي الآيات والمعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وضرورة الإنتماء للإسلام، وتكون هذه المعجزات عوناً للإنسان في إختيار الأمن والسلامة في النشأتين بإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ترى لماذا لم تأت آية ومعجزة حسية ظاهرة لكل إنسان متحدة أو متعددة، إلى أن يدخل الإسلام ويدخل الإيمان في قلبه ويستولي على جوانحه وجوارحه والجواب إن الله عز وجل هو الرحيم، وليس من حد لرحمته، وهو الذي يتفضل على الناس بأسباب الهداية وبما يفوق الموجود في عالم التصور والرغبات، وقد تفضل وجعل آيات القرآن حججاً وبراهين تخاطب العقول، وتنفذ إلى الصدور، وتملي على الإنسان التفكر في مضامينها القدسية، ودلالاتها بما يؤدي إلى الإقرار بأن الإسلام طريق النجاة، ولم تعد هناك حاجة للإكراه في الملة والدين بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشواهد العقلية والحسية على صدق نبوته.
فأما أن يدخل الإنسان الإسلام وتمتلأ نفسه سكينة وغبطة وسعادة بالتوفيق للهداية إلى الإسلام وأما أن يبقى في منازل الجحود ويشعر معها بالتخلف عن وظائفه العبادية التي خلق من أجلها، فقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، لا بد أن يكون له حضور وموضوعية عند كل إنسان، نعم هذه الموضوعية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فأسماها التي تكون عند المسلمين لذا وصفتهم الآية محل البحث بأنهم(خير أمة)، وجاءت آية السياق لبعث الناس جميعاً إلى الإقرار بوجوب عبادة الله، والتصديق بأنبيائه وجاءت الآيات بإقتران طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة الله عز وجل وهو من مصاديق الإسلام، وشرائط العبادة، وقد جاء في قصص الأنبياء السابقين حثهم قومهم على طاعتهم، وورد حكاية عنهم في القرآن[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( )، فجاء على لسان عيسى عليه السلام وخطابه لبني إسرائيل( )، وعلى لسان صالح ودعوته لقومه على نحو متكرر ( )، وعلى لسان هود( )، وورد على لسان نوح عليه السلام( )، وعلى لسان شعيب( ).
وجاءت آيات عديدة بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلـم قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا] ( )، فالله عز وجل هو الذي يأمر بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن طاعته هدى وتقوى، وفيه تشريف وإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان لعظيم منزلته وأن الله رزقه درجة رفيعة لا يرقى إليها غيره من البشر مثلما أنعم عليه وجعل شريعته هي الباقية، وعدم قبول ديانة من الناس غير الإسلام، ليكون كل منهما قرينة وشاهداً على صحة وصدق الثاني، وأن شريعة الإسلام متكاملة.
فجاءت آية السياق رحمة بالناس، ودعوة لهم للسلامة والأمن في النشأتين، وفي الإسلام وفرائضه تكون النجاة من أهوال الآخرة، وهو من اللطف الإلهي وسبل الترغيب والإكرام للناس مع أن الله عز وجل قادر على حمل الناس جميعاً على دخول الإسلام طوعاً أو كرهاً، ولكن الله سبحانه ترك للناس الخيار في دخول الإسلام , وهذا الخيار ليس على نحو القضية المهملة بل جاء بترجيح لغة البيان والحجة البرهان، بحيث يدرك الناس جميعاً على إختلاف مداركهم العقلية لزوم إبتغاء الصراط المستقيم، لذا ورد في سورة الفاتحة التي يتلوها كل مسلم ومسلمة يومياً على نحو متكرر [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وفي هذا الترجيح مسائل:
الأولى: تقريب الناس إلى دخول الإسلام، والتسليم بعدم قبول دين آخر غيره.
الثانية: من إعجاز القرآن أن تأتي الآية القرآنية بأمر وواجب وتأتي آيات أخرى تؤكد هذا الواجب وتبعث على إتيانه وتبين صحته ولزومه.
الثالثة: هذا الترجيح من مصاديق علم الله لمّا إحتج على الملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، حينما إحتجوا بفساد الإنسان الذي سيعيش في الأرض فمن علم الله عز وجل أنه لا يجعل الناس يقيمون على الفساد، بل يجذبهم إلى منازل الإيمان بترجيحها، وجعل نفوسهم تنفر من الكفر والفساد والضلالة.
الرابعة: التوبة وعموماتها وقبولها من الناس للغة البيان والبرهان في القرآن ، فمن وجوه الإبتلاء والإختبار في الدنيا بعث الناس على السعي الحثيث لدخول الإسلام، ومن مصاديقه كل من آية البحث وآية السياق متفرقتين ومجتمعتين، إذ تدعوان إلى الإسلام، وهما حرب على الكفر والشرك والضلالة، وحث لأهل الكتاب لإظهار البشارات التي جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
الثامنة: تتضمن كل من آية السياق والآية محل البحث التحدي في باب العقائد ليكون أهل الملل والنحل كلهم في كفة، والدعوة إلى الإسلام في كفة مستقلة بذاتها، وهذه الدعوة عامة وشاملة لأهل الملل والنحل , قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
فليس من إستثناء لأحد أو جماعة من الناس من الدعوة إلى الإسلام، وهي بأمر ولطف من الله عز وجل، فهو الذي يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوجه بالخطاب إلى الناس جميعاً لدخول الإسلام لأنه الدين الذي لا يقبل الله عز وجل غيره منهم، فالكثرة للملل الكتابية في النفوس والأمصار والمؤون والعدة والمال وكلها في كفة واحدة، وليس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا القرآن والمعجزات التي جاء بها وعدد قليل من المهاجرين والأنصار في مدينة واحدة من أمصار الأرض فلا غرابة أن يكون إسمها (المدينة) مع كثرة المدن والممالك أيام البعثة النبوية، ووجود الدولة الفارسية والرومانية.
فليس من تكافئ وتعادل في المقام، ومع هذا جاءت آية السياق برد الملل الأخرى، والإخبار عن عدم قبولها، وفيه جرح وتعريض بأصحابها وتحريض لهم على الإسلام والمسلمين قبل أن تثبت وتقوى أركان دولتهم وتتسع رقعة حكمها، بل وحتى بعد أن تقوى دولتهم لبقاء الكثرة في جانبهم وإلى يومنا هذا .
وليس في قصص الأنبياء ما يتضمن تحدي الملل جميعها بعدم قبول أعمالها مع أن من الأنبياء من كان رسولاً للناس وفيه مسائل:
الأولى: تجلي معاني إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين.
الثانية: بيان قوة الإسلام والتي تتجلى بالمدد الملكوتي للمسلمين في معاركهم الدفاعية.
الثالثة: تآخي وتآزر المسلمين وتمسكهم بالكتاب والسنة، ومن معاني قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، التمسك بكل آية من القرآن ومضامينها القدسية وهو من خصائص(خير أمة)، وفيه وجوه:
الأول: إنه من أسرار تقسيم القرآن إلى سور وآيات، فكل آية ذات شأن مستقل يجب تعاهدها بالذات لفظاً ورسماً وتلاوة ومنطوقاً.
الثاني: فيه حجة على الناس في لزوم إتخاذ الإسلام ديناً وعقيدة للتكامل في شريعته بلحاظ أن القرآن جامع لأحكام الحلال والحرام.
الثالث: التمسك بالآية القرآنية سلامة لها من التحريف، إذ أن التمسك بها عام يشمل التلاوة والحفظ والعمل بمضامينها القدسية.
الرابعة: ترغيب الناس بالإسلام وإتيان الفرائض، وعدم الخشية من الظالمين والكافرين.
الخامسة: بيان معاني العز التي عليها المسلمون، وإتصافهم بالسمت الحسن، والخصال الحميدة لإختيارهم الدين الذي يقبله ويرضاه الله عز وجل.
السادسة: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار من المسلمين، وإجتناب التعدي على ثغور المسلمين، والإستهزاء بسنن الإسلام فهي حق وواجب، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، لقد أطل على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عهد جديد يتقوم بالدين الواحد وهو الإسلام، فلا يصح غيره، وفيه تحد للناس جميعاً، ويحتمل وجوهاً:
الأول: سكوت الناس عن هذه القانون الجديد في الأرض وما فيه من إبطال لسننهم.
الثاني: إحتجاج بعض الملل والنحل خصوصاً أهل الكتاب، وهذا الإحتجاج من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , قوة وضعفاً.
الثالث: تآزر وتعاون أهل الكتاب في الرد على إبطال أعمالهم، ولقد تعاونت بعض الأمم والقبائل في الكيد للمسلمين، والتحريض عليهم، ومحاربتهم، وإستبان هذا الكيد بزحف جيوش الكفار على المدينة المنورة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ووجود أمة من خلفهم تؤازرهم وتمدهم بالعون، وحينما وقعت المعركة لم يأت مدد إلا للمسلمين ومن السماء، وفيه بيان لحقيقة وهي حينما جعل الله عز وجل الدين الذي يقبل هو الإسلام على نحو الخصوص فإنه سبحانه أمدّ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأسباب النصر القطعي الذي لا يقبل الترديد والتأخير.
وهل ينحصر المدد في المقام بنزول الملائكة في سوح المعارك الجواب لا، فإن المدد الإلهي مصاحب للمسلمين في الميادين المختلفة وأسباب النصر حاضرة عندهم في كل زمان ومكان , وفيه وجوه:
الأول: جذب الناس إلى الإسلام ونفي النفرة من أحكامه.
الثاني: سلامة المسلمين من الضرر والكيد والمكر، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
فلا تضر تلك الكثرة والعدة والمؤون والذهب والفضة التي عند الكفار بالإسلام وعبادة المسلمين وأدائهم المناسك، وهو من خصائص العهد الجديد والبركات التي تتغشى الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: قطع دار الفتن، ومنع إفتتان الناس بالكافرين والطواغيت اللذين يريدون الإستحواذ على الناس وقيادتهم في سبل الظلم والتعدي والجور.
الرابع: إنه سبب لبعث الفزع والخوف في نفوس الكافرين من المسلمين في إتحادهم وصلاحهم ورضا الله عز وجل عنهم.
التاسعة: لقد أمر الله عز وجل المسلمين بتقواه والخشية منه في آيات كثيرة منها ما جاء بصيغة الجملة الإنشائية، ومنها بالجملة الخبرية لتتقوم الحياة الدنيا بعــد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقوى الله عز وجل، وهو من خصائص(خير أمة) وأسرار خروجها للناس بأن يدعو المسلمون لعبادة الله عز وجل ويظهرون الخشية منه في القول والفعل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
وهذه الصبغة للخروج من إشراقات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإطلالتها على الأرض، فتكون التقوى عند خير أمة ذاتية، وعند الناس غيرية مقتبسة من سنن وآداب المسلمين، مما يدل على الوظائف العظيمة التي يقوم بها المسلمون لإصلاح أهل الأرض وعمارتها بالعبادة والتقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أي إذا بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فإن الفساد يقل وينحسر من الأرض، ويبدو للناس قبحه، ويظهرون إنكاره، ويتعرض المفسد والذي يقتل بغير حق إلى العقاب والقصاص , قال تعالى[أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ…]( )، فإن قلت حكم القصاص موجود في الملل السماوية السابقة ولم يأت في القرآن إبتداء , فالجواب من وجوه:
الأول: هذا التشابه في أحكام التنزيل شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله لما فيه من التصديق المتبادل بين الكتب السماوية.
الثاني: قد أخبر القرآن بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ( قال محمد بن الحسين الآجري: حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفِرْيابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسَّاني، حدثنا أبي، عن جده عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة. قال: “الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل”. قال: قلت: يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل؟ قال: “إيمان بالله، وجهاد في سبيله”. قلت: يا رسول الله، فأي المؤمنين أفضل؟ قال: “أحسنهم خلقا”. قلت: يا رسول الله، فأي المسلمين أسلم؟ قال: “من سَلِمُ الناسُ من لسانه ويده”. قلت: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل؟ قال: “من هَجَر السيئات”. قلت: يا رسول الله، أيّ الصلاة أفضل؟ قال: “طول القنوت”. قلت: يا رسول الله، فأي الصيام أفضل؟ قال: “فَرْضٌ مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة”. قلت: يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: “من عُقِر جَواده وأهرِيق دَمُه”. قلت: يا رسول الله، فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: “أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها”. قلت: يا رسول الله فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: “جَهْد من مُقِلٍّ، وسر إلى فقير”. قلت: يا رسول الله، فأيّ آية ما أنزل عليك أعظم [منها] قال: “آية الكرسي”. ثم قال: “يا أبا ذر، وما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة”. قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: “مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا” قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: “ثلاثمائة، وثلاثة عشر جمٌّ غَفيرٌ كثير طيب”. ( ).
الثالث: صحيح أن أحكام القصاص جاءت في الكتب السماوية السابقة إلا أنها حرفت وعطلت ومن أسباب ونتائج التحريف تخلفهم عن إقامة القصاص على الشريف وصاحب الشأن عندهم، بينما يقيمونه على الفقير والضعيف ثم إمتنعوا عنه مطلقاً، أما المسلمون فهم يعملون بأحكام وآيات القصاص، وهي باقية إلى يوم القيامة على سلامتها من التحريف والتبديل والتغيير، وهو من خصائص كتاب (خير أمة) , ونيل المسلمين لهذه المرتبة وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الأمة التي تتعاهد آيات وأحكام القصاص خير أمة.
الصغرى: المسلمون يتعاهدون آيات وأحكام القصاص.
النتيجة: المسلمين خير أمة.
وكما أمر الله عز وجل المسلمين بالتقوى فإنه سبحانه حثهم على التقية والحذر من الكفار، قال تعالى[إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( )، في إستثناء من النهي عن ولاية المسلمين للكافرين، إذ أنها لا تجوز إلا على نحو التقية منهم، وهذه الآية لا تكون معارضة لعشرات الآيات التي جاءت في باب تقوى الله، وتقية الكفار تلك من تقوى الله لما فيها من الصبر والتحمل في جنب الله لحين زوال السبب والمقتضي للخشية من الكفار.
أما تقوى الله عز وجل فهي وظيفة دائمة ومستمرة لكل مسلم ومسلمة، وتلاوة آية السياق من تقوى الله، ودعوة الناس للإسلام , وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، من وجوه:
الأول: تلاوة هذه الآية وكل آية من القرآن من الحكمة لأنها حكمة بالغة وموعظة.
الثاني: تدل تلاوة المسلمين للآية على وجود أمة سابقة للناس في الإسلام، وأن الذي يريد دخوله تميل نفسه للمسلمين في خشوعهم وخضوعهم لله عز وجل.
الثالث: هذه الآية إنذار وبشارة للناس، إنذار من البقاء على الكفر، وبشارة القبول والرضا من الله، والأمن والسلامة يوم القيامة لمن يدخل الإسلام.
الرابع: تدعو هذه الآية الناس جميعاً للتدبر في معانيها ودلالاتها، وتخاطب العقول، وتبين حقائق وهي:
الأولى: لا بد من إعتناق الإنسان للدين الذي يرتضيه الله عز وجل.
الثانية: شرطية قبول الله عز وجل للدين، أي ليس من إختيار وتفويض للإنسان في باب الدين، فلا بد أن يتأكد العبد بأن دينه وشريعته وطريقته العبادية مقبولة عند الله.
الثالثة: لا يقبل الله عز وجل من الناس إلا دين الإسلام والشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه منع للفرقة والإقتتال بين الناس، ومانع من تقسيم الأرض بين أهل الملل والنحل، وإنعزال كل ملة بأمصار مخصوصة خشية على شريعتهم وتعصباً لها، ومنعاً من ميل الأفراد إلى ملة أخرى، وفي حصر القبول بالإسلام وجوه:
الأول: إنه برزخ دون النقل والإنتقال بين الملل الأخرى، وزجر لهم عن الإستقلال والغرور.
الثاني: سيادة روح التآخي والسماحة التي عليها الإسلام قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وتتجلى بقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيه من أسباب الإختلاط والجدال والإحتجاج خصوصاً وأن الأمر يستلزم وجود طرف مأمور، وكذا بالنسبة للنهي فإنه يحتاج طرفاً منهياً عن فعل مخصوص.
الثالث: توكيد النسخ في الشرائع، ولزوم قبول الناس به.
الرابع: بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين على حسن إختيارهم، وحثهم على عدم الإصغاء لغيرهم، وفضح ما يدعون إليه.
العاشرة: تضمنت الآية محل البحث الثناء على المسلمين ونعتهم بأنهم(خير أمة) وجاءت آية السياق بأمرين:
الأول: توكيد البعث للعالم الآخر.
الثاني: الذي لا يدخل الإسلام يكون يوم القيامة من الخاسرين، ترى لماذا ذكرت الآية العالم الآخر في باب قبول الإسلام، وعدم قبول غيره، الجواب من وجوه:
الأول: بيان إنبساط حكم الله على الدنيا والآخرة، قال تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
الثاني: توكيد رحمة الله بالناس في الدنيا ببيان قانون في الإرادة التكوينية له موضوعية في عالم الآخرة، وأصل يتوقف عليه الجزاء فيها.
الثالث: ذكر عالم الآخرة بعث لدخول الإسلام، ومانع من الإصرار على الكفر والجحود، ومن خصائص القرآن أنه يخاطب العقول، ويجعل الإنسان يخير نفسه بين الفوز والخسارة، بين النجاة والهلاك.
فجاءت الآية محل البحث لتخبر عن وجود أمة فازت وسلكت طريق النجاة وهم المسلمون الذين إستحقوا مرتبة (خير أمة) بإختيارهم الدين الذي يقبله الله عز وجل ويرضاه من عباده.
وجاءت آية السياق لتنذر الذين يتخلفون عن الإسلام، وتخبر عن عدم قبول أعمالهم إلا بالأصل الذي تتقوم به، ولا تقبل إلا به، وهو دخول الإسلام والعمل بأحكام القرآن، وليس من إنسان إلا وهو محتاج رضا الله وقبول أعماله لأن الدنيا مزرعة للآخرة.
ومن الآيات في خلق الناس أن كل واحد يعلم بأن الدنيا ليست دار قرار له، وأنه لا بد وأن يغادرها , قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، وتقع الشواهد عن يمينه ويساره وفي الليل والنهار، بموت القريب والجار والصديق والأب والجد ليتفكر الإنسان في جزائهم ولزوم إنتفاعه من كيفية مغادرتهم الدنيا بأن يحرز السلامة والأمن في الآخرة بدخول الإسلام.
إن التذكير بعالم الآخرة ذاته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه رحمة من الله عز وجل بالمسلمين وتحقيق مصداق إمتثالهم لأمره تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتلاوة هذه الآية التي تتضمن أيضاً التفصيل والإخبار عن الجزاء بالخسارة لمن يعرض عن هاتين الآيتين، ويصر على البقاء في منازل الكفر والجحود، إذ أن الثناء على المسلمين ترغيب بالدخول في الدين الذي لايقبل الله عز وجل غيره، وهو من الثواب العاجل، والربح الحاضر المبارك بأن يفوز الإنسان عند دخوله الإسلام بالثناء والمدح من الله، ونعته بصفة كريمة لاتفارقه في الدنيا والآخرة، فيغادر الدنيا والثناء عليه ومدحه باق فيها بعد غياب شخصه ليكون باباً لمضاعفة ثوابه، وسبباً لهداية الناس إلى الإسلام بالإقتداء به في خطاب للمسلمين[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
وفيه دعوة للمسلمين للتوجه بالشكر لله عز وجل على نعمة الهداية للإسلام والثبات عليه بفضل من الله، ومن أسباب الثبات بيان عدم قبول ديانة وعقيدة غير الإسلام.
الحادية عشرة: من منافع الجملة الخبرية في الآية محل البحث القطع بأن المسلمين فازوا بمرتبة(خير أمة) وفيه دعوة للناس للإنتماء للإسلام، ومن منافع الجملة الشرطية في آية السياق الحث على ترك غير الإسلام رجاء الأمن والسلامة.
ليفيد إجتماع الآيتين الأمر بالمعروف وهو دخول الإسلام , والنهي عن المنكر وهو ترك غير ملة الإسلام، فالقرآن ذاته آمر بالمعروف وناه عن المنكر ولا يكتفي المسلمون بتلاوة آيات القرآن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتعدد مصاديق المعروف والمنكر في الواقع العملي والحاجة إلى التفسير والبيان والتفصيل، وقد لايوفق المسلم باستحضار الآية المناسبة في المقام، أو أن المقابل يحتاج البيان بلهجته ولغته وذكر التفاصيل .
والجمع في دلالة آيات متعددة والإحتجاج بالجمع بين الآية القرآنية والحديث النبوي والأمر الواقعي، والله واسع كريم، وقد ينفع المقام تلاوة آية أو آيات من القرآن، أو البيان التفصيلي وإظهار الحسن الذاتي للمعروف، والقبح الذاتي للمعصية، أو هما معاً مجتمعين، وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد والفعل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان( ).
وفي التباين في صيغة الآيتين تأديب وإرشاد للمسلمين، وحث على الجمع بين لغة الشرط والخبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مخاطبة الناس والدعوة إلى هدايتهم إلى الإسلام وبما يجعلهم يتدبرون في أحوالهم، ويتفكرون فيما ينفعهم فيسعون إليه، ويدركون مواطن الضرر والأذى في مزاولة المنكر والمكث عليه فيجتنبونه.
ولم تذكر آية السياق ديناً مخصوصاً غير الإسلام لدلالة الجملة الشرطية على وجوب إبتغاء الإسلام ودخوله وأداء الفرائض، وفيه إشارة إلى النهي عن الإنتقال من ملة إلى أخرى إلا إلى الإسلام ديناً وشريعة وسنة، وفيه تذكير بعالم الآخرة وعدم قبول غير الإيمان والعمل الصالح يوم الجزاء.
وهذا التذكير من رحمة الله عز وجل بالناس، وهدايتهم إلى سبل النجاة قال تعالى[اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]( ).
ومن منافع الجملة الشرطية في المقام بعث المسلمين للدعوة إلى الإسلام وتنبيه الناس لضرورة النجاة من الخسارة يوم القيامة، ولا يجلب أحد عليهم الخسارة، بل هم أنفسهم يضرون أنفسهم ويلقون بأبدانهم في النار عند الإصرار على المعصية، ومغادرة الدنيا على الكفر والجحود.
وذكرت آية السياق خسارة الكفار في الآخرة، وإثبات شئ لشئ لايدل على نفيه عن غيره، فان خسارتهم مطلقة شاملة للحياة الدنيا والآخرة، ولكن نواميس الدنيا تختلف بتغشي رحمة الله للناس جميعاً، وفيها يتنعمون بالطيبات بعرض سواء، إلا أنه لا يمنع من توجه الإبتلاء الإضافي للكافر بسبب كفره والغشاوة التي على بصره ، وعدم إبتغائه الإسلام ديناً وشريعة .
ويكون هذا الإبتلاء من الكلي المشكك في الظهور والخفاء، والشدة والضعف، ويكون في البدن والمال والنفس بالتخويف ورميها بالفزع وهو من رحمة الله وأسباب تقريب الناس للإيمان والتدبر في آيات القرآن وما فيها من الحكمة والبرهان , قال تعالى[أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيات أن الإسلام هو دين الله وأن من يختار الإسلام هو من (خير أمة) ولابد من السعي لجذب الناس له.
الثانية عشرة: لما أمر الله عز وجل المسلمين بالوظيفة العبادية الدائمة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي لا تفارقهم في الليل أو النهار، فانه سبحانه هداهم إلى كيفيتها، كما جاءت السنة بالإرشاد إلى سبلها، فكل من السنة القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية منهاج مبارك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا فإن تعاهد المسلمين للسنة النبوية حاجة مستديمة، وسبيل للنجاة والثواب العظيم، ومن صيغ النجاة في المقام إهتداء الناس بسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتخفيف عن المسلمين بإنتقال فريق من الناس إلى الإسلام، وصيرورتهم من(خير أمة) ودعاة للمعروف وزاجرين عن المنكر، وباذلين للمال والنفس في سبيل الله والدفاع عن الإسلام.
ومن القوانين في الإرادة التكوينية أن الله عز وجل يتفضل بإرشاد المسلمين إلى سبل الأداء الأمثل للواجبات والمندوبات، وهو من خصائص الإسلام الذي حصر الله سبحانه القبول به، ومن أسباب الهداية في المقام تقييد إبتغاء الإسلام بصفة الدين، مما يدل على لزوم تعاهد الوظائف الشرعية والتقيد بأحكام وآداب الإسلام.
ولما أمر الله عز وجل(خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه سبحانه لم يكلها إلى نفسها في كيفية القيام بالأمر والنهي فهو الرحيم الذي يتفضل بالنعمة تلو الأخرى، ويجعل المؤمنين يرتقون في سلم المقامات , فذكرت آية السياق الفعل الواجب على الناس جميعاً مع التباين في مللهم ومذاهبهم , والحكم أزاءهم، لينقادوا جميعاً لأوامر الله عز وجل.
الثالثة عشرة: ذكرت آية السياق إبتغاء الدين، والبغية: الطلبة والحاجة، قال أَبو ذؤيب:
بغايةً إنما تَبْغي الصحاب من ال
فِتْيانِ في مثله الشُّمُّ الأَناجِيجُ) ( ).
ويحتمل المراد من قوله تعالى(يبتغ)وجهين:
الأول: السعي لطلب دين ما، كما لو كان الشخص على دين وأراد إختيار غيره لما يدل عليه الإبتغاء من السعي والطلب.
الثاني: المراد المعنى الأعم وشمول الدين الذي عليه الشخص وأن لم ينو الإنتقال إلى غيره، ولا تعارض بين الوجهين، وهما من مصاديق الآية الكريمة، ومعاني الإبتغاء وجاء لفظ(يبتغ) لوجوه:
الأول: إقامة الحجة على الناس مطلقاً في إختيار دينهم وملتهم.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن الإنتماء إلى دين ما يتجدد كل آن بإعتبار أنه نية وقصد وفعل مخصوص.
الثالث: توكيد إمكان حصول إنتقال العبد إلى ملة أخرى.
الرابع: فيه دلالة على عجز الطواغيت والرؤساء على منع الناس من الإنتقال إلى دين آخر، لأن الدين إعتقاد في القلب والجوانح، ولبيان السعة والمندوحة في الأرض , قال تعالى[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وتدل الآية على إنعدام الجبر في الدنيا , وأن الإنسان مخير في ملته ولكنه ليس تخييراً مطلقاً وتركاً له بل يتضمن معاني اللطف الإلهي بالتقريب إلى سبل الهداية وإبتغاء الإسلام ديناً، ليكون الناس على فريقين:
الأول: الذين فازوا بحسن الإختيار، وآمنوا بالمعجزات والدلالات البينات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتّبعوه ونصروه ونالوا صفة(خير أمة).
الثاني: الذين لم يبلغوا مرتبة إختيار الحسن والواجب، فتتوجه لهم (خير أمة) بالدعوة إلى الإسلام.
الخامس: بشارة الثواب المتجددة للمسلمين في كل آن لإختيارهم الإسلام، وفي مسائل:
الأولى: إنه من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )، وفيه نكتة عقائدية وهي أن كل أمر من الله للمسلمين فيه ثواب عظيم , وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: كل أمر من الله تكليف.
الصغرى: في التكليف ثواب.
النتيجة:كل أمر من الله فيه ثواب.
وفيه بعث للإمتثال، والتقيد بالأحكام.
الثانية: ثبات المسلمين على الإسلام باب لنزول الرحمة الإلهية، وسبب لجذب الناس للإسلام.
الثالثة: إنه من مصاديق قوله تعالى(كنتم خير أمة) للثواب غير المتناهي الذي يأتي للمسلمين من البقاء على الإسلام، والثبات على الإيمان.
الرابعة: مجيء الثواب للمسلمين حتى بعد الموت، فالمسلم وإن ترك الحياة الدنيا فإن أعماله باقية، ومنها إبتغاءه الإسلام وتعاهده لفرائضه فيعلم الناس حسنه ويقتفون أثره.
الخامسة: توكيد أن الموت أمر وجودي ووجود عالم الجزاء بعد الموت، قال تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( )، وذكرت آية السياق خسارة من يموت على غير الإسلام، ويدل في مفهومه على ربح وفوز من يغادر الدنيا وهو مسلم.
السادس: إن قوله تعالى(ومن يبتغ) بعث للناس على السعي للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولزوم السعي لدخول الإسلام، وقد يقر بعضهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحاجة الشخصية لدخول الإسلام، ولكنه يتردد لصعوبة تركه ما إعتاد عليه ولإعتباره الأحوال المحيطة به.
فجاءت الآية بصيغة الطلب والبغية والسعي لقهر النفس الشهوية والعرف الذي يتعارض مع الواجب الشرعي، وتلك آية في اللطف الإلهي بأن يهدي الله عز وجل الناس لدخول الإسلام وفيه درس للمسلمين في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعتماد صيغ الموعظة والبعث الذاتي على فعل الخيرات , فلما أمر الله المسلمين بالأمر والنهي فإنه سبحانه هداهم إلى كيفيته وسبله وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ] ( ).
الرابعة عشرة: لقد نزل في بداية البعثة النبوية قوله تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]( )،إذ نزلت الآية في ذم وتحد نفر من رؤساء المشركين من قريش لمّا عرضوا على النبي محمد أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة ويشركونه في أمرهم كله، فإستعاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالله من الشرك، ونزلت السورة، فقام على رؤوسهم في البيت الحرام وقرأها فأيسوا منه وآذوه وأصحابه، وقال ابن عباس: وفيهم نزل قوله تعالى[قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ] ( )، ويفيد الجمع بين سورة الكافرون وآية السياق أموراً:
الأول: بيان مراتب القوة والعز التي صار عليها المسلمون.
الثاني: توكيد إرتقاء المسلمين وزيادة عددهم وثباتهم على الإيمان، وهي غير النسخ والمجمل والمبين.
الثالث: إصابة الكفار والمشركين بالضعف والوهن.
الرابع: إتساع الدعوة الإسلامية.
علم مناسبة التنزيل للحال
من إعجاز القرآن النسخ وهو لغة إبطال شيء ومجيء آخر محله (والشيء ينسخ الشيء نسخاً أي يزيله ويكون مكانه) ( )، ومنه نسخ الشمس بالظل لأنه يحل محل ضوئها في المكان، وفي الإصطلاح الشرعي هو كل دليل يبين طرو حكم جديد في المستقبل محل حكم ثابت بنص سابق، ولولا هذا الدليل لكان العمل على الحكم الأول قال تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( ).
وهل النسبة بين سورة الكافرون وآية السياق هي النسخ , الجواب لا، فهو علم آخر مستقل يتعلق بالحال الذي تنزل فيه الآية القرآنية , وهو مقيد بمنهاج مخصوص وهو التدرج والإرتقاء في الحكم إلى أن يبلغ مرتبة التمام والكمال .
وتفيد الآيتان عدم جواز بقاء الكفار على جحودهم وكفرهم وهو من أسرار نزول القرآن على نجوم وبالتدريج، لتكون سورة الكافرون قضية في واقعة وتتعلق بعموم الكفار الذين يصرون على الكفر والجحود ولا يغادرون منازل الشرك، أما قوله تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( )، فجاء حكماً عاماً وشاملاً للناس جميعاً ومنهم الذين يصرون على الكفر والجحود، ومن وجوه التنزيل على الحال في المقام وما يفيده الجمع بين سورة الكافرون وآية السياق مسائل:
الأولى: الحاجة إلى جمع الآيات ذات الموضوع المتحد لبيان الحكم الشرعي مع إعتبار زمان الآية وموضوعية التأخر الزماني في نزول الآية التي يستنبط منها الحكم من غير ترك للآيات الأخرى.
الثانية: بيان علم جديد غير النسخ، ويتعلق بنزول الآيات بحسب الحال , وقاعدة إذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
الثالثة: لقد نزل القرآن لتبقى أحكامه في الأرض إلى يوم القيامة، فيأتي المتعدد في مضامين الآيات لمناسبة كل حال وواقعة.
الرابعة: لما أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه سبحانه جعل لهم سعة ومندوحة في العمل وفق مضامين الآيات، وحال بينهم وبين التشديد على النفس.
الخامسة: تلتقي الآيات في الموضوع الواحد بحكم إجمالي يدل على ضرورة التوحيد وطاعة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فتؤكد الآيتان بقاء المسلمين على التوحيد، وعدم التهادن أو التهاون مع كفار قريش.
السادسة: مع أن سورة الكافرون جاءت بقوله تعالى[لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ( )، فقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأذى الشديد من رؤساء قريش، ونزل قوله تعالى(فمن يبتغ) في المدينة، ويفيد حصر الدين المقبول عند الله بالإسلام، ومع هذا لم يلق النبي محمد وأصحابه الأذى بسبب نزول الآية أو أن المسلمين في الأجيال اللاحقة صاروا في مأمن , مع تلاوتهم وعملهم بمضامين هذه الآية , وإتخاذها أصلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إن الإرتقاء في بيان الأحكام الشرعية التي تتضمنها آيات القرآن من إعجاز القرآن، وهو مدد للمسلمين في العمل بها.
السابعة: بيان تفقه المسلمين في الدين، وتلقيهم آيات القرآن بالقبول وإن تباينت مرتبة الحكم، ومن الآيات أن التباين بإتجاه واحد، بتثبيت سنن الإسلام وبناء صرح أحكامه وإتساع رقعتها.
الثامنة: تأخذ آيات القرآن بأيدي المسلمين وتخرجهم إلى ميادين القتال، وتمنع الخلاف، والفرقة بينهم وهو من العون الإلهي للمسلمين في قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، فلما نهى الله عز وجل المسلمين عن الفرقة والخلاف فإنه سبحانه أمدهم بالتنزيل الذي يدفع عنهم الفرقة، وليس من حصر لآيات القرآن التي تمنع الفرقة بينهم، ومنها آية السياق والآية محل البحث، من غير أن يتعارض دفع الفرقة، مع لزوم بذل المسلمين الوسع في تحقيق المصداق الخارجي المتكثر والمتسع لمضامين الآيات القرآنية.
وهل مناسبة التنزيل للحال من أسباب نزول الآيات ,الجواب لا، فإن أسباب النزول وقائع وأحداث تكون سبباً لنزول الآية، أما مناسبة الحال فهي مدرسة عقائدية ومرآة لحال المسلمين وإزدياد قوتهم , قال تعالى[وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ] ( )، فتنزل الآية القرآنية لتكون على وجوه:
الأول: إنها شاهد على تنامي قوة المسلمين.
الثاني: تكون الآية القرآنية ذاتها مادة وموضوعاً لزيادة قوة المسلمين.
الثالث: تؤكد الآية القرآنية إنحسار دولة الكفر، وإصابة الكفار بالوهن والضعف، لتأتي دعوتهم إلى الإسلام رحمة بهم، وفي زمان يتجردون فيه عن الغرور والجحود والعناد.
الرابع: القرآن هو آخر الكتب السماوية , وهو التشريع الذي يعمل به الناس إلى يوم القيامة، فجاءت آياته لبيان الوظائف الشرعية، ومناهج عمل المسلمين، وبما يجلب النفع لهم وللناس في الدنيا والآخرة.
ويفتح علم مناسبة التنزيل للحال آفاقاً للباحثين والدارسين لإستنباط المسائل والدروس في الفقه والكلام والعقائد والسياسة ونظام الدولة والحكم، ويبين صفحة مشرقة من إعجاز القرآن وأهلية المسلمين لتلقي الأحكام والإرتقاء التدريجي في الأوامر والنواهي، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إمامة الأمة في سبل الخير والصلاح، ودليل على حسن سمت المسلمين وطاعتهم لله ورسوله , قال تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
التاسعة: لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً، وتحتمل الرسالة وجوهاً:
الأول: تبليغ التنزيل من غير مدد وإعانة سماوية.
الثاني: التبليغ مع بعث الناس للإيمان وهدايتهم للإسلام ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: مجيء النصر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة مدداً له، وأمة مؤمنة تتبعه.
والصحيح هو الثالث، قال تعالى[فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] ( )، وليس من حصر لمصاديق نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي مصاحبة له إلى أن يتحقق النصر، وهناك مسألتان:
الأولى: هل إنقطع النصر بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لإنتفاء موضوعه أم أنه باق.
الثانية: النصر خاص بالحياة الدنيا أم يشمل الآخرة أيضاً.
أما الأولى فإن مصاديق نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقية ومتصلة، ومنها :
الأول: تلاوة كل من آية السياق والآية محل البحث .
الثاني: ثبات المسلمين في منازل الإيمان , وخروجهم للناس بالدعوة إلى الإسلام والصلاح .
الثالث: تجدد إعجاز آيات القرآن.
الرابع: نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توليدي، فكما نصره الله بالمسلمين فإنه سبحانه أيدهم ونصرهم , قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( )، ونصر الله للمسلمين من الشواهد على بقاء نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متصلاً ودائماً في الأرض.
وأما الثانية فإن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شامل للحياة الدنيا والآخرة من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
الثاني: الآخرة مرآة للدنيا، وعالم جزاء لأفعال بني آدم فيها.
الثالث: مجيء التنزيل بالإخبار عن الإطلاق في النصر الإلهي , قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( )، فنصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد كثرة وإتصال مصاديقه شاهد على تفضيله على الأنبياء السابقين، وفي عيسى عليه السلام وهو من الرسل الخمسة أولى العزم , قال تعالى[وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ] ( ).
وجعل الله عز وجل أمة من المهاجرين والأنصار أتباعاً وجنوداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأخرج أمته للناس لنصره وتأييده، وأنزل سبحانه ملائكة من السماء مدداً له في القتال إلى جانب نزول جبرئيل المتكرر بالوحي والتنزيل.
العاشرة: ذكرت آية البحث صفات المسلمين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فهل تشترط هذه الصفات بالإسلام الذي لا يقبل الله غيره، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً أدناها النطق بالشهادتين .
الجواب هو الأول فلابد من الإيمان وإتيان الفرائض والواجبات، وقد ورد ذم قوم من الأعراب بقوله تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( )، فحالما ينطق الإنسان بالشهادتين يصير من (خير أمة) ويؤدي الوظائف العبادية التي لا تقبل إلا بقيد الإسلام ,وقصد القربة إلى الله عز وجل وما فيها من حب العبد لله عز وجل، وشكره له على نعمة الهداية والتوفيق إلى الإمتثال لأوامره، وإجتناب ما نهى عنه.
وجاءت خاتمة آية السياق بخصوص من يبتغي غير الإسلام ديناً وقوله تعالى (وهو من الخاسرين) ببيان حاجة الإنسان لتلك الشرائط وأنها خير محض في الدنيا والآخرة.
وتحتاج(خير أمة) سعي وعمل كل فرد منها لصلاحها الذاتي ولمسؤولياتها العظيمة في خروجها للناس، وطرد الفساد عن الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على إحتجاج الملائكة، من وجوه:
الأول: إستمرار دخول الناس في الإسلام أفراداً وجماعات.
الثاني: إتيان المسلم الواجبات , وإجتنابه المحرمات سواء كان سابقاً في الإسلام أو دخله لاحقاً أو تلقاه وراثة عن والديه.
الثالث: صيرورة كل مسلم أسوة في الصلاح، وواقية من الفساد.
الرابع: تجلي مصاديق الإيمان في الواقع اليومي للناس، وعدم نفرتهم من العبادات وأداء المسلمين للفرائض.
الخامس: تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين، وتأهيلهم للإحتجاج والجدال.
ومن إعجاز القرآن أن الحكم الشرعي المتحد لا ينحصر في آية واحدة، فتجد آيات عديدة تتضمن ذات الحكم،وبعضها يؤازر ويفسر ويعضد بعضها الآخر، وهو حرز من الإختلاف والفرقة بين المسلمين وسبيل لبعث المسلمين للعمل بأحكام الآيات، وترغيب لهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صلة آية[كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ البَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ) ،بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية أعلاه بصيغة الإستفهام الإنكاري وإبتدأت آية كنتم خير أمة بصيغة الخبرية. وجاء الإستفهام لذم الكفار وبيان علة تخلفهم عن أسباب الهداية، أما الجملة الخبرية فجاءت في مدح المسلمين والثناء عليهم، مما يدل على أن المدار في نزول الرحمة الإلهية بالهداية على الإيمان والصلاح، وأن الذين كفروا بعد إيمانهم حجبوا عن أنفسهم الهداية وتقريبهم إلى منازلها.
الثانية: بيان حاجة الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولزوم نهوض أمة مؤمنة به لا يتسرب الشك والريب وأسباب الكفر إلى أفرادها , لأن الحياة الدنيا تتقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عرض وفعل صادر من الأفراد مجتمعين ومتفرقين ولا بد من دوامه وثباته مادة وكيفية وموضوعاً وأثراً، وهو أمر لا تقدر عليه إلا أمة متحدة بلغت مراتب الصلاح.
ونال المسلمون منزلة ( خير أمة ) فنهضوا بوظائف دعوة الناس إلى الإصلاح، وهذه الدعوة من أسباب نيلهم لهذه المنزلة وتعاهدهم لها ، وليس من دور في المقام أي لا يتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إتصاف المسلمين بصفة ( خير أمة ) وتوقف هذه الصفة على ذات الأمر والنهي، لأن كلاً منهما فضل من الله عز وجل على المسلمين وهداية بالذات والعرض، حرم الكفار أنفسهم منها بتركهم لمقامات الإيمان، وما فيها من سبل الفلاح والتوفيق إلى فعل الخيرات, وأسباب نزول البركات .
الثالثة: جاء نعت المسلمين بأنهم ( أمة ) وفيه دلالة على إتحاد المسلمين وإجتماعهم على أمر مخصوص، وجاء قيد التفضيل بقوله تعالى(خير أمة) وأنهم الأصلح في مسالك الهداية، بينما جاء نعت الكفار بأنهم ( قوم ) وفيه إشارة إلى ضعفهم وعدم إتحادهم وإن كانوا كثيرين، فلا يستطيع قوم يجمعهم أمر باطل ويفتقدون إلى الهداية أن يواجهوا أمة أنعم الله عز وجل عليها وجعلها ( خير أمة ).
وفي هذه المقارنة البيانية دليل على نصر المسلمين في المعارك التي تقع بينهم وبين الكفار للتباين بينهما في الإيمان وعدمه , وتجلي معاني الأخوة والإيثار والتكافل بين المسلمين وهي أمور ذات موضوعية في سوح المعارك أهم من الكثرة في العدد والعدة .
فمن إعجاز القرآن مجيء الآية في توبيخ الكفار إلا أنها تتضمن البشارة بغلبة المسلمين عليهم مع أن المسلمين كانوا آنذاك قلة، وفي حال ضعف , وجاء المصداق العملي بقوله تعالى بعد إنتهاء معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الرابعة: لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلهما واجباً شرعياً على المسلمين والمسلمات، وتكون وظيفتهم أزاء الذين كفروا بعد إيمانهم على وجوه:
الأول: توجه المسلمين لهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعمومات مسؤوليات المسلمين أزاء الناس جميعاً لقوله تعالى ( أخرجت للناس ) وإفادة الجنس والعموم الإستغراقي في الألف واللام في الناس.
الثاني: يستثنى أولئك الكفار من أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لأن الله عز وجل أخبر بعدم هدايتهم ، وغلق باب الصلاح عليهم.
الثالث: بذل الوسع مع الكفار لجعلهم يقّرون بأصول الدين ، ويقلعون عن الشرك والضلالة.
الرابع: التفصيل , فيقوم المسلون بأمر المستضعفين والأتباع من الكفار بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أما الرؤساء فيتركون لإصرارهم على الكفر وخشيتهم من فقد منازلهم والمنافع الخاصة التي تردهم.
والصحيح هو الأول من وجوه :
الأول: يتوجه المسلمون للناس جميعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يستثنى أحد من الناس عن هذا الأمر الذي جعله الله عز وجل رحمة لأهل الأرض جميعاً وحجة عليهم.
الثاني: لما تفضل الله عز وجل بابقاء باب التوبة مفتوحاً إلى يوم القيامة فانه سبحانه أمر المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
الثالث: بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً يدعوهم إلى الإيمان، ومن جحد بنبوته تتجدد له الدعوة كل يوم، ومن الآيات بقاء القرآن بإعجازه ومضامينه القدسية يطل على الناس ويجذبهم للإيمان، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
إذ تفضل الله عز وجل بإنزال القرآن كتاباً هادياً للإسلام، ثم تفضل مرة أخرى وحفظه من التحريف والتشويه والتبديل , ومنع من الإعراض والصدود عنه، ومن مصاديق هذا المنع تلاوة المسلمين لآياته وسوره في كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني وليس من حد لمنافع الحفظ الإلهي للقرآن ومنها :
الأول: إقامة الحجة على الناس بلزوم الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: بيان منزلة القرآن، فهو كلام الله وأبى سبحانه إلا أن يجعله باقياً برسمه وذات كلماته وحروفه.
الثالث: القرآن كنز السماء في الأرض، وكل آية منه خزينة، تدعو العلماء في كل جيل لإستخراج اللآلئ والدرر منها .
الرابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن القرآن سالم من الزيادة والنقصان ليتخذوا آياته وأحكامه ضياء ينير دروب الهداية والرشاد (وعن ابن عباس: انه محفوظ عن الزيادة والنقصان والتحريف والتغير)( ).
الخامس: من معاني (الصراط المستقيم) القرآن، فجعله الله عز وجل في حرز وواقية منه لتصاحبه دائماً صفة الإستقامة .
السادس: أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم (خير أمة) ومن خصائص (خير أمة) أنهم يتلون القرآن كتنزيله من غير تحريف فلذا تكفل الله عز وجل هذه النعمة , ليكون كل جيل من المسلمين بذات المرتبة من التفضيل .
السابع: تجدد إنذارات وبشارات القرآن في كل زمان، وعدم إختصاصها بزمان التنزيل.
الثامن: إذا أنعم الله عز وجل على المسلمين بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها, والقرآن نعمة إذ جعله الله عز وجل[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ويحتاجه الناس يوم القيامة مثل حاجتهم له في الدنيا , فتفضل الله بحفظه إلى يوم القيامة.
التاسع: علوم القرآن من اللامنتاهي، وفي كل زمان تنكشف أسرار من علومه، وفي هذا الكشف توكيد حاضر لصدق نزوله من عند الله عز وجل.
العاشر: يتضمن القرآن علوم الغيب، ومنها ما يتعلق بالزمن الحاضر وقادم الأيام فتفضل الله عز وجل وحفظه من التحريف والتبديل ليبقى حجة دائمة ولمنع أسباب الشك والريب.
الحادي عشر: كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الكفر والكافرين، وقد ذكرت آية السياق قوماً آمنوا ثم إرتدوا وكفروا ليكونوا مع الكافرين جيشاً معادياً للإسلام، ويمكن أن تتوجه حربهم نحو القرآن وسوره وآياته , فأخبر الله عز وجل ( خير أمة) بأنه خفف عنكم وكفاكم حفظ القرآن وسلامته، وعدم ضياعه, لتقوموا بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير إنشغال بالأصل، وما منه الصدور.
الثاني عشر: في الآية وجوه :
الأول: تدل الآية على أن حفظ القرآن لايقدر عليه إلا الله بلحاظ أن الكتب السماوية السابقة تعرضت للتحريف والضياع.
الثاني: يقوم المسلمون بحفظ القرآن ولكن أصل الحفظ من الله عز وجل وهو نعمة ورحمة.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة وعلماء وعامة المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الخامس: حفظ الله عز وجل القرآن بذات القرآن من غير أن يستلزم الأمر الدور، ويتوقف الحفظ على نفسه لأن الله عز وجل جعل من إعجاز القرآن الذاتي حفظه لنفسه.
السادس: بذل الكفار الوسع في الحرب على الإسلام، وزحفوا بجيوش عظيمة على المدينة المنورة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقضاء على الإسلام وقصد إندراس القرآن، فحفظه الله عز وجل بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وصد الكفار والمشركين عن بيضة الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق حفظ الله عز ورحمته بالناس جميعاً لأن حفظ القرآن رحمة وخير محض على الأولين والآخرين، ويكون شاهداً لكل جيل في زمانه على حسن إختيارهم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنهم يدركون أن هذا التصديق واجب شرعي وعقلي، ويستحق تحمل الأذى وخوض غمار المعارك والحروب دفاعاً عن الرسالة والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ توالي نزول آيات القرآن، وتلقيها بالصدور حفظاً وتدبراً، فذات الصدور التي تواجه الكفار هي نفسها التي تحفظ القرآن، وتتوجه إلى الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث عشر: أصر الكفار على الجحود والضلالة ومحاربة الإسلام. ولكنهم لم يستطيعوا التعدي على القرآن، والحيلولة دون إنتشار وشيوع آياته.
ومن خصائص هذا الإنتشار مصاحبة إدارك الناس لما في القرآن من إعجاز، ليكون باباً لدخول الناس الإسلام، ولو قام المسلم بتلاوة آيات القرآن على الناس فهل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم وهو أيضاً من حفظ القرآن، ومن خصائص ( خير أمة ) بأن تأتي بفعل عبادي , فيكون النفع منه متعدداً وتوليدياً.
وقال الفراء : يجوز أن يكون الهاء في ( له لحافظون ) كناية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكأنه قال (إنا نزلنا القرآن وإنا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لحافظون) ( )، ولكن الهاء تعود للقرآن من وجوه:
الأول: قاعدة عودة الضمير لما قبله , ولا قرينة صارفة في المقام.
الثاني: يفسر القرآن بعضه بعضاً , قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
الثالث: قد جاءت الآيات بحفظ ولحفظ وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد المشركين ومكر المنافقين بقوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الرابع: المراد من حفظ القرآن بقاءه حياً في كل زمان، حاضراً في كل واقعة. سالماً من التحريف. ممتنعاً عن النسيان.
وجاءت تسمية القرآن بالذكر في آيات من القرآن , قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )، لبيان حقيقة أن بين التنزيل والذكر عموماً وخصوصاً مطلقاً، وأن الذكر اسم من أسماء القرآن الذي أنزله الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من التذكرة والمواعظ والقصص والأحكام , وكونه جامعاً للأحكام الشرعية قال تعالى[ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ]( ) , ليكون القرآن بذاته ذكراً ووعاءً للذكر.
ومن وظائف المسلمين أزاء الكفار وهدايتهم في باب حفظ القرآن أمور:
الأول: تعاهد القرآن حفظاً وتلاوة وبما يبعث اليأس والفزع في قلوب الكفار. ويؤكد لهم صدق إيمان المسلمين.
الثاني: تلاوة آيات الإنذار وإبلاغها الكفار والمشركين ، وتلاوة الآيات التي تؤكد الحساب يوم القيامة .
الثالث: التحلي بأخلاق القرآن , وإتخاذ آدابه سنة ولباساً بما يكون درساً وحجة .
الرابع: توبيخ الكفار لقبح إختيارهم وإصرارهم على الباطل.
الخامس: معرفة كيفية المعاملة مع الكفار من آيات القرآن سواء في ميادين القتال أو حال السلم أو عند الجدال والإحتجاج.
الرابع عشر: النهوض بمسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أزاء الكفار وهدايتهم إلى سبل المعروف، ففي الأمر والنهي في المقام أمور :
الأول : إنه من أسباب ومصاديق حفظ القرآن .
الثاني : فيه تعاهد لمضامين القرآن القدسية .
الثالث : يبعث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناس ومنهم الكفار التدبر في دلالات آيات القرآن، ويمنع من الإعراض عنه أو السخرية منه .
الرابع : يبعث أمر ونهي خير أمة في النفوس الهيبة والشأن لحملة القرآن والعاملين بأحكامه، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيدرك الكفار أن الأمر بالإيمان والإنتهاء من الكفر من عند الله عز وجل، وفاز المسلمون بالإمتثال لأوامره بما فيه نفع الكفار ذاتهم وذراريهم في الدنيا والآخرة .
فيكون من خصائص المسلمين وكونهم ( خير أمة ) في المقام أمور:
الأول: تلقي الأمر الإلهي بالقيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: العموم بالأمر والنهي وعدم حصره فيما بينهم أو بخصوص من يأتيهم طالباً أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر،
الثالث: شمول أمر المسلمين بالمعروف ونهيم عن المنكر لأعداء الإسلام، والذين قاموا بتوجيه سلاحهم إلى خاصرة الإسلام غدراً بأن آمنوا ثم كفروا ليبعثوا الشك والريب في نفوس الناس من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل[وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ] ( ).
الرابع: الصبر وإظهار أسمى معاني التقوى عند رؤية الظالمين يتركون منازل الإيمان إلى الكفر والجحود.
الخامس: تحذير الناس من الكفار، وبيان قبح فعلهم .
السادس: بيان فضل الله عز وجل في منع حصول إرتداد وكفر بين المسلمين، فمن الإعجاز في الجمع بين آية السياق والآية محل البحث أمور :
الأول: فضح وخزي الذين تركوا مقامات الإيمان .
الثاني: إعلان قبح وسوء فعل الكفار، وما فيه من الأضرار الخاصة والعامة .
الثالث: تحذير الناس من الكفار , والإخبار عن لزوم عدم إتباع أهوائهم.
الرابع: حيطة وتوقي المسلمين مجتمعين ومتفرقين من الكفار.
الخامس: تحدي الكفار بما في القرآن من الإخبار عن حبط أعمالهم وخسارتهم في النشأتين، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم الهُدى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( )
الخامسة: جاءت بأمر المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونيلهم المرتبة ( خير أمة ) بهذا الأمر والنهي وتلاوة آية السياق من هذا الأمر والنهي، وتلك آية في إعجاز القرآن الذاتي والغيري بأن يأمر الله عز وجل المسلمين بأمر وتكون قراءة ذات الأمر إمتثالاً له فتلاوة كل من الآيتين مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقدمة لهما. وثمرة من ثمار تقيد المسلمين بها في العبادات والمعاملات. ويكون الأمر والنهي على وجوه :
الأول:الأمر بمصداق من مصاديق المعروف كأداء الصلاة، والإحسان للآخرين ،وقضاء الدين ونحوه.
الثاني: النهي عن المنكر مثل الزجر عن السرقة، والرياء، والكذب، والغيبة والإفتراء.
الثالث: التداخل بين الأمر والنهي في موضوع واحد مثل دعوة الكفار إلى الإيمان، فليس من برزخ بين الكفر والتوبة .
الرابع: إفادة الأمر بالمعروف إجتناب المنكر كما في الحث على الصلاة في أوقاتها، فانه مانع من اللهو والإشتغال بالباطل , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
الخامس: إفادة النهي عن المنكر تحصيل المعروف مثل النهي عن الزنا وتسبيبه بالإقدام على الزواج وإنجاب الأولاد. وإصلاح المجتمعات.
السادس: بيان المعروف وحسنة الذاتي كالعدل والإنصاف والجهاد في سبيل الله والصدقة .
ويفيد الجمع بين الآيتين لزوم التوجه للكفار الذين تركوا الإيمان بالإنذار والتوبيخ وقد يرى بعضهم الإعراض عن هؤلاء الظالمين لتماديهم في الغي والعناد، وتركهم الإسلام مع تسليمهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فتأتي آية السياق لتتضمن التوبيخ والإنذار لهم وبيان قبح فعلهم، ليكون من مصاديق الوجه الثاني والثالث والخامس والسابع أعلاه، وفيه آية في نيل المسلمين الثواب على نحو متعدد ومركب على الفعل المحذور.
وهل يشترط في نيل ثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تلاوة الآية قصدهما إلى جانب قصد التلاوة وإرادة إسماع الكفار أنفسهم. الجواب لا، فان قصد التلاوة وقصد القرآنية سبب لجلب الثواب العظيم على ذات التلاوة وعلى ما في الآية من مصاديق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو من خصائص ( خير أمة ) وفضل الله عز وجل في إكتنازها الصالحات.
السادسة: بيان القبح الإضافي للكفر بالإنسلاخ والإعراض عن (خير أمة) وحرمان الكافر نفسه من الثناء الإلهي على المسلمين، وما يترشح عن هذا الثناء من المنزلة الرفيعة والثواب العظيم، لتجتمع خصال من القبح وأسباب من الذم للكفار من وجوه :
الأول: الكفر قبيح ذاتاً وعرضاً , قال تعالى[وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).
الثاني: قبح الإرتداد بعد الإيمان ورؤية البراهين الساطعة التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: الإرتداد ترك لمنازل ( خير أمة )، وتضييع للنعم التي خص الله أفرادها بها.
الرابع: تعريض النفس للحرمان من النعمة الإلهية، بعد قيام الحجة على الكافر بايمانه وتسليمه بالبينات والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: تعرف منزلة المؤمنين عند إستحضار الضد والنقيض، من الشواهد التي تدل على الكفر والجحود بعد الإيمان، فمن مفاهيم توبيخ الكفار في آية السياق مجئ الثناء على المسلمين بقوله تعالى (كنتم خير أمة) وبيان جهاد المسلمين وغلبة العقل والحكمة عندهم والتي تجلت بحسن إختيارهم، وقهرهم للنفس الشهوية ، وإدراكهم أن صلاح نفوسهم وذراريهم بتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم وفضح الكفار، ومنع إفتتان الناس بهم، فعاش المسلمون في جهاد متصل .
وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل يحمل المسلمون لواء الجهاد في سبيل الله ومحاربة الكفر والكافرين في كل ميدان من ميادين الحياة، وسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعم في موضوعه وأثره من السيف الذي ينحصر بسوح المعارك. وفيه آيات من وجوه :
الأول: قدرة واستطاعة كل مسلم ومسلمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن تباين الموضوع والكيفية
الثاني: يصاحب الإنسان التذكير بوظائفه العبادية، ولزوم طاعة الله ورسوله.
الثالث: قد تأخذ الكافر في ساحة المعركة حمية الجاهلية والعناد، ويتجنب رميه بالجبن والخوف، فيأتيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الليل والنهار مخاطبة عقله وقلبه .
الرابع: أداء المسلم لعباداته أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومناسبة لبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل الشخصي أو النوعي،ومن الأخير صلاة الجماعة ووقوف المسلمين صفوفاً متراصة بين يدي الله ليحاكوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته ويمتثلوا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم(صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
ومنه أداء مناسك الحج والصيام في أيام مخصوصة لا تقبل التبديل والزيادة او النقصان قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، تكون فرائض المسلمين وضبطها وإتحاد ظرفها الزماني شاهداً على سلامة القرآن من التحريف .
وفي كل فعل عبادي متحد أو متعدد تبكيت للكفار الذين تركوا منازل الإيمان، ويأتي شبح الموت ودنوه منهم ليزيد في حسرتهم، ويجعلهم يندمون على حرمان أنفسهم من نعمة الإيمان، ولكن الله عز وجل رحيم بهم وبالناس جميعاً فيطرق أبواب قلوبهم أمر المسلمين بالمعروف ونهيم عن المنكر، ليجذبهم إلى التوبة والإنابة والتدارك، ويزلزل وجودهم في مواقع الكفر التي تفوح منها رائحة الباطل والزلل والخطأ.
الخامس: من واجبات المسلمين تعاهد العبادات، وعدم التقصير أو التهاون فيها، فيأتي قيامهم بالأمر بالمعروف ولومهم الكفار على جحودهم ليكون على وجوه :
الأول : تقوية قلوب المسلمين , وتثبيت أقدامهم في مقامات الإيمان واليقين , قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
الثاني : زيادة عزم وإرادة المسلمين والمسلمات المحافظة على الفرائض .
الثالث : حرص المسليمن على طاعة الله ورسوله وتلاوة آيات القرآن.
الرابع : إظهار أسمى معاني الإيمان والصلاح، لذا جاء قوله تعالى (وتؤمنون بالله) بصيغة المضارع و ما فيه من الإستمرار وصبغة الدوام.
الثامنة: جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، ومن وجوه الإمتحان فيها تعاقب الدول وتبدل السلطنة، فكلما تأتي آفة الموت للإنسان تأتي آفة الهلاك للدول عند إنقضاء آجالها، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، والدولة: الكرَّة تداول القوم الشيء: إذا إنتقل من بعضهم إلى بعض، ومن إعجاز الآية أعلاه العموم الظاهر بلفظ الأيام والناس لإفادة تجدد صيرورة الغلبة وحسن الحال والسلطان والجاه بين البر والفاجر، وفيه أمور:
الأول: إنذار للمسلمين بلزوم أخذ الحيطة والحذر.
الثاني: التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء لدفع دولة الكفار قال تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث: تحلي المسلمين بالصبر والتقوى في حال الدولة وإعراضها.
الرابع: ملازمة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم تركهما في كل حال، وفيهما حفظ لدولة الإسلام، ومنع لدولة الكفار وتفويض لها لذا تفضل الله وأثنى على المسلمين ووصفهم بأنهم(خير أمة) ومقدمات بقاء دولة الإسلام.
الخامس: تعاهد المسلمين لمعاني وقواعد الأخوة بينهم، وإجتناب أسباب الضعف والوهن كالفرقة والخلاف، قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا] ( ).
ومن الإعجاز أن الله عز وجل ذكر التداول في الآية أعلاه من سورة آل عمران على نحو القضية المهملة بخصوص الآجال والأمصار ليجتهد المسلمون في الأرض بالمعروف والنهي عن المنكر وجلب المنافع ودفع المضار، ويتخذوا من الدولة والسلطان والمال أسباباً ووسائل لتحصيل المعروف، وجذب الناس لمصاديقه، وزجرهم عن المنكر والمعاصي.
وجاءت آية السياق لمنع صيرورة دولة للذين كفروا بعد إيمانهم لما يبعثه التوبيخ والذم بلغة البرهان من الوهن والضعف في صفوفهم، بالإضافة إلى عدم إتحادهم وهو الذي يدل عليه نعتهم في الآية الكريمة بالقوم.
التاسعة: إذ كان المسلمون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلماذا كفر قوم منهم وإرتدوا على أعقابهم، والجواب من وجوه:
الأول: الكفار غير مشمولين بالثناء على المسلمين، وخطابهم بأنهم(خير أمة) إذ أن الكفار حرموا أنفسهم من هذه النعمة العظيمة.
الثاني: آية السياق صريحة بإنسلاخ الكفار من مقامات الإيمان.
الثالث: جاءت الآية بحرمان الكفار من الهداية، ومن خصائص (خير أمة) الإتصاف بالهداية والصلاح.
الرابع: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الحذر والحيطة من الكفار، بينما جاءت الآيات بحث المسلمين على التعاون في مرضاة الله، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الخامس: لقد وصفــت الآية الكــفار بأنهم ظالمون لا يهديهم الله عز وجل، وفيه شاهد على شدة عذابهم.
العاشرة: الظلم قبيح ذاتاً وعرضاً، وهو من عمومات رد الملائكة عند خلق آدم وجعله خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]، بلحاظ أن الظلم فساد، ومقدمة للفساد، وفيه ضرر للنفس والغير .
فجاءت الآيات بتكبيت الظالمين، وبيان سوء فعلهم، وغضب الله عز وجل عليهم، وحث المسلمين على توبيخهم وأخذ الحائطة فهم، ومنع إفتتان الناس بهم، لتكون هذه الآيات وآثارها وما يترتب عليها من المنافع، وترجمة المسلمين لها واقعاً من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فالمفسدون مذمومون، وينتظرهم العقاب الأليم، وهناك أمة هي(خير أمة) يتعاهد أفرادها عبادة الله، يعمرون الأرض بذكر الله، ويحرصون على التقوى، ويتحلون بالصبر من غير أن يمنعهم هذا الصبر من الجهاد في سبيله، والمواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل أن الجهاد والأمر والنهي من أبهى مصاديق الصبر وهي أمور تدل على أن صبرهم في جنب الله وأنه باب لنيل الثواب والأجر.
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون دار الحرب على الظلم ومحاصرته ونبذه وأهله، فصحيح أنه موجود في الأرض ومصاحب لحياة الإنسان فيها إلا أن النفوس تنفر منه بفطرتها وقد تجلى في قتل ابن آدم لأخيه، وتلك القصة التي تذكرها الكتب السماوية، وتتوارثها أجيال الناس لتكون تحذيراً من القتل بغير حق، وجاءت آية السياق لمنع الناس من الإقامة على الكفر لما فيه من الظلم والتعدي والجور وهو مقدمة لما إحتج به الملائكة من القتل بغير الحق[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وتجلى مصداق القتل بغير حق في بداية البعثة النبوية بتعذيب كفار قريش للمسلمين الأوائل، وموت ياسر وسمية والدي عمار تحت شدة التعذيب، ثم تجلى بوضوح بزحف قريش بخيلها وخيلائها وجحودها صوب المدينة لقتال المسلمين.
وصحيح أن المسلمين إنتصروا في كل معارك الإسلام الأولى على نحو الموجبة الكلية كما في معركة بدر وحنين أو الموجبة الجزئية كما في معركة أحد والخندق ولكنهم قدّموا الشهداء تلو الشهداء، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، من وجوه:
الأول: الكفر سبب لسفك الدماء، والقتل عدواناً وظلماً.
الثاني: حاجة أهل الأرض إلى الإيمان، ووجود أمة مؤمنة قوية لا يضرها الكفار، لذا تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين(خير أمة) يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه دلالة على أنهم أمة قوية تستطيع الإجهار بالحق.
الثالث: فوز الشهداء بالفخر والعز، ونيل الرفعة والخلود في النعيم في الآخرة، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
الرابع: تتصف(خير أمة) بأنها بالملازمة بين تقديم العدد القليل من الشهداء مع تحقيق النصر والغلبة، لتكون الدار الدنيا دار النصر لهم.
ترى ما هي الصلة بين نصر المسلمين وأمرهم بالمعروف فيه وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف سبب ومقدمة لتحقيق وتعجيل النصر.
الثاني: بالأمر بالمعروف يتحد المسلمون في مواجهة الأعداء، ويدركون ضرورة قتالهم دفاعاً عن الإسلام.
الثالث: النصر مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: بعث الناس على التصديق بنبوة محمد لتجلي المعجزات الحسية والعقلية في المقام من وجوه:
الأول: تحقيق النصر والغلبة للمسلمين مع قلة عددهم وعدتهم، كما في معركة بدر وأحد والخندق إذ لم يتجاوز عدد المسلمين ثلث عدد الكفار.
الثاني: إنتشار مبادئ الإسلام، ومناسبتها للفطرة الإنسانية وإدراك العقل.
الثالث: إزدياد قوة المسلمين وأن تخلفت أسباب الزيادة ليتجلى المدد الإلهي للمسلمين.
الرابع: تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال الشدة والرخاء، والحرب والسلم.
الحادية عشرة: من خصائص(خير أمة) أن قصص الأمم السابقة وأحوال أصحاب الملل والنحل تترى عليهم في القرآن في بيان جلي، وإجمال تفصيلي يمنع من الإختلاف فيها، وما يؤدي إلى الأعراض عنها، أو ما يسبب الجهالة والغرر في مواضيعها، وهو من أسرار حاجة الناس إلى سلامة القرآن من التحريف، والحيلولة دون ضياع آياته.
فكل آية مدرسة كلامية وعقائدية وبلاغية بذاتها، وبلحاظ إجتماعها وصلتها مع الآيات الأخرى، فسخر الله المسلمين لتعاهده فكانوا الأجدر بالإنتفاع منه.
ومن أسراره أن المسلمين لا يمنعون الناس من الأنتفاع منه، وليس بمقدورهم منعهم، لأن القرآن رحمة الله في الأرض، وهبته إلى الناس جميعاً، ومن هذه الأحوال شأن الذين كفروا بعد إيمانهم .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يترك الذين كفروا بعد إيمانهم وشأنهم، ولم يجمعهم دائماً مع عموم الكفار في الذم والتوبيخ والإنذار، بل أفرد لهم موضوعاً مستقلاً وأخبر عن حالهم وقبح فعلهم من غير أن يكون هناك إحتمال لإغواء آخرين بالحذو حذرهم وترك منازل الإيمان، مما يدل على علم الله عز وجل بعدم إفتتان المسلمين بهؤلاء الكفار، لأن الإيمان إستقر في قلوبهم ونالوا مرتبة(خير أمة) التي هي شهادة لهم بحسن سمتهم وإسلامهم، وعدم تركهم منازل الهداية والإيمان إلى يوم القيامة .
وجاءت أسباب نزول الآية في ذكر شخص واحد هو حارث بن سويد بن الصامت إرتد بعد إسلامه وهرب إلى مكة وسبب إرتداده هو قتله لأحد المسلمين غدراً وقد ندم وأرسل إلى قومه ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل له من توبة فنزل قوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا] فرجع وتاب وحسن إسلامه، وهو المروي عن ابن عباس والأمام جعفر الصادق ومجاهد والسدي( ).
وفي لغة الجمع في الآية مع إتحاد السبب وأنه في قضية شخصية وجوه:
الأول: وجود عدد من الكفار دخلوا الإسلام ثم إرتدوا.
الثاني: الآية إنذار وتحذير عن يدخل الإسلام بوجوب عدم إرتداده.
الثالث: في الآية إعجاز لما تتضمنه من الإخبار عن دخول قوم في الإسلام ثم يرتدون عنه بعد إقرارهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأدائهم الفرائض ورؤية الإفاضات التي تتجلى في دخول الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة إلا أن الوجه الأول يحتاج إلى دليل من نص وخبر معتبر، فمن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذين يدخلون الإسلام لا يغادرونه، وإن حصل إرتداد من أفراد قليلين فإن هذه الآيات جاءت لخزيهم ودعوتهم إلى التوبة والإنابة والتدارك، وفيه بيان لحاجة المسلمين والناس للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولزوم إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حث الناس على التوبة.
ومن فضل الله عز وجل أنه لم يترك لهم إختيار الأخلاق الحميدة بل هو سبحانه الذي يهديهم إليها ويعلمهم سنخيتها وسننها ببيان وتفاصيل يمنع من الترديد بينها وبين ضدها، فمع ما في آية السياق من الشدة والغضب الإلهي بالكافرين فأنه سبحانه ذكر خروج التائبين بالتخصيص، وسلامتهم من هذا العذاب .
فإن قلت أختتمت هذه الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] ( )، فكيف يتوب الله على بعضهم بقوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا]( )، والجواب من وجوه:
الأول: جاء وصف الظالمين وحجب الهداية عنهم بخصوص الذين يصرون على الكفر والضلالة.
الثاني: عندما يتوب الإنسان يتغير الموضوع ويتبدل الحكم الذي يكون تابعاً للموضوع فلا يشمله وصف الظالمين، إذ أنه لم يعد من جماعتهم , وفي الحديث ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ( ).
الثالث: بيان وظيفة المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس للتوبة والإنابة.
الثانية عشرة: يبعث إرتداد قوم بعد إيمانهم الأسى في نفوس المسلمين، وهو نوع حرب على الإسلام لذا جاءت الآية بالوعيد بالعذاب الأليم، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين، وحرز لهم من الأسى والحسرة وأسباب الشك والريب وتلك آية في إعجاز القرآن بأن يكون ذم وفضح الكافرين واقية للمسلمين من الزيغ والزلك، وموضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما جاءت الآية محل البحث بحث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكرت هذه الآية حال قوم إختاروا الكفر والضلالة، وفيه وجوه:
الأول: لزوم عناية المسلمين بأنفسهم، وتعاهدهم للإيمان، وإظهار معاني الأخوة والتمسك بالقرآن والسنة، وإجتناب الفرقة وأسباب الخلاف، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )،وفيه تنمية لملكة الإيمان عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين، وبرزخ دون الشك والريب.
الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، لأن إصلاح الذات أمن من الإفتتان، ويحتاج المسلمون الصلاح لهم ولمن حولهم، فإذا إستمر المسلمون على حال التقوى، وتعاهد الفرائض يدرك الذين كفروا بعد إيمانهم سوء فعلهم، وجنايتهم، ويفكرون في التوبة والإنابة.
الثالث: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل الناس الإسلام، وينفرون من الشرك والضلالة , فمن كان كافراً مناوئاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، يراه المرتدون قد دخل الإسلام، وحسن إسلامه، ويجتنب مشاورتهم , ويظهر النفرة منهم، ويتحدث عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتلو آيات القرآن بتدبر، فتصيبهم حسرة إضافية، وتظهر الندامة عليهم ويرون أنهم لم يضروا إلا أنفسهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الرابع: من وجوه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التوجه إلى الذين إرتدوا بالنصح والزجر عن الكفر وفيه بيان لتفضيل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونيل أمته منزلة(خير أمة) فالذي يدخل الإسلام لا يأتيه اللوم والذم، ولا يشعر بالندم على فعله لأن حسنه ظاهر، وتأتيه البشارات السماوية والأرضية بالنعيم الدائم , أما الذي يرتد عن الإسلام فإن المسلمين لم يتركوه وشأنه بل يقيمون له الدليل على لزوم توبته، وينذرونه من يوم القيامة، وما فيه من العقاب الأليم للكفار والمرتدين على نحو التعيين، وهل من الأمر بالمعروف تذكيره بالبينات التي جاءته والمعجزات التي أدرك معها صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم، وهو من عمومات قوله تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى] ( ).
ويحتمل هذا التعدد في ماهية الفعل وجوهاً:
الأول: نيل الثواب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: النهي عن الكفر والمعصية.
الثالث: التذكير بالبينات.
الرابع: الإحتجاج بالدليل وإعمال الفكر للإتيان بالبرهان، على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم ترك الكفر والجحود.
الخامس: يأتي الثواب متحداً أو متعدداً بلحاظ النية والقصد، فإذا كانت متحدة وخاصة بالأمر بالمعروف فيكون الثواب عليه حصراً، أما إذا كانت متعددة فيكون تابعاً لها بالأفراد المتعددة من النية والقصد.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول: الثواب فضل من الله وهو سبحانه الواسع الكريم يعطي الكثير بالقليل.
الثاني: المدار على ذات الفعل والمنافع المترشحة منه.
الثالث: تأتي قاعدة التداخل في الأفعال العبادية، فيجزي المتحد عن المتعدد منها، كفاية الغسل الواحد عن الأغسال المتعددة تخفيفاً ورحمة من الله أما بالنسبة للثواب فالأمر مختلف لأنه لطف من الله عز وجل .
ومن أسماء الله سبحانه (المنّان) وهو الذي يعطي إبتداء، وينعم على الخلائق من غير حاجة لهم، وليس من منّة لأحد عليه سبحانه، والمن من الله رحمة وفضل لأن النعم كلها منه، وهو يحسن غير فاخر بالإحسان , أما المن من الناس فهو مذموم، قال تعالى[لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ).
ومن خصائص(خير أمة) أن الإخبار الإلهي عن إرتداد بعضهم من المن الإلهي على المسلمين والناس من وجوه:
الأول: بذل المسلمين الوسع في محاربة الكفر والكافرين.
الثاني: أخذ المسلمين الحائطة من الذين إرتدوا، لما في الآية من الدلالة على عداوتهم للإسلام والمسلمين.
الثالث: تلاوة المسلمين الآيات التي تتضمن الذم والتوبيخ للكفار.
الرابع: بيان حقيقة وهي براءة الله ورسوله من الذين إرتدوا، وظلمهم أنفسهم لأن الإرتداد لم يأت عن وجود مقتض له، بل هو غرور وجهالة وإستكبار، ودليل لإستحواذ الهوى وإتباع زينة الدنيا.
الخامس: جعل الناس يعرفون الحقائق، ويميزون بين الحق والباطل، ويحترسون من الإقتداء بالكافرين، ويمتنعون عن الإصغاء لهم.
الثالثة عشرة: جاءت آية(خير أمة) بحث أهل الكتاب على الإيمان، والإخبار بأنه خير ونفع لهم، وتحذير الفاسقين ، وتؤكد آية السياق على أمور:
الأول: دخول الإسلام هداية وفضل من عند الله[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ] ( ).
الثاني: شهادة الناس بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صدق وحق، فإن قلت الإرتداد الذي تذكره الآية ناسخ لهذه الشهادة، والجواب من وجوه:
الأول: إنه ليس بناسخ لأن الحق أمر ثابت لا يقبل النسخ والتغيير.
الثاني: لقد إعترف الكفار بدلائل الصدق التي تتضمنها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم إرتدوا، فلا عبرة بإرتدادهم وهو ضلالة.
الثالث: يدل الإستثناء بقوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا] وحصول مصاديق له في الواقع على بطلان الإرتداد وأنه ليس بنسخ للشهادة، بل هو ظلم وتعد فلذا أختتمت آية السياق بنعت المرتدين بالظالمين، ولا عبرة بالظلم والتعدي قبل وبعد الإقرار والتسليم.
الرابعة عشرة: تذكر الآيتان فريقين من الناس:
الأول: المسلمون الذين نالوا مرتبة (خير أمة) وتنزهوا عن الظلم للذات.
الثاني: الكفار الذين منعوا عن أنفسهم أسباب الهداية فظلموا أنفسهم في النشأتين، إذ إستحقوا العذاب العاجل والآجل، قال تعالى[فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ]( ).
وحينما نفت آية السياق وبلغة الإستفهام هداية الله لفريق من الكفار بعد تركهم لمنازل الإيمان , فهل يمتنع المسلمون عن أمرهم بالمعروف وهدايتهم للإسلام، ونهيهم عن الذنوب والمعاصي، الجواب لا، من وجوه:
الأول: ما ورد من الإستثناء في قوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ففيه دعوة للكفار للتوبة، والإقلاع عن المعاصي، والرجوع إلى منازل الإيمان .
مما يدل على أن باب التوبة لا يغلق على الناس، ومنهم الكفار الذين يأتيهم الذم والتقبيح في القرآن، وأخبرت آياته عن نزول لعنة الله والملائكة والناس أجمعين بهم، لتكون التوبة ماحية لأفراد هذه اللعنة، وهو شاهد بأن المسلمين لا تصيبهم اللعنة .
ومن أراد السلامة والأمن من الطرد من رحمة الله، فليدخل في(خير أمة) حيث الفوز برحمة الله , قال تعالى[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ]( ).
الثاني: جعل الله عز وجل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأجيال الناس المتعاقبة، ليس من برزخ بين قوم وجماعة من الناس وبين النهل من مصاديق الرحمة المتكثرة في الآية، والإنتفاع منها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
ففريق من الناس نالوا رتبة (خير أمة) وجعلوها تركة لأبنائهم لا تقبل القسمة والخصومة والتنازع إذ أن الوصف بخير أمة يسع الناس جميعاً ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة، فإستحقوا اللعنة، وفيه بيان لمفاهيم الحياة الدنيا، وأن
الذي يحجب عن نفسه الرحمة الإلهية، تنزل عليه اللعنة، ترى لماذا لم يقف الأمر عند حجب الرحمة، وترك العبد النعمة، والجواب جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التكاليف وهي ظرف زماني ومكاني لعبادة الله عز وجل، والإمتثال لأوامره، فمن أعرض عن واجباته خسر الدنيا والآخرة.
الثالث: لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل، وجعله حجة ذاتية ورسولاً باطنياً عنده يدعوه إلى التدبر في الآيات الكونية، ويدرك معه وجوب عبادة الله عز وجل والإنتماء لخير أمة، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر)( ).
الصلة بين قوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( )، وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية أعلاه باسم الإشارة (أولئك) لإفادة البعد والذم للكافرين، بينما جاءت الآية محل البحث في الثناء على المسلمين وبلغة القرب (كنتم خير أمة)، وفيه ترغيب للناس بالإسلام وزجر سماوي عن الكفر والضلالة.
الثانية: كما جاء الخطاب للمسلمين بصيغة الجمع والإتحاد(كنتم خير أمة) وتغشى أفعل التفضيل أفراد وجماعات المسلمين، فإن صيغة الذم والجزاء بالطرد من رحمة الله جاءت للكفار عامة متحدين ومتفرقين لتكون الآيتان مرآة لعالم الجزاء في الآخرة .
ومن الإعجاز إمكان الجمع بين مضامين الآيتين، ويعضد مفهوم كل منهما منطوق الأخرى، لتجتمع أربعة أمور في وعظ وهداية وإصلاح الإنسان هي:
الأول: منطوق الآية محل البحث (كنتم خير أمة).
الثاني: مفهوم الآية محل البحث بتخلف الناس عن المنزلة الرفيعة للمسلمين.
الثالث: منطوق آية السياق التي تتضمن الإخبار الإعجازي عن نزول الغضب الإلهي بالكفار، ونزول لغة الملائكة والناس بهم.
الرابع: مفهوم آية السياق بأن أفراد (خير أمة) في مأمن من اللعنة والطرد من رحمة الله.
الثالثة: بيان فقر وحاجة الناس وعجزهم عن دفع اللعنة عن أنفسهم إلا بطريق الإيمان الذي يدل عليه قوله تعالى(كنتم خير أمة) إذ أن الثناء على المسلمين وتفضيلهم شاهد على عصمتهم وسلامتهم من اللعنة إلى جانب دلالة الآيات التالية التي تستثني الذين يتركون منازل الكفر ويتوبون إلى الله.
وتبين آية السياق أموراً:
الأول: عدم قدرة الكفار على دفع اللعنة عنهم في الدنيا والآخرة.
الثاني: بعث الناس لإزدراء الكفر والنفرة من الكفار لأنهم مطرودون من رحمة الله.
الثالث: عدم تخلف الجزاء والعقاب عن الكفر والكافرين.
الرابعة: لقد تفضل الله عز وجل وأثنى على المسلمين ووصفهم بأنهم(خير أمة) وفيه قوة ومنعة لهم، وجاءت آية السياق ببيان حال الكفار، ورميهم بالوهن والضعف بنزول اللعنة بهم، وفيه أمور:
الأول: بعث المسلمين للتفقه في أمور الدين والدنيا.
الثاني: معرفة المسلمين التباين بينهم وبين الكفار في المنزلة والجزاء، ودعوة المسلمين للتوجه بالشكر لله عز وجل على نعمة الإكرام والهداية إلى طاعته وطاعة رسوله وما ينتظرهم من الجزاء الحسن , قال تعالى[وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ]( ).
الخامسة: تتجلى مصاديق خروج المسلمين للناس في تلاوة (أولئك جزاؤهم) من وجوه:
الأول: تلاوة هذه الآية، وما فيها من علم الغيب بنزول اللعنة بالكفار.
الثاني: تحد الكفار بترشح آثار اللعنة في حياتهم ومعاشاتهم وأسباب الكدورات التي تصيبهم.
الثالث: تؤكد (خير أمة) قبح الكفر وأضراره بلغة العقل والبرهان، تؤازرهم الآيات الكونية، ومعجزات النبوة، وفيه بيان للمائز بين النبي و(خير أمة)، فالنبي إمام في التبليغ والجهاد ويأتي بالمعجزة التي تدل على كونه واسطة بين الله والعباد.
أما(خير أمة) فخروجهم في طول النبوة , ومن رشحاتها , فهم يقومون بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله من الأحكام، ويدعون الناس لها لما فيها من خير الدنيا والآخرة، فقد إنقطعت النبوة برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن رايتها بقيت عالية شامخة في الأرض بخير أمة تجذب الناس لها وتشترك في اللعنة على الذين يكفرون بالربوبية، ويجحدون بالآيات.
وهل تلاوة هذه الآية من اللعنة الجواب نعم، إنها لعنة متجددة على الكفار، ودعوة لهم لنبذ وترك سبب هذه اللعنة، وهذا الترك ليس متعذراً، وتأتي التلاوة لتجعله أمراً سهلاً، فمن أسرار تلاوة آيات القرآن تقريب الناس إلى منازل الطاعة والإقلاع عن المعصية.
فمن خصائص المسلمين تعاهد التلاوة وما فيها من إصلاح الناس وتجذبهم إلى منازل الإيمان، لذا إستحق المسلمون مرتبة(خير أمة) قال تعالى[وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] ( ).
السادسة: يتغشى الثناء جميع أفراد (خير أمة) وينال كل مؤمن ومؤمنة الأجر والثواب على نحو سور الموجبة الكلية، وتنزل اللعنة على كل فرد من الكفار ذكراً وأنثى على السالبة الكلية، ليس من إستثناء وطريق للوقاية من الطرد من الرحمة إلا بالإلتحاق بخير أمة وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا]( )، وفيه دعوة للذين آمنوا للثبات في منازل الإيمان.
فمن وظائف اللعنة على الكافرين تعاهد منازل الإيمان وتقوية إيمان حديثي العهد بالإسلام، ومنع إرتدادهم وتأثير أهل الشك والريب فيهم، وهو من أسرار مجيء آية السياق بلغة الغائب البعيد(أولئك جزاؤهم) وفيه دعوة للمسلمين والناس بالإعراض عنهم، والإمتناع عن الإنصات لهم.
ولا تتعارض هذه الدعوة مع تبليغهم اللعنة والذم، والإعراض والإمتناع عنهم من مصاديق اللعنة والطرد من الرحمة، إذ جعل الله عز وجل الناس بالناس، بعضهم يكتسب من بعض وتتجلى آثار الإمتناع والإعراض عن الكفار في المعاملات والمعاشات، ودبيب أسباب النفرة من منتديات الكفر , لإدراك كل واحد منهم إجتماعهم على الباطل وأن كل واحد منهم سبب إضافي لبقاء الآخر في مواقع نزول اللعنة.
السابعة: الإنتماء إلى الإسلام، وإعلان الإيمان عهد متقدم بين العبد والله عز وجل بوجوب الإيمان على كل إنسان، ويبغض الله عز وجل نقض عهد الإيمان الذي هو حق وواجب ورحمة بالناس، ويتجلى هذا البغض في آية السياق بنزول اللعنة بالذين إختاروا الكفر بعد الإيمان تعدياً وظلماً لأنفسهم بعد قيام الحجة عليهم، قال تعالى[وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ] ( ).
وفي الجمع بين آية السياق والبحث أمور:
الأول: نزول اللعنة بالكفار من مصاديق ظلمهم لأنفسهم، وإختيارهم الضلالة بعد الهدى.
الثاني: حاجة الناس للمسلمين في تبليغ الآيات والإخبار عن نزول اللعنة بالكفار، وحاجة المسلمين لأنفسهم في ثباتهم على الإيمان وتلاوة الآيات والإتعاض من الكفار وما نزل بهم، وهو من المنافع العظيمة لمدرسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإصلاح الذات وتعاهد المعروف الذي يأمرون به، والمناجاة بين المسلمين في إجتناب المنكر الذي ينهون عنه، وفلسفة رحلة الحياة الدنيا وما يصاحبها من الإمتحان في اليوم والليلة والذي لا يستثنى منه أحد.
ويكون الثواب لمن وفق في إجتيازه بالإيمان، وعصم نفسه من أسباب نزول اللعنة والطرد من رحمة الله .
ويحتمل الإمتحان مع نزول اللعنة وجوهاً:
الأول: زيادة مصاديق الإمتحان كماً وكيفاً على الذين تنزل بهم اللعنة.
الثاني: ذات الكيفية والحكمة في الإمتحان للإنسان سواء نزلت به اللعنة أو لم تنزل.
الثالث: النقص في مصاديق الإمتحان لمن تنزل به اللعنة.
والصحيح هو الأول، لتغليظ الأحكام وإقامة الحجة عليه، وظهور النكد والعناء في حياته، لبيان مصاديق ظلمه لنفسه، ومجيء وجوه من الأذى والعذاب الإبتدائي الذي يذكر الإنسان بالعذاب الأليم في الآخرة، وهو من مصاديق اللعنة في الدنيا، فلا بد له من مبرز خارجي وإبتلاء وضرر واقعي على الكافر في نفسه وبدنه وعياله وعاقبته والتعثر في كسبه وإنعدام البركة في رزقه لتكون جزاء لسوء إختياره، وأسباباً لتقريبه إلى منازل الطاعة، وتوبته وصلاحه .
واللعنة برزخ دون التوفيق في الإمتحان والإبتلاء إذ يظهر الإرباك وسوء الإختيار على الكفار في أمور الدين والدنيا، وفيه تحذير من اللعنة ونزولها بالإنسان ويتعلق هذا التحذير بسبب اللعنة ولزوم إجتنابه وهو الكفر والصدود عن سبيل الله وما فيه من العناد والإستكبار عن الواجب العبادي , قال تعالى[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ]( ).
الثامنة: لما وصفت هذه الآية المسلمين بأنهم(خير أمة) جاءت آية السياق لبيان مصداق من فضل الله عز وجل عليهم , وإصلاحهم لهذه المنزلة، وتعاهدهم لها، إذ أن مرتبة(خير أمة) موضوع وحكم يحتمل وجوهاً:
الأول: إبتداء نيل المسلمين لمرتبة (خير أمة) فضل من الله.
الثاني: بقاء المسلمين في هذه المرتبة فضل من الله.
الثالث: إبتداء نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) بسعي وجهاد منهم.
الرابع: إستدامة بقاء المسلمين في هذه المنزلة بجهاد متصل منهم.
والصحيح هو الأول والثاني , وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
وليس من حصر لفضل الله عز وجل على المسلمين في المقام، ومنه آية السياق التي تتضمن ذم الكفار، ونزول اللعنة بهم، وطردهم عن رحمة الله، ففيها تأديب للمسلمين وجعلهم يعرفون أعداءهم وكيفية المعاملة بالحذر والحيطة وإجتناب تفويض الأمور الخاصة والمستورة للكفار لفقدهم شرط الفلاح وإختيار الواجب والراجح شرعاً وعقلاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً…..]( ).
التاسعة: بيان حقيقة وهي أن المبعدين عن رحمة الله لم يتركهم الله وشأنهم، بل خصهم بآيات عديدة من القرآن تتضمن ذمهم وتقبيح فعلهم , وتوكيد بعدهم عن رحمة الله، وفيه أمور:
الأول: دعوة الكفار للتوبة والإنابة، فقد إبتعدوا وأبعدوا عن رحمة الله بسوء إختيارهم وما كسبت أيديهم، وهو لا يمنع من القرب من رحمة الله بالتوبة.
الثاني: توجه المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناس عامة ومنهم الكفار.
الثالث: تلاوة المسلمين آيات القرآن التي تتضمن سوء حال الكفار بنزول اللعنة بهم، وشدة عقابهم يوم القيامة.
الرابع: من خصائص(خير أمة) أنهم أسوة للناس جميعاً في الإيمان والصلاح وسبل النجاة من اللعنة.
الخامس: لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدرك الناس جميعاً أن الوقاية من أسباب اللعنة، والنجاة منها حاجة لهم مجتمعين ومتفرقين، قال تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( ).
العاشرة: من بديع صنع الإنسان أن الله عز وجل جعل الناس جميعاً من ذرية آدم وحواء , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]( ).
إن إستمرار وإتصال الحياة والنضارة في آيات القرآن مناسبة الخطاب القرآني الخاص والعام لكل زمان ومكان، فمع كثرة الناس وإنتشارهم في الآفاق يبقى ذات الخطاب القرآني يتوجه لهم ويقربهم إلى منازل الإيمان، ويبعدهم عن مواطن العناد والإستكبار، ويصلح حالهم في الأمور العبادية والإجتماعية والأخلاقية , ومنها الآية أعلاه التي تشير إلى المنافع العظيمة لخلق الإنسان من وجوه:
الأول: جميع الناس من ماهية واحدة، وأبوين إثنين هما آدم وحواء، وليس لآدم عليه السلام من زوجة غير حواء، فلم يكن بين الناس فرق وتباين من جهة النسب الأب والأم، وقد ماتت حواء قبل آدم بسنة واحدة ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كُلّكُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ) ( ).
الثاني: حصول التباين والتضاد بالإيمان والكفر، فكما آن الجزاء في الدنيا عليهما، فإن الأخوة في الدنيا خاصة بالمؤمنين بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وليس من أخوة وتعاضد بين الكفار وتلك آية تدعو الناس للإيمان، وتحصل الخصومة والتبرأ بين الكفار، ويذم بعضهم بعضاً وهم من أشد الأحوال في الآخرة وهو من مصاديق اللعنة النازلة بهم، بينما تستمر أخوة المؤمنين في الآخرة بالشفاعة والغبطة بدخول الجنة.
الثالث: ورد التعارض في الآية أعلاه بين الناس عموماً من غير تقييد بالإيمان , ويتجلى هذا التعارض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتقّوم الصلات والمعاملات به، وهو من فضل الله عز وجل على الناس عموماً , فالتعارض ليس على نحو القضية المهملة بل بشرط شيء هو الصلاح والإصلاح، لذا أنعم الله عز وجل على الناس بالمسلمين من وجوه :
الأول: جعل الله المسلمين (خير أمة).
الثاني: إصلاح المسلمين للخروج للناس جميعاً.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: الإخبار عن نزول غضب الله عز وجل بالكفار، ومن وجوه البيان والحجة في الآية أنها ذكرت صبغة وعلة التفضيل وهي الخشية من الله عز وجل، بقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ومن التقوى الإجتهاد وبذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث الناس على إجتناب الكفر وأسباب اللعنة والطرد من رحمة الله عز وجل.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان السبيل للنجاة من اللعنة وهو من منافع التباين في جهة ومضمون الخطاب القرآني، ويبعث الربط بين الإنذار والبشارة على النجاة والسلامة في الحياة الدنيا بالتخلي عما يستحق الإنذار، وإتيان ما يجلب البشارة والغبطة والسعادة، وقد أمر الله عز وجل بالنهي عن المنكر، والكفر الذي يجلب اللعنة هو رأس وأصل المنكر , وفيه أمور:
الأول: لزوم توجه المسلمين في نهيهم لزجر الناس عن الكفر.
الثاني: بيان المسلمين لقبح وأضرار الكفر الدنيوية والأخروية.
الثالث: تحذير الناس من الكفار الذين نزلت بهم لعنة الله، وهي مقدمة لغضب الباري وحلول العذاب بهم.
الرابع: حاجة المسلمين للتآخي والتعاون في مواجهة الكفار , وفضح مفاهيم الكفر ومقدماته والأضرار التي تترشح عنه وهو من عمومات الخطاب القرآني للمسلمين[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الخامس: محاصرة الكفر والضلالة، ومنع إنتشارهما في الأرض.
لقد أراد الله عز وجل للناس النجاة والأمن من اللعنة والطرد من رحمته، فبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فتكون له أمة تتبعه وتمتثل لأوامر الله وأوامره وهي(خير أمة)، فمن مصاديق مجيء الآية بصيغة الفعل الماضي(كنتم) هو نيل المسلمين لهذه المرتبة بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يتبعون النبي محمداً خير أمة.
الصغرى: المسلمون يتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الحادية عشرة: جاءت آية السياق بالإخبار عن لعنة الناس للكفار بسور الموجبة الكلية(أجمعين) وفيه عون للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل المراد من الناس في الآية خصوص المؤمنين( )، ولكن الآية أعم للأصالة الإطلاق، والتوكيد بلفظ (أجمعين) وفيه دليل على أمور:
الأول: إنتفاع الناس من قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: فضح المسلمين للكفار , وبيانهم لقبح مفاهيم الكفر، وما تجلبه من الأضرار على أهلها، ومن مصاديق نهي المسلمين عن المنكر بيانهم لتلك الأضرار حتى تكون قريبة من الناس، ظاهرة للعيان، تجعل كل إنسان يلعن الكفر وأهله وأسبابه.
الثالث: تجلي معاني الحسن الذاتي والغيري بسمت المسلمين، وسيرتهم وأخلاقهم الحميدة، وحربهم على الكفر وكل وجوه المنكر، ومن أسرار الآية محل البحث أن نهي المسلمين لم يختص بالكفر والشرك، بل يشمل المنكر مطلقاً، وفيه وجوه:
الأول: من خصائص(خير أمة) محاربة كل فعل قبيح شرعاً.
الثاني: يجلب المنكر الضرر على صاحبه وغيره، فأخرج الله المسلمين لأجيال الناس المتصلة إلى يوم القيامة لإجتناب الإنسان الإضرار بنفسه.
الثالث: من الذنوب ما هي كبائر، ومنها صغائر، والكفر أم الكبائر وأصل الصغائر لذا جاءت اللعنة المطلقة على الكفار عامة، ووظيفة المسلمين النهي عن الذنوب مطلقاً، وفي هذا النهي وجوه:
الأول: إبتداء النهي بالصغائر.
الثاني: إبتداء النهي عن الكبائر الذنوب، ومنها الكفر.
الثالث: ليس من حصر لنوع الذنوب التي يبدأ النهي بها .
والصحيح هو الثالث, فيقوم المسلمون بالنهي عن الذنوب كلها مرة واحدة، وعلى نحو دفعي سواء كانت كبيرة أو صغيرة، الأمر الذي يستلزم حضور المسلمين في الميادين كافة بفقاهة وحرص على الجهاد المستمر لإصلاح الناس , وعدم التخلية بين الناس وبين الذنوب، لأن هذه التخلية تجعلهم يتمادون فيها، ولا يلتفتون إلى إضرارها الدنيوية والأخروية إلا بعد فوات الأوان.
فمن منافع النهي الذي يزاوله المسلمون على نحو الوجوب إزاحة الغشاوة عن أبصار الكفار والظالمين، وجعلهم يشعرون بالأسى والندم في حال متعدد :
الأول: عند الإقدام على المعصية والإتيان بمقدماتها.
الثاني: فعل المعصية وإرتكاب الذنب.
الثالث: بعد الإنتهاء من فعل المعصية.
الرابع: عند البعث والوقوف بين يدي الله للحساب ، قال تعالى[أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ]( ).
الثانية عشرة: جاءت اللعنة من الناس على الكافرين عامة وصادرة من جميع الناس، ومنهم المسلمون وعلى القول بأن اللعنة في الدنيا، فهل من تعارض بين الأمرين أي كيف يأمر المسلمون الكفار بالمعروف وينهون عن المنكر وفي ذات الوقت يلعنونهم، والجواب ليس من تعارض بين الأمرين، للتباين الموضوعي بين الأفراد الثلاثة، وفيه وجوه:
الأول: تأتي اللعنة بسبب التلبس بالكفر والإصرار عليه.
الثاني: بعث الله الأنبياء لإصلاحهم، ثم أخرج المسلمين لهدايتهم وصلاحهم ثم لعن الكافرين لإعراضهم عن الحق والهدى.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي المنكر حجة للعن الكفار الذين لم يستجيبوا للأمر والنهي.
الرابع: لعن الكفار وسيلة لعناية وتدبر الكفار بالأمر بالمعروف، ومنافع الإستجابة لهما، ومن المنافع العاجلة والحاضرة النجاة من اللعن والطرد من الرحمة.
الخامس: لقد تفضل الله عز وجل وجعل من وظائف المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للناس جميعاً، وتوجيه اللعنة للكافرين وذمهم وتقبيح فعلهم كي ينفر الناس منهم.
السادس: بيان رحمة الله بالناس جميعاً في الحياة الدنيا إذ يتوجه إلى الكفار وبعرض واحد أمور:
الأول: الأمر بالمعروف.
الثاني: النهي عن الكفر والضلالة.
الثالث: اللعنة والغضب الإلهي، فأما الذين يتوبون منهم فإن الله عز وجل يغفر لهم ويتولون وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الذين يصرون على الكفر ويغادرون الدنيا من غير توبة فإن اللعنة تصاحبهم إلى الدار الآخرة , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
السابع: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمة وإمهال للناس جميعاً وفي اللعنة على الكافرين وجوه:
الأول: لعن الكافرين رحمة بهم في الدنيا.
الثاني: لعن الكافرين رحمة بالمسلمين لما فيه من بعث الوهن والضعف في نفوس الكفار وبين صفوفهم.
الثالث: إنه من الغضب الإلهي على الكفار لإصرارهم على المعصية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فذات اللعن رحمة في الدنيا من وجوه:
الأول: إنه زجر عن البقاء في منازل الكفر.
الثاني: في اللعن تنبيه للناس لوظائفهم العبادية.
الثالث: اللعن برزخ دون تمادي الكفار في الغي والظلم والتعدي.
الرابع: لعن الله للكفار تحذير للناس جميعاً من الكفر والميل للكافرين.
الخامس: دعوة المسلمين لليقظة والحيطة والحذر من الكفار، وتهيئة مقدمات ملاقاتهم في سوح المعارك , قال تعالى[فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ]( ).
السادس: لما أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه تعالى أعان المسلمين فأمدهم بأسباب الأمر والنهي بإنزال اللعنة بالكافرين , ومنعهم من الإستكبار والإمتناع عن الإستماع للأمر والنهي.
السابع: ليس من ملازمة بين الذوات والكفر، وتنزل اللعنة على التلبس بالكفر، وإختياره عن قصد وعمد، وهذا التلبس متزلزل لأنه خلاف الفطرة وعلة الخلق، فقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، يدل بالدلالة التضمنية على تقريب الناس للهداية والإيمان، وبعثهم على النفرة من الكفر والكافرين، ومنها نزول اللعنة بالكافرين وإخبار المسلمين والناس بهذه اللعنة، ليتوب الكفار، ويصلحوا أمورهم , وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
الثالثة عشرة: يشترك الناس جميعاً في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن مع التباين في الوظيفة والعمل، فتقوم خير أمة بالأمر والنهي ويتلقى باقي الناس هذا الأمر والنهي أما بخصوص اللعن على الكافرين فإن الناس جميعاً يشتركون فيه بعرض واحد فيقومون مجتمعين ومتفرقين بذم ولعن الكفار لهجرانهم منازل الإيمان إلى ضدها.
فهل من صلة بين الأمرين , الجواب نعم، فان إستدامة وجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر سبب لإلتفات الناس إلى قبح فعل الكفار، وإستحقاتهم اللعن.
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون مدرسة لتقريب الناس لمنازل العبادة والطاعة، ومناسبة يومية متجددة لنبذ الكفر والضلالة، ومن لم ينتفع من دروس ومواعظ هذه المدرسة ويختار الجحود يتوجه له الغضب النوعي العام من الناس جميعاً، ويتجلى باللعن والدعاء عليه بنزول العذاب، والطرد من رحمة الله، ولم يأت هذا الغضب إبتداء أو إجتهاداً من الناس، أو بأمر من المسلمين بلحاظ أنهم (خير أمة) فهو أمر خارج عن وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يكون هذا اللعن إلا بقيد تبعيته للعن الله للكفار.
وجاءت آية السياق للإذن للناس بلعن الكافرين من غير أن يتعارض هذا اللعن مع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل يكون عوناً ومدداً له، من وجوه :
الأول: حث المسلمين على بذل الوسع في ميادين الأمر بالمعروف, والنهى عن المنكر وتحذير الناس من نزول اللعن بهم.
الثاني: صحيح أن الله عز وجل أخرج ( خير أمة ) للناس وجعلها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، إلا أن أسباب الهداية لم تنحصر بالمسلمين، بل تأتي من عند الله للناس بوسائط متعددة وكثيرة، منها الآيات الكونية وبعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية، والإبتلاءات في الحياة الدنيا , ومنها نزول اللعنة بالكافرين، وما يترشح عن هذه اللعنة من أفراد الأذى.
الثالث: إخبار القرآن بنزول اللعنة بالكفار إنذار وتخويف لهم، وهو مقدمة لتلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتدبر، وسبب لزجر الناس عن الكفر والصدود، وليس من إنسان إلا ويحتاج الذكرى والموعظة، قال تعالى[إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
الرابع: من القواعد الكلامية قبح العقاب بلا بيان، فلا بد من معرفة الناس لوظائفهم العبادية، وما يستحقه الذي يتخلف عنها .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق البيان في المقام لذا نسب خروجها إلى الله عز وجل لقوله تعالى(أخرجت للناس ) فلم تخرج الأمة بنفسها إبتداء بل خرجت بأمر من الله عز وجل وإمامهم وقائدهم في الخروج سيد الأنبياء والمرسلين، الذي جاء القرآن بمدحه والثناء عليه، وأمر الله بطاعته وإتباعه , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وفيه دلالة على أن الأمة أدبّها نبيها بما أدبّه الله عز وجل ورزقه العصمة والخلق الحسن، لتصبح عند المسلمين ملكة إختيار الفعل الحسن وإجتناب الفعل القبيح وأهلية الخروج للناس برداء الحكمة , وصبغة الصلاح التي تجعل النفوس تميل لهم ، والأسماع تصغى إليهم في آية من بديع صنع الله عز وجل، وحسن خلقه للإنسان وإصلاحه لمسؤوليات الخلافة في الأرض مع مصاحبة لغة الإنذار له والإخبار عن نزول اللعنة بالكافرين .
فليست الدنيا دار لهو ولعب، بل هي دار عمل وسعي وجهاد لتحقيق البراءة اليقينة من مفاهيم الكفر والجحود التي تتعارض مع الخلافة موضوعاً وحكماً، وهذا التعارض جزء علة لقيام الناس بلعن الكافرين والدعاء عليهم بالسخط والبطش الإلهي لأنهم جحدوا بنعمة الخلق والخلافة
الرابعة عشرة: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعم، إذ تتوالى فيها النعم على الناس على نحو دفعي وتدريجي، وإبتداء واستدامة بعضها في طول بعض، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، فيعجز الإنسان عن إستحضار النعم الإلهية عليه، ومنها وجوب عبادة الله ومصاحبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للناس، والنعم الظاهرة في المعاشات والمكاسب وصحة البدن من الأمراض وغيرها، وهل لعنة الله للكفار في الدنيا من النعم الإلهية، فيه وجوه:
الأول: لعنة الله للكفار من النعم على المسلمين خاصة لما فيها من بيان الغضب الألهي على أعداء الله وأعدائهم .
الثاني: إنها نعمة على الناس جميعاً بإستثناء الكفار الذين تنزل بهم اللعنة لأنها نقمة وبلاء.
الثالث: لعنة الله على الكفار نعمة شاملة للكفار أيضاً.
الرابع: لعنة الله على الكفار نعمة خاصة بهم لما فيها من زجرهم عن المعاصي، وصدهم عن الإقامة على الكفر والجحود إذ تحل اللعنة بالكفار على إختيار الكفر إبتداء, وعلى الإستدامة والإصرار على الكفر والجحود .
والصحيح الوجه الأول والثاني أعلاه لما فيها من شفاء لصدور المؤمنين وبراءة من الكفار، نعم هي في مفهومها نعمة على الكفار أيضاً لما فيها من الإنذار والتحذير.
فمن خصائص الربوبية المطلقة لله عز وجل إجتماع النعمة والنقمة في موضوع واحد متوجه للكفار من غير أن يكون من إجتماع النقيضين وإمتناعه واقعاً، لإمكان التضليل بينما في السنخية والأثر على نحو الموجبة الجزئية، فاللعنة والنقمة بلاء وأذى، والإنذار وسيلة للتفكر والتدبر ودعوة للصلاح ويجتمعان في الأثر في باب التوبة والإنابة، وهو من بديع إجتماع الضدين في الأثر والنتيجة لما فيه من الحكمة والإعجاز في مضامين ودلالات الآيات القرآنية، قال تعالى[ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ]( ).
وهل يتعارض نزول اللعنة بالكفار في الحياة الدنيا بقانون ( الدنيا دار النعمة ) الجواب لا , من وجوه:
الأول: إستمرار نزول النعم على المؤمنين والناس جميعاً في الحياة الدنيا.
الثاني: إختصاص اللعنة بشطر من الناس إختاروا الكفر بالنعم وحجبوا عن أنفسهم نعمة الأمن والسلامة من اللعنة، والإمنتاع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
الثالث: لا يمنع نزول اللعنة بالكفار من توالي النعم العامة والخاصة عليهم، فإن قلت مجئ النعم العامة لهم من فضل الله عز وجل فكيف تأتيهم النعم الخاصة، الجواب من وجوه :
الأول: إن الله واسع كريم، وهو الذي[يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الثاني: النعم الخاصة سبيل للهداية والصلاح، ومن الناس من تكون النعم والمندوحة والزيادة في الرزق والجاه سبباَ لتوبته ولجوئه إلى الشكر لله عز وجل لدوام النعم.
الثالث: النعم الخاصة حجة على الإنسان في الدنيا والآخرة.
الرابع: بيان رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الدنيا، وأنه سبحانه غير محتاج للخلائق مطلقاَ، قال تعالى[وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الخامس: تذكّر النعم بضدها من النقمة واللعنة وشدتها ولزوم التخلص بالتوبة ولإنابة، وتذكر اللعنة بضدها الحسن من النعمة والحاجة إلى تعاهدها وحفظها، وهو من مصاديق الإمتحان والابتلاء في الحياة الدنيا , وضرورة إتباع النبوة والتنزيل، ومن هذه المصاديق جهاد المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجذب الناس لمنازل الإيمان، وذم الكفر والكافرين ، قال تعالى[وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ]( ) .
أي لو أراد الله عز وجل لأهلك الكفار وإنتقم منهم وإستأصلهم من الأرض، ومن الشواهد على عظيم قدرته وشدة بطشه نزول الملائكة مدداً لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى. وعجز الكفار عن الثبات في ساحة المعركة مع كثرة عددهم وعدتهم , ووجود الفرسان والشجعان بين صفوفهم، ولكن الله عز وجل أراد إبتلاء الناس بعضهم ببعض .
ومن الآيات عدم التكافئ والتساوي بين الفريقين، بل جعل الله الرجحان إلى جانب المسلمين فرزقهم منزلة (خير أمة) وأمرهم بالجهاد والإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الخامسة عشرة: يجاهد المسلمون في سبيل الله، ويقاتلون الكفار, ويحملون الناس على فعل المعروف، وإجتناب المعاصي وإن إعتادوا الإقامة عليها .
وإذ تتوجه لعنة الناس جميعاً للكفار، فهل يلعن الكفار المسلمين، الجواب لا، من وجوه :
الأول: المدار ليس على اللعن وحده بل على ترتب ألأثر على اللعن أيضاً وليس من أثر للعن الكفار، قال تعالى[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
الثاني: لم يأت المسلمون بما يكون علة لتوجيه اللعن لهم، فهم على الحق , ويدعون الناس إلى الهدى وما يوافق العقل والفطرة السليمة .
الثالث: لقد تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بالجهاد في سبيله، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي يصرف عنهم كيد الكفار، ويكفيهم الضرر والأذى , قال تعالى[وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ]( ).
الرابع: في القرآن تبيان لكل شيء، وقد جاء بذكر صدور اللعن من الكافرين، وهو لعن ذاتي بعضهم لبعض، إذا إنكشف لهم الحجاب يوم القيامة ورأوا آثار اللعنة ونزول النقمة من الله بالظالمين، إذ يقيم الذين يعصون الله ورسوله في النار وهم نادمون ويدعون على رؤسائهم وأئمتهم في الضلالة كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا]( ).
السادسة عشرة: ذكرت آية السياق الملائكة ولعنهم للكافرين الذين تركوا منازل الإيمان بعد تجلي البينات والدلالات لهم .
والملائكة خلق عظيم مسكنهم السماوات دائبون في أداء العبادات الباهضة، يواظبون عليها في جميع الأوقات، ليس عندهم فترة سكون أو قنوط أو فراغ ولا يصيبهم ضعف أو وهن ولا يتسرب القصور والتقصير في عباداتهم وهم معصومون من الغفلة والزلة والجهالة ونحوها من أعراض الذات الإنسانية، غذاؤهم التسبيح، منقطعون إلى تنزيه وتعظيم مقام الربوبية .
وليس من وصف مخصوص للملائكة إذ أن هيئاتهم عظيمة تدل على بديع صنع الله وعظيم قدرته وسلطانه، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور فاعطاه إسرافيل عليه السلام فهو واضعه على فيه شاخص بصره إلى العرش متى يؤمر قيل يا رسول الله ما الصور قال القرن: قيل: كيف هو؟ قال: عظيم والذي نفسي بيده أن أعظم دارت فيه كعرض السماوات والأرض فيؤمر بالنفخ في فينفخ نفخة لا يبقى عندها في الحياة أحد إلا من شاء الله تعالى وذلك قوله تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ……..]( ) ثم أمر أخرى فنفخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بعثه الله وقام وذلك قوله تعالىثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ( ).
وقد جعل الله عز وجل الملائكة واسطة بينه وبين أنبيائه , وفيه تشريف للإنسان وحجة عليه، وشاهد على أن لعنة الملائكة للكفار بعد قيام الحجة عليهم، وقرب الملائكة من الناس بنزولهم بالكتب السماوية ومنها القرآن , وشهادتهم عليهم , في النشأتين لأن لعنة الملائكة للكفار فرع شهادتهم .
وليس من قطيعة أو جفاء بين الملائكة والمؤمنين , فالصلة مستمرة منذ أن أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لأدم , وأسكن أدم وحواء معهم في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض، وحينما عرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلمٍ في السماء إستبشر الملائكة ببعثته وقدومه لمعرفتهم بما في رسالته من تغيير في الأرض نحو الصلاح والإصلاح وخروج ( خير أمة) للناس.
وفي حديث الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم مررنا بملائكة من ملائكة الله عز وجل خلقهم الله كيف شاء ووضع وجوههم كيف شاء ليس شيء من أطباق أجسادهم إلا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتمجيد والبكاء من خشية الله .
فسألت جبرائيل عنهم فقال كما ترى خلقوا أن الملك منهم إلى جانب صاحبه ما كلمه كلمة قط ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها ولا خفضوها إلى ما تحتهم خوفاً من الله وخشوعاً .
فسلمت عليهم فردا عليّ إيماءاً برؤوسهم لا ينظرون إلي من الخشوع فقال لهم جبرئيل هذا محمد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولاً نبياً وهو خاتم النبيين وسيدهم، أفلا تكلمونه؟
فلما سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام وأكرموني وبشروني بالخير لي ولأمتي مولعون بذكر الله والشكر على ما أنعم عليهم، وما يرون من آيات الله وعجائب صنعه فلا يبالون بغير التسبيح والعبادة) ( ).
وينفر الملائكة من الكفر والضلالة، ويرون أن خلائق أدنى من الإنسان تسبح الله كل بحسب ما رزقه الله عز وجل , قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، فكيف بالإنسان الذي فضَله الله وجعله خليفة في الأرض وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام أبي البشر، لذا يلعن الملائكة الكفار.
ومن الآيات أن لعنة الملائكة على الكفار لم تأت إلا بعد لعنة الله عز وجل , وعلى الناس أن يتوقوا لعنة الملائكة لأمور:
الأول: عظيم منزلة الملائكة عند الله.
الثاني: إنقطاع الملائكة لعبادة الله.
الثالث: كثرة عدد الملائكة ، فلا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أطت السماء، وحق له أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجداً لله( ).
الرابع: لايلعن الملائكة أحداً إلا بأمر من الله عز وجل وبعد قيام الحجة عليه.
السابعة عشرة: لقد جعل الله عز وجل الملائكة مدداً للأنبياء والمؤمنين. وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصيب الأوفر من المدد الملكوتي , فكما تفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة مدداً له في سوح القتال، فانه سبحانه جعل الملائكة يلعنون الكفار، بلحاظ أن الملائكة منقطعون إلى الذكر , وليس لهم أجواف أو بطون وإنعدمت الشهوات عندهم، لأنها من خصائص وغرائز النفس الحيوانية.
فان قلت لقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم , قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، فلماذا لا يكون الإنسان منزهاً من الغريزة ولواحقها من السهو والغفلة والجهالة أسوة بالملائكة ، والجواب من وجوه :
الأول: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار.
الثاني: ذكر الملائكة وسمو مقاماتهم دعوة للناس للإرتقاء في سلم المعارف، والغلبة على النفس البهيمية والغضبية.
الثالث: الدنيا مزرعة للآخرة، وجعل الله عز وجل الجنة والنعيم الدائم ثواباً للذين يصدّقون بالنبوة ويعملون الصالحات، والنار جزاءً للكافرين.
الرابع: كل من الآيتين دعوة للرفق وبلوغ مراتب الملائكة في درجة العبادة والصلاح، فقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ]، ثناء على المسلمين في تقواهم وطاعتهم لله عز وجل .
ويدل ذم آية السياق للكفار، وإخبارها عن نزول اللعنة بهم في مفهومها على لزوم التوبة والصلاح في الأرض، ومحاكاة الملائكة في إخلاص العبادة لله عز وجل.
الخامس: من خصائص الملائكة الخشية من الله والإمتثال لأوامره، وعدم التخلف عن طاعته قال تعالى في الثناء عليهم[يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بتقوى الله في السر والعلانية وطاعة الله وأداء الوظائف العبادية، وهو أمر ممكن ويقدر عليه كل مكلف، لقبح التكليف بما لا يطاق.
السادس: يرجو الملائكة يوم القيامة رحمة الله مع إنقطاعهم في أعمارهم الطويلة للتسبيح والعبادة من غير سأم أو ملل. (و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا فإذا كان يوم القيامة رفعوا رءوسهم و قالوا ما عبدناك حق عبادتك أورده الكلبي في تفسيره)( ).
ويرزق الله عز وجل المؤمنين الأمن والغبطة وإستبشار الملائكة بهم وبدخولهم الجنة قال تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ]( ).
الثامنة عشرة: تدل لعنة الملائكة على شهادتهم عمل الكافرين من وجوه :
الأول: إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقرارهم بالمعجزات التي جاء بها.
الثاني: إعلانهم التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله عز وجل.
الثالث: مجيء البينات والبراهين الباهرة للناس، وتصديقهم بأنها أمور خارقة للعادة، مقرونة بالتحدي سالمة من المعارضة، وتدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع: إن الكافرين ظالمون لأنفسهم، إختاروا التعدي والإستكبار بغير حق قال تعالى[الْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، وما دام الملائكة لا يسهون ولا يغفلون ولا يفعلون إلا ما يأمرهم الله فان لعنهم للكفار من أمر الله عز وجل لذا جاءت لعنتهم بعد لعنة الله عز وجل بقوله تعالى[أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ]( ).
وهل لعنة الملائكة للكافرين من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا بأن الإنسان يفسد في الأرض ويقتل النفس المحرمة بغير حق، الجواب , نعم , من وجوه :
الأول: يلعن الله عز وجل الكفار , وفيه رضا للملائكة.
الثاني: يأذن الله للملائكة أن تلعن الكفار في الدنيا والآخرة، وتدعو عليهم بنزول العذاب بهم.
الثالث: إن إفساد الكافرين في الأرض لم يذهب سدىً فيحاسبهم الله عز وجل عليه , وتأتي اللعنة دعاء عليهم، وإنذاراً لهم ولغيرهم .
الرابع: معرفة الملائكة ببقاء باب التوبة مفتوحاً للناس .
الخامس: قيام الحجة على الكفار ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية التي تدعو إلى عبادة الله.
السادس: غلبة وشيوع الإيمان ووجود أمة هي ( خير أمة ) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ومن الآيات أن لعنة الملائكة للكفار عون ومدد ( لخير أمة ) في قيامها بوظائفها في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، ووسيلة لجذب الأسماع وإصغاء الناس لها، فمن فضل الله على الناس وقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، تعدد مصاديق زجر الكفار عن الكفر , وهي في المقام على وجوه :
الأول: نزول اللعنة بالكافرين ودعاء الناس عليهم . مما يبعث الندامة والحسرة في نفوس الكفار .
الثاني: إدراك الكفار الخسارة والنحوسة , والضرر الذي يجلبه الكفر عليهم .
الثالث: التذكير يبعث الناس للحساب يوم القيامة.
الرابع: توكيد حقيقة وهي عموم البغضاء بين الناس للكفار.
الخامس: توجيه الناس جميعاً اللعنة إلى الكفار، وهذه اللعنة من عممومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، وإنبساط بركات ومنافع نفخ الروح على الناس جميعاً بالنفرة من الكافرين , ولعنهم وصدور اللعنة حتى من الكافرين لأنفسهم.
الصلة بين قوله تعالى[خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ]( )، وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية أعلاه بذم الذين كفروا بعد إيمانهم، والإخبار عن لبثهم الدائم في النار لقبح فعلهم، أما الآية محل البحث فابتدأت بالثناء والمدح للمسلمين، مما يدل على التضاد بينهما والآخرة مرآة للدنيا وأعمال الناس فيها، فإنهما لا يلتقيان، ويكون خلود المسلمين في النعيم الدائم قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( )، وفي هذا التضاد وجوه:
الأول: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة السلامة من النار.
الثاني: حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجذب الناس لمنازل الأمن من العذاب الأليم.
الثالث: جعل الناس يصغون للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ويستجيبون للدعوة إلى الإسلام فإن فيه السلامة في النشأتين.
الرابع: بيان حاجة الناس المتجددة للمسلمين في أمور الدين والدنيا، وتتجلى هذه الحاجة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأمر الذي تتقوم به الصلات الحسنة بين الناس.
الثانية: كما أن من خصائص(خير أمة) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من خصائصها الإصغاء لهذا الأمر والنهي، والإمتثال للواجب والمندوب، والإنزجار عن القبيح والمنكر، وفيه وجوه:
الأول: من يأمر بالمعروف يعمل به، ويدعو الناس للقيام بذات الفعل.
الثاني: المسلم الذي يمتثل للأمر بالمعروف يأمر في الأصل بوجوه من المعروف غير الذي يأمره إخوانه به، وبعد الإمتثال لإخوانه يقوم بالأمر بذات الفعل ليخفف عنه، ولتتجلى صيغ العموم الإستغراقي في قيام (خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون المسلم بلحاظ تعدد مصاديق الأمر والنهي على وجوه:
الأول: آمر بالمعروف وناه عن المنكر على نحو الإطلاق.
الثاني: آمر بالمعروف، ومنصت للنهي عن المنكر.
الثالث: مستمع للمعروف، وآمر بالمنكر.
الرابع: آمر بالمعروف وناه عن المنكر، ومستمع للمعروف ومنزجر عن المنكر، ليرتقي كل مسلم إلى الوجه الأول أعلاه ومن صفات(خير أمة) أن الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر يجذب إخوانه الآخرين لذات الأمر والنهي ليكونوا مجتمعين ومتفرقين دعاة إلى النجاة من النار والخلود فيها.
الثالثة: جاءت هذه الآية بمدح المسلمين وكونهم (خير أمة) , أما آية السياق فجاءت بلغة الوعيد والتخويف، ولم ينحصر هذا الوعيد بخصوص أمة معينة، بل جاء بلغة إستغراقية عامة تشمل الذين كفروا بعد إيمانهم، وهؤلاء ليسوا أمة تجتمع على أمر مخصوص تتخذه بلغة وغاية، بل أصروا على الجحود والمعصية , وكانوا على مشارب شتى قال تعالى[تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( )، وجاءت خاتمة الآية محل البحث بذم الفاسقين من أهل الكتاب وفيه تحذير لأهل الكتاب، ودعوة لهم للتدبر في سبل النجاة من العذاب الأليم.
الرابعة: تتعلق مضامين الآية محل البحث بالحياة الدنيا، وما فيها من جهاد المسلمين لإصلاحهم الناس لوظيفتهم العقائدية وهي عبادة الله، والتنزه من الشرك الظاهر والخفي، بينما جاءت آية السياق بالإخبار عن حال الكفار في الآخرة، وفيه آية إعجازية من وجوه:
الأول: التداخل بين الدنيا والآخرة، والموت أمر وجودي ومقدمة وطريق إلى عالم الحساب والجزاء.
الثاني: تفقه المسلمين في المعارف الإلهية، ومعرفة أحوال ومنازل الناس يوم القيامة.
الثالث: حث الناس على التقوى والخشية من الله في السر والعلانية.
ومن خصائص(خير أمة) إنذار الناس بسوء عاقبة الكفر مطلقاً، والكفر بعد الإيمان، قال تعالى[وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
الرابع: إستحضار المسلمين والناس عالم الجزاء عند الفعل في الدنيا والتدبر في القول والفعل الذاتي والغيري، وصفة جزائه في الآخرة وهذا الإستحضار مدرسة تصاحب الفرد والجماعة في الليل والنهار، وهو مقدمة للتدبر في آيات النبوة والمعجزات التي جاء بها النبي.
الخامس: الدعوة إلى التدبر في الآيات الكونية، التي تدل على ملك الله المطلق للخلائق وأن مقاليد الأمور بيده سبحانه، وأنه يجزي الناس في الآخرة، قال تعالى[وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى] ( ).
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الدنيا دار البشارة والإنذار، مع التداخل بينهما , والتعدد والتباين في الجهة التي يتوجهان إليها، وهذه الجهة على قسمين:
الأول: مستقر وثابت ويأخذ بالزيادة والإتساع بدخول الناس فيه وهم المسلمون ويتصف بالعز قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني: متزلزل غير مستقر، ويأتيه النقصان والضعف وهم الكفار، وجاءت كل من الآيتين لبعث السكينة في نفوس المسلمين، والخوف والفزع في قلوب الكفار والمشركين مع التباين في الأثر المترتب عليهما، فمن آثار السكينة التي تصيب المسلمين وجوه:
الأول: تثبيت الإيمان في نفوس المسلمين.
الثاني: إقبال المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الصبر والتحمل وعدم الجزع من الأذى في جنب الله، قال تعالى في خطاب للمسلمين[اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ).
الرابع: السكينة مقدمة للتوجه لسوح الدفاع عن الإسلام، والجهاد في سبيل الله، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا] ( ).
ومن الآثار ما ينزل بالكفار وهو على وجوه:
الأول: ظهور الضعف والوهن في نفوس الكفار وفي صفوفهم.
الثاني: إدراك الضلالة التي هم عليها.
الثالث: تخلف الأتباع عن نصرة رؤساء الكفر.
الرابع: التخفيف عن (خير أمة) بعجز الكفار عن التعدي عليهم وعلى ثغورهم.
السادسة: لقد بدأ الإسلام غريباً، يقابل أكثر الناس معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض، مع وجود المقتضي للتسليم بها، ولكن لوجود المانع العرضي من قبل أرباب الضلالة والجحود الذين يحرضون الناس على إنكارها، وينشرون الخوف والوعيد بين الناس ويعذبون من يعلن تصديقه بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم , فجاءت الآيتان لأمور:
الأول: إنها مدد للمسلمين في حال الحرب والسلم.
الثاني: فيهما دعوة للمسلمين لتلقي الأذى بالصبر , ورجاء الثواب في الآخرة.
الثالث: عندما يعلم المسلمون بالعذاب الأليم الذي يلحق الكفار والمشركين فإن هيبتهم تزول من نفوس المسلمين، ومن يستمع لآيات القرآن، وعندما يسمع الناس آيات التنزيل تصف المسلمين بأنهم (خير أمة) ويدل ظاهرهم وحسن سمتهم على إستحقاقهم لهذه المنزلة فإن النفوس تميل إليهم طوعاً وإنطباقاً , وتتدبر في تحدي الظالمين والطواغيت الذين يسعون في صدهم عن الإسلام، ويدعونهم إلى أمور قبيحة هي :
الأول: محاربة المسلمين.
الثاني: الإجهاز على الإسلام في أيامه الأولى.
الثالث: إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن .
فجاءت آية السياق لتخبر عن سوء عاقبة الظالمين وأنهم خالدون في جهنم وأن لم يحققوا أمراً واحداً من الأمور أعلاه، وهل تعتبر آية السياق سبباً لعدم تحقيق أي أمر منها الجواب نعم، وتلك آية في منافع آيات القرآن وإعجازه الغيري بأن يبعث الوعيد فيما يخص الآخرة والفزع والحزن في نفوس الكفار، ويظهر بفرقة وخلاف فيما بينهم، وهو سبب إضافي لتفرق وإبتعاد الأتباع عنهم .
ومن إعجاز القرآن ملاحقة إنذاراته للأتباع والمتبوعين مجتمعين ومتفرقين وتتعلق هذه الإنذارات بأمور الدنيا والآخرة منها قوله تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).
ويحتمل الوعيد في آية السياق (خالدين فيها) وجوهاً:
الأول: إختصاصه برؤساء الكفر والضلالة.
الثاني: إنه منحصر بالأتباع والأعوان، وأن رؤساء الكفر لهم عذاب أشد.
الثالث: إرادة المعنى الجامع لهما.
والصحيح هو الثالث فإن الوعيد بالعذاب جاء بلحاظ الكفر بعد الإيمان وهو ظلم للنفس والغير.
إن بلوغ مرتبة الإيمان والنطق بالشهادتين واقية من ظلم الظالمين إلا مع الإكراه على ترك الإيمان، وجاء آيات القرآن بالعذاب الأليم للذين كفروا بعد إيمانهم وأستثني الذين أكرهوا على ترك منازل الإيمان مع بقائه في قلوبهم , بقوله تعالى[إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ).
وفي أسباب نزول الآية أعلاه قولان :
الأول: نزلت في عمار بن ياسر، إذ قامت قريش بتعذيبه ووالديه وصهيب وبلال وخباب، ومات والده ياسر وأمه سمية تحت وطأة التعذيب، فأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه .
(فقال قوم كفر عمار فقال صلى الله عليه وآله وسلم كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه) ( )، ولما جاء عمار إلى رسول الله بكى وقال لم يتركوني حتى نلت منك، وذكرت آلتهم بخير، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية، وهو المروي عن ابن عباس.
الثاني: نزلت الآية في جماعة من أهل مكة أسلموا وهاجروا يريدون المدينة، فألقت قريش القبض عليهم وأكرهوهم على القول يكلمه الكفر، وهو المروي عن مجاهد.
والأول هو المشهور، ولا مانع من تعدد أسباب النزول على فرض كون كل فرد منها سبباً لنزول الآية، ومضامين الآية القرآنية أعم من أٍسباب نزولها، لأنها تبين قانوناً عقائدياً يتغشى أيام الدنيا والآخرة، فجاءت آية السياق لأمور:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين.
الثاني: منع اليأس والقنوط من التسرب إلى نفوس الذين أكرهوا على الكفر.
الثالث: دعوة المسلمين إلى التمييز بين الكفار بالإختيار، وبين المستضعفين والمكرهين على الكفر ، ودعوتهم لنبذ الكفر والتخلص منه، قال تعالى بخصوص المستضعفين [أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا] ( )،وتظهر أسباب النزول أعلاه أن عماراً لم يرض بفعل الكفار وهو عدوهم ، وقال كلمة الكفر مكرهاً لتزداد عداوته لهم , وسرعان ما عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل الله.
الرابع: آية السياق مدد للمستضعفين بعدم الركون للظالمين وأن أكرهوهم على الميل لهم فسرعان ما يتخلون عنهم ويكشفون عنهم، فيأتي ظلم الطواغيت بفعل الأتباع الكثيرين.
السابعة: تبين الآية موضوعاً خارقاً للتصور الذهني عند الناس وهو مركب من أمور:
الأول: الخلود والبقاء الدائم.
الثاني: تعيين موضوع الخلود وهي النار.
الثالث: إختصاص البقاء الدائم في العذاب بالكافرين والجاحدين، ويدرك الإنسان بالحس والوجدان حتمية مغادرة الدنيا إلى عالم السكون وإنعدام الحركة .
ومن الآيات في خلق الإنسان إتفاق الأمم في بعض الأمور والحقائق الثابتة، ومنها الموت في مقابل الحياة، فحالما ينمو الإحساس عند الطفل يرى الشواهد بموت قريبين منه وتتعدد كيفية الحدث , فمنهم من يبلغ من العمر عتياً، ومنهم من يصاب بداء ومرض , ومنهم من يموت فجأة.
مع صغره يسبح فكره في دلالات تعدد كيفية الموت وعدم نجاة أحد منه لينمو معه التدبر في ماهية الحياة الدنيا وأنها دار زوال، وتأتي آيات القرآن لتبين للناس جميعاً وجود عالم الخلود والبقاء الذي لا موت فيه(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قيل يا أهل الجنة فيشرئبون و ينظرون , وقيل يا أهل النار فيشرئبون و ينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح , فيقال لهم تعرفون الموت , فيقولون هذا هذا و كل قد عرفه , قال فيقدم فيذبح , ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت , و يا أهل النار خلود فلا موت) ( ).
الثامنة: يدل قوله تعالى(خالدين فيها) على عظيم قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه خلق الحياة الدنيا لتكون دار إمتحان وإختبار وبيده عز وجل الجزاء .
ومن إعجاز القرآن أنه تبيان لأهوال ووقائع عالم ما بعد الموت، وبينه وبين عالم الدنيا عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الملك في النشأتين لله عز وجل وحده.
الثاني: تجلي بديع صنع الله سواء في الحياة الدنيا والآخرة، وفي التنزيل[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالث: الحياة والحركة والحس.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول: إنقطاع الحياة الدنيا بالموت والفناء , أما الدار الآخرة فهي دار الخلود، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( )، أي الآخرة هي الحياة الخالدة الدائمة التي ليس لها زوال أو فناء، في إشارة إلى دوام الحياة في الآخرة .
وفيه ترغيب بالإيمان وفعل الصالحات للفوز بالنعيم في الحياة الخالدة.
الثاني: الدنيا دار إمتحان وإختبار وعمل بلا جزاء مطلق، أما الآخرة فهي دار الجزاء من غير عمل.
الثالث: الناس في النعم الدنيوية شرع سواء، وقد ينالها الكافر ويحرم منها المؤمن أو العكس للإمتحان والإبتلاء، أما في الآخرة فإن النعيم يكون للمؤمنين حصراً، ويختص العذاب بالكفار.
الرابع: الدنيا دار إختلاط بين الكفار والمؤمنين، أما الآخرة فبين الفريقين برزخ وفصل فلا يجتمعان، نعم قد يطل أهل الجنة على أهل النار لرؤيتهم في العذاب.
الخامس: تجلي معاني الأخوة والألفة بين أهل الجنة قال تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] ( )، وحصول الخلاف واللوم والذم بين أهل النار وظهور الخصومة بينهم , قال تعالى[إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ]( ).
السادس: الدنيا دار وعد ووعيد , أما الآخرة فهي دار الجزاء فجاءت آية السياق بالوعيد والتخويف للكافرين.
السابع: يبعث الله عز وجل الأنبياء في الحياة الدنيا، وينزل الكتب السماوية التي تتضمن الأحكام الشرعية، أما في الآخرة فإن الأنبياء يكونون شهداء على أممهم، وجاء التباين بين الآيتين، ليكون مرآة للتباين الأخروي .
إذ تضمنت الآية محل البحث المدح والثناء على المسلمين، وجاءت آية السياق بالإخبار عن اللبث الدائم للكفار في النار، وهو دليل على أن النار باقية ودائمة .
وهل يحتمل تغير سنخية عذاب الكفار , فيكون الكافرفي غير النار من وجوه العذاب، الجواب لا، فذات العذاب مصاحب للكفار في النار، قال تعالى في ذم ووعيد الكفار[فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
التاسعة: إبتدأت آية السياق باسم الإشارة للبعيد (أولئك) لإفادة الذم والإزدراء للكفار، بينما جاءت الآية محل البحث بالثناء على المسلمين وخطابهم بلغة الإكرام والقرب(كنتم خير أمة) وفيه آية في حث الناس عل دخول الإسلام، وإجتناب الكفر والضلالة لما فيها من البعد عن رحمة الله.
لقد جعل الله عز وجل العقل رسولاً باطنياً عند الإنسان، وجاء التنزيل لمخاطبة العقول، وجعلها تتدبر في أمور:
الأول: الإقرار والتسليم بعالم الآخرة، وما فيه من الجزاء.
الثاني: إدراك التباين والفصل في عالم الآخرة.
الثالث: الشوق إلى النعيم الدائم، والنفرة من العذاب الأليم.
فجاءت كل من الآيتين رحمة بالناس جميعاً، وكشف لأحوال الناس يوم القيامة، ومن منافع بيان التباين والتضاد بين منازل المؤمنين والكافرين يوم القيامة أمور:
الأول: إقامة الحجة على الناس بما رزقهم الله من العقل.
الثاني: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثالث: حضور عالم الجزاء في التصور الذهني عند الناس جميعاً، لا يتخلف عنه مؤمن أو كافر، نعم هذا الحضور من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وكثرة حضوره لا تنحصر بالمؤمنين خاصة , بل تشمل فريقاً من الكفار من أرباب العقول الذين تجذبهم المعجزات، ويميلون للحجة والبرهان، لذا فان منافع الآيتين لا تقف عند الوعد في الآية محل البحث والوعيد في آية السياق، بل تشمل أموراً:
الأول: بعث الغبطة في قلوب المسلمين من وجوه :
الأول: الطمأنينة للبث الدائم في النعيم في الآخرة.
الثاني: البعث إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الفرح والسعادة بدخول الناس في الإسلام ونجاتهم من الخلود في العذاب.
الرابع: ترغيب الكفار بالتوبة والإنابة.
الخامس: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار لما ينتظرهم من العذاب الأليم.
العاشرة: الصلة بين قوله تعالى(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وبين قوله تعالى(خالدين فيها)، وفيها وجوه:
الأول: تلاوة قوله تعالى(خالدين فيها من الأمر بالمعروف) من جهات:
الأولى: يواظب المسلمون على قراءة هذه الآية على نحو الوجوب والندب مما يدل على إستمرار قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: لا يتخلف المسلمون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبداً , ولا يطرأ عليهم النسيان والغفلة في هذا الباب، خصوصاً وأن التلاوة واجب يومي على كل مكلف منهم، مما يبعث على إستحضار مضامين الآية والتدبر في دلالاتها ومعانيها.
الثالثة: تلاوة هذه الآية حرب على الكفار، وزجر عن الكفر، وهي في ذات الوقت نصيحة وإرشاد لفعل الخير.
الثاني: بيان حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن خروج(خير أمة) رشحة من نبوته.
الثالث: شمول الأمر بالمعروف لأمور الدنيا والآخرة، إذ تأتي الآية بالإنذار والوعيد من العذاب الأليم يوم القيامة.
الرابع: تفقه المسلمين في أمور عالم الجزاء، وإنعدام البرزخية بين الجنة والنار.
الخامس: من خصائص لغة الوعيد القرآني أنه واقية للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فتلاوة الآية تأتي على نحو الإطلاق وعدم تعيين فرد أو جماعة .
ويكون الإخبار عن الخلود في النار بلحاظ الكفر والإصرار عليه.
السادس: لقد إختار الله عز وجل للمسلمين منزلة (خير أمة) بلحاظ المقام لوجوه:
الأول: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف.
الثاني: تصدي المسلمين لوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى هذا الأمر والنهي نالوا منزلة(خير أمة) , ولأن الله عز وجل أمرهم بالقيام بهذا الفعل، فكأنهم أمتحنوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فنجحوا فيه , وأخلصوا الطاعة لله عز وجل فجعلها وظيفتهم إلى يوم القيامة.
وقد ورد في إبراهيم عليه السلام قوله تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( )، وليكون تولي المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع إمامة للناس، فإن قلت إن دعاء إبراهيم خاص بذريته , والمسلمون أمة تجمع الأمم والشعوب المختلفة، والجواب من وجوه:
الأول: المسلمون ورثة الأنبياء.
الثاني: يتعرض المسلمون للإبتلاء الذين ينالون بالتوفيق فيه خير الدنيا والآخرة.
الثالث: جاء دعاء إبراهيم لذريته ببعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ليكون رسولاً للناس جميعاً.
الرابع: جاء القرآن بتسمية إبراهيم بأنه أبو المسلمين , قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ( ).
الحادية عشرة: بيان منافع تلاوة آيات القرآن على المسلمين وغيرهم بلحاظ مدرسة الأمر والنهي عن المنكر ووجوبهما فلا ينحصر الموضوع بالوعيد والإنذار يشمل الإقلاع عن المعصية، والإصلاح للتوبة لذا جاءت الآية التالية بإستثناء التائبين بقوله تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا] ( )، فهو ليس إخباراً فقط , وفيه ترغيب بالإيمان والصلاح وتلك آية في خلق الإنسان وعمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن (خير أمة) تعظ عموم الناس، وتدفعهم عن منازل المعصية بأمور:
الأول: الوعيد السماوي، ويتباين في الأثر المترتب على الوعيد بلحاظ جهة صدوره فإذا كان سماوياً من عند الله فيكون أثره في النفوس عظيماً، أما إذا كان من الإنسان فأثره يكون أقل مرتبة.
الثاني: تكرار الوعيد السماوي على لسان المسلمين بتلاوتهم رجالاً ونساء، وكباراً وصغاراً آيات القرآن التي تتضمن التخويف والوعيد بالعذاب في النار بسبب الكفر والجحود.
الثالث: وقاية المسلمين أنفسهم من مقدمات وأسباب العقاب الآخروي، وهذه الوقاية من مصاديق(خير أمة) بأن يكونوا أئمة للناس في الصلاح وسبل النجاة من النار.
الرابع: إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية حجة على الناس، وبيان لحقيقة وهي أن التكاليف أمر يقدر عليه الإنسان، وليس فيها ضرر عليه , ويمكن الضرر في المعصية عند فعلها وفي الآخرة.
الخامس: تتجلى منافع وبركات طاعة الله , وإجتناب المعصية على المسلمين في الواقع اليومي الخارجي بما يجذب الناس للهدى والإيمان وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )، بأن يظهر فضل المسلمين على غيرهم من الناس عاجلاً ليكون مرآة وشاهداً على فوزهم في الآخرة بالثواب العظيم.
الثانية عشرة: سعي المسلمين في إصلاح الناس شاهد على الإعجاز في جمع القرآن بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بلحاظ أنهما على وجوه:
الأول: التصريح بالأمر والنهي بصيغة(إفعل) التي تفيد الأمر والوجوب.
الثاني: التصريح في الأمر والإشارة والتلميح والفعل في النهي.
الثالث: التلميح والإشارة في الأمر والتصريح في النهي الزجر.
الرابع: التلميح والإشارة في كل من الأمر والنهي، وتكون مجموع الوجوه أعلاه ثمانية , بإضافة المصداق العلي بفعل المسلمين للمعروف وإجتنابهم للمنكر إظهار المسلمين العملي لمضامين الأمر والنهي، وتحلي المسلمين بفعل وجوه المعروف، ويقظتهم وتعاونهم في إجتناب المنكر والفواحش.
وهل فعل المسلمين للمعروف سابق للأمر به أم الأمر هو السابق، الجواب هو الأول، لذا إبتدأت الآية بالثناء على المسلمين بأنهم(خير أمة) لبيان أنهم نالوا هذه المرتبة بحسن سمتهم، وتقيدهم بسنن الإسلام وآداب الإيمان في آية في العالمين تحكي بقاء ميراث الأنبياء غضاً طرياً في الأرض، فمن أراد أن يعرف سمتهم وجهادهم في سبيل الله، فلينظر إلى حسن خلق المسلمين، ودعوتهم إلى الله بالقول والفعل.
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين قوله تعالى(خالدين فيها) وتؤمنون بالله، أموراً:
الأول: الإيمان بالله واقية من الخلود في النار , والنار خلق من خلق الله وهي منقادة لأمره، وخزنتها من ملائكة الله[وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( )، وحرمّها الله عز وجل على المؤمنين.
الثاني: بيان(خير أمة) من الخلود في النار، وتتجلى هذه النجاة بالإيمان بالله فإن قيل هل ينجو منها من يؤمن بالله ويتجنب فعل السيئات، الجواب إن الإيمان بالله واقية من فعل المعصية في الدنيا مثلما هو واقية من النار يوم القيامة.
الثالث: من خصائص الإنسان أنه يؤثر ويتأثر بغيره من الناس ويقتبس الأفعال والسجايا ممن حوله مما تميل له نفسه، وحتى ما لا تميل له نفسه مما يكون قريباً منه
الرابع: التباين في لغة الوعد والوعيد، فقوله تعالى(تؤمنون بالله) خطاب للمسلمين وثناء عليهم، ومدح لهم وهو حجة على الذين يصرون على الصد عن سبيل الله، ويجلبون البلاء والعذاب لأنفسهم قال تعالى[إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ]( ).
فجاء إيمان المسلمين بالله دعوة للناس جميعاً لمحاكاتهم وإتباعهم واللحاق بهم في الإيمان ونبذ الشرك والكفر والضلالة، إنها مسؤولية عظيمة التي تتجلى بحمل لواء التوحيد إذ ينفرد به المسلمون، فلم ولن يطرأ على أذهانهم الغلو بالأنبياء، ولا يتسرب الشك والريب إلى نفوسهم، وفيه دعوة للناس للنجاة من الخلود في النار, هذا الخلود الذي يكون عاقبة للكفر والضلالة.
فجعل الله عز وجل المسلمين وسيلة مباركة لمنع أسباب الخلود في النار، فمن بديع صنع الله عز وجل أن يتوب العبد في الدنيا فينجو بنفسه من الخلود في الجحيم، ومن إعجاز القرآن إجتماع الوعيد وسبل النجاة منه في آيتين من القرآن لمنع الجهالة والغرر عند الناس، ولإصلاحهم للعبور على الصراط يوم القيامة.
الثالثة عشرة: يفيد الجمع بين قوله تعالى(يؤمنون بالله) وبين(لو آمن أهل الكتاب) لزوم إيمان الناس جميعاً بالله , وهذا الإيمان هو علة خلق الناس، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن رحمة الله عز وجل بالناس التخفيف عنهم، والتفضيل عليهم بالأمة التي تكون أسوة لهم في الإيمان والرشاد والصلاح، فلو إنحصرت الإمامة والأسوة بالأنبياء لقال الذين في قلوبهم حرص إن الأنبياء يوحى إليهم، ويرون ما لا يرى الناس من الآيات والدلالات الباهرات التي تجذب إلى الإيمان، فجاء خروج (خير أمة) متصلاً من أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة بحيث ينهض المسلمون بمسؤوليات تعاهد الإيمان بالله في كل زمان ومكان, ليكونوا حجة على الناس جميعاً في لزوم الإيمان بالله.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الجهاد لجذب الناس للإيمان فلا برزخ أو واسطة بين الإيمان والكفر، فجاء قوله تعالى(خالدين فيها) على وجوه:
الأول: حث المسلمين لتعاهد إيمانهم بالله، والصبر في منازل الهدى، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ).
الثاني: بيان سلامة وصحة نهج الإيمان، وجعل النفوس تشتاق له وتميل إليه.
الثالث: حث الناس على القرار من منازل الكفر والجحود، والنفرة منها ومن الذين يصدون على الإقامة فيها.
الرابع: دعوة الناس لإجتناب نصرة وإعانة رؤساء الضلالة والكفر.
الرابعة عشرة: تعدد وجوه الدعوة إلى الله عز وجل، إذ أن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة.
ومن رحمته سبحانه أن جعل الأسباب والسبل للهداية للإيمان بالله من المتكرر واللامتناهي وهي تصاحب الإنسان في حياة الدنيا لا تغادره ولا تبتعد عنه وإن إختار الإبتعاد عنها.
وتلك آية في بديع صنع الله في خلق الإنسان وتقريبه من الإيمان به سبحانه، والإقرار بالعبودية له تعالى فتأتي الدعوة للإيمان بإرسال الرسل بالمعجزات والجهاد , والصبر في جنب الله، وإنزال الكتب ليأتي القرآن ويتضمن صيغ الدعوة إلى الإيمان في المنطوق والمفهوم، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، فقوله تعالى(ولو آمن أهل الكتاب) من الوعد والترغيب بالإيمان بالله ورسوله، ودعوة للإنتفاع الأمثل من الإيمان في الدنيا والآخرة , وليكون المسلمون في مأمن من الوعيد باللبث الدائم في النار.
وفي الجمع بين الآيتين بشارة للمؤمنين بالله بالسلامة من الخلود في الجحيم، ودعوة لعموم أهل الكتاب والناس لنبذ الفسوق والخروج عن الطاعة لشدة العذاب الذي ينتظر الفاسقين.
الخامسة عشرة: لقد نزل القرآن حرباً على الكفر والفسوق، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن بلحاظ أنه سيف سماوي يستأصل الكفر من الأرض، ويدفع الناس عن منازله، ويمنع من وقوعهم في صحرائه القاحلة التي لا تؤدي إلا للهلاك، وكل إنذار ووعيد في القرآن مدرسة في الإصلاح، وسبيل للرشاد، وواقية من الفسوق والفجور , قال تعالى[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
ومن خصال(خير أمة) الإنتفاع من هذا السلاح السماوي من وجوه:
الأول: إصلاح الذات والإرتقاء في مراتب التقوى، فمن خصائص أفراد (خير أمة) أنهم لا يقفون عند منزلة من الصلاح ولاتنزلون إلى ما هو أدنى منها، بل هم في سمو ورفعة في المنزلة والفعل لذا ترى المسلم في يومه أفضل من أمسه، وفي غده أفضل من يومه.
الثاني: إمتلاك المسلمين الحجة والبرهان في الدعوة إلى الإيمان , وبيان القبح الذاتي والعرضي للكفر والضلالة، فكل آية برهان ومقدمة للبرهان.
الثالث: جعل المسلمين قادرين على رد أسباب الشك والريب في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في القرآن من الإعجاز الذي يدل على صدق نزوله من عند الله.
ويحتاج المسلمون البقاء على الإيمان وعدم مغادرة منازله , لذا جاءت الآيات بالتحذير من طاعة أهل الكتاب مثلاً، قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] ( )، وجاء وصف أكثر أهل الكتاب بالفسق لجعل نفوس المسلمين تنفر منهم ولا تميل لها، وهو نوع إحتراز ومقدمة للإمتثال لمضامين النهي عن طاعتهم .
الصلة بين قوله تعالى(لا يخفف عنهم العذاب) وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: المراد من العذاب هو العذاب الأليم في الآخرة بالإقامة الدائمة في نار جهنم، وفيه بيان للتباين بين الحياة الدنيا والآخرة، فالدنيا ينتفع منها البر والفاجر، ويكون سبباً للصلاح والرشاد، وفرصته متجددة للتدراك والرجوع عن الذنب والمعصية.
ومن مصاديق التخفيف طول العمر، وصرف البلاء، وفتح باب التوبة والندب إلى الإستغفار، أما الآخرة فالمقام يختلف فيكون أهل الجنة في جنة نعيم[وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ]( )، فالنعيم الدائم جاء لهم، وهو فضل من عند الله عليهم .
أما الكفار فيفتقدون التخفيف والسعة حال مغادرتهم الدنيا، ومصاحبة تجدد الفرص لهم في الميادين المختلفة، فيطلبونها عند الموت وما بعده فلا يجدون مصداقاً منها، ليكون حسرة عليهم بذاته ولحرمان النفس منه، وتفويته كنعمة ورحمة من الله عز وجل بأهل الدنيا.
لقد تفضل الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وخروج(خير أمة) لينتفعوا من قوانين التخفيف في الدنيا، بما فيه صلاحهم وسلامتهم من العذاب الأليم الذي ليس فيه تخفيف سواء في ماهيته أو كيفيته أو طول زمانه وإنتفعت (خير أمة) من هذا التعدد في فضل الله وعظيم آياته ورحمته ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ورفعت لواء دعوة الناس للحاق بهم بالتوبة والإنابة.
الثانية: تتصف(خير أمة) بتلاوة الآيات التي تتضمن تحذير الكفار من عذاب ليس فيه تخفيف أو نقصان، وإذ بينت الآية عدم التخفيف في العذاب فإنه يحتمل وجوهاً :
الأول: زيادة العذاب مع تقادم الزمان لأن عدم التخفيف لا يدل على عدم الزيادة في العذاب.
الثاني: تأتي الزيادة أحياناً كما لو كانت في أوقات فريضة الصلاة.
الثالث: عدم وقوع زيادة في العذاب.
إن زيادة العذاب للكافرين من شدته قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ] ( )، وفيه تحذير من الجمع بين الكفر والفساد، وزجر للكافرين عن الفساد في الأرض، وهذا الزجر من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في رد الله على الملائكة في خلق الإنسان وجعل آدم خليفة في الأرض بأن تأتي هذه الآيات ببيان ما يلقاه الذين كفروا بعد إيمانهم من وجوه:
الأول: نعتهم بالظالمين، ليصاحبهم هذا الوصف في الدنيا والآخرة.
الثاني: نزول لعنة الله بهم.
الثالث: قيام الملائكة بلعنهم.
الرابع: لعنة الناس جميعاً لهم.
الرابع: لبث الكفار الدائم في نار جهنم.
الخامس: عدم تخفيف العذاب عن الكفار في الآخرة.
السادس: ليس من إمهال للكفار، ولا يسمح لهم بالجدال والإحتجاج والتوسل ورجاء الشفاعة، فينزل عليهم العذاب دفعة , قال تعالى[مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ]( ).
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل بعث اليأس في قلوب الكفار من أسباب التخفيف في الآخرة، فإن قلت إن الله عز وجل هو الرحمن الرحيم، ورحمته في الدنيا عامة وشاملة للمسلم والكافر، فلماذا بعث اليأس في قلوب الكفار والجواب من وجوه:
الأول: هذا اليأس من رحمة الله عز وجل بالكفار لجذبهم إلى مقامات التوبة.
الثاني: لا يؤمن الكفار بالآخرة، وما فيها من الحساب والجزاء، فجاءت الآية لتذكيرهم بعالم الآخرة، ودعوتهم للإيمان به, والإستعداد له .
الثالث: إنذارات القرآن رحمة من عند الله بالناس جميعاً، برهم وفاجرهم، فهي حث للمؤمن للثبات في منازل الإيمان، وتوبيخ للكافر وزجر له لترك الكفر والجحود.
الرابع: جاءت الآية بالإخبار عن أمر حق، ولا بد من وقوعه، وبهذا فالآية رحمة بما فيها من الكشف من علوم الغيب، وتجلي منافع هذا الكشف بأسباب الهداية للناس جميعاً.
الخامس: في الإنذار إقامة للحجة على الكفار، ودعوة لهم للتدبر في أمور الدين والدنيا.
السادس: بعث اليأس في قلوب الكفار أمر مقيد بالبقاء على ذات الكفر، فما أن يقلعوا عن الكفر حتى يأتيهم الأمل دفعة واحدة ومن كل الأبواب وظاهراً وخفياً، ويرون الدنيا ذات بهجة ونضارة وبشواهد لم يكونوا بألفونها , وكأنها كانت محجوبة عنهم.
الرابعة: يأتي الوعيد بالعذاب في آيات القرآن، ويتلوه المسلمون بكرة وعشية، فهل يحتمل إصابتهم بالخوف والحزن من نزول ذات العذاب بهم وأن يصبحوا من الذين لا يخفف العذاب عنهم، والجواب لا من وجوه:
الأول: لقد مدح الله عز وجل المسلمين ووصفهم بأنهم(خير أمة) ويدل في مفهومه على حسن سمتهم وصلاحهم، وإجتنابهم لأسباب العذاب.
الثاني: جاءت الآيات بالبشارة للمسلمين بالأمر من العذاب، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثالث: المسلمون حملة لواء الإنذار إلى الناس جميعاً.
الرابع: لقد جعل الله عز وجل عالم الجزاء على قسمين:
الأول: نعيم دائم للمؤمنين.
الثاني: عذاب أليم للكافرين.
مما يدل على فوز المسلمين بالبشارة بالنعيم.
الخامس: لغة البشارة والإنذار في القرآن رحمة بالمسلمين والناس جميعاً لما فيها من الإنتفاع الأمثل من البشارة، ولزوم الوقاية مما تنذر منه آيات القرآن.
السادس: جاءت آيات القرآن بالبيان والوضوح، فقد ذكرت صفات الذين ينزل العذاب بهم على نحو الحصر والتعيين بلحاظ الأفعال وليس الأشخاص، وهو من أسرار القرآن بأن تبقى كل بشارة وإنذار قانوناً ثابتاً في الأرض، وحجة على الناس جميعاً، وهناك مسألتان:
الأولى: قد ذكر الله عز وجل أبي لهب بالإسم، وذكر زوجته , قال تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( ).
الثانية: تأتي أسباب النزول لبيان واقعة وحادثة.
أما الأولى ففيها وجوه:
الأول: آية وهي أن القرآن فيه ذكر الأسماء أيضاً وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثاني: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار والمنافقين خشية نزول آية تذكرهم بالإسم، وتكون خزياً لهم إلى يوم القيامة.
الثالث: قد يظن شطر من المسلمين بمنزلة خاصة لعم النبي وإن كان مشركاً، والإستدلال بعمومات قوله تعالى[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( )، فجاء ذكر أبي لهب على نحو التعيين وبالاسم الصريح لبيان أن الكفر مانع من المودة وإن كان الذي تلبس به عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: بيان صدق نزول القرآن من عند الله بأن الذي ذكره القرآن هو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس من القبائل والأفخاذ التي بينها وبين بني هاشم أو بينها وبين قريش خصومة وعداوة، ولم يذكر اسم مخصوص لغيره من كبار مشركي قريش ممن آذى النبي وأصحابه.
وأما الثانية ففيها وجوه:
الأول: مضامين الآية القرآنية أعم من أسباب النزول.
الثاني: يأتي سبب النزول مقدمة من مقدمات التفسير، وعوناً لبيان المقاصد السامية من الآية.
الثالث: الآية للفصل والقطع بخصوص أسباب النزول، وتكون عوناً للمسلمين في كيفية الحكم، وحل مشكلات الأمور.
الرابع: إستحضار النزول تخفيف عن المسلمين، ودعوة لهم للصدور عن القرآن في المسائل المتشابهة، والإبتلاء المتكرر كما في قوله تعالى(يسألونك) الذي ورد خمس عشرة في القرآن.
ومن إعجاز القرآن أنها جميعاً خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان تفضيله على الأنبياء السابقين، وتفضيل أمته، وأهلية المسلمين لنيل مرتبة(خير أمة) .
وتتضمن الآيات الجواب الإلهي على تلك الأسئلة، ولا ينحصر الأمر بكثرة أسئلة المسلمين بل هي وسيلة لإرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة , وتثبيت معاني الأخوة بين المسلمين ونبذ الفرقة بينهم، قال تعالى[وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الرابعة: بيان حقيقة وهي أن خروج المسلمين للناس جهاد في سبيل الله عز وجل وباب لنيل الثواب العظيم، ومن خصائص هذا الخروج تولي مسؤولية الإنذار وتحمل الأذى في تبليغ هذا الإنذار، فصحيح أنه لا يتوجه لأناس مخصوصين من الكفار الظالمين، إلى أنه يجعل رؤساء الكفر والطواغيت يكيدون للمسلمين خصوصاً وأن المسلمين يواظبون على ذم وإنذار الكفار بالتعاهد اليومي لتلاوة هذه الآية، وتكون كل تلاوة على وجوه:
الأول: إنذار وتوبيخ الكفار.
الثاني: التوكيد اليومي المتجدد لذم الكفار، بلحاظ أن تلاوة المسلمين للقرآن على نحو يومي متكرر، فمن خصائص أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر أنه متجدد في كل يوم لا يفترون ولا ينشغلون عنه، ولا يملون منه، وفيه أذى مستمر للكفار.
الثالث: ذم الكفر , وبيان سوء عاقبته رحمة بالكفار أنفسهم، لأن الذم يتعلق بذات الكفر فكراً وقولاً وفعلاً، وليس من ملازمة بينهم وبينه، فذمه سعي كريم للفصل بين الكفار والكفر، وتخليهم عنه، وتغيير صفتهم ونعتهم , وجعلهم بالتوبة في مأمن من هذا الذم والوعيد على الكفر، وتلك مسؤولية تستلزم حب الناس، والحرص على نجاتهم، ونزع الضغائن وترك الثأر بالعصمة من روح الإنتقام، وهي أخلاق حميدة يتصف بها المسلمون لأنها من خصائص(خير أمة) وشرائط الخروج إلى الناس بما فيه نفعهم في النشأتين، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل في إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببلوغ هذه المرتبة الرفيعة بلطف منه سبحانه، ومن مصاديقه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي) ( )، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
وهل من صلة بين الآية أعلاه وقوله تعالى(كنتم خير أمة) الجواب نعم , من وجوه:
الأول: إقتباس المسلمين حسن الخلق من الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: يتجلى حسن الخلق في القول والعمل , ويقتدي المسلمون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية.
الثالث: تجلي حسن الخلق عند المسلمين بوصف الآية لهم بأنهم (خير أمة) لما فيه من معاني الأفضلية والحسن في الخلق.
الرابع: مجيء الأحاديث النبوية التي تحث على حسن الخلق وتدعو إليه، (وعن الإمام علي بن موسى الرضا عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة و إياكم و سوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة، و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا الموطؤن أكنافا الذين يألفون و يؤلفون و أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات( )) ( ).
ومن حسن خلق المسلمين المواظبة على إنذار الكفار، وتحذيرهم من الإقامة على الكفر والجحود، لما في هذه المواظبة من صبغة الصلاح والألفة مع الناس .
ويتجلى حب المسلمين للناس وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: تحب خير أمة الخير والهدى للناس.
الصغرى: المسلمون خير أمة.
النتيجة: يحب المسلمون الخير والهدى للناس.
ويمكن أن تكون ذات النتيجة مع تباين في الصغرى:
الكبرى: تحب خير أمة الخير والهدى للناس.
الصغرى: يحب المسلمون الخير والهدى للناس.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الخامسة: السمت والفعل الحسن خير دعوة للصلاح، فصحيح أن الآية محل البحث ذكرت أمر المسلمين بالمعروف إلا أنها تدل على حسن فعل المسلمين من وجوه:
الأول: وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) والذي يدل بالدلالة التضمنية على إتيانهم للمعروف، وإجتنابهم للمنكر.
الثاني: صدور الأمر بالمعروف عن ملكة التقيد به، وكذا بالنسبة للنهي عن المنكر.
الثالث: الأمر بالمعروف رشحة من رشحات الإيمان وقوله تعالى (وتؤمنون بالله) وأيهما أكثر تأثيراً في الناس الفعل الحسن للمسلمين، أم أمرهم بالمعروف، والجواب لكل منهما نفعه وأثره، ولكل أجره وثوابه، قال تعالى ( عن الله لا يضيع .. عامل من ذكر وانثى ) .
إلا أن الآية جاءت بخصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه شاهد على أمور :
الأول: تأثير الأمر والنهي على الناس.
الثاني: حاجة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح نفوسهم، وتشمل هذه الحاجة ذات الآمر وإن كان من أهل التقوى واليقين لما فيهما من تثبيت الإيمان وبعث السكينة في النفس.
الثالث: مجيء الأجر والثواب على الأمر والنهي، نعم يأتي للمسلم الثواب من رؤية ومعرفة الغير بحسن سمته، سواء كان هذا الغير مسلماً أو كافراً إلا أن هذا الثواب أمر آخر، والتعدد فيه من فضل الله على المسلمين عامة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر منهم خاصة.
الرابع: بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين السمت والفعل الحسن عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول:كل منهما واجب على المسلمين.
الثاني: كل منهما من خصائص(خير أمة).
الثالث: الثواب والأجر العظيم على كل منهما، أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب غيري أي يتعلق بصلاح الغير وزجره عن المعاصي , بينما السمت الحسن وفعل الصالحات واجب غيري.
الثاني: يترشح النفع الذاتي من الواجب الغيري بمعنى أن الأمر بالمعروف سبيل لثبات الإيمان والدوام على فعل الصالحات، ويترشح النفع الغيري من الإيمان وفعل الصالحات، إذ يرى الناس المسلم في إنقطاعه لطاعة الله وحسن خلقه فيقتبسون منه.
الثالث: من الطاعات والصالحات ما تكون موقوتة ,وتأتي بأوقات مخصوصة كالصلاة اليومية، وصيام شهر رمضان على نحو اليقين، وأوان أداء مناسك الحج، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو واجب غير مؤقت، ويؤتى به حسب الحال ومناسبة الموضوع والمقام.
السادسة: جاءت آية القرآن بالثناء على المسلمين والبشارة بالمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة , فإن قلت سلمنا أن المسلمين لهم منزلة رفيعة في الآخرة، فكيف تكون لهم ذات المنزلة في الدنيا وهم يتعرضون للأذى والبلاء فيها، والجواب ما يصيب المسلمين من البلاء والأذى فيه أمور:
الأول: إنه من أسباب العز والرفعة.
الثاني: يتعلم المسلمون دروساً في الصبر والتحمل في جنب الله.
الثالث: تلقي الأذى والضرر بصيغ التقوى ومفاهيم الإيمان .
وكل من الأمور أعلاه يدل على أن المسلمين (خير أمة) وأن النعم التي تأتيهم تثبت أقدامهم هذه المرتبة السامية , وكذا الضرر والبلاء، قال تعالى[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا]( ).
فالله عز وجل هو الذي كتب للمسلمين منزلة(خير أمة) , وهو سبحانه الذي يبتليهم , مما يدل على عدم التعارض أو التزاحم بين الأمرين، وتكون منزلة(خير أمة) عوناً على التوفيق في الثبات في منازل (خير أمة) وهو مناسبة للجوء إلى الله عز وحل، وإظهار أسمى معاني التوكل عليه، ورجاء الرحمة من عنده، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
صلة قوله تعالى(ولا هم ينظرون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: مجيء ذم الكفار أعلاه بصيغة المبني للمجهول، ومجيء آية(كنتم خير أمة) بلغة الخطاب، وفيه بعث للنفرة من الكفر والكافرين، وترغيب بالإيمان، وتحبيبه إلى النفوس، نعم جاءت صيغة المبني للمجهول بخصوص حال المسلمين في الآخرة، ولكن بما فيه مدحهم والثناء عليهم , بقوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وفيه وجوه:
الأول: إتحاد ذات الصيغة مع تباين الحال بين المؤمنين والكفار.
الثاني: توكيد قانون في الإرادة التكوينية , وهو أن الآخرة دار الجزاء وليس فيها للإنسان عمل وسعي وكسب.
الثالث: بيان إنحصار الملك والقدرة بالله عز وجل، وفي التنزيل:[الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ] ( ).
(قانون الإمهال)
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار سعة وإمهال وتجدد الفرصة، وإقالة العثرة في أمور الدين والدنيا، أما في أمور الدين فإن الله عز وجل عز وجل فتح باب التوبة للناس وجعله قريباً منهم ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، ووجود (خير أمة) بين الناس، فإن قلت إن (خير أمة) ذاتها تحتاج التوبة، والجواب من وجوه:
الأول: من خصائص(خير أمة) المبادرة إلى التوبة والإنابة.
الثاني: لقد تفضل الله عز وجل وحث المسلمين على التوبة , قال تعالى[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )، وفيه بيان لإرتقاء المسلمين في مراتب الإيمان والعز بالتوبة.
الثالث: جاءت آية البحث بخروج المسلمين للناس، ويكون خروجهم على وجوه:
الأول: يخرج المسلمون وهم تائبون إلى الله.
الثاني: دعوة المسلمين الناس للتوبة.
الثالث: المسلمون أسوة حسنة في التوبة.
الرابع: لم يخرج المسلمون للناس بخصوص الدنيا وحدها، بل خروجهم للغايات الحميدة في الدنيا والآخرة , ومنها جذب الناس إلى منازل التوبة.
وأما بخصوص أمور الدنيا فإن الفرصة تتجدد للإنسان في الكسب والمعاش وتتهيء البلغة والوسيلة، وإن لم ينتفع منها الإنسان فتأتي مثلها أو حسن أو أقل منها، ليبقى سلاح البلغة حاضراً عند الإنسان، وهو من رحمة الله تعالى به، وعظيم النعم الإلهية في الدنيا .
وكما تتجدد البلغة يتجدد إمكان بلوغ الغايات الحميدة، وأسباب بعث الإنسان لتحقيقها لأن الدنيا (دار الإمهال) والسعة ومن يفوته بلوغ مقصده فإن الدنيا فيها سعة وأسباب للتدراك وإيجاد البديل والعوض، وهو من لطف الله، وأسباب التدبر في ماهية الحياة الدنيا وكيف أن الأسباب منقادة لله عز وجل، وهو سبحانه سخرها لخدمة الإنسان وقضاء حاجاته لتكون مناسبة لشكره لله عز وجل، وإتخاذها وسيلة لعبادة الله.
وجاءت آيات القرآن بتسخير الكواكب والأنهار والبحار، والموجودات الأرضية للناس، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
وهل يدخل (قانون الإمهال) فيما سخره الله عز وجل للناس، الجواب نعم، وتلك آية من بديع صنع الله إذ تدخل الإعتباريات في عالم التسخير لتكون الدنيا حدائق ناضرة، وتكون الفرص فيها كالثمار اليانعة، ومع أن المسلمين (خير أمة) فإن الإمهال لا ينحصر بهم، بل هو نعمة حاضرة ينهل الناس جميعاً منها، ويفرحون بها , وفيه مسائل:
الأولى: إنه تذكير بفضل الله، وعظيم قدرته وعمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الثانية: إقامة الحجة على الناس بالسعة والمندوحة.
الثالثة: الإمهال في الدنيا مصداق من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الحياة الدنيا.
الرابعة: بعث الناس على السعي والعمل في الدين وإجتنابهم اليأس والقنوط.
الخامسة: بيان التباين بين الحياة الدنيا والآخرة، إذ يستوعب قانون الإمهال أيام الحياة الدنيا .
وقد وردت مادة (مهل) في القرآن ثلاث مرات منها مرتان في آية واحدة قال تعالى[فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُويدًا]( )، وفيه إنذار للكفار، ودعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر وإنتظار ما سيحل بالكفار فإن البلاء والعذاب يحل بهم من عند الله، وقيدت الآية الإمهال بأنه(رويداً) أي قليلاً وفيه مسائل:
الأولى: الإخبار السماوي عن قرب نزول العذاب بالكفار.
الثانية: كل ما هو آت قريب سواء العذاب الدنيوي أو الأخروي.
الثالثة: بيان رحمة الله عز وجل التي يتضمنها الوعيد والتخويف، بأن يتدارك الكفار أمرهم، ويتوبوا إلى الله عز وجل.
الرابعة: في الآية نوع تحد وإعجاز، ودعوة للمسلمين والناس جميعاً لرؤية ما يحل بالكفار من البلاء العاجل.
الخامسة: قرب حلول العذاب الذي يدل عليه قوله تعالى(أمهلهم) وفيه وجوه:
الأول: المراد يوم بدر، إذ قتل فيه صناديد من قريش، وأسر المسلمون منهم سبعين.
الثاني: المقصود يوم القيامة، وقربه من الإنسان بلحاظ مدة أيامه في الحياة الدنيا، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من مات فقد قامت قيامته) ( ).
الثالث: إرادة المعنى الأعم من البلاء والعذاب في الدنيا ونزول العذاب الأليم في الآخرة وعدم إمهالهم يوم القيامة , قال تعالى[فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ).
والصحيح هو الثالث، فإن آية الإمهال إنذار للكافرين ودعوة للنبي والمسلمين للصبر على الأذى الذي يأتي من الكفار لأن الله عز وجل هو الذي ينتقم منهم، وقيل في تفسير الآية (لا تعجل علي في طلب هلاكهم بل اصبر عليهم)( )، ولا دليل على النهي عن الدعاء وسؤال الله عز وجل الإنتقام من الكافرين.
ولعل من أسباب نزول الآية دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكافرين، وفيها بعث للسكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وقد إنقطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله للدعاء يوم بدر وإستغاث والمؤمنون بالله عز وجل كما دعا على أشخاص من رؤساء الشرك من قريش .
والدعاء صلة بين المؤمنين والباري عز وجل , والإمهال يكون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للمشركين , ولا تعارض بين الدعاء والإمهال للتباين الموضوعي بينهما.
ومن الآيات في الآية التوكيد على الإمهال بما يبعث على الصبر والتحمل وعدم إصابة المؤمنين بالجزع واليأس، وإنتقل اللفظ من صيغة فعل في (مهل) إلى صيغة إفعل في(أمهلهم) التي تحمل على الأمر والوجوب، ثم قيد الإمهال بأنه قليل .
(قال ابن جني: لما تجشم التثليث جاء بالمعنى و ترك اللفظ البتة فقال (رويدا)) ( )، ولكن لفظ (رويداً) تقييد للإمهال وأنه ليس مطلقاً , أو على نحو القضية المهملة بل هو قريب , ومدة طغيان وفساد الكفار لن تطول في الأرض، سواء كأشخاص أو دول أو مبادئ وأفكار ضلالة، وهذا التقييد من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، وأن الإنسان يفسد فيها، فالإمهال القصير في مدته من علم الله، وتفضله بتنزيه الأرض من الفساد، فكأن الآية أعلاه تدعو الملائكة أيضاً للصبر على أرباب الكفر والضلالة، لأن العذاب قريب منهم ليس ببعيد , وتلك آية في مناسبة الخطابات القرآنية التي تأتي(لخير أمة) للملائكة في حسن عبادتها لله عز وجل، وبشارة للملائكة بأن الإمهال ثم الإنتقام خاص بالكافرين المفسدين، ولا يشمل المسلمين إذ أن آية الإمهال إنحلالية .
وتقدير الخطاب فيها للمسلمين أمهلوا الكافرين أمهلوهم رويدا.
ويدل التقييد في الآية أعلاه على إختصاص الإمهال بالحياة الدنيا، وليس من إمهال في الآخرة للأبدية ولطول أيامها , قال تعالى[وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] ( ).
السادسة: ذكر إستبانة وظيفة من وظائف المسلمين في خروجهم للناس بالإخبار بأن الكفار لا يمهلون يوم القيامة، وأن العذاب يأتيهم دفعة واحدة .
وجاءت الآيات بإنعدام الشفيع والناصر للكفار يوم القيامة , قال تعالى[وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]( )، إذ تتعدد مصاديق الخروج ووظائف المسلمين فيه مما يدل على جهاد المسلمين في الإصلاح , ويأتي هذا الإصلاح بالبشارة والإنذار، والوعد والوعيد، وتلاوة الآيات التي تكشف علوم الآخرة، وما فيها من الأهوال، ومنها:
الأول: إنعدام الإمهال في بداية العذاب.
الثاني: عدم وجود فترة في العذاب مع طول مدته، وعدم إنقطاع أيامه، وهو من عمومات قوله تعالى[عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( )، فالملائكة لا يفترون ولا ينامون و لا يقصرون في واجباتهم، قال تعالى[وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
الثالث: إنعدام التخفيف في شدة العذاب، وتعدد صنوفه.
الرابع: ليس من نهاية لعذاب الكفار , وقد يقال كيف يكون العقاب على ذنب قليلة مدته في الدنيا الخلود في النار، والله عز وجل هو الحاكم العادل، وهو الرؤوف الرحيم، والجواب من وجوه:
الأول: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار ومزرعة للآخرة، قال تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
الثاني: لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته، وعمارة الأرض بالصالحات، وتفضل وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب السماوية ,وأنعم على الناس بالنعم العظيمة، فمن يجحد بها ويستكبر عن عبادة الله يكون العذاب جزاء له.
الرابع: الوعيد بالخلود في النار سبب لتوبة الكثير من الناس، وصلاح الأمم، لأن الوعد والوعيد من الله حق وصدق، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً] ( ).
السابعة: بيان رحمة الله عز وجل في الدنيا بأمور:
الأول: حضور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس.
الثاني: وجود آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر , في كل زمان.
الثالث: تلقي شطر من الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقبول.
الرابع: الترغيب بالثواب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: تفضل الله عز وجل بإمهال الناس للإستماع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويأتي قوله تعالى(ولا هم ينظرون) ليكون موضوعاً للأمر بالمعروف بالدعوة إلى الإيمان وطلب السلامة في الآخرة وإنتقال العبد من حال الفزع والخوف من العذاب الأخروي إلى بحبوحة قوله تعالى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، وما فيه من الأمن والسكينة للفرد، وتجليات هذا الأمن على المجتمع بالغبطة والمودة بين أفراده، فلا غرابة أن يصف القرآن (خير أمة) بأنهم أخوة، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، بلحاظ أن آثار ومعاني الرضا والسعادة بالإقامة في النعيم الدائم تظهر عليهم في الدنيا .
وهل المسلمون أخوة في القيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجواب نعم، وهو المستقرأ من لغة الخطاب في آية البحث (تأمرون بالمعروف) .
وإذا أمر أحد المسلمين بالمعروف سقط عن الآخرين بإعتباره واجباً كفائياً، وهل يأتي الثواب للآخرين عندما يقوم به أحدهم الجواب نعم، وهو من أسرار ودلالات الواجب الكفائي وفضل الله بالتخفيف فيه، وإنابة المتحد عن المتعدد، ويترشح الثواب النوعي العام من وجوه:
الأول: توجه الخطاب بالتكليف بالأمر بالمعروف للمسلمين جميعاً.
الثاني: نعت المسلمين بأنهم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر.
الثالث: معرفة الناس بأن المسلمين هم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، وحذرهم من فعل السيئات لوجود (خير أمة ) تزجرهم عنها.
الرابع: قبول فريق من الناس الأمر بالمعروف بإتيانه، وقبول النهي بإجتناب المنكر.
الثامنة: ترى ما هي الصلة الموضوعية بين قوله تعالى(ولا هم ينظرون) وبين قوله تعالى(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) الجواب من وجوه:
الأول: بعث المسلمين على التحذير من أهوال يوم القيامة.
الثاني: التوكيد على أن عالم النشور والحساب حق قال تعالى[وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ]( ).
الثالث: تفقه المسلمين في الدين، وجعلهم مؤهلين للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ صدوره عن معرفة وعلم، وفيه حجة على الناس وترغيب بدخول الإسلام لما يدل عليه من إرتقاء المسلمين في سلم المعارف، وإرتكاز قولهم وفعلهم إلى العلم، وتجلي معاني الحكمة في حسن سمتهم ، وهو من خصائص (خير أمة) وتخلف الأمم الأخرى عن اللحوق بها في باب العلم والمعرفة.
فإن قلت إن الأمم الأخرى أكثر إرتقاء في باب الصناعات والتطور التقني.
والجواب من وجوه:
الأول: المدار في الأمر بالمعروف تعيين مصاديق المعروف ومرتبة وكيفية الأمر به.
الثاني: الأمر بالمعروف تنمية للملكات العقلية، والتمييز بين الأمر الحسن والقبيح، وفيه نفع عام للناس جميعاً.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة للتطور الصناعي، وسبب للبركة في العمل والسعي في باب التجارات والصناعات .
الرابع: موضوعية خواتيم الأعمال في معرفة سنخيتها وماهيتها وإعتبارها في عالم الحساب والجزاء، لذا جاء الإنذار بقوله تعالى(ولا هم ينظرون) يتعلق بالكفار وإن كانوا من أهل الصناعات التقنية العالية.
الخامس: الأمم ذات الإرتقاء في مراتب الصناعات، إنما هي بلحاظ الدول، وفي تلك الدول أمة من المسلمين، ومن بين علمائها عدد من المسلمين، والشواهد عليه كثيرة وظاهرة، وتلك آية في خصائص(خير أمة) وكيف أنهم يجمعون بين الإيمان والعلم، وفيه ترغيب للعلماء الآخرين بدخول الإسلام.
السادس: إجتماع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الثورة الصناعية الكبرى حاجة للعلماء والناس لما فيه من أٍسباب الوقاية من إستعمال العلم في الإضرار بالناس وشن الحروب بالأسلحة الفتاكة وهو أمر ظاهر للوجدان .
وفيه شاهد على حاجة الأجيال المتعاقبة من الناس لخير أمة ولزوم جهاد المسلمين في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع الفناء وهلاك الناس بالأسلحة النووية، ومناهج الكفر والضلالة والعناد، والحروب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى.
ويأتي قوله تعالى(ولا هم ينظرون) مادة وموضوعاً للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لزجر رؤساء الدول وأصحاب القرار من شن الحروب، وإدارة المعارك , ووقوع جريمة القتل الجماعي بالأسلحة العلمية المتطورة ز
وهذا الزجر بالوعيد القرآني (ولا هم ينظرون) من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في الرد على الملائكة الذين إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض بأنه يفسد فيها , ويسفك الدماء، فإن الزجر عن القتل مستمر ومتصل في الأرض لا يغادرها أبداً لأن (خير أمة) باقية إلى يوم القيامة , وهي دائبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفارقها أبداً.
التاسعة: من إعجاز آية البحث مجيؤها بخصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفيته في جذب أسباب المدح والثناء على المسلمين، أما قبول وإستجابة الطرف الآخر المأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر فهو أمر إضافي للأجر والثواب.
لذا فإن إختيار المسلم للكيفية المناسبة في مراتب الأمر والنهي من سبل تحقيق النفع الأمثل من الأمر والنهي، ونيل الثواب الجزيل، وجاء قوله تعالى(ولا هم ينظرون) لبعث المسلمين على إعتماد صيغ الوعظ والإنذار والتخويف بالعذاب الأخروي ، وبيان حرصهم وحبهم للناس بالسعي في مدة الإمهال وهي الحياة الدنيا لنجاة الناس من العذاب الخالي من الإمهال والفترة في مدته وشدته ,وما يسببه من الألم الشديد.
لقد جاءت آية البحث بإستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأرض ليكون واقية من تفشي السيئات، وظهور المعصية، فكلما ظهر إفتتان وفتنة للناس كان الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر حاضرين في الميدان قبلها وأثناء الإبتلاء بها وبعد إنقضائها وزوال أثرها، وهم مسلحون بآيات القرآن التي تتضمن إنذار أرباب الكفر والباطل بعدم الإمهال يوم القيامة، قال تعالى[فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ]( )، وفيه وجوه :
الأول: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار، والإرباك في صفوفهم.
الثاني: إنه دعوة عقلية ووجدانية لأتباعهم بالتخلي عن نصرتهم وإعانتهم .
الثالث: لا ينحصر توجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برؤساء الكفار على أمل هدايتهم وأتباعهم وأنصارهم ، بل يتوجه إلى الناس جميعاً بعرض واحد، فيأتي الأمر والنهي للأتباع مثلما يأتي للمتبوعين، ليكون حجة على كل واحد منهم، ورحمة ولطفاً خاصاً به، وسبباً لهدايته وصلاحه، وهو من عمومات الخطاب التكليفي الذي يتوجه إلى المكلفين على نحو الإنحلال والتعدد .
العاشرة: قد تتغلب النفس الشهوية على الإنسان، وينشغل باللهث وراء الدنيا، وينقطع إلى المال وزينة الدنيا، ويجعلها هدفاً وغاية فلا يلتفت إلى أحكام الحلال والحرام، والمقدمات الشرعية والعقلية المناسبة، فترفع (خير أمة) بوجهه راية سماوية هي(ولا هم ينظرون)، وفيه مسائل:
الأولى: ترفع أمة عظيمة الراية في وجه فرد واحد، مما يدل على عدم التكافئ، وظهور الترجيح للأمة.
الثانية: بيان المدد الإلهي للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بجعل الرجحان والكثرة عندهم.
الثالثة: تجلي صحة وحسن فعل (خير أمة) في دعوتها إلى منع غلبة النفس الشهوية.
الرابعة: فضح قبح اللهث وراء الدنيا بالباطل.
الخامسة: توكيد حاجة الناس لخير أمة، وفضل الله عز وجل في خروج المسلمين للناس بمبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية.
السادسة: يضفي قيام (خير أمة) بالتذكير بعالم الآخرة وحال الكفار فيها أهمية خاصة على هذا التذكير، ويجعل له موضوعية عند الناس بالإضافة إلى حقيقة وهي أن (خير أمة) لم تبين قانون عدم إمهال الكفار في الآخرة عن إجتهاد وإجماع منها، بل هو أمر من الإرادة التكوينة , وإخبار نزل من عند الله للمسلمين والناس جميعاً، ليكون حرباً على الفساد في الأرض لا بد لها من بيانه لأنه من المصاديق الواجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحادية عشرة: في الصلة بين قوله تعالى(ولا هم ينظرون) وبين(تؤمنون بالله) وجوه :
الأول: التباين الجهتي والموضوعي بين الآيتين، وبيان حقيقة وهي وجود المتضادين في القرآن بما ينفع في جذب الناس لمنازل التوبة وهدايتهم وصلاحهم، وهذا التضاد ونفعه وآثاره الخاصة والعامة من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في رد الله عز وجل على الملائكة عندما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، وجعل الله عز وجل الآخرة دار الحساب والجزاء وتفضل بالقرآن نذيراً وبشيراً في الموضوع الواحد.
فخير الأمة التي تحذّر من أهوال يوم القيامة وعدم إمهال الكفار فيه تأتيها البشارة بالسعادة والغبطة يومئذ , قال تعالى[وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] ( ) .
وأما الذين يصرون على المعاصي فيكون جزاؤهم الخلود في النار، ومن الآيات أن تأتي البشارة لخير أمة مع قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيصدرون عن رضا وطمأنينة بحسن عاقبتهم.
الثاني: من خصائص التباين الموضوعي بين الآيتين، أنه مرآة للتضاد والتباين في الجزاء يوم القيامة، وهو سبيل لهداية الناس للنجاة من عذاب(ولا هم ينظرون) .
وتتجلى هذه النجاة بالإيمان بالله وإتباع نهج (خير أمة) في سمتها وصلاحها وطاعتها لله ورسوله، وفي مؤمن آل فرعون ولومه لقومه ورد في التنزيل[مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: تكون الدعوة من(خير أمة) إلى الأفراد والجماعات , وليس من الأفراد إلى الجماعات.
الثاني: لا تنحصر دعوة المسلمين لعبادة الله بقومهم بل هي عامة وشاملة للناس، وليس للمسلمين قوم مخصوصين , فهم من أمم شتى تجمعهم أخّوة الإيمان والتمسك بالكتاب والسنة , قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الثالث: إعلان وجهر المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الخشية من الظالمين.
الرابع: رجوع الآمر بالمعروف من المسلمين متحداً أو متعدداً إلى فئة وأمة ودولة للإسلام تنصره وتذب عنه وتثني عليه في فعله , وأنه قام بواجبه نيابة عنها.
الخامس: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس على نحو القضية الشخصية، بل هو قضية نوعية عامة ومتجددة ي كل زمان.
وفي هذه الوجوه مجتمعة ومتفرقة دلالة على حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسرار تفضيله على الأنبياء السابقين، وجعل أمته (خير أمة) بين أهل الأرض.
الثالث: المؤمنون في مأمن من الوعيد في قوله تعالى(ولا هم ينظرون) إذ يكون بعثهم سلاماً وآمناً لهم ويدخل عليهم الملائكة يوم القيامة بأسباب السكينة والسعادة[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] ( ).
الرابع: بيان السبيل للنجاة من الوعيد بعدم الإمهال والسلامة يوم القيامة من مصداقه الواقعي بإختيار الإيمان الذي هو علة خلق الناس، وإنتشارهم في الأرض، وعدم تركه إلى منازل الكفر والجحود.
الخامس: من إعجاز القرآن أن الآية القرآنية مدرسة كلامية في ذاتها وفي جمعها مع غيرها من الآيات، وجاءت آيات القرآن بالأمر بتقوى الله للسلامة من العذاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
السادس: أختتمت آية البحث بقوله تعالى(وأكثرهم الفاسقون) ليجتمع في خاتمتي الآيتين الذم والوعيد للخارجين عن طاعة الله، والذين إختاروا الكفر بعد الإيمان.
الثانية عشرة: ورد لفظ(لا ينظرون) ست مرات في القرآن أربعة منها وعيد للكافرين والظالمين وإخبار عما يحل بهم من الآخرة، وبيان ضعفهم وعجزهم عن دفع العذاب عن أنفسهم , وفيه وجوه :
الأول: إجتهاد المسلمين في دعوة الناس للإحتراز والإستعداد ليوم القيامة بالتوبة وسبيل الصلاح وليس لهم طريق آخر غيره .
الثاني: إستحضار عالم الآخرة , وطرد الغشاوة عن الأبصار .
الثالث: تقريب مواطن يوم القيامة إلى أذهان الناس , قال تعالى[إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ]( ).
الرابع: توكيد إنعدام الناصر للكفار في الآخرة ،
الخامس: إنقطاع حبل المودة بين الكفار , وصيرورة المحبة عداوة بينهم , قال تعالى[الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ]( ).
السادس : ليس من إمهال يومئذ لقبول التوبة والإعتذار.
صلة آية[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، بهذه الآية
وفيه مسائل:
الأولى: تتولى(خير أمة) مسؤوليات الحث على التوبة والإنابة وبيان منافعها للناس عموماً، وتلاوة آيات التوبة والتدبر في معانيها ودلالاتها.
الثانية: إبتدأت آية السياق بأداة الإستثناء (إلا) والمستثنى منه على وجوه:
الأول: نزول اللعنة بالكفار , وهي على شعب:
الأولى: لعنة الله والطرد من رحمته.
الثانية: لعنة الملائكة.
الثالثة: لعنة الناس أجمعين.
الثاني: الجزاء والعقاب الأليم النازل بالكفار.
الثالث: حرمان الفوز بالهداية من الله عز وجل، قال تعالى[لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الرابع : عدم الإمهال في العذاب لقوله تعالى(ولا هم ينظرون).
الخامس: الكفر بعد الإيمان.
السادس: الجحود بعد الإقرار بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بجريان المعجزات على يديه.
السابع: الخسران واللبث الدائم في العذاب الأليم، قال تعالى[وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ]( ).
الثامن: إختيار الكافر غير الإسلام ديناً.
التاسع: عدم قبول ملته المخالفة لمبادئ التوحيد.
العاشر: ظلم النفس بالكفر وحجب أسباب الهداية عنها.
وهذه الوجوه مع تعددها وكثرتها كلها من معاني الآية الكريمة، وفيه آية إعجازية في مضامين آية السياق بأن يأتي إستثناء متحدا ليشمل المتعدد من المستثنى منه، وفي هذا المتعدد وجوه:
الأول: شمول المستثنى منه لأمور الدنيا والآخرة.
الثاني: دعوة الناس لإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة.
الثالث: إقامة الحجة على الذين كفروا.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار لكثرة الأسباب التي تحول دون فوزهم بالتوبة وقبولها.
الخامس: ترغيب الكفار بالتوبة والنجاة من العذاب الأليم، وحثهم على التدبر في آيات القرآن ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
السادس: بيان الفوز وإحراز النجاح بترك الكفر والضلالة ومفاهيمها.
السابع: ذكر المستثنى منه على نحو التعدد وسيلة لتفقه المسلمين في الدين، وإرتقائهم في المعارف والعلوم.
الثامن: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة التوبة، والنجاة من العذاب الأليم الذي يلحق الكفار.
التاسع: إعراض المسلمين عن الكــفار, وإجتنــاب الإنصــات لهم لغضب الله عز وجل عليهم، قال تعالى[وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ]( ).
العاشر: آية السياق من الشواهد على حاجة الناس جميعاً لخروج المسلمين لهم وبيان أحكام الشريعة، وأسباب التخلف عن النجاة في النشأتين.
الحادي عشر: في خروج المسلمين للناس نفع عظيم للمسلمين أنفسهم لما فيه من الحث على التوبة، ودخول الناس الإسلام , وبلحاظ الجمع بين الآيتين يكون هذا النفع على وجوه:
الأول: نزول الوهن والضعف بالكفار، وبعث أسباب الخصومة والخلاف بينهم.
الثاني: إصابة الكفار باليأس والقنوط وفقدان الأمل لما ينتظرهم من العذاب، وتعدد أسبابه.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار.
الرابع: ملاحقة لغة الإنذار والذم للكفار بتلاوة المسلمين لهذه الآيات.
الخامس: جعل الرحمة بالناس تملأ قلوب المسلمين بوعظ وتخويف الكفار من العذاب .
ويأتي هذا التخويف بلغة البيان والنص الجلي الذي لا يقبل التعدد المتباين في التأويل ليكون مدرسة للمسلمين في كيفية وصيغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: وقوع الزيادة عند المسلمين من جهات:
الأولى: كثرة عدد المسلمين ومبادرة الناس للتوبة ودخول الإسلام.
الثانية: زيادة إيمان المسلمين وبلوغهم مراتب التقوى لإدراك الحاجة إلى التوبة، وما لها من المنافع العظيمة، وتجلي الآيات لخير أمة بدخول الناس فيها فراراً من الكفر والضلالة والفسوق.
الثالثة: زيادة تفقه المسلمين في الدين، ورؤية الآيات جلية واضحة، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
الرابعة: إستمرار وتوثيق معاني الأخوة بين المسلمين لأنه من مصاديق الصلاح الذي ذكرته آية السياق (وأصلحوا).
الخامسة: زيادة سعي المسلمين بين الناس لهدايتهم وتقريبهم إلى منازل الإيمان، وترغيبهم بالتوبة وهو من عمومات قوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) فلا أحد يعلم المنافع العظيمة للمسلمين على أهل الكتاب والكفار، إذ أن رفع المسلمين للواء التوحيد، وتلاوة الآيات القرآنية النازلة من عند الله التي تؤكد أن باب التوبة مفتوح، رحمة وأمل متجدد، وضياء ينير دروب السالكين إلى سبل الرشاد.
السادسة : لم تقل آية السياق(إلا الذين تابوا وأصلحوا) بل قيدت التوبة بقوله تعالى(من بعد ذلك)، وفيه وجوه:
الأول: بيان سعة رحمة الله عز وجل في إطلاق العفو، وعدم حصره في موضوع مخصوص.
الثاني: دعوة(خير أمة) لحث الناس على التوبة من الذنوب جميعاً، وعدم التبعيض فيها.
الثالث: التحذير من خلط الفعل الصالح بالسيء، والطاعة بالفسق.
الرابع: من بين مصاديق قوله تعالى(من بعد ذلك) قوله تعالى(والله لا يهدي القوم الظالمين) .
ومع هذا جاءت هذه الآية بوقوع التوبة بعده , وفيه مسائل :
الأولى: عدم التنافي والتعارض بين منع الهداية عن الظالمين وبين توبتهم .
الثانية : بيان آية في الإرادة التكوينية، وتوكيد لفضل الله عز وجل على الناس جميعاً في الحياة الدنيا بعدم غلق باب التوبة،قال تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ), وفيه دلالة على أن التوبة طريق وسبب للفوز بالسعادة الأبدية .
الثالثة: الإخبار بأن أدلة التوبة شاملة لأولئك الظالمين، وأن حجب الهداية عنهم خاص بتلبسهم بالظلم والجحود، أما لو رجعوا عن الكفر، ونزعوا رداء الظلم والتعدي وإختاروا التوبة فإن الله غفور رحيم.
السابعة: لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم و(خير أمة) بالجهاد في سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليتخذوه صبغة ووظيفة يعرفون بها، ويمتازون بها عن غيرهم.
وفيه نفع عظيم للناس إذ أنهم يجعلون هذه الحقيقة ماثلة أمام أبصارهم حاضرة عند الهم والعزم على فعل مخصوص لأن وراءهم أمة زاجرة عن المنكر آمرة بالصلاح والهدى، ولا سبيل للغش والتسويف معها وأنها أمة متحدة متآخية في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعيين مصاديق كل منهما، ومتأزرة في كيفية جذب الناس للمعروف وحجبهم عن المنكر، فهذه الأمة تدعو الناس للتوبة والإنابة على أقسام :
الأول: دعوة الفرد من المسلمين لشخص معين بالتوبة.
الثاني: دعوة الواحد من المسلمين للجماعة والمتعدد من الناس.
الثالث: حث الجماعة من المسلمين المفرد من الناس للتوبة والإنابة.
الرابع: قيام جماعة وأمة من المسلمين بدعوة جماعة وفرقة أو أمة من الناس للتوبة والصلاح.
ولو قامت أُسرة من أب وأم وأولاد بأمر شخص أو جماعة بالمعروف فتعتبر الأسرة في دعوتها من المتعدد , ومن الدعوة المذكورة في القسمين الثالث والرابع أعلاه.
الثامنة: آية السياق مدرسة لإرشاد(خير أمة) في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيها من تقييد التوبة التي يدعون لها بصلاح التائبين لقوله تعالى(وأصلحوا) ويحتمل هذا التقييد وجوهاً :
الأول: إنه مطلق في كل إنسان يسعى إلى التوبة، ويقدم عليها.
الثاني: إنه خاص بالقوم الظالمين الذين كفروا بعد إيمانهم كما مبين في الآيات السابقة .
الثالث : إنه عام بإستثناء الذين كفروا بعد إيمانهم .
والصحيح هو الأول، لأن التوبة عبادة وإيمان، ومقدمة لأداء الفرائض والواجبات، وهذا الأداء من أعظم مصاديق الصلاح، وتأتي الآيات بالدعوة للتوبة بذاتها، ومنها ما تفيد قبولها بأنها تأتي عقب فعل السيئات بجهالة .
وجاء القرآن بقرن التوبة بالإصلاح والبيان، قال تعالى[إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ] ( )، وليس من تعارض بين الآيات، ولا دليل على التفصيل، وأن التوبة على أقسام متباينة منها:
الأول: التوبة بلا شرط فيكتفى بذات التوبة.
الثاني: التوبة بشرط لا فلا يصاحب التوبة فعل السيئات.
الثالث: التوبة بشرط شيء , بأن تكون بشرط النصح , ومقرونة بالصلاح والبيان .
والصحيح هو الثاني والثالث، إذ أن شرط البيان في الآية أعلاه له حكومة التوسعة بشروط التوبة، وفيه شاهد على صحة الجمع بين آية السياق , والآية محل البحث من وجوه:
الأول: يحتاج البيان إلى إعلان الحجة والبرهان.
الثاني: البيان نوع تفقه في الدين، ومقدمة وثمرة له، وتلك آية في إصلاح المسلمين لمنازل (خير أمة).
الثالث: إرشاد للمسلمين في باب تعيين مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: من خصائص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه جامع للتوبة والصلاح والبيان , وفي المصداق المتحد منه فضلاً عن المتعدد.
التاسعة : لقد جاءت آية السياق بالإخبار عن فريق نجا بالتوبة والصلاح .
ترى هل من موضوعية في نجاته لقيام(خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم .
فمن آيات فضل الله في خلق الإنسان أنه جعل الواجبات العبادية توليدية في منافعها وما يترتب عليها من المنافع لصاحبها ولغيره، نعم قد يتوب الإنسان بذاته وبالتدبر في الآيات الكونية ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تعظيم المسلمين لشعائر الله وأدائهم للفرائض وتلاوتهم للقرآن أسباب مباشرة وغير مباشرة، لتكون الدعوة في المقام على وجوه:
الأول: قيام أفراد(خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق لتوبة وإصلاح الآخرين , وباعث على الهداية , قال تعالى[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا]( ).
الثاني: توبة الناس طريق لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم يصبحون من(خير أمة) فيتوجه لهم الخطاب التكليفي.
الثالث: في التوبة والصلاح ترغيب للمسلمين للمواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يتوب الإنسان ويصبح من أئمة الصلاح والدعاة إلى الخير، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ]( ).
العاشرة: في صيغ الجمع في قوله تعالى(إلا الذين تابوا) مسائل:
الأولى: بيان المنافع العظيمة لقيام(خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حصول التوبة المتعددة.
الثانية: كثرة التائبين حجة على الكفار الذين يصرون على البقاء في منازل الكفر.
الثالثة: فيه لطف من عند الله ببعث المسلمين على السعي الدؤوب في سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة: تدل صيغة الجمع في حصول التوبة على إزدياد(خير أمة) قوة وعزاً، وفيه تخفيف عنهم بالنقص الظاهر في أعدائهم، وما تسببه كثرة التائبين من الإرباك والإنكشاف في صفوفهم.
قانون الدنيا (دار الأمل)
لقد تفضل الله عز وجل على الإنسان , ورزقه ما لم يرزق غيره من الأجناس والخلائق بأمور:
الأول: تفضل الله ونفخ في آدم من روحه، ولم يرد نفخ من روح الله في غيره من المخلوقات، فمع عظيم منزلة الملائكة فإنهم لم يفوزوا بهذا الشرف العظيم.
الثاني: ليس من حصر للنعم الإلهية العظيمة المترشحة عن نفخ الله من روحه في آدم، ومنها توجه الأمر الإلهي إلى الملائكة بالسجود لآدم، قال تعالى[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
الثالث: تشريف آدم وحواء بالسكن في الجنة إلى حين الهبوط للأرض , والإقامة فيها .
الرابع: نسبة معصية آدم وحواء بالأكل من الشجرة بأنها من فعل وتحريض إبليس ونسبتها كمعصية إلى السبب وهو إبليس، قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
الخامس: مع أن هبوط آدم جاء متعقباً لزلة فعلها بأكله من الشجرة، فإنه حلّ في الأرض بصفة خليفة الله.
السادس: إقتران هبوط آدم بفتح باب التوبة له ولذريته إلى يوم القيامة، وهذا الإقتران رحمة إضافية تتغشاهم في الحياة الدنيا، وتصاحبهم في حال السعة والضيق والإيمان والضلالة.
فسواء كان الإنسان مؤمناً أو كافراً فإن التوبة تصاحبه وتدعوه إلى رياضها ذات البهجة، وهو نعمة عظيمة لطرد اليأس من النفوس، وجعل الإنسان في غبطة وسعادة .
وقد يصر الإنسان على إرتكاب المعاصي، ولكن باب التوبة لا يغلق بوجهه، فتأتيه الإنذارات ولغة الوعيد من أمامه، وتسعى لصده عن الإستمرار في ظلام المعاصي والسيئات، وكأنها تدفعه بلطف لدخول باب التوبة الذي يكون قريباً منه دائماً لا يبتعد عنه ولا ينغلق في وجهه، ولكن المعاصي تجعل غشاوة على بصره تحول دون أمور:
الأول: رؤية باب التوبة مع أسباب جذبه لدخوله.
الثاني: التأكد من كونه مفتوحاً على مصرعيه دعوة لدخوله.
الثالث: الحدائق الناضرة التي تستقبله عند دخوله باب التوبة.
وأقول تستقبله لأمور:
الأول: إنها ذات إحساس بالداخل إليها.
الثاني: التوبة نوع شكر لله عز وجل على النفخ من روحه في الإنسان ، وجعله خليفة في الأرض.
الثالث: هذا الإستقبال نوع ثواب عاجل , ولطف من الله لتثبيت أقدام التائب في منازل التوبة , وعدم الإرتداد عن الإيمان، فمن الآيات أن الله عز وجل يتعاهد المؤمنين في إيمانهم لذا جعل المسلمين(خير أمة أخرجت للناس)، قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ).
وتحتمل مصاحبة الأمل للإنسان في الدنيا وجوهاً:
الأول: الأمل عند الدخول في(خير أمة).
الثاني: عند الدخول في(خير أمة) وبقيد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الفرائض بلحاظ أن هذا الأداء من مصاديق قوله تعالى(وتؤمنون بالله).
الثالث: الأمل في حال إرتكاب الذنوب والمعاصي والحاجة، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ]( ).
الرابع: حال الهرم والشيخوخة والإبتلاء بالمرض والآفة المهلكة وقرب الأجل مطلقاً.
الخامس: عند إستحضار الموت وأهوال الآخرة، فيتبادر إلى الحضور الذهني الأمل بالسلامة والنجاة.
السادس: أوان الإنشغال بذكر الله، وأداء المناسك والعبادات، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
السابع: عند تلاوة أو سماع آيات القرآن التي تتضمن الرحمة الإلهية بالناس، وأسباب العفو والأمل.
الثامن: الأمل عند حال الشدة والضيق وموارد الإبتلاء.
وكل هذه الوجوه صحيحة وهي من مواضيع الأمل، فالأمل بالفوز برحمة الله ملازم للإنسان في جميع أحواله وبلحاظ صفة الإنسانية من غير حصر بالإيمان ودخول الإسلام، وهو من عمومات رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا، وهناك مسألتان:
الأولى: الأمل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وتتجلى قوة ووضوح أثر الأمل عند(خير أمة) إلا أنه غير معدوم عند غيرهم من الناس.
وإذا أنعم الله عز وجل على الناس بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها، والأمل ومصاحبته للإنسان نعمة عامة لا تختص بأمة دون أخرى ولا بجيل مخصوص من الناس.
الثانية: يتناجى أفراد(خير أمة) فيما بينهم بالأمل والسعي إليه , وإتخاذه أصلاً وموضوعاً في القول والعمل.
الثاني: ينبسط الأمل ومصاحبته للناس على العوالم الطولية الثلاثة الحياة الدنيا والبرزخ والآخرة، وبينها عموم وخصوص مطلق فالأمل في الدنيا عام وشامل للناس جميعاً أما بعد الموت فإنه يختص بخير أمة فيصاحبهم وتكون معهم أعمالهم من الصالحات، وآيات وسور القرآن التي يحفظونها , وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ). فيكون الأمل على قسمين:
الأول: الأمل في الحياة الدنيا، وهو عام للناس جميعاً.
الثاني: الأمل في الآخرة وهو خاص بخير أمة، ليفوز المسلمون بالأمل في الحياة الدنيا والآخرة، وينتفعون منه في النشأتين، أما الكفار فيصاحبهم الأمل أيام الحياة الدنيا وحدها، رحمة من الله عز وجل عليهم ودعوة لهم للتوبة والإنابة، فمع الإصرار على الكفر فإنهم لن ينتفعوا من باب الأمل , ويكون عليهم حسرة في الآخرة.
ومن الآيات أن آية السياق ذكرت التوبة على نحو الإستثناء من الخزي والعذاب الأليم بقوله تعالى(إلا الذين تابوا) لبيان أنها الفيصل بين القسمين أعلاه، وهي طريق العبور للإنتفاع الأمثل من الأمل مطلقاً والشامل للقسمين أعلاه.
ويبعث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمل في النفوس من وجوه:
الأول: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من جهات:
الأولى: رجاء الإصلاح.
الثانية: محاكاة الناس له في فعل الخيرات.
الثالثة: تحقق الإمتثال لأمر الله عز وجل بالأمر بالمعروف.
الرابعة: الأمل بإستجابة الناس له في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
الخامسة: محاكاة إخوانه المؤمنين له في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، بلحاظ كونه أسوة لأخيه لإقتفاء أثره، وبعث لإتيان ذات الواجب من الأمر بالمعروف أو إقامة الفرائض أو المبادرة في الصدقات الواجبة والمستحبة ونحوها.
الثاني: المتلقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهات:
الأولى: زوال الغشاوة عن بصره فيما يخص عواقب الأمور.
الثانية: إدراك حقيقة عالم للحساب وأن الدنيا مزرعة للآخرة.
الثالثة: رؤية حرص(خير أمة) على صلاحه وهدايته والتنعم الأمثل بقانون الأمل.
الرابعة: النجاة من القيام بالأفعال القبيحة، والسلامة في الدين بإتباع الآمر بالمعروف.
الخامسة: إنبعاث الأمل في الثواب العظيم الذي أعده الله عز وجل للصالحين، قال تعالى[إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ]( ).
والآية أعلاه خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبيان لجهاده في إصلاح الناس، وما يلاقيه من الأذى بسبب صدود الكافرين, والذي لا يأتي مجرداً بل يصاحبه ظلم وتعد من أرباب الكفر والجحود .
وتتضمن الآية الثناء على الذين يستجيبون لدعوة النبي ويتدبرون في آيات القرآن، ويقرون بإعجازها، ويظهرون الإيمان أملاً بالنجاة وشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينتفع التائب والمتعظ من رحمة الله , وولوج باب التوبة وإنكشاف بصره على صفحات مشرقة من الأمل القريب، فبعد أن كانت آماله محدودة وكالسراب، تصبح قريبة وليس لها حد لأنها رشحة من فضل الله، وسعة رحمته، أما الذي يصر على الكفر فهو كالميت الذي لا يسمع القول، وفي بيت الشعر المشهور في الأجيال المتعاقبة، والمختلف في قائله :
لقد سمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.
صلة(فإن الله غفور رحيم)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة فالله غفور رحيم.
الثاني: تأمرون بالمعروف فالله غفور رحيم.
الثالث: تنهون عن المنكر فالله غفور رحيم.
الرابع: تؤمنون بالله فالله غفور رحيم.
الخامس: ولو آمن أهل الكتاب فالله غفور رحيم.
السادس: وأكثرهم الفاسقون فالله غفور رحيم.
الثانية: من رحمة الله عز وجل بلحاظ الجمع بين الآيتين أمور:
الأول: جعل أمة من بين أهل الأرض هي أفضل الأمم.
الثاني: تعيين هذه الأمة وهم المسلمون.
الثالث: وصف المسلمين بأنهم (خير أمة).
الرابع: مجيء هذا الوصف بكتاب الله الخالد في الأرض وهو القرآن.
الخامس: نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتلاوة المسلمين لآياته من أسباب نيلهم لمرتبة(خير أمة) قال تعالى[إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ]( ).
الثالثة: إخراج المسلمين للناس من رحمة الله من وجوه:
الوجه الأول: إنه رحمة بالمسلمين أنفسهم من جهات:
الأولى: تشريف المسلمين بأسمى المراتب بين الأمم منذ خلق آدم وإلى يوم القيامة.
الثانية: إنه سبيل للجهاد في سبيل الله، والسعي في طلب مرضاته تعالى.
الثالثة: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لأن المسلمين لم ينالوا مرتبة(خير أمة) إلا بتصديقه وإتباعه وإخلاص العبادة لله عز وجل , وفق ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابعة: إنه مناسبة مباركة لإكتناز المسلمين للحسنات.
الخامسة: تولي المسلمين مسؤوليات الإصلاح، وإمامة الناس في الخيرات.
السادسة: حرص المسلمين على التقيد بسنن الأنبياء، والنفرة من الذنوب والمعاصي.
السابعة: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله ليفوزوا بالثواب العظيم.
الثامنة: التعاون والتعاضد العام بين المسلمين لجذب الناس إلى مراتب التوبة.
التاسعة: إمامة المسلمين للناس في سبل الإستغفار وسؤال العفو من عند الله.
العاشرة: إتخاذ المسلمين الدعاء لإستدامة بقائهم في مراتب(خير أمة).
الوجه الثاني: خروج المسلمين للناس رحمة بأهل الكتاب من جهات:
الأولى: دعوة أهل الكتاب للتدبر في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات التي صاحبتها، ومنها المدد الملكوتي له ولخير أمة في معارك الإسلام الأولى، فقد كان اليهود ساكنين المدينة المنورة وعاشوا قريبين من نزول الآيات، وشهدوا تفاصيل معارك الإسلام الأولى، وكل فرد منها آية إعجازية من وجوه:
الأول: أسباب مقدمات المعركة ودفاع المسلمين عن أنفسهم.
الثاني: بين إستعداد(خير أمة) وإستعداد كفار قريش للمعارك تباين من جهات:
الأولى: تهيء وإعداد قريش للمعركة لعدة شهور قبل بدئها لذا بادرت للهجوم وفاجئت جيوش الكفار المسلمين وهي على مشارف المدينة.
الثانية: بذل قريش الأموال الطائلة لتهيئة مستلزمات المعركة وحشد الجنود، وإعطاؤها الوعود الكثيرة للأفراد للخروج معها في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهذه الأموال والوعود شاهد على مخالفة الأتباع وترددهم في الخروج معهم، وهي فرع تدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحرصهم على إجتناب قتاله.
فإلى جانب نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن من خصائص نبوته فزع وخشية الناس من قتاله لتجلي المعجزات التي تدل على صدق نبوته.
الثالثة: كثرة عدد ومؤن الكفار في زحفهم للقتال، وتعدد مهاراتهم وخبراتهم القتالية، بخلاف المسلمين، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثالث: إنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الدعاء قبل وأثناء المعركة، وإظهارهم حسن التوكل.
الرابع: نزول المدد السماوي للمسلمين بنزول الملائكة، لتوكيد أنهم(خير أمة) فلم تلق أمة من الموحدين ذات النوع من المدد على مر التأريخ , قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الخامس: إنتهاء المعركة بنصر المسلمين، وهزيمة الكفار، فإن قلت بإستثناء معركة أحد، فالجواب ليس من إستثناء في المقام فذات النتيجة سور جامع لكل معارك المسلمين وإن تباينت كيفية النصر بينها، فقد عجز الكفار عن تحقيق غاياتهم الخبيثة في معركة أحد، وإنهزموا بخسارة وذل، قال تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السادس: إزدياد عدد وقوة المسلمين وظهور الضعف والوهن بين الكفار بعد كل معركة يلتقون فيها.
ومن أهل الكتاب من كان يرى تلك الوقائع والحقائق، ومنهم من يسمع عنها، ويدرك الجميع ما فيها من دلائل النبوة، وحسن إختيار المسلمين، وأنهم خرجوا للناس للحرب على الكفر والضلالة، وأن الوظيفة العقائدية تقتضي إعانتهم ونصرتهم، لذا ترى دولة الروم والنجاشي لم ينتصروا للكفار في معارك الإسلام الأولى، مع أن الكفار بعثوا الوفود، وسعوا في تحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أراد الله عز وجل بخروج (خير أمة) عزاً لأهل الكتاب بدعوتهم للإسلام، ومنع الكفار من التعدي عليهم، سواء في المدينة المنورة أو على مستوى العالم، وجاء القرآن بالتوثيق السماوي لهذه الحقائق، ففي المدينة كان اليهود يتوعدون الكفار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنتزاع حقوقهم وكف أذاهم، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام لمّا أخبرت اليهود تبعاً الذي غزا المدينة وأراد البقاء فيها بأنه لا يستطيع لأنها مهجر نبي فخلّف حيين من أسرته هما (الأوس و الخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود) ( )، ولكن اليهود صدقوا من وجوه:
الأول: هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة.
الثاني: إقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
الثالث: لا يستطيع تبع أو اليهود أنفسهم أو غيرهم إقامة دولة فيها إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذا الفراغ مقدمة ودليل حسي على لزوم نصرته .
وتجلي معاني الصدق في أخبار نبوته من مضامين التوارة.
فمن الآيات في نبوته أنه لم يقاتل لفتح المدينة، ولم يشهر السيف لتأسيس دولة الإسلام، بل جعل الله عز وجل عاصمة الدولة الإسلامية بإنتظاره تأريخياً وعقائدياً، ولبشارات اليهود فيها موضوعية، وهي من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل .
الرابع: خروج الكفار من الديار والأموال كما ورد في الحديث أعلاه بتغير الموضوع، وإنتقال الأوس والخزرج من الكفر إلى الإسلام، وإذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
فقد أراد الله عز وجل للأنصار الحفظ والسلامة قبل البعثة ليكونوا نواة لتأسيس الدولة الإسلامية، وإحتضان أيامها الأولى، وتلك آية في تهيئة مقدمات(خير أمة) بدفع الأذى والكيد عن الأنصار لحين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسلامة المهاجرين من عيون وبطش قريش ورؤساء الكفر.
فببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان خروج وإنحسار للكفر والضلالة من المدينة، وإقامة لحكم الله، وأمن لليهود في أنفسهم وأموالهم من الإبادة والسبي والنهب والغصب، ونزول تشريع الجزية الخاصة بأهل الكتاب دون غيرهم من الناس، قال تعالى[حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ]( ).
الخامس: دخول فريق من اليهود الإسلام، وحسن إسلامهم، ومنهم من علماء بني إسرائيل، وهو من مصاديق أسباب مجيء اليهود إلى أرض الحجاز، فهم لم يأتوا إلا لإنتظار بعثة من يجدون البشارة بنبوته في كتبهم، ورجاء أن يبعث من بينهم .
وأراد الله عز وجل أن يكون من غيرهم , وأن يختص أتباعه بوصف (خير أمة) وهم المسلمون، وأن يكون باب الإنتماء لها مفتوحاً لليهود وغيرهم من الناس وإلى يوم القيامة، وبقاء هذا الباب مفتوحاً يحتمل وجوهاً:
الأول: إنه من مشيئة الله عز وجل، وفي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، أي أدخلوا في الإسلام، وتعاهدوه وأحكامه.
وروي أن قوماً من اليهود أسلموا وسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يبقي على تحريم السبت ولحم الأبل فنزلت الآية، لبيان لزوم الإمتثال في أحكام الإسلام على نحو العموم المجموعي، من كل فرد من أفراد المسلمين وهو من خصائص (خير أمة).
الثاني: إنه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء الزجر عن غلق باب الدخول في الإسلام، وهو يحتمل جهتين:
الجهة الأولى: تأتي السنة النبوية في طول الحكم القرآني وفرعاً له.
الجهة الثانية: السنة في المقام تشريع مستحدث، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، ليكون بقاء فتح باب الدخول إلى الإسلام تشريعاً من السنة.
الثالث: بقاء باب الدخول للإسلام مفتوحاً نهج إتبعه المسلمون وعليه إجماعهم وفتاوى علماء الإسلام من المتقدمين والمتأخرين، والصحيح هو الوجه الأول، وتدخل الجهة الثانية من الوجه الثاني والوجه الثالث أعلاه في طول الوجه الأول ويكونا فرع الوجه الأول وهو آية في إكرام المسلمين، ومن مصاديق مضامين آية السياق من وجوه:
الأول: إنه دعوة للناس جميعاً للتوبة والإنتفاع الأمثل من الإستثناء في قوله تعالى(إلا الذين تابوا) بلحاظ إنحصار التوبة بالإسلام وإتيان الفرائض، ويستلزم هذا الحصر بقاء باب الإسلام مفتوحاً.
الثاني: مجيء آيات القرآن بالترغيب بالتوبة والصلاح بالإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والوعد الكريم بالثواب العظيم لمن يدخل في صفوف (خير أمة).
الثالث: مجي آيات الإنذار والوعيد على البقاء على الكفر، والإصرار على تكذيب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه زجر عن البقاء على الكفر والإصرار على الجحود.
الرابع: مجيء الأوامر الإلهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة لأفراد (خير أمة) السابق منهم واللاحق، وفوزهم بالبشارة المطلقة التي تستوعب أفراده الطولية وفي النشأتين، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
الخامس: الملازمة بين (خير أمة) والصلاح، وعدم الإنفكاك بينهما، فيتحقق قوله تعالى(وأصلحوا) بدخول الإسلام على نحو الحصر والتعيين.
السادس: من شرائط التوبة قصد القربة، وأنها مصداق لطاعة الله، ويتحقق هذا القصد بالإنتماء لــ(خير أمة) فمن معاني الخير والتفضيل في المقام أهليتها للمجيء بقصد القربة في العبادات وإتخاذه سبيلاً لقبول الطاعات.
السابع: لما أختتمت آية السياق بقوله تعالى(فالله غفور رحيم) وبخصوص إستمرار فتح باب الدخول للإسلام، والإنتماء لخير أمة مسائل:
الأولى: تحقق مصداق مغفرة الله وقربها من العبد بترغيبه في ولوج باب (خير أمة).
الثانية: من يرد الله عز وجل هدايته وبعثه إلى نيل المغفرة يدخله في الإسلام، ويجعله يرى الضياء الذي يشع من مبادئه وأحكامه.
الثالثة: الدخول في(خير أمة) من معاني المغفرة والعفو من عند الله، فما أن ينطق الإنسان الشهادتين حتى ينال صفة كريمة وهي كونه من (خير أمة) ويشمله الثناء المتوجه لها من عند الله.
وبين الثناء الإلهي وعدم المغفرة تضاد وتناف، فلابد أنه نال المغفرة فإستحق الثناء , وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذي يشمله الثناء الإلهي تدركه المغفرة.
الصغرى: من يدخل في(خير أمة) يشمله الثناء الإلهي.
النتيجة: من يدخل في(خير أمة) تدركه المغفرة.
الرابعة: إن قوله تعالى(فإن الله غفور) وعد كريم منبسط على آنات الحياة الدنيا، ويشمل الناس جميعاً لوجوه:
الأول: أصالة إطلاق المغفرة في المقام .
وهل تعتبر بداية آية السياق تقييد للمغفرة بالتوبة والصلاح، الجواب لا، لأن خاتمة الآية جاءت عامة وعلى نحو القانون الكلي المتجدد.
الثاني: مجيء الآيات بالبشارة بعدم حصر أو تقييد المغفرة، قال تعالى[إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ]( ).
الثالث: مجيء الآيات بالبشارة بشمول المغفرة للذنوب والسيئات، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( )، لتتعلق المغفرة بالسيئات ذاتها، وفيه إكرام للإنسان، ودعوة له لترك منازل المعصية، وحث للفرار إلى حيث المغفرة والإفاضات التي تترشح من القرآن والسنة على(خير أمة).
الرابع: ورد تقييد لإطلاق المغفرة بخصوص الشرك بالله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الخامسة: جاء قوله تعالى( فإن الله غفور رحيم) بصيغة الجملة الخبرية، وهي في مفهومها بلحاظ الآية محل البحث على شعبتين:
الأولى: الآية خطاب للمسلمين، ومن معانيه وجوه :
الأول: تسليم(خير أمة) بأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم.
الثاني: تفقه(خير أمة) في الدين ومعرفة عواقب الأمور، وكيفية التدارك، وهداية الناس لأسباب التوبة.
الثالث: تقريب الناس الى منازل التوبة، وترغيبهم بالإستغفار وإصلاح القول والفعل.
الرابع: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الهداية، والفوز بالمغفرة والرحمة من الله.
الخامس: طرد اليأس من نفوس المسلمين، وحثهم على التوجه للناس ودعوتهم للتوبة وسؤال المغفرة من الله، وفي التنزيل[يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ).
السادس: بيان حقيقة وهي أن المسلمين لم ينالوا منزلة (خير أمة) إلا بمغفرة ورحمة من الله عز وجل، ولولا هذه الآية لم يخطر على أذهان المسلمين أن بين الأمم من هي (خير أمة) وأنهم الأمة التي نالت هذا الشرف السامي فمن رحمة الله عز وجل إخبار المسلمين بأنهم (خير أمة) , ويحتمل هذا الإخبار وجوهاً:
الأول: إنه بشارة كريمة في بلوغ هذه المرتبة الرفيعة.
الثاني: فيه وعد كريم بالفوز بنيل هذه الدرجة.
الثالث: إنه بيان عن أمر ومشيئة وحكم سابق من الله عز وجل.
الرابع: تعليق نيل المسلمين هذه المرتبة على تقيدهم بالفرائض والطاعات، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإستثناء الوجه الرابع، فإن الوجوه الثلاثة الأولى صحيحة وتامة، وليس من تعارض بينها، فمع أن إجتباء المسلمين لمرتبة(خير أمة) أمر سابق لخلقهم بدليل مجيء الآية بصيغة الفعل الماضي(كنتم) فإنه بشارة متجددة، ووعد كريم لما فيه من الثواب العظيم.
السابع: دعوة المسلم لسؤال المغفرة والعفو من الله عند إرتكاب الذنب وفعل المعصية، ومطلقاً أي حتى في حال السلامة من فعل السيئات، وجاء في التنزيل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الشعبة الثانية: الآية في مفهومها خطاب للناس، وفيه وجوه:
الأول: ترغيب الناس جميعاً بطلب المغفرة.
الثاني: إخبار الناس بأن طريق المغفرة هو الإنتماء لــ(خير أمة) خصوصاً وأن آيات المغفرة نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: دعوة الناس للإصغاء لآيات القرآن، وما فيها من البشارة بالمغفرة، وقربها من الناس بلطف من الله تعالى.
الرابع: الإخبار عن مغفرة الله الذنوب دليل على إحاطة الله علماً بالإيمان والأعراض والإعتباريات وأن الأفعال جميعها حاضرة عنده سبحانه لا تغيب عنه أبداً، لأن المغفرة تأتي على الذنوب وإن تقادم زمانها ولا ينحصر موضوعها بذنوب المستغفر والداعي، بل تشمل غيره من الأحياء والأموات إن شاء الله عز وجل، لذا يصح أن يدعو ويستغفر المسلم لغيره، (وفي الحديث القدسي: أدعني على لسان لم تعصني به) ( ).
الخامس: حث الناس على الإنصات إلى(خير أمة) في الدعوة إلى الله.
السادس: لما تفضل الله عز وجل وأمر (خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه سبحانه يسّر أسباب قيامهم بهذه الوظيفة العبادية الواجبة، وسبل ترتب الأثر والنفع عليها، فأخبر سبحانه بأنه غفور رحيم، فيمحو عن المسلمين ذنوبهم، بقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طاعة له سبحانه، ويقرب الناس إلى منازل الإستجابة لهذا الأمر والنهي .
لتبقى الدنيا حدائق ناضرة ذات بهاء، للبقاء فيها حلاوة في نفوس المؤمنين، لأنها دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمتثال لأمر الله عز وجل.
الوجه الثالث: رحمة الله عز وجل بالناس، وفيه جهات:
الأولى: لقد تفضل الله وبعث أنبياء للأمم والناس يبشرونهم بالثواب واللبث الدائم في الجنة على الإيمان وفعل الصالحات، وينذرونهم من العذاب الأليم على الكفر والجحود وإرتكاب المعاصي، وهذا البعث رحمة بالناس جميعاً , قال تعالى[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ] ( )،وقد فاز المسلمون بأمور:
الأول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء والمرسلين.
الثاني: يتعظ ويتعلم المسلمون من الأمم الأخرى.
الثالث: لا يصدق على الأمم الأخرى أنها تعلمت وإنتفعت من المسلمين إلا بالتوبة ودخول الإسلام.
الرابع: ليس من بعثة نبي بعد إرتقاء المسلمين لمنزلة (خير أمة) وتلك آية في جعل الإنسان خليفة في الأرض بلحاظ أن خروج المسلمين للناس فرع لأمور ثلاثة :
الأول: جعل خليفة في الأرض، قال الله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الثاني: نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للنبوات، فليس من نبي بعده تكون له أمة.
الثالث: نزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية.
الثانية: جدال المسلمين مع الناس بالموعظة والبرهان، وبذل الوسع لطرد الغفلة والجهالة عنهم، قال تعالى[وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ] ( ).
وبلحاظ الآية محل البحث تحتمل الآية أعلاه وجوهاً:
الأول: إستدامة غفلة أكثر الناس عن آيات الله، وبقاء ذات الكثرة مع خروج (خير أمة).
الثاني: خروج المسلمين للناس أزاح الغفلة عن الكثير منهم ، ولم يبق منهم إلا القليل.
الثالث: الكثرة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فهي أكثر من النصف ودون الكل، وخروج (خير أمة) للناس لينقص من عدد الغافلين ومواضيع الغفلة عندهم إلا أنهم يبقون على مرتبة أدنى من الكثرة.
الرابع: من الآيات في خروج الناس للمسلمين أن الغافلين يتناقصون طردياً.
وهو من عمومات خاتمة آية السياق (فإن الله غفور رحيم) فمن رحمة الله عز وجل بخروج المسلمين إقرارهم بالوحدانية والتسليم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتفكر في خلق السموات والأرض والذي هو آيات إنحلالية غير متناهية.
الخامس: إقامة المسلمين للفرائض اليومية وأداء الصيام والحج، ودفع الصدقات على نحو الوجوب دعوة للناس للتدبر في أفعالهم وأسرارها والعلة الغائية منها وهي مرضاة الله عز وجل وكيف أن الله عز وجل جعلها دار النبوة والكتاب، وأن السيادة فيها للإيمان الذي يأتي على الغفلة فيزيحها عن النفوس.
السادس: خروج المسلمين للناس سبب لتأخير العذاب عن الناس لأن هذا الخروج نوع بيان ولقبح العقاب بلا بيان، قال تعالى[ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ] ( )، ومن الآيات أنه ليس حجة فقط بل له وظائف متقدمة أثراً وزماناً على الحجة منها أنه أي خروج المسلمين رحمة بالناس، ودعوة لهم للتوبة والإنابة وهو من عمومات خاتمة الآية(فإن الله غفور رحيم) لما فيه من سعي المسلمين لبعث الناس على التوبة.
ترى ما هي النسبة بين التوبة والغفلة الجواب هي التنافي والتضاد، فالتوبة ماحية للغفلة وشاهد على زوالها وعدم بقاء أثرها.
الثالثة: في صلة قوله تعالى(غفور) بهذه الآية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل غفر للمسلمين ذنوبهم، وجعلهم (خير أمة) لتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهادهم في سبيل الله.
الثانية: لما أنعم الله على المسلمين بمرتبة (خير أمة) فإنه سبحانه فتح لهم باب المغفرة، ودلّهم على الإستغفار وأرشدهم إلى التوبة والإنابة.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل العز والمنعة للمسلمين، قال سبحانه[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، وأخبر بأنه الغفور ليلجأوا إليه رجاء العفو والمغفرة.
الرابعة: تفيد الصفة الحسنى لله عز وجل بأنه (الغفور) دعوة الناس للدخول في (خير أمة) والصبر في طاعة الله.
الخامسة: لما جاءت الآية محل البحث بقوله تعالى (تأمرون بالمعروف) جاءت آية السياق لبيان ثمرة الأمر بالمعروف وأنه يؤدي إلى المغفرة من وجوه:
الأول: الثواب والمغفرة للآمر بالمعروف.
الثاني: المغفرة للذي يكون سبباً وعضداً في الأمر بالمعروف.
الثالث: الذي يستجيب للآمر بالمعروف , فيقوم بفعل الصالحات، لقوله تعالى(إلا الذين تابوا وأصلحوا).
السادسة: توكيد بركات النهي عن المنكر، ومنافعه العاجلة والآجلة إذ تأتي المغفرة على ذنوب التائبين، وتزيح الغشاوة التي كانت على أبصارهم ليروا معاني البهجة التي تملأ الحياة الدنيا والصلات الإجتماعية، وتكمن في أداء العبادات، وثنايا آيات القرآن ولتنمو عندهم ملكة الإنقياد لأوامر الله، والفناء في حبه، قال تعالى[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ]( ).
فمن إعجاز القرآن مجيء الأمر والنهي بخصوص أفعال شخصية حاضرة ليتعقب الإمتثال الثواب العظيم والعفو والمغفرة، وتكون المغفرة من وجوه:
الأول: الوعد الإلهي بالعفو عن الذنوب.
الثاني: ندب الناس للتوبة، وترغيبهم بها.
الثالث: حث الناس على الدخول في (خير أمة)، قال تعالى[أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ]( ).
الرابع: بعث المسلمين على فعل الصالحات وإتيان القربات.
الخامس: اللطف الإلهي بتقريب الناس من الفوز بمغفرة الذنوب، وهذا اللطف لا ينحصر بموضوع مخصوص عاماً أو خاصاً بل هو متعدد ومتجدد وتوليدي وهو من أسرار إجتماع صفتي المغفرة والرحمة في خاتمة الآية بقوله تعالى(فإن الله غفور رحيم).
السابعة: لقد صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علة لتعدد الفضل الإلهي النازل على المسلمين، إذ أن الله عز وجل لا يعطي القليل والمتحد بل يعطي الكثير والمتعدد، وتكون المغفرة من أهم مصاديقه، قال تعالى[يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ) .
ليكون من أسرار التبعيض في قوله تعالى(من ذنوبكم) أن تأخير الأجل رحمة من عند الله ويصاحبها غفران الذنوب السابقة والمستحدثة.
الثامنة: لقد أمهل الله عز وجل الكفار مع تماديهم في فعل السيئات وإرتكاب الذنوب، فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشراقة مغفرة أطلت على الناس، وبداية عهد جديد يكون العفو فيه قريباً من الناس، لصيرورتهم على قسمين :
الأول: (خير أمة) وهم المسلمون.
الثاني: عامة الناس الذين أخرج الله لهم(خير أمة) تدعوهم إلى سؤال المغفرة، والسعي إليها، وتحثهم على الإعتبار من الأمم السالفة، وفي آل فرعون والذين سبقوهم من أئمة الضلالة، قال تعالى[كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ]( ).
التاسعة: لما شهدت آية البحث للمسلمين بأنهم(يؤمنون بالله) وهذه الشهادة مستقرأة من قوله تعالى(كنتم خير أمة) بلحاظ كبرى كلية، وهي أن التفضيل بين الأمم يتقوم بالإيمان بالله، وما ناله بنو إسرائيل بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، إنما كان بإيمانهم بالله وتصديقهم بنبوة موسى عليه السلام، ليتقيد الإيمان في أيام بعثة عيسى بالتصديق بنبوته , وفي أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق بنبوته والأنبياء السابقين، ليكون الإيمان السلام والطريق الذي يجذب المغفرة والعفو من الله.
العاشرة: من مصاديق الإيمان بالله التسليم بالوقوف بين يديه للحساب يوم القيامة , وفي التنزيل[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، وهذا التسليم علة للفزع إلى الله طلباً للمغفرة ورجاء السلامة والأمن من أهوال يوم القيامة.
الحادية عشرة: تتصف (خير أمة) بالسعي للمغفرة على نحو القضية الشخصية والنوعية، من وجوه:
الأول: الفرد من الأمة يدعو لأفرادها جميعاً بالمغفرة.
الثاني: المتأخر من الأمة يدعو للمتقدم بالفوز بالمغفرة، والمتقدم يدعو للمتأخر، ففي دعاء إبراهيم للمسلمين ورد قوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ] ( ).
الثالث: تدعو الأمة إلى الفرد منها بالمغفرة.
الرابع: يقوم الفرد والجماعة بما يكون بلغة للمغفرة ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: ترشح أسباب المغفرة من تلاوة القرآن وما في آياته من الإصلاح لطلبها ونيلها، وتأتي قراءة القرآن بقصد القرآنية وبقصد الدعاء والمسألة .
ومن الإعجاز أن اسم (الغفور) واسم (الرحيم) من أكثر الأسماء الحسنى وروداً في القرآن إلى جانب الآيات الكثيرة التي جاءت فيها مادة(غفر) و(رحم) وتعلقها بفضل الله , وقد ذكر إسم(الغفور والغفار) سبعاً وتسعين مرة، واسم الرحمن الرحيم مائة وإثنين وسبعين مرة، لتحمل(خير أمة) لواء الدعوة إلى رحمة الله، وتكون دعوتهم للناس جذباً لهم لمنازل المغفرة والرحمة.
الكبرى: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يدعون لمنازل المغفرة والفوز بها.
الصغرى: المسلمون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
النتيجة: المسلمون يدعون لمنازل المغفرة والفوز بها.
(بحث كلامي في الرؤيا)
لقد ملأ الله عز وجل الحياة الدنيا بأسباب الرحمة والمغفرة لخير أمة والناس جميعاً، وتواجه تلك الأسباب الإنسان في حضره وسفره، وفرحه وحزنه، وسعته وضيقه، وفي نهار وليله، فحتى عندما ينام وتتعطل أعمال الفكر والتفكير تأتيه الرؤيا لتكون حبلاً ممتداً بين الله عز وجل وروح العبد .
فيرى الرؤيا الصادقة ورؤيا الإنذارات والبشارات والمواعظ لجذب الإنسان إلى منازل الطاعة، ولتكون الرؤيا في المنام مدداً له في اليقظة وعالم الأفعال، ومدخلاً للدعاء وسؤال محو الأذى والضرر الذي تشير إليه الرؤيا، ولتبقى شاهداً على تعدد مصاديق رحمة الله عز وجل بالإنسان في الحياة الدنيا، وأنها سبيل للمغفرة وللنجاة يوم القيامة.
وبين الناس والأنبياء عموم وخصوص مطلق في عالم الرؤيا، فالنبي يأتيه الوحي، وتكون رؤياه جزء من الوحي، إلا أن هذا لا يمنع من رؤيته لأضغاث الأحلام، ويميز بفضل الله بين الإثنين.
أما الناس فرؤياهم ليست من الوحي ولكنها من اللطف الإلهي وتبليغ الناس الوقائع والأحداث وعلى نحو القضية الشخصية، إذ لا يشترك إثنان في رؤيا واحدة، نعم قد تأتي رؤيا معينة لأكثر من واحد، ومنها ما يسمى(أحلام المشاطرة) أي يتشاطر إثنان في مضامينها أحياناً، وأخرى في موضوعها، وإهتم العلماء الروس بالتخاطر وقابلية التخاطر، وأرادوا الإنتفاع منه في برنامجهم الفضائي للإتصال مع عقل رائد الفضاء من دون إتصال بالأسباب والوسائط الحسية الخمسة، ولكنهم لم يحصلوا على نتائج مثمرة، لأن الرؤيا رحمة من الله، ورزق سماوي للنفوس.
والعناية بالرؤيا وتعبيرها مصاحبة للإنسان منذ هبوطه في الأرض، كما إهتم بها الفلاسفة على إختلاف في تأويلهم لها .
وقال أرسطو(384-322) ق.م بالإعتقاد بعلاقة الأحلام بالغيب، وقال بتأثير الرؤيا على اليقظة وإهتم بأحاسيس الإنسان، أما سقراط فذهب إلى تفسير الأحلام على أساس الإفراط في الطعام والشراب، كسبب فيما يراه الإنسان في المنام من سفك دم أو فسق.
وجاء القرآن بمدرسة كلامية متكاملة عن الرؤيا وبيّن أقسامها، وأظهر علومها، وجعل(خير أمة) تنتفع منها الإنتفاع الأمثل، وذكر شواهد من رؤيا الأنبياء وما ترتب عليها من الوقائع الموافقة لتلك الرؤيا إذ ذكر سبعاً من الرؤيا، منها أربعة في يوسف عليه السلام رؤيا وتعبيراً، منها ما ورد حكاية عنه[يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( ).
وجاءت السنة النبوية بصفة مستحدثة في الرؤيا تختص بها (خير أمة) لتنتفع من الرؤيا وتتخذها ضياء ومقدمة وسبباً للدعاء والمسألة والتضرع إلى الله لتقريب مصداق رؤيا البشارة، ومحو مصداق رؤيا الإنذار، وفي الحديث : يكفي أحدكم يوعظ في منامه).
وفيه إشارة إلى فضل الله على المسلمين والناس في جعل الرؤيا عالماً خاصاً له سننه وضوابطه , وهو على وجوه:
الأول: إنها حبل ممدود بين الله وبين أرواح وعقول البشر.
الثاني: الرؤيا سبيل للهداية.
الثالث: إنها مادة لزيادة الإيمان.
الرابع: أنها مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: الرؤيا الصادقة رحمة من الله، وفيها صرف للبلاء عن الفرد والجماعة لأنها نوع ضياء للعمل وفق أحكام الكتاب والسنة وتحذير من المهالك.
وتأتي الرؤيا تعضيداً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: يرى المؤمن الرؤيا فيقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسعى في الإصلاح لدفع الضرر، وجلب المنفعة.
الثاني: يأتي الأمر والنهي للإنسان فيعرض عنه، فتجيء له الرؤيا فتكون عوناً للأمر والنهي، وتبعث في نفسه الفزع والخوف من السيئات وعواقبها، وتجعله يعشق الفعل الحسن، (وفي الحديث : الرؤيا المكروهة زاجرة زجرك الله تعالى بها).
وأيهما أكثر أثراً في الزجر عن السيئات النهي عن المنكر أم رؤيا الإنذارات، الجواب يترتب الأثر على كل منها، إلا أن النهي عن المنكر هو الأرجح والأهم في المقام من جهات:
الأولى: إنه باب لنيل الثواب.
الثانية: عدم إنتظار الغيب في الرؤيا، وقد لا تأتي، أما الأمر بالمعروف والنهي المنكر فيأتي على نحو الوجوب ومتعقباً للواقعة أو سابقاً لها.
الثالثة: الأمر والنهي من عالم اليقظة والواقع، والرؤيا من عالم المنام، والأول مقدم على الثاني في الموضوع والأثر والتأثير، وقد يغفل أو يتغافل الإنسان عن رؤياه أو يظنها أضغاث أحلام، أما الأمر والنهي ففيه أطراف متعددة من الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والمؤازر والمستمع له.
الرابعة: مواضيع الأمر والنهي متعددة وشاملة لأمور الدين والدنيا لذا أصلح الله عز وجل المسلمين لمنزلة (خير أمة) وأمرهم بالقيام بهما.
الخامسة: ليس في الأمر والنهي هزل، وفي الرؤيا أضغاث أحلام.
الثالث: إتحاد سنخية الصلاح والغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الرؤيا ما تكون صادقة، وهي مجتمعة ومتفرقة من اللطف الإلهي بالناس، وأسباب تقريبهم إلى منازل الطاعة .
أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته، سأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن.
وبالإسناد عن أبي أمامة قال : قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام) ( ).
صلة قوله تعالى(رحيم)، بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: من مصاديق رحمة الله في المقام أمور:
الأول: وجود أمة من الناس هي (خير أمة).
الثاني: تعيين(خير أمة) وعدم حصول الإجمال والترديد فيها، فهم المسلمون والمسلمات على نحو الحصر.
الثالث: ترشح منزلة (خير أمة) من بعثة خاتم النبيين وسيد المرسلين.
الرابع: مجيء القرآن بالشهادة للمسلمين بأنهم (خير أمة) وتمتاز هذه الشهادة بخصائص :
الأولى: سلامة القرآن من التحريف وإلى يوم القيامة، قال تعالى في وصفه [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
الثانية: إتصاف القرآن بأنه الكتاب الوحيد الذي تتلى آياته في مشارق الأرض ومغاربها كل يوم وبذات اللفظ والرسم وعلى نحو الوجوب ما دام الليل والنهار.
الثالثة: لقد أمر الله عز وجل بالتفكر والإستنباط من آيات القرآن ومعرفة مضامينها القدسية، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
ومن الإعجاز أن التدبر في الآية أعلاه متعلق بالآيات وليس بذات القرآن، مما يدل على أن كل آية مدرسة مستقلة في المعارف والعلوم، ومنها الآية محل البحث وشهادتها بأن المسلمين هم (خير أمة).
الرابعة: قد شهد القرآن لبني إسرائيل بالتفضيل على أهل زمانهم، وبيان علة التفضيل، وكيف أنه ينقضي ويفنى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الفيض ومصاديق من الرحمة والمغفرة مع نبوته لم تشهدها الأرض، بأن جعل الله أمته (خير أمة).
الخامسة: تتلو(خير أمة) القرآن وتتعاهد أحكامه ورسمه ولفظه ودلالاته وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الأمة التي تتلو وتتعاهد القرآن هي خير أمة.
الصغرى: المسلمون هم الذين يتلون ويتعاهدون القرآن.
النتيجة: المسلمون هم خير أمة.
الخامس: جهاد وسعي المسلمين للحفاظ على منزلة (خير أمة) بتوفيق ورحمة من الله عز وجل.
المسألة الثانية: لقد خلق الله عز وجل الناس للتسليم بروبيته المطلقة وطاعته وعبادته، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فأنعم عليهم بقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله واجباً على(خير أمة) مجتمعة ومتفرقة، ليكون طريقاً وبلغة لعبادة الله عز وجل وهو رحمة وخير محض، ونعمة من عند الله.
ترى لماذا لم يجعله الله عز وجل واجباً على الناس جميعاً، أو واجباً على(خير أمة) ومستحباً على غيرها من الأمم، الجواب من وجوه:
الأول: يشترط قصد القربة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو لا يصح إلا من المسلمين، وعلى القول بأن قصد القربة لا يشترط إنما المطلوب ذات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرادة المصداق الخارجي لكل من المعروف والمنكر في الخارج، فإن الأمر بالمعروف فرع الإيمان والعمل به، والنهي عن المنكر فرع الإقرار بحرمة المنكر ولزوم إجتنابه.
الثاني: من أهم مصاديق المعروف الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو الأصل في وجوه المعروف لذا يتوجه الخطاب بالإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس فهو ضرورة وحاجة خاصة وعامة .
الثالث: لقد أراد الله عز وجل لخير أمة الفوز بالثواب العظيم الذي يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المسألة الثالثة: لما أخبرت آية السياق بأن الله عز وجل (رحيم) جاءت الآية محل البحث بذكر مصاديق لرحمة الله عز وجل وهي:
الأول: إختيار المسلمين ليكونوا (خير أمة).
الثاني: تقدم هذا الإختيار زماناً على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من رحمة الله في الأجيال المتقدمة والمتأخرة، قال تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث: خروج المسلمين للناس من رحمة الله بهم وبالناس لما فيه من الصلاح وأسباب التوبة.
الرابع: إنعدام التقييد أو الشرطية في الأمم والفرق التي خرج لها المسلمون، إذ أنهم خرجوا للناس جميعاً، وفيه بشارة وهي وصول الإسلام والدعوة له إلى أقطار الأرض كلها، ووقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع بقاعها لإنتشار الناس في أصقاع الأرض، وإرادة الجنس الإستغراقي بالألف واللام في الناس فيه فالأصل هو الأول، إلا مع القرينة الصارفة للثاني.
المسألة الرابعة: من رحمة الله بيان وظائف (خير أمة) بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه إخبار عن اللازم وإرادة الملزوم، والملزوم هو تقيد (خير أمة) بسنن المعروف، الذي يأمرون به، وإجتناب المنكر الذي ينهون عنه، وكأنه من الإستصحاب القهقري فالأمر بالمعروف سبيل لتعاهد الآمرين به ليكون حفظه على وجوه:
الأول: قيام الذات بفعل المعروف.
الثاني: أمر الآخرين بما فيه خير وصلاح.
الثالث: إمتثال الطرف المأمور بالقيام بالمعروف، وتتداخل هذه الأطراف في تأثير بعضها مع بعض، فالوجه الأول وإن كان هو الأصل والأهم من بينها إلا أن للوجهين الآخرين أثراً في تثبيته، وهذا التأثير المتبادل بينها من رحمة الله، وشاهد على أن الدنيا كلها والخطابات التكليفية من رحمة الله بالمكلفين الموجود منهم والمعدوم.
الخامسة: في الجمع بين الآيتين بيان لرحمة الله في خروج المسلمين لهم من وجوه:
الأول: بيان فضل الله على الناس في خروج (خير أمة).
الثاني: هذه الأمة أتباع وأنصار سيد الأنبياء والمرسلين، وورثة الأنبياء.
الثالث: إقامة الحجة على الناس وتذكيرهم بوظائفهم العبادية، قال تعالى[فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ] ( ).
الرابع: خرجت خير أمة للناس وهي تخوض معارك الجهاد في سبيل الله، وتسعى لتحقيق النصر على الكفار، وإقامة دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذات دولة الإسلام أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
الخامس: بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام الإسلام دخل المسلمون في رحمة الله، فخرجوا بها ومنها ولها إلى الناس , قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ] ( ).
السادس: خروج (خير أمة) للناس دعوة لهم للصلاح والفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة.
السابع: لم تخرج (خير أمة) بذاتها بل خرجت بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورداء الخضوع والخشوع لله عز وجل, والعصمة من الذنوب والسيئات.
الثامن: من رحمة الله عز وجل بقاء التنزيل وأحكام النبوة حاضرة بين الناس بالقول والفعل والمصداق الخارجي الكثير.
التاسع: طرد الغفلة عن الناس، وإزاحة الجهالة عنهم أفراداً ومجتمعات قال تعالى[وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ] ( )، فلم يخرج أفراد وطائفة أو فرقة للناس، بل خرج المسلمون جميعاً للناس.
العاشر: ترغيب الناس بفعل الصالحات برؤية المسلمين أمة متحدة وتعمل في مرضاة الله عز وجل، وخروج المسلمين كأمة واقية لهم من التعدي والضرر.
الحادي عشر: دعوة الناس للشكر لله عز وجل على نعمة خروج المسلمين لهم، وعدم تركهم يقيمون على الجهالة والضلالة، وخروج المسلمين للناس من رشحات رحمة الله بالناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادسة: من رحمة الله عز وجل تقييد موضوع خروج المسلمين فهم يخرجون بوظائف مخصوصة ليس لهم تغييرها أو تحريفها أو تبديلها.
لقد إمتدت يد التحريف إلى الكتب السماوية السابقة، فأنعم الله عز وجل على المسلمين بجعل خروجهم أمراً بينّاً لا يقبل الترديد بين أمرين، فيجب عليهم في خروجهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يتجاوزونه.
ويتضمن لفظ(أخرجت) معان إعجازية بأنه ليس للمسلمين السكوت وترك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بد من قيامهم بها بين الناس وللناس في النشأتين، وتقييد خروج المسلمين على وجوه:
الأول: الصدور عن القرآن الكريم إماماً وقائداً، ولم يعلم المسلمون بخروجهم إلا من القرآن، وفيه أمور:
الأول: ذكر خروج المسلمين للناس بنص هذه الآية، ويعلم المليّون أن الصلة بين الله عز وجل والعباد هي ببعث الأنبياء ونزول الكتب من السماء، فجاء الخروج أمراً مستحدثاً، وفرع النبوة.
فإن قلت إن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وأنه قد تكون هناك أمم سابقة من الموحدين قد خرجت للناس، والجواب نعم وهو من فضل الله, وفيه مسائل :
الأولى: لقد جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وليس فيه ما يشير إلى خروج غير المسلمين للناس، بينما جاءت الإخبار عن خروجهم بالنص الصريح.
الثانية: هذا الخروج من الشواهد على تكامل الشريعة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )، فمن كمال الدين القيام بالأمر بالمعروف بين الناس وجذبهم لمنازل الإيمان.
الثالثة: ليس من أمة تعمل بالكتاب الجامع لأحكام الحلال والحرام وهو القرآن إلا المسلمين، فإستحقوا بهذا العمل الخروج للناس لأنه إصلاح وإستدامة لهذه الوظيفة العظيمة، فلا تقدر أمة على الخروج للناس إلا أن تتقيد بأحكام القرآن الكريم.
الرابعة: جاءت آيات القرآن والشواهد على أن المسلمين من الأمم السابقة كانوا مستضعفين في أغلب الأحوال، قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا]( ) .
فأنعم الله عز وجل على المسلمين بدولة وأمرهم بالدفاع عنها بالسيف والنفس والمال، وهذا الدفاع مقدمة للخروج، ومصداق له، وتلك آية في تفضل الله بإصلاح المسلمين للخروج وجعل مقدمته مصداقاً له، وكل مصداق للخروج مقدمة لغيره من مثله لتجدد الخروج، وتعدد موضوعات كل من المعروف والمنكر.
الثاني: آيات القرآن هي الفيصل والحكم بين المسلمين والناس في موضوع الخروج ووظائفه، ولقد مدح الله عز وجل المسلمين بوصفهم(خير أمة) في ذات موضوع الخروج، أي أن هذه الوصف لم يأت في آية أخرى منفصلة عن الخروج , وإن كان هذا الفصل لم يمنع من الجمع بينهما، ولكن مجيئه في ذات الآية تزكية لعمل المسلمين في موضوع الخروج.
ويحتمل هذا الخروج وجوهاً:
الأول: إنه واجب على المسلمين.
الثاني: إنه مستحب ومندوب، لأن الواجبات معلومة على نحو التعيين كالصلاة والصوم والزكاة والحج.
الثالث: التفصيل في الحكم، فيكون الخروج واجباً في الواجبات والدعوة إلى أصول الدين، ومندوباً في المستحبات.
الرابع: يدور أمر الوجوب والندب مدار ذات المعروف والأمر به، وذات المنكر والنهي عنه.
الخامس: الخروج فضل من عند الله عز وجل وهو الذي أخرج المسلمين والذي يمدهم بأسباب التوفيق لهذا الخروج.
ولا تعارض بين هذه الوجوه والتباين بينها شبهة بدوية، والجمع بينهما أمر ممكن ووجوب الخروج على المسلمين من عمومات قوله تعالى(فإن الله غفور رحيم) فهو رحمة وخير محض، وباب لنيل العفو والمغفرة والتجاوز عن الذنوب.
والخروج تكليف وسعي وجهاد تشرف المسلمين بحمل لوائه وهو من خصائص(خير أمة).
الثالث: يتخذ المسلمون آيات القرآن إماماً وضياء، ولا يصدرون إلا عنه فتأتي الآية بصيغة الجملة الخبرية فيعملون بها وكأنها جاءت إنشائية للقرائن التي تدل على إرادة معنى الأمر وصيغة (إفعل)، كما في قرينة الحج قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، فإنها جاءت بصيغة الخبر ولكنها تتضمن معنى الإنشاء والوجوب لإفادة حرف الجر(على) الإستعلاء في الأمر، واللزوم على الناس بالإضافة إلى موضوعية السنة النبوية, فمن عمومات بيانها للقرآن أن صيغة الجملة الخبرية فيه تعطي أحياناً لغة الأمر والنهي، إن صيغة الوجوب في الخروج رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، لما فيه من النفير العام للمسلمين وعدم قول بعضهم[إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ).
إن قعود شطر من المسلمين عن الخروج أذى من وجوه:
الأول: إنه تعطيل لجهودهم، وسعيهم في نشر لواء الإسلام والذب عن مبادئه.
الثاني: إنه برزخ دون نيلهم الثواب وأسباب الرحمة التي تترشح عن الخروج.
الثالث: فيه بعث للإرباك والوهن بين صفوف الخارجين للناس من المسلمين.
الرابع: حرمان القاعدين من الثواب العظيم في الخروج، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( )، وفيه بعث للشوق في نفوس المسلمين للقاء العدو، وترك الدعة ورغد العيش طلباً للأجر والثواب.
وهو من خصائص(خير أمة) أنها نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن ربيع، وهلال بن أمية تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم تبوك، وجاء الإذن لعبد الله بن أم كلثوم من دونهم لأنه أعمى.
(وعن زيد بم ثابت: كنت عند النبي حين نزلت عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ولم يذكر أولى الضرر فقال ابن أم مكتوم فكيف وأنا أعمى لا أبصر، فتغشى النبي الوحي ثم سري عنه فتلا (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر فكتبها)( ).
لذا جاءت الآية بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين جميعاً في أجياله المتعاقبة فكل فرد منهم خارج للناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: تكون مصاديق الرحمة على قسمين:
القسم الأول: ما يكون ظاهراً وهو على وجوه منها الأوامر، وكل أمر من الله ورسوله رحمة وخير محض، وهو على وجوه:
الأول: ما يأتي للعبد والجماعة والأمة من وجوه الرحمة الظاهرة.
الثاني: ما يكون بالواسطة والتسبيب.
الثالث: ما يكون باللطف الإلهي بالتقريب إلى أسباب الرحمة، والدفع عن مواطن الهلكة.
القسم الثاني: ما يكون خفياً غير ظاهر إلا بالتفكر وإحضار الوسائط، ومنه ما لا يظهر إلا يوم القيامة مما يحدث لو لم يقم الإنسان والأمة بفعل مخصوص.
فإذا نهى الأب إبنه عما يرتكبه من صغائر الذنوب وإنزجر عنها فمن رحمة الله غير الظاهرة للحواس، أنه لو تركه يرتكبها فإنه يتمادى فيها ويرتكب كبائر الذنوب وتشيع الفاحشة بين الناس.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الناس يفعلون الفواحش كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، وجاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فإن من علم الله عز وجل في المقام أموراً :
الأول: إن خروج المسلمين للناس برزخ دون وقوع كثير من الذنوب والمعاصي.
الثاني: إنه سبب لجعل النفوس تنفر من الفساد.
الثالث: ملاحقة الذي يعتدي بالقصاص والدية والعقوبة العاجلة.
الخامس: حاجة المسلمين إلى تعاهد آيات القرآن، ومنع يد التحريف من الوصول إليه وإلى تفسيره وتأويله، فالآية محل البحث شهادة سماوية تبين عظيم منزلة المسلمين بين الأمم وحقها في الجهاد لإصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس ومحاربة الباطل.
وهذا الجهاد رحمة من الله بالناس جميعاً، ولا ينحصر موضوعه بالسيف بل تبين الآية بجلاء ماهيته وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيه مندوحة وسعة وهذه السعة هي الأخرى من رحمة الله، وحاجة المسلمين للقرآن وعلومه ومنع التشديد على النفس والغير، قال تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
السادس: إقامة الحجة على الناس بأن القرآن نزل لهم ومن أجل إصلاحهم، ونجاتهم في الدار الدنيا والآخرة لما فيه من الأمر للمسلمين بالخروج للناس جميعاً، والنهوض بمسؤوليات الإصلاح على كل حال.
وكان المسلمون في الأمم السابقة إذا أستضعفوا إنشغلوا بأنفسهم وسبل دفع الأذى، ويبعث الله عز وجل لهم الأنبياء لإمامتهم في الدفع عن أنفسهم، وفي دروب الصبر والجهاد في سبيل الله، وفي قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل أنه أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة ولكنهم تخلفوا عن أمره لخشيتهم من الكفار ذوي الشدة والبطش الذين كانوا فيها قال تعالى[قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا] ( ).
والجبار في صفات الله ثناء وتعظيم لأنه من الشواهد على القدرة والعظمة من القهر وهو سبحانه الغالب لمن سواه، أما الجبار في صفة المخلوقين فهي صفة ذم وتقبيح لما فيه من الغرور والتعدي، وكانت كل معركة من معارك الإسلام الأولى من الشواهد على كون المسلمين (خير أمة) ومن أسرار ورود الآية بصيغة الماضوية (كنتم خير أمة) مسائل :
الأولى: إكتساب المسلمين هذه المرتبة دفعة واحدة، وليس على نحو التدريج وتعدد المعارك التي خاضوها، والتلبس بالإمتثال لأحكام الشريعة فينطق المسلم بالشهادتين فيحمل خصائص(خير أمة).
الثانية: الملازمة بين الإسلام ومحاربة الكفار فتوجه المسلمون إلى الغزو والفتح في الجهات الأربعة، ولم يخشوا جهة مخصوصة، وأمة معينة خشية الظالمين والجبارين.
الثالثة: بقاء المسلمين على ذات السنخية من الصلاح والجهاد في سبيل الله، ومصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ملل أو كلل، وهذا البقاء من رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس، فإن قلت إنه فعل من المسلمين فكيف يكون من رحمة الله عز وجل، والجواب من وجوه:
الأول: لم يفعله المسلمون إلا بتوفيق من الله عز وجل وإصلاح بواسطة القرآن بدليل الآية محل البحث.
الثاني: إن الله سبحانه هو الذي أخرج المسلمين وجعل عندهم الأهلية، والقدرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: خروج المسلمين للناس من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابع: تثبيت وتوكيد البشارات التي جاءت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة، من وجوه:
الأول: تطلع المسلمين الأوائل إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإنضمام لخير أمة.
الثاني: توارث البشارات بين أجيال الموحدين، وأتباع الأنبياء.
الثالث: مجيء الكتب السماوية السابقة بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
الرابع: دعوة المسلمين الأوائل للصبر على الأذى في جنب الله, ورجاء حلول الفرج ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: بيان قانون لا بد من غلبة الإسلام، وسيادة أحكام الشريعة، وإجهار (خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن الإستضعاف المتصل والمستغرق لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل يبعث اليأس في النفوس نعم المؤمنون لا ييأسون من رحمة الله، فجاءت البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبعث السكينة والطمأنينة في نفوسهم.
السادس: دعوة أتباع الأنبياء السابقين إلى الدعاء للمسلمين ونصرهم على أعدائهم وإزاحة الكفر من الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتتجلى هذه الدعوة بالتأسي بدعاء الأنبياء وقد ورد في التنزيل حكاية عن إبراهيم عليه السلام[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ] ( ).
السابع: نيل أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصفة المسلمين بين أهل الملل السابقة ، وأن الإسلام هو ملة الحنيفية والتوحيد , قال تعالى[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ] ( ).
صلة آية[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ] ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت كل من الآيتين بصيغة الجملة الخبرية، مع التباين في الموضوع إذ تضمنت الآية أعلاه لغة الوعيد للكفار، أما الآية محل البحث فإنها تتضمن الثناء، والمدح للمسلمين، ومن منافع هذا التباين أمور:
الأول: بيان معاني الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا، وأنها دار عمل.
الثاني: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الهداية إلى سبل الإيمان، ودرجات التفضيل وتعاهدها.
الثالث: معرفة المسلمين لأحوال الناس بلحاظ الملة والدين.
الرابع: تحذير المسلمين من الركون إلى الذين كفروا، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( ).
الخامس: من خصائص(خير أمة) تلاوة الآيات التي تتضمن ذم الذين كفروا، وفي هذه التلاوة أمور:
الأول: توبيخ الكفار على نحو متكرر ومتعدد.
الثاني: تثبيت الإيمان في صدور المسلمين لإختيارهم الإسلام، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بعث الغبطة في نفوس المسلمين للسلامة من العذاب الذي يلحق الكفار.
الرابع: دعوة الكفار للتوبة والإنابة.
الخامس: زجر الكفار عن التمادي في الغي والظلم، وجعلهم ينشغلون في أنفسهم، ويستحضرون معاني التنزيل.
السادس: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار لأن الله عز وجل هو الذي يذمهم.
السابع: تلاوة آيات القرآن، أمر تختص به (خير أمة) فلا يتلوها غيرهم.
الثامن: مصاحبة تلاوة آية السياق للمسلمين من ساعة التنزيل وإلى يوم القيامة.
التاسع: إستدامة ذم الذين كفروا في الأرض على ألسنة المسلمين، وسماع الناس جميعاً لهذا الذم، وهو نوع خزي للكفار في الدنيا، وتذكير بالعذاب الأليم يوم القيامة.
العاشر: من وجوه خروج المسلمين للناس تلاوتهم لآيات الإنذار والوعيد للكفار، والأمة التي تجاهر بإعلان الذم والتوبيخ للكفار هي(خير أمة).
الحادي عشر: تحذير عامة الناس من إتباع الكفار والإنصات لهم.
الثاني عشر: إحتراز المسلمين من الكفار، ونفرتهم من سوء العاقبة وما يترتب على الكفر من العذاب الأليم.
الثالث عشر: بعث للمسلمين للجهاد في سبيله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الرابع عشر : تعاهد (خير أمة) للإيمان، وأداء الفرائض وتلاوة آيات القرآن أي أن التلاوة أمر توليدي فكلما تلا المسلمون آيات القرآن عادوا لتلاوتها وبتدبر، وهو من خصائص(خير أمة) وعصمتهم من الملل والتعب من التلاوة.
وقد تفضل الله عز وجل وجعل لهم أجراً عظيماً عليها، وهو من أسباب بعث الشوق في نفوسهم لتكرار التلاوة في الصلاة الواجبة والمستحبة وخارج الصلاة، وعن ظهر قلب وفي المصحف.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، ومعرفة قبح مراتب الكفر، إذ أن ذم الكفار في الآية جاء لوجوه:
الأول: الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.
الثاني: التمادي في الكفر.
الثالث: الإتصاف بالضلالة.
الثالثة: بيان إستحقاق المسلمين لمرتبة(خير أمة) لوجوه:
الأول: عدم مغادرة المسلمين لمنازل الإيمان.
الثاني: قيام المسلمين بذم الذين كفروا لسوء إختيارهم وفعلهم.
الثالث: البيان والتفصيل في علة وأسباب ذم الكفار، فتارة يأتي الذم للكفار مطلقاً، وتارة للذين كفروا بعد الإيمان، وأخرى للذين يموتون على الكفر كما في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ]( ).
ويحتمل هذا البيان وجوهاً:
الأول: إنه من الجهاد في سبيل الله ومحاربة الكفر والضلالة.
الثاني: إنه من الأمر بالمعروف لما فيه الصلاح والدعوة لنبذ الكفر، وتحذير الناس منه ومن الكفار.
الثالث: فيه نهي عن المنكر، وحث للكفار على ترك منازل الكفر والجحود.
إن هذا البيان من مصاديق كل وجه من هذه الوجوه مستقلة ومتداخلة، وتلك آية من وجوه:
الأول: إنفراد (خير أمة) بالسعي الحثيث في الدعوة إلى الله.
الثاني: إتصاف الفعل المتحد من المسلمين بالتعدد في الماهية والأثر والنفع.
الثالث: فوز المسلمين بالثواب العظيم على المصداق الواحد من خروجهم للناس لأنه من الشواهد على حسن إيمانهم وتقواهم، قال تعالى[يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ] ( ).
الرابعة: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً على فترة من الرسل، وفي زمان إنتشر فيه الكفر والضلالة في الأرض، وسادت العادات الذميمة في الجزيرة ومكة المكرمة، ومن هذه العادات الغزو والنهب ووأد البنات والثأر وسيادة أعراف القبيلة.
وقد جعل الله عز وجل البيت الحرام رحمة وسلاماً، قال تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، فتفضل الله برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونزول القرآن لتثبيت صبغة الأمن للبيت الحرام، ويكون مأوى وملجأ للناس في سعيهم للفوز بالسلامة في الدنيا والآخرة، وتتعاهد أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شعائر الله، وتحافظ على المناسك، وتمنع من التعدي والظلم وتحارب الكفر بالقول والعمل.
ومن مصاديق هذه المحاربة تلاوة الآية التي تخبر بأن المسلمين(خير أمة) وبيان علة فوزهم بهذه المرتبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، مما يدل بالدلالة التضمنية على أمرهم الكفار بالإيمان، ونهيهم عن الكفر وبيان قبحه، فلم تكن(خير أمة) منغلقة على نفسها، لا تهتم بشؤون غيرها من الناس بل تتولى تعاهد إصلاح نفسها، وتسعى جاهدة في إصلاح الناس جميعاً، وهذا السعي من عمومات قوله تعالى(أُخرجت للناس) .
وفي الآية محل البحث ورد حث أهل الكتاب على دخول الإسلام، بقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
وجاءت آية السياق في ذم الكفار والإخبار عن العقاب الشديد الذي ينتظرهم لبيان البينونة والتضاد بين المسلمين والكفار في الدنيا والآخرة، وفي الفعل والجزاء.
الخامسة: تدعو مضامين آية السياق المسلمين إلى إعتماد العلم والحكمة في دعوة إلى الله، فمن الكفار من كان مؤمناً ثم جحد وكفر، ولم تقل الآية (إرتدوا بعد إيمانهم) بينما جاءت الآيات بتحذير المسلمين من الإرتداد والذين يسعون فيه، قال تعالى[وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
فخير أمة يقاتلها أقرب الناس لها وهم أهل الكتاب كي تترك الإسلام ولكنها تقاتل لإدخال الناس في الإسلام ولكنها تقاتل لإدخالهم وغيرهم من الناس في الإسلام، أما الذين ورد ذمهم من الكفار فإنهم إختاروا الكفر والجحود من غير مسوغ شرعي أو عقلي, لذا جاءت الآية بإنذارهم.
السادسة: لقد ورد غلق باب التوبة على الذين أشركوا بالله وماتوا على الشرك قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، وبلحاظ قانون التفسير الذاتي هل المراد بزيادة الكفر بعد الإيمان هو الشرك كما لو كان الجحود أولاً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم الكفر والشرك، الأقرب لا، لإفادة ظاهر الآية معنى الإصرار على الكفر ببلوغ مرتبة أشد من العناد والجحود بعد أن آمنوا, ويحتمل وجهين:
الأول: المراد الموت على الكفر وزيادته، وعدم المبادرة إلى التوبة في الحياة الدنيا.
الثاني: إستحقاق العذاب لإجتماع مسألتين:
الأولى: الكفر بعد الإيمان.
الثانية: زيادة الكفر.
وظاهر الآية هو الثاني، لأن الآية ذكرت عدم قبول التوبة، وهي لا تحصل إلا في الدنيا بإعتبارها دار عمل وإنابة وتدارك، مما يدل على أن عدم قبول التوبة لا ينحصر بالذين يموتون على الشرك فيشمل الذين إزدادوا كفراً بعد أن هجروا منازل الإيمان وحاربوا الإسلام، ولم يدخلوا تحت لواء الإسلام صادقين .
والذين كفروا بعد الإيمان من غير أن يزداد كفرهم فهل يغلق باب التوبة عنهم أيضاً، الجواب لا، فإن القدر المتيقن يجعلهم خارجين بالتخصيص من هذا الحكم والعقاب الأليم، لأنهم كفروا ولكن لم يزدادوا كفراً، ولم يعتدوا على المسلمين ويحرضّوا عليهم , ترى لماذا هذا العقاب الأليم، الجواب بلحاظ الجمع بين الآيتين من جهات:
الأولى: دفاع الله عز وجل عن (خير أمة) بتوجيه أشد وجوه الوعيد للذين يخذلونها.
الثانية: بيان قبح ترك منازل الإيمان، ويدل في مفهومه على حلاوة الإيمان، وما فيه من السكينة بطاعة الله عز وجل.
الثالثة: بيان حال الإرتقاء في المعارف الإلهية الذي عليه المسلمون عند خروجهم للناس إذ يعلمون مراتب الكفر والجحود التي ليس معها توبة.
الرابعة: دعوة المسلمين لحث الناس على أمور:
الأول: هجران الكفر.
الثاني: لزوم تعاهد الإيمان وعدم الخروج منه.
الثالث: بيان شدة العذاب للذي يترك الإيمان إلى الكفر والجحود.
الرابع: إنذار الكفار من الإمعان والتمادي في الكفر سواء الذين آمنوا وكان الإيمان متزلزلاً في نفوسهم، أم الذين جاهدوا بشدة الكفر.
الخامس: تحذير الناس من الجحود بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها آيات من عند الله، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ]( ).
السادس: جعل المسلمين في حال من الوقاية والحيطة من الكفار الذين يزدادون كفراً، وبعث النفرة في نفوسهم من رواد الكفر والضلالة لأمور:
الأول: سوء فعل الكفار ومناجاتهم بالباطل.
الثاني: غلق باب التوبة على الكفار .
الثالث: نعت الآية القرآنية للكفار بأنهم ضالون.
الرابع: ترك الكفار لمنازل الإيمان التي تملأ أنوارها نفوس المسلمين، وتجعلهم في رضا وطمأنينة، وتسليم بأن الإيمان غنيمة ورحمة وتوفيق فكيف يترك.
السابع: من دفاع الله عز وجل عن المسلمين في المقام إزدياد عدد المسلمين وخروجهم للناس كأمة متحدة، ليكون هذا الخروج من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، أما الذين يتركون الإيمان إلى منازل الكفر والجحود فهم عدد قليل، ومع هذا ذكرتهم آيات القرآن، وبينت سوء فعلهم.
الثامن: يحتمل عدم قبول توبة هؤلاء الكفار وجوهاً:
الأول: إنه من العقاب الأليم جزاء لتماديهم في الكفر بعد الإيمان.
الثاني: إنه مقدمة للعقاب والعذاب الأليم.
الثالث: فيه وعيد وبيان للحجة وإخبار عن غضب الله عليهم.
الرابع: إنه من الأحكام والقوانين في الحياة الدنيا بإعتبارها دار إبتلاء.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية ومضامينها القدسية.
السابعة: جاءت آيات القرآن بالإطلاق في قبول الله التوبة، قال سبحانه[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( )، وجاءت آية السياق في موضوع معين وهو الكفر بعد الإيمان ثم إزدياد الكفر.
وذكرت وجوه في أسباب النزول منها أنها نزلت في جماعة إرتدوا وذهبوا إلى مكة وإزدادوا كفراً، ومنها فرقة إرتدت ثم عزمت على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق( ).
ولكن مضامين وأحكام الآية لا تنحصر بأسباب النزول بل هي غضة طرية إلى يوم القيامة، وليس في القرآن آية تتضمن عدم قبول التوبة بهذا المعنى إلا آية السياق هذه فهل هي إستثناء من الإطلاق في قبول التوبة المذكور في الآية أعلاه وآيات أخرى مشابهة أم لا بد من حمل الآية على معان لا تتعارض مع الإطلاق أعلاه، الأقرب هو الثاني.
والمراد من عدم قبول التوبة حال إصرارهم على الكفر , أما مع تغير الموضوع ودخول الإسلام والإلحاح بالإستغفار وفعل الصالحات فإن التوبة تدركهم لأنهم ينخرطون في صفوف(خير أمة) وتتوجه لهم الخطابات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتشهد الآية محل البحث بأنهم (يؤمنون بالله) فكأن في الآية حذفاً، وقبول التوبة منهم يتأخر رتبة لحين إظهارهم التوبة النصوح، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( )، بدليل أن الآية أختتمت بنعتهم بالضالمين مما يدل على أن الآية جاءت للوعيد والإخبار بعدم قبول التوبة منهم وهم في حال الضلالة والفسوق، لأنه بعد الإيمان تنتفي الضلالة للتضاد بينهما، وهناك مسألتان:
الأولى: قد يقال أن هؤلاء كالمنافقين الذين ينطقون الشهادتين ويكونون مشمولين بالخطاب التشريفي بالإيمان فهم داخلون في التكليف في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، الجواب إنه قياس مع الفارق، إذ أن المنافقين متلبسون بإخفاء ما لا يظهرون، أما هؤلاء فأنهم سلخوا رداء الكفر وأنابوا إلى الله وأصلحوا سريرتهم وعلانيتهم.
الثانية: ليس من توبة حال الضلالة فلا بد أن توبتهم تأتي بالإقلاع عن المعاصي وأنها لا تقبل لبلوغهم مرتبة من السوء والظلم والجور إستحقوا معها صفة الضلالة وغلق باب التوبة عليهم، والجواب لا دليل على هذه الملازمة، والأثر المستمر للكفر حتى بعد الصلاح والتوبة.
فبعد التوبة يقف المسلم بين يدي الله خمس مرات يومياً ليتضرع ويقول على نحو متكرر لهدايته إلى[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( ).
الثامنة: تتجلى منافع الجمع بين الآيات وأسرار علم (سياق الآيات) ببيان التوافق والتداخل بين آيات القرآن وعموم رحمة الله عز وجل في الحياة الدنيا كدار إمتحان وتوبة وإنابة، وإطلاق صيغ العفو الإلهي وعدم حجبه عن الناس.
وكما ينفرد الله سبحانه بالعز والبقاء والغنى فإنه ينفرد بالعفو والرحمة المطلقة، وجعل صفة(خير أمة) سوراً جامعاً مانعاً، جامعاً للمؤمنين الذين يعمرون الأرض بالعبادة وعمل الصالحات، مانعاً من الضلالة والفسوق .
فمن أراد أن يفر من عدم قبول التوبة، ويلجأ إلى بابها الذي جعله الله عز وجل مفتوحاً دائماً وإلى حين الوفاة فليبادر إلى الدخول في(خير أمة) فيتغير الموضوع ويتلو آية السياق هذه في إنذار الكفار الذين إزدادوا كفراً والذين لم يزدادوا كفراً بدعوتهم إلى أمرين:
الأول: عدم التمادي في الكفر، والزيادة في العتو والضلالة.
الثاني: التدراك والتوبة واللجوء إلى الله عز وجل ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أرسله الله عز وجل لبعث الأمل في النفوس في نيل مرضاة الله، قال تعالى[وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
ومن خصائص أفراد خير أمة أنهم لا يقنطون ولا ييأسون من رحمة الله، بل يتجدد أملهم بالفوز بها عند أوان كل فريضة.
وقد ورد في القرآن عدم العفو عن الذين ظلموا أنفسهم بالتمادي في الكفر، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً]( )، فلا يغفر لهم الله عز وجل وهم على حال الكفر والضلالة، ويمنع الله عز وجل عنهم أسباب اللطف والتقريب إلى الطاعة، مع بقاء مندوحة للتوبة والإنابة بفضل من الله بالتدبر بالآيات الكونية الظاهرة بجلاء في الليل والنهار ومعجزات النبوة.
ومن منافع(خير أمة) في المقام أنهم يتلون آيات الله كل يوم بل كل ساعة ليسمعها الناس ومنهم الذين إزدادوا كفراً إذ يسمعون الآيات التي تذكرهم بالخصوص، وتخاطبهم بلغة الإنذار وتبين طردهم من رحمة الله.
فإن قلت إن سماع الكفار لهذه الآيات وما فيها من الإنذار والوعيد من سبل الهداية، والجواب إنه من فضل الله على الناس ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تكون مقدمة للتوبة، وعندئذ يتغير الموضوع إذ تأتي الهداية لمن تاب ودخل في الإسلام، ونزع عن قلبه رداء الكفر فأصلح سريرته، وغلق على نفسه باب الضلالة وأعرض عن سلطان الهوى، وإمتلأ غبطة بدخول الإسلام وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلاوة هذه الآيات، قال تعالى[إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
العاشرة: حث المسلمين على تعاهد الإيمان، فإنه أمانة الله في الأرض، قال تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( )، فأراد الله عز وجل للناس التنزه بالإيمان من الظلم والغفلة وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتكون أمته (خير أمة) تتوارث الإيمان جيلاً بعد جيل، وتجاهد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطرد الجهالة عن النفوس وتحارب الكفر الذي هو أشد أنواع الظلم.
لقد جعل الله عز وجل(خير أمة) حجة على الناس في وجوب تعاهد الإيمان وعدم ترك منازله وصيرورتهم حملة الإنذار للكفار , قال تعالى [أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ]( )، والشهداء عليهم وعلى الناس جميعاً بأمور:
الأول: وجوب الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: توبيخ الكفار، وذمهم وأفعالهم القبيحة.
الرابع: تلاوة آيات القرآن، وتبليغها للناس، وهذا التبليغ لا يختص بمضامينها القدسية بل يشمل ما فيها من الإعجاز.
الخامس: أداء الفرائض العبادية بشوق ورغبة، ومن غير ملل.
الحادية عشرة: تتضمن آية السياق عدم قبول توبة الذين إزدادوا كفراً، لذا فان تلاوتها وبيانها وتفسيرها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: تحذير الناس من إختيار الكفر وما فيه من القبح الذاتي والغيري وحثهم على تعاهد الإيمان، والإهتداء إلى سبله وسننه فان فيها خير الدنيا والأخرة.
الثاني: زجر الكفار عن التمادي في الكفر، وكثرة التعدي والظلم، لأن الآية تبين مسألة وهي أن الكفر ليس من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية قوة وضعفاً بل هو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وإذ يلقى الكفار مطلقاً العذاب الأليم، فإن باب التوبة مغلق على الذين (إزدادوا كفراً) وأصروا على عدم الرجوع إلى الإيمان وما تركه من الآثار في النفس، ولم يلتفتوا إلى الدلائل البينات في الكون وفي ذات الإنسان، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الثالث: دعوة المسلمين أنفسهم، وبعضهم بعضاً إلى العصمة من أسباب الشك والريب بسبب ترك الكفار الإيمان، ومواجهتهم بالذم والمناجاة بالإحتراز منهم، وتلاوة هذه الآيات والدفاع عن الإسلام بالنفس والمال، وهذا الدفاع من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
الثانية عشرة: بين خاتمتي الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء على وجوه:
الأول: جاءت كل من الخاتمتين في باب الذم والتقبيح لفريق من غير المسلمين.
الثاني: تلاوة الآيتين في النهي عن المنكر والدعوة إلى التوبة والإنابة فإن قلت إنالله تعالى قال (لن تقبل توبتهم) فكيف تكون خاتمة آية السياق(وأولئك هم الضالون) دعوة للتوبة، والجواب من جهات:
الأولى: إن الضلالة عرض يقبل الزوال ومن وظائف (خير أمة) الجهاد لإزاحتها من النفوس والمجتمعات، وليس من تقييد في الذين يتوجه لهم المسلمون في جهادهم لأن الله عز وجل تفضل بإطلاق الجهات التي يتوجه لها المسلمون بقوله تعالى(أخرجت للناس) وفيه آية في لزوم تسخير المسلمين أنفسهم وأموالهم في الدعوة إلى الله , وعدم التعب أو الكلل.
الثانية: من خصائص المسلمين حب الهداية للناس جميعاً، ووراثة الأنبياء والإقتداء بهم في الدعاء، وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل[وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ]( ).
الثالثة: إن قبول التوبة أمر آخر غير التوبة، لأن القبول من عند الله، أما التوبة فهي من العبد، فقوله تعالى(لن تقبل توبتهم) أي إن تابوا فلن تقبل توبتهم، وجاءت الآيات بقبول التوبة إذا كانت نصوحاً وإقترنت بالصلاح، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الثالث: إتحاد سنخية الضلالة، والفسق ضلالة، والعكس صحيح وفي الزجر والتحذير من الفسق قال تعالى بخصوص المثل القرآني وما فيه من الحكمة والموعظة [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ]( ).
الرابع: وردت كل آية بخصوص فريق مخصوص، سواء من أهل الكتاب أو من الكفار.
الخامس: تتضمن كل من الآيتين التحذير والإنذار من المعصية والجحود، أما مادة الإفتراق فهي على وجوه:
الأول: جاءت خاتمة الآية محل البحث بخصوص فريق من أهل الكتاب، أما آية السياق فوردت بخصوص الكفار.
الثاني: جاء ذم الفاسقين لأنهم من أهل الكتاب وهم أقرب إلى الإسلام، والديانات السماوية السابقة تحرم الفسق أما أهل الضلالة فإنهم إختاروا الكفر والظلم والتعدي.
الثالث: الكفار الضالون أشد كفراً وضرراً على أنفسهم وعلى الناس من الفاسقين من أهل الكتاب ويقوم المسلمون أزاءهم بأمور:
الأول: الصبر على أذاهم من غير مغادرة لمنازل الإيمان، أو تعطيل لوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي التنزيل[وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ]( ).
الثاني: دعوتهم للإسلام.
الثالث: زجرهم عن الفسوق والضلالة.
الرابع: جدالهم والإحتجاج عليهم بالبرهان، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامس: الجهاد لإصلاحهم وحملهم على ترك الضلالة والفجور.
الثالثة عشرة: ذكرت آية السياق إزدياد فريق من الكفار كفراً وضلالة، ولم تكتف بهذا الذكر والوصف بل بينت العقاب الشديد الذي يصيبهم على نحو الخصوص، وهو عدم قبول توبتهم.
ويفيد الجمع بين الآيتين إصابة المسلمين بالزيادة، ولكن تلك الزيادة متباينة مع ما يصيب الكفار من الزيادة، وتتصف الزيادة التي تصيب المسلمين بأنها حميدة وذات آثار نافعة ومن مصاديقها:
الأول: كثرة عدد المسلمين.
الثاني: زيادة معارف المسلمين ومعرفة مراتب الكفار، والذين لا يدركهم قبول التوبة من الكفار , قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالث: معرفة موضوعية قبول التوبة من قبل الله، وأن الأمر لا ينحصر بتوبيخ وندم العبد، بل لا بد من القبول من الله كي تمحى ذنوبه ومعاصيه، ويرجو رحمة الله بالفوز بالجنة.
الرابع: إصابة أعداء الإسلام بالضعف، وصيرورتهم منشغلين بأنفسهم، وتفكّر فريق منهم بوجود العالم الأخر وما فيه من الجزاء وهذا التفكر نوع مقدمة للإنصات لآيات القرآن والتدبر في مضامينها وبلاغتها ومقاصدها السامية , قال تعالى[يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
قانون(خير أمة مباركة)
يترجل القول والفعل في الخارج على نحو القضية الشخصية المثمرة هيئة ومكاناً وزماناً، وينقطع بإنتهائه لفظاً ورسماً، ولكنه يبقى في الذاكرة حسناً كان أو قبيحاً، وهذا البقاء أمر محدود في موضوعه وأثره.
ولكن أفعال(خير أمة) تتصف بالسعة والمندوحة في أثرها وما يترتب عليها، إذ أنه يتسع ويمتد عرضاً وطولاً، فيكون أثره أعم من مكانه وبلده، ويكون حاضراً في ذاكرة الأجيال المتعاقبة.
ولما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن من عند الله ليس من وسائل إعلام مقروءة أو مسموعة أو مرئية، ولكن سرعان ما إنتشرت آيات القرآن بين الناس وتناقلتها الركبان، وزاحمت الشعر في المنتديات وأزاحته عن محل الصدارة وجذبت الأسماع.
ومن الآيات في رسالة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وأسباب وقايتها من الظالمين والطواغيت أن الإيمان بها يمشي في موازاة إنتشارها وتفشيها بين الناس بمعنى أن تلقيهم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات نبوته لا ينحصر بالسماع والإنصات، بل يشمل المبادرة إلى دخول الإسلام وهو من مصاديق البركة في الدعوة الإسلامية بعدم بقاء قبوله معلقاً ومرجئاً .
فتوافد أفراد القبائل على المدينة وليس من فترة بين توافدهم وبين وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها مهاجراً، وقد أثنى الله عليهم . وأخبر عن رضاه عنهم , والفوز بهذا الرضا من خصائص خير أمة , ومن فضل الله أنه ليس منقطعاً عندهم , قال تعالى[السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ]( ). ويكون توافد المسلمين على وجوه:
الأول: دخول الإسلام، والهجرة إلى المدينة، ولكثرة عدد المهاجرين تم بناء ظلة شبه البهو أمام المسجد النبوي ليسكنه الفقراء والمساكين ومن لم يكن له مأوى منهم وإسمه (الصفة).
وورد في الحديث ذكر أهل الصفة(هم فُقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يَأْوُون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد المدينة يسكنونه) ( ).
وفي قوله تعالى[فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ]( )،أنه نزل في قوم شعيب الذين كذبوه، واقترحوا نزول العذاب عليهم إن كان صادقاً، فحبست عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الومد( )، فجزعوا وخرجوا من الظل إلى البرية طلباً للنسيم فأظلتهم سحابة ذات برد فإجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم ناراً فإحترقوا.
وقد أنعم الله عز وجل على(خير أمة) لتكون الظلة في بداية المسجد منطلقاً للغزو والفتح، ويأتيها الأذان في كل صلاة , ويقف على أهلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتتجلى بركات نبوته ومواضع الإيمان.
الثاني: الوفود للإطلاع عياناً على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورؤية المسلمين ودولتهم النامية.
الثالث: من يأت موفداً من قبل قومه وقبيلته ليعود لهم ناقلاً ما رآه من علامات النبوة التي يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الذي تجذبه أنوار الإيمان، فيأتي المدينة لتشارك حواسه مع عقله في الإنجذاب للإسلام ، وتملأ الطمأنينة قلبه.
الخامس: الوفود من أجل دخول الإسلام والدفاع عنه، والجهاد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإدراك المخاطر التي تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة الإسلامية.
إن الإنتشار السريع لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة خاصة ينفرد بها من بين الأنبياء، فهي تسابق المكر والكيد من الظالمين، وتجعلهم متخلفين عن إستئصال النبوة والإسلام، ويسقط دخول المسلمين للإسلام بأيدي الظالمين، فما أن يدبروا مكراً محكماً إلا ويظهر لهم قبل الشروع فيه أو أثناءه عدم ترتب الأثر عليه، وحدوث عوائق شديدة تحول دونه، وهي متعددة منها:
الأول: إعراض الناس عن رؤساء الكفر والفتنة.
الثاني: ظهور ميلهم إلى الإسلام لموافقته للفطرة وإدراك العقل.
الثالث: ما جعل الله عز وجل في الدعوة الإسلامية من البركات والفيض قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومن المدد الإلهي للمسلمين في جهادهم وسعيهم لتثبيت أحكام الشريعة في الأرض حرب القرآن على الكافرين، وبلحاظ عمومات قوله تعالى(وما لهم من ناصرين) وإرادة أيام الحياة الدنيا والآخرة، وفي كل من الآية محل البحث وآية السياق وجوه:
الأول: إنهما برزخ دون نصرة الكفار بعضهم لبعض لما فيهما من بعث للخوف والفزع في نفوسهم.
الثاني: جعل الكفار يدركون قبح إختيارهم، وسوء عاقبتهم.
الثالث: غلق باب التوبة على أهل الإصرار على الكفر.
الرابع: إزدياد قوة المسلمين ونماء عددهم، وإتساع بلادهم، وكثرة أمصارهم.
الخامس: ثبات المسلمين على الإيمان، وعدم طرو التحريف والتغيير في معالم الشريعة الإسلامية، ويتجلى بتعاهد آيات القرآن رسماً ولفظاً وأداء المناسك ذاتها التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشوق ورغبة.
صلة آية[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ] ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تباين موضوع وجهة الخطاب في الآيتين، فجاءت الآية أعلاه بلغة الإنذار والوعيد للكفار، أما الآية محل البحث ففيها ثناء ووعد كريم للمسلمين، وذكر في خاتمتها أهل الكتاب لترغيبهم بالإسلام.
وهذا التباين لا يمنع من الجمع بين الآيتين منطوقاً ومفهوماً، فمفهوم الآية أعلاه يدل على سلامة المسلمين من لغة التوبيخ والوعيد، وبشارة بالنجاة من العذاب الأليم في الآخرة.
وحيث أنه لا برزخ ووسط بين الجنة والنار يوم القيامة، فأما إلى الجنة والخلود في النعيم، وأما إلى النار واللبث الدائم في العذاب الأليم، فإن الآية أعلاه ضياء سماوي ينير لخير أمة طريق النعيم الأخروي لعصمتهم من الكفر والجحود.
ومفهوم الآية محل البحث على وجوه:
الأول: تخلف الكفار عن نفع أنفسهم لسوء إختيارهم.
الثاني: دعوة الكفار للإنصات لأمر المسلمين بالمعروف.
الثالث: حث الكفار على الإقلاع عن الكفر.
الرابع: ترغيب الكفار بالإيمان وبيان أنه سبيل النجاة في النشأتين.
الخامس: الإيمان بالله ورسوله واقية من لغة الإنذار والوعيد بالعذاب الأليم، قال تعالى[مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ] ( ).
الثانية: بيان حاجة الناس لخروج(خير أمة) وتقييد هذا الخروج بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للجهاد ضد الكفر وإزاحته من النفوس والمجتمعات.
الثالثة: لما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بفساد الإنسان وسفكه الدماء، رد الله عز وجل عليهم بأنه سبحانه العالم بالأمور وعواقبها، وفي التنزيل[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، وجاءت هاتان الآيتان وكل آية وكلمة منهما من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة فهو سبحانه لم يرد على إحتجاجهم بنفي مفهوم الفساد في الأرض، بل رد بعلمه فخروا له سجداً للتسليم بأنه تعالى هو الحكيم الذي يقدر الأمور على أحسن الأحوال، وكل فعل وقول منه تعالى آية لا يقدر عليها غيره، فمن علمه تعالى عذاب الكفار.
ويحتمل الكفر بلحاظ إحتجاج الملائكة بفساد الإنسان وجوهاً:
الأول: الكفر هو الفساد، والنسبة بينهما هي التساوي.
الثاني: الكفر من مصاديق الفساد لأنه نقيض الصلاح(وفي الخبر أَن عبد الملك بن مروان أَشرف على أَصحابه وهم يذكرون سيرة عمر فغاظه ذلك فقال إِيهاً عن ذكر عمر فإِنه إِزْراءٌ على الوُلاةِ مَفْسَدَةٌ للرعية , وعدى إِيهاً بعن لأَن فيه معنى انْتَهُوا) ( ).
الثالث: موضوع الكفر متباين مع الفساد، إذ أن الفساد مترجل في الخارج , ويكون فرع الكفر والضلالة.
ولا تعارض في هذه الوجوه، فالكفر أم واصل الكبائر والمعاصي، وهو بذاته فساد وتعد وظلم وإغراء للفساد في الأرض.
فإن قلت لماذا لم تذكر الملائكة الكفر في إحتجاجها لتكون الحجة أكثر بياناً، والجواب من وجوه:
الأول: تنزيه الملائكة لمقام الربوبية.
الثاني: جاء الكلام بين الله والملائكة بلغة الإختصار البديع، والحذف الذي يدل على أدب العبودية.
الثالث: أشار الملائكة إلى الكفر بذكر اللازم له وإفادة الملزوم، فإن المؤمن لا يفسد ولا يسفك الدماء بغير حق.
الرابع: يدل مفهوم كلام الملائكة على الإشارة إلى ذم الكفار بقولهم [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )، فهؤلاء الكفار لا يعمرون الأرض بذكر الله، ولا يشكرون نعمته وتفضله بخير أمة تدعوهم إلى التوبة والذكر والشكر.
الخامس: يرجو الملائكة رحمة الله عز وجل بالناس فلم يذكروا الوجه الأقبح للكفار بل ذكروا فسادهم.
السادس: رجاء الملائكة بإصلاح الناس، وهداية الله عز وجل لهم فكأنهم سألوا الله عز وجل أن يجعل الناس كلهم مؤمنين ليس في الأرض مفسد.
السابع: إذا كان الفســـاد وفعل المعصية سبباً لإحتجاج الملائكة فإن الكفار أشــد وأوهــن وهو أولى في موضوع الإحتجاج، فجاء الرد من الله عز وجل بأنه يعلم ما يحدث من الفساد وسفك الدماء، وكفر فريق من الناس , ويتفضل سبحانه بإخراج(خير أمة) أتباع سيد المرسلين ليتلوا آيات الوعيد للكفار ومنها هذه الآية التي تخبر عن العذاب الأليم للكفار في النار.
ومن منافع هذا الخروج والتلاوة توبة طائفة منهم، ومن علمه تعالى تفضله ببقاء باب التوبة مفتوحاً على نحو القضية الشخصية والنوعية العامة، أما الشخصية فتقبل من الإنسان ما دام لم يفارق الحياة الدنيا، وأما النوعية فإن التوبة مصاحبة للوجود الإنساني في الأرض وإلى يوم القيامة لذا يمكن أن نسمي الحياة الدنيا(دار التوبة).
الرابعة: ذكرت الآية مغادرة طائفة من الناس الدنيا على الكفر , وفيه وجوه:
الأول: بيان موضوعية حال الإنسان عند الموت في منازل الحساب والجزاء.
الثاني: حث الكفار على التوبة والإنابة، وهو من مصاديق رحمة الله في الدنيا بالناس جميعاً، لأن الحث على التوبة رأفة ورحمة.
الثالث: توكيد كون المسلمين (خير أمة) لأنهم يتلون آيات الله, ويجعلونها واقية من الكفر والضلالة، وبياناً لسلامة المسلمين من العذاب بإختيار الموت على الإسلام، قال تعالى[فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع: من مصاديق خروج المسلمين أنهم أسوة للناس جميعاً في الثبات على الإيمان، والتنزه من الكفر الذي يجلب العذاب الأليم.
الخامسة: تفقه المسلمين في الدين بمعرفة حقيقة وهي شدة عذاب الذين يموتون على الكفر، وفيه دعوة للمسلمين لبذل الوسع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنجاة الناس من العذاب الشديد بإنقاذهم من الكفر.
فليس من ملازمة بين الكفار والموت على الكفر ففي كل آن وواقعة تتجدد مناسبات التوبة، وتأتي الآيات التي تجذبهم إلى سبل الهداية والإيمان، وهي كثيرة ومتعددة، ولا تنحصر بآيات القرآن بل تشمل آيات الآفاق والنعم، قال تعالى[وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ]( ).
ومن خصائص(خير أمة) التوجه للناس بعين الرحمة ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرآة، وشاهداً عليها، وهل يستحق الكفار الذين جاءت آيات القرآن بالوعيد والتوبيخ لهم بذل(خير أمة) الوسع لنجاتهم أم لهم أن يكتفوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم وإصلاح حالهم.
الجواب هو الأول، فقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، يدعوهم إلى الهدى ويحثهم على التقوى، ويحملهم على أداء التكاليف العبادية ليفوزوا بخير الدنيا والآخرة، وأعطاه الله عز وجل ما لم يعط أحداً من الأنبياء من قبله إذ جعل أمته (خير أمة) وأخرجها للناس.
فهذا الخروج ليس من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا من الملائكة، إنما هو من الله عز وجل ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه، لذا جعله رحمة للناس جميعاً، فلا يكتفي المسلمون بإصلاح أنفسهم لأمور:
الأول: ملازمة الخروج للمسلمين في الحياة الدنيا، فهم في خروج متصل ودائم في تعظيم شعائر الله.
الثاني: إختيار المسلمين لمنزلة(خير أمة) وما يترشح عنها إنطباقاً من السعي لإنقاذ الناس وإصلاحهم.
الثالث: تنشر(خير أمة) مفاهيم الصلاح في الأرض، وتحارب الكفر والفساد، ومن أهم مصاديق هذه المحاربة بذل الوسع مع الناس لخلع رداء الكفر، وطرد مفاهيمه من نفوسهم.
الرابع: في نجاة الناس من الكفر قوة لخير أمة، وزيادة في أعدادها وإيمانها وذرياتها، وقد جعل الله عز وجل الناس بالناس، فلا تستغني(خير أمة) عن الناس جميعاً بل تحتاجهم بتوبتهم وإيمانهم، والسلامة من أذاهم وكيدهم ومكرهم، لذا نزع الله عز وجل رداء الإستكبار والشح عن المسلمين، وأمرهم بالتوجه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنفسهم وللناس.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، ليتولى المسلمون فيها الحرث بإصلاح الناس وجذبهم إلى منازل الإيمان، والفوز بثواب السعي في هدايتهم.
السادس: أمر الله عز وجل المسلمين بالجهاد والقتال في سبيله، قال تعالى[وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] ( ).
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول: مؤمنون.
الثاني: كفار.
ولا يعني هذا التقسيم البينونة والبرزخية بينهما , فلا بد من وجود صلة في المعاملة والمعرفة بينهم، ومن معاني تسمية الإنسان أنه يأنس بغيره من أفراد جنسه، وتتجلى مصاديق الصلة بين القسمين من الناس بهاتين الآيتين من وجوه:
الأول: دعوة المسلمين الناس للإيمان بالله والنبوة واليوم الآخر، وحثهم على ترك الكفر والضلالة.
الثاني: تعيين كل فريق بصفاته الذاتية الجلية التي لا تقبل الترديد في مصاديقها.
فلفظ(خير أمة) ليس من المشترك اللفظي الموضوع أو المستعمل لمعنيين أو أكثر , والذي يكون فيه اللفظ متحداً والمعنى متعدداً، وليس من المشترك المعنوي وهو اللفظ الموضوع لمعنى واحد، وهذا المعنى مشترك بين المتعدد , كما في قوله تعالى[أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ]( )، فإنه مردد بين الولي، والأب، والزوج.
فجاء لفظ(خير أمة) لإرادة المسلمين على نحو الحصر والتعيين، وفيه حجة وبيان ودليل على أن القرآن كتاب نازل من عند الله لأن هذا الوصف وحصره وظهوره بأمة مخصوصة يشار لها نوع تحد وحرب على الكفر.
الثالث: ليس من صلح وهدنة دائمة بين الفريقين، فإن قلت يحتاج الأمر بالمعروف الهدنة والمهادنة والمخالطة، والجواب من وجوه:
الأول: تعدد طرق وصيغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه ما يأتي مباشراً، ومنه ما يكون بالواسطة.
الثاني: الأمر بالمعروف وعظ وإرشاد ويصح من غير هدنة.
الثالث: لا تتعارض المخالطة مع التباين بين الفريقين , وقد يعاشر المسلمون غيرهم معاشرة طيبة في الظاهر، وتلك العشرة من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقدمة لهما لعدم تفريط المسلمين بوظائفهم العبادية.
الرابع: لقد أخبرت الآية محل البحث أن المسلمين أخرجوا للناس، والإخراج مطلق منه ما يشمل المعاملة برداء الإيمان والتقوى , ومنه الدعوة إلى الله.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين إلى شكر الله عز وجل على نعمة الهداية والصلاح والنجاة من التخويف والوعيد القرآني في الدنيا، والعذاب في الآخرة، إذ أنها تتعلق بالكفار الذين يصرون على العناد والجحود.
الثامنة: تتضمن آية السياق مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: بيان القبح الذاتي للكفر.
الثاني: حث الكفار على التدارك والتوبة قبل الموت، ولأن الموت قريب من الإنسان في أي لحظة من حياته، فإن الدعوة للتوبة مركبة من أمرين:
الأول: ترك الكفر والمعصية.
الثاني: النجاة من الموت على الكفر.
الثالث: بيان عدم قبول الفدية من الكفار وإن كانت كبيرة.
الرابع: الدعوة لدخول الإسلام والسلامة من العذاب.
الخامس: إخبار الآية عن حال الكفار في الآخرة , وإنعدام الناصر لهم رحمة بهم في الدنيا لما فيها من الإنذار وأسباب التدارك وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
التاسعة: ذكرت الآية مقدار الفدية بأنه ملأ الأرض ذهباً، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إنه جاء من باب مثال المبالغة.
الثاني: وجود مصداق خارجي لهذا التشبيه، خصوصاً وأنه ورد من باب الوعيد والقطع بعدم القبول، ويتجلى المصداق بأمور:
الأول: ملكية واحد من الناس ملأ الأرض ذهباً.
الثاني: ملكية الكفار مجتمعين ومتفرقين لملأ الأرض ذهباً، وأن هذا الملك لو وظف في فداء واحد منهم لن يقبل منه , خصوصاً وأن أمر الفدية جاء بصيغة المبني للمجهول (يفتدى).
الثالث: المقصود مجموع الذهب الذي في أيدي الناس، وكل وجه من هذه الوجوه ينقسم إلى قسمين:
الأول: إرادة زمان نزول القرآن.
الثاني: المقصود ملكية الذهب وتحقق المصداق في مجموع أفراد الزمان الطولية.
الرابع: الآية بشارة صناعة الذهب بما يكون شبيهاً للذهب الطبيعي الأصلي، وتعرض كميات كبيرة منه لو بسطتها على الأرض لكانت كافية.
الخامس: إرادة جزء وبقعة صغيرة من الأرض بحيث لو وضع فيها الذهب لقيل هذا ملأ الأرض، ومقدار مخصوص من الذهب يقال للذي يملكه إنه يملك (ملأ الأرض ذهباً) , كما في إطلاق لفظ الأرض على مكة , بقوله تعالى[وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( )، والمراد أرض مكة على نحو الخصوص ومكر كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج منها.
(وقيل: من أرض المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم ، فاجتمعوا إليه وقالوا : يا أبا القاسم ، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدّسة وكانت مهاجر إبراهيم ، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك ، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم ، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة ، وقيل : بذي الحليفة ، حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله ، فنزلت ، فرجع) ( ) .
ولكن الأول أظهر خصوصاً وأن الآية أعلاه جاءت بالوعيد للكفار, فلما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقعت معركة بدر في السنة الثانية , فنزل القتل والخزي بعدد من رؤساء قريش وممن كانوا يؤذون النبي , ويظهرون العداوة له وزحفوا بالجيوش نحو المدينة.
السادس: إرادة المال والأوراق النقدية لأنها في مقابل الذهب المسكوك.
السابع: المقصود مجموع الأعيان والعروض والنقود الورقية والذهب والفضة التي يمتلكها الناس، بحيث لو جرت معادلتها بالذهب وثمنه، وقسم الذهب المقدر منبسطاً على مجموع مساحة الأرض بطبقة رقيقة منه لغطى الأرض.
وجاءت الآية من باب الوعيد بعدم قبول الفدية وإن كبرت فتحمل على المعنى الأعم، وتتضمن الآية البشارة للناس بإستخراج كميات كبيرة من معدن الذهب من الأرض، وحال من النعيم يكون عليه الناس بحيث يقتنون الذهب.
وهل يحتمل حصول الرخص في أسعاره مع زيادة الكميات المستخرجة منه كما لو تم التخلي عن جعله إحتياطياً لسكة النقود والعملات، بحيث يأتي على الناس زمان يكثر الذهب في البيوت ويدخل في الصناعات وواجهات البيوت وأثاث المنازل والمركبات، ولو جمع هذا الذهب , وجعل سبائك رقيقة لغطى سطح الأرض اليابسة, خصوصاً على القول بأن البحار تأتي على جزء من اليابسة في قادم الأيام .
وهذا التأويل بعيد فمن خصائص المثل القرآني قرب موضوعه، وحضوره في التصور الذهني .
والأرجح هو الوجه الخامس أعلاه بلحاظ تسمية العرب لمقدار من الذهب أنه ملأ الأرض لكثرته وإعتبار الناس له ثروة عظيمة ولا تصل التوبة إلى لغة الإطلاق، خاصة وأن الآية جاءت بلفظ حرف الإمتناع (لو) أي لا يحصل مثل هذا الفداء، إلا أن هذا لا يمنع من البشارة القرآنية بكثرة الذهب في أيدي الناس مسلمين كانوا أو كفاراً.
فجاءت الآية لتحذير الكفار من التمادي في الغي والعناد مع كثرة الأموال، وان هذه الأموال وإن كثرت لن تقبل عوضاً وبدلاً عن الكفار وعذابهم الأليم في النار لبيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو ضرورة التوبة والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل والتصديق بأنبيائه ورسله، وتنقل (خير أمة) مضامين هذا القانون بوجوه:
الأول: تلاوة آية السياق، وما فيها من الإنذار والوعيد.
الثاني: بيان قوانين الحساب في الآخرة.
الثالث: عجز الكفار عن الفداء والنصرة فيه.
العاشرة: جاءت هذه الآية بالثناء على المسلمين بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) وتتجلى المنافع العظيمة لها بنجاة المسلمين بالإيمان من العذاب الأليم الذي يصيب الكفار، قال تعالى[وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا]( )، وفي معنى الورود في الآية وجوه:
الأول: الورود أعم من الدخول، فيشرف المؤمن على النار ولا يدخلها، قال تعالى[وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ] ( ) .
الثاني: مجئ النص بتحقق دخول النار من غير أن تكون ضارة .
وعن جابر بن عبد الله إنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال : ” إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ قالَ بعضُهُمْ لبعضٍ : أليسَ قدْ وعدَنَا رَبنا أنْ نردَ النارَ ، فيقالُ لَهُمْ : قدْ وردتمُوها وهي خامدةٌ) ( ).
الثالث: إرادة معنى الدخول من الورود، ولكن فيه تفصيل، يتضمن إكرام الله عز وجل للمؤمنين، وسلامتهم من النار، وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:”الورودُ الدخولُ ، لا يبقَى بَرٌ ولا فاجرٌ إلاَّ دخلها ، فتكونُ على المؤمنِينَ برَداً وسلامَاً كَما كانَتْ على إبراهيمَ ، حتَّى إنَّ للنارِ ضجيجَاً مِنْ بردهِا)( ).
الحادية عشرة: قيدت آية السياق عدم قبول الفداء من الكفار بإصرارهم على الكفر إلى حين الموت.
ومن مصاديق خروج المسلمين للناس في المقام، وجوه :
الأول: جذب الكفار لمنازل الإيمان، وترغيبهم بالإسلام.
الثاني: زجر الكفار عن الإقامة على الكفر.
الثالث: بيان قبح الموت على الكفر، وما يجلبه من الخزي في النشأتين.
الرابع: إقامة الحجة على الكفار .
الخامس : التذكير باليوم الآخر وعالم الجزاء، وعدم قبول العوض والبدل فيه.
الخامس: إنعدام الشفيع والناصر للكفار يوم القيامة , قال تعالى[لاَ تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنصَرُونَ]( ).
الثانية عشرة: جاء موضوع الفداء بصيغة الإطلاق الزماني (فلن) ويحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة الفداء في الحياة الدنيا لأمور الدنيا ودفع الآفات فيها.
الثاني: الفداء والبدل في الدنيا لأهوال الآخرة وطلب السلامة فيها.
الثالث: الفداء في الدنيا للنجاة في النشأتين.
الرابع: الفداء في الآخرة وعند الحساب.
الخامس: جاءت الآية بالتفصيل بأمرين :
الأول: عدم قبول الذهب والمال من الكفار.
الثاني: إتخاذ الكفار للمال فدية وعوضاً، وليس من فداء في الآخرة، ولا يتقبل من الكافر نفقته في الدنيا لفقد شرط الإيمان، قال تعالى[وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثالثة عشرة: ترى لماذا هذه الغلظة في خطاب الوعيد الموجه إلى الذين كفروا بعد إيمانهم وإزدادوا كفراً، الجواب من وجوه:
الأول: لا يأتي الإيمان إلا بعد التبصر والهداية والتسليم بالآيات.
الثاني: إعلان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على صاحبه، لأنه شاهد على الإقرار بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
الثالث: في الكفر بعد الإيمان ظلم من جهات:
الأولى: إنه إصرار على الجحود.
الثانية: فيه شاهد على الإستكبار في الأرض.
الثالثة: إشاعة الرذائل والأخلاق المذمومة بالتخلي العمدي عن فضائل الإيمان.
الرابعة: فيه حث لأهل الشك والريب لبث سمومهم بين المؤمنين.
الخامسة: فيه صد للناس عن الإيمان، بلحاظ أنه إمام في الإرتداد والصدود، ونهيهّم عن الدخول في الإسلام .
قد يتسرب الشك إلى نفس من يهم في الدخول في الإسلام من الفعل القبيح للذي كفر بعد الإيمان، فجاءت آية السياق لتقوية(خير أمة) وجعلهم يواظبون على جذب الناس للإيمان، فمن خصائص القرآن مجيء المدد الإلهي لهم من آيات القرآن من وجوه:
الأول: تثبيت أقدامهم في منازل الإيمان.
الثاني:دعوة الناس للإسلام.
الثالث: إقامة الحجة والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه.
صلة آية[لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( )بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: جاءت الآيتان خطاباً للمسلمين والمسلمات، وفيه أمور :
الأول: هل يشمل الخطاب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه يخرج بالتخصص لأنه صاحب الكمالات الإنسانية، وقد بلغ درجة نيل البر.
الثاني: هل ينحصر الخطاب بأهل البيت والصحابة أو هو أعم.
الثالث: لو لم ينفق المسلمون مما يحبون فهل يبقون في منازل(خير أمة) .
أما الأول أعلاه فإن الخطاب شامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعمومات الخطاب القرآني، ولكنه الإمام فيما ينفق، ومرآة الكمال في إنفاقه والأسوة في هذه الآية الكريمة، وعن بعض نساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يأتي المساء وليس عندهم عشاء، وكان في الصباح قد أنفق مائتي ألف وثلاثمائة ألف.
وأما الثاني فإن الخطاب في الآية عام لكل أجيال المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة.
ومن إعجاز آية السياق أنها جاءت بصيغة المضارع التي تحمل على الإستمرار والتجدد بينما جاءت آية (كنتم خير أمة) بلغة الماضي ليكون إنفاق المسلمين مما يحبون على وجوه:
الأول: تعاهد مرتبة(خير أمة).
الثاني: مبادرة المسلمين لفعل الخيرات، قال تعالى[وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثالث: في الإنفاق شاهد على أهلية المسلمين لمنازل(خير أمة).
الرابع: حث الناس للإقتداء بالمسلمين، وكون المسلمين أسوة حسنة للناس من خصائص مرتبة (خير أمة).
الخامس: نشر الأخلاق الحميدة، والفضائل بين الناس.
السادس: من خصال (خير أمة) إقتباس الشمائل والأخلاق الحسنة بعضهم من بعض بإمامة القرآن، وفي هذه الإمامة مسائل:
الأولى: إتصاف إمامة القرآن في المقام بصبغة العموم لتشمل:
الأول: المقتبس -بكسر الباء- للإنفاق.
الثاني: المقتبس منه.
الثالث: ماهية وكيفية الإنفاق، إذ أن القرآن يقيده بقيد (مما تحبون).
الرابع: الذي يكون سبباً في الإنفاق، أو يشارك في مقدماته.
الخامس: من يتعظ وينتفع من إنفاق غيره، فتكون إمامة القرآن عوناً له للإقتداء بالمؤمنين الذي ينفقون مما يحبون، وهو من خصائص (خير أمة) بأن يقتبس بعضهم من بعض فعل الصالحات، ويتناهون عن البخل والشح.
الثانية: إمامة القرآن في المقام علة وسبب لبلوغ المسلمين مراتب من العز والمنعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة: يمتاز المسلمون عن غيرهم بإمامة القرآن لهم كتاباً نازلاً من عند الله جامعاً للأحكام، سالماً من التحريف والتغيير، ولا تصله يد التبديل وإلى يوم القيامة.
الرابعة: من إمامة القرآن تضمنه بشارة الجزاء على الإنفاق.
وأما الأمر الثالث , وهو لو لم ينفق المسلمون مما يحبون فهل يبقون في منازل(خير أمة) الجواب من وجوه:
الأول: بين منزلة(خير أمة) و(نيل البر) عموم وخصوص مطلق، إذ أن نيل البر من خصائص(خير أمة).
الثاني: جاءت آية السياق لحث المسلمين على الإنفاق والتحلي بخصال خير أمة.
الثالث: الإنفاق أعم من أن ينحصر بالمال، فيشمل الجهاد في سبيل الله، وتوظيف الجاه والكلمة الطيبة ذات الصلاح والعفو، قال تعالى[قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى] ( ).
الرابع: قد نال المسلمون مرتبة(خير أمة) بفضل الله عز وجل بدليل مجيء آية البحث بالثناء عليهم.
الخامس: لا تصل التوبة لمثل هذا الوجه لأن الله أصلح المسلمين لهذه المنزلة الرفيعة والإنفاق في سبيله، قال تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] ( ).
المسألة الثانية: بيان حقيقة في الإرادة التكوينية وهي أن نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) لم يسقط عنهم التكاليف والمندوبات، بل أنهم نالوا تلك المنزلة لوجوه:
الأول: علم الله بمواظبتهم على أداء الفرائض وفعل الصالحات.
الثاني: اللطف الإلهي في هداية المسلمين لمرتبة (خير أمة).
الثالث: من خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته(خير أمة) بين أهل الأرض.
الرابع: وراثة المسلمين لتركة الأنبياء.
المسألة الثالثة: قيدت آية السياق نيل المسلمين البر بالإنفاق مما يحبون، أما غيرهم من الأمم فيحتمل الأمر فيهم وجوهاً:
الأول: شمولهم بذات الحكم في موضوع الإنفاق، وأنهم لن ينالوا البر حتى ينفقوا مما يحبون.
الثاني: إختصاص الحكم في الآية بالمسلمين لأنهم (خير أمة).
الثالث: يحتاج غير المسلمين الإنفاق بمرتبة أكبر وأكثر مما ينفق المسلمون.
الرابع: يكتفى من غير المسلمين بمسمى الإنفاق، وصرف الطبيعة منه.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول: إشتراط قصد القربة في قبول الإنفاق.
الثاني: مجيء آية(لن تنالوا البر حتى تنفقوا) خطاباً خاصاً للمسلمين بقيد الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، وعموم الحكم لغيرهم يحتاج إلى دليل وهو مفقود في المقام.
الثالث: ليس من برزخ وحاجب بين الناس والفوز بنعمة هذه الآية وما فيها من الحكم والهداية إلى منازل الرفعة في النشأتين إلا النطق بالشهادتين، وذات الآية تدعو الناس جميعاً للإسلام وهو من رحمة الله بالناس جميعاً في الحياة الدنيا.
المسالة الرابعة: تقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) .
فمع أن المسلمين نالوا أسمى المراتب في الخيرات وفعل الصالحات فأنهم إرتقوا إلى مرتبة(البر) بالإنفاق مما يحبون، وكأن بينها وبين مرتبة(خير أمة) عموماً وخصوصاً مطلقاً، ولكن لا دليل على هذه النسبة وليس من مرتبة أسمى من مرتبة(خير أمة) التي فاز بها المؤمنون إلا مرتبة النبوة والوحي التي خص الله عز وجل بها الأنبياء.
فالأصل هو أن نيل(البر) جزء وفرع من مرتبة(خير أمة) وليس مرتبة مستقلة قائمة بذاتها وهو شاهد على إحراز المسلمين لمرتبة(خير أمة) لذا جاءت خاتمة آية السياق بالإخبار عن الأجر والثواب للمسلمين على مطلق الإنفاق.
المسألة الخامسة: لما تفضّل الله عز وجل وأخرج المسلمين فأنه يأمرهم ويهديهم لما فيه صلاحهم وصلاح الناس ومنه الإنفاق الذي فيه منافع منها :
الأول: إنه إحسان محض للذات والغير .
الثاني: فيه إعانة لقضاء الحوائج ، وتيسير الأمور .
الثالث: إنه وسيلة لدرء الفتن.
الرابع: فيه دفع للغضاضة، وهو مانع من الكدورات وأسباب الحسد.
لتكون الدنيا دار تعاون ورحمة بين الناس، ومناسبة للتوبة والإنابة، وعرفان النعمة، وتطهير البطون من الحرام، وإجتناب اللغو والغيبة واللهو، ومحلاً للتدبر في آيات الله، ومعجزات النبوة، وأداء الفرائض والطاعات .
وليس من حصر لمنافع الإنفاق إذا كان من الأحسن والجيد، قال تعالى[وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ] ( ).
المسألة السادسة: الإنفاق الحسن نوع إيثار يصدر من ملكة الإيمان، فيكون تثبيتاً له في النفوس والمجتمعات، وهذا التثبيت من البر والخير الذي يسعى إليه المسلمون، إن خروج المسلمين للناس له غايات حميدة، فهم يعملون على تحصيل الخير ونشر معالم الإسلام، وبناء صرح الإيمان , وقيام الناس بعبادة الله بالكيفية التي يريدها سبحانه والتي جاءت في القرآن والسنة النبوية، ويساهم الإنفاق وفعل الخيرات في تحقيق هذه الغايات، بصيغ التخفيف عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
لذا فإن آية السياق عون وتعضيد لآية البحث، وفضل من الله في هداية المسلمين لتعاهد مرتبة(خير أمة) وقيامهم بالوظائف العقائدية والعبادية على أحسن وجه.
المسألة السابعة: إنفاق الحسن والأحسن من مراتب التقوى، وشاهد على صلاح المسلمين وحسن سمتهم وإيمانهم، لإتصاف إنفاقهم بأمور:
الأول: إنه إمتثال لأمر الله عز وجل.
الثاني: إرادة قصد القربة والطاعة لله، قال تعالى[وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ]( ).
الثالث: الإقرار بالنبوة والتنزيل واليوم الآخر، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب.
الرابع: إنفاق المسلمين جزء من صفاتهم كخير أمة.
الخامس: في إنفاق المسلمين للأحسن دليل على أن المسلمين أخرجوا للناس بلباس التقوى والصلاح .
قال تعالى بخصوص البُدن في الحج[لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ] ( )، كان أهل الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا البيت الحرام بالدم، فلما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعاد مناسك الحج إلى ما كانت في أيام إبراهيم، وبيّن أحكامها .
وتفضل الله عز وجل وأخبر المسلمين بموضوعية التقوى وقصد القربة وأنه تعالى غني عن لحوم الأضاحي ولكنها شاهد على صدق إيمان المسلمين، ويأتيهم الثواب بذبحها بإعتباره مصداقاً للتقوى والخشية منه، وفيه دلالة على موضوعية النية وقصد الإخلاص وطاعة الله في الفعل العبادي وتعظيم شعائر الله والإنفاق.
المسألة الثامنة: في أمر الله بإنفاق الأحسن بشارة للمسلمين بالسعة في الرزق، والقدرة على الإنفاق، وأنه لا يضر بحال المسلم وما عليه من الدعة والسعة، بلحاظ أمور:
الأول: أولوية الإنفاق على العيال، إذ أنها مقدمة على غيرهم.
الثاني: مجيء الآية بالتبعيض في الإنفاق من الرزق لقوله تعالى(مما تنفقون)، وفيه شاهد بأن ما يحبون من الخير يبقى عندهم منه.
الثالث: تجدد مضامين الآية القرآنية، وما فيها من الأمر والترغيب في الإنفاق، فكلما ينفق المسلمون من الأحسن والأجود، يأتيهم أمر آخر، ولا بد من موضوع للأمر الجديد، نعم جاءت خاتمة الآية لتبين السعة في نيل مراتب البر بالإنفاق من الميسور، والسعي في موارد الخير.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل ينعم على(خير أمة) فيجعلها قادرة على الإنفاق والعطاء، وفيه نكتة عقائدية وهي أن المال وسيلة لتحقيق الغايات، وبلوغ مراتب الشرف والعز، وسلاح للدفاع عن النفس والمصر والمبادئ.
فبقاء آية السياق حية وغضة طرية عيد متجدد للمسلمين، وبشارة الثبات على الإيمان، وحصانة ثغور المسلمين والمحافظة على النفوس والأعراض .
وقد سخرت أم المؤمنين خديجة أموالها للدعوة الإسلامية في بدايات البعثة لتكون إماماً في الإمتثال لمضامين آية السياق وإنفاقها ما تحب في سبيل الله .
فإن قلت أن الله عز وجل وعد الخلف والبدل على الإنفاق لقوله تعالى[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( )، وأن خديجة أنفقت كل أموالها في سبيل الله، وعاشت محنة الحصار في شعب أبي طالب إلى أن غادرت الدنيا، والجواب من وجوه:
الأول: الخلف من الله أعم من الأمر العاجل.
الثاني: لا ينحصر الخلف والعوض بذات العرض والجنس المنفق فيكون أعم.
الثالث: يأمر الله سبحانه بالإنفاق من الحسن، ويتفضل ويجعل العوض والخلف الأحسن، والله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين الذي يرزق بغير حساب.
الرابع: قد جاء الخلف لخديجة في الدنيا وهو على أقسام:
الأول: الخلف والعوض أيام حياة خديجة الكبرى، وهو من جهات:
الأولى: الهداية إلى الإيمان.
الثانية: الفوز بالإمامة والريادة في دخول الإسلام.
الثالثة: سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكر وكيد قريش وما يترشح عنها من إتصال الوحي والتنزيل.
الرابعة: تجلي معاني النصرة للنبي بالنفس والمال وهو شاهد على تصديق أهل البيت بنبوته، ودعوة للناس لإتباعهم.
الخامسة: نصرة الله عز وجل لرسول الله وخديجة وإظهار دين الإسلام، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
السادسة: ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام والقاسم والطيب وبنات خديجة الأخريات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الخلف في الحياة الدنيا، وليس من حصر لمصاديق الخلف الذي نالته خديجة الكبرى في الحياة الدنيا، وهو على جهات:
الأولى: الذكر الحسن لها في الحياة الدنيا.
الثانية: إقتداء المؤمنين والمؤمنات بخديجة في الإيمان والإنفاق، ومنه مضامين هذه الآية الكريمة ليكون أهل بيت النبوة أسوة كريمة للمسلمين في السعي لنيل البر والخير بالإنفاق من الأحسن.
الثالثة: في إنفاق خديجة شاهد على أن أهل البيت يمتثلون للأوامر الإلهي بأبهى وأحسن وجوه الإمتثال، وأنهم ينفقون ما عندهم بقصد نيل مرضاة الله.
الرابعة: ظهور دولة الإسلام بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وفي الخبر أن الناقة التي إتخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركوبه في هجرته كان ثمنها من مال خديجة.
الخامسة: ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة ذكراً طيباً، وخلودها في السنة النبوية.
السادسة: إكرام الله لخديجة بإقترانها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحياتها معه وإنفرادها بخصوصية من بين نسائه وهي أن لم يتزوج عليها إلى أن ماتت .
(وكانت خديجة من افضل نساء قريش شرفاً ومالاً ونسباً، وكانت تعرض مالها للتجارة، فلما بلغها ما يتصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمانة والصدق والعفة اعطته مالها ليخرج به الى الشام وابلغته انها تعطيه اكثر وافضل مما تعطي غيره .
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشام رأت خديجة النماء والبركة في مالها والربح العظيم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واخذ غلامها ميسرة الذي خرج معه الى الشام يقص عليها ما رآه من الآيات وحسن الشمائل والأخلاق الحميدة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف ان الملكين ظللا له في الحر، فارسلت اليه امرأة تبدي بواسطتها رغبتها في الزواج منه، وتم الزواج بعد رجوعه من الشام بشهرين وعدة أيام وتجتمع خديجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النسب بالجد الثالث وهو قصي وهي من بني مخزوم.
وكان الأشراف واهل الأموال يرغبون في نكاح خديجة ولكنها لا ترغب في أحد منهــم لما كتب الله لها من العــز والأفضــلية والإكـرام بالزواج من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان تكون أماًً للزهراء البتول، وذكر انها كانت تسمى في الجاهلية بالطاهرة لشدة حرصها على عفافها.
ومع انها كانت تزيد في سني عمرها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم زواجها منه , وماتت قبل الهجرة النبوية الشريفة الى المدينة المنورة بثلاث سنين، وكانت له في أيام الدعوة والسنين الأولى من البعثة عوناً وعضداً ومؤازراً كريماً، وقابلت بدايات الوحي بالتصديق , وسخرت اموالها لبث ونشر الرسالة واعلاء كلمة التوحيد) ( ).
(وكانت قريش اهل تجارة فهم يتعاطون التجارة ويقـــومون بنــقل بضــائعهم الى بعض البلدان ومنها الشام التي يجلبون منها السلع المناسبة كالثياب وبعض الأطعمة، قال تعالى [ لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ]( ).
وقريش عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يخرجون من مكة لأغراض التجارة استيراداً وتصديراً لجدب بلادهم ولجلب ما يحتاجون وزوار البيت الحرام، وكانت لهم رحلة بالصيف واخرى بالشتاء، الأولى الى الشام والثانية الى اليمن ويربحون الأموال، وقيل انهم كانوا يأخذون معهم من مكة الأدم واللب وما يقع من ناحية البحر من الفلفل ويجلبون الثياب والقمح) ( ).
السابعة: إكرام أجيال المسلمين والمسلمات لخديجة الكبرى، وإقرارهم بعظيم منزلتها في الإسلام، وتعضيدها لرسول الله بصفة الرسالة، وتسخيرها مالها في سبيل الله.
الثامنة: الخلف والعوض في ذرية خديجة، سواء ذريتها الصلبية في بناتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً سيدة النساء فاطمة الزهراء أو ذريتها، وفوزهم بآية التطهير[إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] ( ).
(ورد عن ام سلمة قالت: “في بيتي نزلت الآية وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهــرهم تطهــيراً، قالت أم ســـلمة: فانا معهـم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت على خـــير( )”، وفي رواية زيــد بن علي عن أبيه عن جده الإمام الحسين عليه السلام: “وأنا منهم بدل وأنا معهم( )”.
وروى قريب منه عن أبي سعيد الخدري وانس بن مالك وعائشة وأم سلمة ووائلة بن الأسقع واللام في [ لِيُـذْهِبَ ] للتوكيد. والرجس: الأفعال القبيحة والمآثم ووسوسة الشيطان، وقد يأتي بمعنى السخط واللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة كما ورد في عاد قوم هود بقوله تعالى [ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا]( ) وقال ابن عباس: الرجس: السخط) ( ).
التاسعة: إتخاذ المسلمين والمسلمات لسيرة خديجة منهجاً في الجهاد والصبر ومؤازرة المؤمنين، وفيه شاهد على تقدم الإسلام بقرون عن الدعوات في هذا الزمان بإعطاء المرأة حقوقها، فقد كانت خديجة تعطي وتهب وتقوم بالجهاد بنفسها، وعندها قدرة على إختيار الحق، وطريق الهدى بالتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد جعل الله عز وجل النعم على المسلمين متصلة ودائمة، ومنها نعمه تعالى على خديجة وذريتها.
الثالث: الخلف والعوض في الآخرة وهو خلف يفوق التصور الذهني في كمه وكيفه ومدته وإزدياده المطرد وعدم إنقطاعه إلى الأبد، ووردت نصوص عديدة في السنة النبوية تدل على منزلة خديجة، وفي رواية أنس(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد) ( ).
وبالإسناد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد)، وعن موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة بنت محمد ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون).
وكأن عدم زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة إلى حين وفاتها مرآة لإكرامها في الآخرة بالمرتبة العظيمة، وكذا بالنسبة لفاطمة فإن الإمام علي عليه السلام لم يتزوج عليها، ومريم لم تتزوج أصلاً.
أما آسيا فموضوعها خاص وقد إختارت الشهادة، ورفضت النعيم الزائل الذي كانت فيه مع فرعون لتفوز بالمرتبة العالية في الآخرة.
الثامنة: بيان لزوم توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على النعم العظيمة التي تتجلى في الآيتين مجتمعتين ومتفرقتين، لإستقراء نعم إضافية عديدة من إجتماع الآيتين، مع وجود نعم خاصة في ثنايا المضامين القدسية لكل من الآيتين.
والشكر على قسمين قولي وفعلي , ومن الشكر الفعلي في المقام المبادرة إلى الإنفاق من الأحسن، وإظهار الحرص على الإمتثال لأمر الله تعالى، وهذا الشكر سبب للفوز بالخير والأحسن من النعم، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
وهل الأمر بالإنفاق من الأحسن من هذه الزيادة من المسلمين على نعمة الهداية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن والإجتباء لمنزل (خير أمة) أم أن هذا الأمر جاء أصلاً وإبتداء.
الجواب من بديع صنع الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً تداخل النعم وكأنها من الأفراد الإرتباطية التي يتصل بعضها ببعض ليكون هذا التداخل مناسبة لتواليها على الناس، وإنتفاعهم الأمثل منها، ومقابلتها بالشكر لله وحسن الإمتثال لأوامره وتلك خصلة حميدة إتصف بها المسلمون لينالوا معها مرتبة (خير أمة).
التاسعة: في الإنفاق أطراف هي :
الأول: المنفِق -بكسر الفاء- وهو الباذل للمال والعطاء.
الثاني: المنفَق -بفتح الباء- وهو المال والعين والعرض الذي يتم بذله وإنفاقه.
الثالث: المنفق عليه الذي يدفع له المال وقد يكون شخصاً أو جماعة أو جهة إعتبارية.
الرابع: موضوع الإنفاق، سواء كان بلغة لتحصيل مقصد أو مقدمة لغاية وهدف.
وجاءت آية السياق بذكر الطرف الأول على نحو التعيين , وهم عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
وذكر الطرف الثاني على نحو الإجمال وهو الإنفاق إذ ذكرته على نحو الإجمال بتقييده، بأن يكون من الحسن المحبوب.
أما الطرف الثالث والرابع فإنهما لم يذكرا في الآية مما يدل على الإطلاق في موضوعهما والرجوع إلى القرائن في ذات الآية، وآية البحث(كنتم خير أمة) وآيات الإنفاق وآيات القرآن مطلقاً، إذ أن وحدة الموضوع أهم من أن تنحصر بالإنفاق ذاته بمادة (نفق) , وما يشتق ويتفرع عنها، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] ( ).
مما يدل على المندوحة والسعة في موارد الإنفاق ليفوز المسلمون بالإمتثال لمضامين هذه الآية، وهذه المندوحة من لطف الله بـ(خير أمة) بأن يسّر لهم سبل الإمتثال والمنافسة والمسارعة والأمر بالمعروف فيه بأن يحث ويساعد بعضهم بعضاً في موارد الخير والصلاح.
العاشرة: ذكرت آية البحث صفات حسن لخير أمة وأنها تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت آيات القرآن بالحكومة والتوسعة في بيان صفاتها، وهذه من خصائص(خير أمة) بحيث تتعدد الأوامر والنواهي الموجهة إليهم في القرآن، وتأتي السنة النبوية بأوامر ووظائف إضافية لقوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )، ويتلقى المسلمون هذه الأوامر على نحو العموم المجموعي والإستغراقي بالقبول والإمتثال .
وهو شاهد على فوزهم بمرتبة (خير أمة) وتجدد أهليتهم لها بين الناس في كل زمان، فليس من أمة وجيل إلا ويسلم لهم بتلك الأهلية، وفيه حجة على الناس، وترغيب لهم بدخول الإسلام، والإنضمام إلى الأمة التي تعمل مجتمعة ومتفرقة في نظام يومي دقيق، ومنهج عبادي متكامل يعجز العقل البشري عن تأسيسه ليكون حجة ودليلاً على أن أحكام الشريعة الإسلامية سماوية نازلة من عند الله، تتحدى أهل الكفر والجحود، والذين أخفوا البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتموا آيات التنزيل في الكتب السماوية السابقة لقاء ثمن زهيد من متاع الدنيا، والجاه الزائف فيها قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً] ( ).
لقد أخبرت الآية محل البحث عن صفات ثلاثة ثابتة للمسلمين ومصاحبة لهم حتى يوم القيامة وهي:
الأول: قيامهم بالأمر بالمعروف.
الثاني: نهيهم عن المنكر، وتعاونهم فيه.
الثالث: الإيمان بالله.
فكل فرد منهم يؤمن بالله، وهم أمة مؤمنة، ويتجلى معنى الجمع في إيمانهم بصلاة الجماعة اليومية، ووقوفهم صفوفاً بين يدي الله بأفعال مخصوصة، وجناس في الحركة العبادية ذات صبغة الخشوع والخضوع كالقيام والركوع والسجود وأدائهم مناسك الحج بحرص عام على كيفية توفيقية مخصوصة أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه شاهد على تنزه المسلمين من الغلو في دينهم، تلك الآفة التي أصابت أكثر الملل السابقة، فالمسلمون يتأسون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أفعاله العبادية طاعة لله عز وجل ليأتي الإنفاق في سبيل الله متشعباً وعلى وجوه , أما بالنسبة للأول أعلاه فهو على وجوه:
الأول: إنه مقدمة للأمر بالمعروف، وتهيئة لأسبابه.
الثاني: ذات الإنفاق أمر بالمعروف، ودعوة للصلاح.
الثالث: حث الناس على المعروف بلحاظ أن الإنفاق نفسه معروف.
الرابع: ديمومة الأمر بالمعروف، وعدم تعطيله أو الفتور والتكاسل فيه.
وأما بالنسبة للثاني وقوله تعالى(وتنهون عن المنكر)فهو على وجوه:
الأول: الإنفاق في سبيل الله توطئة ومقدمة للنهي عن المنكر.
الثاني: إنه سد للذرائع، وغلق لأبواب المنكر.
الثالث: الإنفاق إصلاح للنفوس، ووسيلة لنفرتها من القبيح والفعل المذموم , قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الرابع: الإنفاق سخاء وكرم في سبيل الله، مما يجعل النفوس تتنزه من دناءة المنكر، ودنس المعصية.
الخامس: يجعل الإنفاق النفوس تسيح في عالم الملكوت، وتبتعد عن موضع الذنوب والفواحش.
السادس: الإنفاق غلق لأبواب المنكر، وبرزخ دون فتحها، وصرف للناس عنها.
أما بالنسبة لقوله تعالى(وتؤمنون بالله) فالإنفاق على وجوه:
الأول: بيان موضوعية قصد القربة في عالم أفعال المسلمين، وحرص(خير أمة) على نيل مرضاة الله في السر والعلانية، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً] ( ).
الثاني: تثبيت الإيمان في صدور المسلمين.
الثالث: الإنفاق عون ومدد لأداء الأفعال العبادية.
الرابع: إنفاق المسلمين حرب على الكفر والكافرين، ودفع لمكرهم وكيدهم.
الخامس: الآثار المترتبة على الإنفاق في سبيل الله حجة على أنه في عين الله , وتتجلى تلك الآثار بالصلاح والتآخي بين المسلمين، وتمسكهم بالقرآن والسنة، وإعراضهم عن أهل الشك والريب.
السادس: النفع العظيم والأجر والثواب العاجل والآجل في الإنفاق، وهو سبب لزيادة الإيمان، والمسارعة في الإنفاق، وإختيار الإنفاق من الأحسن ومما يحب المسلم، قال تعالى[وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ]( ).
السابع: ترغيب الناس بالإسلام، وتهيئة مقدمات دخولهم فيه، وجعلهم يستغنون عن الكفار في معاشاتهم وطلب الرزق.
الثامن: الإنفاق من الأخلاق الحميدة، وهو بذاته أمر محمود، ويبعث الرضا في النفوس، ويبعد شج الإنشغال بالدنيا وهموم المكاسب ليكون مقدمة للتوجه إلى العبادات والسعي في مرضاة الله.
التاسع: إنه سلاح لمواجهة الكفار وإصرارهم على العناد، وقيامهم بالإنفاق في الباطل والصد عن الهداية ومسالك الإيمان، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
العاشر: الإنفاق في سبيل الله رشحة من رشحات الإيمان، وشاهد خارجي في عالم الأفعال على صدقه وإمتلاء الجنان به، وبلوغ المسلمين مراتب التقوى.
الحادي عشر: جاءت الآية محل البحث بالثناء على المسلمين ووصفهم بأنهم(خير أمة) وفيه غاية الرفعة والسمو بين الناس، وتضمنت الصفات الحميدة للمسلمين التي لا تفارقهم، ويسعون إليها بالنفس والمال , وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
وأطلت آية السياق على المسلمين والناس جميعاً بأن البر والخير مرتبة سامية لا تستطيع(خير أمة) بلوغها إلا بالإنفاق الحسن، والبذل الكريم، وتجلي معاني الإيثار في أفعالهم، لأن الإنفاق من الأحسن نوع إيثار لتكون الحياة الدنيا دار جهاد لإكتساب الحسنات، وإرتقاء في مراتب العلو والرفعة.
ومن اللطف الإلهي بخير أمة هدايتهم لسبل الإرتقاء وإقترانه بمنافع خاصة وعامة، دنيوية وأخروية، لما في الإنفاق من الحسن الذاتي والغيري من وجوه:
الأول: إنه سبب لنشر مفاهيم الصلاح، وأسباب الرشاد.
الثاني: إنه باب مبارك لإعانة المحتاجين، وإدخال السرور لقلوب المؤمنين، ودفع الفاقة عن الفقراء.
الثالث: فيه نزع لأسباب الكدورة والضغائن بين الناس، وطرد الحسد والبغضاء.
الرابع: يبعث الإنفاق الرضا في النفوس، ويجلب الثناء عليهم للحسن الذاتي والعرضي للإنفاق شرعاً وعقلاً، وترتب آثار حميدة عليه.
الثانية عشرة: جاءت هذه الآية بحث أهل الكتاب على الإيمان، والإعلان السماوي بأن الإيمان خير لهم في النشأتين، وإذا آمنوا وصدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل يتوجه إليهم الأمر بالإنفاق مما يحبون , أم أنهم خارجون بالتخصيص عنه، ويكتفى بإيمانهم.
الجواب هو الأول، لتغير الموضوع، ولحوق الحكم به، وصيرورتهم من المسلمين.
صلة(وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على(خير أمة) ببعثهم على المتعدد من وجوه الخير، إذ جاءت بداية آية السياق بالندب إلى إنفاق الأحسن، وأختتمت بالحث على الإنفاق مطلقاً.
الثانية: إن الله عز وجل عالم بكل الأشياء والأفعال، وهي جميعاً حاضرة عنده، مستجيبة لأمره، وفي ذكر علمه تعالى بخصوص الإنفاق وجوه:
الأول: بعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين بإخبارهم بأن إنفاقهم يعلمه الله، قال تعالى[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ] ( )، وبين الخير والإنفاق عموم وخصوص مطلق، فكل إنفاق هو خير، وليس العكس، وفي الجمع بينهما ترغيب بفعل الخير مطلقاً، وعدم الإكتفاء بالإنفاق، ومن مصاديق الخير الأمر بالمعروف والنهي المنكر.
الثاني: التذكير بالله عز وجل، وأنه سبحانه يعلم بأفعالهم وأقوالهم.
الثالث: الندب إلى فعل الصالحات، والترغيب بالخيرات رجاء مرضاة الله تعالى.
الرابع: التدبر في نظام الحياة الدنيا وحصول العوض والبدل من الله في الدنيا على الإنفاق، فقد لا يلتفت المؤمن إلى ما يرزقه الله بدلاً وعوضاً عن الإنفاق فجاءت آية السياق للتنبيه، وهي دعوة للتدبر في فضل الله.
ليكون من خصائص(خير أمة) الإرتقاء في سلم المعارف، والإقرار بأن الرزق وزيادته بيد الله عز وجل، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
الثالثة: لما جعل الله عز وجل المسلمين (خير أمة) وأخرجهم للناس، فإنه سبحانه أراد للمسلمين الصلاح والإصلاح، وتعاهد الإنفاق مطلقاً، سواء من الأحسن أو الحسن أو الإنفاق مطلقاً ليكون صفة ملازمة لهم في الحياة الدنيا.
الرابعة: يجري الإنفاق عند (خير أمة) في طول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون مصاحباً لهما، وعوناً في إتيانهما وعدم تعطيلهما، ومدداً في ترتب الأثر عليهما، وتحقيق الغايات الحميدة منهما، ومن مصاديق المعروف والإقلاع عن المعصية ما لا يتم إلا بالإنفاق.
الخامسة: ورد (شيء) في آية السياق على نحو الإطلاق وتقديره على وجوه:
الأول: وما تنفقوا من شيء حسن.
الثاني: ما تنفقوا من شيء أحسن.
الثالث: ما تنفقوا من شيء، أي على نحو القضية المهملة من غير تقييد بشرط.
نعم جاءت الآيات بخروج إنفاق الخبيث بالتخصيص، قال تعالى[وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ]( ).
السادسة: كما يعلم الله عز وجل بإنفاق المسلمين فإنه يعلم بأفراد مصاديق أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
فكل ما ينفق المسلم يعلمه الله، وكذا كلما أمر بمعروف ودعا إلى خير وصلاح، وزجر عن باطل، ونهى عن المعصية فإن الله عز وجل يعلم به، وفيه حث للمسلم بالثبات في منازل الإيمان، وترغيب بعمل الصالحات.
السابعة: قد يهّم المسلم بالإنفاق ثم يتردد خشية الحاجة والفاقة أو لسبب آخر ، أو أمر طارئ، فجاءت آية السياق لتخبر المسلمين بأنهم(خير أمة) ويجب ألا يخافوا من الفاقة لأن الله هو الرزاق، وهو الذي يخلف عليهم خيراً.
الثامنة: في الآيتين حث على الدعاء وسؤال التوفيق بالإنفاق من الأحسن، والمبادرة إلى الخير، والسلامة من الشح والبخل، ومن خصال(خير أمة) أنها تتخذ الدعاء وسيلة مباركة للتوفيق لفعل الخيرات فيدعو المسلمون ليهديهم الله عز وجل لأسباب الأمتثال لمضامين هاتين الآيتين.
التاسعة: الإخبار القرآني عن علم الله عز وجل بإنفاق المسلمين بشارة الأجر والثواب على الإنفاق، قال تعالى[وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ] ( ) .
وفيه إشارة إلى النهي عن إنفاق الخبيث لما فيه من تفويت نعمة الثواب على إنفاق الخير.
العاشرة: في الآية بيان لفضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختيار المسلمين لمنزلة (خير أمة) لما في الإنفاق مطلقاً من أمور:
الأول: نشر شآبيب الرحمة بين الناس.
الثاني: إصلاح ذات البين، قال تعالى[وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
الثالث: إفشاء مفاهيم الإحسان، ودفع الفاقة والحاجة مطلقاً.
الحادية عشرة: تدعو الآية محل البحث أهل الكتاب للإيمان، وتتضمن الإخبار بأنه خير لهم، وقد فاز المسلمون بالإيمان وبادروا إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله ليكون دعوة أخرى لأهل الكتاب وغيرهم من الناس لدخول الإسلام، ونيل الخلف والعوض على الإنفاق في النشأتين.
الثانية عشرة: لما وصفت هذه الآية المسلمين بأنهم (خير أمة) جاءت آية الإنفاق ليتعاهدوا معاني الأخوة الإيمانية بينهم، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة، بأن يكون كل إثنين منهم أخوين، وأظهروا أسمى معاني الأخوة بينهم إذ تقاسموا ما عندهم من المال والأغراض وكانوا يتوارثون بالمؤاخاة إلى أن نزلت آية المواريث، وقوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ] ( ).
الثالثة عشرة: تفيد الآية أن الله عز وجل يعلم الإنفاق الكثير والقليل، والحسن وغير الحسن،والجمعي والشخصي، والمتحد والمتعدد، مما يدل على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات.
الرابعة عشرة: جاءت الآية بلغة الخطاب لـ(خير أمة) بخصوص إنفاقهم ولم تقل الآية(وما يُنفق من شيء) فلم تشر الآية إلى إنفاق غير المسلمين مع أن الله عز وجل يعلمه أيضاً ,ولكن الماهية متباينة فإنفاق المسلمين في مرضاة الله، وإنفاق الكفار في العداوة لله ورسوله، قال تعالى في ذمهم وإنذارهم وبيان بطلان عملهم[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ] ( ).
الخامسة عشرة: جاء أول آية السياق بخصوص الإنفاق والبذل من المال والعروض، أما خاتمة الآية فجاءت بالمعنى الأعم الشامل للنفقة من العلم والجاه ومستلزمات الإيمان والتقوى.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوظيف الجاه والمشي في حاجات المؤمنين من الإنفاق وبذل الوسع لتعاهد منزلة(خير أمة)خصوصاً وأن الإنفاق أعم من أن تكون جهته المقصودة على نحو القضية الشخصية , وفيها أمور:
الأول: إرادة إكرام النوع.
الثاني: حفظ الملة والدين.
الثالث: نشر أحكام الشريعة الإسلامية.
الرابع: درء الضرر والأذى عن المسلمين وثغورهم.
الخامس: وقاية المؤمنين وذراريهم من مفاهيم الضلالة.
السادسة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الدنيا دار عمل وسعي، وليس من فرد أو جماعة أو أمة يسقط عنهم التكليف في الحياة الدنيا لذا ترى الخطابات التكليفية تتوجه إلى الناس جميعاً فأسست القاعدة الأصولية أن الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، وهو المشهور الأغلب .
ومع أن المسلمين(خير أمة) وتصاحبهم هذه الصفة إلى يوم القيامة لا تفارقهم أبداً لأنهم يؤمنون بالله ورسوله، ويتوارثون أداء الوظائف الشرعية فإن الله عز وجل أمرهم بفعل الصالحات، وندبهم إلى المسارعة في الخيرات.
السابعة عشرة: لقد جعلت آية السياق(البر)هدفاً يسعى إليه المسلمون، وجاءت آيات قرآنية تحث المسلمين على التعاون فيه، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
وليس من تعارض بين الآيتين، والجمع بينهما من إعجاز القرآن وأسباب إصلاح المسلمين لمنزلة(خير أمة) من وجوه:
الأول: جعل المسلمين البر واسطة وغاية يسعون إليها.
الثاني: لفظ(البر) من العناوين الجامعة التي تقع تحتها مصاديق عديدة , إذ أنه يشمل الخير والصلاح والمعروف والأمر به فتشير الآية إلى حقيقة وهي لا يستطيع المسلمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق الغايات منهما إلا بالإنفاق مما يحبون.
الثالث: بيان لزوم البذل والعطاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثامنة عشرة : قيدت الآية الإنفاق بأنه (مما تحبون) وفي متعلقه وجوه:
الأول: ما تحبه (خير أمة) على نحو العموم المجموعي، وهو من معاني الجمع بين الآيتين.
الثاني: ما يحبه المنفق نفسه لتوجه الخطاب في الآية إلى الذين ينفقون أموالهم , وتتجلى خصائص ما يحبه المنفق بلحاظ مضامين الآية الكريمة بأمور:
الأول: وصف آية السياق للمنفق -بضم الميم- بأنه بذل وعطاء.
الثاني: صدور الإنفاق من(خير أمة) دليل على حسنه الذاتي.
الثالث: الإنفاق وسيلة وبلغة للوصول إلى مراتب الرفعة.
الرابع: إخبار آية السياق بأن الله عز وجل يعلم الإنفاق.
الثالث: إرادة ما يحبه المنفق عليه إن كان مسلماً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالصحيح هو الأول، ويلحق به الثاني، ويكون الثالث في طول الثاني، فالمحبوب بذاته من المال المنفق ظاهر وبين .
وجاءت الآية لبذل المال والجاه والجهد لبناء صرح الإسلام، وتعاهد مبادئه وإستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترتب الأثر عليه.
التاسعة عشرة: جاء حرف الجر(من)في قوله تعالى(وما تنفقوا من شيء) للتبيين والإيضاح، كما في قوله تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] ( )، ولكنه لا يمنع من إرادة معنى التبعيض فيه أيضاً من الأشياء كلها التي يصح الإنفاق منها سواء كانت أعياناً أو عروضاً أو أموراً إعتبارية كالجاه وبذل المساعي الحميدة، وإصلاح ذات البين , وبذل الوسع في بيان الأحكام، وهداية الناس إلى التوبة والإنابة وفعل الخيرات.
العشرون: من الإعجاز في الجمع بين الآيتين مجيؤها بصيغة الجمع في لغة الخطاب، وفي لغة الجمع في الإنفاق وجوه:
الأول: السعة والمندوحة في الإنفاق وبذل المال.
الثاني: إرادة الإنفاق من الفرد والجماعة، بأن يشترك جماعة من المسلمين بالنفقة وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
وورد اسم البر في الآية أعلاه وآية السياق للحث على التعاون والشركة في النفقة وتهيئة مقدماتها والسعي فيها.
الثالث: قد يتخلف الفرد الواحد عن مقدار الحاجة في الإنفاق، وما فيه الصلاح، فتأتي لغة الجمع لحثه على الطلب من إخوانه المؤمنين المساهمة في الإنفاق وإتخاذه بلغة لتحقيق الغايات الحميدة التي تصبو وتسعى إليها(خير أمة) تلك الغايات التي تجلت في القرآن والسنة النبوية الشريفة.
بحث فقهي
مما إتصف به المسلمون فريضة الزكاة، إذ قرنها الله بعمود الدين الصلاة في نحو ثلاثين آية من القرآن، وهي من مواريث الأنبياء , وورد في التنزيل حكاية عن عيسى[وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( )، ووردت نصوص كثيرة من السنة النبوية في توكيد الزكاة وبيان فضلها، قال صلى الله عليه وآله وسلم وفي الحديث:خير مال المرء وذخائره الصدقة) وتلك آية في الشريعة الإسلامية إذ أن الصدقة خروج المال عن الملكية من غير عوض، ومع هذا يصفه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه مال وذخيرة لصاحبه، للوثوق بالعوض من الله عز وجل لذا فإنه سبحانه يأمر المصلين بالصدقة والإنفاق.
والزكاة في اللغة هي الطهارة والنماء، وفي الإصطلاح ما يجب في أموال خاصة بشروط معينة، ليكون من خروج المسلمين للناس خروج المال من أيديهم طاعة وقربة إلى الله عز وجل , وفيه البركة وزيادة المال وطهارته والنفوس من الأقذار المعنوية.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التنزه من الرذائل والأخلاق المذمومة، والزكاة من ضروريات الدين، وكيفية صرفها وأصناف المستحقين للزكاة آية إعجازية في قسمتها , وتحقيق الغايات الحميدة منها وتهذيب النفوس وأسباب الصلاح، قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ] ( ).
ومن مصارف الزكاة سهم(في سبيل الله) وهو جميع وجوه الخير وإعانة المؤمنين وتعظيم شعائر الله، وإصلاح ذات البين، ودفع الفتن والشرور عن المسلمين، (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِىٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ غَارِمٍ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِىٍّ) ( ).
وإذ جاءت الآيات بوجوب الزكاة والتحذير من إخراج الخبيث من المال، جاءت آية السياق بأسباب إرتقاء المسلمين في باب الصدقة والزكاة، فإخراج ودفع المال من غير بدل من أشق الأمور على الإنسان فجاءت هذه الآيات لتبين أموراً:
الأول: دفع الزكاة أمر واجب على من يتعلق النصاب في مالهم.
الثاني: عدم إنحصار الصدقة بالزكاة الواجبة، بل تشمل الإنفاق المستحب الذي يتعلق بصاحب النصاب فيكون زيادة على الواجب، والذي ليس عنده نصاب يكون له صدقة مستحبة، وتلك خصوصية يمتاز بها المسلمون بقيامهم بإخراج الصدقات الواجبة، والمبادرة إلى الصدقات المستحبة وهذا التعدد من خصائص(خير أمة).
الثالث: تقييد ما يخرجه المسلمون من الصدقات مطلقاً بأنه مما يحبون ليكون بلغة للغايات الحميدة , وسبيلاً لقضاء الحوائج وسد الذرائع.
صلة آية[ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد جعل الله عز وجل المسلمين حجة على الناس، من وجوه:
الأول: بيان أحكام الحلال والحرام بما أنزل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن والوحي، إذ أن قوله وفعله من الوحي .
الثاني: تلاوة الآيات التي تتضمن قصص الأنبياء، وجهادهم وسيرتهم، وإتخاذها نبراساً وسبيلاً للهداية، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الثالث: فضح التحريف الذي طرأ على الكتب السابقة.
الرابع: إتعاظ وإنتفاع المسلمين من قصص الأنبياء وسيرتهم التي جاءت في القرآن.
الخامس: فتح باب الدراسة والإستنباط في قصص الأنبياء، وإستقراء السنن منها، وبيان أنها لا تتعارض مع أحكام الإسلام.
الثانية: لما جاءت هذه الآية بالإخبار عن خروج المسلمين للناس، ذكرت آية السياق حلية الطعام على ذرية إسرائيل وهو يعقوب النبي، وفيه دليل على أمور:
الأول: منع تشويه الحقائق من مصاديق هذا الخروج.
الثاني: دعوة أهل الكتاب للرجوع إلى المسلمين لمعروفة قصص الأنبياء وإن كانوا من آباء بني إسرائيل.
الثالث: إتخاذ قصص وسيرة الأنبياء حجة ودليلاً على وراثة المسلمين لهم.
الثالثة: توكيد رحمة الله عز وجل في إتحاد وتشابه أحكام الحلال والحرام في الكتب السماوية، التوراة والإنجيل والقرآن.
الرابعة: بيان وجه من وجوه تفضيل بني إسرائيل وهو أن الطعام كله مباح لهم، وذات التفضيل فازت به (خير أمة) إلا ما ورد به الدليل من الكتاب والسنة مما يخرج عن اسم الطعام شرعاً ويكون ضرره أكثر من نفعه.
الخامسة: المباح قسم من التكاليف الخمسة، ومنه سنخية الأكل والشرب، وهو نعمة من نعم الله عز وجل على الناس، وباب لشكره تعالى على هذه النعمة المتجددة كل يوم وكل ساعة.
وتحتمل حلية الطعام وجوهاً:
الأول: الحصر على بني إسرائيل على نحو التعيين لأنه نوع إكرام لهم، وجزء من أسباب تفضيلهم، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني: العموم وشمول الناس جميعاً بإباحة الطعام، فالناس شرع سواء في نعمة الطعام، إذ سخره الله لهم جميعاً.
الثالث: إنحصار نعمة حلية الطعام ببني إسرائيل لتفضيلهم، وبالمسلمين لأنهم(خير أمة).
الرابع: إختصاص الموحدين من المسلمين وأهل الكتاب بحلية الطعام دون غيرهم من الناس.
والصحيح هو الثاني، لأن إطلاق إباحة الأكل من رحمة الله عز وجل بالناس، وهو باب للتدبر في الخلق وعظيم قدرة الله.
السادسة: توكيد إنحصار تفضيل بني إسرائيل بخصوص أهل زمانهم، وإنقطاع هذا التفضيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورته مقيداً بدخول الإسلام، فإذا أراد بنو إسرائيل إستمرار تفضيلهم فعليهم أن يصدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعوه فيما جاء به من عند الله وهو الذي أخبر بما أنزل عليه بأن بني إسرائيل أمة فضلها الله .
ويتجلى هذا التوكيد بخروج المسلمين لبني إسرائيل بالإحتجاج عليهم بأن الطعام كله حل لهم، وليس من طعام مزكى محرم عليهم و(كل) سور الموجبة الكلية، ورد لبيان عظيم فضل الله عز وجل على بني إسرائيل وهو من مصاديق تفضيلهم.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر يشمل المباحات، وبيان نعم الله عز وجل على الناس والزجر عن حرمان النفس منها .
وهو من خصائص(خير أمة) بأن يقود المسلمون الناس في سبل الإنتفاع الأمثل من الرزق الواسع الكريم الذي تفضل الله عز وجل به، ويحتجون على الذي يشدد على نفسه في باب الأكل من الطيبات.
ومن الآيات في المقام إباحة طعام أهل الكتاب للمسلمين، وعدم الحرج من الأكل من طعامهم، قال تعالى[وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ] ( ) , على إختلاف بين الفقهاء في ماهية الطعام , وهل هو البر أم مطلقاً .
والمختار طهارة الكتابي وفي رسالتنا العملية (المسألة (105) :
الكتابي وهو اليهودي والنصراني طاهر على الأقوى وفيه إخبار عديدة، والمشهور قال بالنجاسة للطائفة الأخرى من الأخبار ولكن يمكن حملها على التنزه والحث على اجتنابهم والبينونة بين المسلمين وبينهم) ( ).
الثامنة: مع أن بني إسرائيل نالوا مرتبة التفضيل فإنهم حرموا أنفسهم مما أباح الله لهم من الطيبات، ويدعون الناس لهذه النعمة بدخول الإسلام , ويحتجون بالبرهان على الذي يحرمها على نفسه، فالمسلمون لم يكتفوا بإباحة الطيبات والتنعم بها، بل توجهوا إلى أهل الكتاب وجدالهم بالبينة والبرهان بخصوص المباحات وهو من أسرار خروجهم للناس، وأهليتهم لهذا الخروج بالجهاد بالحكمة والموعظة، قال تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
التاسعة: بيان تفقه المسلمين في أمور الدين، ومعرفتهم بقصص الأنبياء وسننهم وسيرتهم.
العاشرة: الإخبار عن حال نبي الله إسرائيل عليه السلام من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم به في التنزيل الباقي في الأرض إلى يوم القيامة , وهذا البقاء مما فازت به (خير أمة) في جهادها في سبيل الله وحفظ مواريث الأنبياء بما يكون رحمة وتخفيفاً وحجة على الناس.
الحادية عشرة: بيان موضوعية نزول التوراة في حياة بني إسرائيل، وأنها كالناسخ لما قبلها من سنن الأنبياء، وكذا بالنسبة للقرآن فأنه ناسخ لما قبله، كما أن أحكام إباحة الطيبات من الأطعمة مطلقة وتتضمنها التوراة والقرآن.
فلو تعارضت الإباحة في القرآن والتوراة مع تحريم نبي من الأنبياء السابقين لطعام مخصوص، فلا بد من العمل بأحكام القرآن والكتب السماوية السابقة التي نزلت رحمة للناس، وسبيلاً للهداية، وبرزخاً دون التشديد على النفس.
الثانية عشرة: بيان فضل الله عز وجل على بني إسرائيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين لهم وللناس جميعاً بتوكيد حلية الأطعمة عليهم، وعدم تحريم بعضها لواقعة شخصية لأحد الأنبياء.
الثالثة عشرة: لا يقول اليهود بالنسخ في الشرائع، ووقفوا عند بعثة موسى وكتاب التوراة، وما فيه من الأحكام، فجاء القرآن بالإحتجاج عليهم بذات التوراة، وفيه وجوه:
الأول: إرادة نفع بني إسرائيل في أمور الدنيا والتنعم بها وفيها ، أما بخصوص الآخرة فالطريق للنجاة فيها هو الإيمان، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ] ( ).
الثاني: بيان حاجة بني إسرائيل لنزول القرآن، وهو من عمومات[َيابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
الثالث: رفع الحرج والعناء عن اليهود والذي سببهما الإمتناع عن شطر من الطيبات.
الرابع: جعل بني إسرائيل ينشغلون في إصلاح أنفسهم.
الخامس: تحبيب الصدور عن القرآن لبني إسرائيل وغيرهم.
السادس: الزجر عن الجدال والمغالطة في آيات القرآن.
السابع: الدفع عن المؤمنين، وجعلهم يؤدون الفرائض والمناسك بيسر ومندوحة.
الرابعة عشرة: من صفات(خير أمة) الإحتجاج على أهل الكتاب بما جاء في كتبهم ليكون هذا الإحتجاج توكيداً لبشارتها بالقرآن وتصديقها له، ولم يأت الإحتجاج بكيفية مناسك بني إسرائيل، بل جاء بخصوص الطعام والمباحات، والتفصيل بين الحكم الشرعي المستغرق للجميع، وبين القضية الشخصية وإن كانت لخصوص نبي من أنبياء بني إسرائيل.
الخامسة عشرة: جاء إحتجاج القرآن على بني إسرائيل دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ولمنع تسرب الشك والريب لنفوس المسلمين في الأجيال المتأخرة من المسلمين، إذ إحتجت اليهود على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إذا كان على ملة إبراهيم فكيف يأكل لحوم الإبل، وأدعّوا أنها حرام في ملة إبراهيم فجاء القرآن بأمور:
الأول: بيان حلية الطعام على بني إسرائيل، وعدم وجود تحريم عليهم.
الثاني: إنحصار التحريم بخصوص لحوم الإبل أو العروق وحدها بخصوص نبي الله إسرائيل، وعن يوسف بن ماهل عن ابن عباس(هل تدري ما حرم إسرائيل على نفسه؟ ان إسرائيل أخذته الأنساء فاضنته، فجعل لله عليه إن عافاه الله أن لا يأكل عرقاً أبداً فلذلك تسل اليهود العروق فلا يأكلونها) ( ).
الثالث: إعتبار زمان التوراة، وتقديمها في الإحتجاج عما قبلها من أفعال الأنبياء، ومن إعجاز القرآن أنه أكد عدم التعارض بين التوراة وأفعال الأنبياء السابقين، ولكن فعل إسرائيل كما في الخبر حالة خاصة وجاء طلباً للسلامة، أو أن التحريم جاء بالعرض إذ أنه عن نذر، ولو تنزلنا وقلنا بالتعارض بين نذر إسرائيل وأحكام التوراة فإن العمل يكون بما في التوراة.
وليس من تعارض بين ما في التوراة وما يفعله النبي من التنعم بالطيبات، لتتخذ (خير أمة) فعل النبي هذا وأكله للطيبات أصلاً في التشريع، وفيه نكتة وهي إجتماع أدلة التشريع للإحتجاج على بني إسرائيل من وجوه:
الأول: مجيء القرآن وهو المصدر الأول للتشريع بالإجتماع المقرون بالبيان والتفصيل.
الثاني: السنة النبوية وهي المصدر الثاني للتشريع، فمن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يمتنع عن أكل لحوم الإبل إرضاء لليهود أو إجتناباً لجدالهم وشكهم، بل نصره القرآن بالحجة والبرهان، مما يدل على أن فعله المباحات من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، خلافاً لمن ذهب إلى خروجها بالتخصص عن الوحي.
الثالث: تعضيد القرآن للسنة الفعلية، ونصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه تثبيت للإيمان في نفوس أجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
السادسة عشرة: بيان الحاجة إلى القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في باب الأطعمة والإباحة لوصول يد التحريف والتشديد على النفس إليها، وتحريم ما هو حلال ومباح للناس، لذا قيدت آية السياق تحريم إسرائيل لطعام مخصوص بأنه (على نفسه) فقط سواء بالنذر أو اليمين أو غيره وأنه لا يتعدى لغيره، وبيان حقيقة وهي أن التحريم له معنيان لغوي وإصطلاحي، والأول أعم من الثاني إذ أنه يشمل المنع (والحِرْمانُ نَقيضه الإعطاء والرَّزْقُ) ( ).
(أخرج الحاكم بالإسناد روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كل مسلم على مسلم محُرم أخوان نصيران) ( )، وفي لسان العرب(عن مسلم) بدلاً من(على مسلم).
والمعنى اللغوي هو الظاهر من فعل إسرائيل، فجاء القرآن لمنفعة بني إسرائيل، وتخليصهم من التشديد على النفس والحرمان من بعض الطيبات .
إن ذكر إسرائيل على نحو التعيين حجة على أهل الكتاب لتعاقب الأنبياء والرسل ونزول الكتب السماوية من بعده وتصديق بعضها لبعض، وورد في التنزيل في عيسى عليه السلام[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]( )، ومن أسباب الهدى والموعظة عدم تحريم الطيبات وأن حرّمها يعقوب عليه السلام على نفسه.
السابعة عشرة: من خصائص(خير أمة) الإقرار بأن التوراة كتاب نازل من عند الله لقوله تعالى[مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ] وأنهم يريدون إحضارها وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ] ( )، وتدل تلاوة المسلمين للآية على أمور:
الأول: تسليم المسلمين بصدق نزول التوراة، وهي شهادة عظيمة لأنه من(خير أمة) ولبقائها إلى يوم القيامة.
الثاني: قبول المسلمين لما في التوراة من الأحكام لأنها لا تتعارض مع أحكام القرآن في أكل الطيبات.
الثالث: توكيد سعة رحمة الله بالعباد، وتسخير الأشياء لنفع الإنسان، وجعلها وسيلة للعبادة، ومادة لشكر الله عز وجل على النعم قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
الثامنة عشرة: تأسيس القرآن لقانون في باب الإحتجاج وعالم الأفعال، وهو إعتبار التنزيل هو الأصل، وقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالطلب من اليهود إخراج وعرض التوراة ، وتلاوتها وبيان الحكم فيها بخصوص حلية لحم الأبل، وعدم تضمن التوراة لحرمته.
التاسعة عشرة: جاء الإحتجاج من وجهين:
الأول: إحضار بني إسرائيل التوراة.
الثاني: تلاوة بني إسرائيل التوراة.
ولم يسع المسلمون لإحضارها، ولا يقومون بتلاوتها، لأن(خير أمة) تكتفي بتلاوة القرآن وفيه أمور:
الأول: إباحة الطيبات للمسلمين.
الثاني: نفي تحريمها.
الثالث: إنكار تحريم بني إسرائيل لبعضها.
الرابع: زجر الناس عن الإجتهاد بما فيه الحرمان مما أحلّ الله , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (نتلوها) والجواب إن المسلمين يقومون بتلاوة القرآن، ويصدرون عنه، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بني إسرائيل لتلاوة التوراة لتتجلى حجة نزول القرآن بما في التوراة من الشواهد والبشارات على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
صلة(قل فآتوا بالتوراة)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاء الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب، فلا بد أن يحتج على بني إسرائيل بإباحة الأكل وعدم وجود مخصص لها، وتقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة أخرجت للناس فقولوا فأتوا بالتوراة).
الثانية: من خصائص(خير أمة) أنها تبقى تعمل بأمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، فنزل قوله تعالى(قل) لتقوم أجيال المسلمين والمسلمات بتلاوة هذا القول، وتحتمل هذه التلاوة وجوهاً:
الأول: إرادة ذات التلاوة وقصد القرآنية، وما فيها من الأجر والثواب.
الثاني: إقامة الحجة على بني إسرائيل، لأن تلاوة هذه الآية نوع إحتجاج عليهم، وتذكير بنعم الله عز وجل عليهم، ونهي عن التشديد على النفس بعدم الإنتفاع من بعض هذه النعم , وفي قصة ذبح البقرة ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله أولئك بنو إسرائيل شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
الثالث: تلاوة هذا القول بتدبر وتفقه في الدين.
الرابع: إتخاذ هذا القول موعظة وعبرة وسبباً لإصلاح الذات والغير.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، والمنافع المترشحة عن التلاوة بلحاظ أنها أكثر من أن تحصى.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل لأوامره البقاء والتجدد في الأرض، فتفضل بأمور:
الأول: تصديق أمة عظيمة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
الثاني: حفظ القرآن من التحريف، ومنع وصول يد التغيير والتبديل إليه، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثالث: تلاوة المسلمين لآيات وسور القرآن على نحو الوجوب اليومي.
الرابع: بلوغ المسلمين مرتبة(خير أمة) وجعلهم قادرين على التدبر في آيات القرآن، وإستنباط السنن منها.
الخامس: خروج المسلمين إلى الناس كافة بالقرآن، وأوامر الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا الخروج من أسباب صيرورة المسلمين (خير أمة) وتعاهدهم لهذه المنزلة، وعجز الأمم الأخرى عن بلوغ مرتبتهم، وورد في قوم من بني إسرائيل يسكنون على شاطئ البحر، (وعن ابن عباس أنها إيلة) ( )، إذ تأتي لهم يوم السبت على نحو الخصوص الحيتان الكبيرة مثل الكباش البيض ظاهرة في الماء، وكان الصيد محرماً عليهم يوم السبت، أما في غيره من الأيام فإنها تغوص في الماء، فإتخذوا الحياض ونحوها لسوق الحيتان لها يوم السبت، فيأخذونها يوم الأحد وهذا السوق والحجز فعل منهي عنه، ومقدمة محظورة، فإنقسم بنو إسرائيل إلى ثلاث فرق:
الأولى: الصيادون الذين يعتدون بحجز الحيتان يوم السبت، وصيدها يوم الأحد.
الثانية: فرقة تنهى عن هذا الفعل.
الثالثة: فرقة ساكتة عن الفعل آيسة من إصلاح المعتدين , مع تسليمها بقبحه الذاتي وما يجلبه من الضرر، قال تعالى[وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا] ( ).
ولما نزل العذاب لم تنج إلا الفرقة الثانية المذكورة أعلاه التي كانت تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر.
وجاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتجعل في الأرض أمة متحدة متآخية تشترك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تنشطر إلى ثلاث فرق في هذا الباب، بل تجتمع الأمة على دعوة كل فرد منها إلى المعروف ونهيه عن المنكر، وتتوجه بذات الوقت إلى الناس جميعاً لوعظهم ونصحهم وهدايتهم.
وتأتي هذه الآيات ليتعاهد المسلمون الإشتراك العام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مسخ الله عز وجل الذين إعتدوا في السبت، قال تعالى[فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ] ( )، ولا يبقى مسخ أكثر من ثلاثة أيام (وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى لم يمسخ شيئاً، فجعل له نسلاً وعقباً) ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وعصمهم من المسخ مع أن مدة بقائهم أطول بكثير من الأمم السابقة، وهذه العصمة من خصائص(خير أمة) وأسرار تعاهدها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة: من خصائص المعجزة التحدي في ذاتها ودلالتها، وبيان عجز الناس عن الإتيان بمثلها، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إنحصار التحدي فيها بآيات القرآن، بل يشمل الكتب السماوية السابقة ومضامينها القدسية، والكشف عن قانون في الإرادة التكوينية، وهو الإلتقاء والتصديق فيما بينها، فهي شاهد على صدق نزول القرآن، وهو مصدّق لنزولها، وكاشف عما طرأ عليها من التحريف والتغيير.
ومما ينفرد به التحدي القرآني تجدده في كل زمان، فالقرآن باق في الأرض بسلامة من التحريف، وعصمة من التغيير، وهو يدعو اليهود بإخراج وتلاوة التوراة , وإتخاذها حجة وناصراً للقرآن في أمور الحلال والحرام.
صلة(إن كنتم صادقين)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاء قوله تعالى(إن كنتم صادقين) للتحدي والتبكيت، وورد في القرآن سبعاً وعشرين مرة، وليس فيها خطاب للمسلمين، وهو آية في إكرام المسلمين، وشاهد على أنهم (خير أمة) إنما يرد التوبيخ على ألسنتهم في ذم غيرهم، وإقامة الحجة عليهم.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون حجة على الناس من وجوه:
الأول: في نبوته ومعجزاته العقلية والحسية، وسنته وجهاده في سبيل الله، ومن معجزات النبي الحسية (ما رواه سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر كم كنتم يوم الشجرة قال كنا ألفاً و خمسمائة و ذكر عطشاً أصابهم قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بماء في تور فوضع يده فيه , فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون قال فشربنا وسعنا و كفانا قال قلت كم كنتم قال لو كنا مائة ألف كفانا كنا ألفاً و خمسمائة) ( ).
الثاني: نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحكام الحلال والحرام، ونفي التحريف عنها، والمنع من تحريم بعضها.
الثالث: خروج المسلمين للناس بلباس التقوى وبآيات القرآن وهدي سنة سيد المرسلين لنشر لواء التوحيد، وإصلاح النفوس، والإنتفاع الأمثل من النعم الإلهية.
الثانية: من الشواهد على أن المسلمين(خير أمة) عدم تحريمهم ما لم يحرمه الله بعد أن قام الموحدون من الأمم السابقة بتحريم بعض الطيبات .
ومن الآيات أن النبي محمداً يحتج على الناس بمسائل التوحيد وعلم الكلام ويدعوهم لعبادة الله، ويجتهد لبلوغ المسلمين مراتب(خير أمة) ويجاهد بالسيف والأهل والأصحاب في سبيل الله، ويتوجه لأهل الكتاب ويدعوهم لأكل الطيبات، وعدم حرمانهم منها، وهذه الدعوة من الإحتجاج والذب عن النفس لأن اليهود آخذوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على أكله لحم الأبل.
الثالثة: جاء الإحتجاج على بني إسرائيل بحلية لحوم الإبل، لوجوه:
الأول: تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين.
الثاني: إصلاح المسلمين للجدال بالبينة والدليل، ورد الشبهات وإبطال المغالطة.
الثالث: تحذير المسلمين من الإجتهاد مقابل النص، والقيام بتحريم بعض الطيبات.
ومن الشواهد على كون المسلمين (خير أمة) أنهم إتعظوا من قصص الأمم السابقة، ولم يخالفوا الكتاب والسنة في الحلال والحرام، فأقبلوا على الطيبات، وتركوا الخبائث وهم شاكرون لله على نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وما فيها من أسباب الهداية والرشاد.
الرابعة: قال اليهود بعدم وقوع النسخ بين الشرائع، وبقوا على أحكام التوراة، فجاءت الآية بالرجوع إلى التوراة في حكم إباحة الطيبات، والدعوة إلى إخراجها وتلاوتها وبيان الحجة في النسخ بين الشرائع، أي أن موضوع إخراجها أعم من أن ينحصر بعدم حرمة لحم الجزور في التوراة، ففيها برهان ودليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم نصرته , وتذكير بالبشارات بنبوته في الكتب السماوية السابقة.