المقدمــــــــة
الحمد لله الذي أنزل على صاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله سلم القرآن[كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ] ( ).
وفي الآية أعلاه أمور :
الأول: بيان التحدي والإعجاز في تلاوة القرآن .
الثاني: المنافع والآثار الحسية الظاهرة المترتبة على التلاوة , وتجددها مع التكرار والإعادة.
الثالث: إن آياته لا تمل في قراءتها وسماعها.
الرابع: تحافظ الآيات بذاتها ومعانيها على منزلتها عند النفوس وأثرها في القلوب لما فيها من الإعجاز الذاتي والعرضي، والفرائد البلاغية المتجددة والقدسية التي تتجلى للمؤمن وغيره.
وفي معنى(مثاني) ورد قولان:
الأول: تشابه القرآن في قصصه المتكررة وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه.
الثاني: يثنى القرآن في تلاوته لأن المثاني جمع مثنى، أي مردد ومكرر.
ويمكن أن نضيف لهما معنى ثالثاً جديداً وهو تثنية الآيات في التفسير والإستدلال وأحكام الإستنباط، وتجلي معاني جديدة ودرر من كنوز القرآن , وذخائر علومه غير المتناهية.
إذ جاء هذا الجزء وهو الرابع والثمانون من هذا السِفر المبارك آية من شآبيب رحمة الله، ونوراً علمياً يشع على القلوب المؤمنة، وتتلقاه النفوس بالغبطة والرضا.
ولم يكن هذا الجزء وفق الأصول المتعارفة في علم التفسير، بل هو ثورة علمية لم يشهد لها التأريخ، وموسوعة عقائدية مترشحة من فيض نظم وصلة آية قرآنية واحدة ببعض آيات القرآن , وهو في صلة آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ببضعة آيات مما قبلها ليكون الجزء الثاني من أصل اكثر من مليون جزء خاص بعلم سياق الآيات وحده الذي أسسته في تفسيري هذا، وبدأته بنحو خمسة أسطر في كل آية، حتى إذا بلغنا الجزء السبعين وبعد أكثر من عشرين سنة من كتابة الجزء الأول، جاء الفيض الإلهي بهذه الإشراقة التي تطل على الأرض، فقد أصبح رقم المليون متداولاً ومتعارفاً عند الناس في باب المال والتجارة والإحصاء والأجناس، ليدخل القرآن بالأولوية والإعجاز الذاتي في هذا الميدان بعلوم وأرقام لم تطرأ على الوجود الذهني .
وإذ يتعذر عليّ إكمال هذا السفر خصوصاً واني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بمفردي، سأكتب إن شاء الله ثلاثين جزء في صلة هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة من سورة آل عمران وسورة البقرة والفاتحة فقط، لتكون نواة وأساساً لهذا الصرح العلمي العظيم ويجب على العلماء في الأجيال اللاحقة إتمام هذا المشروع العلمي وبموضوعية ومنهجية أكثر في المضمون والموضوع والأحكام.
ولعل من معاني المثاني بلحاظ تفسيرنا هذا هو الجمع بين كل آيتين من القرآن في إقتباس وإستنباط علوم جديدة ليكون المجموع بلحاظ جميع آيات القرآن وحاصل الضرب بينها هو6236X6235=460,881, 38 ثمانية وثلاثين مليوناًً وثمانمائة وواحداً وثمانين وأربعمائة وستين علماً.
إنه فيض ولطف من عند الله، ونعمة عظيمة يلازمني معها الشعور بالتقصير في الشكر على هذا النعمة، وعلى عدم تسخير وقتي كله للتفسير إذ أن محاضرات البحث الخارج على فضلاء الحوزة العلمية في الفقه والأصول والتفسير والأخلاق تأخذ شطراً منه، وأسال الله عز وجل إتصال وإستدامة المدد من عنده تعالى، وأن يزيدني وإياكم من إفاضاته [ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ] ( ).
قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]الآية 110.
صلة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالآية السابقة[وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ) , وفيها مسائل :
المسألة الأولى: لقد جعل الله عز وجل أمة من الناس تتعاهد إعلان التوحيد، وتبين أن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل لا يشاركه فيه أحد، وتدعو إلى دخول الجنة والوقاية من النار، ففاز المسلمون بهذه المرتبة وإستحقوا إسم(خير أمة).
المسألة الثانية: هل وصف المسلمين بأنهم (خير أمة) تعريض أو ذم بالأمم الأخرى، والملل السابقة للإسلام، الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية في مدح المسلمين، وليس من ملازمة بين مدح المسلمين وذم الأمم الأخرى.
الثاني: إذا كان هناك ذم لأمم أخرى فهو مستقرأ من قصصهم في القرآن كما في قوله تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث: الثناء على المسلمين رحمة بالناس كافة , وإعانة لهم للعبور على الصراط يوم القيامة, وهو من عمومات قوله تعالى في خاتمة الآية أعلاه(وإلى الله ترجع الأمور).
الرابع: في هذه الآية بيان لحاجة الناس لخير أمة.
الخامس: قد ورد في القرآن ذكر تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ولم يحمل على ذم الأمم الأخرى.
السادس: تتضمن آية(خير أمة) الجواب على هذا القول بتوكيدها على قانون ثابت وهو أن(خير أمة) أخرجها الله عز وجل لنفع الناس وإنقاذهم من الضلالة.
السابع: إمكان دخول أي إنسان إلى(خير أمة) وصيرورته منها له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وترد هنا مسألتان :
الأولى : لو دخل الناس كلهم في الإسلام فأين المصداق العملي لقوله تعالى(أخرجت للناس) .
الثانية: لا تبقى ذات النسبة بين الناس والمسلمين أي العموم والخصوص المطلق وأن الناس أكثر من المسلمين بل تكون النسبة هي التساوي والإتحاد بين المسلمين والناس.
والجواب ليس فيه خلاف لمنطوق الآية الكريمة إذ يدل موضوع إخراج المسلمين للناس على الغيرية وأن المسلمين أخرجهم الله، ويمكن القول بلحاظ نسبة العموم والخصوص أعلاه أن الله عز وجل أخرج المسلمين لأنفسهم وللناس جميعاً , فحتى لو أسلم الإنسان فإن المسلمين يلاقونه بمعاني الأخوة الإيمانية , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والآية إنحلالية وتقديرها على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة أخرجت لنفسها.
الثاني: كنتم خير أمة أخرجت لأهل الكتاب.
الثالث: كنتم خير أمة أخرجت للمشركين.
الرابع: كنتم خير أمة أخرجت للناس جميعاً الموجود والمعدوم الذي لم يأت بعد، ويحتمل إنتفاع المعدوم من(خير أمة) وجوهاً:
الأول: ينتفع من قرنه وأهل زمانه من أفراد(خير أمة).
الثاني: ينتفع من البعثة النبوية وآيات القرآن خاصة.
الثالث: من جهاد المؤمنين في معركة بدر وأحد وحنين.
الرابع: من علماء الأمة خاصة الذي هم في زمانه.
الخامس: من أهل البيت والصحابة لأنهم مرآة سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس: عموم علماء الإسلام في الأجيال المتعاقبة.
السابع: ينهل من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها صحيحة، إذ أن المعدوم ينتفع من إفاضات(خير أمة) التي يتصل آخرها بأولها، وهم كالنجوم المضيئة، وكل فرد منهم يكون :
الأول: سبب الهداية والرشاد .
الثاني: طريق مبارك للمعرفة.
الثالث: مصداق حاضر من عمومات قوله تعالى(خير أمة أخرجت للناس).
الرابع: مرآة للصلاح , وبرزخ دون الفساد .
ومن الشواهد على هذا التفصيل مضامين الآية الكريمة من جهات:
الأولى: نعت المسلمين بأنهم(أمة) وفيه دلالة على تعاونهم في موارد الخير والصلاح.
الثانية: من مصاديق خير أمة التآخي والإتحاد والتمسك بكتاب الله قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الثالثة: خروج المسلمين للناس بصفة الصلاح والخير.
الرابعة: عدم إستثناء جماعة من الناس من الذين خرج لهم المسلمون وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الحياة الدنيا لأن هذا الخروج باب لنزول شآبيب الرحمة على الناس.
المسألة الثالثة: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض جعل عند الناس أمانات هي الأوامر والنواهي، وألزمهم التقيد بها،ويدل عليه ما ورد في الأخبار في تفسير قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( )، ويتصف المسلمون بأمور:
الأول: تعاهد أحكام الشريعة وما فيها من الأوامر والنواهي.
الثاني: التسليم بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الجهاد في سبيل الله.
الرابع: دعوة الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
الخامس: إقامة الحجة على الكفار.
السادس: بقاء معرفة الناس بأن لله ملك السموات والأرض بالمسلمين ودعوتهم إلى الإسلام.
الرابعة: كما تكون زلة العالم أكثر ضرراً، وسبباً للألم والحسرة عند الناس فإن تقصير المسلمين في وظائفهم أزاء أنفسهم وأزاء الناس تترتب عليهم أضرار عامة، لا تنحصر بهم أنفسهم، فجاء مدح المسلمين بأنهم(خير أمة) لبيان تنزههم عن التقصير الفادح الذي يأتي بالأضرار في ملك الله عز وجل.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين ترغيب المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزجر الناس عن الصدود عنهما من الأصل، ولا أحد يعلم العواقب الوخيمة والفساد الذي يترتب على تركهما والتخلي عنهما.
لقد أراد الله عز وجل أن يحفظ ما في السماوات وما في الأرض، ويمتنع الناس عن الإضرار بها بما يأتي لهم بالعذاب العام والإستئصال، ولعله من عمومات قول الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، بتقريب أن الناس سيفسدون في الأرض وتشيع المعاصي بينهم فينزل بهم عذاب الإستئصال فلا تدوم تلك الخلافة في الأرض لأن ما في السماوات وما في الأرض ملك لله، وليس للإنسان الفساد في ملكه، والتمادي في ظلم عباده وعموم الخلائق.
فجاءت آية(خير أمة) التي تتضمن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عمومات قوله تعالى في الرد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أي أن الله عز وجل منع عذاب الإستئصال عن الناس بخير أمة وجهادها في سبيل الله، وفتح باب التوبة والإنابة لكل الناس مع إنتفاء الوسائط بينهم وبين دخول الإسلام.
السادس: لقد بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، يدعوهم لله عز وجل ويترشح هذا العموم على المسلمين وإستحقاقهم لصفة(خير أمة) فليس من نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا أمة تتولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير المسلمين فلا يتهاون المسلمون في وظائفهم العبادية والجهادية بإنتظار تلك الأمة.
فالله عز وجل له ملك السموات والأرض وهو الذي أخبر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين أي أن أمتهم آخر الأمم قال تعالى[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
السادسة: لقد تفضل الله عز وجل وجعل رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، وليس من برزخ يفصل ويحجب بعضهم بسبب الجنس أو القومية أو البلد أو اللون.
وكل إنسان يدرك أن خطابات الرسالة تتوجه إليه، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، وجعل الله عز وجل الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هم (خير أمة) يقومون بوظائف البشارة والإنذار التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومخاطبة الناس جميعاً بهما وفيه مسائل:
الأولى: إخراج المسلمين رحمة بالناس بإعتبار أن آيات القرآن والسنة النبوية سلاح بيد (خير أمة).
الثانية: إنه من مقامات التشريف للمسلمين.
الثالثة: فيه شاهد على ما يمتاز به المسلمون من الخصائص والكرامات في الدعوة إلى الله.
الرابعة: إنه دليل على ما بين أيدي المسلمين من البراهين والحجج المستقرأة من النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليه وهي:
الأول: آيات القرآن ودلالاتها ومضامينها القدسية وإفاضاتها.
الثاني: تلاوة القرآن في الصلاة وغيرها.
الثالث: أداء العبادات والفرائض.
الرابع:إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: بذل الوسع للفوز بالمغفرة التي وردت في قوله تعالى(يغفر لمن يشاء).
السابع: حث الناس على اللحوق بهم، والنجاة من الإنذار والوعيد الوارد في قوله تعالى(يعذب من يشاء) ( ).
الثامن: دعوة الناس للإقرار بالتوحيد وأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل.
السابعة: لما كان كل ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل وأخبر سبحانه عن كون المسلمين(خير أمة) فانه ليس من الناس أمة تعبد الله بالكيفية التي يرتضيها الله إلا المسلمين , وفيه مسائل:
الأولى: إنه آية في الخلق.
الثانية: فيه شاهد على البيان في التقييد الوارد في علة خلق الناس الذي يتجلى في قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة: إقامة الحجة على الناس، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الرابعة: إن العبادة المطلوبة هي التي أمر الله عز وجل , وجاء بها رسله وأنبياؤه.
وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الناسخة، والمحجة البيضاء، فصار المسلمون يحملونها إلى يوم القيامة، يدعون الناس للإيمان والتصديق بها، وتحصيل الفرد الحقيقي المطلوب في علة خلق الناس لتستمر الحياة على الأرض.
الثامنة: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض جعل(خير أمة) تسعى في الأرض لعبادته، ففي كل سنة حينما يأتي موسم الحج تتجلى للعالمين أمور:
الأول: يتوجه المسلمون[مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثاني: يأتون من كل أمصار وبلدان العالم ليجتمعوا في موضع مبارك.
الثالث: يؤدي المسلمون مناسك مخصوصة قد أداها الأنبياء من قبل، ويكونون أسوة للناس في الصلاح وإقامة الفرائض، فيجعل الله سبحانه وفد الحاج ينتقلون في أرضه وملكه لأداء فريضة الحج، ويحين وقت الصلاة فيرى أهل السماء كيف أن المسلمين يقومون بطاعة الله والوقوف بخشوع بين يديه خمس مرات في اليوم، وهو من المصاديق العملية لرد الله عز وجل على الملائكة حين إحتجت على جعل آدم خليفة في الأرض والرد هو قوله تعالى(أني أعلم ما لا تعلمون) من وجوه:
الأول: إن الأرض وما فيها ملك لله عز وجل، وتفضل وجعلها محلاً مباركاً تعبده فيها (خير أمة) من غير حصر بمصر أو موضع مخصوص , وفي العموم في المقام مسائل :
الأولى: سياحة المسلمين في عالم الملكوت.
الثانية: إنه مناسبة للتدبر في عظيم خلق الله.
الثالثة: إدراك الحاجة إلى جذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثاني: من عمومات ملك الله عز وجل عجز الناس عن منع المسلمين من عبادة الله في الأرض , وإنحسار الفساد في الأرض , فالكفار غير قادرين على منع ذكر الله في الأرض.
الثالث: تعمر(خير أمة) الأرض بالعبادة.
الرابع: تقوم(خير أمة) ببناء المساجد التي تنير لأهل السماء الأرض كما تزين النجوم السماء لأهل الأرض.
التاسعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يغفر للمسلمين لجمعهم بين الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه بيان للناس، ونفي للجهالة والغرر، فكل إنسان ذكراً كان أو أنثى يعلم ولو في الجملة الصفات التي تبلغه نيل المغفرة والعفو من عند الله, لأن غشاوة الكفر والضلالة لا تعطل وظيفة العقل في التدبر في عواقب الأمور.
العاشرة: جاءت آية(خير أمة) بأفعل التفضيل(خير) ولم توصف أمة من بين أهل الأرض غير المسلمين بهذا الوصف في القرآن، ويكون معناه بلحاظ الآية محل البحث على وجوه:
الأول: من بين ما لله في السموات وما في الأرض أمة هي خير الأمم.
الثاني: كما فضّل الله عز وجل الأنبياء على الناس، فقد تفضل وفضّل المسلمين على الناس جميعاً.
الثالث: (خير أمة) من عمومات قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، إذ جعل الإنسان خليفة في الأرض ليعمرها بذكره وعبادته سبحانه.
ومن بديع خلقه أن خصّ أمة من الناس من بين الأمم لتكون خير الأمم كما أن إخراجها للناس آية من بديع صنعه، وأمر لا يقدر عليه إلا الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
الحادية عشرة: ورد قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ويحتمل بحسب المقام أموراً:
الأول: تعيين المسلمين بأنهم(خير أمة) من عمومات الآية أعلاه.
الثاني: القدر المتيقن من الآية إرادة الإنسان في خلقته وهيئته.
الثالث: المراد المعنى الأعم بخصوص الإنسان في عقله وعباداته، ونسكه وفطرته على الإيمان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، إذ أن إنتماء الفرد المسلم إلى(خير أمة) هو من التقويم والخلقة والخلق الأحسن، والإستعداد الذي جعله الله عز وجل عنده لقبول المعجزات والتصديق بالنبوة.
الثانية عشرة: من صفات(خير أمة) تبليغ الوعيد السماوي إلى الفاسقين والناس عموماً , قال تعالى[فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( )، والإخبار عن حقيقة وهي أن الأكثر يعصون أوامر الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ولم يأت هذا الوعيد مجرداً، بل جاء مع الترغيب بالتوبة والندامة وبيان عواقب الأمور لإختتام الآية أعلاه بقوله تعالى(وإلى الله ترجع الأمور).
الثالثة عشرة: إبتدأت الآية أعلاه بسور الموجبة الكلية وأن الله عز وجل له كل ما في السموات وما في الأرض، لا يخرج عن ملكه شيء إبتداء أو إستدامة، ليكون هذا الإطلاق في الملك من رحمة الله عز وجل بالخلائق مجتمعة ومتفرقة.
ويفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بالإسلام، والزجر عن الفسوق والضلالة، وأن الخير كله بالإيمان، إذ ورد لفظ خير في آية(خير أمة) مرتين، فأخبرت الآية عن إستقرار الحسن والتفضيل عند المسلمين لقوله تعالى (كنتم خير أمة)، والإخبار عن الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير وأحسن لأهل الكتاب لقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت هذه الآية بصيغة الجملة الإنشائية أما الآية أعلاه فجاءت بصيغة الجملة الخبرية.
الثانية: ذكرت كل من الآيتين اسم الجلالة.
الثالثة: ذكرت هذه الآية اسم الجلالة في الإخبار عن إيمان المسلمين به، أما الآية أعلاه فقد أخبرت عن ملك الله للسموات والأرض.
الرابعة: الله الذي له ما في السموات وما في الأرض يشهد للمسلمين بأنهم (خير أمة) قال تعالى[وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
الخامسة: المسلمون والناس جميعاً هم من ملك الله عز وجل.
السادسة: الله الذي له ملك السموات والأرض لم يترك الناس وشأنهم، بل تفضل وجعل أمة منهم هي خير الأمم.
السابعة: يتفضل الله عز وجل فينزل ملائكة للأمة التي جعلها(خير أمة) في الأرض منذ أن خلق آدم ليكونوا مدداً لها لنصرتها على القوم الكافرين، لأن سكان السموات من ملك الله عز وجل وهم مستجيبون لأمره على نحو الموجبة الكلية.
وفيه وجوه:
الأول: إقتران نزول الملائكة للقتال ونصرة المؤمنين بخروج (خير أمة).
الثاني: بيان مصداق من مصاديق الخروج للناس، وهو إتصاف(خير أمة) بتلقي المدد من السماء.
الثالث: موضوعية المدد الإلهي في إستحقاق وإستدامة صفة(خير أمة) للمسلمين.
الرابع: بيان قدرة الله عز وجل على إنزال الملائكة من السماء، وتعيين وظيفتها.
الخامس: نصر المسلمين في القتال خير محض، ورحمة بالناس جميعاً.
السادس: يأتي نزول الملائكة لخير أمة على وجوه:
الأول: إستجابة لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين, قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الثاني: إنه فضل من عند الله ولطف منه سبحانه , قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الثالث: تعليق نزول الملائكة على تحلي المسلمين على الصبر والخشية من الله عز وجل، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
ترى لماذا إزداد عدد الملائكة مع الصبر والتقوى فيه مسائل:
الأولى: إنه من إعجاز القرآن، وتوكيد ملك الله للسموات والأرض.
الثانية: مع أن الكفار يعودون إلى المعركة بحال أضعف وأوهن من حالهم في بدايتها فإن عدد الملائكة يزداد لما يقارب الضعف، ويحتمل وجوهاً:
الأول: التخفيف عن المسلمين فيما أصابهم من الخسائر , وكثرة عدد القتلى والجرحى في صفوفهم، إلى جانب إنسحاب المنافقين في الطريق إلى أحد وهم نحو ثلث مجموع جيش المسلمين.
الثاني: إرادة البطش بالكفار، لتجرئهم وإصرارهم على التعدي والظلم.
الثالث: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين.
الرابع: بيان موضوعية التقوى والخوف من الله في نزول المدد الملكوتي وزيادة عدده.
الخامس : جعل الصبر سلاحاً وتركة يتوارثها المسلمون, وفيه جهات محتملة:
الأولى: إنحصار الصبر بالمقاتلين في سوح المعارك خاصة.
الثانية: حاجة أهل الثغور إلى الصبر , وفي دعاء الأمام علي بن الحسين لهم عليه السلام: اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَ آلِه وَ حَصِّنْ ثُغُورَ الْمُْسلِمينَ بِعِزَّتِكَ وَ اَيِّدْ حُماتَها بِقُوَّتِكَ وَ اَسْبِغْ عَطاياهُمْ مِنْ جِدَتِكَ… وَ كَثِّرْ عِدَّتَهُمْ وَاشْحَذْ اَسْلِحَتَهُمْ وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ وَ اَلِّفْ جَمْعَهُمْ وَ دَبِّرْ اَمْرَهُمْ وَ واتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ وَ تَوَحَّدْ بِكِفايَةِ مُؤَنِهِمْ وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ وَاَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ وَالْطُفْ لَهُمْ فِى الْمَكْرِ) ( )( ).
الثالثة: إنحصار الصبر بعلماء الأمة والأمراء وأهل الحل والعقد منها.
الرابعة: مصاحبة الصبر للمسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين.
والصحيح هو الرابعة، فكل مسلم ومسلمة يتخذان من الصبر صاحباً ودليلاً، وجاء الخطاب الإلهي للمسلمين جميعاً بالتحلي بالصبر , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
السادس: تنمية ملكة الصبر عند المسلمين والمسلمات, قال تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من إكرام الله لـ(خير أمة).
الثالثة: توكيد حقيقة وهي أن نزول الملائكة أمر بيد الله، وأنه يثيب(خير أمة) على صبرها وتقواها بنزول عدد أكبر من الملائكة، ولقد أظهرت أمم الموحدين السالفة الصبر والتقوى أيضاً ولكنها لم تفز بنزول الملائكة مدداً، وتلك آية في تفضيل المسلمين.
الرابعة: بيان أن الله عز وجل[شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ) وهو الذي يشكر للمسلمين صدق إيمانهم، وجهادهم في سبيل الله ومن مصاديق الشكر الإلهي هذه الآية وجعل المسلمين(خير أمة).
الثامنة: تقر وتؤمن خير أمة بأن الله له ما في السموات، وتقدير الجمع بين بدايتي الآيتين: كنتم خير أمة تؤمنون بأن لله ما في السموات).
التاسعة: هل المسلمون(خير أمة) بين أهل السموات والأرض أم أن التفضيل خاص بأهل الأرض.
الصحيح هو الثاني، فلا يدل الجمع بين الآيتين على تفضيل المسلمين على الملائكة، والقدر المتيقن من الآية تفضيلهم على الأمم الأخرى من أهل الأرض، ليكون هذا التفضيل والإخبار عند دعوة للناس لدخول الإسلام والنجاة في النشأتين.
العاشرة: تفضل الله عز وجل بإخبار(خير أمة) بأن كل ما في السموات السبع والأرض هو ملك له سبحانه.
الحادية عشرة: قيام المسلمين بتبليغ الناس بسعة ملك الله وأنه شامل لكل الخلائق، ويأتي هذا التبليغ بطرق متعددة منها:
الأول: تلاوة قوله تعالى[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] في الصلاة وخارجها.
الثاني: الأمر بالمعروف.
الثالث: الدعوة للإيمان بالله والإقرار بالتوحيد.
الرابع: النهي عن الكفر والجحود.
الخامس: المواظبة على طاعة الله ورسوله.
السادس: تعاهد التنزيل، وسلامة آيات القرآن من التحريف والتغيير والتبديل.
الثانية عشرة: تتوارث(خير أمة) قوله تعالى(ولله ما في السموات) وتؤمن به، ويكون هذا التوارث نوع برزخ من طغيان الكفر والجحود.
الثالثة عشرة: (خير أمة) تتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي نزلت الملائكة لنصرته على الذين كفروا برسالته، وأصروا على قتاله، وأرادوا قتله.
الرابعة عشرة: يعلم سكان السموات أن المسلمين(خير أمة) فعندما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، قال الله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، لتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروج خير أمة من مصاديق قوله تعالى أعلاه، وأسباب منع الفساد في الأرض، وسفك الدماء إذ أنهما أمران قبيحان، وخلاف العقل والفطرة وعلة الخلق، لبيان أن الإنسان قادر على التنزه عنهما متحداً ومتعدداً، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضل ورحمة من الله، وتكون على وجوه:
الأول: إنها حاجة للناس.
الثاني: حفظ قيم الإستقامة والصلاح في الأرض.
الثالث: محاربة الفساد.
الرابع: بيان قبح القتل بغير حق لذا وردت أحكام القصاص في الإسلام قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الخامسة عشرة: حث المسلمين على الدعاء وسؤال نزول الرزق والغيث من السماء.
السادسة عشرة: دعوة المسلمين في الإجتهاد في أداء الفرائض كي يراهم أهل السماء يعمرون الأرض بالعبادة، (وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض) ( ).
السابعة عشرة: جعل المسلمين خير أمة، رحمة بهم، وخير محض ودعوة للناس للإقتداء بهم، لقد إصطفى الله الملائكة للرسالة والنزول بالوحي على الأنبياء قال تعالى[اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ]( )، ولقد تفضل وإصطفى الأنبياء، ثم المسلمين كخير أمة ليرث المسلمون الأنبياء، ويلتقون مع الملائكة في الإصطفاء والإجتباء.
الثامنة عشرة: جاءت هذه الآية بالإخبار عن الإطلاق في ملك الله عز وجل وشموله للسماوات والأرض، وأنه ليس من شيء إلا وهو ملكه وبيده، وفي الجمع بينهما وجوه:
الأول: تأديب الناس جميعاً.
الثاني: عدم وجود شريك لله عز وجل في ملكه، ومشيئته في خلقه من باب الأولوية القطعية، فإذا كان سيد الأنبياء ليس له في أمر الكفار العاندين أمر، فإن غيره ليس له أمر بخصوص الناس سواء الكفار أو غيرهم.
الثالث: لزوم إقرار الناس بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله، وفي هذا الإقرار مسائل:
الأولى: إنه مقدمة للتسليم بإنحصار المشيئة بالله سبحانه.
الثانية: إنه من السعي إلى مرضاة الله عز وجل في عالم القول والفعل.
الثالثة: جذب الناس لمنازل الهداية، والإنتماء لخير أمة.
الرابعة: توكيد المائز بين المسلمين وغيرهم، وكيف أن المسلمين يستحقون صفة خير أمة، قال تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع: لقد تضمنت هذه الآية لزوم قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت آية (وإلى الله ترجع الأمور) لبيان حقيقة وهي أن كل ما في السموات وما في الأرض لله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: إنه توبيخ إضافي للكفار.
الثانية: توكيد قبح الكفر والتعدي على المسلمين.
الثالثة: إنه دعوة متجددة للمسلمين لبذل الوسع في دعوة الناس للإسلام.
الرابعة: الحث على نبذ الكفر ومفاهيم الضلالة.
الخامس: هذه الآية إحتجاج سماوي على الكفار بلغة تخاطب العقول والحواس، فإذا كانت كل الموجودات ملكاً طلقاً لله عز وجل، فليس في محاربة المؤمنين فيه إلا الخسارة، لتكون الآية زاجراً لرؤساء الكفار والأتباع والأحباش والعبيد، عن التعدي على مقامات النبوة و(خير أمة أخرجت للناس)، ومن لا يتوصل إلى هذه المعاني الدقيقة في الجمع بين الآيتين بالإستنتاج، فانه يدرك بالحواس أن كل شيء ملك لله وأنه سبحانه ينصر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين برسالته من عند الله الذين صدقوا بالمعجزات التي جاء بها، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
السادس: يفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثاني: بشارتهم بالنصر والظفر.
الثالث: ندب المسلمين إلى الدفاع عن الإسلام ومبادئه وأحكامه، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ). وحسن الثواب للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله.
الصلة بين(ولله ما في السموات) ( ) وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إن الله الذي له ما في السموات والأرض رؤوف بالناس، إذ تفضل وأخرج لهم(خير أمة).
الثانية: إقامة الحجة على الناس بخروج المسلمين لهم من وجوه:
الأول: نزول ملائكة السماء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن، وما فيها من الإعجاز الذاتي والغيري.
الثاني: نزول ملائكة السماء لنصرة(خير أمة) عندما هجمت عليهم جيوش الكفر لإستئصال كلمة التوحيد وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر(اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) ( ).
الثالث: إن الله الذي له ملك السموات والأرض هو الذي أخرج المسلمين للناس، فلم يكن خروج المسلمين ذاتياً، بل هو من عند الله عز وجل وفيه مسائل:
الأولى: إنهم دعاة إلى عبادة الله إلى يوم القيامة.
الثانية: صيرورة المسلمين أسوة حسنة للناس في الإيمان بالله عز وجل.
الثالثة: إعانة الله للمسلمين في دعوتهم للخير، روي عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حقا أقول لم يكن لقمان نبيا و لكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه و منّ عليه بالحكمة .
كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن عزم علي فسمعا و طاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني .
فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لم يا لقمان قال لأن الحكم أشد المنازل و آكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وقى فبالحري أن ينجو و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة .
و من يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا .
و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة فتعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يؤازر داود بحكمته) ( ).
الثالثة: الله الذي له ما في السموات رؤوف بالناس، فيخرج لهم(خير أمة) وتكون حجة عليهم في لزوم الإقرار بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل.
الرابعة: تسليم المسلمين بأن ما في السموات وما في الأرض لله وحده لا شريك له بها من الشواهد على أنهم خير أمة.
الخامسة: لقد جعل عز وجل الناس محتاجين، إذ تلازم الحاجة عالم الإمكان، فأخرج(خير أمة) لهم لصدهم عن الكفر والجحود، فإن قلت إن المسلمين أيضاً محتاجون الجواب نعم، وفي هذا الخروج رحمة وقضاء لحاجة المسلمين في تعاهد العبادات وسنن التوحيد.
السادسة: في خروج المسلمين للناس أطراف:
الأول: أمة تخرج للناس.
الثاني: عموم الناس الذين أخرج الله لهم المسلمين.
الثالث: صفة المسلمين في خروجهم وهي أنهم(خير أمة) أي أن الله الذي له ما في السموات والأرض أصلح المسلمين لمنزلة خير أمة قبل إخراجهم للناس.
وتجلى هذا الإصلاح ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكمال الدين، وهل هذا الخروج من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )، الجواب نعم من وجوه:
الأول: خروج المسلمين للناس من الشواهد على كمال دينهم، وأهليتهم لوظائف الإمامة بين الأمم.
الثاني: من تمام النعمة تفضيل المسلمين، ونيلهم مرتبة خير أمة، وفيه أمور:
الأول: خروجهم للناس.
الثاني: فوزهم بالثواب العظيم في الصلاح.
الثالث: قيامهم بالدعوة إلى الله.
الثالث: من خصائص الإيمان الذي إرتضاه الله للمسلمين الخروج للناس جميعاً بصيغة(خير أمة).
السابعة: إن الله الذي له ما في السموات لم ينزل للناس ملائكة يعيشون بين ظهرانيهم، بل أخرج من بين البشر أمة مؤمنة تعمل الصالحات لتكون حجة على الناس في لزوم عبادة الله والإقرار بملكيته المطلقة وربوبيته للخلائق كلها وفي رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثامنة: تقدير الجمع بين شطري الآيتين: الله الذي له ما في السموات والأرض أخرجهم للناس) بلحاظ لغة الخطاب.
التاسعة: كما أختتمت هذه الآية بتقسيم أهل الكتاب إلى قسمين قلة وكثرة بلحاظ الإيمان وعدمه، فإنها إبتدأت بتقسيم الناس إلى قسمين:
الأول: خير أمة أخرجها الله للناس.
الثاني: عموم الناس من أهل الكتاب وغيرهم.
العاشرة: إن الله الذي له ما في السموات والأرض يتفضل بمخاطبة المسلمين، وهذا الخطاب نوع إكرام لهم من وجوه:
الأول: ذات الخطاب إكرام، لما فيه من التشريف.
الثاني: الإخبار عن كون المسلمين خير أمة، ولم تقل الآية(صرتم خير أمة) بل جاءت بصيغة الماضوية والفعل(كان) وفيه وجوه:
الأول: الدلالة على الإمضاء والحدوث وتحقق نيل المسلمين لهذه الصفة.
الثاني: إختصاص المسلمين بصفة (خير أمة) لأنهم آخر الأمم، وشريعة الإسلام ناسخة لغيرها، وهي غير منسوخة.
الثالث: دخول معنى(صار) في عمومات لفظ(كان).
الرابع: الإطلاق الزماني في تفضيل المسلمين، والإخبار عن أمور:
الأول: ليس بين الأمم السالفة من هي خير من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المسلمون آخر الأمم وهم حملة لواء التوحيد، وليس من أمة غيرهم تصاحبهم أفضل منهم.
الثالث: المسلمون هم الأمة التي تعظم شعائر الله، إلى يوم القيامة، وليس من أمة تأتي بعدها، فتتضمن الآية دعوة للناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة أن من أراد التشرف بالإنتساب لخير أمة فعليه بدخول الإسلام، وإتيان الفرائض عن الإمام الصادق عليه السلام قال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيئ غيره) ( ).
الحادية عشرة: يتفضل الله على الناس بأمور:
الأول: الله الذي له ما في السموات والأرض هو الذي يأمر المسلمين بالأمر بالمعروف.
الثاني: يدعوهم الله لفعل الصالحات.
الثالث: جعل الناس يقتدون بهم , قال تعالى[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا]( ).
الرابع: جعل المسلمين أسوة حسنة في الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله.
وهل لقوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) موضوعية في صيرورة المسلمين أسوة وقدوة للناس، الجواب نعم من وجوه:
الأول: اللطف الإلهي بتقريب وهداية المسلمين لمنازل خير أمة.
الثاني: إعانة المسلمين على تعاهد هذه المنزلة الرفيعة.
الثالث: قيام المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة(خير أمة) وإشاعة مفاهيم الشكر لله تعالى في الأرض.
الرابع: وصف المسلمين بأنهم(خير أمة) دعوة للناس من وجوه:
الأول: الإقتباس من المسلمين.
الثاني: تلمس أسباب التفضيل وهي ظاهرة بطاعة الله.
الثالث: إجتناب المعاصي وما نهى الله عنه.
الرابع: الإلتفات إلى عالم الآخرة، وحتمية البعث والنشور، وحضور الإيمان يومئذ واقية من النار قال تعالى[وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى]( ).
الثانية عشرة: من المعروف بيان ملك الله للسموات وبديع صنعه والآيات الكونية التي تدل على ربوبيته.
الثالثة عشرة: من الأمر بالمعروف تخويف الكفار من نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، والإخبار عن إنعدام البرزخ وآنات الزمان في نزول الملائكة، لذا قال تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، فمع أن الكفار لم يبتعدوا مسافة كبيرة عن معركة أحد، ولم يكن إنسحابهم مثل هزيمتهم في معركة بدر فكانوا يوم أحد يستطيعون جمع جيوشهم وترتيب صفوفهم والعودة إلى القتال، فإنهم حالما يرجعون يكون ملائكة السماء مدداً حاضراً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فليس من ثمة زمان يستغرقه نزول الملائكة.
وفي حديث الإسراء(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما جاء جبرئيل ليلة الإســراء بالبــراق وأمــره عن أمـر الله بالركوب، قال ما هذه قال: دابــة خلقــت لأجلــك ولها في جنــة عــدن ألف ســـنة، فقال لـه النبي: وما سير هذه الدابة فقال إن شئت أن تجوز بها السماوات السبع والأرضين فتقطــع ألــف عــام وسبــعين ألف مــدة كلمــح البصــر.
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له الخيار في مقدار سرعة البراق أثناء إسرائه ومعراجه مما يدل على عالمية الإسلام وعموم بعثته صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلائق وسيادته وتشريفه، فالله عز وجل واسع كريم إذا أعطى يعطي بالأوفى) ( ).
الرابعة عشرة: إن الله الذي له ما في السموات تفضل على الناس وأمرهم بواجبات ونهاهم عن سيئات، وجعل المسلمين شهوداً على الناس ولا تنحصر وظيفة المسلمين بالشهادة بل يقومون بنهي الناس عن المعاصي والسيئات.
الخامسة عشرة: الإقرار بأن ما في السموات والأرض لله عز وجل مادة للخشية من الله، وسلاح للإحتراز من الذنوب والفواحش.
السادسة عشرة: ترغيب المسلمين بالنهي عن المنكر رجاء الثواب من عند الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
السابعة عشرة: من أفراد إيمان المسلمين إقرارهم بأن السموات السبع وسكانها كلهم ملك لله عز وجل.
الثامنة عشرة: إن إستحضار ذكر الملائكة وإنقطاعهم للعبادة والذكر وعدم مغادرتهم للخشوع طرفة عين باعث للنفرة من الذنوب والغفلة والمعاصي.
وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسراء(ثم مررنا بملائكة من ملائكة الله عز وجل خلقهم الله كيف شاء ووضع وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة، أصواتهم مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله.
فسألت جبرئيل عنهم فقال كما ترى خلقوا أن الملك منهم إلى جانب صاحبه ما كلمه كلمة قط ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها ولا خفضوها إلى ما تحتهم خوفاً من الله وخشوعاً فسلمت عليهم فردوا عليّ إيماء برؤوسهم لا ينظرون إلي من الخشوع، فقال لهم جبريل: هذا محمد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولاً نبياً وهو خاتم النبيين وسيدهم أفلا تكلمونه؟ قال فلما سمعوا ذلك من جبريل اقبلوا عليّ بالسلام وأكرموني وبشروني بالخير لي ولأمتي) ( ) ( ).
التاسعة عشرة: بالصبر والتقوى ينزل الملائكة للنصرة والمدد في سوح المعارك( ).
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسائل:
الأولى: إنه مقدمة لنزول النعم الإلهية على المسلمين والناس جميعاً.
الثانية: فيه رحمة بالمسلمين وكل باب من أبواب الهداية رحمة وخير محض.
الثالثة: إنه حجة متصلة ومتجددة على الكافرين.
الرابعة: إنه من أسباب دوام الحياة على الأرض لأنه مصداق من مصاديق عبادة الله.
الخامسة: زيادة إيمان المسلمين، وجعل فعل الصالحات ملكة مستديمة عندهم أفراداً وجماعات، قال تعالى[لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
العشرون: يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وكثرة وقلة، ولكل منهما مراتب متعددة كما بينّاه في الأجزاء السابقة وفي كتبنا الفقهية، وتولي المسلمين لمسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه المتفاوتة بالذات وبلحاظ الزمان والمكان وحسن قيامهم به من الشواهد على تفضيلهم وإصطفائهم ففي كل زمان أو مكان وحال مرتبة للأمر والنهي وإن كان الموضوع متحداً فالمبادرة إلى أداء الصلاة وعدم التخلف عن بعض مقدماتها في المسجد وميدان العمل الوظيفي والدراسي في البلاد الإسلامية، قد لا يكون في بلاد غير إسلامية، وكذا بالنسبة للزمان، لقاعدة الميسور وقاعدة نفي الحرج في الدين.
الحادية العشرون: الله الذي له ما في السموات هو الذي يجعل الناس يصغون لأوامر ونواهي المسلمين بالحق، ويمنع عنهم الضرر بسبب الأمر والنهي.
الثانية والعشرون: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسائل:
الأولى: إنه من تقوى الله.
الثانية: إنه موضوع لتعاهد المسلمين لمنزلة(خير أمة).
الثالثة: إنه سبب لنزول الملائكة لنصرتهم على الكفار، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
الثالثة والعشرون: حث أهل الكتاب على الإيمان بأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل وأنه سبحانه ليس له ولد، قال تعالى[مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا] ( ).
الرابعة والعشرون: من خصائص المسلمين تنزههم عن الغلو بالأنبياء والأولياء، وحثهم الأمم على عدم الغلو بالأنبياء.
وصحيح أن إمتناع المسلمين دعوة صامتة لنبذ الغلو خصوصاً وأنهم(خير أمة أخرجت للناس) ولكنهم يجاهدون لدفع الناس عن منازل الغلو ويتلون الآيات التي تذم الغلو ومفاهيم الشرك والضلالة، وتحذر منها، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ]( ) والغلو مجاوزة الحد من طرف الزيادة والكثرة، ويقابله التقصير وهو خروج عن الحد، ولكن إلى جهة النقصان، وكلاهما مذموم، ومن مساوئ وآثار غلوهم في الدين ظهور حال الشك والريب في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الغلو إدعاء الإلوهية لعيسى عليه السلام والنبوة له ولعزير كما في قوله تعالى[وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ]( ).
الخامسة والعشرون: من خصائص(خير أمة) التحلي بالأخلاق الحميدة والإقتداء بالأنبياء في سمتهم وسننهم قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، وفي حسن الخلق أمور:
الأول: الحسن الذاتي للأخلاق الحميدة.
الثاني: الترغيب بالحسن الخلق.
الثالث: ثناء العقلاء والناس عامة على ذي السجايا الحميدة.
الرابع: حسن الخلق في مفهومه نهي عن المنكر.
الخامس: إنه مقدمة للنهي والمنع من السيئات والفواحش.
السادس: فيه دعوة لفعل الخيرات.
السادسة والعشرون: صيغة الخطاب ولغة المضارع في قوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] تدل على إستمرار المسلمين في الدعوة إلى الله عز وجل وتؤكد تعاهدهم لمنزلة(خير أمة) في أفراد الزمان الطولية بتوفيق ومدد من الله عز وجل، وكل من هاتين الآيتين من ذات المدد والعون الإلهي.
السابعة والعشرون: الثناء على الذين آمنوا من أهل الكتاب، وذم الفاسقين منهم.
الثامنة والعشرون: سيرة وسنن(خير أمة) بيان لحقيقة وهي عدم وجود برزخ بين الهداية والضلالة، وبين الثواب والعقاب وتوكيد خشية المسلمين من الله , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة خير أمة من خلفه[قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] ( ).
صلة(وما في الأرض) وبهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: ليس على وجه الأرض أمة هي مثل المسلمين.
ومن خصائص النفس البشرية السعي إلى الأفضل والأحسن، فتفضل الله عز وجل وبيّن لأهل الأرض جميعاً من هي الأمة الأفضل والأحسن ويسر الإنتماء لها , وفيه مسائل:
الأولى: نفي الجهالة والغرر عن الناس.
الثانية: ترغيب الناس بدخول الإسلام , وفي التنزيل[وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] ( ).
الثالثة: إنتفاء القيود والحواجز دون الإنتماء لخير أمة.
الرابعة: هذا البيان من رحمة الله بالناس جميعاً.
الثانية: الناس جميعاً من ملك الله عز وجل لقوله تعالى(وما في الأرض) وقد خصّ الله عز وجل أمة منهم بأنها (خير أمة) وفيه دليل على أن المسلمين نالوا هذه المنزلة بطاعة الله والتصديق بالأنبياء والكتب التي أنزلها، وعملوا بأحكام الحلال والحرام التي جاء بها خاتم النبيين.
الثالثة: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ملك الله المذكور في الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن من الآية هو ملك الثوابت والجواهر والأعيان.
الصحيح هو الأول، فإن ملك الله عز وجل شامل للأعراض وعالم الأفعال، والأمور الإعتبارية ولا يتعارض معه قيام العباد بأفعالهم في عالم الإختيار.
إن الله عز وجل الذي هدى المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمرهم بهما، وجعلهما واجباً كفائياً أو عينياً بحسب اللحاظ والحال.
الرابعة: لقد جعل الله عز وجل الأرض داراً لسكن الناس منذ أن أهبط آدم عليه السلام برداء الخلافة وصفة النبوة ليكون وذريته من ملك الله عز وجل فيها، وهو من الإعجاز في ذكر الاسم الموصول في قوله تعالى(وما في الأرض) فكل ما كان وما يكون في الأرض من الموجود والمعدوم هو ملك لله عز وجل يستجيب لمشيئته وأمره.
الخامسة: لقد خلق الله الناس ليعمروا الأرض بذكر الله والعبادة، وفيه مسائل:
الأولى: قيام المسلمين بهذه الوظيفة المباركة.
الثانية: شهد لهم الله عز وجل أنهم يؤمنون به.
الثالثة: فيه عزّ لهم في الحياة الدنيا، وبشارة الثواب في الآخرة , قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ]( ).
السادسة: من رحمة الله عز وجل بأهل الأرض حضور السكينة بينهم، وتتجلي في الآيتين بالثناء على المسلمين من الله عز وجل , فالإخبار عن كون المسلمين خير أمة سكينة للمسلمين، وتترشح منافع هذه السكينة على الناس جميعاً بأداء المسلمين للعبادات، ومحاكاتهم لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الصلة بين(وإلى الله ترجع الأمور) وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: البشارة للمسلمين بحسن العاقبة لأن الثناء من الله نوع وعد كريم.
الثانية: إنذار الكفار والذين يحاربون خير أمة.
الثالثة: إن الله عز وجل الذي ترجع الأمور كلها له سبحانه هو الذي وصف المسلمين بأنهم خير أمة.
الرابعة: إن أمور المسلمين وغيرهم من الأمم ترجع كلها لله عز وجل
الخامسة: تقدير الصلة بين الشطر أعلاه وهذه الآية على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة وإلى الله ترجع الأمور.
الثاني: تأمرون بالمعروف وإلى الله ترجع كلها.
الثالث: تنهون عن المنكر وإلى الله ترجع الأمور.
الرابع: تؤمنون بالله وإلى الله ترجع الأمور .
وفي كل منهما وعد كريم بالثواب للمسلمين بالإضافة إلى أن إجتماعهما تثبيت للإيمان في النفوس , وبرزخ دون الجحود.
الخامس: لو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم وإلى الله ترجع الأمور.
السادس: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون وإلى الله ترجع الأمور.
السادسة: تأديب المسلمين، وإرشادهم إلى سبل الصلاح والمواظبة على إعمار الأرض بالعبادة، فالمراد من رجوع الأمور إلى الله عز وجل أعم من خواتيمها وأمور عالم الآخرة، بل يشمل تصريف الشؤون، وتقلب الأحوال والحوادث والوقائع أسباباً وموضوعاً وحكماً وخاتمة، لذا فإن قوله تعالى(كنتم خير أمة) شاهد على تسليم المسلمين بعودة ونسبة الأمور كلها إلى الله عز وجل.
السابعة: إنذار الناس من التفريط بنعمة(خير أمة) والإعراض عن دعوة المسلمين لهم للصلاح والهداية والتي تتجلى في أبهى مضامينها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى[قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ]( ).
الثامنة: هل يدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عمومات قوله تعالى(وإلى الله ترجع الأمور) الجواب نعم بلحاظ أمور:
الأول: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمر من الله عز وجل.
الثاني: العلة الغائية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنافع مصداق من مصاديق كل فرد منهما.
الثالث: تعاهد المسلمين للأمر والنهي.
الرابع: تفقه المسلمين في الدين بما يكون عوناً لهم في كيفية الأمر والنهي وفق الأصول والقواعد.
الخامس: مراتب إستجابة الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون من معاني رجوع الأمور إلى الله وجوه:
الأول: إبتداء الأمور والخلق والتكوين.
الثاني: إستدامة الخلائق والزيادة فيها قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
الثالث: ما هية الأشياء وكيفيتها إبتداؤها.
الرابع: العلة الغائية من الخلق والإيجاد , قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).
الخامس: الآثار المترتبة عليها.
وتلك آية في بديع صنع الله، والتباين في معاني الألفاظ والأمور بأن تكون دلالة كل من الرجوع والأمور أعم وأوسع وأكثر إحاطة وشمولاً.
ليتولى المسلمون مسؤوليات البيان والسياحة في تعدد المعاني وكأن كل لفظ في القرآن من المشترك اللفظي ويتضمن وجوهاً مستحدثة تحتاج إعمال الفكر فيها من منظار الملكية العامة والقدرة المطلقة لله عز وجل، وتكون عبرة وموعظة قال تعالى[قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
التاسعة: في الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين للإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء ظهرت إستجابة وقبول من الطرف الآخر أم لا، فكأن الآية تقول للمسلمين لا بد من إمتثالكم لواجب الأمر والنهي، أما النتائج والآثار المترشحة عن فعلكم في هذا الباب فهو أمر راجع إلى الله عز وجل، بالإضافة إلى الدلالة على نكتة كلامية وهي إحراز المسلمين للثواب بمجرد قيامهم بالأمر بالمعروف، وتصديهم للمنكر، سواء إلتحق الناس بهم وإمتثلوا للأوامر الإلهية في ميادين الوظائف والصلاح، وتجنبوا المنكر والمعاصي، أو إختاروا العناد والإقامة على الذنوب والمعاصي.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين بشارة المسلمين بالثواب العظيم لأن الأمور كلها ترجع إليه تعالى، ومنها عالم الثواب والعقاب وهو من أسرار ذكر أهل الكتاب وذم الفاسقين منهم، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على الوعيد للكفار والظالمين.
الحادية عشرة: ورد اسم الجلالة في هذه الآية، وذكرته الآية أعلاه مرتين، وفيه دعوة للتدبر بالرحمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمواعظ في إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة).
الثانية عشرة: جاءت الآية أعلاه بالإطلاق في ملك الله عز وجل، وجاءت هذه الآية بالثناء على المسلمين وفيه مسائل:
الأولى: إقرار المسلمين بالملكية المطلقة لله.
الثانية: توكيد إظهار المسلمين معاني العبودية والخشوع لله عز وجل.
الثالثة: حث الناس على التدبر في خلق السموات والأرض وإتخاذه وسيلة للإقرار بالوحدانية.
الرابعة: إصلاح المسلمين للإحتجاج بالدليل والبرهان , قال تعالى[قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: الوعد الكريم للمسلمين بأن الفاسقين والكفار لن يضروهم لأن عواقب الأمور ترجع إلى الله قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، والأذى أدنى مرتبة من الضرر، وفيه نكتة، وهي إن ظهر الكفار في واقعة أو موضوع فإن العاقبة تكون بظهور ونصر المسلمين، وكان جولة للكفار سرعان ما تتبدد آثاره، وموعظة ودرساً للمسلمين جيلاً بعد جيل.
الثانية: إنذار الكفار، وزجرهم عن التعدي على المسلمين.
الثالثة: دعوة الناس للنفرة من الكفار، والإبتعاد عن الفاسقين، لأن الأمور كلها بيد الله.
الرابعة: لقد ظن عدد من رؤساء اليهود والذين يستمع لهم كفلر قريش بأن مدة الإسلام لن تطول، ومنهم من لجأ إلى علم الحروف وما تدل عليه الحروف المقطعة في فواتح السور في بدايات نزول القرآن.
فجاءت هاتان الآيتان لتؤكدان معاً بقاء الإسلام ومبادئه وفضل الله عز وجل على المسلمين في النصر والغلبة على الكفار.
الخامسة: مادامت الأمور كلها ترجع إلى الله عز وجل فإن الإيمان حاجة للناس جميعاً وموضوع لدفع البلاء وعندما ترك المسلمون المسجد أوان خطبة النبي في صلاة الجمعة لشراء بضائع من قافلة دخلت المدينة، وللإطلاع على ما فيها من التجارات، ولم يبق في المسجد إلا أثني عشر رجلاً وامرأة واحدة نزل قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا] ( )، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو لا هؤلاء لسموت عليهم الحجارة من السماء) ( ) ، وفيه شاهد على حفظ الناس من الآفات السماوية بالصلاة التي تؤديها(خير أمة).
السادسة: دعوة المسلمين للتوكل على الله في حال الحرب والسلم، وعدم الخشية من الكفار لأن خواتيم الأمور بيد الله عز وجل وأبى سبحانه إلا خزي الكفار والفاسقين، فمن إعجاز الآية القرآنية والجمع بين الآيات تداخل البشارة والإنذار في الموضوع الواحد، وهل هو من إجتماع النقيضين الذي يستحيل حدوثه كما في الفلسفة، الجواب لا للتباين في الجهة التي يتوجهان إليها، إذ تتوجه البشارة إلى المسلمين، والإنذار إلى الكافرين.
السابعة: من رحمة الله عز وجل بالناس أنه لم يكلهم إلى غيره بل جعل أمورهم وحاجاتهم بيده سبحانه، وآية(خير أمة) من أفراد هذه النعمة، وتتضمن تحذير الخارجين عن طاعته ودعوتهم للتوبة والإنابة.
الثامنة: بيان توجه المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الفاسقين والخارجين عن طاعة الله، رجاء الإصلاح والثواب.
صلة(تلك آيات الله) ( ) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: من آيات الله عز وجل بلحاظ الجمع بين الآيتين أمور:
الأول: نعت المسلمين بأنهم خير أمة.
الثاني: تفضل الله بإكرام المسلمين، والثناء عليهم.
الثالث: الآية من عمومات قوله تعالى[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
الرابع: من آيات الله خروج المسلمين للناس جميعاً وعدم إنحصار خروجهم بزمان دون زمان.
الخامس: الدلالة على موضوع الخروج، والذي يتجلى بالتفضيل وأن المسلمين (خير أمة)، والإشارة إلى صبغة الإيمان والصلاح في هذا الخروج.
السادس:حاجة الناس جميعاً إلى وجود أمة من الموحدين، تصدّق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: إصطفاء المسلمين من بين الناس، ليكونوا شهوداً على معجزات الأنبياء، وحجة على الناس في العبادات والمعاملات بإعتبارهم مرآة لأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً]( ).
الثامن: دعوة المسلمين لشكر الله تعالى على آية(خير أمة) وإختيارهم لهذه المنزلة العظيمة.
التاسع: الجمع بين الآيتين توكيد لحقيقة وهي أن الآية محل البحث مدرسة كلامية في كلماتها ومنطوقها، ورحمة من عند الله في ذاتها وموضوعها.
العاشر: كل فعل حسن من المسلمين هو آية من آيات الله عز وجل لأنه تم بلطف منه تعالى عام وخاص، أما العام فهو إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) وأما الخاص فهو توفيق المسلم لفعل الأمر الحسن.
الحادي عشر: رفع اللبس وطرد الجهالة والغرر بين الناس، ببيان من هم الأمة الأفضل والأحسن والتي يجب أن قتدى بها.
الثاني عشر: التخفيف والتيسير في التكاليف بالثناء على المسلمين لأدائهم لها، وتلك آية من عند الله بأن يأمر بالصلاة والصيام والزكاة والحج ثم يثني على الذين يؤدونها ويتعاهدونها، ويشهد لهم بأنهم(خير أمة).
الثالث عشر: لم ينحصر نعت(خير أمة) بجيل مخصوص من المسلمين، بل تلتقي جميع أجيال المسلمين بذات النعت والمدح فيتبع آخرهم أولهم في صفات الحسن والأفعال العبادية وهو آية من فضل الله على المسلمين والناس جميعاً، فيغادر المسلم الدنيا وهو مطمئن لتعاهد ذريته لتركته في الإيمان والصلاح.
الرابع عشر: إتصاف المسلمين بخصوصية وهي عدم تحريف أجيالهم للتنزيل وعدم تبديلهم لسنن الأحكام وكيفية العبادات وهو من خصائص(خير أمة) وقد جاء في ذم الأمم السالفة , قال تعالى[وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ]( ).
الخامس عشر: دلالة مفهوم الآية على ذم الكفار لتخلفهم بإختيارهم الجحود عن منازل(خير أمة).
الخامس عشر: تلاوة المسلمين لهذه الآية من عمومات قوله تعالى(تلك آيات الله).
السادس عشر: ترشح مرتبة(خير أمة) عن تلاوة آيات القرآن وتقدير الجمع بين الآيتين في هذا المعنى(تلك آيات الله والذين يتلونها خير أمة أخرجت للناس).
السابع عشر: تجلي التفضيل والترجيح , وفيه مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين لتعاهد مرتبة (خير أمة).
الثانية: حث الناس على الإلتحاق بهم في مقامات التفضيل.
الثالثة: توكيد حقيقة وهي أن الدنيا مزرعة للآخرة، وترتب الجزاء يوم القيامة على عالم الأفعال في الدنيا , قال تعالى[الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ] ( ).
صلة(تلك آيات الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إيمان المسلمين بالله آية من آيات الله.
الثانية: ثبات المسلمين على الإيمان آية، فقد هجم الكفار على المدينة المنورة بأعداد من الجيوش هي أضعاف عدد صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله ملائكة لنصرة المسلمين، ودفع الكفار قال تعالى[أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، ليكون من مصاديق المدد في المقام إعانة المسلمين في أجيالهم المتعاقبة على تلاوة آيات القرآن، فهناك موضوعية للمدد يوم بدر وأحد في صلاة وعبادات أجيال المسلمين أمس واليوم وغداً.
الثالثة: ملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمسلمين وصيرورتهما ملكة عندهم، وصفة تعرفهم بها أمم الأرض، ويشهد لهم بها أهل السماء، وهو من مصاديق قوله تعالى في الرد على الملائكة يوم خلق آدم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ليرى الملائكة في كل يوم المسلمين والمسلمات دائبين في الصلاح والإصلاح , قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
الرابعة: ترغيب الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس للإنصات لهم، وتستقرأ هذه الدعوة بوصف المسلمين(خير أمة) أي أيها الناس إستمعوا إلى(خير أمة)فيما هو خير محض.
الخامسة: التكامل في الوظيفة العقائدية للمسلمين بإحقاق الحق والدعوة إلى الله عز وجل بأن لا يقفوا عند الأمر بالمعروف بل يتمونه بالنهي عن المنكر لمحاربة الخلط بين العمل الصالح وإرتكاب السيئات، وهذا التكامل من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
السادسة: من معاني الجمع بين أول الآية أعلاه وهذه الآية وجوه:
الأول: تلك آيات الله تأمرون بالمعروف.
الثاني: تلك آيات الله تنهون عن المنكر.
الثالث: تلك آيات الله تؤمنون بالله.
الرابع: ولو آمن أهل الكتاب بآيات الله لكان خيراً لهم.
الخامس: منهم المؤمنون بآيات الله.
السابعة: لقد خلق الله عز وجل الناس للإقرار بربوبيته وعبادته وتفضل عليهم ببعث الأنبياء وإنزال الكتب التي تجذبهم إلى منازل العبادة، ثم تفضل عليهم بقيام الذين آمنوا بالله والأنبياء والكتب السماوية على نحو العموم المجموعي بالأمر بالمعروف والدعوة إلى طاعة الله ورسوله وفعل الصالحات، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثامنة: إن قوله تعالى(وتنهون عن المنكر) آية من آيات الله عز وجل، وشاهد على أن الله عز وجل يتعاهد الناس في صلاحهم، ويقربهم إلى منازل التقوى ويجعل النفوس تنفر من الباطل ومقدمات الضلالة.
والنهي عن المنكر أمر مركب , ومتعدد الأطراف وهي:
الأول: الناهي عن المنكر.
الثاني: المنهي عن المنكر.
الثالث: موضوع المنكر المنهي عنه.
فلابد أن يكون الأول عالماً بحدود المنكر وخصائصه وأضراره ولو في الجملة، لذا فإن قوله تعالى(وتنهون عن المنكر) آية من آيات الله من وجوه:
الأول: الثناء على المسلمين، وتفضل الله عز وجل بمدحهم لحسن فعلهم.
الثاني: بيان جهاد المسلمين في إصلاح الناس.
الثالث: إرادة زجر الناس عن المعاصي، فالمسلمون بسمتهم وحسن سيرتهم حجة على الناس في نبذ المعاصي والسيئات، وجاء النهي عن المنكر وظيفة عبادية جهادية متصلة للمسلمين، فقد لا يلتفت شطر من الناس إلى النهي الصامت عن السيئات بفعل الصالحات، كما في الزجر عن المعاصي الذي يتحلى في أداء الصلاة قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
وليس من دليل على حصر منافع الصلاة في النهي عن المنكر بخصوص المصلي نفسه بل هي عامة للناس، وهو من خصائص(خير أمة) بأن تترشح المنافع عن قيام أفرادها بالعبادة على الناس جميعاً، فيأتيه النهي الصريح عن المنكر في خصوص موضوع قبيح يجب أن يهجره.
الثامنة: إعتبار نهي المسلمين عن المنكر من آيات الله إذ أنه يتم بمدد ولطف من الله، إبتداء وإستدامة، ومادام آية من الله فلابد أن تترتب عليه آثار ومنافع عظيمة من جهات:
الأولى: ذات المتلقي للنهي بالإنزجار عن المنكر والمعصية، أو لا أقل إدراك قبحها.
الثانية: القائم بالنهي عن المنكر من وجوه:
الأول: الحرص على إجتناب ما ينهى عنه، وقد ورد في ذم بعض الأمم السابقة[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] ( ).
الثاني: موضوعية طاعة الله في وظائف النهي عن المنكر.
الثالث: تأكيد مصداق(لخير أمة) بالمواظبة على ما تتصف به من النهي عن المنكر.
الرابع: ترغيب الناس بالنهي عن المنكر، إستماعاً وتدبراً وقبولاً.
الخامس: إتخاذ النهي عن المنكر مقدمة للأمر بالمعروف.
السادس: الفوز بالثواب العظيم والذي يتجلى في المقام بأمور:
الأول: الإمتثال لأمر الله عز وجل بالنهي عن القبائح.
الثاني: السعي في إصلاح المجتمعات.
الثالث: تثبيت معالم الإيمان في الأرض.
الرابع: السعي في إزاحة الباطل، وطرد الرذائل من المجتمعات.
الخامس: إبقاء النهي عن المنكر تركة للأجيال اللاحقة.
الثالثة: إقتباس أطراف أخرى منافع من النهي عن المنكر، وهو على وجوه منها:
الأول: الذي يبلغه موضوع النهي.
الثاني: الذي يرى إتعاظ الذي يتم نهيه عن المنكر فيكون حجة عليه.
الثالث: الذي يقتدي بالناهي عن المنكر في نهيه.
الرابع: المؤازر للناهي في نهيه سواء تكون المؤازرة بالمال أو الجاه أو اللسان أو اليد.
الخامس: الذي يقوم بنقل النهي للآخرين، ويشيع الصالحات، ويبين قبح المعاصي.
وهذه الجهات والأمور كلها من آيات الله عز وجل في تهذيب النفوس، وتقريب الناس لمنازل الطاعة، وترك المعاصي.
التاسعة: إن إستدامة الإيمان بالله في الأرض آية من آيات الله عز وجل، ويتجلى فيها إنحسار مفاهيم الكفر من الأرض.
العاشرة: إعانة المسلمين على الثبات على الإيمان من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )، لما فيها من نشر مبادئ العدل والإحسان في الأرض، والقضاء على الفقر وأسباب الظلم.
الحادية عشرة: إن قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]من آيات الله من وجوه:
الأول: بيان منافع الإيمان في الدنيا والآخرة.
الثاني: ترغيب أهل الكتاب بالإيمان.
الثالث: دعوة الكفار للإسلام من باب الأولوية، مع بيان قبح الكفر ذاتاً وأثراً.
الرابع: توكيد عدم الإكراه في الإسلام، وأن أهل الكتاب لهم مرتبة خاصة، تتجلى بقبول الجزية منهم مع ترغيبهم بالإسلام، قال تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ).
الخامس: ترشح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان بالله، فقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ] يتضمن الحث على الإنتقال إلى منازل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
السادس: توكيد حقيقة وهي أن الله عز وجل غني عن العالمين، غير محتاج لهم ولإيمانهم، هذا الإيمان خير محض لهم.
السابع: بقاء المسلمين في مراتب العز، وتعاهدهم لمنزلة(خير أمة) فمن آيات الله بقاء المسلمين بذات المنزلة الرفيعة سواء آمن أهل الكتاب أو لا، وفيه مسائل:
الأولى: بشارة سلامة الإسلام والمسلمين في زمن العولمة وتداخل الحضارات.
الثانية:تقارب المسافات بين الأمصار، مناسبة للشكر لله عز وجل ببقاء المسلمين في مرتبة(خير أمة) وإن كانت السيادة والقوة لغيرهم في كثير من الأمصار.
الثانية عشرة: من آيات الله إختتام الآية بالتفصيل في أهل الكتاب، وجعل المدار على الإيمان والهداية، وفيه ترغيب بالإيمان وبيان أنه الأهم في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى[يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] ( ).
الثالثة عشرة: بيان رحمة الله بالناس جميعاً بنزول القرآن، وبيان آياته لمعاني الفسق والتحذير منه ولزوم الإعراض عن أربابه , قال تعالى[وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
صلة(نتلوها عليك) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما الآية محل البحث فهي خطاب للمسلمين(كنتم خير أمة).
الثانية: من رشحات تلاوة الله آياته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة المسلمين وإلى يوم القيامة(خير أمة)، وفيه شاهد على تعدد منافع التلاوة، وأنها أعم من أن تنحصر بزمانها ومكانها، فيتلو المسلم القرآن، وتتوالى وتتسع إفاضات بركة التلاوة مكاناً وزماناً.
الثالثة: لولا تلاوة آيات القرآن، ونزولها من عند الله لما كانت هناك أمة هي خير الأمم، فإن قلت بل تحل التي هي أدنى منها مرتبة بدرجة (خير أمة)، والجواب ليس من ترتيب ونسخ في المقام، فقد قسمت الآية أعلاه الناس إلى قسمين:
الأول: خير أمة وهم المسلمون على نحو الحصر والتعيين.
الثاني: عموم الناس الذين أخرج الله لهم (خير أمة).
الرابعة: من خصائص خير أمة تتعاهد آيات القرآن وتجاهد من أجل حفظها والمنع من تحريفها وتغييرها، وتتعاقب السنون والأجيال لتؤكد هذه الحقيقة وبقاء القرآن غضاً طرياً.
الخامسة: خير أمة تتلو آيات القرآن كتنزيلها من غير تحريف أو تغيير.
السادسة: تتقيد(خير أمة)بتلاوة آيات الله في الصلاة اليومية، ولا تمر دقيقة من الليل أو النهار إلا ويسمع ملائكة الله عز وجل تلاوة المسلمين لآيات القرآن سواء في مشارق الأرض أو مغاربها وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في رد الله عز وجل على الملائكة يوم إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض.
السابعة: لقد بادر المسلمون إلى أمور:
الأول: التصديق بنزول آيات الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الإنصات لتلاوة الآيات بفضل ولطف من الله، ويتجلى بقوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث: التدبر في دلالات ومعاني آيات القرآن.
الرابع: التوجه إلى الله بالشكر والثناء على نعمة تلاوة آيات القرآن, ويحتمل الشكر سعة وضيقاً في المقام وجوهاً:
الأول: الإتحاد في الشكر مع التعدد في التلاوة.
الثاني: التعدد في الشكر مع الإتحاد في التلاوة.
الثالث: مقابلة التعدد بالتلاوة بالتعدد بالشكر لله عز وجل.
والصحيح هو الثاني والثالث إلا أن الوجه الأول لا يتعارض معهما، بل هو في طولهما.
الثامنة: لقد آمنت(خير أمة) بلحاظ الآية بأمور:
الأول: القرآن آيات الله.
الثاني: الله عز وجل هو الذي يتلو الآيات قال تعالى[ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]( ).
الثالث: تكون تلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: نزول القرآن بالحق، وهو حاجة للناس جميعاً، ولم تصله يد التحريف والتبديل.
التاسعة: إخراج المسلمين للناس من تلاوة آيات الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشرة: أخرج الله المسلمين للناس ليقوموا بتلاوة آياته عليهم.
الحادية عشرة: إقامة الحجة على الناس ودعوتهم للإسلام بتلاوة المسلمين الآيات عليهم والشهادة بأن القرآن من عند الله.
الثانية عشرة: جاءت الآية بالإخبار عن تلاوة آيات الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى(أخرجت للناس) يعطيها معنى أعم، ويلحق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التلاوة والعمل بأحكام الآيات، فلا غرابة أن يرد قوله تعالى[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا]( )، وهو من أسرار ورود قوله تعالى(نتلوها) بصيغة المضارع، وطراوة آيات القرآن وكأن نزولها متجدد في كل زمان خصوصاً وأن موضوعاتها وأحكامها مناسبة لكل جيل وقرن، وهو من عمومات قوله تعالى(كنتم خير أمة) بلحاظ أن من معاني الأمة: (القرن من الناس) ( ).
الثالثة عشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان لنزول آيات الله بهما، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الرابعة عشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الآيات التي يتلوها الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة عشرة: دعوة المسلمين إلى أمور :
الأول : الجهاد في أبواب الأمر المعروف والنهي عن المنكر .
الثاني : تلاوة آيات القرآن .
الثالث : السعي في مرضاة الله وعدم الخشية من القوم الكافرين.
السادسة عشرة: تثبيت تلاوة الآيات، وتوكيد صدق نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابعة عشرة: شهادة المسلمين على أمانة جبرئيل للقطع والتسليم بأن آيات الله نزلت بواسطة جبرئيل، وأنه أدى رسالته بإيصالها إلى النبي محمد على نحو الدقة العقلية لفظاً وتلاوة.
ومن آيات الله التي يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد في مدح جبرئيل، قال تعالى[ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ]( ).
وفي حديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الآية أعلاه قال لجبرئيل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك فما كانت قوتك وما كانت أمانتك فقال أما قوتي فإني بعثت إلى مداين لوط وهي أربع مداين في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السموات الدجاج ونباح الكلاب ثم هويت بهن فقلبتهن وأما أمانتي فإني لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره) ( ).
الثامنة عشرة: يترشح عن تلاوة آيات الله أداء الوظائف الجهادية والتكاليف العبادية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحكام الحلال والحرام في الشريعة الإسلامية مع الإقرار بأنها نازلة بالحق واليقين من عند الله.
ونال المسلمون شرف التقيد بها وعدم التفريط بجزء منها، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسعة عشرة: توجيه اللوم لأهل الكتاب وكذا للكفار من باب الأولوية القطعية على الإعراض عن آيات الله التي تفضل بتلاوتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم جميعاً.
ويدل الجمع بين قوله تعالى(تلك آيات الله نتلوها عليك) وبين قوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) على نزول الرزق الكريم والبركات على خير أمة وبواسطتهم للناس جميعاً، قال تعالى[هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا] ( ).
العشرون: إقامة الحجة على أهل الكتاب لتلاوة الآيات بالحق على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مصاديق الحق في المقام أن الآيات ومضامينها وتلاوتها تصديق لما أنزل الله على موسى وعيسى، ومصداق للبشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل، قال تعالى[وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
الحادية والعشرون: لقد تلّقى فريق من الناس آيات القرآن بالجدال والإعراض والتكذيب وقالوا في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق بآيات القرآن ومحاولة صرف الناس عنه[مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( ).
ولكن المسلمين أظهروا أسمى معاني الإيمان وجاهدوا بأنفسهم وأموالهم لتثبيت أحكام الله والتي نزلت بالحق فإستحقوا بفضل الله صفة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية والعشرون: تتصف خير أمة بأنها تنفرد بالإيمان بالتنزيل مطلقاً الذي هو حق وصدق.
الثالثة والعشرون: في إيمان المسلمين بالقرآن دعوة للناس للتصديق بتنزيله , قال تعالى[وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ] ( )، وفي محاربة المكذبين بالقرآن أمور:
الأول: إنه من عمومات قوله تعالى(كنتم خير أمة).
الثاني: إنه من خروج المسلمين جميعاً للناس.
الثالث: فيه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
الرابع: ترغيب أهل الكتاب بدخول الإسلام لأن القرآن تصديق للتوارة والإنجيل ومتمم لهما.
الخامس: التباين في وظائف خروج المسلمين بلحاظ مراتب الناس ودرجات تخلفهم عن الإيمان والصلاح، فمنهم من يحتاج الإحتجاج ومنهم يواجه بالجهاد.
الرابعة والعشرون: بإعتبار حذف هذه الآية، ويمكن قراءتها(كنتم خير أمة أخرجت للناس بالحق) وما هو حسن ونافع، وجاء إجتباء المسلمين لمرتبة (خير أمة) لما تتصف به من خصال الحسن.
الخامسة والعشرون: إن قوله تعالى(بالحق) مدد للمسلمين في الدعوة إلى الله والثبات على الإيمان.
لقد زحفت قريش للقضاء على الإسلام بجيوش لم تشهد لها الجزيرة في تأريخها مثيلاً إلا ما كان من إبرهة وزحفه لهدم الكعبة، فإحتاج المسلمون الثبات على الإيمان وإظهار أسمى معاني الصبر والرضا بأمر الله فجاءهم المدد السماوي بنزول الملائكة والآيات.
ومن وظائف آيات القرآن في المقام أنها مقدمة لتحصيل شرط نزول الملائكة قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، ليكون قوله تعالى(بالحق) عوناً للمسلمين لتنمية ملكة الصبر والتقوى.
السادسة والعشرون: تقدير الجمع بين قوله تعالى(بالحق) وخاتمة الآية منهم المؤمنون بالحق وأكثرهم الفاسقون الذين لا يؤمنون بالحق.
والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظيفة الناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ] ( ).
صلة(وما الله يريد ظلماً للعالمين) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إختيار(خير أمة) وهو المسلمون من بين الناس عدل وإحسان وبرزخ دون الظلم من وجوه:
الأول: دعوة المسلمين للإيمان وفعل الصالحات.
الثاني: يجاهد المسلمون من أجل إصلاح الناس، وتثبيت أحكام الشريعة.
الثالث: يقيم المسلمون أحكام الشريعة ومنها القصاص، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثانية: من مصاديق خروج المسلمين للناس زجرهم عن الظلم، وقوله تعالى(وما الله يريد ظلماً للعالمين)عام، وفيه وجوه:
الأول: تنزيه مقام الربوبية من ظلم الناس.
الثاني: منع الناس من ظلم بعضهم بعضاً.
الثالث: إحتراز الإنسان من ظلم نفسه، وقد ورد في ذم الكفار، قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثالثة: من أهم مصاديق دفع الظلم عن العالمين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) من وجوه:
الأول: التنافي والتضاد بين الرحمة والظلم.
الثاني: نزول آيات القرآن آية من الله , وواقية من الظلم.
الثالث: خروج المسلمين للناس يعملون بالعدل، ويدفعون الظلم عن الناس بالدعوة إلى الله.
الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرب على الظلم، ودعوة متجددة لتهذيب النفوس، والنفرة من الباطل.
الخامسة: من خصائص(خير أمة) تلاوة آيات القرآن، وكل آية منه برزخ دون الظلم الظاهر والخفي، وهو من مصاديق الحق في قوله تعالى(نتلوها عليك بالحق) وقد إنفرد المسلمون بتلاوة آيات القرآن.
السادسة: تلاوة آيات القرآن جهاد لتنزيه الأرض من الظلم وهو مقدمة ومصداق لقوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السابعة: يمكن القول بأن بين العالمين والناس عموماً وخصوصاً مطلقاً، وأن العالمين أعم إلا مع القرينة التي تدل على التساوي بينهما،
وجاءت الآية بالعموم في تنزيه مقام الربوبية من الظلم، وفيه أن آيات القرآن التي أنزلها الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس والخلائق جميعاً، وسبب لإستدامة الكائنات وعدم الإفساد في الأرض.
وعن النبي محمد صلى عليه وآله وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها) ( )، مما يد على تنظيم الإسلام للحياة والموجودات وفق أحكام التنزيل.
الثامنة: وجود(خير أمة) وهم المسلمون بين الناس شاهد على أن الله عز وجل لا يريد ظلماً للناس، لأنها أمة تمتنع عن ظلم نفسها وظلم غيرها، وتمنع من الظلم بين الناس، وفيه شاهد على بركة القرآن وموضوعيته في عالم الأخلاق والسنن والأفعال.
التاسعة: لما تفضل الله عز وجل ونهى عن الظلم في الأرض تفضل بإستدامة وجود(خير أمة) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والظلم من مصاديق المنكر، فأراد الله للمسلمين الثواب والأجر بالزجر عنه، ليكونوا عوناً للناس في النجاة من ظلمهم لأنفسهم قال سبحانه[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: حث أهل الكتاب على الإيمان من حب الله للعباد وعمومات رحمته في الدنيا، ومنعهم من الظلم قال تعالى[فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ).
الثانية: الإمتناع عن الإيمان من ظلم النفس والغير، ولا يريد الله عز وجل للناس الظلم مطلقاً.
الثالثة: جاءت آيات القرآن لتذكير الظالمين بظلمهم، وحثهم بلغة الإنذار على تركه والإبتعاد عنه وفي وصف القرآن ورد قوله تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا]( ).
الرابعة: الإيمان بالله والتصديق بالكتب المنزلة واقية من الظلم.
الخامسة: توبيخ الفاسقين لظلمهم أنفسهم وإعراضهم عن آيات الله.
السادسة: من أسرار القرآن وما فيه من الحكمة أنه موعظة وخير محض، قال تعالى[بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ] ( ).
السابعة: لقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل حكاية عنهم في خطابهم وتوسلهم إلى الله[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وجاءت هذه الآية من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، من وجوه:
الأول: تتضمن الآية ذم الفاسقين.
الثاني: زجر الناس عن المعصية والخروج عن طاعة الله.
الثالث: قيام خير أمة بالأمر بالمعروف فضح للفاسقين، ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
الرابع: لم يترك الفاسقون وشأنهم بل جاءت هذه الآيات لبيان أن الفسق ظلم وتعد، وأن عاقبته الخسران، قال تعالى[فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( ).
الخامس: إستدامة وجود(خير أمة) في كل الأزمنة إزاحة للفسق، وبيان للتباين بين الإيمان وما فيه من الحسن الذاتي، وبين الفسوق وما فيه من القبح الذاتي، قال تعالى[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ] ( ).
الجمع بين الآيتين مدد
لقد كان المسلمون قلة وضعفاء، والكفار في قوة ومنعة فجاءت كل من الآيتين على وجوه:
الأول: المدد للمسلمين في أمور الدين والدنيا.
الثاني: إنهما مقدمة لمقدمات نزول الملائكة لنصرتهم وهي الصبر والتقوى والخروج إلى ميادين المعارك، قال تعالى[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ).
الثالث: الإحتراز من الظلم والبغي.
ولقد أراد الله عز وجل أن تكون أمة من أهل الأرض تتعاهد آياته رسماً وتلاوة وعملاً، فتفضل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مسائل:
الأولى: بقاء المسلمين يحملون لواء التوحيد.
الثانية: تحارب (خير أمة) الكفر والضلالة.
الثالثة: تدعو (خير أمة) وهم المسلمون إلى نبذ الرذائل والقبائح.
وأبى الله سبحانه إلا أن يتفضل على الناس بجعل آياته مصاحبة لهم في حياتهم، وتكون مادة لإطراد ومضاعفة الثواب سواء بتلاوتها أو بالإهتداء بأنوارها والعمل بأحكامها، والتعلق بأغصانها، والتفيؤ بظلالها كحرز وعون ورحمة، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ]( )، وبالمسلمين يحفظ الله الآيات، والعمل بأحكامها وسننها، وهو من مصاديق(خير أمة) بالذات.
وتتضمن خاتمة هذه الآية بياناً لأحوال أهل الكتاب بما يكون ضياء وعوناً للمسلمين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بلحاظ ما فيها من التفصيل والكشف في صفات أهل الكتاب، ولما جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن تنزه الله عن ظلم العباد، وتفضله بما يحجب ويمنع الظلم عنهم، جاءت هذه الآية بالإخبار عن إخراج الله المسلمين للناس جميعاً كمصداق متجدد ودائم لهذا الفضل واللطف الإلهي.
صلة(إبيضت وجوههم) ( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: مجيء الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية، وجاءت هذه الآية بلغة الخطاب والجملة الإنشائية.
الثانية: تتعلق كل من الآيتين بالمسلمين وفي الجمع بينهما بلحاظ الموضوع ثناء إضافي عليهم.
الثالثة: بشارة الجزاء الحسن والثواب الجزيل للمسلمين في الآخرة.
الرابعة: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو تجلي منافع التفضيل في عالم الآخرة ببياض الوجوه.
ففي الحياة الدنيا يتعايش الناس ويحصل تباين في الأرزاق والصحة والأمن والجاه وغيره، والمسلمون هم الأفضل عند الله في أعمالهم وسننهم.
أما في الآخرة فالأمر مختلف إذ يحصل تباين وتضاد بين المؤمنين والكفار، فيكون المؤمنون في الجنة , والكفار في النار.
الخامسة: المراد من بياض الوجوه في الآخرة، وبخصوص الدنيا فيه وجوه:
الأول: بياض وجوه المؤمنين في الحياة الدنيا.
الثاني: تجلي نور الإيمان على وجوههم وإن كانت بشرة بعضهم سوداء.
الثالث: ليس من أثر على وجوه المؤمنين في الحياة الدنيا، والقدر المتيقن من الآية هو عالم الآخرة.
والصحيح هو الثاني وهو من عمومات قوله تعالى(كنتم خير أمة) وتستبين مقدمات بياض الوجوه في الدنيا بأمور:
الأول: إتيان الوضوء وغسل المسلمين وجوههم كفعل عبادي يتقوم بقصد القربة إلى الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ).
الثاني: إظهار المسلمين الخضوع والخشوع لله وإنقطاعهم إلى العبادات، قال تعالى[سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ]( ).
الثالث: إستقبال المسلمين البيت الحرام في صلاتهم، وما ينعكس عليهم من إشراقاته.
الرابع: قراءة القرآن، والنظر فيه (قال اسحق بن عمار للإمام جعفر الصادق عليه السلام: جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف قال : فقال لي: لا، بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل أما علمت أن النظر في المصحف عبادة “، وقال : من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين( ).
ومن مصاديق تعاهد المسلمين لمرتبة(خير أمة) في قراءة القرآن في المصحف أمور:
الأول: حفظ نسخ المصحف، وإكرامه بالإقرار والتسليم بأن الذي بين دفتيه كله تنزيل، قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
الثاني: سلامة البصر من الأدران والعمى فإن قلت ليس من ملازمة بين سلامة العين والبصر وقراءة القرآن فقد يصاب قارئه بالعمى، والجواب تنزل الأحكام على الفرد الغالب، وأن الذي يصاب بالعمى يدفع الله عز وجل عنه ما هو أشد.
الثالث: زيادة التدبر في النكات العقائدية والبلاغية والكلامية.
الرابع: إتخاذ المصحف صاحباً كريماً.
الخامس: بعث البهجة في النفس من خلال النظر إلى كلمات التنزيل.
السادس: سياحة البصر والنفس في كلمات القرآن.
السابع: زيادة التفكر في معاني كلمات وآيات القرآن.
الثامن: أنه لجوء إلى كلام الله، وإستعانة بآيات القرآن.
الخامس: غض المسلمين أبصارهم وإجتنابهم النظر إلى المحرمات، وتنزههم عن آفة الحسد، والكدورات الظلمانية والأخلاق المذمومة كالبخل والكبر والتي تظهر على الوجه واللسان بما يبعث عند الآخرين النفرة.
السادسة: بعث الشوق في نفوس الناس جميعاً ليدخلوا الإسلام ويكونوا من(خير أمة) ليفوزوا ببياض الوجوه في الآخرة[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ] ( ).
السابعة: بيان مرتبة عظيمة لا ينالها الإنسان إلا بالإيمان وإتيان الفرائض وتعاهد أحكام الإسلام.
الثامنة: من إعجاز القرآن أن مسألة بياض الوجوه لم تأت فيه إلا في آية(إبيضت وجوههم) والآية التي قبلها مع إتحاد الموضوع والحكم.
التاسعة: دعوة المسلمين لجعل بياض الوجوه في الآخرة غاية لهم في الحياة الدنيا التي هي مزرعة للآخرة.
العاشرة: تقدير الجمع ين الآيتين: الذين إبيضت وجوههم خير أمة.
الحادية عشرة: لقد تحمل الإنسان أعباء ومسؤوليات الخلافة في الأرض بعد أن أظهرت الموجودات الأرضية عجزها عنها، قال تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
ومن صفات المسلمين وجوه:
الأول: هم(خير أمة).
الثاني: الذين يتعاهدون سنن الخلافة في الأرض، ووراثة سنن الأنبياء.
الثالث: حفظ مضامين الأمانة في الإرادة التشريعية، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، ويكونون على الفطرة، ويمنعون من طغيان الجهل وهيمنة الظلم.
الثانية عشرة: خروج المسلمين للناس علة بياض وجوههم في الأرض.
الثالثة عشرة: توكيد الجزاء الحسن للمسلمين في جهادهم للإصلاح.
الرابعة عشرة: تجلي ثواب الأمر بالمعروف ببياض الوجوه، وفيه ترغيب به، ودعوة للإنصات للآمر بالمعروف متحداً كان أو متعدداً.
الخامسة عشرة: تدل الآية على أن فاعل المنكر يسوّد وجهه يوم القيامة، فتفضل الله عز وجل على الناس بإخراج المسلمين للنهي عن المنكر، وإعانة الناس لنقلهم إلى منازل بياض الوجوه.
السادسة عشرة: من نعم الله عز وجل على الناس أن أخرج لهم الذين تبيض وجوههم في الآخرة.
السابعة عشرة: بعث السكينة في نفوس الناس من المسلمين، وما جاءوا به إلى الناس من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثامنة عشرة: بشارة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ببياض الوجوه في الآخرة.
التاسعة عشرة: ترغيب الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببيان حسن عاقبة كل منهما وأنها تكون في الآخرة ببياض الوجوه، وما تدل عليه من الفوز بالجنة.
العشرون: يحتمل الفوز ببياض الوجوه بحسب السبب والموضوع إتحاداً وتعدداً وبلحاظ هذه الآية وجوهاً:
الأول: لابد من الإتيان بمضامين هذه الآية من الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: يكفي الإيمان بالله.
الثالث: كفاية الإيمان بالله مع الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.
والصحيح هو الأول، وبإجتماع مضامين الآية أعلاه نال المسلمون مرتبة(خير أمة).
الحادية والعشرون: من خصائص(خير أمة) أن تأتيها البشارة ببياض الوجوه في الآخرة والسلامة من العذاب، وهو من عمومات قوله تعالى في الثناء على المؤمنين[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثانية والعشرون: حث أهل الكتاب على الإيمان واللحوق بالمسلمين من أجل بياض الوجوه في الآخرة.
الثالثة والعشرون: لما قالت هذه الآية[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]، فجاء بيان وتفسير(الخير) بلحاظ هذه الآية بأنه بياض الوجوه في الآخرة.
الرابعة والعشرون: توبيخ وإنذار الفاسقين، وإقامة الحجة عليه لحرمانهم من نعمة بياض الوجوه في الآخرة.
الخامسة والعشرون: لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته وطاعته في الحياة الدنيا، لتكون الآخرة داراً لثوابهم ونيلهم المراتب العالية، ولكن الفاسقين والظالمين حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة.
السادسة والعشرون: من الإعجاز في القرآن وجود الشواهد للوصف القرآني موافقة لمضامين آياته القدسية مدحاً، وذماً، وأمراً، وزجراً وغيرها، وجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن صفة مخصوصة لأهل الجنان وهي بياض الوجوه، وهو حال يبعث الغبطة في النفس عند صاحبه، وغيره، أي أن صاحب الوجه الأبيض راض وسعيد ببياض وجهه، ويسر الذي يراه، فجاءت هذه الآية ليحرز الناس هذه النعمة وهي بياض الوجوه بالإنتماء إلى خير أمة، فمن يكون وجهه في الدنيا غير أبيض وهو مؤمن، فانه سيبعث يوم القيامة بوجه أبيض مشرق.
صلة (ففي رحمة الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: البشرى للمسلمين بالفلاح في الآخرة.
الثانية: خير أمة في رحمة الله، قال تعالى[وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] ( ).
الثالثة: تأتي البشارات وبيان وجوه الثواب للمسلمين ليتعاهدوا منزلة(خير أمة) وإمامة الناس في الخيرات، وجذبهم نحو الصالحات وهي في الآية أعلاه على ثلاث أقسام:
الأول: بياض وجوه المسلمين.
الثاني: المسلمون في رحمة الله لفوزهم بالبشارة بالجنة.
الثالث: خلود المسلمين في النعيم الدائم.
الرابعة: دعوة الناس جميعاً لنيل النعم في النشأتين، بدخولهم لخير أمة والإيمان بالله ورسوله.
الخامسة: تتجلى رحمة الله في المقام بوجوه:
الأول: إن مرتبة (خير أمة) رحمة في الدنيا.
الثاني: يكون الجزاء رحمة دائمة في الآخرة جزاء من عند الله فهو سبحانه يرزق المؤمنين ثم يثبتهم على مارزقهم.
الثالث: إنه من رحمة الله عز وجل، قال تعالى[فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الرابع: ترغيب الناس بالنهل من رحمة الله، والفوز بالجنة التي [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
الخامس: بيان ثواب المسلمين وهم في الدنيا ليكون هذا البيان حجة وآية.
السادسة: تجعل البشارات الواردة في الآية أعلاه المسلمين في غبطة ورضا بفضل الله، وتكون منافعها على وجوه:
الأول: إنها مناسبة للتوجه بالشكر لله تعالى على نعمة الجزاء الحسن.
الثاني: فيها عون لهم للمسلمين لتعاهد مرتبة (خير أمة).
الثالث: التنزه عن الإفتتان بزخرف الدنيا.
الرابع: إتخاذ المسلمين الدعاء سلاحاً لتتغشاهم رحمة الله في الدنيا والآخرة .
السابعة: مجئ اسم الجلالة في كل من الآيتين، وهو من رحمة الله سواء بتلاوته أو التدبر في معانيه وبالإحتراز به من النار والعذاب.
الثامنة: لقد جاءت هذه الآية بالحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكرت الآية أعلاه أن عاقبته هو الإقامة الدائمة في رحمة الله ليكون هذا الذكر مدداً للمؤمنين في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم حصول التعب والكلل عندهم.
التاسعة: لا تنحصر الرحمة في المقام بعالم الآخرة بل تشمل الحياة الدنيا أيضاً.
العاشرة: بعث الشوق في النفوس لعالم الآخرة، وما فيه من السعادة الأبدية التي تنالها (خير أمة) قال تعالى[لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( )، وتحتمل إختيار المسلمين لمنزلة(خير أمة) في المقام وجوهاً:
الأول: إنه بشارة ووعد كريم.
الثاني: إنه موضوع للبشارة.
الثالث: مقدمة للبشارة، وهو على شعبتين:
الأولى: مقدمة للبشارة الدنيوية.
الثانية: مقدمة للبشارة الآخروية.
الثالثة: الفرد الجامع للبشارتين معاً.
الرابع: تترشح البشارة عن هذا الإختيار، ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين.
الحادية عشرة: من خصائص(خير أمة) وخروجها للناس أنها تخبر الناس باقامة المؤمنين الدائمة في رحمة الله عز وجل، ويأتي هذا الإخبار من وجوه:
الأول: تلاوة هذه الآيات.
الثاني: جذب الناس لمنازل الإيمان، وترغيبهم بالإسلام.
الثالث: إتيان العبادات التي تكون مصداقاً لمرتبة (خير أمة).
الرابع: الجهاد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي لتهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات، قال تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ]( ).
الخامس: تعاهد آيات القرآن وأحكام الإسلام، لذا تفضل الله عز وجل وخص المسلمين بلفظ(أخرجت) أي أنه سبحانه أخرج المسلمين كأمة متحدة للناس، وفيه تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختصاص أمته بالخروج للناس، وهو من الشواهد المتجددة في كل زمان على تفضيله على الأنبياء السابقين.
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة من وجوه:
الأول: إنه رحمة في الآخرة وعالم الثواب، بمنطوق الآية أعلاه وان أصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبيض وجوههم في الآخرة.
الثاني: مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من رحمة الله.
الثالث: ذات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيه رحمة للآمر والمأمور وغيرهما .
الرابع: الآثار المترتبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة متجددة.
الخامس: إستدامة العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم تعطيلهما رحمة، ولا يقدر على هذه الإستدامة إلا المسلمين لذا جاء تفضيلهم والثناء عليهم في هذه الآية بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
لقد جاء في وصية لقمان لإبنه كما في التنزيل[ يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، وإذ جاءت هذه الوصية على نحو القضية الشخصية فإن المسلمين يتوارثون أفراد هذه الوصية على نحو العموم الإستغراقي، ولم تنقطع الوصية بوفاة فرد أو جماعة، بل أوامر ومضامين القرآن باقية إلى يوم القيامة.
من مصاديق وأسباب بياض الوجوه في الآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن خصائص(خير أمة) تفضيلهم في هدايتهم إلى سبلهما، وعدم تخلفهم عنهما، وسلامتهم من العذاب الذي نزل بالذين قصّروا فيهما من الأمم السابقة كما في ورد في ذم قوم[كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ]( ).
وفي أهل القرية من بني إسرائيل جاءت النجاة خاصة بالذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر قال تعالى[أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ]( )، (وعن ابن عباس كان بنو إسرائيل ثلاث فرق فرقة اعتدوا في السبت و فرقة نهوهم، و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم، و فرقة لما رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم و بقيت الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة فلعنوا جميعا) ( ).
صلة(هم فيها خالدون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: الإخبار عن عالم الخلود في الآخرة.
الثانية: تلاوة المسلمين للآيات التي تتضمن الوعد والوعيد في الآخرة وهو من عمومات(أخرجت للناس) فيها من البشارة والإنذار قال تعالى[أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ]( ).
الثالثة: الوعد الإلهي بنيل(خير أمة) للثواب العظيم في الآخرة.
الرابعة: من خروج المسلمين للناس، دعوتهم للفوز بالخلود في رحمة الله بالإيمان والتصديق بالأنبياء.
الخامسة: كما جاء الخطاب في قوله تعالى(كنتم خير أمة) عاماً للمؤمنين والمؤمنات فإن الخلود في رحمة الله عام لهم جميعاً وهو من فضل الله وإذا أعطى سبحانه يعطي بالأوفى.
السادسة: من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله يكون من الخالدين في الجنة.
السابعة: اللبث الدائم في الجنة هو الذي ذكر بلفظ(خيراً) في قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
الثامنة: بيان حقيقة وهي حرمان الفاسقين أنفسهم من رحمة الله بالخلود بالنعيم، وإقامة الحجة عليهم بقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي ليكونا مرآة لآيات الآفاق ومعجزات الأنبياء، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
التاسعة: توكيد مسألة كلامية وهي أن الإقامة في الجنة لطف وفضل من الله، لذا أسمتها الآية برحمة الله، فلم يدخل الناس الجنة ويكونوا خالدين فيها عن إستحقاق لهذا الثواب العظيم والجزاء الذي ليس له حد من طرف الكثرة والدوام، ولكنه لطف ورحمة من الله عز وجل.
صلة آية(يوم تبيّض وجوه) ( ) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية، أما هذه الآية فوردت بصيغة الجملة الإنشائية.
الثانية: موضوع هذه الآية هو عالم الدنيا والأفعال فيها، أما الآية أعلاه فوردت بخصوص عالم الآخرة والجزاء فيها.
الثالثة: جاءت هذه الآية للثناء على المسلمين، وبيان حال أهل الكتاب وذم الفاسقين والذين يتخلفون عن مراتب الإيمان، أما الآية أعلاه فجاءت بذكر حال الناس يوم القيامة، وقسمتهم إلى قسمين متضادين، ملحان لون بشرة الوجوه، فأما بياضها وأما سوادها.
الرابعة: من الآيات في الجمع بين هاتين الآيتين أمور:
الأول: تعيين الذين تبيض يوم القيامة وجوههم وهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثاني: معرفة عاقبة(خير أمة) بأن وجوههم تكون بيضاء مشرقة يوم القيامة، قال تعالى[تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ] ( ).
الثالث: بيان الطريق للفوز ببياض الوجوه في الآخرة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله عز وجل.
الرابع: تعيين الذين تسود وجوههم يوم القيامة وهم الكفار الذين يعرضون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: بيان فضل الله على المسلمين في الدنيا والآخرة، ونعمة الفوز بالنعم العظيمة في الآخرة.
السادسة: القطع بالثواب العظيم لخير أمة أخرجت للناس، وفيه بعث لفعل الصالحات.
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين، يوم تبيض وجوه(خير أمة).
الثامنة: من فضل الله على خير أمة الإخبار عن جزائها الحسن في الآخرة.
الصلة بين[يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إخبار الناس جميعاً بأن الذين أخرجهم الله لهم سوف تبيّض وجوههم في الآخرة.
الثانية: بيان حقيقة وهي أن خروج المسلمين للناس أمر حسن، ويؤدي إلى غايات ونتائج حميدة وهي بياض الوجوه في الآخرة بلحاظ أنه ليس أمراً خاصاً بأشخاص معينين بالذات، بل هو عام لكل من ينطق بالشهادتين، وهو من البشارات وأسباب الهداية إلى التوبة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى]( ).
الثالثة: الترغيب بالأمر بالمعروف لأنه يقود إلى بياض الوجوه، فعندما يعلم المسلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الثواب العظيم فانه يجتهد في السعي في أبوابه ويحث الناس على فعل الصالحات، وفيه نكتة وهي أن الإخبار عن ثواب الأمر بالمعروف مدد من عند الله، وعون على تعاهده والمواظبة عليه.
الرابعة: الثناء على الذين يؤمنون بالله ويصدقون بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذه الآية تذكر صفتين للمسلمين (أنهم خير أمة) وأنهم (يؤمنون بالله)، مما يدل على قيد الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقهم بنزول القرآن من عند الله للفوز بمرتبة (خير أمة) في الدنيا، وبياض الوجوه في الآخرة.
فصحيح أن آية (خير أمة) أخبرت عن الإيمان بالله وحده وهو عام يدخل فيه المسلمون وأهل الكتاب إلا أن مضامين الآية الكريمة تقييد وبيان للإيمان من وجوه:
الأول: صفة (خير امة) التي ينفرد بها المسلمون.
الثاني: الأمر بالمعروف، ومنه الأمر بالتصديق بنزل القرآن من عند الله، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: النهي عن المنكر والجحود بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
الخامسة: لما جاءت هذه الآية بترغيب أهل الكتاب بالإيمان برسالة النبي محمد صلى عليه وآله وسلم وأنه خير لهم، جاءت هذه الآية ببيان مصداق من مصاديق هذا الخير والنفع وهو بياض الوجوه يوم القيامة وهو فضل عظيم ومرتبة سامية تستحق من العقلاء السعي لها، وبذل الوسع من أجل نيلها، وقد جعلها الله قريبة من أهل الكتاب والناس جميعاً، ولكنها أقرب لأهل الكتاب، لذا خصهم الله عز وجل بالذكر في هذه الآية، قال تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
السادسة: من خروج(خير أمة) للناس تلاوتهم لآية بياض الوجوه، وما فيها من المعاني والدلالات بلحاظ آية(خير أمة) ومنها:
الأول: بعث السكينة في نفوس المسلمين لبلوغهم هذه المرتبة والدرجة الرفيعة.
الثاني: بذل المسلمين الوسع لتعاهد هذه المنزلة.
الثالث: حرص المسلمين على وراثة السعي لهذه المنزلة لأولادهم من بعدهم، ونيلهم لها، فإن قلت إن قوله تعالى(كنتم خير أمة) وعد لأجيال المسلمين لنيل هذه المرتبة، والجواب نعم، إلا أنه لا يتعارض مع السعي لها وبذل المسلمين الوسع لنيلهم وأبنائهم هذه المرتبة الرفيعة مع علمهم بأن الله عز وجل، رزقهم أياها من خصائص(خير أمة).
الرابع: الإجتهاد في سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهما طريقان لبياض الوجوه.
الخامس: تهيئة مقدمات الأمر والنهي ليشترك جماعة في تحصيل المعروف والثواب عليه وإن كان الأمر على نحو القضية الشخصية من حيث جهة الصدور.
وهل يكون ثواب صاحب المقدمة أقل من ثواب الآمر نفسه بلحاظ مراتب السبب والمباشر وأن المباشر أكثر أثراً، الجواب إن الله واسع كريم، وهو القادر على أن يشرك في ثواب المقدمات المباشر للأمر والنهي من غير أن ينقص من ثوابه شيء , وكذا العكس.
السادس: تفقه المسلمين في الدين، بمعرفة العلة الغائية لأفعالهم.
السابع: إتخاذ المسلمين قانون بياض وجوه المؤمنين يوم القيامة لأمور:
الأول: مادة للإحتجاج , وهو من الجدال بالأحسن الوارد في قوله تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الثاني: سلاح ومادة للبيان والدعوة للتسليم باليوم الآخر , وما فيه من الجزاء .
الثالث: إنه واقية من أهل الريب والشك.
السابعة: بعث الحسرة في قلوب الفاسقين والكافرين لحرمانهم أنفسهم من نعمة بياض الوجوه.
يدل الجمع بين الآيتين على أمور :
الأول: دعوة المسلمين إلى الوحدة والإتحاد بينهم .
الثاني: نبذ المسلمين للفرقة .
الثالث: جهاد المسلمين في سبيل الله للفوز بمرتبة بياض الوجوه , قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
ويحتمل لفظ(خير أمة) وجوهاً:
الأول: إرادة المسلمين على نحو العموم المجموعي أي كأمة واحدة مجتمعة .
الثاني: المقصود المسلمون على نحو العموم الإستغراقي مجتمعين بلحاظ تعدد أفرادها.
الثالث: ينبسط الوصف على كل مسلم بإعتباره فرداً من (خير أمة).
الرابع: الوصف إنحلالي والمراد أن كل مسلم هو (خير أمة).
وبإستثناء الوجه الرابع، فإن الوجوه الثلاثة الأولى من عمومات الآية، وليس من تعارض بينها، وهو من فضل الله على المسلمين من وجوه:
الأول: تعدد معاني المدح والثناء الذي يتفضل به الله.
الثاني: تعدد مفاهيم التفضيل ومواضيعه.
الثالث: ما يترتب على هذا التفضيل من الآثار في الدنيا والآخرة ومنها بياض الوجوه في الآخرة.
الرابع: إنه من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثامنة: يحتمل بياض الوجوه قسمين:
الأول: إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، والشهداء وأهل التقوى أكثر بياضاً، ليكون التفاوت في بياض الوجوه جزء من الثواب وشاهداً على درجته، وكلًُ على خير.
الثاني: إنه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة متساوية في البياض لكل المؤمنين يوم القيامة، ويكون التباين في العلامات الخاصة كما هم في الدنيا وزيادة النور الذي يشع من الوجوه والجوانح وعلى الجوانب، قال تعالى[يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]( ).
وإذا قلنا بالأول فيرد عليه أن المؤمنين في الجنة على نحو متساو مع التباين في درجة التقوى ولكنه قياس مع الفارق ثم لو سأل المؤمن الأدنى مرتبة في بياض الوجوه أن يكون بذات البياض الذي يكون عليه الشهداء وأئمة الصلاح فإن الله عز وجل لا يرد سؤاله لعمومات قوله تعالى[وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ] ( ).
الصلة بين (وتسود وجوه) وبين هذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: سلامة ونجاة(خير أمة) من سواد الوجوه يوم القيامة وهل هو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، أم أن الآية خاصة بالنعم في الدنيا، الجواب هو الثاني، وتدخل فيه البشارة بالسلامة والأمن من عذاب سواد الوجوه ليكون من إعجاز القرآن المتداخل بين أفراد العوالم الطولية في التصور الذهني وفي عالم الأفعال وأسباب الصلاح، ولغة البشارة والإنذار.
الثانية: نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) بتحذيرهم الناس عموماً من سواد الوجوه، ودعوتهم إلى الإقرار باليوم الآخر، وإتخاذ الحيطة لمواطنه الواجبة الوقوع.
الثالثة: حينما يسأل سائل بماذا خرج المسلمون للناس يأتي الجواب بخصوص هذه الآية بأنهم يقومون بانذار الناس من سواد الوجوه في الآخرة، وهذا الإنذار على وجوه:
الأول: تلاوة آية (تبيّض وجوه) وما فيها من الإخبار عن سواد الوجوه، وهو وان جاء بصيغة الإنكار إلا أنه يتعلق بالكفار، بدليل خاتمة الآية أعلاه وما فيها من الإحتجاج على الكفار فهم مع ما يلحقهم من سواد الوجوه يتوجه لهم الإحتجاج الذي يتضمن التوبيخ والتبكيت.
الثاني: مفهوم بشارة المؤمنين ببياض الوجوه يوم القيامة.
الثالث: نص هذه الآية بسواد وجوه الكافرين.
الرابع: عجز الكفار عن الإحتجاج يوم القيامة، قال تعالى[اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ]( ).
الرابعة: من خصائص(خير أمة) بذل الوسع وتحمل الأذى من أجل نجاة الناس من سواد الوجوه يوم القيامة، وهو من عمومات قوله (أخرجت للناس) مما يعني تضمن هذا الخروج المشقة والجهاد وتحمل العناء لما فيه نفع الناس.
وقد يأتي الأذى من الذي يتوجهون له بالأمر بالمعروف ويزجرونه عن المنكر، ليكون هذا الأذى ثواباً لهم وسبباً لبياض وجوههم، ولو آمن الكافر الذي كان يؤذيهم وعمل الصالحات، فهناك مسائل:
الأولى: هل يصبح هذا الذي آمن بعد كفره من الذين تبيّض وجوههم.
الثانية: هل يمحى عن المؤمنين ثواب ما كان ينزله بهم من الأذى.
الثالثة: هل يتعلق بياض وجهه بعفو من آذاهم من المؤمنين.
أما الأولى فنعم، فإذا تغير الموضوع تبدل الحكم، وقد تفضل الله فجعل باب التوبة مفتوحاً بالإضافة إلى ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور: أن الإسلام يجب ما قبله) ( ).
وأما الثانية فإن ثواب الأذى لا يمحى عن المؤمنين، بل ينمو ويزداد بفضل الله وهو من عمومات قوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، فإن قلت ليس في المقام إحسان وفعل من المؤمنين يتلقون الأذى.
والجواب تلقي الأذى في جنب الله حسنة وهو من الفعل ومجيئه، بتقريب أنهم آمنوا بالله، وسعوا في ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلحقهم الأذى فلا تستطيع تبديل وتغيير لونها.
وأما الثالثة فإن بياض الوجه مترشح عن الإيمان، وبلوغ مراتب التوبة والإنابة، ولا صلة له بعفو المؤمنين عنه لأن جرهم على الله.
الخامسة: الإيمان بالله واقية من سواد الوجوه يوم القيامة، إذ أن الآية ذكرت بياض وجوه وسواد أخرى، بصيغة الفاعل لذات الوجوه، ومن المسلمات أن الوجوه عاجزة عن التأثير الذاتي وأما الثالثة فإن الله عز وجل واسع كريم، وهو الذي يثيب المؤمنين على الأذى الذي لا قوه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، والناس يوم القيامة عاجزون عن الفعل والتبديل لأنه يوم جزاء لا عمل فيه، والله عز وجل هو الذي يجعل وجوهاً بيضاء، وأخرى سوداء، قال تعالى[وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
وقد تفضل الله ببيان قوانين في الدنيا وأقام الحجة على الناس بالآية أعلاه التي تتضمن الوعد والبشارة للمؤمنين، والوعيد والإنذار للكافرين.
السادسة: صحيح أن الآية جاءت بخصوص عالم الآخرة إلا أنها تحذير للمسلمين والناس جميعاً، أما تحذير المسلمين فمن وجوه:
الأول: لزوم أخذ الحائطة للدين، والحرص على أداء الوظائف العبادية.
الثاني: الإحتراز من الكفار وعدم الإنصات لأهل الشك والريب.
الثالث: الإجتهاد في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإنقاذ الناس من سواد الوجوه يوم القيامة.
وفي ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين كفروا من الملل السابقة والإتعاظ منهم والتحذير من سننهم قال: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكـــر ولتأخذن على يد السفيه و لتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم كما لعنهم) ( ).
وفي هذا التحذير والمثل والإعتبار بالأمم السابقة ومجيئه على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريف وإكرام للمسلمين وحث لهم للإرتقاء في المعارف الإلهية، وحسن أداء وظائف(خير أمة) في خلافة الأنبياء في الأرض.
الرابع: عدم الغفلة أو الجهالة.
الخامس: الحرص على التوجه إلى الله بالشكر للفوز بالبشارة ببياض الوجوه، والسلامة من سوادها يوم القيامة، وأما تحذير الناس من غير المسلمين، ففيه وجوه:
الأول: الزجر عن الإقامة على المعاصي.
الثاني: بيان الملازمة بين الكفر في الدنيا وسواد الوجوه في الآخرة.
الثالث: التوبيخ على عدم الإصغاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: إجتناب الجهالة والغرر، والإمتناع عن الإصرار على الباطل والتكذيب بالنبوة لما فيه من الخزي والعذاب الأليم، إذ أن سواد الوجوه خزي وفضح وموضوع للحسرة والندامة قال تعالى[تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ]( ).
السابعة: في آية(تبيض وجوه) مدد لخير أمة في خروجها للناس، ودعوتها إلى الله عز وجل بإعانتهم في الصلاح والإصلاح وتهذيب النفوس، والعمل الدؤوب للفوز ببياض الوجوه يوم القيامة، ونبذ الكدورات.
وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فإنه سبحانه لم يتركه والمؤمنين بنبوته لبطش كفار قريش، بل تجلت معاني الرحمة بأبهى صورها بأقرب الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته من باب الأولوية القطعية والشاهد العاجل.
فأنزل الله ملائكة من السماء لنصرته وأصحابه، وإنهزمت جحافل وجيوش الكفر والضلالة.
وتفضل الله مرة أخرى وأنزل المدد لكل المسلمين وإلى يوم القيامة بآية(كنتم خير أمة) وكشف الغيب عن علوم عالم الآخرة، وظهور معاني الجزاء فيها بصبغة الوجوه وما يترشح عنها من ملازمة السعادة لبياضها، والألم والحسرة لسوادها.
الثامنة: يكون سواد الوجوه يوم القيامة بلحاظ الجمع بين الآيتين على وجوه:
الوجه الأول: التخلف عن اللحاق بخير أمة، والإمتناع عن الإنتماء لها مع وجود المقتضي وفقد المانع عن هذا الإنتماء.
وهل يدل قوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) على إتصال وإستمرار نسبة التباين بين (خير أمة) والناس من جهة الكثرة في طرف الناس الذين أخرجت لهم (خير أمة) في كل زمان، كما لو كانت (خير أمة) ربع مجموع الناس الجواب، من وجوه:
الأول: لا يدل منطوق الآية على نسبة القلة من طرف (خير أمة)، والكثرة من طرف الناس.
الثاني: تدل الآية على إزدياد عدد المسلمين ونسبتهم من مجموع الناس لما فيها من معاني الثناء عليهم وهو من صيغ الترغيب بالإسلام، قال تعالى[حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الثالث: تجلي منافع وآثار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جذب شطر من الناس للإسلام، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
الرابع: كل آية من الآيتين سلاح لتغيير النسبة بين الطرفين، وهو من مصاديق الصراع بين الإيمان والكفر في الدنيا، وغلبة الإيمان على نحو الدفعة والتدريج.
الوجه الثاني: الإعراض عن أمر(خير أمة) بالمعروف.
ومن الآيات عدم إنحصار الوصف بالثناء والمدح بخير أمة بطائفة أو جيل وطبقة من المسلمين أو أهل مصر مخصوص منهم، بل هو صفة مصاحبة لكل المسلمين في عموم أرجاء الأرض.
الوجه الثالث: عدم الإحتراز عن المنكر والفواحش مع زجر (خير أمة) عنه.
وفي وظيفة الأمر بالمعروف وجوه:
الأول: الأصل هو لزوم قيام الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن دخلوا الإسلام.
الثاني:يكفي منهم دخول الإسلام والإنصياع للأمر والنهي، وأن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة ببقاء شطر من الناس على الكفر.
الثالث: سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال دخول الناس الإسلام لقيد(أخرجت للناس) الوارد في الآية، ولإنتفاء موضوع الكفر.
والصحيح هو الأول فإن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متجددة وباقية إلى يوم القيامة، لذا فمن الإعجاز في آية (خير أمة) في المقام مجيء الخروج إلى الناس بلغة(أخرجت للناس) على نحو العموم في الأمة وفي الذين خرجت إليهم لتكون الآية جامعة شاملة لبني آدم وإلى يوم القيامة وهذا العموم هو من إعجاز القرآن.
أما الأمر بالمعروف فجاء بالخطاب بصيغة جديدة وهي جمع المذكر السالم فلم تقل الآية[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] بل جعلت بلحاظ لغة الخطاب إشارة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة قائمة بذاتها.
بالإضافة إلى أنها صفة منتزعة من فعل وعمل شخصي ونوعي وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو لا يتعارض مع تداخله مع الخروج للناس وكونه مصداقاً من مصاديق هذا الخروج.
الوجه الرابع: إجتناب محاكاة(خير أمة) في الوظائف العبادية التي خلق الله عز وجل الناس من أجلها.
الوجه الخامس: الإمتناع عن التصديق بمعجزات الأنبياء، ومنها المعجزة العقلية القرآن التي إختصت(خير أمة) بحمل لوائها.
الوجه السادس: الإقامة على الكفر والجحود مع قيام الحجة عليه، وهل هذه الحجة متحدة أو متعددة.
الجواب هو الثاني، وليس من حصر لمصاديق الحجة ومن منافع الحجة والبرهان في المقام أمور:
الأول: جذب الناس للإيمان.
الثاني: البرهان ينير لهم سبل الطاعة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الثالث: يبعث في نفوسهم النفرة من المعصية.
لذا جاءت الآية ببيان العلة في سواد الوجوه(أكفرتم بعد إيمانكم).
ويحتمل الكفر بعد الإيمان في المقام وجوهاً:
الأول: هذا الكفر علة تامة لدخول النار.
الثاني: أنه جزء علة في دخول النار، والعذاب الأعم من سواد الوجوه.
الثالث: إن الكفر بعد الإيمان علة خاصة لسواد الوجوه، أما عذاب النار فأعم في سببه وعلته، لذا أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
وليس من تجزأة في علة وأسباب دخول النار، وسواد الوجوه أحد أفراد العذاب، وتدل عليه خاتمة الآية الكريمة.
ويحتمل سواد الوجوه في أسبابه وجوهاً:
الأول: إنه رشحة وأثر من عذاب النار، قال تعالى[وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ]( ).
الثاني: إنه عذاب مستقل على فعل مخصوص، وهو الكفر بعد الإيمان بحيث يعرف أهل الحشر الذين كفروا بعد إيمانهم بسواد الوجوه، فيكون مائزاً بينهم وبين أصحابهم من أهل النار الذين لم يؤمنوا من الأصل.
الثالث: إنه عذاب ينزل بطائفة من أهل النار على نحو الخصوص.
الرابع: إنه صفة ملازمة لعموم أهل النار.
الخامس: إنه عذاب مستقل بذاته.
والصحيح هو الأول والرابع والخامس وفيه نكتة وهي تعدد المعاصي والذنوب التي ينزل معها العذاب.
وجاءت خاتمة الآية لبيان العذاب الأعم الذي يلحق أهل النار ذوي الوجوه الكالحة بقوله تعالى (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي يكون عذاب الذين كفروا بعد إيمانهم مركباً من قسمين:
الأول: العذاب الخاص لترك الإيمان والإنتقال إلى منازل الكفر، ويتمثل بسواد الوجوه.
الثاني: شمولهم بالعذاب العام للكفار، وهو اللبث الدائم في النار، بحيث يراهم الكفار فيقومون بتوبيخهم أيضاً، ويقولون لهم(أكفرتم بعد إيمانكم) ولو كنا مثلكم ورزقنا الإيمان لما غادرنا منازله، وعليه فيكون أصحاب النار على قسمين:
الأول: الذين وجوههم مصبوغة بلون أسود بالذات والأصل.
الثاني: الذين صبغ وجوههم السواد من شدة حرارة النار، ولكن هذا السواد أقل درجة من الأول، أو أن الفارق بينهما ظاهر لأن الثاني عرض وأثر، فقد يكون هذا التقسيم واضحاً يوم النشور بأن يكون الذين كفروا بعد إيمانهم سود الوجوه، وأما الكفار بالأصل فإن سواد الوجوه ينتظرهم عند دخولهم النار، والتعرض لشدة لهيبها.
ولا دليل على هذا التقسيم وإن كان فيه تفصيل كلامي مستحدث وإختصاص فريق من الكفار بسواد الوجوه، فسواد الوجوه عقوبة عامة للكفار جميعاً وملازم لدخول النار، وهو أثر لشدة عذابها يظهر على وجه كل كافر من أهل النار، لذا جاءت الآية بصيغة الخطاب الجمعي، وفي إخراج(خير أمة) أمور:
الأول: بيان سوء عاقبة الكفر.
الثاني: حث الناس على إجتناب سواد الوجوه.
الثالث: تنبيه وإرشاد الناس للنجاة منه ومن آثاره الذاتية والعرضية.
الرابع: إقامة الحجة على الكفار بحصول التبليغ لهم في الدنيا وعلى نحو التعدد والتكرار، بتلاوة المسلمين هذه الآية، فمن خصائص المسلمين القيام بالإخبار عن علوم الغيب في الآخرة بلغة الإنذار , قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
التاسعة: تبعث تلاوة آية(تبيض وجوه على التفقه في الدين وتهدي إلى سبل الإحتجاج، وتبين موضوعاً ومادة للجدال وإقامة البرهان بالتباين بين المؤمنين والكفر يوم القيامة، وإختصاص الكفار بسواد الوجوه الذي هو عذاب ذاتي، وعرض لعذاب شديد في النار .
إن قوله تعالى(فذوقوا العذاب) مادة وموضوع للأمر بالإيمان والزجر عن الكفر، وفيه شاهد على المسلمين يحبون الناس جميعاً ويرجون لهم النجاة من سواد الوجوه وعذاب النار، وهذا الرجاء العام في متعلقه تنفرد به(خير أمة) إذ أنه شامل للناس جميعاً بما فيهم الذين يحاربون المسلمين، ويجهزون الجيوش العظيمة لإستئصالهم.
الصلة بين (بما كنتم تكفرون) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من وظائف(خير أمة) بيان عذاب الكفار يوم القيامة، وعلة هذا العذاب.
الثانية: الإخبار السماوي عن تعقب العذاب في الآخرة للكفر في الدنيا مع تفصيل وذكر ماهية العذاب، وأنه النار , قال تعالى[اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
الثالثة: بيان حقيقة وهي أن الإيمان واقية من عذاب النار.
الرابعة: إنتفاء الحسد عند المسلمين، فهم يجاهدون في سبيل إنقاذ الناس من عذاب النار، ولم تقم أمة بهذا العمل وتتحمل الأذى المستمر والمتصل بسببه حتى من الذين تريد إنقاذهم، لذا نال المسلمون مرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
فلم يكتف المسلمون بالصلاح الذاتي والتقيد بالوظائف العبادية، وحفظ راية التوحيد، ولم تنحصر مسؤولياتهم بأمور الحياة الدنيا بل يبذلون الوسع لإنقاذ الناس من العذاب الأخروي بتلاوة الآيات التي تتضمن العذاب الأليم للكفار ، وبتنزيههم من الكفر والضلالة إذ أن قوله تعالى[فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] عذاب للكفار من وجوه:
الأول: إنه عذاب في الدنيا للكفار لأنه إخبار سماوي عما ينتظرهم من العقاب الأليم.
الثاني: بيان علة العذاب بما يتضمن الحجة على الكفار، أي أن دلالات قوله تعالى أعلاه لا تنحصر بعلة وسبب العذاب بل تتضمن الحجة الحاضرة على إستحقاقهم العذاب اللاحق.
الثالث: من مصاديق العلة الغائية لإقامة الحجة على الكفار التذكير بأسباب هدايتهم وإصلاحهم وجذبهم إلى منازل الإيمان، وفيه بعث للحزن في نفوس الكفار لإصرارهم على الباطل، وهو نوع عذاب لهم.
الرابع: حسن سمت المسلمين، وتعاهدهم للفرائض فيه عذاب للكفار لتخلفهم عن منازل الهداية وسبل النجاة من عذاب الآخرة.
الخامسة: تلاوة قوله تعالى(بما كنتم تكفرون) من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاءت به هذه الآية، وهل فيها دعوة للكفار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم أنها تختص بتركهم للكفر، الجواب ليس من تفكيك بين الأمرين، فترك الكفر والإنتقال إلى الإسلام يترشح عنها طوعاً وإنطباقاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادسة: من خصائص(خير أمة) أمور:
الأول: النهي عن المنكر.
الثاني: النفرة من المنكر والقبيح، قال تعالى[وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى]( ).
الثالث: إعلان البراءة من المنكر.
الرابع: التحذير من المعصيةفي الدنيا وجزائها في الآخرة.
وتلك وظيفة الأنبياء ورثها المسلمون.
صلة(أكفرتم بعد إيمانكم) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان حال الكفار في الآخرة.
الثانية: تعدد مصاديق العذاب للكفار يوم القيامة، وإقتران التوبيخ والتبكيت بسواد الوجوه.
الثالثة: من خصائص(خير أمة) إقامتهم الحجة على الكفار وهي من وجوه:
الأول: تلاوة كل من هاتين الآيتين.
الثاني: بيان علة سواد وجوه الكفار يوم القيامة.
الثالث: الإخبار عن سوء حال الكفار والفاسقين يوم القيامة بالحجة والبرهان.
الرابع: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بلحاظ هذه الآية من وجوه:
الأول: تعاهد المسلمين الإيمان.
الثاني: حرص المسلمين على التقيد بأداء الفرائض والواجبات.
الثالث: بيان قبح وسوء عاقبة الكفار، وسواد وجوههم يوم القيامة.
الرابع: توكيد قبح الإرتداد.
الخامس: التحذير من ترك منازل الإيمان، والتخلف عن التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع(أكفرتم) وفيه وجوه:
الأول: بيان إتحاد سبب سواد الوجوه بلغة خطاب الذم والتوبيخ.
الثاني: تعيين علة سواد الوجوه، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الثالث: يمكن تسمية يوم القيامة(يوم الحجة والبرهان) لأن الحجة تقام فيه على الكفار من وجوه:
الأول: شهادة جوارحهم عليهم، قال تعالى[يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الثاني: إستحضار صحائف الأعمال.
الثالث: دعوى وشكوى المظلوم.
الرابع: مجيء هذه الآيات وبيان بلوغها للناس وهو من عمومات خروج المسلمين للناس.
الخامس: مجيء خير أمة شهوداً على الناس.
السادس: الإخبار عن جهاد المسلمين في إصلاح الناس، وتحذيرهم من سواد الوجوه يوم القيامة، وعلة هذا السواد، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
الخامسة: من خصائص(خير أمة) تلاوة الآيات التي تبين عذاب الكفار يوم القيامة، وعلة هذا العذاب وبما يكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر من وجوه:
الأول: زجر الكفار عن الجحود.
الثاني: تذكير الناس بيوم القيامة وعالم الحساب.
الثالث: ما يترشح عن الحساب من قسمة الناس إلى قسمين:
الأول: الذين تبيّض وجوههم.
الثاني: الذين تسود وجوههم.
الرابع: دعوة الناس للهداية والإيمان.
الخامس: بيان نفع أخروي للإيمان وهو بياض الوجوه.
السادسة: يحتاج القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى التفقه في الدين، فجاءت الآية أعلاه إعانة للمسلمين في هذا الباب وهو من خصائص(خير أمة أخرجت للناس) فصحيح أن قوله تعالى[أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ]( )، حجة وخطاب توبيخ للكفار يوم القيامة إلا أن منافعه في الدنيا متعددة منها:
الأول: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الثاني: إبطال مغالطات الكفار والمنافقين.
الثالث: الإحتجاج على الكفار.
الرابع: جعل موضوعية للعالم الآخر في حياة الناس اليومية.
الخامس: توكيد إيمان(خير أمة) باليوم الآخر وأنه شرط لبياض الوجوه يوم القيامة، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادسة: إقامة الحجة على أهل الكتاب بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل، وكان اليهود ينتظرون بعثته، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( ).
السابعة: توبيخ وإنذار الفاسقين لتركهم طاعة الله الواجبة، وقد يقول قائل من الكفار هل ينحصر الأمر بالفاسقين والجواب الآية عامة وتشمل أبناء الكفار وإختيارهم الكفر وتركهم وراثة الإيمان[قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ]( ).
الصلة بين(فذوقوا العذاب) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: نجاة(خير أمة) من العذاب لتنزهها عن الكفر والجحود.
الثانية: بيان شدة عذاب الكفار في الآخرة، وإقترانه بالتوبيخ.
الثالثة: من مصاديق خروج المسلمين للناس إخبارهم عما يلقاه الكفار يوم القيامة من العذاب.
ومن منافع هذا الإخبار وجوه:
الأول: إنذار الكفار.
الثاني: تحذير الناس من مفاهيم الكفر والضلالة.
الثالث: بيان قبح الكفر بعد الإيمان، وأضراره في النشأتين.
الرابع: تعاهد(خير أمة) وهم المسلمون للإيمان، وعصمتهم من الإرتداد.
الخامس: ترغيب الناس عموماً بالتوبة والإنابة.
الرابعة: تدل الفاء في(فذوقوا) على التعقيب، وأن ما بعدها يتعقب ما قبلها، وفيه وجوه:
الأول: إرادة العذاب في الدنيا لدلالة الفاء على عدم وجود فترة بين ما قبلها وما بعدها كما يقال: زالت الشمس فصل) وكما في قوله تعالى بخصوص يوم بدر[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الثاني: المقصود عذاب الآخرة، وهو الذي يدل عليه موضوع الآية وتعلقها ببياض وجوه المؤمنين، وسواد وجوه الكافرين.
الثالث: إرادة المعنى الأعم الشامل للوجهين أعلاه، والقدر المتيقن من الآية هو الثاني من جهات:
الأولى: تتضمن الآية بيان أحوال الكفار في الآخرة.
الثانية: صبغة السواد التي تطغي على وجوه الكفار ويعرفون بها.
الثالثة: توكيد حقيقة وهي أن هذا السواد عذاب وفيه أذى وضرر.
الرابعة: سواد الوجوه يوم القيامة عذاب أليم , وهو غير سواد البشرة في الحياة الدنيا الذي هو من بديع صنع الله، وليس فيه ضرر على صاحبه.
ومن أصحاب البشرة السوداء من تكون إشراقة الإيمان ظاهرة على وجهه ومحياه، ولكن القدر المتيقن إرادة الوجه الثاني لا يمنع من إطلاق الآية وإرادة العموم وشمول الوجه الأول أعلاه بمضامين الآية إذ يأتي العذاب على الكفر في الحياة الدنيا، ومنه هذه الآية وتلاوة(خير أمة) لها في الليل والنهار.
الخامسة: ترغيب الكفار والناس جميعاً بدخول الإسلام لأنه السبيل للنجاة من التوبيخ والتبكيت يوم القيامة.
السادسة: في الجمع بين الآيتين حث للمسلمين لإستحضار مواطن الحساب في الآخرة، وكيف أنها تبدأ من عالم البرزخ وما فيه من الحساب الإبتدائي وحضور الملكين منكر ونكير إلى الميت , قال تعالى[وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( )، وفيه وجوه:
الأول: إنه من خصائص(خير أمة) لما فيه من التفقه في الدين.
الثاني: إنه من أفراد قوله تعالى(أخرجت للناس).
الثالث: إنه موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابعة: من خصائص(خير أمة) قيامها بتلاوة الآيات التي تبين أسرار يوم القيامة، وأهوال عالم الحساب، ومنها ما يلقاه الكفار من العذاب الأليم، وهو من عمومات(أخرجت للناس) فلولا فضل الله عز وجل لا يلتفتون إلى عالم ما بعد الموت، وفلسفة الخلود.
الثامنة: من الآيات أن الآية ذكرت تعلق العذاب بصفة الكفر والجحود، وفيه دعوة للناس لنبذ الكفر للملازمة بينه وبين العذاب، وعدم إنفكاكها عنه.
التاسعة: جاءت الآية بمادة(ذوق) وهو أحد الحواس الخمسة، وفيه مناسبة لإشراك الحواس وتأثرها بالأشياء في مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جاءت معجزات الأنبياء على قسمين:
الأول: المعجزات الحسية، مثل سفينة نوح، وناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للموتى.
الثاني: المعجزات العقلية: وهي معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن الكريم وآياته ودلالاتها ومعانيها القدسية المتجددة قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]( ).
وتأتي هاتان الآيتان لتوظيف الحواس في الآيات العقلية وعلوم الغيب، والتذكير بعذاب الكفار الأليم في الآخرة، لينفر الناس من الكفر لما له من العواقب الوخيمة.
ومن منافع الأمور الحسية في المقام إدراك معاني عذاب الكفار من قبل الناس جميعاً مع إختلاف مداركهم ومشاربهم، وتباين مشاغلهم موضوعاً وكثرة وقلة.
التاسعة: يحتمل تبليغ وإنذار(خير أمة) للناس بقوله تعالى(فذوقوا العذاب) وجوهاً:
الأول: إنه من الأمر بالمعروف، والدعوة إلى الصلاح.
الثاني: إنه من النهي عن المنكر، ولزوم إجتناب أسباب ومقدمات العذاب.
الثالث: تلاوة هذه الآية من الأمر الجامع وأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: ليس من الأمر بالمعروف ولا من النهي عن المنكر، إنما هي بيان حال الكفار في الآخرة.
والصحيح هو الثاني فهي نهي عن المنكر، ويدخل في طوله الأول وهو الأمر بالمعروف منطوقاً ومفهومهاً ليأتي الثواب للمسلمين دفعياً.
صلة آية (تفرقوا وإختلفوا) ( ) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد جهة الخطاب في الآيتين، والمراد المسلمون.
الثانية: إبتدأت الآية أعلاه بصيغة النهي، وجاءت هذه الآية بلغة المدح والثناء.
الثالثة: من خصائص(خير أمة) معرفة قصص الأمم وأهل الملل والنحل السابقة قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
ومن منافع هذه المعرفة الإعتبار والإتعاظ، فخير أمة أكثر الأمم في مراتب العبرة والموعظة لتكون هذه المرتبة مقدمة عقلية ووجدانية للصلاح.
الرابعة: لما وصفت هذه الآية المسلمين بأنهم(خير أمة) جاءت الآية أعلاه لوقايتهم من الفرقة والإختلاف والتشتت ليكون من صفات المسلمين السلامة من الفرقة .
الخامسة: لما جاءت الآية أعلاه بالنهي عن الفرقة والتشتت فإن الله عز وجل لم يترك للمسلمين إختيار الأمر وتفضل ونهى عن الفرقة والإختلاف، إذ أن نعت المسلمين بأنهم(خير أمة) يدل على تعيين موضوع الإتفاق وهو الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين ترغيب الناس بالإسلام لأن النفوس تميل إلى الألفة والإتحاد بالحق، ويتحقق بالإنتماء لخير أمة.
السابعة: يدل ذم الأمم السابقة لإختلافها وتفرقها على أنه ليس من بينها أمة هي (خير أمة).
الثامنة: قد يقال أن المسلمين إفترقوا إلى مذاهب متعددة، وأن الفرقة التي نهوا عنها عند نزول القرآن قد حدثت فيما بعد، كما تدل عليه الشواهد، والجواب إن هذا التعدد لا يضر بوحدة المسلمين إذ يلتقون في الثوابت العقائدية وأداء الوظائف العبادية، وإنه لا يستمر أو يتسع، كما تدل عليه الوقائع التأريخية.
ومن مصاديق الإتحاد عند(خير أمة) النطق بالشهادتين والوقوف صفوفاً في صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، وأداء فريضة الصيام في وقت معلوم في كل سنة، والتعاهد السنوي لفريضة الحج بمناسك متحدة وثابتة مكاناً وزماناً.
التاسعة: لما جعل الله المسلمين(خير أمة) فإنه تفضل بهذه الآية وآيات أخرى تفيد تهذيب الأخلاق وإجتناب الرذائل والأسباب المذمومة للفرقة ومنها الخصومة والنزاع والشح والأنانية وحب السلطان والجاه بغير حق.
العاشرة: جعل الله المسلمين(خير أمة) ليكونوا قادرين على عدم الفرقة والإختلاف، وليصبحوا حجة على الأمم الأخرى في الدنيا والآخرة.
الحادية عشرة: أراد الله عز وجل(لخير أمة) العزة والرفعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، فجاءت الآية أعلاه ببيان حال الأمم السابقة وأضرار الفرقة والإختلاف الذي دبّ في أوصالهم وبيان علة هذا الإختلاف وهو التخلف عن البينات والبراهين السماوية التي جاءتهم.
الثانية عشرة: إرشاد المسلمين إلى حقيقة وهي أن الفرقة سبب للضعف والهوان، وبرزخ دون الغايات الحميدة.
الثالثة عشرة: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأمور:
الأول: الحصانة من نفاذ الأعداء وبثهم السموم قال تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
الثاني: بيان لزوم الوحدة الإسلامية.
الثالث:التقيد بأحكام الشريعة، وأداء الفرائض.
الرابعة عشرة: حث المسلمين على حفظ القرآن وتلاوة آياته وأداء الفرائض بلحاظ بيان موضوعية التحريف في الفرقة والإختلاف في الأمم السالفة.
الخامسة عشرة: تنهل(خير أمة) من مدرسة المثل في القرآن الكريم ومنه قصص الأمم السابقة بخصوص ما فيها من العبرة والموعظة ومناسبتها للوقائع الحادثة.
السادسة عشرة: ما يتلوه ويحفظه المسلمون من قصص الأمم السابقة مناسبة كريمة للناس لدخول الإسلام، لأنه شاهد على التباين بينهم وبين الأمم الأخرى، ودليل حاضر على أن المسلمين(خير أمة)، قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
السابعة عشرة: تحتاج(خير أمة) الخروج لميادين القتال أحياناً لأمور:
الأول: الدفاع عن الإسلام.
الثاني: منع العتو والظلم وغلبة النفس الغضبية والشهوية، وإستحواذ الطواغيت على الملك والسلطان.
الثالث: جذب الناس للإسلام، والعمل بأحكام الشريعة.
فجاءت الآية أعلاه ببيان ضرورة من مستلزمات هذا الخروج وهي إجتناب الفرقة والخلاف لما فيهما من الوهن والضعف وأسباب العجز والتخلف عن وظائف الإمامة النوعية للناس جميعاً وإصلاح النفوس.
الثامنة عشرة: من خصائص التأديب القرآني وما فيه من الإعجاز أن مجيء التأديب والتحذير بلغة المدح والثناء فيفقد الجمع بين الآيتين أنكم أيها المسلمون (خير أمة) فلا تكونوا كالأمم السالفة التي تتخلف عن منازلكم، وتفتقر إلى المقدمات التي نلتم بها شرف منزلة(خير أمة).
التاسعة عشرة: من خروج المسلمين للناس بيان أحوال الأمم السالفة، وما أصابهم من أسباب الضعف والوهن ودبيب الخلاف والشقاق.
العشرون: من خروج المسلمين للناس تعلمهم من الناس الدروس، وإتخاذهم سنن وحياة الأمم السابقة، عبرة وموعظة قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، ففي هذا الخروج أمور:
الأول: إنتفاع الناس من المسلمين.
الثاني: إنتفاع المسلمين من الناس.
الثالث: الإنتفاع العام.
الرابع: النفع المتبادل.
ويفيد الجمع بين الآيتين الوجوه الأربعة أعلاه، وهو من إعجاز القرآن.
الحادية والعشرون: جاء ذكر الذين تفرقوا من باب المثال التحذيري وقد لا يدل على أن كل الأمم السابقة متفرقة ومختلفة، وفيه مسائل:
الأولى: جاءت الآية بخصوص أهل الكتاب، وتفرقهم وإختلافهم على أنبيائهم، وهم أفضل الأمم قبل الإسلام قال تعالى[وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ]( ).
الثانية: تدل الشواهد التأريخية على عدم وجود أمة متحدة عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من حاجات الناس لبعثته لما فيها من الإتحاد على الحق والهدى.
الثالثة: ذكرت آية(ولا تكونوا) حصول الإختلاف في الأمم السابقة بعد مجيء البينات، وما فيها من قيام الحجة عليهم.
الرابعة: يحتاج الناس إلى أمة متحدة تعمل في مرضاة الله، وقد عجز أهل الكتاب عن تعاهد هذه المرتبة العظيمة، فتفضل الله عز وجل على الناس بنعمة المسلمين وخروجهم.
الخامسة: ضبط المسلمين لتأريخ الأمم، وعلة ضعفها أو إضمحلالها، وإقامة الحجة عليهم بلزوم اللحوق بالمسلمين في الإيمان والصلاح.
السادسة: بينت هذه الآية وظيفة من أهم وظائف(خير أمة) وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت الآية أعلاه بذم الفرقة والإختلاف، وحث المسلمين على إجتنابهما مجتمعين ومتفرقين، ليكون من أسرار الجمع بين الآيتين تعدد إنتفاع المسلمين من الأمر والنهي من وجوه:
الأول: القيام بالأمر والنهي، ونيل الثواب عليه، وهو من وجوه:
الأول: ثواب الأمر بالمعروف وما هو حسن شرعاً .
الثاني: ثواب النهي عن المنكر.
الثالث: الثواب المترشح عن مفاهيم الأمر بالمعروف ومنها الزجر عن الضد الخاص والعام للمعروف.
الرابع: مفاهيم النهي عن المنكر ومنها الدعوة إلى المعروف والصلاح بالدلالة التضمنية والإلتزامية.
الخامس: التقيد بالأحكام والمسائل التي يأمرون بها من أفراد الأمر بالمعروف.
السادس: الإعتبار والإتعاظ من أضرار الفعل القبيح والمنكر.
السابع: هداية المسلمين للمواضيع والأفراد الحسنة شرعاً التي يجب ويستحب الأمر بها، وأفراد المنكر القبيحة المحرمة والمكروهة.
وتلك آيات الله في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخصلة كريمة ينفرد بها المسلمون بأن تتعدد المنافع والفوائد من الفعل المتحد وتكون له غاية معلومة، ولكن الآثار والمنافع المترتبة عليه أكثر من أن تحصى.
الثامن: تنزه المسلمين عن الركون للكافرين أو إعانتهم، قال تعالى[فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ]( ).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين النهي النوعي للمسلمين عن الأمر القبيح وهو الفرقة والإختلاف، فكما يأمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالقيام بالنهي عن المنكر، فإنه سبحانه يتفضل على المسلمين وينهاهم كأمة عن المنكر، وهو من خصائص(خير أمة) بأنها تتلقى النهي عن المنكر بأوامر إلهية تحمل القطع والجزم بما يجعلهم مؤهلين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالأمة التي تفترق وتختلف على نبيها، لا تستطيع أن تأمر بالصلاح، وتنهى عن القبيح وإن قامت به فإنها لا تبلغ الغاية منه إلا بلطف ومدد من عند الله، فجاءت الآية أعلاه مدداً وعوناً وسلاحاً سماوياً مباركاً ليتعاهد المسلمون أموراً:
الأول: كونهم أمة واحدة متحدة.
الثاني: إختصاصهم بصفة(خير أمة) من جهات:
الأولى: تلقي معاني الإتحاد والألفة من السماء.
الثانية: مجيء الآيات التي تؤكد لزوم تعاهدهم للأخوة الإيمانية، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالثة: إجماع الأمة على لابدية القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: حرص المسلمين على إجتناب الفرقة والخلاف.
الرابع: دعوة الناس إلى الوحدة والأخوة وهو من عمومات قوله تعالى خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين بقاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى يوم القيامة، وهو من خصائص(خير أمة) إذ أن النهي عن الفرقة والخلاف، وتقيد المسلمين بمضامينه عون لهم على القيام بالأمر والنهي، وعدم هجرانه.
وقد يسأل سائل هل إنفرد المسلمون بنهيهم عن الفرقة والإختلاف الذاتي الجواب لا، لأن هذا النهي من وظائف النبوة التي حملها كل نبي إلى أمته ولكن تلك الأمم تخلفت عنها، وفاز المسلمون بتعاهدها.
التاسعة: من منافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنهما برزخ دون الفرقة والإختلاف من وجوه:
الأول: الفرقة من المنكر، فلا بد من قيام(خير أمة) بالنهي عنها.
الثاني: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته حرب على الفرقة، ومانع منها وإن كان موضوعها غير الفرقة.
الثالث: يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحيلولة دون مقدمات الفرقة والإختلاف.
العاشرة: من مصاديق الفرقة والإختلاف وآثارهما حصول الفسوق والخروج عن الطاعة من أكثر أهل الكتاب لقوله تعالى(وأكثرهم الفاسقون).
الحادية عشرة: من الشواهد على نيل المسلمين مرتبة(خير أمة) عدم طغيان الفسق بينهم اليوم وغداً، وسلامتهم من أدران النفس الشهوية والسبعية بسبب إيمانهم بالله وتعاهدهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين لزوم تنزه المسلمين عن الإقتتال فيما بينهم، فإذا كانت الأمم السابقة قد إفترقت وإختلفت فيجب على (خير أمة) أن لا تقتتل فيما بينها من باب الأولوية القطعية، وإلا فإن بعض تلك الأمم يحتج على المسلمين فيقول: نحن إفترقنا وإختلفنا ولم تتقاتل فيما بيننا، فـإن قلت قد إقتتل المسلمون، والجواب من وجوه:
الأول: ليس في الشريعة الإسلامية سبب للإقتتال بين المسلمين.
الثاني: الكتاب والسنة والإجماع على حرمة الإقتتال بين المسلمين.
الثالث: لو حصل الإقتتال بين المسلمين فأنه يتصف بأمور:
الأول: إنقطاع القتال، لإدراك المسلمين مخالفته للوظائف الشرعية والأخلاقية.
الثاني: علة القتال أجنبية عن مبادئ وأحكام الإسلام.
الثالث: عدم إتساع القتال وآثاره.
الرابع: عدم ترتب آثار على القتال تضر بوحدة المسلمين.
الخامس: وجوب قيام باقي المسلمين بالإصلاح بين الأطراف المتنازعة، قال تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( ).
الثالثة عشرة: هداية المسلمين إلى أمور:
الأول: سر من أسرار القوة والمنعة.
الثاني: سبب للنصر والتوفيق.
الثالث: رجحان كفتهم في حال السلم والحرب فهم في حال من الوحدة والإتحاد والإعتصام بالله وكتابه ورسوله، والكفار في حال فرقة وخلاف.
الرابع: البعث على التوكل الله في حال السعة والضيق.
الرابعة عشرة: جاءت هذه الآية بأمر ووصف المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت آية(ولا تكونوا) بالنهي عن محاكاة الآخرين بالفرقة والإختلاف.
ويفيد الجمع بين الآيتين لزوم عدم الإختلاف في مضامين ومواضيع وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذا الإختلاف تعطيل جزئي للأمر والنهي، بلحاظ إرادة المعنى الأعم للتفرق والإختلاف.
الخامسة عشرة: إذا إتحدت أمة على أمر وموضوع وحكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذا الإتحاد قوة ومنعة، وسبيل للتوفيق فيه.
السادسة عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين: لا تكونوا كالذين تفرقوا وإختلفوا منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.
السابعة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الفرقة لو حصلت بين المسلمين فإنها سبب لإنصات فريق من الناس لأهل الشك والريب، وإبتعادهم عن دخول الإسلام.
الثامنة عشرة: دعوة المسلمين للحذر من أهل الفرقة والإختلاف في جدالهم، وتنبيه المسلمين إلى لزوم عدم إتخاذهم بطانة، قال تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( ).
التاسعة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول: أمم تفرقت وإختلفت.
الثاني: أمة ينهاها الله عز وجل عن الفرقة والإختلاف.
العشرون: تحتمل صفة(خير أمة) بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً:
الأول: تعلق هذه الصفة المباركة على الإمتناع عن الفرقة والإختلاف.
الثاني: إستدامة صفة(خير أمة) للمسلمين وإن إختلفوا وتفرقوا.
الثالث: إذا إفترق المسلمون فإن صفة(خير أمة) تسلب عنهم.
الرابع: لن يفترق ويختلف المسلمون لأن الله عز وجل جعلهم(خير أمة).
والصحيح هو الأخير، وجاءت الآية أعلاه بصيغة النهي لتخبر عن كون المسلمين حال نزولها ليسوا متفرقين ولا مختلفين، ويدل عليه طاعتهم لله ورسوله، وإتباعهم للوحي، وثناء الله عز وجل عليهم في تداركهم للخلاف ومنعهم للفرقة، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] ( ).
أي أن الصلح واقية من إستدامة الخلاف أو إتساعه لأن الكل ينشغل بالصلح وليس الإنحياز لأحد الفريقين، فكأن الآية تقول إستمروا على حال الأخوة بينكم، وما أنتم عليه من التنزه عن الفرقة والتشتت، وما فيهما من الضعف والوهن.
وقد أسسنا قاعدة وهي لو دار الأمر في معنى الآية القرآنية بين مدح المسلمين أو ذلهم ، فأنها تحمل على مدحهم والثناء عليهم.
الواحدة والعشرون: هل من موضوعية لصفة(خير أمة)في سلامة وعصمة المسلمين كأمة من الفرقة والإختلاف الجواب نعم، لما فيها من مضامين الفضل الإلهي ومعاني الوعد الكريم، والحجة على الأمم الأخرى التي تفرقت بعد ما جاءتهم البينات والبراهين التي تؤكد وجوب عبادة الله عز وجل، والإنقياد لأوامره والتصديق بأنبيائه.
الثانية والعشرون: لقد رزق الله عز وجل المسلمين مرتبة(خير أمة) والقيام بوظائفها، وتعاهد مواريث الأنبياء، فأثابهم في الدنيا عدم الفرقة ليكون مقدمة لإستدامة مقاماتهم السامية.
الثالثة والعشرون: من مصاديق وحدة المسلمين وتنزههم عن الفرقة، وإجتنابهم للخلاف أمور:
الأول: التمسك بالقرآن وأحكامه.
الثاني: تعاهد آيات القرآن رسماً وتلاوة وتفسيراً ليتصف المسلمون بصفة(خير أمة) لحفظهم للتنزيل بفضل ولطف من الله، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثالث: أداء الفرائض والعبادات بذات النهج الذي أداها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل كان رسول الله يقصد وقاية المسلمين من الفرقة والإختلاف عندما كان يأمرهم بأداء العبادات والمناسك كما يؤديها هو، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
الجواب نعم فهذا المعنى أحد المقاصد السامية والشواهد على نبوته وأنه يؤسس لإستدامة وحدة المسلمين بقيد طاعة الله ورسوله وإلى يوم القيامة , ويدل عليه قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع: التصديق بمعجزات الأنبياء والتدبر في دلالاتها.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاءت الآيتان معاً بندب المسلمين إلى تولي وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتكون برزخاً دون الفرقة والإختلاف ومانعاً من التشتت.
السادس: إمتناع المسلمين عن الإختلاف في العبادات إلى يوم القيامة، فمثلاً ورد قوله تعالى في الوضوء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( )، فلم ولن يطرأ تغيير أو تبديل حرف من حروف الآية الكريمة منذ تنزيلها، ولم يختلفوا في كيفية الوضوء وتفسير الآية، وقد كانت وضوءات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة وقدوة، وإستمر أهل البيت عليه السلام والصحابة في الإيتان بالوضوءات البيانية للكيفية التي كان يتوضأ بها لعشرات السنين بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى ليرى المئات والآلاف من التابعين حكاية وضوئه صلى الله عليه وآله وسلم، ويرسخ في الوجود الذهني ويثبت في علم الحديث والفقه وعلم الرجال.
الرابعة والعشرون: إذا كان المسلمون لا يفترقون ولا يختلفون فلماذا جاءت الآية بنهيهم عن الفرقة، الجواب من وجوه:
الأول: من معاني الآية التعريض بالذين تفرقوا، ودعوتهم للإسلام، والتخلص من الإنتساب لأهل الفرقة والشقاق قال تعالى[وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ]( ).
الثاني: بعث المسلمين على الحيطة والحذر من الفرقة، وغلبة النفس الشهوية والغضبية.
الثالث: تنمية ملكة الأخوة الإيمانية عند المسلمين.
الرابع: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وإمتحان، وأراد للمسلمين السعي والإجتهاد في الوقاية من الفرقة ليكونوا شاهداً على إمكان تعاهد أحكام التنزيل وإجتناب الفرقة، وأن التكليف به من الممكن الذي يطيقه الناس، قل تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا].
الخامسة والعشرون: جاءت كل من كل من الآيتين بصيغة الجمع الشاملة لكل المسلمين والمسلمات، وفيه تكليف إنحلالي يتوجه إلى كل فرد منهم بلزوم عدم المساهمة في الفرقة والخلافة، ومتى ما تقيد الأعم الأغلب بأقام العموم إجتناب فعل منهي عنه فإنه لا يحدث، وإن حدث وظهر إلى الواقع فيكون قليل الأثر، وتلازمه حقيقة وهي أنه إلى زوال وقد ظهرت مذاهب كثيرة ورئاسات في الإسلام تتصف بالتشعب والخروج عن الجماعة والقواعد والعامة للشريعة فما لبثت إن إندثرت ورسمها.
السادسة والعشرون: جاء قوله تعالى(ولا تكونوا كالذين تفرقوا) بصيغة المضارع بينما ورد قوله تعالى(كنتم خير أمة) بصيغة الماضي، وفيه وجوه:
الأول: تفيد لغة الماضي في الآية أعلاه الزمن الحاضر والمستقبل أيضاً، فهي بمعنى(صرتم خير أمة).
الثاني: في الآية أعلاه إعجاز متعدد عن حصول الفرقة عند الأمم السابقة من وجوه:
الأول: الفرقة في الأجيال الباقية منهم.
الثاني: ظهور الخلاف والفرقة والإنقسام فيهم.
الثالث: الخلاف في المذاهب التي إندثرت ولم يبق لها أثر، ليكون هذا الخلاف والفرقة من أسباب إندثارها.
الرابع: من خصائص(خير أمة) الإمتناع والتنزه عن الإختلاف الذي كانت عليه الأمم السابقة، قال تعالى[فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ]( ).
الثالث: يفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين لم يفترقوا أو يختلفوا قبل وعند نزول آية(خير أمة) وهي مدنية، وفيه حث لهم على إجتناب الفرقة والخلاف.
السابعة والعشرون: هل من وظائف(خير أمة) إصلاح أحوال الأمم السابقة، ومنع إستمرار الفرقة والإختلاف فيها، الجواب نعم، ويتجلى هذا الأمر بأمور:
الأول: دخولهم الإسلام.
الثاني: الإنتماء لخير أمة.
الثالث: بيان القرآن لقبح الفرقة، وسوء عاقبتها.
الرابع: تبرأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و(خير أمة) من الذين تفرقوا وإعلان عدم نصرتهم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] ( ).
بحث أصولي
غالباً ما يتوقف وقوع الشيء على مقدمة، وتكون سبباً أو بلغة وطريقاً أو جزء علة للوقوع، وهي على أقسام متعددة:
الأول: المقدمة العقلية:
وهي التي يحكم العقل بلزوم إتيانها لتحصيل الواجب أو الغاية المطلوبة، كما في قطع المسافة لأداء فريضة الحج وتعلم القراءة لتلاوة القرآن في المصحف، ودراسة الطب لعلاج المرضى.
الثاني: المقدمة الشرعية:
وهي التي حكم الشريعة الإسلامية بها كالوضوء بالنسبة لأداء الصلاة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ…] ( ).
الثالث المقدمة العادية:
وهي التي تأتي بحكم العادة والعرف، كما في الإعداد للدعوة والإجتماع والوليمة في مناسبة الفرح كالزواج والختان أو غيرها.
وتقسم المقدمة بلحاظ الماهية والموضوع إلى:
الأول: مقدمة الوجود:
وهي التي يؤتى بها كشرط لوجود ذات الشيء وذي المقدمة.
الثاني: مقدمة العلم:
وهي عبارة عن العلم بلزوم إتيان الشيء والحاجة إليه، أو تركه إن كان محرماً، وقد يقال إن هذا القسم ليس من المقدمة لأنه عبارة عن حضور في الوجود الذهني.
الثالث: مقدمة الوجوب.
وهي التي تكون شرطاً في وجوب الفعل لا وجوده، كالصحة والحضر بالنسبة لصيام شهر رمضان، فمع مرض أو سفر المكلف لا يتوجه له الخطاب التكليفي بالصيام، قال تعالى[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
الرابع: مقدمة الصحة:
وهي التي يؤتى بها ليكون الفعل صحيحاً وتاماً، وإن كان يتحقق مسماه ويصدق الفعل بدون هذه المقدمة.
الخامس مقدمة الحرام: وهي التي تكون جزء علة وسبباً في وقوع الحرام والفعل المنهي عنه شرعاً.
ويمكن أن نقسم المقدمة تقسيمات جديدة أخرى:
الأول: المقدمة القريبة وهي التي من مستلزمات الفعل وتساهم في تقريبه وتجعل وقوعه أمراً سهلاً ويسيراً مثل تهيئة الماء الحار وغيره من مستلزمات الغسل، وإحضار السيارة والواسطة للوصول إلى الغاية.
الثاني: المقدمة البعيدة: وهو الفعل الذي يؤتي به لتهيئة أسباب ذي المقدمة، فلا يكون هذا الفعل مقصوداً بذاته، وكأنه مقدمة لمقدمة ذي المقدمة، مثل إتمام معاملة جواز السفر لإتيان فريضة الحج.
وتقسم المقدمة من حيث ماهية الفعل إلى أقسام:
الأول: المقدمة البدنية: وهي الفعل البدني الذي يكون سبباً في وقوع ذي المقدمة كالحراثة والسقي وطلاء الجدران ونحوه.
الثاني: المقدمة العقلية:
وهي التدبر بذات الفعل، وإجراء حسابات وتخطيط له، وكالمستلزمات الهندسية في المشاريع.
الثالث: المقدمة المالية:
والمراد بها تهيئة وإنفاق المال وإتخاذه بلغة لتحقيق الغاية والمقصود، سواء كانت الغاية حسنة تجلب الخير، أو قبيحة تضر بأصحابها كما في قوله تعالى في ذم الكفار[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ]( ).
الرابع: المقدمة الآلية:
وهي توظيف الآلة لتكون مقدمة لتحصيل الغاية كإستخدام الهاتف ونحوه من وسائل الإتصال الحديثة، وقد يدخل في هذا الباب تسخير الصبي.
ولقد رزق الله عز وجل(خير أمة) إتخاذ المقدمات والوسائط المباركة، لبلوغ مرتبة(خير أمة) وجاءت آية[وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا] ( )، لتكون بخصوص المقدمة على وجهين:
الأول: إتيان المسلمين لمقدمات تعاهد منزلة(خير أمة) والمحافظة عليها.
الثاني: إجتناب المسلمين للمقدمات التي تضر بمنزلة(خير أمة) وتحجب رشحات هذه المرتبة العظيمة.
صلة (من بعد ما جاءهم البينات) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: كما جاءت البينات للأمم السابقة فقد جاءت(لخير أمة) ولكن التباين أن المسلمين تعاهدوا البينات، وعملوا بأحكامها وسننها.
الثانية: بيان فضل الله عز وجل على الأمم السابقة بإتيانهم الحجة والبرهان الذي يقربهم إلى الإيمان، ويدفع عنهم أسباب الكفر والفسوق.
الثالثة: من خصائص(خير أمة) أمور:
الأول:تذكير الناس بنعمة الله بمجيء الآيات والبينات لهم، وهذا التذكير نعمة أخرى قال تعالى في خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني: تعاهد البينات والمعجزات التي جاءت للأمم السابقة.
الثالث: دعوة الناس للنفرة من الفرقة والإختلاف، وحثهم على هجران منازل الضلالة.
الرابع: إقامة الحجة على الناس، وفيه ترغيب لهم بالإيمان أي أن الحجة مطلوبة بذاتها، وهي مقدمة وبلغة لمقاصد حميدة وغايات سامية تنفع الناس في النشأتين.
الخامس: إقامة الحجة على الناس من جهات:
الأولى: قبح الإختلاف.
الثانية: الآثار والعواقب الوخيمة للإختلاف.
الثالثة: حصول الإختلاف بفعل وسوء إختيار أصحابه، بدليل مجيء الآيات بلغة الذم، ونسبة الفعل لهم، قال تعالى[وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا]( ).
الرابعة: من الأمر بالمعروف كشف حقيقة مجيء الآيات والحجج للناس.
الخامسة: إقرار(خير أمة) بمجيء البينات لهم، وقيامهم بإتخاذها سبباً للإتحاد والألفة، والإمتناع عن الفرقة والخلاف.
السادسة: من الإيمان بالله التصديق بالبينات والمعجزات التي جاء بها الأنبياء وفيه وجوه:
الأول: تلك آية إختص بها الله المسلمين.
الثاني: إنه من مصاديق(خير أمة).
الثالث:فضح التحريف والتغيير الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة.
السابعة: توجيه اللوم والذم للفاسقين لإعراضهم عن البينات وعدم إنتفاعهم منها، ففي التدبر فيها وجوه:
الأول: الإتعاظ منها.
الثاني: الهداية إلى سبل الإيمان.
الثالث: الوقاية الإحتراز من الكفر والعناد والجحود.
الثامنة: ذكرت الآية أعلاه الفعل(جاء) بصيغة التذكير، ولم تقل جاءتهم البينات مع أنها مفرداً وجمعاً من المؤنث المجازي الذي هو ليس من صنف الأناث حقيقة إلا أنه يطلق عليه لفظ المؤنث مجازاً مثل الحياة، الدواء، الأرض وصيغة التذكير في المقام جائزة لغة إلا أن لها دلالات عقائدية منها:
الأول: بعثة الأنبياء من البينات، وكذا الكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل مثل التوارة والإنجيل، وهل تشمل القرآن الجواب نعم.
الثاني: بيان موضوعية البينات وأثرها في النفوس، وإنقداح البصائر.
الثالث: من البينات ما هو مذكور بذاته، كما في قوله تعالى[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ]( ).
فجعلت الآية أعلاه مقام إبراهيم آية إنحلالية فيها بينات متجددة.
التاسعة: من فضل الله على الناس إنتفاء الجهالة والغرر عنهم بتعدد وكثرة المعجزات والبينات التي تجذبهم إلى منازل الهداية والإيمان، ويبّين الجمع بين الآيتين المائز بين المسلمين وغيرهم وأن المسلمين إتعظوا من البينات.
العاشرة: في البينات والمعجزات وجوه:
الأول: إنها برزخ دون الفرقة والإختلاف.
الثاني: دعوة لتعاهد المسلمين للقرآن وهو البينة العظمى.
الثالث: إنها مانع من الفرقة والإختلاف بينهم مما يفيد أن مفهوم النهي عن الفرقة والإختلاف يعني الأمر بالتمسك بالقرآن، قال تعالى[واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الحادية عشرة: من البينات في المقام أمور:
الأول: إخراج(خير أمة)
الثاني: الأمر بالمعروف الذي يقوم به المسلمون، إذ أنه لم يأت من إلا بأمر الله عز وجل في ذاته وموضوعاته.
الثالث: نهي المسلمين لأنفسهم ولغيرهم عن المنكر.
الرابع: إخبار القرآن بالتفصيل في أحوال أهل الكتاب من البينات، فإن قلت ذكرت الآية أعلاه مجيء البينات بصيغة الماضي، والجواب يأتي الفعل الماضي ويراد منه أفراد الزمان الطولية، ولبيان الثبات والتقرير، قال تعالى[وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
صلة(وأولئك لهم عذاب عظيم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إخبار المسلمين الناس لما يلقون يوم القيامة.
الثانية: كشف أسرار من وقائع وغيب اليوم الآخر للمسلمين.
الثالثة: الإخبار عن عذاب الكفار من البينات التي جاءتهم.
الرابعة: من وظائف وسنن مقام(خير أمة) إنذار الكفار والإخبار عما يلقونه يوم القيامة من العذاب الشديد قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
الخامسة:(خير أمة) في مأمن من العذاب الشديد لأنها لم تقتف آثار الذين تفرقوا وإختلفوا.
السادسة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقية من العذاب.
السابعة: خاتمة الآية أعلاه وما فيها من الذم دعوة للناس للإنصات لخير أمة والإقتداء بها، فمن خصائص(خير أمة) وهم المسلمون دعوة الناس للحاق بها بالبينة والحجة، ومنها السعي للسلامة من العذاب الأخروي الذي يلقاه الكفار.
الثامنة: بيان قانون ثابت وهو أن أعظم ثمرة لمجيء البينات هي الإيمان بالله فاز بها المؤمنون .
التاسعة: يأمر المسلمون بالمعروف وينهون عن المنكر كي ينجو الناس من العذاب الأليم في الآخرة.
العاشرة: لقد جاءت الآية أعلاه في تحذير المسلمين من إتباع سنن الذين إفترقوا وتشتتوا شيعاً، ولكنها تتضمن بلحاظ آية(خير أمة) دعوة المسلمين لجذب الناس لمنازل الهداية، وتخليصهم من الفرقة والإختلاف، فيكون الإنسان من أمة تتصف بالإختلاف والإعراض عن المعجزات فيدخل الإسلام ليصبح من(خير أمة) ويتطلع إلى فضل الله عز وجل بالنعيم الدائم.
الحادية عشرة: من منافع تلاوة آية(خير أمة) أمور:
الأول: تنمية ملكة الإتحاد والأخوة بين المسلمين، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثاني: زيادة فطنة وحذر المسلمين من الفرقة والإختلاف.
الثالث: دعوة الناس لدخول الإسلام، والتدبر في المعجزات والبينات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها هذه الآية قال تعالى في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحث على إتباعه [رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ]( ).
الرابع: تعيين وظائف المسلمين أزاء الناس بإصلاحهم وإرشادهم إلى لزوم الأخوة والألفة في مرضاة الله.
الثانية عشرة: من منافع تلاوة آية(ولا تكونوا كالذين تفرقوا) مسائل:
الأولى: بيان قبح الفرقة والإختلاف بالذات.
الثانية: توجيه اللوم للأمم السابقة التي لم تتعظ من البينات والبراهين التي جاء بها الأنبياء.
الثالثة: بيان الحسن الذاتي للإسلام، من التمسك بالكتاب والسنة.
الرابعة: الإقرار بالمعجزات والعمل بأحكام البينات.
الثالثة عشرة: من مصاديق خروج المسلمين للناس بلحاظ الآية أعلاه أمور:
الأول: بيان قبح الفرقة والإختلاف الذاتي والعرضي.
الثاني: تذكير الناس باليوم الآخر، وعالم الجزاء.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وورد في مؤمن آل فرعون وتحذيره لقومه من الكفار[وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِي]( ).
الرابع: توكيد سوء عاقبة الإعراض عن البينات والمعجزات.
الخامس: تذكير المسلمين بوظائفهم في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: التخفيف عن المسلمين بإشغال الكفار بأنفسهم.
السابع: جذب الناس للإسلام لأن تلاوة هذه الآية تبعث في النفوس النفرة من الكفر ومفاهيمه، فلا يرضى العاقل لحوق العذاب الأليم به بسبب الضلالة والجهالة.
صلة آية(ولتكن منكم أمة) ( ) بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآيتان خطاباً للمسلمين، وفيه تشريف وإكرام لهم بأن خصهم الله عز وجل بآيتين يتضمنان الثناء عليهم.
الثانية: جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، أما الآية أعلاه فوردت بصيغة الجملة الإنشائية.
الثالثة: تدعو الآيتان المسلمين إلى إرشاد الناس لسبل الصلاح.
الرابعة: ورد لفظ(أمة) في الآيتين، ومع إتحادهما لفظاً فإن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، إذ أن الأمة في الآية أعلاه أخص ليكون من خصائص(خير أمة) وجود شطر وجزء منها يدعون إلى الخير.
ويمكن القول أن النسبة ببينهما هي التساوي لأن المسلمين كلهم يدعون إلى الخير ويقومون بوظائف الأمر والنهي وأن التخصيص بلحاظ الكفاية والوقائع والتناوب والمسارعة، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الخامسة: ورد لفظ(خير) في الآيتين مع الإختلاف في معناهما، إذ ورد في هذه الآية بصيغة تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى أما في الآية أعلاه فالمراد من لفظ(خير) هو فعل الصالحات، ليكون تفضيل المسلمين بدعوتهم إلى الصلاح ونشر مفاهيم الإيمان وسنن المعروف.
السادسة: من الإعجاز توجه الخطاب في الآيتين لعموم المسلمين فلم يأت الخطاب في الآية أعلاه خاصاً بالأمة التي تدعو إلى الخير، بل جاء للمسلمين جميعاً، وفيه وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير مسؤولية المسلمين والمسلمات كافة، وإن قام بها شطر منهم.
ومن خصائص(خير أمة) الإستعداد والتهيئ والعمل العام والمشترك من عموم المسلمين.
الثاني: ندب المسلمين جميعاً إلى العناية بالدعوة إلى الخير وإعانة الذين يدعون إليه.
الثالث: بيان مفهوم الواجب الكفائي وهو الذي يتوجه الخطاب فيه للجميع , وإذا قام به بعضهم سقط عن الجميع، بلزوم أن يكون هذا القيام كافياً ومنجزاً.
الرابع: إرادة فوز المسلمين والمسلمات بالثواب العظيم لقيام فريق منهم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الأمة كلها في معرض النهوض بوظيفة الدعوة إلى الخير.
السابعة: دعوة المسلمين إلى إعداد فريق منهم للتفقه في الدين والقيام بالدعوة والإرشاد، وجذب الناس لمنازل الإيمان قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]( ).
الثامنة: حث وإصلاح الجماعة والفرقة من المسلمين إلى الخير لا ينحصر بالتوجه لغير المسلمين، بل يشمل دعوة المسلمين أنفسهم إلى تعاهد العبادات والفرائض، والمسارعة في الخيرات.
التاسعة: من خصائص(خير أمة) تلقي التكاليف العامة والخاصة، وتولي مسؤوليات جذب الناس إلى منازل الصلاح والهداية.
العاشرة: تقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير أمة ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) وفيه أمور:
الأول: بيان وظائف (خير أمة).
الثاني: التجافي والإبتعاد عن الخطأ في الدعوة إلى الخير لأن الذين يقومون به هم (خير أمة).
الثالث: بعث السكينة في نفوس الناس في دعوة المسلمين إلى الخير.
الرابع: إختيار أفضل وأحسن السبل في الدعوة إلى الخير لأن القائمين به هم (خير أمة.).
الحادية عشرة:عندما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض، جاء الرد من الله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ومن علمه تعالى أنه جعل(خير أمة) تدعو إلى الخير على نحو متصل ودائم.
الثانية عشرة: دعوة(خير أمة) إلى الخير متعددة من وجوه:
الأول: بعث الناس إلى أسباب الهداية والإيمان.
الثاني: حث المسلمين على تعاهد الأخوة فيما بينهم، ونبذ الفرقة والخلاف ليكون من خصائص(خير أمة) تعاهد صلاحها، وإصلاح غيرها وهو أمر ينفرد به المسلمون.
الثالثة عشرة: إتصال الدعوة إلى الخير في كل زمان واقية من شيوع الكفر في الأرض، وإزاحة لمفاهيم الضلالة فكلما تطرأ دعوة إلى الشر والفسوق تجد في مواجهتها دعوة إلى الخير وحصانة في النفوس وهو من إستمرار توارث المسلمين لسنن(خير أمة)، ويتجلى رجحان الدعوة إلى الخير من وجوه:
الأول: ملائمتها للفطرة والعقل.
الثاني: إدراك المسلمين لما فيها من الثواب العظيم.
الثالث: لغة الإنذار والوعيد للكفار التي هي من مصاديق الدعوة إلى الخير.
الرابع: إشتراك وعناية المسلمين بالدعوة إلى الخير، فإذا كان الشر يصدر من أفراد وجماعة فإن الخير يأتي من المسلمين جميعاً.
الخامس: من منافع الدعوة إلى الخير أمور:
الأول: المنع من مقدمات الشر والفسوق.
الثاني: إنها حرب على الأخلاق المذمومة والرذائل والكدورات.
الثالث: فيها زجر عن أسباب الظلم والتعدي.
الرابع: الدعوة لذاتها برزخ دون الغفلة والجهالة التي ينتشر بواسطتها الشر.
الخامس: إنها منطوقاً ومفهوماً من مصاديق النهي عن المنكر.
الرابعة عشرة: الدعوة إلى الخير من مصاديق التقوى، وباعث على الهداية، وفرد من أفراد إعمار الأرض بالعبادة، ومقدمة من مقدماتها وفيه سلامة وحصن للمسلمين، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
الخامسة عشرة: الدعوة إلى الخير مرآة للحال الخاصة والعامة عند المسلمين، وشاهد على إقامتهم للشعائر وخروجهم للناس بمعاني الصلاح.
السادسة عشرة: تبين الآيتان مجتمعتين ومستقلتين جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح إمته وإرشادهم إلى عمل الصالحات وأسباب الفلاح وهو من عمومات قوله تعالى[وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ] ( ).
السابعة عشرة: من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض، وعمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] دعوة المسلمين إلى الخير، وفيها تعاهد لمراتب هذه الخلافة.
الثامنة عشرة: توجه الخطاب للمسلمين بالقيام بالتبليغ ونشر مبادئ الإسلام دعوة للناس لنصرتهم وإعانتهم في أبواب الخير والمعروف والإنصات لهم.
التاسعة عشرة: تكرار الخطاب للمسلمين بلفظ(الأمة) وأمرهم بالدعوة إلى الخير دليل على أهليتهم للجهاد بصبر وتقوى، لتنزيه الأرض من مفاهيم الشرك والشر.
صلة(ولتكن منكم أمة) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بين الأمة والناس عموم وخصوص مطلق، وجاء ذكر المسلمين لأمور:
الأول: المسلمون شطر من أهل الأرض يتصفون بالصلاح والخير.
الثاني: الأهلية لتحمل أعباء المسؤوليات الإضافية في دعوة الناس للإسلام.
الثالث: محاربة المسلمين للكفار والكافرين، وحاجة المسلمين للإتحاد والتآخي.
الثانية: لما وصف الله عز وجل المسلمين بأنهم(خير أمة) جاء التكليف بالوظائف العبادية والأمر بالجهاد في سبيل الله.
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: ولتكن منكم أمة أخرجت للناس.
الثاني: ولتكن منكم أمة تأمر بالمعروف.
الثالث: ولتكن منكم أمة تنهى عن المنكر.
الرابع: ولتكن منكم أمة تؤمن بالله.
الخامس: ولتكن منكم أمة تتلو: ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم.
الرابعة: لم ينحصر إكرام المسلمين بإرتقائهم إلى مرتبة(خير أمة) بل جاءت الآية أعلاه بهدايتهم إلى الأفعال العبادية، وإصلاح الناس.
الخامسة: لو سأل سائل عن ماهية خروج المسلمين، وتأويل قوله تعالى(أخرجت للناس) فيكون المعنى أنهم يدعون إلى الصلاح والتقوى بأمر من الله عز وجل.
السادسة: توكيد حاجة الناس للمسلمين، وبيان أن إخراجهم رحمة بالناس جميعاً وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن خروج المسلمين من رشحات نزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: يدعو المسلمون إلى الخير والصلاح، وهذه الدعوة على قسمين:
الأول: دعوة عموم الناس من الملل الأخرى.
الثاني: دعوة المسلمين فيما بينهم وبعضهم لبعض لفعل الخير، مع التباين بين أفراد الخير في القسمين، وكيفية الدعوة.
وهل القسم الثاني أعلاه من عمومات قوله تعالى(أخرجت للناس) الجواب نعم، من وجوه:
الأول: تعاهد المسلمين للصلاح الذاتي.
الثاني: المناجاة بالخير حجة على الناس، وحث على إتباعهم، قال تعالى[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا]( ).
الثالث: إنه شاهد على إخلاص المسلمين في النية والعمل.
الثامنة: جاءت آيات القرآن بالأمر بالجهاد في سبيل الله بالأموال والنفوس وهو من مصاديق قوله تعالى(كنتم خير أمة) وجاءت هذه الآية لبذل الوسع في الدعوة إلى الله، ولتكون مقدمة للجهاد الذي يتضمن التخفيف وقد يهتدي الناس بالدعوة ويكفون عن إيذاء المسلمين.
التاسعة: دعوة المسلمين للخير حرب على الإنقطاع للدنيا، ونزع لحبها من القلوب، وجذب لمقامات العرفان والزهد، ومدرسة في الصبر والتحمل في طاعة الله، ومناسبة لجعل الحياة ذات بهجة وغبطة ومحلاً للأخلاق الحميدة.
العاشرة: من إعجاز الآية الإطلاق وعدم الحصر في مواضيع الخير التي يدعو لها المسلمون لكثرة مصاديقها العامة والخاصة، وكل فرد منها ضياء ومقدمة لنشر مفاهيم العبودية لله بين الأرض، وتثبيت لمقاصد القربة إلى الله في إتيان الأفعال مع تعدد معاني القربة في علم الأصول، ومنها أمور:
الأول: موافقة طاعة الله تعالى.
الثاني: الآمر مستحق لأن يطاع.
الثالث: الآمر أهل أن يعبد.
الرابع: رجاء الثواب والطمع في نيل مراتب النعيم في الآخرة ( ).
الحادية عشرة: دعوة المسلمين للخير، وإتيانهم لأفراده من الشكر لله عز وجل على نعمة التفضيل إلى جانب النعم الأخرى من الخلق والرزق والصحة.
الثانية عشرة: يحتمل فعل الخير وجهين:
الأول: إنه واجب تعبدي لا بد من تقييده بقصد القربة.
الثاني: إنه واجب توصلي لا يشترط فيه المباشرة.
ولا تعارض بين الوجهين، لتعدد وكثرة مصاديق الخير وسعة مواضيعها.
الثالثة عشرة: النسبة بين الدعوة في قوله تعالى(تدعون إلى الخير) وبين الأمر في قوله تعالى(تأمرون بالمعروف) هي العموم والخصوص المطلق فكل أمر هو دعوة وليس العكس سواء على القول بإشتراط العلو والإستعلاء أو عدمه.
الرابعة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين توكيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم التفريط بهما.
الخامسة عشرة: بيان حاجة الناس من وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير، والجذب إلى منازل الهداية والرشاد.
الثاني: التفقه والإرتقاء في المعارف الإلهية ومعرفة مصاديق الخير وإتيانها، وأفراد الشر وإجتنابها.
الثالث: وجود أمة تدعو إلى الخير.
فتفضل الله عز وجل وأخرج المسلمين ليكونوا الدعاة إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وخصهم بصفة(خير أمة)، وفيه ترغيب للناس بالإنصات لهم.
السادسة عشرة: تتضمن كل من الآيتين الثناء على المسلمين ومدحهم، وبعثهم على العمل في سبيل الله.
وفي لغة التبعيض(ولتكن منكم أمة) وجوه:
الأول: البشارة بتحقيق المطلوب.
الثاني: التعاون بين المسلمين لبلوغ الغايات الحميدة في إصلاح الأرض.
الثالث: جهاد المسلمين وحسن سمتهم , قال تعالى[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
السابعة عشرة: في الدعوة إلى الخير أمور:
الأول: إنها حث لدخول الإسلام.
الثاني: تثبيت معالم الإيمان.
الثالث: توكيد صدق نزول القرآن من عند الله.
الرابع: حفظ المؤمنين في أنفسهم وأموالهم وذراريهم.
الخامس: طرد الكدورات، والمنع من غلبة النفس الشهوية والغضبية.
السادس: تكون هذه الدعوة سبباً في كف الأيدي، ومانعاً من التعدي والظلم ونحوه مما يتنافى مع مفاهيم الخير.
السابع: الدعوة إلى الخير من مصاديق فعله، لأنها خير محض، وفيها الثواب والأجر، قال تعالى[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( )،
الثامنة عشرة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين البقاء في أخوة دائمة تساهم في زيادة إيمانهم، فجاءت الفرائض العبادية اليومية كالصلاة والشهرية كالصيام والسفرية كالحج، ثم تفضل عليهم بالأمر بالدعوة إلى الخير وفيه أمور:
الأول: إجتهاد المسلمين متحدين في الدعوة.
الثاني: تعاون المسلمين في كيفية الدعوة ومضامينها.
الثالث: تعيين مصاديق الخير الذي يدعون إليه.
الرابع: التنزه عن الفرقة والخلاف في الدعوة إلى الخير.
الخامس: التفقه في الدين ومعرفة مواضيع الدعوة التي هي على قسمين:
الأول: ما هو ثابت في كل زمان.
الثاني: ما يكون متغيراً أو مستحدثاً مكاناً أو زماناً بحسب الحال، وظهور الفتن والأمور الطارئة.
فجاء تكليف المسلمين في الآية على نحو الإطلاق الشامل للقسمين أعلاه، وهل يكتفى بأحدهما على نحو الإستقلال الجواب لا، فإذا إجتمعت أمور ثابتة ومستحدثة ومتزلزلة في الدعوة لزم السعي في ميادينها، وإنقاذ الناس من غلبة الشر وإستحواذ الشيطان.
التاسعة عشرة:تأتي الدعوة إلى الخبر بفعله، والتحلي بالأخلاق الحميدة، ومنها العفو وترك الثأر والإنتقام , قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
العشرون: في الدعوة إلى الخير أمور:
الأول: اللجوء إلى الله والتوكل عليه في السعي في الصالحات.
الثاني: التقيد بأحكام الشريعة.
الثالث: التفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
الرابع: الدعوة إلى الخير مدرسة في الصبر وحسن العبودية، قال تعالى[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
الخامس: إنها ندب للمبادرة لفعل الصالحات، قال تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] ( ).
السادس: صدور المسلمين عن القرآن والسنة من جهات:
الأولى: الإمتثال للأوامر الواردة في هذه الآية.
الثانية: معرفة مصاديق الخير.
الثالثة: سعي الداعي إلى الخير ليكون أسوة حسنة في ميادين الخير والفلاح.
السابع: دنو وإقتراب المسلم من الناس، وحضوره بين ظهرانيهم مع تقييد هذا الحضور بأنه في الله ولله ومن الله، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الثامن: تجلي حسن سمت المسلمين.
التاسع: تجدد البرهان اليومي بأهلية المسلمين لتولي مقامات(خير أمة).
العاشر: توكيد إنتفاء الغل والحسد من صدور المسلمين.
الحادي عشر: بيان الإمتثال للكتاب والسنة، ودعوة الناس للإنصات للمسلمين في أحكام الدين قال تعالى[وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الثاني عشر: فوز المسلمين بالثواب الجزيل والأجر ومغفرة الذنوب لدعوتهم إلى الخير، وإفشاء الإحسان، قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ] ( ).
الثالث عشر: الحيلولة دون ضيق صدور المؤمنين، ومنع الغل عنها بالدعوة إلى الصلاح عند رؤية المنكر والفعل القبيح، فلو إختاروا السكوت لداهمهم الحزن والأسى والخشية على أنفسهم وذراريهم، فجاء الأمر بالدعوة إلى الخير رأفة بهم وبالناس، ودفعاً للفجور والفسوق.
العشرون: حينما أمر الله عز وجل المسلمين بالدعوة إلى الخير فإنه سبحانه ناصرهم ومدهم، ليكون من خصائص(خير أمة) أمور:
الأول: إن الله عز وجل يأمرهم بفعل الخير والأمر به.
الثاني: نصرة وإعانة(خير أمة) في إتيانهم الصالحات، وليس من حصر لهذه النصرة موضوعاً وحكماً، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الواحدة والعشرون: من إعجاز القرآن مجيء آياته بالجواب على سؤال مقدر من الناس، وهذا السؤال متعدد في موضوعه وجهة صدوره، فقد يصدر من المسلم كما لو ظن أن الجمع بين كل من:
الأول: الدعوة للخير.
الثاني: الأمر بالمعروف.
الثالث: النهي عن المنكر.
الرابع: أمر فيه مشقة.
وقد يدعّي أهل الشك والريب بأن المسلمين لا يستطيعون الجمع بينهما والجدال في الأصل وهو إتيان الآمر نفسه وأهله لمصاديق الخير والمعروف والإمتناع عن المنكر، فجاءت هاتان الآيتان بما يفيد أموراً:
الأول: إمكان الجمع بين مصاديق الخير والمعروف والتنزه عن المنكر.
الثاني: أهلية المسلمين للقيام بهذه الوظائف وهو من مصاديق بلوغهم مرتبة(خير أمة).
الثالث: لما جاءت هذه الآية بالإخبار عن خروج المسلمين بأمر الله للناس جميعاً، جاء تعدد وظائف الإصلاح التي يقوم بها المسلمون شاهداً متجدداً على هذا الخروج ويستغرق أفراد الزمان الطولية، والمكان العرضية ليكون على وجوه:
الأول: قيام الحجة على الناس بوجود أمة تدعو إلى الله، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثاني: توكيد حقيقة وهي حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء الآخرين في الوجود الوجداني والواقع التشريعي للناس بأحكام الشريعة والمضامين القدسية التي يدعو لها المسلمون.
الثالث: بيان جهاد أجيال المسلمين المتعاقبة في سبيل الله، بتحملهم أعباء التبليغ والدعوة إلى الله.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وتوكيد رجحان كفة الإيمان في الأرض، لوجود أمة في كل زمان تدعو إلى الله بذات المضامين القدسية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد رحمة على الأنبياء.
الخامس: دعوة المسلمين للخير مرآة لدعوة الله الناس للنجاة في الآخرة، والفوز بالجنة قال سبحانه[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ]( )، فمن خصائص(خير أمة) أمور:
الأول: إتخاذ دعوة الله عز وجل وسيلة مباركة للأمن والسلامة في النشأتين.
الثاني: جعل الدعوة إلى الخير وظيفة متجددة لها.
الثالث: مصاحبة الدعوة للناس في حياتهم اليومية.
الرابع: بيان وتجلي حقيقة وهي أن خروج المسلمين للناس رحمة وفضل من عند الله عليهم وعلى الناس.
الخامس: خروج المسلمين للناس طريق للنجاة يوم القيامة.
الخامس: الدلالة على إستحقاق المسلمين ذكوراً وأناثاً لتلقي لغة الخطاب في الآيتين والمقترنة بالثناء والأمر بالقيام بوظائف عبادية، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: الوظائف العبادية الذاتية كالصلاة والصوم والحج والزكاة.
الثاني: الوظائف العبادية الغيرية التي تتعلق بالإصلاح وجذب الناس لمنازل الإيمان، ومنع إنتشار الفسوق والضلالة (وعن النبي محمد: أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم) ( ).
وتحتمل هذه الوظائف وجوهاً:
الأول: التعدد في الوظائف الذاتية والإتحاد في الوظائف الغيرية.
الثاني: الإتحاد في الذاتية، والتعدد في الغيرية.
الثالث: التعدد في كل من الذاتية والغيرية.
الرابع: الإتحاد في كل منهما.
والصحيح هو الثالث، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من مصاديق(خير أمة).
الثانية: فيه آية ودلالة على تعاهد المسلمين لهذه المنزلة الرفيعة.
الثالثة: فيه بيان لمصداق إخراجها للناس بتوارث أجيال المسلمين لهذه الوظائف مجتمعة ومتفرقة.
الرابعة: إكرام المسلمين، وبيان الحجة في أهليتهم لحفظ وتعاهد منزلة(خير أمة).
الخامسة: هذا التعدد المركب شاهد عدم تفريط جيل من المسلمين بجزء يسير من هذه الوظائف.
السادسة: التكاليف العبادية شرف وفخر لهم لأنها الشاهد على كون المسلمين(خير أمة) من وجوه:
الأول: التكاليف العبادية للفرد من المسلمين على نحو التعيين، وليس التخيير.
الثاني: قيام المسلمة بأداء التكاليف على نحو مستقل، وبعرض واحد مع الرجل.
الثالث: التعدد في كل تكليف بعينه كالصلاة المتجددة في كل يوم خمس مرات، وبصيغة الوجوب في ذاتها، وفي أجزائها الركنية كالركوع، وغير الركنية كالقراءة، إلى جانب الأجزاء المستحبة كتكرار التسبيح والقنوت، قال تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] ( ).
الرابع: التعدد في الوظائف العبادية الغيرية وسيلة لإصلاح الناس وترغيبهم بالإيمان.
الخامس: تجدد وإتصال أفراد الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحتمل التجدد وجوهاً:
الأول: إنه خاص بكل جيل من المسلمين على نحو كفائي، فيجزي قيام فريق من المسلمين في بلدة ما بهذه الوظائف.
الثاني: إختصاص العلماء بهذه الوظائف فعلاً وقولاً، ويكتفي عامة المسلمين بتعاهد الوظائف العبادية الذاتية التي تكون كالظهير للوظائف الغيرية.
الثالث: يتجدد إتيان الوظائف الغيرية كل مرة في بلد أو عند جماعة تخفيفاً عن المؤمنين.
الرابع: التجدد في التكاليف إنحلالي ينبسط على كل فرد من المسلمين.
والصحيح هو الرابع للوجوب العيني في التكاليف قال تعالى[ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا]( )، وفيه دلالة على شمول كل مسلم ومسلمة بالتكريم والعز بصفة(خير أمة) وخطاب التكليف والشأن (أخرجت للناس).
لقد جعل الله عز وجل العالم مظهراً لأسمائه الحسنى، وشاهداً على عظيم قدرته، وبديع صنعه، ومرآة لجلاله، وتفضل وجعل المسلمين دعاة إلى لقائه، والخلود في جنته فنالوا شرف منزلة(خير أمة) ليفوزوا بفضله وإفاضاته اللامتناهية التي تترى عليهم من وجوه:
الأول: تعاهدهم الدعوة إلى الإسلام.
الثاني: الإقرار بالعبودية لله.
الثالث: التسليم بربوبيته للخلائق كلها.
الرابع: مواجهة أهل الضلالة والفسوق.
الخامس: المواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ملل أو كلل.
السادس: إتيان الفرائض وعمل الصالحات قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى]( ).
الثانية والعشرون: تحتمل الدعوة إلى الخير بلحاظ الكيفية وجوهاً:
الأول: الدعوة إلى الخير باللسان.
الثاني: الإتيان بالأفعال التي تبعث على المبادرة إلى الخيرات.
الثالث: الأمر الجامع للقول والفعل.
والصحيح هو الثالث، وهو المستقرأ من بلوغ المسلمين مرتبة(خير أمة) لما في الأمر الجامع أعلاه من أبهى معاني التفضيل والإخلاص في طاعة الله، وهو من أسرار إقتران الدعوة إلى الخير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة والعشرون: لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار رحمة وتخفيف، تأتي فيها التكاليف مقرونة بأسباب اللطف والتيسير، ويكون في المتعدد منها رحمة وعون على أداء الأجزاء والأفراد.
فمن أسرار إجتماع الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور:
الأول: كل فرد منها مقدمة للآخر منفرداً ومتحداً فتكون على وجوه:
الأول: الدعوة إلى الخير مقدمة للأمر بالمعروف.
الثاني: الأمر بالمعروف مقدمة للنهي عن المنكر.
الثالث: النهي عن المنكر مقدمة للأمر بالمعروف.
الرابع: الدعوة إلى الخير مقدمة للنهي عن المنكر.
الخامس: الدعوة إلى الخير مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: الأمر بالمعروف مقدمة للدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر.
السابع: النهي عن المنكر مقدمة للدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر.
الثاني: أداء فرد منها عون ومناسبة وأداء الآخر على أدائه.
الثالث: كل أداء حث للمسلمين لمحاكاته قال تعالى[فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]( ).
الرابع: إتيان أحدهما سبيل إلى التوفيق فيها مجتمعة ومتفرقة، ليكون ذات الإجتماع والتعدد على وجوه:
الأول: إنه رحمة ومدد.
الثاني: وسيلة لإكتناز الصالحات.
الثالث: التخفيف عن المسلمين.
وهو من مصاديق(خير أمة) أنها تتلقى التكاليف جملة وعلى نحو التعدد.
ومن منافع هذا التعدد وجوه:
الأول: إنه رحمة بالمسلمين.
الثاني: إنه حجة على الناس.
الثالث: فيه طرد للنفرة من الإسلام وما فيه من العبادات، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
لتكون الإستعانة بالعبادات في غاياتها أعم من النفع الذاتي في الدنيا والآخرة ومن منافعها:
الأول: إفراغ الذمة من التكاليف.
الثاني: هداية الناس لأعمال البر.
الثالث: ترغيب بالإسلام وتقدير الآية: وإستعينوا بالصبر الصلاة في الدعوة إلى الخير).
وفي أداء العبادات أمور:
الأول: تنمية ملكة التقوى عند المسلم.
الثاني: البعث على الجهاد في سبيل الله.
الثالث: الإعانة في إختيار الكيفية المناسبة لفعل الخير والبعث على الصالحات.
الرابعة والعشرون: من الإعجاز في توجه الخطاب(ولتكن منكم أمة) إلى المسلمين والمسلمات جميعاً مع أن الذين يقومون بالدعوة إلى الخير فريق منهم بيان بلوغ المسلمين مراتب اليقين وهو الإعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع والذي لا يتسرب إليه الشك والريب.
وفي وصول المسلمين لهذه المرتبة أمور:
الأول: إنه من مصاديق(خير أمة).
الثاني: فيه شاهد على إخراج الله عز وجل المسلمين للناس، ومن فضل الله عليهم عدم خروجهم للناس إلا بأمور:
الأول: بلوغ مراتب التقوى.
الثاني: الخشية من الله.
الثالث: ترغيب الناس بالتقوى قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: يحتمل اليقين عند المسلمين وجهين:
الأول: إنه من العلم الوهبي والأمور البديهية التي تأتي من غير توسط الأسباب والمقدمات.
الثاني: إنه علم كسبي، ناله المسلمون بالتعلم وصيغ الهداية، والصحيح هو الوجه الثاني، وفيه أمور:
الأول: إنه مناسبة لإحرازهم الثواب.
الثاني: ترغيب الناس بدخول الإسلام.
الثالث: إنه شاهد على إمكان إقتباس فعل الخيرات وإصلاح النفوس لتلقيها بالقبول والرضا.
الرابع: بذل المال والإنفاق في سبيل الله قربة إليه تعالى في فعل الصالحات قال تعالى[وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ]( ).
وهو من الشواهد على كون المسلمين(خير أمة) لتأسيسهم معاني السخاء في ذات الله، وإتخاذ المال وسيلة للدعوة إلى الخير، والإنفاق نفسه خير محض ودعوة له إذا كان في مرضاة الله، قال تعالى[وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ]( ).
الخامسة والعشرون: بيان حقيقة وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان كفائيان، فتقوم به جماعة أو أمة من المسلمين فيسقط عن الجميع، ومن الإعجاز في المقام وجوه:
الأول: مجئ آية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] بصيغة الخطاب للمسلمين جميعاً، وبما يدل على عموم التكليف في نهوض جماعة أو أمة منهم، فمسؤولية كل المسلمين قائمة ومستمرة إلى حين قيام أمة منهم بالواجب وعلى أتم وجه، وهذا القيام مستديم ومتجدد.
السادسة والعشرون: وصفت الآية محل البحث المسلمين بالقول[تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] وجاءت هذه الآية بالأمر بتصدي فريق وأمة منهم للدعوة إلى الخير والصلاح والإحسان.
ويفيد الجمع بينهما خروجهم للناس بصيغة الإيمان لتكون الدعوة على وجوه:
الأول: إنها رشحة من الإيمان.
الثاني: شاهد على كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ].
الثالث: تهيئة أسباب ومقدمات المعروف، وإجتثاث المنكر.
السابعة والعشرون: في الدعوة إلى الخير مسائل:
الأولى: تثبيت معاني الإيمان في نفوس المسلمين.
الثانية: الإرتقاء في مراتب التقوى.
الثالثة: انها من عمل الصالحات.
الرابعة: فيها ثواب وأجر عظيم، قال تعالى [بَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا] ( ).
الثامنة والعشرون: يفيد الجمع بين الآيتين توجه الخطاب التكليفي للمسلمين جميعاً بأمور:
الأمر الأول: الخروج إلى الناس بالدعوة إلى الخير، وتحتمل الدعوة في جهتها وجوهاً:
الأول: إرادة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان لقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
الثاني: المقصود الكفار لزجرهم وجعلهم يهجرون منازل الكفر والضلالة.
الثالث: إرادة عموم الناس، وشمول المسلمين أنفسهم بالدعوة إلى الخير.
والصحيح هو الثالث، إذ أن أطراف الدعوة إلى الخير هي:
الأول: أمة تدعو إلى الخير.
الثاني: مواضيع الخير التي تتقوم بها الدعوة.
الثالث: الجهة المدعوة إلى الخير.
وإذ قيدت الجهة التي تدعو إلى الخير بأنها طائفة وشطر من المسلمين، فانها لم تقيد الجهة المدعوة إلى الخير بل جعلتها مطلقة لإرادة العموم، ليكون من الإعجاز في دلالات اللآية أن أمة منكم تدعو عموم المسلمين إلى الخير والمبادرة فيه، قال تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( )، وهل من الإعجاز في تقييد طرف الدعاة وان كان متحركاً غير ثابت، فمن يكون مدعواً من المسلمين في فرد من أفراد الخير، يكون داعية في المحاكاة والنظير والكيفية وتكرار المعروف ورسوخ معاني الصلاح.
الرابع: تقدير الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة أخرجت للناس ولتكن من كم أمة تأمر بالمعروف) فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنعمتين عظيمتين هما:
الأولى: إختيارهم لأسمى المراتب بين الأمم.
الثانية: خروجهم للناس بالخير والصلاح، فاراد الله عز وجل من المسلمين أن تقوم أمة منهم بالأمر بالمعروف وفيه أمور:
الأول: إنه من الشكر لله عز وجل على النعمتين أعلاه.
الثاني: تعيين ماهية الخروج للناس.
وتحتمل النسبة بين خروج المسلمين للناس وأمرهم بالمعروف وجوهاً:
الأول: التساوي فالخروج في ماهيته من الأمر بالمعروف.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، فالمعروف من مصاديق الخروج للناس.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء بينهما وأخرى للإفتراق.
والصحيح هو الثاني، فخروج المسلمين للناس خير محض، ونفع عام للناس في أمور الدين والدنيا، ومنه الأمر بالمعروف بالإضافة إلى أن الأمر بالمعروف مطلوب بذاته، وهو مقدمة للخير والصلاح والنفع العام.
الأمر الثاني: الخروج إلى الناس بالأمر بالمعروف، وجاءت آية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] بصيغة الجملة الخبرية، وجاءت الآية محل البحث بلغة الخطاب لبيان الندب إلى الأمر بالمعروف والإستمرار والدوام فيه، وفيه مسائل:
الأولى: إنتفاء التعارض بين الأمرين فمرة يأتي الأمر بالأمر بالمعروف على نحو الموجبة الكلية الشاملة لكل المسلمين كما في الآية محل البحث، ومرة على نحو الموجبة الجزئية كما في الآية أعلاه.
الثانية: إنه شاهد على موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلمين اليومية.
الثالثة: عدم إنفكاك وجوب الأمر والنهي عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين فيؤديه الفرد والجماعة والأمة منهم، ويشترك المسلمون كلهم فيه سواء على نحو الواجب الكفائي أو الواجب العيني، وفي كل الأحوال، قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا] ( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (ولتكن منكم فرقة أو طائفة) والجواب من وجوه:
الأول: إنه من إعجاز القرآن، وفيه دليل على أن كل كلمة منه فريدة لا تصلح كلمة غيرها بديلاً وافياً عنها.
الثاني: إرادة معنى الإتحاد والألفة بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ليكون من مصاديق الآية السابقة [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
الثالث: منع الفرقة والإختلاف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يتعاهد المسلمون البقاء أمة واحدة في الإمتثال لأوامر الله.
الرابع: بيان قوة المسلمين بأن تتفرع أمم من ذات أمتهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) وهذه الأمم ليست مستقلة بمذهب مخصوص، بل كل فرد من المسلمين يدخل في هذه الأمم، ويكفيه غيره في القيام بوظائفها وهو من خصائص(خير أمة) بأن تبقى أمة واحدة.
الخامس: تواجه الأمة في جهادها في سبل المعروف والصلاح الكفار والظالمين والمنافقين.
السادس: بيان موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلمين، ولزوم سعيهم له مجتمعين.
السابع: بذل الأمة الوسع لترتب الأثر على الأمر والنهي، فاذا جاء من أمة يكون أكثر أثراً وتأثيراً مما لو جاء من قبل أفراد وجماعة .
الثامن: منافع التشاور والتآزر بين أفراد الأمة في سبل الأمر والنهي، وبما يكفل إتيانها على الوجه الأكمل وبالكيفية الصحيحة والنافعة.
الأمر الثالث: خروج المسلمين للناس بقيام أمة منهم بالنهي عن المنكر طاعة لله عز وجل، وعندما خلق الله عز وجل آدم إحتجت الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فأجاب الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليأتي خروج المسلمين إلى الناس من علم الله عز وجل لما فيه من السعي لتنزيه الأرض من الفساد، ووجود أمة تحارب سفك الدماء في الأرض بغير الحق.
ومن خصائص(خير أمة) أن الله عز وجل يحتج على الملائكة، ويخبر أنها ستصلح وتمنع من تمادي أهل الغي بالفساد، ومن عموم الإحتجاج في الآية الكريمة أن الناس فيها على قسمين:
الأول: أمة تجتنب المنكر وتنهى عنه وهي(خير أمة).
الثاني: أمم وجماعات يتلقون النهي عن المنكر.
وليس من قسيم ثالث يعمل القبائح من غير أن يتوجه له النهي مما يدل على أن الفساد في الأرض أمر متزلزل غير مستقر في النفوس أو المجتمعات أو الأرض،، وأنه إلى زوال ما دامت وراءه أمة تلاحقه وأهله.
ومن الآيات أن هذا النهي ليس إبتداء من المسلمين، وإن كانوا(خير أمة) بل هو من عند الله من جهات:
الأولى: أمر الله عز وجل للمسلمين بالنهي عن المنكر.
الثانية: دعوة المسلمين لتكون منهم أمة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
الثالثة: إجتياز المسلمين لمراتب (خير أمة) وموضوعية النهي عن المنكر فيه.
الرابعة: بيان مصاديق المنكر للمسلمين بالقرآن الذي أنزله الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمر من الله عز وجل ويدخل هذا الجهاد في عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
السادسة: تفضل الله عز وجل بجعل النفوس تنفر من المنكر ولا تمتثل إلى أهله.
السابعة: فتح باب التوبة للناس جميعا،ً وتقريبهم بلطف من الله عز وجل لمنازل الإنابة.
الثامنة: الإنذار والوعيد للذين يصرون على عدم ترك الإقامة على المعاصي، قال تعالى [وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
الأمر الرابع: اتصاف الأمة التي تدعو إلى الخير وفعل الصالحات بأنها جزء من الأمة المؤمنة التي تتعاهد أحكام الإسلام، وتمتثل لأوامر الله عز وجل وتؤدي الفرائض فخروج المسلمين للناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، لايشغلهم عن ذكر الله وإتيان الفرائض والواجبات، بل بالعكس فان أداء الفرائض من أهم المصاديق لكل من:
الأول: الدعوة إلى الخير من جهات:
الأولى: أداء الفرائض خير محض.
الثانية: ترغيب المسلمين الناس باتيانهم الفرائض والإمتثال لأمر الله وهو من مصاديق الخروج بأن يرى الناس جميعاً كيف يقوم المسلمون بأداء الفرائض بشوق ورغبة ورضا قربة إلى الله.
الثالثة: إنه دعوة للتدبر في ماهية الحياة، وأنها دار تكليف وإختبار وإمتحان.
الرابعة: التذكير بعالم الآخرة بأمور:
الأول: حتمية النشور والوقوف بين يدي الله للحساب , قال تعالى[ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ]( ).
الثاني: الثواب الأخروي الذي يأتي من إجتناب المنكر والإمتناع عن الفواحش طاعة لله عز وجل.
الثالث: العذاب الأليم الذي يكون عاقبة وعقوبة لإرتكاب المنكر، وعدم الإصغاء لخير أمة في نفيها المستمر عن المنكر.
الثاني: الأمر بالمعروف، من جهات:
الأولى: مبادرة المسلمين إلى فعل المعروف .
الثانية: بيان قدرة الإنسان على أداء التكاليف.
الثالثة: توكيد حقيقة وهي إستدامة عبادة الله في الأرض.
الرابعة: توبيخ الذين يتخلفون عن واجباتهم، ويتركون أداء الفرائض.
الخامسة: بأداء المسلمين الفرائض يتعاهدون منزلة(خير أمة) والخروج للناس برداء الإيمان والصلاح.
السادسة:ترغيب الناس بأداء الفرائض، وتوكيد منافعها.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، إذ أن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، وتفضل وأخرج أمة من الناس تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ليكون خروجها هذا قضاء لحاجاتها وحاجات الناس في الإلتفات إلى وجوب عبادته تعالى وإتيان مصاديق العبادة التي تفرغ معها الذمة، ويستحق معها العبد الثواب.
السابعة: ترغيب الناس بالمستحبات، وحثهم عليها، وابعادهم عن المكروهات والشبهات.
الثالث: النهي عن المنكر، من جهات:
الأولى: أداء الفرائض واقية للذات من السيئات وإرتكاب المنكر، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( )، وجاء ذكر الصلاة هنا من باب المثال الأمثل، وإلا فان كل عبادة وأداء لفريضة زاجر للنفس عن المعصية.
الثانية: مزاحمة المنكرات في الواقع وتنحيتها.
الثالثة: الحسن الذاتي للعبادات، ويفيد في مفهومه توكيد قبح المنكرات والمعاصي.
الرابعة: أداء الفرائض مصداق عملي لوجوبها، وتذكير يومي بلزوم إتيانها.
الخامسة: بيان التعارض والتضاد بين إتيان العبادات وعدمه، وترغيب الناس بها.
السادسة: يدل إتيان العبادات في مفهومه على ذم الكفار الذين يجحدون بالنبوة والتنزيل، ولا يؤمنون باليوم الآخر.
الرابع: الإيمان بالله، من جهات:
الأولى: يتقوم الإيمان بأداء الفرائض والعبادات، فمن كان يؤمن بالله فلابد أن يمتثل لأوامره ويجتنب ما نهى عنه.
الثانية: لما اكرم الله عز وجل المسلمين والمسلمات بجعلهم (خير أمة) فانه أمرهم بعبادته بأحسن وأتم وجوه العبادة، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة التي تؤدي العبادات بأحسن وأتم وجه.
الصغرى: المسلمون يؤدون العبادات بأحسن وأتم وجه.
النتيجة: المسلمون خير أمة.
الثالثة: يشترط في أداء العبادات قصد القربة، وهو لا يصح إلا بقيد الإسلام.
الرابعة: أداء العبادات من مصاديق التقوى والخشية من الله، قال تعالى[وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
الخامسة: بيان ما يتقوم به الإيمان وأنه لا ينحصر بالإعتقاد بالقلب والنطق بالشهادتين بل لابد من إتيان الصلاة والصيام والحج ممن إستطاع أداءه والزكاة ممن وجبت عليه بشرائطها.
الأمر الخامس: قيام (خير أمة) بأمور:
الأول: جذب الناس للإسلام.
الثاني: ترغيب بالإيمان.
الثالث: توكيد لزوم التحاقهم بالمسلمين.
الرابع: بيان منافع الإيمان وأضرار التخلف عنه.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الحجة) ليصاحب الإنسان فيها البرهان الذي يدل على وجوب عبادة الله، وجعل الله سبحانه المسلمين حملة للواء الإحتجاج، وهم بذاتهم حجة على الناس من وجوه:
الأول: هدايتهم إلى الصراط المستقيم.
الثاني: تصديقهم بالنبوة والتنزيل.
الثالث: العمل بأحكام الشريعة.
فبعد أن تفضل الله وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، وأنزل القرآن تفضل ودعا الناس لدخول الإسلام، قال سبحانه[وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( ).
وجاءت الدعوة في الآية محل البحث ببيان المنافع العظيمة التي يجلبها أهل الكتاب على أنفسهم لو دخلوا الإسلام، خصوصاً وأن لفظ(خير) في الآية ظاهر في أمور الدين والدنيا، ولا بد أن مصاديق عديدة للخير حاضرة في حياة المسلمين، ومحسوسة لأهل الكتاب والناس جميعاً، منها أمور:
الأول: إنتصار المسلمين في معارك الإسلام.
الأولى: مجئ هذا النصر بآية إعجازية، مع أن الأسباب والمقدمات تفيد نتيجة أخرى مغايرة، إذ كان الكفار يزحفون بأكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين عدداً وعدة، فيرجعون خاسرين، وبخصوص معركة أحد التي أعد لها الكفار بعناية وجهد دؤوب، وأرادوها ثأراً لخسارتهم وهزيمتهم في بدرقال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثانية: صيرورة دولة حديثة للمسلمين تختلف عن غيرها من حيث عملها بالحكم الذي أنزل الله عز وجل وما فيه من فضح لغيرها، ومنها الدولة التي تخلفت عن العمل بالكتاب السماوي، قال تعالى [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
الثالثة: نزول البركات على المسلمين من وجوه:
الأول: إنتقالهم إلى حال إجتماعية وإقتصادية وسياسية كريمة.
الثاني: شيوع مفاهيم الأخوة بينهم.
الثالث: تخلصهم من الأحقاد والضغائن، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الرابع: إتساع الفتوحات وكثرة غنائم الحروب والخراج.
الرابعة:تسابق المسلمين إلى ميادين القتال جهاداً في سبيل الله، وتعضيد نسائهم وأسرهم لهم لأمور:
الأول: التسليم بضرورة نشر الإسلام.
الثاني: الحفاظ على بيضة الإسلام.
الثالث: إنقاذ الناس من براثن الكفر والضلالة.
الخامسة:ثبات المسلمين على الإيمان، وإنعدام الإرتداد بين صفوفهم مع شدة وطأة هجوم الأعداء، وأذى المنافقين، وقد تعرض المسلمون لسنة مجاعة بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى أيام خلافة عمر بن الخطاب فاظهروا الصبر والحّوا بالدعاء، وصلوا صلاة الإستسقاء حتى زالت الغمة.
السادسة: مبادرة أفراد وجماعات من أهل الكتاب بدخول الإسلام، وإعلان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة بمجئ الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل بالبشارة بنبوته، فقوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ] لايعني عدم حصول الإيمان ودخول الإسلام في منتدياتهم وبيوتهم ، ولكنها خاصة بمن بقي منهم على حاله، لأن الذي يدخل الإسلام يتبدل موضوعه ويتبعه تغيير الحكم، فيصبح مسلماً يتلو هذه الآيات، ويتنعم بالنعمة العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين، ومنها كونهم(خير أمة).
السابعة: إنتقال القبائل من حال الكفر والوثنية إلى الإسلام من غير واسطة، ومن غير خوف أو وجل من الطواغيت، وقد ورد في موسى عليه السلام في التنزيل[فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ] ( ).
وشاء الله عز وجل أن ينعم على (خير أمة) بأن يكون إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول:بداية للجهاد.
الثاني: قهر رؤساء الكفر والضلالة.
الثالث: إمامة الناس في موارد الخير والصلاح.
الرابع: ثبات كلمة التوحيد في الأرض.
الخامس:إعتبار المسلمين من الأمم السابقة، وإتباعهم للقرآن والسنة، وإتخاذهم الحيطة والحذر بذات الوقت الذي يظهرون الثبات على الإيمان في حال الحرب والسلم , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( ).
والتحلي باسمى مراتب التقوى والخشية من الله التي هي حاجة لهم في أمور العبادات والرياسة العامة للدراسات، وتولي مسؤوليات الحكم والسلطنة ليكون قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ] على وجوه:
الأول: دعوة الناس لدخول الإسلام.
الثاني: بعث السكينة في نفوسهم من الإسلام.
الثالث: منع النفرة من أحكامه وسننه.
الرابع: فيه برزخ دون حصول الفتن في الأمصار التي فتحها المسلمون.
صلة (يدعون إلى الخير) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين، (كنتم خير أمة يدعون إلى الخير).
الثانية:تفيد النسبة بين شطري الآيتين أعلاه وجوهاً:
الأول: الدعوة إلى الخير رشحة من رشحات مرتبة(خير أمة).
الثاني:نيل مرتبة(خير أمة) بالدعوة إلى الخير والمبادرة إلى فعل الصالحات.
الثالث: تفرع وترشح أحدهما عن الآخر، إذ ينال المسلمون مرتبة(خير أمة) بالدعوة إلى الخير،ويدعون إلى الخير لأنهم (خير أمة).
والصحيح هو الثالث، فان قيل إنه يستلزم الدور وتوقف أحدهما على الآخر، والجواب ليس من دور في المقام، لوجوه:
الأول: تعدد مصاديق الفضل الإلهي على المسلمين.
الثاني:ترشح الخصال الحميدة من الإيمان.
الثالث: الدعوة إلى الخير إمتثال لأمر الله عز وجل، ونيل مرتبة (خير أمة) رحمة وفضل من الله عز وجل، وهما مجتمعان ومتفرقان من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الثالثة:من خصائص(خير أمة) قيامها بأمور:
الأول: الدعوة إلى الصلاح.
الثاني: نشر مفاهيم البر والأحسان.
الثالث: الدعوة إلى الله.
الرابعة: (خير أمة) ليست محصورة ومغلقة ومعرضة عن غيرها، بل تتصف بأمور:
الأول: فتح باب الإنتماء لها لأي إنسان ذكراً أو أنثى.
الثاني: عدم إمكان غلق باب الدخول إلى الإسلام من جهات:
الأولى: إن الله عز وجل هو الذي فتح هذا الباب وابقاه مفتوحاً إلى يوم القيامة.
الثانية: الإنتساب لخير أمة أمر بسيط غير مركب، فيكفي المكلف النطق بالشهادتين، ليكون له ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات.
الثالثة: حرمة الإرتداد عن الإسلام، قال تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ]( ).
الرابعة: جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من أجل دخول الناس الإسلام، وعصمة نفوسهم وأموالهم وحلية مناكحتهم وذبائحهم حال نطقهم بالشهادتين.
الخامسة:حالما يدخل الإنسان الإسلام يتوجه له الخطاب التكليفي بالدعوة إلى الخير وجذب الناس للإيمان.
فمن كان بالإمس مدعواً للخير، يصبح اليوم داعياً إلى الخير لأنه صار من (خير أمة) وتلك آية في خلق الإنسان، ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح المجتمعات بنبوته، وإزاحة الخير للشر من الأرض وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة عندما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض، ليكون من بديع صنع الله عز وجل تجدد مصاديق قوله أعلاه في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة بإشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
السادسة: بيان حاجة الناس للمسلمين في أمور الدين والدنيا.
السابعة: بدأ عهد جديد أطل على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو إستمرار الدعوة إلى الخير، وليس من دعوة إلى الباطل تتعدي على حرمات الإسلام، وفي مؤمن آل فرعون ورد قوله تعالى[وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ] ( )، فلم يعد المؤمنون مستضعفين في الأرض، وغير قادرين على الإجهار بايمانهم، وفي قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ].
الأول: الحث على إعلان الإسلام.
الثاني: ترغيب الناس بدخوله.
الثالث: بيان أضرار التخلف عن موارد الخير والصلاح.
الثامنة: حث المسلمين على نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والحرب، لبيان حقيقة وهي أن الإسلام جهاد متصل، وهذا الجهاد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوته قوة وضعفاً، وتكون الدعوة إلى الخير مصداقاً له، وصفة مصاحبة للمسلمين في كل زمان، وفيه آية من وجوه:
الأول: تعاهد المسلمين للجهاد وفق قاعدة الميسور والممكن.
الثاني: عدم حصول الفتور عند المسلمين في السعي إلى الله، لأن الدعوة إلى الخير أساس متين ومتجدد لصرح الجهاد.
الثالث: توكيد إستحقاق المسلمين لمنزلة(خير أمة) بلزوم دعوتهم إلى الخير.
الرابع: بعث السكينة في نفوس المؤمنين بأن الدعوة إلى الخير مستديمة في الأرض وإلى يوم القيامة.
الخامس: إكتناز المسلمين من الصالحات بالدعوة إلى الخير.
السادس: تنمية ملكة المعرفة عند المسلمين والناس جميعاً، وتقريبهم من منازل الطاعة، قال تعالى[الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ]( ).
التاسعة: تشابهت كلمات في الآيتين وهي:
الأولى: أمة.
الثانية:خير.
الثالثة: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. ووردت في آية(ولتكن منكم أمة) بصيغة الجملة الخبرية (يأمرون) (ينهون).
العاشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدعوة إلى الخير، فان قلت قد جاءا في الآية أعلاه معطوفين على الدعوة إلى الخير، وفيه دليل على المغايرة بينهما، والجواب إن ورودهما في آية أخرى يحمل على معناه الأعم، من وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير محض في ذاتهما.
الثاني: يتجلى الخير في الآثار المترتبة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الثالث: من مصاديق الدعوة إلى الخير أمور:
الأول: الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: حث المسلمين على القيام بالأمر والنهي.
الثالث: تهيئة مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: من الخير إعانة وتعضيد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالمال الجاه ونحوهما.
الخامس: إتيان الفرائض دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتذكير بهما، والبعث لعدم الخوف من الموانع والعوائق دون الأمر والنهي.
السادس: تلاوة آيات القرآن ترغيب وحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحادية عشرة: يقوم المسلمون جميعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتصدى أمة منهم للدعوة إلى الخير ليكون تعضيداً، للآمر والناهي وتثبيتاً لمفاهيم الصلاح، وجعل الناس ينفرون من الشر والقبائح.
الثانية عشرة: مما تتصف به (خير أمة) أن أفرادها يؤمنون بالله ويدعون إلى الخير والصلاح.
الثالثة عشرة: من خصال(خير أمة)أمور:
الأول: تلاوة آيات القرآن.
الثاني: تلقي الإخبار السماوي عما ينتظر أهل الكتاب والناس جميعاً من الخير والفلاح.
الثالث: التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة عشرة: من الدعوة إلى الخير بيان قبح الفسق والخروج عن طاعة الله، وعدم الخشية من الفاسقين والظالمين، لتكون الدعوة إلى الخير إنذاراً وتخويفاً، قال تعالى[بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ] ( ).
الخامسة عشرة: تكون الدعوة إلى الخير على أقسام:
الأول: الدعوة الصريحة إلى مصاديق الخير.
الثاني: فعل الخير، وجعل الذات أسوة حسنة يقتدي بها الآخرون.
الثالث: ذم الشر وفعل القبيح والتعريض بالظالمين، ومنه قوله تعالى[وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] ومجيؤه بعد الإخبار عن وجود أمة مؤمنة من أهل الكتاب.
صلة (ويأمرون بالمعروف) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين: كنتم خير أمة يأمرون بالمعروف.
الثانية: الأمر بالمعروف من رشحات منزلة (خير أمة).
الثالثة: بيان تعدد النعم على المسلمين بأن رزقهم الله منزلة (خير أمة) ووفقهم لمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة: بعث المسلمين على تعاهد الأمر بالمعروف من خلال إدراكهم لعلو منزلتهم بين الأمم.
الخامسة: تدعو أمة من المسلمين إلى الخير، ويقوم المسلمون رجالاً ونساءً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تعيين أو حصر الأمة التي تدعو إلى الخير لأن الخطاب في الآية ورد للمسلمين جميعاً بقوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ] نعم يجوز أن يحصل التعيين في مواضيع معلومة من الخير بحسب الكفاءة والأهلية والإختصاص.
السادسة: بيان أهمية الأمر بالمعروف في حياة المسلمين، وكونه من أسباب إستدامة مفاهيم التوحيد في الأرض بمجئ الآيتين بالندب اليه، وحث المسلمين على التقيد بسننه وعدم التفريط به.
السابعة: في ذكر الآيتين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور:
الأول: دعوة للعلماء المسلمين لإعداد الدراسات والبحوث، وإصدار الفتاوى بخصوصهما.
الثاني: إنفاذ مضامين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الواقع اليومي للمسلمين.
الثالث: تنمية ملكة التفقه في الدين كأصل ومقدمة ومنهج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( ).
الرابع: بيان منافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدنيا والآخرة.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الناس بالناس، بعضهم يكتسب وينتفع من بعض، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون الصالحات على وجوه:
الأول: مادة الإكتساب.
الثاني: موضوع الإلتقاء بين الناس.
الثالث: وسيلة الجذب إلى الصراط المستقيم.
الثامنة: من خصائص(خير أمة) وجود أمة منها تسخّر نفسها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تكل ولا تتعب فيه، ولو ظهر منها قصور فان(خير أمة) تدفع بطائفة أخرى منها لتتولى هذه المسؤولية العظمى، بل إن كل أفراد(خير أمة) يقومون بهذا العمل الإيماني لإدراكهم منافعه الدنيوية والأخروية.
التاسعة: لا ينحصر موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمر بالواجب، والنهي عن الحرام بل يشمل المستحب والمكروه، فهل يدل التكرار على هذا التفصيل وأن المذكور في هذه الآية يتعلق بالواجب والمحرم، إما المذكور في الآية(ولتكن منكم أمة) يخص المستحب والمكروه، أو بالعكس بالنسبة لوظائف الآيتين.
الجواب لا فان موضوع كل من الآيتين عام يشمل الأحكام التكليفية الخمسة باضافة المباح إلى الوجوه الأربعة أعلاه.
العاشرة: يقسم الواجب إلى قسمين:
الأول: الواجب المؤقت: وهو الذي يؤتى به في وقت مخصوص كالصلاة اليومية، وصيام شهر رمضان كما في قوله تعالى[أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( )، واداء مناسك الحج في أيام مخصوصة من السنة.
الثاني: الواجب غير المؤقت: وهو الذي ليس له وقت مخصوص وينقسم إلى قسمين:
الأول: الواجب المضيق:الذي لا يصح التراخي فيه.
الثاني: الواجب الموسع:وهو الواجب الذي تكون هناك مندوحة وسعة زمانية في أوانه وذكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الواجب الموسع ولكنه قد يكون مضيقاً، لذا جاءت الآيتان بالتوكيد عليه لترى الأمة وعلماؤها مناسبة وزمان وكيفية أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوظيف أفراد الزمان للأمر والنهي، بما يمنع من التسويف والإبطاء الذي يضر في باب الموضوع والحكم.
الحادية عشرة: من خصائص(خير أمة) أمور:
الأول: نشر الآداب الحميدة، والسنن الرشيدة.
الثاني: تعاهد أخلاق الأنبياء في الأرض.
الثالث: إشاعة الود والأخوة.
الرابع: إفشاء معاني العفو والتسامح بين الناس.
الخامس: منع التعدي والظلم.
السادس: النهي عن الأخلاق الذميمة.
وجاءت الآيتان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولزوم المواظبة عليهما، وتسخير(خير أمة) نفسها في أمور:
الأول: ميادين الصلاح.
الثاني: إرشاد الناس إلى سبل المعرفة وأسباب الهداية.
الثالث: تنزيه الأرض من مفاهيم الكفر والضلالة.
الثانية عشرة: يستلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أموراً:
الأول: طلب العلم ليكون نوع طريقية وآلة لتعاهدهما.
الثاني: إقامة الشعائر.
الثالث: إجتناب رذائل الأخلاق.
وجاءت هذه الآية بمدح المسلمين، ونعتهم بأنهم(خير أمة) أي أنهم يبذلون الوسع في تهيئة مقدمات وأسباب طلب العلم.
الثالثة عشرة: جاءت النصوص بلزوم العمل بالعلم المكتسب إذ أن العمل كالثمرة للعلم، فلا خير في علم من غير ثمرة ونفع خاص وعام وقد نزلت أول آية من القرآن بالحث عل طلب العلم بقوله تعالى[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ]( ).
لتسعى(خير أمة) في طلب العلم وإكتساب المعارف، وتظهر الثمرة في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنصات لهما، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(فتعلم باباً من العلم عمل به أو لم يعمل به خير من أن تصلي ألف ركعة) ( )، لبيان منافع العلم والعمل ووجود أمة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء على نوع فرض عين أو فرض كفاية ، وليكون طلب العلم على وجوه:
الأول: إنه من مصاديق الجهاد في سبيل الله.
الثاني: وسيلة مباركة لتحقيق الغايات الحميدة.
الثالث: إنه عون لهداية الناس بفضل ولطف الله.
فليس من تعارض بين قوله تعالى[وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، وقوله تعالى[وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
فان الله عز وجل بعث رسوله الكريم لهداية الناس، وأخرج (خير أمة) ليكونوا دعاة إلى الله عز وجل إلى يوم القيامة.
الثالثة عشرة: لقد شرّف الله عز وجل الإنسان بنعمة العقل، وهو من مصاديق قوله تعالى في الرد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فإن الناس بالعقل الشخصي والنوعي وبما هم عقلاء يمنعون من تفشي وطغيان الفساد في الأرض، ومن العقل إدراك وجوب الإيمان بالله والتصدي لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ يوظف الإنسان عقله في طلب العلم ويجعله آلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضوعاً وكيفية وحكماً ووسيلة لسلامة الأبدان والأديان لذا أنعم الله عز وجل على المسلمين ليكونوا حفظة وظائف العقل في أمور الدين والدنيا، ويأمرون بما يمنع من الإفراط والتفريط في الوظائف الشرعية.
الرابعة عشرة: بيان حقيقة وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يترشحان من الإيمان بالله , ويكونان وسيلة مباركة لزيادة الإيمان في النفوس، ومن منافع الإيمان في المقام وجوه:
الأول: مجيء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد القربة والطاعة إلى الله.
الثاني: الإيمان بالله هو الأصل للعمل في ميادين الأمر والنهي.
الثالث: الثمرة من الأمر والنهي هي تثبيت الإيمان في النفوس، وترغيب الناس بالإسلام.
الرابع: منع الزيغ والخطأ والخلط في مواضيع الأمر والنهي فالإيمان حارس أمين، وواقية للعقل والجوارح.
الخامس: يحتاج الأمر والنهي إلى مستلزمات وتظافر جهود وتعاون والإيمان باعث على الإنفاق في سبيل الله، والتعاون والإشتراك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى[لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ]( ).
صلة(وأولئك هم المفلحون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: كنتم خير أمة وأولئك هم المفلحون.
الثاني: أولئك هم المفلحون أخرجوا للناس.
الثالث: أولئك هم المفلحون يأمرون بالمعروف.
الرابع: أولئك هم المفلحون ينهون عن المنكر.
الخامس: أولئك هم المفلحون يؤمنون بالله.
الثانية: بيان الملازمة بين الفلاح والإجتباء لمنزلة(خير أمة).
الثالثة: بشارة المسلمين بحسن العاقبة والثواب العظيم في الآخرة فكما يكون المسلمون في الدنيا(خير أمة) فكذا في منازل الآخرة، فأنهم يفوزون بالمقامات الرفيعة في جنة النعيم، قال تعالى[فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وجاءت آيات القرآن لبيان حسن جزاء الذين ثقلت موازينهم بقوله تعالى[فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ] ( )، والمسلمون هم المفلحون بدليل خاتمة آية(ولتكن منكم أمة) ليكون ثواب المسلمين هو الجنة والخلود في النعيم ولا ينحصر الفلاح بطائفة من المسلمين بل هو شامل لهم، وهذا الشمول من رحمة الله عز وجل بهم ومصاديق اللطف الإلهي باختيارهم لمنزلة(خير أمة) وتصديقهم بنزول القرآن وقيامهم بالوظائف العبادية والعقائدية، وتعاونهم في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى في الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( )، ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق النور الذي يشع على أرجاء الأرض من الفيض الإلهي بآيات القرآن ومعجزات النبوة، وتعظيم المسلمين لشعائر الله، وإقامتهم الفرائض.
الرابعة: لما أخبرت هذه الآية عن كون المسلمين(خير أمة) جاءت آية[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] وهو من فضل الله عز وجل وإتصاف نعمه على الخلائق بالتمام والكمال إلى جانب الإستدامة والإستمرار، فيكون المسلمون في الدنيا خير أمة، وفي الآخرة ينالون مرتبة الفلاح.
الخامسة: ترغيب المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخبار عما أعد الله عز وجل للقائمين بهما من الثواب العظيم، ويحتمل الفلاح في الآية وجوهاً:
الأول: إرادة الفلاح في الدار الآخرة، وهو القدر المتيقن من الآية.
الثاني: المقصود الفلاح في الحياة الدنيا، بالتوفيق في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: إرادة المعنى الأعم، والجامع للنشأتين.
والصحيح هو الثالث، لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق، وعدم وجود تقييد في البين
الثاني: تعدد معاني الفلاح ومنها الفوز والظفر والغنيمة، أما قول الشاعر(ولكن ليس في الدنيا فلاح) ( )، ففيه مسائل:
الأولى: أراد الشاعر معنى البقاء والخلود.
الثانية: القدر المتيقن من الشعر هو الحجة في باب اللغة، وليس العقائد.
الثالثة: معنى الفلاح أعم من البقاء.
الثالث: إن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم، وهو الذي يتفضل بالثواب والجزاء العاجل ليكون على وجوه :
الأول : إنه لطف من الله, ومن عمومات قوله تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ) .
الثاني: إنه عون ومدد للإقامة على الصالحات .
الثالث:دعوة سماوية للمواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادسة: من فضل الله عز وجل على الناس وحكمته أنه سبحانه لم يخرج للناس إلا المفلحين الفائزين، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من رحمة الله بالناس عموماً.
الثانية: بعث السكينة في النفوس بخصوص الذين خرجوا لهم.
الثالثة: طرد أسباب الشك والريب بالمسلمين ودعوتهم إلى الله.
الرابعة: حث الناس على الإعراض عن الذين يسعون ببث الشك بالجدال والمغالطة.
السابعة: جاء اسم الإشارة(أولئك) لإكرام المسلمين، وبيان عظيم منزلتهم، من وجوه:
الأول: بيان آية(ولتكن منكم أمة) للوظائف العقائدية والجهادية التي يقوم بها المسلمون.
الثاني: ترشح الثناء والإكرام من نعت المسلمين بأنهم(خير أمة).
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خروجهم للناس، وفيه دليل على أن خروجهم خير ونفع عام لهم وللناس الموجود والمعدوم.
الرابع: من دلالات مفهوم قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] وجوه:
الأول: المسلمون في خير ورحمة وغبطة.
الثاني: ينهل المسلمون من الإفاضات الربانية.
الثالث: يؤدي المسلمون وظائفهم العقائدية بتوفيق من الله.
الثامنة: بيان قانون من الإرادة التكوينية، وهو وجود مفلحين في الأرض في كل زمان، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثانية: إنه رشحة من ورشحات خلافة الإنسان في الأرض.
الثالثة: فيه منع من شيوع الفساد وسفك الدماء فيها.
التاسعة: لقد أراد عز وجل للإنسان في الأرض الندم على فعله السيئة، والبعث على التدارك والتوبة كطريق للعفو والمغفرة وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة، وتتجلى مصاديق الندم في قتل قابيل لأخيه هابيل، وما ظهر عليه من الأسى والحسرة عندما بعث الله عز وجل غراباً يعلمه دفن الميت وكيفيته إذ ورد في التنزيل حكاية عنه[يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] ( )،
العاشرة: بيان حقيقة وهي أن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض من وجوه:
الأول: إنه توفيق وفوز وفلاح.
الثاني: فيه ترغيب لأهل الكتاب والناس جميعاً بالإسلام.
الثالث: إنه دعوة إلى نبذ الكفر والضلالة.
الحادية عشرة: أختتمت آية(ولتكن أمة) بالمدح والثناء على المسلمين وبشارتهم باللبث الدائم في الجنة، وأختتمت الآية محل البحث بذم الفاسقين، ويفيد الجمع بينهما أموراً:
الأول: بيان قبح المعصية.
الثاني: الإنذار والتوبيخ للفاسقين.
الثالث: تخويفهم بالنار والعذاب الأليم , قال تعالى[وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]( ).
الرابع: تحذير المسلمين من المنافقين والفاسقين , قال تعالى[وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ( ).
الثانية عشرة: جاء وصف المسلمين بالفلاح على نحو العموم الإستغراقي، وجاء ذم أكثر أهل الكتاب , ليكون فيه دعوة للصلاح والتوبة والإنابة.
صلة آية(واعتصموا) ( )بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى:جاءت كل من الآيتين خطاباً متجدداً للمسلمين وإلى يوم القيامة.
الثانية: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية، أما هذه الآية فوردت بلغة الجملة الخبرية.
الثالثة: تتضمن كل من الآيتين المدح والثناء على المسلمين.
الرابعة: من مصاديق [خَيْرَ أُمَّةٍ] الأمر الإلهي بالتمسك بالتنزيل.
الخامسة: جاءت الآيتان بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين جميعاً.
السادسة: يحتاج المسلمون التمسك بالقرآن والعمل بأحكامه كضرورة لتعاهد مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ]، وهذه الحاجة من نعم الله على المسلمين.
السابعة: جاء قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] بلغة الزمن الماضي، أما الإعتصام بحبل الله فجاء بصيغة إفعلوا التي تحمل على الحاضر والمستقبل وفيه وجوه:
الأول: حاجة المسلمين للإعتصام بحبل الله قبل وبعد نزول الآية.
الثاني: إرادة أفراد الزمان الطولية بقوله تعالى [كُنْتُمْ].
الثالث: تقدير الجمع بين الآيتين(كنتم خير أمة باعتصامكم بحبل الله).
الثامنة: معرفة المسلمين المراد من [حَبْلِ اللَّهِ] وأهليتهم لتلقي الأوامر الإلهية بالإمتثال.
التاسعة: يحتمل قوله تعالى [حَبْلِ اللَّهِ] وجوهاً:
الأول: إنه مبين.
الثاني: إنه من المجمل.
الثالث: من المجمل التفصيلي.
والأرجح هو الثالث، مع تجلي معاني البيان من وجوه:
الأول: ما يدل عليه الحبل من معاني التوسل والتمسك وإتخاذه بلغة وسبيلاً آمناً للغاية.
الثاني: الأمر الإلهي بالإعتصام بحبل الله، والله عز وجل لا يأمر إلا بالحق وما فيه نفع العباد، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( )، والتمسك بحبل الله إحسان للنفس ولخير أمة وللناس جميعاً.
الثالث: إضافة الحبل إلى الله، وكأنه الموصل والطريق إلى الله عز وجل.
الرابع: مجئ لفظ الحبل بصيغة المفرد مما يدل على الحصر والتعيين إلا أنه لا يمنع من ترشح المتعدد منه بما يأتي في القرآن من الأوامر، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( )، لتكون السنة النبوية مما أمر الله عز وجل بالإعتصام به.
الخامس: تقييد الاعتصام بصيغة العموم(جميعاً) مما يدل على شمول المسلمين جميعاً به وإن كل فرد من (خير أمة) لابد أن يتمسك به، فيتجلى عنوان الخير والحسن من أفعل التفضيل (خير) الوارد في هذه الآية.
السادس:يفيد الجمع بين الآيتين بيان أطراف الإعتصام من وجوه:
الأول: فعل الإعتصام والتمسك.
الثاني:الموضوع الذي يتمسك به.
الثالث: الجهة المخاطبة بالإعتصام.
الرابع: صفة المخاطبين بالإعتصام.
الخامس: الإطلاق في الموضوع المعتصم به، فهو وإن جاء بصيغة المفرد إلا أنه اسم جنس تدخل تحته مصاديق كثيرة.
السادس: العموم الإستغراقي في جهة الخطاب ليشمل أفراد [خَيْرَ أُمَّةٍ] ومن منافع صيغة العموم والجمع في المقام أمور:
الأول: ندب المسلمين إلى فعل الصالحات.
الثاني: حث المسلمين والمسلمات على المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الدعوة للتعاون والمناجاة والتعضيد في الصالحات، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الرابع: بلوغ رسالة إلى الناس بأن المسلمين مأمورون بالصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنهم(خير أمة) لا يقصّرون بوظائفهم في هذا الباب.
العاشرة: إختار الله عز وجل المسلمين لمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ]لكي يعتصموا ويتمسكوا بالقرآن والسنة.
الحادية عشرة: لقد رزق الله المسلمين عاصماً لم تؤت الأمم السابقة وهو التمسك بالقرآن ليكون شاهداً على نيلهم درجة(خير أمة) .
وقد ورد في ذم الكفار وإنعدام الحافظ والمانع لهم، ويلقونه يوم القيامة من العذاب قوله تعالى[وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ]( ).
الثانية عشرة: جاءت بدايتا الآيتين بلغتين:
الأولى: الجمع وهو على وجوه:
الأول: الأمر بالإعتصام، ويدل عليه واو الجماعة في(إعتصموا).
الثاني: سور الموجبة الكلية(جميعاً) المستغرق والشامل للمسلمين والمسلمات وفيه مسائل:
الأولى: هل يشمل الخطاب المسلمات.
الثانية: هل ينحصر الخطاب بالصحابة أيام النبوة، أم يتعداهم إلى غيرهم.
الثالثة: غير البالغين من المسلمين هل يدخلون في الخطاب.
أما الأولى فإن المسلمات مشمولات بالخطاب القرآني(واعتصموا).
فإن قلت جاء الخطاب بصيغة جمع المذكر السالم(واعتصموا) والجواب ورد التذكير للتغليب كما يقال القمران لإرادة الشمس والقمر.
أما الثانية فإن الخطاب في الآية إنحلالي شامل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
وأما الثالثة فإن الأصل في الخطاب القرآني التوجه إلى المكلفين، ومن شرائط التكليف البلوغ والعقل , نعم هذا لا يعني عدم إعداد وتهيئة وتمرين الصبيان ذكوراً وأناثاً في مضامين الإعتصام والتمسك بالقرآن والسنة، لذا ترى المسلمين يؤدبون أولادهم من الصغر على الصلاة والصيام شطراً من النهار، وعلى قراءة القرآن وحفظ قصار السور وإصطحابهم إلى المساجد، ومن الآيات أن الغبطة والسعادة تملأ قلب الصبي وهو يحاكي أباه والكبار في الوقوف بين يدي الله، ويدرك مع صغر سنه أن الجامع المشترك بينه وبين الكبار هو ساعة الصلاة وما فيها من الخشوع والخضوع وكذا باقي العبادات والمستحبات.
الثانية: صيغة المفرد، وهي على وجهين:
الأول: لفظ(حبل) المطلوب من المسلمين جميعاً التمسك والإعتصام به، ومجيؤه بلغة المفرد من إعجاز القرآن لما فيه من التعيين والوضوح.
الثاني: لفظ(خير) وما يدل عليه من الحصر في التفضيل.
الثالثة عشرة: يحتمل الإعتصام في كيفيته وجوهاً:
الأول: لزوم العمل بأحكام القرآن كلها.
الثاني: الإجزاء بالعمل بجزء وشطر من أحكام الشريعة.
الثالث: كفاية صرف الطبيعة، والعمل بالمسمى من أحكام الحلال والحرام، والتمسك بفرد من مصاديق حبل الله.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: أصالة الإطلاق شاملة للأحكام الشرعية.
الثاني: مجيء الآية بصيغة المفرد(حبل الله) مما يدل على أمور:
الأول: إرادة العمل بآيات القرآن والسنة على نحو العموم المجموعي.
الثاني: التقيد بأحكام الحلال والحرام.
الثالث: عدم جواز التفريط والتهاون ببعضها.
الرابع: إن العبادة أمر بسيط، وسهل يسير وأن كانت متعددة في الأفعال والكيفية كما في الصلاة والصيام والزكاة والحج.
الرابعة عشرة: يحتمل موضوع الإعتصام بلحاظ العاملين به وجوهاً:
الأول: صدق تحقق الإعتصام بالقرآن بعمل فريق وطائفة من المسلمين بمضامينه القدسية.
الثاني: كفاية تقيد العلماء بأحكام الشريعة.
الثالث: الإجزاء بقاعدة كلية وهي لجوء الأمة إلى القرآن والتمسك به عند الشدائد والبلوى.
الرابع: الإطلاق والعموم في الإعتصام بحبل الله.
والصحيح هو الأخير، فلا بد من العمل بأحكام القرآن من جهات:
الأولى: عمل أفراد الأمة مجتمعين ومتفرقين بأحكام السنة.
الثانية: مجيء الآية بصيغة الإتحاد بخصوص التمسك بالقرآن.
الثالثة: لو دار الأمر في التكليف بين الإطلاق والتبعيض والتعيين والتخيير، فالأصل هو الإطلاق والتعيين، ويتجلى فيه تكامل الشريعة، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
الرابعة: المستقرأ من لفظ(خير أمة) قيامها بأداء الوظائف الشرعية كاملة، وهو من مصاديق نيلها لهذه المرتبة.
الخامسة عشرة: تحتمل الصلة بين التكليف بقوله(وإعتصموا) وبين التفضيل(كنتم خير أمة) وجوهاً:
الأول: يأتي التكليف بلحاظ التفضيل فهناك نوع ملازمة بين التفضيل والتكليف، فالأمة التي فضّلها الله يأتيها التكليف ولا ينفك عنها.
الثاني: ليس من ملازمة بين التكليف والتفضيل، إذ يتوجه الخطاب بالإعتصام بحبل الله للناس جميعاً لأنهم عبيد الله.
الثالث: من خصائص(خير أمة) في الإرادة التكوينية الإعتصام بحبل الله، فجاءت الآية لتحقيق هذا الشرط في المسلمين.
الرابع: لقد جعل الله عز وجل عبادته علة خلق الناس، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، ومن مصاديق العبادة الإعتصام بحبل الله، فأراد الله عز وجل للمسلمين أن يتعاهدوا العلة الغائية للخلق، ويكونوا سبباً في إستدامة الحياة على الأرض.
الخامس: الإعتصام بحبل الله من نعم الله عز وجل على الناس، فأراد الله عز وجل للمسلمين أن يفوزوا بهذه النعمة دون غيرهم من الناس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة إذ أن الأمر بالإعتصام بحبل الله هبة ونعمة وآية في الخلق تفضل الله عز وجل وأدخرها للمسلمين، وجعلهم أهلاً لتحمل أعباء مسؤولياتها.
السادسة عشرة: بيان اللطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً بأن تفضل الله عز وجل وجعل حبلاً بينه وبين العباد ممدوداً بين السماء والأرض، يتمسكون به ويتقربون إليه تعالى بواسطته، وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على ملك الله عز وجل للسموات والأرض.
الثانية: توكيد عظيم سلطانه وقدرته الواسعة، فلا أحد أو أمة تستطيع قطع هذا الحبل أو منع الناس من الوصول إليه.
الثالثة: من الإعجاز أن الآية لم تقل حافظوا على الحبل، بل قالت: (اعتصموا) ليتمسكوا به ويأخذوا بأحكامه قال تعالى[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الرابعة: ترغيب المسلمين والناس بطاعة الله، وبيان النعمة العظيمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول حبل من السماء ليكون من الشواهد على أن المسلمين(خير أمة) فلم ينزل حبل مثله من السماء ويدعى المؤمنون والناس للإعتصام به خصوصاً وأن مضامين هذا الحبل تتجلى بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوحي الذي يأتي عبر السنة النبوية، قال تعالى في صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
صلة(واعتصموا بحبل الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: خير أمة أخرجت للناس تعتصم بالله عز وجل.
الثانية: من خصائص(خير أمة) أنها تخرج للناس وهي معتصمة بحبل الله، متمسكة بالتنزيل، وتتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في سنته.
الثالثة: خروج المسلمين للناس رحمة وخير محض، وهو من أسرار مجيء لفظ الخروج بصيغة المبني للمجهول الذي يتضمن في دلالته حدوث الخروج وتحقيقه في الواقع الخارجي.
وهل يمكن القول أن المسلمين أخرجهم الله للناس بالحد الأدنى من معالم النفع في الخروج، ثم توالت عليهم آيات التنزيل مطلقاً وآيات الأحكام الخاصة , الجواب ليس من حد أدنى في المقام لأن البداية هي الإيمان بالله ورسوله والنطق بالشهادتين وهو الأصل.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين جعل المسلمين قادرين على تحمل الأذى في الدعوة إلى الله رجاء الأجر والثواب , قال تعالى في وصف المسلمين وجهادهم في سبيل الله[وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ]( ).
الخامسة: ترغيب الناس بدخول الإسلام، لأن المسلمين متمسكون بالكتاب الذي أنزله الله.
السادسة: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وإقامة الحجة عليهم، لأن الذين أخرجهم الله عز وجل لهم معتصمون بحبل الله، فهم هادون مهديون.
السابعة: تحتمل الصلة بين الإعتصام بحبل الله والأمر بالمعروف وجوهاً:
الأول: الإعتصام بحبل الله مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الإعتصام بحبل الله وسيلة لإجتهاد المسلمين في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الأمر بالمعروف طريق للإعتصام بحبل الله، والتمسك بالكتاب والسنة، لذا جاء تقديم الأمر والنهي في هذه الآية على قوله تعالى(وتؤمنون بالله).
الرابع: الإعتصام بحبل الله من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، للتداخل والأثر المتبادل بين الأمرين، أي الإعتصام والأمر وكل منهما مرآة للإيمان والصلاح.
الثامنة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة عظيمة تستلزم تظافر جهود الأمة خصوصاً وأنه لا ينحصر بالإبتداء أو ميدان مخصوص أو التوجه إلى جهة معينة بل هو رسالة إلى الناس جميعاً وعلى نحو متجدد في كل يوم.
وكأن الأداء اليومي المتكرر للصلاة سبيل لإتيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو متكرر ومتصل، ووسيلة للإلتفات إلى وجوب إتيانهما، لذا فمن أفراد الإعتصام بحبل الله إتيان الصلاة والصيام والتقيد بالعبادات.
وتلك العبادات عون للتمسك بالقرآن من غير أن يستلزم الفصل بينهما، فكل فرد منهما يؤثر في الآخر بلحاظ التعدد الجهتي وبما يساهم في تثبيته وقيام المسلمين بالإمتثال في ميادينه.
التاسعة: التمسك بالقرآن والسنة مناسبة لأمور:
الأول:التفقه في الدين.
الثاني: معرفة أحكام الحلال والحرام.
الثالث: إتيان الصالحات عن ملكة ورضا.
الرابع: معرفة مصاديق المعروف والمبادرة إلى فعلها، ومعرفة وجوه المنكر وإجتنابها وجعل الناس ينفرون منها.
العاشرة: الجمع بين الإعتصام بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، وفيه أمور:
الأول: إنه واقية من التعدي بالأمر والنهي.
الثاني: إنه برزخ دون التفريط بالأحكام الشرعية.
الثالث: إصلاح المجتمعات، ومنع الفتنة والفرقة والخلاف في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: كما أن كلاً من الإعتصام بحبل الله والأمر بالمعروف من خصائص(خير أمة) والشواهد على نيل المسلمين لهذه المرتبة، فكذا الجمع بينهما فإنه فرد مستقل قائم بذاته يدل على أهلية المسلمين لهذه المرتبة.
الحادية عشرة: من خصائص(خير أمة) ما أنعم الله به عليها من أسباب تعاهد هذه المنزلة بين الأمم، بالجمع بين الإعتصام بحبل الله والأمر بالمعروف.
الثانية عشرة: يأتي الأمر بالمعروف على قسمين:
الأول: القضية الشخصية وهي من جهات:
الأولى: جهة الآمر، بأن يقوم شخص واحد بالأمر بالمعروف، وإن كان الأمر متوجهاً لجماعة.
الثانية: الإتحاد في موضوع المعروف بغض النظر عن الإتحاد والتعدد من طرفي الآمر والمأمور، كما لو كان الموضوع الإنفاق في سبيل الله، وتصدر الدعوة من المتحد والمتعدد، وكذا في الجهة المقصودة منها.
الثالثة: إتحاد جهة المأمور بأن يتوجه شخص أو جماعة إلى فرد واحد بأمر أو أوامر في موضوع أو مواضيع متعددة من المعروف.
الثاني: القضية النوعية وهي العمل الجماعي في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن النهي.
فقد تكون أطراف الأمر والنهي كلها شخصية، وقد تكون نوعية متعددة في أطرافها كلها، وفاز المسلمون بمسؤوليات وأعباء هذا التعدد، الذي تدل عليه لغة الإطلاق في الآية الكريمة(تأمرون بالمعروف) من غير تقييد في الآمر ومراتب الأمر ومواضيع المعروف.
ويستلزم هذا الإطلاق الإرتقاء في مراتب المعرفة، فتفضل الله سبحانه وأمر المسلمين بالإعتصام والتمسك بالقرآن، ليكون هذا الإعتصام على وجوه:
الأول: إنه سلاح في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]( ).
الثاني: إنه حرز ومنهاج عمل.
الثالث: إنه واقية من التقصير والتفريط في وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تنحصر منافع الإعتصام بكيفية أداء وإتيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل هي باب لإكتناز الحسنات والفوز بالثواب العظيم في الآخرة، وهو من مصاديق(خير أمة) وفضل الله في إصلاحها لخير الدنيا والآخرة.
صلة (واعتصموا) بأخرجت للناس
وفيها مسائل:
الأولى: بعث السكينة في قلوب الناس من المسلمين وما يدعون إليه، وطرد النفرة من النفوس من أسباب الهداية والصلاح، والمنع من سوء الظن بهم.
الثانية: إقامة الحجة على الناس بأن المسلمين(خير أمة).
الثالثة: من الأمور التي يخرج بها المسلمون للناس أنهم معتصمون بحبل الله.
الرابعة: قد يسأل سائل بماذا أُخرج المسلمون للناس فيأتي الجواب بقوله تعالى(واعتصموا بحبل الله) وأنهم يعلمون بالكتاب الذي يضيء لهم وللناس دروب الهداية في الدنيا والآخرة.
الخامسة: لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس لنجاتهم بالهداية والإيمان وإخراجهم من ظلمات الكفر والضلالة، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
السادسة:تأديب وإرشاد المسلمين لمسائل ومضامين خروجهم للناس، وكأن الآية تقول لهم: لقد أنعم الله عز وجل عليكم بالخروج إلى الناس فلا بد من التسلح بالقرآن إماماً وهادياً.
السابعة:ترغيب الناس جميعاً بالتمسك بالقرآن والسنة، لما فيه من النفع الخاص والعام، وفي الدنيا والآخرة .
الثامنة:بشارة التوفيق والنجاح للمسلمين في بلوغ الغايات الحميدة التي يسعون إليها في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
يحتمل الأمر بالإعتصام بالله وتوظيفه بالخروج إلى الناس وجهين:
الأول: الوجوب والحتم والمولوية.
الثاني: الإستحباب والإرشاد.
والصحيح هو الأول، فالإعتصام بالقرآن والتمسك بأحكام الشريعة واجب وأمر مولوي، وفيه مسائل:
الأولى: لو لم يعتصم المسلمون بحبل الله هل يكون أهل الضلالة والفسوق هم الذين يخرجون للمسلمين، وبما يأتي بالضرر على الناس جميعاً.
الثانية: خروج أمة أخرى غير المسلمين للناس إذ أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالثة: إنتفاء موضوع الخروج وليس من أمة تخرج للناس.
الرابعة: خروج المسلمين لأمة وشطر من الناس وليس لعمومهم سواء في جيل أو أجيال محصورة.
أما المسألة الأولى فالخروج للناس مقيد بأمور:
الأول: لا يكون الخروج ومصاديقه إلا من عند الله.
الثاني: الخروج خير محض.
الثالث: يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليجعل الكفار وأهل الضلالة عاجزين عن الذب عن أنفسهم.
الرابع: تجعل نفرة النفوس من الكفر والضلالة الناس يعرضون عن أهل الضلالة، وورد في التنزيل حكاية عن المؤمنين المستضعفين والنساء أنهم يريدون الخروج والهجرة من البلدة التي يطغو فيها الظلم والضلالة، قال تعالى[وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا] ( )، ليكون بحسب مضامين الآية أعلاه بيان بأن المسلمين يقاتلون لنجاة إخوانهم المؤمنين من الظالمين الذين يشيعون الفاحشة، وهو من أبهى مصاديق الأخوة في قوله تعالى[فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا].
أما الثانية فإن الخروج للناس منحصر بالمسلمين كأمة، وفيه أمور:
الأول: خروج المسلمين نعمة على الناس من عند الله عز وجل.
الثاني: هذا الخروج من تركة الأنبياء، ووراثة المسلمين لهم.
الثالث: يتجلى الخروج بالنص القرآني بلحاظ أن في القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع: لقد خصّ الله عز وجل المسلمين بصفة(خير أمة) وحصر الخروج بهم لأنهم الذين صدّقوا بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الخامس: قوله تعالى(واعتصموا بحبل الله) قيد لماهية الخروج للناس، وصفة للأمة التي تخرج وليس من أمة تتصف بهذا الوصف وتقوم بالإمتثال للأمر الإلهي بالإعتصام بالقرآن والنبوة إلا المسلمين.
أما المسألة الثالثة: فإن موضوع الخروج ملازم للوجود الإنساني في الأرض وإلى يوم القيامة، ومنحصر بخير أمة، تلك الصفة التي إختص الله بها المسلمين، وأعانهم على البقاء في منازلها.
ومن مصاديق هذه الإعانة والمدد قوله تعالى(واعتصموا بحبل الله) ومع أن قوله تعالى(أخرجت) جاء بصيغة الماضي فانه شامل لأفراد الزمان الطولية جميعها، وهو من البيان لصيغة الماضوية التي جاء بها قوله تعالى(كنتم خير أمة) الذي يدل على عموم أفراد الزمان وإلى يوم القيامة، ولبيان قانون في الإرادة التكوينة وهو عدم وجود أمة أخرجت للناس قبل المسلمين.
السادس: إستدامة خروج المسلمين للناس في كل الأزمنة من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الدنيا، إذ ينتفع البر والفاجر من رحمته تعالى في الدنيا، لذا صار خروج المسلمين للناس رحمة في كل الأزمنة.
أما المسألة الرابعة فإن المسلمين خرجوا للناس جميعاً وإلى يوم القيامة لوجوه:
الأول: ورود لفظ(الناس) وما تفيده الألف واللام من معاني الجنس الإستغراقي.
الثاني: أصالة العموم في إرادة الناس، والإطلاق في الأزمنة المتعاقبة.
الثالث: حاجة الناس لرحمة الله في إخراج المسلمين لهم.
الرابع: حينما أنعم الله عز وجل بجعل أهل الإيمان(خير أمة) أراد سبحانه أن ينهل الناس عموماً من هذه النعمة.
الخامس: خروج المسلمين المتجدد في كل زمان حجة على الناس، وتحتمل الحجة في المقام بلحاظ أفرادها الطولية وجوهاً:
الأول: خروج المسلمين كل في زمانه، فلا تكون الحجة على الفرد إلا بالمسلمين الذين هم في زمانه ومن حوله.
الثاني: تختص الحجة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه وأصحابه وأهل بيته بنشر الدعوة والفتوحات، كما في خروجه والمؤمنين إلى معركة أحد مع العلم بكثرة جيوش العدو، ومجيئهم للإنتقام والثأر لهزيمتهم وقتلاهم يوم بدر، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الثالث: تقييد الحجة بخصوص المواضيع العبادية، وأحكام الحلال والحرام.
الرابع: الإطلاق في الحجة القائمة على الناس في كل زمان، وشمولها لأفراد الحجة والبرهان في أيام النبوة وأسرار التنزيل وتأريخ الإسلام، وهي مستمرة وظاهرة في كل آن ومكان.
الثامنة: دعوة الناس للتدبر في المعارف الإلهية والإلتفات إلى وظيفة شرعية عامة، وموضوع كلامي دائم خاص بالقرآن من وجوه:
الأول: لزوم الإعتصام بالقرآن.
الثاني: مصاديق الرجوع إلى القرآن.
الثالث: الصدور عن آيات القرآن وما فيها من الحجج والبراهين، قال تعالى في وصف القرآن[وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ).
الرابع: العمل بالأحكام التي جاءت فيه، وهذه الوجوه مجتمعة ومتفرقة من أسرار نيل المسلمين مرتبة(خير أمة).
التاسعة: يؤكد الجمع بين قوله تعالى(واعتصموا بحبل الله) و(أخرجت للناس) بيان الحاجة للجوء إلى القرآن والتصديق بآياته من وجوه:
الأول: إعتصام الناس بالقرآن حجة على الناس.
الثاني: ترغيب المسلمين للناس بالتمسك بالقرآن والسنة وبيان منافعه في الدنيا والآخرة.
الثالث: التخويف من ترك التمسك بالقرآن، والإنذار من التخلف عن دخول الإسلام، ويتجلى هذا البيان بوجوه:
الأول: تلاوة المسلمين هذه الآيات.
الثاني: إنقطاع المسلمين للعبادة، وإظهارهم معاني الصلاح والتقوى في القول والعمل.
الثالث: الآيات الكونية شواهد على لزوم الإعتصام بحبل الله، وتصديق لمضامينه القدسية، قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى]( ).
الرابع: إقامة المسلمين الحجة والبرهان على الكفار.
العاشرة: خروج المسلمين للناس بالإعتصام بحبل الله دليل على أنهم(خير أمة) بلحاظ الخروج وموضوعه ومنافعه في النشأتين.
الحادية عشرة: من فضل الله عز وجل على الناس أنه لم يتركهم وشأنهم بل أنعم عليهم بالأنبياء والكتب السماوية لهدايتهم، وجعل آيات الآفاق تذكيراً وسبباً لجذبهم لمنازل الهداية والإيمان.
الثانية عشرة: جاء قوله تعالى(واعتصموا بحبل الله) بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب الإنحلالي المنبسط على أفراد (خير أمة) ذكوراً وأناثاً في أجيالها المتعاقبة، وجاء بلغة الإطلاق الموضوعي فليس من تقييد للموضوع أو الموضوعات التي يجب أن يعتصم بها المسلمون بحبل الله، بل هو شامل في كل الأحوال والموضوعات المتباينة، ومنها الخروج للناس من وجوه:
الأول: الخروج بالقرآن والسنة ليكونا موضوعاً للإعتصام، ومادة وسلاحاً للخروج.
الثاني: التخلق بأخلاق القرآن في الدعوة إلى الله عز وجل، قال تعال[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالث: معرفة المسلمين لوظائف ومستلزمات الخروج للناس، ويتجلى بمخاطبة المسلمين بالوصف الإجمالي في قوله تعالى(حبل الله) لتكون مندوحة وسعة في مصاديق تنعكس بتعدد صيغ العمل بين الناس.
الثالثة عشرة: من إعجاز آية (واعتصموا) ورود لفظ(جميعاً) كسور للموجبة الجزئية والعموم في الخطاب مع أن(واو الجماعة) في (واعتصموا) تدل عليه، ومن الدلالات قيد(جميعاً) في الصلة بين الآيتين أمور:
الأول: صيرورة خروجهم للناس كالنفور العام.
الثاني: دعوة الناس للإنصات للمسلمين في الدعوة إلى الحق والهدى وإن صدرت هذه الدعوة من الأدنى منهم لأن الخطاب القرآني جاء للمسلمين جميعاً بعرض واحد، وإن تباينت وظائفهم بلحاظ المرتبة والقدرة والشأن.
الثالث: من خصائص السعي للإصلاح التعدد والتدريج والموالاة، فيأتي لفظ(جميعاً) دعوة للمسلمين للمساهمة في صرح الإصلاح ومواصلة الخروج للناس، فإذا إبتدأ جماعة بفعل إصلاحي أو أمر بالمعروف يأتي آخرون غيرهم لإتمام هذا العمل، وعدم الإكتفاء بما بدأ به غيرهم.
الرابع: إنتفاء الحسد بين المسلمين، وإجتناب الفرقة والخلاف بينهم.
الخامس: تعضيد المسلمين بعضهم لبعض في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لإدراك كل واحد منهم للوظائف النوعية العامة على المسلمين.
السادس: جاء لفظ(جميعاً) ليساهم كل مسلم ومسلمة في الخروج للناس بحسب حاله وشأنه، فصاحب المال ينفق في سبيل الله، وصاحب الجاه يوظف جاهه، والشاب يسخر نفسه وبدنه للدعوة في سبيل الله.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، ويأتي لفظ(جميعاً) ليتآزر ويتعاون المسلمون في خروجهم إلى الناس .
السادس: التخفيف عن المسلمين بخروجهم جميعاً للناس، فلو كانت التي تخرج فرقة أو طائفة منهم لربما كان فيه مشقة عليهم، أو يحصل تأخر في بلوغ الغايات الحميدة التي يسعون إليها.
السابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثامن: إرشاد المسلمين إلى حقيقة وهي أنهم جميعاً متساوون في تلقي الخطاب التكليفي، وليكون فيه سعة للتسابق في فعل الخيرات في السعي إلى المقامات العالية في الجنة، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ).
التاسع: إجتهاد وإشتراك المسلمين في التوجه إلى الناس لإصلاحهم وفيه مسائل:
الأولى: الدفاع عن بلاء المسلمين دفع الأذى والتعدي عن ثغور وأمصار الإسلام , قال تعالى[إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ]( ).
الثانية: إنه برزخ دون الفرقة بين المسلمين، لذا ورد قوله تعالى(ولا تفرقوا) بعد لفظ جميعاً مباشرة.
الثالثة: تعاهد التمسك بالقرآن والعمل بالأحكام الشرعية.
العاشر: إعانة الناس في التقرب إلى منازل الإيمان.
الحادي عشر: من الإعجاز في معاني لفظ(جميعاً) ظهوره في العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي.
الثاني عشر: الإعتصام بحبل الله نعمة عظيمة ومتجددة البركات، فأراد الله عز وجل إنتفاع المسلمين والناس منها، فأمر الله عز وجل المسلمين بالخروج للناس بنعمة الإعتصام بالله والترغيب بها، والدعوة للتفكر في منافعها العامة والخاصة.
صلة(واعتصموا بحبل الله) بتأمرون بالمعروف
وفيها مسائل:
الأولى: الإعتصام بالله أمر بالمعروف، فهو وإن كان فعلاً ذاتياً وملكة نفسانية بالأصل إلا أنه يتضمن الدعوة إلى الإسلام.
الثانية: التمسك بالقرآن والسنة سلاح وتفقه في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: التمسك بالقرآن حجة على الناس لما فيه من مضامين الإمتثال للأوامر الإلهية قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ]( ) وفيه دلالة على لزوم العمل بأحكام القرآن والتقيد بمضامينه.
الرابعة: إتحاد صيغة الجمع الإستغراقي سواء في التمسك بالقرآن أو الأمر بالمعروف، وفيه نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: بيان المسؤوليات العقائدية للمسلمين والمسلمات، وإجراء دراسة مقارنة في وظائف ومسؤوليات الناس يظهر حقيقة وهي أن المسلمين يقولون بأعظم وأكبر مسؤولية في الأرض , وتتصف بالتعدد والتجدد والدوام وهو من مصاديق(خير أمة).
الثاني: حاجة المسلمين لأن يكونوا أمة متحدة متعاونة متعاضدة.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف كأمة متحدة متآزرة من الشواهد على أنهم(خير أمة).
الخامسة: الإعتصام بحبل الله واقية من المنكر والقبائح.
السادسة: معرفة وتعيين مصاديق المنكر علم وإرتقاء في المعارف، لا يتقوم إلا بالإعتصام بحبل الله والتفقه في الدين، فلذا أمر الله عز وجل المسلمين به بإعتبارهم(خير أمة) كما أن بلوغ مراتبه نيل لصفة(خير أمة).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين تفسيراً للمعروف الذي توجه الأمر الإلهي بالأمر به، وبما يمنع من الإختلاف فيه.
الثامنة: قد يلاقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصدود والعناد من فريق من الناس، وقد يتعرض الآمر بالمعروف إلى الأذى فيكون الإعتصام بحبل الله سلاحاً للصبر والتحمل، ومدداً مباركاً لمواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( )، وفيه دعوة للمسلمين للصبر في جنب الله وتحمل الأذى في سبل المعروف والنهي عن المنكر لعمومات قوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( )، فمادام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحمل الأذى في ذات الله والجهاد في سبيله ورفع لواء التوحيد فيجب على المسلمين الصبر والتحمل.
التاسعة: بالإعتصام بالقرآن يصدر النهي عن المنكر عن ملكة مقرونة بنفرة من القبيح.
صلة(وإعتصموا بحبل الله) بـ(يؤمنون بالله)
وفيها مسائل:
الأولى: توكيد الملازمة بين الإيمان بالله والتمسك بالقرآن والسنة.
الثانية: الإعتصام بحبل الله شاهد على صدق الإيمان بالله العام والخاص.
الثالثة: من شرائط الإيمان والتمسك بالقرآن العمل بأحكامه ومضامينه.
الرابعة: إنحلال الأمر الإلهي بالإعتصام بحبل الله بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين لإيمانهم وتلقيهم الأوامر الإلهية بالتمسك بأحكام الشريعة وقد ورد في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه[وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ]( )، إن نعت القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه رحمة آية إعجازية في القرآن لما فيه من تعلق معاني الرحمة بوجوه:
الأول: بشخصه الكريم بالذات.
الثاني: ما جاء به من عند الله.
الثالث: حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) لذا فإن السنة النبوية نهر جار يفيض بالخلق الحميدة، ومدرسة لإستنباط أصول السلوك والمنطق والسيرة الحسنة، وهل كان حسن خلق النبي هبة من الله، أم أمراً كسبياً، الجواب هو الأول لوجوه:
الأول: موضوعية الوحي في قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبة جبرئيل عليه السلام له، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني: إن الله عز وجل أختار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة بينه وبين الناس جميعاً، فعصمه من الخطأ والزلل.
الثالث: إصلاح الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لمراتب الإمامة والرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا، وعنه عليه الصلاة والسلام: أدبني ربي فأحسن تأديبي) ( ).
الرابع: كل آية من القرآن، ومنها هاتان الآيتان.
الخامس: الجمع بين كل آيتين.
السادس: مضامين السنة القولية والفعلية.
السابع: نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: خروج المسلمين للناس بالقرآن الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسنة التي هي وحي من عند الله.
السادسة: من خصائص(خير أمة) الجمع بين أمور:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: التمسك بالقرآن.
الثالث: السنة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد القربة والطاعة لله عز وجل.
السابعة: ينفرد المسلمون بخروجهم بلباس الإيمان والعمل بأحكام القرآن للناس جميعاً، وهو من الشواهد على كونهم(خير أمة).
الثامنة: بيان شرائط الخروج للناس وأنه يجب أن يكون بالإعتصام بحبل الله وفيه نكتة وهي وجوب تفقه المسلمين بأحكام الحلال والحرام، والتحلي بالصبر والإحتراز بالتقوى.
التاسعة: لقد أراد الله عز وجل أن يكون المسلمون حجة على الناس، من وجوه:
الأول: إظهار المسلمين لمعاني الإيمان بالله.
الثاني: تمسك المسلمين بالقرآن والسنة.
الثالث: دعوة المسلمين لله والتذكير بالآخرة، وعالم الحساب ولزوم إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة[وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
الرابع: عموم الدعوة، وتوجهها للناس جميعاً، فقد ينتفع منها البعيد مع إعراض القريب.
العاشرة: إتحاد الآيتين بسور الموجبة الكلية، وصيغة الجمع، من جهتين:
الأولى: توجه الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات(جميعاً) بالتمسك بالقرآن.
الثانية: خروج المسلمين للناس كافة من غير إستثناء لفريق أو أمة أو طائفة.
وهذا الإتحاد والعموم من خصائص (خير أمة)، فيتعاون كل المسلمين في وظائف الإيمان، ويخرجون للناس كأمة متحدة، ويتقوم هذا الإتحاد بالتمسك بالقرآن، لذا فهو حاجة للمسلمين والناس.
ويحتاج هذا الجمع في التعدد إلى قدرات وتأهيل عند المسلمين، لذا أنعم الله عز وجل بأمور:
الأول:وجعلهم(خير أمة).
الثاني: أمرهم بالإعتصام بالقرآن.
الثالث:جعلهم إخواناً وتشمل صفة الأخوة كل من دخل الإسلام , قال تعالى[فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ]( ).
ومن أسباب الرحمة التخفيف عن المسلمين أن الله عز وجل لم يأمرهم بالمتعدد من الأمر والنهي في الآية، بل أمرهم بالتمسك بالقرآن، ونهاهم عن الفرقة، ولم يأمرهم بأن يكونوا إخواناً بل تفضل وجعلهم إخواناً ونزع ما في صدورهم من الغل والضغائن لقوله تعالى[فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] لتكون هذه الأخوة عوناً ومقدمة لتعاهد التمسك بالقرآن والسنة.
الحادية عشرة: لما أصلح الله عز وجل المسلمين للخروج للناس فإنه تفضل بأسباب النصر والظفر ومنها خروجهم أمة واحدة بمنهج متحد وجلي وهو الإعتصام بالله، مع كثرتهم ليواجهوا أمماً وجماعات متفرقة ليكونا النصر حليف الأمة الكثيرة المتحدة التي هي على الحق والهدى , قال تعالى[بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
الثانية عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين: واعتصموا بحبل الله أيها المؤمنون.
الثالثة عشرة: من يؤمن بالله لا بد أن يصدّق بنزول القرآن من عنده تعالى.
الرابعة عشرة: ذكرت آية(واعتصموا) اسم الجلالة ثلاث مرات، وذكرته هذه الآية مرة واحدة، على نحو التصريح، ومرتين على نحو الإضمار وهما:
الأول: قوله تعالى(أخرجت للناس) وتقديره: أخرجها الله للناس.
الثاني: منهم المؤمنون وتقديره: المؤمنون بالله.
الخامسة عشرة: جاء خطاب(واعتصموا بحبل الله) خاصاً بالمسلمين، وفيه وجوه:
الأول: إنه عنوان تشريف وإكرام.
الثاني: فيه بيان لمسؤولية عقائدية.
الثالث: فيه تعريض بالكفار الذين حرموا أنفسهم من هذا الخطاب الذي هو نعمة من عند الله وإغاظة لهم , قال تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
الرابع: توكيد نيل المسلمين مرتبة(خير أمة).
الخامس: بشارة فوزهم بالثواب العظيم في الآخرة.
السادسة عشرة: إقتران الإعتصام بالقرآن بالإيمان بالله مانع من الفرقة والتشتت، مع إستدامة سنخية الإتحاد والتعاون بين المسلمين بقيد الصلاح والتقوى فقد يكون الإجتماع على حق وقد يكون على باطل، فجاء الإيمان بالله والتمسك بالقرآن ليكونا شاهدين على إجتماع المسلمين على الهداية والرشاد.
السابعة عشرة: الحسن الذاتي لكل من:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: الإعتصام بحبل الله.
الثالث: البشارة بالثواب العظيم لمن مجتمعين ومتفرقين.
الثامنة عشرة: ترشح الإعتصام بحبل الله من الإيمان بالله، فمن يؤمن بالله يقر ويعترف أن القرآن كلامه، ويقوم بالعمل بأحكامه.
التاسعة عشرة: تمسك المؤمنين بالقرآن توفيق وهدى وفيه وجوه:
الأول: إنه باعث على الأخلاق الحميدة.
الثاني: إنه موضوع لإمتلاء نفوسهم بالسكينة، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالث: توطين النفس على الصبر والتحمل في جنب الله.
العشرون: ورد الزجر عن الفرقة والخلاف في قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، ومن فضل الله عز وجل يكون إجتماع الإيمان بالله والتمسك بالقرآن والسنة واقية وحرزاً من الفرقة والخلاف.
صلة(واعتصموا بحبل الله)بـ(ولو آمن أهل الكتاب)
وفيها مسائل:
الأولى: الإعتصام بالقرآن والتمسك بمبادئ الإسلام دعوة فعلية للناس لدخول الإسلام.
الثانية: تمسك المسلمين بالقرآن حجة على أهل الكتاب والناس جميعاً.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين حث أهل الكتاب على الإيمان والإعتصام بحبل الله معاً فلا بد من التصديق بنزول القرآن من عند الله للإرتقاء لمراتب شرف الدخول في(خير أمة).
الرابعة: ورد في هذه الآية[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]ومن مصاديق الخير والنفع العظيم لهم الإعتصام بحبل الله للملازمة بين الإيمان والإعتصام بالقرآن.
الخامسة: دعوة أهل الكتاب والناس جميعاً للتدبر بآيات القرآن من وجوه:
الأول: دلالات الإعجاز فيها.
الثاني: إستقراء المواعظ والعبر منها إجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة).
الثالث: معرفة مصاديق الإعجاز وماهية العواقب , قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ) لبيان المائز في قصص القرآن , وأنها وسيلة للتفكر في أمور الدين والدنيا، ومصدر كريم إقتباس الأحكام ، وإتخاذها بلغة للنجاة في النشأتين.
السادسة: حث علماء المسلمين لإستنباط مسائل الخير والنفع والفضل لأهل الكتاب عند إيمانهم سواء النفع الدنيوي أو الأخروي.
السابعة: في إيمان أهل الكتاب نفع خاص وعام إذ ينتفع منه المسلمون ويكونون أكثر قوة وعدداً، وينتفع منه الكفار لأنه حجة عليهم، ودعوة لمحاكاتهم في دخول الإسلام.
ترى لماذا ذكرت هذه الآية النفع الخاص بأهل الكتاب فقط بقوله تعالى(لكان خيراً لهم) الجواب من وجوه:
الأول: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فذكر الخير لأهل الكتاب لا يعني حصره بهم موضوعاً وحكماً.
الثاني: توكيد قوة وعزة المسلمين وأنهم غير محتاجين لإسلام غيرهم، ولكن هذا الغير هو الذي يحتاج الدخول في الإسلام، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث: إذا آمن أهل الكتاب فإنهم يعتصمون بحبل الله، ويكون عليهم ما على المسلمين، ولهم ما للمسلمين.
الرابع: جاءت الآية في باب الإحتجاج والترغيب بدخول الإسلام.
الخامس: من يسلم من أهل الكتاب يكون أٍسوة حسنة لغيره من الناس، فإذا إتبعه فرد أو جماعة، جاء لهذا المسلم الثواب العظيم، وحتى لو لم يتبعه غيره فإن معرفة الناس بدخوله الإسلام باب لنيله الأجر والثواب.
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين أن خطابات القرآن للناس جميعاً، وأن هذا الجمع رحمة بهم وباب لإقتباس المواعظ والدروس.
التاسعة: عدم وقوف الأوامر الإلهية عند الدعوة إلى الإيمان فلا بد من أمور:
الأول: الإعتصام بحبل الله.
الثاني: حسن التوكل على الله.
الثالث: تفويض الأمور لله عز وجل.
الرابع: التصديق بالكتب المنزلة والعمل بأحكام الشريعة من الحلال والحرام قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( ).
الخامس: الإتيان بالفرائض والواجبات العبادية.
العاشرة: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على فوزهم بنعمة الإقتران بين الإيمان بالله والإعتصام بحبله، وفي هذا الشكر وجوه:
الأول: ترغيب الناس بالإسلام.
الثاني: زجر الناس عن الإستهزاء بالمسلمين.
الثالث: بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار من إرتداد بعض المسلمين.
الرابع: بيان حقيقة وهي إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الخامس: إمتلاء نفوس المسلمين بالغبطة والرضا للتوفيق للنعم والشكر عليها بلحاظ مسألة وهي أن الشكر على النعمة نعمة.
السادس: تعاهد وتوارث المسلمين لمنازل الإيمان بالله والتوكل عليه والتقيد بأحكام الشريعة.
الحادية عشرة: الذين يعتصمون بالكتاب والسنة يتلون آيات القرآن ويبيّنون لأهل الكتاب بالحجة والبرهان العقلي والنقلي ما ينفعهم وما يضرهم.
وجاءت الآية بصيغة أفعل التفضيل(خيراً لهم) وفيه وجوه:
الأول: دلالة(خير) على التفضيل، وإفادة الآية في مفهومها أن بقاءهم على الملة الكتابية لا يخلو من حسن إلا أن إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الأحسن.
الثاني: إرادة معنى الخير الذي يقابله الشر والأذى.
الثالث: وردت الآية بحرف(لو) في قوله تعالى(ولو آمنوا لكان خيراً لهم) وهو حرف إمتناع لإمتناع أي أنهم لا يؤمنون، وفيه حث للمسلمين على التمسك بالكتاب والسنة والصبر.
والصحيح هو الوجه الثاني، وفيه دعوة للإسلام وترغيب به.
الثانية عشرة: توكيد الحصر والتعيين في موضوع(خير أمة) وأنه خاص بالمسلمين، ودعوة الناس للإعراض عن أهل الشك والريب الذين يصدون الناس عن التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة عشرة: من خصائص(خير أمة) أنها تتمسك بالقرآن والسنة، وتبين للناس منافع الإنتماء لخير أمة، قال تعالى[فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا]( ).
الرابعة عشرة: تقدير الجمع بين الآيتين: ولو اعتصم أهل الكتاب بحبل الله لكان خيراً لهم.
الخامسة عشرة: الذين يعتصمون بحبل الله متفقهون في الدين، ويعرفون منازل الناس، ومراتبهم بلحاظ الإيمان وعدمه، إذ أخبرت الآية الكريمة عن التفصيل في أهل الكتاب وأنهم على قسمين:
الأول: فريق مؤمنون.
الثاني: فريق فاسقون، وهم الأكثر.
وجاء في هذه الآية أمران لبيان التباين بينهما وهما:
الأول: نفي الإيمان عن أهل الكتاب بقوله تعالى(ولو آمن أهل الكتاب).
الثاني: إيمان فريق من أهل الكتاب بقوله تعالى(منهم المؤمنون)
وتحتمل الصلة بينهما وجوهاً:
الأول: في الآية تقديم وتأخير، ويكون تقدير الآية(منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ولو آمن الفاسقون لكان خيراً لهم).
الثاني: جاءت الآية بصيغة العموم والخصوص فيخرج المؤمنون من أهل الكتاب بالتخصص من قوله تعالى(ولو آمن أهل الكتاب) بلحاظ أن ذات الآية تشهد بإيمانهم.
الثالث: المراد من قوله تعالى(منهم المؤمنون) أي الذين دخلوا الإسلام وصدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كعبد الله بن سلام وأخيه.
الرابع: في الآية إخبار عن وجود جماعة أو أمة من أهل الكتاب تؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقر بالبشارات التي جاءت به في الكتب السماوية السابقة ولكنها تخفي إيمانها وتخشى إعلانه لأسباب متعددة.
الخامس: التباين والتعدد في موضوع الإيمان فقوله تعالى(ولو آمن أهل الكتاب) أي بنبوة محمد وأن القرآن نازل من عند الله، أما قوله تعالى(منهم المؤمنون) أي يؤمنون بالله عز وجل.
لذا أختتمت الآية بنعت أكثر أهل الكتاب بالفسق والخروج عن الطاعة، ولم تنعتهم بالكفر والضلالة.
السادسة عشرة: من الإعجاز في الآية محل البحث أنها تبدأ بالثناء وتنتهي بالذم مع إتحاد الموضوع والتباين في الجهة، فالموضوع هو الإيمان والثناء على المؤمنين، ليأتي الذم للذين تركوا منازله من وجوه:
الأول: الأصل هو قربهم من مراتب الإيمان.
الثاني: قيام الحجة عليهم.
الثالث: وجود البشارات التي تدعوهم إلى الإيمان والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
السابعة عشرة: بينما ذكرت هذه الآية التعدد والتباين في أهل الكتاب وأن فريقاً منهم مؤمنون وأكثرهم الفاسقون فإنها ذكرت المسلمين بالمدح والثناء وإشتراكهم جميعاً بالتمسك بالقرآن والسنة.
الثامنة عشرة: تنزه المسلمين عن الفسوق والفجور وأراد الله عز وجل الإحتجاج بهم على الناس، وبما يؤكد القبح الذاتي للفسوق وهو من عمومات خطابه تعالى للمسلمين(كنتم خير أمة أخرجت للناس) ليعلم الناس لزوم إجتناب الفسوق.
التاسعة عشرة: الإعتصام بحبل الله سلاح من وجوه:
الأول: إنه كبح للنفس الشهوية والأمارة بالسوء.
الثاني: إنه حرب على أهل الضلالة.
الثالث: فيه فضح للفسوق.
الرابع: دعوة الفاسقين للتوبة والإنابة بلغة الترغيب والبيان لقوله تعالى(لكان خيراً لهم).
العشرون: مجيء قوله تعالى(واعتصموا بحبل الله جميعاً) بسور الموجبة الكلية الشامل للمسلمين فيه أمور:
الأول: إنه وقاية للمسلمين ولأبنائهم من الفسوق، وإرتكاب المعاصي.
الثاني: بعث اليأس في نفوس الكفار لإستقامة وصلاح المسلمين وإبتعادهم عن الفسوق.
الثالث: ندب المسلمين عموماً لفعل الصالحات.
الرابع: بشارة نيل المسلمين والمسلمات الثواب والأجر العظيم، بلحاظ أنه عمل صالح ومقدمة لفعل الصالحات.
الخامس: بيان سعة باب التوبة وحث عموم الناس على المبادرة إلى الدخول في(خير أمة) وقال تعالى في التائبين يعلنون إسلامهم[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا]( ).
صلة(ولا تفرقوا)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تتصف(خير أمة) بالإتحاد، ومحاربة الفرقة والخلاف الذاتي فإن قلت قد يحدث خلاف وإقتتال بين المسلمين، والجواب إن قوله تعالى(كنتم خير أمة)برزخ دون إستمرار هذا الخلاف والإقتتال، وواقية من تجدده في ذات الموضوع والأطراف، لذا ترى المسلمين يتصفون بخصوصية ذات حسن ذاتي من وجوه:
الأول: قيام عموم المسلمين بالسعي للصلح بينهم، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] ( ).
الثاني: حتمية وقوع الصلح بين المسلمين لرجوعهم إلى الكتاب والسنة، وهو من صفات(خير أمة) وأسرار إستدامة بقائها متحدة.
الثالث: مصاحبة وتعقب الندم للإقتتال.
الرابع: طي المسلمين لصفحة القتال،وكأنه لم يحدث بينهم، للتسالم على أنهم(خير أمة) وأن الأصل هو تنزههم عن الإقتتال فيما بينهم.
الخامس: إدراك كل طرف من المتقاتلين بعدم جلب منافع من القتال، وأن الخسائر التي تعرض لها الطرف الآخر هي خسائر لهم جميعاً.
السادس: إمامة قوله تعالى(ولا تفرقوا) للطرفين، وهو حث لهم على الصلح وترك الخلاف والإقتتال من باب الأولوية القطعية، فإذا كانت آية السياق تأمرهم بعدم التفرق فإنها من باب الأولوية تحذرهم وتنهاهم عن القتال.
الثانية: إن قوله تعالى(ولا تفرقوا) واقية من الخلاف والخصومة والقتال، فلا يعلم عدد الحروب والفتن بين المسلمين التي منعت هذه الآية من وقوعها وحدوثها إلا الله، وهو من خصائص(خير أمة) أن تأتي كلمة واحدة في القرآن بنهي يمنع من الخصومة والخلاف بين المسلمين، ويجعلهم في أمن من الخيانة والغدر الذاتي.
الثالثة: في هذا النهي مسائل:
الأولى: تجلي شآبيب الرحمة بين المسلمين.
الثانية: جعل المسلمين يحرصون على معاني المودة والأخاء بينهم.
الثالثة: إجتناب المسلمين أسباب الفرقة والخلاف.
الرابعة: إنه هو من خصائص(خير أمة أخرجت للناس) لما فيه من الترغيب بدخول الإسلام.
الخامسة: إقامة الحجة على الناس بوحدة المسلمين وبلوغهم مراتب الأخوة بالمعجزة والفضل الإلهي.
الرابعة: يدل قوله تعالى(ولا تفرقوا) على أن الأصل في(خير أمة) الأخوة والتآلف بين أفرادها، لأنها تنهى عن التفرق إبتداء وإستدامة.
والخطاب القرآني متجدد في كل زمان ومتوجه لكل المسلمين في أجيالهم المتعاقبة، على نحو العموم الإستغراقي، وقوله تعالى(ولا تفرقوا) يتوجه حتى إلى الذين متلبسين في فرقة وخلاف وحال إقتتال، وفيه آية إعجازية تدل على وجوه ومضامين للإتحاد والتآلف بين المسلمين جميعاً بما فيهم الذين يتحاربون فيما بينهم منها:
الأول: الإعتصام بحبل الله، وقد نرى المتحاربين يفسران الآية القرآنية كلاً على طريقته، ولكن الإعتصام في الآية نص جلي في معناه وموضوعه وأحكامه.
الثاني: العز والرضا بأنهم من(خير أمة أخرجت للناس).
الثالث: الإلتقاء والإتحاد في العبادات والفرائض كالصلاة اليومية وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام.
الخامسة: جاءت هذه الآية بأمور تدل على لزوم إجتناب المسلمين الفرقة وهي:
الأول: الإخبار الإلهي بأنهم(خير أمة).
الثاني: نعت المسلمين بأنهم(أمة) والذي يدل على الإتحاد والإجتماع وعدم الإختلاف، فلم تقل الآية(كنتم خير أمم)، ويحتمل لفظ أمة في شموله سعة وضيقاً وجوهاً:
الأول: كل جيل من المسلمين أمة.
الثاني: كل طائفة من المسلمين أمة.
الثالث: الأمة سور الموجبة الكلية الذي يدخل فيه المسلمون والمسلمات حين البعثة النبوية إلى يوم القيامة.
الرابع: إرادة علماء الأمة خاصة.
الخامس: المقصود أهل البيت عليهم السلام.
السادس: الصحابة دون غيرهم من التابعين.
والصحيح هو الثالث، وهو لا يتعارض مع الوجوه الأخرى التي هي في طوله ولها موضوعية ظاهرة في المقام ويروى عن الإمام الصادق عليه السلام(ولتكن منكم أئمة وكنتم خير أئمة أخرجت للناس) ( ).
إن إشتراك والتقاء الأجيال الأولى والأخيرة من المسلمين بنعت أمة واحدة من الشواهد على أنهم(خير أمة) بالإضافة إلى دلالة كثرتهم وإجتماعهم على الحق والهدى على الأفضلية، لتكون آية في الإرادة التكوينية وهي أن تفضيل أمة من الناس مصاحبة لأيام الحياة الدنيا، ففي كل زمان هناك فريق من الناس هم خير أمة بشهادة القرآن، وهو من الشواهد على إنحصار تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم خاصة وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الأمة التي تؤمن بالله وكتبه هي خير الأمم.
الصغرى: المسلمون يؤمنون بالله ورسله وكتبه.
النتيجة: المسلمون خير الأمم.
السادسة: يحتمل خروج المسلمين للناس وجوهاً:
الأول: خروجهم كأمة واحدة وإن تباينت وتعددت الأزمنة والأمكنة.
الثاني: كل طائفة تخرج للناس.
الثالث: خروج المسلمين كأمة متحدة في أصول وضروريات الدين واليقينات، قال تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وخروجهم كل طائفة بفروع مخصوصة.
الرابع: القدر المتيقن من موضوع الخروج هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والصحيح هو الأول لذا جاءت آية(واعتصموا) ببيان مادة وسلاح الخروج وهو من شعبتين:
الأولى: التمسك بالقرآن والسنة.
الثانية: إجتناب الفرقة والإختلاف.
وليس من دليل في هذه الآية على حصر موضوع الخروج للناس بميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الخروج أعم في موضوعاته وأحكامه.
وهذا العموم من خصائص(خير أمة) وقيامها بالوظائف العبادية المتعددة، وسعيها الدؤوب لنيل الثواب العظيم، والفوز بالنعيم الدائم قال تعالى[لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
السابعة: من الإعجاز في الآية أعلاه مجيء الأمر الإلهي بالتمسك بحبل الله، وتعقب النهي عن الفرقة له، فقد يقال بأن الإعتصام بالقرآن والسنة يتضمن في مفهومه أموراً:
الأول: خروج المسلمين كأمة واحدة للناس عموماً.
الثاني: تفرق المسلمين فيما بينهم، مع محافظتهم على الخروج للناس، كل يخرج بتأويله وتفسيره للأحكام، وبقواعد مذهبه.
الثالث: الفرقة مانع من الخروج للناس.
الرابع: الفرقة سبب للتقصير في وظائف الخروج للناس، وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب أنها تتعارض مع مدح المسلمين وأنهم(خير أمة).
لقد جاء النهي عن الفرقة متعقباً للإعتصام بحبل الله لمنع الإختلاف في تفسير الآيات وأحاديث وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والزجر عن إنقسام المسلمين إلى فرق وطوائف تعمل بإجتهادها وتقول أنها تعتصم بالقرآن والسنة، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على احدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على احدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق امتى على ثلاث وسبعين فرقة( ).
وكل فرقة وطائفة من المسلمين تقول هي الفرقة الناجية على نحو التعيين ويمكن عرض هذا الحديث على القرآن وهذه الآية الكريمة لعمومات أحاديث وأدلة العرض على القرآن.
وقوله تعالى(كنتم خير أمة) ظاهر في إرادة المسلمين جميعاً بالتفضيل الذي يتضمن في معناه النجاة.
ويمكن تأويل الحديث بلحاظ أفراد الزمان الطولية كلها، وعدد الفرق التي ظهرت فيها وإندثرت، أو أنها ستظهر وتلاقي ذات العاقبة والمصير المحتوم، فلا يدل الحديث على إرادة ووجود ثلاث وسبعين فرقة عند المسلمين في زمان واحد.
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين النهي عن الفرقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتحقق الفرقة بأمور:
الأول: الإختلاف في موضوع الأمر النهي.
الثاني: التباين والخلاف في كيفية الأمر والنهي.
الثالث: الإختلاف في مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: الإختلاف في أوان ومناسبة الأمر والنهي.
الخامس: تعدد الأقوال وحصول النزاع في وسائط ومقدمات الأمر والنهي.
السادس: إتكال كل فريق على الآخر في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التشاح والتزاحم والتعارض بمبادرة أكثر من طرف وطائفة بالقيام به وبكيفيات متباينة.
التاسعة: يحتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التحلي بذات الصفات والخصائص ومنها التنزه عن الفرقة والإختلاف بلحاظ قاعدة وهي أن الإتحاد والأخوة الإيمانية معروف، والفرقة والتشتت منكر.
العاشرة: من خصائص(خير أمة) إقامة الحجة على الأمم والملل الأخرى، وبيان حقيقة وهي أن الإيمان خير لهم في النشأتين.
الحادية عشرة: معرفة المسلمين بأنهم(خير أمة) سلاح وعون لهم لتعاهد التآلف بينهم، والعمل بأحكام الكتاب والسنة، وقد جاءت أكثر آيات العفو والمغفرة والوعد بالجنة بصيغة الجملة الشرطية مثل قوله تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، وقد تأتي بصيغة الجملة الخبرية، قال تعالى[إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ]( )، أما الآيتان محل البحث فقد جاءتا بلغة الخطاب للمسلمين وفيهما بشارة للمسلمين وكأنهما بيان بصيغة الشرط.
وقد يقال إذا كان المسلمون(خير أمة) لماذا ينهاهم الله عز وجل عن الفرقة والإختلاف والجواب من وجوه:
الأول: يدل الأمر الإلهي بنهي المسلمين عن الفرقة والخلاف على كونهم بحال الإتحاد والتآخي، وأراد الله عز وجل منهم تعاهد هذه الحال والإستمرار على ذات المراتب من الأخوة، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، لما تدل عليه صيغة المضارع(تفرقوا) من إرادة النهي في المستقبل عن الفرقة.
الثاني: من خصائص(خير أمة) أن الله عز وجل يتفضل بتحذيرهم ونهيهم عن الفرقة والخلاف.
الثالث: تفضل الله عز وجل بنهي المسلمين عن القبيح، وما فيه الضرر رحمة بهم، وهذا النهي وسيلة سماوية مباركة لتعاهدهم لمنازل(خير أمة).
الرابع: لقد تفضل الله عز وجل ببعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية التي تنهى عن الفرقة والإختلاف، قال تعالى[وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ]( )، وإختص المسلمون بالتقيد بمضامين هذا النهي وإستحقوا صفة(خير أمة).
الخامس: من خصائص(خير أمة) تلقي التأديب وأسباب الهداية وجلب المصالح ودفع المفاسد من عند الله عز وجل، إذ يدل النهي عن الفرقة في مفهومه على أمور:
الأول: توكيد الأضرار والخسائر التي تلحق الأمة التي تتفرق وتتشتت.
الثاني: الإتعاظ من قصص الأمم السالفة.
الثالث: التنبيه إلى لزوم إجتناب أسباب ومقدمات الفرقة والإختلاف، قال تعالى[وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ]( ).
السادس: إن حصلت فرقة وإختلاف عند المسلمين فإن قوله تعالى(ولا تفرقوا) يواجه على نحو متجدد في كل آن كلاً من:
الأول: الأطراف المتفرقة.
الثاني: رؤساء الفرقة وأرباب الإختلاف.
الثالث: عموم المسلمين والمسلمات من جهات:
الأولى: السعي للصلح والوئام والإتحاد بين الذين إفترقوا , قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] ( ).
الثانية: إجتناب الدخول في الفرقة والخلاف.
الثالثة: إدراك حقيقة وهي أن الزجر عن الفرقة، وإزالة أسبابها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية عشرة: وجوب الإتحاد في الإيمان بالله، وإجتناب الفرقة فيه، لأنه حاجة للمسلمين والناس جميعاً.
الثالثة عشرة: لزوم التفقه في الدين، ومعرفة أحوال ومنازل الناس بلحاظ أحكام القرآن والسنة، وعدم التفرق فيه، وترى مثلاً إجماع المسلمين بخصوص أحكام الجزية وتفاصيلها.
الرابعة عشرة: قوله تعالى[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] يدل في مفهومه على حث المسلمين، على الدعوة إلى الإيمان بصيغ اللطف والبيان والبرهان، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، ومن الحكمة التي تتصف بها(خير أمة) الإبتعاد عن الفرقة والخلاف في صيغ الدعوة، كما أن الوحدة فيها موعظة وحجة وترغيب للناس بالإصغاء للمسلمين، والإقتداء بهم.
الخامسة عشرة: بيان حال أهل الكتاب في هذه الآية، والإخبار بأنهم على قسمين، الشطر القليل منهم مؤمنون، والشطر الأكثر فاسقون، وفيه مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للإعتبار والإتعاظ.
الثانية: تعاهد الإيمان وسننه وآدابه.
الثالثة: لزوم عدم الخروج عن الطاعة وآداب الشريعة، قال تعالى[وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادسة عشرة: جاء قوله تعالى(ولا تفرقوا) خطاباً للمسلمين بصفة الإسلام، مما يدل في مفهومه على النهي عن إعطاء الأولوية في الإنتماء للقبيلة والعشيرة والمصر.
وهل من تعارض بين الإنتساب للإسلام والإنتماء للوطن وإن كان بلداً غير إسلامي والحكم فيه لملة أخرى كالنصارى أو لقوانين وضعية ما أنزل الله بها من سلطان؟ الجواب لا، فالإنتساب للإسلام فيه أمور:
الأول: إنه توثيق للمواطنة.
الثاني: تثبيت حب الأوطان.
الثالث: إتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لسلامتها وأهلها.
الرابع: إنه مساهمة إيمانية في بناء وإصلاح الأوطان.
الخامس: إنه هو من أفراد خروج(خير أمة) للناس بأن يرى الناس أموراً كريمة وحسنة وهي:
الأول: حب المسلمين لوطنهم.
الثاني: ولاء المسلمين لوطنهم وتعاهدهم لوحدته.
الثالث: حرص المسلمين على شيوع الأمن والإستقرار في أوطانهم وهل يتعارض حب الوطن مع الأخوة الإيمانية بين المسلمين في الأمصار المختلفة، الجواب لا، بل يكون الجمع بينهما مناسبة للألفة ونشر مفاهيم الوئام والسلام بين البلدان والتقارب بين الشعوب خصوصاً في زمن العولمة.
السابعة عشرة: يبعث الخطاب القرآني للمسلمين(ولا تفرقوا) الفزع والخوف واليأس في قلوب أعداء الإسلام، ويجعلهم يمتنعون عن التعدي على المسلمين، والهجوم على ثغورهم
الثامنة عشرة: لقد فرض الله عز وجل التكاليف العبادية على المسلمين، وهو من خصائص(خير أمة) من وجوه:
الأول: ذات الغرض تكريم وتشريف.
الثاني: جاءت الفرائض في الإسلام متكاملة وتامة، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الثالث: التحديد والتعيين في الفرائض من جهات:
الأولى: الموضوع كما في فرض الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج.
الثانية: كيفية أداء تلك الفرائض، وتفاصيلها وأجزاؤها الركنية.
الثالثة: تعيين أوان كل عبادة وفرض.
الرابع: التقسيم الإعجازي الزماني للفرائض إذ أنها على أقسام:
الأول: الفريضة اليومية التي تؤدى كل يوم عدة مرات كما في فريضة الصلاة، وإنبساطها على آنات وأطراف الليل والنهار.
الثاني: ما تؤدى شهراً كاملاً ومدة محصورة بين هلالين كما في فريضة الصيام وما فيها من مشقة الكف عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس.
ومن الإعجاز إختصاص شهر رمضان بهذه الفريضة وهو الشهر الوحيد الذي ورد إسمه في القرآن، قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] ( ).
الثالث: الفريضة التي تؤدى مرة كل عام وهو الحج، ومع أن كلاً من الصيام والحج يؤدى كل عام مرة واحدة فبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: كل منهما فريضة واجبة.
الثاني: كل من الصيام والحج واجب مشروط وليس مطلقاً.
الثالث: إنهما فرض على المكلفين من المسلمين والمسلمات.
الرابع: كل منهما يؤدى في زمان مخصوص من السنة.
الخامس: ذكر الصيام والحج في القرآن، قال تعالى بخصوص الحج[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
السادس: إجماع المسلمين وعدم إختلافهم في أحكام الحج والصيام( ).
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: مدة الصيام ثلاثون يوماً، أما فريضة الحج فهي مناسك مخصوصة كالوقوف بعرفة ومزدلفة والطواف بالبيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.
الثاني: يؤدى الصيام في الحضر والإقامة، وفي أي بلد وبقعة من الأرض، أما الحج فلا يصح إلا بقطع مسافة والوصول للبيت الحرام وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر(الحج عرفة) ( ) أي الوقوف بعرفة في يوم مخصوص وهو التاسع من ذي الحجة.
الثالث: يسقط الصيام عن المريض، ويجب عليه القضاء عند الشفاء، وكذا المسافر إذا عاد أو أقام أما الحج فإنه مشروط بالإستطاعة، فقد يكون المكلف حاضراً معافى، ولكنه لا يملك مؤونة الحج فتسقط عنه فريضة الحج.
الرابع: تؤدى فريضة الحج في كل يوم من أيام رمضان، أما الحج فهو أداء لمناسك مخصوصة في أيام معينة، من غير إمتناع عن الأكل والشرب، بل يستحب في بعض المواطن الأكل والشرب كما في حال الإنتهاء من السعي بين الصفا والمروة، وكذا في أيام منى، إذ ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ( إنها أيام أكل وشرب ) ( ).
الخامس: التباين في ماهية الفريضة فالصيام إمتناع عن الأكل والشرب، والحج أداء الأفعال ومناسك مخصوصة بقيد التعيين لموضوع الفعل المبارك، فمثلاً الطواف ركن في الحج، ولا يصح إلا حول البيت الحرام.
السادس: يرى الناس حج المكلف، أما الصيام فهو عبادة بين العبد والله عز وجل، لذا ورد (في الحديث القدسي:الصوم لي وأنا أجزي عليه)( ).
التاسعة عشرة: لقد نهى الله عز وجل عن الفرقة والخلاف، بينما ورد قوله تعالى[وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ] ( )، والجواب من وجوه:
الأول: إن هذا الإفتراق جاء في موضوع وحكم مخصوص، وهو إرادة الطلاق عند حصول الخلاف والشقاق بين الزوجين، مع بقاء الأخوة الإيمانية بينهما بعد إنفساخ عقد الزواج.
الثاني: لا يكون الإفتراق بين الزوجين إلا بعد حصول الخلاف، والسعي للإصلاح بينهما.
الثالث: من خصائص(خير أمة) وقوع الطلاق عند إشتداد الخلاف بين الزوجين.
الرابع: جاءت تتمة الآية أعلاه بالبشارة بالغنى والرزق الكريم لكل من الزوجين، ليكون هذا الغنى وسيلة مباركة لمنع حصول الفرقة والإختلاف بين المسلمين.
الخامس: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين وهم(خير أمة) أموراً:
الأول: إصلاح أحوالهم.
الثاني: تنظيم الحياة الزوجية.
الثالث: بناء الأسرة على المحبة والمودة ونعمة الزواج هبة عامة للناس جميعاً وحجة على الناس، ودعوة مستقلة للإيمان , قال تعالى[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً]( ).
العشرون:من خصائص(خير أمة) السلامة من النفس الغضبية والشهوية فالفرقة قبيحة موضوعاً وذاتاً وأثراً، وهي فتنة وتتفرع عنها الفتن ووجوه الضرر.
بحث كلامي
بيان وجه قبيح من وجوه الفرقة والإختلاف وهو الإنقسام إلى مؤمنين وفاسقين، فإن المسلمين منزهون من هذا التقسيم فليس فيهم طائفة أو جماعة مستقلة تعلن الفسوق والعصيان، فكل المسلمين متمسكون بالقرآن والسنة، ولم يتفرقوا إلى مؤمنين وفاسقين إلى يوم القيامة، وهو من الشواهد المتجددة على كونهم(خير أمة أخرجت للناس)، وفيه أمور:
الأول: البعث للهداية والإيمان.
الثاني: طرد اليأس والقنوط من النفوس.
الثالث: المنع من إستحواذ الفاسقين على منازل الرياسة والسلطنة.
الرابع: إذا كان الفاسقون هم الأكثر بالنسبة لأهل الكتاب فأنهم الأقل والأضعف أمام كثرة وثبات المسلمين في مسالك الإيمان والصلاح والتقوى فإن قلت هل يدل قوله تعالى[وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] ( )، الجواب لا، لأن المراد من الناس في الآية أعلاه غير المسلمين وليس عموم الناس بدليل الآية محل البحث التي تقسم الناس إلى قسمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، نعم الأصل في لفظ الناس هو العموم الإستغراقي، وإرادة العموم إلا مع القرينة الصارفة وهي ظاهرة في المقام من وجوه:
الأول: سلامة المسلمين من الفسوق والفجور.
الثاني: دلالة مضامين الآية محل البحث عن خروج المسلمين بالتخصص من تقسيم الناس إلى مؤمنين وفاسقين، بلحاظ أن المسلمين كلهم مؤمنون.
الثالث: مجيء خاتمة آية واعتصموا بالخطاب للمسلمين(لعلكم تهتدون)بينما جاءت الآيات القرآنية بغلق الفاسقين على أنفسهم أسباب الهداية ونزول غضبه الله عز وجل بهم قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] ( ).
الرابع: لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وإختارهم لمنزلة(خير أمة) وأنعم عليهم بالتنزه من القبائح ومنها الفسوق , قال تعالى[وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( ).
الخامس: إن(خير أمة) في إزدياد مطرد في الكثرة والتكاثر ليغلبوا الفاسقين، ويمنعوا عنهم منازل الكثرة في العدد، وهذا الإزدياد من البركة والفيض الإلهي على(خير أمة).
صلة(وأذكروا نعمة الله عليكم)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تفضل الله بجعل المسلمين(خير أمة) نعمة عظيمة على المسلمين يلزم إستحضارها، وهذا الإستحضار على وجوه:
الأول: في الوجود الذهني عند كل مكلف.
الثاني: في المنتديات وعلى الألسنة.
الثالث: في عالم الأفعال وضبط ما تقوم به الجوارح.
الرابع: ذكرها بأداء الفرائض، والتقيد بأحكام الشريعة.
الخامس: تأديب الأولاد والصبيان بالتذكير بهذه النعمة العظيمة، وكيف أنهم من(خير أمة) وإن لم يصلوا سن التكليف، وأن مسؤوليات تعاهد هذه النعمة تقع على عاتقهم بعد البلوغ.
الثالثة: جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الإنشائية، ووردت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، وتشتركان معاً بأنهما خطاب للمسلمين والمسلمات عموماً.
الرابعة: جاء ذكر النعمة بصيغة المفرد (نعمة) وإرادة اسم الجنس، مع تعدد مصاديق النعم وهي من اللامتناهي، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الخامسة: يفيد الأمر الإلهي(إذكروا) الوجوب إلا مع القرينة التي تجعل المعنى ينصرف إلى الإستحباب، وهي مفقودة في المقام.
السادسة: من مصاديق نعم الله على المسلمين أنهم(خير أمة).
السابعة: من نعم الله عز وجل على المسلمين إخراجهم للناس دعاة إلى الله، وذكر هذه النعمة مناسبة كريمة لتعاهدها وأداء الوظائف العقائدية التي تجب على المسلمين في جهادهم في سبيل الله.
الثامنة: لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس، وهو سبحانه الرؤوف الرحيم، مما يملي على المسلمين أن يكون خروجهم بمفاهيم الإحسان والعفو ومعاني الرحمة ولغة البشارة والإنذار.
التاسعة: إن الله عز وجل يحب أن تذكر(خير أمة) نعمه , وهو نوع إكرام وتشريف للمسلمين.
العاشرة: لقد تفضل الله عز وجل وأمر الملل السابقة بذكر نعمه، وخص بني إسرائيل بهذا الأمر في القرآن، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْم َتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الحادية عشرة: ليس من حصر لنعم الله عز وجل على المسلمين، وتكون بلحاظ الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: إجتباء المسلمين، وجعلهم(خير أمة).
الثاني: إتحاد المسلمين، ونعتهم بالأمة الواحدة، وما فيه من دفع لأسباب الفرقة عن المسلمين، والمنع من تأثير مقدماتها عليهم، ومن خصائص(خير أمة) الإمتثال الأمثل لأوامر الله عز وجل ونواهيه.
الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحسن إتباع المسلمين له.
الرابع: نزول القرآن .
وفي هاتين الآيتين نعمة من وجوه:
الأول: كل آية من الآيتين نعمة.
الثاني: الجمع بين الآيتين نعمة.
الثالث: إنضمام جزء من كل آية إلى الآية الأخرى نعمة.
الثانية عشرة: خروج المسلمين للناس بصفة الإيمان.
الثالثة عشرة: معرفة المسلمين لوظائفهم العقائدية في إصلاح المجتمعات.
الرابعة عشرة: إنصات الناس للمسلمين في الدعوة إلى الحق، لأن تفضل الله عز وجل إخراج المسلمين أمر مفاعلة لتعلق الخروج بطرف ثان وهو الناس عموماً.
ومن الإعجاز أن الآية لم تقل(أخرجت للكفار) بل ذكرت البشر بصفة الناس ليكون المعنى أعم، وشاملاً لأهل الكتاب الذين لم تصفهم الآية بالكفار، بل قسمتهم قسمين:
الأول: المؤمنون.
الثاني: الفاسقون الخارجون عن طاعة الله، فمن حب الله عز وجل أنهم حينما خرجوا عن الطاعة تفضل الله وأخرج لهم وللناس(خير أمة) ويحتمل الأمر بخصوص الطرف الثاني وهم الناس وجوهاً:
الأول: لم يستعد الناس لهذا الخروج ولم يلتفتوا إليه، مما يلزم بذل المسلمين الوسع لجذبهم للإيمان.
الثاني: يتهيأ الناس لتلقي الموعظة من المسلمين، والإصغاء إليهم.
الثالث: التفصيل، فمن الناس من يتلقى خروج المسلمين بالقبول والرضا، ومنهم من لم يلتفت لهذا الخروج.
الرابع: إعراض الناس عن المسلمين في خروجهم.
والصحيح هو الثاني، فمن لطف الله عز وجل بالناس إصلاحهم لخروج المسلمين لهم، وإدراكهم في الجملة لمنافع هذا الخروج.
الخامسة عشرة: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف وفيه مسائل:
الأولى: إنه نوع جهاد.
الثانية: فيه سعي دؤوب متصل في سبيل الله.
الثالثة: إنه مصداق من مصاديق التقوى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ).
السادسة عشرة: معرفة المسلمين لأمور:
الأول: مصاديق وأفراد المعروف.
الثاني: أحكام الحلال والحرام.
الثالث: تفقههم في الدين لأنه حاجة وموضوع يتقوم به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابعة عشرة: وجود أمة من الناس تنصت للمسلمين وأمرهم بالمعروف وهو الذي يدل عليه مفهوم قوله تعالى(تأمرون).
الثامنة عشرة: من النعم في هذه الآية أمور:
الأول: نهي المسلمين عن المنكر.
الثاني: معرفة المسلمين لأفراد المنكر.
الثالث: إبتعاد المسلمين عن أفراد المنكر.
التاسعة عشرة: توفيق المسلمين للإيمان بالله.
العشرون: دعوة المسلمين أهل الكتاب للإيمان بالله، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذم الفسق والفاسقين.
الحادية والعشرون: دعوة المسلمين لجعل موضوعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل من:
الأول: نعمة الله عليهم.
الثاني: ذكر هذه النعمة[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
ترى ما هي منافع إستحضارها عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه وجوه:
الأول: الإمتثال لأمر الله.
الثاني: الثواب العظيم لذكر نعمة الله.
الثالث: الشوق للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغبطة عند إتيانهما وفعلهما.
الرابع: إنه مقدمة للتقوى والشكر لله، لذا ورد في وصف القرآن قوله تعالى[وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الخامس:الحسن الذاتي لكيفية إتيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السادس:إلتفات المسلمين إلى حقيقة وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعمة عظيمة، وكذا تعاهد المعروف وإجتناب المنكر.
السابع:من منافع إستحضار المسلمين لنعمة الله عليهم أمور:
الأول: حبهم لجذب الناس لمنازل هذه النعمة.
الثاني: ترغيبهم الناس بدخول الإسلام.
الثالث: إنتفاء الحسد والبغضاء عن نفوس المسلمين، وهو من خصائص(خير أمة).
الثامن: يجب أن يتذكر المسلمون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعمة عظيمة فاز بها المسلمون من وجوه:
الأول: الأمر الإلهي للمسلمين بالأمر والنهي.
الثاني: قيام المسلمين بالأمر والنهي.
الثالث: وجود من ينصت ويمتثل لما يقوم به المسلمون من الأمر والنهي.
التاسع: ظهور الصلاح في المجتمعات، وإدراك الناس للحسن الذاتي للمعروف، والقبح الذاتي للمنكر.
العاشر: الأمر والنهي عز ورفعة للمسلمين، وهو نوع أمارة وحكم نوعي عام في الأرض يتقوم بمرضاة الله والخضوع له، ومن عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الحادي عشر: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زجر لأهل الفسوق والفجور عن أمر المسلمين بالقبيح، ونهيهم عن المعروف، وليكونوا عاجزين عن مزاحمة ومعارضة المسلمين في ميادين الأمر والنهي بين الناس، خصوصاً وأن الله تفضل على الناس ورزقهم نعمة العقل للتمييز بين الحسن والقبيح.
الثاني عشر: من نعمة الله التوجه له سبحانه بالشكر على نعمة الهداية والتوفيق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ] ( ).
الثالث عشر: بعث الناس لحب المسلمين والإطمئنان إليهم لإخلاصهم في الدعوة إلى الله ونشر مفاهيم الصلاح، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
الثاني والعشرون: الإيمان بالله أعظم النعم وأرفع المنازل، تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بإستحضارها ليترشح عن هذا الإستحضار الأمن والسلامة والعافية والرشاد.
الثالث والعشرون: ذكر النعم الإلهية من عمومات ذكر الله عز وجل وآلائه ومقدمة لذكر الله وتعاهد العبادات، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
الرابع والعشرون: دعوة أهل الكتاب والناس جميعاً للتدبر في النعم الإلهية على المسلمين وتفضيلهم ونيلهم مراتب(خير أمة)، وما فيه من الحجة والبرهان وهو نعمة أخرى على المسلمين بأن يرى الناس النعم الإلهية عليهم.
الخامس والعشرون: تفضل الله ببعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين للنعم العظيمة التي رزقهم الله عز وجل، لتكون هذه النعم واقية من الكفار، وسبباً لشكر الله على إنزجارهم عن التعدي على المسلمين.
السادس والعشرون: من نعم الله عز وجل على المسلمين بلحاظ الجمع بين الآيتين الإخبار عن كون أكثر أهل الكتاب فاسقين، وفيه حث للمسلمين للقيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهدايتهم إلى سبل الرشاد.
السابع والعشرون: موضوعية مفاهيم الأخوة بين المسلمين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وما فيها من التخفيف عنهم، وأسباب الإعانة والتوفيق، وتقدير الجمع بين الآيتين: فأصبحتم بنعمته أخوانا تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
بحث نحوي
اسم الإشارة(كذلك) مركب من كلمتين:
الأول: حرف الكاف.
الثاني: ذلك.
والكاف لها دلالة، وتفيد معنى التشبيه، وتكون بمعنى مثل، وقد تأتي بمعنى (أيضاً) في بيان التوالي والتشابه في الموضوع أو الحكم، لتكون لها موضوعية في علم البيان والبلاغة والدلالة، وقيل تفيد (كذلك) معنى السبب وبيان العلة إذا جاءت بعد الإستفهام المثبت واستدل بقوله تعالى[قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا] ( )، أي أن المعنى: حشرتك أعمى بسبب نسيانك لآياتنا التي أتتك.
ولكن هذا المعنى لا يستقرأ من (كذلك) بل من مضامين وسياق الآية، وجاء اسم الإشارة للتذكير باعراضه عن الآيات وعدم رؤيته عنها في الحياة الدنيا وكأنه أعمى، والقرآن يفسر بعضه بعضا قال تعالى[وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً]( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه(من كان في هذه النعم وعن هذه العبر أعمى فهو عما غيب عنه من أمر الآخرة أعمى) ( ).
وذهب النحاس ت338 هــ في كتابه إعراب القرآن إلى معنى المثلية في(كذلك)وتقديرها(الأمر كذلك) وأن الكاف صفة لمصدر محذوف، وأكثر ما يكون موضعها النصب، ويكون الرفع أيضاً، وتبعه مكي بن أبي طالب ت437هــ في كتابه(مشكل إعراب القرآن)مع زيادة عنده في مواضع رفع الكاف دون نصبها .
وتقع الكاف عند ابن هشام، مثل (كما) قال: تقع كما بعدَ الجمل كثيراً صفة في المعنى؛ فتكون نعتاً لمصدر أو حالاً؛ ويحتملهما قوله تعالى (كما بدأنا أوّلَ خلقٍ نعيدهُ) فإن قدَّرته نعتاً لمصدر فهو إما معمول ل(نعيده)، أي نُعيدُ أولَ خلقٍ إعادةً مثل ما بدأناه، أو ل(نطوي)، أي نفعل هذا الفعل العظيم كفعلنا هذا الفعل، وإن قدرته حالاً فذو الحالِ مفعول نعيده، أي نعيده مماثلاً للذي بدأنا؛ وتقع كلمة كذلك أيضاً كذلك) ( ).
ويدخل اسم الإشارة في تركيب الكلام ودلالته، ولأن القرآن حمال أوجه، ويحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث فان معاني كذلك تتعدد، فترتبط دلالتها بسياق ونظم الآية القرآنية من غير أن تخرج عن الضابطة اللغوية الكلية التي هي كالتقييد للمعنى والدلالة لذا ترى التقارب بين معانيه عند النحويين واللغويين والمفسرين والمحدثين , وأنها تتقوم بمعنى(التشبيه) .
ليكون من معاني اللفط القرآني أنه من السهل الممتنع، والكنز الذي يستلزم الغوص في بحوره، كما يستقرأ المعنى الإجمالي منه حال سماعه، فقوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ] فيه وجوه :
الأول: إنه وعد كريم للمسلمين بتوالي الآيات والبينات .
الثاني: تتابع الدلالات عليهم ، والحجة على الناس .
الثالث: التحدي والبرهان بإعجاز القرآن.
الرابع: فيه شاهد على كون المسلمين (خير أمة) لمبادرتهم لدخول الإسلام .
والآية أعلاه حية غضة طرية في مصاديقها في الواقع الخارجي، وإلى يوم القيامة، ففي كل زمان تأتي آيات وبراهين تؤكد نعم الله عز وجل على المسلمين المستديمة منها والمتجددة والمستحدثة فيكون من منافعها أمور:
الأول: زيادة إيمان المسلمين.
الثاني: إستحضار مضامين آية (واعتصموا).
الثالث: التمسك بالقرآن والسنة.
الرابع: تعاهد المسلمين لمعاني الأخوة الإيمانية.
الخامس: الشكر لله عز وجل على النجاة من النار , وتوالي آيات الفضل الإلهي عليهم , قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
فان قلت ما هي الآيات المستحدثة التي تأتي للأجيال اللاحقة من المسلمين والتي تؤكد نجاتهم من النار، والجواب هو ليس من حصر لموضوعات أي قانون.
صلة[إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ]بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان نعمة عظيمة تفضل الله عز وجل بها على المسلمين، ودعوة لهم للمقارنة بين حالهم من الفرقة والخلاف قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والوئام والأخوة بعدها.
الثانية: بيان قانون ومائز تتصف به (خير أمة) وهو الأخوة بين أفرادها قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثالثة: إن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة، فهو سبحانه أصلح حال المسلمين، ومنحهم صبغة الأخوة بدل العداوة والبغضاء.
الرابعة: حال العداوة التي كان عليها المسلمون المراد منها أيام الكفر والجاهلية والضلالة، للملازمة بين الإيمان والأخوة بين المؤمنين، ففي الآية حذف وتقديره: إذ كنتم أعداء أيام الجاهلية والكفر فألّف بين قلوبكم بالإسلام، مما يدل على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظيمة في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
الخامسة: من خصائص(خير أمة) تنزه أفرادها عن العداوة والبغضاء، ولا بد من ملاحظة أحوال العرب آنذاك وطغيان أعراف العصبية القبلية، وموضوعية الثأر والإنتقام وغلبة الحسد والقيام بالنهب والغزو للسلب وغلبة النفس الغضبية .
فجاء الإسلام لتنعدم موضوعية القبيلة في الصلات وعالم الأفعال وميادين القتال إلأأ بالحق والنفع العام لحاجة المسلمين للتعاضد والتفاني والتضحية والفداء في القتال، والإيثار مطلقاً في حال الحرب والسلم، أي أن الأثر والنفع من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب مركب من وجوه:
الأول: نزع العداوة لأسباب قبلية وعصبية عشائرية
الثاني: إسقاط الثأر عما حصل أيام الجاهلية، فلم يكتف الإسلام بإسقاط الربا والربح الزائد عن القرض بقوله تعالى[وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ]( )، بل أسقط العداوة وأبطل العادات المذمومة، ومنه آثار الربا وما فيه من إرهاق للمديون، وهل وأد البنات من العداوة، الجواب نعم، من وجوه:
الأول: الوأد أثر للعداوة، ومحاولة للسلامة من العار الذي يجلبه سبي وخطف البنات وإسترقاقهن.
الثاني: الوأد مقدمة للعداوة والإنتقام، والإندفاع في القتال والسلب والنهب لعدم الخشية من الإنتقام بسلب البنات، بالإضافة إلى ما فيه من تنمية لقسوة القلوب والبطش وإعتبار القتل، خصوصاً أنه قتل للرحم ولذي القربى.
الثالث: العداوة أثر للوأد، فالذين يقتلون بناتهم يبغضون ويعادون القبيلة التي كانوا يخشون قيامها بسبي بناتهم.
الرابع: الوأد عداوة داخل الأسرة والقبيلة الواحدة، وهي سبب للنفرة بين الزوجين، والأسر المتزاوجة بينها.
الخامس: الوأد سبب لقلة حالات الزواج، والنقص في الأولاد والذين يتولون فيما بعد الدفاع عن القبيلة والثغر مما يكون سبباً لطمع الأعداء وغزوهم وهجومهم.
وفي تعدد الزوجات , والتقارب بين الناس بالمصاهرة وقاية وعلاج لداء وأد البنات , قال تعالى[فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ] ( )، وتلك آية في التشريع الإسلامي، لما فيها من تجلي الحاجة للنساء، وإدراك الآباء بأن البنات يصبحن صالحات للزواج حال البلوغ ومن الآيات في الشريعة أن سن البلوغ هو إتمام البنت تسع سنوات هلالية، فلا تتأخر في بيت أهلها ولا تكون عالة عليهم، ويحتاجون الدفاع عنها، ليتجلى الإعجاز في الجمع بين قوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ]وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] بأن الله عز وجل ينعم على المسلمين بما فيه التمام والكمال الموضوعي والحكمي، وما يكون فيه إصلاح النفوس، وزيادة الإيمان، وتنمية ملكة التقوى.
السادسة: لقد تفضل الله عز وجل وأصلح المسلمين للخروج للناس بحال الوحدة والإتحاد فنزع من صدورهم أسباب العداوة والبغضاء كي يكونوا أخوة متحابين في الله، وفيه حجة على الناس، وترغيب بالإسلام،إذ أن النفوس لا تميل إلى أهل الفرقة والخلاف، وتميل إلى دعوة الإتحاد والإصلاح.
السابعة: جعل الله عز وجل خروج المسلمين حجة لما يتصفون به من التآخي والتآلف، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، وفيه أمور:
الأول: منع أهل الجدال والنفاق من التشكيك بالمسلمين , والكيد والمكر بهم.
الثاني: اللطف الإلهي بالناس لظهور المسلمين بصفات العز والقوة والصلاح، وهو المستقرأ من جهات:
الأولى: دلالات الخروج وما فيه من المبادرة في القول والفعل من الخارج للناس، فلم تقل الآية يرجع لكم الناس، بل توجهت إلى المسلمين بالتلبس بالخروج والظهور والحضور الميداني.
الثانية: الأمر بالمعروف والنهي المنكر عز ورفعة بذاته وموضوعه.
الثالثة: ترشح الرفعة والعز على المجاهدين في سبل الخير والصلاح على نحو إنطباقي.
الرابعة : صيرورة هيبة للمسلمين في النفوس والمجتمعات، وهو أمر ظاهر بالوجدان لأنهم لا يدعون إلا إلى الحق والنفع الشخصي والعام الدنيوي والأخروي.
الثالث: نشر مفاهيم الود والمحبة بين الناس.
الرابع: ترغيب الناس بالإسلام، والإنضمام لخير أمة تتقيد بآداب الأخوة قال تعالى[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ]( ).
الخامس: تعاهد أجيال المسلمين للأخوة بينهم، إذ أن صيغة الماضي المنصرم في الآية(كنتم أعداء) تحتمل وجهين:
الأول: المقصود صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونبذهم العداوة بينهم، وهو القدر المتيقن من الآية.
الثاني: المراد إنتفاء العداوة بين المسلمين وإلى الأبد.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول: إرادة المعنى الأعم في اللفظ القرآني، ولو شككنا بين الإطلاق الزماني لمضامين الآية والتقييد، فالأصل هو الإطلاق.
الثاني: إن قوله تعالى(كنتم خير أمة) شاهد على تنزه المسلمين من العداوة الذاتية بينهم، لما في العداوة من القبح الذاتي والعرضي.
الثالث: مجي الخطاب الإلهي للمسلمين بصفة الإتحاد والأمة الواحدة(كنتم خير أمة).
الرابع: من فضل الله عز وجل على الناس أنه سبحانه إذا أنعم نعمة على أهل الأرض فإنه أكرم من أن يرفعها، وتخبر الآية عن حقيقة وهي زوال العداوة نعمة، لقوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ].
الخامس: أمر الله عز وجل للمسلمين بشكره على نعمة التآخي، ودفع ومحو العداوة بينهم.
السادس: نسخ أصل التفضيل في المجتمعات والأعراف، فبعد أن كان الإنتماء للقبيلة والرياسة، فيها أصبح الأصل والملاك هو التقوى والصلاح، قال تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
السابع: إخبار الآية أعلاه عن حصول الإلفة والمودة بين المسلمين لقوله تعالى[فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ].
الثامن: صيرورة المسلمين متحابين في الله لقوله تعالى[فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا].
الثامنة: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف فيه أمور:
الأول: إنه شاهد على إنتفاء العداوة بينهم.
الثاني: فيه واقية من العداوة، لكبرى كلية وهي لزوم تقيدهم بسنن المعروف التي يأمرون بها، ومصاديق الخير التي يدعون، لها قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] ( ).
الثالث: إنه من أهم مصاديق الخروج للناس.
التاسعة: يحتاج الأمر بالمعروف إلى مقدمات عقلية وشرعية، منها:
الأول: التفقه في الدين.
الثاني: التحلي بذات المعروف.
الثالث: التعاون والتآخي في الدعوة والتبليغ، وقوله تعالى(تأمرون بالمعروف) دعوة إلى نبذ الفرقة والشقاق، لمجيء الخطاب فيه بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين والمسلمات جميعاً.
العاشرة: نبذ المسلمين للعداوة فيما بينهم، وصيرورتهم إخواناً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه أمور:
الأول: إنه مرآة للخلق الكريم.
الثاني: فيه موعظة للناس.
الثالث: إنه شاهد على النفع العظيم بالإنزجار عن المنكر والقبيح.
الحادية عشرة: من صفات(خير أمة) أنس وسكن وإطمئنان بعضهم ببعض، وإجتماعهم عن الحق والهدى، وفيه حجة في إختبار المسلمين لهذه المرتبة الرفيعة، ودعوة للناس للدخول في هذه الأم، وهذا الإجتماع والألفة بين المسلمين باب للنصر والغلبة في ميادين القتال.
الثانية عشرة: تحتمل نعمة الألفة والأخوة بين المسلمين وجوهاً:
الأول: إرادة الألفة والأخوة بالذات.
الثاني: الأخوة مقدمة لأمور ومنافع عديدة.
الثالث: المعنى الأعم الجامع للوجهين أعلاه، والصحيح هو الثالث من وجوه:
الأول: الحسن الذاتي للألفة والطمأنينة والأخوة.
الثاني: ترشح الأخوة من الأخوة.
الثالث: في الآية شاهد على سلامة الصلات بين المسلمين من النفاق والرياء والفشل، وتتجلى هذه الآية السلامة بأمرين:
الأول: أمر غير ظاهر للعبادة وهو صفاء القلوب، وخلوها من الغل والبغضاء والحسد.
الثاني: أمر ظاهر للبيان وهو الأخوة ومعاني المودة والتعاضد والتعاون بين المسلمين في مرضاة الله والأخوة المسلمين برزخ دون الوقوع وإستدامة الخلاف بينهم، فوقعت بينهم الخصومة فأنه سرعان ما تزول لسلطان الأخوة كنعمة من عند الله وفي يوسف ورد في التنزيل[وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي]( )، وفيه إشارة إلى إستدامة وبقاء أخوة وتعاضد المسلمين، وأن نزغ الشيطان إذا حصر بينهم فأنه سرعان ما يتبدد وينصرف شره وأذاه.
الثالثة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الشكر لله عز وجل على نعمة صيرورتهم إخواناً، ولتكون هذه الأخوة مقدمة للأداء الأمثل والأعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ وردت الآية على الإجمال بخصوص كيفية وكم وزمان الأمر والنهي، لتكون الآية أعلاه بياناً لوحدة وتآخي المسلمين في الأمر والنهي وكون كل واحد منهما واجباً كفائياً لم يمنع من تعاون المسلمين فيهما، وتسابقهم في الريادة والأسوة في الدعوة إلى الله والأمر بالصلاح ونبذ السيئات.
الرابعة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الأخوة بين أفراد(خير أمة) نعمة ولطف من عند الله، وتحتمل الأخوة بين أفراد الأمم الأخرى وجوهاً:
الأول: وجود صلات أخوية بين أفرادها كالتي بين المسلمين لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، أي أن إخبار الآية أعلاه عن الإخوة بين المسلمين لا يعني إنعدامها عند الملل الأخرى.
الثاني: عدم وجود معاني الأخوة بين أهل الملل الأخرى للإختلاف بينهم، قال تعالى[تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( ).
الثالث: وجود أخوة بينهم ولكنها لا ترق إلى مراتب الأخوة بين المسلمين، أما الأول فلا دليل عليه لوجوه:
الأول: إنحصار الأخوة الإيمانية بالمسلمين والمسلمات.
الثاني: الأخوة بين المسلمين نعمة خص الله عز وجل بها المسلمين.
الثالث: من خصائص(خير أمة) الأخوة الإيمانية، وقد فاز بها المسلمون ويصح الوجه الثاني والثالث لتعدد الملل والجامع بينها، مع التباين في مراتب الصلات بين أفراد كل ملة بلحاظ أفراد الزمان الطولية والأحوال المختلفة وفقدان الأخوة بينهم عند الجزع والخوف والشدة مثلاً، أو الإختلاف في الغنى والفقر، وترفع الأغنياء عن الفقراء منهم، وإنتفاء هذا الترفع بين المسلمين.
ومن أسباب هذا الإنتفاء توجه الخطابات التكليفية للمسلمين على نحو الكلي المتواطئ وبعرض واحد، فيقف الفقير في الصفوف الأولى في الصلاة، والغني في الأخيرة للتسالم والرضا بمعاني الأخوة بينهم.
الخامسة عشرة: مما ينفرد به المسلمون تعاهدهم لأبهى وأسمى معاني في حال الشدة وعند مواجهة الأعداء، لأن الله عز وجل جعل نعمة الأخوة عندهم دائمة، وملكة ثابتة، وهو المستقرأ من قوله تعالى(فأصبحتم بنعمته أخوانا) لإفادة الآية الإستدامة والإستمرار وهو المستقرأ من وجوه:
الأول: لغة الإطلاق في الخطاب الإستغراقي وشموله لعموم المسلمين والمسلمات.
الثاني: مجيء الآية بصيغة الماضوية(فأصبحتم)التي تدل على الثبوت والتنجز.
الثالث: مجيء الفاء في(فأصبحتم) وما تفيده من السببية.
ومن النعم الإلهية على(خير أمة) أن النعمة عليها توليدية كما في الآية الكريمة أعلاه إذ جاءت النعم على التوالي:
الأول: زوال حال العداوة التي كان المسلمون عليها قبل دخولهم الإسلام.
الثاني: الألفة والأنس بين قلوبهم ونزع الضغائن والكدورات بينهم.
الثالث: إرتقاء المسلمين إلى حال الأخوة الإيمانية التي هي أمر جديد يشرق على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة عشرة: ورد في قصص الأمم السابقة في القرآن وقوع الإختلاف بينهم، وحصول قسوة القلوب عندهم قال تعالى[ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ]( )، بينما جاءت الآية أعلاه للإخبار عن رسوخ الألفة والطمأنينة بين المسلمين إلى يوم القيامة وهو من خصائص(خير أمة) كما أن المسلمين يسألون الله عز وجل دوام هذه النعمة , والمغفرة لهم وللأجيال السابقة من المسلمين والمسلمات , وفي التنزيل[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
السابعة عشرة: من خصائص(خير أمة) تلقي البشارة من عند الله بالتوفيق وإستدامة نعمة الأخوة التي تترشح عنها نعم متصلة ومتجددة في كل زمان كما أنها سبب لبعث الفزع في قلوب الكفار، وزاجر لهم من التعدي على المسلمين، لتكون مناسبة مباركة لأداء المسلمين وظائفهم العبادية، وتفقههم في الدين .
وهل هذه الأخوة وآثارها من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، الجواب نعم فإن الله عز وجل جعل الأخوة سلاحاً دائماً عند المسلمين ينفعهم بالذات، ويمنع عنهم الأضرار والتعدي من الغير.
الثامنة عشرة: يفيد الجمع بين قوله تعالى(فأصبحتم بنعمته إخوانا) وهذه الآية وجوهاً:
الأول: خروج المسلمين للناس بمعاني الأخوة.
الثاني: يتخذ المسلمون الأخوة بينهم سلاحاً لدفع الأذى من جهة أهل الضلالة الذين يصرون على عدم الإنتفاع التام من رحمة خروج المسلمين لهم.
الثالث: فأصبحتم بنعمته إخواناً تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وفيه نكتة عقائدية وهي أن الأخوة بين المسلمين تزيدهم قوة في الأمر والنهي، وتكون سبباً للتعاون بينهم في صلاح الناس وهدايتهم إلى سبل الخير، وتجلي هذا التعاون بتعدد كيفية السعي وطرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل المال لتحقيق مصاديق الخير، ودفع أفراد المنكر والسوء.
الرابع: فأصبحتم بنعمته أخواناً تؤمنون بالله، لتوكيد حقيقة وهي الإيمان الإستغراقي العام بالله عند المسلمين وفيه منافع كثيرة منها:
الأول: الإيمان الإستغراقي العام سبب لزيادة إيمان الفرد الواحد.
الثاني: وقاية أفراد ومصالح المسلمين من مكر وقصد الكفار لإرتداد بعضهم، قال تعالى[وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
ومن خصائص(خير أمة) إمتناع جميع أفرادها ذكوراً وأناثاً عن الإرتداد مع سعي الكفار بالمسلمين لإكراههم على ترك منازل الإيمان وللأخوة بين المسلمين موضوعية في ثبات المسلمين على الإيمان.
الثالث: جهاد المسلمين كأخوة مجتمعين في سبيل الله وعدم خشيتهم من العدو مع المائز بين الفريقين بلحاظ الإيمان عند المسلمين الذي هو مدد ذاتي، ورجاء المدد ملكوتي، والجحود عند الكفار الذي يبعث اليأس والحسرة في نفوس الكفار قبل وأثناء القتال، قال تعالى[وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( )، وأيها يحتاج المسلمون فيه الأخوة بينهم من الأحوال التالية:
الأولى: حال المسلم.
الثانية: أوان القتال ومقدماته.
الثالثة: عند كثرة المسلمين وإتساع دولتهم، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
الرابعة: حال قلة المسلمين وضعفهم كما في معركة بدر.
الجواب يحتاج المسلمون الأخوة والتعاضد بينهم في كل هذه الأحوال على نحو الضرورة وأن حصل تباين في مراتب تلك الحاجة إلا أنه لا يخرج بعضها عن حد الضرورة، لذا تفضل الله عز وجل وجعل الأخوة سمة وصفة دائمة عند المسلمين، وكل فرد منهم يفقه معاني ويتقيد بآدابها، ويحرص على تعاهدها، ويشكر الله عز وجل عليها كنعمة وسلاح في أمور الدين والدنيا.
الخامسة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الفوز بالنعيم في الآخرة وهو من صفات(خير أمة) فجعل الأخوة بينهم طريق وسلاح للفوز بالجنة بالثبات على الإيمان وإتيان الصالحات، وإحراز الحسنات، والتعاون في نيل الثواب وذات الأخوة الإيمانية فيها ثواب عظيم إلى جانب ما يترشح عنهما من النصرة والإعانة بين المسلمين، وقد ورد في الحديث: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ( ).
السادسة: توارث المسلمين الدعاء لعموم المسلمين، وهو شاهد على إعتصامهم بحبل الله وعدم تفرقهم، فيأتي الدعاء من المسلم عاماً ومطلقاً من غير إستثناء فريق أو جماعة من المسلمين، وفي التنزيل[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ]( ).
السابعة: تعاون وتعاضد المسلمين في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آمرين ومأمورين، ناهين ومنهيين من غير إستكبار أو ترفع بعضهم على بعض فالملاك هو الصلاح والإستقامة ومعالم التقوى.
صلة[وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا]بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد جهة الخطاب في الآيتين، وتوجههما لعموم المسلمين في أجيالهم المتعاقبة , وورد لفظ(كنتم) في الآيتين مع التباين في موضوعيهما، فتخبر الآية أعلاه عن حال المسلمين قبل الإسلام وأنهم كانوا في جاهلية وضلالة تقودهم إلى النار، وفيه تفسير للفظ(كنتم) الوارد في هذه الآية، وأن المراد منه إختيار وإجتباء المسلمين لمنزلة(خير أمة) في اللوح المحفوظ ومنذ الأزل لعلم الله عز وجل بأحوال الأمم والملل , وأنه تعالى يقرب المسلمين من منازل التقوى والصلاح والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية المتكاملة .
ويمنع الجمع بين الآيتين من التأويل بأن(كنتم خير أمة) أي كانوا خير أمة وأنهم بدلوا وغيروا، بل العكس هو الصحيح فلم يبدل أو يغير المسلمون بل المراد أن نجاة المسلمين من النار لأنهم(خير أمة) تنزهت أجيالها وإلى الأبد عن مفاهيم الشرك الظاهر والخفي بلطف من عند الله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثانية: بيان حقيقة وهي زوال الأحقاد والضغائن بين المسلمين.
الثالثة: يتضمن الجمع بين الآيتين الإشارة إلى حفظ وصيانة المسلمين للقرآن من التحريف والتغيير والتبديل , وهذا الحفظ من مقدمات وأسباب النجاة من النار، فالله عز وجل أنقذ المسلمين من النار بنعمة نزول القرآن، وتعاهد المسلمون هذه النعمة.
الرابعة: تبعث الآيتان السكينة في نفوس المسلمين، وتؤكدان حسن عاقبتهم، وما ينتظرهم من الثواب العظيم , وهذا الثواب ليس عن إستحقاق بل بفضل من الله عز وجل.
الخامسة: بيان قانون في الإرادة التكوينية، وهو من خصائص(خير أمة) إنقاذ الله لأفرادها من النار، وفي قوله تعالى(فأنقذكم منها) حذف لعلة وسبب ومادة الإنقاذ , وفيه وجوه:
الأول: فأنقذكم منها بفضل ولطف منه تعالى.
الثاني: لأن الله عز وجل كتب على نفسه نجاة وسلامة(خير أمة) من النار.
الثالث: خروج المسلمين للناس واقية لهم من النار لما في خروجهم من الثواب العظيم.
الرابع: فأنقذكم منها لإعتصامكم بحبل الله.
الخامس: أبى الله عز وجل إلا أن يكرم(خير أمة) بالنجاة من النار ليكون فوزهم بالمراتب العالية في الآخرة مرآة لفوزهم في الدنيا قال تعالى[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ).
السادس: فأنقذكم منها بالتوبة والإنابة.
السابع: بالجهاد في سبيل الله، ومحاربة الكفار ومنع طغيان مفاهيم الشرك في الأرض.
الثامن: بتعاهد وتلاوة آيات القرآن ومنع وقوع التحريف والتغيير فيه.
التاسع: بأداء الفرائض والواجبات العبادية.
العاشر: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تدل عليه الآية محل البحث.
الحادي عشر: بالإيمان بالله والدعوة إليه إن قوله تعالى في هذه الآية[وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] وعد كريم، ولو دار الأمر في المراد من(خير أمة) هل هو محصور في الدنيا أم يشمل الآخرة، الجواب هو الثاني، ففي الإيمان بالله إنقاذ من النار.
الثاني عشر: محاربة الفساد، قال تعالى[أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ] ( ).
الثالث عشر: من ولاية الله لخير أمة نصرتها في الحروب بمدد من عنده تعالى، وإنقاذهم من النار في الآخرة.
السادسة: توكيد حقيقة وهي إن الإنقاذ أمر بيد الله، لا يقدر عليه غيره سبحانه وهو من عمومات إنحصار الملك في الآخرة لله عز وجل، فليس من مالك سواه، قال تعالى[أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ]( ) .
وهل فيه تعارض مع الشفاعة الجواب لا، لأنها لا تكون إلا بإذن من الله عز وجل قال تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ] ( )، وفي حصر الإنقاذ من النار بالله عز وجل دعوة للناس للتدارك والتوبة والإنابة إليه سبحانه، والإنصات للقرآن وما يدعو إليه من الإيمان بالله والتصديق بنبيه، ونبذ الكفر والفسوق.
السابعة: لقد أخبرت آية(واعتصموا) عن إنقاذ المسلمين من النار، وبلحاظ ما تذهب إليه من إرادة العموم الإستغراقي في الخطاب القرآني وإرادة المسلمين والمسلمات كافة إلى يوم القيامة، ففي الآية وجوه:
الأول: ضرورة أداء العبادات، وأنها الطريق والوسيلة للإنقاذ.
الثاني: جاء الإنقاذ على نحو الإطلاق من غير تقييد بفعل مخصوص من المسلمين، ولكن التقييد ظاهر بالآيات التي تفيد وجوب العبادات .
وجاءت الآية بلفظ(الإنقاذ) وما يدل عليه بالدلالة التضمنية على المّن والرحمة من عند الله وذكرت الآية(شفا حفرة من النار) ولم تقل أنهم داخلون في النار لولا رحمة الله، ولم تقل أنهم كانوا بعيدين عنها، وفيه إعجاز من وجوه:
الأول: الرحمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: بيان موضوعية التوبة في الحياة الدنيا، فلا يكون الإنسان من أهل النار ما دام قادراً وقريباً من التوبة , لذا جاء القرآن بموضوعية الموت على الكفر في إستحقاق العذاب , قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ]( ).
الثالث: إن الله عز وجل يعلم بفوز المسلمين بالتوبة وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله.
الرابع: تحقق الإنقاذ بنزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهداية المسلمين لسبل الصلاح أسباب النجاة من النار.
الثالث: ينجو المسلمون من النار في كل الأحوال، ولأن الإنقاذ منها لطف من عند الله وأنعم الله عز وجل به على( خير أمة) .
والصحيح هو ضرورة العبادات ، لوجوه:
الأول: وجوب أداء العبادات والفرائض.
الثاني: موضوعية الإيمان وأداء الفرائض وعمل الصالحات في النجاة من النار، والسلامة من العذاب، والفوز بالثواب العظيم.
الثالث: مجي آيات قرآنية عديدة بتقييد هذا الإطلاق ببيان الواجبات والمحرمات.
الرابع: قد تقدم الكلام في الصفحة السابقة بوجود حذف في قوله تعالى(فأنقذكم منها) بعلة وأسباب هذا الإنفاذ، ومن فضل الله عز وجل أن هذه الأسباب متعددة وكثيرة.
الخامس: صحيح أن لفظ(أنقذكم) ورد بصيغة الفعل الماضي إلا أنه يتعلق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الحلال والحرام في القرآن والسنة، وإمتثال المسلمين لها .
وتقدير الآية(فأنقذكم بعملكم الصالحات) وهو من الشواهد على نيل المسلمين لمرتبة(خير أمة) لإحرازهم الإنقاذ من النار بتقيدهم بالتكاليف، وعلة خلق الناس قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثامنة: إبتدأت آية(واعتصموا) بالأمر للمسلمين بالتمسك بالقرآن والتقيد بأحكام الشريعة ثم عددت النعم الإلهية على المسلمين، ومنها البشارة والوعد الكريم بنجاتهم من النار، ليكون من خصائص(خير أمة) توالي البشارات عليهم في الآية الواحدة، وهو من أسرار تسمية الآية القرآنية بالآية والمعجز مع قلة كلماتها لما فيها من الدلالات والمضامين القدسية التي ينتفع منها المسلمون بأعدادهم التي لا يحصيها إلا الله عز وجل، فهو سبحانه جعل النعم للمسلمين والناس جميعاً مما لا تستطيع الخلائق عده وإحصاءه، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وتفضل بهذه النعم العامة والنعم الخاصة على المسلمين ليكون من خصائصهم في المقام أمور:
الأول: تعدد البشارات في الآية الواحدة.
الثاني: مجيء البشارات بلغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين والمسلمات جميعاً.
الثالث: تجدد البشارات في كل زمان ومكان.
الرابع: إقتران الوعود الكريمة، بالبشارات، لتكون الآية القرآنية نعمة عظيمة تتضمن نعماً عديدة، وتتولد عنها نعم أخرى متجددة تتصف بالسعة والمندوحة لتشمل أجيال المسلمين في أجيالهم المتعاقبة، وما يواجههم من صنوف الإبتلاء والبلاء، وهو أمر يختص به المسلمون.
التاسعة: بين قوله تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقوله تعالى(كنتم على شفا حفرة من النار) عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: كل من الآيتين خطاب للمسلمين.
الثاني: في مضامين كل من الآيتين ترغيب الناس بدخول الإسلام.
الثالث: الثناء والمدح للمسلمين.
الرابع: البشارة والوعد الكريم للمسلمين.
الخامس: مجي كل من الآيتين خطاباً إنحلالياً لكل المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: تعلق مضامين هذه الآية بالحياة الدنيا، أما الآية أعلاه فجاءت بخصوص عالم الآخرة.
الثاني: تدل هذه الآية على البشارة بالدلالة التضمنية والإلتزامية، أما الآية أعلاه فتتضمن البشارة بالدلالة الطابقية.
الثالث: الإنقاذ من النار لا ينحصر بالمؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيمشل المسلمين من الأمم السابقة من أصحاب وأتباع الأنبياء السابقين لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , وفي التنزيل[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ]( ).
أما هذه الآية فتتضمن صفة خاصة ينفرد بها المسلمون وهي أنهم (خير أمة أخرجت للناس).
الرابع: جاء الثناء للمسلمين في هذه الآية صريحاً وجلياً لإجتبائهم من عند الله لأفضل المنازل أما آية السياق فتتضمن الثناء على المسلمين في مفهومها.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة أهل الكتاب لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مصاديق الخير لهم إنقاذهم من النار.
الحادية عشرة: إنذار الفاسقين والكافرين من سوء العاقبة بدخول النار.
الثانية عشرة: وردت الآية بنسبة الإنقاذ إلى الله عز وجل لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في الدنيا والآخرة.
الثالثة عشرة: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة النجاة من النار، والبشارة بهذه النجاة في هذه الآية، ومن خصائص(خير أمة)أن هذه البشارة لم تطرد بهم إلى التفريط في العبادات والمناسك، بل تجعلهم يبذلون الوسع في أداء الوظائف العبادية وصيغ إصلاح الناس وجذبهم لمنازل الإيمان، لذا ذكرت هذه الآية صفة دائمة للمسلمين بقوله تعالى(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
الرابعة عشرة: حث المسلمين على الدعاء والتضرع إلى الله بالسلامة والأمن من النار , وهذا الدعاء مصداق لنيل المسلمين مرتبة(خير أمة) وهو في مفهومه وأثره دعوة للمعروف وزجر عن المنكر وفي التنزيل[آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الخامسة عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين إستحضار(خير أمة) لعالم الآخرة، وإقرارهم بأن الجنة حق، والنار حق، ومن مصاديق خروج المسلمين للناس أمور:
الأول: التذكير بعالم الحساب والجزاء.
الثاني: الدعوة للتدبر في اليوم الآخر وما فيه من الثواب العظيم على فعل الصالحات.
الثالث: التحذير من سوء العاقبة يوم القيامة، والعقاب الأليم على إرتكاب السيئات.
صلة(كذلك يبين الله لكم آياته) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاء(كذلك) للتشبيه والإشارة للتعدد والكثرة في الآيات، وهي بلحاظ هذه الآية على وجوه:
الأول: إخبار هذه الآية عن حال الرفعة التي فاز بها المسلون.
الثاني: التحدي القرآني بأن المسلمين(خير أمة).
الثالث: إخبار الآية عن كون المسلمين(خير أمة) وعد كريم.
الرابع: إنفراد المسلمين بصفة (خير أمة) آية إعجازية وجاء التفضيل في القرآن خال ومنزه عن التزاحم والتعارض بين آياته، فان الجمع بين تفضيل بني إسرائيل، وإجتباء المسلمين لمقامات (خير أمة) يفيد إنقطاع تفضيلهم بنسخ الإسلام للشرائع، ووجوب دخول الإسلام وتجدد التفضيل لبني إسرائيل به.
الخامس: خروج المسلمين للناس آية من عند الله من جهات:
الأولى: تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول: خير أمة يخرجون للناس.
الثاني: أهل الكتاب والكفار الذين يخرج لهم المسلمون.
الثانية: إن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم فبعد بعثة الأنبياء، ونزول الكتب السماوية، تفضل الله عز وجل بخروج المسلمين في كل زمان للناس.
الثالثة: موضوع الخروج وهو الصلاح والتقوى، أصلاً وفرعاً.
الرابعة: المدد الإلهي للمسلمين في خروجهم للناس , فحينما أخرج الله عز وجل المسلمين دعاة إلى الحق والهدى تفضل وأمدهم بأسباب التوفيق، وهل منها المدد الملكوتي يوم بدر وأحد وحنين وقوله تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، الجواب نعم بلحاظ أمور:
الأول: أنه عون في الخروج للناس.
الثاني: الظفر على الكفار.
الثالث: إنه سبب لإستدامة الإيمان وذكر الله في الأرض.
الرابع: مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: مصاحبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناس في الحياة الدنيا إلى يوم القيامة فلا يغادران الأرض أبداً وفيه وجوه:
الأول: إنه من بركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: فيه دليل على حاجة أهل الأرض للإسلام ونزول القرآن.
الثالث: إنه مصداق دائم لكون المسلمين(خير أمة).
الرابع: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسائل:
الأولى: إنه مقدمة لإستدامة عبادة الله في الأرض.
الثانية: إنه سبب لبقاء الحياة الدنيا.
الثالثة: إنه بذاته عبادة وطاعة لله، وحصانة من سطوة الظالمين، وفي التنزيل[فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ]( ).
السابع: عدم تسرب اليأس والقنوط لنفوس المسلمين في جهادهم في سبل الأمر بالمعروف والنهي المنكر.
الثامن: إيمان المسلمين بالله عز وجل وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقرارهم باليوم الآخر.
التاسع: جهاد وصبر المسلمين في الدعوة إلى الله.
العاشر: تقسيم أهل الكتاب إلى قسمين مؤمنين وفاسقين مع التفصيل ببيان طرف الكثرة منهم وأن أكثرهم متلبسون بالفسق.
المسألة الثانية: لقد جاء في إنذار الكفار قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، بصيغة المضارع القريب الذي تدل عليه السين في(سنريهم) بينما جاءت آية(واعتصموا) بذكر فضل الله عز وجل على المسلمين ببيان الآيات لهم، وفي هذا البيان أمور:
الأول: إكرام وتشريف المسلمين.
الثاني: إختصاص المسلمين ببيان الآيات في القرآن، وإشتراكهم مع الناس جميعاً في تجلي الآيات الكونية والبراهين في الخلق والنفوس والأبدان التي تدل على وجود الصانع، ولزوم عبادته.
الثالث: كثرة وتجدد وإتصال الآيات التي يبينها الله للمسلمين، والذي يدل عليه حرف التشبيه في (كذلك يبين الله لكم آياته).
الرابع: بيان الآيات نعمة عظيمة على الناس عامة، وعلى(خير أمة) خاصة.
الخامس: دعوة المسلمين لتعاهد الآيات والتدبر في معانيها ودلالاتها، وعدم التفريط بها أو نسيانها.
السادس: حث المسلمين على التطلع للآيات وإنتظارها وحفظها وتوثيقها، وعدم تضييعها.
السابع: إتخاذ المسلمين الآيات التي يتفضل بها الله وسيلة وسلاحاً لدعوة الناس للإسلام، ونبذ الكفر والضلالة.
الثامن: لما تفضل الله عز وجل وإجتبى المسلمين لمنزلة (خير أمة) فإنه سبحانه أنعم عليهم بتوالي الآيات والبراهين الدالة على ربوبيته والتي تجعلهم يتعاهدون هذه المنزلة الرفيعة.
التاسع: من الآيات البينات معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن قيل لماذا تأتي المعجزات للمسلمين بعد إسلامهم وهم لا يحتاجون الحجة عليهم، الجواب من وجوه:
الأول: المعجزات فضل من عند الله، وتأتي إبتداء لذا قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ].
الثاني: الآيات البينات لطف ورحمة من عند الله ينتفع الناس جميعاً منها، وهي بذاتها دعوة للتدبر فيها.
الثالث: جاء آية (واعتصموا) بذكر علة بيان الآيات بقوله تعالى(لعلكم تهتدون) مع تعدد مواضيع الهداية، ومنها:
الأول: الإرتقاء في مراتب الإيمان.
الثاني:التفقه في أمور الدين والدنيا.
الثالث: الفوز برضا الله.
الرابع: التنعم بالبشارة بالثواب العظيم , قال تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابع: توالي الآيات وسيلة مباركة لتنمية ملكة التقوى عند المسلمين.
الخامس: من خصائص(خير أمة) تتابع الآيات عليهم.
السادس: ترغيب الناس بدخول الإسلام، فصحيح أن الآيات جاءت للمسلمين ولكنها أعم في جهتها من وجوه:
الأول: ليس من حاجب أو برزخ لمنع الناس من دخول الإسلام.
الثاني: تدعو الآيات لتدبر الناس في معانيها ودلالاتها.
الثالث: ليس من ملازمة بين دخول الإسلام وبين التدبر في الآيات، فقد يكون التدبر مقدمة لدخول الإسلام.
السابع: كل آية ومعجزة نعمة من عند الله.
الثامن: في توالي الآيات شهادة للمسلمين على الناس بإقامة الحجة عليهم , قال تعالى[شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
التاسع: من الآيات ما هو مصاحب للإنسان مطلقاً، ومنها ما هو ملازم للمسلمين خاصة.
ويمكن أن نسمي الحياة الدنيا(دار الآيات) من وجوه:
الأول: كل شيء فيها آية من عند الله.
الثاني: بلوغ الآيات لكل إنسان.
الثالث: عدم إنقطاع الآيات عن الإنسان سواء كان مؤمناً أو كافراً، كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى.
الثالث: أبى الله إلا أن يرحم الناس جميعاً، ومن مصاديق الرحمة الإلهية توالي الآيات على الناس عامة.
الرابع: الآيات والمعجزات حجة على الناس، وفي التنزيل[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامس: لقد جعل الله عز وجل العبادة علة خلق الإنسان، وتفضل بالآيات البينات في السماء والأرض وما بينهما وتكون على وجوه:
الأول: وسيلة للجذب للعبادة.
الثاني: مقدمة للعبادة وطاعة الله ورسوله، قال تعالى[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالث: صيرورة لتكون الآيات لطفاً محضاً من عند الله بالعباد عامة.
الرابع: الآيات الكونية وسيلة لدخول الناس في (خير أمة) وإكتنازهم الحسنات، ونيل الثواب العظيم في الآخرة.
المسألة الثالثة: إقرار (خير أمة) بأنه لا يقدر على الآيات وبيانها إلا الله عز وجل.
المسألة الرابعة: لابد من وجود أمة تتصف بأمور:
الأول: الإيمان بالآيات وتصديقها.
الثاني: المنع من طرو التحريف والتغيير في الآيات.
الثالث: النهي عن الإستخفاف بالآيات.
فجعل الله عز وجل المسلمين (خير أمة) لتقوم بما يأتي:
الأول: تلقي الآيات التي يتفضل الله عز وجل ببيانها بالتسليم والتصديق.
الثاني: تبليغ الآيات للناس، وتذكيرهم بها، وطرد الغفلة عنهم.
الثالث: جعل المسلمين الآيات موضوعاً ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: بيان الآيات عون للمسلمين في سلاح الصبر وميادين الجهاد في سبيل الله لما فيه من ترسيخ لملكة الإيمان.
المسألة الخامسة: تقدير جمع هذا الشطر مع هذه الآية على وجهين:
الأول:كنتم خير أمة يبين الله لكم آياته.
الثاني:كنتم خير أمة لعلكم تهتدون.
المسألة السادسة: من خصائص (خير أمة) أنهم لم يخرجوا للناس إلا بعد أن بيّن الله عز وجل لهم الآيات، وأظهر لهم الدلالات التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عنده تعالى، وفيه مسائل:
الأولى: طرد الشك والريب من النفوس.
الثانية: بعث السكينة في النفوس.
الثالثة: جعل الناس يميلون للمسلمين في دعوتهم إلى الله، وفي التنزيل [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
المسألة السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الآيات والمعجزات لم تنته بانقطاع النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتنزيل بالقرآن بل تتوالى الآيات على (خير أمة) وعلى الناس لتكون على وجوه:
الأول: تذكير بالنبوة والتنزيل.
الثاني: مرآة لهما.
الثالث: كل آية من القرآن بيان لآيات الله، وحكاية سماوية عنها.
المسألة الثامنة: في بيان الآيات أمور:
الأول: إصلاح المسلمين لمنزلة (خير أمة).
الثاني: انه وسيلة سماوية مباركة للتفقه في الدين.
الثالث: معرفة المسلمين والمسلمات لمصاديق المعروف، وهل يحتمل كون المعرفة على نحو الموجبة الجزئية، كما لو كانت خاصة بالعلماء منهم الجواب لا، من وجوه:
الأول: ذكرت الآية بيان الآيات بلغة الإطلاق (آياته).
الثاني: جاء الخطاب القرآني بصيغة العموم الإستغراقي(يبين الله لكم) وذكر جمع الذكور في الآية، مع إرادة التغليب، وهو شامل للرجال والنساء من المسلمين إلى يوم القيامة.
الثالث: إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
الرابع: تفضل الله وجعل القرآن بياناً لكل شئ، قال سبحانه [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومن البيان في المقام:
الأول: المسلمون (خير أمة أخرجت للناس).
الثاني: التبيان الذاتي في آيات القرآن.
الثالث: ذكر الآيات الباهرات التي تدل على الوحدانية، وتؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: بيان أحوال الأمم السابقة، وذكر قصصهم بصيغ العبرة والموعظة، قال تعالى[وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]( ).
المسألة التاسعة: لقد أنعم الله عز وجل على الأنبياء بسلاح الدعاء ليكون على وجوه:
الأول: تركه إرثاً لخير أمة.
الثاني: يكون صبغة للمسلمين، (وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السموات والأرضين).
الثالث: إنه كنز ينهل منه المسلمون لحاجات الدنيا والآخرة.
الرابع: الدعاء سر من أسرار إجتباء المسلمين لهذه المنزلة الرفيعة ليتوجهوا إلى الله بالدعاء بتوالي البينات والدلالات والمعجزات من عند الله عز وجل.
فان قلت: المعجزة مصاحبة للنبوة، وانقطعت النبوة بانتقال النبي إلى الرفيق الأعلى, والجواب من وجوه:
الأول: لقد جعل الله عز وجل معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية توليدية متجددة، فكل آية من القرآن كنز تستخرج منه الدرر العلمية والعقائدية والفقهية, ومنها أمور:
الأول: إكتناز الصالحات.
الثاني: الإحتراز من النار.
الثالث: بلوغ مراتب الخلود في الجنة.
الثاني: وجود(خير أمة) في كل زمان، تحيي سنن النبوة، وتدعو إليها.
الثالث: إستمرار وتوالي وتجدد الآيات الكونية.
المسألة العاشرة: ورد اسم الإشارة(كذلك) مائة وخمساً وعشرين مرة في القرآن وورد في سورة البقرة عشر مرات ، أربعة منها بلفظ(كذلك يبين الله لكم)( )، وورد ثلاث مرات في سورة آل عمران جاء بلفظ(كذلك يبين الله) في هذه الآية فقط، وسورة البقرة وآل عمران مدنيتان , وفيه وجوه:
الأول: أنه من الشواهد على بيان السور المدنية للأحكام والسنن.
الثاني: تثبيت السور المدنية لقواعد الشريعة.
الثالث: بعث المسلمين على التفقه في الدين.
الرابع: دعوة الناس إلى التدبر في الآيات البيانية، وما فيها من الإعجاز.
الخامس: مع قلة كلمات الآية القرآنية فإنها تتضمن الشمول والإستغراق للوقائع والأحداث الخاصة بموضوعها وأحكامها.
السادس: ملأ نفوس الكفار باليأس والقنوط، وجعلهم يدركون تخلفهم عن إلحاق الضرر بالإسلام والمسلمين، وبلحاظ أن الآيتين مدنيتان لأن سورة آل عمران مدنية، وفيها بيان لعلوم من القرآن وأسرار تنزيله وحفظه من وجوه:
الأول: عناية المسلمين بتفاصيل نزول القرآن.
الثاني: المشهور والمختار في تقسيم السور إلى مكية ومدنية هو أن ما نزل من الآيات والسور قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مكي، وما نزل بعدها مدني وإن إتفق نزوله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة كما في حجة الوداع.
ولم تنحصر موضوعية ومنافع هذا التقسيم بأفراد الزمان وأسباب التنزيل فلأوان كل آية أسرار ومضامين قدسية، وتقتبس منه دلالات كلامية وعقائدية تؤكد أن المسلمين(خير أمة) وأنهم يتعاهدون حفظ القرآن في رسمه وأوان وأسباب نزوله.
وجاء التشبيه في قوله تعالى(كذلك يبين الله لكم آياته) خطاباً (لخير أمة) فلابد أنها تنتفع من هذا التشبيه أقصى درجات الإنتفاع وتتولى إستنباط وإستظهار بيان الآيات في القرآن بذاته وكونه مرآة للآيات الكونية، وإماماً في الأحكام والسنن.
ومن الآيات في المقام أن لفظ(يبين) يقترن باسم الإشارة(كذلك) في الآيات المدنية، أما إذا كانت الآية مكية فإن الفعل(نجزي) يقترن بها كما في قوله تعالى[كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ] ( ) و[كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ]( ).
ومن خصائص السور المدنية الإنذار والتخويف والوعيد للكفار والظالمين، كما ورد في الترغيب بالإيمان في قوله تعالى[كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ] الوارد في سورة الأعراف( ) وهي مكية أيضاً، وجاء الجزاء هنا للأنبياء من ذرية إبراهيم وفيه تثبيت لإيمان من دخل الإسلام، وترغيب للناس بالإسلام، أي أن السور المكية لم تكن محصورة في موضوعها بالإنذار والوعيد بل تتضمن البشارة والوعد الكريم بالجزاء وهو عون وسلاح متجدد بأيدي(خير أمة) ويتجلى في تلاوة هذه الآيات، ومن وجوه:
الأول: إتخاذه التلاوة وسيلة للتبليغ.
الثاني: التلاوة حجة على الكفار والمنافقين.
الثالث: التلاوة مادة للصبر وتحمل الأذى في جنب الله.
الرابع: رجاء الثواب العظيم والسلامة والأمن الدائم في الآخرة , قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
صلة(لعلكم تهتدون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لما أخبرت الآية محل البحث عن كون المسلمين(خير أمة) جاءت الآية أعلاه بحثهم على الهداية والتقوى، وفيه إشارة إلى أن إجتباء المسلمين فضل من عند الله.
الثانية: جاء الآية أعلاه ببيان رجاء الهداية للمسلمين، وتحتمل(الهداية) فيه وجوهاً:
الأول: طلب الهدى والرشاد بذاته، قال تعالى[وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ]( ).
الثاني: الهداية إلى الصلاح وسبل الخير، ففي الآية حذف لمتعلق الهداية.
الثالث: إرادة المعنى الأعم الشامل للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: تعدد معاني الهدى.
الثالث: مجيء الهداية في خاتمة الآية وذكرها كمعلول للمتعدد من فضل الله.
الرابع: وجود آيات قرآنية تبين متعلق وموضوع الهداية، وأن الآيات يفسر بعضها بعضاً ويبين الجمع الآيتين وجوهاً من متعلق الهداية منها:
الأول: لعلكم تهتدون أنكم(خير أمة).
الثاني: لعلكم تهتدون لوظائفكم العقائدية في خروجكم للناس، لأن هذا الخروج مقيد بكون المسلمين(خير أمة).
الثالث: تهتدون بأن خروجكم لأنفسكم وللناس جميعاً وبقيد الصلاح والتقوى.
الرابع: تهتدون للقيام بالأمر بالمعروف.
الخامس: تهتدون في أوان وكيفية الأمر بالمعروف.
السادس: تهتدون للمواظبة على النهي عن المنكر، وتعاهد زجر الناس عن السيئات والقبائح.
السابع: تهتدون لسبل الإيمان والسلامة في الدنيا، قال تعالى[وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ]( )، والفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع، ومن معاني الهداية في الآية أعلاه أمور:
الأول: السعي في أطراف الأرض، وبلوغ الأمصار.
الثاني: عمارة الأرض بالزراعات والتجارات.
الثالث: الهداية إلى سبل التقوى والصلاح.
الرابع: إرادة الجامع المشترك كما في السعي والإنتقال في أطراف الأرض لأمور:
الأول: نشر أحكام الإسلام.
الثاني: جذب الناس للإيمان.
الثالث: أداء الفرائض العبادية، كما في فريضة الحج، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
الخامس: توكيد حقيقة وهي أن القرآن أمن وسلامة من الضلالة، لأن إرشاد المسلمين إلى سبل الهداية يدل في مفهومه على النجاة من الضلالة قال تعالى[وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( )، وصحيح أن الهداية وردت في الآية بحرف الترجي(لعل) إلا أنه رحمة وبرزخ دون الضلالة، وغلق لأبوابها عن المسلمين ليكون هذا الغلق مقدمة ومرآة لغلق أبواب النيران عن المسلمين لفضل الله عليهم بالهداية.
السادس: بيان أهلية المسلمين لتعاهد منزلة(خير أمة) والمائز بينهم وبين الأمم السابقة التي أتتهم الآيات والمعجزات وأسباب الهداية ولكنهم إختاروا الضلالة، قال تعالى[وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى]( ).
السابع: حث المسلمين على الإهتداء لإمامة الناس في الصالحات والتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
الثامن: تأديب المسلمين في مسالك التوكل على الله، واللجوء إليه، قال تعالى[وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
المسألة الثالثة: لقد أختتمت الآية محل البحث بالتفصيل في أحوال أهل الكتاب وأن منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون، وجاء قوله تعالى(لعلكم تهتدون) لأمور:
الأول: معرفة أسباب هذا التفصيل والإنقسام في أهل الكتاب.
الثاني: الإتعاظ والإعتبار من التباين بين أهل الكتاب في موضوع الإيمان.
الثالث: هداية وإرشاد المسلمين لسبل الإحتراز من أهل الشك والريب والذين أبو إلا المعصية والخروج عن سبل الطاعة.
الرابع: في ثبات المسلمين على الإيمان وتمسكهم بالكتاب والسنة أمور:
الأول: إنه حجة على الناس.
الثاني: فيه بيان لمنافع الهداية.
الثالث: سبب للنفرة من الفسق والفجور.
الخامس: تعاهد المسلمين لمنازل(خير أمة) وسنن الإتحاد والألفة وعدم الفرقة بينهم ترغيب لأهل الكتاب وغيرهم بالإسلام لما فيه من القوة والمنعة التي تترشح بلحاظ الجمع بين الآيتين عن أمور:
الأول: الوحدة والإتحاد بين المسلمين في مضامين الإيمان.
الثاني: تقيد المسلمين بالعمل بأحكام القرآن، فبعدم خروجهم عن القرآن خرجوا للناس، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثالث: المواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقية من الفرقة والتشتت.
المسألة الرابعة: يفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين إنذار الفاسقين من أهل الكتاب، فإذا كان المسلمون ومع إجتبائهم لمنازل(خير أمة)وصيرورتهم إخواناً يأتي ذكر هدايتهم بصيغة الرجاء ولفظ(لعلكم تهتدون) فإن الفاسقين لن يجدوا الهداية إلا بإتباع النبوة والتقيد بأحكام الشريعة.
المسألة الخامسة: بيان جهاد المسلمين في عباداتهم بين الناس، ووجود الفاسقين والضلال الذين أظهروا الإستخفاف والإستهزاء بالمؤمنين، فواجهوهم بالصبر والإحتجاج بآيات القرآن وإستحضار المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإستحضار للذات والغير، فهو من عمومات الهداية التي أرادها الله عز وجل للمسلمين وتقدير الآية(لعلكم تهتدون بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
ولتكون المعجزات العقلية والحسية من مصاديق حبل الله الذي يتمسكون به بتصديق تلك المعجزات وإتباع المبعوث بها.
وهو للغير بأن تكون دعوة للناس لدخول الإسلام، وواقية من الشك والريب والمغالطات وأسباب الحسد.
بحث كلامي عقائدي
لقد رزق الله عز وجل المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو الإنطباق إذ يتحصل بالإمتثال في واجبات ومستحبات عبادية أخرى، وفيه وجوه:
الأول: تلك آية إختص الله بها(خير أمة).
الثاني: إنها شاهد إتصاف المسلمين بالإمامة للناس في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: عدم مغادرة المسلمين لميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى يوم القيامة.
فالصلاة مثلاً واجب يومي على كل مكلف من المسلمين والمسلمات، وأداء المكلف الفريضة اليومية مدرسة مستقلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح للنفوس والمجتمعات.
ويتلو المسلم الآية محل البحث، وفيها وجوه:
الأول: إنها دعوة لنبذ الفسوق.
الثاني: الإنذار من المعاصي والجحود.
الثالث: الترغيب بالكف عن الفسق والمعصية، لما فيها من الثناء والمدح للمسلمين للتنزههم من الفسوق وإخبارها بأنهم (خير أمة).
الرابع: براءة المسلمين من الحسد والرياء، إذ أنهم يتلون الآيات للبشارة والإنذار، ويتعاهدون التنزيل بالتلاوة الواجبة والمستحبة طاعة لله، ودعوة للناس للفوز في النشأتين.
الخامس: في تلاوة المصلي آيات القرآن التي تتضمن في منطوقها ومفهومها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور:
الأول: ترك المراء والجدال في هذا الباب.
الثاني: إبتعاد عن نزغ الشيطان.
الثالث: الإمتناع عن الهوى وإتباعه.
الرابع: المندوحة للمستمع والسامع بأن يتدبر في دلالات ومضامين الآيات القدسية، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته) ( ).
السادس: تجلي معاني الزهد والتواضع عند المسلمين، وبراءتهم من الإستكبار إذ أنهم يدعون الناس إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أثناء وقوفهم خاشعين خاضعين بين يدي الله عز وجل، وعلى نحو التكرار اليومي، وفيه أمور:
الأول: براءة الذمة.
الثاني: تحصيل أدنى الواجب.
الثالث: تذكير الناس بوظائفهم العبادية، (وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).
السابع: تلاوة آيات القرآن في الصلاة تعاهد لصرح الأخلاق الحميدة الذي بناه الأنبياء وأتمه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسنته وسيرته وأمته، وهو من مصاديق قوله تعالى(كنتم خير أمة)من وجوه:
الأول: تعاهد المسلمين الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة.
الثاني تلاوة المسلمين الآيات التي تبعث على الصلاح وتهذيب عالم الأفعال.
الثالث: تنقيح اللسان من الزلل والخطأ.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثت لأتمم الأخلاق، وقد عرّف علم المنطق بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر.
ولو تأملت في آيات القرآن لوجدت كل آية منه آلة سماوية وقانوناً وقواعد كلية تنطبق على جزئيات غير متناهية، لينتقل معها الإنسان من الحوادث والصور التي تحكيها الآية القرآنية والتي ترتسم في الذهن منها إلى الأمور الغائبة، سواء كانت في الماضي أو الحاضر أو المستقبل وإستنباط الدروس والمواعظ والعبر منها، كما أنها تؤثر في ذات السلوك طوعاً أو قهراً، وهو من خصائص تلاوة الآية القرآنية على نحو التكرار والتعدد في اليوم الواحد.
ومن الآيات في المقام أن المسلمين متحدين ومتفرقين لا يملون من تلاوة ذات الآية القرآنية وإن أكثروا من تلاوتها، ويتجلى الأمر بقراءة المسلم والمسلمة سورة الفاتحة كل يوم عشر مرات على الأقل، وفي كل مرة يتجلى النفع من وجوه:
الأول: التدبر في مضامينها ومعانيها القدسية.
الثاني: اتخاذها ضياء ونوراً يهتدى به في دروب الدنيا.
الثالث: إنها واقية من الفتن والاغواء والافتتان.
وجاء الترغيب في الإستماع للقرآن لأنه مقدمة للتدبر في معانيه، وتحصيل النفع الأمثل منه[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وفيه إشارة إلى نزول الرحمة على من يسمع القرآن بقصد الإنصات له.
ولا تختص هذه الرحمة بالمسلمين من دون الناس، بل هي عامة ولكنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وكثيرة هي الشواهد التي تؤكد إستماع أفراد إلى القرآن ودخول الايمان في قلوبهم، على نحو دفعي، ومبادرتهم إلى دخول الإسلام بلطف من عند الله.
ولقد رزق الله عز وجل المسلمين سلاح التلاوة ليكون على وجوه:
الأول: مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: وسيلة لنشر مفاهيم الصلاح في الأرض.
الثالث: إكتناز الحسنات التي تترشح عن ذات التلاوة، وآثارها ومنافعها الخاصة بالتالي والشاملة لغيره.
الرابع: سلاح التلاوة مناسب لأسباب التقية والإحتراز من الكفار.
الخامس: بيان قبح الكفر والظلم بصريح آيات القرآن.
وتتضمن التلاوة الواجبة توبيخ الكفار والظالمين وحثهم على هجران الكفر والعتو والجور مع أن الخطاب في الآية القرآنية نزل قبل زمانهم، ويتضمن موضوعه أمماً أخرى، ولكنها وحدة الموضوع في تنقيح المناط، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، لتكون(خير أمة) على وجوه:
الأول: المسلمون جنود في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: طلب الأمر والنهي بواسطة التلاوة.
الثالث: إيصال مضامينهما إلى القريب والبعيد بآيات القرآن وقصصه وأمثاله قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بلغة العموم التي يدل عليها لفظ(الناس) الشامل للمسلمين وأهل الكتاب والكفار، مما يدل على بلوغ أمثال وحكم القرآن للناس جميعاً ويتجلى بأبهى وأوسع وجوهه بأمور:
الأول: تلاوة المسلمين لآيات القرآن.
الثاني: تعاهد المسلمين التلاوة.
الثالث: إتخاذها حجة وبرهاناً.
الرابع: التلاوة مادة للإحتجاج.
الخامس: في التلاوة نفي للشك والريب في باب التوحيد ووجوب العبادات، وكل أمر من الأمور أعلاه مقدمة وفرد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تختص به(خير أمة) ومن مصاديق خروج المسلمين للناس بأسباب الهداية والرشاد.
بحث أصولي
الأمر مركب من مادة وهيئة، والمادة هي النسبة الباعثية وتكون بصيغة (إفعل)، وقد تأتي بلغة الماضي أو المضارع وهي موضوعة بالوضع الشخصي، ويكون المأمور مبعوثاً للفعل، أما الهيئة فهي موضوع نسبة هذه المبعوثية وجاءت للنسبة والإضافة وعنواناً للمحاورة والبيان لأنها فرد للمعنى الحرفي للصيغة والمادة، وهل يشترط العلو من الآمر عندما يقوم بالأمر أم لا يشترط، فيه وجوه:
الأول: موضوعية العلو: فلا بد أن يصدر الأمر من العالي إلى الداني.
الثاني: عدم موضوعية العلو: فلا يشترط أن يكون الآمر هو الأعلى مرتبة فيصح أن يأتي الأمر من المساوي، ومن الأدنى إلى الأعلى.
الثالث: صدور الأمر من العالي إلى الداني حقيقة، ومن الداني إلى العالي مجازاً ويحتاج إلى قرينة ومؤونة زائدة.
الرابع: إعتبار الإستعلاء بالإضافة إلى العلو، أي أن العالي إذا أصدر أمراً خالياً من الأمارات التي تدل على الإستعلاء فإنه يحمل على الطلب والسؤال، ومن الأمارات والقرائن على الإستعلاء التشديد، التوكيد، التخويف، بيان مقام الصدور وما فيه من العلو بالنسبة للمأمور.
الخامس: إعتبار العلو وحده على نحو التسالم بين الطرفين الآمر والمأمور دون الإستعلاء، فيأتي الطلب من العالي بصيغة الرجاء والندب والحث.
السادس: التفصيل والتعدد بإعتبار الإستعلاء أحياناً، بلحاظ الحاجة والموضوع وإن كان بين ذات الآمر والمأمور مع إتحاد الموضوع والصيغة أو إختلافه، فقد يكتفي بالقرائن التي تدل على العلو.
السابع: التدرج في لغة الأمر وما يقترن بها من الإضافات وهذا التدرج متعدد، تارة يبدأ من المراتب الجامعة للعلو والإستعلاء إلى الإستعلاء وحده، ثم الرجاء، وتارة بالعكس بأن يبدأ فيكون.
فيكون الأمر على مراتب:
الأول: الرجاء والترتيب.
الثاني: إعتبار العلو.
الثالث: إعتبار الإستعلاء.
الرابع: إعتبار العلو والإستعلاء معاً.
وهذه المراتب من الكلي المشكك فقد تكون بالإشارة أو القول أو الفعل.
وهل ينحصر هذا الترتيب في حال تكرار الأمر أم أنه يشمل المرة الواحدة من الأمر الجواب هو الثاني مع إمكان حصوله في المرة الواحدة، ولو بالإشارة ونحوها.
التاسع: إعتبار الإستعلاء حتى مع إنعدام مرجحات العلو، كما لو طلب المساوي من مثله ولكن بصيغة الإستعلاء.
ومن الإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية شمول الوجوه أعلاه في الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير، والنهي عن المنكر.
والمسلم وإن كان هو الأدنى في رتبة أو جاه أو مال فانه الأعلى في إنتمائه للإسلام وفي أحكام الأمر بالمعروف لأن العلو يترشح من موضوع المعروف والندب إليه.
وقد يستهجن العقلاء صدور الأمر من الداني إلى العالي، ويعتبرون إستعلاءه مخالفاً للواقع والعرف، وفي المقام وجوه:
الأول: الإنتساب إلى(خير أمة) مصداق للعلو والرفعة.
الثاني: مايترشح من ذات ومواضيع ومضامين المعروف والنهي من معاني العلو والصدق وموافقتها للعقل والوجدان.
الثالث: مجئ الأمر الإلهي والحث على الأمر بالمعروف في هاتين الآيتين شاهد على أهلية المسلمين للأمر والنهي.
الرابع: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس: الإمتثال للأمر الإلهي نوع علو.
السادس: حضور وطرو أمور ذات أهمية وخصوصية في المقام تجعل الأمر لا ينحصر بالعلو والإستعلاء وعدمهما، من جهات:
الأولى: السعي لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
الثانية: موافقة المعروف للفطرة وإدراك العقل، ونفرة النفوس من المنكر.
الثالثة: رجاء الثواب والأجر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابع: إتيان المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو متعدد من وجوه:
الأول: الواجب العيني للمكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الواجب الكفائي بقيام فرد أو جماعة من المسلمين بها.
الثالث: الواجب النوعي الذي لا يسقط إلا بقيام الأمة به، وهو من مصاديق توجه الخطاب التكليفي في الآيتين للمسلمين.
وفي تعدد هذه الوجوه أمور:
الأول: تعضيد للمسلمين في وظائف الأمر والنهي.
الثاني: تفقه المسلمين في الدين.
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام لما فيه من معاني العزة والمنعة.
الرابع: إنه عون في ترتب الأثر عليه في الخارج بما يفيد أموراً:
الأول: إفشاء الإصلاح وبعث السكينة في النفوس.
الثاني: إزاحة الرذائل.
الثالث: التنزه عن الفواحش.