معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 82

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي تفضل بالتنزيل، وجعله رحمة للعالمين، وآية للخلائق أجمعين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
لقد أنعم الله علينا وعلى الناس بآيات القرآن ذخيرة في الدنيا والآخرة، وكنزاً للعلوم في مختلف الميادين، ومدرسة لأجيال المسلمين، وللناس جميعاً، فليس من برزخ أو حاجز يحول دون الإنتفاع العام من القرآن، فهو مائدة السماء الدائمة وحبل الله النازل من السماء، والشجرة العقائدية التي تصل أغصانها الى كل مكان في الأرض، وبميسور كل إنسان التفيء بضلالها مسلماً كان أو غير مسلم، فكما جعل الله عز وجل الأصل في الأشياء الإباحة، فانه سبحانه أباح للناس جميعاً سماع كلامه، والتدبر في معانيه، واتخاذه وسيلة للنجاة في النشأتين.
وتضمنت الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة آل عمران، وهي أول آية من الآيتين اللتين جاء هذا الجزء خاصاً بتفسيرهما أمرين متضادين في موضوع واحد بلحاظ التباين في جهة الخطاب والمفهوم، وهما:
الأول: البشارة للمسلمين بدفع الضرر القادم من الفاسقين، مع وصول أمر جزئي يسير منه ليكون شاهداً وحجة وسبباً لشكر المسلمين لله عز وجل وإحترازهم من الكيد والمكر خصوصاً وان أحكام الآية لا تنحصر بأيام التنزيل بل هي مستديمة باقية ومصاحبة للأجيال المتعاقبة من المسلمين.
ويبدأ هذا الجزء بتفسير قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] وفيه إرادة الزمن المستقبل وإستغراق البشارة بدفع الضرر عن عموم المسلمين الى يوم القيامة، ولا يمكن أن يتم هذا الدفع المستديم لوجوه الضرر الا بإعجاز وعناية ولطف من عند الله تعالى، ولا يقدر على عمل هذا الفعل والإنعام به الا الله تعالى، وفيه دعوة للتوقي من الضرر والكيد بدخول الإسلام.
وتتجلى أشد مصاديق الضرر بالقتال والحرب لما فيه من زهوق الأرواح، والخسارة في الأموال، وتعطيل الصناعات والزراعات، فجاءت الآية بالبشارة بهزيمة أعداء الإسلام مما يدل على قلة وقوع المعارك التي يخوضها المسلمون بعد الفتوحات ونزول هذه الآية مع تحقق الغايات السامية من الدعوة وتعظيم شعائر الله.
وجاء تفسير الآية الثانية التي يتضمنها هذا الجزء ببيان مضامين ووجوه الإبتلاء والأذى الذي يلحق بالذين يعتدون على المسلمين، وإستصحاب شطر منه بسبب إصرارهم على الجحود والعناد، ليكون الإخبار عن حال الذلة والمسكنة التي يلاقون سياحة في احوال الأمم، ودرساً وموعظة للمسلمين، وعوناً لهم في جهادهم وصبرهم في ذات الله،[ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً]( ).
فأراد الله عز وجل التخفيف عن المسلمين ، وإستدامة دفع الضرر عنهم وهو شاهد على حاجتهم للطف الإلهي، ودعوة للتقيد بأحكام العبادات والفرائض[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).

قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] الآية 111.
الإعراب واللغة
لن: حرف نفي وإستقبال، يضروكم: فعل مضارع منصوب بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل، الكاف: مفعول به.
إلا: أداة حصر،وقيل أداة إستثناء ، أذى: مفعول مطلق ، وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على الألف.
وان يقاتلوكم: الواو: حرف عطف، ان: شرطية، يقاتلوكم: فعل شرط مجزوم بحذف النون.
الواوفي يقاتلوكم: فاعل، الكاف: مفعول به أول.
يولوكم : مثل إعراب يقاتلوكم .
الأدبار: مفعول به ثان.
وجملة ( يولوكم الأدبار) لا محل لها ، جواب شرط جازم .
ثم لا ينصرون: ثم: حرف عطف يفيد التراخي، كما تفيد الإستئناف لا: نافية، ينصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: نائب فاعل.‌‌‌‌‌‌
من أسماء الله تعالى “الضار النافع” وبيده سبحانه مقاليد الأمور، وجاء الإخبار عن عدم إضرار الكفار بالمسلمين لبيان قدرته وسلطانه سبحانه، وان الضرر لا يصل الى أحد إلا بإذنه، وقد تفضل بإكرام وسلامة المسلمين ، وأعد لهم الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، ومن مصاديق الجزاء الإلهي لهم في الدنيا عدم وصول الضرر اليهم من غيرهم.
قال تعالى [لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ]( ) وهو من الضرر، والضرر والضر ضد النفع، وكل ما كان من عوز وفقر وسوء حال وشدة في البدن من الضرر ولكن الضرر المنفي في الآية أعم لأنه يتعلق بما هو أهم ايضاً فيشمل العقيدة ، ودفع الضرر والسوء عن المسلمين في أدائهم للعبادات والفرائض، وقد أراد الله لهم تعاهدها وحفظها في مأمن من كيد الفاسقين والكفار موضوعاَ وحكماً وأداء.
والأذى هو الأثر وأدنى الضرر الذي يلحق الإنسان من الإيذاء، “وفي الحديث: كل مؤذ في النار”( )، أي ان الذي يؤذي الناس يكون مصيره الى النار جزاء وعقوبة، وقيل المراد المؤذي من الحيوان،ولكن المعنى ينصرف للإنسان إلا مع القرينة ، وقد لا تصل النوبة لأصالة الإطلاق.
وفي التنزيل [وَدَعْ أَذَاهُمْ] ( )، في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته للمسلمين في الإعراض عن أذى المنافقين، والجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه يفيد إمكان تحمل المسلمين للأذى ، وعدم الجزاء والعقوبة عليه الا ان يكون الجزاء والعقوبة هي الأنفع والأصلح.
ومع ان الأذى هو أدنى مراتب الضرر فانه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ويكون على وجوه:
الأول: ما يتحمله المسلمون ويصبرون عليه.
الثاني: ما تكفي معه النصيحة والموعظة.
الثالث: الذي يستلزم لغة الإنذار والتحذير.
الرابع: قيام المسلمين بالرد على الأذى، ومنع تكراره، وقد يكون مقدمة لما هو أشد منه.
وفي كل هذه الوجوه يحتاج المسلمون اليقظة والحذر وألإحتراز، ورصد نوع وماهية الأذى وعدم تركه أو الإستهانة به ، أو الإستخفاف والإستهزاء بمصدره ، كما يقتضي من المسلمين وقادتهم أخذ العدة وعدم وضع السلاح.
والأدبار: جمع دبر، وهو خلاف القبل، ودبر كل شيء: عقبه ومؤخره، “والدبر: الظهر”( )، وورد بصيغة المفرد بقوله تعالى [وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( )، فجعل لفظ الدبر لجماعة المشركين، وكل صحيح ، الأدبار او الدبر، ولكن في المقام نكتة عقائدية من إعجاز ألفاظ ومعاني القرآن من وجهين:
الأول: جاء قوله تعالى[وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( ) بخصوص يوم بدر، لإفادة إنهزام جميع المشركين، وذهاب خيلاء قريش وغرورها، وعتوها، في ساعة واحدة، بعد ان آذوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: ورد في الآية محل البحث بصيغة الجمع [يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] أي ظهورهم، لإفادة تكرر وقوع القتال والمعارك معهم، وهزيمة الكفار والفاسقين في كل مرة أمام المسلمين.
ومن منافع الإعجاز هنا إنذار الكفار وتحذيرهم من القيام بالتعدي على المسلمين، ومحاولة قتالهم.
والنصرة: حسن المعونة، ويقال: إستنصره على خصمه ، أي سأله ان ينصره عليه، والتناصر: التعاون على النصر.
وفي الحديث: “كل المسلم على مسلم محرم أخوان نصيران”( )، أي تكون بينهما النصرة والمعونة ويعضد أحدهما الآخر.
ونُصر القوم: إذا أغيثوا، وفي الحديث: ان هذه السحابة تنصر أرض بني كعب) ( ) أي تمطرهم.
وفي هذا المعنى تكون في الآية إشارة الى قلة المطر في أرض الذي يعتدي على المسلمين، ويسعى في الإضرار بهم.
ونصره: أعطاه، ووقف إعرابي على قوم قال:”إنصروني ينصركم الله”( )، أي اعطوني أعطاكم الله.
والنصر: الإعطاء، قال رؤبة:
اني وأسطار سطرن سطراً
لقائل: يا نصر نصراً نصرا
وبلحاظ المعنى الأعم للآية فانها إنذار لمن يقاتل المسلمين بأنه يفقد الناصر والمعين، ومن يعضده بل ويحرم مما كان يأتيه من العطاء والعون.
بحث لغوي
يتضمن قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى] إستثناء بأداة الإستثناء (الا) وهي أم أدوات الإستثناء، وصالحة لجميع أقسام الإستثناء وتكون على ثلاثة وجوه:
الأول: الإستثناء المتصل، وهو الذي يتحد فيه جنس المستثنى والمستثنى منه، مثل: صليت اليومية الا العشاء، فصلاة العشاء من جنس الصلاة اليومية.
الثاني: الإستثناء المنقطع، وهو الذي يختلف فيه جنس المستثنى عن جنس المستثنى منه، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ] فابليس ليس من جنس الملائكة بدليل قوله تعالى[إلا إبليس كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ] ( ).
الثالث: الإستثناء المفرغ: وهو ما كان خالياً من المستثنى منه، والعامل الذي قبل (الا) لم يأخذ معموله قبلها، فتفرغ لأخذه بعدها.
وجاءت هذه الآية بإستثناء الأذى من الضرر ، فمن أي قسم من اقسام الإستثناء هو فيه وجوه:
الأول: قال ابو جرير الطبري انه من الإستثناء المنقطع الذي هو مخالف لمعنى ما قبله.
الثاني: قيل انه إستثناء مفرغ، لان الأذى مؤقت لايلبث ان يزول والمستثنى منه هو الضرر، وهو خلاف النفع، وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “لا ضرر ولا ضرار”.
والأذى هو ما تأذيت به مما يدل على اتحاد المعنى بين الضرر والأذى، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فكل أذى هو ضرر وليس العكس، باعتبار ان الأذى أمر مؤقت لايلبث ان يزول او ان مرتبته وما يأتي بسببه من العناء أدنى وأقل من الضرر.
الثالث: والمختار هو الإطلاق لأن التباين في تعيين قسم الإستثناء في المقام يدل على عدم احاطة التقسيم الإستقرائي باسرار وبلاغة القرآن، وهو شاهد على اعجازه، فيصبح القول انه من الإستثناء المتصل لاتحاد المعنى بين الضرر والأذى في الجملة، وانه من الإستثناء المنقطع باعتبار زوال الأذى وعدم حصول ضرر دائم منه، كما ان الإستثناء لاينحصر بالأذى بل يشمل الموضوع المعطوف عليه وهو اختيار العدو القتال الذي يفيد قصد الضرر وحصوله فعلاً وان كان ينقطع بهزيمة العدو.
ويصح القول انه من الإستثناء المفرغ لعدم إستدامة الأذى، وقدرة المسلمين على دفعه بفضل الله.
في سياق الآيات
جاءت الآية السابقة بالمدح والثناء على المسلمين ونعتهم باحسن وصف نالته امة او اهل ملة من اهل الأرض ووصفهم بانهم [خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، وذكرت الخصال الحميدة التي تزدان بها حياة المسلمين وتملأ الأرض بهاء وضياء ، لتغزوا القيم الإسلامية العادات المتوارثة وتطرد المذمومة منها، وتنقح المفاهيم الأخلاقية ، وتثبت السنن الحميدة، وتحارب الرذائل.
لقد اراد الله عزوجل للمسلمين ان يكونوا قادة الأمم،ودعاة الإصلاح، وسبل الهداية الى الرشاد والنجاة من النار،فرزقهم العلم والعمل، اما العلم فهو الإيمان بالله،واما العمل فهو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واداء الوظائف العبادية، ثم ذكرت حال اهل الكتاب وكيف ان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير لهم في النشأتين.
وانتقلت هذه الآية الى بيان وجه من وجوه ترك اهل الكتاب لما هو خير لهم وإعراضهم عما هو نافع لهم في النشأتين ، وقيام الفاسقين بايذاء المسلمين وقتالهم والتعدي عليهم، في اشارة الى عدم اكتفائهم بالجحود بالنبوة ونزول القرآن، فلو آمنوا لكان خيراً لهم، اما وانهم أخذوا بالإعتداء على المسلمين وايذائهم فهو أمر اضافي آخر يتضمن الأذى لهم ولغيرهم، ويستحق الذم والتقبيح ، وهل جاء مترشحاً من عدم الإيمان الجواب انه اعم، وبامكان الانسان ان يقف عند حدود عدم الإيمان بالرسالة مع انه معصية، واما ان يقوم بايذاء المؤمنين بالمعجزات والآيات فهو معصية اخرى، نعم لو اختارالإيمان لما قام بايذاء المسلمين وكان الإيمان خيرا له ، لأنه يصبح من خير أمة ويكون عوناً وعضداً لأخوانه المسلمين ، ويكون من الذين يتلقون الخطاب التكليفي [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ].
وجاءت الآية التالية لتبين حال الذل والهوان التي تلحق بمن يؤذي المسلمين، وكأنها عقوبة عاجلة لهم في الدنيا، وزجر لهم عن الإستمرار في التعدي على المسلمين، وانذار وتخويف لأولئك الذين يهمون بايذاء المسلمين، وهذا الذل والمسكنة التي يلحق بمن يؤذي المسلمين من مصاديق الآية قبل السابقة [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] .
ويفيد الجمع بين الآيتين السابقتين بان كل شيء هو ملك لله ، وان الله عز وجل أراد للمسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ملكه وبين عباده، فلابد ان يهيء لهم مقدمات الإمتثال لأوامره، ويمدهم بالعون، ويخفف عنهم ، ومن وجوه العون هذه الآية الكريمة وما فيها من الإخبار عن وهن عدوهم وعجزه عن مواصلة قتال المسلمين.
ومن مصاديق التخفيف عن المسلمين دفع الأذى والكيد عنهم ووقايتهم من محاولات الفاسقين والمارقين ألإضرار بهم، وجاءت الآيات السابقة بذكر نعمة بياض وجوه المسلمين، وعقاب الكفار بسواد وجوههم في الآخرة، ليكون استحضار المسلمين لموضوعها في تلقي الأذى وسيلة للصبر والتحمل، والعزم على مواجهة الحتوف ومحاربة الأعداء.
ولما جاءت الآية السابقة بالإخبار بان المسلمين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر جاءت هذه الآية لتبشرهم بعجز أعدائهم عن الإضرار بهم، وبعقيدتهم، أو منعهم من أداء وظائفهم العبادية والخصال الحميدة التي تؤهلهم لمراتب خير أمة.
وجاءت هذه الآية بصيغة الخطاب للمسلمين وفيه إكرام إضافي لهم، ومن معاني الجمع بين الآيات وجوب تعاهد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخبار بان أذى الكفار ليس عذراً ومانعاً من أداء المسلمين وظائفهم العبادية الذين هم خير أمة.
والجمع بين هذه الآية والآيات السابقة يفيد توجه الخطاب للمسلمين بامور:
الأول: لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله فان الكفار لن يضروكم.
الثاني: اعتصامكم بحبل الله يجعل ضرر الكفار الموجه اليكم أذى قليلاً.
الثالث: إجتنابكم الفرقة والإختلاف يقلل من أذى الكفار لكم،
ولا يمنع هذا الجمع بين الآيات من النظر للآية محل البحث على نحو مستقل باعتبار ان عدم اضرار الكفار بالمسلمين قانون ثابت مصاحب للإسلام والمسلمين في اجيالهم المتعاقبة وقد يظهر الضرر على المسلمين اذا ما تفرقوا وتشتتوا ، ولم يتقيدوا بقوانين وأحكام قوله تعالى [وَلاَ تَفَرَّقُوا] .
وهذا الضرر على فرض حصوله مؤقت ومحدود ، ومادة لتدارك أسبابه ، والسعي لإصلاح الحال ،والرجوع الى الوحدة الإيمانية ، وفيه توكيد لحقيقة عدم إضرار الفاسقين بالمسلمين . وقد يظن بعضهم ان الضرر جاء من الكفار، وقد يكون السبب أمورا أخرى كمقدمات الفرقة وعدم التمسك بالقرآن والسنة، وتسلل العدو منها، والا فان عدم اضرار الكفار بالمسلمين مطلق، وهو فضل من عندالله على المسلمين في افراد الزمان الطولية المتعاقبة .
ومن الشواهد أيام التنزيل قيام الرماة يوم أحد على باب الشعب ، وقال لهم رسول الله إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا ، وإلزموا أماكنكم ، ولكنهم حينما رأوا إنتصار المسلمين وقيام أصحاب رسول الله بالإستيلاء علىمؤونة القوم أخذ أكثرهم بترك موضعه والنزول ، مما سهل لكفار قريش المجئ لجيش المسلمين من الخلف.
اعجاز الآية
تتضمن الآية الإعجاز من وجوه:
الأول: تحدي الكافرين، والإخبار عن عجزهم عن تحقيق النصر على المسلمين ، بل وعن الإضرار بهم.
الثاني: الإخبار من علم الغيب، بمآل الأمور ودرجة ونوع النزاع بين المسلمين والفاسقين وان ما يلحق المسلمين لا يعدو ان يكون أذى مؤقتاً.
الثالث: بشارة مواصلة المسلمين لمسؤولياتهم العقائدية في الإصلاح.
الرابع: الإخبار عن حقيقة وهي ان قوله تعالى [أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…] يعني تلقي الأذى والعناء والمشقة من وجوه:
الأول: ان الناس على مراتب متباينة في الإيمان والكفر، ومن الكفار من لا يكتفي بالإعراض عن دعوة الحق بل يقوم بمحاربة المسلمين، فيكون المسلمون بين أمرين:
الأول: تعطيل الأمر بالمعروف بخصوص من يقوم بمقاتلتهم.
الثاني: مواصلة الأمر بالمعروف بأعلى مراتبه وهو السيف، دفاعاً وإحترازاً.
والصحيح هو الثاني، فلو قلنا ان الأمر بالمعروف ميدان وموضوع واسع ورحب، وفيه من جهة الزمان مندوحة، وبالإمكان المواظبة عليه فيما بين المسلمين، ومع الذين ينصتون لهم، والذي لا يكون ردهم القتال واعلان الحرب على المسلمين، فهل يكف الكفار والفاسقون عن التعدي على المسلمين لو لم يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، الجواب لا، فهؤلاء لا يرضون بإعلاء كلمة التوحيد وإقامة المسلمين شعائر الله، ويصرون على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكثير من المعارك جرت معهم بمبادرتهم للقتال والتعدي على المسلمين ومحاولة إخراجهم من ديارهم عنوة وبغير حق.
الثاني: ذات الخروج الى الناس عنوان للجهد والعناء وتحمل المسؤوليات العقائدية.
الثالث: مواصلة المسلمين الجهاد لإصلاح الذات ، لا يعني تقويم الخطأ وزجر المقصر وحده، بل إعداد الأبناء وتربية الناشئة، وتعاهد القيم الإسلامية في الأسرة والسوق والعمل، وعمارة المساجد بالصلاة والتقوى، وإصلاح ذات البين، وإفشاء السلام، ومعاني الأخوة الإسلامية، وهو من خصائص خير أمة.
الرابع: إعداد العدة لمواجهة الخطر القادم من الأعداء، وصيانة الثغور الإسلامية والمرابطة فيها.
الخامس: الصبر على أذى الكفار، وأسباب ومقدمات مواجهتهم والإحتراز من أذاهم.
السادس: دلالة مضامين هذه الآية على وجه من وجوه قوله تعالى [أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وما فيها من الإخبار عما يتلقاه المسلمون من الناس.
الخامس: توكيد قاعدة من الإرادة التكوينية وهي ان الضرر والأذى ومواجهة الأعداء في سوح المعارك أمور لن توقف المسلمين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولن تزحزحهم عن الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: لقد تولى المسلمون إمامة الناس نحو سبل الخير، وتبين هذه الآية الجهاد في سبيل اصلاح الناس، وتلك آية إعجازية في الخلق، وشاهد على إكرام المسلمين وتفضيلهم على غيرهم فهم يتحملون الأذى ممن يريدون نفعه في الدنيا والآخرة.
السابع: إخبار الآية عن هزيمة الكفار والفاسقين، وحرمانهم من النصر بمعناه الأعم سواء في سوح المعارك او غيرها وفقدان من ينصرهم او يعضدهم او يشفع لهم في الدنيا والآخرة.
الثامن : والآية مدرسة في تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، وشاهد على إيمانهم وبلوغهم مراتب اليقين لأنها اخبار سماوي بوقوع القتال والحروب مع الكفار والفاسقين، ومن الآيات ان يختتم هذا الإخبار بالبشارة بالظفر وهزيمة العدو.
وتضمنت الآية أخباراً من علم الغيب وهي:
الأول: عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين.
الثاني: بشارة الأمن والسلامة للمسلمين من الضرر الفادح.
الثالث: حث المسلمين على الإحتراز من الأذى القادم من الكفار اذ ان اخبار الآية بحصول الأذى دعوة للمسلمين للتوقي منه وتدارك اسبابه، ولرفع آثاره، وكأن الآية تقول: ان الله عزوجل خفف عنكم ضرر الكفار، ولايصلكم منه الا أذى قليلاً فاجتهدوا في دفعه بالصلاح والتقوى.
الرابع: إتخاذ العدة للقتال، وأخذ الحيطة من مباغتة العدو، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ).
ومن اعجاز الآية القرآنية قيادتها المسلمين نحو سوح المعارك دفاعاً عن الإسلام بعزم وإيمان، والاستعداد لمواجهة اقسى الاحوال واشد التحديات.
الخامس: مع قلة كلمات الآية فانها تتضمن بشارات اكثر من عدد كلماتها، ومن البشارات:
الأولى: الوعد الكريم بعدم اضرار الكفار بالمسلمين.
الثانية: افادة صيغة الجمع [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] أي لو إتحد الكفار والمشركون ضد المسلمين فانهم لايستطيعون الإضرار بهم.
الثالثة: تعدد وجوه انتفاء الضرر، لان الآية انحلالية فليس من ضرر على الإسلام ولا على المسلمين امة وافراداً، وفي الآية اشارة الى عصمة القرآن من التحريف والتغيير لشمول السلامة من الضرر المبادئ والاحكام ، وعصمة المسلمين من إثارة الكفار والفاسقين الريب والشبهات.
الرابعة: إنتفاء الضرر مطلقاً شامل للمسلمين وأحكامهم، اما الأذى فجاء على نحو النكرة، مما يعني انحصار مواضيعه، وهذا الإنحصار أمر اضافي لقلته وعدم ترتب الأثر الفادح عليه، فقد يصيب الأذى بعض الأفراد والجماعات من المسلمين، ويبقى عامة المسلمين في آمن وحرز من أذى الكفار والفاسقين، وهو بشارة إضافية أخرى.
الخامسة: مجئ الإخبار عن قتال الكفار للمسلمين على نحو الشرط بدلالة[إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ]، والإجماع على اعتبار (إِنْ) حرف شرط جازم، وجملة شرطها لا محل لها من الاعراب، واختلف فيه على قولين:
الأول: لانها جزء الشرط والجزء لامحل له.
الثاني: لانها ابتداء الشرط، والابتداء لا محل له.
ويفيد مجئ الآية بصيغة الشرط تعليق عزم الكفار مقاتلة المسلمين على اسباب ومقدمات ، وفيه دعوة لمنع تحصيل هذه الاسباب والمقدمات، وهذا المنع على وجوه:
الأول:ذاتي خاص بالمسلمين ، وهو على شعب :
الأولى : ظهور المسلمين في حال القدرة على الدفاع ومواصلة القتال، وتحقيق النصر.
الثانية : التقيد بمضامين التمسك بالقرآن والسنة وأحكام الحلال والحرام ، والإمتثال لما ورد في الآيات السابقة من قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )،[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( )، [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
الثالثة : تحلي المسلمين بالصبر في حال السلم والحرب ، ومن الآيات أن الصبر على العبادة ملازم للحالتين .
ولم تقل (ويقاتلوكم ويولوكم الادبار) بل قيدت القتال بالشرط والتعليق وحصول الهزيمة للكفار، لذا تجد القتال لايحصل بين المسلمين والكفار والفاسقين الا في فترات متباعدة يذوق خلالها الاعداء مرارة الفرار والهزيمة ويحسون بالخسارة الكبيرة التي تلحقهم.
الثاني: غيري وهو على قسمين:
الأول: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار الذين يريدون التعدي على المسلمين.
الثاني: حجب عموم الكفار من مؤازرة ونصرة الذين يعتدون على المسلمين، لذا ترى اصحابهم يتخلون عنهم ساعة المواجهة او بعد بدأ المعركة وحصول المواجهة.
السادسة: توكيد حقيقة وهي حاجة الانسان والجماعة الى النصرة والمعونة والمدد، لان الانسان كائن محتاج وتزداد، حاجته عند الحالات الطارئة واشدها القتال والحرب، فجاءت الآية لتبين قانوناً ثابتاً ووعدا كريما بانعدام النصرة للكفار سواء من عندالله او من الناس.
السابعة: هزيمة الكفار سبب في خذلانهم وانعدام الناصر، وهي دعوة لهم جميعاً للإسلام، لذا فان التأريخ يبين لنا ان كثيراً من الكفار يبادرون الى الإسلام بعد حصول هزيمتهم في المعركة امام جيوش المسلمين.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية “لن يضروكم” ولم يرد لفظ يضروكم الا في هذه الآية، وكذا لفظ “يولوكم”.
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عمل، فيسعى الإنسان في تحقيق غاياته، وتكون هذه الغايات دنيوية وتارة أخروية، وتأتي هذه الآيات القرآنية ، لتخبر بان الإنسان من جنود الله عز وجل في الأرض ومأمور بالصلاح والإصلاح، ولكنها لم تحمل الإنسان كرهاً على أداء وظائفه، وتركت له الخيار لما فيه من الإبتلاء والإختيار ففاز المسلمون بحسن الخيار، وتوجهت لهم الخطابات التكليفية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإعتبارهم أفضل أمة أخرجها الله للناس.
وجاءت هذه الآية دعوة للمسلمين للصبر في ذات الله، والإستعداد لتلقي الأذى، فلا يعني كونهم خير أمة أنهم لا يتحملون الأذى والعناء، بل العكس هو الصحيح، فمع التفضيل يأتي الجهاد المتصل وما فيه من القتال ودفع الأعداء، وتعاهد أمانة التنزيل، ونعمة النبوة، ومبادئ الشريعة الإسلامية.
فبعد آية التفضيل والتشريف جاءت آية التعرض للأذى والضرر، ليكون المسلمون على استعداد لمواجهة الصعاب وتحمل التعدي والأذى من غير أن يتركوا وظائفهم العبادية، وأسباب تفضيلهم على الناس.
لقد أخبرت الآية عن تحقيق النصر للمسلمين وفيه نزع لرداء الخوف من الأعداء، ومادة للعزم على مواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة للمسلمين لمواصلة الجهاد والسعي في دروب الخير والصلاح.
وتتضمن الآية إصلاح النفوس وطرد الجبن منها ومنع أفراد المسلمين من الخشية مما يدبره الأعداء، وما يتوعدونهم به، وتبعث في نفوس المسلمين روح الثبات على الإيمان، وتحدي الكفار، ويجعل هذا التحدي الكفار يترددون في نية الإضرار بالمسلمين.
مفهوم الآية
تبين الآية حقيقة وهي ان الصلة بين المسلمين وغيرهم ليست مقطوعة تماماً، ولا هي قائمة على الود والصفاء الدائم، بل يتلقى المسلمون من الكفار والفاسقين أذى شديداً، اذ يحاولون الأضرار بالمسلمين في دينهم وأنفسهم وأموالهم، وفي هذا الإخبار توطئة لتلقي المسلمين الأذى، ودعوة للصبر والتحمل .
ومن وجوه الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا أثر وتأثير الناس بعضهم ببعض، فالمسلمون يدعون أنفسهم وغيرهم للطاعة وفعل الصالحات، وغير المسلمين في تلقيهم الدعوة على أقسام:
الأول: الذي يستجيب للدعوة ويدرك ان النبوة ومعجزاتها حق وصدق، وقال تعالى في أهل الكتاب [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ].
الثاني: من يبقى متردداً متحيراً متوقفاً.
الثالث: الذي يصر على الكفر والجحود، ويمتنع عن سماع الدعوة كما قال تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( ).
الرابع: الذين يتلقون الدعوة بالقتال ومحاولة الإجهاز على المسلمين.
الخامس: الذين يحاربون المسلمين، مع ان المسلمين لم يتعرضوا لهم بسوء، ولم يدعوهم مباشرة للإسلام، فيغيضهم تصديق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام وإقامتهم الشعائر في مساجدهم وبيوتهم.
وجاءت هذه الآية بالتحذير من القسم الثالث والرابع والخامس، وشطر من الثاني، اذ ان التردد ليس مستديماً فأما ان ينتهي بإختيار الإسلام أو يكون فرداً من أفراد البقاء على الكفر لعدم وجود واسطة بينهما، ويستقرأ التحذير المتعدد من مضامين الآية الكريمة اذ انها تخبر عن تلقي المسلمين الأذى على مراتب متعددة وهي:
الأولى: تلقي المسلمين الأذى وسوء الرد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: سعي الكفار للإضرار بالمسلمين وإثارة الفتن لهم.
الثالثة: محاربة المسلمين، وإشعال فتيل الحروب معهم، لقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] وأخبرت الآية الكريمة عن تعرض المسلمين لأمور:
الأول : تلقي المسلمين الأذى من الفاسقسن والكفار.
الثاني: خيبة الكفار، ويأسهم من الإضرار بالمسلمين .
الثالث : قتال الكفار لهم ، لا لشئ إلا لأنهم إختاروا الإيمان بالله تعالى .
وهذه الآية شاهد على منعة وقوة المسلمين والتخفيف الإلهي عنهم بصرف الضرر القادم من الكفار، بحيث لا يصل للمسلمين منه الا المسمى وصرف الطبيعة، كما أخبرت الآية عن نتيجة القتال مع الكفار والفاسقين من وجهين:
الأول: هزيمتهم أمام المسلمين وعدم ثباتهم في المواجهة.
الثاني: إنعدام الناصر للكفار.
ووردت في الآية الكريمة الفاظ لم ترد في غيرها.
الأول: لن يضروكم.
الثاني: يضروكم.
الثالث: إلا أذى.
الرابع: وإن يقاتلوكم.
الخامس:يولوكم.
السادس: يولوكم الأدبار.

إفاضات الآية
من أعظم النعم على الإنسان نعمة الإيمان، ومع انها اعتقاد شخصي وملكة عند الإنسان الا ان إفاضات إيمانه تترشح على الآخرين مسلمين وغير مسلمين وفي ميادين العمل والمحلة والجوار والأسواق وفي الحضر والسفر.
ومن الآيات ان نعماًَ عديدة تصاحب وتتعقب نعمة الإيمان فما ان يختار الإنسان الإسلام والهداية حتى تترى عليه النعم، ومنها ما يكون عوناً على تثبيت ذات الإيمان في نفسه، وتكون تلك النعم عقلية وحسية، وظاهرة وباطنة، ومتحدة اومتعددة.
ومن الإفاضات الإلهية على المسلمين هذه الآية التي تلازم قانون إختيارهم وكونهم خير أمة أخرجت للناس اذ تتضمن البشارة بنجاة المسلمين من ضرر الكفار، مع خدلانهم عندما يقاتلون المسلمين ويعتدون عليهم، مما يدل على العناية الإلهية بالمسلمين، وتحصنهم بالإيمان وبلوغهم مراتب من القوة والمنعة يستطيعون معها مواجهة الأعداء والصبر عند اللقاء، والمبادرة في الهجوم على العدو ودحره وقهره.
ويتجلى الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة بهذه الآية في ميادين المواجهة والقتال بين المسلمين وأعدائهم، اذ تظهر للمسلمين دلائل ومصاديق هذه الآية فيأتي الضرر من الكفار على نحو دفعي وشديد أو تدريجي ، ولكنه يصل الى المسلمين على نحو الأذى الخفيف والأمر الهين، لكي لا يشغلهم الأذى عن الغرق في أنوار الجلالة، والحضور في حضرة القدس، فمن حب الله تعالى للمسلمين إزاحة الموانع التي قد تشغلهم عن ذكره.
ومن إفاضات الآية انعدام الفترة بين نزولها وبين ظهور مصاديقها الخارجية اذ إنهزم أمام المسلمين يهود المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر، ولم يستطيعوا النيل من المسلمين الا السب والطعن ومحاولة الجرح، وإختار نصارى نجران طريق السلامة من القتل والسبي بقول دفعهم للجزية.
وبشارة هزيمة الأعداء الواردة في هذه الآية حاجة للمسلمين، وشاهد على عدم إمكان الإستغناء عن الفضل الإلهي، وهي مدد سماوي دائم، وغذاء روحي، وصاحب للمسلمين في طريقهم الى المعركة وعند خوضها.
الآية لطف
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالهداية والإيمان، وصاحب الهداية اللطف الإلهي المتعدد، ويتغشى اللطف الإلهي الناس جميعاً في الحياة الدنيا، ومع الإيمان يأتي فيض إلهي من اللطف لينضم الى اللطف الذي ينعم به العباد جميعاً، من غير تعارض بينهما، وأيهما أكبر وأعظم اللطف الشامل للناس بإعتبار أنه الأصل، ام اللطف الإضافي الجواب ان كل فرد منهما كبير وعظيم ، ويعجز الناس عن الإحاطة به وبمضامينه القدسية، ومنافعه التوليدية.
ومن وجوه اللطف الإضافي:
الأول: زيادة إحتراز المسلمين وأخذهم الحائطة من الأعداء وجاءت هذه الآية للتنبيه والتحذير من كيد الكفار.
الثاني: إخبار العامة من الكفار والفاسقين رجوع كيدهم الى نحورهم، وعدم القدرة على الإضرار بالمسلمين وان تناجى أمراء وكبار الكفار بالظفر والغلبة.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وفيه تخفيف عن المسلمين.
الرابع: البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة، إذ تصاحب هذه الآية المسلمين قبل القتال وفي ساحة المعركة، وعندما يحمي الوطيس وبعد المعركة.
الخامس: إلقاء السكينة في قلوب أسر وعوائل المسلمين، وفي أسواقهم وأمصارهم للثقة بالغلبة والنصر، ومنافع السكينة في المقام أكثر من أن تحصى، اذ انها تمنع من ظهور حالات التعدي والسرقة والنهب، وتكون برزخا دون تفشي الأخلاق الذميمة، وتساهم في إستقرار الأسواق ومنع الإحتكار والغلاء وما يؤدي اليه من الجزع والفزع.
ويتفرع عن هذا اللطف لطف إلهي بالناس جميعاً ومنهم الكفار بزجرهم عن ايذاء المسلمين والتعدي عليهم.
لقد أراد عز وجل بعث السكينة في نفوس المسلمين بإخبارهم عن تحقيق النصر العظيم وهزيمة عدوهم، وتبين الآية حلاوة الإيمان وأثره في النفوس وما يترشح عنه من القوة والصبر في مواجهة الأعداء.
من غايات الآية
في الآية إخبار عن إرادة الكفار والفاسقين التعدي على المسلمين والإضرار بهم وانهم لا يريدون ترك المسلمين وحالهم ، وهذا الإخبار من إعجاز القرآن وما فيه من تأديب على الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جاءت به الآية السابقة ان الله لم يأمرهم بمباغتة الكفار والفاسقين ومهاجمتهم في عقر دارهم قبل أن يقوموا بالإضرار بالمسلمين والتعدي عليهم، ولم يتخذ المسلمون مضامين هذه الآية سبباً للإجهاز على أهل الكتاب ومنعهم من محاولة الإضرار بالإسلام والمسلمين، بل إنتفعوا من علوم الغيب التي جاءت في القرآن لتثبيت الإسلام وإفشاء لغة البشارة والإنذار، وإطلاع الناس على إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند الله والوقاية من الأذى والشر.
وتشير الآية الى عدم إتعاظ الكفار والفاسقين من ظهور عجزهم الإضرار بالمسلمين، فيتجرأ فريق منهم ويخرج لقتال المسلمين، وهذا القتال على وجوه:
الأول: ابتداء الكفار والفاسقين بالقتال.
الثاني: محاولة الهجوم على ثغور المسلمين.
الثالث: عدم القبول بشروط المسلمين من دفع الجزية ونحوه.
الرابع: مباغتة المسلمين، ونقض العهود والمواثيق، وجاءت البشارة بهزيمتهم شاملة لجميع حالات القتال.
الخامس: إنعدام النصرة والتعضيد والشفاعة للكفار والفاسقين.
السادس: اللطف الإلهي بالمسلمات وإمتلاء نفوسهن بالأمل برجوع الأبناء والأزواج والأخوان من القتال بالنصر وعز الإسلام.
السابع: تثبيت الإيمان في صدور المسلمين والمسلمات.
الثامن: التخفيف عن المسلمين، اذ ان البشارة عون وسبب لقوة العزيمة، قال تعالى [خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ] ( ).
التاسع: في الآية دعوة للمسلمين لحسن التوكل على الله عز وجل.
العاشر: وقاية المسلمين من محاولات الكفار الإضرار بهم وإيذائهم.
الحادي عشر: الآية درس في الصبر، ملازم للمسلمين في حال السلم والحرب، والشدة والرخاء، فبعد هذه الآيات يستطيع المسلمون تحمل أذى الكفار لإدراك حقيقة وهي القطع بزوال هذا الأذى.

التفسير
قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى]
جاءت الآية السابقة وثيقة سماوية خالدة تبين عظيم منزلة المسلمين بين الأمم، ويدل ما فيها من الإخبار عن كونهم أفضل أمة على توالي نزول فضل الله عليهم، وحفظهم والعناية الإلهية بهم، ووقايتهم من التعدي والظلم عليهم.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن عدم وجود فاصلة بين آية خير أمة وبين الإخبار عن صرف ضرر الكفار والفاسقين عن المسلمين.
وفي إخبار الآية عن سلامة المسلمين من الضرر ، ومن الهزيمة في القتال،وجوه:
الأول: انه جزاء للمسلمين على حسن طاعتهم لله تعالى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
الثاني: انه لطف محض من عند الله على خير أمة.
الثالث: فيه شكر عاجل من عند الله.
الرابع: انه مقدمة ومثال للأجر والثواب العظيم في الآخرة.
الخامس: هو حرز لتعاهد منزلة المسلمين بين الأمم.
السادس: في الآية إخبار عن قاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهي الذب عن خير الأمم، وتفضل الله عز وجل بدفع الضرر عنها فالأمة التي تنال هذه المنزلة تلازمها الحصانة من الضرر.
السابع: إنذار أهل الكتاب وغيرهم بتوكيد حقيقة وهي نصرة الله للمسلمين، ولزوم إجتناب ايذائهم والمكر بهم.
الثامن: لما جاءت الآية السابقة بالتفصيل في أحوال أهل الكتاب، والإخبار بان فريقاً منهم مؤمنون والأكثر فاسقون جاءت هذه الآية لتبين وجهاً من معاني الفسق والخروج على طاعة الله، وهو القيام بالإضرار بالمسلمين، ومحاربتهم وحشد الجيوش لغزوهم والهجوم على بلاد المسلمين فقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] إشارة الى قيام أعداء الإسلام بمحاربة المسلمين والتعدي عليهم وعلى الثغور الإسلامية فجاءت الآية لتنبيه وبشارة المسلمين والتوكيد على لزوم الصبر وتعاهد المنزلة العظيمة التي حباهم الله تعالى بها، وتخويف الكفار من الإضرار بالإسلام والمسلمين.
وجاءت الآية بصيغة المضارع التي يدل عليه قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] ويتضمن الدلالة على الإستقبال، وفيه مسائل:
الأولى: لم تتكلم الآية عن الزمن الماضي وحال المسلمين مع الكفار والفاسقين والمخادعين، وفيه وجوه:
الأول: انقضاء الماضي وما فيه والمدار على المستقبل.
الثاني: حصول الضرر وتعرض المسلمين للهزيمة كما في معركة أحد.
الثالث: التشابه ووحدة الموضوع في أفراد ازمان الطولية وشمول الزمن الماضي بالآية وأحكامها .
والصحيح هو الثالث، لان نصر المسلمين متصل، ولم تنزل هذه الآية إلا وهم في حال من العز والنصر، ودخولهم معارك عديدة حققوا فيها النصر بفضل الله.
قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، والمراد من وصف المسلمين بانهم (أذلة) قلة العدد والعدة، وعدم قدرتهم على المقاومة، وكان عدد المسلمين يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، والمشركون نحو الف رجل.
الثانية: الآية قاعدة كلية تنبسط مصاديقها على الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وجاءت بذكر المستقبل لأمور:
الأول: انه من علم الغيب.
الثاني: بشارة المسلمين وبعث السكينة في نفوسهم.
الثالث: بعث الفزع واليأس في قلوب الكفار والفاسقين، وزجرهم عن الإعتداء على الإسلام.
الثالثة: صحيح ان الآية جاءت بلغة المضارع الا انها تدل على الماضي أيضاً وإرادة نفي الضرر والبأس عن المسلمين في منطوق الآية مفهومها.
وما حصل في معركة أحد قضية في واقعة ومعركة واحدة وقد تحقق فيها فعلاً إنسحاب الكفار وهزيمتهم ورجوعهم خائبين وكانت درساً للمسلمين لتثبيت مصاديق هذه الآية، وهزبمة الكفار في القادم من المعارك.
الرابعة: دعوة المسلمين للإستعداد لتلقي أذى الكفار والإحتراز منه، فالآية لا تدعو المسلمين الى انتظار الأذى لأنها أخبرت عنه، بل انها تخبر عن تبدد الضرر ووصوله ضعيفاً الى المسلمين، ومن أسباب تبدده قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثباتهم على الإيمان والتقوى.
وأقصى ما يطلبه الكفار حمل جماعة من المسلمين على الإرتداد عن دينهم فتأتي هذه الآية لتخبر عن صرف الأذى عن المسلمين ومنه منع الإرتداد وعدم وقوعه، والأصل هو عدم امكانه لحرمته الذاتية والعقوبة العاجلة عليه، ولا عبرة بالشاذ النادر.
لقد أختتمت الآية السابقة بتقسيم أهل الكتاب الى قسمين ، وذكر حال الأكثر منهم وانهم فاسقون، والفسق أعم من التعدي، ويعني الخروج عن الطاعة، وإبتدأت هذه الآية بحرف العطف “الواو” الذي يفيد العطف، ويحتمل وجوهاً:
الأول: صدور الإضرار بالمسلمين من الفاسقين من أهل الكتاب.
الثاني: إرادة الكفار من غير أهل الكتاب.
الثالث: ارادة المعنى الأعم في الآية وشمول الفاسقين من أهل الكتاب والكفار مطلقاً.
الرابع: إرادة الفاسقين من أهل الكتاب، أما غير الكفار فيلحقهم الحكم من باب الأولوية القطعية لقاعدة كلية وهي عدم امكان الإضرار بالمسلمين.
والصحيح هو الأخير فان الآية جاءت لبيان حقيقة وهي قيام شطر من أهل الكتاب بالإضرار بالمسلمين ومقاتلتهم ومحاربتهم بالسيف، وهذا ما دلت عليه الشواهد التأريخية.
ومع ان الآية بشارة للمسلمين بالنصر والظفر والأمن من الضرر والتعدي فانها دعوة للصبر والإرتقاء في منازل الإيمان، وحث على الصلاح والتقوى، اذ ان الله عز وجل يدفع عن المسلمين الشر والكيد، ويمنع من إنشغالهم بالعدو، وينجيهم من كيده وشره ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( )، وفيه دعوة للمسلمين للانقطاع الى عبادته فليس من قوة تحول دون عمارة الأرض بالتقوى وذكر الله.
لقد أراد الله عز وجل للإسلام البقاء في الأرض، وللقرآن تلاوة آياته، وللمسلمين العمل بأحكام الحلال والحرام، ولما جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن إنقسام الناس الى قسمين يوم القيامة بينهما تضاد ونفرة، قسم وجوههم بيضاء جزاء لهم، وقسم وجوههم سوداء عقوبة لهم، جاءت هذه الآية لبيان علة من العلل التي تؤدي الى هذه القسمة وكيف ان الإنسان بمقدوره ان يختار القسم الذين يكون فيه.
وتأتي هذه الآيات لتثبيت المسلمين في منازل الإيمان، وتضئ لهم طريق الجنة والنجاة، وتخبر عن حصول الأمن الدائم بالصبر عن الأذى القليل في الدنيا كما ان تقدم آيتي “الوجوه” على هذه الآية عون للمسلمين لتحمل الضرر والأذى في جنب الله، وعدم الخشية من الكافرين وأهل السطوة والجبروت لأن المسلمين يرونهم ووجوههم مسودة في خزي وهوان.
وتحتمل الآية أموراً:
الأول: اتصالها بالآية السابقة، وان المقصود من الفاعل في “يضروكم” هم الفاسقون من أهل الكتاب اذ أختتمت الآية السابقة بذكرهم بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]، وبلحاظ ان المؤمنين من أهل الكتاب لا يأتي منهم ضرر، وان المراد منهم الذين صدقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا.
الثاني: إرادة أهل الكتاب مطلقاً لعمومات الآية السابقة وسياق الآيات.
الثالث: المراد الذين يحاربون المسلمين من أهل الكتاب ويلحق بهم مشركوا قريش والكفار مطلقاً.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق ومضامين الآية الكريمة وما فيها من الدلائل على الحصانة التي جعلها الله عز وجل عند المسلمين، ووقايتهم من الشر والكيد والأذى فان قلت ان الأصل في الضمير هو عودته الى ما قبله، وليس في الآية ذكر لعموم الكفار، والجواب ان الآية قاعدة كلية شاملة تشمل الكفار الذين يريدون الإضرار بالمسلمين من باب الأولوية القطعية للخزي والذل الذي كتبه الله على الكفار، وعزم المسلمين على محاربتهم والتصدي لهم ولأفكار الضلالة والجحود.
ومن إعجاز الآية انها جاءت خطاباً عاماً للمسلمين وتتضمن وجوهاً:
الأول: البشارة بعدم وقوع الضرر على المسلمين ، وما يتفرع عنه من البلاء والعناء.
الثاني: بيان عز المؤمنين وقوة الإسلام.
الثالث: بعث السكينة في نفوس المسلمين، اذ الآية جاءت بلغة الإطلاق والتقدير : لا يستطيع الكفار الإضرار بكم ولو حشدوا كل قوتهم ورجالهم، فهذه الآية نعمة عظيمة، وإنعطاف كبير في تأريخ الإنسانية، وبداية رسوخ مضامين الإسلام في الأرض.
وبما ان أحكام الآية القرآنية باقية الى يوم القيامة فان الآية بشارة للمسلمين في أنفسهم وفي أموالهم وأعراضهم وذراريهم.
أما في أنفسهم فلعدم وصول الضرر اليهم من أعداء الإسلام ، واما في أموالهم وأعراضهم فان السلامة من الضرر تشمل حفظ الأموال ونزاهة الأعراض.
وأما الذراري فلإستدامة أحكام الآية ، فعندما يرى المسلمون أنفسهم في أمن من ضرر الكفار فانهم يطمئنون الى ذات الأمر بالنسبة لأبنائهم، الأمر الذي تترشح عنه الغبطة والسعادة لأن الأبناء سيواظبون على ما يرثونه من الأعمال العبادية وسنن الإيمان.
وجاءت الآية بالنفي “لن يضروكم” ولن حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالإستقبال وينفيه، وقال سيبويه في “لن” زعم الخليل انها لا ان ولكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم، وقال: وهذا ليس بجيد، لقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن حدود الأذى التي يتعرض لها المسلمون من القوم الكافرين وانها لن ترقى الى الضرر.
ومن كنوز وإسرار القرآن انه يتضمن آيات البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، وكل آية مدرسة وارتقاء في المعارف الإلهية، وحجة ظاهرة، وبرهان قاطع، ومن إعجاز القرآن ان يأتي شطر الآية بشارة وانذاراً مستقلاً قائماً بذاته، ومنه قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى] والذي يتضمن أطرافاً هي:
الأول: أعداء الإسلام.
الثاني: سعيهم للإضرار بالإسلام والمسلمين.
الثالث: المسلمون وتلقيهم الأذى.
الرابع: سلامة المسلمين من الضرر.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على قيام أعداء الإسلام بمحاولات النيل من المسلمين وايذائهم، وعدم تركهم وشأنهم في عباداتهم وصلتهم مع الله عزوجل، وجاءت الآية بصيغة المضارع وتحتمل أموراً:
الأول: إحتمال ارادة الفاسقين والكفار الاضرار بالإسلام والمسلمين، وانهم لو هموا وسعوا في الإضرار بالمسلمين فلن يضروهم الا أذى.
الثاني: تلبس الفاسقين والكفار بالسعي للأضرار بالمسلمين فعلاً .
الثالث: قيام الكفار بالتعدي على المسلمين، وتجهيزهم الجيوش، وتعرضهم للهزيمة وتخلي خلفاؤهم من قريش وغيرها عنهم، وظهور المسلمين من المعارك ومحاولات الإضرار وهم أقوى واكثر عدداً وعدة وعواقب الأمور، وبيان نتيجة المعارك في المستقبل .
اما بالنسبة لماهية الفعل فانه شامل للزمن الماضي والحاضر والمستقبل، أي ان محاولاتهم للإضرار بالمسلمين مستمرة ولكن النتيجة دائماً منحصرة بالأذى ولاتصل الى إلاضرار وفي الذي يريده الكفار والفاسقون وجوه:
الأول: الإضرار بالإسلام.
الثاني: الإضرار بالمسلمين.
الثالث: كفاية إيذاء المسلمين.
الرابع:تدبير المكائد للمسلمين لمحاولة جعلهم ينشغلون عن دعوة الناس للإسلام، فما يفزع الكفار مبادرة الناس من هنا وهناك لدخول الإسلام، فيسمع الكافر أن جاره أعلن إسلامه، وفي اليوم الثاني شريكه في العمل، وفي صباح اليوم الثالث تبادر زوجته لدخول الإسلام، وعند المساء يشهر أخوه إسلامه، وبدل ان يعتبر ويتعظ الكافر من هذه الآيات يتوجه الى اصحابه من الكفار للنيل من الإسلام والمسلمين، ومن فضل الله عزوجل على المسلمين تقدم قوس الصعود في قوتهم وهبوط مراتب الكيد والمكر التي يقوم بها الكفار، وهو من مصاديق هذه الآية واكرام المسلمين من وجوه:
الأول: توجه الخطاب الى المسلمين.
الثاني: مجئ الآية بصيغة البشارة.
الثالث: في الآية تخفيف عن المسلمين.
فقد يسمع المسلم بما يكيده الكفار وما يمكرون به، وما يعدونه للايقاع بالمسلمين فيصاب بالخوف والفزع حرصاً على الإسلام، وحباً للمسلمين، فتأتي هذه الآية لتبعث السكينة في نفسه وتجعله يواظب على عباداته.
الثالث: تبدد أكثر افراد كيد ومكر الكفار وعدم وصوله للمسلمين.
وذكرت الآية درجة إضرار الكفار بالمسلمين، ولم تذكر الضرر الذي يلحق بالكفار نتيجة لكل من:
الأول: قيامهم بالكيد والمكر بالمسلمين، وبذل الأموال والجهد للنيل من المسلمين وذهابها هدراً، ببطلان غاياتهم وارجاع كيدهم الى نحورهم، وتحول الضرر الذي يأملون الى أذى خفيف يكون سببباً في ثبات المسلمين على الإيمان والهداية.
وهل تصل مضامين هذه الآية الى الكفار، الجواب نعم سواء بالمنطوق او بالدلالة والشواهد المركبة والمتباينة في الجهة والأثر، اذ تذهب أكثر افراد تعديهم على المسلمين أدراج الرياح، بينما يأتي رد المسلمين وافياً ومؤثراً ويكون درساً بليغاً وعبرة للناس بلزوم الكف عن ايذاء المسلمين، ودعوة لهم لدخول الإسلام والإنضمام تحت لوائه، لما في دفع الضرر عنهم، والتوفيق في قوة ردهم، وتحقيق الظفر على الكفار من الآيات والإعجاز العقائدي في الواقع العملي المحسوس الذي يحتاج الى وسائط في الإستنتاج في سلامة إختيار الإسلام.
ومع مجئ هذه الآية بالإخبار عن التخفيف في صد ضرر الكفار فانها دعوة لهم لدخول الإسلام باعتباره واجباً على كل مكلف ومكلفة وذكرت الآية أمرين وهما:
الأول: محاولات الكفار الإضرار بالمسلمين.
الثاني: عدم وصول شئ من الضرر الى المسلمين الا على نحو الأذى والضرر القليل.
ولم تذكر الآية الضرر الذي يلحق الكفار ، وفيه وجوه:
الأول: الضرر الذي يلحق الكفار من تعديهم على المسلمين اكبر من الضرر الذي يصل الى المسلمين.
الثاني: ليس من ضرر على الكفار من محاولاتهم الإضرار بالمسلمين.
الثالث: يصيب الكفار ذات الضرر الذي يصيب المسلمين كماً وكيفاً وان تباين في ماهيته.
والصحيح هو الأول، لان الكفار يجتهدون في الإضرار بالمسلمين وينفقون الأموال، وينشغلون عن المكاسب والأعمال، ويتوجهون الى الإضرار بالمسلمين ثم لايجدون لسعيهم أثراً سلبياً على المسلمين مما يؤدي الى بعث الفرقة بين الكفار، وتخلي الأتباع عنهم، وترك الناس نصرتهم، وميل جماعات وأمم لدخول الإسلام، وإصابة عموم الكفار بالخيبة والحسرة، وهذه الامور من اسباب قيامهم بقتال ومحاربة المسلمين، واسرار انتصار المسلمين عليهم.
قانون لا ضرر على المسلمين
إبتدأت الآية بالحرف(لن) التي تجحد المستقبل، وإختلف الخليل وسيبويه في أصلها، إذ قال الخليل أصلها لا أنّ، فحذفت الهمزة تخفيفاً، فإلتقت ألف لا، ونون أن، وهما ساكنان، فحذفت الألف من لا لسكونها وسكون النون بعدها، فإجتمعت اللام والنون، وصار لهما بالإمتزاج والتركيب حكم آخر) ( ).
ولم يأخذ سيبويه وأصحابه بهذا القول، قال سيبويه:لو كان الأصل لا أن لما جاز : زيداً لن أضرب) لإمتناع جواز تقدم الصلة على الموصول.
ولن نفي للفعل في المستقبل، وهنالك مسألتان وفق القياس الإقتراني:
الأولى: بين(لا) و(لن) عموم وخصوص مطلق، إذ تنفي(لا) الماضي والمستقبل والدائم، أما (لن) فلا تنفي إلا المستقبل.
الثانية: بين(لم)و(لن) عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء هي النفي، وتختص(لم) بالنفي في الزمن الماضي، و(لن) للزمن المضارع.
لقد إبتدأت الآية بالحرف(لن) الذي يخبر عن عدم وقوع الضرر من الفاسقين في المستقبل، وفيه مسائل:
الأولى: لم تخبر الآية عن الزمن الماضي، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: وقوع الضرر والإضرار بالمسلمين من الكفار والفاسقين من أهل الكتاب، كما في واقعة أحد وما لحق المسلمين من الأذى إذ قتل منهم سبعون، وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشجّ في وجهه.
الثاني: تجلي معاني النصر فيما مضى من أيام المسلمين كما في معركة بدر , ونزول ثلاثة آلاف من الملائكة مدداً لنصرة المسلمين ، (وعن ابن عباس: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وكانوا في غيره من الأيام عدة ومدداً).
ونزلت الآية محل البحث بعد معركة بدر التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان سنة إثنتين للهجرة على الأظهر، فنصرة الملائكة في الماضي، أما في المستقبل فقد جاءت هذه الآية بالبشارة ولا يمنع من كون نزول الملائكة فرداً من أفراد البشارة , وسبباً من أسباب دفع ضرر الكفار والفاسقين وصدهم عن إيذاء المسلمين، والله تعالى أعلم بالمصلحة والمنفعة، وقد أنعم على المسلمين بدفع المفسدة وأسباب الضرر.
الثالث: كان المسلمون في كر وفر مع الكفار، فمرة تكون الغلبة للمسلمين كما في معركة بدر، ومرة ينجو الكفار من الهزيمة كما في معركة أحد، وأخرى يحتمي المسلمون بخندق، ومن يتجاوزه من الكفار يكون مصيره القتل وإن كان من أكبر الفرسان كما في عمر بن ود العامري ,وهو من عمومات قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ونزلت هذه الآية لتخبر عن تبدل الحال، وعدم حصول الإضرار بالمسلمين بعد نزولها.
الرابع: كان المسلمون في بدايات الدعوة قلة وفي حال من الضعف قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ]( ).
وإبتدأت هذه الآية بقوله تعالى(لن يضروكم) لتكون بشارة للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو من وجوه تفضيل المسلمين بأن تصاحبهم البشارة بالأمن والسلامة من كيد الأعداء، ومن يعمل بمرضاة الله، ويحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله عز وجل يجعل له واقية من شر الفاسقين.
لقد غلقت هذه الآية صفحة من الضرر والإضرار عن المسلمين إلى يوم القيامة، وجعلت أمة من الناس عاجزة عن الإضرار بهم، وهذه الأمة ليست بالقليلة بل لها أثر وموضوعية من وجوه:
الأول: الفاسقون هم الأكثر من بين أهل الكتاب، وتحتمل وجوهاً:
الأول: الكثرة بين اليهود.
الثاني: الكثرة بين النصارى.
الثالث: الكثرة من بين كل من اليهود والنصارى.
الرابع: الفاسقون هم الأكثر من مجموع أهل الكتاب مطلقاً.
ويبين الإستثناء بحرف التبعيض(من) بقوله تعالى(منهم) رجحان الوجه الرابع , وهو الظاهر مما يدل على عظيم البشارة ومضامين التخفيف عن المسلمين في هذه الآية الكريمة.
ومن البشارة إنتفاء وصول الضرر إلى المسلمين وفيه دعوة لهم للإجتهاد في طاعة الله، ومناسبة لبناء صرح الدولة الإسلامية، وتثبيت معالم الدين وندب فرقة منهم للتفقه في أحكام الحلال والحرام، وإتقان سنن العبادات والمواظبة عليها، وتنمية ملكة التقوى في النفوس, قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، ومن مصاديق الرحمة الإلهية في هذه الآية الكريمة الإخبار عن حجب الضرر عن المسلمين , ليتمكن المسلمون من نشر كلمة التوحيد ودعوة الناس للإسلام، ولحصول المنع القهري للناس عن الإضرار بالمسلمين.
وهل تعطل الآية الضرر من طرف واحد وتترك للمسلمين الإضرار بغيرهم، الجواب لا، لأن المسلمين لا يضرون أحداً ومن الأدلة عليه ورود الآية السابقة بالإخبار السماوي بأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فإن قلت قام المسلمون ومنذ بداية الدعوة الإسلامية بالغزو، وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السرايا للفتح، والجواب أن الغزو رحمة بالناس، وسبيل لهدايتهم إلى الحق ونجاتهم في النشأتين، فهو حاجة لهم يتحمل المسلمون فيه العناء ويقاتلون ويقتلون في سبيل الله , لإنقاذ الناس من براثن الكفر والضلالة، ومن الدلائل على معاني الرحمة والرأفة بالناس في دخول المسلمين المعركة ومبادرتهم للغزو أمور:
الأول: إنهم لا يبدأون أحداً القتال.
الثاني: قيامهم بالإنذار والتبليغ، والدعوة إلى الإسلام بين الصفين وقبل القتال.
الثالث: عدم قلع الأشجار، والتنزه عن التعرض للصبيان والنساء.
الرابع: إجتناب القتال بدخول الطرف الآخر الإسلام , وحفظه في دمه وماله وعرضه، ويكون له ما للمسلمين, قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا]( ).
الخامس: قبول الجزية من أهل الكتاب، ودخولهم في ذمة وحفظ الإسلام والمسلمين.
قانون لن يضروكم
جاءت الآية وثيقة سماوية خالدة وشهادة قرآنية وإخباراً من علم الغيب عن موضوع ذي أهمية خاصة في حياة المسلمين، فتدل الآية على أمور:
الأول: نية وعزم الكفار والفاسقين على إرادة الإضرار بالمسلمين.
الثاني: تلبس الكافرين بفعل الإضرار بالمسلمين.
الثالث: عدم وصول الضرر للمسلمين الا على نحو الأذى الذي هو أدنى مرتبة، وأخف وطأة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (لن يضروكم) وفيه وجوه:
الأول: توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ومن خلاله للمسلمين.
الثاني: إنحلال الخطاب وتوجهه لكل مسلم ومسلمة.
الثالث: إرادة المسلمين كأمة، فيأتي الضرر من الكفار عاماً وخاصاً، يتوجه للفرد من المسلمين وللجماعة منهم، وللأمة.
وتبين الآية كثرة التحديات والمكائد التي تأتي من الكفار للمسلمين، وفيها انذار للكفار والفاسقين، وزجر عن الإستمرار بالاضرار بالمسلمين، وهذا الزجر من وجوه:
الأول: إخبار هذه الآية الكفار بانهم لن يستطيعوا الإضرار بالمسلمين.
الثاني: إدراك الكفار لحقيقة وهي تبدد اكثر افراد كيدهم ومكرهم، ويأتي هذا الإدراك من وجوه:
الأول: مضامين هذه الآية الكريمة.
الثاني: كثرة عدد المسلمين وإزدياد قوتهم.
الثالث: الشواهد الواقعية اذ يدبر الكفار واعداء الإسلام مطلقاً المكائد بالمسلمين وما تمر الأيام والليالي حتى يتضح لهم عدم ترتب الأثر عليها، وعدم نفعها.
الرابع: تحلي المسلمين بالصبر في ذات الله.
الخامس: مواظبة المسلمين على أداء الفرائض والعبادات.
السادس: مواجهة المسلمين لمحاولات الإضرار بهم.
وفي الآية بشارة للمسلمين وإخبار بالتخفيف عنهم اذ جاءت الآية بقانون ثابت يتغشى المسلمين في جميع الأزمنة والامكنة، ففي المدينة ومكة إزداد عدد المسلمين واصبحوا ذوي منعة وقوة، ولكنهم لايزالون قلة في أمصار أخرى ، والمسلمون أقوياء منذ أيام التنزيل، ولكنهم قد يمرون بحالات من الضعف في أزمنة لاحقة، فجاءت الآية لإفادة عدم حصول الإضرار بالمسلمين، مع وجود القصد والعزم عند اعداء الإسلام للاضرار بهم، وهذا القصد يتجلى من وجوه:
الأول: منطوق الآية.
الثاني: وقوع الأذى بسبب سعيهم المذموم للإضرار بالمسلمين.
الثالث: عداوة الكفار للمسلمين.
وتدعو الآية المسلمين للعمل ليومهم وغدهم، وعدم التردد والإبطاء في تعظيم شعائر الله، أوفي نشر مبادئ الإسلام والعمل بأحكامه خشية من الكفار.
ومن إعجاز القرآن مجئ هذه الآية في أغراض ومقاصد سامية متعددة منها:
الأول: الإخبار عن صد كيد الكفار بفضل من الله قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثاني: التخفيف عن المسلمين.
الثالث: البشارة بنصر الإسلام ودفع الضرر والكيد عنهم.
الرابع: طرد الخوف والفزع من نفوس المسلمين.
الخامس: بعث المسلمين الى الجهاد والسعي في سبيل الله، وعدم الخشية من مكر الكفار والفاسقين، اذ ان الخوف من كيد العدو يجعل الانسان منشغلاً به ، ويصرف النظر عن كثير من أهدافه وما يبغي انجازه، فتأتي هذه الآية لتدعو المسلمين الى السعي الحثيث في سبيل الله ولاينحصر هذا السعي بميدان مخصوص من ميادين الحياة، او بزمان او بلد دون غيره من البلدان، بل هو شامل لميادين العقائد والعبادات والأحكام والإجتماع والاخلاق وتهذيب النفوس والعمل الدؤوب للآخرة.
ومن الإعجاز في الآية انها لم تنف الضرر مطلقاً عن المسلمين، بل تشير الى الحاق الأذى بالمسلمين بسبب كيد الكفار، وفيه دعوة للمسلمين للصبر والتحمل والشكر لله على نعمة صرف الضرر الجسيم عنهم، وحجب كيد الكفار من الوصول اليهم ، ترى ماذا يحصل لو لم يصرف الله عزوجل الضرر الجسيم عن المسلمين، فيه وجوه:
الأول: إمتناع الكفار عن إيذاء المسلمين.
الثاني: إزدياد محاولات وسعي الكفار للإضرار بالمسلمين.
الثالث: إنشغال المسلمين بصد ودفع مكائد الكفار.
الرابع: الإضرار بالمسلمين، وتحملهم أعباء إضافية لاطاقة لهم بها.
الخامس: تباطئ جماعات من الناس من الدخول في الإسلام خشية الإضرار بهم، أوبسبب الوقوع تحت تأثير الكفار وشبهاتهم وما يفترونه على الإسلام.
السادس: إزدياد المناجاة بين الكفار بالباطل.
وبإستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى كلها ممكنة ولاتعارض بينها لذا فان فضل الله على المسلمين عظيم في دفع الضرر عنهم، الأمر الذي يستلزم الشكر والثناء منهم لمقام الربوبية وتجلي معاني الشكر بالمواظبة على طاعة الله.
قانون صيرورة الضرر أذى
جاءت هذه الآية لبيان نعمة من نعم الله عزوجل على المسلمين وتتجلى هذه النعمة بتخفيف وطأة كيد الكفار وإضرارهم بالمسلمين، لقد خلق الله الانسان وجعله محتاجاً لغيره وضعيفاً يحتاج القوة والمدد قال تعالى [خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( )، كما ذكر القرآن أن الإنسان في أصل خلقه فزع مفتقر الى رحمة الله، قال سبحانه [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا]( ).
وجاءت هذه الآية لتبين العون الإلهي للمسلمين لبعث القوة في صفوفهم، وتنمية ملكة السكينة في نفوسهم،وجعلهم قادرين على مواجهة الأعداء واسكات الكفار، ورد أذاهم، بان حصنهم من الضرر الذي يأتي من الكفار ، فلا يصل اليهم إلا بادنى مرتبة ، ولايكون الا أذى قليلاً ، ويحتمل قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى] وجوهاً:
الأول: يريد اعداء الإسلام إيقاع الضرر الشديد بالمسلمين، ولكنه في النتيجة لايكون الا أذى وضرراً قليلاً.
الثاني: ما يسعى اليه الكفار هو أذى المسلمين وليس الإضرار بهم.
الثالث: مايقع على المسلمين من الكفار ضرر محض، ولكنه لايكون في الواقع إلا أذى.
والصحيح هو الأول، فانهم يقصدون الإضرار الشديد بالمسلمين ولكن الله عزوجل يعصم المسلمين من الضرر ويصرف عنهم أكثر أفراده ولايصل اليهم إلا النزر اليسير منه، بما يجعلهم قادرين على تحمله ودفعه، وتحتمل النسبة بين الضرر والأذى وجوهاً:
الأول: العموم والخصوص من وجه، أي بينهما مادة للإلتقاء، ومادة للإفتراق وهو على قسمين:
الأول: الضرر جزء من الأذى، وكل أذى هو ضرر، وليس العكس.
الثاني: الأذى جزء من الضرر وكل ضرر هو أذى، وليس العكس.
الثاني: الضرر فرع الأذى.
الثالث: التباين بينهما.
الرابع: التساوي، فالضرر هو نفسه الأذى من غير فرق بينهما.
والصحيح هو القسم الثاني من الوجه الأول، فالضرر اعم من الأذى وهو وفق الاصطلاح البلاغي من الإستثناء المتصل والتقدير: لن يضروكم إلا أذى يسيراً، وقيل انه من الإستثناء المنقطع بتقريب ان جنس الأذى ليس من الضرر، وهو بعيد، وفي الآية بيان للفضل إلالهي على المسلمين بسلامتهم من كيد الكفار والشر القادم منهم.
وقد جاء أذى فريق من بني إسرائيل لموسى عليه السلام ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ] ( )، ومن اعجاز القرآن ان الآية لاتجعل المسلمين يركنون الى الكفار ويخلدون الى الراحة، بل انها تبعث فيهم روح اليقظة والحيطة، وتدعوهم لأخذ الحذر والإحتراز من الكفار، من وجوه:
الأول: الأذى شر وفيه ألم ونصب وعناء.
الثاني: يتم صرف الكثير من أفراد الأذى بفضل الله على المسلمين، وتحذيره للمسلمين من الكفار وضررهم، ومنه هذه الآية التي تتضمن التحذير والتنبيه من كيد ومكر الكفار.
الثالث: في الآية دعوة للمسلمين للصبر على أذى الكفار، وعدم الفزع منه، او من زيادته وشدته، فمن إعجاز الآية انها تبعث الطمأنينة في قلوب المسلمين بان الذي يلحقهم من أذى الكفار لن يتسع أو يزداد، بل يبقى على ذات المرتبة.
وفي الآية إعجاز بلاغي ولغوي ، فالمعروف ان النسبة بين الضرر والأذى هي الترادف والتساوي، فجاءت هذه الآية لتبين الفارق الكبير بينهما، وان الضرر لن يصل الى المسلمين من الكفار والفاسقين وان سعوا اليه الا بمرتبة أدنى وأخف ، وهذا الأمر ظاهر بلحاظ ضعف همة الفاسقين وماعندهم من سجايا الفرقة والخلاف، ومايعيشون من اسباب الضلالة والضياع، وبلحاظ قوة شوكة المسلمين وثباتهم على الإسلام وتعاهدهم للفرائض والواجبات.
وتشير الآية الى ان الضرر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وأدناها الأذى، الذي يكون هو الآخر على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً لذا فمن إعجاز الآية ان الضرر الذي يأتي من الفاسقين من أهل الكتاب وغيرهم من أدنى مراتب الضرر، الا انه نفسه يكون على مراتب ودرجات متفاوتة بحسب الحال والزمان والمكان الا ان اعلى مرتبة من الأذى هي من أدنى مراتب الضرر.
لقد جاءت هذه الآية بوثيقة سماوية خالدة الى يوم القيامة وهي عدم إرتقاء وإزدياد الأذى الذي يأتي من أهل الكتاب الى مراتب عالية من الضرر فمن فضل الله عزوجل على المسلمين ان يجعل ضرر وشر الكفار بمرتبة ادنى ودرجة ليس فيها ضرر كبير على المسلمين ولايصل منه الا المسمى وصرف الطبيعة وما يجعل المسلمين في شكر دائم لله تعالى، ويقظة وحذر متصلين ، وفيه دعوة للمسلمين للثبات على الإيمان وحث للكفار لدخول الإسلام بعد رؤية آيات إكرام المسلمين الظاهرة والباطنة، والعقلية والحسية.
وهذه الآية أي صيرورة الضرر أذى من الآيات العقلية والحسية في آن واحد، فالفاسقون والكفار يبيَتون للمسلمين ويحكمون مكرهم، ثم يرون عدم وصول شئ منه الا النزر اليسير الذي يستطيع المسلمون تحمله والصبر عليه، ليبقى الثواب والأجر للمسلمين، والوزر والأثم على الكفار.
وهل يكون الإثم الذي يلحق الكفار على الأذى الحاصل، أم على الضرر المقصود منهم.
الجواب هو الثاني فان الإثم الذي يلحق الكفار بحسب نيتهم ومكرهم والمنكر الذي يرتكبون وتعديهم على المسلمين، ومن مصاديق تضاؤل الضرر المتوجه للمسلمين عدم ترتب الأثر على نهي اهل الكتاب للناس عن دخول ألإسلام.
فعندما يأتي المشرك والضال والتائه يسأل شخصاً من بني قريظة او النضير مثلاً عن صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلاماته عندهم في التوراة، ويحرف هذا الشخص تلك العلامات ويذكر خلافها فان هذا المشرك لايلتفت الى قوله، بل يقوم بالتدبر والتفكير والإعتبار من الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويكون عنده نوع مقارنة بين انكار هذا لعلامات النبوة، وبين الآيات العقلية والحسية الملازمة لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدرك العقل والوجدان لزوم الأخذ بالآيات والبينات لانها شاهد حاضر لايقبل التبديل ، ولايرقى الإخبار المخالف والتحريف الى معارضته، وبذا يكون سعي شطر من اهل الكتاب للاضرار بالمسلمين أذى قليلاً.
قانون التصدي
إختار الله عزوجل للمسلمين الخلافة في الأرض بتنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتضمنه لأحكام الحلال والحرام وسنن الشريعة الناسخة التي لاتقبل التغيير.
ومن الآيات ان ترى في كل زمان إستيعاب الشريعة لمستحدثات المسائل، وإمكان إقتباس أحكامها من القرآن والسنة، والإستغناء عن الرأي والإجتهاد وحكم العقل ، فالفقيه الذي يفتي في مسألة يطالب بالدليل من القرآن والسنة.
وكما تفضل الله وجعل عند المسلمين الكفاية في الفقه، والإبانة في الأحكام وتغشيها للميادين المختلفة العقائدية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها، فان الله عزوجل أنعم عليهم مرة أخرى وكفاهم شر أعدائهم، وهذا الكفاية حاجة وضرورة للمسلمين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وديارهم، فلقد أراد أعداء الدين إخراجهم من ديارهم بالحرب والقتال، والتعدي والظلم.
فجاءت هذه الآية بشارة الأمن والسلامة من الضرر إلا ما قل منه مما يمكن تداركه والتصدي له، ولو كان الضرر من الأعداء كثيراً فهل يقدر المسلمون على دفعه، والصبر على تحمله، والسعي لدرئه، الجواب نعم لان الله عزوجل امدهم بأسباب القوة والمنعة، وجعلهم متسلحين بالإيمان، ومع هذا فانه سبحانه خفف عنهم، وجعل مايصل اليهم من مكر وكيد أعداء الإسلام أذى من ادنى مراتب الضرر، وفيه دعوة للمسلمين للتصدي لهذا المكر والكيد، ودفعه ،وأخذ الكافرين باشد الاحوال وعدم الركون اليهم أو الغفلة عنهم ، حتى يكفوا عن ايذاء المسلمين لذا جاء الشطر التالي من الآية بالبشارة بالنصر بقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ].
ويدل التخفيف الوارد في هذه الآية بدلالته الإلتزامية على حث المسلمين على الوحدة والإتحاد، والتقيد بأحكام الأخوة وما يترشح عنها، والحرص على نبذ العداوة والفرقة والتشتت في صفوف المسلمين وهو الذي أكدته الآيات السابقة.
اذ ان العدو لايقصد فرقة واحدة من فرق المسلمين بل يستهدف الإسلام والمسلمين جميعاً، وحتى لو قصد في أذاه وتعديه فرقة من فرق المسلمين فان الضرر يأتي عليهم جميعاً عاجلاً ام آجلاً.
وتطرد البشارة الواردة في هذه الآية الفتور والكسل عن المسلمين، وتترشح عنها بشارات متعددة منها غلبة ونصر المسلمين عند المواجهة مع الأعداء، وبقاء اداء الفرائض، وتعاهد المسلمين للعبادات، وعدم الإضرار بالدين والملة، وكأن الآية تقول ان دافعتم عن الإسلام وعن انفسكم فالنصر حليفكم، وان صبرتم فان الضرر الآتي من الكفار لن يكون كبيراً او خطيراً.
وقد تحتاج الأمة الى المبادرة الى الهجوم، او الى الدفاع، او الى الصبر والتحمل الى حين التأهل للمواجهة او لإنصراف العدو وانشغاله بنفسه.
وتأتي هذه الآية لتكون بشارة النصر والأمن والسلامة في كل هذه الحالات، وتساهم في إجتناب المسلمين للعمل بخلاف ما يجب عليهم ومالا يقدرون عليه، فما دام النصر والأمن حليفهم مطلقاً ولن يصلهم الا أذى في كل الأحوال فانهم يختارون الأحسن والأفضل وما يلائم حالهم وهذا الإختيار عنوان للحكمة والعقل، وهو رشحة من رشحات فضل الله الذي يتجلى في هذه الآية بصرف أكثر أفراد المكر والكيد الذي يقوم به الكفار لمحاربة المسلمين، واذا كان القتال والمواجهة بالمثل من مصاديق مواجهة للكفار، ففي الصبر وتحمل الأذى مسائل:
الأولى: هل هو من مصاديق التصدي.
الثانية: هل يتعارض الصبر مع عمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ).
الثالثة: هل ينحصر الأجر والثواب بالتصدي باليد واللسان للعدو وظلمه أم يشمل الصبر.
الرابعة: هل يتعارض الصبر مع وجوب التصدي للأعداء.
اما الأولى فانه من مصاديق التصدي لأذى اهل الكتاب والكفار لما فيه من الثبات على الدين، والحفاظ على الشعائر، والصبر في جنب الله والإستعداد للوثوب على العدو عندما تتهيئ اسبابه.
واما الثانية فان تحمل الأذى لايتعارض مع عمومات الآية الكريمة أعلاه، للسعة والمندوحة في رد الإعتداء في الكيفية والزمان والحال، والصبر سلاح يجلب الظفر.
واما الثالثة فان الصبر باب للأجر والثواب اذا كان في مرضاة الله، وبقصد القربة ونصر الإسلام , ودفع الأذى عن الإسلام والمسلمين، وانتظار الوقت المناسب للرد.
واما الرابعة فان الصبر لايتعارض مع التصدي للعدو، بل انه من مصاديق التصدي ، وقد يكون أفضلها وأشرفها عندما يتضمن الإقدام على الخروج والمواجهة ودفع الضرر على الإسلام والمسلمين.
وقد جاءت آيات عديدة تحث على الصبر، خصوصاً وان الصبر مقيد بتعاهد الفرائض والواجبات والحرص على تقوى الله ، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
وهذه الآية من آيات التخفيف عن المسلمين لما فيها من درء الضرر عنهم، ودفع شر الكفار والفاسقين، وتيسير اسباب الظفر والغلبة للمسلمين على أعدائهم، وفيها حجة للمسلمين وحجة على غيرهم.
اما المسلمون فان الآية تدعوهم للإجتهاد في طاعة الله، وعدم الخشية من الأعداء.
واما غير المسلمين فان الآية زاجر لهم عن مواصلة التعدي على الإسلام والمسلمين، ودعوة لهم للإيمان، وفيها إنذار لهم من تصدي المسلمين وردهم الذي جاءت هذه الآية للإخبار عن ملازمة النصر والظفر له، وتجلي ثمرته بدحر وخزي الكافرين.
ومع ما في هذه الآية من التخفيف فانها تبعث القوة والمنعة في نفوس المسلمين، وتمنع من غلبة روح اليأس أو نفاذ اقوال أهل الريب والشك، او المنافقين والذين في قلوبهم مرض، فالآية الكريمة دعوة للدفاع عن الإسلام وبشارة النصر .
واذا كان الكفار يلحقون بالكيد والمكر الأذى بالمسلمين وهو أدنى درجات الضرر، فان تصدي المسلمين لكيد ومكر الكفار يلحق بهم الضرر البليغ ، ويجعلهم يندمون على تعديهم على الإسلام والمسلمين، ويتجنبون السعي لإيذاء المسلمين، وهذا الاجتناب من مصاديق الآية، والشواهد على صدق الإخبار القرآني.
قانون الاعجاز في لن يضروكم
ابتدأت الآية بنفي الضرر في الزمن الحاضر والمستقبل أما بخصوص الزمن الماضي والسابق لنزول هذه الآية ففيه وجوه محتملة:
الأول: عدم توجه الضرر مطلقاً الى المسلمين من جهة الكفار.
الثاني: كان الضرر قبل نزول هذه الآية على المسلمين كبيراً وشديداً، وليس أذى وحده.
الثالث: كان الكفار في غفلة عن الإسلام والمسلمين ولم يعلموا ان الإسلام يبلغ مرتبة يهدد فيها كياناتهم ورئاساتهم وسلطانهم على شطر من الناس.
الرابع: التساوي بين أفراد الزمان الماضي والحاضر والمستقبل فلا يصل من ضرر الكفار في الماضي الا الأذى ، والمرتبة الأدنى من أقسام الضرر.
الخامس: لم يصل من الكفار أي ضرر أو أذى قبل نزول الآية وهذا الوجه على قسمين:
الأول: عدم قيام أهل الكتاب والكفار بالتعدي على المسلمين والمكر بهم.
الثاني: تأخر وصول الأذى الموجه من الكفار الى المسلمين حتى أوان نزول الآية.
والصحيح هو الرابع من وجوه:
الأول: أصالة الإطلاق الزماني.
الثاني: حصول الشواهد التأريخية القريبة التي تؤكد صرف ضرر الكفار، كما في تعدي مشركي مكة على المسلمين ودفع أذاهم ومكر يهود المدينة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وخروج الإسلام قوياً منتصراً.
الثالث: التساوي والتشابه في صيغ مواجهة الكفار للإسلام والمسلمين، وإصرارهم على محاربة الإسلام وإيقاع الضرر بالمسلمين.
الرابع: الإستصحاب القهقري مع إمكانه والشواهد عليه، وان لم يقل به الأصوليون في باب الأحكام، فقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] أي لم ولن يضروكم، وكما إنصرف أذاهم في الماضي فان الله عز وجل يصرفه في الحاضر والمستقبل.
ويتجلى الإعجاز في الآية من وجوه:
الأول: الإخبار عن أنباء الغيب بلحاظ إرادة أفراد الزمان الطولية القادمة.
الثاني: اتحاد الحكم مع التباين في الأحوال والأمصار.
ويحتمل الخطاب في موضوعه ضيقاً وسعة وجوهاً:
الأول: انحصار الحكم بأهل المدينة، وموضع نزول الآية الكريمة.
الثاني: إرادة أيام التنزيل وزمان ما قبل انتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى.
الثالث: المقصود أوان الآية وأسباب النزول، كما لو كان هناك مكر شديد من أهل الكتاب وسعي للهجوم على المسلمين والنيل منهم بما يدب معه الخوف والفزع في صدور المسلمين، فجاءت الآية لرفع هذا الخوف وبعث السكينة في نفوسهم.
الرابع: جاءت الآية لبيان قاعدة كلية من غير وجود شواهد لها أوان النزول، وتقدير الآية “اذا ما أرادوا ان يضروكم فلم يضروكم الا أذى”.
الخامس: المقصود أيام صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثناء فترة النبوة والتنزيل وبعدها.
السادس: إرادة المسلمين في مكة والمدينة وما حولهما.
السابع: توجه الخطاب في الآية الكريمة الى المسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة ،ومن أيام التنزيل.
والصحيح هو الأخير، فالمراد من الآية الإطلاق وينحل الخطاب فيها ليكون موجهاً الى المسلمين جميعاً في أفراد الزمان الطولية غير المتناهية، وهو إعجاز إضافي للآية الكريمة.
الثالث: تعتبر هذه الآية ذخيرة وكنزاً إدخره الله عز وجل للمسلمين، فكما ان القرآن كنز محفوظ لم ينزل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ بعث الله آلاف الأنبياء ومرت أجيال كثيرة متعاقبة من البشر، ولم ينزل القرآن الا ان بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فكذا البشارة في هذه الآية فهي خير عظيم ورحمة مدخرة للمسلمين، فاذ ذهبت نبوات عديدة بقتل أشخاص الأنبياء، أو قلة أصحابهم ، وغلبة الكفار فان هذه الآية تخبر عن بقاء المسلمين أمة متحدة قوية.
الرابع: ليس من تناقض بين بقاء وقوة الأمة وبين وصول الضرر اليها، فقد يصل الضرر من العدو ولكن الأمة تبقى تتلقى الضرر وان سبب الضرر لها الضعف، ومع هذا فان الله عز وجل أنعم على المسلمين بنعمة خاصة وهي عدم وصول الضرر اليهم الا النزر اليسير منه، لتبقى آيات الرحمة والرأفة الإلهية ظاهرة على المسلمين في دولهم ومساجدهم ومناسكهم ومجتمعاتهم وسمتهم.
الخامس: إجتناب الكفار مواصلة الإضرار بالمسلمين، وإنشغالهم بأمورهم الخاصة أو بالتعدي والإختلاف فيما بينهم.
السادس: ظهور الشواهد للناس جميعاً على دفع الضرر عن المسلمين، فقد يرى العدو وغيره من أهل النظر وقوع الضرر على المسلمين ويجتهد في حسابه وبيانه وذكر مقدماته وعلله، ومما هو ثابت في الفلسفة عدم تخلف المعلول عن علته، ولكن النتيجة تأتي بخلاف ما كان الكفار يتوقعون ليظهر خطأ حسابتهم بأسباب قاهرة أو محسوسة ظاهرة أو بأمر مباغت لم يكن في الحسبان.
وحينما سار أبرهة لهدم البيت الحرام كان يعلم مقدار قوته وكثرة جنوده وعجز أهل مكة وما حولها من الوقوف بوجهه أو صده عن البيت الحرام، ولكن الله عز وجل أرسل عليه طيوراً صغاراً من السماء ليكون فيها هلاكه وجنوده قال تعالى [وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للآية محل البحث ان تكون إعجازاً متصلاً وشاهداً على نصرة الله عز وجل للمسلمين، وإخباراً عن أحوال المسلمين وإعانة لهم للإهتداء الى كيفية المعاملة والتصرف مع أهل الكتاب وغيرهم، ولا بأس من إعداد دراسات تبين المصاديق العملية لإعجاز هذه الآية وإتخاذها سلاحاً دائماً بيد المسلمين.
علم المناسبة
جاء الفعل “يضر” في القرآن تسع عشرة مرة وهو مجموع ما ورد لهذه المادة في القرآن، فلم يرد بصيغة الماضي مثل “ضروكم” أو “ضروك”.
وحتى لفظ “يضار” ورود ثلاث مرات فقط وكلها بصيغة المضارع ايضاً وتتعلق بالزوجية والبيع، ومن الآيات في المقام عدم وجود أضرار مستديمة بين المسلمين أفراداً وجماعات وطوائف ومذاهب في دعوة للمسلمين لإستحضار نعمة الأخوة التي انعم عليهم بها بقوله تعالى [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] .
فاذا كان الضرر القادم من الكفار يتبدد ولا يصل للمسلمين منه الا الأذى القليل، فلابد أن الضرر لم يصدر فيما بين المسلمين أنفسهم ، ولا إعتبار بالأفعال الشخصية التي تكون نتيجة لغلبة النفس الشهوية والغضبية.
وأكدت الآيات ان الكافرين لا يضرون الا أنفسهم قال تعالى [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( )، وقال تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ]( )، مما يدل على ان أذى الكفار لا يلحق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وانما يلحق بعض المسلمين.
وهو من إعجاز القرآن وشاهد على عدم حصول الأذى والضرر في باب الملة ومبادئ الإسلام، وتبليغ الرسالة، واذا كان مقام النبوة معلوماً من أذى الكفار فان المسلمين يستطيعون التغلب على الأذى الذي يأتي من الكفار ودفعه والإحتراز منه.
ومن بين التسع عشرة مرة التي ورد فيها الفعل “يضر” في القرآن جاءت خمس منها في سورة آل عمران وحدها، بينما لم يرد في سورة أخرى أكثر من مرتين اذ ورد في كل سورة من سورة المائدة، ويونس مرتين، وكلها تتضمن ذم الكفار ، وما يفعلون من عبادة الأصنام ومحاولات الإضرار بالمسلمين.
قوله تعالى [إِلاَّ أَذًى]
بعد أن أخبرت الآية عن نيل المسلمين صفة خير أمة بفضل الله وأنه سبحانه أخرجها للناس ليواظب كل مسلم ومسلمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله عز وجل، وأخبرت عن حال أهل الكتاب وان الإيمان هو الأحسن والأنفع للناس كافة، وان أكثرهم فاسقون .
جاءت هذه الآية لتخبر عن صدور محاولات الإضرار بالمسلمين وعدم وصول هذا الضرر اليهم الا على نحو السالبة الجزئية ويدل عليه افتتاح هذه الآية وما فيها من نفي الضرر والإستثناء منه.
ومن الآيات ان تبدأ هذه الآية بالبشارة للمسلمين، بنفي لحوق الضرر بهم لتكون عيداً متصلاً ، وذخيرة لهم ولذراريهم عند الشدائد.
لقد جاءت الآية قاعدة كلية منبسطة على كل زمان ومكان، وتبعث المنعة في مجتمعات المسلمين، وتطرد الخوف والحزن عن نفوسهم من أهل الكتاب وان كانوا أصحاب قوة وعدة وعدد، فمهما بلغ كيدهم وأذاهم فلا يصل الى المسلمين منه الا القليل فينصرف أكثره، وفي أسباب دفعه عن المسلمين وجوه:
الأول: ان الله عز وجل هو الذي يحفظ المسلمين أمة وأفراداً، ومن مصاديق حفظه لهم دفع الضرر والبلاء عنهم ، قال سبحانه [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
الثاني: احتراس ويقظة المسلمين، وتعاونهم وإتحادهم أسباب لمنع وقوع الضرر بهم.
الثالث: جاءت الآيات السابقة بأمر المسلمين بالإعتصام بحبل الله، وهذا الإعتصام واقية وحرز من الضرر النوعي العام.
الرابع: ان الله عز وجل يبعث أسباب الوهن والضعف في صفوف الذين يريدون الإضرار بالمسلمين.
الخامس: هذه الآية وعد كريم، والتقدير: “ان إرادوا الإضرار بكم فان الله عز وجل يجعله أذى قليلاً”.
السادس: ان مبادئ وأحكام الإسلام تجعل أكثر الضرر والمكر الموجه الى المسلمين يتبدد قبل أن يصل اليهم.
السابع: من خصائص خير أمة أخرجت للناس ان لا يصل اليها الضرر والشر من الفاسقين الا النزر اليسير منه ، فيندفع أكثره، وكأنه جزاء عاجل للمسلمين لأن الإسلام خير محض للناس جميعاً بما فيهم الكفار والفاسقين.
الثامن: يريد الله عز وجل أن يصرف الضرر عن المسلمين، وبيان آية العناية بهم لتكون درساً وعبرة وموعظة لأهل الكتاب والكفار، وبرزخاً دون إصرارهم على الجحود ومواصلة الإضرار بالمسلمين وتدبير الدسائس لهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من الآيات والمعجزات في حفظ الأمة التي جعلها الله خير الأمم، وأخرجها الله عزوجل للناس فاكرام وتشريف المسلمين لم يقف عند موضوع وأحكام التفضيل على الأمم الأخرى بل جعلهم الله أمة هادية مهدية، وقدوة وأسوة للأمم، يلحق بها المتأخر.
ومن الإعجاز ان يجعل الله للمسلمين واقية وحرزاً، ويدفع عنهم الضرر البالغ فقد يكون الضرر عائقاً دون أداء وظائف خير أمة، ويريد الله للمسلمين إستدامة قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر مبادئ التوحيد في الأرض وتعاهد الفرائض والواجبات، إذ أن وقوع وتوالي أفراد الضرر عليهم يشغلهم عن أداء واجباتهم على النحو الأتم والأكمل.
والآية حجة ودعوة للمسلمين لتعاهد أداء ما فرض الله عز وجل عليهم والتسابق في الخيرات، والحرص على الأخوة الإيمانية، والتمسك الدائم بالقرآن والسنة، وفي حال الرخاء والشدة، ويحتمل تبدد الضرر وصيرورته أذى وجوهاً:
الأول: إرادة أفراد الزمان الطولية فبدل ان يستمر الضرر على المسلمين فانه يتبدد في وقت قصير، ويسعى الفاسقون والكفار لجعل المسلمين في ضعف ووهن مستمر، ولكن المكر والكيد بهم يتبدد وينصرف بمدة وجيزة، فلا تمر الأيام والليالي حتى يتغلب المسلمون على الكيد والمكر الموجه اليهم، وتمحى آثاره ويكون من الشواهد التأريخية على إعجاز هذه الآية وإكرام الله تعالى للمسلمين.
الثاني: حصول التباين بين الضرر والأذى في الكم، بان يقصد الكفار الإيقاع بالمسلمين وإلحاق الضرر الفادح بهم، ولكنه يأتي للمسلمين كماً قليلاً.
الثالث: الإختلاف في الكيف والماهية، كما لو أراد الكفار بث الفرقة والتشتت بين المسلمين، فيتصدى المسلمون لأسباب الفرقة، ويحرصون على إظهار الوحدة ومعاني الأخوة بينهم.
الرابع: إنصراف شطر من المكائد، وإنعدام أثر عدد من الدسائس على المسلمين فكثير من محاولات الإضرار بالمسلمين تذهب سدى، ومنها ما ينصرف من غير ان يعلم المسلمون بفضل الله تعالى.
الخامس: التباين الرتبي والفارق في الدرجة بإعتبار ان الأذى أدنى مراتب الضرر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة وما تدل عليه من التباين بين شدة الضرر المنصرف عن المسلمين وقلة الأذى القادم عليهم من الكفار والفاسقين، وتدل الآية على عدم إنقطاع كيد ومكر الكفار بالمسلمين بقرينة مجيئها بصيغة الفعل المضارع.
ويحتمل الأذى المذكور في الآية وجهين:
الأول: أنه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في كل الأحوال والأزمنة.
الثاني: أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً.
والصحيح هو الثاني، فمرة يكون الأذى ضعيفاً وقليلاً وأخرى شديداً الا انه حتى في حال الشدة لا يرقى الى درجة الضرر، ترى ما هي أسباب التباين في مراتب الأذى الذي يلحق بالمسلمين من الكفار، فيه وجوه:
الأول: موضوعية نوع الضرر القادم من الكفار، فكلما يكون قصد الإضرار بالمسلمين والمكر بهم شديداً تكون مرتبة الأذى شديدة وثقيلة.
الثاني: إعتبار حال المسلمين، فاذا كانوا متحدين متمسكين بالقرآن والسنة فلا يصل اليهم الا أذى قليلاً وان كان المكر والكيد بهم شديداً ومحبوكاً.
الثالث: يخفف الله الأذى عن المسلمين في حال تقيدهم بالفرائض والواجبات التكليفية، ولجوئهم الى الله عز وجل بالدعاء والمسألة ورد كيد الكفار والفاسقين.
الرابع: أخذ المسلمين الحيطة والحذر والإستعداد للدفاع عن بيضة الإسلام، ورد كيد الكفار والفاسقين الى نحورهم.
الخامس: تفضل الله تعالى بصرف أكثر الضرر والأذى تخفيفاً منه عن المسلمين خصوصاً عند الإفتتان والإبتلاء قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وتعتبر هذه الآية وعداً كريماً من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات في تخفيف ودفع الضرر عنهم، ورفع الأذى وعدم إستدامته، وهو شاهد على تفضيلهم على أهل الملل الأخرى ودعوة للناس لدخول الإسلام.
قانون “إلا أذى”
جاءت الآية الكريمة بقانون ثابت يتعلق بثلاثة أطراف:
الأول: تعدي الكفار والفاسقين على المسلمين.
الثاني: المسلمون الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتبعوه ونصروه، فمع أنهم لم يفعلوا الا ما يجب عليهم كمكلفين، فان الأذى جاءهم ممن تخلف عن وظيفته وواجبه بلزوم التصديق بالنبوة والتنزيل.
الثالث: الضرر القادم من الكفار والذي لا يصل الى المسلمين منه الا أذى، وأدنى مراتب الضرر.
وذكرت الآية السابقة ان المسلمين خير أمة أخرجت للناس أي لا يصدر منها أذى للناس بل تصدر منها دعوات الإصلاح والهداية، وأسباب جذب الناس الى منازل الإيمان، ولكن الكفار لا يرضون بهذه الدعوات، ويصرون على الإقامة على الكفر والجحود ويردون بالتعدي على المسلمين والسعي للإضرار بهم، ومنعهم من الدعوة الى الإيمان، ولكن هذه الدعوة ليست لغواً، ولا تذهب أدراج الرياح، بل هي حق وتحصل إستجابة كثيرة لها.
ومن الناس من يبادر الى الإقرار بالآيات ودخول الإسلام ليصاب أقطاب الكفر بالغيظ والحنق ويزداد خوفهم من الإسلام، وتشتد مكائدهم بالإسلام فتأتي هذه الآية لتكون واقية وبشارة، ودعوة للإحتراز من كيد الكفار والفاسقين وبشارة الأمن والسلامة من شرورهم، ودعوة للمسلمين للمواظبة على تعظيم شعائر الله، وبيان أحكام الحلال والحرام، وإقامة الحجة على صدق نزول القرآن من عند الله، وجذب الناس للإيمان، فليس للكافر عقلاً وشرعاً وعرفاً ان يمنع غيره من دخول الإسلام.
أما عقلاً فان الآيات ظاهرة بلزوم إيمان الناس وتصديقهم بالنبوة، فتخلف الكافر عن وظيفته ظلم لنفسه، فيجب ان لا يظلم غيره أيضاً ويمنعه من الإسلام، وهذا المنع قبيح ذاتاً، وأما شرعاً فان كل إنسان بالغ عاقل مكلف ويتوجه له الخطاب بدخول الإسلام على نحو مستقل ولا يقف الكافر برزخاً بينه وبين الإمتثال للخطاب التكليفي، فكما انه يعجز عن حجب الدعوة ووصولها الى أي مكلف ولو كان عبداً عنده، فكذا تراه غير قادرعن منع أي إنسان عن الإسلام ولو كان إبنه أو زوجته بلحاظ ان الإيمان إقرار بالجوانح والقلب، وهذا العجز من مصاديق عدم إضرار الكفار والفاسقين بالمسلمين الا أذى.
ومن الأذى ما لو أسلم جماعة من معاشر الكفار ولكنهم خشوا إعلان الإيمان الى حين، ويطل قانون “الا أذى” على المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً كل يوم ليكون أثره عظيماً بحسبه، فأما المسلمون فمن وجوه:
الأول: أنهم يزدادون إيماناً.
الثاني: يعلمون باللطف والعناية الإلهية بهم ، في باب دفع الضرر عنهم.
الثالث: التوجه الى الله عز وجل بالشكر والحمد على نعمة عدم وصول الضرر اليهم إلا على نحو الأذى.
الرابع: الإنقطاع الى العبادة والسعي في مرضاة الله.
الخامس: السلامة من الخوف والفزع من الكفار وكيدهم ومكرهم، وهو من المصاديق الدنيوية العاجلة لقوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] فيدرك المسلمون حسن إختيارهم الإسلام، ولا يندمون على جهادهم في سبيل الله ، ولا يحزنون على الكفار ولا يخافون منهم ومن مكائدهم وشرورهم.
وأما أهل الكتاب فمن وجوه:
الأول: إدراك الحصانة السماوية التي تتغشى المسلمين.
الثاني: دعوتهم للتدبر في آيات النبوة وإعجاز القرآن.
الثالث: حثهم على إجتناب الإضرار بالمسلمين.
الرابع: معرفة الوظيفة الشرعية أزاء المسلمين بمودتهم والرفق بهم، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
الخامس: تحديهم بقاعدة كلية وهي عدم وصول الضرر الى المسلمين الى على نحو الأذى القليل، فكلما إجتهدوا بالأضرار بالمسلمين فان الذي يصل اليهم منه الى المسلمين أذى قليل.
السادس: إتخاذ مضامين هذا القانون مناسبة للإيمان والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: إجتناب تحريض الناس على الإسلام، ومنع الفاسقين من إيذاء المسلمين.
وأما الناس فمن وجوه:
الأول: يعتبر عدم وصول الضر البالغ الى المسلمين دعوة للناس للكف عن إيذاء المسلمين، فالآية لا تدعو لمنع الأضرار بالمسلمين وحده بل تدعو الى إجتناب إيذائهم ، فاذا كان الضرر لا يصل اليهم الا على نحو الأذى القليل، فان الأذى الموجه اليهم من أعداء الإسلام لا يصل منه شيء، ويدل ذهاب أكثر أفراد الضرر سدى وعدم وصولها الى المسلمين على عدم وصول تمام أفراد الأذى الذي هو أدنى مرتبة من الضرر.
الثاني: يمكن تأسيس قاعدة وهي اذا كان الذي يأتي من الفاسقين من أهل الكتاب ضرراً، فان الذي يأتي من الكفار أدنى منه رتبة وضرراً ويكون مفضوحاً، ويواجه من قبل المسلمين بالصبر والرد والحرص على الدفاع عن الإسلام ومبادئ الشريعة السماوية.
الثالث: الإعتبار والإتعاظ من تعدي الفاسقين على المسلمين، وعدم وقوع الضرر بالمسلمين، وإتخاذه درساً وموعظة، فقد يجد قوم من الكفار ذهاب سعيهم للإضرار بالمسلمين أدراج الرياح، فيكون مناسبة للتسليم بصدق نبوة محمد والعناية الإلهية بالمسلمين.
الرابع: إجتناب التواطئ والإشتراك بمحاولات الإضرار بالمسلمين لعدم الجدوى منها.
لقد جاءت الآية خطاباً للمسلمين، بصيغة الجملة الخبرية الا انها تتضمن الإنشاء المتعدد ، ومعاني الحكمة والنصح ، والزجر عن إيذاء المسلمين، والوعيد لمن يتعدى على المسلمين ويسعى في الإضرار بهم.
بحث فقهي
من أمهات القواعد الفقهية قاعدة(لا ضرر ولا ضرار) وورد مضمونها من طرق عديدة في كتب عموم المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها قاعدة في القضاء النبوي.
عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه( ).
وجاء إنتفاء الضرر والإضرار مطلقاً من غير حصر بإضرار المسلم بأخيه المسلم، وأن قيل بورود قيد في الإسلام، ويمكن إستفادة حرمة الضرر من هذه الرواية وهو على وجهين:
الأول: الحرمة التكليفية.
الثاني: الحرمة التكليفية والوضعية إذ يقتضي النهي التكليفي عن الضرر حرمته، أما الوصفي فيعني بطلان المعاملة التي تقضي الضرر سواء بالذات أو الغير ويمكن إعتبار كلمة(لا) والواردة في قوله تعالى(لا ضرر ولا ضرار) على وجهين:
الأول: أنها ناهية، فتكون الجملة إنشائية تتضمن الأمر والزجر عن الإضرار، ودعوة الفقهاء والحكام بإتخاذها قاعدة كلية في القضاء.
الثاني : إرادة الخبر بإستعمال(لا) في لا ضرر ولا ضرار، والمراد الإخبار والحكاية عن حال المسلمين، فمن خصائص خير أمة أن لا يكون فيها ضرر وإضرار، وتحتاج الجملة إلى خبر، والتقدير: لا ضرر موجود، وهو على وجهين:
الأول: نفي مصداق الضرر عن أحكام الإسلام.
الثاني: الإخبار عن إنعدام الضرر في الوجود الخارجي ولا تعارض بين الوجهين لحمل الحديث النبوي على الإطلاق، فأن قلت أن الوجود الخارجي لا يخلو من وقوع الضرر على أفراد وجماعات من المسلمين، وحصول التعدي عليهم في النفس والحال والعرض، وأن القدر المتيقن منها إنشاء الحرمة, والإخبار عن قبح الإضرار بالمسلمين شرعاً وعقلاً، وتدل عليه آيات عديدة من القرآن تنهى عن الظلم والتعدي، فهذا الحديث بيان وتفسير لآيات القرآن، قلت: أن الآية تنهى عن حصول الضرر ولا ضرار، وأن حصل فأن القضاء وأحكام الشريعة الإسلامية تطارد الذي يقوم بالإضرار بغيره إلى أن يؤخذ الحق أو يقتض منه.
أما الآية محل البحث فأنها جاءت بصيغة الجملة الخبرية، والنفي بلحاظ المدلول التصوري والإستعمالي والكشف عن قانون ثابت إلى يوم القيامة، وأن تعدي الفاسقين على المسلمين ليس من الأسباب التوليدية التي يتفرع عنها أثر مناسب لها، كما يؤدي الإلقاء في النار إلى الإطراق، أو الضرب المليوح إلى الهلاك، فلو إجتهد الفاسقون في محاولة الإضرار بالمسلمين فأنهم لن يتجاوزوا مراتب الأذى الخفيف الذي يستطيع المسلمون الإحتراز والوقاية منه.
ومن منافع الجملة الخبرية في الآية(لن يضروكم) تضمنها بالمفهوم نهي وتحذير الكفار الفاسقين عن التعدي على المسلمين، خصوصاً وأن الجملة الخبرية قد تستعمل في مقام الطلب والبعث وفيها بشارة حصول المنعة عند المسلمين، وإمتلاكهم أسباب التصدي للفاسقين، وزجرهم عن الإضرار بالمسلمين، فمتى ما أدرك العدو أنه لايستطيع النيل من خصمه فأنه يجتنب التعدي عليه.
وقد جاء القرآن ببعث المسلمين إلى جمع السلاح لمواجهة الأعداء قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) مما يدل على عدم إنحصار أعداد الجيوش ووسائل نقله ومؤونته بأيام الحرب والقتال، بل هو حاجة حتى في حال المسلم لبعث الخوف والفزع في نفوس الإعداء وجعلهم لا يهمون بالتعدي على المسلمين، كما أمر الله عز وجل المسلمين بالرد بالمثل على الذين يعتدون عليهم قال سبحانه[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( )، وهو من مقدمات منع الضرر عن المسلمين، أن ظهور المسلمين بمظهر القوة والمنعة سبب لإدراك الناس للمدد الإلهي للمسلمين، وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعناية الإلهية بالمؤمنين، ومنها حصانتهم من الضرر الفادح وإمكان تداركهم لما يلحق بهم من الأذى، ومما يعنيه إنتفاء الضرر، أن الضرر الذي يأتي للمسلمين لا يكون توليدياً، ولا تترشح عنها إضرار جانبية أخرى تؤدي إلى التشتت وقلة التقيد بالأحكام، بل أن الضرر الذي يأتي للمسلمين بجعلهم أكثر تماسكاً، ويبعث بينهم روح الأخوة ويدركون معه وجوب التمسك بالقرآن والسنة ويتجهون صوب قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] فكأن المراد من قوله تعالى(إلا أذى) عدم إستدامة الضرر، وإنعدام أثارة التوليدية والجانبية، والإخبار عن قدرة المسلمين على تداركه وتجاوزه لأن الأمور بخوايتهما بالإضافة إلى فوز المسلمين بالثواب العظيم نتيجة تحملهم الضرر والأذى.

قال تعالى[ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]
من وجوه البديع(التقسيم) وهو ذكر أقسام الشيء، وأفراد الموضوع الموجودة بما يفيد العموم والشمول، ومنه قوله تعالى[فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ] ( )، لإستيفاء حالات الناس المتباينة .
وجاءت هذه الآية لتبين وجوه تعدي الكفار المسلمون وأثره من وجوه:
الأول: عدم وصول الضرر إلى المسلمين من الفاسقين من أهل الكتاب الذين للإضرار بالمسلمين، فلا أحد يستطيع القطع بعدم وصول الضرر من العدو خصوصاً إذا كان العدو يتربص بك الدوائر.
صلى الله عليه وآله وسلم
علم المناسبة
وردت مادة “أذى” في القرآن أربع وعشرين مرة، وتبين في أكثرها ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقون والمسلمون من الأذى من الكفار، وهي مدرسة للمسلمين للصبر في جنب الله، والإستعداد لتلقي الأذى من الكفار والمنافقين وعدم الركون اليهم، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ] ( )، وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين من وجوه:
الأول: عدم الإنشغال بأذى الكفار والمنافقين.
الثاني: عدم ترتب الضرر على الأذى القادم من الكفار والفاسقين والمنافقين.
الثالث: بيان المدد الإلهي للمسلمين بالحصانة من الأذى والضرر، ويفيد الجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه إخبار المسلمين والناس جميعاً بانعدام أثر محاولات الأضرار بالمسلمين، اذ ان الأضرار وإرادة الضرر تتحول الى أذى محدود كماً وكيفاً ، وهذا الأذى متروك والآية أعلاه تدعو للإعراض عنه وعدم الإنشغال به، او جعله سبباً للإنتقام ، أو مانعاً من دعوةأصحابه الى الإسلام، بل يجب اتخاذه حجة عليهم وبرهاناً لنبذ وترك التعدي على المسلمين، ومناسبة لدعوتهم لدخول الإسلام.
وتتضمن آيات القرآن مواساة المسلمين لما يلاقونه من أذى الفاسقين من أهل الكتاب فمنهم من آذى النبي موسى عليه السلام قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا] ( )، فهؤلاء الذين يؤذون المسلمين قد آذوا موسى عليه السلام من قبل مع تعدد الآيات التي جاء بها، كما ان أذاهم لموسى لم يضره اذ نصره الله وأظهر براءته وأثبت نزاهته.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم خير أمة أخرجت للناس فلا يضرهم الأذى الذي يأتي من الفاسقين والكفار، وقد جاءت آيتان متتاليتان في سورة الأحزاب تبين إحداهما ايذاء الكفار لله ورسوله، والثانية ايذاءهم للمؤمنين والمؤمنات قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا*وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] ( ).
وفيه إنذار للكافرين والفاسقين، وزجر ودعوة لهم للكف عن الإضرار بالمسلمين، وإخبار بان تبدد أكثر الضرر ووصوله الى المسلمين على نحو الأذى القليل لا يمنع من ترتب الإثم العظيم عليه، واستحقاق الكفار والفاسقين الذين يؤذون المسلمين اللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، فسواء قصد الكفار الإضرار بالمسلمين او أيذائهم، وسواء وصل المقصود من الضرر والأذى الى المسلمين على نحو السالبة الكلية اوالجزئية وسقوط وانصراف ومحو أكثر أفراده فان الكفار والفاسقين يبوءون بإثمهم، وينالون العقاب.
ومن الآيات عدم إنحصار العقاب في الدار الآخرة بل تشملهم اللعنة في الدنيا ويستحقون العقوبة الوضعية على الإثم والإفتراء والبهتان.
ومن بين الأربع والعشرين مرة التي ذكر فيها مادة “أذى” في القرآن ما تكرر في سور القرآن كالآتي:
الأول: سبع مرات منها في سورة الأحزاب.
الثاني: خمس مرات في سورة البقرة.
الثالث: ثلاث مرات في آل عمران.
وجاءت مادة “أذى” في سورة الأحزاب في باب تعليم المسلمين وبيان إرتقائهم في المعارف الإلهية والمائز بينهم وبين من سبقهم من الأمم.
وورد في موسى عليه السلام في القرآن أنه ذم بني اسرائيل على ايذائهم له، ووعظهم وذكرهم بانه رسول الله وحثهم على إكرامه وإتباعه ونصرته قال تعالى [إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمَْ] ( ).
وتدل الآية محل البحث في مفهومها وسياقها على ذم الفاسقين الذين يسعون للإضراربالمسلمين، وفيها انذار لهم بالبلاء والفتنة وسوء العاقبة، فقيامهم بمحاولات الإضرار بالمسلمين، وتكرار ايذائهم لن يترك سدى لتكون النتيجة نجاة وسلامة المسلمين من الأذى، وتحمل الفاسقين أوزار تعديهم على الإسلام والمسلمين.
قانون الإحتراز من الأذى
ذكرت الآيات القرآنية الأذى، وهو نوع مفاعلة بين طرفين ويحتمل وجوهاً:
الأول: أذى الكفار والفاسقين للمسلمين.
الثاني: أذى المسلمين للكفار والفاسقين .
الثالث: أذى الكفار بعضهم لبعض.
الرابع: أذى المسلمين فيما بينهم.
أما الأول: فهو منطوق وموضوع هذه الآية، وما يأتي من الكفار أكبر وأكثر من الأذى، ولكن الله يتفضل على المسلمين فيصرف عنهم الضرر الجسيم.
وأما الثاني: فان المسلمين منزهون عن إيذاء الناس، وهم رحمة لهم من وجوه:
الأول: إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الصلاة ، قال “صلوا كما رأيتموني أصلي” في دعوة للمسلمين لمحاكاته في سنته الفعلية وأدائه للعبادات ليكونوا مرآة الرحمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: المسلمون خير أمة و”خير” عنوان للصلاح والرشاد والحسن الذاتي والغيري.
الثالث: تفضل الله تعالى وأخرج المسلمين للناس، وهذا الإخراج عناية إلهية بالمسلمين والناس، ويدل بالدلالة التضمنية على عدم إيذاء المسلمين للناس.
الرابع: تبين الوقائع والشواهد التأريخية عدم إيذاء المسلمين للناس.
الخامس: تقيد المسلمين بأحكام الحلال والحرام وسنن الشريعة التي تمنع من الأذى والإضرار بالآخرين.
أما الثالث: فان الفتن والغدر مستمر بين الكفار والفاسقين وبعضهم يتعدى على بعض، وهذا التعدي من أسباب قلة وتبدد الأذى الذي يأتي الى المسلمين من جهتهم.
وأما الرابع: فقد جاءت هذه الآيات بالإخبار عن تغشي نعمة الأخوة المسلمين، وابتعادهم عن الفرقة والتشتت، وتتجلى مصاديق إنتفاء الأذى فيما بينهم بأدائهم الفرائض والعبادات على نحو جماعي متحد في زمانه وكيفيته وأحكامه.
وما يحدث أحياناً قليلة بينهم من أسباب العداوة والخصومة فهي نتيجة أسباب شخصية وغلبة النفس الشهوية والغضبية عند أفراد وجماعات منهم، وابتعادهم عن سنن وأحكام الإسلام، وهذا الإبتعاد مؤقت ومتزلزل ولا يستمر طويلاً ، كما أنه يكون محصوراً بين أفراد او فرقة منهم، مع إجتماع المسلمين على التدارك ودرأ الفتنة وإصلاح ذات البين.
ومن الآيات ان المسلم الذي يكون طرفاً في خلاف وخصومة مع أخيه المسلم يدرك أضرار الخصومة وانها خلاف الأصل وحكم الشرع والعقل، ليخرج المسلمون من الفتنة أكثر قوة ومنعة، وترى الجماعة او الفرقة او الدولة من المسلمين التي تبتلى بخصومة وعداوة او قتال مع غيرها من المسلمين تتجنب تكرار حصول الخصومة والإقتتال مع غيرها من فرق المسلمين.
وقد تكون رائداً في الإصلاح بين المسلمين والجماعات منهم التي تختلف فيما بينها ، ويلتقي جميع المسلمين بإدراك حقيقة وهي توجه الضرر والأذى من الكفار والفاسقين اليهم اذ يستهدفون الإسلام ومبادئه والمسلمين في أنفسهم وأموالهم وشعائرهم وبلدانهم.
وهذا الإدراك من رشحات نعمة الأخوة بين المسلمين التي جاءت قبل ست آيات مقترنة بالأمر الإلهي بالإعتصام بالله والقرآن والسنة، ليكونا معاً أي الإعتصام ونعمة الأخوة واقية من الأذى الذي يأتي من الكفار، وحرزاً ذاتياً لتنمية ملكة التآلف والإتحاد، والأخوة الإيمانية التي تكون سلاحاً لدفع أذى الكفار.
ومتى ما رأى الكفار المسلمين متآخين متحدين فانهم يخشون جانبهم، ويتجنبون التعدي عليهم، ويرجون نوالهم، كما ان الأخوة وسيلة لجذب الناس للهداية والإيمان ودعوة للناس لدخول الإسلام، لأنها آية إعجازية تتجلى للناس جميعاً بسيرة المسلمين اليومية، فبينما يختلف الأخوان النسبيون من الأمم الأخرى فيما بينهم وتتقطع عندهم الأرحام، يبدو المسلمون على كثرتهم أخوة متحابين في مرضاة الله،ويساعد غنيهم فقيرهم بالزكاة الواجبة والمندوبة ويقف الحاكم والمحكوم والرجل والمراة بين يدي الله للصلاة بذات النسبة فلم تكن الصلاة على النساء أكثر منها على الرجال ولا العكس، بل ان التكليف واحد.
ويهرول الغني والفقير والسيد والعبد جنباً الى جنب بين الصفا والمروة بلباس ككفن الميت ملبين مجيبين لله تعالى وحده لا شريك له.
لتكون العبادات والمناسك شاهداً على أخوتهم وإتحادهم وزجراً للفاسقين والكفار عن إيذائهم والتعدي على ثغورهم وبلادهم، ودعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام ويكون الإحتراز من ضرر الكفار من معاني الآية السابقة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] .
فما دام المسلمون دائبين على طاعة الله، فان الناس يحاسبون أنفسهم عن التخلف عن طاعة الله، ويسعون لمعرفة ألآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما لها من الدلالات وهذه المحاسبة والسعي من أسباب إنشغال الكفار عن إيذاء المسلمين، واذا تصدى فريق منهم للأضرار بالمسلمين فانه لا يجد أعواناً وأنصاراً.
قانون الصبر على الأذى
في الآية إخبار عن تلقي المسلمين الأذى من الفاسقين من أهل الكتاب وغيرهم، مع إحتمال حصول المواجهة والإقتتال، وتضمنت الآية ما يدل على ان هذا الأذى أدنى مراتب الضرر وان الذي ينصرف منه بفضل الله أكثر من الذي يتلقاه المسلمون، وهل من ثواب للمسلمين في تلقي الأذى، الجواب نعم.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء وإختبار وهيء الأسباب العقلية والحسية الظاهرة لهداية العباد وارشادهم الى سبل الإيمان، وجعل ذات الإنسان آية في الخلق تدل على عظيم قدرة الله عز وجل ، وجعله محتاجاً اليه على نحو الإستدامة مع تعدد الحاجة وكونها من المتصل واللامنتهي ، وملأ الآفاق بالآيات والدلائل على بديع صنعه.
وتفضل وجعل النبوة ملازمة للإنسان منذ أول نزوله الى الأرض لم تفارقه الا بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى، مما يدل على بقاء أحكام النبوة ومضامينها بالقرآن والسنة النبوية وخير أمة اخرجت للناس التي تتحمل الأذى في جنب الله لتحافظ على أحكام الشريعة السماوية، وتحفظ آيات القرآن الكريم من التغيير والتحريف، وتتعاهد الفرائض والعبادات والسنن وتدعو الناس للإسلام، وصبغة الإيمان.
لقد جعل الله عزوجل الدنيا دار سعي وجهاد للمسلمين، وهذا الجهاد أعم من أن يكون بالسيف، او المبادرة الى الفعل وقصد العدو والطرف الآخر مطلقاً، بل يكون بالجهاد الدفاعي باللسان والحجة والصبر والتحمل، ليكون الصبر أمراً وجودياً، وفعلاً يجلب الأجر والثواب، ووسيلة لتعاهد أداء الفرائض والواجبات، ان مرور الأيام والأشهر والسنوات على المسلمين وهم يؤدون الفرائض ويحفظون القرآن والسنة من افضل السبل لتثبيت دعائم الدين، وقد لاقى الأنبياء من قبل الأذى من قومهم فواجهوا بأمور:
الأول: حسن التوكل على الله.
الثاني: المواظبة على طاعة الله.
الثالث: الصبر على أذى قومهم قال تعالى [وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا]( ).
وجاءت نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس كافة وليس لقوم معينين، مما يعني أزدياد الأذى من باب الأولوية فاذا كان الأنبياء السابقون يتلقون الأذى من قومهم، فلابد ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يتلقون الأذى من الناس لعموم الدعوة الإسلامية، وتوجيه الخطاب التكليفي للناس جميعاً بالإسلام، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال “ما اوذي نبي مثل ما اوذيت”( ).
وتجلت معاني الصبر بالسنة النبوية القولية والفعلية بالمواظبة على تثبيت أركان الدين ومواصلة التبليغ، والإجهار بالدعوة، وبعث الرسل الى كسرى وملوك الروم والنجاشي لدخول الإسلام في ذات الوقت الذي تتوجه فيه الدعوة الى الفقراء والمساكين والمستضعفين مطلقاً وعامة الناس، ليكونوا أنفسهم دعاة الى الله.
وجاءت الآيات القرآنية بحث المسلمين على الصبر، والوعد الكريم بالجزاء الحسن على الصبر قال تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ).
لقد أخبرت الآية محل البحث عن تلقي المسلمين الأذى من الكفار، وجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن الثواب والأجر على الصبر وتحمل الأذى مع قيد التقوى، والمواظبة على الطاعات، ليكون صبر المسلمين مركباً ومتعدداً وملازماً لهم.
ومن الآيات في سنن الإيمان إقترانه بالصبر، فمع الإيمان يكون الصبر حاجة شخصية وعقائدية، أما الشخصية فلأن المؤمن يتلقى الأذى من أعداء الدين، وأما العقائدية فان سبيل الإيمان يستلزم الجهاد مع النفس ومواجهة التحدي والأذى والصبر على الطاعات، والصبر عن المعصية، والحرص على التقيد بأحكام الحلال والحرام، ليكون المسلم بسمته وعمله مرآة للهدى، ودعوة فعلية مباركة للناس لدخولهم الإسلام، والفوز بالنعيم الدائم بالآخرة.
جاءت هذه الآية لتهيئة المسلمين أفراداً وجماعات وأمة لتحمل الأذى والصبر عليه، وعدم إظهار الجزع، او الفتور في العبادات فمتى ما علم الإنسان بالمشاق التي تلاقيه في طريق تحقيق الغايات الحميدة والنفع الدائم فانها تهون عليه، ويستطيع مواجهتها والتغلب عليها، فهذه الآية رحمة بالمسلمين كي لا يخاطبوا بالأذى الذي يصدر من الكفار خلافاً لوظيفتهم وفق الشرع والعقل.

قانون “الثواب على الأذى”
من إعجاز القرآن تفسير آياته بعضها لبعض فما من آية الا وتجد بيانها وتفسيرها في آيات أخرى من القرآن، ومن إعجازه ان تأتي الآيات القرآنية ببيان الحكم والأثر لما في آية أخرى، وفيه دلالة على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، وما يتصف به من الغنى عن الناس ، وكشف الآثار الحسنة للتقيد بأحكام الآيات وما فيها من الإخبار عن العواقب الذي هو من علم الغيب ولا يعلمه الا الله عز وجل ويأتي هذا الإخبار من وجوه:
الأول: القرآن تبيان لكل شيء، ومنه عواقب الأمور وأحوال الناس في الآخرة.
الثاني: حث الناس على الإيمان والتقوى.
الثالث: إعانة المسلمين على العمل بأحكام الشريعة، وإتيان الواجبات وإجتناب النواهي.
الرابع: اللطف الإلهي في إطلاع المسلمين على الغيب، سواء بالإخبار عن الأذى الذي يلاقونه، او الثواب الذي ينتظرهم بسبب صبرهم على الأذى.
ويحتمل حال المسلمين في مواجهة الأذى وجوهاً:
الأول: الصبر والتحمل.
الثاني: رد الأذى بمثله لعمومات [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
الثالث: الرد بالإضرار الشديد بالذين يؤذون المسلمين، لأن الكفار يقصدون بالأصل الإضرار بالمسلمين ، ولكن الله عز وجل يخفف عن المسلمين ويجعله أذى.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: دعوة القرآن للمسلمين للصبر على الأذى قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الثاني: إقتران الصبر بالتقوى، كما تدل عليه الآية أعلاه.
الثالث: الإنقطاع الى التقوى مع الصبر وسيلة لتخليص الناس من العناد والإصرار على محاربة الدين.
الرابع: الصبر سبب لإحراز الثواب، ولا يعني الصبر عدم زجر الكفار ومنعهم من إيذاء المسلمين، فكل بحسبه وحاله وزمانه ، ويختار المسلمون ما هو أكثر نفعاً وأصلح لهم في أمور الدين والدنيا، الا ان الصبر مناسب لكل الأحوال، حال القوة والضعف، والرخاء والشدة، والكثرة والقلة.
وما دام الضرر الآتي من الكفار والفاسقين لا يصل الا بهيئة أذى يمكن تحمله، فان الصبر حسن دائماً مع ان الصبر لا يتعارض مع الثبات على الإيمان وأداء الفرائض والواجبات فان الآيات القرآنية جاءت بتقييده بملازمة التقوى له، كي لا يكون الصبر عنواناً للفتور والرضا بالأذى، فمع التقوى وخشية الله يكون صبر المسلمين وتحملهم الأ ذى من الكفار والفاسقين على وجوه:
الأول: الصبر فعل عقائدي، وعمل عبادي.
الثاني: انه وسيلة لدفع الأذى.
الثالث: رسالة الى الكفار تبين ما عند المسلمين من الحلم والحكمة.
الرابع: إنذار الكفار والفاسقين وزجرهم عن إيذاء المسلمين.
الخامس: يبعث الصبر بقيد ملازمة التقوى اليأس في قلوب الكفار والفاسقين ويجعلهم يدركون عدم جدوى ايذاء المسلمين.
السادس: ينمي صبر المسلمين على الأذى ملكة الصبر والإيمان عندهم.
السابع: الصبر مناسبة لأداء الوظائف العبادية للمسلمين، وعدم الإنشغال بالأذى، خصوصاً وانه لا يصل الى المسلمين الا القليل من الضرر والأذى، فكأن الآية الكريمة تقول للمسلمين : ان الله خفف عنكم وصرف أكثر الضرر والأذى عنكم شكراً لكم على ايمانكم ، وليرى إخلاصكم في العبادة وتمسككم بالقرآن والسنة.
والصبر في مرضاة الله طاعة له سبحانه، وقهر للنفس الغضبية والشهوية، ومناسبة لإكتناز الحسنات ، ووعد الله عز وجل الثواب العظيم على الصبر، قال تعالى [فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
وليس الصبر أمراًً عدمياً، بل هو أمر وجودي، وعلم وعمل، ومدرسة عقائدية تدل على رسوخ الإيمان عند المسلمين، واعطائهم الأولوية لإصلاح الذات والتفقه في الدين وأداء المناسك، وفي الصبر إمهال للكافرين والفاسقين، وكم من شخص وجماعة وقبيلة آذوا المسلمين وتلقى المسلمون الأذى بالصبر مع الدعوة الى الله، فكانت النتيجة هداية الذين آذوا المسلمين، وإعلانهم الشهادتين ليتوجهوا الى غيرهم بدعوتهم بالصبر .
ومن خصائص الصبر رؤية انتقام الله من الكافرين الذين يصرون على الكفر والإضرار بالمسلمين، ليزداد المسلمون ايماناً ويواظبوا على طاعة الله.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للمسلمين لجني الحسنات، ومنها التحلي بالصبر وتحمل الأذى من الكفار وإقتران اداء العبادات بالعناء والمشقة القادمة من أعداء الدين، بالإضافة الى الجهد الذي يبذله المسلم في أداء التكاليف كالصلاة والصيام والحج، ومن الثواب ما يأتي للمسلم من تحمله الأذى في الرزق، والخسارة في المال، وتعطيل المال، فقد يحارب الكفار المسلمين في معايشهم وأرزاقهم ليجد المسلم ما حرموه منه في الدنيا أمامه في الآخرة، ويكون سبباً لرجحان كفة حسناته ، وواقية من عذاب النار.
قانون “تناقص الأذى”
في الآية الكريمة إخبار عن عدم وصول الضرر من الكفار وفق ما يسعون اليه، فينفقون الأموال الكثيرة ويدبرون المكائد ويبذلون الوسع ويسخرون أنفسهم للإيقاع بالمسلمين، ولكن لا يصل الى المسلمين الا النزر اليسير منه، ويحتمل الأذى الواصل للمسلمين بلحاظ الدوام او عدمه وجوهاً:
الأول: إستدامة ذات الأذى كماً وكيفية.
الثاني: النقص والتضاؤل في الأذى.
الثالث: إزدياد الأذى على المسلمين في حا ل صبرهم وإنشغالهم بالتقوى في طاعة الله.
والصحيح هو الثاني، فان الأذى القادم من الكفار للمسلمين في تناقص مستمر ماهية وجنساً، وكماً وكيفاً من وجوه:
الأول: يأس الكفار من الإضرار بالمسلمين.
الثاني: رؤية الكفار والفاسقين تبدد أكثر أفراد الضرر الموجه للمسلمين.
الثالث: ازدياد قوة المسلمين وكثرة عددهم مع تقادم الأيام، مما يخفف من وقع الأذى عليهم.
الرابع: تحلي المسلمين بالصبر ، وعدم الجزع والفزع من الأذى.
الخامس: مواظبة المسلمين على العبادات والمناسك وسنن التقوى.
السادس: الضعف والوهن الذي يصيب الكفار والفاسقين، وما يرميهم به من الإبتلاء والإنشغال بأنفسهم.
السابع: زيادة خبرة المسلمين، ونمو ملكة الصبر وتحمل الأذى عندهم.
الثامن: إقرار الكفار بقوة ومنعة المسلمين.
التاسع: إنشغال الكفار بتلقي الدعوة لدخول الإسلام، ولوم أنفسهم على التخلف عن قبول الدعوة مع ظهور الآيات.
العاشر: حصانة المسلمين بكشف صيغ ووجوه الأذى والضرر القادم من الكفار.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا محلاً لإبتلاء الناس بعضهم ببعض، وهو من أسرار أنس وميل الإنسان لأخيه الإنسان، ومن وجوه الإبتلاء والإمتحان فيها، ابتلاء المسلمين بغيرهم، وابتلاء غير المسلمين من أهل الكتاب والكفار بالمسلمين، ومع إتحاد الموضوع والأطراف الا ان الحكم والأثر مختلف ومتباين، فالمسلمون يدعون غيرهم الى الإسلام والسلامة من النار، والفوز بالجنة، وأهل الكتاب والكفار يؤذون المسلمين، ويسعون في الإضرار بهم، فيأتي اللطف الإلهي للمسلمين بتخفيف الأذى عنهم.
ولا تنحصر مضامين هذا اللطف بالمسلمين، بل ينتفع منها الناس جميعاً بما فيهم الذين يؤذون المسلمين لما فيها من الدروس والعبر والآيات في إكرام الله عز وجل للمسلمين، ووجود قوة غيبية لنصرتهم وإعانتهم والذب عنهم، وتتجلى بتناقص الأذى عن المسلمين، وتسليم الكفار بعدم إيقاع الضرر الفادح بالمسلمين.
وتبعث مواظبة المسلمين على العبادات بصبر وإيمان اليأس والقنوط في نفوس الكفار، وتجعلهم يعترفون بان المسلمين أمة قوية متحدة لا تفرط بشيء من أمور الدين وأحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتناسب الأذى الذي يأتي للمسلمين عكسياً مع تقادم أيام الزمان، للملازمة بين تقادم الأيام وقوة المسلمين وهي آية إعجازية ذات شواهد حسية ظاهرة للناس جميعاً، فمع تعاقب الأيام والليالي تزداد قوة المسلمين وتترسخ منازل الإيمان في الأرض وتتسع رقعة الإسلام وبلدان وثغور المسلمين، ويرتقون في المعارف الإلهية، ويتفقهون في الدين، وتصل دعوتهم الى الناس جميعاً، ويزدادون قوة ، ويصبحون قادرين على الغزو والقتال دفاعاً عن الإسلام وأحكامه ، وجذباً للناس للهداية والإيمان .
وأخبرت الآيات القرآنية عما هو أعم من تناقص الأذى، فمع تحلي المسلمين بالصبر والصلاح فان الضرر والكيد يندفع عنهم بفضل الله ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
وفيه حث للمسلمين على طاعة الله وتنمية ملكة الصبر مع وعد كريم بعدم إضرار الكفار والفاسقين بالمسلمين، ويحمل عدم الإضرار على الإطلاق بإرادة أنفسهم وأموال وأعراض المسلمين بالإضافة الى الدين وأحكام الشريعة، ومنه عجزهم عن المساس بالقرآن وآياته وشخص الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الشريفة، لذا ترى الريب والإفتراء يصدر من الكفار وسرعان ما يزول وينعدم أثره وضرره ، ويخرج المسلمون أكثر قوة ومنعة، ويتجدد شوقهم للفرائض والمناسك ويقبلون عليها وعلى القرآن والسنة بلهفة وغبطة وأمل لنيل الأماني والثواب العظيم في الآخرة.
ومن خصائص خير أمة أخرجت للناس وهم المسلمون ان لا يضرهم أذى الكفار والفاسقين ، قال تعالى [وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا]( ).
وسواء جاء الضرر من الكفار، او لحق المسلمين الأذى منهم، او لم يصل منهم شيء، فللمسلمين رسالة يؤدونها وخطاب عقائدي للناس جميعاً ، يتجلى بدعوتهم للإسلام مع تعاهد الفرائض والعبادات والمحافظة على سنن التوحيد ، قال تعالى [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ]( ).
ويزيد التعدي على المسلمين أصحابه من الكفار والفاسقين ضلالة، ويلحق بهم الضرر في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فان الضرر يرجع على الكفار ويرون ان كيدهم لن يضر المسلمين شيئاً، كما انه مناسبة لإتحاد المسلمين ونبذهم الفرقة والخلاف.
وأما في الآخرة فالنار مثوى الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين، وتعاهد المسلمين للعبادات ، ومصاديق طاعة الله رسالة عملية الى هؤلاء الكفار تبين لهم التباين في منازل الآخرة، ولحوق الخسارة والخزي بالكفار مطلقاً سواء الذين يمكرون بالمسلمين او الذين لا يمكرون بهم، مع شدة العذاب للذين يصرون على إيذاء المسلمين، ويبعث هذا البيان في نفوسهم الفزع ، وفي منتدياتهم الإرباك مما يجعل ما يصدر عنهم من الكيد في نقصان وتضاؤل.
وكلما قل الغدر الصادر من الكفار والفاسقين فان الأذى الذي يصل الى المسلمين منهم يكون أقل أيضاً للتناسب الطردي بينهما، فلا يكون الأذى الواصل الى المسلمين منهم من الكلي المتواطئ وان إختلفت درجة الضرر، بل تخف درجة الأذى كلما قل الضرر وإنشغل الكفار بأنفسهم، وقويت شوكة المسلمين وأصبح كيد الكفار واضحاً ومعلوماً عندهم، وهو الأمر الذي يزيد المسلمين حصانة، ويكون واقية لهم من ضروب الكيد المستحدثة والمكر الخفي، وتتجلى معه الحاجة الى التمسك بالقرآن والسنة وتعاهد نعمة الأخوة التي جعلها سلاحاً وحرزاً عند المسلمين وبرزخاً دون وصول العذر اليهم، ومادة لدفع الأذى وعدم وصوله الى المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم ومجتمعاتهم ومساجدهم.
قانون قلة أفراد الأذى
جاءت الآية الكريمة بالإخبار عن أمور:
الأول: سعي الفاسقين من أهل الكتاب والكفار للإضرار بالمسلمين.
الثاني: عدم وصول الضرر المقصود الى المسلمين، وتبدد أكثره.
الثالث: وصول المسمى وصرف الطبيعة منه الى المسلمين.
الرابع: المنعة والحصانة عند المسلمين من الضرر وبينت الآية نعمة إضافية أخرى على المسلمين، تتجلى بالتخفيف عنهم ودفع الكيد والمكر الذي يتوجه اليهم في دلالة على ان الإنقطاع الى الله تعالى، والإنشغال بعبادته واقية وحرز من الكيد.
وليس من حد لسعي الكفار بالإضرار بالمسلمين ويكون على وجوه:
الأول: محاولة إرتداد المسلم عن دينه.
الثاني: محاربة المسلم في رزقه وكسبه.
الثالث: حشد الجيوش لقتال المسلمين.
الرابع: إخراج المسلمين من ديارهم.
الخامس: إثارة الشبهات والإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
السادس: منع المسلم من حقه، وخيانته في أمانته وفضح سره.
السابع: المناجاة للإضرار بالمسلمين، والدعوة للإتحاد بين الكفار لمواجهة الإسلام.
وتأتي هذه الآية لبيان النصرة الإلهية للمسلمين، والإعجاز في المدد السماوي لهم، وفيه آية أخرى تتعلق بعموم الآيات والعلامات الدالة على عز المسلمين وان الإعجاز لا ينحصر بالقرآن وحده بل يشمل ميادين حياة المسلمين المختلفة، اذ تترشح عن دفع الضرر عنهم منافع عظيمة تتجلى فيها آيات الرحمة والعناية بهم، وجاءت هذه الآية قاعدة كلية وقانوناً ثابتاً يتغشى المسلمين في أجيالهم المتعاقبة، وفي أقطار الأرض المختلفة، ويشمل كل مسلم ومسلمة وجماعة وفرقة منهم فضلاً من عند الله، بان لا يصل اليهم من الضرر الى المسمى منه، وما يستطيع المسلمون تحمله وإطاقته ومن أفراد الأذى الذي قد يصل الى المسلمين وجوه:
الأول: الإيذاء بالقول واللسان.
الثاني: الإفتراء على النبوة.
الثالث: تحريف الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إثارة الشبهات والشكوك حول الإسلام والتنزيل.
الخامس: الإيذاء في الرزق والكسب بما لا يصل الى درجة الإضرار المستمر، اذ ينعم الله عز وجل على المسلمين ويفتح لهم أبواباً من الرزق، ويجعل الكفار في حاجة لهم وللصنائع التي عندهم.
السادس: عدم تحقيق الكفار النصر على المسلمين بل انهم يحرمون من النصر مطلقاً، ومن مصاديق صيرورة ضرر الكفار للمسلمين اذى قليلاً نزول البلاء بالكفار وضعف الضرر الذي يصدر منهم على نحو المسلمين.
ولا تبعث الآية على الكسل عند المسلمين، بل تحثهم على أخذ الحائطة والحذر، لأن الأذى يستلزم الإستعداد له وصده ودفعه ومن وجوه وأسباب صيرورة الضرر الكبير الموجه للمسلمين أذى قليلاً يقظة وإتحاد وتعاون المسلمين فيما بينهم ونبذ الفرقة والخصومة.
لقد أخبرت الآية عن إنصراف الضرر الكبير عن المسلمين والأصل ان يكون الأذى مركباً من وجوه:
الأول: الأذى الذي يترشح عن الضرر المنصرف.
الثاني: الأذى الموجه من الكفار بالأصل، لأن الكفار والفاسقين لا يكتفون بمحاولات الإضرار بالمسلمين بل يسعون الى إيذائهم ايضاً فيصرف الله الضر ويجعله أذى قليلاً، أما الأذى فيحتمل وجوهاً:
الأول: وصول ما ينويه ويسعى اليه الكفار والفاسقون من الأذى الى المسلمين كماً وكيفاً.
الثاني: تضاؤل الأذى المقصود، فلا يصل منه الا المسمى وصرف الطبيعة، بإعتبار تغشي الفضل الإلهي للمسلمين على نحو الإستدامة وفي كل الأحوال.
الثالث: ازدياد مرتبة الأذى الموجه الى المسلمين ولكنه لايصل الى درجة الضرر.
والصحيح هو الثاني فكما ينعم الله عز وجل على المسلمين في دفع الضرر فانه تعالى يخفف الأذى عنه ويجعله في أدنى مراتبه.
الثالث: ما يأتي من المنافقين من الأذى للمسلمين قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ]( )، وكما يكون الأذى الذي يتلقاه المسلمون مركباً، فان الفضل الإلهي عليهم في المقام مركب يتجلى بتغشي وشمول قواعد التخفيف في جميع صيغ الضرر والأذى الموجه للمسلمين ومنه عدم وجود أفراد ثابتة للأذى الموجه للمسلمين فهي في تضاؤل وضعف مستمر، وكلما أصبح المسلمون أكثر قوة ومنعة فان الأذى يكون خفيفاً ويمر بسلام ليصير مناسبة لشكر الله تعالى على النعم الظاهرة والباطنة، وهذا التضاؤل لا يمنع من إحتمال حصول القتال بين المسلمين والكفار كما يدل عليه الشطر الثاني من هذه الآية.
ولا ينحصر إيذاء أهل الكتاب للمسلمين بتحريف البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يشمل الطعن بعيسى عليه السلام، ونسبة البنوة لعزير ، قال تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ]( )، أو إدعاء ربوبية عيسى وانه ابن الله، كما ورد حكاية عنهم في التنزيل [وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ]( ).
لقد جاء القرآن بإكرام الأنبياء جميعاً، وكانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية في توكيد صحة نبوة الأنبياء السابقين، لمنع الإفتراء عليهم، فالطعن بالأنبياء او نسبة الربوبية لهم ايذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وبث لأفكار الضلالة وإلقاء للشبه، ومحاولة لصد الناس عن الإسلام، فجاءت الآية لفضحها، والدعوة للصبر عليها، والإخبار بان الذي يقوم بها لا يتردد في قتال المسلمين.
فمن إعجاز الآية انها تحذير من قتال الفاسقين من أهل الكتاب للمسلمين، وبيان مقدمات وعلامات هذا القتال، وكأنها تقول للمسلمين: “إذا رأيتموهم يؤذونكم فاحذروا قتالهم، وان قاتلوكم يولوكم الأدبار”
ففي الأخبار عن إيذاءهم للمسلمين دعوة للإستعداد لقتالهم فلا يباغتون المسلمين في قتال.
ومن إيذاء أهل الكتاب للمسلمين في إنصاتهم للرهبان والأحبار في تحريفهم للكتاب، والبشارات قال تعالى [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
قوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ]
ابتدأت الآية بالإخبار عن تفضل الله تعالى بحجب أفراد الضرر والمكر الذي يكيده الكفار والفاسقون للمسلمين، وعدم وصول شيء منه الا النزر اليسير، وصرف الطبيعة منه الذي نعتته الآية بانه “أذى” لتكون الآية إعجازاً عقائدياً وبلاغياً وتأريخياً، ومن مصاديق الغيب التي تتحدى الكفار كل يوم، وتزيد المسلمين ايماناً، فمن إعجاز علوم الغيب القرآنية ان اثرها ونفعها مركب ومتعدد على وجهين:
الأول: الآية خطاب وبشارة وعلامات الى المسلمين لتزيدهم إيماناً.
الثاني: في الآية تحدِ للكافرين يتضمن معاني الإنذار والوعيد.
ومن الآيات عدم إنحصار أثر كل وجه منهما بالجهة التي يتوجه اليها، بل تنتفع منه الجهة الأخرى وان كان بين الجهتين تباين وتضاد فتنبعث البشارة التي تتوجه للمسلمين في الآية الحسرة والفزع في قلوب الكفار، وتتجلى بدعوة متصلة لهم للإيمان تكون سابقة وملازمة ومتأخرة عن الكيد الذي يكيدونه للمسلمين، أما تحدي الآية للكافرين فانه رحمة ورأفة وتخفيف عن المسلمين، وبيان لنصرة الله تعالى لهم، وإخبار بان العون والمدد الإلهي أعم من أن ينحصر بميادين القتال، بل يشمل كافة الميادين ومنها دفع الأذى والضرر الكثير والقليل، وبعث الفزع والخوف في نفوس الكفار، وجعلهم ينشغلون بأنفسهم، ويندبون حظهم وتخلفهم عن وظيفة نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد إبتداء الآية بالإخبار المبارك عن صرف الضرر عن المسلمين، جاء حرف العطف وأداة الشرط في قوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] لبيان عطف إحتمال القتال على صيرورة الضرر القادم من الكفار أذى قليلاً، فالمتبادر للأذهان انه بعد صرف الضرر عن المسلمين ان لا يكون هناك قتال وتعدِ بالسلاح على المسلمين من باب الأولوية بإعتبار ان القتال أشد أنواع الإضرار، ولكن الآية جاءت لتمنع مثل هذا الظن وهو إعجاز آخر يتجلى في الآية الكريمة، وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن إحتمال حصول القتال بين المسلمين والكفار.
الثاني: احتمال قيام الكفار بالمبادرة الى قتال المسلمين، وان كانت الآية أعم في مضمونها.
الثالث: بيان نتيجة القتال بما يبعث الغبطة والسرور في صدور المسلمين.
الثالث: الإشارة الى محاربة الكفار والفاسقين للمسلمين بصيغة الشرط [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] التي تفيد وجوهاً:
الأول: الإحتمال والترديد بين حصول القتال وعدمه.
الثاني: حتمية وقوع القتال، وجاءت الآية للإخبار عن نتيجة القتال.
الثالث: إعتبار التباين الزماني والمكاني، والإختلاف في حال المسلمين قوة وضعفاً، وكذا حال الكفار والفاسقين، فجاءت الآية قاعدة كلية تتغشى أفراد الزمان المتباينة لتنبئ عن إتصال فضل الله عز وجل على المسلمين، وبين الضرر والقتال عموم وخصوص مطلق، فكل قتال هو ضرر وليس العكس فقد يأتي من الكفار ضرر متصل ومتعدد الوجوه ولكنه أدنى مرتبة من القتال، اما القتال فهو ضرر محض لما فيه من القتل وحر السيف، وإنفاق الأموال وكثرة المؤون وتعطيل الأعمال، ومفارقة الأهل والأحبة، نعم قد تكون عاقبة القتال خيراً كثيراً ونفعاً للمسلمين، وهو الذي تشير اليه هذه الآية.
والقتال نوع مفاعلة بين طرفين يتقاتلان ويتحاربان، وفيه وجوه:
الأول: مبادرة كل فريق للقتال.
الثاني: إبتداء الطرف الأول القتال، وتصدي الطرف الثاني للدفاع.
الثالث: قيام الطرف الثاني بإبتداء القتال، ولجوء الفريق الثاني للدفاع.
وجاءت الآية بالإخبار عن مبادرة الكفار والفاسقين لقتال المسلمين، فلم تقل الآية “ان تقاتلتم” أو “وإن تقاتلوهم” ويتجلى هذا المعنى بقوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] ( ).
أي لا تبدأوا القتال معهم، في المسجد الحرام ولكن بدأوا القتال فلكم ان تردوا عليهم بالمثل، ليكون التفصيل في الآية أعلاه شاهداً على إرادة ابتداء الفاسقين من أهل الكتاب قتال المسلمين، وتدل الآية في مفهومها على أمور:
الأول: لزوم تصدي المسلمين للدفاع عن بيضة الإسلام وعن النفوس والأعراض والأموال وثغور المسلمين.
الثاني: اذا جاء الكفار والفاسقون من أهل الكتاب للقتال فعلى المسلمين ان لا يعطوا الأولوية للصلح والتراضي واعطاء شروط العدو بل لابد من الدفاع، ويتجلى هذا الأمر بمفاهيم أخذ الجزية من أهل الكتاب قال تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ).
الثالث: استعداد المسلمين للقتال، وعدم الركون الى العهود والمواثيق التي يقطعها غير المسلمين على أنفسهم وقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُم] يدل في مفهومه على إجتناب العدو قتال المسلمين اذا رآهم أقوياء متحدين وعلى أهبة الإستعداد للقتال مع عشق للشهادة والقتل في سبيل الله.
الرابع: في الآية بشارة بقاء الإسلام قوياً عزيزاً.
الخامس: تعدد وجوه ومراتب كيد الأعداء للإسلام، وعدم انقطاعه.
وفي الآية رد على أولئك الذين يقولون ان الإسلام انتصر بالسيف، بل جاء السيف حاجة للدفاع عن الإسلام، اذ بدأ الإسلام في مكة المكرمة من غير سيف وقتال، وكان سلاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحيد هو الوحي والتنزيل، ولم يكتفِ الكفار بتكذيبه والإصرار على الجحود، بل عمدوا الى إيذائه وأصحابه الأوائل وأهل بيته والحاق أشد أنواع الأذى بهم، مما حمله على الهجرة الى الطائف ثم الى المدينة المنورة، والتي كانت تسمى يثرب لتشهد فيها الدعوة قبولاً من الأنصار.
ويأتي المسلمون الأوائل من مكة وينالون شرف التسمية بالمهاجرين، وليس في الدعوة قتال او حرب مع اليهود الذين كانوا في المدينة ولا مع غيرهم، ومجيء هذه الآية بقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] إعجاز تأريخي من وجوه:
الأول: عدم إكتفاء الفاسقين من أهل الكتاب والكفار بمحاولات الإضرار بالمسلمين، بل يتجهون الى قتال المسلمين.
الثاني: الإخبار عن نتيجة القتال في حال نشوب المعارك، وإنتصار المسلمين فيها.
الثالث: قدرة المسلمين على مواجهة الأعداء، وتحقيق النصر والظفر.
وتطرد الآية الخوف والفزع عن نفوس المسلمين، وتمدهم بالقوة والعزم على مواجهة الأعداء وهذه الآية من أسرار تفضيل المسلمين ودلائل كونهم خير أمة أخرجت للناس اذ انهم يتلقون البشارة بالنصر والغلبة على الأعداء، وليس من أمة تلقت مثل هذه البشارة موضوعاً وحكماً وإستدامة بلحاظ بقاء الآية ومضامينها القدسية حية غضة طرية.
والجمع بين هذا الشطر من الآية والشطر السابق يفيد وجوهاً:
الأول: استمرار صدور الضرر من الفاسقين من أهل الكتاب.
الثاني: صيرورة الضرر الجسيم أذى قليلاً على المسلمين.
الثالث: وقوع القتال أحياناً بينهم وبين المسلمين.
الرابع: أعداء الإسلام هم الذين يبدأون القتال.
الخامس: النتيجة هي هزيمة أعداء الإسلام، وثبات المسلمين في مواقعهم وفي الآية دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً لدخول الإسلام وترك محاربته والتعدي على المسلمين، فالآية إعجاز متجدد، وفي كل مرة يتجلى مصداق عملي لمضامين الآية عند المواجهة بين المسلمين وأعدائهم، ويكون مناسبة لدعوة الناس عموماً وأهل الكتاب خاصة لدخول الإسلام لحجية الشواهد وموافقتها لأخبار القرآن عن علوم الغيب.
ومن المعروف ان الطرف الذي يبدأ القتال يكون مستعداً للمواجهة وعلى بينة بقوة العدو وإحراز التغلب عليه فتأتي هذه الآية لتخبر عن هزيمة الكفار عند ابتدائهم القتال مع المسلمين وإستعدادهم له مما يدل بالأولوية القطعية ان المسلمين اذا بدأوا القتال يكونون أقرب الى النصر والغلبة.
قانون “وان يقاتلوكم”
بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة، وفي موضع البعثة هذا آية عقائدية وسر من أسرار الإرادة التكوينية اذ جعل الله بعثة سيد المرسلين وخاتم النبيين في أشرف بقعة في الأرض والتي يقع فيها بيت الله الحرام، لتكون موضعاً لأول بيت وضع للناس، وبعثة آخر النبيين، ونزول آيات القرآن الجامع للأحكام الشرعية والناسخ للكتب السماوية السابقة.
وتبقى نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن والبيت الحرام رحمة للناس جميعاً، وأركانا ًتحفظ الأرض وتمنع من ان تسيخ بأهلها،وتكون وسيلة سماوية مباركة لتوالي أسباب الخير والبركة على الناس جميعاً، وهي من مصاديق الرحمة الإلهية في الحياة الدنيا، والعون والمدد لنيل الرحمة في الآخرة بإعتبار مقدمات ووسائل للهداية والرشاد، ومع شرف مكة وتأريخها الإيماني، وإقامة عدد من الأنبياء فيها مثل إبراهيم وإسماعيل، اذ جاء ابراهيم عليه السلام من الشام ليجعلها سكناً لإبنه اسماعيل، ثم عاد ليقوم بنفسه ببناء البيت الحرام فان أهل مكة أيام البعثة النبوية كانوا مشركين في الجملة، مما يدل على عظيم الوظيفة الجهادية التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل ومنهم أهل بيته في سبيل تثبيت دعائم الدين، وعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة المنورة كان فيها الأوس والخزرج، وفيها ايضاً اليهود من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، والمتبادر الى الذهن هو نصرة اليهود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: وراثتهم للبشارات التي جاءت به في التوراة.
الثاني: اليهود أهل الكتاب، ووظيفتهم إتباع الأنبياء، ونصرة النبوة.
الثالث: تجلي آيات النبوة، ومعجزات الرسالة على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تحدي القرآن لأساطين اللغة والبلاغة، وظهور آيات إعجازه بينة للناس جميعاً.
الخامس: مبادرة كثير من الكفار والمشركين لدخول الإسلام، ومن باب الأولوية ان يبادر اليهود وأهل الكتاب لدخول الإسلام.
السادس: مجيء الشواهد والوقائع اليومية مطابقة لأخبار وعلوم القرآن ومنها هذه الآية.
السابع: توجه الخطاب التكليفي للناس جميعاً بالإسلام وتصديق النبوة، أي ان الإنتساب للكتاب واتباع أحد الأنبياء السابقين حجة إضافية على العبد لدخول الإسلام، فبين الكتابي وغيره من الكفار في تلقي الدعوة الإسلامية ووجوب قبولها عموم وخصوص مطلق، اذ يلتقيان بالتكليف ووجوب الإيمان بالله والنبوة، ويزيد أهل الكتاب بانتسابهم لملة سماوية وكونهم أعلم بالتنزيل والبشارات الواردة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضرورة عدم النكوص عن الإقرار بالنبوة.
وتوجه شطر من الكفار والمشركين الى اليهود لسؤالهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما جعل موضوعية واثراًَ لقولهم وشهادتهم بما حملوه من أمانة الكتاب والعهد والميثاق ولكنهم إختاروا الإضرار بالمسلمين، ومن وجوه الإضرار تحريف البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة والإنجيل، ومنع الناس من دخول الإسلام وهو أمر يؤذي المسلمين، ولكن الفاسقين لا يقفون عند الإيذاء بالقول لأسباب منها:
الأول: غلبة النفس الشهوية والغضبية عندهم، وخشيتهم من فقد منازل الرياسة والشأن على العامة منهم.
الثاني: ظهور آفة الحسد عندهم، لما يرونه من دخول الناس جماعات وأفراداً في الإسلام، ومنهم من أهل الكتاب وعلمائهم.
الثالث: أحكام التكامل في الشريعة الإسلامية، وما فيها من إلزام المكلفين بالفرائض والواجبات.
وهل يمكن احتمال وجود أخطاء عند المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار صارت سبباً في نفرة أهل الكتاب من الإسلام، الجواب لا، وانتفاء صدور الخطأ من المسلمين في الدعوة الى الله تعالى آية إعجازية أخرى بالإضافة الى وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، وهو رحمة للناس جميعاً وعلى فرض حدوث خطأ فان النبي محمداً يبادر الى تداركه ويعتذر بنفسه، ويدفع الدية اللازمة، بالإضافة الى قدرة الناس على التمييز بين المبادئ، وبين الفعل الشخصي الذي يرجع على صاحبه على نحو الخصوص.
ولقد أكرم المسلمون أهل الكتاب، ولم يتخلَ المسلمون والى يومنا هذا عن إكرامهم لذا فان حصول الإقتتال معهم كان بتقصير وخطـأ منهم.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن ان تفصل هذه الآيات بين المؤمنين والفاسقين من أهل الكتاب، وتختتم الآية السابقة بذكر الفاسقين منهم لتتضمن هذه الآية وما فيها من الإخبار عن التعدي على المسلمين توبيخاً للفاسقين منهم على نحو الخصوص، وفيه دعوة للمسلمين للتمييز بين الصالحين من أهل الكتاب وبين الفاسقين،وبذل الوسع معهم لدخول الإسلام
وهذا التقسيم شاهد على صدق مضامين هذه الآية وهزيمة الكفار والذين يحاربون الإسلام، فاذا كان الذين يواجهون المسلمين في القتال هم الفاسقون فان هزيمتهم سهلة، لأنهم لا يستطيعون الصبر في القتال لإنعدام الهدف والغاية عندهم.
وتبعث الآية روح اليقظة والحيطة عند المسلمين، وتجعلهم يتخذون العدة لمواجهة الأعداء، فهذه الآية وثيقة سماوية خالدة تتضمن دعوة المسلمين للإحتراز وعدم الركون الى أهل الكتاب لإحتمال قيامهم بالتعدي على حرمات المسلمين والإضرار بهم ومحاربتهم.
قانون الإخبار القرآني إعجاز
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن كتاباً جامعاً لأحكام الحلال والحرام، وسبيلاً للهدى والرشاد، وآية سماوية تجذب الناس الى منازل الهدى، وتدعوهم للإيمان.
ومن أسرار القرآن امتلاكه الإعجاز الذاتي والغيري، الإعجاز في ألفاظه وأخباره، وما في القرآن من الأخبار عن الوقائع والأحداث مدرسة عقائدية وعلم مستقل في التأريخ، ودعوة عقلية وشرعية لدخول الإسلام.
ومن خصائص الإنسان التطلع الى المستقبل ومحاولة إستقراء الحوادث والنتائج ونوع الأثر الذي يترتب على الفعل خصوصاً مع حصول التزاحم والتعارض بين فعلين او جهتين او أمرين أو أكثر، فتأتي آيات القرآن لتبين جانباً مما يقع بين المسلمين وغيرهم، وكيف تكون النهاية، ومن سمات الحروب انها كر وفر، ومن لا يحتمل تحقيق النصر لا يزج نفسه في القتال والحرب، ويميل الى التهدئة والصلح والتراضي وتأجيل المواجهة، بينما تأتي الآية لمخاطبة المسلمين بان نتيجة قتال الكفار والفاسقين لكم هي هزيمتهم، وفيه لطف بالمسلمين خاصة والناس جميعاً، ودعوة لهم للكف عن التعدي على المسلمين.
ومع ان الآية جاءت بشارة للمسلمين الا انها تتحدى الكفار والفاسقين من أهل الكتاب وتبين لهم قاعدة كلية تتبدد عندها كل الآمال بالإضرار بالمسلمين او تحقيق الغلبة عليهم، وتخبر الآية عن إستدامة هذه القاعدة بإعتبار ملائمة أحكام الآية القرآنية لكل زمان ومكان، ولا يمكن ان تحصل هذه الإستدامة الا بمدد وفضل من الله تعالى.
وفي الآية توكيد على وجود قوى غيبية وملكوتية تحكم الصلات والمعاملات بين الأمم والملل، وحضور المشيئة الإلهية في الوقائع والأحداث، وإخبار بان قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، لا ينحصر بقضية في واقعة، بل هو فضل متصل من عند الله على المسلمين وانذار للكفار في كل زمان بعدم التعدي على حرمات المسلمين، سواء شارك الملائكة في القتال أو إكتفوا بالإعانة.
ان لغة الإنذارات الواردة في القرآن حجة على الكفار، فمع انها زجر عن ارتكاب السيئات والتعدي على المسلمين فانها دعوة لهم للإسلام ورؤية سبل الهداية فيه، والقرآن وحده حجة دامغة، وشاهد بالذات على نزوله من عند الله تعالى.
لذا جاءت الدعوة لبني اسرائيل بالتصديق بالقرآن ، قال تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( )، أي حتى اذا كانت البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الموجودة في التوراة والإنجيل قد صارت محرفة وطرأت عليها يد التحريف، فان القرآن بذاته حجة وشاهد على نزوله من عند الله .
ومن بين وجوه الحجة في القرآن إخباره عن المغيبات، ومن الآيات أن يأتي إخباره هذا على نحو القواعد الكلية الثابتة، اذ يتغير الزمان والأشخاص والقدرات، والعدة والعدد في الأطراف المتباينة، ولكن النتيجة واحدة وهي النصر والغلبة للمسلمين، وهذا النصر من الإعجاز الغيري المستديم للقرآن ، والذي يزيد المسلمين ايماناً ، ويطرح استفهاماً انكارياً ملحاً على الناس لعدم دخولهم الإسلام والتنعم بالمدد والتوفيق الإلهي والنصر والعز الدائم.
ويتجلى العز في هذا الشطر من الآية بوجوه:
الأول: لغة الخطاب التشريفي في الآية اذ انها تخاطب المسلمين مباشرة [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ].
الثاني: إخبار المسلمين بانهم يواجهون الأعداء بالسيف والسلاح، ولم تتلقى أمة التحذير والإنذار المقرون بالبشارة من السماء مثل المسلمين وهو من مصاديق تفضيلهم.
الثالث: البشارة بالنصر والظفر على الأعداء وان ابتدأوا المسلمين بالقتال.
الرابع : إبتداء الكفار قتال المسلمين مع القطع بهزيمتهم ، وظهور إمارات هذه الهزيمة شاهد على ظلالة وتخلف الكفار عن إدراك مصلحتهم ونفعهم .
ومن إعجاز الإخبار القرآني عن المغيبات والوقائع انه سلاح ووسيلة لجذب الناس للإسلام، فقد لا يصل المسلمون الى شخص لدعوته للإسلام، او يدعونه ولكنه لا يستجيب لدعوتهم، ولكنه عندما يسمع آيات القرآن وما فيها من العلوم والأسرار فانه يدرك بما رزقه الله من العقل ضرورة دخوله الإسلام، وعدم تخلفه عن النطق بالشهادتين وأداء الفرائض والعبادات.
ومن منافع الإخبار القرآني زجر الناس عن التعدي على المسلمين، ودعوتهم لكف الأذى عنهم وتركهم يتلون آيات القرآن ، وهذه التلاوة مخ الصلاة اذ لا تتقوم الصلاة الا بقراءة القرآن، لتكون القراءة دعوة متجددة للناس لدخول الإسلام ، والتدبر في آيات القرآن وما فيها من العلوم وأنباء الغيب، وقصص الأنبياء وأحوال الأمم السابقة والإعتبار والإتعاظ منها.
ومن خصائص الإخبار القرآني عن الوقائع والحوادث انه إعجاز متجدد، وتحدِ دائم، ومن شاء أن يتأكد من صدق نزول القرآن من عند الله فليتتبع الحوادث والوقائع لتكون موافقتها للإخبار القرآني دعوة مستحدثة له لدخول الإسلام ، ونهياً عن إيذاء المسلمين او الإستهزاء بهم والتشكيك بعباداتهم.
وينتفع المسلم من الإخبار القرآني بالمغيبات لأنه مدرسة العلم ومنبع للفضيلة، وشاهد على صدق التنزيل وتوكيد لمعالم الحساب وإعادة البدن المعدوم ورجوع الروح فيه ، ودخول المسلم الجنة وملاقاة عدو الإسلام العذاب الشديد في نار جهنم.
والإخبار القرآني سياحة في عالم الملكوت وإرتقاء في المعارف الإلهية ووسيلة للإتحاد والتآخي بين المسلمين، وإستمرار تمسكهم بالقرآن والسنة، ومناسبة كريمة لتعاهد آيات القرآن ،ومانع سماوي من التحريف والتغيير في كلماته وألفاظه.
علم المناسبة
وردت مادة “قتل” ومشتقاتها في القرآن نحو مائة وتسع وستين مرة، منها اثنتان وعشرون مرة في سورة آل عمران وحدها، وورد لفظ “يقاتلونكم” خمس مرات في القرآن، وجاء قيام الكفاربقتال المسلمين على نحو الجملة الشرطية والترديد كما في قوله تعالى [حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ]( ).
وورد لفظ “تقاتلوهم” مرة واحدة في القرآن بالدعوة لمواجهة الكفار عند تعديهم ومقاتلتهم المسلمين عند المسجد الحرام ،قال تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ]( ).
وقد أظهرت آيات القتال ان الكفار أسوء قصداً في قتال المسلمين وانهم يريدون ارتداد المسلمين عن دينهم، مما يوجب عليهم الدفاع عن الإسلام والنفوس لعدم امكان التخلي عن الإسلام قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( )، بينما جاءت الآية محل لبحث للأخبار عن هزيمة الفاسقين الذين يقاتلون المسلمين فعل من فارق بينها بلحاظ الطرف الذي يقاتل المسلمين وان الكفار والمشركين أشد على المسلمين في القتال، من الفاسقين من أهل الكتاب، ام الطرف الذي يحارب المسلمين في الآيتين متحد وليس من تعارض بين الآيتين، فالكفار يريدون السوء بالمسلمين وصدهم عن سبيل الله ولكن النتيجة هي هزيمتهم وخسارتهم.
فمن إعجاز القرآن ان آيات القتال تحث المسلمين على الدفاع عن بيضة الإسلام والجهاد في سبيل الله، وتعدهم بالحسنيين، بالنصر العاجل، والثواب بدخول الجنة في الآخرة، وهذا الوعد الكريم إخبار عن علم الغيب، وتحريض سماوي على القتال قال تعالى [حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ]( ).
ولا يعني مجيء الآية بصيغة الشرط الترديد والإحتمال في قتال المسلمين لغيرهم، فالقتال أمر حتمي مكتوب على المسلمين قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، ولكن الشرطية جاءت بلحاظ نظم الآيات وإرادة الفاسقين من أهل الكتاب والذين أصروا على التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وللإخبار عن التباين والتعدد في كيفية عنادهم ومواجهتهم للإسلام والدعوة الإسلامية ولبعث روح اليقظة والحذر عند المسلمين، والتهيء لأشد حالات العداوة، ومنع العدو من المباغتة وأخذ زمام المبادرة.
ومتى ما كان المسلمون يقظين مستعدين في العدة والعدد للقتال فان العدو يحجم ويمتنع عن قتالهم، ويبقى على مرتبة إيذاء المسلمين باللسان والتشويه ومحاولة إثارة الشك والريب، واذا كان المسلمون قادرين على هزيمتهم في القتال ، فمن باب الأولوية انهم يستطيعون دحض شبهاتهم، وفضح كذبهم، وبيان قبح إخفائهم للبشارات الواردة بحق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة، لأن النصر في القتال بتوفيق ومدد إلهي وحسن نية وإيمان محض، وتجلي الحجج والبراهين الدالة على صدق نزول القرآن من عند الله، والتسليم بالربوبية المطلقة لله تعالى، ولزوم اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ]
الأول: جاء هذا الشطر من الآية جواباً للشرط، الا انه قاعدة كلية وبيان لنتيجة القتال والمواجهة بين المسلمين وأعدائهم.
الثاني: الإخبار عن علم الغيب والوقائع على نحو مركب من وجوه:
الأول: حصول القتال بين المسلمين وغيرهم.
الثاني: تحقيق النصر للمسلمين.
الثالث: بيان نوع هزيمة العدو، وهي فراره أمام المسلمين، وتركه العدة والسلاح وما ثقل حمله.
الثالث: جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع التي تؤكد إستدامة هذه القاعدة.
وتحتمل نتيجة المعركة بين المسلمين وأعدائهم وجوهاً:
الأول: انتصار وغلبة المسلمين.
الثاني: انتصار الكفار.
الثالث: التكافؤ وعدم إنتصار أحد الطرفين.
الرابع: انتصار كل طرف منهما على نحو جهتي.
الخامس: التناوب والتباين في النصر والهزيمة ، فمرة ينتصر هذا الطرف ومرة ذاك، والمعروف ان الحرب سجال وكر وفر.
وجاءت الآية بإعجاز في الموضوع والحكم والغاية، اذ انها اخبرت عن فرد واحد من الوجوه أعلاه مع تعدد المعارك والحروب، وهو الوجه الأول أي انتصار المسلمين وهزيمة الكفار، ومن الآيات الإعجازية في القرآن ان يأتي وصف نتيجة المعارك التي تقع بين المسلمين وأعداء الإسلام بان يولي العدو ظهره، وينهزم مما يدل على المدد الإلهي في نصر المسلمين، فلم تذكر الآية حال المسلمين وتقول تنتصرون عليهم، او تهزموهم، بل ذكرت فقط حال الكفار، وانهم يديرون ظهورهم منهزمين خاسرين ، وفيه دلالة على نصر المسلمين .
وتحتمل تولية الأدبار في الآية وجوهاً:
الأول: الهزيمة في المعركة وعدم العودة لمثلها.
الثاني: تكرار هزيمة الكفار، فحينما يهزمون يعاودون الكرة بقتال المسلمين فتتكرر ذات النتيجة.
الثالث: الآية أعم في معناها، فتشمل حال القتال والسلم، وتفيد هزيمة وفضيحة الكفار عند الجدال والإحتجاج والمناظرة والخصومة مطلقاً.
الصحيح هو الثاني، فالقدر المتيقن من الآية هو حال الإقتتال، ويستقرأ تكرر النتيجة من وجوه:
الأول: نظم الآية وما فيها من لغة الشرط.
الثاني: مجيء الآية بصيغة الفعل المضارع.
الثالث: الشواهد التأريخية وتعدد المعارك التي وقعت بين المسلمين وبعض فرق اليهود، كما في معركة خيبر ، ومحاربة بني قريظة والنضير وبني قينقاع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهزيمة اليهود في المعارك.
وتتداخل حال الناس في الحرب والسلم ، وتتقارب صيغ التفاهم او النفرة بينهم، فعدم وقوع معركة بين المتخاصمين لا يعني انهم على حال حسنة من الصلات، كما في حال اليهود في المدينة فقد كانوا في خصومة وجدال وإثارة للشبهات، وانكار للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأتي هذه الآية لتخبر عن حال ونتيجة الإقتتال بين الطرفين، وتلقي ظلالها على حال السلم والرخاء بعز دائم للمسلمين، ورجحان كفتهم في الجدال والإحتجاج والحياة العامة، وهذه الآية ذخيرة عند المسلمين تنفعهم في أمور عديدة منها:
الأول: زجر أهل الكتاب عن التعدي عليهم.
الثاني: عدم الخوف والفزع من حدوث معركة بين المسلمين وغيرهم.
الثالث: ازدياد المسلمين قوة وايماناً اذا سمعوا بان الكفار يعدون العدة لقتالهم، لأن العلم بالنصر عون على دخول المعركة.
الرابع: البقاء على أهبة الإستعداد للحرب ، لما في الآية من الإنذار من قيام الكفار بقتال المسلمين.
الخامس: الإحتجاج على أهل الكتاب والكفار بما في الآية من التحدي والإخبار الإعجازي.
السادس: رسوخ الإيمان في صدور المسلمين.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في لغة الخطاب وفي الموضوع، فاي فئة من المسلمين تواجه الكفار في القتال تكون النتيجة ذاتها في تحقيق النصر للمسلمين، ويهزم الكفار سواء كانوا قليلاً او فئة كثيرة ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
فلم تجعل الآية موضوعية لكثرة الكفار ولا لقلة المسلمين في المواجهة، نعم تدل الآية بالدلالة التضمنية على كثرة المسلمين وإتحادهم وحسن توكلهم على الله.
وفي الآية دلالة على إتساع رقعة الإسلام، وازدياد عدد المسلمين وتناسلهم وإخلاصهم في الدين، وإقبالهم على القتال بشوق وحب للشهادة.
وتبين الآية موضوعية الإعتقاد في الحرب والقتال، فمن يكون عنده هدف سامي يتغلب على المعتدي والظالم الذي لا يملك الا الأباطيل ولغة الإفتراء وكأن المعركة ميدان للحسم ورجحان الحق على الباطل، وفضح للذين يكذبون على الله، ويحرفون الكتب، ولكن لا يصدق عليها انها مباهلة بالسيف ، لأن المباهلة دعاء ومسألة الى الله بفضح الكاذب ونزول الغضب الإلهي عليه، وفي التنزيل [ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
ولكن العدو يتمادى في الإضرار بالمسلمين، ولا يعتبر من آية عدم وصول الضرر الى المسلمين الا على نحو الأذى القليل ليكف عن مواصلة الإضرار بهم، بل يتجه صوب القتال.
ان آية تخفيف وصرف الضرر عن المسلمين آية عقلية يدركها المسلم وغير المسلم خصوصاً وانها قاعدة كلية، وحالة متجددة ومتكررة،فكلما يجتهد الكفار في الإضرار بالمسلمين تكون النتيجة ذاتها وهي وصول أذى قليل الى المسلمين قد امتلكوا الحصانة وأسباب الوقاية منه بالتجربة والشواهد.
وتلك الآية دعوة لأهل الكتاب والكفار بلغة العقل والحساب والنتائج العملية الملموسة للكف عن إيذاء المسلمين، ولكن الفاسقين يعمدون الى زيادة أسباب الضرر والعدوان احياناً، وليس دائماً وهو المستقرأ من أداة الشرط [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] التي تفيد شرطية الوقوع، مع ثبات ذات النتيجة في كل الأحوال، والإخبار عن هزيمة الفاسقين وأهل الكتاب في المعركة رحمة بالناس جميعاً من وجوه:
الأول: انه رحمة بالمسلمين من وجوه:
الأول: فيه بشارة للمسلمين بالنصر والظفر على الأعداء.
الثاني: دعوتهم للإجتهاد في طاعة الله وابتغاء مرضاته.
الثالث: عدم الخشية أو الخوف من الكفار والفاسقين.
الرابع: جعل هذه الآية حجة على الكافرين.
الثاني: انه رحمة بأهل الكتاب من وجوه:
الأول: بيان نتيجة خوضهم المعارك مع المسلمين، وتوكيد هزيمتهم فيها.
الثاني: دعوة المؤمنين منهم لإجتناب اتباع الفاسقين الذين يقومون بالتعدي على الإسلام.
الثالث: زجر أهل الكتاب عن المناجاة لقتال المسلمين.
الرابع: التدبر في آيات نصر المسلمين، والمدد الملكوتي الذي يأتيهم في المعارك ، اذ يعد خصمهم العدة للقتال ويزحف بالجيوش فتكون النتيجة هزيمته بخزي.
الخامس: التخفيف عن النفس والجماعة بإجتناب قتال المسلمين.
السادس: اللجوء الى دفع الجزية عن رضا، ففيه أمان وسلامة لأنفسهم وأموالهم.
السابع: التخلص من الإثم العظيم الذي يترتب على محاربة الإسلام والمسلمين.
الثامن: تعني الهزيمة حصول القتل الذريع بالمهزوم، ويترشح عن العلم بحصول الهزيمة وإجتناب القتال الأمن وسلامة للنفوس وتوفير للأموال، ومناسبة لزيادة النسل.
التاسع: دعوة أهل الكتاب للكف عن التعدي على الإسلام.
العاشر: في الآية ومصاديقها العملية دعوة ملحة لأهل الكتاب لدخول الإسلام.
الثالث: هذا الإخبار رحمة بالناس من غير المسلمين وأهل الكتاب من وجوه:
الأول: التأسي بأهل الكتاب والإتعاظ بما يؤول اليه قتالهم مع المسلمين فاذا كان أهل الكتاب ينهزمون أمام المسلمين، فمن باب أولى انهزام الكفار أمام جيوش المسلمين.
الثاني: بيان كذب الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
الثالث: قيام الحجة على أهل الكتاب أمام الملأ، وتحديهم بأمر عملي محسوس.
الرابع: التأكد من حقيقة وهي ان المسلمين ورثة الأرض بتوفيق ومدد من عند الله عز وجل.
الخامس: جذب الناس جميعاً للإسلام.
ولا تنحصر مضامين وأحكام هذه الآية بأيام التنزيل، بل هي دائمة ومتصلة الى يوم القيامة، وتلك آية إعجازية في إطلاق أحكام القرآن وشمولها لأفراد الزمان الطولية اللامتناهية فلا ينتظر أعداء الإسلام مجيء يوم تتغير فيه نتيجة القتال والمواجهة مع المسلمين بل تواجه أجيالهم ذات النتيجة وبلغة الوعيد الدنيوي بهزيمتهم أمام المسلمين،وفيها إنذار لهم من العذاب الأخروي، وكأنها مقدمة للعقاب يوم القيامة وامتلاء نفوس أعداء الإسلام بالفزع يومئذ.
ولعل قوله تعالى [يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] دعوة للمسلمين لعدم الإكتفاء بهزيمة الكفار في المعركة بل اللحاق بهم ودخول مصرهم ومنعهم من التعدي مرة أخرى على المسلمين ، وفرض شروط مناسبة.
وقال الإمام الرازي “هذه الآيات مخصوصة باليهود، وأسباب النزول على ذلك”( ).
أي بإعتبار ان يهود المدينة من بني قريظة والنصير وبني قينقاع، ويهود خيبر لم يثبتوا في ساحة المعركة اذا حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ولكن الآية أعم من أسباب وزمان النزول، وهي قاعدة كلية شاملة للذين يحاربون المسلمين أما بالنسبة للفاسقين فلدلالة الآية بالنص والذكر، وأما غيرهم من الأمم والملل فللأولوية القطعية لتلبسهم بالكفر والضلالة والجهل.
لقد جاءت الآية ببشارة النصر والظفر للمسلمين على أعدائهم، وتحتمل بلحاظ أوانها وأفراد الزمان الطولية وجوهاً:
الأول: تختص الآية بأيام النبوة والتنزيل.
الثاني: نزلت الآية بخصوص يهود المدينة، من بني قريظة وبني النضير وبني المصطلق .
الثالث: الآية وعيد وتخويف لنصارى نجران عندما جاء وفد منهم الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم إختاروا قبول الجزية.
الرابع: موضوع الآية هم اليهود في الأجيال المتعاقبة.
الخامس: انحصار أحكام الآية بالنصارى.
السادس: الإطلاق الزماني لأحكام الآية الكريمة.
السابع: شمول الآية لحالات التعدي على المسلمين .
والصحيح هو السادس والسابع، فالآية بشارة سماوية كريمة مصاحبة للمسلمين، ومن فضل الله تعالى انها جاءت بصيغة الخطاب كعنوان تشريف وتوكيد إضافي، وهي في مفهومها إنذار ووعيد للفاسقين وزجر عن ألهم بالتعدي على الإسلام والمسلمين، وتحذير للمؤمنين من أهل الكتاب من إعانة الذين يسعون لقتال المسلمين، وعندما أراد يهود المدينة محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، صدرت أصوات من بعض كبرائهم بالحث على التقيد بأحكام الصلح والوئام مع المسلمين، والتحذير من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ويحتمل القتال في بدايته وجهين:
الأول: ان الكفار والفاسقين هم الذين يبدأون بالقتال والهجوم على المسلمين.
الثاني: المراد من “يقاتلوكم” المعنى الأعم، وحصول الإقتتال بينهم وبين المسلمين، سواء بدأ الكفار القتال، أو بدأه المسلمون ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ]( ).
والصحيح هو الأول ، لأن المسلمين لا يبدأون القتال إلا للدفاع، وقيام الكفار بالبدأ بالقتال باب إضافي لذمهم ، ومقدمة لتحقق هزيمتهم في المعركة وحصول اللوم والخلاف فيما بينهم .
وتكون هزيمة وتولية الكفارالأدبار من وجوه:
الأول: عندما يبدأ الكفار القتال والتعدي على المسلمين.
الثاني: في حال مبادرة المسلمين للقتال والهجوم على الكفار ومباغتتهم.
الثالث: تعرض الكفار والفاسقين للهزيمة مطلقاً سواء هم الذين إبتدأوا القتال ، او بادر اليه المسلمون دفاعاً ورداً على التعدي .
والصحيح هو الثالث، لأصالة الإطلاق وعدم وجود مقيد في البين، ولأن هزيمتهم رحمة بالمسلمين وبهم أيضاً، وهي برزخ دون وجود مانع من تعظيم شعائر الله.
و هناك قاعدة كلية وهي ان المسلمين لا يبدأون أهل الكتاب القتال بل يدعونهم الى الهدى والإيمان او قبول الصلح والجزية الاان ينقض أهل الكتاب العهود والمواثيق التي عقدوها مع المسلمين، كما في يهود خيبر.
قانون يولوكم الأدبار
جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، يحصي فيها الله عز وجل عمل الإنسان، وهذا العمل مردد بين أمرين أما خير وفيه الثواب، واما شر وفيه الإثم ، ومن الآيات في ماهية الحياة الدنيا عدم إنحصار عمل الإنسان به بالذات بل هو مرتبط ومتداخل مع الآخرين.
ويكون الخير على قسمين:
الأول: ذاتي، ويتعلق بأفعال العبد الخاصة به، وصلته مع الخالق عز وجل بالإيمان وأداء الفرائض والواجبات كالصلاة والصيام وخشيته في السر والعلانية.
الثاني: غيري، ويشمل في موضوعه وأحكامه الصلة مع الناس وحسن الخلق والتقيد بموازين الحلال والحرام في المعاملات كالبيع والشراء ومختلف العقود، ومنه موضوع هذه الآية الكريمة وقيام شطر من الكفار بالإضرار بالمسلمين ومحاربتهم وفيه الإثم العظيم للكفار، والثواب الجزيل للمسلمين.
وكل من القسمين الذاتي والغيري ملازم للإنسان في أطوار حياته المختلفة، الا ان مصاديقها على قسمين:
الأول: ما هو ثابت بالنسبة للمكلفين، كأداء الصلاة بخصوص الواجب الذاتي، واتيان الزكاة وإعانة الفقراء والمساكين من أهل الإيمان، وتحمل الأذى عن الكفار والفاسقين.
الثاني: ما يطرأ أحياناً ومنه الدفاع عن بيضةالإسلام وقتال اعداء الإسلام، لذا جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] بمعنى ان وقوع القتال أقل وقوعاً من محاولات الإضرار، وهو ظاهر من نتيجته التي تبينها هذه الآية الكريمة، فاذا كان العدو يتعرض للهزيمة في كل مرة فلابد انه يمتنع عن تكرار القتال في كل مرة، ولكن لماذا لا تكون المرة والمرتان من الهزيمة عبرة وموعظة وسبباً لإجتناب المناجاة والإقتتال مع المسلمين فيه وجوه:
الأول: إصرارهم على الكفر والعناد.
الثاني: ظهور الحسد للمسلمين.
الثالث: عدم تحمل رؤية إتساع الإسلام وانتشار مبادئه.
الرابع: تخلي أتباع الكفار عنهم، وتركهم لملتهم وإنتقالهم الى الإسلام.
الخامس: أثر التحريف واخفاء الحقائق والبشارات في أقوالهم وأفعالهم، فالذين يقومون بالتحريف أفراد قلائل من الرؤساء، ولكن الذين ينصتون ويستمعون له جماعات وفرق عديدة.
السادس: حب الرئاسة على الناس، وخشية فقد المصالح والمنافع والأتباع والأعوان.
السابع: غلبة النفس الشهوية والغضبية، وظن تحقيق النصر وفق حسابات مادية محسوسة وعدم الإلتفات الى المدد الملكوتي للمسلمين.
الثامن: الطمع بما في أيدي المسلمين من الخيرات، ومحاولة الإستحواذ على بعض ثغورهم.
التاسع: تخلي المسلمين بالصبر عند المواجهة، واجتنابهم الفرار من الزحف الذي هو من الكبائر.
العاشر: الظن بانصراف المسلمين عن القتال وانشغالهم بالعبادات وأمور الكسب والمعاش، وعدم التفات الكفار الى موضوعية الجهاد في حياة المسلمين.
الحادي عشر: حساب الكفار للعدة والعدد بلحاظ النفر او المصر الذي يقاتلون من المسلمين، وعدم إدراكهم لحقيقة ثابتة وهي الإتحاد والأخوة بين المسلمين وإعتبارهما في النصرة ومد يد المعونة بينهم.
وهذه النصرة والمعونة من فضل الله تعالى من وجوه:
الأول: نعمة الأخوة التي جعلها الله عز وجل ملازمة للمسلمين في مختلف ميادين الحياة، كما تقدم قبل بضعة آيات قوله تعالى [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
الثاني: هذه النصرة من خصائص خير أمة أخرجت للناس وهم المسلمون، من وجهين:
الأول: أصالة التآزر والتعاون والنصرة بين أفراد خير أمة.
الثاني: النصرة والتعاون في قتال الأعداء من مصاديق قوله تعالى [أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] أي لزجر المعتدي منهم على الإسلام، ومنعه من تغيير سنن الله في الأرض.
الثالث: النصرة بين المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعمومات التعاون في الخيرات ونشر الصلاح قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
وهذه النصرة واقية مستديمة للمسلمين وحرز لحفظ مبادئ الإسلام، وجزء علة لهزيمة الكفار والفاسقين عند حصول المعارك والحروب بينهم وبين المسلمين، وحتى على فرض حصول تحقيق غلبة للكفار في إحدى المعارك فانهم يخسرون في النتيجة الحرب، ولا يستطيعون المحافظة على حالهم ومنازلهم، بل تلحق بهم الهزيمة في معارك أخرى.
فمن خصائص خير أمة ان أفرادها لا يكلون عن طلب الحق ، وبلوغ الغايات والمقاصد السامية ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
قانون الإنذار بالهزيمة
تتضمن آيات القرآن البشارة والإنذار، وهو سر من أسرار القرآن ومصداق من مصاديق إعجازه، وعنوان للرحمة الإلهية بالناس جميعاً، وتضمنت هذه الآية البشارة للمسلمين من وجوه:
الأول: عدم إضرار الكفار بالمسلمين الا على نحو الأذى القليل.
الثاني: هزيمة الكفار أمام المسلمين في حال الإقتتال وحدوث المعارك بين المسلمين والكفار، وتدل هذه البشارة بالدلالة الإلتزامية على انذار الكفار وزجرهم عن التعدي على المسلمين، وإدراك حقيقة وهي عدم إنحصار آثار الهزيمة بذات المعركة بل تشمل وجوهاً منها:
الأول: فضح الكفار والفاسقين أمام الناس.
الثاني: بيان المدد الغيبي للمسلمين.
الثالث: دعوة الناس لدخول الإسلام، لرؤية الآيات الحسية بنصرهم على أعدائهم.
الرابع: ظهور الضعف والوهن في صفوف الكفار.
الخامس: إبتلاء الكفار بالنقص في الأموال.
السادس: قتل كثير من الكفار، وذهاب فرسانهم لدلالات الآية على خسارة الرجال، كما انها سبب في خسارة ومقتل عدد إضافي منهم، لأن تولية الأدبار تعني الفرار وتمكين المسلمين من الإجهاز عليهم من غير مواجهة ومقاومة.
السابع: لحوق الخزي بالكافرين والخاسرين، للملازمة بين الهزيمة والخزي.
وقد يسعى الكفار لدفع الخزي وذل الهزيمة عنهم بمعاودة التعدي والهجوم على المسلمين، فتأتي هذه الآية الكريمة انذاراً وزاجراً لهم، واخباراً غيبياَ عن حصول ذات النتيجة وهي الهزيمة أمام المسلمين وهذا الإنذار دعوة للناس جميعاً لإجتناب القتال مع المسلمين ابتداء وإستدامة.
ولا ينحصر موضوع الإنذار بالهزيمة بالمعركة موضوعاً وزماناً، بل يشمل الوعيد بالإقامة في العذاب الأليم في الآخرة ، فالهزيمة أثر وضعي دنيوي ظاهر لمحاربة المسلمين، أمام العقاب الأخروي فهو أشد وأمر لأنه خلود في النار لمن حارب المسلمين الا من تدارك وإختار التوبة ، وأصلح أمره خصوصاً وان الهزيمة والإنذار بها وسيلة مباركة لهداية الناس وجعلهم يعتبرون من الوقائع والحوادث، ويتخذونها مناسبة للإستبصار والإنابة.
ومن الآيات ترتب الأثر والنفع على لغة الإنذار في القرآن حتى بعد حصول الوقائع التي حذر منها وزجر الناس عنها، فهذه الآية انذار لأهل الكتاب والكفار من التعدي على المسلمين وثغورهم وإخبار بحصول الهزيمة .
ويتجدد الإنذار عند وقوع المعركة بإستحضاره والتذكير به والتدبر في معانيه ومقاصده، اذ يبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين، ويجعلهم في حالة حزن وكآبة وإرتباك لملازمة الإنذار لهم، كما يتجدد بعد إنتهاء المعركة وظهور المسلمين فيها وهزيمة الكفار وهذا التجدد متصل ومستمر وملازم لحياة الناس جميعاً من المسلمين وغير المسلمين، أما المسلمون فهو مؤازر وعون وحجة لهم وسلاح لتحذير الكفار من التعدي عليهم، وكان المسلمون لا يبدأون القتال حتى يعظون ويحذرون العدو، وينصحونه بلزوم إجتنابه محاربتهم، ويخوفون أفراده من سخط الجبار، وهذا التحذير من خصائص خير أمة اخرجت للناس، وهو شاهد على رأفة المسلمين بالناس جميعاً، وإقامة الحجة ودفع أذى وشر القتال عن الجميع.
ان لغة الإنذار الواردة في الآية تحدِ متصل يطارد الكافرين في كل زمان ومكان، وفي حال الحرب والسلم، اما في حال الحرب فانه يبعث الفزع في نفوسهم، ويسهل للمسلمين الغلبة عليهم، وفيه بيان لوقع التنزيل في نفوس الناس، وظهور آثاره في الأقوال والأفعال والواقع العملي المحسوس، وهو من إعجاز القرآن الغيري، اذ تبعث الآية الفزع والخوف في نفوس الكفار، وتفكك صفوفهم، وتكون مقدمة لهزيمتهم وإندحارهم في المعركة، وتجعل المسلمين على ثقة من النصر وتحقيق الظفر بالعدو، وان طالت أيام المعركة او تجددت المعارك والكر والفر بين المسلمين والكفار، فلابد من هزيمة الكفار، ويبدو الكفار في أعينهم قلة وضعفاء، والإنذار بهزيمة الكفار قانون سماوي ثابت يطل على أهل الأرض في كل يوم ويدعوهم للتوبة والإنابة، ويحث الكفار على دخول الإسلام.
وهذا الإنذار من وظائف النبوة والكتاب، فيأتي الإنذار في آيات القرآن وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , مع التعاضد بين النبوة والكتاب لتثبيت لغة الإنذار وإنتفاع الناس منها.
قانون أسباب هزيمة الكفار
جاءت الآية صريحة بوقوع الهزيمة للكفار عند المواجهة ومحاربة المسلمين على نحو الإطلاق والعموم مع التباين في العدة والعدد للفريقين، ومن البديهيات عدم إختيار الجيش والملأ القتال إلا وهم في حال من القوة والعدة والتأهل للقتال ، ويدرك الناس إنتفاء أسباب مقاتلة المسلمين، فبالنسبة لأهل الكتاب مثلاً جعل الله لهم خيار دفع الجزية لشراء الأمن والسلامة، ونزلت هذه الآية قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولا زالت تتحدى بمضامينها الإعجازية الكفار عامة، والقادة والباحثين منهم خاصة.
ومن إعجاز القرآن أن تكون الأيام والليالي وما فيهما من الوقائع والأحداث شاهداً تاريخياً، ومصداقاً عملياً متجدداً على صدق مضامين الآية القرآنية، ونزولها من عند الله عز وجل ، كما يمكن من خلالها دراسة أسباب هزيمة الكفار، وهذه الأسباب ليست مطلقة او قواعد ثابتة تحكم كل هزيمة للكفار، فمع تجدد وسائل القتال وكيفيته تبرز أسباب جديدة لهزيمتهم لأنها فرع حتمية حصول الهزيمة وفرارهم أمام المسلمين، فالنتيجة وهي الهزيمة قانون ثابت، أما مقدماته واسبابه وكيفية وقوعه فهو أمر متجدد، وسر من أسرار الإخبار القرآني عن المغيبات، ويبعث هذا التجدد الفزع في قلوب الكفار في كل زمان وعند وقوع كل معركة ، لذا يقع الإرباك والعموم بين الكفار اثناء المعركة وبعد الهزيمة، وكل فرد او جماعة يحمَلون غيرهم من أصحابهم أسباب الهزيمة، ويتبادلون التهم والطعن والتوبيخ.
وهذا من إعجاز الآية القرآنية وما فيها من الإخبار عن فرار الكفار من المعركة، وشاهد على تعدد وجوه الهزيمة وعدم انحصارها بوقائع ساحة القتال، وما تخلفه الحسرة والفرقة فيما بينهم، لذا تجد ظهور الخلافات بينهم عند إنتهاء المعركة، وحصول عقاب لبعض القواد منهم، ومع ان قانون هزيمة الكفار ثابت ومستديم ولا يقبل التغيير الا ان كيفية الهزيمة وأسبابها ليست على حال واحدة بل هي متغيرة ومتجددة وتلك آية أخرى لقانون أسباب هزيمتهم، بان يكون القانون ثابتاً، ولكن مصاديقه في باب الآثار متغيرة:
الأول: قوة وإتحاد المسلمين.
الثاني: تعاون المسلمين في البأساء والضراء.
الثالث: شدة بأس المسلمين في القتال، وربما كانوا قلة ، ولكن بأسهم شديد.
الرابع: ايمان المسلمين بالنصر والغلبة.
الخامس: اقبال المسلمين على الجهاد في سبيل الله، وإقرارهم بوجوبه عليهم.
السادس: شوق المسلمين للشهادة والقتل في سبيل الله.
السابع: طول مرابطة المسلمين ، وإتصال المدد الذي يأتيهم من اخوانهم.
الثاني: ما يخص الكفار، وفيه وجوه:
الأول: إمتلاء نفوسهم بالرعب والخوف من قتال المسلمين.
الثاني: إدراك انعدام الغاية من القتال.
الثالث: معرفة نتيجة إختتام المعركة بهزيمتهم.
الرابع: ظهور حال الفرقة والإختلاف فيما بينهم.
الخامس: عدم القدرة على المطاولة في القتال والحرب.
السادس: الميل الى اللذات والشهوات.
الثالث: موضوعية الإنذارات القرآنية، ومنها هذه الآية التي تبعث المسلمين على مواصلة القتال، والكفار على الفزع والخوف والندم.
الرابع: دلالة هذه الآية على عدم ترك الكفار وشأنهم حينما ينهزمون، بل يلحق بهم المسلمون لتكون المعركة ونتيجتها مقدمة للفتح، ونيل الغنائم ودعوة الناس من خلف المقاتلين المعتدين الى الإسلام، وأسر المقاتل منهم كي لا يعاود الكرة في التعدي على الإسلام والمسلمين، وليطلع عن كثب على شعائر الإسلام ويكون هذا الإطلاع مناسبة كريمة لإسلامه والشواهد في المقام أكثر من أن تحصى، ان تركهم وشأنهم فرصة لهم لجمع قواهم وأصحابهم، ويكون الرجوع الى فئة وأمة تساعدهم على الكر من جديد بحمية الجاهلية، وروح الغضب والثأر، لذا جاءت الآية بذكر النصر بلحاظ هزيمتهم.
ومن إعجاز الآية انها لم تقل “يولون الأدبار” التي تتضمن فعلاً وفاعلاً ومفعولاً به، وفيها طرفان:
الأول: هزيمة الكفار.
الثاني: فرارهم من المعركة، وقالت [يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] وفيها فعل وفاعل ومفعول به أول، ومفعول به ثانِ، وفيه أطراف ثلاثة:
الأول: هزيمة الكفار.
الثاني: فرارهم من المعركة.
الثالث: قدرة المسلمين عليهم بعد المعركة ،والقدرة على النيل من الكفار ، إملاء الشروط .
فالمعركة مع الكفار لا تنتهي باتخاذهم حواجز وخنادق وموانع تكون برزخاً بينهم وبين المسلمين، بل يكونون منكشفين أمام المجاهدين الذين يزحفون مع الحذر والحيطة في اثناء التقدم خشية المكر ومحاولات الإضرار بالمسلمين التي دلت عليها بداية الآية.
وتتعدد أسباب هزيمة الكفار، وتتجدد بلحاظ إختلاف الزمان، وحدوث صيغ جديدة في الحروب والعدة ويرى الكافر إنعدام النفع من تدبيره وتوظيفه للعلم في المعركة، فيدخل المسلمون المعركة بسلاح بسيط أحياناً ويكون النصر والغلبة لهم ولو على نحو الإستنزاف المتصل بالإضافة الى الأمر الإلهي للمسلمين بحسن التجهيز والإستعداد للقتال، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
إن كثرة أسباب هزيمة الكفار وسيلة لزجرهم ومنعهم من محاربة المسلمين، وهذه الوسيلة حاكمة لصلاتهم مع المسلمين، ودعوة للعقلاء منهم بمنع مناجاة الفاسقين منهم بالتعدي على المسلمين لأن العاقبة خسارتهم الدنيا والآخرة.
علم المناسبة
جاءت الآيات القرآنية بالإخبار عن هزيمة الكفار الذين يقاتلون المسلمين، قال سبحانه [وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ]( )، كما جاءت بحث المسلمين على مواصلة القتال ونهيهم عن الفرار في القتال، وهذا النهي مع البشارة بهزيمة الكفار من الإعجاز والجمع بينهما يفيد بيان حقيقة وهي: مواصلة المسلمين للقتال سبب لإنتصارهم وظفرهم بالعدو، فما دام العدو لابد وان يولي الدبر فاراً من المسلمين، فان المرابطة والمطاولة وإستمرار مزاولة القتال علة لهزيمة العدو، قال تعالى [إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
فيتفضل الله عز وجل على المسلمين بخصوص القتال مع الكفار بأمور هي:
الأول: تعليم المسلمين كيفية الإستعداد للمعركة وتهيئة أسباب القتال وإعداد العدة والعدد كما في سورة الأنفال أعلاه.
الثاني: بشارة المسلمين بتحقيق النصر والظفر على الأعداء كما في هذه الآية.
الثالث: نزول الملائكة والمدد الإلهي قال تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الرابع: غلبة الفئة القليلة من المسلمين على الفئة الكثيرة من الكفار، قال تعالى [وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ),
الخامس: الإخبار الإلهي بهزيمة الكفار والفاسقين وفرارهم من المعركة بين يدي المسلمين.
السادس: الشواهد التأريخية التي تؤكد هذه الحقائق والتي تكون عوناً للأجيال اللاحقة من المسلمين وتبين جهاد الصحابة والمسلمين الأوائل وإنقيادهم للأوامر الإلهية، وتصديقهم بما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن من البشارات والإنذارات.
السابع: إعتصام المسلمين بحبل الله، وحسن توكلهم على الله سبحانه.
الثامن: تجلي معاني الأخوة بين المسلمين في سوح المعارك، وقيام إخوانهم من خلفهم بنصرتهم وإعانتهم ومدهم بمستلزمات الثبات في المعركة وتحقيق النصر والظفر على الأعداء.
ووردت مادة “أدبر” في القرآن ثلاثين مرة بمعنى الإدبار والفرار، منها أربع بلفظ “دابر” في توكيد استئصال الكفار قال تعالى [وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ] ( )، مما يدل على انحسار تأثيرهم وأثرهم وتكون هزيمتهم بالمعركة امراً قطعياً ولا ينحصر إدبار الكفار بساحة المعركة فمنهم من يدير ظهره للحق ويدبر حين سماعه لآيات القرآن، قال تعالى [ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ]( ).
وفيه دلالة على ان تلاوة الآيات على الكفار جهاد في سبيل الله، وتحدِ لهم، وكأن التلاوة عليهم وقوف في ساحة المعركة، فكيف اذا اجتمعت التلاوة مع السيف في الدفاع عن الإسلام وزيادة همة المسلمين وبعث الفزع والخوف في نفوس الكفار الذين يلحقهم العذاب حتى في ساعة الموت بضرب الملائكة على أدبارهم عقوبة لهم على عدم الإنصات للقرآن والتدبر في معانيه ودلالالته وإعجازه، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ]( ).
قوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]
جاءت الآية الكريمة على ثلاثة أقسام:
الأول: الإخبار الإلهي بعدم إضرار الكفار بالمسلمين الا بأدنى درجات الضرر وهو الأذى.
الثاني: هزيمة الكفار عند قيامهم بمحاربة المسلمين.
الثالث: إنعدام نصرة الكفار.
وإبتدأ هذا الشطر بحرف العطف “ثم” الذي يفيد التشريك والترتيب والتراخي، وقد لا تدل على التراخي نحو “اذن المؤذن ثم صلينا” اذا لم تكن فترة بين الأذان والصلاة، وجاءت الصلاة متعقبة للأذان، والآية أعم في معناها اذ تتضمن معنى الفورية والتراخي من وجوه:
الأول: إنعدام المعونة والمدد للكفار في ساحة المعركة، وهم في أشد الحاجة للمدد والعون، فتراهم يبعثون لمن خلفهم ومن شاركهم الإضرار بالمسلمين وحرضهم على الإعتداء على الإسلام والنبوة والقرآن والمسلمين، يطلبون منه النصرة بالرجال والسلاح، ولكنه ينكل ولا يستجيب لهم.
الثاني: عدم وجود الناصر للكفار بعد انتهاء المعركة بهزيمتهم، ويحتاج الفار من المعركة الى تأمين سلامته ومؤونته وإيوائه فيفاجئ الكفار بتخلي حلفاؤهم وإعراض أصحابهم عنهم.
الثالث: إستدامة وإتصال عدم نصرة الكفار، وإصابتهم بالخيبة والحسرة والندم.
والوجه الأول أعلاه من مصاديق فقدان التراخي في “ثم” ويفيد الوجه الثالث أعلاه التراخي في معنى ثم، اما الوجه الثاني فهو برزخ بينهما، فمن إعجاز القرآن إفادته المعنى الأعم من القواعد النحوية، وقصور العقل الإنساني عن إدراك معاني اللفظ القرآني، مما يستلزم عدم الوقوف عند تلك القواعد في علوم القرآن اذا كان في البين دليل أو قرينة على المعنى الأعم منها، فقد يكون حصر المعنى بتلك القواعد تضييعاً لبعض المفاهيم ومعاني الآية القرآنية.
وترى علماء النحو يتفقون على إفادة “ثم” معنى التشريك والترتيب، ولكنهم يختلفون في إفادتها معنى “التراخي” او عدمه، مما يدل على ان أسرار اللفظ القرآني اعم من أن تحيط بها قواعد مخصوصة، ويأتي القرآن بأنوار ملكوتية تترشح على الفاظه وكلماته ومعانيها لتفتح آفاقاً من العلوم في اللغة، وتؤكد لأرباب الإختصاص قصورهم والأجيال السابقة منهم عن إدراك كنه اللفظ، ولولا القرآن لما تمكن الناس من الوصول الى المعاني المتعددة للفظ والكلمة ووجوه إعرابها فهذه الآية لا تدل على إفادة “ثم” التراخي أو عدمه، وتدل على ثلاثة معاني لها وهي:
الأول: الفورية والتعاقب.
الثاني: التراخي والإبطاء.
الثالث: البرزخ بينهما وبما يفيد إتصال عدم النصرة، وفيه دلالة على عدم إمكان ابدال الكلمة القرآنية بالنظير والشبيه والمماثل، فلو قالت الآية “ولا ينصرون” لإفادة التعقب وإنحصار عدم النصرة بما بعد المعركة مباشرة.
وأرادت الآية بيان حقيقة وهي فقد الناصر للذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، وهل ينحصر الأمر بالحياة الدنيا أم يشمل الآخرة، الجواب هو الثاني، وتلك آية أخرى في دلالة ومضامين اللفظ القرآني، وموضوعية عالم الحساب والثواب والعقاب في معانيه ودلالاته، بالإضافة الى إعتبار الأثر المترتب على الفعل في الحال فمع إن الدنيا دار عمل وإختبار، فهي ميدان للإعتبار والإتعاظ وتجلي آيات الله تعالى على الناس بلحاظ أعمالهم لتكون أسباباً للهداية، وعوناً للرشاد، ومصداقاً من مصاديق اللطف الإلهي في نشر مبادئ التوحيد وإنجذاب الناس لها، ففي إستدامة معنى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ ] وجوه:
الأول: ازدياد المسلمين إيماناً بسبب هزيمة الكفار، ولا تقتصر تلك الزيادة في زمانها بساعة هزيمة الكفار، بل هي دائمة ومستديمة.
الثاني: بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار، فمن الآيات عدم إنتهاء إختيارهم قتال المسلمين بهزيمتهم في المعركة، وفرارهم في الحرب بل يشمل إنعدام مجيء المعونة لهم، وخذلان أصحابهم، وهذا الخذلان متعدد من وجوه:
الأول: عجز المقاتلين الكفار عن نفع الذين من خلفهم لأنهم لم يحققوا شيئاً في المعركة، ورجعوا منهزمين.
الثاني: تولي وهجران أعوان وأنصار وحلفاء المقاتلين من الكفار لهم، بالإعراض والصدود عنهم، وعدم مد يد العون لهم.
الثالث: ازدياد قوة المسلمين، وضعف ووهن الكفار.
وتتضمن الآية البشارة والإنذار منطوقاً ومفهوماً من وجوه:
الأول: بشارة المسلمين بعدم وجود ناصر للكفار وفيه وجوه:
الأول: بعث السكينة في قلوب المسلمين.
الثاني: إنتفاء الخوف عند المسلمين من عودة الكفار للإعتداء عليهم من جديد، لأنهم سيبقون بعد الهزيمة قلة وضعفاء، واذا لم يأتهم نصر وعون من الغير فانهم لن يستطيعوا معاودة التعدي والقتال.
الثالث: في الآية حث للمسلمين على الجهاد في سبيل الله، وإخبار بتيسير مقدماته وأسبابه ومن أهمها ضعف العدو، مع دعوته الى الحق والهدى.
الرابع: مجيء الوقائع والحوادث موافقة لما في القرآن من الإخبار عن المغيبات، ومصداقاً للقواعد الكلية الواردة فيه.
الثاني: إنذار الكفار والفاسقين، وفيه وجوه:
الأول: رؤية نتيجة التعدي على الإسلام والمسلمين وما فيه من الخسارة والخيبة للكفار.
الثاني: إدراك المدد الغيبي للمسلمين، اذ يعد الكفار العدة ويرون أسباب الفوز والنصر وفق حساب الربح والخسارة، ولكن ما ان يدخلوا المعركة حتى تمتلأ نفوسهم فزعاً وتبدوا أسلحتهم ووسائلهم قليلة النفع او عديمة الجدوى.
الثالث: إجتناب محاربة المسلمين والتعدي عليهم، لإتحاد النتيجة والأثر وهو هزيمة الكفار.
الرابع: اليأس من تحقيق الغلبة على المسلمين.
الرابع: الإنذار من العذاب الأخروي للذين يؤذون المسلمين، ويتعدون على ثغورهم وحرماتهم.
وجاءت هذه الآية لبعث روح الفرقة والخلاف بين الكفار بأمور من الواقع وحوادث ظاهرة للعيان، وهو إعجاز ينفرد به القرآن فلم تكتفِ الآية بلغة الإنذار والتخويف بل تدعو الناس الى الإعتبار من الشواهد والوقائع الموافقة لما في القرآن من الإنذار، وفيه توكيد على صدق الوعد والوعيد القرآني وعالم الثواب والعقاب في الآخرة، فإنعدام نصرة الكفار زاجر لهم عن مواصلة التعدي على المسلمين، لما يتضمنه من معاني عدم الخروج من براثن الهزيمة والخسارة فاذا كان الكفار يولون الأدبار في المعركة ثم لا يجدون من ينصرهم ويعينهم على التدارك ومداواة الجراح وجبر الخسائر فانهم يقيمون في الخسارة المتصلة، بالإضافة الى إعتبار الضلالة في زيادة حسرتهم وخيبتهم.
ان قيام الجماعة أو الفرقة من الفاسقين أو الكفار بمحاربة الإسلام والمسلمين شاهد على ضلالتها ومقدمة لأفراد إضافية من الضلالة تترشح عليها من نتيجة هذه المحاربة، وهو من النصرة الإلهية للمسلمين، اذ ان الأصل في نتيجة المعركة أن تكون خاتمة ونهاية للحرب، وبداية عهد جديد لكل من الطرفين، الا ان محاربة المسلمين تنفرد بخصوصية من جهتين:
الأولى: ظهور المسلمين من المعركة أكثر قوة ومنعة.
الثانية: توالي النكبات واستمرار حال البؤس والشقاء لأعداء الإسلام الذبن قاموا بمحاربة المسلمين، ومنها انعدام الناصر، وتخلي الحليف والصاحب عنهم، ترى لماذا يتخلى عنهم اصحابهم، فيه وجوه:
الأول: رؤية خسارتهم، وما هم عليه من الضعف والهوان.
الثاني: ما يبعثه الله في نفوس الكفار مطلقاً من الفزع والخوف.
الثالث: حصول النفرة بين المقاتلين من الكفار وبين أصحابهم وأعوانهم الذين كانوا يمدونهم من خلفهم، ويضع كل فريق منهما اللائمة على الآخر، مما يسبب في انعدام النصرة وقطع المعونة بينهم.
الرابع: أشد ما يكون المقاتل محتاجاً الى المعونة والنصرة يوم هزيمته وخسارته، فيتوجه الكفار الى أصحابهم لإعانتهم ونصرتهم، فلا يجيبونهم بشيء مما يسبب في خيبتهم وزيادة حسرتهم، وبعث العداوة بينهم، ويسهل للمسلمين الغلبة عليهم.
ان قوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] دعوة للمسلمين للإجهاز على الكفار لدعوتهم الى الإسلام، ومنعهم من إعادة الكرة والهجوم من جديد على المسلمين، وإخبار عن تحقيق المسلمين النصر من باب الأولوية القطعية، فاذا إنهزم الكفار في المعركة مع إستعدادهم لها، فمن باب أولى ان يخسروا المعركة اذا تجدد القتال بعد هزيمتهم الأولى من وجوه:
الأول: إزدياد وضعف ووهن الكفار.
الثاني: إنعدام الناصر لهم في المعركة الثانية، اذ يدرك أصحابهم وحلفاؤهم ان لا فائدة ترتجى من نصرتهم وإعانتهم.
الثالث: إزدياد قوة المسلمين، وثقتهم بأنفسهم، مع حسن توكلهم على الله، وصبرهم في ميادين المعارك.
الرابع: إزدياد خبرة المسلمين في فنون القتال، وفقد الكفار للمقدمين من رجالهم لأن الهزيمة تحصد أبطالهم وصناديدهم، كما ان فقدهم مقدمة لهزيمة من بقي من أفراد الجيش.
ترى ما هي أفراد النصرة التي يحرم منها الكفار، فيه وجوه:
الأول: السلاح وعدة القتال، فلا يفرط الآخرون بإعطاء اسلحتهم وذخيرتهم منه الى المنهزم الفار بين يدي الخصم.
الثاني: المال، لغلبة الشحة على الكفار عند هزيمتهم.
الثالث: الرجال، فلا يأتي مدد من الرجال، لحال الفزع والخوف التي تصيب الكفار جميعاً، بعد الهزيمة، وتجلي قوة المسلمين وثباتهم على الإيمان.
الرابع: المؤون الغذائية، ومستلزمات المعيشة، لحرص الكفار على توفيرها مع ظنهم بازدياد الحاجة لها بعد الهزيمة والخسارة.
قانون “لا ينصرون”
من الآيات في بديع خلق الإنسان ملازمة الحاجة له، فهو كائن محتاج الى غيره، وفي هذه الحاجة وجوه من الإعتبار والإتعاظ منها:
الأول: ملازمة الحاجة للممكن، وفيه دلالة على ان الإنسان مخلوق وممكن.
الثاني: دعوة الإنسان للتفكر في خلقه وذاته، وما عنده من نقص الحاجة الى الغير.
الثالث: إدراك قانون ثابت، وهو حاجة الإنسان الى الله تعالى.
الرابع: منع الإنسان من الغرور والإستكبار والطغيان.
الخامس: حث الإنسان على الإيمان بالله، واتيان الواجبات التي أمر بها، وإجتناب ما نهى عنه، كمقدمة لإنجاز الحوائج.
السادس: الإقرار باليوم الآخر، بإعتبار ان حاجة الإنسان في الآخرة أكبر بكثير من حاجته في الدنيا، وهذه الحاجة عنوان للإبتلاء والإختبار في الدنيا، ومنه الحاجة بين المؤمنين وإعانة بعضهم بعضاً بما يفيد التعضيد وزيادة أسباب الأخوة وتعاهدها بينهم، وتيسير أداء العبادات والتفقه في الدين، والنصرة على أعدائهم، أما الكفار فانهم يحتاجون النصرة أكثر من غيرهم من وجوه:
الأول: إختيارهم الباطل وما فيه من الأذى والضياع وإنعدام البركة.
الثاني: فقدان الهدف والغاية السامية عندهم.
الثالث: حال الفزع والخوف التي تغلب عليهم، وظهور الإرباك والخلل في أعمالهم.
الرابع: توالي الهزائم والخسائر التي تصيبهم، وهو مضمون هذه الآية الكريمة، التي تؤكد أمرين:
الأول: هزيمة الكفار.
الثاني: تخلف أصحابهم عن إعانتهم، وإنعدام وجود النصير، ويحتمل
عدم وجود النصير وجوهاً:
الأول: في قتال ومحاربة المسلمين، فمن ينهزم بين يدي المسلمين لا يجد من ينصره اذا أراد محاربة المسلمين.
الثاني: عدم النصرة في القتال مطلقاً، سواء عند محاربة المسلمين او غيرهم.
الثالث: إنعدام النصير أصلاً، فمن كان حليفاً للكفار يتخلى عن نصرتهم بعد الهزيمة، وقد يصبح عدواً لهم.
الرابع: إفتقاد النصرة والعون في أمور الحياة مطلقاً.
الخامس: عدم وجود النصير والشفيع في الآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لأصالة الإطلاق.
ومن معاني ورود “ثم” في الآية الكريمة ما تفيده من التراخي وعدمه، وفي الآية دلالة على أمور:
الأول: أخذ الكفار بأشد الأحوال.
الثاني: الإنزجار مما في الآية من الوعد الكريم للمسلمين، والوعيد للكافرين.
الثالث: الإعتبار مما يصيب الفرقة التي تحارب المسلمين وتنهزم بين أيديهم، واتخاذه درساً وموعظة بإجتناب التعدي على المسلمين مطلقاً سواء بالسيف او الضرر الجلي أو الخفي.

قانون إنحصار النصرة
جاءت الآيات بالأمر بإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
فأمرت الآية أهل الكتاب ومن ورائهم الناس جميعاً بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذا قام فريق منهم بحاربته وقتاله فانه خلاف الخطاب التكليفي الموجه اليهم، ومعصية مركبة لذا يبتليهم الله عز وجل بالهزيمة وانعدام الناصر، لتكون النصرة بعد البعثة النبوية الشريفة خاصة به ومنحصرة بإعانته وأمته، ويبقى هذا القانون ثابتاًً الى يوم القيامة.
ومن الإعجاز ان تأتي بلفظ الخطاب بصيغة الجمع الشامل للمسلمين في الأزمنة المتعاقبة، لتكون هذه الصيغة مصداقاً لإستدامة أحكام ومصاديق هذا القانون بالمفهوم وهو إنعدام الناصر للذي يحارب المسلمين، فجاءت الآيات بوجوب نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في الآية أعلاه وبحصول هذه النصرة، في آيات منها قوله تعالى [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا]( )، وتؤكده الشواهد التأريخية المتصلة من أيام البعثة النبوية.
لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً، وسبباً لهدايتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة اذا أختاروا اتباعه و السعي في مصاديق ومراتب نصرته صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاءت الكتب السماوية السابقة بالبشارة به، والدعوة الى نصرته.
وتدل هذه الآية في مفهومها على حرمة محاربته ومحاربة أمته، وجاءت بالإخبار الواضح الصريح عن حصول الهزيمة لمن سعى في قتال المسلمين، وتعدى على حرماتهم، بينما جاءت آيات أخرى بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، وهذه النصرة مطلقة وشاملة لحالات الدعوة والسلم والحرب وكافية ، ومانعة من وصول الضرر اليه، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن فضل الله على الناس إرادته سيادة مبادئ التوحيد، وشرائع الإسلام في الأرض، وتتجلى مضامينها بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترسيخ الإيمان في الأرض، ووجود أمة مؤمنة في كل زمان قادرة على تحقيق النصرة، ودفع الكيد والمكر، ونصرتها من مستلزمات تثبيت الإيمان في الصدور وجذب الناس للإسلام، وزجرهم عن المعاصي والسيئات.
ان تفضل الله تعالى بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس لإجتناب محاربة الإسلام، وإخبار سماوي عن هزيمة من يحارب المسلمين، والجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث شاهد على الإعجاز القرآني، وبيان لأحكام الآية القرآنية بآية أخرى، وتأديب للناس ودعوتهم للإتعاظ والإعتبار، وحث للمسلمين لتعلم آيات القرآن وما فيها من الدلائل وتفسير بعضها للبعض الآخر.
ومن اللطف والرحمة الإلهية بالناس دعوتهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: مجيء الأنبياء السابقين بالبشارة ببعثته.
الثاني: تضمن الكتب السماوية السابقة على القرآن كالتوراة والإنجيل إخبار بعثته بلغة البشارة.
الثالث: دعوة الأنبياء والكتب السماوية الى إتباعه وإجتناب التخلف عن نصرته.
الرابع: إقتران بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجريان المعجزات على يديه.
الخامس: نزول القرآن وهو المعجزة الخالدة التي تدعو الناس على نحو متصل الى إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه هذه الآية وما فيها من علوم الغيب، والإخبار بالنصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
السادس: توكيد القرآن لهزيمة الذي يحارب المسلمين، وفيه رحمة متجددة للناس ببيان قانون ثابت.
السابع: أداء المسلمين الفرائض والعبادات، وتقيدهم بأحكام الشريعة الإسلامية وإظهارهم الثبات على الإيمان ومنه الصلاة، وتلاوة آيات القرآن فيها، وما تتضمنه هذه التلاوة ومضامينها من البشارة والإنذار.
الثامن: جهاد المسلمين وإستعدادهم للتضحية والقتل في سبيل الله.
التاسع: الوعد الكريم بالثواب الجزيل لمن يتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وينصره، ويمتثل للأوامر الإلهية ويتقيد بالسنة النبوية.
العاشر: الوعد الإلهي للمسلمين بالنصر والغلبة.
ان نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلق يشمل نصرته في دينه واعلاء كلمة الإسلام، وهزيمة الذين يحاربونه ويحاربون المسلمين، لتكون الغلبة دائماً للإسلام، بما يثبت معالم التوحيد في الأرض الى يوم القيامة وهو من اللطف الإلهي الدائم في تقريب الناس الى سبل الطاعة، وتزيين الإيمان الى النفوس، وبعث النفرة من الكفر والضلالة.

قانون عدم نصرة الكفار
من أعظم النعم الإلهية على المسلمين نصرتهم في الحرب والقتال، وتلك النصرة لا يمكن أن تتم الا بمدد وفضل من الله تعالى، وقد ينتصر أحد الجيوش في معركة أو معركتين، وعند مواجهة عدو أو عدد معين من الأعداء ولكنه لا يستطيع الغلبة دائماً لحصول الإختلاف والتغيير والتبدل في النظم أيدي الناس وفي أخبار الأمم السابقة التي سادت ثم بادت، الا ان نصر المسلمين قانون ثابت في الأرض، وتلك آية إعجازية لم ولن تتم الا بتوفيق وعون ومدد من الله تعالى وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين، ودعوة للناس لدخول الإسلام، وزجر للكفار والفاسقين عن التعدي على المسلمين ومحاربتهم وتجهيز الجيوش عليهم.
ان نصرة الله للمسلمين في مفهومها شاهد على خذلانه للكافرين لعدم إجتماع النقيضين وعدم إمكان حصول النصر للخصمين، وجاءت هذه الآية الكريمة ببيان هذه الحقيقة والإخبار السماوي عن إنهزام الكفار مدبرين مخلفين وراءهم قتلاهم وأسلحتهم الثقيلة التي لا يستطيعون حملها حال الفرار، كما انها تخبر في منطوقها عن هزيمة الكفار، ولا تنحصر هذه الهزيمة بمعركة مخصوصة او بموضوع او بلد معين، كالمدينة المنورة ومكة المكرمة، بل هي قاعدة كلية شاملة لكل بلاد وثغور المسلمين، وفي مختلف الأزمنة والأجيال المتعاقبة.
وتتعدد ملل ونحل الكفار، ولكن النتيجة ذاتها، فكل من يحارب المسلمين يلقى الهزيمة والخزي، وقد إعتبرت كثير من الأمم والفرق والدول من آية تكرار انتصار المسلمين في المعارك والحروب فتجنبوا محاربتهم، وهذا الإجتناب نصر إضافي للمسلمين لما فيه من السلامة والأمن من ناحيتهم والمندوحة في تثبيت دعائم الإسلام والتخفيف عن المسلمين في مواجهة الأعداء الذين يصرون على القتال ولا يعتبرون بالدروس والشواهد التأريخية التي تؤيد عملياً مضامين هذه الآية الكريمة وما فيها من علوم الغيب التي تثبت الأيام صحتها، وصدق نزولها من عند الله.
ومن إعجاز هذه الآية عدم إكتفائها بالإخبار عن هزيمة الكفار، بل ذكرت فقدانهم النصرة والعون الذي يدل على إنعدام النصير والظهير، ولو جاءت الآية بذكر الهزيمة وحدها لقيل كم من جيش هزم في معركة ثم عاود الكرة وحقق الظفر والنصر، فجاءت الآية للإخبار عن حرمان الكفار من إعادة الكرة للقتال مع المسلمين، ومع هزيمة الكفار وإنعدام من ينصرهم فهل تبقى محاولاتهم الإضرار بالمسلمين ام تنقطع، الجواب انها مستمرة وتجري باللسان والمكر وابواب التجارة والمكاسب خصوصاً وان المعركة بين الإسلام والكفر متصلة ومستمرة بلحاظ التناقض بينهما، ووجوب أداء المسلمين لوظائف العبودية، أفراد التكليف، وهو من مصاديق بقاء أحكام ومضامين هذه الآية القرآنية حية غضة حاضرة في أذهان المسلمين والواقع العملي.
وصحيح ان الآية جاءت ضمن خطاب للمسلمين بخذلان عدوهم وإستمرار حالة الضعف والوهن عنده الا انها تتضمن في مفهومها الإنذار والوعيد للكفار، ولكن لماذا لم تأتِ الآية بصيغة الخطاب للكافرين “ثم لا تنصرون” الجواب من وجوه:
الأول: جاء نظم الآية خطاباً للمسلمين.
الثاني: المراد بعث السكينة في نفوس المسلمين وبشارتهم بالنصر الدائم المتصل.
الثالث: منع طرو الفزع على نفوس المسلمين من إحتمال إعادة الكفار عليهم عندما يرجعون الى فئة وأصحاب، وقد يكون هذا الفزع سبباً في تقصير بعض المسلمين في عباداتهم او عدم توجههم نحو أعداء آخرين خشية الإنكشاف أمام العدو الأول.
الرابع: إفادة الإستمرار والدوام في إنعدام نصرة الكفار، لذا جاءت الآية بصيغة المضارع ” لاَ يُنْصَرُونَ “.
الخامس: إتخاذ المسلمين الآية سلاحاً للوعظ والإنذار وتحذير الكافرين، ومن مقدمات قتال المسلمين عدوهم إنذاره وتحذيره ودعوته للإسلام، ومن أفراد التحذير مضامين هذه الآية الكريمة وما فيها من الإخبار عن الخسارة المؤبدة لمن يشرع بقتال المسلمين، وكم من فرقة ودولة إجتنبت قتال المسلمين بسبب الإنذارات وظهور البينات على خسارة من يحارب الإسلام وخشية عدم وجود الناصر، وإنقطاع أسباب العون.
وقوله تعالى [َ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] إنذار خاص وعام، أما الخاص فهو الذي يتعلق فهو الخاص بإنعدام المدد والمعاضد في القتال، وأما العام فيتعلق بالحرمان من العون في أمور الحرب والسلم، وانعدام النصرة فيما بينهم، فكل فرد منهم لا يهمه الا نفسه والنجاة بشخصه، ومن معاني الآية انشغال كل واحد من الكفار بشأنه، وكيفية الخلاص مما وقع فيه، فلا يلتفت الى صاحبه وما يحتاج اليه مما يعني سهولة الإجهاز عليهم، وظهور الفتن والعداوة فيما بينهم، فالكفار المهزومون من المعركة لا ينصرون من قبل غيرهم وان كانوا حلفاءهم، ولا ينصر بعضهم بعضاً، بإعتبار ان الآية انحلالية، فلا يتلقى الفرد منهم النصرة والمعونة مطلقاً سواء من الصاحب في المعركة، او الحليف، او الذي يرجى مدده وعونه.

علم المناسبة
ورد الفعل المضارع [يُنْصَرُونَ] بصيغة المبني للمجهول إحدى عشرة مرة وكلها بصيغة النفي، والإخبار عن عدم نصرة الكفار والمشركين، وفيه آية إعجازية من وجوه:
الأول: كثرة عدد الآيات التي تتضمن هذا الفعل بذات الصيغة واتحادها في الموضوع.
الثاني: التنزه عن خطاب الكفار مباشرة دعوة لهم لترك الكفر، وحث لهم على دخول الإسلام حيث النصرة الإلهية والمدد الملكوتي، والعون والنصرة بين المسلمين بإعتبارها من مصاديق نعمة الأخوة التي جعلها ملازمة لهم، فمن الآيات ان تكون النصرة مصاحبة للمسلم، ومحجوبة عن الكافر، وما دام الإنسان كائناً محتاجاً ويتطلع الى نصرة غيره له خصوصاً في حال الشدة، فعليه بدخول الإسلام، ليفوز بنعمة النصرة في الدنيا والآخرة، خصوصاً وان حاجته للنصرة والعون والشفاعة في الآخرة اكثر منها في الدنيا.
وتخص أكثر آيات عدم نصرة الكفار عالم الآخرة والحساب والجزاء، فمن بين الإحدى عشرة آية جاءت ثمان آيات بخصوص الآخرة، وحتى الثلاثة الباقية ومنها الآية محل البحث فإنها تتضمن صيغة الإطلاق والشمول، وإنعدام نصرة الكفار في الدنيا والآخرة، ان عدم النصرة في الدنيا عذاب وعقاب عاجل، وحث على الإعتبار من الخسارة والهزيمة خصوصاً مع عدم وجود أسباب مادية ظاهرة لحصولها وتجلي العون والمدد الملكوتي للمسلمين.
وهو مناسبة لتدارك الكفار وإنابتهم وإقلاعهم عن الكفر، وإجتماع الهزيمة وعدم النصرة للكفار رحمة من عند الله تعالى بهم وبالمسلمين، لما في هذا الإجتماع من أسباب تثبيت أركان الإسلام، وقوة شوكة المسلمين، وضعف أعدائهم وانتقال فريق من الإعداء الى الإسلام، فليس من قواعد ثابتة للإنتماء للكفر، بل هو إنتماء متزلزل ليس له أسس أو أسباب عقلية أو شرعية، فيأتي إجتماع الهزيمة وعدم النصرة لإقتلاع الأفراد من الإقامة على الكفر والأخذ بأيديهم الى ساحل الأمن وبحبوبة السكينة، وسماحة الإسلام وأداء الفرائض والتكاليف والنصرة الدائمة في الدنيا والآخرة.
ومن إعجاز القرآن الإخبار عن تخلف الذين يعدون الكفار والفاسقين عن نصرتهم عند المواجهة قال تعالى [لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ).
وفيه بشارة وسكينة للمسلمين، فمتى اذا خرج المنافقون والكفار لنصرة بعضهم بعضاً، فانهم جميعاً سيهزمون، ولن يجدوا ناصراً لهم.
فلا تعارض بين الآية أعلاه والآية محل البحث بخصوص إنعدام الناصر للكفار المهزومين بين أيدي المسلمين، لتعلق موضوع النصرة في الآية أعلاه بما كان قبل المعركة واثناءها وليس بعد الهزيمة، كما لو أمل المنافقون الكفار بالسلاح والعتاد والمال، وأشاروا اليهم بالثغرات الموجودة عند المسلمين، لأن المنافق يعيش وسط المسلمين ويعرف تفاصيل حياتهم، فجاءت الآية لتوكيد إنعدام الناصر للكفار وخذلان المنافقين لهم.
بحث بلاغي
“فن الإستدامة” علم جديد في البلاغة
بعد ان أخبرت الآية بهزيمة الكفار، أخبرت بانعدام نصرتهم بالحرف “ثم” بقوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ويفيد وجوهاً:
الأول: إرادة ما بعد هزيمتهم من المعركة، لتبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين بان المهزوم لا يرجع يكر عليهم، وفيه رحمة ورأفة بالمسلمين وعوائلهم.
الثاني: إنعدام النصرة في الآخرة، وعدم وجود شفيع لهم يوم القيامة أو من يقول انهم أنهزموا وولوا في الدنيا فلماذا يضربون في الآخرة.
الثالث: إرادة عدم النصرة في قادم الأيام والسنين.
ولاتعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، وتبين سعة وتعدد دلالة اللفظ القرآني، وإطلاق الحكم الإلهي في عذاب الكفار، اذ جاءت الآية لتخبر عن إنعدام النصير للكفار والفاسقين الأخرى في المستقبل القريب والبعيد، وفي حال الحرب والسلم.
وقد يحرص فريق من المسلمين على اجتناب دخول المعركة مع الفاسقين والكفار خشية التعرض للهزيمة والإسلام لا زال في مراحل التأسيس والبناء، او ان الكفار يهزمون فيأتون بالعدة والعدد والمؤونة من أصحابهم من الدول والأمصار الأخرى، فجاءت الآية لدفع وهم.
والبشارة بأمرين:
الأول: هزيمة الكفار والفاسقين عند المواجهة والقتال.
الثاني: عدم وجود النصير الذي يمدهم بالعدة والعدد.
وجاءت “ثم” لبيان إستدامة انعدام النصير وعدم إنحصاره بأوان المعركة مما يدل بالدلالة الإلتزامية على أمور:
الأول: تنامي وازدياد قوة المسلمين.
الثاني: اتساع رقعة الإسلام.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار في الأمصار المختلفة وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: نصرت بالرعب مسيرة شهر( ).
ولا يستطيع الكفار المنهزمون قطع مسافة شهر كامل بالإضافة الى تردد من بعدت شقته في دخول المعركة او إرسال جنوده اليها، خصوصاً وان الجزيرة ارض قاحلة ليس فيها أطماع وخيرات تجذب الغزاة والمعتدين أيام التنزيل والوحي.
ان فن الإستدامة شاهد على إعجاز القرآن، والأسرار والعلوم التي تتضمنها ألفاظه، ودليل على عدم إمكان الإتيان بالشبيه والنظير من الإلفاظ بدل اللفظ القرآني وفيه وجوه:
الأول: انه من خصائص القرآن، فليس من كتاب تتخلف فيه الاشباه والنظائر عن إفادة المعنى الا في القرآن.
الثاني: انه واقية من التحريف والتبديل العمدي او السهوي لالفاظ القرآن وحجة على عدم وصول يد التحريف اليه.
الثالث: فيه دعوة للتثبيت من اللفظ القرآني والعناية به، وعدم التفريط به.
الرابع: انه من مصاديق تفضيل المسلمين، وكونهم خير امة اخرجت للناس.
ومن خصائص ورود “ثم” في الآية ما يسمى “فن الإحتراس” فلو وردت الآية بالعطف بالواو “ولا ينصرون” لإنصرف الذهن والوهن للذي يهزم في المعركة، ويمكن عودة الكفار مع الإستعداد لتحقيق الغلبة فجاءت الآية لتمنع من هذا المعنى، والإحتراس منه، وتخبر عن القطع بتحقق النصر، كما انه يستقرأ من الجمع بين مضامين الآية بتقدير “انهم يولوكم الأدبار ولا ينصرون” ولكن ان عادوا الى القتال فان النتيجة ذاتها تنتظرهم وهي توليتهم الأدبار والهزيمة في المعركة، بإعتبار ان تولية الأدبار في المعركة قانون ثابت، سواء دخلوها ابتداء او عن بعد هزيمة، او إستعداد وإعادة للكرة من جديد.

بحث بلاغي
من وجوه البديع “فن الإيضاح” وهو الإطناب بلغة الإيهام ثم الإيضاح والبيان ورفع اللبس ويأتي الإيضاح بالألفاظ والمعنى والقرائن والإعراب، لتكون خاتمة الكلام مادة للفهم والعلم، ويساعد في ترسيخ مضامين الكلام في النفس ويبعث فيها الغبطة والسعادة لأنها توصلت الى إدراك المعنى بالمتابعة والتروي والتفكر، وفيه برزخ دون الخلط أو الوهم، ويمنع من القراءة المجردة الخالية من التدبر.
وجاء الإيضاح بلحاظ القرائن والإعراب والمعنى أما القرائن فان الشواهد التأريخية تؤكد هزيمة الكفار أمام المسلمين في سوح المعارك وان أتفق قلة عدد المسلمين وأما الإعراب فقد جاءت الآية بعدم جزم الفعل المعطوف على المجزوم اذ ان “ثم” في قوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] حرف عطف يفيد التراخي، وجاء في المقام لإفادة الإستئناف وليس العطف، وقيل ان المعطوف على جواب الشرط بـ”ثم” لا يجوز جزمه لأن المعطوف على الجواب جواب خصوصاً، وان ثم تفيد التراخي فلا يتصور وقوعه عقب الشرط.
وفي الآية دليل على إرادة الحال والإستقبال في عدم وجود ناصر للذين يعتدون على المسلمين من وجوه:
الأول: إفادة “ثم” التراخي، وإرادة أفراد الزمان الطولية المتعاقبة.
الثاني: دلالة صيغة المضارع في الفعل “لا ينصرون” على الإستقبال، ولو دار الأمر بين التقييد او الإطلاق الزماني فالأصل هو الإطلاق الزماني في عدم نصرتهم، وأما مجيء الإيضاح في الآية بلحاظ المعنى، فان الآية أخبرت عن هزيمة الكفار في حال حصول القتال وجاءت بلغة الشرط، مما قد يغني عن فاصلة وآخر الآية، ولكن خاتمة الآية نعمة وبشارة وفيه رحمة بالناس أجمعين في الدنيا من وجوه:
الأول: انه وعد كريم للمسلمين.
الثاني: دعوة أهل الكتاب جميعاً للرجوع الى التوراة والإنجيل وما ورد فيهما من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تدل على ظهوره ونصره وغلبته والمسلمين على أعدائهم.
الثالث: زجر الفاسقين من أهل الكتاب عن التعدي على المسلمين.
الرابع: إنذار ووعيد الناس جميعاً من سوء عاقبة التعدي على الإسلام والمسلمين.
لقد جاءت خاتمة الآية [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] قانوناً ثابتاً، يدل على ان مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل، وانه سبحانه لن يترك أهل الأرض وشأنهم، بل يعين المسلمين وأهل التوحيد بالعز والمنعة ويرمي الكفار والفاسقين بالضعف والوهن وفي انعدام الناظر عن الكفار إشارة الى تضاؤل الكفر، ونقص المدد الذي قد يصل الى الكافرين والمشركين، وإنعدام التعاون بينهم، ودبيب مفاهيم الفرقة والعداوة والتشتت بينهم مما يسهل للمسلمين الأمن في أوطانهم وأداءهم وظائف العبودية لله.



قوله تعالى [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] الآية 112.
الإعراب واللغة
ضربت عليهم الذلة: ضربت: فعل ماض مبني للمجهول، التاء: تاء التأنيث الساكنة، عليهم: جار ومجرور متعلقان بضربت، الذلة: نائب فاعل.
اين ما ثقفوا: اينما: اسم شرط جازم، منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بضربت، ثقفوا: فعل ماضِ مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط.
الواو: نائب فاعل، والجواب محذوف دل عليه ما قبله، أي: فقد ضربت عليهم.
الا بحبل من الله: الا: أداة إستثناء، بحبل: جار ومجرور، لإفادة حال مخصوصة مستثناة من جميع الأحوال التي ضربت فيها الذلة عليهم، من الله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة.
وفي الآية إضمار للفعل الذي جلب الباء في قوله تعالى [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] وتقدير الآية: ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا الا ان يعتصموا بحبل من الله وأستشهد الفراء بقول حميد بن ثور الهلالي:
رأتني بحبليها فصدّت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروقُ
والمعنى انها أقبلت بحبليها وأختلف في الإستثناء في المقام على وجهين:
الأول: انه استثناء متصل، أي ضربت عليهم الذلة بكل موضع ومكان الا بموضع حبل من الله.
الثاني: انه استثناء منقطع، وان الذلة ثابتة عليهم في كل الأحوال، ولو كان الإستثناء متصلاً للزم رفع الذلة عن أهل الكتاب اذا اعتصموا بحبل من الله وحبل من الناس.
والجواب ان الآية صريحة بالإستثناء ولابد من موضوعية له في المقام وان رفع الذلة لم يمنع من بقاء المسكنة وغضب الله، فلو دفع الكتابي الجزية فانه يشعر بالأمن والأمان ويكون في ذمة وعهد المسلمين، إن إعتبار الإستثناء متصلاً عز للمسلمين، وشاهد على النفع العظيم الذي يصيبه الذي يلجأ اليهم ويأخذ منهم عهداً او موثقاً، ومن إعجاز الآية أمور:
الأول: انها حصرت الإستثناء بموضوع الذل دون المسكنة وغضب الله، وفي الطرفين الذي يقبل الإستثناء وهو الذلة والذي لا يقبله وهما المسكنة والإقامة في غضب الله، دعوة لأهل الكتاب للإيمان، وبشارة للمسلمين بالنصر والظفر، وإخبار سماوي عن عدم الخشية من آثار العهد والميثاق وانه اذا رفع الذلة عن أهل الكتاب فانه رفع مقيد ومؤقت ومعلق بحسب أوانه وشرائطه، وله أثر جزئي خاص بالذلة دون المسكنة.
الثاني: التداخل والترادف بين الذلة والمسكنة وكأنهما مما اذا إجتمعا إفترقا، واذا افترقا إجتمعا فلا يخفف رفع الذل عنهم شيئاً لبقاء المسكنة ولكنه يتضمن التخفيف عنهم بما يجعلهم ينصتون الى التلاوة، والتدبر في الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تقدم المستثنى والمستثنى منه، فذكرت الآية اولاً ضرب الذلة والإستثناء منها، ثم ذكرت ضرب المسكنة واللبث في غضب الله، كي لا يظن بعضهم بان الإستثناء عام ومتعلق بأفراد البلاء والعقاب العاجل الذي لحق بالفاسقين من أهل الكتاب.
وضربت عليهم المسكنة: عطف على ما تقدم.
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله: ذلك: اسم إشارة مبتدأ.
بأنهم: الباء حرف جر، انهم: ان وأسمها، والمصدر المؤول من ان وما في حيزها في محل جر بالباء والتقدير: بكفرهم.
كانوا: فعل ماض ناقص، الواو: فاعل.
يكفرون بآيات الله: يكفرون: فعل مضارع، الواو: فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كانوا.
بآيات الله: جار ومجرور متعلقان بيكفرون.
ويقتلون الأنبياء بغير حق: الواو: حرف عطف.
يقتلون: فعل مضارع، الواو: فاعل.
الأنبياء: مفعول به، بغير الحق: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون: ذلك: اسم إشارة.
بما: الباء: حرف جر، ما: مصدرية، أي: بسبب عصيانهم.
وكانوا يعتدون: كانوا: ماضِ ناقص وأسمه.
يعتدون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل، والجملة الفعلية خبر “كان”.
في سياق الآيات
جاءت الآيات السابقة بتوكيد صدق نزول آيات القرآن من عند الله، وان كل آية منه هي آية من آيات الله عز وجل كما في قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ] ( )، ليتضمن التوكيد التشريف والإكرام الإلهي لكل من:
الأول: تشريف القرآن بإعتباره كلام الله وآياته.
الثاني: بيان منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنبياء وأهل الأرض جميعاً وانه صاحب الكمالات الإنسانية الذي أحرز الدرجة الرفيعة بنزول القرآن عليه.
الثالث: تشريف المسلمين، وجعل الرحمة الإلهية تتغشاهم بمضامين آيات القرآن.
والصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة لها من وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى قبل آيتين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، جاءت هذه الآيات بالإخبار من وجوه:
الأول: أفادت هذه الآية حكم الذي يتعدى على خير أمة بان يبتلى بالذل والهوان، وبسخط الله.
الثاني: بيان قبح التعدي وما لها من آثار ضارة على صاحبه في الدنيا.
الثالث: ينجي الإيمان الإنسان من الذلة في الدنيا والآخرة، وهو وقاء وحرز من التعدي والإضرار بالمؤمنين، فما ان يختار العبد الإيمان حتى تتغشى نعمة الأخوة صلته مع المسلمين، وتجمعه معهم العبادات والفرائض.
الرابع: من وظائف خير أمة تلاوة القرآن وبيان ما فيه من البشارات والإنذارات ومنها ما في هذه الآية من مضامين الإنذار والوعيد للذين يسعون للإضرار بالمسلمين، ويجهزون الجيوش لقتالهم.
الخامس: بيان قاعدة كلية وهي من يعتدي على خير أمة تضرب عليه الذلة أينما وجد.
السادس: بيان مصداق وشاهد على ان المسلمين هم خير أمة بالإستدلال بالبرهان اللمي، وإستقراء المؤثر من الأثر، فخير أمة هي الأمة التي يضرب الله عز وجل الذلة على عدوها، وتكون عاقبته الخزي والعار.
وجاءت هذه الآيات بالإخبار عن إنفراد المسلمين بالعز والكرامة بإحاطة عدوهم بالذل والهوان.
السابع: تترشح الذلة والهوان على الذين كفروا بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء وإختيارهم التعدي والظلم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية والآية التي قبلها، وفيه وجوه:
الأول: إتصال الكلام، بإخبار المسلمين عن حال الفاسقين والكفار الذين يعتدون عليهم.
الثاني: إستدامة الضرر وحال الإنكسار الذي يلحق الذين كفروا، اذ ان الهزيمة والفرار من المعركة الذي ذكرته الآية السابقة قضية في واقعة، وحال مخصوصة تنقضي بأوان المعركة وما يلحق بها، وذكرت هذه الآية إستدامة آثار ومعاني الهزيمة على حال الكفار والفاسقين بان تلازمهم مفاهيم الذلة، وتتجلى ظاهرة عليهم في عالم الأقوال والأفعال وعلى نحو الإرث والتركة.
الثالث: إطلاق حال الذلة التي تصيب الكفار اذ انها ملازمة لهم قبل الإضرار بالمسلمين والتعدي عليهم، واثناءه وبعده، لأنها ترشحت عن كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء ظلماً، فذكر السبب في الآية إعجاز وإشارة الى تقدمه زماناً على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذلة والمسكنة التي أصيب بها الكفار من المعلول الذي لا يتخلف عن علته، فعند كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء أحاطت بهم المسكنة وصاحبتهم في أيام حياتهم وأجيالهم المتعاقبة.
الرابع: لما أخبرت الآية السابقة بان الكفار لن يضروا المسلمين الا أذى، جاءت هذه الآية لتبين علة وسبب إنحسار ودفع أكثر أفراد الضرر القادم من الكفار وهو إتصافهم بالذل والمسكنة والهوان، فمن يكون ذليلاً خائباً لا يستطيع الإضرار بخير أمة اخرجت للناس، يعتصم أفرادها بالله، وتغشاهم نعمة الأخوة.
الثالث: الصلة بين الآيات السابقة مجتمعة، وبين هذه الآية وفيه وجوه:
الأول: إعتصام المسلمين جميعاً بالقرآن والسنة من الذلة بمراتبها المتباينة، وفيه بعث للفزع والخوف في نفوس أعدائهم.
الثاني: حاجة المسلمين الى نعمة الأخوة لدرء ضرر وأذى الكفار والفاسقين.
الثالث: توجه المسلمين بالشكر لله تعالى على نعمة الإيمان والتمسك بالقرآن والسنة، والتسليم بانها برزخ وواقية من الضرر الآتي من الكفار.
الرابع: تلاوة المسلمين لهذه الآية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتلك آية إعجازية في الصرح العقائدي للإسلام، فقد مدح الله عز وجل المسلمين ووصفهم بانهم خير أمة يأمر أفرادها بالمعروف وينهون عن المنكر، وتأتي تلاوتهم لآيات القرآن لتكون مصداقاً للأمرين معاً وهما:
الأول: كونهم خير أمة، فمن خصائص خير أمة تلاوتها لآيات القرآن.
الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتلاوة هذه الآية الكريمة وما فيها من زجر الكفار عن التعدي والظلم.
الخامس: لما جاء قبل ثلاث آيات الإخبار عن ملكية الله عز وجل المطلقة للسماوات والأرض وما فيهما، جاءت هذه الآية لتؤكد ان الملكية ليست مجردة بل لله المشيئة والإرادة وتدبير أمور السماوات والأرض ومنها وقوع الذلة على الكفار الذي يعتدون على الإسلام والمسلمين، وفيه إنذار للكفار من سخط وغضب الله عز وجل، الذي يأتي بلحاظ التلبس بالكفر فليس من أشخاص معينين في كل زمان تضرب عليهم الذلة.
فالإنسان هو الذي يختار منازل العز بالإيمان والإقرار بالربوبية لله والنبوة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، او يختار الذل والهوان بالتلبس بالكفر والجحود.
السادس: جاء قبل أربع آيات الإخبار الإلهي بان آيات القرآن هي آيات الله عز وجل وانه سبحانه يتلوها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحق، وجاءت هذه الآية للإخبار بضرب الذلة والمسكنة على الذين يكفرون بآيات الله، وفيه بيان لحقيقة وهي من يكفر بآيات الله تضرب عليه المسكنة.
السابع: جاء قبل ست آيات بيان الفصل بين الناس في عالم الجزاء بلون الوجوه، فيأتي المسلمون يوم القيامة ووجوهم بيضاء ومشرقة، ويأتي الكفار ووجوههم مسودة تمتلأ قبحاً، ويكون الجمع بينها وبين هذه الآية، بترشح سواد الوجه يوم القيامة من الذلة في الدنيا، فالكافر يكون في الدنيا ذليلاً، وفي الآخرة يكون وجهه مسوداً، للملازمة بين الذلة ونزول غضب الله وبين سواد الوجه في الآخرة.
لذا ورد قبل آيات قوله تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ]( )، والجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه وقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] ( )، يفيد الإنذار والتحذير من الكفر بآيات القرآن والصدود عن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إخبار عن كون الذلة والهوان مقدمة لسواد الوجه في الآخرة وانذار للنجاة منه، أي ان الكافر يبتلى بالذل والمسكنة ليعتبر ويتعظ ويفيق من غفلته ويتوب الى الله وينجو من سواد الوجه في الآخرة الذي يكون متعقباً لحال الذل المترشح عن الكفر والجحود.
الثامن: جاء قبل آيتين الإخبار عن أفضلية الإيمان لأهل الكتاب بقوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( )، وجاءت هذه الآية لتبين مضامين الخير والحسن الذاتي والغيري لإختيار الإيمان وترتب الضرر الفادح على إختيار الكفر والجحود، فمن يبقى في منازل الكفر والجحود يبتلى بالذل والهوان في الدنيا وسواد الوجه في الآخرة.
التاسع: في الثناء على المسلمين وبيان فضل الله عليهم في الآيات السابقة ومجيء هذه الآية بنزول الذل والمسكنة بالذين كفروا دعوة للمسلمين والمسلمات للشكر لله تعالى والتقيد بأداء الفرائض، والثبات على الإيمان.
وجاء الإخبار الإلهي عن لصوق الذلة بالكفار بعد الإخبار عن هزيمتهم في المعركة، وفيه وجوه:
الأول: من خصائص المنهزم ان يكون ذليلاً.
الثاني: إنعدام الناصر عنوان للذلة والمسكنة وإشتداد الفاقة وازدياد الحاجة من دون ان يتصدى فرد أو جهة لقضائها.
الثالث: خسارة الأموال بسبب وقوعها غنيمة بيد المسلمين.
الرابع: فقدان الذراري الذين يصبحون سبايا عند المسلمين.
الخامس:ضرب الجزية على الكفار الذين يكفون أيديهم عن المسلمين.
السادس: إستدامة حال الذل يزيد في وطأته وقسوته، ويجعله واقعاً ملاصقاً ومصاحباً للكفار، وتظهر آثاره على اللسان في الأفعال فينعدم مجيء الضرر للمسلمين من ناحيتهم، وهو من إعجاز سياق الآيات وإخبارها عن عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين بالضرر الفادح.
الرابع: الصلة ومضامين نظم الآيات بين هذه الآية والآيات التالية، وفيه وجوه:
الأول: الإستثناء والتخصيص في ذم أهل الكتاب، وبيان حقيقة وهي عدم قيام كل أهل الكتاب بالتعدي على المسلمين وحشد الجيوش لقتالهم، بل فيهم أمة وجماعة مؤمنين، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وآخرين من بعدهم يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقرون بمطابقة صفاته وعلامات نبوته وزمانه لما موجود عنه في التوراة والإنجيل.
وفي الجمع بين الآيتين مسائل:
الأول: دعوة المسلمين للتمييز والفصل بين الجماعات والفرق والأفراد من أهل الكتاب بلحاظ نهجهم وسمتهم وعملهم.
الثاني: التحرز من إطلاق الذم على أهل الكتاب.
الثالث: لزوم الفحص عن أهل الكتاب منهم لجذبهم الى الإسلام، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاءت به الآيات السابقة.
الرابع: بيان حقيقة وهي ان من أهل الكتاب من لم يسع للإضرار بالمسلمين، ولكنهم قلة منهم فقد جاءت الآيات السابقة بتوكيد فسق وخروج أكثرهم عن الطاعة اذ أختممت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ].
الرابع: بعث الأمل في نفوس المسلمين في هداية الآخرين، ومنع غلبة النفس الغضبية والإنتقام من الذين لم يقاتلوا المسلمين من أبناء الفرقة والملة التي تحاربهم.
الثاني: بيان الإختلاف والتباين بين الكفر والإيمان وأنما يأتي الإضرار بالمسلمين من الذي يتلبس بالكفر.
الثالث: في وجود المؤمنين من أهل الكتاب تخفيف إضافي عن المسلمين، فالذين آمنوا وصدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب حجة على الفاسقين منهم الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين ، وحتى على فرض ان المراد من صفة الايمان انها ايمان فرقة من اهل الكتاب بالله عزوجل ونفي الشريك عنه، فان وجودهم حجة أيضاً، وعون للمسلمين في الدعوة الى عبادة الله تعالى.
الرابع: من مصاديق ضرب الذلة على الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين وجود أمة من إخوانهم تؤمن بالله واليوم الآخر وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
الخامس: في الآيتين التاليتين زجر لأهل الكتاب عن الإضرار بالمسلمين، ودعوة للفاسقين للإقتداء بالمؤمنين منهم.
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآيات السابقة، دعوة الكافر للإنتقال الى الإسلام طلباً للعز والتوفيق والنجاة من العذاب، وهذا الإنتقال مقدمة وبداية للسعي في دعوة من بقي على الكفر الى الإسلام، لترشح وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه بدخوله الإسلام.
لما جاءت الآية قبل السابقة بنعت المسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس، جاءت هذه الآية لتبين حال عدوهم وفيه وجوه:
الأول: من خصائص خير أمة ضعف ووهن عدوها.
الثاني: معرفتها بما عليه عدوها من الضعف.
الثالث: ضرب الذلة على عدوها.
الرابع: الأمن لمن له عهد وذمة معها.
قانون إستنباط العلوم من الآيات المتجاورات
تتضمن هذه الآيات تحذير للمسلمين من الكفار فالإخبار عن هزيمتهم في المعركة وضرب الذلة عليهم لا يعني عدم أخذ الحيطة والحذر منهم، وإخبار هذه الآية عن كفرهم وتعديهم وقتلهم الأنبياء، وإخبار الآية السابقة عن سعيهم للإضرار بالمسلمين، وإرادة قتالهم، يدل على ان حال الذل والهوان لم يمنعهم من معاودة التعدي والمكر والكيد بالمسلمين.
وهذا الجمع بين مضامين هذه الآيات من إعجاز القرآن، وعلم شريف يستلزم دراسات عالية وتأليف مجلدات تتضمن إستنباط الأحكام من دلالة الجمع بين الآيات المتجاورات من القرآن، وفيه شاهد على ان ترتيب آيات القرآن أمر توقيفي من عند الله، ولا يقدر عليه غيره سبحانه، وفيه خزائن وكنوز سماوية تقتبس منها الأجيال المتعاقبة التالية من المسلمين العلوم والذخائر، من غير أن تنقص أو تنفد.
لقد ابتدأت هذه الآيات بحث المسلمين على وظائفهم العبادية، ولزوم التمسك بالقرآن والسنة، وإجتناب الفرقة والتشتت، وبينت فضل الله تعالى عليهم بنعمة الأخوة والود والمحبة بينهم، ثم أمرتهم بالقيام بالواجب التكليفي العام وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في دلالة على ان وظائف المسلم لا تنحصر بالواجبات البدنية والمالية التي تكون عنواناً للصلة بينه وبين الله عز وجل، بل لابد من واجبات تتعلق بعمله وصلته مع الناس بإصلاحهم وتهذيب أعمالهم بما يجعلها موافقة للأوامر الإلهية.
وهذه الواجبات هي مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لا تنحصر بموضوع معين أو كيفية مخصوصة بل تكون متشعبة ومتفرعة، ومتجددة مع الجديدين الليل والنهار في آية من عند الله عز وجل بجعل الدار الدنيا مزرعة للمسلم يحصد فيها الحسنات، ويدخر الصالحات بعبادته وتسبيحه ودعائه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ودفاعه عن الإسلام.
وتبين هذه الآيات الوظائف العظيمة التي يقوم بها المسلم واتساع ميادينها، فهي لا تنحصر بأداء المكلف العبادات والفرائض بل تشمل قيامه بتعاهد الصلاح والقيم الإيمانية في الأرض، وهذا التعاهد على أقسام:
الأول: ما يقوم به على نحو الوجوب العيني، الذي يجب عليه بالذات دون غيره من الناس وان كان واجباً ايضاً على غيره لتعدد الخطاب التكليفي به كأداء الصلاة والصيام.
الثاني: الوجوب الكفائي الذي ينظر معه المسلم هل قام به غيره وأنجزه فيسقط عنه، أم لم يقم به أحد من المسلمين فيتصدى له.
الثالث: ما يجب على الأمة والجماعة أداؤه، ويستلزم قيامها به على نحو الفعل النوعي العام الشامل، ومنه شطر من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مواجهة الكفار والفاسقين في سوح المعارك، والثبات على الإيمان وحفظ بيضة الإسلام.
ومن الآيات ان يلقى المسلمون التخفيف والتيسير من عند الله عزوجل في أداء وظائفهم الفردية والجماعية والنوعية العامة، ومن مصاديقها ضرب الذلة على الذين يسعون في الإضرار بهم والتعدي عليهم من الكفار والفاسقين، فبعد التكاليف والجهاد المتصل باليد واللسان في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تأتي البشارة الإلهية بالإخبار عن وهن العدو، وعجزه عن مواجهة المسلمين لتكون هذه البشارة عوناً لهم على دخول معارك الدفاع عن الإسلام بشوق وتطلع الى النصر، ورؤية مصاديق هذه في الواقع من وجوه:
الأول: قبل نزول الآية والبشارة، لتكون توكيداً وبياناً لفضل الله تعالى على المسلمين في معارك الإسلام الأولى مثل واقعة بدر، بالإضافة الى الوقائع الشخصية فكل صحابي من المهاجرين والأنصار لاقى في طريقه العناء والأذى من الكفار، وأستطاع النجاة منه، وقهر الذين حاولوا الحيلولة بينه وبين الإسلام كما كان أذاه على وجوه:
الأول: عند إرادته دخول الإسلام، وسعيه لمعرفة أحكامه.
الثاني: حال الحديث عن الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومتابعة مصاديقها.
الثالث: عند إظهار التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلالاتها العقلية على خرقها للعادة، وإقترانها بالتحدي، وعدم قدرة الناس على الإتيان بمثلها.
الرابع: عند إعلان الإسلام والنطق بالشهادتين.
الخامس: إنتشار خبر إسلامه فكان الصحابي اذا أسلم وانتشر خبر إسلامه أظهر الكفار له العداء، كما كان يجري في مكة المكرمة أيام البعثة النبوية الشريفة، فتأتي هذه الآيات لتبشره وأخوانه من المسلمين الأوائل بالنصر، وتدعوه للثبات على الإيمان، والإجتهاد في مرضاة الله.
الثاني: بعد نزول هذه الآية الكريمة لتكون سبباً لطرد الخوف من قلوب المسلمين، وتساعدهم في معرفة وهن وضعف عدوهم وسهولة التغلب عليه.
ومن فضل الله تعالى المترشح من هذه الآية عدم طرو التردد والخشية من الحرب على نفوسهم، فهذا التردد في حال وقوعه سبب للخلاف والفرقة، وتخلف شطر من الأمة عن القتال، بينما كان المسلمون يتسابقون في الخروج للغزو والدفاع عن الإسلام، ومنهم من لم تكن عنده راحلة أو سلاح مناسب او زاد وتلك آية إعجازية لم تحصل في أي جيش من الجيوش في التأريخ لأن السلاح وواسطة النقل من مستلزمات دخول المعركة وخوض غمارها خصوصاً مع بعد المسافة وطول المسير.
فجاءت هذه الآية لتخبر المسلمين عن حال عدوهم من الضعف والهوان، والجمع بينها وبين الآيات السابقة دعوة للمواظبة على الواجبات والفرائض، فان الإستعداد للعدو ومواجهته لا تستلزم الإنشغال عن الفرائض والعبادات، كما ان أداءها مدخل كريم لتحقيق النصر والغلبة في المعركة.
الثالث: إستدامة الشواهد التأريخية للبشارة بالنصر، وبيان مصاديق هذه الآية الكريمة التي تتجلى في الواقع اليومي وحال السلم أيضاً، وتظهر في الجدال والإحتجاج والمعاملات مع غير المسلمين، وليس من حد زماني او مكاني لظهور وتجلي هذه المصاديق فهي ملازمة لحال المسلمين الى قيام الساعة.
الرابع: لا يعتبر النصر على الكفار نهاية الجهاد، بل انه خطوة في الجهاد في سبيل الله، ومناسبة للمضي في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفاصلة زمانية لمنع الكفار من القيام بالتعدي على المسلمين، ودرس لهم للإعتبار والتدبر في أسباب هزيمتهم، وفرصة لتوبة وإنابة شطر منهم.
إعجاز الآية
في الآية مسائل إعجازية منها:
الأولى: ابتداء الآية بنزول البلاء والسخط الإلهي بالكفار الذين يعتدون على المسلمين.
الثانية: مجيء الآية بلغة القطع والجزم بنزول الذلة والهوان بالذين كفروا.
الثالثة: بيان إستدامة وملازمة الذلة للكفار في حال الهزيمة وما بعدها.
الرابعة: إستثناء حال العهد والميثاق من عمومات الذلة والهوان للكفار، في دعوة لهم لحثهم على قبول شرائط الذمة والتقيد بأحكام الجزية.
الخامسة: قبح الكفر بآيات الله، وضرره على الكافرين في الدنيا الى جانب سوء العاقبة في الآخرة.
السادسة: موضوعية العهد والميثاق في حفظ النفوس وإعتباره في النجاة من الذل والهوان.
السابعة:توكيد قبح الجحود والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: إخبار الآية عن ذلة ومسكنة الفاسقين من أهل الكتاب، والكفار بقتل الأنبياء.
التاسعة: مع ان قتل الكفار للأنبياء سابق للإسلام، وأشارت اليه الآية بالعطف على قوله تعالى [كَانُوا يَكْفُرُونَ….] فان المسكنة والذلة ملازمة لهم، مما يدل على الحاجة الى البعثة النبوية الشريفة.
العاشرة: التوكيد على قانون ثابت وهو ان قتل الأنبياء ظلم وبغير حق على نحو العموم المجموعي الشامل لكل الأنبياء الذين قتلوا.
الحادية عشرة: انتقام وثأر الله عز وجل من الذين يقتلون الأنبياء في الدنيا والآخرة، فمن الآيات كون الثواب والعقاب في الآخرة، ولكن هذه الآية أخبرت عن الغضب الإلهي العاجل على الكفار في الحياة الدنيا، وترشح نزول الذل والهوان على الذين يقتلون الأنبياء، وفيه إشارة الى غضبه تعالى على من يسعى في قتال وقتل المسلمين، ودعوة لإجتناب التعدي عليهم والإضرار بهم.
الثانية عشرة: عموم الذلة على الكفار والتي لا تكون الا بقدرة ومشيئة إلهية، اذ انها تشمل آنات الزمان المتباينة، وحلولهم في أي موضع من الأرض لتتجلى القدرة الإلهية بظهور إمارات الذل عليهم دائماً، وفي حال الشدة والرخاء، والسعة والضيق.
لقد أخبرت الآية عن سر من أسرار الإرادة التكوينية القاهرة التي لا يمكن للإنسان تغييرها أو تبديلها، فلا يقدر الكفار وان إجتمعوا على محو حال الذل التي هم عليها، وجاء لفظ “ضربت” بصيغة الماضي الذي يفيد الوقوع والثبات وإستدامة الذلة وعدم تقييدها بحال الحرب والهزيمة من المعركة، بل هي سابقة للمعركة ومصاحبة لها ومتأخرة عنها، وهي من أسباب هزيمة الكفار وفرارهم من المعركة، فالذليل لا يستطيع مواجهة أبطال الوغى الذين يزحفون بثقة نحو النصر أو الشهادة طاعة لله تعالى.
ومن إعجاز الآية الفصل بين حال الذل والهوان وحال الغضب الإلهي على الكفار، فيمكنهم التخلص من الذل، بإختيار القبول بشروط الذمة ودفع الجزية، ولكن الغضب الإلهي يبقى مصاحباً لهم لأنه مترشح عن كفرهم بآيات الله لقوله تعالى في هذه الآية [بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ومنها آيات القرآن ولزوم الإقرار بنزولها من عند الله.
وقد تفضل الله تعالى ونسبها الى نفسه وقد ورد قبل أربع آيات [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] ولبيان الفصل بين حال الذل، والغضب الإلهي جاءت الآية بأمور:
الأول: ورود الإخبار عن نزول الغضب الإلهي بهم بعد ذكر الإستثناء من حال الذل.
الثاني: مجيء الواو في “وباءوا” التي تفيد الإستثئناف بلحاظ ذكر الآية بعدها لأسباب بالغضب الإلهي على الكفار، وانها أعم من موضوع دخول المعركة مع المسلمين ومحاولاتهم الإضرار بالإسلام والمسلمين، وحتى على فرض ان الواو في “وباءوا” للعطف فان معنى الفصل بينهما يبقى قائماً.
الثالث: إجتماع حلول الغضب الإلهي وحال المسكنة بالنسبة للكفار.
الرابع: العهد والذمة سبب لجعل أهل الكتاب وأعراضهم وأموالهم في ذمة وحماية المسلمين، وهو مناسبة لتدبرهم بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستقراء معاني التنزيل ومصاديق النبوة منها ومن الواقع العملي للمسلمين، ولكن أحكام الذمة وتقيد أهل الكتاب بشروط ليس مانعاً من نزول الغضب الإلهي بهم.
ومن إعجاز الآية أمور:
الأول: ما في الآية من البيان والتفصيل الذي يكون ضياء يفضح الكفار.
الثاني: ذكر أسباب الغضب الإلهي بصيغة التفصيل الإجمالي والتعدد، وعدم حصر ذكرها بالإجمال وحده.
الثالث: بيان ان مقاليد الأمور بيد الله تعالى، وأنه سبحانه لم يترك الناس وشأنهم بعد ان خلقهم وسخر لهم ما في الأرض، بل ان منافع وبركات الفعل الصالح تترشح على الأبناء والذراري قال تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا] ( )، وذكر انه جدهم السابع.
كما تترشح أضرار وتبعات الفعل السيء على الأعقاب ويحتمل أمرين:
الأول: تلحق التبعات بالذراري عقوبة للآباء في الدنيا، ليروا وهم في عالم البرزخ ما يتعرض له ابناؤهم من الذلة والمسكنة بسبب سوء فعلهم.
الثاني: يأتي الذلة والمسكنة للأبناء بسبب رضاهم بفعل آبائهم، والصحيح هو الثاني، لذا وردت بعض آيات الذم بصيغة الخطاب قال تعالى [قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، بالإضافة الى سلامة ابناؤهم الذين أسلموا من آثار الذلة والمسكنة
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “بحبل من الله” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
من الآيات في الإرادة التكوينية إمتلاء الدنيا بالأمارات والشواهد التي تكون على قسمين:
الأول: أسباب المدد والعون للمسلمين.
الثاني: مقدمات الفزع والتثبيط للكافرين.
وتتجلى هذه الشواهد بقسميها في هذه الآية الكريمة التي تتضمن بيان ووصف حال الكفار الذين يحاربون الإسلام وما هم فيه من الذلة والهوان، ليكون حالهم وبيانه في القرآن عوناً للمسلمين في الثبات على الإيمان، وقوة إضافية تترشح عليهم من العلم بضعف عدوهم وعجزه عن الإضرار بهم.
فتنزل الآية القرآنية على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتلوها على المسلمين لتكون مدرسة عقائدية كاملة، كما في هذه الآية التي هي حرز وواقية وسلاح.
فهي حرز من ضرر وأذى الكفار، وواقية من تعديهم على الإسلام، وسلاح في الحرب والسلم، لأنها تبين حال الكفار وما هم عليه من الضعف والوهن الذي يترشح قهراً وانطباقاً عن الذلة والهوان، ولا يعني هذا البيان الدعوة الى التهاون وقلة الإستعداد في مواجهة العدو، لورود آيات بالأمر بالقتال والرد بالمثل وبذل الوسع وانفاق الأموال في التهيئ للحرب قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
وتحث الآية المسلمين على جهاد الكفار ببيان جنايتهم وفسقهم وتعديهم على الحرمات وقتلهم لأشرف الناس الذي بعثهم الله عز وجل مبشرين ومنذرين، وهم الأنبياء , وتدعو الى أخذ الحائطة والحذر منهم لتجرأهم على الإسلام والمسلمين، فاذا كانوا قد قتلوا الأنبياء بغير حق، وما من نبي الا وقد جاء معه بالمعجزة الخارقة للعادة التي تؤكد صدق نبوته، وتدعو الناس الى إكرامه وتصديقه وعدم الجحود بنبوته، فمن باب ألأولوية القطعية ان يقوم هؤلاء الكفار بالتعدي على المسلمين والسعي لقتالهم، ويزيد كشف الحقائق هذا في قوة شوكة المسلمين وعزمهم على دفع أذى وكيد الكفار، ومنع أخذهم المبادرة في القتال، وعدم الركون اليهم.

مفهوم الآية
أظهرت الآية حرمان الكفار من العز، وملازمة الذلة والهوان لهم وفيه وجوه:
الأول: عدم إمكان تحقيقهم النصر.
الثاني: دعوتهم للتخلص من الذل والهوان، وينحصر سبيل النجاة من الذل بدخول الإسلام، وهو من إعجاز مفاهيم آيات القرآن، فهذه الآية تدعو الكفار بالواسطة الى دخول الإسلام، فما من إنسان وأمة الا وتسعى الى نيل العز، وهو محصور بالإيمان بالله والتصديق بأنبيائه، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وتفيد اللام هنا الإختصاص، كما لو قلت “القلم للكتابة”.
ومن فضل الله تعالى على الناس عدم وجود برزخ وواسطة بين الكفر والإيمان، فلا يحتاج ترك الإنسان الكفر وإنتقاله الى الإسلام مقدمات ومستلزمات وانتظار، فليس بينه وبين التخلص من الذل والهوان الا التلفظ بالشهادتين، ومن الآيات ان باب النجاة مفتوح للناس جميعاً للنجاة من الذل والهوان، والإنتقال من غضب وسخط الجبار الى مرضاته ونيل شرف الإنتماء الى خير أمة، واذ تبدل الموضوع تغير الحكم، فيذهب عنه الذلة حال دخوله الإسلام لأنها ملازمة وتابعة للكفر والجحود.
الثالث: بيان قبح الذل والهوان.
الرابع: ترتب الذل على المعصية ومحاربة الإسلام والإضرار بالمسلمين.
الخامس: الملازمة بين الذل والهزيمة في المعركة، فمن يكون ذليلاً ومسخوطاً عليه، يجب أن يجتنب القتال والتعدي على المسلمين، ويختار دفع الجزية والقبول بشرائط الذمة.
وتتضمن الآية مسائل:
الأولى: بيان جانب من أسباب هزيمة الكفار وهو ضعف إرادتهم وعجزهم عن مواصلة القتال بسبب حال الذل التي ضربت عليهم.
الثانية: يحتمل نزول الذل بالكفار سعة وضيقاً وجهين:
الأول: شموله لجميع الكفار.
الثاني: إنحصاره بالذين يحاربون المسلمين، ويسعون في الإضرار بهم، والصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق وبيان علة الذلة المتعددة المصاديق، ومنها كفرهم بآيات الله، وإختيارهم المعصية والجحود.
الثالثة: تغشي الذل والهوان للكفار على نحو العموم الزماني والمكاني، ويدل على الأول أي الزماني صيغةالجمع في “ضربت عليهم”، أما المكاني فقوله تعالى [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا] أي تلاحقهم الذلة في كل مكان يوجدون فيه، واذا كانوا يظنون ان حصونهم تمنعهم من عدوهم فانها لن تمنعهم من الذل والهوان لأنه داء يسري في الأوصال، وضعف يغلب على النفوس، ويظهر على الألسنة وفي الأفعال.
الرابعة: تبعث الآية المسلمين للدفاع عن الإسلام، وتدعوهم لعدم الخوف من الكفار الذين يعتدون عليهم، وتحثهم على خوض القتال وعدم الرضا بشروط العدو التي تخالف مبادئ الإسلام لأن الذلة ملازمة له، ولا يستطيع العدو الصمود في المواجهة.
الخامسة: هناك تباين بين الذل وإنتفاء الصبر في القتال، فمن يكون ذليلاً مهاناً يفتقر لملكة الصبر، وهو من أسباب هزيمتهم في المعارك.
السادسة: توكيد الآية على الإستثناء، وانحصاره بالميثاق والعهد والذمة مع إطلاقها بقوله تعالى [وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] لفضله تعالى في إمضاء الذمة والعهد، ولزوم حفظ المسلمين لهما، وتعاهدهما والوفاء بشروط الذمة.
السابعة: يمكن تأسيس قاعدة كلية في المقام وهي ان الذمة واقية من الذل والهوان، ولا تأتي الذمة الا بالعهد مع المسلمين، وقبول شروطهم، ولكن الذمة لا ترفع الغضب الإلهي عن الكفار والفاسقين لأنه ملازم للكفر بآيات الله والنبوة.
الثامنة: التفصيل بين العهد من الله، والعهد من المسلمين، مع موضوعية ونفع كل واحد منهما.
التاسعة: إستحقاق الكفار للعذاب الإلهي.
العاشرة: إخبار الآية بعدم رضا الله تعالى عن الكافرين.
الحادية عشرة: من مفاهيم الآية لزوم سعي الإنسان لنيل رضا الله تعالى، وحرصه على إجتناب غضبه، وقد فاز بهذه النعمة المسلمون بهذه النعمة المركبة، اما الكفار فقد خسروا هذه النعمة وإستحقوا نزول الغضب الإلهي بهم بظلمهم وتعديهم على المسلمين.
الثانية عشرة: ظهور علامات الذل والتفاقر والخوف على الكفار، فتراهم يكثرون من الشكوى والحاجة، ويلجأون الى الإتيان بالأعذار التي تحول دون الفعل وان كانت جزئية او وهمية، في بيان للطف الإلهي على المسلمين في سعيهم في مرضاة الله، وتجاوزهم للصعاب والمشاق، وتعاهدهم للفرائض والواجبات في حال الشدة والرخاء، والسعة والضيق، وشكرهم لله تعالى على توالي النعم، فالكافر ينظر الى ما يفتقر اليه، وما غاب عنه من الرغائب وما بعُد من الآمال والغايات، أما المسلم فانه يشكر الله عز وجل ويعتبر كل ما عنده هو كثير وفضل عظيم من عند الله عز وجل.
الثالثة عشرة: بيان أسباب غضب الله عز وجل على الكفار، وهي:
الأول: كفرهم بآيات الله مع تعددها وكثرتها.
الثاني: قيامهم بقتل الأنبياء بغير حق.
الثالث: إصرارهم على المعصية والجحود.
الرابع: ظلمهم وتعديهم على الغير.
وفي ذكر هذه الأسباب وعلة ضرب الذلة والمسكنة مسائل:
الأولى: انه شاهد على ان الله عز وجل لا يظلم احداً، وان الكفار هم الذين يظلمون أنفسهم.
الثانية: دعوة الكفار لإجتناب أسباب سخط الله عز وجل.
الثالثة: تفقه المسلمين في الدين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية، وزيادة معرفتهم بأحوال الناس.
الرابعة: موضوعية العمل في معرفة مراتب الناس وأحوال أهل الملل والنحل، بلحاظ الإيمان او عدمه فمن يتلبس بالكفر بآيات الله يبوء بسخط الله عز وجل، مما يدل في مفهومه على ان من يختار الإيمان يفوز برضاه تعالى.
وبخصوص الفاظ الآية الكريمة، هناك مسائل:
الأولى: هذه الآية هي الآية الوحيدة التي تبدأ بلفظ “ضربت”.
الثانية: من بين ثلاث مرات ورد فيها لفظ “ضربت” جاءت مرتان في هذه الآية.
الثالثة: تكرر مرتين في هذه الآية كل من الألفاظ الآتية:
الأول: ضربت عليهم.
الثاني: حبل.
الثالث: من الله.
الرابع: ذلك.
الخامس: كانوا.
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية السابقة بيان الخصال الذميمة للفاسقين من أهل الكتاب وهي:
الأول: سعيهم للإضرار بالمسلمين.
الثاني: عدم وصول ضررهم وكيدهم للمسلمين الا على نحو الأذى المحدود موضوعاً وزماناً وأثراً.
الثاني: عزمهم على قتال المسلمين، وعدم قبولهم للصلح وشرائط الذمة.
الثالث: هزيمتهم عند المواجهة وإشتداد وطأة القتال.
الرابع: إنعدام وجود الناصر للفاسقين والكفار الذين يعتدون على المسلمين.
الخامس: نزول الذلة بهم.
السادس: ملاحقة الذلة لهم في أي مكان يحلون به، فقد يأوى فريق منهم الى أهل الكتاب من أمصار وبلدان أخرى، ولكنهم يعيشون بينهم في حال من الذلة والغربة، ويتولون القيام بأعمال دنيئة، وصنائع خدمة مع الجهد وقلة الأجر وإنحطاط المنزلة.
السابع: موضوعية العهد الذي يعطيه المسلمون في سلامة أهل الكتاب من الذلة والهوان.
الآية لطف
تتوالى آيات اللطف الإلهي على المسلمين في القرآن، وهو من مصاديق نعت آياته بانها آيات الله، فتأتي تلاوة كل آية لتكون رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، ولطفاً يحبب لهم الإيمان وحرزاً من المعاصي، كما تبين آيات القرآن القبح الذاتي للكفر والتعدي على المسلمين بالإضافة الى آثاره العاجلة والآجلة، ويتجلى اللطف الإلهي في هذه الآية من وجوه:
الأول: قوله تعالى [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ] إخبار إلهي بنزول الذلة بالكفار بشارة للمسلمين بإستدامة النصر وحث لهم على مواصلة الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام، فقد ينتصر المجاهدون في معركة، ولكن لا يلبث العدو حتى يأتي بجيش جرار او يباغتهم في ديارهم وبيوتهم.
فجاءت هذه الآية لإخبار المسلمين بذلة وهوان عدوهم، وانه حتى وان عاود الكرة فان الضعف والخوف والهوان ملازمة لهم، وفيه لطف بالكفار بدعوتهم الى الكف عن إيذاء المسلمين،وزجرهم عن التعدي على حرماتهم، وبعث لليأس في نفوسهم من محاولاتهم الإضرار بالمسلمين.
ان إمتناع الكفار عن الإضرار بالمسلمين برزخ دون زيادة آثامهم، وشدة غضب الله عليهم، لذا فان الآية الكريمة لطف بهم من جهة الإمتناع والكف عن إيذاء المسلمين، وفيه لطف إضافي بالمسلمين، صحيح ان تعدي الكفار على الإسلام، والمسلمين لن يضرهم الا أذى وفيه الثواب والأجر للمسلمين، الا ان كف الكفار عن الأذى تخفيف ورحمة إضافية بالمسلمين.
الثاني: الإطلاق المكاني لنزول الذلة على الكفار لطف بالمسلمين، فقد يخشى المسلمون الكفار عند إجتماعهم في منتدياتهم، فجاء قوله تعالى [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا]ليخبرهم بملازمة الذل لهم مجتمعين ومتفرقين، وقد يظن بعض المسلمين بان الكفار في بلدانهم أقوياء وفي حال يختلف عن حال الذل وهم قلة ومختلطون مع المسلمين.
فجاءت هذه الآية لتخبر عن مصاحبة الذلة والهوان والضعف لهم في كل مكان ومنها بلدانهم، قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( )، ومن اللطف الإلهي بالكفار معرفتهم بملازمة الذل لهم في كل مكان لتكون سبباً لتخلصهم من الكفر وهجران منازله لنفرة النفس من الذل وأسبابه.
الثالث: دعوة أهل الكتاب للدخول في ذمة الإسلام، وطلب السلامة والأمن من الذل والهوان، وفي الآية شاهد على ان الله عز وجل أنعم على الناس بالعهود والمواثيق التي تساعدهم في النجاة من ملازمة الفزع والخوف.
الرابع: جعل الله عز وجل النشأة الآخرة داراً للحساب، وجاءت هذه الآية لطفاً بالعباد لما فيها من الإخبار عن غضب الله على الكفار الذي يحاربون المسلمين، وفيه عون للمسلمين وإنذار وتخويف للكفار، ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
وجعل الله عز وجل المسلمين يرددون في كل يوم عدة مرات قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] ( )، لتوكيد قبح نهج وفعل الذين غضب الله عليهم، وبيان حرص المسلمين على النجاة والسلامة من غضب الله عز وجل.
الخامس: من اللطف الإلهي في الآية الكريمة بيان وتفصيل أسباب نزول الغضب الإلهي والمسكنة على الكفار ليكون درساً وموعظة، وطرداً للجهالة والغرر، فقد يكون الكافر في غفلة من أمره، ولا يكلف نفسه عناء النظر فيما هو فيه من الإصرار والعناد والجحود، فتأتي هذه الآية لتبين له سوء النهج الذي يتبعه، وضلالة الذين سبقوه عليه ممن قام بقتل الأنبياء والتعدي على الحرمات، وهذا البيان لطف به وفضل للأتباع عن المتبوعين منهم.
وتهاجم مضامين الآية قلوب وأوهام الكفار وتكون حاضرة معهم في منتدياتهم تكشف لهم الأضرار الدنيوية والأخروية لما هم عليه من الكفر والجحود.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إحاطة الذل بالكافرين لمحاربتهم الإسلام.
الثانية: إستثناء عدد من الكفار من نزول الذلة بهم، وهذا الإستثناء على قسمين:
الأول: الذين عندهم عهد من الله عز وجل.
الثاني: الذين حصلوا على عهد وأمان وذمة من المسلمين.
الثالثة: رجوع الكفار من ايذائهم ومحاربتهم للمسلمين بنزول الغضب الإلهي به وإستحقاقهم اللعن.
الرابعة: إقتران الذلة بالمسكنة فيكون الكافر بعد تعديه على المسلمين ذليلاً مسكيناً.
الخامسة: بيان إستحقاق الكفار للغضب الإلهي، وإحاطة الذل والمسكنة بهم، من وجوه:
الأول: كفرهم بآيات الله.
الثاني: قتلهم الأنبياء.
الثالث: تقييد قتلهم الأنبياء بانه بغير حق.
الرابع: إصرارهم على إرتكاب المعاصي.
الخامس: إعتداؤهم على المسلمين وتماديهم في الظلم، ووردت كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي:
1- حبل من الله.
2- حبل من الناس.
3- ضربت عليهم المسكنة.
وتتضمن الآية اللطف بالمسلمين والناس جميعاً، وهي حصانة وواقية للمسلمين من الأذى وأسباب الإفتتان والإنشغال عن طاعة الله، وفيها بيان لإستمرار إغواء الشيطان للإنسان، وهذا الإغواء مركب من وجوه:
الأول: فتنة الكفار والفاسقين.
الثاني: محاولة تثبيت الشك والريب في نفوسهم.
الثالث: الوسوسة لهم للإجتماع على الكفر والجحود، ودعوة بعضهم بعضاً للتمادي في الذنوب.
الرابع: تحريفهم على إيذاء المسلمين، ومحاولات الإضرار بهم، فتأتي هذه الآية لتكون حجة للمسلمين، وتوكيد لرحمة الله بهم، والتخفيف عنهم ونصرتهم على عدوهم بجعله خائباً ذليلاً، الا الذي له عهد وميثاق وحتى العهد فانه شاهد على قوة المسلمين وفضل الله عليهم بعدم نجاة أعدائهم من الذلة الا الذين التجأوا الى العهد، والناس على قسمين:
الأول: مسلمون.
الثاني: غير المسلمين، وهؤلاء على أقسام:
الأول: المؤمنون بالله من أهل الكتاب.
الثاني: الفاسقون الذين ذكرتهم الآية قبل السابقة لقوله تعالى[مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ].
الثالث: الكفار المشركون.
وأخبرت هذه الآية بلحوق الذل والهوان بمن يسعى في الإضرار بالمسلمين لتكون موعظة وزاجراً للناس جميعاً من التعدي على المسلمين لذا فانها لطف وإنذار بمن يؤذي المسلمين وغيره، اما الذي يؤذي المسلمين فان الآية رحمة به من وجوه:
الأول: فيها دعوة للكافر للكف عن إيذاء المسلمين.
الثاني: تبعث الآية على التفات الكافر الى ما هو فيه من الذل والهوان.
الثالث: في الآية إصلاح للكافر، ودعوة لهجران ايذاء المسلمين، لأن الضرر الذي يصيبه كبير، واذ يتأذى المسلمون من محاولات الإضرار بهم، ويتغلبون على الأذى، ويخرجون أكثر قوة ومنعة، فان حال الذل ملازمة لعدوهم في الدنيا والآخرة، ومن الآيات في الحياة الدنيا ان جعلها الله عز وجل مليئة بالأمثلة التي تشير الى عالم الآخرة وتكون تذكرة بها، ومنها حال الذل والهوان للكفار، وفي الآية لطف بالمسلمين من وجوه:
الأول: الآية عبرة وموعظة.
الثاني: في الآية شفاء لصدور المسلمين.
الثالث: الآية دعوة للمسلمين للصبر والتحمل في ذات الله.
الرابع: الآية حجة على الكفار، ومناسبة لمعرفة أحوال العدو، والثغرات التي ينفذ منها اليه، خصوصاً وان حال الناس في الإنتماء على قسمين:
الأول: الحال المستقرأة الثابتة وهي حصراً عند المسلمين وبقاؤهم على الإسلام دائماً، وعدم جواز الإرتداد في الشريعة الإسلامية.
الثاني: الحال المتزلزلة غير الثابتة عند غير المسلمين، وتجدد الأمر لهم بدخول الإسلام على نحو الإتصال والإستمرار اليومي، لذا فعلى المسلمين السعي لهدايتهم وارشادهم ودعوتهم الى العز والأمن والسلامة في النشأتين ونزع رداء الذل والهوان الذي يكون عليهم في الآخرة أشد وأمر مما هو في الدنيا .
ومن اللطف الإلهي ان جاءت هذه الآية ببيان حال الكفار وما هم عليه من الذل وهو أذى وضرر نفسي وغيري ليكون درساً تستقرأ منه حالهم في الآخرة، ويتضمن الإنذار والوعيد المقرون بالدعوة الى الهداية والصلاح والإنتقال الى منازل العز والرفعة اللازمة للإيمان.
إفاضات الآية
أراد الله عز وجل للناس ان يحبوه وينقطعوا الى عبادته، وهذا الحب حاجة وضرورة للناس، اذ انه سبحانه غني غير محتاج، وغناه مطلق، فهو ليس محتاجاً لذات الإنسان وفعله وحبه ومشاعره، وأحاسيسه ولكنه سبحانه يقرب العبد من الطاعة ببعث مضامين المحبة في نفسه وجعله منشغلاً بآياته تعالى في الآفاق وفي النفوس وفي القرآن الذي تتجلى فيه معاني الكشف والبيان لأحوال الناس في النشأتين.
وتنحصر في أمرين:
الأول: فوز فريق برضا الله.
الثاني: خيبة وخسارة الفريق الآخر ونزول غضب الله عليهم.
وجاءت هذه الآية إفاضة على المسلمين وبشارة لهم بالفوز وجذباً لهم لساحة القدس والملكوت، ودعوة للإنشغال بعبادته وأداء المناسك ليكون هذا الإنشغال وسيلة لإكتساب الحسنات، ونيل الدرجات العالية وواقية من ضرر وإيذاء الكفار.
ويبين تعقب هذه الآية الكريمة للإخبار الإلهي بعدم إضرار الكفار بالمسلمين الا على نحو الأذى القليل العناية الإلهية بالمسلمين أفراداً وجماعات، وعدم إنحصار النعم التي تترى عليهم بالذات، بل تشمل فضح عدوهم ودفعه عن إيذائهم وإشغاله بنفسه وإحاطته بالذل والهوان لتكون الدنيا حديقة غناء يسيح المسلمون في جنباتها، ويتنعمون بخيراتها لا يخشون على ما في صدورهم من الهدى والإيمان، وتمتلأ نفوسهم بالغبطة والسعادة لتوارث نعمة الإيمان والحفاظ على مبادئ الإسلام، والآية رحمة مزجاة للمسلمين ودعوة لهم للمواظبة على العبادات، وإخبار بحجب الكفار عن إيذائهم.
من غايات الآية
تتضمن الآية مسائل:
الأولى: إخبار المسلمين بحال عدوهم في الدنيا ، وما يلحقه من الاذى.
الثانية: الذل والمسكنة مقدمة للعذاب في الأخرة.
الثالثة: زيادة قوة ومنعة المسلمين بمعرفتهم بضعف ووهن عدوهم.
الرابعة: دعوة المسلمين للجهاد في سبيل الله، لما في ضرب الذلة على الكفار من التهيئة للغلبة عليهم.
الخامسة: لما جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن كون المسلمين خير أمة جاءت هذه الآية لتؤكد مقدمات غيرية لتأهيل المسلمين لهذه المرتبة الرفيعة بنزول الذل والهوان بعدوهم الذي يريد الإضرار بهم.
لقد أراد الله عز وجل ان لا يكون من آمن به والذي جحد بعرض واحد في الدنيا والآخرة، وجاءت هذه الآيات لتبين التباين بين الفريقين بالعز للمسلمين والذل للكافرين، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
السادسة: حث أهل الكتاب على اللجوء الى عقد الذمة، ودفع الجزية للمسلمين ونيل العهد والميثاق بأمنهم.
السابعة: ذكر شطر من تأريخ الأمم السابقة، وما قام به فريق من بني اسرائيل بقتل الأنبياء.
الثامنة: توكيد حقيقة وهي ان الجحود بالآيات، وعدم التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب للذل والهوان.
التاسعة: بيان حاجة الناس الى البعثة النبوية الشريفة، ونزول القرآن والإخبار عن فضل الله تعالى على الناس بسلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، والثناء على المسلمين في هذا الباب وانهم صدقوا بهم وذبوا عنه شر الأعداء، ودافعوا دونه ودون مبادئ الإسلام حتى أظهره الله عز وجل.
وفي الاية تحذير من الكيد والمكر وقيام فريق من اليهود بمحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن الآية جاءت بصيغة الجمع من وجهين:
الأول: ذم الفاسقين منهم لقيامهم بقتل الأنبياء.
الثاني: ورود لفظ الأنبياء بصيغة الجمع وفيه مصداق لما يلاقيه الأنبياء من الأذى والتعدي.
العاشرة: توكيد حقيقة في الإرادة التكوينية وهي من يكفر بآيات الله ويقتل الأنبياء تلازمه الذلة والهوان.
التفسير
قوله تعالى [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ]
جاءت هذه الآية معطوفة على التي قبلها في بيان حال الكفار والفاسقين، ومن إعجاز هذه الآيات ان ياتي الخطاب فيها للمسلمين بإعتبارهم خير أمة، بينما تتضمن الآيات ذكر حال عدوهم وما عليه من الذل والهوان، ومن ذله ان لا تأتي هذه الآية خطاباً له، فلم تخاطب الآية الفاسقين من أهل الكتاب وتقول لهم “ضربت عليكم الذلة” بل جاءت خطاباً مع المسلمين جميعاً لأنها معطوفة على الآية السابقة وقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ولو أكتفت الآيات بالإخبار عن عدم إضرارهم بالمسلمين وهزيمتهم في المعركة لأختلف في التأويل والأسباب، وعلة هزيمتهم.
فجاءت هذه الآية لبيان جانب وسر من أسرار هزيمتهم يتعلق بحالهم وضعفهم وهو ابتلاؤهم بالذل والضعف والهوان الا من لجأ الى الميثاق والعهد مع المسلمين ولاذ بالهدنة او دفع الجزية.
ولما أخبرت الآية قبل السابقة المسلمين بأنهم خير أمة، وان هذا الفضل والتفضيل لا ينحصر بالأمور الذاتية بل يتعلق بحالهم وضعفهم، وهو ابتلاؤهم بالذل والضعف والهوان الا من يلجأ الى الميثاق والعهد مع المسلمين ولاذ بالهدنة أو دفع الجزية.
ولما أخبرت الآية قبل السابقة المسلمين بأنهم خير أمة، وان هذا الفضل والتفضيل لا ينحصر بالأمور الذاتية بل يتعلق بالغير والناس جميعاً، ليتحمل المسلمون أعباء تبليغ التنزيل وأحكام النبوة للناس، وجذبهم الى سبل الهداية والإيمان، جاءت هذه الآية للإخبار عن حال عدوهم، ومع ما فيه من البشارة وكونه مناسبة لشكره تعالى على التخفيف عن المسلمين فانه دعوة لهم لإنقاذ الناس من الذلة وما فيها من القبح الذاتي بجذبهم الى منازل الهداية والإيمان وما فيها من العز ولو خير الإنسان بين حال العز والذل، فانه يختار الأول، لذا فان الآية تتضمن أمرين:
الأول: توجيه الخطاب للمسلمين وفيه:
الأول: الإخبار عن سوء حال عدوهم في الدنيا.
الثاني: قبح التعدي والكفر بآيات الله.
الثالث: دعوة المسلمين لشكره تعالى على نعمة الهداية.
الرابع: تأهيل المسلمين للإحتجاج ودفع الشبهات.
الثاني: إنذار الكفار وفيه وجوه:
الأول: كشف حال الذل والهوان التي تتغشاهم جميعاً، وهي على قسمين:
الأول: الذل على نحو القضية الشخصية، فترى الفرد منهم ذليلاً خائفاً.
الثاني: الذل النوعي الشامل لجماعة الكفار كأمة وفرقة، ويتجلى في التردد في النوايا وضعف القرار، وإنعدام الصبر، وقلة الهمة، وظهور حال الجزع والفزع.
وبعد أن اختتمت الآية السابقة بالإخبار عن هزيمة الكفار في المعركة أمام المسلمين، جاءت هذه الآية لدفع وهم، فلا يظن بان حال الكفار في السلم يختلف عن حالهم في المعركة، فاذا لم يكونوا في حال حرب وتعدِ على المسلمين فان الذلة تصاحبهم على نحو التأبيد.
الثاني: إنذار الكفار من السخط الإلهي.
الثالث: دعوة الكفار للكف عن التكذيب بآيات الله، وكل واحدة منها حجة ذاتية وعقلية تملي على الإنسان التصديق بها.
الرابع: الآية دليل على كون المسلمين خير أمة لأنهم يدعون غيرهم للصلاح وان كان عدواً لهم، ويقومون بنقل آيات الله للناس مع التصديق بها والإقرار بنزولها من عند المسلم.
وبلحاظ نظم الآيات فان موضوع الآية يتعلق بالفاسقين من أهل الكتاب وعدم إضرارهم إلا على نحو الأذى، واذا أرادوا القتال فانهم ينهزمون بين يدي المسلمين، كما في يهود المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، وكذا يهود خيبر الذين لم يكتفوا بتحريف الأخبار الواردة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة بل قاموا بمحاربته والمسلمين، فانهزموا امام المسلمين ومنهم من أسر وقتل.
وقد يتركهم المسلمون وشأنهم بعد إنتهاء المعركة، وتفرقهم في البلدان الا ان الله عزوجل لم يتركهم وهو الذي له ملك السماوات والأرض كما جاء قبل ثلاث آيات ليبتليهم بالضعف والهوان.
وإبتدأت الآية الكريمة بقوله تعالى “ضربت” وفيه وجوه:
الأول: جاء بصيغة الفعل الماضي مما يدل على نزول الذلة بهم قبل نزول الآية الكريمة، والذلة بلاء وضرر خاص، ونزول الآية رحمة للمسلمين والناس جميعاً فجاءت هذه الآية رحمة بأهل الكتاب لأنها تدل بالدلالة الإلتزامية على دعوتهم الى أمرين:
الأول: الكف عن الإضرار بالمسلمين وقتالهم، فاذا كان القتال يسبب هزيمتهم أمام المسلمين، ومحاولاتهم الإضرار بالمسلمين لا تسبب الا أذى قليلاً، ويأتيهم منه ضرر بالغ يتمثل بالذل والمسكنة والهوان، فالأولى لهم ترك التعدي على المسلمين.
الثاني: التدبر في أحوالهم ووظائفهم وما يجب عليهم من الوظيفة الشرعية بالإلتحاق بالمسلمين في تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنجاة من الذلة والهوان.
الثاني: لم تذكر الآية أسباب إنزال الذلة بأهل الكتاب الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، وفيه وجوه:
الأول: من القوانين في الدنيا نزول الذل بالفاسقين الذين يعتدون على المسلمين.
الثاني: المسلمون في جهادهم في سبيل الله، وغزواتهم لإعلاء كلمة التوحيد.
الثالث: تأتي الذلة للفاسقين والكافرين الذين يعتدون على المسلمين نتيجة لما يلحقهم من الهزائم في المعارك وقتل أبطالهم.
الرابع: من وجوه الذل وقوعهم في الأسر، وقيام المسلمين بالأستحواذ على أموالهم بعد المعركة، لأن الهزيمة التي أخبرت عنها الآية السابقة أعم مما يقع في ساحة المعركة وما بعدها، فيشمل أسباب الخسارة والهزيمة والآثار المترتبة على المعركة والهزيمة فيها من وجهين:
الأول: مطاردة المسلمين لهم بعد الهزيمة.
الثاني: حال التشتت والضياع التي يعيشها المنهزم خصوصاً الذي لا يرجع الى فئة او بلد يأويه وأصحابه، وقد يرجع هؤلاء الى بلد ولكنه غير بلدهم مما يجعلهم فيه أذلة.
الخامس: ضربت عليهم الذلة بالجزية التي يجب أن يدفعوها للمسلمين، وما لها من الشرائط والأحكام.
السادس: نسخ ما هم عليه من الملة والكتاب، فالعزة تصاحب الذي يختار الشريعة الناسخة، وينتقل الى الإسلام والتصديق بالقرآن الذي نزل من عند الله كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية.
السابع: ملازمة الذلة للمهزوم، فمن يهزم في المعركة لابد وان يكون ذليلاً.
الثامن: إملاء المسلمين شروطهم على المهزومين من أهل الكتاب بما يؤدي الى إصابتهم.
التاسع: لحوق الخزي والعار بهم بمرأى ومسمع من الناس بعد هزيمتهم أمام المسلمين وحال الإنكسار التي تصيبهم.
العاشر: فقدهم لأموالهم وتركهم لديارهم بعد هزيمتهم من قبل المسلمين، ومن لم يترك داره فانه يخسر في المعركة سلاحه، وما أعده لها، وبذله من المال والعناء والمؤونة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة وتدل على شمول الأحكام الشرعية للحياة اليومية للناس، ولزوم التقيد بها وإجتناب الظلم والتعدي على المسلمين.
الثالث: جاءت الآية بصيغة الفعل المبني للمجهول “ضربت” ولم تذكر الفاعل الذي ضرب الذلة على الفاسقين من أهل الكتاب، وفيه وجوه:
الأول: انه الله تعالى في عقوبة عاجلة ودعوة لهم للتدبر والإتعاظ والكف عن إيذاء المسلمين.
الثاني: انه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي حكم بالسيف بالذين حاربوا المسلمين من يهود بني قريظة.
الثالث: المسلمون هم الذين ضربوا الذلة على أهل الكتاب في الإحتجاج والتعامل اليومي.
الرابع: الذلة ذاتية تحصل فيما بين أهل الكتاب باللوم وتوجيه بعضهم لبعض الذم واللوم على التخلف عن التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: يشعر كل فرد منهم بالذل والهوان، لإدراكه فقدان الإرتقاء الذي يصاحب الإيمان.
السادس: الملازمة بين الذل والكفر، فكل كافر بالتوحيد او النبوة ذليل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ويمكن إعتبار الوجه الأول منها أصلاً، والوجوه الأخرى فروعاً.
وفي الآية لطف بالمسلمين بان جعل الله أعداءهم أذلة وفيه دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً للتنزه من العداء للإسلام، والكف عن إيذاء المسلمين، للقبح الذاتي والعرضي للذل والهوان، فما من إنسان يخير بين العز والذل الا يختار العز، وكذا بالنسبة للجماعات والشعوب والأمم، وقد حصرت العزة بالمؤمنين من الناس على نحو التعيين قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وعزتهم مستقرأة ومتفرعة من عزة الله عز وجل والإيمان به تعالى ومن سعة رحمة الله عز وجل بالناس انعدام البرزخ والحاجز بينهم وبين العز أفراداً وجماعات إلا البرزخ العرضي الشخصي الذي يضعه الكافر لنفسه ظلماً لها ، وجعل الله عز وجل العز ملازماً للإيمان، مع الترغيب بالإيمان، وحث الناس على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بالآيات التي جاء بها من عند الله تعالى.
الرابع: جاءت الآية بصيغة الجمع “عليهم” وفيه وجوه:
الأول: الآية إنحلالية فكل فرد من الفاسقين ذليل.
الثاني: نزول الذلة بالفاسقين من أهل الكتاب كافة، وهو الأصل في صيغة الجمع في الآية.
الثالث: ترشح الذلة وأسبابها على أهل الكتاب جميعاً حتى على القول بإرادة الفاسقين منهم فقط في موضوع الذل، لتأثر الكل بالجزء، ووجود الذلة في شطر منهم يؤثر على المجموع.
قانون ضرب الذلة
تمتلأ الحياة الدنيا بمصاديق الإبتلاء والإمتحان، ويكون للإنسان فيها متسعٌ ومندوحة في العمل والسعي والإختيار بين المتزاحمين او الضدين، وبين الأحسن والحسن والردئ، وبين الصحيح والفاسد، والإيمان والكفر والخير والشر.
ومن الآيات تعدد مصاديق اللطف الإلهي التي تقود الإنسان نحو الخير وأسباب الهداية والصلاح ومنها بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية، ومنها آيات القرآن وكل آية منها مدرسة في الهداية والصلاح وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن من بين الكتب السماوية، فتكون الآية وحدها موعظة وعبرة ودعوة لإختيار الإيمان وفعل الخيرات وإجتناب السيئات، كي تكون بالإتحاد مع آيات أخرى من القرآن وسيلة مباركة للإرتقاء في المعارف الإلهية، وحرزاً من الضلالة وسوء الإختيار، وواقية من الذلة والهوان.
ومنها هذه الآية التي تدل في مفهومها على لزوم بذل الوسع وحسن الإختيار للنجاة من الذل وأسبابه، وتنحصر أسباب النجاة منه بإختيار الإيمان وإجتناب والإضرار الفردي والنوعي من التعدي على المسلمين وسننهم وثغورهم.
وكما تبين هذه الآية حقيقة وهي عدم إنحصار الإبتلاء في الحياة الدنيا بعالم الأقوال والأفعال، بل يشمل ضرب الذلة على الفاسقين الذين كفروا وكذبوا بآيات الله وآذوا ويؤذون المسلمين.
وصحيح ان الآية جاءت بصيغة الماضي المبني للمجهول الا ان مضامينها متصلة ومستمرة ودائمة الى يوم القيامة، وفي هذه الإستدامة وجوه من اللطف الإلهي منها:
الأول: الرحمة الإلهية بالناس جميعاً لما في الآية من لغة الإنذار والتحذير من معاداة الإسلام.
الثاني: اللطف الإلهي بالمسلمين ببيان ما يلحق عدوهم، اذ جاءت الآية السابقة بعدم إمكان إضراره بالمسلمين الا أذى قليلاً، وجاءت هذه الآية لتخبر عن لحوق الذل والمسكنة به.
الثالث: الدعوة المتجددة للناس لدخول الإسلام، اذ ان إستدامة إصابة أعداء الإسلام بالذل والهوان توكيد لسلامة إختيار الإسلام.
الرابع: حال الذل للفاسقين من أعداء الإسلام شاهد يومي على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته، وحث للناس لإتباعه ونصرته.
الخامس: مضامين الآية سبب لنفرة الناس من عداوة الإسلام، والذين يعادونه.
السادس: الآية سبيل للنجاة من عذاب النار، لدلالة مفهومها على الإبتعاد عن أسباب الذل والهوان في الدنيا، وللملازمة بين الذل ونزول الغضب الإلهي في الدنيا وبين العذاب الأليم في الآخرة.
وتدل الآية على قانون ثابت من قوانين الحياة الدنيا وهو نزول الذلة بالذين يحاربون الإسلام ويتعدون على حرمات المسلمين، وتحتمل الذلة بلحاظ الإتحاد والتعدد وجوهاً:
الأول: إنحصار الذلة في الوقائع وحال الحرب والهزيمة.
الثاني: حال ما بعد المعركة والإنهزام منها، اذ ان المهزوم والهارب من القتال يبقى ذليلاً بين الناس.
الثالث: الذلة عند الجدال والإحتجاج.
الرابع: إستدامة الذلة في حال الحرب والسلم وفي الحضر والسفر.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول: لأصالة الإطلاق والمتبادر من مفهوم نزول الذل بالفاسقين.
الثاني: إفادة صيغة الماضي في “ضربت” معنى الإستدامة وثبات حال الذل.
الثالث: ترشح حال الذل من غضب الله على الفاسقين وإصرارهم على الإثم والعدوان.
الرابع: العموم الوارد في قوله تعالى [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا].
فمن الآيات في الحياة الدنيا تفضل الله تعالى على المؤمنين بالعز في الحياة الدنيا، وضرب الذل والهوان على الكافرين والجاحدين، وهو شاهد على ملكية الله المطلقة في السماوات والأرض، وان مشيئته نافذة في العباد في الدنيا، وهو عنوان ودليل على ملكيته المطلقة للآخرة وحصول الحساب والثواب والعقاب فيها.
قانون منافع ضرب الذلة على الكفار
تتضمن الآية صيغة العقوبة العاجلة والأثر الوضعي المترتب على التكذيب بآيات الله، والإصرار على الكفر والجحود، ومحاربة الإسلام والمسلمين بنزول الذل والهوان، وهو كالداء الصامت المصاحب للإنسان الذي يأخذه بتلابيبه.
ومن دلائل الآية ثبات حال الذل عند الكافرين فلو حاول الفرد أو الجماعة او الفرقة منهم التخلص منه فانهم لا يستطيعون النجاة منه على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية، فقد يتناجون للخروج من حال الذل ويبذلون الجهد ولكنهم يفاجئون بعد لأي وعناء انهم لا زالوا في ذات المرتبة والدرجة من الهوان فتضعف عندهم الهمة وتنقص الهزيمة ويصابون باليأس وهو من مصاديق الذل والهوان.
وصحيح ان حال الذل بلاء وأذى الا ان منافعه كثيرة ومتعددة وهي على وجهين:
الأول: المنافع الدنيوية وهو على أقسام:
الأول: إنتفاع الفاسقين من أهل الكتاب مما يلحقهم من الذل وفيه وجوه:
الأول: الذل دعوة للإتعاظ.
الثاني: انه تحذير للكافرين والفاسقين من نزول العذاب بهم في الآخرة.
الثالث: منع الكفار من التمادي في التعدي على المسلمين، وفيه نفع للكفار، بنزول أشد البلاء، وعدم تراكم زيادة الذنوب والآثام.
الرابع: إجتناب الكفار الإضرار بالمسلمين، للقصور الذاتي بسبب حال الذل الذي ضرب على الكفار.
الثالث: زيادة الإيمان برؤية الأعداء يحيط بهم الذل والهوان.
الرابع: تجلي آيات الله في أحوال العدو، والبؤس الذي يكون فيه.
الخامس: إنشغال الكفار بأنفسهم وعجزهم عن مواصلة القتال والتعدي على المسلمين.
السادس: حال الذل ضعف ووهن، وإصابة الكفار به، مناسبة وفرصة للمسلمين لتثبيت دعائم الدين، وإقامة شعائر الله وأداء المناسك.
السابع: رؤية الكفار أذلة درس في المعرفة الإلهية.
الثامن: ضرب الذلة على الكفار دعوة للمسلمين للتوجه بالشكر لله تعالى لما أصاب عدوهم من الهوان، فتارة يأتي النصر بأسباب ذاتية وصبر وحسن بلاء، وأخرى بسبب ضعف وذل العدو، وقد أجتمع الأمران للمسلمين بالإضافة الى المدد والنصرة الإلهية لهم.
مما يدل على ان الله عز وجل رزق المسلمين ما لم يرزق غيرهم في القتال ومقدمات وأسباب النصر، وهو من الشواهد على تفضيل المسلمين، وتوكيد لحقيقة كونهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثالث: إنتفاع الناس جميعاً من الأذى الذي يلحق الفاسقين، وهو على وجوه:
الأول: الإتعاظ والإعتبار.
الثاني: ضرب الذلة على الفاسقين والذين يؤذون المسلمين دعوة للناس جميعاً الى أمور:
الأول: إجتناب إيذاء المسلمين.
الثاني: ترك المسلمين يؤدون مناسكهم من غير تضييق.
الثالث: التدبر في آيات الله في الناس وأحوالهم قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ومن الآيات في الأنفس رؤية الذل والهوان يتغشى الفاسقين وأعداء الإسلام.
الرابع: النفرة من الذين يؤذون المسلمين والإستهزاء بهم، والتعدي عليهم لأنهم في حال من الذل والوهن، فيأتي ابتلاء إضافي للذين يؤذون المسلمين من الكفار أنفسهم ليزدادوا ذلاً الى ذلهم، وحتى لو لم يقوموا بالتعدي عليهم فانهم لا ينصرونهم ولا يسعون لتخليصهم من حال الذل التي هم فيها، وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة، وقوله تعالى فيها [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ].
الخامس: دخول الإسلام، والسلامة من الذل.
الثاني: المنافع الأخروية، وليس من حد للمنافع الأخروية في ضرب الذل على الكافرين الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، وإذ تشمل المنافع الدنيوية منه المسلمين وأهل الكتاب والكفار، فان المنافع الأخروية خاصة، بالمسلمين وتكون على قسمين:
الأول: المنافع المترشحة من الصبر على أذى الكفار.
الثاني: منافع الجهاد ضد الكفر والضلالة، والمساهمة في تحقيق وإستدامة تغشي الذل للكفار، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )، وتتجلى المنافع الأخروية بالأجر والثواب العظيم والمقام الكريم على الصبر في جنب الله، وتحمل المسلمين الأذى من الكفار، وعدم التفريط بالفرائض والسنن.

قانون أثر الذلة
أخبرت الآية الكريمة بالنص عن نزول الذلة والهوان بالكفار والفاسقين الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، ونزول الذلة وحده بلاء وأذى شديد، كما تترشح عنه اضرار عديدة، وتلك آية من آيات الله في خلق الإنسان وسبل هدايته الى سواء السبيل، فقد لا يشعر الكافر دائماً بأضرار الذل لمصاحبته له، فتأتي الأضرار المتشعبة والمتفرعة عن الذل لتذكره بقبحه الذاتي وكونه أذى متعدد الوجوه.
وهو مدرسة للناس جميعاً، يرون من خلاله ما يلحق أعداء الإسلام من الأذى، وشاهد على نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في أيام الحياة الدنيا، ودعوة للناس للإسلام ونبذ الكفر والفسق والظلم.
وبينما جاءت الآية السابقة بصيغة المضارع [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] والمضارع المقرون بالشرط [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] جاءت هذه الآية بصيغة الماضي [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ…]وفيه دليل آخر على المدد الإلهي للمسلمين برمي عدوهم بالذلة قبل ان يهم بالإعتداء على الإسلام والمسلمين، وظهور الهوان عليه، وتكون آثار الذلة على وجوه:
الأول: الأثر الشخصي، وهو الذي يصيب الفرد الواحد من الكفار ويظهر عليه في معاملاته وقراره ورأيه ومواضيع إهتمامه وإختياره نوع العمل البسيط، وقلة الهمة والعزم، وضعف الإرادة وميله الى الرياء ونحوه من الأخلاق المذمومة.
الثاني: الأثر في الأسرة: وهو الذي يظهر داخل البيت، وبين أفراد الأسرة الواحدة من علامات الذل والإستكانة وأسباب البؤس ، وقل ةالتفكير والهم بمشاريع تنفع الأسرة ، وفقدان الإشراقة التي تتغشى البيوت بالإيمان، وتتجلى بأداء الفرائض في أوقاتها والتقيد بأحكام الصلاة والصيام والفرائض الأخرى، الذي يبعث السكينة في نفوس أفراد الأسرة ، وينمي عندهم ملكة الصلاح والسعي الحثيث لخير الدنيا والآخرة.
الثالث: الأثر النوعي العام للذلة على الكفار والذي يظهر جلياً واضحاً بمعاني الضعف والقصور عن الذب عن النفس والمال، وحصول أسباب الفرقة والخلاف بينهم، وتفشي حال الفزع والخوف والإرباك بيتهم، وعجزهم عن مواجهة المحن والمصائب والنجاة من الفتن، بخلاف المسلمين الذين يواجهون الضرر والأذى الآتي من الكفار بالصبر والثبات على الإيمان.
ووجوه وآثار الذلة أعلاه أفراد ارتباطية متداخلة فيما بينها، وكل فرد منها يؤثر في الآخر ويتأثر به، وهذا الإرتباط والتداخل تثبيت وإستدامة لحال الذل ، وموضوع يدرك من خلافه الكفار سوء الحال التي هم فيها، وفيه زجر لهم جماعات وأفراداً للإقلاع عن المعاصي والسيئات.
ولا ينحصر ظهور آثار الذل على الرجال من الكفار، بل يشمل النساء ايضاً لإطلاق الآية، وإرادة العموم الإستغراقي منها فتساهم النساء في بقاء حال الذلة عند الكفار ، ويمنعن أي محاولة من الرجال للخروج عنها خوفاً وخشية عليهم وعليهن وعلى أولادهن، ويكون الذل حاكماً للصلات بين الزوج والزوجة، وفي ميادين العمل، والمنتديات، وفيه عون للمسلمين لمواجهة أذى الكفار.
والذل عبأ ثقيل يعاني منه الفرد والجماعة ، اما الفرد فان الذل يكون كابوساً عليه في ليله ونهاره، وبرزخاً دون تحقيق الآمال الشخصية، وسبباً للحزن والكآبة الدائمين،وفيه إرهاق ومعاناة للنفس، وأما الجماعة فان الذل سبب في تثبيط الهمم، ومانع دون الرجاء والسعي لتحصيل الغايات العامة، وبرزخ دون الوحدة ، ومعاني الأخوة بين أفراد الجماعة والفرقة، وحاجب دون التضحية والإيثار والوفاء والكرم، وسبب لظهور الشح والبخل والأنانية والإستئثار بسبب الخوف من المجهول، وإنعدام او قلة الأمل.
قانون فلسفة الذل
تبين الآية وجود أناس يصاحبهم الذل في حياتهم الدنيا، ولا يتعلق هذا الذل بأصل الخلق والتكوين، بل يأتي عرضاً بلحاظ سوء الإختيار والفعل، وتلك آية من آيات خلق الإنسان، ودليل بان الله عز وجل لا يترك العباد وشأنهم، فيبتلي الفاسقين والكافرين بالذل والهوان في الحياة الدنيا ، ليكون مقدمة للذل الأكبر في يوم القيامة، ووسيلة للنجاة والتخلص منه.
وضرب الذل على الكفار جزء من علة خلق الإنسان وإصلاحه للعبادة من وجوه:
الأول: دفع الأذى عن المسلمين ليواظبوا على العبادة وأداء المناسك.
الثاني: دعوة الكفار للتوبة والإنابة، وإجتناب الإفساد في الأرض لثقل أعباء الذل وما يتفرع عنه.
الثالث: نجاة الناس من الذل والهوان بإستدامة الإيمان في الأرض، وبقاء المسلمين أعزة أقوياء كي يرغب الناس في دخول الإسلام ، ومن القوانين الثابتة في الإرادة التكوينية ان الله عز وجل يحب عباده، فلماذا يضرب الذل على فريق منهم، والجواب ان الذل لا يضرب الا على الذين يعادون الله ورسوله.
ووردت آيات قرآنية تدل على حرمان الكفار والفاسقين من حب الله قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( )،[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، [ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( )، وكل من الكفر ومحاربة المسلمين عدوان وظلم وإفساد، والنسبة بين الذل وعدم الحب عموم وخصوص مطلق، فكل من ضرب الله عز وجل عليه الذل محروم من حب الله له ، وليس العكس.
وضرب الذل على الكفار والفاسقين حاجة لهم وللناس جميعاً، وهو من عمومات رحمة الله تعالى بالناس في الحياة الدنيا لما فيه من لغة الإنذار العملي والصد الواقعي عن التمادي في السيئات، فيرى الكافر نفسه مع الذل عاجزاً عن الإضرار بالمسلمين، فيضعف ميله الى إيذائهم ويتدبر بسنن الحياة الدنيا ويصبح مشتاقاً لمنازل العز والتخلص من حال الذل وما فيه من البؤس ويكون الذل رحمة به، ودرساً للإعتبار والإتعاظ من حاله ومناسبة للإنتقال الى منازل الهداية والإيمان، لذا ترى الجزية باباً لدخول الإسلام، والتخلص من دفعها وما فيه من الذل قال تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
فبدخول الإسلام ينجو العبد من الصغار والهوان، ويضع قدمه على الصراط المستقيم، وفيه درس وعبرة للمسلمين ، وشاهد من حال عدوهم على صحة اختيارهم، وتلك آية أخرى بان يرى المسلمون الشواهد والمعجزات في الإسلام التي تدل على سلامة الإختيار، والحسن الذاتي للإيمان وعدم إحصاء منافعه الدنيوية والأخروية، ثم تأتي شواهد أخرى من حال الكفار وما هم عليه من الذل والهوان ليشكر المسلمون والمسلمات الله عز وجل على نعمة العز، وضرب عدوهم بالذل، فلا يخشون على انفسهم وملتهم، وتوارث ابنائهم من بعدهم لملة التوحيد وأداء الفرائض والعبادات، والذل تذكير بقبح الكفر والجحود.
وهذا التذكير مطلق وشامل للمسلمين وغير المسلمين، اما المسلمون فانهم يرون حال الكفار وما هم عليه من الذل فلا يخشونهم، ويشفقون عليهم، ويجتهدون في هدايتهم وإصلاحهم، وأما الكفار فان الذل آية حسية تصاحبهم عندما يصرون على إنكار الآيات الحسية والعقلية التي جاء بها الأنبياء، لتدعوهم كل يوم الى التدبر في الخلق ونعمة الإيجاد والبعثة النبوية ولزوم الإنتفاع الأمثل منها وإجتناب التحريف وتشويه الحقائق وعلامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة، وتحتمل حال الذل وإصابة الكافرين بها وجهين:
الأول: ملازمتها للكفر والجحود، فمع إختيار العبد الكفر عند سن البلوغ فان الذل يصاحبه.
الثاني: تعلق حال الذل بمحاربة الإسلام ومحاولات الإضرار بالمسلمين، وهو الظاهر من سياق هذه الآيات ومجيء الأخبار عن ضرب الذل على الكفار والفاسقين مع إرادتهم الإضرار بالمسلمين، والهم بقتالهم، ولا تعارض بين الوجهين، وجاءت الآيات القرآنية بإفادة المعنى الأعم قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ] ( ).
فالكفر والتمادي في الضلالة سبب لجلب الذل على النفس، وفيه واقية من عند الله لأهل الإيمان، ودليل على عدم إمكان حصول التكافؤ بين المؤمنين وغيرهم، اذ أعز الله عز وجل أهل الإيمان وأذل الكافرين.

علم المناسبة
ورد لفظ “ضُربت” على المبني للمجهول ثلاث مرات في القرآن، اثنتين منها في هذه الآية، وواحدة في سورة البقرة تتعلق بفريق من بني اسرائيل الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء بغير حق وأصروا على المعصية والتعدي، وجاءت على أقسام:
الأول: واحدة في ضرب الذلة.
الثاني: واحدة في ضرب المسكنة.
الثالث: واحدة في ضرب الذلة والمسكنة معاً، قال تعالى [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
وتشمل أحكام وموضوع هذه الآية ، مما يدل على عدم التعارض بين التفريق والجمع بين الذلة والمسكنة، وهو آية في انتفاء التعارض في القرآن، وإخبار عن الغضب الإلهي على الكافرين، وما ينتظرهم من العذاب الأليم يوم القيامة ولم يرد لفظ ” ضُرِبَتْ ” على المبني على المبني للمعلوم في القرآن.
وورد لفظ “الذلة” سبع مرات في القرآن وهي على أقسام:
الأول: ثلاثة تتعلق بحال الكافرين في الدنيا، وابتلاؤهم بالذل فيها.
الثاني: تخص ثلاثة منها العقاب الأخروي للكافرين بالذل والهوان.
الثالث: جاءت واحدة في نفي الذل عن أهل الإيمان في الآخرة قال تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ]( ).

قانون الذل مائز
جعل الله عز وجل الذلة انذاراً وعقوبة وموعظة، وهي إنذار من التمادي في الغي، والإصرار على المعصية، وتحذير من محاربة الإسلام والتعدي على المسلمين، وعقوبة عاجلة على فعل السيئات ، وموعظة للناس جميعاً بلزوم قهر النفس الشهوية والغضبية، والتفكر في الحياة وعلتها وانها مزرعة للآخرة.
واذ يرمي الله الكافرين بالذل، فانه سبحانه لم يترك المؤمنين في برزخ مرددين بين الذل والعز، بل رزقهم العز ومنازل الرفعة والشأن في الحياة الدنيا والآخرة، ليكون العز والذل مرآة لمنازل الناس في الآخرة، وجاء قبل آيات التمييز بين المؤمنين والكفار يوم القيامة بلون الوجوه، وبياض وجوه المؤمنين وسواد وجوه الكافرين قال تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] ( )، اما حالة الذل والعز فهما أعم اذ يتغشى الحكم بهما الحياة الدنيا والآخرة.
ومن القوانين الثابتة فيها ان لا تجد المؤمن في الآخرة ذليلاً، ولا الكافر عزيزاً، فصبغة العز والذل في الدنيا تكون في الآخرة لذات الأشخاص والأفراد، وبماهية أكثر بياناً ووضوحاً، كما تتصف بالإطلاق اذ يتغشى العز المؤمنين والذل الكافرين في اللامنتهي من أيام الآخرة.
ومن الرحمة الإلهية ان جعل الله عز وجل الدنيا دار تنبيه وتحذير وتخويف ويأتي التنبيه في المقام على نحو قولي وعملي، ومن القولي هذه الآية الكريمة التي تتضمن الإخبار عن تغشي الكفار بصيغة الذل والهوان، اما العملي فهو ظهور علامات ومصاديق الذل عليهم في السلم والحرب، والرخاء والشدة، والحضر والسفر وهو المستقرأ من صيغة الإطلاق المكاني [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا] ويترشح عنه الإطلاق الزماني لعدم الإنفكاك بينهما.
وما يصاحب حال الذل من الشدة والأذى لا يخرجه عن مضامين الرحمة الإلهية بالكافرين، لأنه درس وحث على الإعتبار والإنابة والتوبة، وهو أخف كثيراً من الذل الذي يلحقهم في الآخرة ان إستمروا على حال الفسوق والكفر.
بالإضافة الى الرحمة الإلهية التي تتجلى بنيل المؤمنين مراتب العز والرفعة في الدنيا التي تكون دعوة عملية متجددة للكفار للإقلاع عن المعاصي ونبذ الكفر.
فمع التضاد بين الذل والعز فانهما يلتقيان في دفع الكافر عن منازل الكفر والفسوق وبعث الخلاف والفرقة والتشتت بين الكفار، ويساهمان مجتمعين ومتفرقين في زيادة ذل الكفار، فرقاً ومذاهب وأفراداً، فيكون التباين بين حال المؤمنين والكفار ظاهراً وكبيراً لا يمكن الغفلة عنه، ويستطيع الإنسان مع إنشغاله في الدنيا الإلتفات اليه وإدراك حقيقة المدد الإلهي للمؤمنين والإقرار بحتمية انتصار الإسلام وظهور دولة التوحيد.
ومن خصائص الإنسان اختيار الأحسن والأنفع له، فيأتي رمي الكفار بالذل لرفع الغشاوة عن الأبصار، وطرد الغفلة عن النفوس، وفيه دعوة للكف عن ايذاء المسلمين وادراك حقيقة عدم الإضرار بهم، فما داموا في عز ورفعة من عند الله فان الكفار لا يستطيعون إذلالهم وإزاحتهم عن المراتب التي أرادها الله لهم من السمو والرضا بفضل الله وتعاهده وحفظه بأداء العبادات والمناسك، ومقاتلة أعداء الإسلام من غير خوف أو خشية منهم، لترشح الهمة والعزيمة والقوة عن العز الذي رزقه الله عز وجل المسلمين ، والخوف والضعف والخوار عن الذل الذي يتغشى الكفار.
وجاءت هذه الآية ليشكر المسلمون الله عز وجل على إنتصارهم وغلبتهم في المعارك على أعدائهم، ومن مصاديق التنبيه والتحذير في الدنيا ان جعل الله عز وجل الذل والعز إمارة للإنسان ليعرف مقامه في الآخرة، فمن كان عزيزاً في الدنيا فهو عزيز في الآخرة، ولا يأتي العز الا بالهداية والإيمان وأداء العبد ما عليه من التكاليف، وإجتنابه ما نهاه الله عز وجل عنه، ومن كان في هذه الدنيا ذليلاً فانه ذليل ويتلقى العذاب الأليم في الآخرة لتكون الحياة الدنيا دار تحذير ووقاية من الكفر والجحود.
وأراد الله عز وجل ان يكون للكافرين مائز يعرفون به في الدنيا ليحذر الناس منهم ولا يصدقون بأقوالهم ولا ينصرونهم لأن عاقبتهم الى الخسران المبين، ويحترزون منهم في المعاملات والصلات والعقود، وليس لأحد ان يقول يوم القيامة انه غرر به في إتباعه للكافرين في أعمالهم وتعديهم على الإسلام والمسلمين، لأن حال الذل الملازم لهم تحذير للناس من إتباعهم وتصديقهم او إعانتهم ونصرتهم والأثر العملي لهذا التحذير من مصاديق الذل وأفراده الإضافية وأسباب استدامته.
قوله تعالى [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا]
أخبرت الآية بإحاطة الذل والهوان بالكفار والفاسقين الذين يؤذون المسلمين، ولو جاء بصيغة التنكير لتضمن الترديد من جهة الكثرة والقلة، والسعة والضيق، والإستدامة والحصر فجاء هذا الشطر من الآية الكريمة ليمنع من الترديد، ويزيل اللبس والوهم، ويؤكد الإطلاق في تغشي الذل للكفار في مختلف الأحوال، وجاءت الآية بصيغة المبني للمجهول ومعناها: في أي مكان وبلد وجدوا، وتدل الآية على وجوه:
الأول: لحوق الذل بالكفار في حال الرخاء والشدة.
الثاني: عدم إنفكاك الذلة عن الكفار، فقد تراهم في السلطان والوجاهة والشأن وعندهم الأموال والأعيان الا ان الذل ملازم لهم، وهو من مصاديق [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا].
الثالث: جاءت الآية بصيغة المبني للجهول، وفيه مسائل:
الأولى: فيه نوع ازدراء للكفار والفاسقين.
الثانية: ان أمر الكفار ليس بيدهم.
الثالثة: للذل موضوعية في مكان وجودهم، وتلك آية من بديع صنع الله، وعظيم سلطانه ونفاذ مشيئته في الناس في الدنيا والآخرة، فقد يستلزم الذل وجودهم في مكان وبلد دون آخر لمنعهم من الإضرار بالمسلمين.
الرابعة: لو أراد الكفار الذهاب الى مصر أو إختيار مهنة فراراً من الذل فانه يلاحقهم ويطاردهم ولا يغادرهم.
الرابع: جاءت ألآية بصيغة الجمع، وتشمل الفرق والمذاهب والأفراد من الكفار، ولم يرد دليل على التخصيص والإستغناء لشطر أو جماعة منهم لملازمة الذل للكفر والفسوق والتعدي على المسلمين.
وقيل معنى [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا] أي أخذوا وظفر بهم، ولكن المعنى أعم والمراد الإطلاق في ملازمة الذل لهم بمشيئة الله وجزاء لهم في الدنيا على إكتسبوه في إيذاء المسلمين، قال تعالى [مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً]( )، فجاء الأخذ فرعاً للثقف والوجود.
بحث كلامي
لله تعالى ملك السماوات والأرض، وهذه الملكية شاملة لأحوال الدنيا والآخرة وقد يبدو للإنسان انه حر في الإختيار والتصرف، ولكن هذه الحرية لا تخرجه من ملكية الله، وهي جزء منها لإرادة الإبتلاء والإختبار فيها، ثم يعود ليقف بين يدي الله عز وجل للحساب.
ومن الناس من يدرك هذه الحقائق فيمتثل للأوامر الإلهية الواردة في الكتب السماوية النازلة من عند الله، ويؤمن بالنبوة ويتقيد بما جاء به الأنبياء من عند الله عز وجل.
ومنهم من يجحد بالربوبية ويقابل النبوة بالتكذيب على نحو السالبة الكلية فلا يؤمن بالأنبياء جميعاً، او على نحو السالبة الجزئية بان يصدق ببعضهم دون بعضهم الآخر، كما في الذين صدقوا بنبوة موسى عليه السلام وكذبوا برسالة من بعده وهما عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أو آمنوا بنبوة عيسى عليه السلام وكذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت هذه الآية لتدعوا الناس الى إجتناب إيذاء الذين أمتثلوا للأوامر الإلهية، وصدقوا بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي، ولم يفرقوا بينهم.
وتتجلى هذه الدعوة بالعقوبة العاجلة للذين يسعون في الإضرار بالمسلمين، ويحاولون صد الناس عن الإسلام اذ ان محاربة المؤمنين برزخ دون إنتماء أناس كثيرين الى الإسلام، فالذي يحارب الإسلام والمسلمين يقوم بالإضرار بكل من:
الأول: المسلمون لما يلحقهم من الأذى والخسارة.
الثاني: الذي يعتدي على المسلمين نفسه، من وجوه:
الأول: محاربة المسلمين له، وعدم وقوفهم مكتوفي الأيدي، كما أنهم لا يدفعون عوضاً أو جزية لأحد، وتلك آية في النظام التشريعي تساعد المسلمين في مواجهة الأعداء الى حين الظفر او الشهادة.
الثاني: ما يلحقه من خسارة وضرر، بسبب إعداد العدة للقتال، وتعطيل الأعمال، والمشقة الزائدة في الخروج للحرب والقتال.
الثالث: ضرب الله عز وجل على أعداء الإسلام الذل والهوان، الذي يبقى يصاحبهم حتى بعد إنتهاء المعركة.
الثالث: الفرق والمذاهب والأفراد الذين لا يدخلون المعركة، اذ يصيبهم الفزع والخوف، وقد يتردد فريق منهم بدخول الإسلام بإنتظار الحسم والنتيجة، فتتجلى له مقدمات وأمارات النصر التام للمسلمين بحال الذل والهزيمة التي يكون عليها الكفار، ويدرك هو وغيره ان الملك والقوة والمشيئة لله تعالى وهو الذي يؤيد المسلمين بنصره، ويصيب أعداءهم بالذل والفزع فيكون هذا الذل مدخلاً لدخوله الإسلام وإقراره بالشهادتين وإستعداده للتضحية من أجل إعلاء كلمة التوحيد فيزداد المسلمون قوة، ويصبح الكفار أكثر ذلاً وضعفاً لإلتحاق افواج من الناس ومنهم بالمسلمين.
وتؤكد الآية عظيم سلطان الله عز وجل، وعدم إمكان فرار الفرد والجماعة من حكمه، فيحيط الذل بالكافر وهو بين أصحابه، وفي معكسره، وفي بيته ليجعل نفسه تنفر من الكفر وايذاء المسلمين، وينشغل بذاته وهمه، ويكون قاصراً عن الصبر في مواجهة الإسلام.
قانون “أينما ثقفوا”
إنقسم الناس بعد البعثة النبوية الشريفة الى قسمين:
الأول: الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقوا بالآيات التي جاء بها.
الثاني: الذين كفروا بالرسالة، وجحدوا بالآيات العقلية والحسية التي صاحبتها، والبشارات السماوية التي سبقتها، ودعت الى إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات ان القسم الأول ثابت ويقبل المزيد، فلا يجوز للمسلم الإرتداد وترك الإسلام ولا يطرأ على باله الإرتداد، وهو سعيد شاكر لله على نعمة الهداية والإسلام والعز والرفعة المصاحبة له.
أما القسم الثاني فانه متزلزل ويفقد كل يوم أفراداً وجماعات ينتقلون الى الإسلام ويأن الباقون تحت وطاة الذل والمسكنة.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن عظيم قدرة الله وانه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة، وتتجلى مصاديق قدرة الله في الحياة الدنيا بنصر المسلمين ودرأ شرالكافرين، والحاق الذل بهم أينما كانوا، فيلاحق الإنسان عدوه الى قدر ومكان ثم يتركه وشأنه، او يترك مطاردته لزوال خطره، وغيابه عن الناظر، وابتعاده عن سلطانه ودار حكمه، أو يعجز عن اللحاق والظفر به، ولكن الإنسان لا يستطيع الفرار من حكم الله.
كما ان الله عز وجل لن يترك الكفار وشأنهم عند الهزيمة، بل يضرب عليهم الذل كما تضرب الخيمة والقبة ليحيط الذل والمسكنة بالكفار جميعاً وان تباعدوا وتعددت أمصارهم وبلدانهم، وهو أمر لا يقدر عليه الا الله تعالى، وفيه شاهد على نفاذ أمره تعالى في الدنيا مثلما هو نافذ في الآخرة وانه سبحانه ناصر المسلمين بالمدد والملائكة، وبخذلان الكفار.
وفي الآية بشارة للمسلمين ودفع الخوف عن نفوسهم من الكفار وإحتمال الإجهاز على المسلمين فمن إعجاز الآية ان جاءت بوصف حال الكفار وما هم فيه من الذل والهوان ليكون هذا الإخبار عوناً للمسلمين في بناء صرح الإسلام والتفقه في الدين، فمتى ما عملت الأمة ان عدوها ضعيف ولا يستطيع الصبر في مواجهتها، فانها تتوجه للبناء وتسعى في مراتب العلم والرفعة، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام، سواء الذين ضربهم الذل وأحسوا بوطأته او غيرهم، لتجلي قبح الكفر والإصرار على المعصية.
ولو أنحصر نزول الذلة بالكفار في حال الحرب والقتال وعند محاولات الإضرار بالمسلمين لصاروا فتنة لغيرهم من الناس، ولشطر من المسلمين، اذ يتباهون في حال السلم بالرخاء وما عندهم من متاع الدنيا، ويزاولون لغة التهديد والوعيد ويقومون بإشارات توحي بإحتمال معاودتهم القتال، والإغارة على ثغور المسلمين ويكثرون من الجدال والإفتراء، ويحرض بعضهم بعضاً على الإقامة على الكفر ومحاربة الإسلام، ويتخذون من منتدياتهم منبراً لدعوة الناس لمذاهبهم والتعدي على المسلمين، والإصرار على تكذيب النبوة وتكون مصاحبة الذل لهم في جميع أحوالهم رحمة بهم، وبرزخاً دون مواصلة التعدي على الإسلام، وعبرة وموعظة لغيرهم، وضرورة وحاجة للمسلمين للأمن والسلامة من عدوهم، ولإجتذاب المستضعفين والذرية من الكفار الى صفوف الإسلام خصوصاً وانهم يرون ما عليه كبراؤهم من الذل والمسكنة سواء في حال الحرب او السلم.
ومع مجيء الآية بصيغة الماضي الا انها تتضمن التخويف والوعيد للكفار، وفيها تحدِ لهم فلا يستطيع أحد منهم وان إجتهد ان يظهر بمعاني العز والرفعة، فلابد ان يفتضح ويكون مهزوماً منكسراً خائباً.
وتدل الآية على إستمرار وإستدامة حال الذل للكفار بأفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، وفيه زجر ونهي للكفار عن الإقامة على الكفر، ودعوة لهم لنبذه وتركه والتنزه عنه، ومما فيه من القبح الذاتي وما يترشح عنه من التعدي على المسلمين ولو بالسب والقذف والغيبة، فما ان يولد طفل من الكفار الا ويكون بين أمرين:
الأول: مصاحبة الذل والمسكنة.
الثاني: الإنتقال عند البلوغ او قبله الى الإسلام ليكون شاكراً لله تعالى على نعمة الخلق والعيش في ملكه وسلطانه والإغتراف من رزقه الذي يعجز عن إحصائه وتعداده خصوصاً وانه على وجوه متعددة، يتجدد كل وجه منها كل طرفة عين فلا يستطيع متابعة النعم التي تأتيه في الحال، فكيف وان النعم الأخرى السابقة والمتعددة أكثر وأكبر من أن يدركها ويعيها فضلاً عن عجزه عن إحصائها.
علم المناسبة
وردت مادة “ثقف” في القرآن ست مرات، كلها بمعنى الوجود المكاني وجاء قوله تعالى [مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً]( )، لتؤكد مصاحبة اللعنة والطرد من رحمة الله للمنافقين اينما حلوا ووجدوا.
أما الآية محل البحث فجاءت بخصوص الكفار الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين ولا يعني هذا عدم شمول الكافرين باللعنة، بل جاءت آيات عديدة تؤكد شمول الكافرين بلعنة وغضب الله قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا] ( )، واللعنة أشد وأعم من حال الذل والهوان، وفي الذين يقاتلون المسلمين ويعتدون على حرمات المسلمين، ويسعون في إخراج المسلمين من ديارهم قال تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( ).
وفي ورود مادة ثقف في القرآن مسائل:
الأولى: مجيؤها بصيغة الجمع فجاءت ست مرات بواو الجماعة.
الثانية: إرادة الكفار في أربعة منها، وواحدة في المنافقين، وواحدة في المسلمين ولكنها جاءت للتحذير من الكفار وبيان بغضهم للمسلمين قال تعالى [إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً] ( )، وهذا التحذير والتنبيه مصداق لقوله تعالى في هذه الآية [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ] فمن ذلة الإنسان ان يكون مكره وكيده معلوماً ظاهراً منكشفاً عند عدوه.
الثالثة: حصر حال الكفار بين أمرين، اما القتل على يد المسلمين في الحرب، وأما ملازمة الذل والمسكنة لهم في أمصارهم ومنتدياتهم وبيوتهم.
الرابعة: تكرر قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( ) مرتين في القرآن، أحدهما بخصوص الذين يقاتلون المسلمين( )، ويتعلق الآخر بالكفار الذين يبغون الفتنة ويصرون على عدم إعتزال المسلمين والكف عنهم، ومن الآيات في التفسير الذاتي للقرآن ان يأتي قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
ثم يأتي بعده بآيتين قوله تعالى [فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] وإرادة الكفار في الآيتين وان لم يكونوا في قتال مع المسلمين، وخارج ساحة المعركة ولكن لصدور الأذى والكيد منهم للإسلام والمسلمين.
قوله تعالى [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ]
جاءت الآية بذكر الإستثناء من الذل، والعامل محذوف وتقدير الآية: الا من ينجو بحبل من الله،وقال الشاعر:
مقيد الخطو يحسب من رآني ولست مقيداً أنى بقيد
أي: انني في الواقع مقيد بقيد، وقيل في الرد على القول بالحذف في المقام “ان الكلام اذا صح معناه من غير حذف، لم يجزِ تأويله على الحذف”( ).
ولا تعارض بين الحذف وإستقراء المعنى في المقام من نظم الآية، وهو من إعجاز القرآن، وفيه إشارة الى تعدد معاني حبل الله في المقام، ومضامين الرحمة بأهل الكتاب، ومن الآيات ان يأتي ذكر حبل الله قبل تسع آيات من غير حذف العامل لأنه خطاب للمسلمين كافة بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] فجاء بالبيان الذي لا يقبل الترديد والوهم، اما في هذه الآية فالمقام يختلف اذ جاءت الآية بحذف العامل للمندوحة، والسعة في الإستجارة واللجوء الى المواثيق والرخص التي تفضل الله تعالى بها.
ومن الآيات ان حبل الله هنا أعم من أن يكون موجهاً لأهل الكتاب والكفار مطلقاً، فقد يكون صلة وعهداً بين الله وبين المسلمين كما في قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( ).
فجاء الميثاق من الله خطاباً للمسلمين وليس للكفار، وجهة الخطاب في المقام وإرادة المسلمين في الميثاق تستلزم الإلتفات اليها في علم التفسير لأن الظاهر من اللفظ هو الميثاق مع من أستثني من الذل، ولكن الرجوع الى آيات القرآن الأخرى، والتدبر في معاني الميثاق والعهود تبين ان هؤلاء لم يحافظوا على المواثيق التي بينهم وبين الله عز وجل والتي تعني التصديق بالنبوة ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الى الله، واستثناؤهم من الذل ليس لإنذارهم من القتال وحده، بل للإعتزال مع وجود القدرة على مقاتلة المسلمين، وبذا يكون الإعتصام بحبل الله خاصاً بالمسلمين في تقيدهم بأحكام القرآن والسنة في العبادات والمعاملات والأحكام والصلات مع الملل والأمم الأخرى.
ويمكن استقراء هذا المعنى من صدر الآية وقوله تعالى [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ] وأنهم لم يختاروا الذلة بل احاطت بهم قهراً عليهم بسبب أعمالهم، وان الله عز وجل هو الذي ضرب عليهم الذلة عقوبة لهم على تماديهم في ايذاء المسلمين، ثم جاء الإستثناء بالأوامر الإلهية للمسلمين فقد سلب الله عز وجل منهم – فرقاً ومذاهب وجماعات وأفراداً- القدرة على الإختيار في نزول الذلة بهم او صرفها عنهم.
ويتفضل الله عز وجل بالتخفيف عن فريق منهم بما يأمر المسلمين بترك قتالهم، او قبول الجزية منهم ونحوه، واختلف في الإستثناء هنا على وجهين:
الأول: انه من الإستثناء المنقطع وان الذلة ملازمة لهم بكل حال وانه قد يتوهم عدم جواز المعاهدة والموادعة معهم فجاء الإستثناء [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ].
الثاني: انه من الإستثناء المتصل، لأن الذمة والعهد رفع للذلة عنهم.
وظاهر الآية الكريمة هو الثاني، وان كان العهد لا يزيل الذلة الذاتية من نفوسهم.
ويبين هذا الإستثناء رحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا، فمع قيام شطر من الناس بتكذيب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت المعجزات العقلية والحسية مصاحبة وداعية لها، فان الله عز وجل لم يقطع عنهم أسباب الرحمة والرأفة بل أبقى لهم باباً للأمن الأمان، ليكون مناسبة ووسيلة لهدايتهم، وهو أيضاً حجة عليهم، وفيه درس في المعرفة الإلهية .
فقد يجحد الإنسان ويبتعد عن طاعة الله، فتأتيه شآبيب الرحمة بالتخفيف وأسباب إجتناب إحاطة الذل وإطباق الهوان عليه بإختيار العهد والذمة والميثاق، وتقييد المسلمين بأحكام وضوابط تمنعهم من الإجهاز والهجوم على من يلتزم بآداب مخصوصة ويختار عدم التعدي على المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: إنها فترة ومدة إمهال لغير المسلم ليتدبر في البعثة النبوية الشريفة والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل آية ومعجزة منها دعوة لتصديقه.
الثانية: بيان ان الإسلام دين سماحة، ولا يؤاخذ الناس بأشد الأحوال مع قدرة المسلمين على الهجوم والإجهاز فيترك المسلمون شطراً من الناس وشأنهم مع اتصال الدعوة الى الهدى.
الثالثة: في الإستثناء مندوحة لأهل الكتاب مثلاً، وفيه سعة ومندوحة للمسلمين والمجاهدين منهم خاصة، بالتوجه لمقاتلة شطر من الكفار دون الجميع.
الرابعة: حال الإستثناء دليل على حسن تقيد المسلمين بالأحكام الشرعية، وإتصافهم بالإنصاف والحلم.
الخامس: التمييز بين الذين يعتدون على المسلمين وبين غيرهم ممن يختار إجتناب ايذاء المسلمين في اليد واللسان، ومن خصائص هذا الإستثناء عدم إنحصاره بالإبتداء، فيشمل الحال المتغير فاذا هّم قوم بقتال المسلمين ثم إختاروا السلم والصلح ، ينظر المسلمون في إعطائهم العهد والذمة على عدم قتالهم ومنها لزوم تقيد الطرف الآخر بأحكام العهود والذمة وعدم نقض العهود والمواثيق.
ومن حبل الله العهود والأيمان التي يعقدها الكفار قال تعالى [وَإِنْ نَكَثُوا إيمانهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ]( )، ومن الآيات ان الله عز وجل نهى المسلمين عن إبتداء القتال في المواطن المباركة وان كان نصرهم وظفرهم ظاهراً وجلياً، قال تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ]( ).
وبينّت آيات القرآن موضوعية إستدامة العهود والمواثيق قال تعالى [فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( )، وفي الآية ثناء على المسلمين، ودعوة لغيرهم للتقيد بالعهود والمواثيق ولزوم عدم نكثها.
ويمكن القول بالتفصيل وان الحبل والعهد الوارد في الآية الكريمة على قسمين:
الأول: إختصاص العهد والحبل من الله بأهل الكتاب ومواثيقهم مع المسلمين، وعدم شمول المشركين به لقوله تعالى [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ]( ).
الثاني: حبل من الناس وهو عام ومطلق.
قانون حبل من الله
لقد أراد الله عز وجل ان تكون الحياة الدنيا داراً لعبادته، يؤدي فيها المسلمون الفرائض، والمناسك طاعة لله تعالى، وتكون محلاً لإختبار عباده، وتفضل سبحانه وجعل واقية لحفظ المسلمين ومنع وصول الضرر اليهم، لتبقى شجرة الإيمان مورقة مثمرة في الأرض، ويتكاثر المسلمون وهم يتوارثون مبادئ الإسلام، ويتعاهدون ملة التوحيد ويمنعون من غلبة مفاهيم الكفر والضلالة في الأرض .
ومن مصاديق الواقية والحفظ وجود أنظمة وقوانين إجمالية عامة تحكم الصلات بين المسلمين وغيرهم في حال الحرب والسلم والتي تبين وجوهاً:
الأول: ما يلاقيه المسلمون من العناء ومواجهة الأعداء.
الثاني: عزم الكفار على الإجهاز على المسلمين وإخراجهم من ديارهم إن استطاعوا.
الثالث: ثبات المسلمين على الإيمان وإستعدادهم للتضحية والشهادة في سبيل الله، وإصرار الكفار على الجحود والعناد.
الرابع: رأفة الله عزوجل بالناس جميعاً.
الخامس: هداية المسلمين الى سبل الصلاح.
السادس: أخذ المسلمين زمام القيادة في إدارة الأمور، واختيار السبل والكيفية المناسبة في التصرف مع غير المسلمين خصوصاَ وانهم على درجات متباينة من وجوه:
الأول: أهل الكتاب وهؤلاء ينقسمون الى أقسام:
الأول: اليهود خاصة.
الثاني: النصارى خاصة.
الثالث: من كان من أهل الكتاب بعيداً عن بلاد المسلمين.
الرابع: من كان منهم قريباً من بلاد المسلمين.
الخامس: الذي يعيش مع المسلمين في أمصارهم.
السادس: الذين تكون لهم عهود ومواثيق مع المسلمين.
السابع: الذين إختاروا اجتناب الإضرار بالمسلمين وعدم التعرض في عباداتهم أو أموالهم.
الثامن: أهل الذمة منهم الذين يعطون الجزية ويكونون في ذمة المسلمين.
التاسع: الذين يقاتلون المسلمين.
العاشر: الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، وهم لا يقاتلون المسلمين، ولكنهم يتطلعون الى فرصة مؤاتية للإنقضاض على المسلمين وديارهم وأموالهم بغتة.
الثاني: الكفار الذين ليس لهم كتاب سماوي ، وهم على أقسام متعددة أيضاً.
ولا تؤخذ الجزية من الكفار والمشركين، وليس لهم ذمام وعهد مستديم، ويتعلق نظم الآيات بأهل الكتاب لقوله تعالى قبل آيتين [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]، ولكن أحكام العهود والمواثيق عامة كما في صلح الحديبية الذي عقده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مشركي قريش الى ان قام المشركون بنقضه.
ومن الآيات ان مضامين هذا القانون لا تختص بأيام النبوة والتنزيل بل هي باقية الى يوم القيامة، وجاءت الآيات القرآنية والسنة النبوية لتكون تثبيتاً لأحكام العهود والمواثيق، ودروساً للمسلمين وأولي الأمر منهم في لزوم حفظ السنن الإلهية في الرحمة بالناس جميعاً وإجتناب البطش وسفك الدماء بغير حق.
وكأن هذه الآية تقول للمسلمين ان الناس عباد الله، وهو خالقهم ورازقهم فلا تبطشوا بهم ولا تفعلوا معهم الا ما أمركم الله عز وجل به من الوظائف الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واحفظوا العهود والمواثيق، وفي حفظها منافع عديدة منها:
الأول: العهد والميثاق فترة ومناسبة لتثبيت دعائم الدين وتفقه المسلمين في أحكام الشريعة.
الثاني: انها مناسبة لمعرفة الناس بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: دخول أفواج من الناس الإسلام خصوصاً مع الأمن من الضرر والصد.
الرابع: تغلب المسلمين على المشاق، وتجاوز آثار المعارك السابقة.
الخامس: تأهيل المسلمين للقتال، وإعدادهم العدة لمواجهة الأعداء.
السادس: تفرغ المسلمين لمواجهة الكفار الذين يصرون على قتال المسلمين وليس عندهم عهود ومواثيق.
السابع: الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فالعهود والمواثيق لا توقف الدعوة الى الله بل تكون مناسبة لبيان الآيات، وذكر المعجزات والدلالات التي تؤكد وجوب إسلام العبد وإتيانه الفرائض والتكاليف، وتكون مضامين هذا القانون عوناً للمسلمين في التبليغ.
وفي الآية تغليط على الكافرين لأن من لم يتقيد بالمواثيق والعهود الإلهية يحيط به سخط الله عز وجل، ويبذل المسلمون وسعهم لقهره وإذلاله فيخرج من الإستثناء وتشمله عمومات ضرب الذلة على الكافرين لوجود المقتضي وفقد المانع.
وتبعث الآية إشارات ومفاهيم الرحمة الى الناس جميعاً بتوكيدها على حقيقة وهي ان المسلمين لا يفعلون الا ما يأمرهم الله، وهم متقيدون في كل زمان ومكان بأحكام وسنن القرآن التي تتضمن العهود ومضامين الرحمة بالذين يكفون أيديهم عن المسلمين، ويجتنبون قتالهم والتعدي عليهم.
وفي الوقت الذي تحث الآية فيه المسلمين على التقيد بأحكام القرآن فانها تدعوهم للتفقه في الدين بإعتباره ضرورة وحاجة لمعرفة الأحكام، وعدم حصول الخلط واللبس في الخارج ، وعند ومعاملة الكفار، لأن الجهالة تؤدي الى الضرر، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار حاكمة كما انها تتضمن البشارة لأهل الكتاب بما يجعلهم في مأمن من الذل بتقيد المسلمين بالعهود لأن الآية دعوة مركبة الى المسلمين والى أهل الكتاب في لزوم تعاهد العهود والمواثيق إبتداء وإستدامة.
وجاءت الآية بلفظ الحبل مكرراً ، ويفيد الحبل معنى السبب للوصول الى المطلوب، والإهتداء الى الغاية، ومن الآيات ان تأتي الآية بحرف الجر “من” في قوله تعالى “من الله” الذي يفيد إبتداء الغاية وبما هو أعم من التقسيم الإستقرائي الذي قال به النحاة وهو ابتداء الغاية المكانية والزمانية, لأن الله عز وجل لا يحده مكان أو أفراد زمان مقدرة أو غير مقدرة ،
والمراد تفضله تعالى بالأحكام التي تتضمن العهود والمواثيق، ودفع الذلة عن الذين يتقيدون بها من أهل الكتاب، ومنها دفع اهل الكتاب والجزية، فهل تخرجهم الجزية من منازل الذل أم لا، الجواب تكون الذلة على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، فالذي يعطي الجزية ليس كمن يقع بالأسر ويتعرض للقتل ويسبى، وهو أفضل كثيراً ممن يفقد ماله وعياله في المعركة او بعدها لتكون غنائم للمسلمين بل يحفظ بالجزية نفسه وعرضه وماله، وينجو من وجوه كثيرة من الذل والهوان، ويكون في ذمام وعهد المسلمين، وبين ظهرانيهم ومعهم في أمصارهم وقراهم يزاول التجارة وأسباب الكسب ، ويؤدي شعائره وفق ملته وكتابه، وتكون الذمة والعهد مناسبة لإستبصاره.
وجاءت الجزية بديلاً للقتال، ونوع تأديب لإنكار الرسالة والآيات ودعوة للإيمان، قال تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( )، فدلت الآية في مفهومها على ان دفع الجزية سبب لوقف القتال وكف يد المسلمين عمن يدفعها، مع بقائه على ملته.
قوله تعالى [وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ]
إبتدأ هذا الشطر بحرف العطف “الواو” الذي يفيد الجمع، وإختلف النحاة في إفادته الترتيب وعدمه، وقلنا بالتفصيل ، فقد يفيد الترتيب او لا يفيده بحسب القرينة المقالية أوالحالية، ويفيد “الواو” في المقام الترتيب، وهو آية إعجازية أخرى، اذ ان العهد من الناس يأتي فرعاً للعهد الإلهي، لما جعل سبحانه من الرخصة في شطر من الأحكام ومنها العهود والمواثيق.
وجاءت الأوامر الإلهية بوجوب التقيد بالعهود والمواثيق لما فيها من المندوحة والسعة وأسباب هداية الناس، وتدبرهم في الآيات، وإتعاظ المعاهد وغيره من الناس، فيأتي العهد مع فريق من الناس او أهل بلد ما ليكون سبباً ووسيلة لنشر مبادئ الإسلام، وإطلاع الناس على المعجزات القاهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
وإعطاء المسلمين العهد لأهل الملل والنحل شاهد على صدق الدعوة الإسلامية، وان النبي محمداً رسول من عند الله، لإختصاص العهد بحالة من السلم يعرف الناس من خلالها الحقائق.
ويحتمل مجيء (الواو) في المقام أمرين:
الأول: إرادة الجمع، وان دفع الذلة عن غير المسلم يقتضي إجتماع أمرين حبل من الله وحبل من الناس، بلحاظ إرادة الأحكام الشرعية من حبل الله، ووجود مصداق لها بعهد من المسلمين في الواقع وخصوص قوم أو جماعة معينين، أو أهل بلد مخصوص، فمثلاً قوله تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( )، الذي يقتضي وجود عهد خاص يكون بين المسلمين وبين قوم من أهل الكتاب يرضون بشرائط الذمة ويتقيدون بها، وهذا المعنى من الإعجاز العقائدي والبلاغي للقرآن، وفيه بيان لموضوعية العهود التي يأخذها المسلمون على غيرهم.
الثاني: كفاية أحد الحبلين لدفع الذلة، أما حبل وعهد من الله، أو حبل من الناس، خصوصاً على المعنى الذي ذهبنا اليه بكون المراد من حبل الله هو نهي الله عز وجل المسلمين عن قتال بعض الطوائف والفرق التي تجتنب محاربة الإسلام ، وتأبى المساهمة في الإعتداء على حرمات وثغور المسلمين.
والحبل من الناس هو العهود والمواثيق التي تكون بين المسلمين وغيرهم، ولا تعارض بين الأمرين، وإرادة المسلمين من لفظ الناس في قوله تعالى [وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] بل يفيد التداخل بين الحبلين، وهو من أسرار ورود لفظ “حبل” ويشمل الميثاق والحلف، والوعد والصلة، ورد الجميل والإحسان في مندوحة وسعة للمسلمين وصيغ تعاملهم مع الفرق والملل والجماعات.
ولم تقل الآية “وحبل من الذين آمنوا” بل جاءت بلفظ الناس وهو عام يشمل المسلمين وغيرهم وفيه وجوه:
الأول: إرادة العهد والميثاق الذي يعقد بين المسلمين والملل والفرق الأخرى، ونعت المسلمين بالناس لوجوه:
الأول: لبيان التباين بين الخالق والمخلوق والرب والمربوبين.
الثاني: لزوم معرفة التمايز بين العهد الإلهي والعهد الذي يعطيه المسلمون فالعهود الإلهية قوانين ثابتة في الأرض، والعهود التي يعطيها المسلمون قائمة على الحال والواقع المتغير، وهي ماضية ايضاً.
الثالث: إكرام الله تعالى للمسلمين بالإخبار عن صحة عهودهم والتقيد بها، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فالله عز وجل ينعم ويتفضل على المسلمين ويمضي عهودهم مع الناس.
الرابع: دعوة المسلمين للحرص على جعل العهود موافقة لأحكام القرآن وجعلها وسيلة لتثبيت دعائم الدين وسنن التوحيد وعدم خروجها عن مضامين العزائم والرخص الإلهية.
الخامس: إرادة إستدامة الحكم، واهلية المسلمين في كل زمان لمنح العهود والمواثيق (وعن ابن عباس ومجاهد والحسن: المراد من “حبل الناٍس” وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان”( ).
الثاني: إرادة العهود التي يأخذها الرؤساء لقومهم، كما في وفد نجران مثلاً اذ حضر نفر من رؤساء نصارى نجران الى المدينة المنورة، واستمعوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم دعاهم للمباهلة ولكنهم تراجعوا ونكصوا وسالوا الصلح.
وكان فيهم الأسقف والسيد والعاقب وقال الاسقف: ياأبا القاسم إنا لانباهلك، ولكن نصالحك فصالحنا على ماينهض به، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الفي حلة من حلل الأواقي، قسمة كل حلة اربعون درهما، وعلى عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين رمحاً، وثلاثين فرساً ان كان باليمن كيد، ورسول الله ضامن حتى يؤديها، وكتب لهم بذلك كتاباً.
الثالث: إرادة العهود والمواثيق بين الناس، بما يكفل رفع الذلة عنهم وفيه وجوه:
الأول: إتفاق الأفراد والجماعات والفرق على عدم التعدي على المسلمين.
الثاني: الإقرار الذاتي بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودراسة القبائل والفرق دخولها الإسلام.
الثالث: المناجاة والإتفاق على عدم إعانة الذين يحاربون الإسلام والمسلمين، كما لو حارب المشركون المسلمين وكان في المكان او المصر فريق من اليهود او النصارى فأبوا الإشتراك في محاربة المسلمين.
الرابع: الذي قصده أعداء الإسلام، وسألوه السلاح والمال والرجال لقتال المسلمين، فأبى إعانتهم وردهم خائبين.
الرابع: الفريق او القبيلة او البلد الذي أعان المسلمين في قتالهم عدوهم، ومدهم بالسلاح والمؤون ساعة الشدة ووعدهم المسلمون خيراً.
الخامس: الذي جرى بينهم وبين المسلمين صلح وميثاق كما جرى بعد صلح الحديبية.
السادس : الذي يأخذ عهداً ممن هو حليف للمسلمين ،وقد أذن له المسلمون بإجراء الحلف مع غيره من أهل الكتاب مثلاً ، فيصدق على الذي أعطى الحلف أنه من الناس ،ويدخل هذا الحلف في مصاديق الآية، ليكون ورودها بلفظ ( حبل من الناس )آية إعجازية ، وشاهداً على شمول اللفظ القرآني الوقائع والأحداث , وفيه منع للعسر والحرج في الدين والمعاملة .
ويعتبر هذا الشطر من الآية نعمة مركبة من وجوه:
الأول: إنها نعمة على المسلمين من وجوه:
الأول: انها تأديب للمسلمين ووسيلة سماوية لإرشادهم لسبل المعاملة والصلات مع كل قوم وملة بحسب قواعد وقوانين ثابتة.
الثاني: زيادة تفقه المسلمين في أمور الحرب والسلم، والعهود والمواثيق.
الثالث: تنمية ملكة الرحمة بالناس عند المسلمين، وإدراك حقيقة وهي حفظ العهود والمواثيق اصحابها من الذل والمهانة.
الرابع: منع الحرج من إبرام المواثيق، واعطاء العهود للناس.
الخامس: توكيد قدرة المسلمين على ابرام العقود والمواثيق مع غيرهم من الملل وهذه القدرة تنشطر الى عدة شعب:
الأولى: أهلية المسلمين لإبرام العقود والمواثيق، وعدم مرور أسباب الكيد والمكر عليهم فيها.
الثانية: قيام المسلمين بإختبار أوان إختيار ومكان العهود والمواثيق.
الثالثة: تمييز المسلمين فيما بين الفرق والملل، ومن يبرمون معه المواثيق، ومن لا يرضون منه إلا الإسلام.
الثاني: انه نعمة على أهل الكتاب من وجوه:
الأول: حصول حال السلم وكف إيدي المسلمين عنهم.
الثاني: رؤية سماحة الشريعة الإسلامية، والمواثيق مناسبة لمعرفة أحكام الدين الإسلامي، والتدبر في آيات القرآن وما فيها من الإعجاز.
الثالث: حصول الإتصال بينهم وبين المسلمين، والإنصات لحجج المسلمين وتذكيرهم بالبشارات الواردة في التوراة والإنجيل بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الشعور بالأمن والسلامة تحت ظلال عهود المسلمين، فمن أسباب الذل والهوان الخوف والفزع، وخشية انقضاض الخصم لا سيما اذا كان قادراً على الغزو، فكيف بالمسلمين الذين يعشقون الشهادة ويحسنون مباغتة العدو ولا يخافون في الله لومة لائم، فمن عقد معهم موثقاً إطمئن لهم، وهذه الطمأنينة مناسبة لمعرفة أحكام معاني الفضيلة والصلاح عند المسلمين.
الخامس: إكرام أهل الكتاب بالعهود والمواثيق ومنها الجزية التي يختص بها أهل الكتاب دون غيرهم من الناس.
الثالث: انه نعمة ورحمة بالناس جميعاً من وجوه:
الأول: يأتي العهد مع قوم او قبيلة او أهل مصر فيكون رحمة بهم وتخفيفاً عنهم وعن عوائلهم ومن هو ورائهم.
الثاني: جاءت الآية عامة، ولا ينحصر موضوعها بأهل الكتاب، بل يشمل الناس جميعاً لأصالة الإطلاق، وعمومات الرحمة الإلهية وتعلق العهود بالراجح الشرعي والعقلي، وعدم وجود قيد يفيد تخصيص وحصر العهود بأهل الكتاب دون غيرهم.
الثالث: من الناس من ينقاد الى الرؤساء والطواغيت ويدخل الحرب وليس عنده هدف معين ولا يعرف حقيقة خصمه ،ما يلتزم به من القيم والمبادئ ، وما يكون عنده وجوه الحق، فاذا حصل العهد والميثاق فان أفراد العدو يعرفون ما عليه المسلمون من حسن السمت وسلامة الإختيار وأسباب الهداية فتكون هذه المعرفة مناسبة لدخولهم الإسلام والخروج على رؤسائهم، والإنفصال عنهم وعن مفاهيم الشرك والضلالة.
ويحكي لنا التأريخ اخباراً عديدة تتضمن رؤية المشركين للمسلمين وهم يصلون بإنضباط وخشوع في ساحة المعركة غير خائفين الا من الله عز وجل، فتكون هذه الصلاة مناسبة لدخول الكثير منهم الإسلام، وظهور النقص والضعف والوهن على من بقي من أفراد وجماعات المشركين.
وقد أسلم كثير من الكفار بعد إبرام العهود والمواثيق مع المسلمين، وقال الرازي: والذي عندي ان الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخذ الجزية، والثاني هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم”( ).
ولكن الآية أعم من الجزية، وحكم الإمام وقد تقدم الكلام فيه كما يجوز ان يعطي الذمام أحد المسلمين والمقاتلين غير الإمام وقائد الجيش والسرية، ويتقيد به الجميع اذا كان جامعاً للشرائط، وغير خارج عن القواعد وهو من الإعجاز في لفظ الناس في قوله تعالى [وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] ومافيه من لغة الإطلاق والعموم، وكي لايأتي فرد او جماعة او فرقة من المسلمين وتقول ان الذمام الذي اعطاه فلان او الطائفة والفرقة الاخرى من المسلمين غير كاف وان الذمام عهد ووثيقة هامة يجب ان تصدر من الرئاسة او من الإمام على نحو التعيين.
فجاءت الآية بلفظ الناس ليشمل كل مسلم قام باعطاء الذمام والعهد، وفي الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يجير على المسلمين ادناهم( ).
ومنهم من أعتبر الإستثناء في الآية [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] إستثناء منقطعاً “قال محمد بن جرير الطبري: اليهود قد ضربت عليهم الذلة سواء كانوا على عهد من الله او لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الإستثناء من الذلة الى العزة( ).
ولكن لا دليل على الحصر في طرفي الذلة والعزة، بل هناك برزخ متسع بينهما ، وإذا نجا الكافر والفاسق من الذلة بالعهد والجزية، فانه لا ينجو من العقاب الذي يستحقه بسبب كفره وتعديه على المسلمين.
ويحتمل الإستثناء من جهة الإطلاق أو التقييد الزماني وجهين:
الأول: إستثناء من كان عنده عهد وذمام من الذلة مطلقاً ودائماً.
الثاني: انحصار الإستثناء والسلامة من الأذى بمدة وأوان العهد والذمام.
والصحيح هو الثاني، فتعود الذلة مع انقضاء العهد، لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه، ولإنعدام المقتضي للنجاة من الذل، ووجود المانع منها، وبلحاظ قوله تعالى [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] يكون أهل الكتاب على أربعة أقسام:
الأول: الذين يفوزون بعهد وميثاق من الله عز وجل ممن تعاهد أحكام التوراة والإنجيل، وحرص على وراثة ما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع استعداده للإيمان والتصديق بنبوته عند بعثته، ومنهم الذين امر الله عز وجل بحفظ العهد معهم ممن عاهدهم المسلمون.
الثاني: الذين لهم ذمام وعهد من المسلمين، ومن أمراء السرايا والمجاهدين.
الثالث: من يجتمع له أمران:
الأول: حبل من الله.
الثاني: حبل من المسلمين، وحمل الواو في قوله تعالى [بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] على إفادة الجمع بينهما في موضوع واحد، كما تأتي الآية التالية في مدح المؤمنين من أهل الكتاب بإعتبار هذا المدح حبلاً من الله، ويعتبر تقيدهم بأحكام الجزية والذمام بانه حبل من الناس.
الرابع: من ليس له عهد ولا ذمام، وهؤلاء هم الفاسقون الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة.
فان قلت ومن كان بعيداً عن ديار المسلمين وليس بينه وبينهم عهد او ميثاق وذمام قلت: يشملهم التفصيل الوارد قبل آيتين، فهم أما ان يكونوا من المؤمنين بالله او من الفاسقين وان لم يعتدوا على المسلمين، ولكن الآيتين التاليتين تذكران صفات وعلامات المؤمنين من أهل الكتاب مما يدل في مفهومه على فسق ومعصية من يتخلف عن تلك الصفات.
وهل يحتمل وجود برزخ بينهما، أي من يكون ليس بمؤمن ولا فاسق، الظاهر لا، وتسمية الكتابي بالمؤمن في المقام مقيد بانه مؤمن من أهل الكتاب ولابد أن يكون مؤمناً بالبشارات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتصديق به عندما يعلم ببعثته ونزول القرآن عليه ودعوته للإسلام.
قانون حبل من الناس
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالعقل والقدرة على كبح جماح النفس الشهوية والغضبية، وأنعم عليه مرة أخرى بنعمة النبوة ، وليس من فاصلة زمانية بين النعمتين الا ان العقل نعمة نالها آدم عليه السلام في الجنة ، ولازمت بعث الروح فيه.
اما نعمة النبوة فجاءت عند هبوط آدم الى الأرض وتوبة الله عز وجل عليه وعلى حواء، ولم تنحصر نعمة النبوة بآدم عليه السلام، بل بعث الله الأنبياء الى الناس في مدنهم وقراهم مبشرين ومنذرين وانزل عليهم الكتب السماوية لتبقى وثائق ملكوتية وقوانين شرعية تحكم معاملات الناس ، وتبين لهم ضروب العبادة على نحو التعيين، وتحذرهم من الشرك والضلالة الى ان ختم الله النبوة ونزول الكتب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه من عند الله عز وجل.
ومن الآيات ان الله عز وجل أخذ المواثيق على الأنبياء لتكون مدرسة عبادية وأخلاقية لأتباعهم والناس جميعاً، قال سبحانه [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ …]( )، وجاء القرآن بنعمة عامة على المسلمين وغيرهم هي نعمة العهود والمواثيق وامضاء ما يعقده المسلمون مع غيرهم ولزوم التقيد بأحكامها ما دام الطرف الآخر متقيداَ بها، وقد ندب الله المسلمين الى الوفاء والتقيد بأحكام العهود مطلقاً بصيغة الوعد ونيل الثواب على الوفاء به، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
واعطاء المسلمين العهود لغيرهم شاهد على قوتهم ومنعتهم وأهليتهم للوفاء بها، وفيه مسائل:
الأولى: حاجة الناس لأخذ العهود من المسلمين.
الثانية: ثقة الناس بالمسلمين وأولي الأمر منهم في المحافظة على العهود ومضامينها، ومن الآيات ان تاريخ المسلمين لم يعرف نقضاً للعهود التي أجريت أيام النبوة والخلافة الإسلامية، سواء في حال السلم او الحرب.
الثالثة: في الآية دليل على عدم الحرج من إعطاء العهد، وامهال الناس مدة من الزمان للتدبر في آيات ومعجزات النبوة، ولولا هذه الآية قد يقول جماعة من المسلمين بوجوب القتال في كل الأحوال وعدم اللجوء للعهد ومضامين الصلح، فجاءت هذه الآية لتؤكد في مفهومها على جواز الصلح والعهد وإنتفاء الحرج منه، ما دام يتضمن الملاك والمصلحة للمسلمين والإسلام خصوصاً مع أهل الكتاب.
الرابعة: السعة في عمل المسلمين، وامكان إختيار الأفضل والأحسن لهم، ومنه العهود والصلح وما يؤديان اليه أحياناً من المنافع وتثبيت دعائم الدين، والمندوحة في بناء صرح الإيمان وتهيئة المسلمين لمواجهة الكفار، والدفاع عن الإسلام من تعدي الكفار والفاسقين.
الخامسة: تكون المواثيق أحياناً من أسباب ومصاديق ما جاء في الآية السابقة بقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى] اذ يدفع الميثاق والصلح الضرر المحتمل، ويكف يد الكفار والفاسقين عن المسلمين وثغورهم وأموالهم، ويتيح لهم فرصة التفقه في الدين، والأداء الأمثل للواجبات والفرائض.

وفي الصلح تخفيف عن المسلمين بحصول فترة سلم، وانقطاع للمعارك مما يتيح للمسلمين البناء والإعمار واصلاح الأرض، وتأديب الأهل والأولاد وجعلهم يؤدون الفرائض والعبادات، وجاءت الآية بلفظ الناس وفيه تذكير بالصلات الإنسانية التي تربط المسلمين والأمم والملل الأخرى، ولزوم العناية بهذه الصلة لتكون عنواناً للصلح والوئام ونبذ الإقتتال والتعدي.
وفيه شاهد على إكرام القرآن للناس بإعتبارهم عبيداً لله تعالى، منحهم العقل، وسخر لهم ما في الأرض، وجعل لهم الدنيا دار إختبار وإمتحان، وبعث لهم الأنبياء وختمهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل معه القرآن ليأتي بالإخبار عن إمكان احراز الناس السلامة من الذل والمهانة بما ينالونه من العهود التي يقطعها المسلمون على أنفسهم لهم، وجاء وصف المسلمين في القرآن بالناس، قال سبحانه [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ), وفيه إشارة قرآنيةالى أهلية المسلم حال النطق بالشهادتين لإعطاء العهد والتقيد بأحكامه.
ولم يرد لفظ (حبل من الناس) الا في هذه الآية الكريمة، وفي موضوع دفع الذلة عن أهل الكتاب الذين يختارون الصلح والوئام مع المسلمين، في دلالة على أهلية وقدرة المسلمين على إنزال الذلة بعدوهم وصرفها عمن يجتنب التعدي عليهم.
قوله تعالى [وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]
باءوا أي لبثوا ومكثوا وأصله من المكان، يقال تبوء فلان موضع كذا أي حل ومكث فيه، واستعارة مادة (البوء) في المقام آية إعجازية تدل على احاطة السخط والغضب الإلهي بالكفار الذين يصرون على ايذاء المسلمين ومحاولات الإضرار بهم، فمع ان لم يأتِ منهم للمسلمين الا على نحو الأذى كالسب والجدال والإفتراء وخيانة الأمانة، فانهم يستحقون بهذا الفعل الغضب الإلهي.
ومن وجوه الإعجاز في الآية الكريمة ان الغضب الإلهي لم ينزل بساحتهم بل هم الذين سعوا اليه، وحلوا به، مع ان الغضب الإلهي يحل بالجاحدين والطغاة، وفي بني اسرائيل قال تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]( ).
وتبين الآية موضوعية الإختيار والفعل في تعيين منازل الناس في الحياة الدنيا والآخرة، فمن الناس من يسعى بجد لينال من غضب الله عز وجل من البلاء والأذى، وجاءت هذه الآية رحمة بالناس لإنذارهم وتحذيرهم من الوقوع في الهاوية والردى، وهذاالتحذير مطلق وشامل لأولئك الذين تشملهم الآية من الأحياء لإمكان التوبة والإنابة، والإتعاظ من أسلافهم، وما كانوا فيه من الذل وأسباب الضرر على الذات والذرية .
وهل من فرق بين نزول الغضب الإلهي بهم، وحلهم به، الجواب هو ان الثاني أبين في الحجة وأظهر في الدلالة على ارتكاب المعاصي، والإصرار عليها والقصد الى الغايات القبيحة في محاربة الإسلام، والسعي بالأضرار بالمسلمين الذين ليس عندهم ذنب الا انهم آمنوا بالله وصدقوا برسله وآياته. وتخبر الآية عن واقية غيرية للمسلمين، وهي من يقوم بالتعدي عليهم ويحاول الإضرار بهم فانه يحل بغضب الله، مما يدل على العناية الإلهية بالمسلمين، وكفاية الله عز وجل لهم بان يرمي عدوهم بأسباب البلاء، وينال من سخط الله عز وجل ما يجعله ينشغل بنفسه فلا يصل منه الضرر الى المسلمين.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وفيه مسائل:
الأولى: توكيد سوء فعل الكفار والفاسقين.
الثانية: انحلال الآية الكريمة، فكل واحد من الكفار والفاسقين يحل بغضب من الله عز وجل، وهذا الإنحلال ليس مستقلاً، بل هو فرع اتحاد الغضب، فكل فرد منهم ينال قسطاً من غضب الله الذي تحل به الجماعة الى جانب ما يحل به شخصياً، لذا فان غضب الله في المقام من الكلي المشكك، فمنهم من يكون بحال أشد من الآخر بحسب سوء الفعل وأثره في الإعتداء على المسلمين، فالذي يسعى في قتال المسلمين يتلقى من مصاديق غضب الله أكثر وأشد من الذي يكتفي باللسان والقول في الإضرار بالمسلمين.
الثالثة: بشارة المسلمين بعدم إستثناء فرد او جماعة من الذين يعتدون على الإسلام وحرمات المسلمين.
الرابعة: من خصائص خير أمة ان كل من يحاربها ويعتدي عليها يقع في سخط من الله عز وجل.
الخامسة: الإخبار عن حال الوهن والضعف التي عليها الكفار والفاسقين الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، ويحتمل الحلول في الغضب الإلهي من جهة سعته وضيقه وجوهاً:
الأول: شمول المستثنى به، فحتى الذين هم على عهد وذمام من الله او من المسلمين هم في غضب الله لأن الإستثناء خاص بالذلة والسلامة منها بإعتبار ان قوله تعالى [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] إستثناء متصل.
الثاني: إستثناء الذين لهم عهد وذمام من الحلول في غضب الله، لإطلاق الإستثناء.
الثالث: عدم وجود ملازمة مطلقة بين موضوع الذلة وغضب الله، فقد يكون الإنسان ذليلاً ولكنه لم يصل الى الوقوع في مرتبة الحلول بغضب الله، او العكس.
الرابع: التباين الرتبي في درجة الذلة، فالذلة لا تغادر الكفار وان نالوا العهد والميثاق والوعد من المسلمين ولكنها تكون مع العهد ذاتية وعند حدود التلبس في النفس، ويكون الغضب الإلهي معها على مراتب فالذين لهم عهد وذمام يكون غضب الله عليهم أقل درجة من الذين ليس لهم عهد من الله ومن المسلمين.
والصحيح هو الثالث وإفادة الواو في [وَبَاءُوا بِغَضَبٍ] معنى الإستئناف، والضمير “هم” في قوله تعالى [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ] إرادة الجميع وشمول المستثنى والمستثنى منه لوجوه:
الأول: انحصار موضوع الإستثناء بضرب الذلة.
الثاني: التباين الموضوعي بين الإستثناء من الذلة، وبين الغضب الإلهي وحلول المسكنة.
الثالث: في الآية ثلاث عقوبات وهي:
الأول: حلول الذلة بالكفار والفاسقين.
الثاني: مكثهم في غضب الله عز وجل.
الثالث: إحاطة المسكنة بهم، وجاء الإستثناء من الذلة وحدها لخصوص الذين عندهم عهد وذمام من الله ورسوله والمسلمين، اما غضب الله والمسكنة فشاملان لهم ايضاً مع بيان علة الشمول بأفعال أشترك بها الجميع ولا تخص العهد والذمام، لأن موضوع العهد والذمام القادم من الأيام والأفعال، أما علة العقاب فهي معاصي وذنوب أرتكبوها في الماضي ودل عليه قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ولو قلنا ان الواو في [وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ] عاطفة، فان العطف بلحاظ الأفراد والملل، وعدم إطلاق الإستثناء زماناً، بل هو خاص بأيام العهد والميثاق كما في قوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ) ومنحصر موضوع وأحكام الذلة دون غضب الله والمسكنة فان أثرها باقِ حتى مع العهد والذمام، وتلك آية اعجازية في البيان والدلالة القرآنية لتجلي التفكيك بين وجوه العقاب الثلاثة مع إتحاد الموضوع وهم القوم الكافرون.
فبينت الآية عدم الملازمة بين حال الذل والمكث في غضب الله، وان العهد مناسبة للأمن من الذل في الدنيا، اما الذل في الآخرة فهو فرع اللبث في غضب الله، وشامل للكفار والفاسقين وان كانوا في عهد وذمام في الدنيا، فموضوع العهد والذمة ودفع الجزية هو الحياة الدنيا، وليس الآخرة ولا يصح أن يظن الكافر بان دفعه الجزية وعقده العهد مع المسلمين ينجيه من العذاب الأخروي، او يخلصه من الغضب الإلهي، ويحتمل أوان الغضب الإلهي وجوهاً:
الأول: انه خاص بأيام الكافر في الحياة الدنيا.

الثاني: يتعلق بعالم الحساب والعقاب الأخروي.
الثالث: عموم زمان الغضب الإلهي، وإحاطته بالكافر في الحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، وهو الذي تدل عليه هذه الآية الكريمة من وجوه:
الأول: أصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني: تعدد المعاصي والذنوب التي إرتكبها الكفار كما تدل عليه خاتمة هذه الآية.
الثالث: التباين بين الغضب الإلهي والعذاب الذي يلقاه الكافر قال تعالى [وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا]( )،فجاء الغضب بصيغة الحلول ومغايراً للعن والعذاب، ومتقدماً على العذاب، ودليلاً ومقدمة له.
وجاءت الآية بصيغة الجمع “وباءوا” وفيه وجوه:
الأول: الآية انحلالية، فينزل غضب الله بكل فرد من الكفار.
الثاني: شمول الكفار بغضب الله بلحاظ ملتهم فيدركون الخلل والنقص في سننهم، وحاجتهم الى الشريعة الناسخة، والعمل باحكام الإسلام.
الثالث: انعدام الرشاد والتوفيق في أفعال الكفار، وما يصبون اليه من الغايات.
الرابع: السخط الإلهي عليهم جميعاً لسوء إختيارهم وقبح فعلهم وإعراضهم عن الآيات والبراهين.وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي للدلالة على تحقق نزول الغضب الإلهي بالكافرين، وهذه الصيغة في المقام آية إعجازية تبين الحال التي هم فيها، والأذى والألم والحسرة التي يعانون والحلول في الغضب الإلهي شاهد على تحقق الذنب وحصول المعصية، وقد جاء بصيغة المضارع المتعقب لفعل المعصية قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ] ( ).
قانون “باءوا بغضب من الله”
أراد الله عز وجل للحياة الدنيا ان تكون مزرعة للآخرة، فجعل وظيفة الإنسان فيها العبادة قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ورضي الله عز وجل من الناس استثمار القليل من الوقت بالعبادة فضلاً منه تعالى، ومن الناس من إهتدى الى تلك الوظيفة السامية، وتقيد بأحكام الشريعة السماوية ورسالة نبي زمانه، ومنهم المسلمون الذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي جاء بها من عند الله عز وجل ولكن فريقاً من الناس حاربوا الإسلام والمسلمين، وأصروا على الكفر والعناد، وإعتدوا على الحرمات، وتمادوا في الغي حتى قتلوا الأنبياء الذين جاءوا يدعونهم للإيمان، فإستحقوا المكث في غضب الله ما داموا في الحياة الدنيا ويكون ذات الغضب في الآخرة وهو ايضاً مقدمة للعذاب الأخروي، وأمارة على حصوله للقبائح التي إرتكبها الكفار.
ان المكث في غضب الله حكم إلهي خاص بالكافرين يعرفون به بالضلالة وسوء الفعل، والعناد والتعدي والضعف والوهن، فمضامين هذا القانون تمنع الكافر من الإضرار بالمسلمين ويكون الحلول بالغضب الإلهي مانعاً من تحقيق النصر عند القتال، وسبباً في المبادرة الى الفرار والهزيمة والغضب الإلهي من صفات الفعل لأن الرحمة تقابله ومن أٍسماء الله تعالى “الرحمن” و”الرحيم” ومن رحمته خلق الإنسان ورزقه وتعاهده الى حين أجله، وهذه الرحمة شاملة للناس جميعاً، البر والفاجر، ولكن فريقاً من الكفار أبوا الا الجحود بالآيات ولم يقفوا عند الكفر بها، والإعراض عن دعوة الأنبياء، بل قاموا بقتل الأنبياء بغير حق.
وأصروا على المعاصي، وبعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، أي ان الذين عاصروه من الناس ليس فيهم من أشترك بقتل نبي من الأنبياء، فليس من نبي بين عيسى عليه السلام، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ان الفترة بينهما أكثر من خمسمائة وخمسين سنة، ومع هذا فان الكفار أصروا على الكفر بالآيات والتمادي في المعصية فإستحقوا ذات الوصف الذي كان عليه أسلافهم وورثوا عنهم الحلول في الغضب والسخط الإلهي.
وتدل الآية على قوانين ثابتة في الإرادة التكوينية هي:
الأول: سبق الرحمة على الغضب الإلهي، فجاءت الرحمة اولاً للناس جميعاً، وتتجلى في خلق ونشأة الإنسان، وملازمتها له في آنات حياته كلها.
الثاني: في الوقت الذي تأتي فيه الرحمة الإلهية للإنسان ابتداء وفضلاً من عند الله، فان الغضب الإلهي لا يأتي للكفار ولكنهم يلقون أنفسهم فيه.
الثالث: لا يحجب الحلول في الغضب الإلهي معاني ومصاديق الرحمة عن الفرد والجماعة، وفي الآية دعوة للناس جميعاً لإجتناب حلول غضب الله بهم، وحث لكل مكلف بان يختار ما فيه السلامة من الغضب الإلهي، والإعتبار من الأمم السالفة وما أصاب الكفار من الهلاك والمحق، ويتجلى الحث الإلهي بالتوبة والإنابة والكف عن ايذاء المسلمين، والبراءة ممن قام بقتل الأنبياء.
لقد جاءت الآية صريحة بذم الكفار وذكر موضوع وعلة الذم وهي متعددة من وجوه ذكرتها الآية الكريمة، لإقامة الحجة على الكفار، ومنع الجهالة والغرر، والآية من مصاديق بيان القرآن لكل شيء اذ انها اخبرت عن حال الكفار في الدنيا، وفيها شاهد بان المسلمين خير الأمم وان الله عز وجل سخرهم لتحذير الناس، ومعرفة منازلهم وحالهم، فبعد قيام الكفار بقتل عدد من الأنبياء بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتكون أمته داعية الى الله، ويعجز الكفار عن إسكات صوتها، او حجب اثرها عن الناس عامة، وعن الكفار انفسهم، ويتلو أفرادها آيات القرآن وما فيها من البيان والحكمة والقوانين والشواهد التأريخية ذات المواعظ والعبر لتكون درساً وانذاراً للكفار، وتحذيراً لهم من الإقامة على المعاصي، والإصرار على التعدي على الإسلام والمسلمين.
قانون غضب الله
لقد جعل الله عز وجل الدنيا محلاً لرحمته، وداراً لفضله وإحسانه ومضامين وأفراد ومصاديق رحمة الله على الناس في الدنيا أكثر من أن تحصى، ولا يحيط بها العقل الإنساني وما أبدعه من الإختراعات العلمية في موضوع الحساب والإحصاء، ويبين قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، في مفهومه ان الله عز وجل يساعد الناس على عبادته، ويهيء لهم مقدمات ومستلزمات العبادة، ويدفع عنهم الأسباب والموانع التي تحول دون قيامهم بعبادة الله على الوجه الأكمل فهم يعبدون الله عز وجل في ملكه وسلطانه.
فلا يجعل احداً من الخلائق يمنعهم من العبادة من موجودات الأرض او الكائنات العلوية التي في السماء، بل كل شيء مسخر لهم ويكون وسيلة لعبادتهم لله حتى الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء، وتنصر المسلمين في قتالهم في سبيل الله لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض.
نعم يأتي المانع من الإنسان نفسه، من الذين اختاروا الكفر بآيات الله عز وجل، فيمنعون انفسهم عن العبادة، ويسعون في حجب الآخرين عنها، فيحلون في غضب الله عز وجل، ويستحقون سخطه وبينما تكون رحمة الله امراً مصاحباً لكل انسان من حين ولادته، فان غضبه تعالى لايأتي الا على نحو عرضي ويكون خاصاً بالكافرين والجاحدين ولابد من آثار وأضرار على الإنسان الذي يمكث في غضب الله، وتحتمل هذه الأضرار وجوهاً:
الأول: الضرر في الحياة الدنيا.
الثاني: الأذى في عالم البرزخ والتعرض للحساب الإبتدائي فيه.
الثالث: العذاب الأليم في الآخرة، وهذه الوجوه من مصاديق الحلول في غضب الله، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
ومن اللطف الإلهي بالناس ان يكون الغضب متأخراً رتبة عن الرحمة الإلهية، فلا يتقدمها، ولا يأتي معها بعرض واحد، كما انه لا يحجب الرحمة الإلهية بل يكون سبباً لزجر العبد عن المعاصي، وطريقاً للتوبة والإنابة، والإنتفاع الأمثل من رحمة الله.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن قانون الغضب الإلهي، وتبين صفات الذين يخسرون انفسهم في النشأتين بالوقوع فيه، ومن الآيات الإعجازية ان الآية لا تخاطب الكفار الذين يقيمون في الغضب الإلهي مع انه موضوع هذا الشطر من الآية، بل جاءت خطاباً للمسلمين، وتحدياً للكافرين، واخباراً عن عجزهم عن المرابطة وكثرة المسايفة، وفرارهم امام المسلمين سواء الغزاة منهم او المدافعين عن الثغور والحرمات الإسلامية .
ومن الآيات ان الغضب الإلهي يلاصق الكفر، فما ان يغادر الإنسان الكفر والجحود حتى ترتفع منه اسباب الغضب الإلهي لتبقى مضامين ومصاديق الرحمة تتغشاه وتكون عوناً له في دنياه وآخرته، بينما يكون الغضب الإلهي إنذاراً للكافر، وبرزخاً دون الرشاد والتوفيق، وترى الذي يحل عليه الغضب الإلهي في حيرة من أمره، ويشعر في قرارة نفسه بالضياع، وللغضب الإلهي آثار عامة على الكفار فيكون سبباً لبعث الفرقة والنفرة فيما بينهم مع قلة البركة والنماء في المال والكسب والعمل، وقد حذر الله عز وجل المسلمين من تولي الذي حل بهم الغضب الإلهي قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]( ).
والحلول في الغضب الإلهي عنوان لنزول البلاء، مما يدل على ان الكفر بالآيات سبب للعذاب في الدنيا والآخرة، اما في الآخرة فان مصير الكافرين النار، واما في الدنيا فان الغضب الإلهي يتجلى بوجوه ومصاديق عديدة ليتصف كل فرد منها بالشدة والبلاء والأذى، ويجعل الكافر عاجزاً عن اصلاح حاله وشأنه ويلتفت يمنة ويسرة فلا يجد من يساعده وينقذه مما هو فيه لأن أصحابه يشاركونه الحلول في الغضب الإلهي الذي يلتصق بهم، ويلازمهم في أعمالهم ومنتدياتهم وبيوتهم، وفي ليلهم ونهارهم، ولا يفارقهم عند الموت بل يدخل معهم الى القبر ليكون عذاباً محضاً.
علم المناسبة
وردت مادة “غضب” في القرآن أربع وعشرين مرة، منها ثمان عشرة مرة في غضب الله تعالى، وكلها تخويف ووعيد للكافرين والجاحدين بآيات الله عز وجل وتحذير المسلمين منهم ومن ولايتهم والركون اليهم.
وفي بني اسرائيل الذين سألوا موسى عليه السلام طعاماً مما تنبت الأرض مع انه كان ينزل عليهم من السماء المن والسلوى، قال تعالى [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ] ( ).
وليس فيها إستثناء من الذلة لأنه ليس من عهد وذمام وجزية تدفع للمسلمين بينما جاءت الآية محل البحث بإستثناء أهل الذمام من حال الذل، وعدم إنحصار الذمام باليهود في المدينة أيام التنزيل، بل يشمل غيرهم لتعدد الملل والنحل أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتساع وتعدد أمصار المسلمين وبلوغ الدعوة الإسلامية الى أماكن عديدة من الأرض.
أما الستة الباقية من مادة “غضب” فهي على وجوه:
الأول: وردت ثلاثة منها في غضب موسى عليه السلام، وكان غضبه في الله ولله عز وجل.
الثاني: تحكي واحدة غضب ذي النون بقوله تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا]( )، في دلالة على عدم انحصار الغضب بموسى عليه السلام.
الثالث: واحدة في مدح المؤمنين بقوله تعالى [وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
الرابع: في الحكم الجنائي والتخويف في الملاعنة والمباهلة بين الزوجين.
ومن الآيات ان تأتي مضامين الغضب الإلهي في سورة الفاتحة بقوله تعالى [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ] في دلالة على ذم الكفار، وقبح فعلهم ونفرة المسلمين منهم والحذر والحيطة من فعلهم، والتوجه بالدعاء والمسألة الى الله تعالى للإحتراز من مسالك الضلالة والغي، ورجاء الهداية الى الرشاد والصلاح والصراط المستقيم[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ]( ).
قوله تعالى [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ]
بعد حلول الذلة بالكفار، ومكثهم في سخط من الله عز وجل أخبرت الآية عن احاطة المسكنة والمهانة بهم، ومن الإعجاز في الآية الكريمة ورود لفظ [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ ] وفيه مسائل:
الأولى: جاء مكرراً في الآية مرتين.
الثانية: فيه توكيد لقبح فعل الكفار، واستحقاقهم للمهانة والذل.
الثالثة: صيغة الجمع والعموم في اللفظين، مما يدل على شمول كل من الذل والمسكنة للكفار جميعاً.
الرابعة: اتحاد الموضوع الذي تقع عليه الذلة والمسكنة وهو الكفار والفاسقين.الخامسة: توكيد عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين لأن كلاً من الذلة والمسكنة مانع من مواصلة التعدي على المسلمين.
السادسة: لما جاءت الآية بإستثناء أهل الذمام والعهد من الذلة، جاء حلول المسكنة مطلقاً، فهي لا تغادرهم، لذا ورد قوله تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( )، فالصغار من مصاديق المسكنة وكذا دفع الجزية لأنه ضريبة دورية على البالغين منهم، وتستلزم السعي والكسب لدفعها.
والنسبة بين الذلة والمسكنة هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء ظهور حال المهانة والعجز، ويمكن القول ان مادة الإفتراق هي ظهور الذلة في الوجود الخارجي، وعلى اللسان وفي الأفعال، أما المسكنة فانها حالة نفسية ملازمة للكافر تدل على الذل والخوف والخيبة والإنكسار، مع مالها من ظهور خارجي ايضاً في عالم الأفعال، وأيهما أشد على الكفار الذلة أم المسكنة الظاهر انها الذلة وهي برزخ دون التعدي والشجاعة وفي المسكنة الواردة في الآية أقوال:
الأول:المراد من المسكنة الجزية، لأنها باقية عليهم، عن الحسن البصري( ).
الثاني: المسكنة هي الذلة، لأن المسكني لا يكون الا ذليلاً، عن أبي مسلم.
الثالث: الفقر نسبه الطبرسي الى القيل، وقال: لأن اليهود ابداً يتفاقرون وان كانوا اغنياء( ).
الرابع: هذا إخبار من الله سبحانه بانه جعل اليهود ارزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين، نسبه الرازي الى بعضهم( ).
أما الأول فان الجزية من مصاديق المسكنة وسبب لها، واما الثاني فهناك وجوه التقاء بين الذلة والمسكنة، وكأنهما مما اذا إجتمعا إفترقا، واذا افترقا اجتمعا وذكرهما معاً في الآية الكريمة والعطف بينهما بحرف العطف (الواو) يدل على وجود وجوه افتراق بينهما.
قاعدة :ويمكن ان نؤسس قاعدة في المقام وهي لو تردد الأمر بين التشابه والتعدد في ألفاظ الثواب والعقاب فالأصل هو الثاني وهو جزء من قواعد الوعد والوعيد والذلة تأتي غالباً من الغير، وبلحاظ أسباب خارجة عن إرادة الإنسان.
وجاءت هذه الآية لتخبر بان المسكنة ملكة مستقرة في نفوس وجوانح الكفار، ومن الآيات أنها ليست امراً إختيارياً بالإمكان إجتنابه والتغلب عليه بل جاء من عند الله.
ليبقى مصاحباً وملازماً للكفار لا يغادرهم ابداً، اما التفاقر وإدعاء اليهودي الفقر وان كان غنياً فهو من مصاديق وأفراد المسكنة، اما الرابع فلا دليل على جعل الإنسان رزقاً وان تباينت الملة.
لقد أراد الله عز وجل كفاية المسلمين وسلامتهم من الضرر والشر، وزجر الكفار عن أذاهم فرمى الله عز وجل الكفار بالمسكنة وما يصاحبها من الذل والهوان وقلة الحيلة، والعجز عن بلوغ الغايات، والنقص في الرزق وعدم السعة فيه، ولا تنحصر المسكنة بالقضية الشخصية، بل تشمل القضية النوعية، وتتجلى آثارها على الفرقة والطائفة وأهل الملة، من وجوه:
الأول: الإفتقار الى القدرة للإستعداد للقتال وتهيئة مستلزماته.
الثاني: العجز عن مواصلة القتال، لذا جاءت البشارة للمسلمين في الآية السابقة بانهم يولون الأدبار عند القتال، والذي يدل في مفهومه على عدم قدرتهم على إستدامة المواجهة، وإصابتهم بالملل والضجر وانعدام الصبر عندهم على المرابطة.
الثالث: نقص الحيلة والتدبير في الحرب والسلم وأسباب الكسب وعند المنافسة والمزاحمة.
الرابع: حبط الأعمال وقلة المتابعة.
الخامس: التفكك في الصلات الإجتماعية ، وعدم تعاهد صلة الرحم.
السادس: ظهور الشك والريب فيما بينهم، وعدم اطمئنان بعضهم الى بعض.
السابع: التخلف عن منازل العلم والتحصيل، والعجز عن الإرتقاء في المعارف الإلهية، وجاءت الآية بلفظ “ضربت” الذي يفيد نزول المسكنة على الكفار دفعة واحدة، واستقرارها وثباتها فلا يستطيعون مغادرة منازلها ومن الآيات الإعجازية في نصر الله عز وجل للمسلمين انه ابتلى الكفار بالمسكنة والذلة وجعلها ملازمة لهم لا تفارقهم.
ومع ان الآية جاءت في سياق الخطاب للمسلمين وبعث السكينة في نفوسهم الا انها تتضمن مسائل:
الأول: توبيخ الكفار وتقبيح فعلهم.
الثاني: زجرهم عن التعدي على المسلمين فاذا كانت النتيجة هي الهزيمة والفرار، فالأولى لهم الكف عن مقاتلة المسلمين، والقبول بدفع الجزية ، وحال المسكنة أهون وأخف من حال الهزيمة والإنكشاف أمام المسلمين والتعرض للقتل او الوقوع في الأسر.
الثالث: المسكنة ذاتها ضرر على أصحابها، فلما أراد الكفار الإضرار بالمسلمين رماهم الله عز وجل بالمسكنة التي هي ضرر محض.
الرابع: دعوة الكفار للنجاة والسلامة من المسكنة وما فيها من الإضرار سواء المصاحبة لها او التي تتفرع عنها، وتنحصر سبل النجاة منها بهجران منازل الكفر والضلالة.
قانون “المسكنة”
لقد أخبرت الآيات السابقة بأن الله له ملك السماوات والأرض، وبينت ان الناس على قسمين يوم القيامة، فمنهم من تكون وجوههم مشرقة بيضاء وهم المؤمنون ، ومنهم من تكون وجوههم سوداء كالحة وهم الكفار، وجاءت هذه الآية لتخبر عن حال الناس في الدنيا، وما عليه الكفار من الذل والمسكنة، ليدرك الناس جميعاً ان المسكنة مقدمة لسواد الوجوه في الآخرة، وهي مصاحبة للكفر وهي شاهد دنيوي على سوء المقام في الآخرة.
والمسكنة نقيض العز وهما لا يجتمعان في محل واحد، لذا فان المسكنة أصابت الكفار وحلت بساحتهم، وظهرت دلائلها على نواصيهم وأنعم الله عز وجل بالعز على الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل من السماء، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومع تعدد وكثرة الآيات التي ورد فيها لفظ المسكين بصيغة المفرد والجمع وشموله للمسلم الذي لا يملك قوت سنته، فان لفظ المسكنة لم يرد في القرآن الا مرتين، وخاصاً بالكفار الذين تمادوا في الكفر والمعصية، ليكون لفظ المسكنة عنواناً اصطلاحياً خاصاً وله معاني ودلالات تبعث على النفرة وتختلف عن معاني ودلالات لفظ “المسكين” الذي يدل على الحاجة والعوز، ويدعو الى الرأفة والشفقة، ويحث على إخراج الحقوق الشرعية ودفعها الى أهلها المستحقين من المسلمين قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا]( ).
وصفة المسكين متزلزلة وغير مستقرة، وقد ينعم الله عز وجل على المسكين فيرزقه رزقاً واسعاً، ويرفع عنه صفة الفقر والعوز اما المسكنة فهي عرض مصاحب للكفر والمعاصي، وملازم للفاسق والكافر لا يغادره ما دام في الدنيا، ويصاحبه في الآخرة ايضاً بسواد الوجه والذلة والقهر، وانعدام الشفيع والنصير، وتعتبر المسكنة درساً وموعظة للناس جميعاً.
الأول: ما يناله المسلمون من ضرب الكفار بالمسكنة، وفيه وجوه:
الأول: ازدياد إيمان المسلمين وثباتهم على الهدى والصلاح.
الثاني: بعث الرضا والغبطة في نفوسهم لما يصيب عدوهم.
الثالث: ادراك حقيقة التخفيف عنهم في الحرب والقتال ، وحال السلم.
الرابع: الشعور بالأمن لقلة قيام العدو بالمباغتة.
الرابع: غياب أوصاف التفخيم، وأسباب الهيبة عن الكفار، وحتى لو حاول الكافر الظهور بحال من الشأن فان المسلمين يدركون حقيقة تلبسه بالمسكنة والهوان، وافتقاره لمقومات البقاء في حال من القوة والشأن.
الخامس: حصول اليقين بالنصر، ودحض الكفر وازاحته عن منازل الفعل والتأثير.
الثاني: ما يصيب أهل الكتاب من حال المسكنة، وفيه وجوه قد تقدم ذكرها، كما ان الإخبار عنها في هذه الآية نوع تحدِ لهم جميعاً، وشاهد وجداني على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، فيدرك الكتابي بالواقع الشخصي، وماهية الفعل الذاتي ان معاداة الإسلام تسبب المسكنة وتورث الذلة والهوان، فيحدث نفسه بإجتناب التعدي عليهم، ويصغي لآيات القرآن ويتدبر معانيها ومضامينها وما لها من المقاصد والغايات السامية التي تهذب النفوس وتمنع من إستحواذ النفس الشهوية والغضبية، وتطرد الكدورات الظلمانية وتدعو الى الأخلاق الحميدة، وتأمر بالسنن الرشيدة بما يجعل النفس تنفر من التعدي على المسلمين والإصرار على المعاصي والفسق.
الثالث: أهل الملل والنحل الأخرى من وجوه:
الأول: الإعتبار والإتعاظ مما يصيب الذين يعتدون على الإسلام ويحاربون المسلمين.
الثاني: بعث الرحمة في قلوب الناس بالمسلمين والميل لهم، ومعرفة صبرهم وتحملهم الأذى في ذات الله.
الثالث: إدراك حقيقة وهي ان القرآن يسبر اغوار النفوس، ويفضح أعداء الإسلام ويتحداهم بما استقروا فيه من حال الذلة والمسكنة.
الرابع: في الآية تحريض للناس على اعداء الإسلام، فمتى ما علمت الأمم والملل الآخرى ان المسكنة والضعف يتغشاهم فانها تجهز عليهم، ولا تجعل لهم شأناً مما يزيد في ذلة ومسكنة اعداء الإسلام ويشغلهم عن الهم بالإضرار بالمسلمين ليبقى المسلمون في مأمن ويؤدون فرائضهم وشعائرهم بيسر.
ومضامين قانون المسكنة ليست جديدة في الأرض، بل هي مصاحبة للكفر والشرك وملازمة لأهل المعاصي والذنوب لذا جاءت الآية بالفعل الماضي المبني للمجهول “ضربت” بالإضافة الى دلالة أفراد علة المسكنة على سبق وتقدم المسكنة زماناً على أوان نزول القرآن لذكر قتل الأنبياء فرداً من أفراد علة ضرب المسكنة عليهم.
وفيه دلالة على كون المسكنة تركة وإرثاً لمن يقتل الأنبياء، ولا ينحصر أو يختص هذا الأرث بالذرية والأبناء ، بل يتلقاه الذي يكفر بالآيات ويجحد مطلقاً.
وجاءت الآية باقتران المسكنة بالفسق والخروج عن الطاعة والكفر بالآيات، وهل يستطيع الكافر مغادرة المسكنة، والإنتقال الى ضدها وهو العز، أو برزخ بين العز والمسكنة، الجواب على وجهين :
الأول : النفي ، ما دام متلبساً بالكفر والجحود ،لأن لفظ الضرب يفيد اللصوق والملازمة وعدم الإنفكاك .
الثاني : الإيجاب وإمكان التخلص من المسكنة والإنتقال الى العز بدخول الإسلام والتصديق بآيات الله، ونبذ الكفر.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “الإيغال” بما يفيد بيان تتابع الموضوع والأثر، ويتجلى هذا الفن في هذه الآيات فلم تقف عند موضوع تولية الكفار أدبارهم ولا عند عدم تحقيق النصرة أو وجود العون لهم، كما جاء في الآية السابقة [يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ].
بل جاءت هذه الآية ببيان حالتهم العامة، فقد ينهزم المحارب ولا يجد من ينصره، ولكنه يعيش في عز في بلده ووسط أهله، ويعمل وينتج ويكسب في الزراعات والتجارات ويستطيع الدفاع عن نفسه وماله وعرضه.
ولكن هذه الآية جاءت لنفي هذا الأمر عن الكفار والفاسقين وإثبات ان اللعنة تلاحقهم، والبلاء يطاردهم لأنهم أصروا على الكفر، وأرادوا طمس معالم الدين، والمنع من بقاء راية كلمة التوحيد عالية تجذب الناس اليها، فأخبرت عن نزول الذلة بالكفار والفاسقين، وحلولهم الغضب الإلهي، ومصاحبة المسكنة والمهانة لهم في أي مكان يحلون به، والذي يبادر للنجاة من الذلة بالعهد والميثاق تبقى معه المسكنة لتصير مانعاً من نقضه الميثاق، ويكون الكفار الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين على أقسام:
الأول: من صار أسيراً وعبداً عند المسلمين.
الثاني: الذي قتل في ساحة المعركة.
الثالث: من إختار الهزيمة وما يلازمها من المسكنة والذلة والهوان.
الرابع: الذي يختار الذمام والعهد والصلح.
ويتغشى الكفار الغضب الإلهي والمسكنة قبل التعدي على المسلمين وإثناءه وبعده ، لذا فمن فوائد الإيغال في الآية بيان إستدامة ضعف الكفار والفاسقين وعجزهم عن الإضرار بالمسلمين، وملاحقة صنوف البلاء لهم إذ ان مصاديق الذلة والمسكنة متعددة، وتواجههم في ميادين الحياة المختلفة.
قوله تعالى [ذَلِكَ]
جاء اسم الإشارة للبعيد لبيان علة مكث الكفار في غضب الله، ولصوق المسكنة والذلة بهم والإخبار بان الله عز وجل عادل لا يظلم احداً من الناس، وله الحكم المطلق في الدنيا والآخرة، وبينت الآية ان الكفار هم الذين اختاروا لأنفسهم الذلة والمسكنة واللبث في غضب الله لأنهم أختاروا خلاف ما يجب عليهم وأصروا على الجحود بالآيات ومن الحكمة الإلهية ان يكون جزاء الكافر المسكنة والذلة لمنعه من الأستحواذ على أمور الرياسة العامة في الدنيا، ومحاربة المسلمين وإكراه بعضهم على الإرتداد، فمن ضربت عليه الذلة والمسكنة لا يستطيع التأثير على من حباه الله العز والرفعة.
قوله تعالى [بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]
ابتدأت الآية بذكر فرد من أفراد علة حلول الغضب الإلهي بالكافرين والتصاق المسكنة بهم، وهو الجحود بآيات الله تعالى، مما يدل على موضوعية الإيمان في طلب العز والأمن والشأن والجاه فالدار الدنيا ملك لله تعالى، وجعلها محلاً للإبتلاء والإختبار، ومن أهم مصاديق الإختبار نزول الآيات من عند الله، وتجليها في النفوس والآفاق وبعثة الأنبياء.
وتؤكد الآية على لزوم الإيمان بالآيات، ومن نعم الله عز وجل على بني اسرائيل تخويفهم برفع الطور للأخذ بالآيات والعمل بأحكام الشريعة ، قال تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ]( )، ويحتمل الكفر في المقام وجوهاً:
الأول: الإعراض عن الآيات، وعدم الإلتفات لها، قال تعالى [سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ]( ).
الثاني: كل آية من آيات الله نعمة على الناس على نحو الإتحاد والتعدد، والكفر بها هو عدم التوجه لله بالشكر عليها.
الثالث: ترك العمل بمضامين الآيات، وعدم الإتعاظ او الإعتبار بها وما فيها من الدلالات.
الرابع: مقابلة الآيات بالجحود والإنكار.
الخامس: تحريف الآيات كما في تغيير صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة والإنجيل.
السادس: الهزو والإستخفاف والإستهزاء بآيات الله ، قال تعالى [وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ]( ).
السابع: السخرية من المؤمنين الذين تلقوا الآيات بالتصديق وإتبعوا الأنبياء قال تعالى [فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ).
الثامن: التكذيب بآيات الله، والإمتناع عن تصديقها مع انها تتضمن التحدي وليس لها معارض، نعم جاء التكذيب بالآيات معطوفاً على الكفر بها، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، ولا يضر هذا العطف في إفادة التكذيب بالآيات معنى الكفر بها، وهما مما اذا إجتمعا افترقا واذا افترقا إجتمعا.
التاسع: الشك والريب في الآيات، واثارة الجدال والإتيان بالمغالطة قال تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الكفر بالآيات، وأسباب لنزول الغضب الإلهي وحلول اصحابها في حال الذلة والمسكنة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وفيها وجوه:
الأول: انحلال موضوع الآية، وشمول الحكم لكل فرد من الكفار، وإقامة الحجة عليه على نحو القضية الشخصية وصدق تلبسه بالكفر والجحود.
الثاني: شمول الكفار بالنعت الوارد في الآية على نحو العموم الإستغراقي.
الثالث: الإخبار عن ماهية الرأي الذي يعتقدونه والمبني على التشكيك وعدم التصديق بالآيات مع ان الكتب السماوية كلها آيات من عند الله، بالإضافة الى ما جاء به الأنبياء من الآيات والمعجزات.
وتتضمن صيغة الجمع ذماً إضافياً للكفار، وتحدياً لهم، لأنها تجعلهم عاجزين عن إنكار الكفر المتلبسين به متحدين ومتفرقين ، وتبين الآية موضوعية الإيمان بآيات الله عز وجل، وقبح الكفر والجحود بها وعدم إنحصار عقاب الكفر بآيات الله بعالم الآخرة، بل يشمل الحياة الدنيا، فيكون العقاب على الكفر بآيات الله نازلاً بالكافر أوان كفره وجحوده، وحتى بعد مماته وانقضاء أيام الحياة الدنيا وما فيها من الإبتلاء والقدرة على الإختيار والفعل، ليبدو للناس ان الثمن الذي يدفعه من يختار الكفر باهظ ومتجدد ، ففي كل ساعة تمر عليه يبتعد أكثر عن العز ويرتدي لباس الذل والمهانة والمسكنة، ويبوء بغضب الله اينما حل وأقام.
وفيه شاهد على وجود واجب الوجود وان الأمور كلها بيده تعالى، وانه لن يترك أعداءه يتمادون في الغي والتعدي على انفسهم وعلى المؤمنين وعلى الناس أجمعين، بل يضربهم بالمسكنة لتكون لاصقة بهم وزاجراً لهم عن الهم بالتعدي.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في لفظ الآيات، قال تعالى [يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] وفيه وجوه:
الأول: كل كافر يكفر بآية من آيات الله.
الثاني: تعدد وكثرة الآيات التي يجحد بها الكفار متحدين ومتفرقين.
الثالث: صيغة الجمع في لفظ آيات انحلالية، فكل فريق من الكفار يكفر بآية أو عدد من مجموع آيات الله.
والصحيح هو الثاني والثالث، وإفادة التعدد في الآيات التي يكفر بها الكفار، وان كان الكفر بآية واحدة أمراً محرماً ، ويصدق عليه انه كفر ويستحق العقاب، ولكن الآية جاءت لبيان علة ضرب المسكنة على الكفار والفاسقين، وجعلهم عاجزين عن التعدي على المسلمين، مما يدل على تماديهم في الكفر، واصرارهم على الجحود، وعدم إقرارهم بالآيات.
وجاءت الآية بلفظ “آيات الله” من غير تعيين لمصاديقها، ولكنها تستقرأ من وجوه:
الأول: نسبتها الى الله تعالى، بقوله تعالى [بِآيَاتِ اللَّهِ] وفيه مسائل:
الأولى: احرازها للحجة.
الثانية: كل آية برهان قاطع، لا يقبل اللبس أو الشك.
الثالثة: كل آية فضل ونعمة من عند الله، تستلزم الشكر لله تعالى عليها.
الثاني: صيغة الجمع والتعدد في آيات الله، وفيه مسائل:
الأولى: طرد الغفلة والجهالة عن الإنسان.
الثانية: إحاطة الآيات بالناس متحدين ومتفرقين، اذ تلازمهم الآيات في يومهم وليلهم ومنتدياتهم.
الثالثة: كل آية دعوة الى الله وسبيل للإيمان ووسيلة للهداية، ونبذ الكفر والجحود.
الرابعة: كثرة الآيات، حجة إضافية، على الناس في ضرورة الإيمان والتسليم بالربوبية لله تعالى.
الخامسة: تعدد مواضيع الآيات، اذ تملأ الآيات السماوات والأرض.
الثالث: تضمن الآية الكريمة لصيغة الذم والتوبيخ للكفار على كفرهم بالآيات،مما يدل على ظهورها وتجليها لكل إنسان، وتدركها الحواس والعقل، فحتى الذي فقد حساً كالأعمى فان الآيات تطرق سمعه، وتخالط عقله ويحس فيها ببدنه وجوارحه.
الرابع: الإجمال دعوة للتدبر والتفكر في خلق الله عز وجل، والإرتقاء في المعارف الإلهية، وبلوغ مراتب الإيمان واليقين والإقرار بعظيم قدرة الله، وإظهار العبودية المحضة له سبحانه.
الخامس: جاء الإجمال لكثرة الآيات وتعددها.
السادس: من منافع صيغة الإجمال في المقام الدعوة الى استحضار مصاديق الآيات التي جحد بها الكفار، والإحتجاج بها عليهم.
السابع: الآية دعوة الى الرجوع الى آيات القرآن الأخرى لإستقراء الآيات التي جحد بها الكفار، ومن الآيات التي جحد بها الكفار والفاسقون واستحقوا معه نزول الغضب الإلهي عليهم، وإقامتهم بالذل والمسكنة هي:
الأولى: المعجزات التي جاء بها الأنبياء.
الثانية: المعجزات والدلالات التي يتضمنها القرآن، والتي تؤكد نزوله من عند الله ، ووجوب العمل بأوامره، واجتناب ما نهى عنه.
الثالثة: بعثة عيسى عليه السلام ونزول الإنجيل عليه وكفر اكثر بني اسرائيل يومئذ به.
الرابعة: البشارات التي وردت في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته المذكورة في التوراة وألإنجيل، ومن الكفر بها تحريفها والإصرار على انكارها.
الخامسة: حجج الله، والبينات التي جعلها براهين ساطعة، ودعوة لعبادته تعالى.
السادسة: آيات القرآن واعراض الكفار عنها، مع الجحود والإستكبار والإفتراء على النبوة ، قال تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ] ( ).
السابع: عالم الحساب والجزاء في الآخرة وتتضمن الآية في مفهومها مدح المسلمين، والثناء عليهم لتصديقهم بآيات الله، وعدم تفريطهم بالأحكام الشرعية، واذا كانت المسكنة ملازمة للذين يكذبون بآيات الله، فان حال الذين يؤمنون بها تحتمل وجوهاً:
الأول: البرزخ بين المسكنة والعز.
الثاني: النجاة من المسكنة، والسلامة من الذل.
الثالث: نيل مراتب العز بالإيمان.
الرابع: تعليق نيل مراتب العز على صفات وشرائط أخرى لابد من توفرها بالمؤمن.
والصحيح هو الثالث، فكما ان الكفر سبب للصوق المسكنة بصاحبه، فان ضده وهو الإيمان علة لنيل مراتب العز والرفعة، وبه جاءت الآيات القرآنية قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وجاءت الآية بلفظ [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] وفيه إعجاز من وجوه:
الأول: الإخبار عن تعدد صدور الكفر منهم، ولو قالت الآية “ذلك بانهم كفروا” لأحتمل صدور الكفر منهم على نحو المرة الواحدة ومع ورود لفظ “كفروا” مائة وأربع وتسعين مرة في القرآن فليس فيها مرة واحدة بلفظ “ذلك بأنهم كفروا” مع ان الكثير منها جاء بصيغة الإنذار والوعيد.
الثاني: أراد الله عز وجل ان يبين إقامة تمام الحجة على الكافرين وإستحقاقهم نزول السخط الإلهي بهم، وضربهم بالذلة والمسكنة لإقامتهم على المعاصي وإصرارهم على الجحود.
الثالث: سبق الكفر منهم على نزول الغضب الإلهي والمسكنة، لذا ورد في الحديث القدسي “سبقت رحمتي غضبي”، فلم يأتِ الغضب الإلهي الا بعد حدوث الكفر منهم.
الرابع: إخبار المسلمين عن حقيقة وهي عدم إنحصار كفر الكافرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، بل أتخذوا الكفر رداء وصبغة لهم، فهم يكفرون بآيات النبوة والتنزيل.
قانون “ذلك بأنهم كانوا يكفرون”
جاء القرآن تبياناً لكل شيء، ففيه الأحكام الشرعية وما يجب على المكلف فعله ، وما عليه اجتنابه والإبتعاد عنه ، وفيه قصص الأمم السابقة وأحوال الناس ، مع ذكر المائز في مراتبهم ودرجة كل واحد او فرقة منهم وهو الإيمان بالآيات ، ولموضوعية الإيمان في حياة الإنسان في الدنيا ومقامه في الآخرة، ولأن فضل الله عز وجل على الناس من اللامنتهي، ملأ الله الحياة الدنيا بالآيات والبراهين وجعل كل آية دليلاً على ربوبيته وشاهداً على عظيم قدرته وسلطانه، ثم تفضل سبحانه وبعث الأنبياء الى الناس مبشرين ومنذرين، وجاء كل نبي معه بالآيات والمعجزات التي تدل على صدق نبوته ليستجيب الناس لدعوته لعبادة الله عز وجل ونبذ الكفر فاتبعهم شطر من الناس، واصر آخرون على الكفر والجحود وأعرضوا عن الآيات الأصلية كآيات الآفاق وآيات خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض، وواجهوا الآيات التي جاء بها الأنبياء بالتكذيب والجحود.
وهل تكفي آيات الآفاق للإيمان الجواب نعم خصوصاً وان الله عز وجل جعل عند الإنسان العقل حجة وآية ورسولاً باطنياً، ومع هذا تفضل سبحانه بآيات النبوة والتنزيل ومن الآيات ان كل فرد منهما أي النبوة والتنزيل على وجوه:
الأول: التعدد والكثرة، فتفضل الله سبحانه وبعث أربعة وعشرين ومائة ألف نبي في فترات متعاقبة من حياة الناس في الأرض.
الثاني: جاء كل نبي بالمعجزة التي تؤكد نبوته، وصدق ما يخبر عنه من الوحي والتنزيل.
الثالث: إعانة كل من النبوة والتنزيل الإنسان للقيام بوظائفه التي وجد في الأرض من أجلها، وخلقه الله عز وجل لها وهي عبادة الله قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابع: تعدد الآيات في كل فرد من أفراد النبوة والتنزيل، وهو من أسرار ورود الآية بصيغة الجمع في لفظ “آيات الله”.
الخامس: وجود الآيات وعدم مغادرتها الأرض، سواء الآيات الكونية أو آيات النبوة والتنزيل، لذا يجب الإيمان بالأنبياء والكتب السماوية المنزلة ويكون هذا الإيمان على نحو العموم المجموعي والإستغراقي الشامل لها جميعاً.
ومع تجلي الآيات والبراهين والحجج القاطعة التي تدل على وجود الصانع، والإيمان بربوبيته ولزوم عبادته، والتصديق بأنبيائه ورسله فان الكافرين أصروا على الجحود والعناد، فجاءت هذه الآية لتكون وثيقة سماوية وشاهداً ملكوتياً يؤكد قبح فعلهم، وما في إختيار الكفر بالآيات من الضرر على الذات والغير، اما الضرر على الذات فهو شامل لأحوال الكافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وليس من ضرر أكبر من لصوق الذلة والمسكنة بالإنسان ومكثه في سخط الله.
واما الضرر على الغير فهو إيذاء المسلمين، وصد الناس عن سبيل الله، والجناية على الذرية بوراثة الكفر والجحود الا من هداه الله للإيمان، وجاءت هذه الآية لتبين لذراري أهل الكتاب والناس جميعاً ضرورة الإيمان، وقبح الكفر والجحود وسوء عاقبة محاربة المسلمين، والتعدي على ثغورهم وحرماتهم.
وتبين قانوناً ثابتاً وهو ان الكفر ظلم وكبيرة لا تترك، وتخبر عن ابتلاء الكفار بالأذى والضرر والعقاب الإبتدائي في الدنيا، وهذا العقاب عون وتخفيف عن المسلمين ومقدمة لإحرازهم النصر والظفر بالعدو، فأخبرت الآية الكريمة عن حلول غضب الله بالكفار على نحو العموم الإستغراقي وشعورهم بالمسكنة مجتمعين ومتفرقين، مما يسهل هزيمتهم في المعركة، وافتقارهم لمقومات الثبات في النزال ، وما يحتاجه من الصبر والغاية الحميدة التي هي مفقودة عند الكفار ، لأن محاربة الإسلام والمسلمين والإصرار على الكفر من الأخلاق المذمومة، والأفعال القبيحة شرعاً وعقلاً.
ومن إعجاز الآية انها ذكرت الكفر بالآيات كسبب لنزول غضب الله والمسكنة والذل بالكفار، وفيه دلالة على ان الله عز وجل لا يظلم العباد، وان الأصل في الإنسان ان يكون في عز ورفعة، ويترشح العز من العبودية لله تعالى،والإقرار بربوبيته وهو واجب ، وعندما يبتعد الكافر عن قيم ومفاهيم العبودية لله تعالى تلتصق به الذلة، وتلازمه المسكنة، ويحل به غضب الله.
ان تعدد الآيات الذي يتجلى بصيغة الجمع [يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] حجة على الكافرين، وظاهر الآية يؤكد اصرارهم على الكفر فتأتي الآية فيكفرون بها، ثم تأتي الثانية والثالثة وليس من حصر لآيات الله ومع هذا فان الكفار مقيمون على الكفر، لا يريدون مغادرة منازله مع ما فيه من الأذى والضرر عليهم في الدنيا والآخرة، وتؤكد الآية على حقيقة وهي ان الذين يكفرون بآيات الله يلقون البلاء وينزل بهم السخط الإلهي في الدنيا ويحرمون أنفسهم من الرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة، لأن الرحمة والغضب الإلهيين من النقيضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد، فمن يمكث في الغضب الإلهي يحجب عن نفسه الرحمة وأسباب المغفرة والعفو الإلهي، ويمنع عنها الشفاعة.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] مرتين في القرآن فجاء في هذه الآية بخصوص الفاسقين من أهل الكتاب والكفار الذين يسعون للإضرار بالمسلمين، ويعدون العدة أحياناً لقتال المسلمين من غير تعيين لأهل ملة او أمة معينة، وورد في الآية الحادية والستين من سورة البقرة بخصوص بني اسرائيل حينما لم يكتفوا بالمن والسلوى الذي ينزل عليهم من السماء، فسألوا موسى عليه السلام ان يسأل الله عز وجل من الخضروات من البقل الذي ليس له ساق، والقثاء أي الخيار، والفوم أي الحنطة والخبز، وذكر ان المراد منه الحبوب التي تخبر ومنها الشعير والذرة.
وورد لفظ يكفرون أربع عشرة مرة في القرآن، تتعلق كلها بالجحود بآيات الله ونعمه، والإصرار على الكفر والإعراض عن الدعوة الى الله تعالى.
وجاء في الذين يفترون على الكذب قوله تعالى [مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ] ( )، وهذا المتاع لا يتعارض مع الإبتلاء بالذل والمسكنة ونزول الغضب الإلهي بالكفار في الحياة الدنيا، لأن المتاع جهتي، وأمر ظاهري ، ولا يكون برزخاً ومانعاً من الأذى والضرر النفسي والكدورة الظلمانية واكتئاب الكافر لإدراكه سوء اختياره وما ينتظره من العذاب الأليم، لذا فان هذه الآيات تتضمن الوعيد والتخويف بالعذاب لمن يصر على البقاء في منازل الكفر قال تعالى [لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ]( ).
ومن الآيات ان يأتي لفظ “تكفرون” أربع عشرة مرة في القرآن ايضاً في خطاب توبيخ وتقبيح للكفار وبيان للحجة عليهم، وجاءت اربع مرات منه في سورة آل عمران وحدها، ومرتين في سورة البقرة، ومرة واحدة في ثمان سور أخرى، بينما جاء لفظ “يكفرون” مرتين في كل من سورة البقرة وآل عمران ويونس، مما يدل على تضمن سورة آل عمران صيغة الوعيد والتخويف للكافرين والفاسقين.
قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ]
هذا الشطر من الآية معطوف على الشطر الذي قبله، وهو الكفر بآيات الله في ذم الكافرين وبيان علة حلول غضب الله عليهم، وقد تقدم ذكر الكفر بالآيات على قتل الأنبياء وفيه وجوه:
الأول: الكفر بالآيات أعم، وهم سور السالبة الكلية الشامل لكل الكفار وبينه وبين قتل الأنبياء عموم وخصوص مطلق، فكل من شارك في قتل نبي هو كافر وليس العكس، وهناك كفار ورؤوس للكفر لم يشاركوا في قتل الأنبياء.
الثاني: الكفر بالآيات متقدم زماناً على قتل الأنبياء فلا يحصل التعدي على الأنبياء والنبوة من الفرد أو الجماعة الا بعد الكفر بآيات الله.
الثالث: يحصل الكفر في كل زمان ، أما قتل الأنبياء فلا يحدث الا عندما يكون النبي موجوداً ويدعو الناس الى الله، وليس كل نبي من الأنبياء السابقين تعرض للقتل، فمن الأنبياء من مات في فراشه مثل موسى وهارون عليهما السلام، وقد رفع الله عز وجل عيسى عليه السلام اليه وان همَّ الكفار بقتله، قال تعالى [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ]( ).
الرابع: النبوة آية من آيات الله، وكل نبي هو آية من عند الله تعالى، وتأتي الآيات والمعجزات على يديه فضلاً من عند الله، وتكذيب أي نبي من الأنبياء هو كفر بآيات الله.
وأيهما أشد الكفر بآيات الله أم قتل الأنبياء، الجواب هو الثاني بإعتباره كفراً بالآيات وجناية على الأنبياء والتنزيل والناس ، إذ قتلوا الأنبياء الذين يدعونهم الى الإيمان والتصديق بالآيات.
وجاءت الآية في ذم الكفار أيام البعثة النبوية وذكرت قتل آبائهم للأنبياء من بين افراد علة نزول الغضب الإلهي بهم، وإحاطتهم بالذل والمسكنة وفيه وجوه:
الأول: رضا الأبناء بما فعله الآباء من التعدي وقتل الأنبياء، فجاء في ضرب المسكنة على السابق واللاحق من الكفار.
الثاني: إصرار المتأخر منهم على البقاء على نهج أسلافهم، ومن أفراد نهجهم وفعلهم قتل الأنبياء والتعدي على الحرمات.
الثالث: عندما قام الكفار بقتل الأنبياء ضربت المسكنة عليهم وباءوا بغضب من الله عزوجل، وظلت هذه المسكنة والمكث في غضب الله في الذراري والأولاد منهم، ولن يتخلصوا منه الا بالإسلام سواء كانوا راضين عنه أم لا، اذ ان الحكم الشرعي يقتضي التبرأ من قتل الأنبياء وما فيه من القبح الذاتي والعرضي، وينحصر التبرأ منه بدخول الإسلام فيكون قتل النبي سبباً لتنزه وباءة أهل الأرض ممن قام به، وشاهداً على اهلية الإنسان للتدارك ونبذ الكفر والجحود.
الرابع: قيام نفر من أهل الكتاب بمحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودس السم له فصدق على النفر الذين فعلوه انهم يقتلون الأنبياء بعد حصول التلبس بالفعل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية وفيها دليل على إعجازه وما تتضمنه من بيان اتحاد سنخية الكفار، والتشابه بين المتقدم والمتأخر منهم وسيلة للهداية والرشاد، وإخبار عن استحقاق الكفار المكث في غضب الله.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد القطع من وجوه:
الأول: إخبارها عن الزمن الماضي بقرينة مركبة من وجهين:
الأول: مجيء الفعل (كان) في الآية، وعطف قتلهم الأنبياء على كفرهم بالآيات.
الثاني: انقطاع النبوة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: مجيء الآية بصيغة الجمع “الأنبياء” ولم يبعث الأنبياء في زمان واحد، بل كانت أيامهم متعاقبة مما يدل على ان الذين قتلوهم امة تتوارث الفسوق وتصر على الإستكبار، وان الموجودين في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذات السنخية، ولكن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين، وجعل ضرره الكفار لا يصل الى المسلمين الا على نحو الأذى المحدود، وهو فضل من الله عز وجل على خير أمة أخرجت للناس وشاهد على اللطف الإلهي بالمسلمين على نحو الخصوص.
الثالث: ضرب المسكنة على الكفار ضرورة لجعلهم عاجزين عن الوصول الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى أن يتم رسالته، ويتلقى القرآن كاملاً من عند الله، ولأهمية حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين، واعداد خير أمة واصلاح الصحابة وأهل البيت لقيادة الأمة نحو سبل النجاح والفلاح.
وهل كان قتل النبي يتم قبل النبوة او بعدها، واذا كان بعدها فهل حصل القتل قبل التبليغ ام بعده، والجواب ان الأنبياء لم يقتلوا الا بعد نزول الوحي عليهم ومجيئهم بالمعجزات فبعد ان ثبتت نبوتهم قام الظالمون بقتلهم، وهو من عمومات القيد الوارد في الآية بان قتلهم “بغير حق” .
وجاء ذكر الأنبياء بصيغة الجمع مما يدل على ان القتل لم يتم اتفاقاً وصدفة او انه صدر على نحو القضية الشخصية، بل هو فعل متكرر، وحدث على نحو التعدد وجاءت الآية لفضح الكفار، ولتكون حجة عليهم، ودليلاً على ابتعادهم عن سنن الإيمان التي تتقوم بإكرام الأنبياء في أشخاصهم وشرائعهم.
ومن إعجاز الآية انها ذكرت كفر الفاسقين بالآيات وعطفت عليه قتلهم الأنبياء، كي لا يدعي احفادهم ان آباءهم حفظوا سنن وشرائع الأنبياء وان قام فريق منهم بقتلهم، لأن الإخبار عن الكفر بالآيات وقتل الأنبياء بمعنى الإستدامة، مما ينفي حفظهم للشرائع حتى على سبيل التدارك والندم، وهذا لا يمنع من وجود أمة منهم ثابتة على التوحيد، وحفظ النبوة وسننها لذا أخبرت الآية عن وجود مؤمنين بين أهل الكتاب بقوله تعالى في الآية السابقة [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ].
والقرآن تبيان لكل شيء، وكل آية منه بيان وكشف وإخبار عن قوانين وحقائق ودلالات ذات صبغة شرعية او عقائدية أو إجتماعية او تأريخية أو أخلاقية، مع التداخل بينها في الآية الواحدة فضلاً من عند الله، ووجهاً من وجوه إحاطة القرآن باللامتناهي من الأحداث والوقائع، وجاءت هذه الآية لكشف أمور عديدة هي:
الأول: ضرب الذلة على الكفار والفاسقين.
الثاني: الإطلاق المكاني لحلول الذلة بالكفار وعدم إنحصاره ببلد أو موضع دون آخر.
الثالث: إستثناء الكفار الذين لهم عهد وذمام من لصوق الذلة بهم مدة العهد والميثاق والذمة وبلحاظ تعاهدهم له وحفظهم وتقيدهم بشرائطه.
الرابع: تعدد مصاديق العهد والميثاق، فمنه ما يأتي من السماء رحمة من الله بالناس، وامهالاً لهم، ومنه ما يعقد مع المسلمين لرجحان العهد ومصلحة المسلمين.
الخامس: مكوث الكافرين الدائم في غضب الله مما يعني حرمانهم من أسباب التوفيق والفلاح.
السادس: إخبار الآية عن عدم رضا الله تعالى على الكافرين بسبب جحودهم وإصرارهم على المعاصي، وتدل الآية في مفهومها على لزوم حرص الفرد والجماعة على إحراز رضا الله وإجتناب سخطه والمكث في غضبه، ويتجلى الأمن من غضب الله بالإيمان والتصديق بالنبوة وما جاء به الأنبياء من الوحي والتنزيل.
السابع: تعدد وجوه البلاء على الكافرين في الدنيا، مما يدل على سوء عاقبتهم في الآخرة، فمع الذلة والمكث في غضب الله جعل الله عز وجل المسكنة والهوان ملاصقاً لهم في حياتهم.
ومن خصائص المسكنة ضعف الهمة، وقلة الحيلة، وانعدام الوحدة والأخوة بين الكفار، وظهور أسباب الفرقة والنفرة والشك فيما بينهم، بينما جاءت هذه الآيات بالأمر الإلهي للمسلمين بالإعتصام بحبل الله وتعاهد الأخوة الإيمانية واجتناب الفرقة والتشتت.
الثامن: بيان أسباب حلول الذلة والمسكنة بالكفار، ولبثهم في غضب الله، وجاء ذكر الأسباب على نحو التفصيل المانع من الجهالة والغرر، لتكون مدرسة للإصلاح، وموعظة وإعتباراً ودعوة للناس للنجاة من البلاء والعذاب وسوء العاقبة بإجتناب الكفر وما يترشح عنه من قبيح القول والفعل ، ومنه الظلم والتعدي ومحاربة الإسلام والمسلمين، فذكرت الآية أسباب مكث الكفار في الغضب الإلهي، والنقمة وسلب النعمة، وملازمة المسكنة والذل لهم وهذه الأسباب على وجوه:
الأول: الكفر والجحود بآيات الله، وعدم التصديق بالأنبياء أو شطر منهم، فمن شرائط العبودية لله تعالى التصديق بالأنبياء جميعاً ، ولا يصح التصديق بالنبي السابق وتكذيب اللاحق.
الثاني: قتل الكفار للأنبياء الذين أكرمهم الله بالوحي، وجعلهم رسله الى الناس جميعاً، وأصلحهم للإمامة، وعصمهم من الذنوب.
الثالث: تقييد هذا القتل بكونه ظلماً محضاً، وبغير حق.
الرابع: إصرار الكفار على المعصية وعدم لجوئهم الى التوبة والإنابة.
الخامس: قيام الكفار بالتعدي على الحرمات، ومن إعجاز الآية انها ذكرت قبح إعتقاد الكفار، وسوء قولهم وفعلهم، وإجتماع خصال المنكر عندهم وإختيارهم منازل الرذيلة ، فجاءت المسكنة لتلازمهم وتمنعهم من مواصلة التعدي في زمن خاتم النبوة، لأن الله عز وجل أراد للإسلام الدوام والسيادة في الأرض، وإمامة الناس نحو مسالك الهدى والفوز بالنعيم الأخروي.
وجاءت الآية بالألف واللام في “الأنبياء” وفيه وجوه:
الأول: إفادة العهد، وإرادة أنبياء مخصوصين، يعلم المسلمون ان الكفار قتلوهم سواء من آيات القرآن الأخرى، او بواسطة السنة النبوية، أو أنه مسطور في الكتب السابقة ، أو بإقرار الكفار أنفسهم.
الثاني: إرادة العموم الإستغراقي لكل الأنبياء والذي تأتي “كل” بدلاً عنه، والتقدير قتلهم كل الأنبياء.
الثالث: انصراف اللفظ الى عدد إجمالي غير معلوم من الأنبياء قتلهم الكفار والمشركون.
الرابع: حمل اللفظ على المجاز وإرادة إيذاء الأنبياء وعدم التصديق بهم، وتضييع ما جاءوا به من عند الله، والتفريط بأوامر وأحكام وسنن النبوة.
الخامس: قتل جماعة منهم للأنبياء ، فجاء الذم للكفار وإفادة معنى العموم في قتل الأنبياء لأنهم لم يقتلوا الجماعة منهم الا بلحاظ كونهم أنبياء فكأن الكفار قتلوا الأنبياء جميعاَ ، كما في قوله تعالى [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
السادس: إرادة قتل عدد من الأنبياء، وتدل الألف واللام على الجمع والإخبار عن تكرار التعدي، وقيام الكفار بقتل أنبياء عديدين والصحيح هو الخامس والسادس فان الكفار قتلوا عدداً من الأنبياء وليس جميعهم وهذا القتل لم يكن على أمور شخصية وخلافات على منافع دنيوية، بل قتلوهم لأنهم يدعون الناس الى الله، ويجتهدون في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وتنزيه الناس من الأخلاق المذمومة ولكن الكفار خافوا على منازلهم في الدنيا، وأبوا الإمتثال للأوامر الإلهية وما فيها من وجوب العبادة والتسليم بالربوبية لله تعالى، وبدل القيام بإتباع الأنبياء، انقضوا عليهم وقتلوهم ، ويحتمل هذا القتل وجوهاً:
الأول: مباشرة القتل باليد والسلاح ودس السم.
الثاني: قيام فرد واحد بقتل النبي.
الثالث: قيام جماعة من الكفار بقتل النبي.
الرابع: التحريض على قتل الأنبياء بإذاعة أخبارهم، وإفشاء ما عندهم من أسرار الوحي، ومضامين دعوتهم، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام انه قال: ما قتلوهم بايديهم ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأُخذوا عليها وصار قتلاً واعتداء ومعصية.
الخامس: إحتمال حصول معركة بين النبي وإصحابه وبين الكفار، وقتل بعض الأنبياء في ساحة المعركة ، ولا دليل على ما قال الحسن البصري بان الأنبياء لم يقتلوا في ساحة المعركة، وعدم الإيجاد أعم من عدم الوجود.
السادس: المكر والكيد بالنبي بعد إظهاره للمعجزات، وعدم تفريطه باي حكم من الأحكام الشرعية.
وجاء هذا الشطر من الآية في ذم الكفار وبيان تماديهم في الغي، وفعلهم أشد القبائح، وهو معطوف على قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]، وتقدير هذا الشطر من الآية “وذلك بانهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق” لبيان الإخبار السماوي عن علة رميهم بالمسكنة، ومكثهم الدائم في الغضب الإلهي .
وقد تقدم الكفر بآيات الله على قتل الأنبياء وفيه وجوه:
الأول: انه من عطف الخاص على العام، لأن كل نبي آية من آيات الله.
الثاني: قتل الأنبياء أكبر من الكفر بالآيات فقد يكون الكفر بالجحود وتكذيب الآيات وعدم التصديق بالنبوة، ولكن قتل الأنبياء موضوع مستقل أكثر قبحاً من الكفر، فلذا جاء إفراده في الآية ببيان سوء عاقبة التمادي في الكفر، وما يؤدي اليه من التعدي والظلم للنفس والغير، فالكفار يجحدون بالآيات والنبي يواصل وظيفته في التبليغ، ويلح عليهم في الدعوة الى الإسلام والإيمان بالله والملائكة والنبيين واليوم الآخر، ويامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويبين لهم ما يجب عليهم من الصلاة والصوم والزكاة والمناسك، وهم منقطعون الى الدنيا مفتونون بزينتها، مصرون على الكفر والضلالة، فيقومون بقتل النبي ظناً منهم بأن الدعوة الى الله ستنقطع او تخفت ولكنها تزداد بقتله، ويسري الإيمان في منتدياتهم وبيوتهم.
الثالث :يبعث الله عز وجل النبي تلو النبي لإيان بالآيات ، وإحياء الدين، وإستدامة التبليغ، ومنع سطوة الكفار والمشركين، ولقد هموا بقتل عيسى عليه السلام مع عظم البينات وتجلي الآيات التي جاء بها وظنوا انهم قتلوه ولكن الله عز وجل رفعه اليه، ليبعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعده رحمة للعالمين ويكون في حرز وواقية من الكفار وكيدهم الى أن أتم رسالته، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
وهذه العصمة والأمن والسلامة من الناس شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ، وبيان لحاجة الناس لنبوته وآية تدل على صدقه ولزوم إتباعه.
السابع: هل يحتمل إرادة قتل أصحاب وأتباع الأنبياء، من قبل الكفار، فأعتبر قتلاً للأنبياء أنفسهم لأنهم لم يقتلوا إلا على إيمانهم وتصديقهم بالأنبياء الجواب لا، بل تفيد الآية الإخبار عن حصول قتل الكفار للأنبياء بالذات، نعم تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على بطش الكفار بالمؤمنين سواء قبل او بعد قتل النبي، وفي التأريخ الإسلامي شواهد على قيام الكفار بقتل نفر من المسلمين من الرجال والنساء في بداية الدعوة الإسلامية، كما في قتل قريش لياسر وسمية والدي الصحابي عمار بن ياسر.
الثامن: جاءت الآية بصيغة الجمع سواء في طرف القاتل وهم الكفار، او المقتول وهم الأنبياء ، ومن المعروف ان الأنبياء لم يبعثوا في زمان او مكان واحد، بل جاءوا على نحو التعاقب الزماني والتعدد المكاني، ولا يضر بهذه القاعدة وجود أكثر من نبي في زمان أو بلد واحد أحياناً، ويدل قيام الكفار بقتل الأنبياء مع تعاقبهم على ان التعدي على النبوة والبطش بالأنبياء سنخية ثابتة عند الكفار، وانهم جميعاً لا يترددون في التعدي على الحرمات وقتل الأنبياء، فلذا جاء الذم في الآية مطلقا، وشاملاً للكفار أيام تنزيل القرآن وما بعده، مع ان النبوة اختتمت بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدل الآية على ان الذلة والمسكنة على الفاسقين أمران من عند الله تعالى، ولو بخصوص هذه العصمة، وهذا لا يمنع من ظهور أسبابهما في الوراثة والإقتباس من البيئة لقاعدة السبب والمسبب.
كما تدل الآية في مفهومها على سلامة المسلمين من الذلة والمسكنة، اما سلامتهم من الذلة فلورود آيات عديدة تخبر عن نيلهم مراتب العز والرفعة فضلاً من عند الله عز وجل ، قال سبحانه [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، والعزة نقيض الذلة ، وأما المسكنة فان علتها هي الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقد تلقى المسلمون آيات الله بالقبول والتصديق ، وأقروا بالآيات الكونية وانها من بديع صنع الله عز وجل، وقالموا بالتصديق بجميع الأنبياء، وأتبعوا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ودافعوا عنه.
وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ست وعشرين غزوة ، ومن حوله المسلمون يقاتلون بين يديه، وليس من نبي من الأنبياء قام بالغزو في سبيل الله ومعه أصحابه بعد غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه إمامته صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء وتفضيل المسلمين على الموحدين وإتباع الأنبياء من الأمم الأخرى.

قانون مسكنة الكافر حاجة
جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، ولا تنحصر حاجته في موضوع دون آخر، ولا في زمان أو مكان دون غيره، بل هي ملازمة له في جميع آنات حياته، وتتعدد وجوه حاجة الإنسان ، ومنها ما يكون بخصوص البدن او الرزق او السلامة والأمن، ومن الآيات عدم انحصار حاجته بالذات بل يكون محتاجاً من أجل غيره، كما في حاجة الأم والأب بخصوص ولدهما ودفع البلاء والهلاك عنه، ومن الآيات ان الحاجة شاملة للفرد والجماعة، فيحتاج الفرد الجماعة ، وتحتاج الجماعة غيرها، وان كثر أفرادها وكانوا أمة أو أهل ملة، فيحتاجون غيرهم، ولا تتقوم استدامة جماعتهم الا بعون وإستعانة بالغير ، والأسباب التي تؤدي الى توفير حاجات الفرد والجماعة.
سواء كانت الجماعة والأمة من أهل الإيمان، او كانوا من الكفار لأن الإنسان كائن محتاج، والحاجة ملازمة للإمكان ومن آيات خلق الإنسان ان جعل الله الإنسان محتاجاً، لأن الحاجة وسيلة لرجاء رحمة الله، ومقدمة للجوء الى الله تعالى والإمتثال لأوامره والإقرار بالعبودية والخشوع له سبحانه، وحاجة الإنسان الى الله تعالى من اللامنتهي، وليس لها حد بل هي متجددة ومتصلة، وتشمل العوالم الثلاثة:
الأول: الحياة الدنيا من حين انعقاد النطفة والحمل ساعة الوضع وأيام الرضاعة والحضانة والصبا والبلوغ والكهولة والشيخوخة، والى ساعة الأجل.
الثاني: عالم القبر وأيام البرزخ الى حين البعث.
الثالث: يوم النشور وعالم الحساب والجزاء.
وتتداخل مضامين الحاجة للفرد الواحد في العوالم الثلاثة بحسب ماهية فعله في الحياة الدنيا، فمن يختار الإيمان يحصد السعادة والغبطة فيها، ومن يرتكب المعاصي والآثام ويصر على الكفر والجحود يجد الشقاوة والعذاب فيها.
ومن الآيات ان تكون الحياة الدنيا دار إدخار للحسنات، وبناء صرح الخلود في جنة الخلد لأهل الإيمان، وجاءت هذه الآية لتخفف عنهم وعن الناس جميعاً في الحياة الدنيا بضرب المسكنة على الكفار من وجوه:
الأول: ضرب المسكنة على الكفار عون للمسلمين في عباداتهم، وانقطاعهم الى الله تعالى، وتخفيف عنهم في القتال والمعاملات، اما في القتال فللمسكنة آثار متعددة منها:
الأول: تردد الكفار في مقاتلة المسلمين لذا جاءت الآية السابقة بالإخبار عن قتالهم للمسلمين بصيغة الشرط [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ].
الثاني: ترشح الخوف والفزع عن حال المسكنة.
الثالث: عدم القدرة على مواصلة الكفار القتال.
الرابع: انعدام التعاون وفقدان التعاضد بين الكفار، وقد مدح الله المسلمين في قتالهم بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
الثاني: المسكنة عون للكفار انفسهم لأنها تجعلهم يشعرون باضرار الكفر التي تصاحبه وتترشح عنه في الحال، وهي دعوة لهم للإقلاع عن الكفر، والكف عن إيذاء المسلمين وإدراك حقيقة وهي عجزهم عن التأثير على الإسلام والمسلمين، وان الأذى الذي يسببونه للمسلمين سبب لمنعة الإسلام وقوة المسلمين.
الثالث: التصاق المسكنة بالذين يعتدون على المسلمين دعوة للناس جميعاً للإيمان، بإعتبارها آية إعجازية تدل على سلامة نهج المسلمين، والمدد الغيبي الذي يصاحبهم في الدنيا، وفيه حث للناس على اجتناب التعدي على المسلمين، ومتى ما حرص الناس على الإمتناع عن ايذاء المسلمين فأنهم يتوجهون الى التدبر في آيات القرآن والصلة بينها وبين الآيات الكونية ودلالة كل واحدة منها على الأخرى في اتحاد جهة الصدور.
ان ضرب المسكنة على الكفار رحمة بهم وبالناس جميعاً ومدرسة في الإرادة التكوينية وشاهد على ان الله عز وجل يصلح ا لإنسان في كل زمان لخلافة الأرض، فعندما سأل الملائكة عن جعل الإنسان خليفة في الأرض جاء الجواب من الله تعالى بانه سبحانه يعلم ما لا يعلمه الملائكة.
وضرب المسكنة على الكفار من مصاديق علمه تعالى بما يفعله الإنسان، وما يحتاجه لتستديم خلافته في الأرض بتعاهد الفرائض وأداء العبادات، مع إدراك كل إنسان الحاجة الى العبادة وتوارث كلمة التوحيد.
ويمنع إستحواذ الكفر على النفوس وشؤون الحكم وأسباب القوة من تجلي هذه الحاجة أمام الأبصار وعند أرباب العقول، فجاء ضرب المسكنة والذلة على الكفار ليكون مقدمة لإستدامة الصلاح في الأرض، وحصانة للمسلمين وعزاً لأهل الإيمان، وآية حاضرة يرونها في عدوهم ليزدادوا إيماناً.
قانون مسكنة الكفار أمن للمسلمين
جاء ضرب المسكنة على الكفار على نحو السالبة الكلية، ليتغشاهم جميعاً على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، فتلتصق بهم المسكنة والذلة في منتدياتهم وعند إرادتهم المكر والكيد، فصحيح ان حلول المسكنة بالكفار عقوبة عاجلة لهم الا انها تتضمن النفع العظيم للمسلمين لما فيها من أسباب الإحتراز من تعدي الكفار ، وأفراد الوقاية للإسلام والمسلمين من الكيد مركبة من وجوه:
الأول: الحصانة الإلهية للمسلمين، والمدد الملكوتي لحفظهم وسلامتهم من الفتن.
الثاني: حلول المسكنة والذل بالكفار والفاسقين الذي يعتدون على الإسلام والمسلمين.
الثالث: اتعاظ الناس مما يصيب الذين يعتدون على الإسلام، واجتنابهم إيذاء المسلمين في عباداتهم وأموالهم وأمصارهم.
وتدل الآية على العناية الإلهية بالمسلمين، وما يلقونه من اللطف الإلهي بضرب عدوهم بصنوف البلاء، اذ تأتي المسكنة للكفار على وجوه:
الأول: بالذات والأصل، فيكون تلبسهم بالمسكنة من غير سبب ظاهر.
الثاني: تأتي المسكنة أثراً ونتيجة لحال وفعل، فتترتب مثلاً عن الهزيمة أمام المسلمين، وتكون عرضاً مصاحباً للفقر والعوز، وفقد الحكم والسلطان.
الثالث: توارث المسكنة وصيرورتها ميراثاً عند الكفار والفاسقين.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة والشأن في الحياة الدنيا والآخرة، ومن خصائص الدنيا انها دار امتحان وإختبار، ويؤكد ضرب الكفار بالمسكنة حقيقة وقانوناً ثابتاً وهو التخفيف عن المسلمين في مصاديق الإختبار والإمتحان ليسهل عليهم أداء العبادات وتعاهد أحكام الشريعة، وإستدامة الحفاظ على الأخوة الإيمانية، وبقاء دولة الإسلام في منعة وقوة.
ان قوة أو ضعف العدو أمر يؤثر سلباً أو إيجاباً على الأمة والجماعة، فكلما كان العدو قوياً متربصاً يخشى وثوبه في كل آن يكثر إنشغال الأمة وأولي الحل والعقد بأمره وأخذ الحائطة لصده ومواجهته، أما اذا كان العدو ضعيفاً أو ليس من عدو في البين فان الأمة تتقدم في البناء، وتزدهر العلوم اذا لم يكن في البين مانع آخر.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن ضعف ووهن عدو المسلمين وفيه إعجاز من وجوه:
الأول: إخبار القرآن عن حال الكفار والفاسقين وما يصاحبهم من المسكنة والذل.
الثاني: تحدي الكفار بتبكيتهم وتقبيح فعلهم، وعجزهم عن نفي حال المسكنة التي هم فيها وعدم قدرتهم على طردها او التخلص منها.
الثالث: جعل مضامين هذه الآية موضوعاً في إستقراء الحوادث والوقائع والمعاملة مع الكفار، وإستحضار ضعفهم وما أصابهم من الذل في معرفة عواقب الأمور.
الرابع: الآية مقدمة لزحف سرايا المسلمين في الدفاع عن الإسلام والفتح.
الخامس: تدل الآية في مفهومها على إنعدام حال المسكنة والذل عند المسلمين لإنتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو الكفر، اذ ان المسكنة مصاحبة للكفر والجحود، فكما يأتي الأمن للمسلمين من رمي عدوهم بالذلة والمسكنة فانه يأتي بالأصالة والذات ويترشح عما رزقهم الله عز وجل من حال العز والرفعة في الدنيا والآخرة، فيكون الأمن مصاحباً للمسلمين مجتمعين ومتفرقين لا يخشون احداً، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
ومن وجوه تفضيل المسلمين تفشي الأمن لهم في حياتهم الدنيا وفي الآخرة وهذا الأمن وعاء ووسيلة لإتيان الفرائض والعبادات، وسلاح لنشر مبادئ الإسلام والأخلاق الحميدة بين الناس، ودعوتهم الى الإيمان ونبذ الأخلاق المذمومة، وأسباب الضلالة والغواية وما يتفرع عنها من الظلم والتعدي وإرتكاب المعاصي.
ومن مصاديق الأمن للمسلمين بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار بالتخويف والوعيد الدنيوي والأخروي، أما الأخروي فجاءت الآيات بالإخبار عن سوء عاقبة الكفار ولبثهم المستديم في نار جهنم، وأما الدنيوي فيتجلى في هذه الآية وما فيها من لغة الإنذار والإخبار عن قبح حال الكفار وما هم فيه من الذل والمسكنة، وفي آيات أخرى ، منها قوله تعالى [أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ]( ).
بالإضافة الى الشواهد والحوادث التي تترشح عما عليه الكفار من الذلة والمسكنة، والتي تزيد من ترسيخ المسكنة في نفوسهم ومجتمعاتهم وتجعلهم ينفرون من الكفر والإصرار على المعصية، لذا تجد شطراً منهم وفي كل زمان ينتقلون الى منازل الهداية والإيمان بالإنتماء للإسلام، ليتبوءوا بدخول الإسلام مقاعد العز والرفعة، ويكونوا عوناً في تثبيت دعائم الأمن للمسلمين والناس جميعاً، ولا يصدر التعدي والظلم من المسلمين لتقيدهم بأحكام الشريعة السماوية وسنن القرآن ومضامين السنة النبوية.
قانون مسكنة الكفار واقية للنبي
من الآيات ان تذكر هذه الآية قتل الكفار والفاسقين لأنبياء الله، وتخبر عن كونه جزء علة في ضرب الذلة والمسكنة الكفار، وهي حجة عليهم ووثيقة سماوية تثبت قبح فعلهم وظلمهم لأنفسهم وتجرأهم وقتلهم لأفضل وأشرف الناس، الذين جاءوا لإنقاذهم في النشأتين ولحوق الخزي والذل بهم الى يوم القيامة، وبعثة كل نبي نعمة على اهل الأرض جميعاً، من وجوه:
الأول: الذين عاصروا النبي، وإتفق زمانهم مع بعثته من سمع منه او بلغه نبأ بعثته.
الثاني: المؤمنون الذين سبقوا النبي في زمانهم ولم يدركوه ، فهؤلاء يترشح عليهم النفع من وجوه:
الأول: إيمانهم بالنبوة والأنبياء على نحو العموم الإستغراقي.
الثاني: نقلهم البشارات بالرسول اللاحق.
الثالث: حثهم أولادهم وغيرهم على التصديق بالأنبياء وإتباعهم.
الرابع: إيمان وتصديق ذراريهم بالنبي والأنبياء اللاحقين، فيأتيهم الأجر والثواب.
الثالث: الذين تأخر زمانهم عن بعثة النبي، فيؤمنون به ويعملون بالأحكام والسنن التي جاء بها من عند الله، وذات التقسيم ينطبق على حال الكفار فمنهم ما هو متقدم في زمانه على أيام النبي ومنهم معاصر له، ومنهم متأخر عنه .
وينفرد أبونا آدم عليه السلام بإعتباره نبياً بعدم وجود كافر سابق له من البشر، وكانت معه أمنا حواء وهي امرأة مؤمنة خلقها الله عز وجل في الجنة، وتفضل وقبل توبتها من الأكل من الشجرة، ليواجه النبي والمؤمنون معه الكافرين في زمانهم ، واذ تلقى المسلمون تركة الإيمان والصلاح والتقوى من أجيال المؤمنين التي سبقتهم، فان الكفار يرثون الذل والمسكنة التي جاءتهم من سوء فعل آبائهم، وإصرارهم على البقاء على نهجهم.
لقد أراد الله عز وجل للأنبياء القيام بالتبليغ وأداء الرسالة كاملة وإزالة الموانع التي تحول دون إنجاز وظيفتهم في البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، ومن هذه الموانع قيام الكفار بالتعدي على الأنبياء لأن هذا التعدي برزخ وحاجب دون وصول التبليغ الى الناس، فكيف وهؤلاء الكفار يقومون بقتل الأنبياء، ويحاولون حجب الآيات والمعجزات عن الأبصار والبصائر، فتفضل سبحانه وضرب الكفار بالذلة والمسكنة ليصبحوا عاجزين عن التعدي على الأنبياء واتباعهم من المسلمين، وتلك آية اعجازية، ودليل على عظيم قدرة الله وبديع مكره بالكافرين فقد قاموا بقتل الأنبياء، فاحل الله عز وجل بهم ما جعلهم يعجزون عن الإضرار بالمسلمين عامة ، كما في الآية السابقة [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أذى] الأمر الذي يدل بالأولوية على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تعدي الكفار الى حين قيامه بتبليغ الرسالة كاملة وتلقي آيات وسور القرآن الذي نزل عليه نجوماً على مدى ثلاث وعشرين سنة.
ان لصوق المسكنة بالكفار ضرورة للتبليغ وبيان الأحكام الشرعية، وسنن الإسلام، ووجود أمة من الصحابة تتلقى التنزيل بالقبول والحفظ والتعاهد، وضرب الكفار بالمسكنة مقدمة لوجود الأمة المسلمة التي تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتؤازره في نشر الإسلام.
وقد همّ اليهود بقتل عيسى عليه السلام وهو في زمن الكهولة فرفعه الله عز وجل اليه، وكان قليل الأصحاب ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لم يغادر الدنيا الا بعد أن بلغ أصحابه الآلاف وأنتشروا في أمصار عديدة أمراء وقادة يحكمون بالقرآن وقواعد الإسلام، ويعلمون الناس العبادات والمناسك، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، ومصداق من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] من وجوه:
الأول: وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني الأمة الى حين إتمام الرسالة.
الثاني: قوة شوكة المسلمين في أيام النبوة.
الثالث: الوعد الإلهي الكريم في هذه الآيات بعدم وصول الضرر للمسلمين من الكفار.
الرابع: ضرب الذلة والمسكنة على عدوهم، وهو عنوان ضعف له.
لقد جاء ضرب الذلة والمسكنة على الكفار بعدم قيامهم بقتل عدد من أنبياء الله ليكونوا عاجزين عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتلك آية في تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، فصحيح ان القتل لم يصل لكل الأنبياء الا ان قتل بعضهم من قبل الكفار يدل على إحتمال تعرض أي واحد منهم عليهم السلام في حياته الى القتل والتعدي من الكفار، ومن لم يقتل منهم تعرض الى الضرر والأذى ومحاربة الكفار له.
وقد دعا نوح عليه السلام على الكفار وسأل الله عز وجل استئصالهم من الأرض، كما في التنزيل [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( ).
إن ضرب الذلة والمسكنة على الكفار مقدمة لإنتصار الإسلام، وعلو كلمة التوحيد ويتحقق استئصال الكفر بظهور الإسلام وغلبة المجاهدين في سوح المعارك واندحار الكفر وهزيمة الكافرين.
ويأتي فرض الجزية على أهل الكتاب وسيلة لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الضرر والكيد والمكر، بلحاظ شرائط الذمة ولزوم تقيد أهل الكتاب بها.
لقد أراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة ، ومن مقدمات هذه المنزلة في الدنيا ضرب المسكنة على الكفار والفاسقين، وجعلهم عاجزين عن الوصول اليه بأذى وكيد.
وتدل الشواهد التأريخية على هذا العجز الذي هو نوع معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإحاطته بعناية إلهية لتبقى المعجزة في أصحابة وأتباعه الى يوم القيامة بسلامتهم من كيد الكفار الا ما يصل على نحو الأذى القليل الذي يؤدي الى استنفار قوة المسلمين، وترتيب صفوفهم، وتنمية ملكة الإعتصام بحبل الله، واظهار حسن التوكل عليه سبحانه، والحرص على العمل بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزع أسباب الفرقة والخصومة، لتكون المنافع النوعية للمسلمين من أذى الكفار تجديد معالم الإيمان وزيادة اليقظة وأخذ الحائطة للدين، ودحر الكفر وغزوه في عقر داره.
ومن علامات مسكنة الكفار انهم هموا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرة ولم يفلحوا، خصوصاً وانه ولد في مجتمع من الكفار والمشركين، وإنتشر أمر الدلائل والأمارات التي تدل على نبوته من حين ولادته بل وقبل ولادته، وقيل أراد الكفار قتل أبيه عبد الله للأخبار الواردة بان النبي يخرج من صلبه، فصرف الله كيدهم، وضربهم بما يجعلهم غير قادرين على بلوغ الغايات الخبيثة قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ومن مصاديق كون المسلمين خير أمة حفظ نبيهم، ورمي أعدائه بالمسكنة وعجزهم عن الوصول اليه بأذى، ومنها إخبارهم الناس بآيات القرآن بان الكفار متلبسون بالمسكنة والذلة وأنهم قاموا بقتل الأنبياء، وهو أمر يبعث على النفرة والإزدراء من الكفار ويجعل الناس لايميلون ولا ينصتون لهم، ويخشون جانبهم ويحذرونهم، لأن الذي يجرأ على قتل قادة الأمم وزعماء الإصلاح، ورسل السماء لا يتردد في التعدي على الناس أفراداً وجماعات وإستعمال السلاح الفتاك الذي يودي بحياتهم في الجملة.
فجاء ضرب المسكنة بالكفار لمصلحة الناس جميعاً ولإستمرار الحياة الإنسانية على الأرض تحت ظلال مبادئ التوحيد والعدل، وبعيداً عن الظلم والتعدي، وتتضمن الآية في مفهومها الإخبار عن عدم قدرة الكفار على الإستحواذ على مقاليد أمور الناس، والإشارة الى أسباب ضعفهم وعجزهم التي تكمن في ذاتهم وقرارة نفوسهم بإستحواذ المسكنة والوهن والخوف عليها لتبقى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة للناس جميعاً، تدعوهم للإقتداء به في سنته وإتباعه فيما جاء به من عند الله عز وجل.
قانون قتل الأنبياء
جاءت الآية بالإخبار عن حقيقة خافية عن كثير من الناس، وهي قتل الكفار للأنبياء، لتكون الآية شاهداً سماوياً يحكي ما لاقاه الأنبياء من الأذى والعناء في سبيل الله، ولولا هذه الآية لما علم الناس ان تعدي الكفار بلغ درجة قتل الأنبياء سواء صدر القتل من الكفار أنفسهم مباشرة أو بواسطة الطاغوت الجائر فانها تخبر عن تعرض شطر من الأنبياء للقتل في سبيل الله.
وتمنع الآية من الظن بان الأنبياء معصومون من القتل كما هم معصمون من الذنوب، لأن القتل في سبيل الله خاتمة كريمة للدعوة الى الله، وحجة على الكفار في تماديهم في الظلم والتعدي، ولقد أكرم الله الأنبياء وفضلهم على الناس، وجاءت هذه الآية لتخبر عن مسائل في الإرادة التكوينية وهي:
الأولى: عدم التعارض بين تفضيل النبي على الناس وبين قتله في سبيل الله.
الثانية: يتحمل النبي أشد انواع الأذى في سبيل الله.
الثالثة: بيان درجة الجحود عند الكفار، واستحقاقهم اللعنة والحلول في غضب الله، فليس من فعل أسوء من قتل الإنسان للنبي الذي جاء برسالة من السماء.
الرابعة: الإشارة الى العذاب الأليم الذي ينتظر الكفار بسبب ظلمهم وتعديهم، وتبعث الآية في نفوس المسلمين الحيطة واليقظة وتجعلهم حذرين من مكر الكفار والفاسقين، ولا يتعارض هذا الحذر وآثاره مع عمومات فضل الله عز وجل في سلامتهم من محاولات الأعداء الأضرار بهم، وهو جزء من فضل الله ورشحة من رشحاته.
وفي الإخبار الإلهي عن قيام الكفار بقتل الأنبياء دعوة للمسلمين للحفاظ على حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستمر الوحي والتنزيل، فمع وجود ملائكة يحرسون النبي محمداً من اعدائه،أراد الله عز وجل للمسلمين أداء وظائفهم أزاء النبوة بوقاية شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه تفضيل له على الأنبياء الآخرين بأن يد الكفار لم تصل اليه بسوء.
وجاء القرآن بالإخبار السماوي عن حقيقة وهي تعدي الكفار على الأنبياء، ومن مصاديق كون المسلمين خير أمة من بين أهل الأرض، حسن إنقيادهم لنبيهم ودفاعهم عن شخصه الكريم، وقد حاول الكفار قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة أحد ولكن نفراً من المسلمين ذبوا عنه، ووقفوا يقاتلون دونه، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وآله وسلم وهو صابر في أرض المعركة الى ان أنصرف المشركون خائبين .
وقتل الكفار للأنبياء من مصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا، وشاهد على كونها دار امتحان وإختبار بان فيها قبح فعل الكفار وسوء صنيعهم، وعدم امتناعهم من أشد الذنوب فحشاً وهو قتل الأنبياء، وتجلت فيها معاني الصبر في جنب الله، بتحمل الأنبياء القتل وهم يحملون لواء الرسالة والتبليغ، ليكون هذا القتل جزء من أهليتهم لإمامة الناس، وفيه رد عملي من الإنسان على قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] ( ).
فالأنبياء منقطعون الى الله، مشغولون بالذكر والتسبيح حتى ساعة القتل، ليبقى ذكرهم وجهادهم نبراساً للمؤمنين، وضياء ينير طريق الهداية والرشاد، وحرزاً من الركون للكافرين والفاسقين، فاذ استطاع الكفار الوصول الى النبي ويقتلونه، فأنهم لا يستطيعون الوصول الى أتباعهم من المسلمين الذين يتضاعف عددهم اضعافاً مضاعفة بقتل النبي او بعدم قتله، ففي حال وقوع قتل الكفار للنبي فان الناس ينفرون من فعلهم، ويستنكرون جريمتهم، ويميلون الى الإسلام، وقبول الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي، وفي حال عدم قتل النبي فانه يستمر في تبليغ رسالته ويستطيع الناس رؤية الآيات التي جاء بها، فيأخذون منه أحكام الشريعة، ويتبعونه في دعوته ، وهو من إسرار بعث الله للأنبياء.
لقد سنّ الأنبياء للمسلمين طريق الشهادة في سبيل الله، وكانوا الأسوة الحسنة في هذا الباب الذي هو أشق ما يواجه المؤمن بان يبذل أغلى ما عنده وهي نفسه في سبيل الله، وشهادة النبي وقتله في سبيل الله يجعل المسلم يبذل الوسع في مرضاة الله، ولا يخشى زهوق الروح وضياع الأموال وتلقي الأذى في ذات الله.
وجاءت هذه الآية لتؤكد للمسلمين ان أسلافهم في التضحية والفداء هم الأنبياء الذين بذلوا انفسهم من أجل اعلاء كلمة التوحيد، وتبليغ الرسالة التي أمرهم الله عز وجل بها، ولا يحصل قتل الأنبياء إلا بعلم الله قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ] ( )، لتبقى شجرة النبوة تظلل بأغصانها المسلمين السائرين على طريق الهدى، وتدعوهم لتحمل أعباء وراثة النبوة في الأرض، ومنها القتل في سبيل الله كما تعرض الأنبياء له، وتحملوه بصبر، وتلقوه برضا لعظيم الأجر والجزاء الحسن الذي ينتظرهم في الآخرة.
لقد أراد الله عز وجل ان يبين للمسلمين ان التخلية بينهم وبين الكفار عنوان ابتلاء لنيل المسلمين المراتب السامية، والدرجات الرفيعة في الدنيا والآخرة، وان الأنبياء سبقوهم في طريق الشهادة وذكر في قتل النبي بلحاظ أوانه قولين:
الأول: ان النبي بلغ ما أُمر به وأدى وظيفته، فخلى الله عز وجل بينه وبين الذين قتلوه من الكفار وهو الذي ذهب اليه الطبرسي.
الثاني: ان الله تعالى لم يأمر نبياً بالقتال فقتل فيه، وانما قتل من الأنبياء من قتل في غير قتال، قاله الحسن البصري( ).
والصحيح ان حاجة الناس للنبي في التبليغ والإخبار عن الله عز وجل متصلة وكل يوم يبقى فيه في الحياة الدنيا ينفع فيه الناس جميعاً، اما المؤمن فيزداد إيماناً ويرتقي في مراتب المعرفة، واما الكافر فانه يدعى الى الإسلام، ويرى الآيات والمعجزات التي تترى على يد النبي وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ]( ).
وقد ورد الخبر في قوله تعالى [أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]( )، ننقصها بذهاب العلماء والفقهاء لأن موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شئ ما إختلف الليل والنهار كما هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام وعبد الله بن مسعود ، فكيف في بالتعدي على نبي من الأنبياء ،وقتله من قبل الكفار.
لقد جاءت الآية لتبين الضرر الفادح الذي يلحق الأجيال المتعاقبة بفعل الكفار في قتل النبي، وليست المسألة شخصية ، بل يحجب الكفار بهذا القتل أخبار الوحي والتنزيل عن اتباع النبي وعن أنفسهم وعن الناس، ولولا قيام الكفار بقتل النبي لآمن به أناس آخرون ويحتمل ان ذات الكفار انفسهم يكونون من المؤمنين به، وان كان فضل الله على الناس متصلاً ولا ينقطع بقتل النبي، بل ان قتله دعوة للناس لنبذ الكفر، والنفرة من الكفار واظهار الندم والحرص على التدبر في الآيات التي جاء به النبي الذي قتله الكفار.
علم المناسبة
ورد لفظ الأنبياء في القرآن خمس مرات، ومن الآيات ان اربعة منها جاءت في قتل الكفار للأنبياء، ثلاثة بصيغة الجملة الخبرية، وواحدة بلغة الخطاب [قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وجاءت الخامسة في بيان نعمة الله على بني اسرائيل، وبعث الأنبياء فيهم بقوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( ).
وتبين كثرة الآيات التي يذكر فيها قتل الكفار للأنبياء موضوعية الأمر، وقبح فعل الكفار وتعديهم وظلهم لأنفسهم للناس بقتل الأنبياء بغير حق، كما ورد لفظ “النبيين” ثلاث عشرة مرة ، منها مرة واحدة في قتل الأنبياء وذم الذين يقومون به وبالكفر بآيات الله والإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم.
وجاءت في سورة آل عمران بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ]( )، ومن الآيات ان يأتي ذكر قتل الأنبياء في سورة البقرة وآل عمران، مرتين في سورة البقرة، وأربعة في سورة آل عمران وواحدة في سورة النساء( ) وفيه مسائل:
الأولى: بيان موضوعية سورة آل عمران في قصص الأنبياء.
الثانية: موضوعية سورة البقرة وآل عمران في ذكر أحوال الأمم وأهل الملل وقصص الأنبياء.
الثالثة: ذكر موضوع قتل الأنبياء في أول القرآن في إشارة الى الإخبار عنه والتوجه من بعده الى بيان الأحكام وظهور الإسلام، والتصديق بالأنبياء، وإحياء ذكرهم وذم أعدائهم.
وورد ذم الذين كفروا على قتلهم الأنبياء في خمس آيات من القرآن، كما ورد تكذيبهم في ادعائهم قتل عيسى عليه السلام بقوله تعالى [إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ]( )، كما جاء على لسان هارون النبي عليه السلام ما يفيد تجرأ بني اسرائيل عليه وإرادة قتله، مع انهم يعلمون انه نبي وأخو موسى عليه السلام كما ورد في التنزيل [إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي]( )، مع ان المعصومين هم أتباع موسى عليه السلام من بني اسرائيل وكان الكفار حينئذ في مصر فرعون وقومه.
قوله تعالى [بِغَيْرِ حَقٍّ]
آية إعجازية أخرى تطل علينا في هذه الآية، وهي قتل الأنبياء بانه بغير حق، وبه يخرج القتل على قضايا شخصية، أو عصبية قبلية، او ثأر او قصاص أو غيره، لقد أراد الله عز وجل للأنبياء العز والرفعة في الدنيا والآخرة، وجاء هذا القيد لتنزيه ساحتهم من كل سوء والإخبار بابتعادهم عن الخلافات التي تحصل بين الناس في الأمور الدنيوية وتحصل بين الناس فتن وإقتتال وحالات تعد ونهب وغارات للقتل والسلب، ولكن الأطراف المتخاصمة والمتحاربة تعرف ان النبي منقطع الى الله عز وجل، مشغول عن الدنيا وزينتها، ويجتهد في دعوة الناس الى الصلاح والوئام ونبذ التعدي والأخلاق المذمومة، ومع هذا يجهز عليه الكفار ويقتلونه، وغالباً ما يأتي القتل بعد عجز الكفار عن إسكات صوت النبي وما ينطق به من الحق فهو لا يرضى بالباطل، كما انه يواظب على الدعوة الى الله، ويزف بشارة الجنة وحسن العاقبة الى أهل الإيمان، وينذر الكفار بسوء العاقبة والخلود في النار، وفي هذا القيد مسائل:
الأولى: ليس من نبي قتل بحق، بل جاء قتل كل نبي من الأنبياء الذين لم يموتوا على فراشهم ظلماً وجوراً.
الثانية: تمنع الآية الكفار من إدعاء سبب معقول لقتل أحد الأنبياء.
الثالثة: من إعجاز الآية انها تمنع الإفتراء على الأنبياء.
الرابعة: في الآية تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، اذ أنزل الله عز وجل ما يبرئ ساحة الأنبياء ويخلد ذكرهم الحسن في الدنيا، ويجعل أمته تتعاهد التنزيل من غير تحريف، وتقوم بإكرام الأنبياء جميعاً.
الخامسة: في الآية انذار وتحذير للمسلمين من الكفار فما داموا قد قاموا بقتل الأنبياء، فمن باب الأولوية القطعية تعديهم على المسلمين، وعدم ترددهم في الإجهاز عليهم وقتلهم.
السادسة: في هذه الآية بيان وذكر لجزء علة لأسباب وغايات ضرب الذلة والمسكنة على الكفار.
فمن قتل الأنبياء بغير حق يجرأ على قتل المسلمين، ويقدم على الإستيلاء على أموالهم وإخراجهم من أرضهم وسبي ذراريهم، فجاءت الآية وما فيها من البيان حصانة وحرزاً سماوياً للمسلمين.
السابعة: تدل الآية في مفهومها على عصمة الأنبياء وعدم وجود ذنب عند أي واحد منهم يستحق القتل عليه.
الثامنة: جاءت الآية بقيد “بغير الحق” ويحتمل الحق وجوهاً:
الأول: بغير حق وفق قوانين السماء وقواعد الأحكام الشرعية.
الثاني: القتل مخالف للأعراف والعادات السائدة.
الثالث: قتل الأنبياء منافِ لإدراك العقل.
الرابع: الحق ميزان ثابت وضده الباطل.
الخامس: المراد من الحق في المقام العدل، أي ان الأنبياء قتلوا ظلماً وجوراً.
السادس: ليس للكفار حق عند الأنبياء، ولم ينافسهم الأنبياء في شيء من حطام الدنيا ولم يعتدوا عليهم.
ومع ان الآية جاءت في ذم الكفار وتعديهم على أشرف الناس، فانها تأديب وإرشاد للمسلمين من وجوه:
الأول: إجتناب القتل بغير حق.
الثاني: لزوم الإحتراز في الدماء.
الثالث: إكرام العلماء بإعتبارهم ورثة الأنبياء.
الرابع: اكتساب المعارف الإلهية ، والإطلاع على قصص الأمم السالفة.
الخامس: إدراك الحاجة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: أخذ الحيطة والحذر من الكفار، والإحتراز منهم لحفظ وسلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
السابع: تأهيل المسلمين لمنازل الجدال والإحتجاج على الكفار ومنعهم من إيجاد الإعذار ، فبعد هذه الآية يتعذر على الكفار ما يلي:
الأول: إنكار قتل آبائهم للأنبياء.
الثاني: الإفتراء على الأنبياء.
الثالث: ذكر عذر وسبب لا أصل له في قتلهم الأنبياء، فلو جاءت الآية من غير قيد “بغير حق” لإدعى الكفار ان الأنبياء فعلوا ما سبب قتلهم، او ان قتلهم جاء خطأ وسهواً، ولكن هذا القيد منع من الكذب والزور في المقام، وإقامة الحجة على الكفار الى يوم القيامة.
الرابع: التعدي والكيد لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الآية فضحتهم ، وهذا الفضح تحذير وإنذار لهم، وزجر عن التعدي على شخص النبي والمسلمين وحرماتهم.
قانون العصمة الغيرية
لقد أنعم الله عز وجل على الأنبياء بالعصمة من الذنوب، ليكونوا أسوة للمؤمنين والناس جميعاً، ومناراً يقتدى به، ويتخذ الناس من أقوالهم وأفعالهم نبراساً للهداية والرشاد، وسنناً في الحياة الدنيا، وسلاحاً يتغلبون به على الفتن والإغواء وأسباب الإفتتان.
ان عصمة أي نبي من الأنبياء حاجة للناس وإستدامة الإيمان في الأرض ، وشاهد على صدق النبوة، والعناية الإلهية بالنبي ، ودليل على إصلاحه للرسالة وتهذيب نفسه وتنقيح جوانحه ، وتنزيه بطنه وفرجه، وحضور الرقابة الملكوتية على جوارحه، ويمكن ان تقسم عصمة الأنبياء الى قسمين:
الأول: العصمة الذاتية: وهي ملكة الإمتناع عن المعاصي، والذنوب الصغيرة والكبيرة، والإنزجار المستديم عن الفواحش مطلقاً، وهذه العصمة من الكلي الطبيعي الذي يشترك فيه كل الأنبياء، وهو من الكلي المتواطئ الذي يكون في الأنبياء بمرتبة واحدة من العصمة المطلقة من السيئات ما دق منها وما كبر، وان نفى بعضهم العصمة على الأنبياء قبل النبوة مطلقاً قبل النبوة او بعدها من الصغائر، دون الكبائر، والمراد من العصمة الغيرية سلامة النبي من شرور وأذ ى الكافرين.
ومن مصاديق العصمة الغيرية للأنبياء وجوه:
الأول: عجز الظالمين والطواغيت على قهر النبي وحمله على فعل المعصية.
الثاني: عدم إكراه النبي على فعل ما يخالف وظائف النبوة.
الثالث: قدرة النبي على تبليغ الوحي والتنزيل السماوي وعدم إستطاعة أي جهة او جماعة الحيلولة دون التبليغ، ووصول الوحي الى من يقدر على حفظه وتعاهده وتركه ارثاً عقائدياً لمن بعده من المؤمنين.
الرابع: إعانة النبي باصحاب وأنصار يتلقون الوحي بالتصديق، وأوامر النبوة بالإمتثال، ويذبون عنه الأعداء ، وفي أصحاب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير شاهد على هذا الوجه من مصاديق العصمة الغيرية.
الخامس: المدد السماوي، واللطف الإلهي في حفظ وحراسة النبي.
السادس: نصرة الملائكة للنبي ووقايتهم له بحجب ملكوتية، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السابع: بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار وأعداء الإسلام، وجعلهم يترددون في التعدي على النبي.
الثامن: جاءت الآية السابقة لتوكيد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد ومكر الكفار، اذ انها اخبرت عن عدم وصول الضرر من الكفار الا بأدنى مراتبه وهو الأذى مما يعني سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ضرر الأعداء، لأن أي أ ذى يصيبه هو ضرر فادح على المسلمين.
ويدل نفي الآية إضرار الكفار بالمسلمين مطلقاً، في مفهومه على حفظ وسلامة وأمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى والشر، فهو في عصمة غيرية بفضل وعناية من عند الله.
ومن العصمة الغيرية تثبيت أقوال وأفعال النبي وسيرته وسنته بجعل الناس يعلمون بتقواه وانقطاعه الى الله ونزاهته وعصمته وإجتنابه فعل السيئات عن ملكة وعصمة وتوفيق من عند الله، لتكون سنته مدرسة للأجيال المتعاقبة ، وسبباً في إسلام أفواج الناس، ووسيلة لفضح الكفار، وشاهداً على سوء فعلهم وإصرارهم على المعاصي.
لقد أراد الله عز وجل للأنبياء إمامة الناس نحو سبل الهداية والصلاح، وتأتي مصاديق هذه الإمامة بالقول والفعل والجهاد المتصل في سبيل الله، لذا فان الله عز وجل يهيء للنبي مقدمات التبليغ ويدفع عنه الأسباب التي تحول دون وصول رسالته الى الناس، ومن هذه الأسباب افتراء الكفار ومحاولاتهم صد الناس عن سبيل الله، ومن الآيات ان الكفار يقرون بنزاهة الأنبياء وصدقهم وأمانتهم وحسن سمتهم، وانهم جاءوا بالدلالات والبراهين القاطعة التي تثبت نبوتهم وانهم رسل من عند الله.
لذا جاءت الآيات بمخطابتهم بصيغة الذم واللوم ، قال تعالى [قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( )
وان قلت ان قتل الكفار للنبي يتعارض مع العصمة الغيرية قلت: ان الله عز وجل جعل لكل شيء اجلاً، فالنبي في مأمن من افتراء وتعدي الكفار، وهم عاجزون عن منعه من أداء رسالته وقيامه بالتبليغ ، واظهار الآيات التي تؤكد صدق دعوته، الى حين يخلي الله عز وجل بينه وبين الكفار، فتكون هذه التخلية حجة إضافية للنبوة، ودعوة للناس جميعاً للتصديق بالنبي ونبذه الكفر، والحرص على نصرة النبي اللاحق، ومنع الكفار من الوصول اليه، وهو عنوان إضافي لعصمة النبي الغيرية، وتثبيت لإقرار الناس جميعاً بعصمته الذاتية.

قانون بغير حق
ان إخبار القرآن عن قتل الكفار للأنبياء حجة دامغة تدل على سوء صنيع الكفار، وقبح ما يفعلون فالأنبياء سادة الأمم، ومنزهون من التعدي والظلم والحيف، وهم أئمة الهدى والرشاد، وعندهم فصل الخطاب، ويحكمون بين الناس بالعدل، ويدعون الى الإنصاف وإجتناب الفواحش ، وبخس الميزان وليس عندهم عصبية او قبلية او حمية جاهلية، لذا ترى القلوب تميل اليهم، والآذان تصغى اليهم، والنفوس تتلقى ما ينطقون به من الحكمة، والعقول تدرك الآيات التي يأتون بها وان كانت آيات حسية فسواء كانت آية النبي حسية أو عقلية فان ادراكها والتصديق بها من وظائف العقل، وما من نبي يموت أويقتل قبل ظهور أمر نبوته ومجيئه بالمعجزات.
والبيان والشاهد القرآني في قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ] دليل على حصول القتل بصفة النبوة، ولا ينال النبي تلك الصفة الا بعد الإختيار الإلهي له ونزول الوحي عليه سواء كان نبياَ داعياً لرسالة غيره من الرسل، أو نبياً رسولاً ينزل عليه الكتاب ، وتكون رسالته للناس جميعاً، وقد سعوا في قتل عيسى عليه السلام وهو نبي رسول ومن الرسل الخمسة أولي العزم، مما يدل بالأولوية على تجرأهم على غيره من الأنبياء الذين سبقوه.
لقد جاء القيد القرآني لقتل الأنبياء وانه بغير حق ليكون هذه القيد إخباراً عن سخط الله عز وجل على الكفار لتعديهم على رسل السماء الذين جاءوا لإصلاحهم وهدايتهم والأخذ بأيديهم الى سبل النجاة في الدنيا والآخرة، ان قتل النبي خسارة لأهل الأرض جميعاً المتقدم والمعاصر والمتأخر عن زمان النبي المقتول.
اما الأول وهوالمتقدم فانه يحرم من هداية الذرية وما يلحقه من الثواب بهدايتهم وصلاحهم، كما ان آباء الكفار يتأذون بسوء فعلهم وجريمتهم وإقدامهم على قتل النبي، وبين الكفر وقتل الأنبياء عموم وخصوص مطلقاً، فالتعدي على النبي وقتله كفر، وليس كل كفر هو قتل للنبي وأكثر الآباء الذين ماتوا على الكفر لم يجرأوا على قتل نبي وان التقوا بالكفر بآيات الله وإستحقاق غضب الله عز وجل، وملازمة المسكنة لهم ’
واما المعاصر للنبي المقتول فان نفسه تنفر من الكفر وأهله، ويحرص على إجتنابهم والإبتعاد منهم، ويميل الى أهل الإيمان وإتباع النبي فيبقى الكفار منفردين معزولين وهو من مصاديق الغضب الإلهي عليهم، وعناوين ضربهم بالمسكنة، ويكون قتل النبي وزهوق روحه الطاهرة دعوة متجددة للإيمان، وتوثيقاً للآيات التي جاء بها وإظهاراً للندم على التفريط بما جاء به، كما انه مناسبة لثبات اتباعه وانصاره على الإيمان، وشحذ همههم لمواجهة الكفار والرد عليهم، ومنعهم من التعدي والظلم والجور.
واما المتأخر فانه يتضرر من قتل النبي بحرمانه من الآيات والمعجزات التي يأتي بها النبي في حال بقائه حياً وتوارث الأجيال، ويأبى الله عز وجل الا ان يتم نوره وينزل فضله على الناس جميعاً، فما ان يقوم الكفار بقتل نبي حتى يبعث الله عز وجل نبياً غيره يدعو الناس للإسلام، وهو من مصاديق ملكية الله تعالى للأرض ، وانه سبحانه لا يترك الكفار يعيثون في الأرض فساداً، بل يبعث الأنبياء ويصلح النفوس ويجعلها تميل الى الهدى والإيمان.
ويحتمل قيد “بغير الحق” الوارد في الآية وجوهاً:
الأول: بغير جرم وجناية، فليس هناك جرم قام به أي نبي يستحق بسببه القتل.
الثاني: وجوب عدم التعدي على النبي او الإساءة اليه.
الثالث: تدل الآية على قاعدة كلية وهي ان قتل النبي لا يكون الا بغير حق.
الرابع: ان الكفار قوم طاغون، ينشرون في الأرض الفساد، ويتمادون في غيهم، ويتعدون على حقوق الآخرين، ويقتلون النبي الذي يدعوهم الى الله، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
الخامس: ليس لأحد أو جماعة حق عند أي نبي من الأنبياء الذي قتلهم الكفار وحمل جهة الحق على الإطلاق يدل بالدلالة الإلتزامية على عصمة الأنبياء وانهم لم يعتدوا ولم يظلموا احداً وفق أي ميزان من الموازين سواء كان شرعياً او عقلياً او عرفياً او قبلياً او قانوناً وضعياً، فلا يستطيع الكفار القول انهم أقدموا على قتل النبي لأنه فعل ما يخالف اعرافهم الا ان تكون تلك الأعراف باطلة ومترشحة من الكفر والجحود، وهي ليست بحق ولا صدق فلذا جاء تقييد القتل بانه “بغير حق” لإبطال مذاهب الكفار والإخبار عن ظلالتهم وفعلهم الكبائر، وليدرك كل إنسان ان الأنبياء منزهون عن الخطأ والتعدي، وان قتلهم جاء ظلماً وان سبب القتل خاص بالكفار وبغيهم وإصرارهم على المعاصي.
وتدل الآية على مواصلة الأنبياء الجهاد وعدم التردد في الدعوة الى الله حتى وان كلفهم الأمر التعرض للقتل في سبيل الله، وفيه دعوة للمسلمين بعدم ثني النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الجهاد والدعوة الى الله، ومواجهة الكفار والخروج في سرايا الغزو والفتح مع لزوم حراسته وتأمين سلامته.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين في المقام الحفظ الإلهي للنبي قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ والحاكم وابن مردويه ، وابو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: “كان رسول الله يحرس حتى نزلت [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] فأخرج رأسه من القبة فقال: يا ايها الناس إنصرفوا فقد عصمني الله”( ).
علم المناسبة
في الآية مسائل:
الأولى: ورد لفظ “الحق” بالحركات الإعرابية الثلاثة الرفع والنصب والجر مائتين وسبع وأربعين مرة.
الثانية: جاءت ست عشرة مرة منها بلفظ “غير الحق” منها ثلاث عشرة مرة بلفظ “بغير حق” وثلاث بلفظ “غير الحق” من غير حرف الباء.
الثالثة: من بين الإثنتي عشرة مرة “بغير الحق” وردت أربع بخصوص قتل الأنبياء ظلماً، وجاءت الباء هنا للسببية أي ان السبب لقتل الأنبياء معدوم.
وفي الآية وجوه:
الأول: إنعدام السبب مطلقاً ووفق كل المقاييس.
الثاني: عدم وجود مسوغ شرعي أو عقلي لقتل الأنبياء.
الثالث: انتفاء الحاجة والمنفعة من قتل الأنبياء، فلا أحد يستفيد منه بما فيهم الذين قاموا بقتل النبي فخسروا الدارين.
الرابع: تبين الآية قانوناً ثابتاً في الأرض، وهو عدم وقوع القتل الا بالحق، ومن موارد القتل بالحق القصاص، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، وجاءت الآية لتنزيه الأرض من القتل ظلماً وجوراً.
الخامس: ليس لأحد عند الأنبياء حق، فقد جاءوا لإصلاح الناس، وقاموا بأداء وظائف النبوة كاملة، وهذه الوظائف من الطبيعي الكلي، فكل إنسان له حق في النبوة بان يصله التبليغ والإنذارات والبشارات مع الإمكان، وكل نبي جاهد في الله جهاده، وقام بالتبليغ أحسن قيام فليس لأحد عندهم حق في هذا الخصوص، لقد جاءوا لإنقاذ الناس من براثن الكفر والشرك، وانقاذهم من الضلالة.
السادس: تبين الآية رضا الله تعالى عن الأنبياء جميعاً، وفيها شهادة سماوية بان الأنبياء قتلوا مظلومين، وانهم لم يتخلفوا عن أداء ما أمرهم الله تعالى به من الدعوة اليه سبحانه، ولم يكونوا سبباً في التعدي عليهم وقتلهم.
ومن الآيات ان لفظ الأنبياء ورد في القرآن خمس مرات، جاءت أربع منها في ذم الكفار لقتلهم الأنبياء بغير حق، وواحدة في توبيخ بني اسرائيل ودعوتهم لذكر نعمة الله عز وجل في جعل انبياء وصيرورة ملوك منهم قال سبحانه [إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا]( ).
ويفيد الجمع بينهما ان بعث النبي نعمة على قومه والناس جميعاً ومن مصاديق النعمة على قومه العز والرفعة بين الأمم، ورجوع الناس اليهم، وإكرامهم لأن النبوة فيهم مما يملي عليهم الحرص على سلامة النبي ودفع الأذى والكيد عنه، وعدم التعدي عليه.
وقد أكرمت العرب قريشاً لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منها ، وأكرم المسلمون العرب لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وفي الآية تفضيل للمسلمين والصحابة على نحو الخصوص لتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، وجاء قوله تعالى [قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: اتخاذ موضوع قتل الأنبياء حجة على الكفار.
الثانية: بيان قبح التعدي على النبوة والأنبياء.
الثالثة: تأكيد الإنذار والوعيد لمن قتل الأنبياء، قال تعالى [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ]( ).
الرابعة: في الآية بشارة نجاة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل قبل أداء تمام الرسالة للقيد الوارد في الآية “من قبل”.
قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا]
تكرر لفظ “ذلك” في الآية، وهو اسم إشارة للبعيد جاء عنواناً للسببية، وبيان ما لحق الكفار من الضرر والعقاب العاجل، وحلول الذل والمسكنة بهم، وقد تكرر لفظ “ذلك” في الآية، فجاء مرتين بذات الوظيفة من الإشارة والدلالة ، وفيه وجوه:
الأول: وردت “ذلك” الأولى للإشارة الى ضرب الذلة والمسكنة على الكفار، ومكوثهم في غضب وسخط الله عز وجل، وجاء قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا] للتأكيد.
الثاني: إفادة إسمي الإشارة “ذلك” في المقام الدلالة على علة عجز الكفار عن الحاق الضرر بالمسلمين، وانحصار الأمر بالأذى الذي يمكن تحمله ، ولا يتعارض مع قدرة المسلمين على الدفاع والذب عن الحرمات.
الثالث: جاء التكرير لبيان تعدد ضروب الأذى الذي لحق الكفار، وتأكيد استحقاقهم له.
الرابع: كثرة الذنوب والمعاصي الصادرة من الكفار، فجاء التعدد في اسم الإشارة للدلالة على كثرة أفراد علة عقابهم العاجل.
الخامس: بيان تجاوز الكفار لمرتبة الإمهال في الدنيا، فالدنيا دار عمل بلا حساب ، ويمهل الله عزو جل فيها الناس الى يوم القيامة، ويدل تعدد اسم الإشارة في المقام على بيان حقيقة وهي ان التمادي في المعاصي والذنوب، والإصرار على الكفر المقرون بالتفريط والظلم الفاحش يعجل العقاب في الدنيا، وتلك آية من آيات الخلق وسر من أسرار الحياة الدنيا.
لقد أراد الله عز وجل للدنيا ان تكون داراً ومحلاً لعبادته، فمن يتمادى في صد الناس عن العبادة، ويقوم بأبشع أنواع الظلم وهو قتل الأنبياء تصاحبه الذلة والمسكنة، ويحل عليه غضب الله فلا يرى الفلاح ويكون عاجزاً عن الإضرار بالمسلمين.
السادس: التعاقب والتوالي في مراتب المعصية، والتمادي فيها، فقام الكفار بإرتكاب المعاصي والإعتداء على الغير فجاء الأنبياء بالآيات والمعجزات يدعونهم الى عبادة الله ونبذ المعصية والكف عن التعدي، فأصروا على المعصية وقاموا بقتل الأنبياء فلولا الإقامة على المعصية، والكف عن التعدي، والتجرأ في التعدي على الناس لما أقدموا على قتل الأنبياء .
وفي الآية حث للمسلمين على تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وجعل الناس كافة يجتنبون التمادي في المعصية وفعل المنكرات والفواحش، ودعوة لأهل الكتاب لزجر أهل الجهالة والضلالة عن إيذاء المسلمين، وتحذير للناس جميعاً من الظلم والتعدي وبيان حقيقة وهي ان الظلم قبيح، ويؤدي طول التلبس به الى فعل المنكرات، وعدم التردد في ظلم أي فرد، وإستقرار ندبة سوداء في القلب تمنع من الرأفة والرحمة بالآخرين ولكن الله عز وجل لا يترك الكفار يستبيحون المحرمات فكان قتلهم الأنبياء بداية لحلول الغضب الإلهي ونزول النقمة بهم وقد يقول قائل ان الله عز وجل يعلم بأنهم عصاة معتدون، وانهم سيكفرون بالآيات ويقتلون الأنبياء، فلماذا يرسل لهم الأنبياء ولا يعجل لهم العذاب.
والجواب لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ولبعثة أي نبي من الأنبياء غايات ومقاصد سامية متعددة منها:
الأول: تجديد الدعوة الى الله في الأرض.
الثاني: إيمان فريق من الناس بنبوته، فالله عز وجل منزه عن العبث وفعل ما لا يكون له نفع.
الثالث: رؤية الناس للآيات [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ]( ).
الرابع: النبوة وآياتها رحمة من عند الله للناس جميعاً في الدنيا، ولا يستطيع الكفار منع رحمة الله حتى عن أنفسهم، نعم هي حجة عليهم مع إصرارهم على الكفر والجحود.
الخامس: قتل الأنبياء ليس مانعاً من بلوغ دعوتهم للناس، بل بالعكس فان التعدي عليهم وقتلهم يجعل دعوتهم لله أكثر إنتشاراً لأنها مقرونة بالآيات والبراهين الدالة على صدق نبوتهم ولزوم إتباعهم، وقبح التعدي عليهم.
السادس: لا يقتل النبي حال بعثه وتلقيه النبوة، بل انه يدعو الى الله ويقوم بتبليغ الأحكام ، وتدل عليه الآية بقرينة [يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] وتقدم الكفر بالآيات على قتل الأنبياء، فيحتمل معها ان النبي لو تركهم وشأنهم في ارتكابهم المعاصي لما قتلوه، فمع كفرهم بالآيات فان النبي يواصل الدعوة الى الله ويجمع الأنصار والأتباع وينهى الكفار عن المعصية لذا جاءت الآية بالإخبار عن حصول قتل الأنبياء بما هم أنبياء، جاءوا بالآيات من عند الله عز وجل.
السابع: بيان حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجود أمة مسلمة تذب عنه الكيد، وتمنع أيادي الكفار من الوصول اليه بأذى، وهذه الوقاية من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] أي لن يصل الكفار الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيضروا المسلمين في دينهم بل أنعم الله عز وجل على المسلمين بتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة كاملة ولم يغادر الى الرفيق الأعلى الا بعد ان بلغ آيات القرآن كلها وحفظها المسلمون، وتلقوا السنة النبوية وتفقهوا في الدين ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
السابع: جاءت الآية للإعتبار والإتعاظ، ودعوة الأجيال اللاحقة من الكفار للهداية والإيمان، وإجتناب ما كان عليه آباؤهم من الكفر بالآيات والإصرار على المعصية.
الثامن: جاءت الآية لبيان التفصيل في العلة والسبب في عقوبة الكفار، من وجهين:
الأول: ضربت عليهم الذلة والمسكنة ولبثوا في غضب الله لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق.
الثاني: ترى لماذا جحد الكفار بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق، مع ان الآيات والمعجزات التي يأتي بها الأنبياء دعوة عقلية تجذب الناس للإيمان، وليس من سبب يدعو الإنسان لقتل النبي الذي جاء رحمة للناس، فجاءت هذه الآية ببيان سبب جحود الكفار وقتلهم الأنبياء وهو أنهم عصوا الله وكانوا يعتدون ويظلمون الناس.
الثامن: جاء التعدد في اسم الإشارة للفصل بين أفراد الكبائر التي إرتكبها الكفار، وفيه بيان إضافي ودلالة على سوء الفعل، وحث للناس على التبرأ من فعلهم، فالقرآن كتاب سماوي نزل لهداية وإصلاح الناس، والتفصيل في ذكر ذنوب الكفار تنبيه على قبحها ودعوة للنفرة منها.
التاسع: تكرار اسم الإشارة “ذلك” من تعقب العام للخاص ، فبين المعصية والتعدي من جهة وبين الكفر بالآيات وقتل الأنبياء عموم وخصوص مطلق، فكل كفر بآية من آيات الله معصية وتعدِ، وكذا بالنسبة لقتل أحد الأنبياء.
العاشر: أنه من تقديم الأهم على المهم، ووجوب التقيد بأحكام الشريعة، فالأهم هو التصديق بالآيات وإتباع الأنبياء، وذكرت الآية الكفر بالآيات وقتل الأنبياء اولاً لأنهما من أقبح وجوه الكفر.
الحادي عشر: التوالي والتعاقب في مصاديق ذم الكفار وإستحقاقهم المحنة والبلاء، لأن ذنوبهم جاءت كالسبب والمسبب، اذ ان المعصية والتعدي سبب للتمادي في السيئات والإصرار على الجحود والعناد.
قانون العقوبة العاجلة
هذه الآية شاهد على ان القرآن مدرسة للأجيال ذات وجوه متعددة وجامعة للعلوم لما فيها من إصلاح النفوس، وتنقيح عالم ألأفعال وفيها دعوة لعلماء الإجتماع والنفس والمصلحين والآباء لإقتباس الدروس من مضامينها القدسية ببيان الآثار السلبية للإقامة على المعصية والتعدي، وتلقي عليهم مسؤولية إصلاح المنشأ والأفراد مطلقاً وعدم تركهم يرتكبون المعصية ويباشرون التعدي على الغير، فحالما تحصل المعصية من الفرد يجب تنبيهه وبيان ضررها ، وتحذيره من تكرارها والعودة الى مثلها.
وكشفت الآية عن حقيقة في سلوك الإنسان وهي ان ارتكاب المعاصي الصغيرة يؤدي الى الظلم والتعدي على الحرمات وفعل الكبائر وأشد الذنوب مما يكون سبباً في إبتعاد الإنسان عن منازل الإيمان وتأثيره الضار على أقرانه وأصحابه وتفشي الجريمة في المجتمع مما يكون حائلاً دون توجه شطر من الناس الى طرق الهداية والإيمان.
ولا تنحصر وظيفة الآية بالكشف عن هذه الحقائق، بل انها علاج ووسيلة سماوية لقهر النفس الشهوية والغضبية، ومنع الإنسان من التمادي في المعصية.
والمعصية خلاف الطاعة، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق بقوله تعالى [بِمَا عَصَوْا] فلم تذكر الآية نوع وماهية المعصية وفيه وجوه:
الأول: فعل صغائر الذنوب.
الثاني: إتيان الكبائر من الذنوب.
الثالث: إرتكاب الذنوب التي توجب سخط الله.
الرابع: المراد من المعصية معصية الله عز وجل وما جاء به من أحكام الحلال والحرام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق المعصية ومخالفة الأوامر الإلهية، وكل فرد منها سبب للذم والتقبيح.
لقد خلق الله عز وجل الإنسان للعبادة وطاعة أوامره سبحانه، فجعل الأنبياء واسطة مباركة بينه وبين الناس لهدايتهم لوظائفهم العبادية، وإرشادهم لأحكام الشريعة وتعليمهم سنن وآداب ملة التوحيد.
ومن الآيات ان تصاحب النبي المعجزات والدلالات القاطعات بمجيئه من عند الله، ولكن الناس إنقسموا ولا زالوا الى قسمين بخصوص تلقي ما جاء به الأنبياء، فشطر من الناس آمن بالله والأنبياء وشطر كفر وجحد وأصر على إرتكاب المعاصي، فجاءت هذه الآية الكريمة لتكرم الشطر الأول وهم أهل الإيمان وتخفف عنهم ضرر وأذى الكفار.
وتبين الآية علة نزول ضروب المحنة والبلاء بالكفار، وفي حلول الذلة والمسكنة بالكفار وجوه:
الأول: حث الكفار على التوبة والإنابة.
الثاني: إدراك الناس جميعاً برهم وفاجرهم قبح المعصية وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
الثالث: توكيد حقيقة ثابتة وهي ان الناس ملك لله، وليس لهم التفريط في التعدي في ملكه وسلطانه، ومن يتمادى في المعاصي يبتليه الله بما يجعله عاجزاً عن الإضرار بالمسلمين، ويأتي هذا العجز وصيغ الذلة والمسكنة على وجوه:
الأول: هلاك رؤساء الكفار، اذ ان موت رؤسائهم وفرسانهم سبب لضعف قوتهم.
الثاني: حصول الفرقة والخلاف بين الكفار، وهو أمر يترشح عن انقطاعهم الى المعصية، واقبالهم على الدنيا.
الثالث: إنشغالهم باللذات سبب للوهن والضعف وهجران السلاح.
الرابع: إنفاق الأموال على اللذات وإشباع الشهوات، مما يؤدي الى قلةالمؤونة، وعدم القدرة على مواجهة الشدائد والمحن.
الخامس: تفشي الأمراض عند أهل المعصية، ومعاني الأخلاق المذمومة بسبب مزاولة الرذائل والقبائح.
الرابع: تثبيت المسلمين على الإيمان، برؤية الآيات البينات فيما يصيب الكفار من الإبتلاء والضرر.
الخامس: بعث الخوف والفزع في نفوس الكفار، وجعلهم يدركون ما ينتظرهم من العقاب الأليم بلحاظ ان البلاء في الدنيا مقدمة للإقامة في العذاب الأخروي.
السادس: إعتبار الناس مطلقاً مما يلحق الكفار من الضرر العاجل.
السابع: دعوة أبناء الكفار للتبرأ من فعل آبائهم، وحثهم على الهداية والإيمان، والنجاة من وطأة الذل والمسكنة.
لقد بينت الآية وجهاً من بديع صنع الله عز وجل وانه سبحانه يعجل العقوبة النوعية العامة للكفار، وبما يناسب حال الدنيا بإعتبارها دار إمتحان وإختبار، أي ليس من تعارض بين ضرب الذلة والمسكنة على الكفار وبين كونهم في دار إختبار وإمتحان لأن هذه المحنة والمسكنة ليست من عقوبة الآخرة وما فيها من العذاب الأليم والخلود في نار الجحيم، بل هي فرد من مصاديق الإبتلاء في الدنيا، فكما ينعم الله عز وجل على الإنسان بالمال والثروة على العبد ليشكر الله، ليتجلى تقيده بأحكام الشريعة وإخراجه الحقوق الشرعية، والإنفاق في سبيل الله وإعانة الفقراء، ويبتلي آخر بالفقر امتحاناً له في صبره ورضاه بما قسم الله له، ويرزق أحدهم الصحة والعافية والجاه، ويرمي بعضهم بالمرض والداء والفاقة، فانه سبحانه يبتلي الكفار بالذل والمسكنة ليكون درساً وموعظة، وانذاراً من عذاب الآخرة، ورحمة من عند الله وبالناس جميعاً، مع الفارق فان الذل والمسكنة لا يأتيان الا بسبب إرتكاب العبد للمعاصي واقترافه أقبح وجوه المعصية.
علم المناسبة
ورد الفعل الماضي”عصوا” بصيغة الجمع ست مرات في القرآن، ثلاثة منها في معصية الرسل منها قوله تعالى [فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً]( )، وجاء اللفظ ثلاث مرات بصيغة [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] في سورة البقرة وهذه الآية، وقوله تعالى [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]( ).
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ويدل الجمع بين الآيات على تعيين اهل المعاصي والإخبار عن حلول اللعنة بهم، وطردهم من رحمة الله، وفي النسبة بين اللعنة من جهة وبين ضرب الذلة والمسكنة والمكث في غضب الله من جهة أخرى وجوه:
الأول: التساوي بينهما فاللعنة هي نفسها ضرب الذلة والمسكنة.
الثاني: نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء بين اللعنة وبين الذلة والمسكنة، ومادة للإفتراق.
الثالث: نسبة العموم والخصوص المطلق وهي على شعبتين:
الأولى: اللعنة فرع وجزء من الذلة والمسكنة.
الثانية: الذل والمسكنة فرع اللعنة، فكل ذل ومسكنة هما لعنة وليس العكس.
الرابع: التباين بينهما، وعدم وجود وجوه للإلتقاء والملازمة بينهما.
والصحيح هو الثاني، والشعبة الثانية من الوجه الثالث، ويدل الجمع بين مضامين الآيتين من اللعنة وحلول الذل والمسكنة بالكفار، وإقامتهم في غضب الله على عجزهم عن منع الناس من دخول الإسلام، ويبين سوء عاقبة الكفر وما يؤدي اليه من تفشي روح الخذلان وأسباب الضعف والوهن في نفوس الكفار.
وورد ذكر المفعول به في ثلاث آيات من أصل الآيات الستة التي ذكر فيها قوله تعالى [عَصَوْا] واحدة بقوله تعالى [وَعَصَوْا الرَّسُولَ] ( ) وواحدة بقوله تعالى [فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ] ( )، وثالثة بقوله تعالى [وَعَصَوْا رُسُلَهُ] ( ).
اما في الآيات الثلاثة التي ورد فيها قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] ومنها هذه الآية، فانه لم يذكر المفعول به للفعل عصوا، وفيه وجوه:
الأول: الرجوع الى التفسير الذاتي للقرآن والمراد معصية الرسل، لقوله تعالى [وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ] ( ).
الثاني: إرادة معصية الله ورسله ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا]( ).
الثالث: المراد معصية الله تعالى ومخالفة أوامره.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لأن ما يأتي به الرسل من الأوامر والنواهي انما هي من عند الله عز وجل، لذا ذكر الأنبياء في المقام بصفة “الرسل” بإعتبار انهم يقومون بتبليغ الأحكام عن الله عز وجل، بينما جاء ذكر قتل الكفار لهم بصفة “النبوة” بإعتبار انهم نالوا شرف البعثة والرسالة، وأحرزوا أشرف المراتب بين الناس، ومع هذا قام الكفار بالتعدي عليهم وقتلهم، وحرمان الناس من نعمة بقائهم بين ظهرانيهم، فأراد الله سبحانه عدم إنتفاع الكفر والكفار من قتلهم في الدنيا بان ضرب على الكفار الذل والمسكنة، وكأن الأنبياء باقون مع الناس الى يوم القيامة ينزلون الذل والهوان بالكفار ليكون حال البؤس والضعف والذل الذي عليه الكفار من مصاديق بقاء الأنبياء أحياء بقوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
وهناك مسألتان:
الأولى: هل يعني هذا ان الأنبياء هم الذين يضربون الكفار، بالذل والمسكنة وأنه من أسرار مجيء الآية بصيغة الفعل المبني للمجهول [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ].
الثانية: هل يكون الأنبياء الذين قتلهم الكفار وسائط ضرب الذلة والمسكنة بالكفار، فكما انهم لم ينصتوا لصوت النبوة، وقاموا بقتل الأنبياء فان الله عز وجل يأذن في عالم الغيب للأنبياء بانواع الأذى والجواب عن الأولى ان الله عز وجل هو الذي يحل المذلة والمسكنة بالكفار وهو القادر على كل شيء، أما الثانية فان الأنبياء أحياء عند الله عز وجل في مقام صدق ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
فقيدت الآية حياة الأنبياء بانها عند الله عز وجل والأنبياء الذين قتلوا ظلماً وبغير حق هم سادة الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، فالذلة والمسكنة محنة وبلاء من عند الله تحل بالكافرين جزاء وعقوبة عاجلة لتماديهم في المعصية والتعدي، وواقية سماوية لأهل الإيمان لما فيها من تقييد وتقليص لأثر الكفار في الحياة الدنيا.

قانون “ذلك بما عصوا”
تبين الآية قاعدة كلية في الإرادة التكوينية، وقانوناً ثابتاً في الحياة الدنيا وهو تعقب المعصية بالمحنة والبلاء في الحياة، ويعلم الناس ان الآخرة دار جزاء، ويلقى فيها الكفار العذاب الأليم عقوبة على كفرهم اما هذه الآية فذكرت امراً آخر مضافاً الى عذاب الآخرة ولكنه في الدنيا، فعندما يتمادى الكافر في كفره، ويصر على إرتكاب المعاصي والذنوب يعجل له الله المحن والبلاء ليكون مقدمة للعذاب ألأخروي، ووسيلة لصده عن المعاصي والتعدي على المسلمين، فمن يكون غارقاً في بحار الذل، وتتقاذفه أمواج المسكنة وما يترشح عنها من الحيرة والوهن وقلة الجاه وضعف الشأن يتعذر عليه الإضرار بالمسلمين وغيرهم، فلا يستطيع مقاتلة المسلمين واخراجهم من ديارهم، ولا يستطيع منع الناس من دخول الإسلام وإثارة الشكوك والإفتراء على الإسلام.
ومضامين هذا القانون عون للمسلمين في الدنيا، وواقية لهم من أعدائهم وصحيح ان الآيات القرآنية أخبرت عن نصرة الملائكة للمسلمين في قتالهم مع كفار قريش الا ان هذه الآية تبين مدداً إضافياً يجعل الكفار غير قادرين ذاتاً على مواجهة المسلمين، وتثبت الآية ان الكفار فعلوا الذنوب والمعاصي على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، فهم جميعاً إشتركوا في فعل أفراد من المعصية كالكفر بالله، والجحود بالنبوة، وقام كل فرد منهم بالمعصية على نحو القضية الشخصية فاستحقوا البلاء والمحنة.
وهذه الآية مدرسة في المعارف الإلهية وشاهد على ان الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم، فمن كان مؤمناً يجعله عزيزاً، ومن وجوه عزته وقدرته على تعاهد الإيمان ضرب عدوه من الكفار بالذل والضعف والهوان، ومن كان كافراً مرتكباً للمعاصي فان الله عز وجل يجعله ذليلاً.
وفي حين تنفع المسلمين الأخوة الإيمانية، فان الكفار لن ينفعهم الإجتماع والإلتقاء في مفاهيم الكفر،بل يكون سبباً لبعث الفرقة واثارة الشكوك بينهم، وفي حين تؤدي صلاة الجماعة الى اتحاد المسلمين ونبذ الفرقة والخلاف بينهم فان حضور الكفار في منتدياتهم الخاصة سبب لنشر الخوف والذعر بينهم، ومناسبة لإمتلاء نفوسهم باليأس والقنوط بسبب أخبار رسوخ مبادئ الإسلام، وثبات المسلمين وحسن أدائهم لوظائفهم العبادية بتوفيق من عند الله.
لقد أراد الله عز وجل بهذا البيان توكيد حقيقة وهي انعدام البرزخ بين حياة المؤمنين والكفار في الدنيا والآخرة، اما في الآخرة فان الآيات القرآنية تؤكد حصول الجزاء، ونيل المؤمنين الثواب ، والكفار العقاب، وأما في الدنيا فان المحن والشدائد تلاحق الكفار ولا يستطيعون الإحتجاب عنها.
وذكرت الآية خصالاً ذميمة يتصف بها الكفار تجلب لهم الذل والهوان منها جحودهم بآيات الله عز وجل ومعجزات الأنبياء، وقتلهم الأنبياء ، وفيها دلالة على الملازمة بين المعصية وبين المحنة والشدة والمسكنة في الدنيا، وتوكيد على عظيم قدرة الله عز وجل ، وحبه ونصرته للأنبياء والمؤمنين جميعاً، ونزول سخطه على الذين يعتدون عليهم، ويقوم الكفار احياناً بقتل المؤمنين كما في شهداء أحد وغيرهم، وفيه وجوه:
الأول: إلحاق الشهداء من المسلمين بالأنبياء، فاذا قتل الكافر مسلماً لإسلامه وثباته على الإيمان فكأنما قتل نبياً.
الثاني: القيام بقتل المؤمن من الكفر بآيات الله، لأنه صدَق بآيات الله وعمل بأحكام الشريعة.
الثالث: قتل المؤمن موضوع مستقل.
والصحيح هو الثالث ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( )، فجاء قتل المؤمنين الذين يدعون الى الصلاح والتقوى معطوفاً على الكفر بالآيات وقتل الأنبياء بما يفيد المغايرة والتعدد.
ان ذم الكفار في قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا] موضوع للإحتجاج على الكفار، ورصد ما يصيبهم من البلاء والضرر، وفيه شفاء لصدور المسلمين، وهو وسيلة لتقوية إيمانهم وانقطاعهم الى العبادة وفعل الصالحات لإدراك حقيقة وهي ضعف ووهن عدوهم بفضل الله، وعدم التساوي بين الكفتين، اذ تكون كفة المسلمين هي الراجحة دائماً بفضل وعناية مركبة من عند الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يمد المسلمين بالمنعة والعز وأسباب الغلبة، ويرمي الكفار بالضعف والوهن بسبب معصيتهم وإرتكابهم الكبائر وأقبح الذنوب.
ومضامين هذا القانون من أسباب هداية جماعات وأفواج من الكفار ودخولهم الإسلام لحب الإنسان الفطري للعز والأمن والسلامة والنجاة، ونفرته من الذل والمسكنة والفاقة، وفي الآية تحذير وانذار للناس جميعاً ، اذ انها تبين الملازمة بين الكفر والجحود وبين العقوبة العاجلة التي لا تكون بديلاً عن العقوبة الأخروية بل مقدمة لها ووعيداً وتذكيراً بعالم الآخرة وما فيها من وجوه الجزاء بقسميه الثواب والعقاب، وهي من مصاديق الرحمة الإلهية للناس جميعاً في الدنيا بجعل الكفار عاجزين عن الأستحواذ على أمور السلطنة والرياسة العامة في الدنيا، وان ظهر الكفر والكفار في مصر من الأمصار، فان العاقبة للمسلمين لإفتقار الكفار الى مقومات الحفاظ على الملك والسلطنة، كما في ملك فرعون في مصر.

بحث بلاغي
من وجوه البديع “الإنسجام” بان تكون ألفاظ الكلام منسجمة متداخلة فيما بينها، خالية من التعقيد ويظهر فيها حسن التركيب، وجمال النسق وعذوبة الألفاظ، ويتجلى الإنسجام في كل آية من آيات القرآن، ومنها هذه الآية، وتتضمن هذه الآيات وجوهاً:
الأول: ثلاث عقوبات وإبتلاءات دنيوية، تلحق بالفاسقين الذين يعتدون على المسلمين وهي:
أولاً: الذلة وإطلاقها المكاني .
ثانياً: المسكنة.
ثالثاً: الحلول بغضب الله.
الثاني: إستثناءان هما:
الأول: من عنده عهد ووصية من الله، بقوله تعالى ( إلا بحبل من الله).
الثاني: الذي عنده ميثاق وذمام من المسلمين.
الثالث: إنحصار الإستثناء بفرد واحد من العقوبات وهو الذلة، ومن الآيات في باب الإنسجام تقدم الإستثناء والمستثنى منه في الآية الكريمة،لمنع اللبس والترديد.
الرابع: ذكر أربعة أفراد لعلة نزول المسكنة بالكفار والفاسقين هي:
الأول: الكفر بآيات الله.
الثاني: قيامهم بقتل الأنبياء بغير حق.
الثالث: إرتكابهم المعصية.
الرابع: إختيارهم التعدي على المسلمين، وبين كل من المعصية والتعدي وبين قتل الأنبياء عموم وخصوص مطلق، فقتل النبي معصية وتعدِ وليس العكس، وكذا النسبة بين التعدي والمعصية، فكل تعدِ هو معصية، وليس العكس.
ومع تعدد المطالب في الآية، وورود إستثناء خاص فيها الا ان كلماتها جاءت منسجمة، تجذب الأبصار، وتدعو الى الإنصات لها، وتحث على التدبر في معانيها من غير ملل أو ضجر.
قوله تعالى [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]
كما تكرر لفظ “ذلك” في الآية وما فيه من الإشارة الى قبح المعصية التي إرتكبها الكفار وتعدد أفرادها وإتيانهم الكبائر، تكرر الفعل الماضي “كانوا” وجاء بصيغة الجمع باقترانه بواو الجماعة في توكيد لإشتراك الكفار جميعاً بالمعاصي فعادة ما يظهر الإنقسام والفرقة بين الكفار، ولكنهم يشتركون ويتحدون في فعل المعاصي فلم يذكر لنا القرآن قيام فريق أوجماعة منهم بالزجر عن قتل الأنبياء والكفر بآيات الله، والأصل ان قتل النبي لا تشترك به أمة وجيل كامل من الكفار بل يقوم به جماعة من رؤوس الكفر وأهل المعاصي، ويكون الآخرون من الكفار على وجوه:
الأول: الزجر والمنع من قتل النبي الذي يدعو الى الله.
الثاني: السكوت وعدم التدخل في الأمر أمراً ونهياً.
الثالث: تأبيد وإمضاء فعل المجرمين الذين يقومون بقتل النبي ففي قوم صالح ورد قوله تعالى [وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ]( )، يدل على كثرة السكان، ومع قلة المفسدين فان العذاب شمل المدينة كلها.
الرابع: الإعانة على قتل النبي بالقول أو الفعل وكل هؤلاء ملحقون بأقرانهم الذين يقتلون الأنبياء في نزول الذلة والمسكنة بهم لإشتراكهم في الكفر بالآيات والصدود عن النبوة فحتى لو أظهر بعضهم عدم الرضا بقتل النبي فان الذل والمسكنة وغضب الله ينزل به جزاء لكفره بالآيات لأن الكفر النوعي مقدمة وسبب للجريمة الخاصة بقتل النبي التي تعود بالضرر العام على الكفار، وفي تكرار الفعل كانوا في الآية مسائل:
الأولى: جاء التكرار في بيان تعداد ذنوب الكفار.
الثانية: استحقاق الكفار للإبتلاء والعقوبة العاجلة.
الثالثة: صحيح ان الدنيا دار امهال الا ان الكفار تمادوا في المعاصي بدليل تكرار لفظ “كانوا” في بيان المعاصي والكبائر التي أرتكبوها.
الرابعة: إشتراك الكفار جميعاً بفعل المعاصي والسيئات للغة الجمع في الآية.
الخامسة: الآية من مصاديق الغضب الإلهي على الكفار بتعدد ذنوبهم.
السادسة: تقسيم الذنوب والكبائر التي إرتكبها الكفار التي استحقوا معها نزول البلاء، والمحن بهم على أقسام:
الأول: وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا] وهو على وجهين:
الأول: الكفر بآيات الله.
الثاني: قتل الأنبياء عدواناً وظلماً.
الثاني: إرتكاب المعاصي، والإقامة عليها وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا].
الثالث: التعدي والظلم والإضرار بالذات والغير لقوله تعالى [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ].
وكما تكرر حرف العطف “الواو” بين وجوه البلاء والمحن التي نزلت بالكفار مرتين بقوله تعالى [وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ] فانه تكرر مرتين ايضاً ببيان علة نزول البلاء بهم، بقوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ] وعطفه على الكفر بآيات الله، وقوله تعالى [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ].
وفي العطف بين أفراد وعلة نزول البلاء بالكفار وجوه:
الأول: إفادة الجمع بينها، فلا يحصل ضرب المسكنة والمكث في غضب الله الا عن ارتكاب الكفار لجميع هذه الآثام على نحو العموم البدلي، وقيام كل فرد منهم بفعلها.
الثاني: إفادة الجمع ولكن ليس على نحو القضية الشخصية والعموم البدلي، بل يكفي قيام فريق منهم بشطر من هذه الكبائر وفريق آخر بالشطر الآخر منها.
الثالث: كفاية إرتكاب جماعة او طائفة من الكفار بفعل هذه الذنوب، فينزل العذاب بهم جميعاً.
الرابع: إفادة الآية الترتيب في الآثام فأول ما فعل الكفار هو كفرهم بالآيات ثم قاموا بقتل الأنبياء.
الخامس: إختلف النحاة في إفادة (الواو) الترتيب بعد اتفاقهم على إفادتها الجمع، وذهب الأكثر منهم على إفادة الترتيب، وقلنا بالتفصيل وهو قد تفيد الآية الترتيب او لا تفيده بحسب القرائن، فالواو في قوله تعالى [يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ] تفيد الترتيب لأن النبي يأتي بالآيات والمعجزات من عند الله، فيجحد بها الكفار ويتمادون في الغي، ويقومون بقتل النبي ، وتفيد الواو الثانية الترتيب والمعية، اذ ان الكفر هو الأصل الذي يتفرع عنه التعدي ، كما ان الكفر موضوع عقائدي، والتعدي فعل مذموم يستلزم المفاعلة بين المتعدي والمتعدى عليه،وغن كان يقع من طرف واحد .
ومن إعجازالآية الكريمة انها أختتمت بذكر تعدي الكفار، وجاءت بصيغة الفعل الماضي في دلالة على ثبوت تعديهم وإستمرارهم فيه ليكون حلول الذل والمسكنة بهم حاجة لهم وللمسلمين والناس، اما بالنسبة لهم فان نزول الذلة والمسكنة بالإنسان يقلل من عزمه على التعدي وان قام بالتعدي فانه يقوم به على نحو محدود ، وهو من مصاديق الآية السابقة وقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] اذ ان الذلة والمسكنة تضعف همة الكفار وتشل أيديهم وتبعث الخوف والفزع في نفوسهم، وكذا بالنسبة لحلول غضب الله عليهم فانه يجعلهم منشغلين بأنفسهم، عاجزين عن قضاء حوائجهم وتيسير مؤونتهم، مع الإبتلاء في العافية والبدن.
وأما بالنسبة للمسلمين فانهم يحتاجون رحمة الله عز وجل بالتخفيف عنهم، ودفع أذى الكفار ومحاولاتهم التعدي على المسلمين وحرماتهم ومناسكهم وأموالهم وأمصارهم ، فتأتي هذه الآية لطفاً دائماً من عند الله للمسلمين جميعاً، ولكل مسلم ومسلمة على نحو الخصوص فبعد ان كان الكفار يزاولون الإعتداء والظلم لمنطوق قوله تعالى [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] جاء نزول المحنة والبلاء بهم ليكون واقية غيرية للمسلمين، وحرزاً من شر الكفار، وبشارة بعدم وصول التعدي اليهم الا من أناس مشغولين بأنفسهم، وعاجزين عن مواصلة التعدي اوالقتال وتقدير الآية: “كانوا يعتدون فباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة”.
وصحيح ان الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها تتضمن البشارة والوعد الكريم للمسلمين بان الكفار لن يضروهم وان هموا بالتعدي عليهم، ولكن هذا لا يعني الغفلة وعدم الإحتراز منهم، لأن الآية السابقة أخبرت عن وصول الأذى منهم، ولورود آيات عديدة تدعو المسلمين الى اليقظة وأخذ الحائطة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
وأما بالنسبة للناس فان ضرب الذلة على الكفار الذين يعتدون درس بليغ لهم جميعاً لإجتناب التعدي، ومعرفة صدق نزول القرآن من عند الله لأن الآية تتضمن وجوهاً:
الأول: حلول الذلة بالكفار.
الثاني: التصاق الذلة بالكفار اينما كانوا لعمومات قوله تعالى [أَيْنَمَا ثُقِفُوا].
الثالث: موضوعية العهد والميثاق في تعليق ورفع الذلة عن الكفار ولو على نحو مؤقت ، وهو على قسمين:
الأول: العهد والوصية من عند الله للمسلمين كما في حفظ الذمة والعهد، وحرمة قتل الكتابي غير الحربي والتقيد بأحكام الإجارة والتبليغ قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ] ( ).
الثاني: تعاهد المسلمين للعهود والمواثيق التي قطعوها لغيرهم ومضامين الصلح ، قال تعالى [وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ]( ).
الرابع: مكث الكفار في غضب الله، وإقامتهم في سخط الله وحلول المسكنة والهوان بهم.
الخامس: بيان أسباب مكث الكفار في غضب الله وضربهم بالمسكنة، وان المسكنة والذل الذي لحق الكفار بلاء من عند الله، وان ظهرت في البين بعض الأسباب المادية له، وهذه الأسباب على وجوه هي:
الأول: جحود الكفار، وصدودهم وانكارهم للبينات ودلائل التوحيد والنبوة.
الثاني: إقدام الكفار على قتل سادة البشر، ورسل السماء، وامناء الشريعة وأئمة الهدى وهم الأنبياء.
وهذا القتل عداوة مع الله، وحرب على السماء ، وتضييع لأحكام التوحيد، ومحاولة لطمس معالم الدين، فنزل الغضب الإلهي على الكافرين ليكون تأديباً وزاجراً لهم، وواقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتبين الآية للناس حرمة دم المؤمن ولزوم إجتناب الإضرار به ومحاولة إزهاق روحه ، قال تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا]( ).
ومن يقتل النبي يبوء بالخلود في النار من باب الأولوية القطعية سواء كان متحداً أو متعدداً، لفضل النبي على المؤمن مطلقاً بالنبوة والوحي مع السبق الى الإيمان، ومن الآيات ان يأتي ذكر قتل الكفار للأنبياء بصيغة الجملة الخبرية خمس مرات، وفي كل مرة يأتي الخبر مقيداً بقوله تعالى [بِغَيْرِ حَقٍّ]وجاء مرة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ولغة الإحتجاج بقوله تعالى [قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الخامس: بيان علة تمادي الكفار في الذنوب، وتجرأهم في فعل الكبائر من غير زاجر ، وانهم كانوا يرتكبون المعاصي على نحو العموم الإستغراقي، فيقوم جماعة منهم بالإيغال في الجريمة، والإفراط في السيئات فإستحقوا البلاء والمحن.
السادس: الإشارة الى الأضرار الفادحة التي تلحق بالفرد والجماعة اذا قاموا بالإعتداء واعتادوا عليه، ولم يحفظوا الحرمات، وجاءت الآية بصيغة الجمع [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] أي ان الكفار جميعاً مشتركون في التعدي على الغير، وان لم يجتمعوا في فرد من أفراد التعدي وفي المراتب الأكثر قبحاً منه.
والآية إنحلالية وتفيد ذم وتحذير كل فرد من الكفار إرتكب المعصية وإعتدى، وجاء هذا الإعتداء عن اختيار وعلم بموضوعه وليس عن جهل وغفلة، لذا إستحقوا البلاء قال تعالى [كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ] ( )، ولا ينحصر موضوع التعدي بظلم الآخرين بل يشمل ظلم النفس والتعدي على الحرمات، والإفتراء في الدين وتحريف التنزيل وتبديل صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في التوراة والإنجيل، وصد الناس عن الإيمان ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا]( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع “التقسيم” وهو إستيفاء أقسام الشيء الموجودة لاالممكنة عقلاً، وقد جاءت هذه الآية ببيان أمور:
الأول: الضرر والبلاء الذي يلحق الذين يحاربون الإسلام، وفيه دعوة للمسلمين للصبر، والتهيء والإستعداد لتحقيق النصر على الأعداء، لأن ضرب الذلة والمسكنة على الفاسقين، مقدمة وموضوع لتيسير الإجهاز عليهم، ولو مع قلة عدد وعدة المسلمين قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
الثاني: تعيين أفراد البلاء وهي على أقسام:
الأول: شمول الكفار بالذلة على نحو الإطلاق الزماني والمكاني، وفيه إستيفاء للأماكن والأمصار، وشاهد على ان الأرض ملك لله تعالى، ولم يجعل الله سبحانه الكافرين الذين يعتدون على الإسلام يتنعمون في أي بقعة منها بل تلاحقهم الذلة أينما ثقفوا.
الثاني: الحلول في غضب وسخط الله تعالى بسبب إجتماع الكفر والتعدي على المسلمين.
الثالث: المسكنة والهوان النفسي، وظهور روح اليأس والقنوط والعجز عن نيل الرغائب.
الرابع: بيان علة حلول الغضب الإلهي والمسكنة بالكفار والمعتدين وهذا البيان رحمة بالناس جميعاً، ودليل على نزول القرآن من عند الله من وجوه:
الأول: أنه كشف للحقائق التأريخية، واظهار لما تخفيه النفوس.
الثاني: إقامة الحجة على الكفار والمعتدين.
الثالث: جعل الكفار يلتفتون الى أنفسهم ويتلمسون طرق النجاة من كابوس الكفر والجحود.
الرابع: الدلالة على ان القرآن مدرسة للعلوم، ينهل الناس جميعاً منه، ويأخذون من علومه ما يحتاجون اليه، وفيه منع للبس وطرد للشك والوهم، وتتجلى المعارف الإلهية في هذه الآية من وجوه:
الأول: إرتقاء المسلمين في كسب العلوم، والإطلاع على قصص الأمم السالفة، وأصول الفرق والمذاهب.
الثاني: معرفة أهل الكتاب للتقسيم الواقعي لهم على أساس الإيمان بالله أوالخروج عن طاعته، فقد يظنون الإتحاد والتشابه والتساوي بينهم، وأنهم نظائر في العقيدة بلحاظ الإشتراك والإلتقاء في الإنتساب الى التوراة أو الى الإنجيل، فجاء القرآن بتقسيم آخر غير تقسيمهم الى اليهود والنصارى، وإستقلال كل ملة باسم بل جاء بالتقسيم بلحاظ الإيمان بالله أو الضلالة بإختيار الخروج عن طاعته ،بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] ، مع بيان قلة الفريق الأول ليرى الذي ينتمي للتوراة والإنجيل من أي القسمين هو.ويصلح حاله.
الثالث: ثبوت حقيقة في الإرادة التكوينية والتشريعية وهي عدم إنغلاق باب النجاة على الإنسان، فمع تلبس العبد بالكفر والجحود، وإصراره على المعاصي فان طريق النجاة معبد له وتشع على جانبيه الأضواء البهيجة وأسباب الجذب لما فيه السعادة والغبطة.
وهذه الآية من طرق النجاة في الدنيا والآخرة، اذ انها تجعل النفس تنفر من الكفر والجحود لملازمة الذلة والمسكنة لهما، وتخاطب العقل الذي جعله الله عز وجل رسولاً باطنياً عند الإنسان وتدعوه للإسلام وترغب النفس بالنطق بالشهادتين وتلمس سبل السلامة والأمن.
الرابع: توجه الخطاب في الآية الكريمة الى الكفار بالمفهوم وإطلاق الدلالة والمضمون من وجوه:
الأول: صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل لما فيه من أنباء الغيب وكشف أحوال الأمم والملل.
الثاني: شمولهم بمضامين الآية الكريمة ولزوم عدم التعدي على الإسلام.
الثالث: الدعوة لدخول الإسلام وترك منازل الكفر وما فيه من الردى.
لقد جاءت علة ضرب المسكنة على الفاسقين حجة عليهم بين الناس أجمعين، وتكشف عن عدم كفاية الإنتساب الى الكتاب السماوي في تزكية النفس، فلابد من العمل بمضامينه، وإكرام الذين جاءوا به، ونزلوا بالوحي من عند الله عز وجل وهم الأنبياء ، وتلك خصوصية إنفرد بها المسلمون فإستحقوا صفة خير أمة أخرجت للناس.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn