معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 80

المقدمة
الحمد لله رب السموات والأرض وما بينهما، الذي جعل الأشياء كلها مستجيبة , لأمره ساجدة له، وتفضل ورزق خليفته في الأرض خاتم الأنبياء كنز الدنيا والآخرة وهو القرآن، وجعله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، لتكون علومه متجددة تترشح عن خزائنه الذاتية من غير إستعانة بوسائط مستحدثة كالعولمة والثورة التقنية، والإكتشافات العلمية، فتلك أمور إضافية لإستنباط وإستخراج دور أخرى من القرآن، وفيه حجة على الناس، وشاهد عقلي إنحلالي على صدق نزول القرآن من عند الله ليستوي على عرش التنزيل، ويكون ذخراًً لمن أعرض عن الشك والريب وأسباب المغالطة، ولجأ إلى حصن الإيمان والسياحة في ذخائر القرآن ومصاديق آياته الواقعية اليومية التي تجذب النفوس، وتجعلها تميل إلى أداء الفرائض برغبة وشوق.
وجاءت منهجية المليون جزء من تفسيري هذا في سياق الآيات وحده وفيضاً ولطفاً من الله لإستقراء المضامين القدسية المتلألئة في طيات آيات القرآن والجمع بينها , وبما لم يكن من أفراد الوجود الذهني , ولكنه أمر قريب من عقول المؤمنين لوجود المقتضي وفقد المانع، والتسليم بأن علوم القرآن من اللامتناهي وأن مدارس القرآن مادة للصلاح وتهذيب المجتمعات , وهو من عمومات قوله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والتي جاء هذا الجزء وهو الثمانون في صلتها مع عشر آيات من الآيات التي سبقتها من سورة آل عمران، في مبحث تفسيري وأصولي مستحدث يستلزم الصبر في قراءته ودراسته والتدبر في دلالاته وفيه آيات من الشكر والثناء على الله للنعم القرآنية والإفاضات الربانية.
وهو من وجوه تفسير قوله تعالى[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]( )، لما في الوحي وتلاوته والتقيد بأحكامه من مجاهدة النفس، وإستحضار الحيطة والحذر في الأمور الإبتلائية التي تواجه وتهاجم الإنسان في اليوم والليلة، وفي السوق والبيت وميادين العملو, والإعراض عن أسباب الدعة .
ومن معاني(قولاً ثقيلاً) أنه مبارك وتجلت في هذا السفر معاني البركة والكشف وتجليات الإعجاز القرآني، وتعدد أصوله في ذات الآيات وماهية ألفاظه والجمع بينها، قال تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( ).

قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]الآية 110
صلة آية(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)( ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إختصاص موضوع الخطاب في الآيتين بالمسلمين وفيه تشريف لهم، ودعوة للناس لإكرامهم.
الثانية: وردت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية والخطاب للمسلمين، أما هذه الآية فجاءت بصيغة الجملة الخبرية.
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين:
الأول: يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة أخرجت للناس.
الثاني: في الآية أعلاه حذف وتقدير الجمع بلحاظ يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد كنتم خير أمة.
الرابعة: من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) مجيء الخطاب القرآني التشريفي لهم، بصبغة الإيمان(يا أيها الذين آمنوا).
الخامسة: لم يخرج المسلمون للناس إلا بصفة الإيمان التي تصاحبهم أيام الحياة الدنيا وهو من فضل الله عز وجل من جهتين:
الأولى: فضل الله على المسلمين من وجوه:
الأول: تسلح المسلمين بالإيمان.
الثاني: ملازمة الإيمان للإمامة بين الناس.
الثالث: وقاية المسلمين من الخطأ والزلل في الدعوة إلى الله، لذا وردت الآيات بأمر المسلمين بالتمسك بالقرآن بسور الموجبة الكلية (جميعاً) قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الرابع: إحتراز المسلمين من الإقتباس والأخذ من أهل الضلالة والفسوق، فقد يخرج ضعيف الإيمان إلى الفاسقين فيؤثرون فيه ويأخذ من مفاهيمهم وعاداتهم أكثر من الذي يأخذونه منه.
فجاءت الآية أعلاه لتخبر أن الإيمان حاجة في الخروج للناس والأمر بالمعروف ليبقى المسلمون في مأمن من الخلط في العمل، كما ورد في التنزيل في قوم أعترفوا بذنوبهم رجاء التوبة والعفو من الله بعد أن[خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] ( ).
الثانية: فضل الله على الناس وفيه وجوه:
الأول: جذب الناس إلى سبل الهداية والإيمان.
الثاني: الزجر عن التعدي على المسلمين، والإضرار بهم.
الثالث: إقامة الحجة على الناس.
الرابع: بيان حقيقة وهي فتح باب التوبة للناس عموماً , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا] ( ).
السادسة: تقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة اتقوا الله.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين توكيد الملازمة بين منازل (خير أمة) وبين تقوى الله، وتحتمل هذه الملازمة وجوهاً:
الأول: الملازمة بين كل فرد من أفراد(خير أمة) وبين تقوى الله، وتحتمل هذه الملازمة وجوهاً:
الأول: كل فرد من أفراد(خير أمة) يتقي الله.
الثاني: قيام طائفة من الأمة بتقوى الله، كما في التفقه في الدين، قال تعالى[لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] ( ).
الثالث: كفاية المسمى وصرف الطبيعة، كما لو قام علماء الأمة بتقوى الله.
والصحيح هو الأول، إذ أن الخطاب في الآية القرآنية إنحلالي وتكليف عام يتوجه لكل المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة، وفيه آية تدل على مصاحبة صفة(خير أمة) للمسلمين، ليكون إقتران التقوى بالإسلام من خصائص(خير أمة) ومما ينفرد به المسلمون دون غيرهم من المحاسن، ولم تقدر عليه أمة غيرهم إذ تعرضت الكتب السماوية السابقة وأحكام الشرائع للتحريف، ولم يتقيد الناس بماهية وكيفية التكاليف، وإختاروا الدعة ومالوا إلى الدنيا وزينتها، ليتولى المسلمون حفظ التنزيل والعناية بالفرائض بأدائها كاملة غير ناقصة.
الثامنة: تنفرد (خير أمة) بنزول الأمر الإلهي إلى أفرادها بتقوى الله والخشية منه سبحانه، فلم تتضمن الآية الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأمر المسلمين بتقوى الله، بل أمرت المسلمين بالذات أن يتقوا الله ويخشوه بالغيب، وفيه وجوه:
الأول: إنه نوع إكرام للمسلمين والمسلمات.
الثاني: بعث المسلمين للتقيد بسنن التقوى وأداء الفرائض.
الثالث: إنه شاهد على كون المسلمين(خير أمة).
الرابع: إقامة الحجة على الناس، وبيان أهلية المسلمين لمنازل (خير أمة) بتعاهدهم للتقوى.
التاسعة: الجمع بين الآيتين من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وبيان أن العبادة تتقوم بتقوى الله عز وجل، فلابد من وجود أمة ممتثلة لعلة الخلق وعبادة الله، وجاءت هذه الآية لتبين أن التقوى شرط وجزء من العبادة.
العاشرة: من القواعد الأصولية أن التكليف بما لا يطاق قبيح، والله عز وجل منزه عن القبيح، فلا يأمر إلا بما يقدر عليه العباد، فجاءت الآية لبيان حقيقة من وجوه:
الأول: إن الإنسان قادر على تقوى الله والخشية منه بالسر والعلانية.
الثاني: إشتراك النساء في تقوى الله بعرض واحد مع الرجال.
الثالث: وجود أمة في كل زمان تتقي الله وتمتثل لأوامره.
الرابع: إنتفاء العسر والشدة في التقوى.
الحادية عشرة: الأمر بتقوى الله رحمة ونعمة إختص الله عز وجل بها المسلمين دون غيرهم من الأمم، من غير أن يغلق الباب بوجه الناس للإنتفاع منها لدعوة الناس جميعاً للإسلام.
الثانية عشرة: هل يكون الأمر بتقوى الله مانعاً من دخول فريق من الناس الإسلام لما فيه من التكليف والمشقة، الجواب لا، فان الأمر بالتقوى جاء عاماً شاملاً للناس جميعاً قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، وفيه وجوه:
الأول: مجئ الأمر بتقوى الله لكل الناس بلحاظ الخلق ولأصل الماهية التي تتقوم بالعبودية لله ، وكل إنسان يدرك أن الله عز وجل هو الذي خلقه.
الثاني: التقوى شكر لله على نعمة الخلق، وسر بقاء وإستدامة الحياة.
الثالث: جاءت الآية أعلاه بالخطاب الإستغراقي العام للناس، أما آية (حق تقاته) فتضمنت الخطاب الخاص للمسلمين بالخشية من الله عز وجل، ويفيد الجمع بينهما حث الناس على دخول الإسلام لعدم تحقق التقوى إلا بالإسلام.
الرابع: إقامة الحجة على الناس بلزوم التقوى وان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً لأنه الوسيلة المباركة لبلوغ مراتب التقوى.
الثالثة عشرة: يتجلى تحلي المسلمين بمصاديق التقوى بوجوه:
الأول: إجتناب المعاصي التي نهى الله عنها.
الثاني: الخشية والخوف من العقاب الإلهي.
الثالث: الإستعداد لعالم ما بعد الموت.
الرابع: الإمتثال للأوامر الإلهية.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفراد تقوى الله.
السادس: السعي الدؤوب لدخول الجنة، والنجاة من النار، قال تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
السابع: تعاهد مراتب(خير أمة) وتلك خصلة نوعية عامة يتصف بها المسلمون.
الرابعة عشرة: خروج المسلمين للناس بلباس التقوى والخشية من الله عز وجل فلم يكتف المسلمون بالإتصاف بالإسلام والنطق بالشهادتين، خصوصاً وأن المستقرأ من الخروج في قوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] هو نوع مفاعلة، وفيه أطراف:
الأول: أمة تخرج بالصلاح.
الثاني: موضوع ومادة الخروج.
الثالث: أمم وجهات يخرج لها المسلمون.
الرابع: غاية الخروج.
فلابد أن يخرج المسلمون للناس بموضوع وهو الإيمان والتقوى وعمل الصالحات.
أما غايات الخروج فهي على وجوه:
الأول: دخول الناس الإسلام.
الثاني: دعوة الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: جعل تقوى الله ملكة عند الناس.
الرابع: نشر مفاهيم الصلاح في الأرض.
الخامس: نجاة الناس يوم القيامة.
فمن خصائص (خير أمة) تقيدها بأحكام التقوى لنجاتها ونجاة الناس من النار، فان قلت كيف يكون تقيدها بالتقوى نجاة الجواب على وجوه:
الأول: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة لتكون أعمال العبد في الحياة الدنيا الملاك في تعيين محل إقامته، فاما أن تكون خيراً وصلاحاً فتكون الإقامة في الجنة، وأما أن تكون معصية وإثماً فالمثوى النار.
الثاني: مجئ الوعد الإلهي بالثواب بالأمن والسلامة للمتقين، قال تعالى[ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا] ( ).
الثالث: في التقوى أمور:
الأول: انها واقية من المعاصي.
الثاني: فيها عصمة من الذنوب.
الثالث: السلامة في الدنيا والآخرة.
الرابع: الغبطة والسعادة وتيسير الأمور قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا]( ).
الرابع: من خصائص( التقوى) إجتناب الظلم والجور والتعدي.
الخامس: في الحشية من الله سكينة للنفس، وتدارك للأخطاء، وإنقطاع للدعاء، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الخامسة عشرة: جاءت آية السياق بالأمر بتقوى الله، وجاءت الآية محل البحث بوصف المسلمين بالأمر بالمعروف، والنسبة بينهما بخصوص جهة الخطاب التساوي، إذ يتوجهان إلى عموم المسلمين رجالاً ونساء وإلى يوم القيامة.
أما النسبة بينهما من جهة الموضوع فهي العموم والخصوص المطلق، إذ أن الأمر بالمعروف من مصاديق تقوى الله.
وفي الجمع بينهما آية إعجازية تؤكد البيان في لغة القرآن، قال تعالى[فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( )، أما التباين في صيغة الجملة بورود قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ] بلغة الجملة الإنشائية، و[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] بلغة الخبر، ففيها نكتة عقائدية وهي مصاحبة الأمر الإلهي للمسلمين بتقوى الله مع تلبسهم بالقيام بوظيفة الأمر بالمعروف، وفيه وجوه:
الأول: تقوى الله علة وسبب للإستمرار بالأمر بالمعروف.
الثاني: أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر شاهد على تقوى المسلمين لله.
الثالث: الملازمة بين تعاهد المسلمين لتقوى الله، ومحافظتهم على منزلة(خير أمة).
الرابع: ترغيب المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن كلاً منهما إمتثال لأمر الله عز وجل بتقواه والخشية منه.
الخامس: قد يظن بعضهم كفاية أفراد مخصوصة من الأمر والنهي لتحقيق الإمتثال، فجاء الأمر بتقوى الله لتوكيد أن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان، وأن الحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعددة ومتجددة في كل آن، فلابد من تقوى الله بالمواظبة على القيام بهما, قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السادسة عشرة: لما شهدت الآية محل البحث للمسلمين بقوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر] جاءت آية السياق بحث المسلمين على تقوى الله في أمور:
الأول: تعيين موضوع المعروف الذي يأمرون به.
الثاني: إختيار الكيفية التي يأمرون بها بالمعروف سواء كانت باليد أو باللسان، وكل واحدة منهما من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الثالث: تقوى الله الأمر بالمعروف على نحو المرة أو التكرار فقد يستلزم الأمر التكرار العيني أو الكفائي أو الغيري أي التكرار بالأمر أو النهي من ذات الشخص في العيني، وكفاية أحد المسلمين في إتيانها أمر أن النفع من التكرار يتعلق بغير الذي أمر بالمعروف أول مرة، وهو من أسرار صيغة الجمع في (تأمرون بالمعروف).
السابعة عشرة: جاءت الآيتان بصيغة الجمع(اتقوا الله) ( تأمرون بالمعروف) لإفادة الخشية من الله في مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث عليهما.
فصحيح أنهما واجبان كفائيان إلا أن تهيئة مقدماتهما والتهيئ للقيام بهما، وحب المعروف وأهله، وبغض المنكر عام وشامل للمسلمين جميعاً لأنه من تقوى الله عز وجل.
الثامنة عشرة: يدل قوله تعالى(تأمرون بالمعروف) على مواظبة المسلمين على هذه الوظيفة الإيمانية الخالدة، وجاء قوله تعالى(اتقوا الله) لمنع التهاون والتقصير فيها، ولبيان حقيقة وهي أن تقوى الله حاجة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تضئ لهم دروب الهداية والرشاد.
التاسعة عشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع إفتاء وحكم بين الناس، وهداية لأفعال مخصوصة تتصف بالحسن، وزجر عن أفعال مذمومة، فلابد من خشية القائمين به من الله، وخوفهم من عقوبته.
العشرون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب للفوز بالصالحات ونيل الثواب والأجر العظيم ويحتمل وجوهاً:
الأول: الأجر في الدنيا.
الثاني: الثواب في الآخرة.
الثالث: الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، فإن الله عز وجل هو الشاكر العليم، الذي ينفضل بالأمر للمسلمين والناس، ليهب الجزاء العاجل والآجل، وهو من عمومات قوله تعالى[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً] ( ).
ومن تقوى الله قصد القربة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإتخاذه وسيلة مباركة لجني الحسنات ونيل فضل الله.
الحادية والعشرون: تقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة تنهون عن المنكر) لبيان ان المسلمين لم ينالوا مرتبة (خير أمة) إلا بالنهي عن المنكر، والمواظبة على هذا النهي إلى يوم القيامة، وهو ركن من أركان صرح العبادة في الأرض وديمومتها، وموضوعيتها في إستدامة الحياة الدنيا، فقد لايرضى المنهي عن المنكر بالنهي، وينفر ويتجنب الذين ينهونه عن المنكر إلا أنه لا يعلم أن دوام حياته وأبنائه بهذا النهي، فان قلت إنه لم يتقيد بهذا النهي فاين تكون موضوعيته في إستدامة حياته، والجواب من وجوه:
الأول: تتحقق إستدامة الحياة بذات النهي.
الثاني: هناك من يستجيب للنهي، ويقلع عن المعصية.
الثالث: يتوجه النهي لشخص معين فينتفع منه غيره، فيرزق الله عز وجل الناس بالنهي عن المنكر، والذي إنتفع منه، قال تعالى[الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ] ( ),
الثانية والعشرون: من مصاديق تقوى الله فعل المعروف وإجتناب المنكر. وأيهما أهم واعظم فعل المعروف أم الأمر به الجواب كل منهما له شأنه، ويتصف بالأهمية في مراتب الفعل، ويؤثر كل منهما في الآخر إلا أن تأثير فعل المعروف بالأمر أكثر، وفي أسباب نزول قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( ).
ورد عن الحسن البصري، أنه نزل في المنافقين(نزل في قوم كانوا يقولون إذا لقينا العدو لم نفر و لم نرجع عنهم ثم لم يفوا بما قالوا و انفلّوا يوم أحد حتى شج وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم و كسرت رباعيته عن مقاتل و الكلبي) ( ).
الثالثة والعشرون: بيان الجهاد المتصل للمسلمين، وأنهم لايفترون عن منع الفساد في الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله على الملائكة فهناك أمة تتقي الله وتعمل بطاعته وتزجر عن المنكر.
وليس من أمة تعمل المنكر، وتأمر به، وتنهى المسلمين عن طاعة الله وان وجدت مثل هذه الأمة في بعض الأزمنة فانها تتصف بقلة العدد، وإنعدام الموضوع والخلاف الشديد بين أفرادها، وإنبعاث اليأس في نفوسهم لإعراض المسلمين عنهم لذا إنتشر الإسلام بسرعة، وتمت الفتوحات بآية وإعجاز ومدد من عند الله، وكان المسلمون يقاتلون خشية من الله وللأمر بالمعروف فينحسر المنكر وأهله أمامهم ،فمن فضل الله على خير أمة تحقق الأثر الخارجي للنهي عن المنكر.
الرابعة والعشرون: لقد أراد عز وجل بأمر المسلمين بتقوى الله أن يكون أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر على وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان كفائيان، وتقوى الله وعاء إيماني يجعل المسلمين يتسابقون في أدائها، وهو من عمومات قوله تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( )، والتقوى مانع من إتكال بعض المسلمين على بعضهم الآخر في الأمر بالمعروف لكونه
واجباً كفائياً, فتراهم يتسابقون فيه .
الثاني: من تقوى الله الصدور عن الكتاب والسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإستحضارهما والرجوع إليها.
الثالث: إتيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشوق ورغبة، ورجاء الثواب وعن الإمام علي عليه السلام: وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار) ( ).
الخامسة والعشرون: من تقوى المسلمين وخشيتهم من الله عز وجل دعوتهم أهل الكتاب للإيمان، هم لا يقفون عند أداء التكاليف، ولكنهم يتوجهون إلى غيرهم من أهل الملل والنحل وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويتلون الآيات التي تحثهم على الإيمان، ومنها قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
السادسة والعشرون: هناك ملازمة بين الإيمان بالله والتقوى منه ، لأن الإيمان إقرار بالجنان، وتسليم بالعبودية والإنقياد لله عز وجل، وإمتثال لأوامره سبحانه.
ومن التقوى حث الناس على الإيمان ،و ترغيبهم بدخول الإسلام لما فيه من سلامتهم في النشأتين، لذا تعاهدت(خير أمة) دعوة الناس للإيمان وبيان قبح الكفر والشرك والجحود بنبوة محمد، فمع أن أهل الكتاب إتباع موسى وعيسى عليهما السلام فان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة لهم، ومصداق لتقوى الله وطاعة له
لأنه سبحانه بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات البينات رحمة بالناس، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ]( ).
السابعة والعشرون: لقد بعث الله الأنبياء والمرسلين، وأنزل الكتب من السماء ليبنى صرح من الإيمان، إلى أن بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإتمام هذا الصرح وتثبيته وإستدامته، فمن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين أنه أتم صرح بناء الإيمان، وتولى هو وأمته تعاهده بفيض ومدد من الله عز وجل، وهو من أسرار إختيار المسلمين لمنزلة (خير أمة)
ولا يمكن تعاهد وحفظ هذا الصرح إلآ بتقوى الله في القول والعمل فجاءت الأوامر المتكررة من الله عز وجل للمسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا بد أن يجعل الله عز وجل إستجابة عند الناس لهذا الأمر والنهي، ليكون الإمتثال متعدداً في طرف الآمر والمآمور، والناهي والمنهي.
الثامنة والعشرون: أختتمت الآية محل البحث بنعت أكثر أهل الكتاب بالفسوق والخروج عن الطاعة، وجاءت آية السياق بأمر المسلمين بتقوى الله والخشية منه، والتقيد بما أمر به ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكي لا تبقى الكثرة من أهل الكتاب متلبسة بالفسوق، إذ أن إظهار المسلمين تقوى الله يجعل نفوس أهل الكتاب تنفر من الفسوق، ويدخل فريق منهم الإسلام، ليأتي هذا الدخول على تلك الكثرة ويمنع من إزديادها وإتساعها، ويكون فيه عون للمؤمنين منهم.
التاسعة والعشرون: لقد جاء التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو الإطلاق بالنسبة للأحوال المتباينة، فلم يقيد بقيد السلامة من الضرر وبطش الظالمين , وإرادة الكافرين الإضرار بالمؤمنين ، فعمومات التقية حاكمة في المقام، وشاملة لهذا التكليف , قال تعالى[إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( ).
ومن فضل الله عز وجل السعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونزول المدد بنصرة المسلمين في هذا الباب بسلاح التقوى والخشية من الله قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( )، لذا فان أمر الله بتقواه واقية من كيد الكفار، وبشارة الأمن والسلامة للمسلمين , وهو لا يتعارض مع أسباب الحذر والحيطة والصبر، وقد يتعرض بعض المؤمنين للأذى والظلم بسبب قيامه بالأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفيه وجوه:
الأول: إنه من الجهاد في سبيل الله.
الثاني: في هذا الأذى ثواب عظيم للمؤمنين , ولا ينحصر الأجر والثواب بمن يتلقى الأذى , بل يشمل متعلقيه.
الثالث: إنه حجة على الظالمين الذين يمتنعون عن سماع الحق.
الرابع: إنه مصداق شخصي لتبوئ المسلمين منازل (خير أمة) بأن يتصدى أفرادها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلباس التقوى، ويتحملون الأذى شاكرين لله عز وجل.
الخامس: بيان حاجة الناس للمسلمين، وصبر المسلمين في تلقي الأذى منهم من أجل إصلاحهم وهدايتهم، وهذا الصبر من مصاديق التقوى التي أمر الله عز وجل بها بقوله (اتقوا الله).
الثلاثون: يفيد الجمع بين بدايتي الآيتين الثناء على المسلمين من جهات :
الأولى : وصفهم بالإيمان، وأنهم فازوا من بين الناس بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، وآمنوا بوجوب التكاليف ولزوم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية : أمر المسلمين بالخشية من الله، والخوف منه في السر والعلانية, وتحتمل النسبة بين دخول الإسلام والنطق بالشهادتين وبين تقوى الله وجوهاً:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل مسلم متق هو مسلم وليس العكس.
الثاني: نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الثالث: التساوي، فكل مسلم هو متق.
والصحيح هو الأول، وهو الذي تدل عليه آية السياق , إذ أنها تصف المسلمين بالإيمان، وتأمرهم بتقوى الله، [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا] ( ) وفيه بيان لحاجة المسلمين لجهاد النفس، وإصلاحها على نحو مستمر بإستحضار ذكر الله والخشية منه , ليكون من خصائص خير أمة بذل الوسع في مسالك التقوى.
الثالثة : مدح المسلمين ووصفهم بأنهم(خير أمة) , ويحتمل بلحاظ آية السياق وجوهاً:
الأول: إنهم إمتثلوا لأمر الله عز وجل(اتقوا الله حق تقاته).
الثاني: إستجابة المسلمين لقوله تعالى(اتقوا الله) وهو كاف لنيلهم مرتبة(خير أمة).
الثالث: بلوغهم مرتبة(خير أمة) بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته وما يخبر به عن الله عز وجل.
الرابع: أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر من التقوى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكل فرد منها توفيق وهداية من الله عز وجل.
الخامس: خروج المسلمين للناس بلباس التقوى، وسعيهم للفوز برضا الله عز وجل.
الواحدة والثلاثون: نعت المسلمين بأنهم (خير أمة) عون لهم لتقوى الله، ولطف لتقريبهم لمنازل الطاعة والإمتثال لأوامره سبحانه، وتقدير الجمع بين الآيتين (يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة أخرجت للناس فاتقوا الله)وفيه وجوه:
الأول: دعوة المسلمين للمحافظة على منزلة(خير أمة) التي هي خير محض، ونعمة من الله عز وجل عليهم وعلى الناس جميعاً بدليل خروجهم لهم بغية الإصلاح وترك القبائح.
الثاني: تعدد مصاديق مدح المسلمين سبب لمسارعتهم في التكاليف العينية كالصلاة والصيام والحج، وتسابقهم في الواجبات الكفائية كالأمر بالمعروف .
الثالث: كما جعل الله عز وجل خليفة في الأرض لعمارتها بالعبادة بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فإنه سبحانه أخرج المسلمين للناس لتعاهد وإستدامة العبادة، وهو فرع الخلافة في الأرض, وفيه مسائل :
الأولى : ضرورة تقوى المسلمين الله حق تقاته لأنهم يقومون بوظائف ذاتية وغيرية.
الثانية : سعي المسلمين لإصلاح أنفسهم من أبهى معاني التقوى والخشية من الله .
الثالثة : يجاهد المسلمون من أجل بقائهم في منازل (خير أمة) وجذب الناس لها .
الرابع : منع الناس من أسباب الضلالة.
الرابع: تقوى الله حاجة للناس، وهي من عمومات العلة الغائية في خلقهم , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، سواء أنها جزء من عبادة الله، أو أنها نتيجة تترشح عن أفراد العبادة .
ولا ينحصر الأمر بتقوى الله بالمسلمين بل هو خطاب وأمر عام للناس جميعاً، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( )، ليفوز المسلمون والمسلمات بتعدد الأمر والخطاب الإلهي لهم بتقوى الله والخشية منه .
وبين المسلمين والفاسقين في المقام عموم وخصوص مطلق، إذ أنهم يشتركون مع الناس في رؤية الآيات الكونية، والبينات التي تدعو للإيمان والتقوى، وينفردون بأمور:
الأول: التدبر في الآيات بما يؤدي إلى الإيمان والتسليم بالقدرة المطلقة لله عز وجل.
الثاني: الإتعاظ من الآيات الكونية وإتخاذها بلغة للتقوى والإقرار بالرجوع إلى الله والوقوف بين يديه للحساب يوم القيامة.
الثالث: تلقي الأوامر الإلهية بتقوى الله والتي تأتيهم بصيغة الإيمان.
الثالثة والثلاثون: بعث السكينة في نفوس الناس جميعاً من المسلمين، وحثهم على عدم النفرة منهم في خروجهم، وتوجههم إليهم لهدايتهم في عباداتهم ومعاملاتهم، فالمسلمون أهل التقوى، ولم يكن خروجهم للناس عن إجتهاد بل الله عز وجل هو الذي أخرجهم بعد إصلاحهم لهذا الخروج بالتقوى، وفيه تحد ودعوة للناس لمعرفة مصاديق التقوى وحسنها الذاتي بسيرة ونهج المسلمين.
بحث أصولي
من بديع صنع الله عز وجل خلق الإنسان وجعل الدنيا داراً لتكليفه بالواجبات ومصاحبة الأوامر والنواهي له في ميادين الحياة المختلفة, ويمكن تقسيم التكاليف تقسيماً جديداً إلى قسمين:
الأول: التكاليف الذاتية: وهي التي يؤديها المكلف بنفسه ويختص بافعالها ولا تتعلق بغيره، كالصلاة والصيام والحج ومن معاني الحديث القدسي: الصوم لي وانا أجزي به) ( )، عدم علم غير الله عز وجل به,
إذ تتخلل ساعات النهار آنات يكون الصائم فيها في خلوة هو يحرص على صيامه وإمتناعه عن المفطرات، ولا يراه أحد إلا الله عز وجل.
الثاني: التكاليف الغيرية: وهي التي يؤديها المكلف مع تعلقها بالغير مثل الزكاة إذ تدفع إلى المستحقين، قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ ]( )، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بد من وجود طرف آخر يتوجه له الأمر والنهي مسلماً كان أو غير مسلم.
والتقوى سور جامع للتكاليف سواء كانت ذاتية أو غيرية.
وكل من التكاليف الذاتية والغيرية فيها وجوه:
الأول: إنها موضوع لتهذيب النفس.
الثاني: هي أفراد من الإرتقاء في المعرفة.
الثالث: وسيلة لإصلاح الناس.
الرابع: فيها بعث للإقتداء بالمسلمين.
ومن الآيات تداخل التكاليف وكل فرد منها جذب لمنازل الإيمان.
إن تقوى الله ذاتها أمر بالمعروف، وهي نهي عن المنكر، والعكس صحيح، وفيه آية في خلق الإنسان،وعالم التكليف في الدنيا، وإرتقاء المسلمين لمراتب(خير أمة) إذ أنهم يجمعون بن التكاليف في مرحلة الأداء والأمتثال من غير تزاحم بينها، لإدراكهم الثواب لكل فرد منها وبانضمام بعضها لبعض وإتخاذ التقوى وقصد القربة إلى الله وعاء ومرتكزاً للأعمال، ويحتمل ثواب التكاليف وجوهاً:
الأول: النفع والثواب في الدنيا.
الثاني: الثواب والأجر في الآخرة.
الثالث: النفع والثواب في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، وتلك آية في فضل الله، وشاهد على عظيم قدرته، قال تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
وجاءت آيات كثيرة ببشارة المتقين بالجنة، وورد النفع والثواب على التقوى في الدنيا بآيات منها[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
لقد جاءت آيات كثيرة بأمر المسلمين(بتقوى الله) وأمر الأنبياء السابقين لقومهم بتقوى الله، ولم يرد قوله تعالى (حق تقاته) إلا في هذه الآية ليكون من مختصات(خير أمة) وأن هذا التكليف لم يوفق له إلا المسلمين، وانه أمر يستطيعون فعله، والتكليف بما لايطاق أمر قبيح، وواجب الوجود منزه عن القبيح.
صلة(حق تقاته) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد إنقطعت النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى القرآن في الأرض إماماً وهادياً، وتستلزم إستدامة الحياة في الأرض وجود أمة تخشى الله وتتقيه حق تقاته، فتولى المسلمون أعباء هذه المسؤولية، ونهضوا بمسؤوليات وراثة الأنبياء في الأرض وجاء الأمر الإلهي للمسلمين بتمام التقوى والخشية منه تعالى لتحقيق الغايات الحميدة من خروج المسلمين للناس.
الثانية:لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار التقوى) فلابد من وجود أمة في كل زمان تتقي الله ولا تخرج عن طاعته، وقد فاز المسلمون بهذه المرتبة فاخرجهم للناس، وفيه ترغيب للناس بطاعته، وزجر عن معصيته، وخروج المسلمين رشحة من هذا الترغيب والزجر، وحجة على الناس في لزوم تقوى الله.
الثالثة: ليس من نعمة في الأرض أعظم من نعمة عبادة الله وتقواه والخشية منه، وقد تفضل الله تعالى ورزوقها المسلمين، فبّين للناس في كتابه أنهم(خير أمة) وأخبر بلزومهم تقوى الله حق تقاته، وفيه حجة على الناس جميعاً في عدم إمتناع مراتب الكمال في النفوس، وأنها لا تنحصر بالأنبياء والمعصومين، بل يستطيع المسلمون بلوغها وكل مكلف مأمور بالإسلام وطاعة الله.
الرابعة: تحتمل موضوعية منزلة (خير أمة) في تقوى الله وجوهاً:
الأول: ليس من أثر لهذه المنزلة في تقوى المسلمين لله فبعد أن نالوا هذه المرتبة جاءهم الأمر الإلهي بتقوى الله.
الثاني: إرتقاء المسلمين لمنازل تقوى الله عون لهم في تقوى الله حق تقاته.
الثالث: لم يصل المسلمون إلى مرتبة(خير أمة) إلا بتقوى الله عز وجل.
الخامسة: من خصائص(خير أمة) أمور:
الأول: تفضل الله عز وجل عليها بالهداية إلى سبل الصلاح قال تعالى[الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
الثاني: والقيام بالوظائف العبادية على أتم وجه.
الثالث: إقتناء الحسنات.
السادسة: إنتماء المسلم إلى(خير أمة) عون له في مسالك التقوى والخشية من الله، وكذا الأمر الإلهي لعموم المسلمين بتقوى الله بعث للفرد من المسلمين لوظائف وآداب (خير أمة).
والجمع بين مضامين الآيتين من فضل الله عز وجل على الناس من وجوه:
الأول: وجود أمة مؤمنة في كل زمان يمنع من الإفراط والتفريط، ويكون كشفاً وفضحاً للنفاق والضلالة والكفر.
الثاني:بعث السكينة في نفوس الناس مما يدعو إليه المسلمون، وميل عموم الناس لأقوالهم والطمأنينة لأفعالهم العبادية.
الثالث:ينشر وجود المسلمين وبصيغة الإيمان والصلاح معاني الود والإلفة والأمانة بين الناس، ويمنع من طغيان النفس الغضبية والشهوية.
الرابع:إستمرار الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس وعدم إنقطاعه إلى يوم القيامة، وتجدد هذه الدعوة، من فضل الله في إختيار المسلمين لمنزلة(خير أمة).
السابعة: إخبار أهل الكتاب والناس جميعاً بمنزلة(خير أمة) عند الله، وتوجه الخطاب الإلهي لها بالتشريف والإكرام والثناء عليهم لصدق الإيمان ترى لماذا ليس في القرآن آية تقول: إن الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) خصوصاً , وقد أنزل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل يأمر بالأمر بالمعروف وإتيانه، ويأمر بالنهي عن المنكر، ويزجر عنه.
الثاني: مجيء مصاديق المعروف في القرآن، وندب الله عز وجل المسلمين والناس لها، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ]( ).
الثالث: بيان المائز بين واجب الوجود والممكن المخلوق , في القدرة والفعل.
الرابع: لقد أراد الله عز وجل أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناسبة لنزول رحمته على أهل الأرض، ونيل القائمين به الثواب والأجر العظيم.
الخامس: جاءت الآيات ببيان ما يأمر به الله عز وجل بلغة الإنشاء وصيغة أفعل وبالجملة الخبرية، كقوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
السادس: إن الله عز وجل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ) فما ورد في القرآن هو العلم وكنوز المعرفة.
الثامنة: من يصّدق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينال مرتبة الإيمان ويتلق الخطاب التشريفي أعلاه بلحاظ إنحلاله بعدد المسلمين والمسلمات، وتقديره بصيغة المفرد للمسلم (يا ايها الذي آمن) وللمسلمة بصيغة (يا أيتها التي آمنت).
التاسعة: إنذار أهل الكتاب من التعدي على المسلمين لأنهم(خير أمة) يؤمنون بالله ويصدّقون بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشرة: وجود مصداق خارجي للمخاطبين في قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في كل زمان لأن آيات القرآن غضة ومن صفات(خير أمة) تجدد معاني التفضيل فيها إلى القيامة طرية إلى يوم القيامة.
الحادية عشرة: يحتمل إكرام المسلمين بلغة الخطاب وبلحاظ الآية محل البحث وجوهاً:
الأول: حث المسلمين على تعاهد منزلة (خير أمة).
الثاني: تفريط المسلمين بوظائفهم ماداموا قد بلغوا مراتب (خير أمة).
الثالث:إجتهاد المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والصحيح هو الأول والثالث وهو من خصائص(خير أمة) بأن يكون تشريفهم بالخطاب القرآن مادة وموضوعاً لبذلهم الوسع في تعاهدهم للإيمان، وبقائهم في منازل(خير أمة).
وتجدد معاني الخطاب[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دليل على أنهم لم ولن يفرطوا بوظائفهم، والشواهد عليه ظاهرة في الواقع العملي كل يوم، ومنها أن المسلمين يؤدون عباداتهم في حال الحضر والسفر، والرخاء والشدة، فلا غرابة أن تشرع في الإسلام صلاة الخوف وصلاة المطاردة، والإكتفاء بالتهليل والتكبير في حال الضرورة وعند القتال وخشية مكر وإجهاز العدو، ليكون عدم الترك أمارة حسن سمت المسلمين من وجوه:
الأول: إنه شاهد على إقامة المسلمين للشعائر.
الثاني:بقاء المسلمين في مراتب(خير أمة) التي تتصف بعدم التفريط بالعبادات والواجبات، فحتى الضرورات التي تبيح المحظورات لا تكون عذراً وسبباً لإسقاط الواجبات على نحو السالبة الكلية.
الثالث: لابد أن تؤدي الأمة العبادات كاملة، ولا تتعلق الضرورة إلا بتعليق بعض أفراد العبادات عن المضطر ووفق الإذن والرخصة الواردة في القرآن والسنة، لتكون هذه الرخصة وعدم تجاوز المسلمين لها توسعة وتضييقاً من خصائص(خير أمة) وفي فريضة الصيام والتخفيف عن المريض والمسافر، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
الثانية عشرة: لم ينل المسلمون مرتبة(خير أمة) إلا بالإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصحيح أن الآية محل البحث لم تذكر هذا التصديق إلا أنه ظاهر في صيغة وموضوع ومضمون الخطاب، وجاءت الآية[حَقَّ تُقَاتِهِ] لتوكيده وبيان الوظائف الإضافية التي يقوم بحملها المسلمون في التقوى وخشية الله في السر والعلانية.
الثالثة عشرة: الخطاب الإلهي للمسلمين بصفة الإيمان شاهد على رضا الله عز وجل عنهم ليكون من خصائص(خير أمة) هذا الرضا وفيه وجوه:
الأول: تلك منزلة رفيعة فاز بها المسلمون.
الثاني: إنه بشارة لنيل المراتب العالية في الجنة الخالدة قال تعالى في وصف المؤمنين[رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ]( ).
الثالث: رضا الله عز وجل علة لنزول الخير والبركة وصرف الضرر.
الرابعة عشرة: من خصائص إجتماع ثنائين على المسلمين تثبيت الإيمان في قلوبهم، وبعثهم على أداء الفرائض والمناسك، فكما أن قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة للمسلمين لتعاهد منزلة (خير أمة) وبذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكذا نعتهم بأنهم(خير أمة) حث لهم على الثبات في منازل الإيمان، وترغيب بالتقوى، ودعوة للمسلمين لتعاهد مبادئ الإسلام وفعل الصالحات.
الخامسة عشرة: من مضامين اللطف الإلهي في القرآن أنه رحمة وخير محض، ونزل لمدح المسلمين والثناء عليهم، فتجتمع آيات الإكرام والثناء على المسلمين لتعطي معاني ومضامين قدسية جديدة في إكرامهم إلى جانب معاني الإكرام الخاصة في كل آية منها، وفي كل فرد منها نعمة مستقلة قائمة بذاتها.
السادسة عشرة: القرآن كتاب الحجة والبرهان والإحتجاج، وفيه العلة والمعلول، والجواب على سؤال مقدر بما يمنع من الجهالة والغرر، وهذه الوجوه من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وجاء الخطاب القرآني للمسلمين بصفة الإيمان لبيان علة فوز المسلمين بصفة(خير أمة) وهداية الناس إلى الصراط المستقيم.
صلة(يا ايها الذين آمنوا) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: دعوة الناس للإصغاء للمسلمين لأنهم آمنوا بالله.
الثانية: لقد خلق الله الناس لعبادته، وجاءت الأوامر القرآنية بعبادة الله على نحو الوجوب وهو الأصل والمبدأ الذي جاء به الأنبياء والكتب السماوية قال تعالى[فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا]( )، وجاء خطاب(ياايها الذين آمنوا) لبيان حقيقة وهي وجود أمة تصدّق بما جاء به الأنبياء وتعبد الله، فأنعم الله عليها ورزقها مرتبة الخروج للناس بصيغة الإيمان، وفيه وجوه:
الأول: إنه من الجزاء والثواب العاجل على الإيمان.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن الإيمان يتقوم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين والحصر.
الثالث: فيه إحتجاج وإستدلال بالحق مع أهل الكتاب.
الرابع: دعوة للناس لدخول الإسلام، وترك الإنصات لأهل الشك والريب.
الخامس: توكيد منافع الإيمان، والحاجة إليه، وكيف أنه السبيل إلى الرفعة في الدنيا والآخرة قال تعالى[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ]( ).
الثالثة: تصديق القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته، وتعضيده من السماء بالثناء على أصحابه وأنصاره وأتباعه، لتكون نصرة القرآن له مقدمة لنزول الملائكة مدداً له في ميادين القتال.
الرابعة: تقدير الجمع بين أول الآية أعلاه والآية محل البحث على وجوه:
الأول: (يا ايها الذين آمنوا أخرجتم للناس) وفيه بيان لموضوع الخروج ليكون الإيمان مادته وصبغته وغايته، من وجوه:
1- الإشارة إلى إختلاط المسلمين بالناس، وأنهم غير معزولين عنهم، ويحتاج المسلمون والناس جميعاً هذا الإختلاط.
أما المسلمون فانهم يتخذونه وسيلة ومناسبة للتبليغ والدعوة إلى الله، وأما الناس فانهم يقتبسون من المسلمين معالم الإيمان، ويستمعون منهم لآيات القرآن وفرائد الإعجاز، ويستقرأ سعي المسلمين بين الناس في الآية محل البحث من وجوه:
الأول: نعت المسلمين بأنهم(خير أمة) وما تمليه هذه المرتبة من إعانة الناس للإرتقاء في سلم المعرفة.
الثاني: خروج المسلمين للناس، والذي يتضمن في مفهومه الزجر عن العزلة والاستكبار على الناس، وجاء وصف المسلمين بخير أمة دليلاً وشاهداً على تنزههم عن الإستعلاء والترفع على الناس، وفي الحديث القدسي(الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار) ( ).
الثالث: يفيد مفهوم الجمع بين الآيتين دعوة الناس للكف عن محاربة المسلمين، وترك عداوتهم لأن الله عز وجل أخرج المسلمين لهم جميعاً وتقدير مفهوم الآية على وجهين:
الأول: يا ايها الناس أخرجت لكم خير أمة.
الثاني: يا ايها الناس أخرج لكم الذي أمنوا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتقوم خروج المسلمين والناس بحاجة دائمة لهما.
3- من الإيمان وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف.
الثاني: ذات المعروف.
الثالث: النهي عن المنكر.
الرابع: تعضيد ونصرة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
الثاني: (يا أيها الذين آمنوا تأمرون بالمعروف) وفيه مسائل:
الأولى: الأمر بالمعروف فرع الإيمان، فمن يؤمن بالله ورسوله يقوم بالأمر بالصالحات، وجذب الناس لمنازل الإيمان.
الثانية: ليس للناس منع المسلمين من الأمر بالمعروف.
الثالثة: إخبار الناس جميعاً بأن الأمر بالمعروف صبغة المسلمين، وأنها تلاحق الناس جميعاً لبقاء الإيمان في الأرض، وعدم خلوها من المسلمين بدليل الخطاب (يا ايها الذين آمنوا).
وإخبار الآية محل البحث عن خروج المسلمين للناس على نحو العموم الإستغراقي فكل جيل من الناس وإلى يوم القيامة يجد(خير أمة) قد خرجت له، وحاضرة في ميادين المعرفة والصلاح.
الثالث: (يا ايها الذين آمنوا تنهون عن المنكر) وفيه مسائل:
الأولى: بيان مسؤوليات المسلمين العقائدية والكلامية بين الناس.
الثانية: لزوم تعاهد المسلمين للعبادات وإصلاح النفوس وتنزيه مجتمعاتهم من المنكر والقبيح، وفي التنزيل[يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الثالثة: توكيد التضاد والتنافي بين الإيمان والمنكر، وهما لا يجتمعان في النفوس وعالم الأفعال.
الرابعة: الوعد الكريم من الله بنصر المؤمنين في ميادين النهي عن المنكر، وغلبتهم على أهل الكفر والضلالة، قال تعالى[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ]( )، والنهي عن المنكر من مصاديق طاعة ونصر المسلمين لله عز وجل في الحياة الدنيا.
الخامسة: بيان قانون كلي في الأرض وهو أن المنكر بمراتبه الكلية المشككة يصاحبه النهي والزجر، وليس له أو لأهله ميدان ينشطون فيه بمندوحة وسعة، فلابد أن يطاردهم النهي لحتمية وجود(خير أمة) التي إختارها الله لهذه المنزلة، وجعل النهي عن المنكر من مقومات وجودها.
وهل يبعث هذا القانون الفزع في قلوب الكفار والضلال والمنافقين الجواب نعم، فإنهم في قرارة نفوسهم يخشون من المسلمين ونهيهم لذا تراهم يميلون إلى التستر على قبيح أفعالهم، ويحاولون إلباسها لباس المعروف، وفي التنزيل[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] ( ).
ومضامين الآية أعلاه من الشواهد على لزوم مواصلة المسلمين للنهي عن المنكر في القضية الواحدة، ومصداق لصيغ الإستمرار والدوام المستقرأة من لغة المضارع في قوله تعالى[وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] فاذا نهى المسلمون المفسدين عن الفعل القبيح وأصروا عليه ولكن بتورية وإحتيال وادعّوا الإصلاح فلا تنتهي وظائف النهي بل يجب أن تستمر بما يناسب الحال، لذا قال الله تعالى بخصوص المفسدين أعلاه[أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ]( )، وفيه وجوه:
الأول: دعوة المسلمين لفضح الكفار والمفسدين وبيان بهتان قولهم.
الثاني: تفقه المسلمين في الدين وأحكام الحلال والحرام، وقدرتهم على الفصل والتمييز بين الحق والباطل.
الثالث: إن قوله تعالى[أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ] دعوة للمسلمين للإعتماد على المسلّمات والبديهيات والمشهورات في الجدل وإفحام الخصم لأن المشهورات الحقيقة الشائعة لايستطيع أحد إنكارها واخفاءها، لذا فمن وظائف ومنافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تثبيت المشهورات الإيمانية والحقائق الكونية، وملاك الصالحات بما يجعلها كالبديهية التي لا تطلب بالبرهان وإحضار الوسائط، وتلك آية من وجوه:
الأول: بديع خلق الإنسان.
الثاني: إنه عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالث: أهلية المسلمين لمنزلة (خير أمة).
الرابع: قيام المسلمين بالمقدمات التي تساعد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعرفة الناس لمصاديق كل منهما.
فإذا إدعّى المفسدون الإصلاح، فان الناس لايصدقونهم لأن المسلمين بينّوا للناس مصاديق المعروف وأفراد المنكر، وواظبوا بأنفسهم على المعروف وتركوه إرثاً لأبنائهم، وإجتنبوا المنكر والقبيح، وهذا الإجتناب ليس أمراً عدمياً، بل هو أمر وجودي يلتفت اليه الناس ويدركون معانيه ودلالاته.
ومن منافع الجدل أمور:
الأول: تنمية الملكة.
الثاني: رياضة الأذهان.
الثالث: تحصيل المقدمات.
الرابع: السعي لبلوغ الحق واليقين لملازمة الصواب والظفر به.
الخامس: الحرص على موافقة القول للفعل، وعدم التضاد بينهما، لأن هذا التضاد حجة للخصم وسبب للضعف والوهن في الجدل، لذا جعل الله عز وجل المسلمين (خير أمة) في ترشح الأمر بالمعروف عن تقيدهم بالموافقة بين القول والفعل وإتيانهم لمصاديقها وحرصهم على أداء العبادات في أوقاتها، وترشح النهي عن المنكر عن إجتنابهم السيئات ما ظهر منها وما بطن.
بحث كلامي
يفيد الجمع بين الآيتين بيان وظيفة عظيمة للمسلمين تلازمهم في أيام حياتهم كما تصاحب الحياة الدنيا وهي النهي عن المنكر ومحاربته ومحاصرته وبيان قبحه، ومن أهم مصاديق المنكر الكفر والجحود والضلالة, وتتولى الأمة المؤمنة الجهاد لمحاربة الكفر والكافرين , وتوكيد التباين بينهما، وتكون محاربة الكفر بوجوه منها :
الأول: ترغيب الكفار بالإيمان، والذي يدل في مفهومه على قبح الإقامة على الكفر.
الثاني: جعل الكفار ينفرون من الكفر.
الثالث: بيان القبح الذاتي والعرضي للكفر.
الرابع: ذكر البينونة بين وظائف العقل وبين الكفر.
الخامس: تزيين الإيمان إلى قلوب الكفار.
السادس: إعانة ومساعدة الكفار بما يخلصهم من شرنقة الكفر، بل ويجوز مدّ يد العون لهم في أمور الدنيا، والحياة المعاشية إذا كانت سبباً في هدايتهم وصلاحهم.
السابع: بيان منافع التوبة والحاجة إليها، وجعل الكفار يستحضرون عالم ما بعد الموت، والتدبر في حقيقة الدنيا وأنها زائلة، وكيف أن الله جعلها مزرعة للأخرة.
الثامن: بعث الكفار على المناجاة بينهم باجتناب المنكر والقبيح.
وقد ورد ذم ولعن قوم لسكوتهم عن المنكر إن صدر من بعضهم، قال تعالى[كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ] ( ).
وإنما سمي القبيح منكراً لأن العقل ينكره والنفوس تنفر منه، لذا فان الرجوع إلى العقل والتدبر في ماهية الأفعال يجعل الإنسان يميل بفطرته إلى الحسن والمعروف.
التاسع: إستحضار عالم الجزاء والثواب العظيم على إتيان المعروف والدعوة إليه والتعاون فيه، والعقاب الأليم للكفر وفعل السيئات والذنوب.
العاشر: المواظبة والتكرار في موارد الأمر بالمعروف وملاحقة الكفار توبيخاً وتعريضاً وجذباً لمنازل الإيمان، لذا وردت الآية محل البحث بصيغة المضارع[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر] والتي تتضمن الإستمرار والإستدامة في الأمر والنهي.
الحادي عشر: الجهاد في سبيل الله، وإتخاذ أقصى صيغ النهي عن الكفر، والزجر عن الضلالة، وهو مستقرأ من الآية أعلاه أيضاً من وجوه:
الأول: لغة الإطلاق في ماهية الأمر والنهي.
الثاني: عدم حصر الأمر والنهي بكيفية مخصوصة.
الثالث: المواظبة على الأمر والنهي في كل الاحوال، وعدم التوقف عنها.
الرابع: أصالة العموم في الأطراف الأربعة:
الأول: الأمر بالمعروف.
الثاني: المأمور بالمعروف.
الثالث:الناهي عن المنكر.
الرابع:المنهي عن المنكر والقبيح.
وجاء في القرآن تغليظ بخصوص رؤساء الكفر الذين يغوون الناس في مسالك الضلالة والجحود، قال تعالى[فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ]( ).
ومن خصائص(خير أمة) عدم الوقوف عند فرد معين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن وظيفتهم لا تنتهي عند الأمر والنهي، بل يتخذونهما نوع طريقية لإصلاح المجتمعات وقطع دابر الكفر والضلالة، وهو أمر ينفرد به المسلمون، ويتحملون بسببه الأذى وينفقون الأموال الطائلة لتكون مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبيلاً لنيل المنازل الرفيعة في الآخرة، قال تعالى[وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
لقد جاءت هذه الآية بنعت المسلمين بأنهم (خير أمة) وجاءت الآيات القرآنية بالتكاليف التي تدل على إستحقاقهم هذه المرتبة، وتتضمن كيفية تعاهدها بالفعل الشخصي والجمعي بلحاظ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان كفائيان إن قام بهما فرد سقط عن الباقين، ولكنه لايعني إنتفاء التكليف النوعي العام في المقام من وجوه:
الأول: مجئ الخطاب التكليفي في الأصل لعموم المسلمين.
الثاني: تجلي العموم في منطوق كل من الآيتين، وجمعهما أعلاه.
الثالث: إن لم يقم بالأمر والنهي فرد معين من المسلمين فان الواجب ينتقل إلى غيره من غير تعيين لشخصه.
الرابع: إذا تخلفت الجماعة عن القيام بالأمر والنهي فانهم يؤثمون جميعاً وينتقل وجوب الأمر والنهي إلى غيرهم، ويدل قوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] على عدم تخلف المسلمين عن الأمر والنهي في القضية الشخصية، ومسألة عين مخصوصة، فلابد أن يتصدى فريق من المسلمين لوظائف الأمر والنهي في كل مسألة وموضوع، وهو من معاني الإطلاق في الآية أعلاه والشواهد على أن المسلمين(خير أمة).
صلة قوله تعالى(يا ايها الذين آمنوا)بـ(تؤمنون بالله)
وفيه مسائل:
الأولى: تحتمل الصلة بين الآيتين في الموضوع وجوهاً:
الأول:التساوي، وكل من الآيتين جاءت بلفظ الإيمان، والمراد الإيمان بالله عز وجل إلهاً ورباً.
الثاني: العموم والخصوص مطلقاً، وأن قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] هو الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإتيان الفرائض والعبادات، قال تعالى[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] ( ).
الثانية:توكيد موضوعية الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب عدم التفكيك بينهما، لأن الله عز وجل هو الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، وأمر بطاعته فيما جاء به من عنده، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ).
الثالثة: بيان حال المسلمين وأنهم يؤمنون بالله عز وجل، ليس من إيمان في الكون إلا بالله عز وجل، فلا يقال للكافر أنه يؤمن بالشريك والصنم والطاغوت.
الرابعة: توكيد إستحقاق المسلمين لمنزلة (خير أمة) بارتقائهم إلى منازل تمام الإيمان.
الخامسة: ترغيب الناس بالإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن المنكر من مصاديق وأفراد نبوته , لأنه لم يأمر إلا بالحق وما فيه مشقة على الناس، وأنه لا يتهاون مع أهل الفسوق والفجور بل جاء بالشريعة المتكاملة التي تنزه المجتمعات من الفواحش والسيئات وان إستلزم الأمر القتال ومحاربة الكفار ورؤساء الضلالة وأرباب المعاصي[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ] ( ).
السادسة: منع الجهالة والغرر، بتوكيد لزوم الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: بعث السكينة في نفوس المسلمين لأنهم على الحق والهدى، وأن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء واجب من الإيمان لأن الله عز وجل هو الذي بعثه نبياً وأمر بإتباعه ونصرته.
الثامنة: جاءت الآيتان بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، فكل فرد من المسلمين ذكراً أو أنثى يؤمن بالله وبنبوة رسوله الكريم.
التاسعة: بعث اليأس في قلوب الكفار من المسلمين من وجوه:
الأول: إيمان المسلمين ثابت وراسخ في نفوسهم.
الثاني: المسلمون يؤمنون بالله وبرسوله وهذا الإيمان على نحو العموم الإستغراقي الشامل للجميع.
الثالث: يتآزر المسلمون في الأمر بالمعروف النهي عن المنكر.
العاشرة: الإيمان بالله علة للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه جاء بالمعجزات من عنده، والإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طول الإيمان بالله عز وجل، وكأنهما مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا.
الحادية عشرة: بيان ما تمتاز به (خير أمة) وأنهم يؤمنون بالله ورسوله، وأن الله عز وجل يخاطبهم بصفة الإيمان، ويشهد لهم بأنهم مؤمنون به، وهو من فضل الله [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
الثانية عشرة: دعوة المسلمين للثبات على الإيمان، وتحمل الأذى في جنب الله، والصبر في مواجهة الكفار وجيوشهم في حالات:
الأولى: ميادين القتال.
الثانية: في حال الجدال والإحتجاج وإحضار البرهان.
الثالثة: طلب المعاشات والمكاسب.
الرابعة: عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة عشرة: يرجو المسلمون المدد والعون من الله عز وجل في ميادين أداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذا النهي فرع إيمانهم بالله، وسبيل لجذب الناس لمنازل الإيمان وهو سبحانه ينصر أولياءه والذين آمنوا، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الرابعة عشرة: تتصف (خير أمة) بالتنزه عن الغلو في الأنبياء، ويؤمن المسلمون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله عز وجل نزل عليه القرآن معجزة عقلية خالدة من عند الله، ويتضمن أحكام الحلال والحرام، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
صلة(يا أيها الذين آمنوا)بـ(لو آمن أهل الكتاب لكان خير لهم).
وفيها مسائل:
الأولى: بيان وجوب الإيمان بالله ورسله وكتبه.
الثانية: دعوة أهل الكتاب للإلتحاق بالمسلمين والتصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: تنبيه المسلمين إلى المائز بين أهل الكتاب والكفار بلحاظ وجود كتاب منزل عند اليهود والنصارى لذا نزلت أحكام الجزية خاصة بهم، وهو لا يمنع من دعوتهم للإسلام بالحكمة والحجة والبرهان.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل يحب لأهل الكتاب إنتماءهم لخير أمة، وانه خير محض ونفع دائم لهم.
ويفيد الجمع بين الآيتين حب الخير لأهل الكتاب بالهداية والرشاد ودخول الإسلام.
الخامسة: بيان تخلف أهل الكتاب عن الإيمان، وإختيارهم الحرمان من منافعه الدنيوية والأخروية.
السادسة: ذم الفاسقين، وتحذير المسلمين من الفسق والفجور وأهله.
السابعة: إتصاف المسلمين بخصوصية وهي تلاوة آيات القرآن التي تتضمن أموراً:
الأول: حث أهل الكتاب على الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: توجيه اللوم للذين يجحدون بالآيات , قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( ).
الثالث: ذم الفاسقين والظالمين.
الرابع: دعوة الناس جميعاً للتوبة والإنابة.
الثامنة: ثبات المسلمين في منازل الإيمان، وتلقيهم في كل زمان للخطاب السماوي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة للناس لنبذ الفسق، وحث لهم للإمتناع عن الخروج عن الطاعة.
صلة(ولا تموتن إلا وانتم مسلمون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة ولا تموتن إلا وانتم مسلمون).
الثاني: كنتم خير أمة أخرجت للناس فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
الثالث: تأمرون بالمعروف فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
الرابع: تنهون عن المنكر فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
الخامس: تؤمنون بالله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
الثانية: تشترك الآيتان بصيغة الخطاب، فكل منهما تخاطب المسلمين وبلغة المدح الثناء.
الثالثة: لما إبتدأت هذه الآية بالإخبار بصيغة الماضي عن كون المسلمين(خير أمة) أختتمت آية السياق بالأمر بالبقاء على الإسلام لحين الإنتقال إلى عالم الآخرة، فمن خصائص(خير أمة) حسن العاقبة بالثبات على الإيمان
الرابعة: الإيمان بلحاظ أفراده الطولية الإرتباطية على قسمين:
الأول: الإيمان المستقر، وهو اليقين الثابت والمستديم، والذي لا يغادر الجنان والجوانح.
الثاني: الإيمان المتزلزل، الذي ينقدح في قلب الإنسان فلا يلبث أن يزول، ويفيد الجمع بين الآيتين توكيد إستقرار الإيمان في قلوب المسلمين، وأنهم ولايغادرهم حتى دخول القبر , ليكون القبر لهم روضة من رياض الجنة.
الخامسة: بعث المسلمين على تعاهد منزلة(خير أمة) بحثهم على التقيد بأحكام الإسلام مدة حياتهم، فمن الآيات الإبتلائية في خلق الإنسان أنه لا يعلم متى وأين يموت ليكون معنى قوله تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] تعاهدَ وحفظ المسلمين لمبادئ الإسلام وأدائهم الوظائف العبادية في كل يوم.
السادسة: الإمتثال لقوله تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] بالبقاء على الإسلام له جزاء من عند الله، ومنه ما يكون ثواباً عاجلاً على التقوى والتقيد بأحكام الإسلام، ومنه إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) بفضل من الله عز وجل، وليكونوا أسوة حسنة يقتدي بهم الناس وينصتون لهم في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
السابعة: بيان الملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الثبات على الإسلام والبقاء على الإيمان.
الثامنة: إن الله عز وجل غني عن العالمين، ويحتاج الإنسان البقاء على الإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدنياه وآخرته.
العاشرة: إختصاص المسلمين بالتقوى وتعاهد مبادئ وأحكام الإسلام إلى حين مغادرة الدنيا بالتوبة والصلاح إذ تتصف (خير أمة) بعدم مغادرة منازل التقوى وسننها.
الحادية عشرة: من خصائص(خير أمة) إستحضار الموت والإقرار بحتمية وقوعه وضرورة البقاء على الإسلام عند حضوره .
وقد ورد في ذم قوم قوله تعالى[حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ] ( ).
الثانية عشرة: من صفات المسلم كتابة وصيته ليعمل بها أوصياؤه بعد موته، وبما ينفعه في النشأتين، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( )، ومن حق المسلم ان يوصي بالثلث من ماله في وجوه البر والخير وهو نظام دقيق فازت به(خير أمة) وتقيدت بأحكام وسنن الوصية.
ليكون من خصائص المسلمين تعاهدهم للنعم الخاصة بالأحكام والسنن وقوانين الإرث.
بحث بلاغي
من وجوه البديع(العنوان) وهو أن يذكر المتكلم غرضاً، ثم يأتي بالبيان والتفصيل بأمثلة تكون عنواناً يدل عليه سواء بأخبار أو قصص، وفي قوله تعالى[إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( )، عنوان علم الكلام والفلك والهيئة والصناعة.
وذكرت الآية محل البحث أن المسلمين(خير أمة) وجاءت بصفات حسنة تدل على نيلهم هذه المنزلة بأنهم يتوارثون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما آية السياق فجاءت بعنوان وأوامر تؤكد كون المسلمين (خير أمة) وتبين حقيقة أنهم لايبقون في حال واحدة بل تتجدد عندهم التقوى ويزداد إيمانهم، فمع زمان العولمة وتداخل الحضارات تتجلى معاني التقوى بتعاهد ذات الأفعال العبادية التي أمر الله عز وجل بها، وإتيانها بنفس الكيفية التي أداها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله(صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) خطاب عام ينحل بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة فهو أمر متجدد، والتقيد به في كل زمان متحد في ماهيته وكيفيته.
وبعد أن نال المسلمون منزلة(خير أمة) جاء الأمر الإلهي لهم جميعاً بتعاهد هذه المنزلة والخشية من الله، ليكون من خصائص (خير أمة) أمور:
الأول: الإرتقاء في سلم المعرفة الإلهية.
الثاني: وراثة الأنبياء في التقوى والصلاح.
الثالث: جهاد المسلمين وتحملهم الأذى في جنب الله, قال تعالى[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]( ).
الرابع: المسلمون آية للعالمين في كل زمان.
الخامس: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا الحجة على الناس، ودعاة إلى الله بحسن سمتهم ونهجهم وظهور مصاديق الخوف من الله في أقوالهم وأفعالهم.
الصلة بين الآيتين بلحاظ التعضيد بينهما
كل آية من الآيتين عون للآية الأخرى وشاهد على مضامين (قانون التوكيد المتبادل بين الآيات) ( )، لتكون كل آية منهما عضداً للمسلمين في الإمتثال للآية الأخرى وهذا التعضيد على قسمين:
القسم الأول: إعانة آية السياق(حق تقاته) للآية محل البحث، وفيها مسائل:
الأولى: خطاب(يا أيها الذين أمنوا)التشريفي وفيه وجوه:
الأول: انه تحريض وعون للمسلمين لتعاهد منزلة(خير أمة).
الثاني: إشارة للمسلمين للخروج للناس بصيغة الإيمان، والتقيد بآداب الإسلام.
الثالث: بيان وظيفة المسلمين بالقيام بالأمر بالمعروف والتعاون والتآزر فيه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الرابع: ندب المسلمين إلى مسؤوليات النهي عن المنكر، وهو أمر ثقيل يستلزم الصبر والثبات والتحدي، وعدم الخشية من الناس.
الخامس: توكيد إيمان المسلمين بالله , وتتصف (خير أمة) بان إيمانها وعاء وسبيل لتلقي الأوامر التكليفية.
الثانية: قوله تعالى(اتقوا الله) يتضمن الأمر الذي يحمل على الوجوب لعدم وجود قرينة صارفة إلى الندب والإستحباب، وفي إعانته للآية محل البحث وجوه:
الأول: بعث الحرص في نفوس المسلمين للحفاظ على منزلة(خير أمة).
الثاني: الإجتهاد في كيفية المحافظة على هذه المرتبة الرفيعة بين الناس.
الثالث: إتيان الأفعال العبادية التي تؤكد أن المتقين هم (خير أمة) فمن يكن متردداً في الإسلام ونيل المسلمين هذه المرتبة، فانه يرى ويدرك بالحواس والوجدان سعيهم لبلوغ وتعاهد هذه المرتبة، وتكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة هم المتقون.
الصغرى: المسلمون هم المتقون.
النتيجة: المسلمون هم خير أمة.
الرابع: تتجلى أبهى معاني التقوى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي الدؤوب فيهما.
الخامس: لا يتقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بتقوى الله.
السادس: بيان قانون وهو من وجوه :
الأول : لزوم إقتران التقوى بالإيمان .
الثاني : إستحضار ذكر الله على كل حال .
الثالث: إتيان الفرائض، وأداء المناسك .
الرابع : توظيف معاني الأخوة الإيمانية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكونا من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الخامس : إجتناب الفواحش والمحرمات .
السابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهاد في سبيل الله، والتقوى واقية من الضرر في مواجهة أهل الفسوق والضلالة بهما قال تعالى[فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالثة: إعانة قوله تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] للمسلمين في الإمتثال لمضامين الآية محل البحث، وفيها وجوه:
الأول: حرص كل مسلم ومسلمة على الموت على الإسلام من مصاديق(خير أمة) والحفاظ على هذه المرتبة العظيمة.
الثاني: يخرج المسلمون للناس بالإقرار بالعالم الآخر , والحساب بعد الموت , وقيام بعضهم بأمر وحث وتوصية بعضهم الآخر بلزوم الموت على الإسلام والذي يتجلى بالإقرار بالعبودية لله عز وجل والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتيان الفرائض والواجبات، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ] ( ).
الثالث: التسليم بالبعث والنشور بعد الموت عون للسعي في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو سبب لحب وراثة الناس الصالحات وسلامتهم من دنس السيئات.
القسم الثاني: إعانة الآية محل البحث للمسلمين في إمتثالهم لمضامين آية السياق:
وهي على أقسام:
القسم الأول: إعانة قوله تعالى للمسلمين (كنتم خير أمة) في تلقي الخطاب القرآني(يا ايها الذين آمنوا) وفيه وجوه:
الأول: إخبار هذه الآية عن كون المسلمين(خير أمة) دعوة للمسلمين لتلقي الخطابات القرآنية بالقبول والرضا والإنصات لها ولما بعدها من الموضوعات والأحكام.
الثاني: من الشكر لله عز وجل على التوفيق لمنزلة(خير أمة) تقوى الله والخشية منه.
الثالث: إدراك المسلمين بأن الحفاظ على منزلة(خير أمة) يتجلى بتقوى الله وإتيان الواجبات العبادية.
الرابع: المسلمون هم الأسوة والأئمة للناس، وتنظر الأمم والملل لهم في تقواهم وطاعتهم لله عز وجل.
الخامس: لم يخرج المسلمون للناس إلا بالإيمان، وهو الفيصل والمائز بينهم وبين غيرهم، فلابد من ترغيب الناس بالإسلام خصوصاً وأن الدخول للإسلام مفتوح، وهو واجب على كل مكلف ومكلفة.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: لو أسلم كل الناس يبقى مصداق خارجي لقوله تعالى(أخرجتم للناس).
الثاني: إن إسلام الناس أمر ممتنع، لذا فان الآية القرآنية باقية في حكمها.
الثالث: إذا أسلم كل الناس لا يبقى مصداق لقوله تعالى(أخرجتم للناس).
والصحيح هو الأول، فان الآية القرآنية غضة طرية لا تنقطع موضوعاتها ومصاديقها الخارجية إلى يوم القيامة، فقوله تعالى(يا أيها الذين أمنوا) خطاب لكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة وهم جميعاً من(خير أمة) وإذا دخل الناس جميعاً في الإسلام وشملهم الخطاب أعلاه، وجاءت لكل فرد منهم البشارة بأنه من (خير أمة) والتكليف بخروجه إلى الناس، فتكون النسبة بين المسلمين والناس حينئذ التساوي، وليس العموم والخصوص المطلق، فيتوجه كل مسلم في خروجه إلى إخوانه المؤمنين لتعاهد الإيمان، والإرتقاء في مراتب التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: إختصاص المسلمين بالخطاب الإلهي(يا أيها الذين أمنوا) وبقاء هذا الإختصاص إلى يوم القيامة، فتتغير أحوال الناس، وتنصرم أيام دول عظمى، وتأتي غيرها لتأخذ بالقوة ثم الضعف حتى تنقرض، ولكن المسلمين باقون على ذات المرتبة من الإيمان والسمو والرفعة ومقامات(خير أمة) وهو منتهى الفخر وآية العز, قال تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابع: عندما يعلم المسلمون أنهم(خير أمة) فانهم يحرصون على تقوى الله والخشية منه، والتصديق بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بالأوامر والنواهي القرآنية.
ومن خصائص الثناء من الله على المسلمين تعاهدهم لأسباب وموضوع هذا الثناء.
الثامن: إخبار الآية عن خروج المسلمين للناس يطرد عنهم التردد والشك في وظائفهم العامة بين الناس، وليس لفريق من المسلمين القول بأنه تكفينا أنفسنا وإصلاحها، ولا نتوجه للناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فالمسلمون جميعاً يتولون مسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فان قلت قد ورد قوله تعالى[عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] ( )، والجواب من وجوه:
الأول: البشارة بصلاح المسلمين.
الثاني: يتعاهد المسلمون الوظائف العبادية.
الثالث: يحافظ المسلمون على سلامة دينهم.
الرابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين لعدم وصول الضرر من الكفار وإن قصدوا المكر بالمسلمين.
ومن الإعجاز في نفي الضرر عن المسلمين في هذه الآية وآيات أخرى أمور:
الأول: إن حال الضلالة التي عليها الكفار لن تؤثر سلباً على المسلمين في إيمانهم ومناسكهم وصلاحهم.
الثاني: من خصائص(خير أمة) أنها بلغت مرتبة لا ترجع إلى ما هو أدنى منها.
الثالث: توكيد المصداق الخارجي المتكرر لقوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، بلحاظ أن الأذى أدنى مرتبة من الضرر، وبينهما عموم وخصوص مطلق فكل ضرر هو أذى وليس العكس، وروي أن أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية قال (ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة و شحا مطاعا و هوى متبعا و إعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك و ذر الناس و عوامهم) ( )، وورد عن عطا عن ابن عباس قال(إن هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لأن الله تعالى خاطب بها المؤمنين فقال (عليكم أنفسكم) يعني عليكم أهل دينكم كما قال و لا تقتلوا أنفسكم لا يضركم من ضل من الكفار) ( ).
التاسع: يفيد الجمع بين الآيتين إخبار المسلمين والناس بأن(خير أمة) لايموتون إلا وهم مسلمون , ولايتسرب الشك إلى نفوسهم.
القسم الثاني: إعانة(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) المسلمين في الإمتثال لمضامين آية السياق، وفيه وجوه:
الأول: بيان الملازمة بين الإيمان وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: إخبار المسلمين بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من رشحات التقوى، فالأمة التي تتقي وتخشى الله لابد أن تأمر بفعل الصالحات وتنهى عن السيئات .
وقد تكرر لفظ(اتقوا) في آية واحدة ثلاث مرات في توكيد على التقوى وبيان موضوعيتها في الفوز بالثواب العظيم قال تعالى[لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا]( ).
الثالث: الذي يواظب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرص على البقاء في منازل التقوى.
الرابع: تقوى الله من المعروف، وهي نهي عن المنكر في ذاتها ومنطوقها ومفهومها.
القسم الثالث: إعانة(تؤمنون بالله) في الإمتثال لمضامين آية السياق، وفيه وجوه:
الأول: بيان ماهية الإسلام والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل، والإنقياد لأوامره، والتصديق بأنبيائه وكتبه.
الثاني: لزوم تقيد المسلمين على نحو العموم المجموعي بآداب التقوى.
الثالث: من تقوى الله دعوة الناس للإيمان، وعدم طاعة الظالمين والتحذير منها لتنفرد خير أمة باجتماع أمور وهي:
الأول: التنزه من الظلم للنفس والغير .
الثاني: عدم الركون إلى الظالمين، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
الثالث: بيان قبح الظلم، وسوء عاقبته، قال تعالى[ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا]( ).
الرابع: تحذير وإنذار الناس من إتباع وطاعة الظالمين.
الوجه الرابع: تفقه المسلمين في الدين ترى لماذا لم تقل آية السياق(ولا تموتن إلا وأنتم مؤمنون) أو (ولا تموتن إلا وأنتم متقون) والجواب من وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية بالأمر بتقوى الله عز وجل، وهذا الأمر مصاحب لكل مسلم ومسلمة إلى حين مغادرتهما الحياة الدنيا.
الثاني: الإسلام أمر ظاهر في الحياة وعند الممات فيكفي المسلم عند الموت الإقرار بالشهادتين وأداء الفرائض.
الثالث: قاعدة نفي الجهالة والغرر , وبيان حد السلامة في الدين عند مغادرة الحياة الدنيا.
الرابع: إكرام المسلم عند وفاته، وبعث السكينة في نفسه مما يلاقيه من أهوال الآخرة فبتعاهده الشهادتين يكون من الذين قال الله فيهم [لاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الخامس: دعوة الناس للإسلام، وبيان التخفيف فيه، وقاعدة نفي الحرج في الدين وأن الله عز وجل يرضى من العباد عند الموت البقاء على الإسلام.
السادس: المطلوب من الإسلام الماهية بشرط شئ، أي بشرط الإيمان والتقوى ولكنها ليست أمراً خارجياً مستقلاً بل هما في طول الإسلام وتعاهد مبادئه.

بحث بلاغي
من البديع(حسن النسق) وهو المجيء بكلمات متتابعات متتاليات، يترشح عن موضوعها حسن إتصالها، ويكون لها وقع في النفس وجذب للأسماع، ومنه الآية محل البحث(كنتم خير أمة).
ومن إعجاز القرآن أنك تجد حسن النسق في الآية الواحدة، وفي الجمع بين آيتين أو أكثر منه، مع دلالات عقائدية تتجلى بهذا النسق والجمع، وتقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير أمة أخرجت للناس فاتقوا الله حق تقاته) لما تستلزمه هذه الرفعة من الشكر لله عز وجل.
وما يمليه الخروج للناس من وظائف عقائدية، وتقيد بأحكام الخروج وإتخاذ التقوى بلغة وغاية فيه، لذا جاءت الآيات بحث المسلمين على الأخوة الإيمانية فيما بينهم والتمسك بالقرآن، والتحلي بطاعة الله وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد حكاية عن نبي الله صالح عليه السلام في التنزيل[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ]( )، وجاء الأمر للمسلمين بأمور:
الأول: تقوى الله حق تقاته.
الثاني: الثبات على الإسلام إلى حين الإنتقال إلى عالم الآخرة.
الثالث: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم يمتازون بالخروج إلى الناس إلى جانب إصلاحهم لأنفسهم.
الرابع: التنزه عن طاعة الكفار والفاسقين.
بحث كلامي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وتنافس في الصالحات قال تعالى[لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]( )، وهناك تباين وتمايز بين الأمم في العقائد وعالم الأفعال، فجاء الأمر الإلهي للمسلمين بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ليكونوا في سباق في الإصلاح وتهذيب الأخلاق , وتنزيه الأرض من الفساد.
وإذ يقوم الناس بالسباق وتنافس وإختبار كل في إختصاصه وفنه ودراسته في مختلف الأزمنة والأمصار فان الأمم جعلها الله عز وجل عنده في سباق وإختبار بلحاظ الإيمان، وقد فاز المسلمون بالمرتبة الأولى بشهادة الله عز وجل لهم، وهو الشرف العظيم في الدنيا والآخرة، فقوله تعالى(كنتم خير أمة) لم ينحصر موضوعه بالدنيا، فلا بد من جزاء للفائز في الإختبار والسباق، وليس من جزاء أعظم من الجنة، وفيه وجوه:
الأول: تجعل هذه الآية أيام المسلمين كلها أعياداً، كل يوم يطل على أهل الأرض يكون فيه المسلمون(خير أمة).
الثاني: ليس من أمة منافسة للمسلمين في هذه المنزلة، من الأولين والآخرين.
أما بالنسبة للأولين فان الأمم السابقة تخلفت عن المسلمين في الفعل والعمل، وإنفرد المسلمون بالإيمان والتصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي وأما الأمم في الأجيال اللاحقة فانهم مأمورون بالدخول في(خير أمة).
الثالث: إن تبوأ المسلمين لمراتب(خير أمة) يجعلهم في جهاد دؤوب في أمور:
الأول: إصلاح الذات ومحاربة النفس الشهوية والغضبية.
الثاني: التحلي بأسمى درجات التقوى، وإظهار الخشية والخوف من الله في السر والعلانية.
الثالث: الحرص على البقاء على الاسلام حتى الموت، وهو من رشحات فضل الله عز وجل على المسلمين[وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الرابع: الجهاد لجذب الناس لمنازل الإيمان ليصبحوا مسلمين، فمن الخصائص التي إنفردت بها(خير أمة) أن الناس يدخلون فيها على نحو دائم، ولا يخرج منها أحد.
ويبين الجمع بين الآيتين تعدد الوظائف العقائدية للمسلمين، ويحتمل هذا التعدد وجوهاً:
الأول: إنحصار تعدد هذه الوظائف بالعلماء من المسلمين.
الثاني: يكون التعدد في الأمصار الإسلامية، وحيثما تثنى الوسادة للمسلمين.
الثالث: عموم المسلمين والمسلمات في كل زمان.
والصحيح هو الثالث، فان تعدد الوظائف العقائدية إنحلالي شامل لكل المسلمين والمسلمات، من جهات:
الأولى: تقوى وخشية كل مسلم ومسلمة من الله عز وجل.
الثانية: إرتقاء هذه التقوى لأسمى المراتب.
الثالثة: الثبات على الإسلام، والحرص على أداء الفرائض، وحينما أمر الله عز وجل المسلمين بعدم مغادرة الدنيا إلا على الإسلام فانه سبحانه، فرض على كل مكلف ومكلفة منهم الصلاة خمس مرات في اليوم قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] ( ).
وجاءت النصوص بأن الصلاة لا تترك بأي حال، لتكون عوناً للمسلمين في الإمتثال لقوله تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
صلة آية[وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( )،بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: وكيف تكفرون و(كنتم خير أمة) مما يدل على أن معنى(كيف) هو النفي الإنكاري بصيغة الإستفهام.
الثانية: بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار من إرتداد المسلمين.
الثالثة: جاءت كل من الآيتين خطاباً للمسلمين بصيغة العموم الإستغراقي الشامل لأجيال المسلمين المتعاقبة.
الرابعة: من خصائص(خير أمة) توالي آيات ومعاني اللطف الإلهي عليهم، وفيه أسباب ومصاديق للتعضيد الذي يترشح من كل آية من هاتين الآيتين على موضوع الآية الأخرى.
فقوله تعالى(كيف تكفرون) حث سماوي للمسلمين لتعاهد منازل(خير أمة) لما فيه من الرفعة والعز والفخر بالإيمان.
وقوله تعالى(كنتم خير أمة) سبب ووسيلة للتنزه من الكفر والضلالة وباعث للحرص على الحفاظ على هذه المنزلة العظيمة الذي لا يكون إلا بالإيمان والتقوى والصلاح.
الخامسة: بيان قانون ثابت وهو تعاهد المسلمين لخصال الإيمان، وعدم حصول إرتداد أو كفر بين صفوفهم، ليكون من الشواهد على استدامة الإيمان في الأرض .
السادسة: لقد إنتقى الله عز وجل المسلمين لمرتبة(خير أمة) وهو الذي يدفع عنهم الكفر، ويجعلهم في منعة وعصمة من الكفر الظاهر والخفي.
السابعة: لقد جاء الخطاب في آية(كيف تكفرون) بلغة المدح والثناء على المسلمين من وجوه:
الأول: عطف الآية على الخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا).
الثاني: تفضيل وإكرام المسلمين لتلاوة آيات القرآن عليهم أولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
الثالث: تشريف المسلمين بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم.
الرابع: حث المسلمين على التوكل على الله واللجوء إليه، والإعتصام به.
الخامس: البشارة بالصراط المستقيم والدلالة عليه وإرشاد المسلمين لبلوغه وإتخاذه بلغة للخلود في النعيم الأخروي.
وهو شاهد على تعاهد المسلمين للإيمان.
صلة(كيف تكفرون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: كيف تكفرون وأنتم أخرجتم للناس.
الثاني: كيف تكفرون وأنتم(تأمرون بالمعروف).
الثالث: كيف تكفرون وأنتم( تنهون عن المنكر).
الرابع: كيف تكفرون وأنتم(تؤمنون بالله).
الخامس: كيف تكفرون وأنتم تتلون(ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم).
السادس: كيف تكفرون وأنتم تشهدون على أهل الكتاب بأن(منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).
الثانية: الجمع بين الآيتين من مصاديق التعاضد والتوكيد المتبادل بين آيات القرآن، فقد ذكرت آية السياق سببين لعدم حصول الكفر عند المسلمين، وهما:
الأول: تلاوة آيات القرآن على المسلمين.
الثاني: وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين في شخصه وسنته الكريمة، ومن منافع هذا الوجود أمور:
الأول: توالي المعجزات العقلية والحسية، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن والوحي لم ينقطعا عنه إلى حين وفاته، قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
الثاني: إرشاد المسلمين إلى طاعة الله ورسوله، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الثالث: إنتفاع خير أمة من الوحي في الخروج للقتال والغزو، وفي ميدان المعركة.
الرابع: تعليم المسلمين أحكام وآداب العبادات، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحج(خذوا عني مناسككم)( ).
الخامس: فوز المسلمين بالمغفرة والعفو عن الذنوب من عند الله ببركة وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ]( ).
السادس: فضح المنافقين والكافرين، وخزيهم، والحيطة والحذر منهم.
وجاءت الآية محل البحث لتبين وجوهاً أخرى متعددة تعضد هذين الوجهين، تتعلق بإجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) وقيامهم بالوظائف العقائدية والعبادية لبيان أمور:
الأول: بقاء المسلمين على ملة التوحيد.
الثاني: إحياء المسلمين لعلوم الدين.
الثالث: تعضيد المسلمين في كل زمان لشعائر الله.
الرابع: إمتناع المسلمين مجتمعين ومتفرقين عن الكفر والجحود.
الثالثة: جاء خروج المسلمين للناس مقيداً بقيود جامعة مانعة، جامعة لمعاني التقوى والصلاح، ومانعة من الكفر والضلالة، وكل قيد منها ضد خاص للكفر وبرزخ دونه والقيود هي:
الأول: إختصاص المسلمين بمنزلة(خير أمة).
الثاني: خروج المسلمين للناس والصلاح.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف لتكون هذه الصفة ملازمة لأجيالهم من أيام البعثة النبوية وإلى يوم القيامة.
الرابع: حرص المسلمين والمسلمات على النهي عن المنكر والقبيح ومحاربتهم للكفر والجحود.
الخامس: إعلان المسلمين بالقول والفعل الإيمان بالله عز وجل.
السادس: دعوة المسلمين الناس جميعاً للإسلام، وبيانهم لقبح الكفر وأضراره.
السابع: يقوم المسلمون بالشكر لله تعالى على نعمة الإيمان، وهذا الشكر مصداق من مصاديق كل قيد من القيود الستة أعلاه.
الرابعة: إن خروج المسلمين للناس أمانة عقائدية وعبادية، ولا يتم أداؤها من قبل المسلمين إلا بتعاهدهم للإيمان، وتنزههم عن الكفر والجحود.
لقد أراد الله عز وجل دوام ذكره وعبادته في الأرض فجعل أتباع خاتم النبيين أئمة للناس في سبل الهداية والرشاد، وتفضل وحصنّهم من الكفر والإرتداد بقوله تعالى(كيف تكفرون).

الخامسة: من خصائص(خير أمة) الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، ويتجلى إمتثال المسلمين لقوله تعالى(كيف تكفرون) بالنزاهة والعصمة من الكفر.
السادسة: خروج المسلمين إلى الناس سبب للصلاح والهداية، ويترتب عليه دخول فريق من الناس الإسلام، وهذا الدخول يؤثر على المسلمين بنحو حسن من وجوه:
الأول: الثبات على الإيمان.
الثاني: الرضا والغبطة بالسعي في سبيل الله.
الثالث: المبادرة والتسابق في دعوة الناس للإسلام , وهو من عمومات قوله تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الرابع: القيام بتعليم وإرشاد المسلمين الجدد إلى وظائفهم العبادية، ودعوة غيرهم للإسلام، والتفقه في الدين.
السابعة: إجتناب مصاديق الكفر ضرورة للأمر بالمعروف، ورداء يجب أن يتلبس به الآمر بالمعروف، وقد ورد في ذم فريق من الأمم السابقة قوله تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] ( )، ومن خصائص(خير أمة) التنزه من الموارد التي ورد في القرآن ذم الأمم السالفة بها، فالمسلمون يعملون بالمعروف ويتقيدون بأحكامه قبل وأثناء وبعد أمرهم الناس بالمعروف.
الثامنة: لقد فاز المسلمون بشرف مرتبة(خير أمة) بالأمر بالمعروف، وليس من منزلة أسمى في الدنيا، ولا أعظم أجراً وثواباً في الآخرة من القيام بالأمر بالمعروف وتعاهده من منازل الإيمان والتقوى والصلاح، فتفضل الله عز وجل على المسلمين بمقدمات الحفاظ عليها بالسلامة من الكفر.
التاسعة: الإرتداد عن الإيمان الذي تذكره آية السياق أعم من الكفر والجحود، فيشمل التقصير في الوظائف العبادية بما يؤثر سلباً على الناس، وعلى الأجيال اللاحقة من المسلمين، وظهور التخلف النوعي العام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
العاشرة: يتضمن الجمع بين الآيتين نفي طاعة المسلمين لأهل الكتاب لأمور:
الأول: التضاد والتنافي بين إستدامة قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين طاعتهم لأهل الكتاب.
الثاني: بيان قانون وهو أن المسلمين لم ولن يتخلفوا عن وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: من مصاديق خروج المسلمين للناس لزوم إستماع الناس لهم والأخذ منهم .
الحادية عشرة: الكفر على أقسام منه(كفر إِنكار بأَن لا يعرف الله أَصلاً ولا يعترف به وكفر جحود وكفر معاندة وكفر نفاق) ( )، ومن الكفر الجحود بالنعمة وهو ضد الشكر، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب.
ومن خصائص(خير أمة) أمور:
الأول: تعاهد الواجبات الأخلاقية.
الثاني: التنزه من جحود النعمة.
الثالث: الإعراض عن طاعة الذين يشغلونهم عن وظائف الشكر لله.
الثانية عشرة: شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة الإسلام وقوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، ومن مقدمات ومصاديق هذا الشكر إجتناب طاعة أهل الكتاب وغيرهم من أهل الملل الأخرى , إذ تدل الآية بالأولوية القطعية على لزوم عدم طاعة المسلمين لغير أهل الكتاب من الكفار والمشركين.
الثالثة عشرة: جاءت الآيتان خطاباً للمسلمين والمسلمات وتأديباً وإرشاداً لهم، وليس لأهل الكتاب في الخطاب حصة إلا التحذير منهم، ليكون لهم عبرة وتحذيراً وزاجراً، وليعلموا أن المسلمين مأمورون من الله عز وجل بعدم طاعتهم.
الرابعة عشرة: من مصاديق قوله تعالى(لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم) التصديق بنوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزه من المعاصي، إذ أنهم يصبحون من أهل الإسلام فلا ينفر أو يعرض عنهم المسلمون لشمولهم بعمومات قوله تعالى في المؤمنين[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ).
الخامسة عشرة: صدور النهي من الله عز وجل عن طاعة فريق من الناس ذم وتوبيخ لهذا الفريق، وإخبار عن كونهم لا يأمرون إلا بما فيه الأذى والضرر , سواء جاء الضرر مباشرة وظاهراً أو بالواسطة وخفياً .
السادسة عشرة: طاعة المسلمين لأهل الكتاب إضرار بأهل الكتاب أنفسهم وبالناس، لما تدل عليه بالدلالة التضمنية والإلتزامية من بقائهم على ما هم عليه من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن خصائص(خير أمة) الرحمة والألفة بالناس بعدم طاعتهم في المعاصي.
صلة (وأنتم تتلى عليكم آيات الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من خصائص(خير أمة) تلاوة آيات الله عز وجل على أفرادها، وفيه وجوه:
الأول: تشريف وإكرام المسلمين.
الثاني: بيان الإرتقاء العلمي الذي بلغه المسلمون والمسلمات بالتلاوة، وتعلمهم لمبادئ الحكمة وأسباب الهداية.
الثالث: زيادة إيمان المسلمين، قال تعالى[وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا]( ).
الرابع: بعث المسلمين على فعل الصالحات.
الخامس: حسن إمتثال المسلمين للأوامر والنواهي الواردة في القرآن وآياته.
السادس: تلاوة المسلمين لآيات القرآن وإكتنازهم الحسنات بتلك التلاوة.
السابع: الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بنزول القرآن من عند الله , والذي يتجلى بقراءة القرآن بقصد القرآنية، ورجاء الثواب، قال تعالى[كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا] ( ).
الثامن: إظهار المسلمين لمعاني الشكر لله على نعمة التنزيل بتلاوة القرآن وهو من فعل المعروف ودعوة الناس له.
المسألة الثانية: لما جاءت هذه الآية بالثناء على المسلمين لقيامهم بالأمر بالمعروف، جاءت هذه الآية بأهم موضوع ومادة للأمر بالمعروف وهو تلاوة الآيات من وجوه:
الأول: تلاوة الآيات بذاته أمر بالمعروف، ودعوة إلى الخير والصلاح.
الثاني: بيان الحسن الذاتي للصالحات، والترغيب في فعلها.
الثالث: بيان آيات القرآن لأحكام الحلال والحرام.
الرابع: إقامة الحجة على الناس بتلاوة آيات القرآن والإستماع لها، إذ أن التلاوة على أقسام:
الأول: التلاوة الجهرية التي يسمعها الآخرون.
الثاني: التلاوة الإخفاتية والتي يقرأ فيها الإنسان بمفرده.
الثالث: التلاوة الجهرية الواجبة، في قراءة الفاتحة وسورة في صلاة الصبح المغرب والعشاء.
الرابع: التلاوة الإخفاتية الواجبة كما في القراءة في صلاة الظهر والعصر.
الخامس: تلاوة القرآن المستحبة للسياحة في عالم الملكوت ورجاء الثواب , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(عن عبد الله بن مسعود، عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يؤجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات) ( ).
السادس: كما تكون التلاوة مطلوبة بذاتها، تترشح عنها منافع كثيرة تتعلق بمضامينها القدسية وما فيها من السنن والآداب، وكل فرد منها أمر بالمعروف.
السابع: لقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالأمم المعروف وجاءت آيات القرآن وتلاوتها على شعب:
الأولى: بيان المعروف ومصاديقه في آيات القرآن وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثانية: تلاوة القرآن من الأمر بالمعروف.
الثالثة: تأتي التلاوة على وجوه:
الأول: تلاوة القرآن بالنظر إليــــها في المصحف،( قال اســــحق بن عمار للصادق عليه السلام :” جعــــلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضــــل أو أنظـــر في المصــــــحف قال :فقال لي : لا بل اقرأه وانظر في المصـــــحف فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة ” ؟ . وقال :” من قرأ القرآن في المصـــحف متّع ببصــــره ، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين ” ( ).
وفي القراءة بالمصحف مسائل منها :
الأولى: الترغيب بقراءة الآيات في المصحف.
الثانية: تعاهد المصحف، وعدم بقائه مهجوراً يشكو إلى الله.
الثالثة: العناية والإكرام لنسخ القرآن.
الرابعة: بعث السكينة في النفوس في صحبة القرآن.
الخامسة: السياحة في عالم أنوار آيات القرآن، وما يشع منها من الضياء.
السادسة: ضبط القراءة والمساعدة في حفظ الآيات كتنزيلها.
السابعة: التقييد بآداب التلاوة، والترتيل أي التأني في القراءة وتبين الحروف على وجه يتمكن السامع من تمييزها , قال تعالى[وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ).
وصحيح أن آداب ومستحبات التلاوة كالمد والإدغام والإمالة بالحركة تتحقق بالقراءة عن ظهر قلب إلا أنها تكون أسهل وأيسر بالقراءة في المصحف والتدبر في آياته.
الثاني: قراءة الآيات في الصلاة.
الثالث: التلاوة المستحبة عن ظهر قلب وخارج الصلاة.
الرابع: التلاوة التي تكون واجبة بالعرض كالتي تكون بالنذر واليمين.
المسألة الثالثة: إن الله عز وجل يتفضل بالأوفى والأتم، ويأتي بالنعم ومقدماتها وأسبابها بما يحكم وصول النعم وترشح ثمراتها، وجعلها ظاهرة بينة وبما لا يقبل الشك فيها، ومنها تلاوة آيات القرآن على المسلمين بما يجعلهم يحافظون على منزلة(خير أمة) ويجذبون الناس لها، ترى لماذا لم تقل آية السياق(كيف تكفرون وأنتم تتلون الآيات) والجواب من وجوه:
الأول: تلاوة المسلمين للآيات فرع تلاوة آيات القرآن عليهم.
الثاني: بيان موضوعية نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين والناس جميعـــاً، إذ ورد ذكـــره في القرآن بصــــفة التالي للآيات قال تعالى[رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً] ( )، والمــــراد من الرسول في الآية أعــــلاه هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كــان يتلو الآيات عن ظهر قلب مع إشتمالها على مضامين قدسية دقيقة، ونعت الآيات بأنها مطهرة دليل على أمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامة تلاوته ومطابقتها للتنزيل وأنها مطهرة من الباطل والكذب والتحريف.
الثالث: بيان حال المسلمين وأنهم في إستماع دائم للقرآن، فلا تنحصر التلاوة بأيام النبوة والتنزيل.
المسألة الرابعة: ذكر تلاوة الآيات على المسلمين وإعتبار هذه التلاوة من أسباب نيل المسلمين لمنزلة(خير أمة) ويدل بالأولوية القطعية على إستحقاقهم لنيلها والإرتقاء في مراتبها من وجوه:
الأول: تلاوة المسلمين للآيات.
الثاني: قراءتهم للقرآن على نحو الإستدامة والدوام , فمن خصائص خير أمة مباشرتهم قراءة القرآن , وعدم إنفكاكهم عنها .
الثالث: تدبرهم في معاني كلمات وآيات القرآن .
الرابع: تصدي علماء الإسلام لتفسير وبيان معاني ودلالات آيات القرآن، وبذل الوسع في إستظهار كنوزه.
المسألة الخامسة: بيان تفضيل المسلمين، إذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا على الطبقة الأولى منهم آيات القرآن فتعاهدوها بأجيالهم تلاوة فهي خاصة بالعلماء ومحدودة، أما المسلمون فيمتازون بتلاوتهم للآيات على نحو العموم المجموعي والإستغراقي فيلتقي العالم منهم وغيره، والرجل والمرأة، بتلاوة آيات القرآن كل يوم عدة مرات في الصلاة وبصيغة الوجوب إذ أن تلاوة الآيات جزء واجب لا يصدق الإمتثال لقوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) إلا به.
المسألة السادسة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الرحمة والبيان) وأرشد فيها الناس إلى وظائفهم، قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
ولما تفضل وأخبر عن خروج المسلمين للناس بصفة(خير أمة) وما فيها من معاني الهداية والصلاح، جاءت آية(كيف تكفرون) لبعث السكينة في نفوس الناس جميعاً من المسلمين في خروجهم وما يدعون إليه من طاعة الله لأن هذا الخروج مرتكز في موضوعه وغاياته إلى تلاوة الآيات، وأن المسلمين لم يخرجوا للناس إلا وقد تليت عليهم آيات الله، وفقهوا ما فيها من المواعظ والعبر، وأحكام الآخرة وعالم الجزاء.
المسألة السابعة: لم تقل الآية الكريمة (تتلى عليكم الآيات) بل نسبت الآيات لله عز وجل، وفيه أمور:
الأول: إنه شاهد بأن كل آية من القرآن معجزة قائمة بذاتها.
الثاني: البعث على تفسير القرآن بالقرآن، وبيان منافع علم سياق ونظم الآيات، والصلة بين كل آيتين من القرآن.
الثالث: توكيد تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات على المسلمين , وما فيها من معاني الجهاد.
الرابع: دعوة الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يتل إلا آيات من عند الله , قال تعالى [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ]( ).
الخامس: إن الله عز وجل هو الذي سمّى القرآن آيات، ونسبها إلى نفسه , وأنه سبحانه هو الذي يتلوها على النبي وفيه تشريف إضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتزكية لجبرئيل وشهادة على أمانته، قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ] ( ).
السادس: ليس من آيات سماوية نازلة تتلى في الأرض إلا آيات القرآن.
السابع: بيان حقيقة وهي أن المسلمين يستمعون للقرآن، وأنهم يؤمنون بالله، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن علم وإدراك ويقرّون بما فيها من الأحكام.
ويأتي لفظ (الآيات) المعرف بالألف واللام، في مواضع من القرآن لكون نسبتها إلى الله ظاهرة بالقرائن المقالية، ودلالة الفعل المبني للمعلوم كما في قوله تعالى[وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ]( ) [قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ]( ) [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ]( ).
المسألة الثامنة: بيان أثر التلاوة على القلوب، والتحدي بإعجاز التلاوة كفرد من أفراد القرآن، فكل آية معجزة، وكذلك تلاوتها، لما فيها من الدلائل على نزول القرآن من عند الله وأنه فوق كلام البشر بمضامينه القدسية وبلاغته وأسراره ودلالاته وذخائره وما يدعو إليه.
المسألة التاسعة: إصلاح المسلمين للدعاء لتعاهد منزلة(خير أمة) إذ تحث تلاوة آيات القرآن على الدعاء، ومنها ما يحمل معاني الدعاء والسؤال من غير تعارض بين قصد القرآنية والدعاء، (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السموات والأرضين).
المسألة العاشرة: جاءت الآيتان بالخطاب للمسلمين بصيغة الجمع والعموم الإستغراقي، وتقدير لغة المفرد في الجمع بينهما هو: (كيف تكفر وأنت تتلى عليك آيات الله وكنت من خير أمة أخرجت للناس).
المسألة الحادية عشرة: لما قسمت الآية محل البحث الناس إلى قسمين خاص وعام، والخاص أُخرج للعام , جاءت هذه الآية لتبين المائز وموضوع الخروج وهو تلاوة القرآن، وفيه وجوه:
الأول: أيها المسلمون إتخذوا من تلاوة الآيات عليك مادة وموضوعاً للخروج إلى الناس.
الثاني: يا أيها الناس أنصتوا للذين تتلى عليهم آيات الله ولا تجادلوهم بالباطل.
الثالث: تلاوة الآيات نعمة عظيمة على الناس.
الرابع: خروج المسلمين بالآيات فضل من الله عز وجل وليس من المسلمين أنفسهم، وفيه دعوة للمسلمين والناس لشكر الله عز وجل على نعمة الخروج بالآيات.
المسألة الثانية عشرة: الملازمة بين تلاوة الآيات على المسلمين وخروجهم للناس وفيها وجوه:
الأول: عصمة القرآن من التحريف.
الثاني: تلقي المسلمين في كل زمان آيات القرآن كتنزيلها.
الثالث: بين المسلمين والناس في سماع التلاوة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء أن المسلمين يسمعون الآيات ويتلونها ويتفقون في أحكامها، أما باقي الناس فإنهم يسمعون التلاوة أيضاً إلا أنهم لا يعلمون بمضامينها، ليكون خروج المسلمين على وجوه:
الأول: إنه سر من أسرار خلق الإنسان.
الثاني: إنه من عمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثالث: إنه موضوع للصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد في الأرض, ولما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بسبب الفساد, رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن مصاديق علمه تعالى في المقام تداخل أمور هي:
الأول: الوجود المستديم لأفراد(خير أمة) في الأرض.
الثاني: تلاوة الآيات على(خير أمة).
الثالث: إتقان (خير أمة) وهم المسلمون لأحكام ومضامين التلاوة لتكون(خير أمة) مرآة لآيات القرآن.
الرابع: خروج المسلمين للناس بآيات الله وتلاوتها، وفيه بيان لوظيفة المسلمين وترغيب للناس بإقتباس الدروس والآداب من المسلمين وإتباعهم.
الخامس: تلقي الناس التلاوة، فلا بد أن يستمعوا لآيات القرآن طوعاً وقهراً وإنطباقاً، وهو من إعجاز القرآن وضرورة وأسباب تعاهده وحفظه من التحريف.
ومن خصائص(خير أمة) أنه بوجودها تعمر الأرض بالتلاوة، وما يترشح عنها من الفيض والمنعة والسلامة.
السادس: غلق باب الإرتداد عن المسلمين وعصمتهم من الكفر كما تدل عليه آية السياق وقوله تعالى(كيف تكفرون) وفتح باب الهداية الذي هو أثر مبارك مستديم لخروج المسلمين للناس، قال تعالى[وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ] ( )، لتدل الآية على حقيقة وهي أن الحياة الدنيا دار الهداية وعدم الإرتداد، وأنه لا رجعة فيها عن الإيمان.
فمن يدخل في الإسلام تتوارث ذريته في إتساعها وكثرة أفرادها الإسلام، ومن يبقى على الكفر فإن أسباب الجذب إلى الهداية تتوجه إليه في كل آن، ومنها هذه الحقيقة التي تتقوم بخير أمة وهم المسلمون إذ يتجلى إنتفاء الإرتداد عملياً وظهوراً للوجدان بحسن سمتهم وتعاهدهم للعبادات اليومية، والسنن والمناسك.
المسألة الثالثة عشرة: بيان فضل الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة بما يفيده الجمع بين الآيتين من وجوه:
الأول: يأمر المسلمون بالمعروف وفق آيات القرآن التي تتلى عليهم.
الثاني: تتضمن آيات القرآن قصص الأنبياء والأمم السابقة بما فيها الموعظة والعبرة وإقتباس الدروس في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: ذات التلاوة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ودعوة لذكر الله والخشية منه في الغيب.
الرابع: في آيات القرآن سنن الحلال والحرام، والأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.
الخامس: بيان الجزاء الحسن على الأمر بالمعروف وفعله، والعقاب الأليم على فعل السيئات، قال تعالى[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا]( ).
المسألة الرابعة عشرة: لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل، وجعله قادراً على التمييز بين الأشياء، ومعرفة ما ينفعه وما يضره، وإتيان ما يأمر به، وإجتناب ما ينهى عنه، ولما كانت هذه الأمور في مقدور الإنسان فإن(خير أمة) أولى الناس بها والتحلي بآدابها.
المسألة الخامسة عشرة: تضمنت الآية محل البحث الإخبار عن إيمان المسلمين بالله والنبوة بصيغة المضارع بقوله تعالى(وتؤمنون بالله) للدلالة على تعاهدهم وتوارثهم للإيمان إلى يوم القيامة، والإرتداد نقيض الإيمان، ومما ثبت في الفلسفة عدم إجتماع النقيضين، وما دام المسلمون على الإيمان فإن الكفر لا يتسرب إليهم أبداً.
وهل الكفر أمر عدمي الجواب لا، إذ أنه أمر وجودي، وإختيار عن قصد وسوء نية وعناد، والإيمان والكفر كالملكة وعدمها ومثل البصر والعمى، ومن إعجاز القرآن مجيء نعت الكفر بالعمى والموت، والإيمان بالبصر والحياة، قال تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ] ( ).
المسألة السادسة عشرة: من ثمرات الإستماع إلى آيات القرآن أمور:
الأول: دخول الإيمان القلوب.
الثاني: رسوخ الإيمان.
الثالث: الزيادة في الإيمان وبلوغ مراتب التقوى , قال تعالى[وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]( ).
الرابع: العصمة من الإرتداد والإستكبار والعناد.
المسألة السابعة عشرة: من آيات الله الإخبار بأن الإيمان خير لأهل الكتاب، ليكون من منافع نزول آيات الله على المسلمين:
الأول: معرفة أحوال الأمم.
الثاني: التفقه في الدين.
الثالث: زيادة معارف المسلمين وتسلحهم بالحجة والبرهان .
وهذا الإخبار بعث للمسلمين للتوجه لأهل الكتاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الإيمان وهو من مصاديق خروج(خير أمة) للناس بالموعظة وحثهم لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، ترى ما هو أثر دعوة المسلمين لأهل الكتاب للإيمان على الكفار والمشركين، فيه وجوه:
الأول: دعوة المسلمين أهل الكتاب للإيمان، في منطوقها ومفهومها دعوة للكفار للإيمان.
الثاني: حث الكفار على عدم الإصغاء لأهل الكتاب، وأسباب الشك والريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: حث المسلمين على دعوة الكفار للإيمان من باب الأولوية القطعية، وإذا كان الإيمان خيراً لأهل الكتاب، فإنه ضرورة للكفار، والسبيل الوحيد لنجاتهم من براثن الكفر والجهالة والغي.
الرابع: إدراك الكفار لدعوة المسلمين لأهل الكتاب للإيمان من عمومات خروج المسلمين للناس، حيث يعلم الكفار بأن غيرهم من المليين على قسمين:
الأول: أمة تدعو للإيمان وهم المسلمون.
الثاني: أمم تُدعى إلى الإيمان وهم أهل الكتاب، وفيه حث للكفار لإعمال الفكر والنظر بماهية الأمور، وأحوال الأمم، وسنخية دعوة المسلمين للإيمان وما ترتكز عليه من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخارقة للعادة والمقرونة بالتحدي، والموافقة لما عند أهل الكتاب، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ] ( ).
الخامس: تبدل ماهية الصلات بين الأمم، فبعد أن كان الكفار يرجعون إلى أهل الكتاب لمعرفة حال نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاروا يتابعون معجزاته من غير واسطة من أهل الكتاب، ويتخذون من الإعراض عن أسباب الشك والريب مقدمة لدخول الإسلام.
المسألة الثامنة عشرة: بيان فضل الله على المسلمين في تلقي آيات القرآن بلحاظ علم الأخلاق أمور:
الأول: تهذيب العادات، وإصلاح الأخلاق، ونشر الفضائل.
الثاني: وجود أحكام ثابتة للحكم بين الناس إلى يوم القيامة تمتلك الأهلية للعمل بها في كل زمان ومكان، فمن إعجاز الأحكام القرآنية أنها ملائمة لجميع الأحوال، وإتصافها بالعموم كما في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( )، وفي تلاوة هذه الآية دعوة للناس لدخول الإسلام من وجوه:
الأول: بعث السكينة في النفوس.
الثاني: الأمن والسلامة للناس عامة، والمستضعفين خاصة.
الثالث: عموم القصاص.
الرابع: قلة القتل، خشية القصاص وهو من أهم معاني(الحياة) في الآية أعلاه إذ يهمّ الإنسان بقتل آخر، ويستحضر قتله قصاصاً فيمتنع عن القتل فتكون في حكم القصاص حياة للقاتل لإمتناعه عن الجناية، وحياة للآخر لسلامته بفضل هذه الآية من القتل، وهو من مصاديق قوله تعالى في الرد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )،حينما إحتجوا بإشاعة الإنسان الفساد والقتل في الأرض، فإن حكم القصاص زاجر للناس ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولو قتل رجل امرأة فلا يسقط القصاص مع أن دية الرجل ضعف ديتها، بل يدفع أولياؤها نصف دية الرجل ويقتل بها لعمومات قوله تعالى[النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] ( )، وفي الخبر عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله برجل قد ضرب امرأة حاملاً بعمود الفسطاط فقتلها ، فخير رسول الله صلى الله عليه وآله أولياءها أن يأخذوا الدية خمسة آلاف درهم وغرة وصيف أو وصيفة للذي في بطنها ، أو يدفعوا إلى أولياء القاتل خمسة آلاف ويقتلوه) ( ).
أما لو قتلت المرأة الرجل فتقتل به ولكن لا يطالب أولياؤها بنصف دية الرجل، وحتى إن كان عندها مال فلا يؤخذ منه بل يكون للوارث، للآية أعلاه والنصوص، ولأن الجناية رجعت على نفسها وهي أعز وأغلى ما تملك، وينتقل المال بعد موتها للوارث، فإن قلت إن أخذه قبل القصاص والجواب إن حق الوارث تعليقي ظاهر لذا ترى المسلم لا يحق له الوصية بأكثر من الثلث، وإن أوصى بالأكثر فلا تمضي الوصية بما زاد على الثلث إلا بأذن ورضا الورثة.
وتتجلى منافع تلاوة الآيات في كل علم من العلوم بما يمتنع على الحصر، وهو من خصائص(خير أمة) إذ يجعل الله عز وجل قوانين وقواعد سماوية يقتبسون ويستنبطون منها الأحكام ويجعلونها ضياء ينير لهم دروب الدنيا والآخرة.
المسألة التاسعة عشرة: جاء إخراج المسلمين للناس في هذه الآية بصبغة المبني للمجهول(أخرجت للناس) وجاءت تلاوة الآيات في قوله تعالى(تتلى عليكم) بصيغة المبني للمجهول أيضاً، وبينهما في النسبة عموم وخصوص مطلق، فإخراج أمة للناس لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أمّا التلاوة فهي أعم من وجوه:
الأول: جاء القرآن بتلاوة الله عز وجل الآيات على رسوله الكريم بالوحي وبواسطة الملائكة قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ]( ).
الثاني: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات على المسلمين وهو أمر متواتر ومستفيض وظاهر بالوجدان، قال تعالى[وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ] ( ).
الثالث: تلاوة المسلمين للآيات وإنصاتهم لها، ومنها القراءة الواجبة في الصلاة.
بحث أصولي
أقسام الحكم
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وعمل، ورزق الإنسان العقل ليكون قادراً على الإمتثال للأوامر الإلهية، ممتلأ قلبه بالخشية والخوف من الله، ساعياً إلى مراتب الرفعة والسمو في الجنة، وفرض عليه الأحكام، وفي الإصطلاح قيدت بالأحكام الشرعية لإفادة العموم وأن أصلها هو الشريعة، وأنها الأمر المجعول من قبل الله عز وجل، والتوجه للعباد وبما تقتضيه المصلحة في ذات الأمر، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين:
الأول: الحكم التكليفي: وهو الأمر الإلهي المتعلق بفعل المكلف وتقييده بالإلهي لبيان صدوره من المولى سبحانه من حيث الإقتضاء والتخيير، وإفادة الإنبعاث أو الإنزجار من الإنسان بصفة العبودية والخضوع لله عز وجل وهو على شعب:
الأولى: الوجوب، إذ يبعث المكلف إبتداء إلى متعلقه لما فيه من الحسن الذاتي كالصلاة.
الثانية: الحرمة التي هي زاجر للمكلف عن إرتكاب الفعل لما فيه من القبح الذاتي كالسرقة، ويمتاز الحكم التكليفي بتعلقه بفعل المكلف.
الثالثة: الإستحباب: وهو ندب إلى الفعل من غير إلزام كصلاة النافلة، والصدقة غير الواجبة، وقيل بالتباين بينه وبين الوجوب ولكن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فكل واجب هو مستحب وليس العكس، ويجوز أن تكون النسبة العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء بين الوجوب والإستحباب هي الثواب والبعث، ومادة الإفتراق هي اللزوم في الوجوب، وعدمه في الإستحباب.
الرابعة: الكراهة وهي النهي والزجر عن الفعل، ولكن ليس بصيغة القطع في الحرمة والمنع، بل يجوز إتيان الفعل على الكراهة.
الخامسة: الإباحة: وهو التخيير والسعة في إتيان الفعل أو تركه، والمعروف أن التكاليف تتضمن المشقة والكلفة وبذل والجهد، وليس في الإباحة تكليف فكيف صارت من الأحكام التكليفية الخمسة فيه وجوه:
الأول: أنها من الأحكام التكليفية على نحو الإلحاق.
الثاني: يطلق عليها التكليف مجازاً أو إعتباراً.
الثالث: إرادة شمول الأحكام التكليفية كل أفعال المكلف في الدنيا، ومن أفعاله ما هو مباح كالشرب والأكل الحلال.
الثاني: الحكم الوضعي: وهو كل حكم لا يتعلق بذات أفعال المكلفين إبتداء، ويلتقي مع الحكم التكليفي في إعتباره الشرعي وبما يقضيه الملاك في نفس الأمر وما هيته، والواقع، ويختلف عنه في عدم تعلقه وصلته مباشرة بأفعال المكلفين، ومن الأحكام الوضعية الصحة والفساد، والمانعية والشرطية، والزوجية، والملكية، والطهارة والحلية، ويحتمل الحكم الوضعي وجوهاً:
الأول: إنه فرع الحكم التكليفي، ومنتزع منه.
الثاني: إنه مجعول على نحو الإستقلال.
الثالث: التفصيل، فبعضها مجعول على نحو الإستقلال، وبعضها منتزع من الأحكام التكليفية.
ونضيف تقسيماً ثالثاً وهو: الحكم الوضعي أصل ينتزع ويتفرع عنه حكم أو أحكام تكليفية، فالزوجية مثلاً من المعتبرات الشرعية الوضعية وضعها الشارع إستقلالاً، وتتنجز عند تحقق موضوعها وأسبابها في الخارج، ولكنها تتقوم بأحكام تكليفية تتفرع عنها كوجوب نفقة الزوجة على الزوج، وعدم خروج الزوجة من البين إلا بأذنه، وأحكام الأولاد نفقه وحضانة وتربية وغيرها.
وهل تلاوة الآيات والإنصات لها من الأحكام التكليفية، الجواب نعم، فقد تكون التلاوة واجبة كما في قراءة سورة الفاتحة في الصلاة، وقد تكون التلاوة مستحبة، وكذا الإنصات للتلاوة فإن مستحب، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
والأصل في صيغة إفعل أعلاه الوجوب إلا مع القرينة الصارفة للإستحباب لتكون تلاوة الآيات والإصغاء لها شاهداً على تقوى المسلمين وصلتهم المتصلة بالسماء بواسطة الوحي والتنزيل.
ومن خصائص(خير أمة) تغشي اللطف الإلهي لها كأمة وأفراد، وتقريبها إلى منازل الطاعة وبما يجعلها تحتل أسمى المراتب، ومن الآيات أن الأحكام التكليفية لم تتوجه للمسلمين كأفراد معينين بل جاءت بلحاظ العبودية لله عز وجل وهو سور جامع للناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] ( ).
بحث بلاغي
من وجه البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ويمكن أن نسميه المدح بالواسطة، (قال ابن أبي الأصبع: هو غاية العزة في القرآن. قال: ولم أجد منه في القرآن إلا آية واحدة وهي قوله تعالىقُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ .
وهذا القول غير مناسب للتسالم بالقصور عن إدراك معاني ودلالات آيات القرآن وتعدد وجوه تأويلها، لذا قال السيوطي في إتقانه: ونظيرها قوله[وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ]( )، وذكر آية أخرى، وإستشهاد التوخي بآية أخرى( ).
ويأتي هذا الوجه من البديع في آية السياق، وفي الجمع بينها وبين الآية محل البحث،فإن البيان والعصمة من الكفر والضلالة بعد الإستفهام الخارج مخرج الإنكار,
وجاءت أسباب العصمة من الكفر بلغة المدح والثناء على المسلمين، وهذا المدح هو رشحة من رشحات فضل الله عز وجل عليهم وإصلاحهم لمنزلة(خير أمة) فتلاوة آيات الله على المسلمين مدح وثناء عليهم، وكذا وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته بين ظهرانيهم.
ومن خصائص(خير أمة) الإنتفاع من الإستفهام الإنكاري(كيف تكفرون) على وجوه :
الأول : بعث اليقظة والحيطة والحذر في نفوسهم من مفاهيم الكفر الظاهرة والخفية .
الثاني : جعلهم يلجأون إلى آيات القرآن وتلاوتها، والإنصات لها، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )،

الثالث : الحرص على العمل بالسنة النبوية الشريفة , والإقتداء برسول الله في أمور الدين والدنيا , لموضوعية الوحي في قوله وفعله , وترشحهما عنه , ووضوح صبغة النبوة فيهما.
صلة( وفيكم رسوله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآيتان خطاباً للمسلمين، ومن إعجاز الخطاب القرآني للمسلمين إجتماع العموم الطولي والحصر العرضي، فهو يستغرق ويشمل أفراد المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة، وينحصر في كل زمان بهم فلا يتعدى إلى غيرهم، وفيه دعوة للغير لدخول الإسلام، فهذا الحصر ليس في ذات الخطاب، ولكن الناس هم الذين حجبوا عن أنفسهم نعمة تلقي الخطاب القرآني، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين : فيكم رسوله كنتم خير أمة ) , وفيه وجوه:
الأول: الإشارة إلى ترشح تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين مدد من الله لهم، ولا يختص هذا المدد بأيام النبوة بل هو متصل إلى يوم القيامة، فإبتداء نيل مرتبة(خير أمة) بوجود شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته للمسلمين في الحضر والسفر، والسلم والحرب، وإستدامة بقائهم بهذه المنزلة بسنته وسيرته وبالآيات التي أوحاها له الله عز وجل.
الثالث: موضوعية الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعاهد منزلة(خير أمة).
الرابع: بيان تخلف الأمم الأخرى عن بلوغ مرتبة المسلمين لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين.
الخامس: تلقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأحكام من الله عز وجل بالوحي وبالتأديب السماوي، ومن الأحكام ما جاء في ليلة الإسراء.
وعن الإمام جعفر الصادق (في حديث طويل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اسري بي إلى السماء ثم أوحى الله إلي: يامحمد ادن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصل لربك فدنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من صاد وهو ماء يسيل من ساق العرش الايمن فتلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الماء بيده اليمنى فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين ثم أوحى الله عزوجل إليه أن اغسل وجهك فإنك تنظر إلى عظمتي ثم اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى فإنك تلقى بيدك كلامي ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يديك من الماء ورجليك إلى كعبيك) ( ) .
وفي الحديث بلحاظ الآيتين، والجمع بينهما أمور:
الأول: يتلقى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الأحكام بآيات التنزيل وآيات الوحي.
الثاني: السنة النبوية بيان للأحكام وتفسير للآيات، فلماء جاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( )، تعدد البيان والتفصيل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي كيفية الإمتثال في السماء.
الرابع: نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الكمال الإنساني بأداء العبادات في السماء , والتوضأ من ماء الجنة، وفيه إكرام له وللمسلمين.
الخامس: تقدير تعلق الحديث بآية السياق: وفيكم رسول الله توضأ بأمر الله من نهر صاد في الجنة، وتقديره بلحاظ الآية محل البحث: كنتم خير أمة توضأ رسولها أمامها في نهر صاد.
السادس: بيان حقيقة وهي أن الإسراء رحلة نبوية تتضمن بيان الأحكام وإتقانها.
السابع: لما قال الملائكة في الرد على جعل آدم خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بالتوضأ من نهر صاد في الجنة لبيان حكمة الله عز وجل في خلق الإنسان وجعله خليفة بإحياء معالم التوحيد في الأرض وأداء الفرائض ومناسك العبادة بواسطة الوحي والنبوة.
الثامن: لقد هبط آدم وحواء من الجنة بعد أن أكلا من الشجرة، وتفضل الله عز وجل وأسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجنة لغرض عبادة الله في الجنة، ليكون الفعل النبوي العبادي في السماء موضوعاً لإقتباس ومحاكاة أجيال المسلمين له إلى يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى أعلاه.
التاسع: لقد جاءت آية الإسراء بصفة العبودية، قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا] ( )، وفيه مسائل:
الأولى: توضأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نهر في الجنة مصداق لعبوديته لله عز وجل.
الثانية: إن صفة العبودية تشمل فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السماء، فكان في خضوع وخشوع الله عز وجل، وأنه منقطع إلى الله طاعة وشكراً.
الثالثة: موضوع العبودية هو علة في إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليرى الملائكة حسن عبادته لله، والإنعطاف الذي حدث في الأرض بنبوته.
الرابعة: في الإسراء دعوة للملائكة للتهيئ للنزول إلى الأرض لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لأنهم(خير أمة أخرجت للناس) وهو من علم الله عز وجل الذي أخبر به الملائكة يوم خلق آدم عليه السلام ليكون خليفة في الأرض.
الخامسة: يتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأحكام في الليل والنهار، والحضر والسفر، والأرض والسماء، وفيه أمور:
الأول: إنه من الشواهد على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: بيان المسؤوليات العظيمة التي يتحملها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بيان أهلية المسلمين لمرتبة(خير أمة) بتلقيهم الأحكام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخذها من السماء وحياً وكيفية وموضوعاً.
الرابع: ترغيب الناس بالإسلام الذي ينفرد بخصوصية وهي أن بعض أحكامه تلقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السماء وأدى مصداقها في السماء.
السادسة: رؤية الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يؤدي أفعاله العبادية في السماء، ليكونوا شهداء، قال تعالى[أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ]( ).
السابعة: إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية بشارة فوزه وأمته باللبث الدائم في الجنة.
الثامنة: تحذير وإنذار الكفار من الصدود عن النبي الذي عرج به إلى السماء وتلقى الأحكام هناك.
الثالثة: يقوم المسلمون بأعظم وظيفة في تأريخ الأرض وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتجلى عظمتها من وجوه:
الأول: قيام المسلمين والمسلمات جميعاً بهذه الوظيفة، فليس من أمة قام منها بمقدار عشر مسلمين بوظيفة مخصوصة.
الثاني: توجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم به المسلمون إلى الناس جميعاً، ومنهم المسلمون أنفسهم كما تقدم بيانه.
الثالث: كثرة مواضيع المعروف التي يأمر بها المسلمون، وتعدد مواضيع وأفراد المنكر التي ينهون عنها.
الرابع: تعاضد وتعاون المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الخامس: تغشي نهي المسلمين للناس لجميع أفراد والزمان الطولية وإلى يوم القيامة.
السادس: رجوع المسلمين في الأمر والنهي إلى آيات القرآن وكل وجه من الوجوه أعلاه أمر يختص به المسلمون، وينفردون بحمل لوائه، وهذا الإختصاص على وجوه :
الأول: إنه حجة على الناس.
الثاني: ترغيب الناس بنيل شرف الإنتماء لخير أمة.
الثالث: صدور المسلمين عن برهان سماوي.
الرابع: تنمية ملكة المسلمين في الإحتجاج.
الرابعة: بيان منافع التلاوة وأنها تبعث على الإيمان، وتجعل في الأرض أمة مؤمنة بالله، ومتحدة في ذات الله، مما يدل على أن تلاوة الآيات لا تذهب سدىً، وأنها شجرة طيبة يتمسك بأغصانها أهل القلوب المنكسرة، وفيه وجوه:
الأول: تملأ نفوس المسلمين السكينة.
الثاني: يزداد المسلمون بصيرة.
الثالث: يدرك المسلمون أن الدنيا مزرعة للآخرة , ولزوم التصديق بالأنبياء والإمتثال للأوامر الإلهية , قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] ( ).
الخامسة: من إعجاز التلاوة مجيؤها بصيغة العموم الإستغراقي في(تتلى عليكم) وفيه وجوه:
الأول: الدلالة على سلامة القرآن من التحريف والنقص والتغيير، فذات الآيات تتلى على المسلمين في كل زمان ومكان.
الثاني: عدم إستثناء أي مسلم أو مسلمة من التلاوة، فكل فرد منهم في أجيالهم المتعاقبة تتلى عليه الآيات ليكون هذا العموم من خصائص (خير أمة) ولم تنل هذه المنزلة بفعل وتقوى فريق منهم، بل كانت التلاوة كالكلي الطبيعي الشامل لهم جميعاً.
الثالث: القرآن جامع لآيات الله , قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
السادسة: نفي الكفر عن المسلمين لتلاوتهم لآيات القرآن وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يتلون آيات الله لا يكفرون
الصغرى: المسلمون يتلون آيات الله.
النتيجة: المسلمون لا يكفرون.
ومن آيات الله في الخلق أنه يحكم الشيء ويتمه ويجعله ممتنعاً من التبديل الذي لا يريده الله له، ويتجلى في الآيات الكونية الظاهرة والجلية، كالنظام الثابت في سير الشمس والقمر , وإطلالة النجوم في الليل، والنظام الدقيق لكل فلك من الأفلاك، فيرى أهل كل زمان مثلاً ذات النظام الدقيق لحركة القمر.
إذ يبدأ على نحو الهلال ثم يأخذ بالزيادة إلى نصف الشهر فيصبح بدراً، ثم يبتلى بالنقصان والإبطاء في إطلالته على الأرض إلى أن يغيب تحت الأفق في نهاية الشهر، لبيان حاجة الخلائق إلى الله، وأنه تعالى رماها بالزيادة والنقصان , والنمو والضعف , ليكون هذا التغيير من تسخيرها للناس في معايشهم، وأوان عباداتهم كالصيام في شهر رمضان، والحج في ذي الحجة، وآجال ديونهم وزروعهم إلى جانب الإحتجاج على التوحيد بتلك الآيات، وفي إحتجاج إبراهيم على القوم الكافرين, ورد في التنزيل[فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي] ( ).
السابعة: لقد جاءت الآية محل البحث في وصف المسلمين بأنهم(ينهون عن المنكر) وفي الجمع بينه وبين قوله تعالى(كيف تكفرون) وجوه :
الأول: بين الكفر والمنكر عموم وخصوص مطلق، فكل كفر هو منكر، وليس العكس.
الثاني: الكفر أكبر الكبائر وأشد أنواع المنكر، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ]( )، وإذا كان المسلمون ينهون عن مراتب المنكر الأدنى، فمن باب الأولوية أنهم ينهون عن أم الكبائر.
الثالث: تنقسم الذنوب إلى قسمين:
الأول: كبائر الذنوب.
الثاني: صغائر الذنوب.
ومما إنفرد به المسلمون نهيهم عن الذنوب مطلقاً، سواء كان الذنب كبيراً وإثماً عظيماً، أو صغيراً، فمن باب الأولوية أنهم يجتنبون أكبر الكبائر , وإن سعى فريق من أهل الكتاب لإغوائهم وزللهم , لتكون الحياة الدنيا (لخير أمة) دار ثبات على الإيمان، فهم وإن لم يتخذوا من الجهاد وظيفة يومية متصلة، إلا أن الثواب لا ينقطع عنهم، إذ يأتيهم بالثبات على الإيمان وهو أعم من الصبر، لما فيه من أمور:
الأول: تحدي الذين يريدون إرتداد المسلمين بالصبر والتقوى .
الثاني: إعلان الإيمان، وتعظيم شعائر الله.
الثالث: الإستعداد لتلقي الأذى بسبب الثبات على الإيمان.
الرابع: الصبر على المكر بالمسلمين والسعي لإرتداد بعضهم.
الخامس: التفقه في الدين لجدال أهل الكتاب والكفار.
السادس: الفخر والعز بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السابع: هذا الثبات مقدمة للزحف لميادين القتال دفاعاً عن الإسلام.
الثامن: إنه من التمسك بأحكام الإسلام، وعمومات قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
التاسع : فيه تنمية لملكة الصبر .
الثامنة: يحتمل قوله تعالى(كيف تكفرون) بلحاظ سبب نفيه في الآية الكريمة وجوهاً:
الأول: أثر تلاوة ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه: إنهما مانع من طاعة المسلمين لأهل الكتاب.
الثاني: عصمة المسلمين من الإرتداد الذي يسعى إليه فريق من أهل الكتاب.
الثالث: سلامة المسلمين من الكفر مطلقاً، وإن سعى إليه فريق من أهل الكتاب أو غيرهم وبذلوا الأموال فيه، وإستضعفوا فريقاً من المسلمين خصوصاً أوان شدة الحاجة أو ليس هناك من سعي في باب إرتداد المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وبينها عموم وخصوص مطلق، فالوجه الثالث أعلاه هو الأعم وفيه آية إعجازية، وكأن موضوع التحذير من طاعة أهل الكتاب سبب لنزول الآية , وهي عامة في موضوعها، ليكون من خصائص(خير أمة) البشارة بالأمن من الإرتداد والتلبس بالكفر الظاهر أو الخفي.
التاسعة: كيف اسم إستفهام (قال الأَزهري كيفَ حرف أَداة ونصْبُ الفاء فراراً به من الياء الساكنة فيها لئلا يلتقي ساكنان)( )، وتتضمن كيف معنى التعجب، وصحيح أن التعجب متحد في موضوعه إلا أنه متباين في دلالته بلحاظ الجهة، فمثلاً قوله تعالى[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا] ( )، فيه تعجب متباين في جهاته :
الأولى: دعوة المسلمين للتعجب من الكفار لإختيارهم الكفر والعناد والجحود.
الثانية: جعل الكفار في حال إستغراب من فعلهم السيء
الثالثة: بيان التعجب في قبح إختيار الكفار الكفر مع أن الله عز وجل هو الذي خلقهم وإليه يرجعون، وكذا في المقام فقول تعالى(كيف تكفرون) فيه وجوه من التعجب:
الأول: أيها المسلمون إعجبوا من فريق من أهل الكتاب فأنهم يريدون أن يردوكم كفاراً.
الثاني: التعجب من فريق من أهل الكتاب كيف يريدون من المسلمين طاعتهم وهم يتلون آيات الله، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الخطاب لعموم أهل الكتاب ألا يعجبون من فريق منهم يريدون من المسلمين طاعتهم ويودون إرتدادهم، والمسلمون يقدمون على تلاوة آيات الله، وكل آية معجزة، وفيهم رسول الله وسنته وهي معجزة هي الأخرى بلحاظ أنها وحي وإلهام , قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابع: جعل الناس عامة يتعجبون من صبر المسلمين، وثباتهم على الإيمان ولا بد أن يكون عن حجة وبينة ودليل، وقد جاءت هاتان الآيتان بذكر الحجة والبرهان الذي يجعل المسلمين في عصمة من طاعة أهل الكتاب.
العاشرة: لقد عطفت آية السياق وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين على آيات الله، وفيه وجوه:
الأول: إنه من عطف الخاص على العام، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من آيات الله.
الثاني: التعدد والمغايرة، وأن وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير الآيات.
الثالث: المغايرة على نحو الموجبة الجزئية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ أن وجود النبي بين المسلمين آية عظمى، ولكن المعطوف عليه وهو الآيات ورد بصيغة التلاوة، وجاءت الآية بتقديم تلاوة الآيات على وجود النبي وفيه وجوه:
الأول: بيان موضوعية التلاوة في حياة المسلمين وأسباب نيلهم مرتبة (خير أمة).
الثاني: من مصاديق التلاوة قوله تعالى(وفيكم رسوله) الوارد في هذه الآية.
الثالث: تجدد التلاوة في كل زمان.
الرابع: المراد في المقام الكتاب والسنة، والكتاب مقدم على السنة النبوية، ومن إعجاز الآية نسبة التلاوة والرسول إلى الله تعالى وفيه دعوة للمسلمين للتمسك بالكتاب والسنة، وهو من عمومات قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، وهذا الإعتصام واقية من طاعة أهل الكتاب، وغنى في أمور الدين والدنيا.
الحادية عشرة: لقدر أراد الله لأفراد(خير أمة) التنزه من الفسوق، ودعوة الناس للتخلص منه بأفضل وسيلة سماوية، وهي تلاوة آيات الله، والتي تكون واقية من الفسوق المستحدث، وحرز من الإفتتان والغرر والسفه.
وفي قوله تعالى(وأكثرهم الفاسقون) الوارد في هذه الآية وبلحاظ الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول: إنه إخبار سماوي عن حال فريق من أهل الكتاب.
الثاني: بيان مضامين آيات الله التي تتلى على المسلمين.
الثالث: حث أهل الكتاب والناس جميعاً على التوبة والإنابة ونبذ الفسوق والفجور.
الرابع: تنمية ملكة التوقي من الفسوق عند المسلمين والمسلمات، وهو من أسرار مجيء الآيتين بالخطاب للمسلمين وبصيغ المدح والثناء.
وتتجلى موضوعية تلاوة الآيات ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه وسنته على وجوه:
الأول: إنهما برزخ من طاعة المسلمين لأهل الكتاب وهو على شعبتين:
الأولى: لزوم إجتماع الأمرين لتحقيق هذه البرزخية.
الثانية: كفاية أحدهما في سلامة ووقاية المسلمين من فتنة الساعين لإرتداد بعضهم .
الجواب لا أصل لهذا التقسيم لأن الله عز وجل أخبر عن إجتماعهما وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين بتعدد أسباب الوقاية والعصمة من الكفر مع كفاية أي فرد منهما لما فيه من البركة والبرهان وإصلاح المسلمين لمراتب الإيمان وتعاهد مقامات (خير أمة).
الثاني: عدم حصول الإرتداد والكفر عند المسلمين وأن أطاعوا أهل الكتاب.
الثالث: سلامة المسلمين من الإبتلاء بموضوع طاعة أهل الكتاب، فإنه بعيد عنهم ولا تصل التوبة إليهم.
والصحيح هو الأول، لوجوه:
الأول: إنه من أسرار مجيء الآية السابقة بصيغة الشرط (إن تطيعوا).
الثاني: إمتناع المسلمين عن الكفر، وإمتناعه عنهم.
الثالث: تسمية المسلمين بخير أمة شاهد على اللطف الإلهي بهم والذب عنهم، وعصمتهم من الكفر والجحود.
الرابع: مصاحبة تلاوة المسلمين للآيات وحضور سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم إلى يوم القيامة.
الخامس: إعتصام المسلمين بالله، ولجوئهم إليه، وصدورهم عن القرآن والسنة كما تدل عليه خاتمة آية السياق.
لقد أراد الله عز وجل لخير أمة الحيطة والحذر من الركون لغيرهم، وكما جاءت آية السياق بتحذيرهم من طاعة أهل الكتاب فإن آيات القرآن جاءت بالنهي عن إتخاذهم وليجة وبطانة من غيرهم، قال تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : إنه لطف وعناية من الله بالمسلمين.
الثانية : بقاء المسلمين في حال جهاد متصل.
الثالثة : إنه شاهد على تجدد إستحقاقهم لمرتبة(خير أمة) .
ففي كل جيل وطبقة تجد المسلمين منقطعين إلى طاعة الله ورسوله، رافعين لواء التوحيد , ليلحق بهم الناس , ويفوزوا بخير الدنيا والآخرة، ومن خصائص(خير أمة) مواجهة الإبتلاء بأهل الكتاب والذين يحرفون البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنذارهم وتحذيرهم وبيان أحكام التوحيد , وفي التنزيل[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ]( ).
الثانية عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة وفيكم رسوله) وفيه مسائل:
الأولى: الدلالة على كثرة النعم الإلهية على المسلمين.
الثانية: تعدد الخطاب القرآني للمسلمين بلغة الثناء.
الثالثة: دعوة المسلمين للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر على هذه النعم العظيمة.
الرابعة: إنفراد المسلمين بنعمتين تصاحبان أجيالهم إلى يوم القيامة.
الخامسة: تعلق صفة(خير أمة) على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فقد نالت أمم الموحدين السابقة مراتب عالية في الفضل ولكنها لم تبلغ مرتبة (خير أمة) ,
وقد ورد في بني إسرائيل قوله تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( )، وجاءت الآية محل البحث (كنتم خير أمة) بصيغة الماضي أيضاً مما يفيد أموراً:
الأول: عدم إمكان الجمع بين التفضيل في الآيتين لتباين جهته ومضمونه إذ ورد ذكر المسلمين على أنهم(خير أمة) أما بنو إسرائيل فخصوا بالتفضيل.
الثاني: عدم وجود تعارض بينهما في أي فرد من أفراد الزمان الطولية.
الثالث: التباين الرتبي بين منزلة(خير أمة) وتفضيل بني إسرائيل.
الرابع: إتصال وإستمرار فوز المسلمين مرتبة (خير أمة) في الماضي والحاضر والمستقبل، وإختصاص تفضيل بني إسرائيل في الزمن الماضي والصحيح هو الأخير، وفيه آية في بديع الخلق وإكرام المسلمين في كل زمان وترغيب الناس بدخول الإسلام.
السادسة: إن الله عز وجل حينما إختاركم لمرتبة(خير أمة) تفضل ومدّكم بما لم يمد به أمة أخرى، إذ جعل فيكم رسوله الكريم، ليكون الوحي والتنزيل مصاحبان لكم في أيام الحياة الدنيا.
السابعة: التذكير بعالم الآخرة، وشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، فمن خصائص(خير أمة) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون شفيعاً لهم يوم القيامة (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)( ).
الثامنة: بيان حقيقة وهي تخلف الأمم الأخرى عن بلوغ مرتبة المسلمين لإنفرادهم بوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم في شخصه الكريم وسنته.
الثاني: كنتم خير أمة أخرجت للناس وفيكم رسوله) وبلحاظ خروج المسلمين للناس فيه وجوه:
الأول: يخرج المسلمون للناس على بصيرة ودراية لأن رسول الله حاضر معهم إماماً بشخصه وسنته وصفة النبوة.
الثاني: ملازمة السنة النبوية للمسلمين في خروجهم للناس.
الثالث: في السنة مسائل:
الأولى: إنها ضياء ينير لهم دروب الصلاح والإصلاح.
الثانية: السنة مادة للتوفيق.
الثالثة: العمل بأحكام السنة مانع من الزلل والخطأ.
الرابع: رضا وفخر وإنذار المسلمين بدينهم، وعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: إستحضار المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شكر لله عز وجل على نعمة النبوة والهداية.
السادس: الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الأقوال والأفعال من مصاديق(خير أمة) قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
السابع: حث المسلمين على السعي في سبيل الله بين الناس، وإعلاء كلمة التوحيد لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ومعهم، وجاءت الآية بحرف الجر(في) (وفيكم رسوله) وبلحاظ تعدد معاني حرف الجر(في) وجوه:
الأول: يفيد الحرف(في) الظرفية، وهو أشهر معانيه وتكون على قسمين:
الأول: مكانية.
الثاني: زمانية .
وإجتمعا في قوله تعالى[غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ]( ) ففي الأولى مكانية، والثانية زمانية.
وفي المقام تجمع (في)الأمرين معاً، ففي كل زمان ومكان يكون رسول الله وسنته مع المسلمين، وهو من خصائص(خير أمة) إذ لا تفارقها سنة خاتم النبيين، بل تكون حاضرة عندهم.
الثاني: قد تكون الظرفية مجازية كما في قوله تعالى[ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، ومن المجاز في المقام إتخاذ(خير أمة) معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة وبرهاناً، ووسيلة لدعوة الناس للإسلام.
الثالث: إفادة (في) معنى(المصاحبة) مثل(مع) كما في قوله تعالى(أدخلوا في أمم) أي مع أمم، وإن كان هذا المعنى لا ينفي الظرفية، والتقدير أدخلوا فيما دخلت به أمم.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يعمل بأمره وإرادته بل ينتظر الوحي.
الرابع: التعليل كما في قوله تعالى[لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أنكم (خير أمة) لأن فيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحضور سنته مع المسلمين علة لإرتقائهم لمنزلة(خير أمة).
الخامس: تفيد (في) معنى الباء، والتقدير (كنتم خير أمة أخرجت للناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) فلو لم تكن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما صرتم (خير أمة).
السادس: التوكيد وهي الزائدة، لإفادة توكيد كون المسلمين خير أمة أخرجت للناس، ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تقدير الجمع بين الآيتين تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وفيكم رسول الله) وفيه مسائل:
الأولى: لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة، ومن أحكامها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما نعمة من الله، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الثانية: إن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: حث المسلمين على بذل الوسع في ميادين الأمر والنهي لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم وفيهم.
الرابعة: التوكيد على السنن بلزوم الرجوع إلى النبي في سنته في سبل وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: بعث السكينة في نفوس المسلمين بأنهم على الحق والهدى في ميادين الأمر والنهي.
السادسة: الأمة التي يكون فيها رسول الله تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لأن وجوده المبارك علة للصلاح.
السابعة: لقد دعاكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام بلواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجب إتباعه في سنته.
الثامنة: لقد بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سنن المعروف، ومصاديق الحلال والحرام، ودلّ على ما يجب إجتنابه من المنكر، ليكون وجود سنته بين المسلمين حاجة لهم، وبرزخاً دون الخطأ والتفريط في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بحث فقهي
ورد في الحديث المتقدم مسح الرأس بصيغة الإطلاق(ثم أمسح برأسك)ولكنه مقيد بالكتاب والسنة، فقد ورد في آية الوضوء التبعيض بحرف الباء في قوله تعالى[فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ] ( ).
وعن سيبويه إن الباء لا تستعمل للتبعيض وحصر إستعمالها بالإلصاق، ولكن السنة بيان للقرآن كما وردت الباء في القرآن بما يفيد التبعيض، قال تعالى[عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ] ( )، أي يشرب منها، وإجماع علماء المسلمين إلا ما ندر على كفاية المسح ببعض الرأس، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي، وعن أبي حنيفة المسح بثلاث أصابع، ونقل الرازي عنه في مفاتحه (الواجب مسح ربع الرأس) ( ).
نعم نسب إلى مالك وجوب مسح جميع الرأس، وورد عن أحمد في أحد قوليه، أما القول الآخر فهو وجوب الإستيعاب في حق الرجل دون المرأة، وقال الإمام الشافعي، يجزي مسح أقل شيء يسمى مسحاً للرأس) ( )، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: مسح الرأس على مقدمه)( ).
ويمكن تأسيس قاعدة وهي لو تعارض كلام النحويين مع كلام أئمة المسلمين في علوم القرآن والفقه، فيطرح كلام النحوي، لأنه ينظر للحرف والكلمة بقواعد خاصة في صنعته وهي مستحدثة في الجملة، أما الفقيه فإنه يأخذ الكلمة كجزء من حكم شرعي، وقد نزل الوحي في بيت النبوة وأسسوا مدارس فقهية تظلل بفيئها عموم المسلمين.
بحث بلاغي
من ضروب البديع(الإدماج) وهـــو تداخل الغايات , وبديع في بديع ضمن ثنايا الكـــلام بحيث لا يظهر إلا أحــدى الغايات أو البديع، والله عـز وجل هو الغني، وغناه مطلق عن الموجود والمعدوم، إنما أنزل القرآن رحمة بالناس، وجعل الله من بركات نزوله وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود(خير أمة) على نحو مستديم، فلا يمر يوم إلا وفيه(خير أمة) تؤدي الفرائض اليومية الخمسة وتتلو آيات القرآن، وتحترز من الكفر والإرتداد.
ويظهر إدماج(كيف تكفرون) بقوله تعالى(كنتم خير أمة) أن الله عز وجل إختار المسلمين لمنازل التفضيل والإكرام وجعل معهم أسباب تعاهد هذه المنزلة والحفاظ عليها، وهذه الأسباب سماوية إعجازية تفيد القطع بتحقق الأغراض والغايات الحميدة منها التي تنفع المسلمين والناس جميعاً.
أما المسلمون فأنهم ينتفعون منها في الدنيا والآخرة وبمصاديق ووجوه أعم من التصور الذهني، وبلحاظ أن الآخرة دار الخلود وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وأما الناس فأنهم ينتفعون منها في الدنيا، وتكون حجة عليهم في الآخرة.
صلة(وفيكم رسوله)بـ(وتؤمنون بالله)
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: وتؤمنون بالله وفيكم رسوله).
الثانية: وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين علة لإيمانهم.
الثالثة: بيان صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته، وسيلة لجذب الناس لمنازل الإيمان.
الرابعة: حث المسلمين على الشكر لله ورسوله على نعمة الإيمان.
الخامسة: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بأنهم مع إيمانهم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم وفيهم.
السادسة: تتجلى بركات وجود النبي مع المسلمين بلحاظ الإيمان إبتداء وإستدامة، وبإفاضات بعثته هداهم الله، وبوجوده وسنته يتعاهدون الإيمان .
و(بالإسناد عن الحسين بن علي قال أتيت على عمر بن الخطاب وهو على المنبر فصعدت إليه فقلت إنزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك فقال عمر لم يكن لأبي منبر وأخذني وأجلسني معه فجعلت أقلب حصى بيدي فلما نزل انطلق بي إلى منزله , فقال لي من علمك فقلت والله ما علمنيه أحد قال يا بني لو جعلت تغشانا .
قال فأتيته يوما وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه , فلقيني بعد فقال لم أرك , فقلت يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه، فقال أنت أحق بالإذن من ابن عمر , وإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم( ).
السابعة: توكيد كون المسلمين(خير أمة أخرجت للناس) لإجتماع ووجود النبي معهم.
الثامنة: بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين لتوارث أجيالهم الإيمان ببركة وجود سنة النبي معهم.
التاسعة: حث المسلمين على تعاهد السنة النبوية وحفظ ودراسة الأحاديث النبوية، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( ).
العاشرة: إلقاء الفزع والخوف في نفوس الكفار، وتحذيرهم من أسباب الشك والمغالطة.
الحادية عشرة: بعث اليأس في قلوب الكفار من إرتداد المسلمين إذ أنهم يتعاهدون الإيمان , ويقتدون بسنة رسول الله المصاحبة لهم في الحياة الدنيا.
الثانية عشرة: ليس من أمة معها رسولها إلا المسلمين، فقد حصل التحريف والتغيير في الكتب السماوية السابقة، وبقي القرآن سالماً من التحريف ودوّن المسلمون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلوها المصدر الثاني في التشريع بعد القرآن، وهو من مصاديق نيلهم لمنزلة(خير أمة).
الثالثة عشرة: بيان إتحاد المسلمين وعدم تفرقهم إلى أمم ومذاهب، بدليل إخبار الآية بأن النبي محمداً معهم جميعاً كأمة متحدة، ومن خصائص(خير أمة) أنها لم تختلف بخصوص سنة النبي فتجد أكثر أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتها عند كل المسلمين، وفي كتبهم المتعددة، وفيها الحديث المتواتر الذي يرويه عدد من المسلمين في كل طبقة بحيث لا يتواطئون على الكذب.
الرابعة عشرة: من خصائص(خير أمة) تلاوتها الآيات وحضور الرسول معهم، وهو من أسباب الأخوة والعز والمنعة، قال تعالى[فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ).
الخامسة عشرة: الجمع بين الآيتين تفسير لقوله تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ]( )، فلابد من طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي طاعة لله عز وجل.
صلة(وفيكم رسوله)بـــ(لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم)
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين أنه لو آمن أهل الكتاب برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكان خيراً وأمناً لهم.
الثانية: وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظيمة على أهل الأرض، وقد تفضل الله وجعلها خاصة بالمسلمين، وهو من أسباب ترغيب أهل الكتاب والناس بالإسلام، والفوز بهذه النعمة.
الثالثة: يحتمل قوله تعالى(وفيكم رسوله)وجوهاً:
الأول: حصر الإنتفاع من نعمة وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين.
الثاني: الأصل هو إنتفاع المسلمين من نعمة وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وتترشح عنه منافع على الناس.
الثالث: منافع وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم بين المسلمين عامة تشمل المسلمين وغيرهم.
والصحيح هو الثالث لعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، ولا يتعارض معه الوجه الثاني لأنه في طوله.
الرابعة: جاء قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] من نعمة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الكتاب من وجوه:
الأول: نزول الآية محل البحث، وما فيها من حث لأهل الكتاب على الإيمان.
الثاني: ترغيب أهل الكتاب والناس بتلاوة آيات القرآن.
الثالث: دعوة أهل الكتاب إلى التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ]( ).
الخامسة: تقدير الجمع بين الآيتين: ولو آمن أهل الكتاب فيكم رسوله)وفيه وجوه:
الأول: هذا الإيمان تصديق بالنبي محمد، وحرب على إخفاء البشارات التي وردت في نبوته في الكتب السماوية السابقة وسلامة من اللعن والبعد عن رحمة الله، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ] ( ).
الثاني: أنه مقدمة لإتيان الواجبات العبادية.
الثالث: وهو مصداق الإيمان الذي يكون خيراً محضاً لهم.
السادسة: تدل الآية محل البحث بأن الإيمان بالرسول خير ونفع في النشأتين، وأخبرت آية السياق بوجود رسول الله بين المسلمين، مما يدل على أن المسلمين في خير ونعمة عظيمة، وأن من يؤمن تكون السنة النبوية مصاحبة له، وهو بشارة فوزه بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، ومصاحبته له في جنات الخلد.
السابعة: لقد تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمحاربة الفسوق، وزجر الناس عن الإقامة على المعاصي.
الثامنة: وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته بين الناس مانع من الفسوق وتفشيه بين الناس، فإذا كان أكثر أهل الكتاب فاسقين ففي بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول: منع زيادة عدد الفاسقين، خصوصاً وأن الكثرة في قوله تعالى(وأكثرهم الفاسقين) من الكلي المشكك , ويصدق على النصف زائداً واحداً، وعلى الأغلب والأعم،ولغة الإجمال فيه من إعجاز القرآن.
الثاني: حث المؤمنين من أهل الكتاب على زجر إخوانهم عن الفسوق والمعاصي.
الثالث: منع الفاسقين من التمادي في الفجور والمعاصي.
الرابع: حث الناس جميعاً على التوبة والإنابة والإلتحاق بالمسلمين والتنعم بنعمة وجود الرسول بين ظهرانيهم.
التاسعة: إن إيمان أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باب لنزول الخير والبركة عليهم، وعلى غيرهم من وجوه:
الأول: يصير أهل الكتاب قدوة للناس في مسالك الإيمان.
الثاني: بإيمان أهل الكتاب يزداد المسلمون قوة ومنعة.
الثالث: قيام الحجة على من تخلف منهم عن الإيمان.
الرابع: التخفيف عن المسلمين بالتخلص من الجدال والشك، فمن كان يثير الشكوك بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلن إقراره بصدقها وأنها خارقة للعادة، ويصير بدخوله الإسلام ممن يقف في الصفوف الأولى في الصلاة.
الخامس: زيادة إيمان المسلمين، وإقبالهم بشوق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
العاشرة: حث المسلمين على الصبر، والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تحمل الأذى من الناس في دعوتهم إلى الإسلام.
الحادية عشرة: من تفضيل المسلمين أن الآيات تأتي بتسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة , وشهادة الله عز وجل له بأنه رسوله، وفيه دلالة أنه ليس من رسول في زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعده إلا هو صلى الله عليه وآله وسلم.
صلة(ومن يعتصم بالله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من خصائص(خير أمة) الإعتصام بالله والتوكل عليه.
الثانية: تدعو(خير أمة) الناس للصراط المستقيم، ومحاكاتها في الإعتصام باللــــــه.
الثالثة: إعلان(خير أمة) حاجتها للجوء إلى الله، والإقرار بعظيم النعم الدنيوية والأخروية التي يجلبها الإعتصام بالله.
الرابعة: بيان حقيقة ثابتة وهي أن المسلمين لم ينالوا مرتبة (خير أمة) إلا بالإعتصام بالله.
الخامسة: تدور صفة(خير أمة) مدار الإعتصام بالله والتوكل عليه.
السادسة: بيان ماهية خروج المسلمين للناس وأنها لا تتقوم إلا بالإعتصام بالله، ليكون المسلمون أسوة حسنة للناس.
السابعة: الإعتصام بالله من الأمر بالمعروف الذي يجتهد المسلمون فيه.
الثامنة: تلاوة كل من هاتين الآيتين من الإعتصام بالله.
التاسعة: ليس من برزخ بين الإيمان والكفر، وجاء الحث على الإعتصام بالله لزجر الناس عن الضلالة والفسوق.
العاشرة: تجلي منافع الإستجارة بالله، والإمتناع بها بمعاني العز والشأن وصرف أذى الكفار، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان عظيم منزلته عند الله، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الحادية عشرة: ترغيب أهل الكتاب والناس بالإعتصام بالله، ونبذ الفسوق والمعصية، فمن خصائص الحياة الدنيا ورحمة الله فيها مزاحمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف لفعل السيئات، بينما لا تستطيع الشرور الوصول إلى أهل الصلاح لأنهم معتصمون بالله، مستغيثون به من نزغ الشيطان وأعوانه.
الثانية عشرة: خرج ويخرج المسلمون للناس بالعصمة بالله من وجوه:
الأول: حال المسلمين عند الخروج هو الإعتصام بالله.
الثاني: عدم خشية المسلمين في خروجهم من الكفار والظالمين، لعصمة المسلمين بالله.
الثالث: يحتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الصبر والتحمل والمنعة، وليس من منعة أفضل من اللجوء إلى الله، قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الرابع: جذب الناس لمنازل الإيمان بحسن إعتصام المسلمين بالله.
الثالثة عشرة: من مصاديق المعروف الإعتصام بالله، ومن مصاديق المنكر الغرور الإستكبار والعناد والإتكال على النفس، ويفيد الجمع بين الآيتين تهذيب النفوس ومحاربة الأخلاق المذمومة، وبيان ضعف الإنسان وحاجته لرحمة الله.
الرابعة عشرة: من خصائص(خير أمة) الجمع بين الآيتين بالله والإعتصام به، وفيه توكيد للتكاليف العقائدية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، ولزوم إستحضار قصد القربة في الأفعال العبادية، ومن منافع الإعتصام بالله أمور:
الأول: تثبيت الإيمان في النفوس والمجتمعات.
الثاني: الإعتصام بالله هدى وبصيرة.
الثالث: إنه ثواب عاجل للإيمان، والإيمان سبيل ووسيلة للإعتصام بالله عز وجل، من غير أن يلزم الدور بينهما لتوجه الخطاب التكليفي بهما على نحو الإستقلال والإنضمام.
صلة(فقد هدي إلى صراط مستقيم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان سر من أسرار نيل المسلمين مرتبة(خير أمة) وهو فوزهم بالهدى.
الثانية: إرشاد(خير أمة) لتعاهد أسباب الصلاح بالإمتناع بالله، وعدم الخشية من الظالمين.
الثالثة: الأمر بالمعروف هداية إلى الصراط المستقيم في ذاته، وموضوعه وأثره.
الرابعة: ميل النفوس للمسلمين لأنهم معتصمون بالله متوكلون عليه[وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ] ( ).
الخامسة: النهي عن المنكر من الصراط المستقيم ودعوة إليه.
السادسة: حاجة المسلمين والناس لتلاوة الآيات وفيها أمور:
الأول: التلاوة بذاتها عصمة وإمتناع بالله.
الثاني: التلاوة مقدمة للإعتصام بالله.
الثالث: إنها رشحة من رشحات الإعتصام والإستجارة بالله، واللجوء إليه سبحانه.
السابعة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا حرباً على الفسوق في أقوالهم وأفعالهم وسننهم، ومنها الإعتصام بعبادة الله، والتوكل عليه.
الثامنة: الإعتصام بالله طريق للإنقطاع إلى عبادته والإخلاص في طاعته، وعدم الإنشغال بالدنيا وزخرفها، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام وخطابه لبني إسرائيل:[ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( ).
ترد(كيف) على وجهين:
الأول: الإستفهام، وهو الغالب في إستعمالها، إذ يسئل بها عن حال الشئ، وتأتي للتوبيخ والتبكيت.
الثاني: الشرط: كما في قوله تعالى[يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ]( )، والجواب محذوف لدلالة ما قبلها.
وجاءت(كيف) في الآية من الوجه الأول ولكنها تفيد نفي الكفر عن السلب، لأن موضوعها يتعلق بالآية السابقة لها، والتي تتحدث عن تعليق الكفر بطاعة أهل الكتاب، وهو أمر لا يحصل لوجوه:
الأول: نهي الله عز وجل للمسلمين عنه.
الثاني: الوقاية العامة والخاصة منه بالقرآن والسنة.
الثالث: رسوخ الإيمان في نفوس المسلمين، قال تعالى[الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
صلة آية[فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( )بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي أن(خير أمة) تحتج بلغة إحتجاج تتصف بوجوه:
الأول: الخلو من الفحش والتعدي.
الثاني: إختيار الألفاظ والكلمات المناسبة، للبيان والتوبيخ، فجاءت كلمة (إفترى) وهو أخص من الكذب، وإدعاء لا أصل له، وإختلاق أمور مخالفة للحق والواقع لبيان ماهية الكذب على الله، والحاجة إلى التصدي له، وليس من أمة تتصدى له إلا المسلمين، لذا فازوا بمرتبة خير أمة.
الثالث: بيان قانون كلي ينطبق على المليين والناس جميعاً، وهو قبح الكذب على الله، والإفتراء في أحكام الحلال والحرام.
الثانية: لقد أراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثبات مفاهيم الحق والإنصاف في الأرض، وإحياء قصص الأنبياء وجعلها مدرسة لمحاربة الكذب في أحكام الشرائع وهو من أسرار وموضوعية وجودها في القرآن، قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( )، فجاءت الآية السابقة لآية السياق بالإخبار عن إنحصار تحريم أكل لحم مخصوص من قبل نبي الله إسرائيل على نفسه وفيه موضوع قصة للإعتبار والإتعاظ من وجوه:
الأول: التفصيل والفصل بين الحكم الشرعي العام والحكم الشخصي.
الثاني: المائز الذي يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لم يحرم على نفسه شيئاً، على نحو الخصوص، نعم وردت مختصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي ظاهرة جلية في حصرها بشخصه الكريم، ستأتي في البحث الفقهي.
الثالث: توثيق القرآن لسنن الأنبياء بما يمنع من الجهالة والغرر، وتلاوة(خير أمة) لآيات القرآن.
الرابع: التخفيف عن(خير أمة).
الخامس: إرتقاء المسلمين في سلم المعارف.
الثالثة: جهاد المسلمين في حث الناس على التنزه من الكذب على الله، وهو من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) وخروجهم للناس بلباس التقوى.
لقد أراد الله عز وجل للناس عبادته وذكره في الأرض، وتفضل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية، ولكن فريقاً من الناس إفتروا على الأنبياء بما يضر في أبواب العبادات، فأخرج الله عز وجل المسلمين للناس بصفة(خير أمة) لهدايتهم وجذبهم لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أمور:
الأول: إنه آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: فيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله على الأنبياء السابقين بأن تتعاهد أمته أحكام الشريعة بحسن أدائها.
الثالث: فضح الكذب والإفتراء على الأنبياء والمنع من تحريف الشرائع، وإضافة ما ليس فيها أصلاً.
ومع أن الشريعة الإسلامية ناسخة للشرائع السابقة، وأن الأولوية للعبادات وتثبيت أحكام الدين، والجهاد في سبيل الله والدفاع عن بيضة الإسلام ومواجهة جيوش الكافرين، فإن القرآن لم يترك مسألة الطيبات وحليتها للناس، وفيه وجوه:
الأول: توكيد رحمة الله عز وجل بالناس وأنه سبحانه لم يحرم عليهم الطيبات، بل خلقها من أجلهم، وجعلها موضوعاً للإبتلاء في الدنيا، وسبباً لشكره تعالى عليها، واللجوء إليه بالدعاء والمسألة لحيازتها وإقتنائها، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وتعدد وإنشطار النعمة الواحدة إلى نعم كثيرة.
الثاني: إنه من عمومات بيان القرآن قصص الأمم السالفة، وحال الكذب والإفتراء على الله عز وجل.
الثالث: جاءت آيات القرآن بتوالي النعم على بني إسرائيل، وتفضيلهم على العالمين، بقوله تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( )، وقد يقال أن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل خلاف إطلاقات هذا التفضيل، فكيف فضلّهم الله على غيرهم وهم محرومون منها، فجاءت الآية على وجوه:
الأول: تأكيد هذا التفضيل.
الثاني: نفي موضوع التحريم هذا.
الثالث: بيان حقيقة أن التحريم قضية شخصية لأحد الأنبياء قبل نزول التوارة.
ويحتمل تفضيل بني إسرائيل في أفراده الطولية وجوهاً:
الأول: إختصاصه بما بعد بعثة نبي الله موسى عليه السلام.
الثاني: عموم بني إسرائيل قبل بعثة موسى عليه السلام وبعدها.
الثالث: شمول نبي الله إسرائيل لمقام النبوة.
الرابع: إنقطاع التفضيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الأخرى صحيحة إذ أن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم، فإن قلت إن الإنقطاع تغيير في ماهية التفضيل، وإرتقاء فيه بشرط شيء.
فالإرتقاء لبلوغ وتعاهد مرتبة(خير أمة) وهم المسلمون، والشرط هو دخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنيل هذه المرتبة، والفوز بالدرجات العلى، وهو باب مفتوح لبني إسرائيل.
وجاءت الآيات بترغيبهم بالإسلام لبقاء تفضيلهم وزيادة فيه بنيل العز والرفعة والمنعة بالإسلام، وإنتهاء أيام الإستضعاف والذل في قوله تعالى[وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ] ( )، والتي تزول آثارها عنهم بدخول الإسلام، للتنافي بين صفة ومقام(خير أمة أخرجت للناس) وبين الذلة والمسكنة، ليكون إنقطاع التفضيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التمام والأوفى في فضل الله على بني إسرائيل في الدنيا والآخرة.
الرابعة: لقد جاءت الآية بصيغة الإحتجاج بكلام الله، فمن خصائص(خير أمة) الإحتجاج بكلام الله على الأمة التي فضلّها الله على العالمين، مما يدل بالأولوية القطعية على إحتجاجهم على غيرهم من أهل الملل والنحل، وهذا العموم من مصاديق قوله تعالى(أخرجت للناس) والجدال والإحتجاج على بني إسرائيل وهم أهل كتاب.
وقوله تعالى[فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ] ينفع من وجهين:
الأول: المنطوق، فمنطوق الإحتجاج والزجر عن الكذب على الله فيه وجوه:
الأول: إقامة الحجة وإستحضار مادة الإحتجاج.
الثاني: بيان موضوعية أوان نزول التوراة في تثبيت أحكام الشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، إذ أنه من الرسل الخمسة أولي العزم.
الثالث: دعوة أهل الكتاب للرجوع إلى القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أحكام شرائعهم، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
الثاني: المفهوم، وفيه وجوه:
الأول: إنذار بني إسرائيل من التحريف في البشارات التي جاءت بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل.
الثاني: زجر الناس عن الرجوع إلى يهود المدينة للسؤال عن صفات نبي آخر الزمان، ودعوتهم للرجوع إلى القرآن، والتدبر في معجزات محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بيان فضل الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور:
الأول: نزول القرآن من عند الله كتاباً جامعاً.
الثاني: سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير، قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
الثالث: تنزيه الأرض من الكذب على الله عز وجل.
الرابع: خروج أمة تتصف بصفات حسن منها:
الأول: تصدّيقها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه.
الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: التنزه عن الكذب على الله.
الرابع: الإمتناع عن تحريف التنزيل رسماً وتأويلاً.
الخامس: إتخاذ سنة الأنبياء السابقين حجة.
السادس: محاربة الإفتراء على الله، وفضح أهله، ودعوتهم للتوبة والإنابة.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان تعدد صيغ ووجوه جهاد المسلمين، فهم يدعون الناس للإسلام ونبذ الشرك وترك المعاصي والسيئات، وينفون عن الشرائع ما ليس منها، وهذا النهي لبيان رحمة الله بالناس لذا نعتت آية السياق تحريم بعض الأطعمة بأنه إفتراء على الله، وأن إسرائيل حرم على نفسه لحم الإبل لإصابته بداء عرق النسا عن نذر نذره، وأيام إسرائيل متقدمة زماناً على نزول التوراة التي يعمل بها بنو إسرائيل إذ أنزلت التوراة على موسى عليه السلام وبينه وبين أبيه إسرائيل بطون عديدة.
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث على فترة من الرسل، وعن سلمان الفارسي قال: بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ستمائة سنة) ( )، لتعمل(خير أمة) بالقرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرها، إلا أنه لم يمنع من إحتجاجهم على الملل الأخرى بشرائعهم.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة أخرجت للناس فمن إفترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون)وفيه وجوه:
الأول: حاجة أهل الأرض لوجود خير أمة بين ظهرانيهم لفضح الكذب على الله.
الثاني: تقدير(من بعد ذلك) أي بعد خروجكم للناس بصفة(خير أمة)، لما في خروج المسلمين للناس من الحجة والبينة عليهم.
الثالث: مجيء المسلمين بالبرهان والدليل لإبطال المشبهات، فتتوارث أمة من الأمم سنة مخصوصة، وكأنها من المتواتر خصوصاً إذا كانت فعلاً لأحد كبار الأنبياء كما في تحريم إسرائيل على نفسه لحم الأبل، وبنو إسرائيل ينسبون إليه.
فجاء القرآن ليبين أن إعتبار فعل النبي هذا حكماً شرعياً عاماً وسبباً للإمتناع عن الطيبات أمر مخالف للإنتفاع الأمثل من فضل الله ونعمه على بني إسرائيل، ليكون من هذه النعم بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليرفع بنو إسرائيل التشديد على أنفسهم، ومن التشديد الإصرار على البقاء على شريعة منسوخة.
السابعة: جاء القرآن بالإخبار عن تحريم بعض الطيبات على بني إسرائيل , قال تعالى[فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا] ( )، وفيه بيان لعلة هذا التحريم وأنه ظلمهم لأنفسهم مع تعدد مصاديق هذا الظلم من قتل الأنبياء، والكفر بالآيات، والبهتان على مريم وإمتناعهم عن الجهر بما علموه من صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد جاء بيان ما حرم الله عليهم بقوله تعالى[وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا]( ).
وتلك آية إعجازية في القرآن من وجوه :
الأول : ثبوت تحريم المتعدد من الطيبات عقوبة على بني إسرائيل، الثاني : حصول هذا التحريم بعد نزول التوراة وإنتقال موسى عليه السلام إلى الرفيق الأعلى، ليأتي على حياة بني إسرائيل قبل نزول التوراة وبعدها.
الثالث : التمييز بين ما هو حق وصدق من أحكام التحريم، وما هو كذب وإفتراء لا أصل له.
الرابع : المجئ بما ينفع بني إسرائيل وغيرهم، ويرفع أسباب الجهالة والغرر عنهم، ولما قال عبد الله بن سلام وأصحابه للنبي محمد (إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق و إنك لعندهم مكتوب في التوراة فقالت اليهود ليس كما يقولون أنهم لا يعلمون شيئا و أنهم يغرونك و يحدثونك بالباطل) ( ).
وجاء نزول قوله تعالى[لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ]( ).
وفيه مسائل:
الأولى: إنه مناسبة لتفقه المسلمين في الدين.
الثانية: معرفة حقيقة وهي وجود علماء من بني إسرائيل يتدارسون التوراة، ويجتهدون في طلب العلم.
الثالثة: إقرار فريق منهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه دعوة لأهل الكتاب بالرجوع للعلماء منهم الذين إجتهدوا في الكسب والتحصيل.
وقد فاز المسلمون بذات المرتبة الرفيعة من العلم بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة آيات القرآن والإنصات لها ليتوجهوا إلى الناس بالموعظة والجدال بالحكمة، وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام(الجاهل رعية العالم) ( ).
الثامنة: في الجمع بين الآيتين تحد من(خير أمة) لبني إسرائيل، وإخبار عن سلامة الشريعة الإسلامية وسيرة المسلمين من الإفتراء على الله مطلقاً، لأن إحتجاج المسلمين في باب المباحات يدل بالأولوية على سلامة نهجهم في باب العبادات، والواجبات والمحرمات، لتكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشراقة سماوية جاءت ببيان الأحكام، وبطلان ما لا أصل له في التشريع، ويحمل لواءها رسول الله وأمته من بعده إلى يوم القيامة لذا نعتت آية السياق الذين يفترون الكذب بعد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالظالمين لإقامة الحجة عليهم بالقرآن، وقيام المسلمين بتبليغ الأحكام والسنن، ودفع الشبهات.
التاسعة: جاءت آية السياق لبيان موضوع وحكم في المقام , وفيه وجوه:
الأول: إجتماع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية الكريمة، فالمنطوق هو النهي عن الإفتراء والكذب على الله، والمفهوم دعوة بني إسرائيل لدخول الإسلام.
الثاني: تعدد الجهات التي يقوم المسلمون بأمرها ونهيها، وعدم إنحصار الأمر بالكفار أو كفار قريش خاصة، بل يشمل الناس، قال تعالى[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً]( ).
الثالث: شمول الأمر والنهي للمواضيع المختلفة وبما يؤدي إلى الصلاح والهداية، ونبذ الشرك والضلالة، وترك الجهالة.
الرابع: تولي المسلمين لوظائف الإنذار، والتخويف من الإقامة على المعصية وما لا أصل له في الشرائع.
العاشرة: بيان خصلة حميدة من خصال(خير أمة) في باب الإحتجاج، إذ أن حجتهم سماوية وتتصف بأمور:
الأول: خلوها من الوسائط والمقدمات التي يجب إستحضارها لتحصيل البرهان.
الثاني: النفع الخالص لحجة المسلمين ليشمل أهل المناظرة والجدال والريب وغيرهم.
الثالث: بقاء حجة المسلمين غضة طرية إلى يوم القيامة.
الرابع: تعدد جهات الحجة، فمع أن موضوعها في المقام هو نفي تحريم الإبل على بني إسرائيل، فإنها تدل بالدلالة المطابقية والتضمنية والإلتزامية على أمور:
الأول: دعوة بني إسرائيل للإنصات للقرآن فيما يخص أحكامهم.
الثاني: الذب والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمنع من الجدال والشك بخصوص سنته وسيرته.
الثالث: التحذير من إختلاق الكذب في الشرائع السابقة لتوجيه اللوم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما أحله الله له ولأمته.
الرابع: توكيد قانون وهو نصرة الله عز وجل للمؤمنين في دفاعها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تنبيه الناس إلى لزوم الإحتراز ممن يفتري الكذب على لله.
السادس: فضح الكذب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرز وواقية من الكذب والإفتراء على الله عز وجل، وهو الذي جاءت الآية بالوعيد فيه، قال تعالى[كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
وفي الآية أعلاه دلالة على نزول العذاب بالمكذّبين في الحياة الدنيا، وأنعم الله عز وجل على الناس بخير أمة لصرف هذا العذاب من جهات:
الأولى: مبادرة(خير أمة) للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: إنقطاع (خير أمة) للعبادة , وفيه دفع للآفات عن أهل الأرض.
الثالثة: تجلي مصاديق التقوى والصلاح بأقوال وأفعال(خير أمة)، وفيه دعوة للناس للإقتداء بهم.
الرابعة: فضح(خير أمة) للإفتراء والكذب على الله بالحجة والبرهان.
الخامسة: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن نزول العذاب بالمكذبين، ويجتهد المسلمون لجذب الناس إلى منازل الإيمان، والتنزه عن تكذيب التنزيل، والمعجزات التي جاء بها الأنبياء.
السادسة: إنذار المسلمين للناس من العذاب، وجعلهم يشعرون بقربه وتدليه , قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ) وفيه وجوه:
الأول: ذكر أسباب ومقدمات العذاب.
الثاني: بيان قانون تكويني عام، وهو مجيء العذاب للظالمين، ومن الظلم التكذيب بالأنبياء، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثالث: تلاوة الآيات التي تحكي بطش الله عز وجل بالمكذبين بالآيات، ومنها الآية أعلاه.
الرابع: إظهار المسلمين الخشية من الله مع إستقامتهم وطاعتهم لله ورسوله ليعتبر الكفار والمشركون.
السابعة: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإستماع الناس لهم طوعاً وإنطباقاً وكرهاً، لتبقى مبادئ الحق حية بين الناس تدفع الباطل وتمنعه من الإستحواذ على القلوب، وتزيحه عن العرف والغالب والظاهر في المنطق والسلوك وصبغة المجتمعات.
الثامنة: قيام المسلمين بالإستغفار والدعاء وسؤال الرحمة من الله، وصرف البلاء، وفي قوم يونس نزل قوله تعالى[إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
وكان قوم يونس في نينوى من أرض الموصل، ودعاهم للإسلام ولكنهم لم يستجيبوا لدعوته، فأخبرهم بأن العذاب نازل بهم بعد ثلاث إن لم يتداركوا أمرهم بالتوبة،وفي اليوم الثالث تغشّاهم العذاب.
(وعن ابن عباس كان العذاب فوق رءوسهم قدر ثلثي ميل فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم و نسائهم و صبيانهم و دوابهم و لبسوا المسوح و أظهروا الإيمان و التوبة و أخلصوا النية، و فرقّوا بين كل والدة وولدها من الناس و الأنعام فحن بعضها إلى بعض و علت أصواتها و اختلطت أصواتها بأصواتهم و تضرعوا إلى الله عز و جل، وقالوا آمنا بما جاء به يونس فرحمهم ربهم و استجاب دعاءهم و كشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم) ( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام(كان فيهم رجل اسمه مليخا عابد و آخر اسمه روبيل عالم و كان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم و كان العالم ينهاه و يقول له لا تدع عليهم فإن الله يستجيب لك و لا يحب هلاك عباده فقبل يونس قول العابد فدعا عليهم فأوحى الله تعالى إليه أنه يأتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد و بقي العالم فيهم فلما كان اليوم الذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم إفزعوا إلى الله فلعله يرحمكم و يرد العذاب عنكم فاخرجوا إلى المفازة و فرقوا بين النساء و الأولاد و بين سائر الحيوان و أولادها.
ثم توجهه مغاضبا كما حكى الله تعالى عنه حتى انتهى إلى ساحل البحر فإذا سفينة قد شحنت و أرادوا أن يدفعوها فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه.
فلما توسطوا البحر بعث الله عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة فتساهموا فوقع من بينهم السهم على يونس فأخرجوه فألقوه في البحر فالتقمه الحوت و مر به في الماء و قيل إن الملاحين قالوا نقترع فمن أصابته القرعة ألقيناه في الماء فإن هاهنا عبدا عاصيا آبقا فوقعت القرعة سبع مرات على يونس فقام و قال أنا العبد الآبق و ألقى نفسه في الماء فابتلعه الحوت.
فأوحى الله إلى ذلك الحوت لا تؤذ شعرة منه فإني جعلت بطنك سجنه و لم أجعله طعامك فلبث في بطنه ثلاثة أيام و قيل سبعة أيام) ( ).
فإن قيل كيف دعا يونس على قومه، ولماذا قبل قول العابد وترك قول العالم، والجواب من وجوه:
الأول: النبي يونس معصوم في فعله، ومشاورته لهما من عمومات قوله تعالى[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( )، بلحاظ أن المشورة أمر حسن ذاتاً، ومن صفات الأنبياء.
الثاني: لقد أراد الله عز وجل لقوم يونس التوبة النصوح بعد رؤية العذاب وتدليه قريباً منهم.
الثالث: بيان لحقيقة وهي أن النبي يونس واسطة بين الله والناس، فإنه ليس من واسطة بين الناس والله عز وجل وهو سبحانه أقرب إلينا، قال تعالى[وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
الرابع: إتعاظ الناس من قصة يونس وقومه.
الخامس: من خصائص(خير أمة) تلاوة الآيات التي تتضمن قصص الأمم السالفة والإعتبار منها.
السادس: بيان موضوعية الدعاء في صرف العذاب القريب والظاهر.
السابع: حث المسلمين على المبادرة إلى الدعاء , وإتخاذه سلاحاً ووسيلة وسبيل نجاة في النشأتين، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الثامن: حث المسلمين على الصبر في جنب الله، وعدم الإنتقام من الناس، واللجوء إلى الإحتجاج والجدال والنصح وبيان لحاجتهم وحاجة الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا جعله الله عز وجل صفة ملازمة للمسلمين.
التاسع: بيان أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين إذ أنه كان يتلقى الأذى الشديد من قومه، ومع هذا يتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء لهدايتهم وإصلاحهم، وفيه بيان لصدق نبوته لأنه يعلم أن قلوب العباد بيد الله، يقلبها كيف يشاء، وفي صبر ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه:
الأول: إنتفاع قومه من دعائه.
الثاني: إرشاد المسلمين للجوء إلى الدعاء لإصلاح النفوس , قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الثالث: إفشاء التوبة بين الناس.
الرابع: كفاية شر الأعداء بهدايتهم.
العاشر: منع المسلمين من الإلحاح على النبي بالدعاء على المشركين وإستئصالهم .
وجاءت الوقائع لتؤكد دخول رؤساء من المشركين في الإسلام وجهادهم تحت لواء الرسالة.
الحادي عشر: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وهذه الحاجة طريق لذكر الله والتوجه له تعالى بالدعاء والمسألة، وحاجات الناس على وجوه:
الأول: الحاجة الشخصية للإنسان وما يتعلق ببدنه وسكنه ومعاشه ونحوها.
الثاني: الحاجة النوعية للناس كأمة أو فرقة أو طائفة.
الثالث: الحاجة الجامعة للشخص والجماعة بحيث يطلبها الفرد لذاته، كما يحتاجها بإعتباره جزء من الجماعة والأمة.
الرابع: الحاجة النوعية العامة للشخص والأمة والأجيال اللاحقة.
ومنع الإفتراء والكذب على الله من الوجه الرابع أعلاه، فهو حاجة مستديمة ومتصلة ولا تختص بموضوع أو ميدان دون آخر، ولا يستطيع إنسان أو جيل واحد قضاء هذه الحاجة، ووقاية الناس من الإفتراء على الله وإخراج المسلمين للناس بأمور:
الأول: سلاح العصمة من الإفتراء، فالمسلمون منزهون عن الكذب والإفتراء على الله.
الثاني: العمل بالقرآن والسنة، والصدور عنهما.
الثالث: فضح الإفتراء على الله بالحجة والبرهان.
الرابع: دعوة الناس لنبذ الإفتراء على الله، وحثهم على التوبة والإنابة.
ومن خصائص(خير أمة) وصول دعوتها للناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، وعدم تسرب روح اليأس والقنوط للمسلمين في جهادهم لحمل الناس على أداء الواجبات، وزجرهم عن المعاصي والمنكرات.
الثاني عشر: جاءت الآية محل البحث بصيغة الجملة الخبرية، أما آية السياق فوردت بلغة الجملة الشرطية، وفيه أمور:
الأول: تجلي معاني الرحمة بالناس لدعوتهم للكف والإمتناع عن الإفتراء والكذب على الله بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: خروج(خير أمة) بأسباب الهداية.
الثالث: التذكير بفتح باب التوبة والترغيب فيه.
صلة(من بعد ذلك) بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: جاء اسم الإشارة(ذلك) للبعيد للدلالة على تعدد مصاديق السبب والعلة التي تفضح الإفتراء وتبين قبحه، ومنها بلحاظ الجمع بين الآيتين وجوه:
الوجه الأول: من بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور(خير أمة) التي نالت هذه الصفة الكريمة بأمور:
الأول: التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني: التنزه عن تحريف الكتاب، والإفتراء فيه.
الثالث: تلاوة آيات القرآن، وما فيها من البيان والحجة والكفاية وصدور المسلمين عن القرآن والسنة النبوية في باب التشريع والأحكام، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الرابع: من صفات(خير أمة) أنها واقية من التحريف والكذب على الله، فنيل المسلمين لهذه الصفة يدل على فضحها للإفتراء والكذب على الله.
الوجه الثاني: من بعد خروج المسلمين بصفة(خير أمة) للناس، وفيه أمور:
الأول: خروج المسلمين حرز من الإفتراء على الله عز وجل.
الثاني: يبين المسلمون للناس جميعاً ماهية الإفتراء على الله، وأنه كذب ولا أصل له.
الثالث: يقيم المسلمون الحجة والبرهان على قبح الإفتراء على الله.
الرابع: تقيد المسلمون بالتنزيل، وإجتنابهم التحريف فيه فضح عملي للإفتراء وأهله.
الخامس: ترغيب المسلمين الناس بالإسلام، وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فحينما يحرّف فريق من أهل الكتاب صفات نبي آخر الزمان بحيث يجعلها لا تنطبق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن المسلمين يبينون معجزاته التي تدل على صدق نبوته بالشاهد الحسي والعقلي القريب من الناس.
السادس: من معاني خروج المسلمين للناس قوة وإتساع دولتهم لتكون على وجوه:
الأول: إنه ظرف وموضع لتثبيت أحكام التوحيد.
الثاني: نشر مفاهيم النبوة، وبيان صدقها.
الثالث: تلاوة آيات القرآن، وكل فرد منها يفضح التحريف.
الرابع: تغشي عموم المسلمين بأسباب العز والمنعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابع: وجود(خير أمة) بين الناس يجعلهم في غنى عن الرجوع لغيرها، خصوصاً عند التعارض بين ما جاءت به(خير أمة) وما يقوله أهل الإفتراء والتحريف، فإن الإنسان يلجأ إلى ما هو حق وصدق.
الثامن: نعت الله للمسلمين بأنهم(خير أمة أخرجت للناس) دعوة متعددة، من وجوه:
الأول: دعوة المسلمين لتبليغ الناس بأحكام التنزيل , وبذل الوسع في محاربة التحريف.
الثاني: ندب الناس للرجوع لخير أمة في كشف حقائق التنزيل.
الثالث: زجر أهل الإفتراء عن التمادي في الكذب على الله، وجعلهم يدركون حقيقة أن هذا الإفتراء لا يترتب عليه أثر، وأنهم لا يضرون به إلا أنفسهم بتخلفهم عن وظائفهم العبادية.
الرابع: دعوة أتباع أهل الإفتراء إلى الإعراض عنهم، وعدم الإصغاء لهم، وحثهم كمكلفين إلى إظهار القبول بالحق والصدق الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع: من خصائص(خير أمة) أن الإفتراء والكذب على الله لا يتسرب إليها، ولا يدب بين أفرادها، لتبقى بين الناس أمة منزهة عن الشك والريب والإفتراء، وهو من الإنكار الفعلي للكذب على الله، وتحذير الناس منه ومن أهله.
العاشر: دعوة المسلمين الناس لدخول الإسلام، والسلامة من وطأة الإفتراء وأسباب التشديد على النفس، وليس من حصر لمصاديق هذه الدعوة، وتأتي بصيغ ظاهرية ودعوة مباشرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويأتي بتقيد(خير أمة) بالوظائف العبادية والتنزه عن التحريف في أحكام الحلال والحرام.
الوجه الثالث: من بعد قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، وفيه أمور:
الأول: من خصائص الأمر بالمعروف أنه صلاح لأهل الأرض، ودعوة لهم لإختيار الصدق والحق.
الثاني: بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يبق التحريف والإفتراء وحده في الميدان، بل جاء التنزيل بالحق، وجعل الله عز وجل المسلمين يأمرون الناس بإتباعه والعمل بأحكامه قال تعالى[وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الثالث: ليس من حصر مكاني أو زماني لأمر المسلمين بالمعروف، وهو آخذ بالإتساع والإزدياد والإرتفاع والذي يتناسب طردياً مع قوة الإسلام وظهور دولته، وهو من خصائص(خير أمة) إذ أن تعظيمها لشعائر الله في إتساع بحيث يبلغ الناس جميعاً، من غير خشية الظالمين والذين يكتمون آيات الله.
الرابع: إخبار الآية محل البحث عن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف دليل على أمور:
الأول: وجود معروف وأمور حسنة ذاتاً يأمر بها المسلمون.
الثاني: توجه الأمر بالمعروف إلى الناس، فلا يصح أن يأمر الإنسان نفسه، بل يقوم بأمر غيره بالمعروف.
الثالث: تهيئة آلة ووعاء الأمر بالمعروف، ومن أهم مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلاوة آيات التنزيل من غير تبديل أو تحريف، فإنها إحتجاج على الذين يفترون على الله الكذب، ومنها التقيد بأحكام الحلال والحرام الواردة في القرآن.
فإن قلت هذه التلاوة وصحتها فعل شخصي ذاتي، والجواب من جهات :
الأولى: التلاوة حرب على التحريف وأهله .
الثانية: فيها إخبار عن زيف ما يخالف العمل بأحكام التنزيل.
الثالثة: التلاوة تصديق لنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة: في التلاوة إعراض عن الذين يحرفون صفات نبي آخر الزمان بما يجعلها لا تنطبق على النبي محمد صلى عليه وآله وسلم.
الخامس: الأمر بالمعروف من وجوه:
الأول: إنه حجة وبرهان.
الثاني: هو مادة للجدال.
الثالث: فيه تنمية لملكة الإحتجاج عند المسلمين.
الرابع: النفع من الأمر بالمعروف بالدعوة للرجوع إلى القرآن وترك التحريف على وجوه:
الأول: الإنتفاع في ذات الموضوع، وزحزحة التحريف عن مواضعه بين الناس.
الثاني: إتعاظ الناس من الأمر بالمعروف وفضح التحريف في أمور أخرى غير أكل لحوم الإبل والمباحات، وجعلهم يتدبرون في أمور التنزيل، ويبحثون عن الحق والصدق.
الثالث: إنذار أهل التحريف، والذين يكتمون الآيات والمعجزات.
السادس: تهذيب الأخلاق، وشيوع مفاهيم الصلاح، وبيان سعة رحمة الله ورأفته بالعباد ببعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع كتمان الآيات وإلى يوم القيامة.
السابع: لقد تفضل الله عز وجل ومدّ المسلمين بآية السياق وما تتضمنه من التوبيخ للذين يكذبون على الله، ويخفون الآيات، وينسبون إلى التشريع ما ليس منه.
وفيه دلالة على أن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة بأهل الإفتراء والظالمين أيضاً، من وجوه:
الأول: إنه دعوة للظالمين للتدارك والإنابة , قال تعالى[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ] ( ).
الثاني: التخفيف من أوزار المفترين على الله يمنع الناس من الإنصات لهم، والأخذ منهم، ويجعل أتباعهم يتخلون عن نصرتهم، مما يمنعهم من التمادي في التعدي والظلم ومحاربة المسلمين الذين يفضحون بإيمانهم كتمان الآيات والكذب على الله.
الثامن: من نعم الله عز وجل على المسلمين والناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتخاذ لغة التخويف في القرآن للنهي عن المنكر، فالله عز وجل هو الذي يبين مصاديق المنكر والفعل القبيح، وينهى عنه، ويتوعد عليه بالعذاب الأليم وتفضل وأنزل القرآن لمنع الناس من فعله، وأخرج المسلمين بالتنزه عن المنكر في أقوالهم وأفعالهم، والتوجه إلى الناس بالنهي عنه.
المسألة الثانية: قوله تعالى(من بعد ذلك) بيان لحقيقة وهي حصول تغيير وإنتقال وصلاح ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فإذا كان التحريف يجد آذانا، ويعمل به فريق من الناس، فقد صار محاصراً ومفضوحاً، إذ تفضل الله عز وجل وأخرج(خير أمة) للناس بأمور:
الأول: رداء التقوى.
الثاني: سلاح الأمر بالمعروف.
الثالث: النهي عن المنكر.
الرابع: الثبات على طاعة الله ورسوله .
الخامس: محاربة الإفتراء على الله.
المسألة الثالثة: دعوة الناس للشكر لله عز وجل على قوله تعالى(من بعد ذلك) لما فيه من أسباب العون والبيان عن حال الصلاح التي بدأت في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات أن هذه الحال تتصف بأمور:
الأول: تتم وفق قوانين وقواعد تضيء للمسلمين ميادين العمل.
الثاني: فيها تنمية أسباب الهداية والرشاد في النفوس.
الثالث: جعل الناس يتدبرون في معاني الرحمة الإلهية وأسباب من الكذب على الله موضوعاً وحكماً وأثراً.
المسألة الرابعة: لما جاءت هذه الآية بالإخبار بأن الإيمان هو خير ونفع محض لأهل الكتاب والناس، بقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] جاءت آية السياق بذكر مقدمة لهذا الإيمان وطريق مبارك له، وهو الكف عن الكذب في باب التشريع، وإجتناب تحريف التنزيل، لتتجلى مصاديق التصديق المتبادل بين التوراة والإنجيل من جهة وبين القرآن، إذ أن الإفتراء على الله غشاوة وبرزخ دون التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبول ما جاء به من أحكام الحلال والحرام.
المسألة الخامسة: من أسرار صيغة الشرط في آية السياق وإبتدائها باسم الشرط غير الجازم(فمن إفترى) ترغيب أهل الإفتراء بالتوبة، وغلق صفحة الإفتراء والكذب على الله لأنه صار أمراً مفضوحاً، وإستبان ضرورة.
فمن إعجاز القرآن أوان نزول الآية القرآنية بعد أن أظهر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه، وقهر جيوش المشركين التي زحفت على المدينة للإجهاز على نواة دولة الإسلام في أيامها الأولى تفضل بدعوة أهل الكذب إلى التوبة بلغة الإنذار والبيان بأن الإسلام صار قوياً , وأصبح الناس يدخلون جماعات وقبائل على نحو دفعي في الإسلام، قال تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
وهو شاهد على إعراض المسلمين وإلى الأبد عن التحريف وكتمان الآيات.
ومن مصاديق الخير والنفع في قوله تعالى(خيراً لهم) بلحاظ السياق مسائل:
الأولى: السلامة من الإفتراء، والنجاة من الكذب والإختلاف في الشريعة بدخول الإسلام، وصيرورتهم من(خير أمة) لوجوه:
الأول: للتضاد والتنافي بين صفة(خير أمة) وبين الكفر ومفاهيمه.
الثاني: عــدم طرو التحريف على القرآن ســواء إزداد عدد المسلمين أو لا، فلا تستطيع أمة أو فرقة أن تدخل الإسلام وتقوم بتغيير كلمة من القرآن.
الثالث: إنتقالهم إلى منازل الإيمان، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: أداء الفرائض والعبادات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي خير محض، وواقية من الكذب.
الثالثة: تلاوة آيات القرآن كتنزيلها، والحرص على عدم حصول التحريف فيها.
الرابعة: تولي مسؤوليات حفظ وتعاهد الآيات بلحاظ أنهم من(خير أمة).
الخامسة: الإعراض عن الذي يخفون البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل، قال تعالى[قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا] ( ).
السادسة: الأمن والسلامة، وإحراز النجاة من صفة الظلم التي تصاحب الإفتراء والكذب على الله كما تدل عليه خاتمة الآية وذمها للذين يفترون ويكتمون الآيات، ونعتهم بالظلم والتعدي.
صلة(فأولئك هم الظالمون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بينما جاء الخطاب للمسلمين بلغة الثناء والقرب من رحمة الله(كنتم خير أمة) جاءت الآية أعلاه بلغة الذم واسم الإشارة للبعيد (أولئك) للدلالة على بعدهم عن رحمة الله، وإصرارهم على الإقامة على المعاصي، وسوء عاقبتهم في الآخرة.
الثانية: هل إستحق الذي يفترون على الله الكذب صفة الظلم بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا قبلها غير ظالمين للجهالة والغرر، الجواب لا، فإن الإفتراء على الله ظلم مطلقاً سواء قبل البعثة النبوية المباركة أم بعدها، ولكن الآية جاءت لتوكيد الحجة على الناس ببعثته وظهور الآيات، ووضوح قبح الإفتراء على الله، لأنه حرب على النبوة والتنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين هو: كنتم خير أمة فأولئك هم الظالمون) لبيان التنافي والتضاد بين المسلمين والكفار.
الرابعة: إن وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) رحمة بهم، وبشارة رضا الله عنهم، وفيه ترغيب للناس بالتوبة والصلاح، والنفرة من الظلم والتعدي.
الخامس: يبيّن الجمع بين الآيتين جهاد المسلمين في تثبيت كلام الله في الأرض وإزاحة معاني الإفتراء وأسباب التحريف، فمن إعجاز القرآن أن ذمه لأهل الكذب والإفتراء على الله مقدمة كريمة لحفظ القرآن من التحريف، وحث للمسلمين لتعاهد آياته.
السادسة: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وأخرجهم للناس، وبيّن لهم أحوال الناس، وأخبر سبحانه عن وجود قوم ظالمين ويتعلق ظلمهم بالكذب على الله في أبواب التنزيل والتشريع وإخفاء معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، على أن خروج المسلمين مقرون بالبيان ومعرفة صيغ التعامل مع الناس على إختلاف مشاربهم، ليكون خروج المسلمين في المقام على وجوه:
الأول: معرفة موضوع للظلم وهو الإفتراء على الله وإخفاء الآيات.
الثاني: تعيين الظالمين الذي يصرون على الإفتراء والكذب وإتصافهم بالعناد , وهذه الصفة لم تمنع من التوجه لهم بالجدال بالحجة والبينة، وترغيبهم بالتوبة والإنابة، وهذا الترغيب مستقرأ من صيغة الجملة الشرطية(فمن إفترى) وفيها مسائل:
الأولى: المندوحة في الإنذار والتبليغ.
الثانية: الحث على الكف عن الإفتراء بعد تجلي آيات النبوة.
الثالثة: فضح التحريف المخالف للتنزيل.
الثالث: التسليم بقانون في الإرادة التكوينية وهو إتحاد سنخية ومضامين أحكام التنزيل في الكتب السماوية إبتداء بما نزل على آدم عليه السلام إلى ما نزل على إبراهيم وموسى وعيسى , ثم جاء القرآن جامعاً للأحكام الشرعية، وكاشفاً عن التحريف الطارئ في الكتب السابقة، وجاعلاً الناس بآياته في غنى عن غيره من الكتب، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابع: تحذير الناس من الإنصات لأهل الإفتراء، ودعوتهم لمعرفة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء به من المعجزات العقلية والحسية.
السابعة: من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زجر أهل الإفتراء وبيان ضلالتهم، ودعوتهم للإيمان بوجود المقتضي وفقد المانع، فقد إستبان الحق بنزول القرآن وتجلي إعجازه الذاتي والغيري، وما يعارضه مما بين أيديهم فلا بد من طرحه وتركه.
الثامنة: بخروج المسلمين للناس حصر للظلم المترشح عن إخفاء البشارات، وتحريف الكتب السابقة، وجعله خاصاً بأهل الإفتراء لأنفسهم لإنكشاف أمرهم للناس، ونفرتهم منهم، قال تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ] ( ).
التاسعة: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(وأكثرهم الفاسقون) وخاتمة آية السياق هي(فأولئك هم الظالمون) وبين الظالمين والفاسقين عموم وخصوص مطلق، إذ أن الظلم أعم من الفسق, والنسبة بين الإفتراء والفسق هي العموم والخصوص المطلق بلحاظ أن الفسق أعم، وأفراده لا تنحصر بالإفتراء.
وإجتماع الذم في خاتمتي الآيتين إنذار إضافي لأهل الإفتراء ودعوة لهم للتوبة النصوح، ، وبيان ما عليه الإسلام من القوة والمنعة، ونبذ الخروج عن طاعة الله ورسوله , قال تعالى[وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا]( ).
بحث فقهي
لقد شرّف الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فجعله سيد الأنبياء والمرسلين، ورزقه الكمالات الإنسانية، وجعله أسوة وإماماً وقائداً لخير أمة، وهو شفيعهم والشاهد عليهم في الآخرة، وقرن الله طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعته، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( )، وقد تفضل الله عز وجل بأمور خصّ بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منها:
الأول: تجاوز أربع نساء في النكاح.
الثاني: تحريم زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى لقوله تعالى[وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا] ( ).
الثالث: وجوب التهجد في الليل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، قال تعالى[وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ]( ).أما أفراد(خير أمة) فإن صلاة الليل بالنسبة لهم مستحبة .
الرابع: تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن خائنة الأعين، والإيماء خلسة بخلاف ظاهر الحال، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:(ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) ( ).
الخامس: صوم الوصال، بأن يصوم يومين مع الليلة بينهما، أو ثلاثة أيام مع الليلتين المتوسطتين، وقد نهى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه.
وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني) ( ).
ليكون صوم الوصال وما فيه من شدة الجوع والعطش من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية ووجدانية له، لاسيما وأنه يواظب في الليل والنهار على وظائف النبوة والإمامة، وإدارة أمور الحكم، وبناء دولة الإسلام.
السادس: تنام عين النبي محمد ولا ينام قلبه , قال صلى الله عليه وآله وسلم: تنام عيناي ولا ينام قلبي) ( ).
السابع: إباحة دخوله مكة من غير إحرام خلافاً لأمته.
الثامن: وجوب الأضحية والسواك عليه.
التاسع: صلاته قاعداً ولو من غير علة كصلاته قائماً.
العاشر: إذا لبس لأمة الحرب يحرم عليه خلعها حتى يلقى العدو.
الحادي عشر: تفضيل أزواجه على غيرهن بأن جعل الله ثوابهن على الضعف، وكذا بالنسبة لعقابهن، قال تعالى[يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ]( ).
وغيرها من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما مبين في كتب الحديث والسيرة النبوية.
وفيه مسائل:
الأولى: إنه مدرسة في إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله.
الثالثة: حث المسلمين على أخذ ما جاء به.
الرابعة: دعوة الناس جميعاً لإجتناب الكذب على الله عز وجل فيما يخص قصص الأنبياء السابقين، وأحكام الحلال والحرام والإتعاظ من تلك القصص لأنها مسألة إبتلائية يومية متكررة.
صلة[قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية أعلاه بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقول هو جهاد من وجوه:
الأول: توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً بالدعوة إلى الإسلام وعمل الصالحات.
الثاني: الإشارة إلى التحريف الحاصل في الكتب السابقة.
الثالث: مضامين الآية أعلاه بلاغ للناس جميعاً ومن صيغ الإنذار والبشارة, الإنذار من التخلف عن الإسلام، والبشارة لمن إستمع لما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: توكيد صدق نزول القرآن من عند الله.
الخامس: تلاوة المسلمين لهذه الآية وإلى يوم القيامة وهو من صفات(خير أمة) بأن تتلو بإيمان ما أمر الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن الآيات في خلافة الإنسان في الأرض وقوله تعالى في الرد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية المتوجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله تعالى(قل) إنحلالي يقوله ويردده الملايين من المسلمين وعلى نحو متكرر من كل منهم.
السادس: هذا القول مقدمة لتفقه المسلمين في الدين، وتلاوته ذاتها من الفقاهة، والتدبر في أحوال الملل والتسليم بأن النبي محمداً على ملة إبراهيم، ومضامين الإستقامة في الدين، وتقدير الآية على وجوه:
الأول: قل يا محمد.
الثاني: يا أيها المسلمون قولوا.
الثالث: يا خير أمة أخرجت للناس قولوا صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً.
الثانية: حينما يأمر المسلمون الناس بإتباع إبراهيم فلا بد أنهم أول التابعين لملته، والمتعاهدون لسنته، فمن فضل الله عز وجل على (خير أمة) تثبيت الإيمان في نفوسهم بما يقولونه للناس من الحجة والبرهان، وكأن دعوتهم للناس لدخول الإسلام، دعوة لأنفسهم للثبات على الإيمان، والعصمة من الإرتداد، وفيه نكتة وهي أن الله عز وجل أراد للمسلمين توارث الإيمان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: لما ذكرت هذه الآية أن المسلمين هم(خير أمة) وأن الله أخرجهم للناس، جاءت آية السياق لبيان أمور:
الأول: يتلقى المسلمون الوحي والتنزيل من الله بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: يحرص المسلمون على حفظ التنزيل بالتلاوة، والحفظ عن ظهر قلب والتدبر.
الثالث: إقرار المسلمين بالعبودية لله عز وجل، وأنه سبحانه وهو لا يقول إلا الحق والصدق، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا] ( ).
الرابع: قيام أجيال المسلمين بالوظائف التي أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فحينما قال الله تعالى لنبيه (قل) فإن المسلمين والمسلمات يقولون ذات القول وإلى ذات الجهة التي أمر الله عز وجل بالتوجه لها.
وهو من الشواهد على أن المسلمين ورثة الأنبياء، لأن الإمتثال للأوامر الإلهية من أبهى معاني الوراثة في المقام، وهو مصداق على أن المسلمين(خير أمة) لإنفرادهم بهذه الوراثة وما فيها من أسباب تعاهد حكمة التوحيد في الأرض.
وإذ قام الكفار من الأمم السابقة بقتل شطر من الأنبياء فإنهم لا يستطيعون الإجهاز على(خير أمة) من وجوه:
الأول: إتخاذ المسلمين الجهاد سبيلاً للدفاع عن أنفسهم.
الثاني: مبادرة المسلمين للهجوم والغزو عند الحاجة.
الثالث: بذل المسلمين الوسع في حفظ بيضة الإسلام.
الرابع: كثرة عدد المسلمين، ففي حين ذم القرآن قوماً للإنشغال بالتكاثر وجمع الأموال بقوله تعالى[أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( )، فإن المسلمين يتكاثرون تعظيماً لشعائر الله، وهم لا يموتون إلا على الإسلام، ويتخذون من تلاوة الآية أعلاه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرزاً من الإنشغال بالتكاثر.
الخامس: الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وسيرته، وتلاوة الآيات التي أمرته بالتبليغ وإقامة الحجة على الناس ومنه هاتان الآيتان .
وقوله تعالى(قل صدق الله)، وفيه صد لأهل الكتاب عن التعدي على المسلمين وحرمانهم وجعلهم ينشغلون بأنفسهم وتخلفهم عن حفظ الكتب السابقة من التحريف والتبدل , فتفضل الله بالقرآن وحفظه وسلامته من التحريف.
السادس: مواظبة المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه تلاوة آية السياق، وإتخاذها مادة للجدال والإحتجاج على أهل الكتاب.
السابع: إنتشار المسلمين في الأمصار والبوادي، وكل أسرة وجماعة يتوارثون الإيمان ويتعاهدون آيات الله، ويتقيدون بأداء الصلاة بأوقاتها، والكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
الثامن: إتخاذ المسلمين التقية منهجاً وواقية وأمناً من غير تفريط في أمور الدين وأحكام العبادات وتلاوة آيات القرآن خصوصاً وأن التلاوة واجب يومي على نحو متكرر بإعتبارها جزء من الصلاة.
الرابعة: يحتمل متعلق قوله تعالى(قل صدق الله) وجوهاً:
الأول: ما تقدم في الآية السابقة[فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
الثاني: إرادة الإطلاق في آيات القرآن وأنها حق وصدق، ومنها أن المسلمين(خير أمة) وظهور دولة الإسلام.
الثالث: ما يأمر به الله من إتباع ملة إبراهيم وإمتناعه عن الشرك والضلالة.
الرابع: مضامين الآيات السابقة من حلية الطعام لبني إسرائيل، وعدم نيل الخير والبر إلا بالإنفاق في سبيل الله، وبطلان عمل الكفار، وتوكيد الإخبار عما أعدّ الله لهم من العذاب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ أن الآية جاءت للإنذار والإحتجاج وبيان قبح التحريف وضرره، وقد ورد لفظ(صدق الله) مرتين في القرآن، قال تعالى[لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ]( )، إذ رأى النبي في المنام وهو في المدينة وقبل أن يخرج إلى العمرة ويعقد صلح الحديبية، رأى أن المسلمين دخلوا المسجد الحرام، فأخبر أصحابه بالرؤيا ففرحوا فرحاً شديداً، وحسبوا أنهم سيدخلون مكة في عامهم، فلما جرى صلح الحديبية ولم يدخل المسلمون مكة في نفس العام (قال المنافقون: ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام , فأنزل الله هذه الآية) ( )، والتي تتضمن مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل هو الذي يأتي بالرؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل وجوهاً:
الأول: الرؤيا مطلقا من الله عز وجل، فالرؤيا التي يراها أي إنسان هي من عند الله عز وجل بإعتبار أنها صلة بين الله وروح عبده، وهي من الشواهد على نفخ الروح في آدم , وعمومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، وإلا فإن حواس الإنسان في سبات عند النوم، وتفكيره معطل، فتحضر الرؤيا لترسخ في الوجود الذهني بآية من عند الله سبحانه.
الثاني: إختصاص الرؤيا التي من عند الله بالأنبياء، وفي الحديث رؤيا الأنبياء وحي فكل رؤيا يراها النبي أو الرسول هي من عند الله عز وجل، سواء كانت صادقة أو مكروهة.
الثالث: رؤيا الأنبياء التي من عند الله هي قسم من الرؤى الصالحة، إذ أن النبي يعلم بتوفيق من الله أن هذه الرؤيا من الله وأنها نوع وحي، ومن الأنبياء ما كان الوحي يأتيه رؤيا في المنام، كما في إبراهيم في بدايات نبوته وفي التنزيل حكاية عنه[قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ]( ).
الرابع: رؤيا الأنبياء والأئمة والصالحين هي من عند الله.
الخامس: شطر من الرؤيا صحيح وصدق حيث يتفضل الله على من يشاء من خلقه .
والصحيح هو الثالث والخامس، وجاء مصداق رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقق دخوله والمؤمنين المسجد الحرام في السنة التالية، فكان بين الرؤيا وتحقيقها سنة حصل أثناءها صلح الحديبية، وخروج الشباب المؤمن من بين كفار قريش وفق أحكام الصلح وتم بين الصلح وفتح مكة فتح خيبر لقوله تعالى[فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( )، فكما صدق الله الرؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنه سبحانه صدق للمسلمين وجعلهم ينالون مرتبة(خير أمة).
الخامسة: تفضل الله بالشهادة للمسلمين بأنهم(خير أمة) حق وصدق، ودعوة للناس للإصغاء إليهم ومحاكاتهم في نهجهم العبادي.
السادسة: بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار بخصوص قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم دائبون فيه،[ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ] ( ).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان مصداق من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو على وجوه:
الأول: كل ما في القرآن صدق وحق، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: كل ما يقوله الله صدق وحق.
الصغرى: القرآن كلام الله.
النتيجة: القرآن صدق وحق.
الثاني: دعوة الناس لإتباع إبراهيم في إستقامته وملته، وثباته على التوحيد والإستقامة.
الثالث: توكيد نزول الوحي على إبراهيم وعصمته من الشرك والضلالة , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الرابع: بيان قبح الشرك، ولزوم محاربته، كما جاهد إبراهيم عليه السلام المشركين، وتولى بمفرده الدعوة إلى الله، ونبذ الشرك والضلالة.
الثامنة: تجلي إتباع ملة إبراهيم بالتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام كلام الله الذي أنزل إليه.
التاسعة: إبتدأت آية السياق بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنذار أهل الكتاب وترغيبهم بالإسلام، بينما جاءت الآية محل البحث بخطاب ثناء وبشارة للمسلمين، وهذا التباين في لغة الخطاب حجة على الناس ودعوة لهم للإسلام وهو من مصاديق نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) من وجوه:
الأول: توكيد حقيقة وهي أن الإيمان ليس أمراً ممتنعاً أو متعذراً.
الثاني: وجود أمة مؤمنة على نحو الدوام.
الثالث: يجعل المسلمون الطريق إلى الهدى والإستقامة مُعّبداً ومضاء بمصابيح الفرائض التي يؤدونها.
الرابع: ذم الكفر والضلالة والإعراض عن الدعوة إلى الله.
الخامس: بيان النفع العظيم الذي يأتي لأهل الكتاب على نحو دفعي حينما يدخلون الإسلام ويقتدون بالمسلمين ويتبعون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جعلها الله عز وجل مرآة لملة إبراهيم عليه السلام , قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( ).
العاشرة: لقد جاءت الآية بذكر نبوة إبراهيم عليه السلام، وهو أمر جامع بين المسلمين وأهل الكتاب إذ يلتقون بالإقرار بنبوته وسلامة نهجه وجهاده في سبيل كلمة التوحيد.
الحادية عشرة: لقد كان إبراهيم عليه السلام إماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجوه:
الأول: يقوم إبراهيم بالأمر بالمعروف بمفرده، بينما يتآزر ويتعاون المسلمون في الأمر والنهي،قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
الثاني: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إبراهيم على نحو الوجوب العيني، بينما هما واجبان كفائيان على المسلمين إن أداهما بعضهم سقطا عن الجميع.
الثالث: واجه إبراهيم عليه السلام أمة الكفار، والطاغوت وملئه، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بدولة الإسلام يرجعون إليها وتذب عنهم، وثغور خاصة بهم يقيمون فيها مناسكهم وعباداتهم.
الرابع: قام إبراهيم عليه السلام ببناء البيت الحرام لتتعاهده (خير أمة) ويكون كلاً من البناء والتعاهد أمراً بالمعروف، وصداً عن تفشي القبائح وأسباب الضلالة بين الناس.
الخامس: لقد جاهد إبراهيم بنفسه ثم بولده ليبني صرح الإيمان، ويتآزر المسلمون في الأمر والنهي بصبغة الأخوة الإيمانية، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثانية عشرة: بيان تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم بقصص الأنبياء وإكرامهم لهم، والإحتجاج بنهجهم وسنتهم، وإدراكهم عدم التعارض بين النبوات وأن بعضها يتمم بعضاً.
الثالثة عشرة: من خصائص(خير أمة)إتباع ملة إبراهيم في الحنيفية والتوحيد , وكما أمر الله عز وجل المسلمين بأن يتقوه (حق تقاته) ( )، فإنه سبحانه أمرهم بالجهاد في سبيله بأسمى وأصدق معاني الجهاد والإقتداء بإبراهيم في مواجهة الظالمين والمشركين, قال تعالى[وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
الرابعة عشرة: لقد إنتفع المسلمون من إبراهيم وجهاده وصبره في جنب الله، ومن خصائص(خير أمة) أنها تحب لغيرها ما تحبه لنفسها، وترجو أن يرتقي الناس لمنازل الكرامة والعز بدخول الإسلام لذا تتصف دعوة الإسلام بأمور:
الأول: إنها رسالة ذات صبغة عالمية وتتوجه للناس جميعاً، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإتخاذهما بلغة لجذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثالث: إقتداء المسلمين بالأنبياء السابقين، قال تعالى[َبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، وإتخاذ قصصهم عبرة وموعظة، وحجة على الآخرين.
الرابع: تلاوة آيات القرآن، والحرص على عدم وصول يد التحريف له رسماً ونصاً وتلاوة وتفسيراً، ومنها جهاد إبراهيم في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن إحياء تراث الأنبياء، وجعل أشخاصهم الكريمة حاضرة في الوجود الذهني، والإتعاظ منهم في أمور الدين والدنيا، أمر إختص به المسلمون وجعلوه سلاحاً لهم، وفيه مسائل:
الأولى: إنه ضياء ينير لهم دروس الصلاح.
الثانية: تهذيب النفوس وإجتناب الكدورات.
الثالثة: الحيطة والحذر من الظالمين وكيدهم ومكرهم.
الرابعة: قصص الأنبياء مدرسة في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , جعلها الله بالقرآن شرعاً مباحاً للناس جميعاً، وقد فازت(خير أمة) بالنهل منها وإقتباس الدروس والمواعظ المتجددة منها.
الخامسة: إحتجاج المسلمين بمنهج وجهاد وصبر الأنبياء.
السادسة: بيان وجوه الشبه بين سيرة وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما لاقاه الأنبياء السابقون.
السابعة: بذل المسلمين الوسع في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه، ومنع الكفار من الوصول إليه، وتجلي مصاديق إعجازية لقوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( )، في ميادين القتال وغيرها وهي كثيرة منها حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد حين قصده الكفار لإرادة قتله، وليس معه من أصحابه إلا عدداً قليلاً فوقاه الله شرهم، وكسرت رباعيته، وسال الدم من وجهه.
الخامسة عشرة: تقدير الجمع بين بدايتي الآيتين: على أقسام:
القسم الأول: قل صدق الله كنتم خير أمة , وفيه وجوه:
الأول: تأكيد البشارة بعظيم منزلة المسلمين.
الثاني: بعث الرضا والسكينة في نفوس المسلمين، وحثهم على الشكر لله عز وجل على هذه النعمة.
الثالث: إعانة وتعضيد آيات القرآن بعضها لبعض.
الرابع: يشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسلمين (خير أمة) ويقوم بتبليغ هذا القانون التكويني إلى المسلمين.
الخامس: في هذا البلاغ دعوة للناس لدخول الإسلام، والإقلاع عن مسالك الكفر والضلالة.
السادس: تعلق التأكيد بالشواهد والمصاديق التي يقوم بها المسلمون والتي تدل على أنهم(خير أمة) أي أن الآية محل البحث أخبرت عن كون المسلمين(خير أمة) وأن هذا الإجتباء في علم الله منذ الأزل، ثم جاء قوله تعالى(قل صدق الله) شهادة حاضرة لما أظهره المسلمون من الجهاد في سبيل الله والإمتثال الأمثل للأوامر الإلهية، وهذه الشهادة متجددة في كل زمان، فكل طبقة من المسلمين هي(خير أمة).
السابع: قوله تعالى(قل) خطاب موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى المسلمين والمسلمات جميعاً بواسطته , فيتلو المسلمون هذه الآية بالتسليم والتصديق، وأن كل ما يقوله ويوحي به الله عز وجل هو حق وصدق، ويشهدون لأنفسهم بأنهم(خير أمة) وهذه الشهادة على وجوه:
الأول: شهادة المسلم والمسلمة للأمة جمعاء بأنها(خير أمة).
الثاني: شهادة المسلمين في أجيالهم المتعاقبة للمتقدم والمتأخر منهم بأنه من(خير أمة).
الثالث: إدراك المسلم بأنه من(خير أمة)، وفيه تزكية للمسلمين وحث لهم على تعاهد هذه المرتبة العظيمة بالإقتداء بإبراهيم، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
القسم الثاني: قل صدق الله كنتم خير أمة أخرجت للناس) وفيه وجوه:
الأول: الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار أمته بالوظيفة العقائدية لهم بين الناس.
الثاني: ليس للمسلمين حصر عنايتهم وقصدهم الصلاح بأنفسهم، فلا بد أن يتوجهوا في الجهاد والإصلاح إلى غيرهم من غير تقييد في الجهة ليشمل أهل الكتاب والكفار والناس جميعاً، وهذا الإطلاق في التوجه يبين سعة وتعدد المسؤوليات العقائدية للمسلمين , وضرورة حضورهم بصبغة الإيمان في الميادين المختلفة بما يذكّر الناس بالله عز وجل ولزوم عبادته، وإجتناب المعاصي والسيئات.
الثالث: لقد أختتمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الآيات أنها أختتمت برسول وليس بنبي، وبين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي، وليس كل نبي هو رسول، لتكون(خير أمة) أتباع سيد المرسلين، وهم حجة على الناس، قال تعالى[لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] ( ).
ومن لطف الله بالناس أنه سبحانه لم يتركهم من غير إمامة، بل جعل هذه الإمامة متعددة، بالنبوة والتنزيل وخير أمة.
نعم هناك تباين في مراتب الإمامة، ويكون المقيد أحياناً مطلقاً بالنسبة لغيره، كما في قولك(صل المغرب) فإن الأمر مقيد بذكر صلاة المغرب، وإذا قلت : صل المغرب في المسجد) فإن قولك صل المغرب يصبح مطلقاً بلحاظ تقييده مكاناً وتعيينه في المسجد.
وإمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقة للمسلمين والناس جميعاً، أما إمامة(خير أمة) فهي مقيدة من وجوه:

  1. المسلمون مأمورون ولا يصدرون إلا عن الكتاب والسنة.
  2. إمامة المسلمين للناس في طول إمامة رسوله الله وهي مرآة لها، فليس من وحي ينزل على المسلمين إنما هو تفسير للقرآن وترجمة للسنة.
  3. جاء ذكر الأنبياء بعنوان البعث والرسالة , قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )، وإمتاز المسلمون بأن بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ليخرجوا أئمة مهديين للناس، ودعاة إلى التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي، ليظهر الإعجاز القرآني بالتفضيل والتفصيل بين البعث والخروج وأن هذا الخروج لم يأت إلا إستمراراً وإمتداداً لبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أحكام شريعته والتحلي بالعمل بمضامينها.
  4. ليس من واسطة من البشر بين الله عز وجل والنبي إذ يوحي الله عز وجل، له بواسطة الملك، أما المسلمون فإن خروجهم بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته، ونزول القرآن عليه من عند الله عز وجل , فخروجهم فرع الرسالة , وليس كالنبوة التي هي أمر قائم بذاته.
  5. لقد أراد الله عز وجل أن يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً حاضراً للمسلمين في عملهم وجهادهم لإصلاح الناس، ليكون عليهم شهيداً في النشأتين، قال تعالى[لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ).
    القسم الثالث: قل صدق الله, وتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر وفيه وجوه:
    الأول: جاءت الآية محل البحث بالإخبار عن مواظبة المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضمنت آية السياق شهادة الله عز وجل وأنه سبحانه لا يقول إلا الصدق والحق.
    الثاني: من مصاديق تفضيل المسلمين أن الله عز وجل يشهد لهم بمباشرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو الإتصال والدوام بلحاظ أن آيات القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة في أحكامها ومضمونها، ومجيء هذه الآية بصيغة المضارع(تأمرون بالمعروف) والتي تدل على التجدد والدوام.
    الثالث: يجمع قوله تعالى(قل صدق الله) شهادة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهو من شكر الله عز وجل للمسلمين لطاعتهم لله ورسوله وإتيانهم الفرائض العبادية الواجبة , قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ).
    إن إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية من أهم مصاديق الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله، وليس من أمة فازت بالشهادة من الله ورسوله على حسن السمت والطاعة مثل المسلمين، وهو من وجوه تفضيلهم على غيرهم، وفيه حث للناس لدخول الإسلام , والتنعم ببركات هذه الشهادة فقوله تعالى(قل صدق الله) بشارة الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.
    الرابع: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً يدعوهم للإيمان بالله، وتقدير الجمع بين الآيتين (قل صدق الله تؤمنون بالله) لتكون هذه الشهادة على وجوه:
    الأول: إنها دليل على رضا الله عز وجل عن المسلمين.
    الثاني: دعوة المسلمين لتعاهد الإيمان، والتصدي لأهل الشك والريب، ومنعهم من فتنة الناس , قال تعالى[وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ]( ).
    الثالث: بعث السكينة في نفوس المسلمين لإستقرار الإيمان في نفوسهم والأجيال من ذراريهم.
    الرابع: ندب المسلمين إلى الشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان وشهادة الله عز وجل لهم، فقد يعبد الإنسان الله ويبقى في خوف وخشية من عدم تحقق البراءة اليقينية، فجاءت الآيتان ليطمئن المسلمون لما هم عليه من حال الإيمان، ويتوجهوا بالشكر لله على الهداية والتوفيق للإيمان والأمن من العذاب لعمومات قوله تعالى[فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
    القسم الرابع: صدق الله لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم) وفيه مسائل:
    الأولى: جاءت الآية محل البحث للإحتجاج والبرهان، وبيان أضرار التخلف عن الإيمان.
    الثانية: كل آية في القرآن هي صدق وحق، ويأتي الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد بالقول والعمل للتذكير بمضامين الآيات، والتوجه إلى المسلمين وأهل الكتاب والكفار، ففي كل موضوع هناك قول لله عز وجل يدعو الناس إلى الإيمان والصلاح، ويمنع من التمادي في السيئات.
    الثالثة: مع تعلق موضوع الآية بأهل الكتاب إلا أن قوله تعالى(قل صدق الله) عام في جهة الخطاب، وتقديره على وجوه:
    الأول: قل يا محمد للمسلمين لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم.
    الثاني: قل يا محمد لأهل الكتاب لو آمنتم لكان خيراً لكم.
    الثالث: قل يا محمد للكفار لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم.
    الرابعة: تبين الآية أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض وأنه يدعو لما فيه الخير والصلاح، وقد تظن بعض الملل أنهم على خير، ولا يحتاجون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يقومون بدعوة المسلمين إلى ملتهم، كما ورد في التنزيل[وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى] ( ).
    الخامسة: جاءت آية السياق بالحث على إتباع ملة إبراهيم في الإقرار بالتوحيد والإستقامة، وعدم الركون للظالمين لبعث الشوق في نفوس أهل الكتاب للإسلام وعدم النفرة منه.
    صلة(فاتبعوا ملة إبراهيم) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: يحتمل الأمر بإتباع ملة إبراهيم وجوهاً:
    الأول: إنه خاص بأهل الكتاب، إذ تكتفي(خير أمة) بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أما الكفار فهم مدعوون لدخول الإسلام.
    الثاني: يشمل الأمر بإتباع إبراهيم الكفار أيضاً لأنه مقدمة لدخول الإسلام.
    الثالث: عموم الخطاب وشموله المسلمين والناس جميعاً.
    والصحيح هو الثالث، فليس من تعارض بين الإسلام وإتباع ملة إبراهيم، وورد في التنزيل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
    الثانية: يفيد الجمع بين هذه الآيات لزوم الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إتباع ملة إبراهيم، فمع أنه سيد الأنبياء والمرسلين فإنه يقول إتبعوني في إتباع ملة إبراهيم لتكون سوراً جامعاً للمؤمنين، وسبيلاً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه بعث للسكينة في نفوس أهل الكتاب من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها في طول نبوة الأنبياء السابقين ومتمة لها.
    ترى لماذا لم تقل الآية (وإتبعوا ملة موسى وعيسى) خصوصاً وأن كلاً منهما رسول من الخمسة أولي العزم وتتبعه أمة عظيمة، والجواب من وجوه:
    الأول: إرادة الجامع المشترك من الحنيفية ومحاربة الشرك.
    الثاني: جاء الأمر بإتباع إبراهيم من عند الله عز وجل وهو سبحانه[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
    الثالث: إتباع إبراهيم من الإمتحان والإختبار للناس.
    الرابع: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً على ملة إبراهيم.
    الثالثة: أخبرت هذه الآية عن خروج المسلمين للناس، ويفيد الجمع بين الآيتين أن خروجهم بصبغة ملة إبراهيم من الحنيفية والإستقامة، والسلامة من الشرك الظاهر والخفي، وتتجلى هذه السلامة بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته ونسكه.
    الرابعة: لقد جاهد إبراهيم عليه السلام بنفسه وولده لتعظيم شعائر الله، ليبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من ذريته فيجاهد بنفسه وأهل بيته وأصحابه وأمته إلى يوم القيامة .
    ولا ينحصر هذا الجهاد بالقول ومواجهة الظالمين، بل يشمل السيف، ومحاربة الظلم , وإزاحة الطواغيت والكفار عن منازل الحكم وفيه وجوه:
    الأول: إنه من المصاديق العملية لرد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، حينما إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض، لما في خروج المسلمين على ملة إبراهيم من حرب على الشرك والفساد، وقصة إبراهيم ومحاربته للطاغوت وملئه معروفة عند المليين.
    الثاني: لقد كان جهاد إبراهيم عليه السلام على نحو القضية الشخصية، وأورث أبناءه ملة التوحيد والصبر في ذات الله، ودعا الله عز وجل ببعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت كلمة التوحيد إلى يوم القيامة، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ] ( ).
    الثالث: إستدامة المنعة للمسلمين وإلى يوم القيامة بالتوكل على الله، وحسن السمت.
    الخامسة: قاعدة تفي الجهالة والغرر، ومعرفة المسلمين لضوابط الخروج للناس، وتقومها بالتنزه عن الكفر والشرك والضلالة.
    السادسة: منع أهل الريب والشك من الإفتراء على المسلمين في خروجهم، وقطع أسباب المغالطة، إذ أن المسلمين يخرجون.
    السابعة: من خصائص(خير أمة) دعوة أهل الكتاب إلى ما يجمعهم مع المسلمين وهو كلمة التوحيد، ونبذ الشرك، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( ).
    الثامنة: بيان إستحقاق المسلمين لمرتبة(خير أمة) وفق القياس الإقتراني:
    الكبرى: خير أمة تتبع ملة إبراهيم.
    الصغرى: المسلمون يتبعون ملة إبراهيم.
    النتيجة: المسلمون خير أمة.
    التاسعة: من صفات(خير أمة) أنها لا تدعو إلى سبيل من سبل الخير إلا وقد ولجته وعملت بمضامينه، إذ إتبع المسلمون ملة إبراهيم ثم دعوا الناس إليها، وسواء إستجاب الناس لدعوتهم أولا فأنهم دائبون على إتباعها لأنها منهج حق.
    العاشرة: تحتمل دعوة المسلمين لإتباع ملة إبراهيم وجوهاً:
    الأول: إختصاص الدعوة باليهود للغة الخطاب في آية السياق.
    الثاني: إرادة عموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
    الثالث: توجه الدعوة بإتباع ملة إبراهيم إلى الناس جميعاً.
    والصحيح هو الثالث، قال تعالى[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ] ( )، وفيه مسائل:
    الأولى: بيان لحقيقة وهي أن المسلمين منزهون من السفه والجهالة لإختيارهم تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع ملة إبراهيم عليه السلام.
    الثانية: من معاني خروج المسلمين للناس محاربتهم للسفه، والجهاد بالحكمة والموعظة لتنزيه الأرض منه، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بشيوع الفساد في الأرض، إذ أن محاربة المسلمين للسفه إصلاح للأرض وجعل النفوس تنفر من الفساد، وتمتنع عن الجهالة والغرر.
    الثالثة: دعوة المسلمين الناس جميعاً لدخول الإسلام , وإتباع ملة إبراهيم، من عمومات قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    الرابعة: الدعوة إلى إتباع ملة إبراهيم دعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالدعوة للإسلام أعم لأنها تتضمن أداء الفرائض والتكاليف وفق أحكام الشريعة المتكاملة التي جاء بها سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الخامسة: تقدير الآية: أيها الناس إتبعوا ملة إبراهيم.
    الحادية عشرة: من خصال إبراهيم عليه السلام أنه كان إماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحتمل إتباع ملته وجوهاً:
    الأول: الإنقياد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    الثاني: القدر المتيقن من الآية هو إتباع ملة إبراهيم.
    الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين التخفيف عن المسلمين بإتباع شطر من الناس لملة إبراهيم، وإرشاد الناس لسبل الهداية والصلاح , وتركهم قتال المسلمين والتحريض عليهم،.
    الثالثة عشرة: كان المشركون من قريش يرجعون إلى يهود المدينة في السؤال عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يعرفون صفات نبي آخر الزمان، وهو يقومون بتحريفها، قال تعالى[الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] ( ).
    وجاءت آية السياق حجة على أهل الكتاب وسلاحاً بيد المسلمين، وإنذاراً للناس من الإنصات للذين يحرفون صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية.
    الرابعة عشرة: في قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] وبلحاظ آية السياق(ولو إتبع أهل الكتاب ملة إبراهيم لكان خيراً لهم) فمن فضل الله عز وجل على أهل الكتاب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة لإتباع ملة إبراهيم، وإظهار أسمى معاني التوحيد في الأرض وهجران الشرك وعبادة الأصنام.
    الخامسة عشرة: من خصائص(خير أمة) فضح الفسوق ومحاربته وذم الذين يخرجون عن طاعة الله، ويأتي إتباعهم لملة إبراهيم جهاداً ضد النفس الشهوية والغضبية، ودعوة للناس لترك الفسوق والفجور.
    السادسة عشرة: لقد كان إبراهيم عليه السلام حنيفاً مستقيماً لا يخشى في الله لومة لائم، فجاءت(خير أمة) لتحيي سنته في الأرض، وتظهر إتباعها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجاهد تحت لوائه لتحقيق الإستقامة .
    وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بقوله[حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ] ( ).
    صلة(وما كان من المشركين)بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: لقد شرفَ الله عز وجل المسلمين بمرتبة(خير أمة) وهي شاهد على تنزههم من الشرك وواقية منه، من غير أن يستلزم الدور بين الشهادة والوقاية بلحاظ تخلف الشهادة عن الفعل، وتقدم الوقاية عليه.
    الثانية: المسلمون أتباع إبراهيم عليه السلام، وتقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير أمة وما كنتم من المشركين).
    الثالثة: بيان الحاجة إلى إتباع ملة إبراهيم لما فيها من السلامة من الشرك.
    الرابعة: الثناء في الدنيا على أهل التوحيد، لأن ذكر إبراهيم جاء من باب المثال الأمثل وفيه إشارة إلى أن الله عز وجل يثني على كل موحد عصم نفسه من الشرك وأحسن التوبة إلى الله عز وجل.
    الخامسة: من خصائص(خير أمة) النفرة من الشرك، والميل للذين إجتنبوه وأخلصوا العبادة لله عز وجل.
    السادسة: جاءت الآية تأديباً للمسلمين من وجوه:
    الأول: اليقظة والحذر من المشركين لمجيء النفي والسلامة من الشرك خاصة بإبراهيم إذ كان بين قوم مشركين.
    الثاني: إكرام أهل الإيمان والذين إختاروا الإبتعاد عن الشرك والضلالة.
    الثالث: الإقرار بنبوة الأنبياء وأنهم معصومون من أم الكبائر , وهو الشرك.
    الرابع: جعل المسلمين مستعدين للجهاد في سبيل إزاحة الشرك عن المجتمعات وطرده من النفوس , قال تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ).
    السابعة: يأمر المسلمون بالمعروف وينهون عن المنكر لمحاربة الشرك والضلالة.
    الثامنة: كما شهدت آية السياق لإبراهيم بالنزاهة والإمتناع عن الشرك، فإن الآية محل البحث أكدت إيمان المسلمين وإجتنابهم للشرك والضلالة، وفيه شاهد على وراثة المسلمين للأنبياء.
    التاسعة: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس لإتباع إبراهيم , فهو سبيل لنجاتهم من براثن الكفر والضلالة , وفيه حث لخير أمة للثبات في منازل الإيمان.
    العاشرة: لما أختتمت هذه الآية ببيان أن أكثر أهل الكتاب فاسقون، جاءت هذه الآية لتنحيتهم عن منازل الفجور، وتحبيب الإيمان إلى نفوسهم، وتذكيرهم بأبي الأنبياء إبراهيم، إذ أن موسى وعيسى عليهما السلام والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يلتقون في الإنتساب لإبراهيم بالبنوة والنبوة , قال تعالى[ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
    صلة[إِن َّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: تفضل الله بإطلاع(خير أمة) على علوم الغيب، وأسرار بدايات الخلق , ونزول آدم إلى الأرض , وأن أول بيت وضع في الأرض هو بيت الله عز وجل، يلجأ اليه الناس، ويظهرون به مصداقاً للإيمان.
    الثانية: كما يتلقى المسلمون علوم الغيب فعليهم البيان للناس.
    ومن اللطف الإلهي في المقام تلاوة المسلمين الآيات بحيث يستطيع الناس جميعاً سماعها والتدبر فيها، فليس في القرآن آية خاصة بالمسلمين في نفعها بياناً وتلاوة وسماعاً وتكريماً، قال تعالى في القرآن[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
    الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين تعدد فضل الله عز وجل على الناس جميعاً وبما يهديهم إلى الإيمان، فهو سبحانه جعل أول بيت في الأرض خاصاً بعبادته، وأخرج(خير أمة) لجذبهم لعبادة الله وأداء الفرائض مطلقاً، ومنها حج بيت الله الحرام.
    وورد لفظ (الناس) في الآيتين، وفي كل منهما ندب لهم لفعل الصالحات، ووقاية من الضلالة وفعل السيئات.
    الرابعة: تمتاز(خير أمة) بمعرفة أول بيت في الأرض، وأن عائديته لله عز وجل ووضعه للناس جميعاً , فمع أن المسلمين(خير أمة) فان الله لم يخصهم ببيته، بل يترشح التفضيل عن الإمتثال للأوامر الإلهية بحج وعمارة البيت الحرام، وفيه وجوه:
    الأول: إنه من عمومات الإختبار والإبتلاء في الحياة الدنيا.
    الثاني: إقامة الحجة على أهل الكتاب والكفار في علة وأسباب تفضيل المسلمين.
    الثالث: دعوة الناس جميعاً للفوز بمراتب التفضيل.
    الرابع: وجود شاخص مبارك في الأرض , يتوجه له المسلمون قبلة في صلاتهم بواجب يومي، وواجب سنوي بأداء فريضة الحج والطواف بالبيت بشعار الإمتثال المطلق والإنقطاع لله تعالى(لبيك اللهم لبيك , لبيك لاشريك لك لبيك).
    الخامسة: قد أثنى الله عز وجل على إبراهيم في بنائه البيت الحرام وجهاده في دعوة الناس لحج البيت، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، وجاءت هذه الآية للإخبار عن حقيقة وهي أن الأمة التي تتعاهد ما فعله إبراهيم هي(خير أمة).
    السادسة: لقد إستعبد الله الناس بالبيت الحرام، فبادر المسلمون إلى التقيد بأحكام البيت، وهم يتوارثون إلى يوم القيامة عمارته بالفعل العبادي المتجدد كل عام.
    السابعة: من خصائص (خير أمة) إمتلاء نفوسهم بالسعادة والغبطة المترشحة عن أداء الفرائض والواجبات، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
    الثامنة: عدم وجود خلاف بين علماء وعامة (خير أمة) بان الحج ركن من أركان الدين، وضرورة عبادية.
    التاسعة: لقد وضع الله عز وجل البيت الحرام للناس ليبادروا إلى التوبة، وهذه التوبة من وجوه:
    الأول: إستقبال البيت في الصلاة.
    الثاني: الإتعاظ من آية البيت الحرام، والمبادرة إلى التوبة.
    الثالث: السعي لعمارة البيت الحرام.
    الرابع: أداء فريضة الحج، والوقوف في المشاعر المباركة.
    الخامس: اللجوء إلى البيت طلباً للأمن والسلامة آية يتعظ ويعتبر منها الناس، لما تدل عليه من الأثر الفعلي للآيات المكانية على النفوس , قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا]( ).
    العاشرة: في الطواف بالكعبة المشرفة أمور:
    الأول: إنه إنبعاث إيماني , وشاهد على الهداية وطاعة الله ورسوله.
    الثاني: في الحج والطواف تحرير للذات من سلطان الدنيا.
    الثالث: إنه سياحة عبادية لتهذيب السجايا والطباع.
    الرابع: جعل المسلمين مؤهلين للخروج للناس برداء التقوى، وقصد القربة، ورجاء الثواب.
    الحادية عشرة: أداء المسلمين للحج خروج للناس متجدد كل سنة، وفيه وجوه:
    الأول: إنه مصداق للصبر في طاعة الله.
    الثاني: إنه دليل تعاهد المسلمين لأفعال الأنبياء , ووراثتهم لمناسك العبادة إلى يوم القيامة.
    الثالث: بيان وحدة المسلمين في أفعالهم العبادية، وخروجهم للناس.
    الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين.
    وعن الإمام الباقر عليه السلام(حج موسى بن عمران ومعه سبعون نبياً من بني اسرائيل خطم إبلهم من ليف، يلبون وتجيبهم الجبال وعلى موسى عبائتان قطوانيان يقول: لبيك عبدك وابن عبدك، ومرّ يونس بن متى بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك كشاف الكرب العظام لبيك، ومرّ عيسى بن مريم بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك لبيك).
    الثانية عشرة: من خصائص(خير أمة) الإتحاد ونبذ الفرقة والإختلاف، وتتجلى أصدق معاني الوحدة في الحج , من وجوه:
    الأول: أداء المناسك بكيفية وزمان واحد، فمثلاً يقف وفد الحاج في عرفات بين الزوال إلى الغروب من اليوم التاسع من ذي الحجة، قال تعالى[فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( )، وفيه بيان لوجهة الحجاج بعد عرفة، مع التسليم بأنها فعل عبادي.
    الثاني: إنعدام الحاجة للإجتهاد في أفعال ومناسك الحج، فقد ورد النص بتثبيتها، وتوارثها العلماء على نحو التسليم.
    الثالث: إنعدام الفوارق الإجتماعية والسياسية بين الحجاج، فيلبس الجميع لباس الإحرام الذي هو كالكفن , وفيه إستحضار للآخرة وأهوالها، وأداء الحج من أفضل أسباب الإستعداد لها.
    الثالثة عشرة: لقد جعل الله عز وجل فريضة الحج مقيدة بالإستطاعة قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] وفيه آية للعالمين في إجتهاد المسلمين لتحصيل الإستطاعة وأداء الحج.
    ومع أن تحصيل مقدمة الواجب ليس بواجب، إلا أن(خير أمة) تحرص مجتمعة ومتفرقة على تعظيم شعائر الله والفوز بالثواب العظيم في إداء الحج، ومن الآيات ان المسلمين يتعاونون في تحصيل الإستطاعة، ومنهم من يبذل للآخر نفقات الحج، ويسمى(الحج البذلي) بأن يتولى مؤونة حجه فيتحقق وجوبه عليه لصدق الإستطاعة وعليه النص والإجماع سواء كان البذل بنية التحليل أو لا، وجاء عن نذر أو تطوعاً، كما لو قال له:حج وعليّ نفقتك ونفقة عيالك) وافردنا للحج البذلي باباً خاصاً في كتبنا الفقهية( ).
    صلة(للذي ببكة مباركاً)بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: من فضل الله على الناس نفي الجهالة والغرر، ببيان موضع البيت المبارك من بين أصقاع الأرض الواسعة.
    ويمنع تعريف بكلمتين في القرآن من الخلاف والخصومة في مكان البيت وتعيينه، وهو من أسرار ورود الآية بلفظ(بكة) مع أن اسم البلدة(مكة) وبه ذكرت في القرآن مرة واحدة أيضاً قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ]( )، كما ذكرت باسم البلد خمس مرات( )، ووردت باسم(أم القرى) , قال تعالى[وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
    الثانية: من وظائف(خير أمة) أزاء أنفسهم والناس جميعاً الحفاظ على البيت الحرام وموضعه وبنيته وهو من أسباب ترغيب الناس بالإسلام، ودعوتهم إلى معرفة حقيقة وهي أن الله عز وجل وضع بيتاً في الأرض رحمة لهم، وسبيلاً إلى البركة وغفران الذنوب.
    الثالثة: بيان رحمة الله بالمسلمين، ووقايتهم من الظالمين، وإعانتهم في أداء المناسك من وجوه:
    الأول: الإخبار بأن أول بيت في الأرض هو البيت الحرام.
    الثاني: وضع البيت الحرام من أجل الناس.
    الثالث: تجلي البركات من البيت الحرام.
    ولا تنحصر هذه البركات بزمان دون آخر بل هي متصلة ومتجددة إلى يوم القيامة، وهذا التجدد من ذات البركة وما تتصف به من السعة والدوام وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وفيه تحد وبيان للإعجاز والشأن العظيم للبيت الحرام، وتباك وتتدافع(خير أمة) في المطاف ومصلى إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة.
    الرابعة: من خصائص(خير أمة) الإنتفاع من البركات في الأرض، وتوظيفها لصالحهم في أمور الدين والدنيا، فهم يزحفون إلى البيت الحرام ويتحملون الأذى وأخطار الطريق رجاء النهل من فيضه وبركاته التي تعم الناس جميعاً، بمعنى أن المسلمين يعمرون البيت الحرام فينزل الخير على الناس جميعاً رحمة من عند الله، وتتجلى البركة والخير العام في الحج من وجوه:
    الأول: ذات البيت مبارك , وسبب لنزول الرحمة على عمارة الناس كافة قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، وفي الآية أعلاه نكتة عقائدية وهي أن الرحمة والبركة سبقت الناس إلى الأرض وإستقرت فيها لتكون مصاحبة لهم إلى يوم القيامة وسبيلاً لجذبهم للبيت الحرام طوافاً وصلاة وإستقبالاً في الصلاة، ولو رفعت بنية الكعبة لا سامح الله أياماً ففي البركة وجوه ثلاثة:
    الأول: تبقى البركة على حالها كماً وكيفاً وموضوعاً وحكماً.
    الثاني: تنقص البركة بلحاظ بقاء موضوع البيت، وزوال البنية الشريفة.
    الثالث: لا تبقى البركة لتعلقها بالجامع بين موضع وبناء البيت.
    والصحيح هو الأول، وهو من فضل الله، وعموم بقاء النعم وإعانة الناس لولوج أبواب العفو والمغفرة، وإتصال رحمة الله.
    الثاني: إختصاص خير أمة بعمارة البيت الحرام، وأداء مناسكه.
    الثالث: التقيد بالمناسك والعبادات وفق أحكام القرآن قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
    الرابع: الإقتداء بالأنبياء في أداء الحج ومناسكه، فليس من نبي إلا وقد حج البيت وطاف حوله.
    وهو من عمومات[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] إذ يجلب المسلمون للناس الخير والبركة بالعبادة والتقوى والصلاح، فهذا الخروج لا ينحصر بالدعوة الصريحة إلى عبادة الله، بل يشمل التوقي النوعي العام من الآفات وتحصيل النفع والبركة، وإمهال الناس بما يجعلهم يتدبرون في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويبادرون إلى دخول الإسلام، نعم هذه البركة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، فيغترف منها المسلمون من غير عد وحصر، ليكون هذا الإغتراف على وجوه:
    الأول: إنه حجة ومناسبة لتثبيت الإيمان في نفوس المسلمين.
    الثاني: فيه بعث للشوق عند المسلمين للقاء الله والفوز ببركات عمارة البيت في الآخرة.
    الثالث: تلقي أجيال المسلمين اللاحقة وظيفة عمارة البيت الحرام بالقبول والرضا والإمتنان.
    الرابع: ترغيب الناس بدخول الإسلام.
    الخامس: منع وعجز الظالمين من وجود الأنصار والأتباع في التعدي على الإسلام والمسلمين، وفي تحذير الناس من إتباعهم جاء بيان حالهم يوم القيامة، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).
    الخامسة: من مصاديق بركات البيت الحرام إستقبال المسلمين له في الصلاة من مشارق الأرض ومغاربها، وليس من بقعة وشاخص يتوجه له الناس في أجيالهم المتعاقبة كالبيت الحرام، وبركات البيت الحرام توليدية فكل بركة له تترشح وتتولد منها بركات متعددة، فإستقبال البيت الحرام من بركات البيت , وفيها وجوه:
    الأول: أداء المسلمين لصلاتهم جامعة للشرائط، إذ أن إستقبال البيت الحرام شرط في صحة الصلاة.
    الثاني: وحدة وإتحاد المسلمين في الفعل العبادي، وتعدد مصاديق إنتفاع المسلمين من هذا الإتحاد.
    الثالث: إمتناع الفرقة والخلاف بين المسلمين بخصوص جهة الإستقبال.
    الرابع: إدراك المسلمين لضرورة تعاهد البيت الحرام وعمارته والذب عنه، والحرص على بقائه آمناً وأمناً، وتتجلى موضوعية الأمن في البيت بآيات عديدة منها دعاء إبراهيم[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( )، ولم يذكر لفظ(آمناً) في القرآن إلا في آية واحدة وبخصوص حج البيت الحرام، قال تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
    الخامس: إتخاذ البيت قبلة إصلاح للنفوس، وطرد للضغائن ومنع من العتو والإستكبار، لأنه عنوان للخشوع والخضوع.
    السادسة: تكرار وتعدد مصاديق البركة، إذ تترشح عن البيت الحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو مستقل ومتداخل بينها، لتكون علة للصلاح، وضياءً ينير دروب السالكين.
    السابعة: بيان بركات البيت الحرام من الأمر بالمعروف لما فيه من الدعوة لحفظه وعمارته، وتوكيد شرف وطهارة البقعة المباركة.
    الثامنة: بركة البيت الحرام فيض من الله عز وجل على الناس، ومناسبة للدعاء وسؤال رحمة الله ونزول الغيث والفيض.
    التاسعة: من منافع الإيمان لأهل الكتاب وغيرهم التنعم بالبركات التي تترشح عن البيت الحرام.
    العاشرة: يجذب البيت الحرام الناس للإيمان ويزجرهم عن الفسوق، وهذا الجذب من إفاضات البيت , وأسرار وضعه للناس وما فيه من معاني الهداية والرشاد، وقيام(خير أمة) بتعظيم شعائر الله وأداء المناسك العبادية الخاصة بالحج والعمرة.
    صلة(وهدى للعالمين) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأول: من خصائص(خير أمة) الإنتفاع الأمثل مما هو هدى للعالمين.
    الثانية: تثبيت المسلمين لمواطن الهداية، ودعوة الناس لها.
    الثالثة: تتوارث(خير أمة) إتباع مواطن وأسباب الهداية.
    الرابعة: من مصاديق خروج المسلمين للناس دعوتهم لما فيه هدىً وصلاح.
    الخامسة: بيان آية من عند الله بأن تتعدد أسباب الهداية للناس، على نحو الإجتماع والتفرق منها:
    الأول: بعثة الأنبياء، ونزول الكتب السماوية من السماء، قال تعالى[وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ]( ). الثاني: وجود الشاخص المبارك في مكة، وأداء مناسك الحج. الثالث: خروج(خير أمة) للناس. الرابع: حضور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الميادين المختلفة. الخامس: إتيان المسلمين للفرائض والعبادات، وبناء المساجد لإقامة الصلاة. السادس: تلاوة القرآن وما فيها من الدلالة على الهدى والتدبر في الآيات والسنة النبوية، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ] ( ). السابع: الآيات الكونية الثابتة والمتحركة والمتجددة، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ). السادسة: بيان حاجة(خير أمة) والناس جميعاً إلى أسباب الهدى من عند الله، فجاء قوله تعالى(هدىً للعالمين) لبيان أن البيت الحرام رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، وسبب لهدايتهم، وأن المسلمين أحرزوا مرتبة(خير أمة) من وجوه: الأول: تلقيهم سبل الهداية بالقبول والإمتثال. الثاني: الإستضاءة بأنوار الآيات السماوية والكونية والأرضية ومعجزات الأنبياء، مع التداخل بينها. الثالث: إتخاذ القرآن إماماً وحجة للدلالة على تلك الآيات. السابعة: توكيد تزلزل الفسوق وأنه غير مستقر عند أصحابه فإن الهدى وأسبابه يغزوه في النفوس والوجود الذهني، ويجعلهم في ندم وحسرة. الثامنة: لما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، جاء الجواب من عند الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )،فمن علم الله عز وجل في المقام أمور: الأول: جعل البيت الحرام هدىً للناس. الثاني: قيام المسلمين بأداء الوظائف العبادية والمناسك في البيت وإستقباله في الصلاة وفي ذبائحهم، ويكون قبلة للموتى عند دفنهم، وهل إتخاذه قبلة للموتى من عمومات قوله تعالى[لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ). الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو مغادرة المسلم للدنيا بالثبات على الشهادتين , ولكنه نوع شهادة وفرع حسن الخاتمة. الثالث: نزول القرآن بالإخبار عن الآيات البينات التي في البيت الحرام. الرابع: عمارة المسلمين للبيت الحرام. صلة آية(مقام إبراهيم) ( )، بهذه الآية وفيها مسائل: الأولى:الصلة بين بدايتي الآيتين، وفيها وجوه: الأول: الهاء في(فيه آيات بينات) تعود للبيت الحرام. الثاني: لقد تفضل الله عز وجل وجعل(لخير أمة) أماكن شريفة للعبادة، وخصهم بالبيت الحرام قبلة وموضعاً مباركاً لأداء المناسك. الثالث: من خصائص(خير أمة) التفقه في الدين ومعرفة الآيات الساطعات التي في البيت الحرام. الرابع: لولا نزول القرآن لما علم الناس بالآيات الموجودة في البيت الحرام. الخامس: يفيد الجمع بيت الآيتين لزوم تعاهد(خير أمة) للآيات الساطعات في البيت الحرام. السادس: كما أخرج الله عز وجل المسلمين للناس فانه سبحانه دلهم على الآيات، ومن الإعجاز أن هذه الآيات موضع ومناسبة لعبادة الله عز وجل. السابع: حث المسلمين على إبلاغ الناس بآيات البيت، وإخبارهم عما فيها من الأسرار القدسية، وهذا البلاغ فيه أمور. الأول: إنه من مصاديق قوله تعالى(كنتم خير أمة) لأن المسلمين يقومون بحث الناس على التدبر في آيات الله. الثاني: إنه من عمومات قوله تعالى(أخرجت للناس) إذ أن المسلمين يخرجون بالآيات التي يخبر عنها القرآن. الثالث: توكيد إجماع المسلمين على عمارة البيت الحرام بالعبادة، قال تعالى[وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ]( ). صلة (فيه آيات بينات) بهذه الآية وفيها مسائل: الأولى: من علامات خروج المسلمين للناس تعاهدهم للبيت الحرام، وما فيه من الدلالات الباهرات. الثانية: تعاهد المسلمين لآيات البيت الحرام دعوة للناس لعبادة الله، وأداء المناسك والتي لا تصح إلا بشرط الإسلام. الثالثة: من الأمر بالمعروف بيان آيات البيت الحرام، وهذا البيان على وجوه: الأول: تلاوة آية السياق وما فيها من التذكير بالبيت الحرام وآياته. الثاني: عمارة البيت الحرام بالحج والعمرة والزيارة , قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ). الثالث: من الأمر بالمعروف التسليم بالآيات البينات في البيت الحرام والحث على التصديق بها، وعمارتها وحفظها. الرابع: من الإيمان بالله التسليم والتصديق بالآيات البينات الموجودة في البيت الحرام، وهذه الآيات شاهد بأن البيت الحرام وتعيين موضعه وآياته أمر من عند الله عز وجل. الخامس: تقدير الجمع بين الآيتين : لو آمن أهل الكتاب بالآيات البينات في البيت الحرام لكان خيراً لهم. السادس: عبادة الله هي العلة الغائية لخلق الناس، قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ). ومن العبادة التصديق بآيات الله البينات، وهذه الآيات جاءت للناس جميعاً، ولكن المسلمين هم الذين صدّقوا بها. الرابعة: إخبار المسلمين عن وجود آيات لله في مواضع مخصوصة من الأرض، لوجوه: الأول: هذا الإخبار مقدمة لحفظ المسلمين لهذه الآيات. الثاني: بيان أن تلك الآيات مواضع للعبادة. الثالث: تجلي المائز والخصال الحميدة التي تتصف بها(خير أمة) ومنها معرفة تلك الآيات وتعاهدها بمناسك مخصوصة، وهذه المناسك مبينة بالكتاب والسنة، أي أنها ليست إجتهاداً من المسلمين، بل هي الأخرى آية عبادية لتجتمع في تلك المواطن كل من: الأول: آيات الآفاق الموجودة في كل مكان. الثاني: الدلالات البينات التي في البيت الحرام. الثالث: إنقطاع المسلمين للعبادة في البيت الحرام. وفي قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، بيان لحقيقة وهي أن آيات البيت مباركة من وجوه: الأول: إنها رحمة للناس جميعاً. الثاني: هي دعوة وسبب لهدايتهم. الثالث: فيها وكيفية أداء مناسكها جذبة للإيمان. الرابع: إنها موضع لفعل الصالحات وإكتساب الحسنات، وطريق إلى الجنة ودار النعيم. الخامسة: من صفات(خير أمة) أن إخبار الله لها بقدسية البيت يجعلها تحرص على حفظه وإقامة المناسك عنده، والحضور من كل مكان تعظيماً لشعائر الله، فتزاحمون بهجة ويتدافعون بإنتظام يترشح عن آداب العبودية رجاء الثواب , قال ابن منظور و(بكة ما بين جبلي مكة لأن الناس يبك بعضهم بعضاً في الطواف أي يزحم) ( ). السادسة: آيات البيت الحرام موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجوه: الأول: تعاهدها وإتيانها وحفظها. الثاني: الإقرار بأنها برهان على وجوب عبادة الله. الثالث: وجود خصوصية وأسرار ملكوتية فيها. الرابع: ترغيب الناس بالحج، وزيارة البيت الحرام الذي يتضمن آيات بينات. الخامس: زجر الناس عن الإضرار بالبيت، وتحذيرهم من الإعراض عنه , وعما فيه من الآيات والبراهين. السابعة: الذي يؤمنون بالله عز وجل يقرون بآيات البيت الحرام، ويسعون في إكرامها والإتعاظ منها، وهم المسلمون، إذ يتلقون الإخبار السماوي عن الآيات في الأرض لإتخاذها بلغة للتقرب إلى الله، وقد ذكرت آية السياق تلك الدلالات المباركات بصيغة الجمع (آيات بينات) وفيه وجوه: الأول: المراد الآيات التي ذكرتها هذه الآية وهي: الأولى: مقام إبراهيم. الثانية: أمن وسلامة من دخل البيت. الثالثة: وجوب حج البيت على الناس. الثاني: تجدد الآيات بالطواف والصلاة ومصاديق العبادة الأخرى. الثالث: آيات البيت الحرام أعم مما ذكرته الآية الكريمة. والصحيح هو الأخير، وتلك آية في الخلق وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، وآية السياق معطوفة على آية(أول بيت) والتي تدل على آيات في ذات البيت، ومن إعجاز القرآن أن آية السياق ذكرت البيت كوعاء وموضع للآيات بدليل حرف الجر في(فيه آيات بينات) والذي يتضمن الظرفية. ومن الآيات في المقام: الأول: رحمة الله بالناس، في وضع بيت لهم. الثاني: تعيين عائدية البيت وأنه لله عز وجل مع أن كل المخلوقات له سبحانه، قال تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ). الثالث: مع أن البيت الحرام هو لله عز وجل فانه سبحانه وضعه للناس. وفي هذا الوضع آيات من وجوه: الأول: البيت موضع لعبادة الله , ويتصف عن باقي بقاع الأرض أنه المكان الجامع للصلاة والحج، فالصلاة تؤدى في كل مكان، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(جعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً)، بينما الحج لايؤدى إلا في البيت الحرام فيجتمع في البيت الحرام دون غيره فريضتان بل وثلاثة بارادة الصيام في الحج والعمرة خصوصاً وعمرة شهر رمضان مستحبة، وتكون مناسك الحج على قسمين: الأول: الواجب المؤقت المضيق وهو الذي يستغرق أداؤه الوقت المخصص له، كالوقوف في عرفة بين الزوال إلى الغروب من يوم عرفة. الثاني: الواجب المؤقت الموسع، وهو الذي يتسع وقته لأداء الواجب مع زيادة فيه، ويكون المكلف مخيراً في الأداء في أي من أجزاء الوقت، وغالباً ما تكون الأولوية في المبادرة إلى الفعل العبادي في أول أوقاته( )، الثامنة: لما ذكرت آية السياق آيات البيت الحرام فان (خير أمة) تتفكر في هذه الآيات ووظائفها، ومنافعها، وتجاهد من أجل إستدامة هذه الآيات بأداء الفرائض والعبادات، والكتاب والسنة . والإجماع على وجوب الحج على كل مكلف ومكلفة عند إجتماع الشرائط عند كل منهم، فالوجوب عام، والشرائط على نحو القضية الشخصية. وقد تقدم ذكر ثمان عشرة بينة في البيت الحرام( )، ومنها: الأولى: الحجر الأسود، وسؤال الحاجات عنده، وبدأ الطواف به(وفي الحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض). الثانية: بئر زمزم، ونبع الماء منه. الثالثة: طواف(خير أمة) بالبيت الحرام فلا يصدق على أمة وملة أنها (خير أمة) إلا بإستقبال البيت الحرام في الصلاة والطواف حوله، ليكون شاهداً لهم في الدنيا والآخرة. الرابعة: تقبيل المسلمين للحجر الأسود تأسيساً وإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولما فيه من البركة والدلالات، وفي الخير أنه نزل من السماء. الخامسة: لما أمر الله عز وجل بالتمسك بالكتاب والسنة بقوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، وحثهم على الأخوة الإيمانية بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، فإنه سبحانه جعل البيت الحرام وموضوعاً مباركاً للأخوة بينهم، ونبذ الفرقة والخلاف. صلة(مقام إبراهيم) بهذه الآية وفيها مسائل: الأولى: تتعاهد(خير أمة) آيات البيت الحرام، ومنها مقام إبراهيم، وفيه إكرام خاص لنبي الله إبراهيم ولنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وفي هذا التعاهد وجوه: الأول: لم يحفظ مقام إبراهيم إلا المسلمون. الثاني: لاينحصر حفظ المسلمين لمقام إبراهيم بزمان دون آخر، بل هو باق إلى يوم القيامة، وهو من خصائص(خير أمة) إذ أن الحج جهاد في سبيل الله بالمال والنفس. وفي الخبر عن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام (يذكر الحج: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو أحد الجهادين وهو جهاد الضعفاء ونحن الضعفاء، اما انه ليس شيء افضل من الحج الا الصلاة، وفي الحج ههنا صلاة وليس في الصلاة قبلكم حج) الحديث. الثالث: يتعاهد المسلمون وباكرام مقام إبراهيم لأنه معلم ومنسك من مناسك الحج. الرابع: تعاهد المسلمين للمقام ليس إجتهاداَ وإبتداء من عندهم بل هو بأمر من الله، قال تعالى[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( )، والذي يحمل على الوجوب، وفي كتابنا الموسوم مناسك الحج باب إسمه(صلاة الطواف) وفيه عدة مسائل منها: يجب إتيان ركعتي طواف الفريضة خلف مقام إبراهيم عليه السلام مع الإمكان، ولا يتباعد عنه بحيث لا يصدق عليه انه عنده إلا مع الزحام والعذر. الثالثة: جاءت الرواية بأن مقام إبراهيم ياقوتة نزلت من الجنة، ولولا أن أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما بقيت في موضعها في البيت الحرام لتشع منها أضواء مباركة تنفذ إلى شغاف قلوب المؤمنين. الرابعة: لقد جعل الله عز وجل المقام موضعاً للدعاء والتوسل إلى الله عز وجل , ومن مضان الإستجابة , ليفوز المسلمون بهذه النعمة بأداء الصلاة باعتبار أنها دعاء في ذاتها وأصل تسميتها، ونعمة تلاوة الآيات القرآنية التي تتضمن معنى الدعاء، بالإضافة إلى زحف وفد الحاج والمعتمرين قربة إلى الله , ورجاء فضله والفوز برحمته. الخامسة: إن حفظ المسلمين للمقام جزء من عمارتهم للبيت الحرام بالحج والزيارة والنسك، وإستقبالهم له في الصلاة من مشارق الأرض ومغاربها , قال تعالى[وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ). السادسة: لقد جعل الله عز وجل المقام آية بينة في البيت الحرام، وأمر سبحانه بعدم دخول المشركين المسجد , قال تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( )، لتنحصر مسؤوليات حفظ وتعاهد هذه الآية بالمسلمين، ويكون حفظهم لها آية أخرى من عند الله وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ). السابعة: من خصائص(خير أمة) تعيين المقام على نحو الحصر، وعدم وجود إختلاف في ذاته، ومن الدلالات فيه علامة قدمي إبراهيم عليه السلام، ليكون نوع صلة بين ما يقوم به المسلمون وما قام به الأنبياء السابقون من تعاهد البيت بالحج والزيارة. الثامنة: ورد ذكر(مقام إبراهيم) مرتين في القرآن إذ جاء الأمر الإلهي باتخاذه مصلى( )، وقد خصّ الله عز وجل(خير أمة) بالصلاة عند الآية البينة، وفيه وجوه: الأول: هذه الصلاة عنوان إكرام للمقام وللمسلمين. الثاني: في الآية التي تنزل من عند الله منافع عظيمة. الثالث: المقام عنوان الوحدة بين المسلمين، والإلتقاء في الصلاة عنده. الرابع: شكر(خير أمة) لله عز وجل على نعمة المقام , ويتجلى هذا الشكر بالصلاة والعبادة والمناسك. الخامس: تعاهد موضع مقام إبراهيم , فذات الموضع يصلي فيه المتقدم والمتأخر من أجيال المسلمين. السادس: لما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وجاءهم الرد من الله عز وجل بأنه سبحانه يعلم ما يعلمون، فان من علمه تعالى أنه أخرج المسلمين للناس ليتعاهدوا الآيات البينات في الأرض ويؤدوا العبادات والمناسك، ويقيموا الصلاة عند مقام إبراهيم بشوق وقصد القربة , والشكر لله سبحانه على التوفيق لهذه النعمة العظيمة أي الصلاة عند المقام وإمتثال أمر الله. التاسعة: في حفظ المقام والإقرار بأنه آية من عند الله عز وجل أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ودعوة للصلاة وبذل الوسع لأداء الواجبات العبادية. العاشرة: لما جاءت هذه الآية بقوله تعالى(يؤمنون بالله) ذكرت آية السياق آية(مقام إبراهيم) ليكون تصديق المسلمين بها، والإقرار بأنها آية ساطعة من عند الله من مصاديق ورشحات إيمان المسلمين بالله. صلة(ومن دخله كان آمناً)بهذه الآية وفيها مسائل: الأولى: تلقي(خير أمة) البشارات من الله عز وجل في التنزيل. الثانية: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، والحاجة ملازمة لعالم الإمكان وهي وفق القياس الإقتراني: الكبرى: كل ممكن محتاج. الصغرى: الإنسان ممكن. النتيجة:الإنسان محتاج. وليس من حصر لحاجات الإنسان في الدنيا، ومنها الأمن والسلامة من الآفات، وفي الخبر:نعمتان مجهولتان الصحة والأمان، وقد تفضل الله وجعل موضعاً آمناً يأوي إليه المسلمون والمسلمات. الثالثة: في آية(الأمن في البيت) وتعاهد المسلمين لها – تشريفاً وإجماعاً وعملاً – ترغيب للناس بدخول الإسلام. الرابعة: لقد فاز المسلمون بنعمة الأمن في البيت الحرام، وعدم وجود برزخ وحاجز دون وصولهم إليه. الخامسة: إن الله عز وجل هو الشاكر العليم، فلما آمن المسلمون بالله وملائكته وأنبيائه فانه تفضل ورزقهم نعمة الأمن في البيت الحرام. السادسة: أراد الله عز وجل للمسلمين تعاهد منزلة(خير أمة) بالأمن في الحياة الدنيا في موضع مخصوص، وليكون مقدمة ومرآة للأمن في الآخرة، وشاهداً على قوله تعالى[وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ). السابعة: الأمن غاية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليكون هذا الأمن تأسيساً للأمن في الأرض، وهو مناسبة لذكر الله عز وجل. صلة(ولله على الناس حج البيت) بهذه الآية وفيها مسائل: الأولى: ذكرت الآيتان لفظ الناس، وفي الجمع بينهما بيان لحقيقة وهي أن المسلمين يقومون بتبليغ الناس بما يجب عليهم من الفرائض والواجبات. الثانية: (خير أمة) هي التي تمتثل لأوامر الله، وتأتي بما يجب عليها من الواجبات. الثالثة: بيان إستحقاق المسلمين لمنزلة (خير أمة) وفق القياس الإقتراني: الكبرى: الأمة التي تؤدي الحج هي خير أمة. الصغرى: المسلمون يؤدون الحج. النتيجة: المسلمون خير أمة. الرابعة: من الآيات في التكاليف وجود أسباب للترغيب تبعث على إتيانها , ومنها في فريضة الحج: الأول: الحج فريضة وواجب، ويتفاعل الوجوب مع خصال العبودية عند الإنسان، وهو من أسرار نفخ الروح من عند الله فيه، قال تعالى في آدم[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ). الثاني: وجود أمة تمتثل لأمر الله بالحج ليتجلى يسر أداء الفريضة، والمنافع العظيمة لأداء مناسك الحج. الثالث: تعيين زمان ومكان الحج على نحو ثابت منذ خلق آدم الله وإلى يوم القيامة، وتلك آية في الأرض تتحدى قانون التغير والتبدل. الرابع: جعل الله البيت أمناً من الفزع والخوف. الخامس: الثناء من الله على الأمة التي تؤدي وتتعاهد فريضة الحج. الخامسة: من خروج المسلمين للناس بخصوص الحج أمور: الأول: أداء المسلمين لفريضة الحج أسوة حسنة للناس. الثاني: ترغيب الناس بالإسلام لأنه شرط في أداء الحج وقبوله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ). السادسة: المسلمون(خير أمة) لأنهم يأمرون بأداء الحج، ويحثون عليه وهو من الأمر بالمعروف، وهذا الأمر عام إذ يشمل أمر المسلمين بعضهم لبعض بأداء فريضة الحج، وتعاونهم في الوصول إلى البيت الحرام وتيسير أداء المناسك ونبذ الخصومة والخلاف أثناء الحج، قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ). السابعة: في قوله تعالى(ولله على الناس) حث للمسلمين على تعاهد فريضة الحج، ومن خصال(خير أمة) عدم الإلتفات إلى إعراض الناس عن التكاليف العبادية، ومنها فريضة الحج، قال تعالى[وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ]( ). الثامنة: في الحج مناسك متعددة , وهي على وجوه: الأول: المناسك التي داخل البيت الحرام كالطواف وصلاة الطواف عند المقام. الثاني: ما يؤدى بجوار البيت كمنسك السعي بين الصفا والمروة، قال تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( ). التاسعة: أداء المسلمين الحج شاهد على إيمانهم بالله وتصديقهم بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الجمع بين الآيتين دليل على أن الإيمان إعتقاد بالجنان , وعمل بالجوارح وسعي لمواطن العبادة، وبذل للأموال في سبيل الله[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ]( ). العاشرة: حث الناس لدخول الإسلام، وأداء الحج الذي فرضه الله على الناس جميعاً، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم نعمة أداء هذه المناسك والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار. الحادية عشرة: الحج تهذيب للأخلاق، وطرد للنفس الشهوية والغضبية، وواقية من الفسوق والفجور والخروج عن طاعة الله. صلة(ومن كفر فان الله غني عن العالمين)بهذه الآية وفيها مسائل: الأولى: تجاهد(خير أمة) في محاربة الكفر والكافرين، وتدعو الناس لأداء الفرائض. الثانية: إن الله عز وجل غني عن العالمين سواء كفر شطر منهم أو لم يكفر، وأداء المسلمين الحج خير محض لهم أنفسهم. الثالثة: حج المسلمين للبيت الحرام حجة على الكفار، وترغيب لهم بالإسلام، ليكون المسلمون رحمة من الله عز وجل في أدائهم الواجبات العبادية. الرابعة: يتلو المسلمون آية السياق، فيشكرون الله عز وجل على النجاة من براثن الكفر والعناد والجحود بالمناسك. الخامسة: يتضمن قوله تعالى(ومن كفر) الإنذار والوعيد، وجاء خاصاً بالكفر، والإمتناع عن أداء فريضة الحج إلا أنه فرع قانون كلي في الإرادة التكوينية وهو غنى الله عن الخلائق كلها، وهو غير محتاج إلى العبادة ولكنها لصالح الناس أنفسهم، وتلك حقيقة أدركها المسلمون ببركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففازوا بصفة(خير أمة). السادسة: تقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير أمة أخرجت للناس والله غني عن العالمين). السابعة: بيان حقيقة وهي أن أمر المسلمين بالمعروف , ونهيهم عن المنكر لمنفعتهم ومنفعة الناس، لأن الله عز وجل غني عن أطراف المعروف والمنكر. الثامنة: من صفات الله عز وجل أنه غني غير محتاج، وهذا الغنى مطلق في موضوعه وحكمه وأزليته وأبديته. التاسعة: إن غنى الله عز وجل عن العالمين لم يمنع من فضله تعالى باخراج المسلمين للناس، وتلك آية في بديع الخلق، فالغنى عن الناس لايعني تركهم وشأنهم، وارجائهم إلى يوم الحساب، وكما يقول بعض الفلاسفة أن الله خلق الناس ثم تركهم، بل إنه سبحانه يقرب الناس إلى منازل الطاعة باخراج أفضلهم وأحسنهم إليهم جميعاً لجذبهم لمنازل الإيمان وأداء الفرائض، ومنها حج البيت، و(خير أمة) تجتهد في السعي لإرتقاء الناس إلى مراتب الهداية والرشاد. وفي الآية حجة على الكفار فمع غنى الله عز وجل عنهم فانه سبحانه بعث الأنبياء وأنزل الكتب وأخرج(خير أمة) لهم، وفيه آية من حب الله عز وجل لعباده، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فانه سبحانه يتعاهد الخلافة في الأرض ببيته ومن يحجه ويعمره ويستقبله في صلاته فهو من (خير أمة) وعمارته للبيت من مصاديق خروجه للناس لأن عبادته لله دعوة للناس لمحاكاته وإتباعه، والفوز بالثواب من عند الله. صلة آية[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ) بهذه الآية الصلة بين بدايتي الآيتين وفيها مسائل: الأولى: جاءت الآيتان خطاباً للمسلمين والمسلمات. الثانية: كل من الخطابين يحمل صفة الإستغراق والتجدد إلى يوم القيامة، فيتوجهان لكل مسلم ومسلمة , وأجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة. الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين: يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة أخرجت للناس. الرابعة: بيان الأثر المتبادل بين الآيتين، فصبغة الإيمان التي يتصف بها المسلمون علة إجتبائهم لمنزلة(خير أمة). ومقامات(خير أمة)عون للمسلمين لتعاهد الإيمان، وأداء وظائفه العقائدية والعبادية. الخامسة: كما تقسم هذه الآية الناس إلى قسمين(خير أمة) وعموم الناس الذين أخرجت لهم، فإن الآية أعلاه تقسم الناس إلى قسمين: الأول: الذين آمنوا بالله ورسوله. الثاني: أهل الكتاب والناس جميعاً، وهذا التقسيم أصل فيما ورد فيها من التحذير من طاعة أهل الكتاب. السادسة: إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وهو سبحانه ينعم على المسلمين والمسلمات بملازمة صفتين كريمتين لهم في الدنيا، وهما: الأولى: صفة الإيمان بالله والتصديق برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل الله عز وجل عليه من الكتاب. الثانية: صفة(خير أمة) من الأولين والآخرين، ومن الآيات أن كل صفة منهما إنحلالية تتغشى وتصاحب كل مسلم ومسلمة ليكونا ضياءً ينيران لهما دروب الهداية. السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين تعدد مصاديق الثناء على المسلمين في الدنيا , وهذا التعدد من اللطف الإلهي من وجوه: الأول: ندب المسلمين إلى الحفاظ على المنزلة الرفيعة التي ينالون بها الثناء من الله عز وجل. الثاني: جعل المسلمين يتسارعون في العبادات والمناسك، ويتسابقون في الخيرات. وقد يقال ربما أدى الثناء والمدح إلى التهاون والتفريط والركون لهذا الثناء، والجواب إن المسلمين منزهون منه من جهات: الأولى: شهادة الله عز وجل لهم بـأنهم(خير أمة)، وهذا التهاون لا يفعله أرباب العقول وأهل البصائر. الثانية: الثناء على المسلمين من علم الله عز وجل بما كان وما يكون إلى يوم القيامة. الثالثة: تجلي المصاديق الواقعية لجهاد المسلمين في طاعة الله قال تعالى[لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ]( ). الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان قاعدة وفق القياس الإقتراني وهي: الكبرى: المسلمون منزهون من القبائح. الصغرى: إحتمال التهاون بسبب الثناء من القبائح. النتيجة: المسلمون منزهون من التهاون بسبب الثناء. الثالث: توقي وحذر أفراد (خير أمة) من الملل الأخرى، وأهل الشك والريب، إذ تفيد هذه الآية أن الحق مع المسلمين، وتخبر آية (إن تطيعوا فريقاً) عن الضلالة في إتباع ملة وسنن تختلف عن أحكام الإسلام. الرابع: جاء القرآن بآيات البشارة والإنذار، والمفهوم العام للإنذار هو التحذير من النار ومقدمات الإقامة فيها، قال تعالى[وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ]( )، ويوم الآزفة هو يوم القيامة، سمي به لقربه، ولعل سرعة الحساب يؤمئذ منه (إذا أخذ في حسابهم لم يَقِلْ أهل الجنة إلاّ فيها ولا أهل النار إلاّ فيها)( )، أي أنهم يقضون القيلولة كل في دار الجزاء، وهذا لا يتعارض مع طول يوم القيامة وأنه[كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]( )، وسوء عاقبة الكفر والمعصية والفسوق، ولكن عمومات الإنذار تشمل تحذير المسلمين من إنصاتهم لغيرهم. الخامسة: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن السبيل إلى بلوغ المراتب العالية لا يكون إلا بالإيمان، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. السادسة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الهداية) فبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية، وبيّن للناس وجود أمة تتعاهد الإيمان، وتخرج لهم بأسباب الهداية والرشاد وهذه الأمة هم المسلمون. السابعة: من منافع الجمع بين الآيتين بيان منافع الإيمان العاجلة والآجلة، من وجوه: الأول: الثناء على المسلمين بالخطاب القرآني بصفة الإيمان. الثاني: بيان المائز بين المسلمين وغيرهم، بنيل المسلمين شرف الإيمان. الثالث: الإيمان بنبوة محمد علة لنيل صفة (خير أمة). الرابع: شمول المسلمين جميعاً بخطاب المدح والثناء. الثامنة: دعوة المسلمين للصبر والجهاد في سبيل الله كطريق لتعاهد منزلة (خير أمة) بعد إصرار الكفار على محاربة الإسلام، وبذلهم الوسع لإرتداد المسلمين عن دينهم، وبشارة سلامة المسلمين من هذه الحرب وما فيها من التعدي والجور. فمما إختص الله به (خير أمة) أن يأتي الأمر الإلهي لهم بالقتال مقترناً بالبشارة والظفر، ثم يتحقق مصداق النصر والغلبة على العدو، قال تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]( ). فقد زحفت قريش بجيوش عظيمة وخيل وعدة كبيرة على المسلمين في المدينة المنورة لإستئصال الإسلام، في بدايات الدعوة الإسلامية، فيحتمل رد فعل المسلمين بلحاظ أنهم(خير أمة) وجوهاً: الأول: الدعوة إلى الصلح وعقد العهود. الثاني: الإستسلام وإجتناب القتال. الثالث: آداب التقية , والميل إلى إخفاء الإسلام. الرابع: الصبر والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيضة الإسلام. والصحيح هو الرابع، من وجوه: الأول: دلالة الآيتين على ثبات الإيمان في نفوس المسلمين. الثاني: من خصائص(خير أمة) التصدي للكفار، وزجرهم عن محاربة الإسلام. الثالث: محاربة المسلمين للظلم والتعدي، وتعاونهم في الدفاع عن أنفسهم وهذا التعاون وإستمراره من خصائص(خير أمة) قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( )، أي يصفون أنفسهم بإنضباط في مواجهة العدو عند القتال، كأن صفهم حائط ممدود وبناء متصل متماسك. الرابع: يدل إجتماع الإيمان وصفة (خير أمة ) عند المسلمين على دفاعهم عن الإيمان وعدم إرتدادهم، لذا كان قتالهم قريشا أمراً واقعاً. الخامس: من خصائص (خير أمة) منع الأسباب التي تحول دون أمور: الأول: نزول آيات القرآن. الثاني: إتصال الوحي الذي يتجلى بالتنزيل والسنة النبوية. الثالث: الذب والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الرابع: الإمتثال للأوامر الإلهية، وما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( ). وحينما بلغ النبي محمداً زحف قريش وإرادتهم المدينة أيام معركة بدر جمع أصحابه وإستشارهم في القتال ومع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأتيه الوحي، ولا يختار إلا ما يأمره به الله عز وجل فإنه توجه إلى المسلمين قائلاً (أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاس وَإِنّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ)( )، وإرادة الأنصار لوجوه: الأول: هم أكثر الصحابة. الثاني: قطع الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعداً وأنه في ذمامهم، ويستلزم الخروج لمعركة بدر أمراً زائداً وهو الخروج من المدينة لملاقاة العدو، وأستأذنهم لهذا الأمر الجهادي، والخروج إليه أعم من الذمام والعهد الذي أعطوه , لأنهم منعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ووافقوا على الخروج معه لملاقاة العدو وإن كان هذا الخروج أعم من العهد، وهو من عمومات خروج المسلمين للناس فكما يخرجون بالتقوى والإحتجاج بالموعظة فأنهم يخرجون بالسيف لقتال الكفار. التاسعة: من خصائص(خير أمة) مجيء العون والمدد من عند الله لنصرتهم ودفع الكفار عنهم بوجوه منها: الأول: قانون الأسباب والمسببات، ومقدمات القتال في تعيين الطرف المنتصر، وجعلها لصالح المسلمين. الثاني: إرشاد المسلمين لطرق النصر، وصيغ الخدعة والمباغتة في القتال. الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( )، وليس من حصر لسبل النصر التي يتفضل بها الله عز وجل، وفيه زجر للكفار عن التعدي عليهم، ونوع معجزة في ميادين القتال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل كتب لأمته أن تكون(خير أمة) تعمل بأحكام الشريعة الناسخة والمتكاملة إلى يوم القيامة، مما يدل على سلامتهم من كيد ومكر الكفار، ومنه النصر الخالد في يوم بدر , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، ليكون من خصائص(خير أمة) نصرهم وإن كانوا قلة وضعفاء وقليلي العدة والمؤونة، وكان عدوهم قوياً كثير العدد والعدة. تحتمل منافع وآثار نصر المؤمنين يوم بدر وجوهاً: الأول: الإنحصار بيوم المعركة ووقائعها. الثاني: خصوص معارك الإسلام الأولى، وبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار. الثالث: عموم ميادين القتال، ومقدمات معارك المسلمين والكفار. الرابع: أيام النبوة ونزول القرآن. الخامس: عموم أيام الحياة الدنيا. والصحيح هو الخامس لوجوه: الأول: أصالة الإطلاق. الثاني: ورود الخطاب في الآية أعلاه لعموم المسلمين (ولقد نصركم). الثالث: تجدد آثار ومنافع معركة بدر في كل زمان ومكان. الرابع: معركة بدر شاهد إعجازي متجدد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهبة حاضرة للناس جميعاً للإتعاظ والإعتبار، وتلاوة المسلمين لها، لتكون هذه التلاوة على وجوه: الأول: إستحضار واقعة بدر وما تحكيه من نصر المسلمين في القتال بفضل من الله , قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ) . الثاني: تجديد العهد بمعجزة نصر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين. الثالث: الشكر لله عز وجل على نعمة النصر بالمعجزة. الرابع: تعاهد منازل العز التي بلغها المسلمون بالنصر يوم بدر. الخامس: إنذار الكفار من نصر المسلمين بالمعجزة. السادس: الإخبار عن حقيقة وهي تخلف كثرة عدد وعدة الكفار عن تحقيق النصر عند لقاء المسلمين لأن المدد الملكوتي قريب منهم، فليس ثمة وقت أو مسافة بين نزول الملائكة للمعركة وحضورهم ومشاركتهم في القتال. السابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار والظالمين، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة)( ). الثامن: بيان حقيقة وهي ملازمة النصر للإسلام، وفيه حث ودعوة للناس لدخول الإسلام. التاسع: إختصاص المسلمين بنعمة النصر على الأعداء من بداية الدعوة وأيام البعثة النبوية مع قلة المسلمين عدداً وعدة، وهو من النعم الإلهية على المسلمين وأسباب تعاهدهم لمنزلة (خير أمة) أي أنهم لم يصلوا لهذه المنزلة ويبقوا فيها إلا بنعمة من الله عز وجل. الصلة بين (يا أيها الذين آمنوا) وبين هذه الآية وفيها مسائل: الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه: الأول: يا أيها الذين آمنوا أخرجتم للناس. الثاني: يا أيها الذين آمنوا تأمرون بالمعروف. الثالث: يا أيها الذين آمنوا تنهون عن المنكر. الرابع: يا أيها الذين آمنوا تؤمنون بالله. الخامس: يا أيها الذين آمنوا لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم. الثانية: إخبار المسلمين بأن خروجهم إلى الناس بصفة الإسلام، ومضامين الإيمان، ويدل في مفهومه على لزوم تعاهد المسلمين للوظائف العبادية. الثالثة: الملازمة بين الإيمان والخروج فلا يصح الخروج إلا بالإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتلك درجة رفيعة لم يبلغها إلا المسلمين لذا رزقهم الله عز وجل مرتبة(خير أمة). الرابعة: بيان المسؤوليات العقائدية التي تصاحب الخروج إلى الناس خصوصاً وأنه عام من طرفين: الأول: الأمة التي تخرج للناس. الثاني: الناس جميعاً الذين يخرج لهم المسلمون، وهذا العموم من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، من وجوه: الأول: ليس من إنسان خارج من طرفي هذا الخروج، فكل إنسان إما أن يكون مسلماً خارجاً للناس، وأما أن يكون غير مسلم أخرج الذين آمنوا , ويكون خروج المسلمين على وجوه: الأول: خروج المسلمين جميعاً للناس كافة. الثاني: خروج المسلمين لأهل الكتاب , وحثهم على إتباع البشارات التي وردت في التوراة والإنجيل. الثالث: خروج المسلمين للكفار والمشركين بالتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، ونبذ الشرك والضلالة. الرابع: خروج المسلم الواحد للناس جميعاً. الخامس: خروج المسلمين بعضهم لبعض، ومنه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ( )، أي إمنعه عن الظلم إن كان ظالماً، وإدفع عنه الظلم إن كان مظلوماً , وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . السادس: خروج المسلمين لفريق وطائفة من الناس، كما في هذه الآيات، وتحذيرهم من أهل الكتاب وتلاوة آيات الإنذار عليهم. الثاني: كل مسلم ومسلمة يخرجان للناس جميعاًَ، وفيه بيان لوظائف كل مسلم ومسلمة، وهذا لا يتعارض مع الموجبة الجزئية في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] لأن الواجبات على قسمين: الأول: الواجب العيني. الثاني: الواجب الكفائي. ومن الإعجاز والخصائص في(خير أمة) أنهم يؤدون الواجبات العينية والكفائية بتآزر وتفان وهو من صفات (خير أمة) بلحاظ أنه لو دار الأمر في أداء (خير أمة) أنه على الوجه الأتم أم الناقص، فالصحيح هو الأول لوجوه: الأول: إنه من معاني أفعل التفضيل (خير). الثاني: حصول الإجتباء من عند الله عز وجل. الثالث: تلقي خير أمة المدد والعون والتوفيق من الله، ونصرة الملائكة لها ونزولهم للأرض للقتال مع المؤمنين. ولم تقل هذه الآية (كنتم خير أمة خرجت للناس) بل جاء الخروج على نحو المبني للمجهول لبيان أن الله عز وجل هو الذي أخرج المسلمين لأنهم بلغوا مراتب الإيمان , وفيه دلالة على إستحقاق المؤمنين للإكرام, وتفضل الله عليهم بالمدد. وهل في الخروج بشارة نيل المسلمين الحكم , الجواب نعم , وإستلامهم الحكم من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة لمّا إحتجوا على خلق الإنسان , وجعله خليفة في الأرض لما يقوم به من نشر الفساد وسفك الدماء، قال تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علمه تعالى أن المسلمين أخرجوا للناس لإصلاحهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد وأن يكون لهم نصيب في الملك يباشرون بواسطته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , نعم لا يتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الملك والسلطان، وإن تباينت كيفية الأداء والحال، وهما مقدمة لنيل الملك والسلطان، وتلك خصوصية (لخير أمة) بأن الله عز وجل رزقهم سلاح الملك بواسطة أمور : الأول: الإيمان بالله. الثاني: الأمر بالمعروف. الثالث: النهي عن المنكر، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ). ويحتمل سعي المسلمين لتولي الحكم وجوهاً: الأول: يسعى المسلمون بدأب لإستلام الحكم في البلاد الإسلامية. الثاني: لا يسعى المسلمون للحكم. الثالث: ليس في هاتين الآيتين ما يدل على موضوع الحكم. الرابع: إن جاء الحكم للمسلمين قبلوه وإلا تركوه. والصحيح هو الأول، من وجوه: الأول: إنه من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآلة مباركة. الثاني: إنه مقدمة للأمر والنهي في مرضاة الله. الثالث: لو إستلم أعداء الإسلام الحكم فإنهم يتخذونه مانعاً دون تطبيق أحكام الشريعة. الرابع:حكم المسلمين وسيلة لدخول الناس في الإسلام. الخامس: لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وحاكماً بالحق، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ). السادس: الحكم بما أنزل الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتحقق مصداقه إلا بحكم المسلمين لأنفسهم، ليكون هذا الحكم مرآة للناس في سبل الحق والهدى والإستقامة. الخامسة: لا يقف الإيمان عند الإقرار بالعبودية لله عز وجل والتسليم بإنعدام الشريك له سبحانه، فلا بد من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وما أنزل الله من آيات القرآن، والعمل بأحكامها ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون من خصائص(خير أمة) أمور: الأول: الجمع بين المبدأ والعمل. الثاني: تفقه المسلم في الدين لمعرفة مصاديق المعروف التي يأمر بها، ومصاديق المنكر التي ينهى عنها. الثالث: التعاون والتعاضد بين المسلمين للإمتثال الأمثل للأمر الإلهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الرابع: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل لتثبيت الإيمان في نفوس المسلمين. السادسة: دعوة المسلمين لتعاهد منزلة(خير أمة) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. السابعة: بعث السكينة في نفوس الناس جميعاً من المسلمين ودعوتهم إلى الله عز وجل، لأنهم لا يأمرون إلا بما تدرك العقول أنه حسن ذاتاً وأثراً، ولا ينهون إلا عما هو قبيح ذاتاً وأثراً. الثامنة: تذكر الآيتان إيمان المسلمين بالله، وفيه أمور: الأول: توكيد إيمان المسلمين، ورسوخه وزيادته بفضل من الله، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى]( ). الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضاً، وجاءت الآية محل البحث لبيان معنى إيمان المسلمين وأنه الإيمان بالله عز وجل , وتقدير الجمع بينهما يا أيها الذين آمنوا بالله) وتأتي آيات يفيد الجمع فيها إيمان المسلمين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من تعارض بينها. الثالث: توجيه الدعوة للناس على نحو متكرر للإيمان بالله، وبيان حقيقة وهي الملازمة بين الإيمان بالله ودخول الإسلام. الرابع: إنذار الكفار الذين يصرون على العناد والجحود. التاسعة: حث أهل الكتاب على الإلتحاق بالمسلمين والنطق بالشهادتين لأن فيه خير الدنيا والآخرة. العاشرة: دعوة المسلمين إلى أمور: الأول: الحيطة والحذر من الفاسقين. الثاني: ترغيب الفاسقين بالإيمان، وجذبهم لمنازله. الثالث: حثهم على ترك الفسوق والمعاصي بلسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحادية عشرة: إنذار الفاسقين من العذاب الأليم يوم القيامة، قال تعالى[وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ( ). الثانية عشرة: إيمان المسلمين بالله أصل وحدتهم، ومرآة لإتحادهم في سبل الصلاح، وجهادهم ضد النفس الشهوية والغضبية، وأسباب الفرقة والتشتت إلى فرق ومذاهب. صلة(أن تطيعوا فريقاً…….) بهذه الآية جاءت الآيتان خطاباً مباشراً للمسلمين، فلم تقل هذه الآية(كانت أمتك خير أمة أخرجت للناس) بالتوجه في الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه وجوه: الأول: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ضمن الأمة، وهو إمامها في موارد الخير. الثاني: لما جاءت هذه الآية بأفعل التفضيل (خير) فلابد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم داخل في الطرف الفاضل، وهو أفضله, وهو صاحب الكمالات الإنسانية الثالث: موضوعية إشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي خطاب التفضيل. الرابع: بيان إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أمته (خير الأمم). الخامس: توكيد جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبلوغ أمته مرتبة (خير أمة). السادس: وقاية المسلمين من طاعتهم لغيرهم لإجتماع خصال حميدة ينفردون بها وهي: الأولى: أنهم خير أمة. الثانية: مجيء الخطاب الإلهي لهم بصفة الإيمان. الثالثة: خروجهم للناس وأنهم خرجوا لهم في أبواب الإيمان والهداية، قال تعالى[أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ] ( ). فيها مسائل: الأولى: في الوقت الذي جاءت هذه الآية بالإخبار عن كون المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تضمنت الآية أعلاه تحذير المسلمين ونهيهم عن طاعة فريق من أهل الكتاب، فهل من تعارض بين الأمرين الجواب لا، من وجوه: الأول: جاءت الآية أعلاه بالنهي من عند الله للمسلمين، ليتخذه المسلمون موضوعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الثاني: فيه دليل على أن المسلمين (خير أمة) لأن الله عز وجل هو الذي ينهاهم عن القبيح، ويحذرهم مما فيه الضرر والأذى عليهم، قال تعالى[وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ). الثالث: في الآية تحذير للمسلمين من الركون والطاعة لغيرهم. الرابع: في الآية دعوة للمسلمين لكي ينهى بعضهم بعضاً من طاعة غيرهم. الخامس: يدل مفهوم الآية على وجوب طاعة المسلمين لله ورسوله وعدم الإنصات والإتباع لما يأتي به غير المسلمين، وفي الزجر عن طاعة الكفار قال الله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ). الثانية: لما أخبرت هذه الآية عن كون المسلمين(خير أمة) جاءت آية (إن تطيعوا فريقاً) عن صفة من صفات المسلمين وهي عدم إمتثالهم لفريق من أهل الكتاب، لأن (خير أمة) تمنح وتعطي للآخرين معاني في الحسن والصلاح، ولا تقتبس منهم معاني الكفر والجحود، وهو من الإعجاز في ماهية خلق الإنسان وقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ يتعاهد المسلمون مفاهيم الإيمان ولا يخلطون معها ضدها. الثالثة: بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل أنعم على(خير أمة) من وجوه: الأول: الغنى وعدم الحاجة للأمم الأخرى. الثاني: تعيين كيفية المعاملة، والصلات مع الأمم الأخرى. الثالث: الإنذار والتحذير الصريح للمسلمين من طاعتهم للأمم الأخرى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ). الرابع: بيان منهج ثابت يجب أن يعمل به المسلمون وتكون له موضوعية في تعاهد منزلة(خير أمة). الخامس: بعث اليأس في نفوس أهل الكتاب والكفار من الإضرار بالمسلمين. الرابعة: دعوة الناس لدخول الإسلام لما فيه من العز والرفعة والغنى عن الناس، والتحذير من الأعداء. الخامسة: من إعجاز الآية بيان أسباب النهي عن طاعة أهل الكتاب وأنه الخشية من حصول الردة من بعض المسلمين في أمور: الأول: حسن الفعل في أمور الدين والدنيا ومعرفة أحوال الناس. الثاني: إرتقاء المسلمين في مراتب المعارف الإلهية. الثالث: دعوة المسلمين لتعاهد مفاهيم الأخوة بينهم لتكون واقية من الركون إلى الظالمين أو طاعة أهل الكتاب، وهو من الإعجاز وصف المسلمين بالإيمان الإستغراقي الشامل لهم بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ). السادسة: ثبات المسلمين في مراتب(خير أمة) وإزالة الموانع العرضية الطارئة التي تحول دون بقائهم في هذه المنزلة. السابعة: يحتمل نهي الله للمسلمين عن طاعة أهل الكتاب وجوهاً: الأول: إنه من خروجهم للناس. الثاني: لا صلة لهذا النهي بالخروج لأن القدر المتيقن من موضوعه هو الإحتراز الذاتي(لخير أمة). الثالث: إنه مقدمة لتعاهد منزلة (خير أمة). الرابع: إنه رشحة من رشحات منزلة(خير أمة) وبإستثناء الوجه الثاني فإن الوجوه الثلاثة الأخرى من مصاديق الآية الكريمة ومضامينها القدسية، ولم تنل أمة من الموحدين مثل المسلمين نعمة النهي عن طاعة غيرهم، ليكون مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل على هذه النعمة، ويتجلى الشكر في المقام على وجوه: الأول: الشكر القولي باللسان، ومن إعجاز سياق الآيات ونظم القرآن إبتداؤه بالحمد لله عز وجل، بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ). الثاني: تلاوة هذه الآية الكريمة، وتكون على شعب: الأولى: القراءة في الصلاة. الثانية: التلاوة المندوبة. الثالثة: تلاوة الآية للوقاية من طاعة أهل الكتاب. الرابعة: تلاوتها عند التعدي ومحاولات النفوذ إلى المسلمين والتأثير عليهم. الثالث: الشكر الفعلي ومن مصاديقه : الأول: طاعة الله ورسوله. الثاني: تقوى الله والتقيد بأحكام الشريعة والوظائف العبادية، قال تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ). الثالث: التوقي والحذر من الذين يريدون من المسلمين طاعتهم عن الإمتثال لأوامرهم. والشكر من مقامات العارفين، ليجعل الله عز وجل المسلمين حملة لواء الشكر لله عز وجل وإلى يوم القيامة بما أنعم عليهم، ومن هذه النعم إجتباؤهم لمرتبة(خير أمة) ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب. الثامنة: جاء قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) للإخبار عن حصول الإيمان عند المسلمين، وجاءت خاتمة الآية ليتعاهد المسلمون هذه الحال التي نالوا بها منزلة (خير أمة) للتعارض بين الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين طاعة أهل الكتاب. التاسعة: إن أهل الكتاب والناس جميعاً مأمورون بطاعة الله ورسوله، فلا تصح طاعة غيرهم لهم، فجاءت هذه الآية لتحذير الناس جميعاً من طاعتهم لأهل الكتاب وأهل الشرائع المنسوخة، ليكون من خصائص (خير أمة) أنهم أسوة حسنة للناس جميعاً في جهة الطاعة لله عز وجل . وبينما أمر الله عز وجل بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرنها بطاعته قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ) فإنه سبحانه حذّر من طاعة المسلمين لأهل الكتاب مما يدل على التباين والتضاد في الموضوع والحكم بين الأمرين. العاشرة: لقد ذكرت الآية أهل الكتاب والنهي عن طاعتهم على نحو الخصوص، والقدر المتيقن من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، ولم تذكر غيرهم من الناس، وفيه وجوه: الأول: تتضمن الآية في دلالتها التضمنية النهي عن طاعة الكفار من باب الأولوية القطعية. الثاني: إحتراز المسلمين من الكفار من الأصل وإجتنابهم لطاعتهم، وإن لم تذكر هذه الآية النهي عن طاعتهم. الثالث: لا يخشى المسلمون من الكفار في هذا الباب، لأنهم لا يطيعون الكفار في شيء، إنما ورد التحذير بخصوص أهل الكتاب لما عندهم من أنباء الكتب السماوية الأولى. والصحيح هو الأول، فإن إجتناب طاعة الكفار حاجة للمسلمين، وقد وردت الآيات بقتال الكفار، فلا بد من عدم طاعتهم وكما جاءت هذه الآية بالتحذير من طاعة أهل الكتاب , فقد ورد تحذير المسلمين من طاعة الكفار، قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ). الحادية عشرة: في خروج المسلمين للناس بيان صفة ثابتة عندهم وهي عدم طاعتهم لغيرهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان حقاً لم تكذبوهم ، وإن كان باطلاً لم تصدقوهم) ( ). الثانية عشرة: من خصائص(خير أمة) تأديب الله عز وجل لهم بزجرهم عن طاعة الأمم الأخرى. الثالثة عشرة: لقد قام فريق من أهل الكتاب بتحريف البشارات التي وردت في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومن خصائص(خير أمة) عدم الإلتفات إلى هذا التحريف والإكتفاء بما ورد في القرآن من الإخبار عن تلك البشارات في القرآن، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ). الرابعة عشرة: لما جاءت هذه الآية بالإخبار عن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحثهم عليه جاءهم النهي عن إتباع وطاعة أهل الكتاب لما فيها من أسباب التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الخامسة عشرة: بيان التعارض بين الأمر بالمعروف وطاعة أهل الكتاب ويدل في مفهومه على أمور: الأول: عدم أمر أهل الكتاب بما فيه الهداية والصلاح. الثاني: غنى المسلمين بالقرآن والسنة عما يأتي به غيرهم. الثالث: الأصل هو طاعة الناس(لخير أمة) وليس العكس. السادسة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان قانون وهو عدم طاعة الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله بدليل قوله تعالى في هذه الآية[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]. السابعة عشرة: طاعة المسلمين لأهل الكتاب وغيرهم برزخ دون إدراكهم لضرورة إيمانهم، وسبب لإعراضهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وغالباً ما يعرض الإنسان عن أوامر ونواهي الذي يطيعه ويتبعه، وكأنه أدنى منه. الثامنة عشرة: توكيد التنافي والتناقض بين الإيمان والكفر. التاسعة عشرة: سلامة وإمتناع المسلم عن الكفر ومفاهيم الضلالة لأن الآية تخاطب المسلمين بصبغة الإيمان، وتبين لهم الآثار الضارة المترتبة على طاعة أهل الكتاب التي جاءت ذات الآية بالنهي والتحذير من طاعتهم، أي أن إرتداد المسلم سالبة بإنتفاء الموضوع، لأن(خير أمة) طائعة لله عز وجل مستجيبة لأمره ونهيه مجتمعة ومتفرقة . العشرون: ترى لماذا قالت الآية (فريقاً من أهل الكتاب) بلغة الإجمال، ولم تطلق الآية جهة المنهي عنه، فلم تقل الآية (ولا تطيعوا أهل الكتاب) ولم تذكر فريقاً أو طائفة مخصوصة من أهل الكتاب كاليهود أو النصارى , وفيه مسائل: الأولى: وردت الآية بصيغة التبعيض وإرادة التحذير من عموم أهل الكتاب. الثانية: القرآن يفسر بعضه بعضاً، وجاءت آيات من القرآن بالتحذير من اليهود في المدينة الذين كانوا ينقضون العهود التي يعقدونها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الثالثة: خصوص فريق من أهل الكتاب يسعون لإرتداد المسلمين. والصحيح هو الأولى، لوجوه: الأول: إخفاء تعيين الفريق المنهي عن طاعته ليكون المسلمون في حذر وحيطة من أهل الكتاب جميعاً فيما يخص إجتناب طاعتهم. الثاني: لقد أخفى الله عز وجل ليلة القدر بين الليالي، والصلاة الوسطى بين الصلوات قال تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( )، ليكون من إعجاز القرآن إخفاء ما فيه تعظيم شعائر الله للإجتهاد في طاعة الله وطلب ليلة القدر والصلاة الوسطى وما فيها من الثواب العظيم وإجتناب طاعة أهل الكتاب جميعاً حذراً من سعيهم لإرتداد المسلمين عن دينهم. الثالث: لقد جعل الله عز وجل الكفاية والهدى في طاعته وطاعة رسوله ولا يصدق على المسلمين أنهم(خير أمة) إلا بهذا القيد. الرابع: جاء النهي عن الطاعة بصفة أهل الكتاب للإشارة إلى موضوع النهي، وأنه يتعلق بسلامة تعاهد المسلمين لإيمانهم ولمنزلة(خير أمة). الحادية والعشرون: لما أخبرت هذه الآية عن كون دخول الإسلام خيراً وأحسن لأهل الكتاب مطلقاً جاءت هذه الآية بنهي المسلمين عن طاعتهم وإتباعهم ليكون إحتراز وإجتناب المسلمين لطاعتهم وسيلة لجذبهم للإيمان. الثانية والعشرون: يفيد الجمع بين الآيتين الإعجاز في إعانة كل آية قرآنية المسلمين في الإمتثال لأحكام الآية القرآنية. الثالثة والعشرون: جاءت آية(ولا تطيعوا فريقاً)بلغة الإنذار والتحذير من الإرتداد، وفيه وجوه: الأول: إيمان المسلمين مستقر وثابت في نفوسهم فهم في حرز من أهل الكتاب وطاعتهم. الثاني: يكون الإيمان متزلزلاً وغير مستقر. الثالث: التفصيل فأنه مستقر وثابت في أجيال وطبقات من المسلمين دون أخرى. الرابع: يكون الإيمان ثابتاً عند المسلمين في حال السلم والأمن، ويكون متزلزلاً عند الخوف والإستضعاف. والصحيح هو الأول، وفيه مسائل: الأولى: الإيمان مستقر في نفوس المسلمين بدليل قوله تعالى في هذه الآية(كنتم خير أمة) فمن خصائص(خير أمة) ثبات الإيمان في نفوسهم. الثاني: ليس من ملازمة بين تزلزل الإيمان وبين طاعة أهل الكتاب. الثالث: مصاحبة التحذير من طاعة أهل الكتاب للمسلمين من المدد الإلهي لهم، وسبل إستقرار الإيمان في نفوسهم. الرابعة والعشرون: في الآية تحد وإنذار لأهل الكتاب وغيرهم بأن المسلمين لا يتبعونهم ليكف الناس عن بث الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمتنعوا عن محاولات إغواء وإرتداد بعض المسلمين. الخامسة والعشرون: تدل الآية على نفرة المسلمين والمسلمات ممن يدعوهم إلى ما فيه إرتداد ظاهر أو خفي. السادسة والعشرون: لقد ذكرت آية(إن تطيعوا) تحذير المسلمين من طاعة أهل الكتاب إلا أنها لم تبين مقدمات وأسباب هذه الطاعة المنهي عنها، وهي على وجوه: الأول: إحتمال حصول الطاعة إختيارياً من المسلمين. الثاني: قيام أهل الكتاب وغيرهم بإكراه المسلمين على طاعتهم. الثالث: ترغيب وإغواء المسلمين. الرابع: قيام الكفار بقتال المسلمين لحملهم على الإتداد، قال تعالى[وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( )، أما الوجه الأول فهو بعيد لأمور: الأول: يدل إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) بالدلالة التضمنية على تنزه المسلمين والمسلمات من الإرتداد. الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، ومنه تعاهد الإسلام، وحث المسلمين بعضهم بعضاً على الثبات في منازل الإيمان، ودعوتهم لأهل الكتاب للإسلام. الثالث: ينهى المسلمون عن المنكر، ومن أبغض وأشد أفراد المنكر الإرتداد والدعوة إليه. أما الثاني فهو أمر محتمل لذا جاءت آيات القرآن بالأمر للمسلمين بالجهاد والدفاع عن الإسلام، قال تعالى[وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ]( ). أما الثالث فكل من الآيتين على وجوه: الأول: إنهما برزخ دون ميل المسلمين إلى طاعة أهل الكتاب. الثاني: تحذير من محاولات الإرتداد. الثالث: بعث المسلمين على التفقه في الدين، ومعرفة مقاصد أعداء المسلمين. والرابع صحيح لذا جاءت هاتان الآيتان عوناً وتعضيداً لآيات الجهاد والقتال في سبيل الله، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، والذين يقاتلون ظلماً وتعدياً لا يستطيعون تحقيق النصر على(خير أمة) الذين يقاتلون إمتثالاً لأمر الله عز وجل. السابعة والعشرون: في النهي الوارد في آية السياق(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أطراف: الأول: المسلمون وهم الجهة التي يتوجه إليها الخطاب. الثاني: فريق من أهل الكتاب يسعى لإرتداد المسلمين كما تدل عليه الآية السابقة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]. الثالث: موضوع الطاعة الذي يكون مصداقاً للأمر المنهي عنه وهو طاعة أهل الكتاب. الرابع: موضوع الطاعة الذي يكون مصداقاً للنهي. ومن الإعجاز أن كل فرد من هذه الأطراف ينحل إلى مصاديق متعددة في كل زمان ومكان، لذا جاءت الآية بلفظ(فريق) وما يدل عليه من الإجمال وعدم التعيين والحصر، الشخصي والجهتي ليكون النهي عنه متجدداً ومتصلاً ودائماً، ومع أن النهي أمر سلبي وزجر إلا أنه أمر وجودي لما فيه من إرادة الإمتناع عن الفعل المنهي عنه وما يترتب على الإنزجار والإمتثال فيه من الأجر والثواب العظيم. الثامنة والعشرون: ورد النهي عن طاعة أهل الكتاب في موضوعه مطلقاً، غير مقيد بأمر مخصوص من أمور الدين والدنيا، فبينما جاء التبعيض في الجهة المنهي عن طاعتها وهم فريق من أهل الكتاب فإن الموضوع المنهي عنه لم يقيد , والأصل فيه الإطلاق أي إن الله عز وجل ينهى المسلمين عن طاعة أهل الكتاب في كل شيء يتعلق بأمور دينهم، ومقدماتها وأسبابها وإن كانت ذات صبغة دنيوية. بحث فضل القرآن على الشعر العربي ينقسم الكلام العربي إلى فنين: الأول: الشعر: وهو الكلام الموزون المقفى، ويتألف من أبيات كل بيت ينتهي بذات الخاتمة الحرفية وتسمى القافية والقرآن وإن كان من المنثور إلا أن لغته إعجاز خاص في اللفظ والمعنى، ويدل على أنه فوق كلام البشر، وفيه فضل على اللغة وعلومها وفنونها. الثاني: النثر: وهو الأكثر والأعم إستعمالاً بين الناس، فيتكلم الشاعر النثر، ولا يتكلم غير الشاعر الشعر، نعم من النثر السجع وهو الذي يؤتى به على نحو الفواصل والقطع، وبعد كل كلمتين أو ثلاثة قافية واحدة ومنه المرسل الذي يطلق إطلاقاً بغير قافية وهو الشائع في الإستعمال. وليس من حصر لمواضيع فضل القرآن على العربية والذي تقدم بحثه في جزء سابق( )، وفضله على الشعر العربي وتوثيقه، ومن اللغويين من يرجع إلى الشعر العربي القديم لمعرفة معاني بعض ألفاظ القرآن، وبالإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظت القصائد الخالدات، وإرتقى الشعر في الإسلام، وصارت له قواعد وأوزان وبحور وضوابط خاصة، وكان أكثر شعراء العرب في الجاهلية لايحسنون القراءة والكتابة. ولم تثبت مسألة المعلقات السبعة، ولكن علماء الإسلام وحملة القرآن هم الذين أخرجوها وحفظوها إذ قام حماد الراوية( )، بالطواف في البادية وجمع القصائد. والأصل في حفظ هذا الشعر هو القرآن ولغته وحملته من علماء الإسلام، إذ تعاهدوا لغة القرآن بالضبط وتبيان الألفاظ، بلحاظ أنهم مسلمون ومن(خير أمة أخرجت للناس) و يحتمل إنتماء علماء النحو وجوهاً: الأول: كلهم من العرب . الثاني: كلهم من غير العرب. الثالث: الجامع المشترك، وان شطراً منهم من العرب وشطراً من غير العرب. والصحيح هو الثالث وأكثرهم في صدر الإسلام من غير العرب، لا لما يذهب اليه ابن خلدون في مقدمته من أسباب الإختصاص بطلب العلم. إذ قال من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي. والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه. والقوم يومئذ العرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة( ). ولكن عنايتهم بعلم النحو جزء من دراساتهم القرآنية والفقهية، ومن العلماء من إشترط الإجتهاد في اللغة والنحو كشرط لبلوغ مرتبة الإجتهاد في الفقه، ولا نقول به لكفاية الإحاطة الإجمالية بقواعد النحو والصرف ومعاني اللفظ العربي وتفكيك الجملة وإرادة المشترك اللفظي أو المعنوي ونحوه، وتلك الإحاطة تستلزم الدراسة والتحصيل اللغوي بما يكون مقدمة واجبة لعلوم الفقه والأصول. وأتقن هؤلاء العلماء العربية بدخولهم الإسلام والتفقه في أحكامه، فلم يتعلموه من أجل الدنيا أو لأغراض خاصة كما لو تزوج من امرأة عربية وتعلم اللغة من أجلها، أو أنه مولى لقبيلة من العرب، أو للإبداع في الشعر العربي , بل تعلموه للتفقه في الدين وعوم القرآن , وهو من خصائص (خير أمة ) . ومن الطريف في المقام أن عالم النحو سيبويه كان يدرس الفقه في البصرة فالحن وقال له الأستاذ، الحنت يا أعجمي، وكان بيد سيبويه قلم فوضعه بين فكيه وكسره وقال: أدرس الفقه حتى أتعلم العربية فكان كتابه الخالد في النحو. وان كنا نشكل على تسميته (الكتاب) لأن هذا الاسم وإرادة الألف واللام العهدية فيه تنصرف إلى القرآن، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ] ( ) فيجب أن يسمى(كتاب سيبويه). فمن خصائص (خير أمة) أمور: الأول: حفظ لغة الكتاب المنزل. الثاني: تعاهد آيات القرآن. الثالث: إستخراج كنوز القرآن المترشحة من درر اللغة. الرابع: بيان الأسرار التي صارت معها العربية لغته على نحو التعيين. ولم يحدثنا التأريخ أن برع علماء في غير لغتهم الأصلية، وإستحوذوا على كراسي التدريس والشأن الرفيع فيها لأجيال متعاقبة، إلا في الإسلام ولغة القرآن وعلومه وهو من خصائص(خير أمة). لقد برز بالقرآن وعلومه ولغته شعراء كثيرون، وكان الإسلام السبب في تعاهد الشعر العربي، وحفظه لأسرار بلاغية في اللغة، وهو شاهد على إعجاز القرآن من جهات: الأولى: تثبيت القرآن لمفردات اللغة العربية بإعجاز وغنى ظاهر عن اللغة، وحاجتها للقرآن , قال تعالى[وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ). الثانية: بلاغة القرآن وتلاوة آياته تنمية للمنطق واللسان القويم. الثالثة: الإستعانة بالشعر العربي لمعرفة معاني كلمات القرآن. الرابعة: شيوع اللغة العربية وآدابها بالقرآن وإنتشارها في الأمصار. الخامسة: إنتشار تعلم العربية وقواعدها، وعلوم البيان فيها وترغيب الناس فيها. السادسة: إتساع رقعة حكم الإسلام وكثرة أمصار المسلمين , قال تعالى[الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ]( ). معجزة الدولة والحكم تقسم المعجزة إلى قسمين: الأول: المعجزة العقلية التي تخاطب العقول، وتتجلى بالقرآن. الثاني: المعجزة الحسية التي تدرك بالحواس كسفينة نوح، وناقة صالح وعصا موسى. ويمكن إضافة أقسام أخرى لهذين القسمين منها. الثالث: معجزة الدولة والحكم: وهو إتيان الملك والحكم بآية إعجازية خارقة للعادة، ومتعذرة بالأسباب الظاهرة في موضوعها وسعتها وإستدامتها زماناً، وتلك آية ومعجزة ينفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نعم قد جاءت هذه المعجزة لداود وسليمان من بني إسرائيل لتكون مقدمة لمعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهداً على صدق نبوته، ودليلاً على عدم أهلية غير المسلمين لمنازل (خير أمة) . إذ أن بني إسرائيل لم يتعاهدوا ملك داود وسليمان وقال بعضهم أن سليمان ملك وليس نبياً، وتشتت ملكهم، وظهر ضعفهم وإستضعفوا من الكفار الظالمين , كما في فرعون وقومه قال تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] ( )، ليكون بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في باب المعجزة عموم وخصوص مطلق من وجوه: الأول: يشترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الأنبياء الآخرين في المعجزة الحسية، فله معجزات حسية عديدة تدل على صدق نبوته مثل إنشقاق القمر، وكلام الحصا. الثاني: إشتراك بعض الأنبياء مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معجزة الدولة والحكم مع التباين من جهات: الأولى: قلة عدد الأنبياء الذين رزقهم الله هذه المعجزة. الثانية: لم تأت هذه المعجزة لأولئك الأنبياء إلا عن توارث ملة التوحيد كما في داود وكيفية وصول الحكم له ووراثة سليمان له , قال تعالى[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ]. الثالث: إنحصار ملك الأنبياء السابقين بخصوص قومهم وأرضهم. الرابع: زوال هذا الملك في الأجيال اللاحقة، حتى إذا بعث الله عز وجل عيسى عليه السلام تعرض للأذى ثم الصلب من قبل والي السلطان فرفعه الله إليه قال تعالى[وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
    أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد إتصفت نبوته بملازمة الحكم والسعي له مدة النبوة ومن بعد الهجرة بإعتبار هذه الملازمة من المسلمات والوظائف العقائدية التي تثبت معالم التوحيد في الأرض، وهو من خصائص(خير أمة).
    (وفي تفسير الثعلبي روى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت إمرءا تاجرا فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب و كان العباس لي صديقا و كان يختلف إلى اليمن يشتري العطر فيبيعه أيام الموسم فبينما أنا و العباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام و المرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فرفع الشاب فرفع الغلام و المرأة فقلت يا عباس أمر عظيم .
    فقال أمر عظيم فقلت ويحك ما هذا فقال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله بعثه رسولا و أن كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه و هذا الغلام علي بن أبي طالب و هذه المرأة خديجة بنت خويلد و زوجة محمد تابعاه على دينه و أيم الله ما على ظهر الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء .
    فقال عفيف الكندي بعد ما أسلم و رسخ الإسلام في قلبه يا ليتني كنت رابعا) ( ).
    وفي الحديث بلحاظ معجزة الدولة والحكم مسائل:
    الأولى: إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد العبادي وليس معه إلا أهل بيته.
    الثانية: مشاركة المرأة في الريادة في الجهاد.
    الثالثة: عجز قريش عن منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن العبادة وإعلان مبادئ الإسلام بلحاظ أن الصلاة ذاتها إعلان قولي وفعلي للإسلام.
    الرابعة: إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام الحج لصلاته وإعلان نبوته وتناقل الناس من الأمصار لخبر نبوته.
    الخامسة: تشريع الصلاة في مكة بذات الهيئة والكيفية من القراءة والركوع والسجود.
    السادسة: إتفاق القاصي والداني على أن الأمر عظيم وأن شيئاً جديداً يحدث في الأرض فحينما قال عفيف: أمر عظيم، لم يسأله العباس عن الموضوع الذي هاله بل أجابه بذات العبارة واللفظ مما يدل على التسالم بإرادة موضوع واحد وهو صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها ثورة عقائدية في قريش والعالم بلحاظ أن عفيفاً جاء من اليمن وهو من التجار وعلى معرفة بأحوال الناس وله صلات عديدة منها ما كان مع العباس عن النبي.
    السابعة: الدلالة على حدوث رد فعل قاس من قريش ورؤساء الكفر.
    الثامنة: يدل حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الصلاة في منى أيام الموسم على أدائه الصلاة في البيت الحرام أيام السنة من باب الأولوية القطعية.
    التاسعة ذهاب الإمام علي وخديجة زوج النبي مع النبي إلى منى ومواطن الحج لأداء المناسك وتعاهد الصلاة، وقد تجلى الأمر في بيعة الرضوان.
    وفي قوله تعالى[كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ]( )، ذكر أن المراد من المقتسمين هم الكفار الذين إقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويمنعونهم من الإيمان به فيقولون (لا تغتروا بالخارج منا والمدعي النبوة فانزل الله بهم عذابا فماتوا شر ميتة)( ).
    وفي خروج الإمام علي وخديجة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسائل:
    الأولى: إعلان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثانية: الخروج نصرة وتأييداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته.
    الثالثة: إنه جهاد في سبيل الله، واعلان للإستعداد لتحمل الأذى والضرر في نصرة الرسالة.
    الرابعة: إعطاء رسالة للعرب الحاضرين الموسم ومن خلفهم بوجود أفراد يصدّقون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته، وان هذا التصديق لا ينحصر باللسان بل بالفعل والعمل.
    الخامسة: دعوة الناس للتدبر في آيات النبوة.
    التاسعة: بيان النظام والدقة في الفعل العبادي، ولزوم محاكاة المأمومين للإمام، وتقليد وإتباع الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أفعاله العبادية، فجاءت صلاة علي وخديجة في البيت الحرام ومنى رسالة للناس بأن الإسلام هو الإتباع والإنقياد لأوامر الله ورسوله، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل إلا ما هو طاعة لله فيجب على الناس إتيان ذات الأفعال فلا غرابة أن يخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بعد أن إتسع الإسلام وظهرت دولته(صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )، ليكون للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار شرف الإمتثال لهذا الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل صدوره، وهو شاهد على منزلتهم، ومصداق جلي من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ولا ينقص هذا المعنى من منزلة أجيال المسلمين التي تتعاهد قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعده , قال تعالى[وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ]( ).
    العاشرة: بيان بدايات الإسلام وكيف أنها أيام صعبة وشاقة.
    الحادية عشرة: توكيد منزلة المرأة المسلمة في الجهاد من وجوه:
    الأول: أنها تتحمل المسؤولية وتعمل البصيرة.
    الثاني: تستطيع التمييز بين الحق والباطل.
    الثالث: تتبع الحق وإن كان أغلب الناس في إعراض وشغل عنه.
    الثانية عشرة: في تأييد ونصرة أهل البيت نكتة عقائدية وهي حصول تصديقهم بعد معرفتهم للأحوال الخاصة للنبي ورؤيتهم للوحي، وكيفية نزول الآيات.
    الثالثة عشرة: مع أن خديجة ذات مال وتجارة فإن ظاهر الحديث يدل على عدم عنايتها بالتجارة يومئذ , وفيه وجهان:
    الأول: جاء الحديث بخصوص أيام الموسم، وأن خديجة منقطعة عن التجارة أيامها.
    الثاني: إرادة الإطلاق وأن خديجة لم تنشغل أيام البعثة في التجارة.
    والصحيح هو الثاني، فقد أنفقت أموالها في سبيل الله ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تعد لها أموال، وإنقطع النبي عن الخروج في تجارتها، وتلك آية فقد تزوجته لأمانته وطمعاً في نماء أموالها وتحسن أحوال تجارتها وإذا هي تتبعه في صلاته وتتفرغ للعبادة، وتلاقي الأذى في حصار شعب أبي طالب، وفيه أمور
    الأول: إنه شاهد على صدق إيمانها.
    الثاني: فيه دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يتخلى أهله وأتباعه عن الدنيا.
    الثالث: الحديث حجة وبيان لعظيم منزلة خديجة وجهادها في سبيل الله.
    وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امرأة فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ) ( ).
    الرابعة عشرة: بيان عظيم منزلة الإمام علي عليه السلام وجهاده المتصل في سبيل الله، وكيف أنه أسوة كريمة للمهاجرين والأنصار, وفي مسند السيد أبي طالب الهروي مرفوعا إلى ( أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صلت الملائكة علي و على علي سبع سنين و ذلك أنه لم يصل فيها أحد غيري و غيره) ( ).
    الخامسة عشرة: قول العباس(أمر عظيم) فيه مسائل:
    الأولى: إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته.
    الثانية: إنه شاهد على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة على نحو التكرار والفعل اليومي في البيت الحرام والموسم.
    الثالثة: إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمن تبعه من أهل بيته، ودعوة الناس لإتباعه في نبوته.
    الرابعة: بيان ماهية الإسلام، وأنها عبادة وطاعة لله عز وجل.
    السادسة عشرة: لغة التحدي والإخبار عن الغيب في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي الوقت الذي يكون العرب فيه مستضعفين متناحرين فيما بينهم تأتي البشارة على لسان النبي وعلى نحو الإعجاز وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح له أي أن العالم سينقاد إليه بلحاظ أن الدولة الفارسية والرومانية أقوى دولتين في العالم آنذاك، وكثير من الدول العظمى في هذا الزمان لم يكن لها وجود آنذاك.
    السابعة عشرة: لم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يملك كنوز كسرى وقيصر، ولم يقل أنها ستأتيته هبة ونحوها، بل ذكرها بلفظ أنها ستفتح له، وفيه مسائل:
    الأولى: الإخبار عن تحقيق الفتح بالجهاد والقتال، وهو من خصائص(خير أمة) إذ تجاهد لغزو أقوى الدول، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
    الثانية: وجود أمة مجاهدة وأتباع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قادرين على القتال، ودحر الجيوش العظيمة للفرس والروم.
    الثالثة: البشارة بالفتح ترغيب للناس بدخول الإسلام.
    الرابعة: تتضمن البشارة التحدي لما فيها من الأمر الخارق للعادة بلحاظ الأسباب والمقدمات، وتخلف العرب مجتمعين عن تحقيق فتح كنوز كسرى وقيصر، ولكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول أنها ستفتح عليه، مما يدل على أنها تفتح بفضل ومدد من عند الله، ولم تمر السنون والأيام إلا وتحقق واقعاً ما أخير عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الخامسة: جاء الوعد والبشارة للمسلمين في(ستفتح) والسين تفيد المستقبل القريب , فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل(سوف تفتح)، ومعاني القرب الزماني في القول تحد آخر، وحث للناس على المبادرة للإسلام.
    الثامنة عشرة: من الإعجاز أن النبي محمداً لم يخش الكيد والمكر وسعي القوى العظمى للإجهاز عليه وعلى زوجته وابن عمه، بل كان يجهر بالفتح القريب، وأن الأمر لم ينحصر بأهل البيت وأسرارهم وخصوصياتهم، بل أن العباس يخبر به المشركين، ومن أهل اليمن، وكانت اليمن يومئذ تحت حكم كسرى، فلم يخف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصول التخويف والوعيد إلى كسرى والملأ من قومه، بل كان يجاهد لدعوة الناس للإسلام، والتنعم بواسطته بالخيرات والنعم، قال تعالى[قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ]( ).
    التاسعة عشرة: في الحديث دلالة على أن المراد من الفتح أعم من فتح مكة خصوصاً وأن النبي محمداً كان يعد بفتح فارس والروم وهو في مكة.
    العشرون: في الحديث إنذار وتخويف لقريش بأن لا تحارب النبي والمسلمين بعد الهجرة إلى المدينة، فمن كتب الله عز وجل له أن يفتح بصفة النبوة بلاد فارس والروم لا تستطيع قريش أن تقهره بعددها وعدتها القليلة أزاء جيوش كسرى وقيصر، ولكن قريشاً لم تتعظ، فزحفت بجيوشها وعبيدها، فكانت الهزيمة في إنتظارهم، ولم يعد أكثر رؤسائهم إلى من كان بإنتظارهم من أهلهم قال تعالى بخصوص معركة أحد[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا].
    الحادية والعشرون: قدّم العباس في إخباره عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خزائن كسرى وفيه وجوه:
    الأول: جاء التقديم إتفاقاً، ومن غير قصد مخصوص.
    الثاني: الحديث دليل على السبق الزماني في فتح خزائن كسرى.
    الثالث: الإشارة إلى أن خزائن كسرى أكثر وأكبر.
    الرابع: معرفة الناس بخزائن كسرى أكثر من معرفتهم بخزائن قيصر.
    الخامس: سهولة الوصول إلى خزائن كسرى.
    السادس: فتح بلاد فارس قبل بلاد الروم.
    والصحيح هو الثاني والسادس، ليكون التقديم إعجازاً وبشارة وبياناً لأحوال الناس والدول.
    الثانية والعشرون: ذكر العباس لخديجة وعلي بإسميهما وصفتهما شاهد على أن بني هاشم لا يخافون بطش كفار قريش..
    الثالثة والعشرون: إجهار أم المؤمنين خديجة والإمام علي بالإسلام وإتباع النبي محمد في كل الأمور والأحوال لقول العباس (تابعاه في دينه).
    الرابعة والعشرون: إعتراف العباس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بدين جديد وأن الناس يتابعون أمر هذا الدين، وأن لم يدخلوا فيه بعد.
    الخامسة والعشرون: نصر الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام إنذار ووعيد لأقطاب الدولة الرومانية والفارسية، وسبب لبعث الفزع في قلوب جيوشهم ومقاتليهم فمن خصائص(خير أمة) خوف وفزع عدوهم منهم ومن زحفهم لا سيما وأن حبهم للشهادة وشوقهم للقاء الله معلوم عند الناس جميعاً.
    السادسة والعشرون: كانت القبلة في بداية الدعوة الإسلامية الكعبة المشرفة، وأن التوجه إلى بيت المقدس كان في المدينة المنورة ثم جاء نسخ القبلة وعادت إلى المسجد الحرام , قال تعالى[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
    ويدل الحديث في المقام على أن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار عن توليه الحكم والسلطنة في شرق الأرض وغربها، وأن الأموال تجبى إليه، ثم تحقق هذا الإخبار الغيبي في الواقع من غير أن تمر فترة طويلة عليه، إذ سرعان ما انتشر الإسلام وظهرت قوة المسلمين بسبب تعدي كفار قريش وقيامهم بغزو المسلمين في عقر دارهم، ليكون هذا التعدي سبباً لأمور:
    الأول: الإسراع في ظهور قوة المسلمين.
    الثاني: تنامي قدرات ومهارات المسلمين القتالية بفضله تعالى من جهات:
    الأولى: الأمر إلى المسلمين بالثبات على الإيمان.
    الثانية: أداء المسلمين للوظائف العبادية، وإستعدادهم للدفاع عن أدائها، وعدم تركها بأي حال من الأحوال.
    الثالثة: أمر الله عز وجل للمسلمين بقتال الكفار والفاسقين، قال تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ).
    الرابعة: الأمر الإلهي للمسلمين بتهيئة مقدمات القتال على الوجه الأتم والأمثل قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
    الثالث:بعث السكينة والأمل في نفوس المسلمين قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( )، وليس من حصر لمصاديق هذا البعث وميادينه، ومنها نزول الملائكة مدداً للمسلمين في سوح القتال، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
    الرابع: إمتلاء قلوب الكفار بالرعب والفزع من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
    الخامس: إمتناع الكفار عن غزو المسلمين.
    السادس:كسر حاجز الخوف عند الناس من قريش وأقطاب الكفر، ومبادرة الناس لدخول الإسلام , قال تعالى في خطاب بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
    السابع:إنه مقدمة لفتح مكة، وإستيلاء المسلمين على كنوز كسرى وقيصر.
    لقد شاء الله عز وجل أن تكون (خير أمة) صاحبة حكم وسلطان، وتتخذ الحكم وسيلة للعمل بأحكام الإسلام وتثبيت سنن التوحيد لأن الحكم على وجوه:
    الأول:الحكم بالشريعة السماوية.
    الثاني:التعدد والإباحة للمذاهب والملل السماوية على نحو التعيين.
    الثالث:ترك الناس وشأنهم في دياناتهم ومللهم سواء كانت سماوية أو وثنية.
    الرابع:إتخاذ الحكم والسلطنة لمحاربة الدين والشريعة السماوية.
    فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوجه الأول أعلاه، وتوكيد قبح الوجوه الأخرى، وهو معجزة خاصة له، وقيام المسلمين بحفظ وتعاهد هذه المعجزة بالحكم بما أنزل الله عز وجل من خصائص(خير أمة) وشاهد على إستحقاقهم وإنفرادهم بهذه المنزلة الرفيعة، قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
    ومن الآيات أن معجزة تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الحكم لم تأت حسب قوانين الأسباب والمسببات، والعلة والمعلول بل جاءت بمعجزة ظاهرة وإرادة سماوية قاهرة، تجلت في بعض مصاديقها بأمور:
    الأول: المدد الملكوتي ونزول آلاف من الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
    الثاني: نزول الآيات التي تتضمن تشريع الحكم.
    الثالث: السنة النبوية في تولي الحكم.
    الرابع: إصلاح القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين لتولي مسؤوليات الإمامة والإمارة.
    صلة (لم تكفرون) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى:التباين في لغة وموضوع الخطاب بين الآيتين، فجاءت الآية أعلاه في ذم أهل الكتاب لجحودهم بالآيات، أما الآية محل البحث فوردت في الثناء على المسلمين.
    الثانية: تدل الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين على علم الله عز وجل بأحوال الناس، وانه سبحانه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، مع الإخبار عن علمه هذا في الكتاب، ليكون رحمة بالناس، ومصداقاً لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
    فقوله تعالى(لم تكفرون) من علم الغيب الذي أظهره لرسوله وللمسلمين، وهو من خصائص(خير أمة) بأن يتفضل الله ويطلعهم على علوم الغيب الخاصة بما في صدور أهل الكتاب، وما يدور في منتدياتهم للحجة والبرهان وبعث المسلمين لأخذ الحيطة والحذر، قال تعالى[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
    جاءت الآيتان بلغة العموم من أطراف متعددة:
    الأول: الخطاب في الآيتين.
    الثاني: الجحود عند أهل الكتاب.
    الثالث: الآيات التي كفر بها أهل الكتاب , ويحتمل وجوهاً:
    الأول: إرادة كل آية من آيات الله عز وجل ومنها الآيات الكونية.
    الثاني: شطر مخصوص من آيات الله.
    الثالث: الآيات الخاصة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها آيات التنزيل ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية.
    والصحيح هو الثالث وفيه شاهد على حاجة أهل الكتاب والناس للمسلمين، من وجوه:
    الأول: وجود أمة مؤمنة بالله عز وجل وآياته.
    الثاني: المسلمون شهداء على صدق آيات الله في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
    الثالث: بيان قبح الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الرابع: إثبات حقيقة وهي أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات من الله عز وجل.
    الخامس: تحذير الناس من إتباع ومحاكاة الذين يكفرون بآيات الله، لقد طرأ قانون جديد على الأرض وهو تسمية ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله.
    فكما تفضل الله عز وجل وقرن طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعته بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( )، فانه سبحانه نسب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليه وإلى عظيم قدرته، وبديع صنعه ليكون قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( )، عاماً وشاملاً لآيات القرآن مطلقاً، والمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لاينحصر بآيات الأحكام، وسنن الحلال والحرام، ومن خصائص(خير أمة) في المقام وجوه:
    الأول: الأخذ بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
    الثاني: الإقرار بأن الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو آيات الله ورحمة للعالمين.
    الثالث: دعوة الناس للأخذ بآيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الرابع: ذم وتوبيخ الذين يجحدون بمعجزات وآيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الذم منطوقاً ومفهوماً على وجوه:
    الأول: تلاوة آيات القرآن التي تتضمن هذا الذم , ومنه هاتان الآيتان.
    الثاني: الإحتجاج بآيات ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثالث: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أجرى الله على يديه آياته، ودعا الناس للتصديق بها.
    لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالنبوة والتنزيل، وفي كل بعثة نبي يؤمن أناس، ويكفر آخرون، وعدد من الأنبياء تعرضوا للقتل، وكان أتباع عيسى عليه السلام في حياته قليلين.
    وإنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة الأصحاب والأتباع في حياته، ولم يكن عند نبي من الأنبياء السابقين أصحاباً بعددهم، أما ما ذكر بخصوص موسى عليه السلام وأنه خرج بستمائة ألف من بني إسرائيل هروباً من فرعون، فيحتاج إلى دليل وحكي عن ابن عباس( )،خصوصاً وانهم كانوا مستضعفين عند آل فرعون قال تعالى حكاية عن فرعون[إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( )، والشرذمة:الطائفة القليلة.
    والإستضعاف شاهد على قلة العدد في أغلب الأحوال، وهو سبب لقلة الإنجاب بدليل توكيد آل فرعون على شمول نساء بني إسرائيل بالإنتقام والإيذاء والإذلال وهو إشارة إلى منعهن من كثرة النسل، مما يدل على النظام الدقيق الذي كان عليه الفراعنة والمقترن بالقسوة والغلطة على المسلمين، وأنهم يلتفون إلى الحد من النسل عند الموحدين المستضعفين بما يحول دون كثرة عددهم، وإنتشار مبادئ الإسلام بين الناس من غير أن يتعارض مع تسخيرهم لأعمال الخدمة خصوصاً وان الذل المترشح عن الاستضعاف مانع من إنصات الآخرين لهم، بالإضافة إلى حصر بني إسرائيل إتباع موسى بقومه .
    أما نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت بآية من عند الله، وهي دعوة للناس جميعاً لإتباعه، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وقد بادرت أفواج من الناس وقبائل متعددة لدخول الإسلام، وهذه المبادرة من آيات الله أيضاً، إذ أنها شاهد نوعي عام على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أن الأصل هو إمتناع الناس عن الأمر الجديد وعدم الدخول فيه، لذا كانت العرب تسمي الذي يدخل وكانت قريش تسمي من يدخل(في دين الإسلام مَصبواً) لأنه خرج من دين إلى دين( ).
    ولم تمر إلا سنوات قليلة على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت الآيات بذم أهل الكتاب، وتسميتهم بإسمهم وإضافتهم للكتاب وليس بلغة التعريض والكناية، مما يدل على بداية حال في الأرض هو حصر الإيمان والتصديق بالمسلمين، ومواجهة أهل الشك والريب بلغة التحدي.
    وورود الذم في القرآن على عدم الإيمان بآيات الله دليل على أن المسلمين(خير أمة) إذ أنه آية من عند الله من وجوه:
    الأول: المسلمون أتباع سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويكون وفق القياس الإقتراني:
    الكبرى: أتباع سيد المرسلين خير الأمم.
    الصغرى: المسلمون أتباع سيد المرسلين.
    النتيجة: المسلمون خير أمة.
    الثاني: المسلمون أسوة حسنة للناس جميعاً في التصديق بآيات الله، ليكون الذم على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمذكور في آية السياق جلياً ومؤكداً، لأن إيمان المسلمين حجة على الناس، ومناسبة لتوجيه اللوم للذين يعرضون عن دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين يكفرون بها، والكفر أشد من الإعراض، إذ أنه أمر وجودي يتضمن الإصرار والعناد.
    الثالث: ذكر الجهة التي يتوجه لها اللوم وهم أهل الكتاب على نحو التعيين دعوة للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهات:
    الأولى: تلاوة هذه الآية.
    الثانية: إظهار النفرة من الكفار.
    الثالثة: تجلي مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجوه:
    الأول: انكار الجحود بالآيات.
    الثاني: الدعوة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثالث: الحث على دخول الإسلام.
    الرابع:من الإعجاز في آية السياق نسبة الآيات لله عز وجل، وإنها وان جرت على يد ولسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها منسوبة لله عز وجل، وهو الذي تفضل بها، ولا يستطيع غيره إتيانها، للتباين بين واجب الوجود والممكن، وكل المخلوقات ممكنة الوجود، ومحتاجة لآيات الله، فتأتي الآيات فضلاً منه تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً، وتتصف (خير أمة) في المقام بأمور:
    الأول: الإقرار والإعتراف بأن آيات القرآن نازلة من الله، وأن الملك والنبي وسائط مباركة لتبليغ الآيات ويتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد والتضحية والصبر في التبليغ وحمل الناس على التصديق بها بما يفوق ما قام به الأنبياء السابقون.
    الثاني: العمل بأحكام آيات القرآن، والتقيد بما فيها من التكاليف.
    الثالث: حث الناس على دخول الإسلام، ودعوتهم للإعراض عن أسباب الشك والريب.
    الرابع: الإجهار بذم الذين ينكرون نزول القرآن من عند الله، ويجحدون به إستكباراً وعناداً.
    الخامس: هناك مسألة هل (خير أمة) من آيات الله وهل تشملها عمومات قوله تعالى[لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] والجواب نعم إنها من آيات الله من وجوه:
    الأول: إطلاق وصف(خير أمة) على المسلمين من عند الله عز وجل، فكما تفضل الله عز وجل وسمّى آدم خليفة له في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، وأشهد الملائكة على خلافته فانه سبحانه نعت المسلمين في خير كتاب سماوي نازل بأن المسلمين(خير أمة) وحينما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة فانهم لم يحتجوا على جعل المسلمين(خير أمة) لوجوه:
    الأول: إخبار الله عز وجل الملائكة بأن جعل الخليفة في الأرض من علمه تعالى بانحسار الفساد والجحود من الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
    الثاني: إقرار الملائكة يوم خلق آدم بعظيم قدرة الله بقولهم[سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( )، وفيه دلالة على أمور:
    الأول: تسليم الملائكة بالحسن الذاتي لجعل خليفة في الأرض.
    الثاني: خلافة الأرض من بديع صنع الله.
    السادس: من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتماع الدعوة إلى الإسلام، والذم على ترك الإستجابة له، ويتجلى هذا الذم بالبراهين السماوية، وكانت (خير أمة) حجة على الناس في لزوم التصديق بنبوته.
    جاءت الآية محل البحث بالثناء على المسلمين لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من آيات الله من وجوه:
    الأول: لما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض إحتج الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لبيان إصلاح الله عز وجل الناس للإستجابة لأحكام الخلافة، وإتباع الخليفة الذي يختاره الله عز وجل.
    الثاني: من علم الله عز وجل أن خلافة الإنسان في الأرض تتقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل منهما آية من آيات الله في ذاته وأثره وحفظه للإيمان في الأرض.
    الثالث: كما تدعو آيات الآفاق وأسرار الكون الناس جميعاً إلى إجتناب الفساد في الأرض، وتخاطب العقول لإعمارها بالصلاح، فان(خير أمة) تتوجه إلى الناس بلغة الأمر والنهي وبالقول والفعل لإصلاحهم ومحاربة الفساد، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور عند المسلمين عموماً كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وانثاهم، وفي كل زمان ومكان (وفي الصحيح من طريق الأعمش، عن إسماعيل بن رَجاء، عن أبيه، عن سعيد -وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم مُنْكَرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، رواه مسلم) ( ) وهذه الشهرة المستفيضة آية وشاهد على أن المسلمين (خير أمة) من وجوه:
    الأول: يتلقى المسلمون هذا الحديث بالرضا والقبول.
    الثاني: إستحضار هذا الحديث عند حدوث موضوعه، فاذا رأى بعض المسلمين منكراً إستحضر هذا الحديث وجعله أصلاً وسبباً للزجر عن المنكر.
    الثالث:إمتثال المسلمين لمضامين هذا الحديث.
    قانون”العقل تصديق للقرآن،،
    لقد خلق الله عز وجل الإنسان ليكون خليفة في الأرض، وعندما إحتجت الملائكة على هذه الخلافة بسبب إسراف الإنسان في الدم، وإشاعته الفساد، جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وفيه أمور:
    الأول: تزكية الإنسان , وهل هذه التزكية عامة أم خاصة بالمؤمنين الجواب هو الثاني بدليل الإجمال في الجواب.
    الثاني: الإخبار بان الله قادر على القيام بأحكام الخلافة إلا من كفر وجحد وأسرف.
    الثالث: بيان موضوعية نفخ الروح من الله في آدم عليه السلام.
    ومن علمه تعالى جعل العقل عند الإنسان، وهذا العقل طريق وآلة، للتدير في الخلائق والإقرار بالعبودية لله عز وجل بالبديهية والإستدلال بالواسطة فمن القضايا ما يصدّق بها العقل لذاتها، أي من غير حاجة إلى أمر خارج عنها، فاستحضار أو تصور الطرفين يقود إلى التسليم بالنسبة بينهما على نحو القطع والجزم كما يقال (الكل أعظم من الجزء، والاثنان نصف الأربعة).
    ولا يكون الناس بمرتبة واحدة في إدراك الأوليات، فهناك من لا يدركها إلا بعد تدبر وتأمل لذا جاءت آيات القرآن في مواضيعها ومضامينها وأحكامها لبعث الناس على التسليم بنزوله من عند الله , وطرد الغفلة والجهالة عنهم.
    ومن بديع صنع الله للإنسان عدم وجود فترة في عمل وإدراك العقل سواء في الليل أو النهار، وحتى عند النوم تجد الأحلام والرؤى الصادقة تعرض على الإنسان وبما فيه البشارة والإنذار، من غير أن تنحصر هذه الرؤى بالمؤمن فتشمل الناس جميعاً على إختلاف مشاربهم وأعمالهم، وفيه شاهد بأن الرؤى رحمة من عند الله، وصلة مباركة بينه وبين عباده.
    وهل هي من عمومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، الأقرب نعم وهو اللطف الإلهي، وجذب العبد لرحمة الله بالإنذار والبشارة، والفرح والخوف، في مضامين من عالم التصديق وعالم التصور، وأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، وفيه نماء لمدارك الإنسان، وندب للعقل للتفكر والتدبر وتقريب لمنازل التوبة، والنهل من الصالحات .
    وليس من حصر لوظائف العقل عند الإنسان، ومن أهمها التصديق بالتنزيل، ومن الآيات أن هذا التصديق واجب مصاحب لكل الأجيال والأزمنة المتعاقبة، ولا يختص بزمان ما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه إختص في زمانها، وما بعدها إلى يوم القيامة بلزوم التصديق بآيات القرآن، لذا جاءت آية السياق بذم الذين يكفرون بهذه الآيات، والآية محل بالبحث في الثناء على المسلمين لإيمانهم بنزول القرآن من عند الله والعمل بأحكامه.
    ومن صفات الحياة الدنيا أنها (دار التنزيل) إذ يصاحبها تنزيل الكتاب من عند الله، ولا يضر بهذا العنوان إنقطاع التنزيل بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لبقاء آيات القرآن غضة طرية، كيوم تنزيلها من وجوه:
    الأول: إحاطة مضامين آيات القرآن باللامتناهي من الوقائع والأحداث.
    الثاني: موافقة أمثلة القرآن لكل زمان، وإقتباس أهل كل جيل المواعظ والعبر من هذه الأمثلة المباركة، قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( )، ففي كل زمان وواقعة تجد آيات القرآن حاضرة من جهات:
    الأولى: إنها برهان ودليل على ذات الوقوع.
    الثانية: آيات القرآن هي الأصل في إستنباط الأحكام اللائمة.
    الثالثة: صيرورة الوقائع مناسبة لجذب الناس للتنزيل، والتدبر في مضامينه ودلالاته.
    الرابعة: التسليم بصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
    الثالث: تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن كل يوم.
    الرابع: نسخ أحكام القرآن للأحكام الواردة في الكتب السماوية السابقة.
    الخامس: تجلي إفاضات وبركات القرآن في كل زمان يبعث الغبطة في النفوس والرضا بنعمة نزول القرآن، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
    السادس: تجدد معاني الإعجاز الذاتي في الآية القرآنية، وترى العلوم تستنبط منه في كل زمان وعلى نحو مستقل عن الإرتقاء العلمي والتقني فمن ذات الآية ولغتها وبلاغتها ومفهومها تتلألأ بالذات وبواسطة العلماء معاني تجعل الإنسان يدرك حقيقة وهي كأن القرآن نزل حديثاً وأن كنوزاً منه تستخرج لأول مرة، وأسراراً من علم الغيب تكتشف وكأنها هبة ومنة لأهل كل الزمان سواء ما سبقها أو الزمان الحاضر أو القادم من الأيام( ).
    السابع: لقد تفضل الله وجعل المسلمين(خير أمة) وجعل القرآن يتصف بالتجدد في موضوعاته وأحكامه كيوم تنزيله فكون القرآن غضاً طرياً إنما هو بفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً، وتتجلى مصاديقه بالواقع الخارجي، ويدرك الناس جميعاً هذه النعمة بما رزقهم من العقل ووظيفة التمييز بين الأشياء التي يقوم بها.
    لقد أنزل الله عز وجل ملائكة من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى، قال تعالى بخصوص معركة بدر وإلحاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لنزول النصر [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، وتفضل وجعل العقل مدداً لنزول القرآن وشاهداً على صدق نزوله من عند الله، إذ أن العقل رسول باطني عند الإنسان، والأنبياء والكتب السماوية النازلة عقول ظاهرية، ليتجلى التداخل بينهما في القرآن وإستدامة معاني تنزيله.
    الثامن: إستحضار المسلمين لكيفية نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يتغشاه ساعة التنزيل.
    وأخبار نزول جبرئيل بهيئة دحية الكلبي وهو صحابي معروف يتصف بنضارة الوجه مشهورة، ولهذا يقال لدحية رأيناك اليوم تناجي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لم أر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ يومين، فعلموا أنه جبرئيل ينزل بصورة دحية، وقد رآه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصورته الأصلية . وفي الخبر عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل : لقد رآى من آيات ربه الكبرى قال : رآى جبرئيل على ساقه الدر مثل القطر على البقل ، له ستمأة جناح قد ملأ ما بين السماء والارض .
    إن نعمة مدد العقل للقرآن آية في الخلق ووسيلة مباركة لحفظ القرآن، وسلامة العقل من الزلل والخطأ العام لما في القرآن من تنقيح أعمال الإنسان، وإرجاعها إلى قوانين سماوية وقواعد ملكوتية، وضوابط شرعية.
    وإذ يسعى في هذا الزمان لجعل العالم قرية صغيرة بنظام العولمة والثورة التقنية والمعلوماتية فان القرآن جاء بجعل الأزمنة متشابهة ومتداخلة بخصوص مواضيع الإبتلاء والأحكام، ليكون هذا التشابه شاهداً على إشتراك الناس جميعاً في العبودية لله عز وجل، ولزوم الخضوع والخشوع له، ومن منافع تصديق العقل بنزول القرآن من عند الله أمور:
    الأول: تقريب الناس لمنازل الطاعة.
    الثاني: إنه شاهد على أن المسلمين(خير أمة) لأنهم إتخذوا العقل وإدراكه وسيلة للتسليم بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه.
    الثالث: الإقرار بعالم الآخرة، والإستعداد للحساب.
    الرابع : حكم وتوجيه العقل للجوارح , وجعلها تعمل في مرضاة الله.
    الخامس: التنزه من غلبة النفس الغضبية والشهوية.
    السادس: إنبعاث السكينة في النفس، والطمأنينة بالسلامة من العذاب الأخروي للبشارات التي جاءت في القرآن للذين يؤمنون بالله ورسوله.
    السابع: الإنتفاع من كنوز القرآن العقائدية والفقهية والعلمية، وإستخراج الدرر التي تضئ دروب السالكين.
    الثامن: إدراك تخلف الذين يكفرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن وظائفهم الشرعية والعقلية، وهذا الإدراك فازت به (خير أمة) لذا فان المسلمين يتلون آية السياق(لم تكفرون) بلسان الأسى والحسرة على الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله , ويعرضون عن التحذير والإنذار لهم من هذا الكفر ويلح العقل على صاحبه لدخول الإسلام بادراكه للإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، وهذا الإدراك رحمة من عند الله تصاحب نزول القرآن , وحضوره بين الناس سالماً من الزيادة والنقيصة والى يوم القيامة.
    ومن الإعجاز في آيات القرآن أنها تخاطب العقول، وتبعثها على التفكر والنظر وإستحضار الدليل والبرهان على موافقة الواقع لمضامين آيات القرآن .
    وقد ورد لفظ(أولي الألباب) ست عشرة مرة في القرآن، قال تعالى[إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( )، والألباب جمع لب وهو العقل، وفي مخاطبة القرآن للعقل أمور:
    الأول: إنه نوع إعجاز لما فيه من التحدي.
    الثاني: إثبات نزول القرآن من عند الله.
    الثالث: فيه شاهد بأن القرآن رحمة للناس جميعاً، إذ يجذبهم لمنازل الهداية والإيمان.
    الرابع: ترغيب الرؤساء والملأ من الناس والمتبرعين في دخول الإسلام ليتبعهم أتباعهم، ويروا سلطان الإسلام وموافقة الدخول فيه لإدراك العقل وقصد السلامة في النشأتين.
    صلة آية[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ]( )، بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: بيان المائز بين المسلمين وغيرهم، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الناس على أقسام:
    الأول: المسلمون.
    الثاني: أهل الكتاب.
    الثالث: الكفار.
    وإختص المسلمون بصفة(خير أمة) وفيه ترغيب للناس لدخول الإسلام.
    الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين(يا محمد قل أنت وخير أمة يا أهل الكتاب لم تكفرون) .
    فمن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين أن (خير أمة) هي أمته وهي طائعة لله عز وجل.
    الثالثة: الأمة التي تؤمن وتتلو آيات الله التي تتضمن الخطاب للناس على أساس إنتمائهم ومللهم هي(خير أمة).
    وتعدد قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] وعلى نحو التتابع كما في آية السياق والآية التي تليها , فلم تعطف الآية التالية بحرف العطف (الواو) وجاءت بأمور:
    الأول: تكرار حرف النداء(يا).
    الثاني: إتحاد جهة النداء في الآيتين على نحو التعيين ( أهل الكتاب).
    الثالث: إرادة العموم والإجمال في الخطاب (يا أهل الكتاب) وفيه وجوه:
    الأول: إنه شاهد على الوظائف العقائدية والجهادية المتعددة التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقوم بها المسلمون إلى يوم القيامة.
    الثاني: عدم كفاية المرة الواحدة في الخطاب بل لابد من التكرار والتعدد.
    الثالث: بيان أهمية وموضوعية النواهي الواردة في كل من الآيتين، وموضوعاتها.
    الرابع: تنبيه الناس إلى حال أهل الكتاب وعنادهم.
    الخامس: كشف الحقائق للناس جميعاً، وبيان نعمة الهداية والإصلاح في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ).
    السادس: تحدي أهل الكتاب وعدم السكوت عنهم بلحاظ أن هذا السكوت طلب لودهم، وإحتراز من كيدهم، بل جاءت الآيات بتوبيخهم على الجحود بآيات القرآن ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الإيمان بها واجب على كل مكلف على نحو مستقل ومتحد مع الآخرين.
    وبينما يتناجى أفراد كل قبيلة من قبائل عديدة من الكفار بدخول الإسلام، ويستحضرون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان فريقاً من أهل الكتاب يكفرون بالآيات، فجاءت الآيتان لحث الناس على التدبر في البراهين الساطعة التي بعث بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون كفر أهل الكتاب بالآيات خاصاً بهم، ولا يضر غيرهم، وهو المستقرأ من ظاهر آية السياق إذ توجه اللوم فيها لهم خاصة، وفيه إعجاز للقرآن بأن يكون الحث فيه للناس لدخول الإسلام مركباً ومتعدداً منطوقاً ومفهوماً من وجوه:
    الأول: ذم الذين يكفرون بالآيات من أهل الكتاب.
    الثاني: دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
    الثالث: إنذار وتخويف الكفار من إتباع الظالمين، ومنهم الذين يحرفون صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحاربونه والمؤمنين.
    الرابع: الثناء على المسلمين ونعتهم بأنهم (خير أمة أخرجت للناس) كما تدل عليه هذه الآية.
    قانون التوثيق القرآني للسنة
    يقال وثقت الشيء توثيقاً: إذا أحكمت شده، والوثيق: الشيء المحكم، ووثقت فلاناً، شهدت له بصدق القول أو الأمانة ونحوها بحسب الحال والقرينة، (ويقال وَثَّقْتُ الشيء تَوْثِيقاً فهو مُوَثَّق) ( )، وفي التنزيل[فَشُدُّوا الْوَثَاقَ] ( ) وفيه إرشاد للمؤمنين في قتال الكفار وأسر من بقي منهم وإحكام وثاقهم.
    والتوثيق إصطلاحاً علم يتعلق بحفظ العلوم وأحكام العبادات والمعاملات، والوقائع والأحداث العامة والخاصة، ومن منافعه دفع الضرر، ومنع الجهالة في تلك العلوم، وليس من وثيقة مثل القرآن فهو الكتاب السماوي الذي حفظ تأريخ الأمم والبلدان وقصص الأمم السالفة، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
    ومن توثيق القرآن شهادته بأن المسلمين(خير أمة)، ومن الآيات في التوثيق القرآني إتصافه وإقترانه بالحجة والدليل العقلي والحسي الذي يدل على صحة هذا التوثيق، وفيه أمور:
    الأول: إنه رحمة بالناس، وسبيل إلى هدايتهم.
    الثاني: إنه وسيلة سماوية مباركة لجذب الناس للإسلام.
    الثالث: توكيد نزول القرآن من عند الله، والمسلمون أول الأمم التي وثّقت سنة نبيها، ومنعت من تحريفها وتغييرها، وهذا المنع حجة في سلامة القرآن من التحريف من باب الأولوية القطعية فإذا كان المسلمون يجتهدون في الحرص على حفظ سنة النبي فمن باب الأولوية أنهم يجتهدون حكومات وعلماءَ وعامة على حفظ القرآن الذي يتلوه كل واحد منهم على نحو الوجوب خمس مرات في اليوم.
    وقام المسلمون بتأسيس علم الرجال وتوثيق رجال الحديث , وتقسيم الحديث إلى الحديث المتواتر والمشهور وخبر الواحد ومنه المستفيض والعزيز والغريب، وقسم العلماء الحديث إلى الحديث الصحيح والموثق والحسن والضعيف والمرسل والمقطوع، وكلها من وجوه التوثيق وإرتقاء(خير أمة) في العلوم بإفاضات القرآن والسنة.
    لقد أنعم الله عز وجل على (خير أمة) والناس جميعاً بأن أنزل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وفيه أمور:
    الأول: بعث نوعي للناس جميعاً للرجوع للقرآن , والصدور عنه في أمور الدين والدنيا.
    الثاني: قطع دابر الجدال والخصومة بخصوص الوقائع والأحكام والسنن وغيرها، وقد فازت بهذه النعمة (خير أمة)، قال تعالى[وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ]( ).
    الثالث: بيان حاجة الناس للسنة النبوية من جهات:
    الأول: إنها مرآة للوحي والأمر الإلهي النازل بواسطة أحد أكبر الملائكة وهو جبرئيل، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
    وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على حفظ وتوثيق السنة النبوية وهذا التوثيق على وجوه:
    الأول: تلاوة الآيات القرآنية التي تتضمن أقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للملل الأخرى.
    الثاني: حفظ سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في الأصل من الوحي ، وجرت مصاديقها الخارجية في الواقع العملي.
    الثالث: تجلي معاني الجهاد في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الرابع: محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله الواجبة والمستحبة، وإستحضارها عند مناسبة المقال والحال ومن الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) ظهور السكينة والطمأنينة عليهم عند سماع قول أو فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثانية: تجلي لغة الإعجاز والنفع العام في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الوقائع والحوادث، وهو من الأسباب التي تساهم في زيادة الإيمان , وفيه بيان لفضل الله بأن منافع السنة النبوية أكثر من أن تحصى.
    الثالثة: السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، بلحاظ أنها رشحة من رشحات الوحي والتنزيل، وإكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولخير أمة بأنها تأخذ تشريعها من الله عز وجل بواسطة كلامه الخالد القرآن، ثم بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الرابعة: تعتبر السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن، وهذا البيان حاجة للمسلمين والناس جميعاً، ومن خصائص(خير أمة)في المقام أمور:
    الأول: تولي المسلمين طبقة عن طبقة توثيق السنة، وإقتباس الدروس، وإستنباط الأحكام منها.
    الثاني: إتخاذ السنة دليلاً في المسائل الإبتلائية وأحكام البيع والشراء والعقود والإيقاعات.
    الثالث: السنة النبوية واقية من الخصومة والإختلاف.
    الرابع: فك الخصومة، وحسم المنازعات بالسنة النبوية القولية والفعلية مع تسليم الأطراف المتنازعة بإنعدام الظلم والتعدي بالحل المستقرأ والمستنبط من السنة النبوية الشريفة، قال تعالى[فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
    الخامس: السنة النبوية حجة وبرهان في الأمور الكلامية وإثبات الصانع، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين، ودليل لإثبات نزول القرآن.
    السادس: لما جاءت هذه الآية بتوبيخ أهل الكتاب بقوله تعالى[لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا]( )، وجاء آية السياق بذمهم لكفرهم بآيات الله فإن السنة النبوية توثيق لإبطال كيدهم
    صلة آية[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ) بهذه الآية
    الصلة بين بدايتي الآيتين
    وفيها مسائل:
    الأولى: جاء الخطاب في الآية أعلاه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) وتقديرها (قل يا محمد) وفيه وجوه:
    الأول: تعدد معاني الخطاب في الآية القرآنية، ويكون على شعب:
    الأولى: يأتي متوجهاً للفريق والأمة من الناس مباشرة.
    الثانية: يكون بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثالثة: عموم الخطاب للناس جميعاً كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
    الثاني: بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإنذار والبشارة للناس عموماً، وتلتقي آية السياق والآية التي قبلها بأمور:
    1- الإبتداء بلفظ(قل يا أهل الكتاب لم ).
    2- مجيء الآيتين بصيغة التوبيخ والإنذار والتخويف، لبيان الأضرار النوعية العامة عن الصد عن سبيل الله.
    3- صيغة المضارع التي تدل على مزاولتهم ذات الفعل المنهي عنه.
    الثالث: إنه من مصاديق قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ، وتحمله الأذى فيه، وفي القرآن ولغة الوعيد فيه، ورد قوله تعالى[هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ]( ).
    الرابع: دعوة المسلمين لمحاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ والإنذار، وتحذير الناس من الكفر والإعراض عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديره(قولوا يأهل الكتاب).
    الخامس: جاءت الآية بالتحذير والإنذار لأهل الكتاب لتشمل غيرهم من الناس من باب الأولوية القطعية.
    الثالثة: تقدير الجمع بين بدايتي الآيتين(كنتم خير أمة فقولوا يا أهل الكتاب).
    الرابعة: توجه الخطاب في الآية محل البحث للمسلمين والمسلمات بلغة الإكرام والثناء.
    الخامسة: ترغيب الناس بدخول الإسلام لتبدل الموضوع والحكم، فبدل أن يتوجه لهم اللوم والإنذار يأتيهم الثناء والبشارة.
    السادسة: بيان تقسيم الناس على أساس الإنتماء إلى الدين، والملة، وأن المسلمين مع إختلاف ألسنتهم وأمصارهم إنما هم أمة واحدة، وعليهم أن يتحدوا ويحذروا من غيرهم، ويدعوهم للإيمان وبصيغ البلاغ والموعظة والإنذار.
    السابعة: لما جاءت آيات القرآن بالإخبار عن تفضيل بني إسرائيل وهم فريق من أهل الكتاب، قال تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، أخبرت الآية محل البحث بتغير موضوع التفضيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يدور مدار التصديق به وإتباعه.
    الثامنة: من خصائص(خير أمة) تجدد الإمتثال للأمر الإلهي المتوجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتكثره بأعداد غير متناهية في أفراد الزمان الطولية المتناهية، فكل مسلم ومسلمة مأموران بإنذار وتحذير أهل الكتاب وتأتي تلاوة المسلمين المتكررة لقوله تعالى(قل يا أهل الكتاب) ليكون على وجوه:
    الأول: إنه من مصاديق الإمتثال لأمر الله تعالى في تبليغ وإنذار أهل الكتاب.
    الثاني: إنه شاهد على أن المسلمين(خير أمة) لقيامها بالتبليغ والإنذار.
    الثالث: دلالة الآية وما فيها من الإنذار على تحذير وإنذار الكفار المشركين من باب الأولوية القطعية.
    الرابع: دعوة الناس ومنهم الكفار والمشركين إلى عدم الإنصات إلى أهل الكتاب فيما يبثونه من أسباب الشك والريب.
    صلة(قل يا أهل الكتاب) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
    الأول: الخطاب للمسلمين والمسلمات(أخرجتم للناس فقولوا يا أهل الكتاب).
    الثاني: تأمرون بالمعروف فقولوا يا أهل الكتاب.
    الثالث: تنهون عن المنكر فقولوا يا أهل الكتاب، وفي التنزيل[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] ( ).
    الرابع: تؤمنون بالله فقولوا يا أهل الكتاب لو آمنتم لكان خيراً لكم.
    الخامس: قل يا أهل الكتاب أكثركم فاسقون.
    الثانية: بيان مصداق من مصاديق خروج المسلمين للناس، وهو توجههم لأهل الكتاب بالتحذير والإنذار من صد الناس عن الإيمان.
    الثالثة: الإخبار عن بقاء خروج المسلمين للناس متجدداً متصلاً لا ينقطع ولا يفتر.
    الرابعة: بين الناس وأهل الكتاب عموم وخصوص مطلق، إذ أن أهل الكتاب شطر من الناس، فمن خصائص(خير أمة) وجوه:
    الأول: لم يخرج المسلمون لأمة وأهل ملة دون أخرى بل للناس جميعاً لأن خروجهم فرع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورشحة منها، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
    الثاني: العموم في جهة الناس الذين خرج المسلمون لله جميعاً لمن يمنع من إختصاص فريق منهم بخطاب مخصوص في باب الإنذار والوعيد.
    الخامسة: إخبار أهل الكتاب أن المسلمين هم خير أمة، وفيه وجوه:
    الأول: دعوة أهل الكتاب والناس للإصغاء للمسلمين.
    الثاني: بيان ما يتقوم به التفضيل والإكرام وهو الإيمان، قال تعالى في خطاب للناس جميعاً[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
    الثالث: تحذير الناس من الذين يبثون الشكوك في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الرابع: إطلاع الناس عموماً على كيفية ومضامين ما يجري بين المسلمين وأهل الكتاب، فالمسلمون يحذرون وينذرون من التحريف والصدود عن طاعة الله الواجبة على كل إنسان.
    الخامس: بيان منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين فهو يقول لأهل الكتاب إني أنذركم وأعظكم وقد أخرج الله أمتي لكم وللناس جميعاً .
    وكان فريق من علماء بني إسرائيل يظنون قصر مدة وأيام دولة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ حساب الحروف المقطعة التي نزلت في القرآن مثل[كهيعص] ( ) و[الر]( )، فجاءت الآية محل البحث لتخبر عن أمور:
    الأول: دوام دولة الإسلام.
    الثاني: تجدد مضامين الدعوة إلى الإسلام.
    الثالث: إستمرار خطابات الإنذار إلى أهل الكتاب والناس جميعاً فإن المسلمين والمسلمات يتلون بصيغ الإحتجاج والبرهان قوله تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ].
    الرابع: بطلان حساب الجمل والحروف بخصوص مدة الإسلام، وأيام خير أمة , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
    السادسة: بيان تعدد وكثرة وعظم مسؤوليات المسلمين، إذ ذكرت آية السياق جانباً منها يتعلق بموضوع معين بخصوص أهل الكتاب، ومحاولات صد الناس عن طاعة الله.
    السابعة: من صفات(خير أمة) الأمر بالمعروف، والدعوة إلى الصلاح، والنهي عن الفساد وإشاعة مفاهيم الكفر والجحود، ويتجلى في هذه الآية مصداق لهذه الصفة الكريمة، ومن أسراره أنه متجدد بتلاوة كل من هاتين الآيتين.
    الثامنة: المسلمون يؤمنون بالله ورسوله، ويقيمون الفرائض، وفي الخطاب(يا أهل الكتاب) دعوة لهم للتصديق بنبوة محمد وهو المستقرأ من مفهوم هذا الخطاب وما فيه من اللوم على الصد عن سبيل الله.
    التاسعة: تكرر الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل يا أهل الكتاب) في آية السياق والآية التي قبلها، وفيه وجوه:
    الأول: بيان موضوعية أهل الكتاب بين الناس.
    الثاني: نزول القرآن رحمة لأهل الكتاب بلحاظ أن لغة الإنذار القرآني رحمة وخير محض.
    الثالث: بيان فضل الله عز وجل على أهل الكتاب بخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يا أهل الكتاب).
    الرابع: دعوة المسلمين للإقرار ببعثة الأنبياء السابقين، ووجود أتباع لهم من بين الناس.
    الخامس: توكيد جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيامه بأداء الرسالة والتبليغ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
    السادس: تفقه المسلمين في الدين، وإرشادهم إلى سبل الإحتجاج والجدال مع أهل الكتاب بالوقائع والأحداث وتذكيرهم بوظائفهم، والتنافي بينها وبين محاولات الصد عن سبيل الله وإتباع الرسول.
    قانون التعضيد
    من إعجاز القرآن (قانون التعضيد) وهو تعضيد ومؤازرة آيات القرآن بعضها لبعض، وفي الجمع بين الآيتين بلحاظ هذا القانون وجوه:
    الأول: إعانة المسلمين في بيان كيفية خروجهم للناس.
    الثاني: تثبيت أقدام المسلمين في منازل(خير أمة) بقيامهم بالزجر عن المعاصي.
    الثالث: إخبار المسلمين على أن خروجهم للناس عام وخاص، فقد يتوجهون في موضوع مخصوص للناس جميعاً، وقد يتوجهون في غيره لفريق من الناس، ومن الآيات أن الخاص يؤثر في عموم الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
    الرابع: خروج المسلمين للناس جهاد في سبيل الله، وزجر للذين يضعون الموانع لحبس الناس عن الإيمان.
    الخامس: محاربة المسلمين للذين يفعلون السوء، ويحاولون نشر الجحود في الأرض.
    السادس: بيان حقيقة وهي أن أهل الكتاب يشهدون بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويرون كيف أن المسلمين هم(خير أمة).
    السابع: يمتثل المسلمون لما يأمر الله به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون ما قاله لأهل الكتاب وهو من مصاديق(خير أمة).
    الثامن: إن الله عز وجل هو الذي يجعل المسلمين يتعاهدون منزلة(خير أمة) بزجرهم أهل الكتاب عن منع الناس من دخول الإسلام.
    التاسع: لما وصفت خاتمة هذه الآية فريقاً من أهل الكتاب بالفسق، جاءت آية السياق لتتضمن مصداقاً لهذا الفسق، وهو صد الناس عن الإسلام ومحاولات إغوائهم وجعلهم يعرضون عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو التدبر فيها.

صلة(لم تصدون عن سبيل الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد نال المسلمون مرتبة(خير أمة) لما يلقونه من الأذى، قال تعالى[فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ]( ) وتمسكوا بمبادئ الإسلام رغم محاولات الصدود عنه التي تصدر من أهل الكتاب.
الثانية: ذكرت آية السياق صدود أهل الكتاب، وفيه وجوه من جهة الخصوص والعموم:
الأول: إختصاص أهل الكتاب بهذا الصدود من بين أهل الملل المختلفة في الأرض.
الثاني: قيام الكفار والمشركين بالصدود بفحوى الخطاب ودلالة المفهوم، لأن أهل الكتاب أقرب الناس إلى المسلمين، وهم أتباع رسل وعندهم كتاب، ومع هذا يدعون الناس للعزوف والإعراض عن الإسلام، فلا بد أن يكون الكفار والمشركون أشد أذى، وأكثر دعوة للناس للصدود عن الإسلام.
وزحفت جيوش قريش على المدينة وخاضت معارك طاحنة مع المسلمين الأوائل، وإنتهت بهزيمة المشركين مع كثرة جيوشهم ومؤونهم وقلة عدد المؤمنين الذين خرجوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال، قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، نعم آية السياق مدنية، ونازلة بعد تلك المعارك، وفي أوان تثبيت أركان الدولة الإسلامية، وفيه آية إعجازية، وهي أن أعداء الإسلام لم يأتلفوا ويحاربوه في وقت واحد، وكيفية مشتركة.
فقد بدأت الدعوة بإظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسمى مراتب الصبر مع الإجتهاد بالدعوة إلى الله والحث على التصديق بنبوته ثم واجه جيوش الكفر والضلالة، ونقض فريق من يهود المدينة المواثيق التي أبرموها معه , فنزل جبرئيل بعد معركة أحد بالزحف بالفوري عليهم وفي السنة الثامنة للهجرة فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة المكرمة من غير أن يؤثر بغيرهم هذا الصدود أو يمنع من تبوء المسلمين لمنازل(خير أمة) وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى[أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ] ( ).
ليكون بداية عهد جديد تطل فيه إشراقات الإيمان، وتتوجه سهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الذين يصدون عن سبيل الله لإشغالهم بأنفسهم، وجذبهم وأهليهم إلى الإسلام.
وتظهر آية السياق أن أسباب الصدود عن الإسلام مستمرة مع كل من:
الأول: تجلي آيات النصر.
الثاني: حصول الفتح والظفر للمسلمين.
الثالث: إستقرار حكم الإسلام.
الرابع: أداء المسلمين الفرائض العبادية بإنضباط وشوق .
الثالث: إكتفاء الكفار بالإنصات إلى أهل الكتاب في باب الصدود عن سبيل الله، بإعتبار أن أخبار نبي آخر زمان موجودة في كتب أهل الكتاب.
والصحيح هو الثاني، فالكفار وإن كانوا يستمعون إلى أهل الكتاب في هذا الباب إلا أنهم يقومون بالصد عن الإيمان بالله وعن طاعة الله ورسوله، ويتخذون من تحريف صفات نبي آخر الزمان، ذريعة لهم في بقائهم على الكفر والجحود.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين بلوغ المسلمين مرتبة الوعظ والتحذير والإنذار من الصد عن سبيل الله، وفيه تخفيف عن المؤمنين المجاهدين، فقد واجه الكفار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف والقتال.
أما أهل الكتاب فإنهم يختلفون عن المشركين، ومنهم من إلتزم الصمت, ومنهم من رضي بدفع الجزية كما في وفد نصارى نجران وحدوث المباهلة، قال تعالى[تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ] ( )، وكانوا يعلمون صفاته وأنه مرسل من الله، قال تعالى[يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] ( )، وذكر أن بعضهم قال أن الشك لا يتسرب إلى أنفسهم بصدق نبوة محمد، وهو من أسرار سكن اليهود في المدينة وما حولها ,وقيل ورد في كتبهم أن نبي آخر الزمان يسكن في أرض ذات نخل، وحينما قابلوا نبوته بعد ظهور دولة الإسلام بالصدود وحث الناس على العزوف عنها، جعل الله عز وجل المسلمين(خير أمة) وفيه منعة من هذا الصدود، وأكرمهم الله عز وجل بآية السياق التي تتضمن توبيخ الذين يصدون عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يأتي هذا التوبيخ، والمسلمون يقيمون الفرائض، ويعكفون على التفقه في الدين، ويتلون آيات الله، ويجتهدون في تفسيرها (وبالأسناد عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن، قال: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا: أنهم كانوا يستقرِئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلَّموا عَشْر آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا) ( )، ويستقبلون الجماعات وأهل القبائل الذين يدخلون الإسلام على نحو دفعي، قال تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
الرابعة: بعث اليأس والقنوط في نفوس الذين يمنعون الناس من دخول الإسلام، ويسعون لإرتداد المسلمين ويتجلى هذا البعث بمضامين الآية محل البحث من وجوه:
الأول: وجود(خير أمة) بين الناس، لتكون حجة عليهم في الثبات على الإيمان.
الثاني: دلالة خروج المسلمين للناس على إستمرار الدعوة إلى الله، فيكون الحال على وجوه:
الأول: خير أمة تدعو إلى الله وتجاهد في سبيله.
الثاني: فريق من الناس يصدون عن سبيل الله.
الثالث: حضور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس.
الرابع: عموم الناس الذين تصلهم الآيات والمعجزات، وتدرك عقولهم صدقها وسلامتها من المعارض، فمن المتعذر إلتفاتهم إلى أسباب الصدود، لذا جاءت الآية الكريمة بلوم أهل الكتاب لمحاولاتهم الصدود عن سبيل الله، وتقديره أن الصد والصدود يجلب لكم الضرر[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، وفيه بالدلالة التضمنية مسائل أربعة:
الأولى: بيان مصاديق المعروف، والقواعد الكلية لتمييزه.
الثانية: مزاحمة الصد عن سبيل الله، ومحاولات التغرير بالناس.
الثالثة: تجلي المنافع العاجلة للإيمان، والتقيد بأحكام الشريعة.
الرابعة: إتساع رقعة الإسلام، ودخول الناس في الإسلام، وهو شاهد على أن محاولات الصدود لن تؤثر في الناس، ومن الآيات أن الله عز وجل لم يترك أهل الكتاب يصدون عن سبيل الله ما دام هذا الصد لا يضر غيرهم، بل تفضل بتذكيرهم وتحذيرهم وزجرهم وهو من الدلائل على أن القرآن رحمة بالناس جميعاً، وسبيل للتوبة والتدارك، فيدخل هذا اللوم في منتديات أهل الكتاب فيكون على وجوه:

  1. بعث الفزع والخوف في قلوب الذين يصدون عن سبيل الله.
  2. إدراك أهل الكتاب صدق نزول القرآن لأن الله عز وجل علم بكيدهم، وحذرهم منه.
  3. إستحضار فريق من أهل الكتاب لأخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السابقة وفي التنزيل[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
  4. مجيء الأخبار بدخول أفواج من أهل الكتاب والكفار الإسلام.
    الرابع: جهاد المسلمين في النهي عن القبيح والأمور المخالفة لحكم الشريعة، وما تستهجنه النفوس، إذ أنها تميل بالفطرة للحق والإنصاف ومن الآيات مجيء قوله تعالى(وتنهون عن المنكر) بصيغة المضارع للإخبار عن إتصال وإستمرار النهي عن المنكر في الأرض إلى يوم القيامة.
    وهل تلاوة قوله تعالى[لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] من النهي عن المنكر، الجواب نعم فكل مسلم يتلو هذه الآية يصدق عليه أنه ناه عن المنكر، وتكون تلاوته مساهمة في تهذيب النفوس، ووقايتها من غشاوة الضلالة.
    الخامس: ثبات المسلمين على الإيمان، وتعاهدهم للفرائض واقية لهم من محاولات الصد التي يقوم بها فريق من أهل الكتاب، ودعوة للناس للإعراض عن هذه المحاولات.
    السادس: تجلي أسمى معاني الصبر في سيرة المسلمين، وإقتباسهم الدروس والعبر في جنب الله، ومن خصائص(خير أمة) إقتران صبرهم بالتقوى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
    الخامسة: من إعجاز القرآن التكامل في صيغ الإصلاح وتضمنه لتمام الحجة قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، فمع اللوم يأتي الترغيب والدعوة للإسلام ونبذ العناد مع إتحاد الجهة التي يتوجهان إليها وهم أهل الكتاب.
    فتتضمن آية السياق توجيه اللوم والتحذير لهم لقيامهم بالصد عن سبيل الله، أما الآية محل البحث فذكرت طريق النجاة لهم، وسبيل الخلاف من اللوم وموضوعه وسوء عاقبته، إذ أن موضوع اللوم القرآني لا ينحصر به بالذات بل يشمل أموراً:
    الأول: بشارة عدم ترتب الأثر على الفعل المذموم الذي جاء اللوم القرآني فيه.
    الثاني: إقامة الحجة على الذين يتوجه لهم اللوم.
    الثالث: حث المسلمين والمسلمات على التصدي للفعل القبيح الذي يتوجه اللوم فيه.
    الرابع: جاءت الآية باللوم عن صد الغير عن سبيل الله( )، وتدل بالدلالة التضمنية على صدود وصدوف الذين يسعون في صرف الناس عن الإيمان.
    السادسة: بيان القرآن لوظائف الناس العبادية، فقد شهد القرآن للنصارى مثلاً بأنهم أقرب الناس للمسلمين،[ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( )، وجاءت هذه الآية لندب أهل الكتاب إلى إظهار معاني القرب من المسلمين بالكف عن إيذائهم، وعدم محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الهدى.
    السابعة: من إعجاز القرآن أنه يتضمن البيان والتفصيل، ويمنع من الجهالة والغرر، وهو نعمة ورحمة من وجوه:
    الأول: إعانة المسلمين في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    الثاني: تفقه المسلمين في الدين، وجعلهم في حال حذر وحيطة من محاولات ترغيب وترهيب بعضهم بالإرتداد، قال تعالى في إعداد السلاح واليقظة[تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ).
    الثالث: كشف الحقائق، وفضح ما يجري في الخفاء من محاولات الإضرار بالإسلام والمسلمين.
    الرابع: تعيين الموضوع الذي يصد ويمنع منه أهل الكتاب وهو(سبيل الله) لبيان حقيقة وهي أن هذا الإعراض والصدوف عداوة لله عز وجل.
    الخامس: تحذير الناس جميعاً من محاربة الله ورسوله.
    السادس: الدعوة لقراءة الوقائع والأحداث، ورؤية إعراض الناس عن محاولات الصدود عن الدعوة الإسلامية، وفيه توبيخ وإنذار بلحاظ شواهد الواقع اليومي المحسوس لأهل الشك والصدود، ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
    فمن إعجاز لغة الإنذار والبشارة في القرآن تعضيد وتأييد الوقائع لها، وظهور دلالاتهما في الحياة اليومية للناس.
    الثامنة: بيان المائز والتباين بين لغة التبكيت والإكرام في القرآن، فقد جاءت آية السياق باللوم للذين يمنعون عن الصراط القويم، أما هذه الآية فوردت بالثناء على المسلمين، وبيان عظيم منزلتهم، وفيه زجر عن المعصية وترغيب بالإيمان، وكل منهما أمر بمقدور الإنسان، فليس بينه وبين الإيمان ونبذ المعصية إلا إرادة الإستقامة.
    التاسعة: بيان التضاد والصراع بين الإيمان والكفر في الدنيا، وجهاد المسلمين لتثبيت الإيمان في نفوسهم، وإصلاح الناس وجذبهم لمنازل الهداية والإيمان، فسعي فريق من أهل الكتاب لإرتداد المسلمين، وبقاء المسلمين يتعاهدون الفرائض، ويبذلون الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على قيام المسلمين بعمل جهادي متعدد من وجوه:
    الأول: مجاهدة محاولات صرفهم عن الإيمان.
    الثاني: صبر المسلمين على صيغ الإستخفاف والإستهزاء التي يقوم بها أعداء الإسلام، وتتجلى آيات اللطف الإلهي في إعانتهم وإصلاحهم قال تعالى[إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ]( ).
    وعن ابن عباس في أسباب نزول الآية أعلاه كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهاهم الله تعالى عن ذلك) ( )، والآية أعم في معناها ودلالتها،(وروي أن عمر بن عبد العزيز ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر) ( ).
    الثالث: دعوة الناس إلى التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الدعوة، وتهيئة مقدمات التدبر من مصاديق الأمر بالمعروف.
    الرابع: توجيه اللوم والذم للذين يصدون عن سبيل الله، والإعراض عنهم، والإغلاظ عليهم بحسب الحال ومناسبة الموضوع والمقام وبما فيه سلامة المسلم من الضرر لوجوه:
    الأول: قاعدة تقديم الأهم على المهم، والأهم هو السلامة، لأنهم الأهم هو السلامة.
    الثاني: أحكام التقية الشاملة للمقام.
    الثالث: الإكتفاء عند الحاجة بالكناية والتعريض، والإعراض ومغادرة المكان، وكلها من إحتجاج المسلمين الظاهر.
    العاشرة: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بإختيار المسلمين لمرتبة(خير أمة) بإخبار الآية عن كون محاولات الصدود عن سبيل الله جاءت بعد إيمان شطر من الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسوخ الإيمان في نفوسهم لقوله تعالى في آية السياق(من آمن) لتكون محاولات صدهم سالبة بإنتفاء الموضوع ولا يترتب عليها أثر في الخارج إلا الإثم الذي يلحق أصحابها.
    الحادية عشرة: جاء اللوم لأهل الكتاب بخصوص صدهم الذين آمنوا، لأن الاسم الموصول(من) في قوله تعالى[لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ]، اسم موصول، مفعول به لتصدون، لذا ذكر في أسباب النزول(وقيل : أتت اليهود الأوس والخزرج فذّكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله) ( )، ولكن الآية أعم في موضوعها، وهي شاملة للسعي في صد الناس عن الإسلام، وذكر(من آمن) من باب المثال الأمثل، والموضوع الذي يكون فيه الصد ظاهراً، واللوم شديداً.
    الثانية عشرة: من خصائص(خير أمة) تحذيرها من غضب الله عز وجل، وبيان الملل والفرق التي تريد بهم السوء والصد عن سبيل الله، فقد يظن المسلمون أن أهل الكتاب إخوانهم في الكتاب السماوي وأتباع الأنبياء، ويلجأون إليهم ويتخذونهم بطانة ويطلعونهم على أسرارهم ونواياهم، خصوصاً وأن المسلمين مشغولون بقتال المشركين، فجاءت هذه الآية لتوبيخ الذين يسعون في إكراه المسلمين على ترك الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ]( ).
    صلة(تبغونها عوجاً ) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: الآية أعلاه خطاب لأهل الكتاب أما الآية محل البحث فهي خطاب للمسلمين وفي خاتمتها بيان لحال أهل الكتاب بقوله تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]ليكون قوله تعالى(تبغونها عوجا) بيان لمصداق من مصاديق الفسق والخروج عن الطاعة التي عليها هؤلاء بإجتهادهم في صد المسلمين عن العبادات والفرائض.
    الثانية: من خصائص(خير أمة) إخبار الله عز وجل لها بوجود أمة تريد لأفرادها الإنحراف عن جادة الإستقامة.
    وهل يبعث هذا الإخبار الفزع في نفوس المسلمين، الجواب لا، من وجوه:
    الأول: مجيء هذه الآية بالشهادة للمسلمين بأنهم(خير أمة)مما يدل على سلامتهم من الإنحراف.
    الثاني: عمومات الأمن للمسلمين وإطلاق، قوله تعالى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
    الثالث: تحذير آية السياق للمسلمين مما يبغيه أهل الكتاب واقية وحرز من الكيد والمكر.
    الرابع: إمتلاء نفوس المسلمين بالسكينة بلطف من الله، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا] ( ).
    الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين عدم بلوغ أهل الكتاب إلى غايتهم في صد المسلمين عن سبيل الله، لتبوء المسلمين منازل الرفعة والشرف ومرتبة(خير أمة).
    الرابعة: يدل قوله تعالى(تبغونها عوجا) في مفهومه على أن المسلمين على الصراط المستقيم وهو من خصائص(خير أمة)، وأن الإرتداد إعوجاج وميل عن الحق.
    الخامسة: لقد أخرج الله المسلمين للناس لمحاربة مقاصد السوء، وإبطال كل فعل للإعراض عن الهداية والرشاد.
    السادسة: يتلو المسلمون آيات القرآن لتذكير أهل الكتاب بأمور:
    الأول: ما يجب عليهم من الإيمان.
    الثاني: نشر مبادئ التوحيد في الأرض.
    الثالث: التنزه من إرادة الإعوجاج ومفاهيم الجحود.
    السادسة: من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم به المسلمون الزجر عن الضلالة ومقدماتها، وبيان سوء نية وقصد إرادة إرتداد نفر من المسلمين، قال تعالى[وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ]( ).
    السابعة: لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس لما فيه نفع وصلاح أهل الكتاب ، ومنه بلحاظ المقام:
    الأول: التحذير من الذين يريدون الميل عن الحق والهدى.
    الثاني: تلاوة آيات القرآن التي تتضمن توبيخ أهل الإعوجاج.
    الثالث: توكيد بطلان عمل من يريد إنحراف المسلمين عن جادة الحق، فمادة هاتين الآيتين مع المسلمين يتلونهما في صلاتهم، ويستحضرون مضامينها في الواقع اليومي ليكونوا في حرز من الميل والإنحراف عن الإستقامة فمن خصائص(خير أمة) الوقاية بآيات القرآن وتلاوتها من أسباب الصدود.
    الثامنة: عدم أهلية الصد عن سبيل الله لمعارضة إيمان المسلمين، وجهادهم في سبيل الله، فهم يؤمنون بالله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
    فمن معاني خروج المسلمين للناس تعدد وظائفهم في الإصلاح ومناهجه وتعيين ضوابط المنكر الظاهر والخفي، وبيان قبح الظلم والتعدي، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
    وهل الصد عن سبيل الله من الضلالة والظلم , الجواب نعم فهو ظلم للنفس والغير.
    التاسعة: أبى الله عز وجل إلا أن يجعل أمة تعبده وتذكره وتسبحه في الأرض، يراها أهل السماء، وتكون موضوعاً لإستدامة الحياة في الأرض، وشاهداً على تحقيق مصداق علة خلق الناس , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ولكن أهل الكتاب يريدون خلاف هذا، ومن يريد ما يخالف إرادة الله في الخلق، فلا يحصد إلا الخيبة والخسران، لذا فإن الإستفهام الإستنكاري في الآية إخبار عن بقاء الإستقامة وعدم حصول الإعوجاج.
    العاشرة: لما جاءت هذه الآية بالإخبار عن الخير العظيم لأهل الكتاب لو إختاروا الإيمان، ذكرت آية السياق مصداقاً للخير يتجلى بتنزه أهل الكتاب عند الإيمان من مقاصد السوء، ومسالك الإعوجاج.
    فإن قلت كيف وصفت الخير بأنه عظيم مع أن الآية محل البحث ذكرته بصيغة الإطلاق(خيراً لهم) والجواب من وجوه:
    الأول: جاء ذكر(الخير) في الآية بلغة الوعد الكريم من عند الله.
    الثاني: جاء لفظ الخير في الآية لإرادة اسم الجنس والمصاديق الكثيرة منه.
    الثالث: من أفراد الخير في المقام:
  5. التنزه عن فعل السوء.
  6. إظهار التوبة.
  7. فعل الصالحات.
    الرابع: البشارة بالثواب لإختيار الإيمان، قال تعالى[وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ] ( ).
    الحادية عشرة: توكيد حاجة الناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج المسلمين، فإذا كان أهل الكتاب وأتباع الأنبياء السابقين يبغونها عوجاً بعد أن بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم قاموا بتحريف البشارات التي وردت فيه، وحاولوا صد الناس عن الإسلام .
    والجواب تقتضي الوظيفة الشرعية التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ).
    الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حاجة للناس وعلة لتعاهد الصلاح في الأرض، فحينما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض كما في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
    جاءت الآية محل البحث لتكون مصداقاً لرد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، يتجلى بوجود أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وفي هذا الأمر والنهي أمور:
    الأول: منع الفساد في الأرض.
    الثاني: إنه برزخ دون شيوع مفاهيم الضلالة والشرك.
    الثالث: فيه حجة على الذين يبغونها عوجاً، وزجر لهم، ولا أحد يعلم ماذا يحدث من الفساد والضرر النوعي العام البليغ لو لم يقم المسلمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيهما الصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد، لتكون هاتان الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين على وجوه:
    الأول: إنهما شاهد على الأزمنة المتعاقبة، وأسباب الصلاح فيها ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
    الثاني: دعوة الناس للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله.
    الثالث: نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض وسبيل هداية للناس جميعاً.
    صلة(وأنتم شهداء) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
    الأول: وأنتم شهداء أن المسلمين خير أمة.
    الثاني: وأنتم شهداء أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس.
    الثالث: وأنتم شهداء أن المسلمين يأمرون بالمعروف.
    الرابع: وأنتم شهداء أن المسلمين ينهون عن المنكر.
    الخامس: وأنتم شهداء أن المسلمين يؤمنون بالله.
    السادس: وأنتم شهداء أن الإيمان خير لكم.
    السابع: وأنتم شهداء منكم المؤمنون وأكثركم الفاسقون.
    الثانية: لقد جعل الله عز وجل الحجة له على الناس جميعاً، فمن خصائص الدنيا أنها(دار الحجة والبرهان) فليس من مخلوق إلا وقد أقام الله عليه الحجة , والشواهد في خلقه ونعمة بعثه وإستدامة وجوده، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، ومن خصائص الحجة في المقام وجوه:
    الأول: إنها دعوة للهداية والرشاد.
    الثاني: فيها عون للمسلمين وسلامتهم عند القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكون مقدمة له.
    الثالث: بعث الإنسان على التدبر في قوله وفعله وإختياره.
    الرابع: الحجة على الناس سبيل إلى التوبة والهداية.
    الخامس: الحجة شاهد على الناس يوم القيامة، ومانع من إعتذار الكفار، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ]( ).
    الثالثة: لقد جعل الله عز وجل عند الإنسان العقل رسولاً باطنياً يدعوه للتدبر في الآيات الكونية، ومعجزات الأنبياء، فجاء قوله تعالى(وأنتم شهداء) لحث أهل الكتاب والناس على التدبر فيما يتجلى في أفعال المسلين من وجوه:
    الأول: ثبات المسلمين على الإيمان.
    الثاني: صبر المسلمين وتحملهم الأذى في ذات الله,
    الثالث: مواصلة المسلمين الجهاد، وزحفهم متآخين متزاحمين لميادين القتال إمتثالاً لأمر الله ورسوله، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
    الرابع: مجيء المدد للمسلمين وهو على أقسام:
  8. المدد الملكوتي في معارك القتال، ويقترن به على نحو الوجوب والقطع النصر والظفر للمسلمين، والهزيمة للكفار والظالمين.
  9. المدد بالوحي ونزول آيات الهداية والرشاد في سنن القتال، والبشارة بالنصر، والجنة للشهداء، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
  10. المدد بدخول الناس الإسلام على نحو متعدد ودفعي، بما يزيد المسلمين قوة ومنعة.
  11. وقوع الظفر للمسلمين في ميادين القتال، وفتحهم الأمصار بفضل من الله عز وجل.
    الرابعة: كما أن الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار، فإنها دار شهادة يشهد فيها الإنسان أموراً:
    الأول: الآيات الكونية التي تدل على عظيم قدرة الله عز وجل.
    الثاني: معجزات الأنبياء العقلية والحسية.
    الثالث: الحوادث والوقائع.
    الرابع: حال الإنسان نفسه، وما يطرأ عليه من إختلاف الحال فكما يكون الإنسان شاهداً على غيره فإنه يكون شاهداً على نفسه.
    الخامس: المائز الذي يتصف به المسلمون وسلامة إختيار الإيمان، لذا فإن قوله تعالى(وأنتم شهداء) لوم وحجة على أهل الكتاب، فالأصل أن تكون شهادة الناس لأحوال المسلمين على وجوه:
    الأول: إنها زاجر عن إيذاء المسلمين.
    الثاني: السعي للإستقامة، والثناء على أهل الإيمان.
    الثالث: مباركة الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم إختاروا الحق وسبيل الهدى.
    الرابع: إظهار البشارات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تضمنتها الكتب السماوية السابقة، وفي الشهادة في الدنيا آية من وجوه:
    الأول: إنها من خصائص خلافة الإنسان في الأرض وعمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض رد الله عز وجل بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ومن مصاديق العلم الإلهي الذي تشير إليه هذه الآية شهادة الإنسان على عصره ونفسه وأقرانه.
    الثاني: بيان أهلية المسلمين لنيل مرتبة (خير أمة) بشهادتهم على الناس بالحق قال تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] ( ).
    الثالث: الشهادة حجة على الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي أعم من أن تنحصر باللسان، فتشمل ما يدركه العقل وما تفعله الجوارح، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
    الرابع: شهادة الناس لما يقوم به المسلمون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يظهرونه من التقيد بالفرائض والواجبات العبادية، وهو من رحمة الله عز وجل من وجوه:
    الأول: ترغيب الناس بدخول الإسلام.
    الثاني: التخفيف عن المسلمين، بإجتناب شطر من الناس الإضرار بهم.
    الثالث: فضح الظالمين، والمنع عن إتباعهم لظهور مخالفتهم لما تدعو إليه الفطرة , قال تعالى[لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( ).
    وقد لا يلتفت الإنسان إلى قبح الظلم وحسن الإيمان إلا بعد وجود المصداق الخارجي للإيمان، فتفضل الله عز وجل على الناس بالمسلمين ليكونوا(خير أمة أخرجت للناس) وجعل الناس شهوداً على جهاد المسلمين في سبيل الله، ومن الآيات عموم الشهادة، فتشمل أهل الكتاب والناس جميعاً.
    الخامسة: تحتمل الشهادة في المقام وجوهاً:
    الأول: إنها أمر طوعي وإختياري فللإنسان أن يشهد، وله أن لا يشهد.
    الثاني: تحدث الشهادة على نحو إتفاقي، فمن كان حاضراً الواقعة والحادثة ونحوها شهد، ومن لم يحضر يسقط عنه القلم للجهل والعذر بعدم العلم.
    الثالث: إختصاص الشهادة بالفريق الذي يبغيها عوجاً، دون عامة أهل الكتاب.
    الرابع: الشهادة أمر قهري وهو حتمي الوقوع.
    الخامس: عموم الشهادة، فكل إنسان يكون شهيداً.
    والصحيح هو الرابع والخامس، لأمور:
    الأول: أصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين.
    الثاني: الدنيا دار الشهادة والموعظة.
    الثالث: ذات الشهادة حجة، مع أن وصف أهل الكتاب ورد بصيغة اللوم لهم، فإنه من اللطف الإلهي، وتقريبهم والناس إلى منازل الطاعة، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الذم والتوبيخ للإصلاح والهداية.
    السادسة: بيان حاجة الناس للمسلمين كخير أمة بتلاوة آيات القرآن التي تتضمن الحجة على الناس، ولو أن المسلمين توجهوا باللوم من عندهم فهل يكون من مصاديق(خير أمة) الجواب لا، لأن الإنسان في قوله قد يدرك الصواب والحق، وقد يخطأ في اللوم، وتتجلى معاني(خير أمة) من وجوه:
    الأول: يحمل المسلمون راية كلام الله، ويقرأون ما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثاني: إتعاظ المسلمين أنفسهم من آيات الذم والتوبيخ الموجهة إلى غيرهم، قال تعالى في وصف المؤمنين[وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا] ( ).
    الثالث: إجتهاد المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    الرابع: شهادة المسلمين على الناس، وشهادة الناس على المسلمين، مع التباين في موضوع الشهادة.
    صلة(وما الله بغافل عما تعملون) بهذه الآية
    وفيها مسائل:
    الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين، والذم للذين يصدونهم عن سبيل الله.
    الثانية: توكيد الثواب العظيم الذي يأتي للمسلمين من الأذى الذي يلقونه من أهل الكتاب.
    الثالثة: من خروج المسلمين للناس تلاوة آيات الإنذار والوعيد للذين يصدون الناس عن سبيل الله، وإخبارهم بأن الله يعلم مكرهم وكيدهم.
    الرابعة: جاءت خاتمة آية السياق من علم الغيب، وكذلك بداية الآية محل البحث، إذ أن قوله تعالى(كنتم خير أمة) من العلم الذي لا يعلمه إلا الله، وقد تفضل بالإخبار عنه ليكون بشارة للمسلمين، قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ).
    الخامسة: من خصائص(خير أمة) بعث السكينة في نفوس أفرادها بفضل من الله عز وجل، وليس من حصر لمواضيع وكيفيات هذا البعث، وجاء في آية السياق إخبار أهل الكتاب بأنه تعالى يعلم سعيهم للإضرار بالمسلمين ومبادئ الإسلام، ليكون هذا الإخبار في مفهومه بشارة للمسلمين من وجوه:
    الأول: دفع الكيد والمكر عن المسلمين، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
    الثاني: منع وسلامة المسلمين , وهذا المنع بواقية من الله عز وجل.
    الثالث: بشارة نزول البلاء بالذين يريدون السوء بالمسلمين.
    السادسة: لما أخبرت الآية محل البحث بأن المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، جاءت هذه الآية لتخبر بأن الله عز وجل يمدّ المسلمين بمواضيع المعروف والأمر به، وهذا المدد نهر جار ينهل منه كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة لأنه وارد في التنزيل، وثنايا آيات القرآن، لذا تفضل الله عز وجل وعصم القرآن من التحريف والتبديل والتغيير، ويتجلي الأمر والنهي في المقام من وجوه:
    الأول: تأديب المسلمين وتعليمهم كيفية الإحتجاج.
    الثاني: جمح سلطان النفس الغضبية، ومنع المسلمين من الإنتقام من الذين يصدونهم عن سبيل الله، لأن الله عز وجل قد تكفل صرف ضررهم والإنتقام منهم.
    الثالث: إرتقاء المسلمين في المعارف الإسلامية بالتسليم بأن الله عز وجل أحاط بكل شيء علماً وأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية.
    السابعة: كما أن الإيمان بالله مطلوب بذاته فإنه مقدمة لمصاديق من الفضل الإلهي لتثبيت هذا الإيمان فلما جاءت هذه الآية بوصف المسلمين(تؤمنون بالله) وردت خاتمة آية السياق خطاباً لأهل الكتاب وكشفاً لمكرهم بالمسلمين ليزداد المسلمون إيماناً ويعلمون أن الله معهم وهو ناصرهم، وفي التنزيل[رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] ( ).
    الثامنة: لما أختتمت الآية محل البحث بالإخبار عن كون أكثر أهل الكتاب فاسقين جاءت خاتمة هذه الآية بالإنذار والوعيد على الفسق وما يترشح عنه من سوء الفعل أزاء المؤمنين، وفيه بيان لحقيقة بأن الوصف القرآني لقوم وفعلهم يتعقبه الإخبار عن علم الله به وإحصائه له، وتأتي آيات أخرى فتذكر نوع العقاب الذي ينتظر الفاسقين، والثواب الذي أعدّه الله للصالحين.
    التاسعة: منع التهاون وطرد الغفلة عن المسلمين، وحثهم على العمل والجهاد في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحذير الناس من الصد عن سبيل الله، وتلك آية إعجازية للقرآن، فلما قام فريق من أهل الكتاب بالسعي للصدوف عن الإسلام جاءت هذه الآية لأمور:
    الأول: كشف هذا السعي الخبيث وإطلاع عموم المسلمين عليه.
    الثاني: تحذير المسلمين.
    الثالث: الإخبار عن علم الله عز وجل بالمكر الظاهر والخفي، وفيه سكينة للمسلمين لصرفه عنهم، قال تعالى[وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( ).
    الرابع: إشغال الفاسقين والكفار بأنفسهم.
    الخامس: حث المسلمين على الأخوة والتعاضد لمواجهة أسباب صدهم عن أداء الوظائف الشرعية، والتي تجب في الأصل على كل مكلف ومكلفة.
    السادس: إبطال أثر الصدود وإعراض الناس عن محاولات المنع عن دخول الإسلام، ويتجلى أثر هذا الإبطال بأمور:
    الأول: دخول الناس جماعات في الإسلام.
    الثاني: عدم حصول إرتداد عند المسلمين.
    الثالث: شوق المسلمين للشهادة، وزحفهم لسوح القتال.
    الرابع: تجلي معاني إبطال الصدود في الواقع وحال السلم والحرب، قال تعالى[وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ]( ).
    السابع: التذكير بعالم الآخرة، والحساب يوم القيامة، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
    العاشرة: تتضمن الآيتان الإخبار عن علم الله تعالى، وأنه سبحانه يبين علمه ويخبر الناس به لوجوه:
    الأول: هذا البيان من فضل الله على المسلمين والناس جميعاً.
    الثاني: إنه شاهد على أن المسلمين(خير أمة أخرجت للناس) فهم يتلون الآيات التي تبين علم الله عز وجل بالوقائع والحوادث، وينفردون بخصوصية وهي التلاوة المتكررة في كل يوم لآيات القرآن.
    الثالث: نفي الجهالة والغرر عن الناس، وإنذار الذين يصدون عن سبيل الله، وتحذير الناس عموماً من الإصغاء لهم، وهل يشمل هذا الإنذار المسلمين الجواب نعم، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
    وشمول المسلمين بالتحذير من خصائص(خير أمة) فإن قلت الكفار أيضاً مشمولون بهذا الإنذار فما المائز , والجواب من وجوه:
    الأول: يتلقى المسلمون الإنذار ليتعاهدوا الإيمان.
    الثاني: إتعاظ المسلمين من الإنذار، وإتخاذه درساً وعبرة، وإستحضاره في حال الإبتلاء.
    الثالث: إنتفاع المسلمين من الإنذار بالحيطة والحذر من محاولات الصد عن سبيل الله.
    الرابع: تنبيه المسلمين بعضهم لبعض لوجوه من الضرر القادم من السعي للصد عن سبيل الله.
    الخامس: التدبر في آيات الإنذار والتفقه في الدين.
    بحث بلاغي
    من ضروب البديع الإفتان، وهو الإتيان بموضوعين متباينين كالجمع بين المدح والذم، والبشارة والقرآن ويتجلى في القرآن في الآية الواحدة، وفي الآيات المتعددة على نحو أكثر بياناً.
    وإبتدأت الآية محل البحث بالخطاب للمسلمين بالمدح والثناء، أما آية السياق فإبتدأت بالخطاب لأهل الكتاب على فعل يستلزم التحذير والزجر.
    وإذ ذكرت هذه الآية قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جهاد وسعي في سبيل الله، ذكرت آية السياق سعي أهل الكتاب في الصد عن سبيل الله، مما يدل على التباين والتعارض بين الفعلين وأن الأمر بالمعروف لا يكون وحده في الأرض فهناك فعل معارض له مما يستلزم من المسلمين بذل الوسع فيه، ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الجهاد الذي يأتي معه المدد والتوفيق، قال تعالى[الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]( ).
    وأن الصد عن سبيل الله ليس وحده في الأرض بل معارض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعادل بين الأمرين، بل الترجيح ظاهر للأمر بالمعروف من وجوه:
    الأول: مؤازرة النهي عن المنكر للأمر بالمعروف، أما الصد عن سبيل الله فليس له من مؤازر أو نصير.
    الثاني: موافقة العقل والفطرة الإنسانية للأمر بالمعروف لما فيه من الحسن الذاتي، ونفرة النفوس من المنكر وأسباب الظلم وإن كان للنفس، لذا تجد آيات القرآن تؤكد على ظلم الكافرين لأنفسهم لتذكيرهم بأن هذا الفعل قبيح ذاتاً قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
    الثالث: المدد والعون الإلهي للآمرين بالمعروف.
    الرابع: بعث الأنبياء ونزول الكتب من السماء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله عبادة وطاعة لله عز وجل.
    الثاني: تولي المسلمين جميعاً لوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو الوجوب الكفائي المتجدد قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( )، بينما لا يشترك أو يتعاون جميع أهل الكتاب في الصد عن سبيل الله لوجوه:
    الأول: وجود أمة مؤمنة من أهل الكتاب لقوله تعالى في الآية محل البحث(منهم المؤمنون).
    الثاني: القبح الذاتي للصد عن سبيل الله.
    الثالث: توالي نزول آيات القرآن وما فيها من الإعجاز، وتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الرابع: فضح الآية محل السياق لمحاولات الصد عن سبيل الله.
    الخامس: إزدياد المسلمين قوة، وظهورهم في المعارك، قال تعالى[إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ).
    السادس: سلامة وعصمة المسلمين من الإرتداد.
    السابع: يبعث عدم ترتب الأثر على محاولات الصد عن سبيل الله اليأس والقنوط في نفوس الفاسقين , مع بقاء دعوة خير أمة لهم لدخول الإسلام , كما أن السكينة والعز الذي يكون عليه المسلمون ترغيب بالتوبة والعافية المصاحبة لها .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn