بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل القرآن كتاباً سماوياً جامعا للأحكام الشرعية، ونعمة عظيمة نالها الإنسان بصفته خليفة في الأرض، ومصداقاً من مصاديق إختيار المسلمين لمنزلة خير أمة أخرجت للناس.
فمن خصائص خير أمة ان نزل القرآن على نبيها نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقوم بالعمل بما فيه من أحكام الحلال والحرام،وتتعاهد آياته، وتحافظ عليها من التحريف والتغيير والتبديل، ويتلونها آناء الليل وهم يسجدون لتكون هذه التلاوة نوراً يملأ الآفاق، ويدفع عن أهل الأرض الآفات وأسباب الهلكات، وواقية من تعدي أهل الفسوق، والخارجين عن الطاعة، ونوراً ووسيلة للهداية بمعرفة منازل الناس بلحاظ الإيمان أو الكفر، ودعوة عقائدية لجعل الحكم على المسمى والفعل، وليس الإسم، وإجتناب الإتحاد في الحكم مع التباين في الموضوع.
فأفتتحت الآيات التي يتناولها هذا الجزء من التفسير وهو الجزء الثالث والثمانون بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] لنفي التساوي بين أهل الكتاب في المبادئ والأفعال والأحكام،وإن إلتقوا في الاسم والإنتساب.
وكما جاءت الآيتان السابقتان في ذم الفاسقين من أهل الكتاب، فان ثلاثة آيات من أصل أربعة يتضمنها هذا الجزء في مدح المؤمنين من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات والأخبار عن حسن الجزاء الذي ينتظر أهل الإيمان، في بيان وتوكيد على أن الدنيا دار إمتحان وإختبار ومزرعة للآخرة، ليفوز أهل التقوى الذي يخشون الله عز وجل بالمقامات الرفيعة وتتغشاهم الغبطة والسرور في الآخرة، ويلقى الكفار العذاب الأليم ويصابون بالإغتمام والحسرة والأسى لتفريطهم في الواجبات، وهجرانهم لمنازل الإيمان والصلاح لذا أختتمت الآية الرابعة من هذا الجزء بالإنذار والوعيد للذين كفروا بعدم إجزاء أموالهم وأولادهم عنهم يوم القيامة ، والوعيد بخلودهم في نار جهنم، وفيه حجة وبيان وإخبار عن عالم الغيب ، وحرب سماوية على الكفر والجحود ، ودعوة لتثبيت مفاهيم الإيمان في الأرض، وترغيب بالفرائض ، والصبر في إتيان العبادات بشوق، والمسارعة في الخيرات، قال تعالى [هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ] ( ).
قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ] الآية 113.
الإعراب واللغة
ليسوا سواء: ليسوا: فعل ماضِ ناقص، الواو: إسمها.
سواء: خبر ليس، وأختلف في الوقف على سواء، والمشهور والمختار أنه تام.
من أهل الكتاب: من أهل: جار ومجرور، وهو مضاف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
الكتاب: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
أمة قائمة: أمة مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة.
قائمة: صفة مرفوعة، وعلامة رفعها الضمة الظاهرة على آخرها.
وقال الفراء: ان أمة فاعل سواء وتقديره “لا يستوي أمة هادية وأمة ضالة، وان المعنى فهم أمة قائمة، وأمة غير قائمة اكتفاء بذكر أحد الفريقين كما قال ابو ذؤيب:
عَصَيتُ إليْها القَلْبَ إني لأمْرِها مُطيعٌ فما أدْري أرشدٌ طِلابها
فذكر الشاعر الرشد ولم يذكر ضده وهو الغي، لدلالة المعنى وهمزة الإستفهام عليه.
ولكن متعلق سواء أعم من الأمة القائمة، وجاء في الآية بمعنى التساوي خصوصاً وان الآيات بينت ذكر الفريقين، وورد سواء لدفع وهم ولمنع الظن باتحاد سنخية أهل الكتاب.
يتلون آيات الله: يتلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو : فاعل.
آيات: مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة، وهو مضاف، اسم الجلالة: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
آناء الليل: آناء: ظرف زمان منصوب بالفتحة، وهو مضاف.
الليل: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
وهم يسجدون: الواو: للحال، هم: ضمير في محل مبتدأ، يسجدون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر.
وسواء اسم بمعنى مستوِ، وأصله “إستواء” ولأن أصله مصدر فانه لا يثنى ولا يجمع عند الوصف به كما في هذه الآية اذ جاء بصيغة المفرد مع إرادة الجمع بقرينة واو الجماعة “ليسوا سواء” ويستعمل “سواء” على وجوه:
الأول: يأتي بمعنى الكلي الطبيعي الذي تشترك فيه الأطراف المتعددة قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ]( ).
الثاني: يأتي بمعنى الوسط، قال تعالى [خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ]( )، أي الى وسط الجحيم.
الثالث: يستعمل وصفاً بمعنى التام غير الناقص كما في قولك، “قم بالعمل سواء” أي تاماً كاملاً.
الرابع: إرادة التساوي والتشابه كما في قوله تعالى [سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ]( ).
الخامس: يفيد معنى الإستثناء فيكون بمعنى “غير” كما في قول المرأة: “صمت شهر رمضان سوى أيام الحيض” ويكون هنا مقصوراً مكسور السين.
وجاء في هذه الآية بالمعنى الرابع أعلاه، وتقدم ليس عليه يفيد نفي التساوي بين أهل الكتاب.
والقيام: نقيض الجلوس يقال قام يقوم قوماً وقياماً، ويقال رجل قائم من رجال قوم، بكسر وتشديد الواو، “وقال عبد لرجل أراد ان يشتريه: لا تشترني فاني اذا جعت أبغضت قوْماً، واذا شبعت أحببت نوماً”( )، أي ابغضت العمل والنهوض من محلي.
ويأتي القيام بمعنى المحافظة والإصلاح، وبمعنى الملازمة والوقوف والثبات، كما في قوله تعالى [وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا] والمراد من قاموا هنا وقفوا وثبتوا في مكانهم غير متقدمين عليه ولا متأخرين، ويقال قام عندهم الحق أي ثبت ولم يبرح، ويقال سوق قائمة وأخرى نائمة، والمعنى ان الأولى نافقة وألأخرى كاسدة.
آناء: جمع إنو أي وقت، يقال معنى إنو من الليل أي وقت لغة في إني، وأنشد ابن الإعرابي:
أتمت حملها في نصف شهر وحمل الحاملات إنى طويلٌ
في سياق الآيات
جاءت الآيات السابقة بذم فريق من أهل الكتاب لتعديهم وإقامتهم على المعصية والعناد والجحود بآيات النبوة، وبينت عجز الفاسقين عن الإضرار بالمسلمين، والبشارة للمسلمين بأن الهزيمة تلحق بأعدائهم عند حصول المواجهة والقتال معهم، وجاءت هذه الآية بالتفصيل والإخبار عن التفصيل في أهل الكتاب ووجود إستثناء في المقام، وإتصاف أمة منهم بالصلاح والرشاد.
والصلة بين هذه الآية والآيات السابقة من وجوه:
الأول: الصلة بين آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وهذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: أخبرت الآية أعلاه عن الشرف والمنزلة الرفيعة للمسلمين بين أهل الأرض، وأخبرت هذه الآية عن وجود أمة من أهل الكتاب قائمة ثابتة لم تشترك في قتل الأنبياء من قبل، ولا تقوم بالتعدي على المسلمين.
الثاني: من خصائص خير أمة إنصاف الناس، والثناء على أهل العدل والإحسان، فجاءت هذه الآية بإستثناء أمة من أهل الكتاب من الذم الوارد في الآيات السابقة.
الثالث: من صفات خير أمة عدم الظلم والتعدي، وعدم أخذ فرد او جماعة بوزر وذنب غيرهم وان كانوا مشتركين في المذهب والإنتماء اليه، فجاءت هذه الآية بالتفصيل والتفريق بين أهل الكتاب بلحاظ الإيمان والكفر.
الرابع: لما جاءت الآية أعلاه بتقسيم أهل الكتاب الى قسمين: مؤمنين وفاسقين، جاءت هذه الآية لبيان صفات المؤمنين منهم.
الخامس: من نعم الله عز وجل على خير أمة وهم المسلمون تلقي التأديب والتعليم من الله عز وجل، بما يساهم في إرتقائهم في المعارف الإلهية.
فتأتي هذه الآية لتخبر عن وجود تضاد بين أفراد أهل الكتاب ولزوم الحرص على التمييز بينهم في المعاملة ودرجة الحذر والحيطة.
السادس: يفيد الجمع بين الآيتين ان المؤمنين من أهل الكتاب أقل من الفاسقين، وان تلاوتهم للآيات اناء الليل لم تساهم في إصلاح الأكثرية منهم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية، والآية قبل السابقة آية “لن يضروكم” وفيه وجوه:
الأول: جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن عزم فريق من أهل الكتاب الإضرار بالمسلمين لقوله تعالى [ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] والذي يدل بالدلالة التضمنية على سعيهم للإضرار بالمسلمين في أمور الدين والدنيا، وجاءت هذه الآية لتخبر عن خروج أمة من أهل الكتاب بالتخصيص من هذا السعي وقصد الإضرار بالمسلمين.
الثاني: يفيد الجمع بين الآيتين بان هناك أمة من أهل الكتاب لا تعمل على قتال المسلمين والإجهاز عليهم، وهم مستثنون من الذين أخبرت عنهم الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] وفيه دعوة للمسلمين لعدم التعجل في قتال أهل الكتاب وشمول المسالم منهم بما يفعله المحارب، وقد جاء نصارى نجران الى المدينة المنورة ودعاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمباهلة فأبوا ورضوا بالجزية، ولم يسمع عنهم انهم نقضوا الصلح.
الثالث: إنقسام أهل الكتاب الى فرقتين، أحداهما مؤمنة بالله يتضمن التخفيف عن المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] بإعتبار ان الذي يسعى الى الإضرار بالمسلمين فريق من أهل الكتاب وليس الجميع.
الثالث: الصلة بين الآية السابقة آية “يؤمنون بالله” وهذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: استثناء المؤمنين من أهل الكتاب من النعت بالكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق، لأن هؤلاء الأنبياء كان لهم أتباع وأنصار من أهل الكتاب ولكنهم مستضعفون الى ان بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فجاء القرآن بمدحهم، والإخبار عن عدم شمولهم بالذم الوارد في الآية السابقة.
الثاني: عدم مكث المؤمنين من أهل الكتاب في غضب الله الذي يترشح عن الكفر والجحود والتعدي وقتل الأنبياء وهم منزهون عنه.
الثالث: إقامة الحجة على الفاسقين من أهل الكتاب بحسن سمت إخوانهم الذين تقيدوا بإتباع الأنبياء السابقين كموسى وعيسى عليهما السلام.
الرابع: بيان التضاد والتباين بين أهل الكتاب، ففريق يتلو آيات الله أوقات الليل كما في هذه الآية ، وفريق يكفر ويجحد بآيات الله كما في الآية السابقة.
الخامس: لولا الإستثناء الوارد في هذه الآية لكان المسلمون على درجة كبيرة من الحذر والحيطة من أهل الكتاب جميعاً وحصول النفرة منهم لأنهم كافرون بالآيات، وقاموا بقتل الأنبياء، فهذه الآية تدعو المسلمين الى عدم النفرة من أهل الكتاب الذين يظهرون الإيمان بالله ويتلون الآيات بلحاظ إرادة أمة من اليهود والنصارى.
اما على القول المشهور بان المراد من “أمة قائمة” هم عبد الله بن سلام وأصحابه، فان المعنى هو الإخبار عن إنتقال فريق من أهل الكتاب الى الإسلام ، وانهم يتلون آيات القرآن.
السادس: لما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] بصيغة التحذير للمسلمين والدعوة لإحترازهم إبتدأت هذه الآية بالإخبار عن وجود أمة من أهل الكتاب منزهة عن التعدي والظلم وإرادة الإضرار بالمسلمين.
الرابع: الجمع بين هذه الآية والآيات القليلة السابقة قبلها مجتمعة وفيه وجوه:
الأول: جاءت آيتان بالإخبار عن بياض وسواد الوجوه في الآخرة وجاءت هذه الآية لتخبر عن عدم شمول جميع أهل الكتاب بسواد الوجوه لأن منهم أمة قائمة تتلو آيات الله.
الثاني: ورد قبل خمس آيات قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ]( )،
وجاءت هذه الآية لتخبر عن قيام أمة من أهل الكتاب بتلاوة آيات الله، والجمع بين الآيتين يفيد وجوهاً:
الأول: التساوي والتشابه في معنى آيات الله الوارد في الآيتين، وان المراد هو آيات القرآن.
الثاني: إرادة المعنى الأعم للآيات، والمراد هو تلاوة أهل الكتاب لآيات التوراة والإنجيل.
الثالث: العنوان الجامع وإرادة التنزيل مطلقاً فمنهم من يقرأ القرآن كما في عبد الله بن سلام وأصحابه، ومنهم من يقرأ آيات التوراة والإنجيل.
الرابع: تلاوة فريق من أهل الكتاب لآيات القرآن مع بقائهم على ملتهم لإقرارهم بصدق نزول القرآن من عند الله وترددهم في دخول الإسلام قصوراً وتقصيراً.
الخامس: المراد المسلمون من أهل الكتاب قبل النبوة الذي كانوا يقرأون التوراة والإنجيل، ويقرون بالبشارات الواردة بحق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، خصوصاً وان القرآن جامع للآيات والمضامين القدسية للتوراة والإنجيل.
الثالث: قلة عدد المؤمنين من أهل الكتاب بلحاظ كثرة الفاسقين منهم، وفي ذكر هذا التباين بينهما دعوة للمسلمين لأخذ الحائطة للدين مع الحرص على التمييز والفصل بين الفريقين.
الرابع: بيان صفات المؤمنين من أهل الكتاب على نحو التفصيل، فقد جاء قبل آيتين قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]، وجاءت هذه الآية والآية التالية لتبينا ان المؤمنين من أهل الكتاب يتصفون بصفات حسنة ومحمودة.
الخامس: بعث السكينة في نفوس المسلمين، بالإخبار عن وجود أمة من أهل الكتاب مؤمنة مما يدل على عدم إجتماع أهل الكتاب على محاربة الإسلام، وفيه تخفيف عن المسلمين ، وهداية الى كيفية مواجهة الذين يريدون الإضرار بهم.
السادس: في الجمع بين الآيات دعوة للمسلمين للرفق بالمؤمنين من أهل الكتاب وعدم مؤاخذتهم بجريرة غيرهم من أهل الكتاب ممن يقوم بالتعدي على المسلمين، وهذا الرفق من خصائص خير أمة، ومن مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم.
السابع: دعوة أهل الكتاب للتخلص من المسكنة ، والنجاة من السخط الإلهي بالإيمان، وتقسيم أهل الكتاب الى فريقين مؤمن وفاسق دعوة لأهل الفسوق للإلتحاق بالمؤمنين، والكف عن ايذاء المسلمين ومحاولات الإضرار بهم.
أما الصلة بين هذه الآية والآيات التالية فهي من وجوه:
الأول: يفيد الجمع بين هذه الآية والآية التالية آية “يؤمنون بالله” بيان الصفات الحسنة للمؤمنين من أهل الكتاب، وعددها إحدى عشرة ذكرت هذه الآية خمسة منها وهي:
الأولى: المؤمنون من أهل الكتاب أمة متحدة، وليسوا متفرقين أو مختلفين فيما بينهم، مما يدل على عدم قدرة الفاسقين على جذبهم اليهم وتحريضهم على الإسلام والمسلمين او جعلهم ينتقلون من منازل الإيمان وهو من إعجاز الآية الكريمة لدلالتها على بقاء هذا التقسيم لأهل الكتاب والذي يعني إستدامة التباين بين المؤمنين والفاسقين منهم وما يترتب عليه من التفصيل في المعاملة معهم.
الثانية: إنهم أمة ثابتة على الحق ، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين .
الثالثة : يتمسك المؤمنون من أهل الكتاب بالتوحيد ويقرون بالعبودية لله تعالى، وهذا الإقرار مناسبة وواقية من التعدي على المسلمين وحرماتهم.
الرابعة: تلاوة المؤمنين من أهل الكتاب لآيات الله في الليل، وتدل تلاوتهم للآيات على تصديقهم بالآيات وإقرارهم بنزولها من عند الله.
الخامسة: قيامهم بالسجود والخضوع لله تعالى.
وجاءت الآية التالية بالصفات الستة الباقية وهي:
الخامسة: ايمانهم بالله عز وجل إلهاً وخالقاً ورباً.
السادسة: إقرارهم بالمعاد، ويوم الحساب.
السابعة: قيامهم بالأمر بالمعروف ودعوتهم للفعل الحسن شرعاً.
الثامنة: نهي المؤمنين من أهل الكتاب عن المنكر والقبيح.
التاسعة: مسارعتهم في الخيرات، ومبادرتهم الى أعمال البر.
العاشرة: نعتهم بانهم من الصالحين.
واذا كانت الآيتان تجمعان الصفات الحسنة عند المؤمنين من أهل الكتاب، فلماذا تم الفصل بين الصفات وجعلت في آيتين ولم تجعل في آية واحدة لإتحاد الموضوع، فيه وجوه:
الأول: اتحاد الموضوع ليس علة تامة لإتحاد أفراده في آية واحدة.
الثاني: يدل الفصل وتعدد الآيات على أهمية الموضوع، وفيه دعوة للعناية به، والإلتفات إلى كل صفة من صفات الحسن والإيمان .
الثالث: اكرام المؤمنين من أهل الكتاب بذكرهم في آيتين.
الرابع: ذكرت آية “كنتم خير أمة” الفريقين من أهل الكتاب بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] وتضمنت الآيتان السابقتان ذم الفاسقين وذكرت تعديهم على المسلمين، وجاءت آيتان هما هذه الآية والآية التالية في مدح المؤمنين من أهل الكتاب.
الخامس: جاءت هذه الآية في ذكر صفات عقائدية تتجلى بمعانى السجود إثناء التلاوة والخشوع من قوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ]، وجاءت الآية التالية في ذكر صفات عقائدية مع بيان إمتثالهم لأحكام التكاليف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبادرتهم الى المندوبات.
السادس: بيان كل صفة على نحو الإستقلال بالفصل بين الآيتين.
السابع: وجود أسرار إلهية في الفصل بين الآيتين لا يعلمها الا الله عز وجل ، والدعوة المتجددة للعلماء لإستقراء شطر من معانيها القدسية.
الثامن: التيسير في حفظ الآيات.
التاسع: إعانة المسلمين وهدايتهم الى معرفة وتعيين المؤمنين من أهل الكتاب والتمييز بينهم وبين غيرهم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية والآية بعد التالية وهي آية “وما يفعلوا”، وفيه وجوه:
الأول: حث المسلمين على قبول الجزية من أهل الكتاب، وحفظ أرواحهم وأموالهم ما داموا لم يعتدوا على المسلمين، بإعتبار ان الذمة وتعاهدها من الخير.
الثاني: من مصاديق الخير الذي جاء في قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ] الإحسان الى الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويواظبون على تلاوة آيات الله، وتستقرأ هذه المواظبة من صيغة المضارع.
الثالث: الإجتهاد في فعل الخير، وتحلي المسلمين بأبهى وأحسن معاني الإيمان.
الرابع: وجود المائز بين المسلمين وغيرهم، اذ ان المسلمين آمنوا بالله واليوم الآخر، وصدَقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والجمع بين هذه الآيات توكيد لمدح المسلمين وانهم أفضل الأمم، ومصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية “لن تغني” الواردة بعد آيتين، وفيه وجوه:
الأول: يدل الجمع بينهما على خسارة الكفار.
الثاني: إن أموال وأولاد الكفار لا تمنع من هزيمتهم عندما يقاتلون المسلمين، ولا تكون عوناً لهم في الإضرار بالمسلمين.
الثالث: يفيد الجمع بينهما توكيد حقيقة وهي حلول الذلة والمسكنة بالكفار.
الرابع: وقاية المسلمين من الخشية من الكفار مع كثرة أموال وأولاد الكفار بإعتبار ان المسكنة أمر إلهي وضرر حال بالكفار في الدنيا، فلا تدفع الأموال ولا الأولاد غضب الله الذي يمكث به الكفار.
الرابع: إختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [لاَ يُنْصَرُونَ] والآية السابقة بقوله تعالى [وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] وكلاهما في ذم الفاسقين والكفار، إختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ] والآية التالية بقوله تعالى [مِنَ الصَّالِحِينَ] وكلاهما في مدح المؤمنين من أهل الكتاب.
الخامس: جاءت الآية بعد التالية في مدح المسلمين بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] لبيان إنفراد المسلمين بمرتبة التقوى والصلاح والخشية من الله عز وجل، وحث أهل الكتاب على دخول الإسلام، وبلوغ مراتب التقوى والخشية منه سبحانه.
اعجاز الآية
وإبتدأت الآية بالفعل “ليسوا” الذي يفيد النفي ثم جاءت كلمة سواء التي تفيد التساوي والتشابه، والجمع بين الكلمتين يفيد نفي التشابه التام بين أهل الكتاب، ومن الآيات ان تبدأ الآية بنفي التشابه وفيه جذب للسامعين لمعرفة وجوه الإختلاف والتباين بعد العلم بإرادة أهل الكتاب على نحو التعيين.
ثم جاءت الآية بذكر موضوع التباين بين الإيمان والفسق وفيه توكيد على ان الفرد الأهم في التشابه والتباين هو العقيدة وإختيار الإيمان أو الكفر، وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين، ودعوة لهم للنظر للناس بلحاظ الإيمان او الكفر عقيدة وعملاً.
ونزلت الآية في المدينة وكان فريق من اليهود يحاربون الإسلام والمسلمين فجاءت هذه الآية للبيان والإخبار عن التفصيل في أهل الكتاب، ووجود أمة منهم لا تشارك ولا ترضى بمحاربة المسلمين، أمة تدرك صدق الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وانه النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وفي الآية مسائل:
الأولى: تدعو الآية لعدم مؤاخذة جميع أهل الكتاب بسبب قيام فريق منهم بمحاربة المسلمين.
الثانية: في الآية إخبار عن توارث التوحيد، ووجود أمة مؤمنة في كل زمان.
الثالثة: في الآية دلالة على صدق نزول القرآن من عند الله من وجوه:
الأول: الإخبار عن أحوال الأمم.
الثاني: الفصل والتمييز بين أهل الملة الواحدة.
الثالث: المدح والثناء على فرقة من المؤمنين.
الرابع: تعدد صفات الحسن التي يتصف بها المؤمنون بالله من أهل الكتاب.
الرابعة: في الآية بشارة للمسلمين بان أهل الكتاب لا يشتركون جميعاً في محاربة المسلمين، وبعث السكينة في نفوسهم، فاذا هدد يهود المدينة مثلاً المسلمين بتأليب النصارى عليهم فان هذا التهديد لا أثر له في الواقع.
الخامسة: تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على مدح موسى وعيسى عليهما السلام لبقاء أمة من أتباعهما على ملة التوحيد.
السادسة: في الآية دعوة للمسلمين للإجتهاد في طاعة الله، وتعاهد مصاديق الإيمان والتقيد باداء الوظائف.
السابعة: تدل الآية على توارث أهل الكتاب للعلم بصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في التوراة والإنجيل بإعتبارها من آيات الله، ووجود أمة منهم تتعاهدها من غير تحريف ولا تغيير، ولذا بادر فريق منهم بدخول الإسلام مثل عبد الله بن سلام وأصحابه.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ليسوا سواء” لوجوه:
الأول: مجيء هذا اللفظ في أول الآية.
الثاني: دلالة هذا اللفظ على البيان والتفصيل والتقسيم النوعي.
الثالث: إنحصار ورود هذا اللفظ في القرآن في هذه الآية وحدها.
الرابع : هذا اللفظ المبارك تأسيس لعلم خاص في باب العقائد والقضاء والحكم
الآية سلاح
القرآن أمام للمسلمين في باب العقيدة والتكاليف، وفي ميادين الجهاد، وتثبيت دعائم الإسلام، وجاءت هذه الآية لتؤكدإمامته وهدايته للمسلمين في معرفة الناس وعقائدهم، وما يضمرون أزاء الإسلام والمسلمين كي لا يبالغ المسلمون في قوة العدو بما يبعث في نفوسهم الخوف ولا يستخفون به بما يجعلهم لا يأخذون أهبة الإستعداد لمواجهته، فجاءت هذه الآية لعزل الفاسقين الذين يعتدون على الإسلام عن أهل ملتهم وهو سبب لضعفهم وعجزهم عن الإضرار بالمسلمين، وتعطي هذه الآية قوة إضافية للمسلمين لما تدل عليه من عدم وجود مدد للكفار الذين يقاتلونهم.
والآية عون للمسلمين في السوق والعمل والجوار، فمن أهل الكتاب من يخشى الله ويجتنب الغش والسرقة وسوء المعاملة، ويحرص على الوفاء بالشرط وأداء الأمانة للمسلم ، ومنهم من يكون بخلافه، والمائز هو الإيمان أو الفسق، ويمكن استقراؤه من قوله تعالى [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ).
وفي الآية حث للمسلمين على تلاوة آيات القرآن في الليل والنهار، وتعاهد الصلاة والفرائض الأخرى لأنهم (خير أمة) ومن خصائص أفضل الأمم الإمامة في الخير والصلاح وحفظ وتعاهد آيات الله، وجعل المؤمنين من الأمم السابقة يلحقون بهم، ويتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله.
وتجعل الآية المسلمين يزدادون إيماناً لوجود مؤمنين من الملل السابقة يقرون بالتوحيد، ويعرفون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته التي جاءت في التوراة والإنجيل، وهومن فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بان جعل طريق الإيمان سالكة، ولا يشعر فيها الفرد والجماعة بالوحشة ولا يستولي الشك والريب على نفسه، بل بالعكس فاذا أثار الفاسقون الشك وقاموا بالجدال تأتي هذه الآية لتفضحهم، وتؤكد وجود أخوة لهم في الملة بقوا على الإيمان واتبعوا نهج الأنبياء السابقين.
وفي الآية تخفيف عن المسلمين بقيام المؤمنين من أهل الكتاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مصاديقه زجر الفاسقين عن التعدي على المسلمين، فالجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ ] يفيد قيام المؤمنين منهم بأمر الفاسقين بالصلاح والتوبة ، والتدبر في آيات القرآن والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجتناب مقاتلة المسلمين ، والكف عن الإضرار بهم ، وإنذار من يعتدي عليهم.
مفهوم الآية
جاءت الآيتان السابقتان بالإخبار عن تعدي فريق من أهل الكتاب على الإسلام ، ورميهم بالذل والمسكنة ومكثهم في غضب الله بسبب هذا التعدي ومن أجل الزجر عنه وعدم مواصلته، وجاء قبلهما قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ ] لبيان التقسيم بين أهل الكتاب،ومع هذا فقد يظن بعضهم ان حكم المسكنة واللبث في غضب الله شامل لأهل الكتاب، او عدم وجود ملازمة بين الفسق والتعدي على المسلمين .
وجاءت هذه الآية الكريمة لتخبر في مفهومها عن حقائق:
الأولى: التباين بين أهل الكتاب فيما يضمرون أزاء المسلمين.
الثانية: عدم تغشي الذلة والمسكنة لجميع أهل الكتاب.
الثالثة: إمكان حصول الصلح والوئام مع أمة من أهل الكتاب، وبيان صفات تلك الأمة بما لا يقبل اللبس والجهالة والغرر، لأن اللبس في المقام يعرض المسلمين وحرماتهم الى الأذى، فلو حصل الصلح مع الفاسقين، وإطمأن المسلمون لهم فقد ينكثون عهدهم فجاءت هذه الآية وألآية التاليةبذكر صفات المؤمنين من أهل الكتاب على نحو التفصيل.
الرابعة: إبتدأت الآية بصيغة الجملة الخبرية “ليسوا سواء” لكنها تتضمن درساً وإرشاداً للمسلمين، والمقاصد السامية من إخبار القرآن كنز من كنوز القرآن، وآية من بديع العلوم التي يتضمنها، فكأن الآية تدعو المسلمين الى أمور:
الأول: الحذر من الحكم على جميع أهل الكتاب بلحاظ فريق من الفاسقين الذين يصرون على التعدي على الحرمات.
الثاني: لزوم الفصل بين أهل الكتاب بحسب إيمانهم وعملهم، فمن الآيات ان المؤمنين منهم لا يكتفون بالإقرار بالربوبية لله تعالى، والتسليم باليوم الآخر، بل انهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويبادرون الى فعل الخيرات.
الثالث: التقيد بأحكام قوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( )، وان المدار على الإختيار والفعل الشخصي، لذا ترى المسلمين لا يأخذون البريئ بجريرة الجاني والظالم، ولا يصح المقابلة بالتعدي على غير المتعدي ، قال تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( )، فحصرت جهة الرد بالمثل بذات المعتدي سواء كان شخصاً او جماعة أو أمة.
وجاءت الآية محل البحث لتخرج فريقاً من أهل الكتاب من موضوع التعدي أصلاً، وفيه تخفيف عن المسلمين فلا يستلزم الأمر الإجتهاد في تعيين المعتدي والفصل بين المعتدين وغيرهم من أهل ملتهم، وجاءت هذه الآية لتؤكد وجود أمة من أهل الكتاب لم ولن تشترك بالإضرار بالمسلمين.
الرابع: لقد جعل الله عز وجل أسباب حاجات الناس بالناس وبعضهم يحتاج بعضاً، وإحتاج المسلمون في بداية البعثة غيرهم سواء في المعاملات والبيع والشراء، او في شراء وإستعارة الأسلحة، او الأمن من المكر والكيد وتأمين جهة مخصوصة للأمن من الغدر والغيلة، فجاءت هذه الآية الكريمة للإخبار عن إمكان ابرام العهود مع فريق من أهل الكتاب والإطمئنان اليهم، وبينت صفاتهم بما يجعل المسلمين يتطلعون الى دخولهم الإسلام، ولا ينفرون منهم في المعاملات والجوار والجدال.
الخامسة: تتضمن الآية في مفهومها ذم الفاسقين من أهل الكتاب وقيام الحجة عليهم بوجود إخوان لهم من أهل ملتهم يقومون بتلاوة آيات الله ويتجنبون التعدي على المسلمين.
السادسة: في الآية دعوة لكل كتابي للإلتحاق بالمؤمنين منهم في تلاوة الآيات ، والتدبر في مضامينها القدسية.
السابعة: جاء الإسلام لمنع غلبة الفسق والخروج عن الطاعة على جميع أهل الكتاب، وقد جاء قبل آيتين الإخبار بان المؤمنين منهم هم القلة بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]
فجاءت هذه الآية لتثبيت المؤمنين منهم في منازل الإيمان وتحثهم على تلاوة الآيات وتزجرهم عن التواطئ مع الفاسقين على التعدي على الإسلام.
وجاءت في هذه الآية ألفاظ لم ترد في غيرها وهي:
الأول: ليسوا سواء .
الثاني: أمة قائمة .
الثالث: وهو يسجدون .
إفاضات الآية
بين الإيمان والكفر تضاد وتنافِ، وتحتمل البداية فيهما وجوهاً:
الأول: الأصل هو الإيمان، وان بداية خلق الإنسان ووجوده في الأرض بالإيمان.
الثاني: أول ما وجد في الأرض هو الكفر، بدليل ان ابليس هو الذي أسس الكفر، وقد كفر في السماء ثم نزل الى الأرض من غير ان يغادر الكفر، وجاء هبوطه الى الأرض دعوة الى التوبة والإنابة بتحسس آثار فقد نعمة الجنة ومغادرتها بسبب الذنب والخطيئة، وكانت توبة آدم وحواء موعظة وعبرة له، وحثاً له على التوبة.
الثالث: الملازمة والإقتران بين الإيمان والكفر في الأرض، اذ نزل آدم وابليس الى الأرض مرة واحدة، وكان آدم مؤمناً وابليس كافراً.
الرابع: رجحان كفة الإيمان في بدايات الحياة على الأرض مع وجود الكفر، اذ ان آدم وحواء مؤمنان وابليس وحده هو الكافر.
والصحيح هو الثالث، فان الله عز وجل أراد للأرض ان تكون محلاً لخلافته، ومسكناً لخليفته، فكان الأصل وجود آدم خليفة الله مؤمناً، ولا عبرة بكفر ابليس خصوصاً وانه ليس من البشر كما انه كان مؤمناً وجاءه الكفر كعرض لحقه لتكبره وغروره وجهله في مادة وعلة خلق الإنسان.
ومن الآيات ان الإيمان لم يغادر الأرض، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء يعقب بعضهم بعضاً، ليبقى الإيمان ربيعاً للقلوب المنكسرة، وينبوعاً مباركاً يسقي الأرض، لتنبت شجرة الهداية في الأمصار المختلفة، ورحيقاً وطيباً يستنشقه الناس، وضياء يجذب فريقاً من الناس ليحرصوا على إتباعه في ظلال النبوة، وأحكام الرسالة، ولتبقى بعثة الأنبياء واقية من إستحواذ الكفر والجحود على المجتمعات الإنسانية.
وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتمنع والى يوم القيامة الكفر من الأستحواذ والتفشي، أو رجحان الكفر وإستيلائه على النفوس وعالم الأفعال.
وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين اذ انعم الله عز وجل على أهل الأرض وجعل في بعثته اندحاراً وهزيمة للكفر ومفاهيم الشرك الى يوم القيامة، وإنحصر الثناء والمدح بأهل الإيمان والصلاح الذي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبدأت ببعثته المباركة أيام ثبات وإستدامة أحكام الشريعة في الأرض وتلاوة آيات الله السالمة من التحريف والتبديل والتغيير الى يوم القيامة.
ومنها الآيات التي تبين أحوال الناس والمذاهب، كهذه الآية الكريمة التي تتضمن الإخبار عن التباين بين أهل الكتاب أنفسهم، ووجود أمة منهم كانت تتلو آيات الله ونتعاهد تركة الأنبياء، وتحافظ على كلمة التوحيد الى ان جاءت الرسالة الإسلامية ،وما فيها من تجلي معاني الحق والإستقامة ، ودعوة القرآن للناس جميعاً لدخول الإسلام، وهذه الدعوة فضل ورحمة من عند الله عز وجل عليهم جميعاً.
الآية لطف
جاءت الآيتان السابقتان عوناً للمسلمين، وبياناً لسوء حال الذي يحاربونهم ويتعدون على حرمات الإسلام، ومع اختلاف موضوع هذه الآية فانها عون ايضاً للمسلمين، ولطف بهم اذ تبعث السعادة في قلوبهم بالإخبار عن التفصيل والتقسيم في أهل الكتاب، ووجود أمة منهم تتلو الآيات وتعمل الصالحات مما يدل على عدم قيامها بالتواطئ والإشتراك بالتعدي على المسلمين.
وتتضمن الآية دعوة أهل الأرض الى الهداية والإيمان وترغيبهم بدخول الإسلام، وتلاوة القرآن لما فيه من بيان لأحوال الأمم وإقتباس الدروس المواعظ والعبر، ليدركوا من خلالها إعجاز القرآن وسماويته والأسرار التوليدية لآياته.
وفي الآية لطف بأهل الكتاب عامة لأنها تمنع من إستمرار وإتساع رقعة القتال بينهم وبين المسلمين، وفيها دعوة للفاسقين من أهل الكتاب للرجوع الى رشدهم والتقيد بأحكام الكتاب الذي ينتمون اليه فمع إيمان الفرد والجماعة بالله واليوم الآخر وتلاوتهم للآيات فانهم يجتنبون التعدي على المسلمين وما فيه من الخروج عن طاعة الله.
لقد أراد الله عز وجل بالهداية والإيمان تخلص الناس من الذلة والمسكنة والمكث في غضب الله، والتخفيف عن المسلمين في جهادهم وقتالهم في سبيل الله.
ومن اللطف الإلهي في هذه الآية إشعار المؤمنين من أهل الكتاب بسماوية القرآن، ودعوتهم للثبات في تلاوة الآيات وعدم تحريف صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في التوراة والإنجيل.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان التفصيل في أهل الكتاب، وتقسيمهم والثناء على أمة منهم مع بيان صفات الحسن التي يتصفون بها.
الثانية: دلالة الآية على ذم الفاسقين من أهل الكتاب الذين خالفوا إخوانهم وأهل ملتهم الذين تقيدوا بأحكام الكتاب الذي ينتمون اليه، اذ تأمر التوراة والإنجيل بتلاوة الآيات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يأتي هذا الذم مجرداً وغاية بذاته بل انه زاجر عن التعدي على المسلمين، ودعوة للإنتقال من ظلمة الكفر والجحود الى منازل الإيمان وما فيها من أسباب الهداية والرشاد.
الثالثة: دعوة المسلمين لمعرفة أقسام ومذاهب أهل الكتاب، وتعيين الفاسقين بما يساعد في إجتناب أذاهم وتعديهم على المسلمين.
الرابعة: التخفيف عن المسلمين وطرد الفزع عن نفوسهم بالإخبار عن عدم إجتماع أهل الكتاب في محاربة الإسلام والمسلمين.
الخامسة: هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] لما فيها من الدلالة على عدم مؤازرة أهل الكتاب للفاسقين في تعديهم على الإسلام، وصحيح ان آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] جاءت بالإخبار عن ان الفاسقين من أهل الكتاب هم الأكثر بالنسبة للمؤمنين منهم، إلا ان وجود أمة مؤمنة من أهل الكتاب كافِ لبعث الشك والتردد في قلوب الفاسقين منهم، وجعلهم يدركون ولو على نحو الموجبة الجزئية خطأهم وضلالتهم، وهذا الشك والإدراك النسبي سبب في تثبيط عزائمهم عند مواجهتهم للمسلمين وإختيارهم الهزيمة مع رؤية طلائع المجاهدين.
السادسة: حث المسلمين على تلاوة آيات الله في أوقات الليل، فهم ورثة الأنبياء وحفظة ملة التوحيد.
أسباب النزول
في الآية أقوال:
الأول: ذكر انه لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود: لقد كفرتم وخسرتم، وقيل ان أحبار اليهود قالوا: ما آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الا شرارنا فأنزل الله الآية، نسب الطبرسي هذا القول الى ابن عباس وقتادة وابن جريج( )، وقال الرازي: عليه الجمهور( ).
الثاني: نزلت الآية في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، عن عطاء( )، وذكره الطبرسي أيضاً الا انه ذكر “ثمانية من الروم” بدل ثلاثة( ).
الثالث: قال الفراء: بلغني انها نزلت في قوم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.
الرابع: ذكر الرازي قولين في المراد من أهل الكتاب في هذه الآية، جمع في الأول منهما الأقوال الثلاثة أعلاه ، أما القول الثاني فهو: المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من اهل الأديان، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم قال تعالى [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]( )، وأستدل عليه بما روي عن ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخر صلاة العشاء ثم خرج الى المسجد، فاذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم، وقرأ هذه الآية.
قال القفال: ولا يبعد أن يقال: اولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا( ).
ومضامين الآية أعم من أن تنحصر بأسباب النزول وهي باقية مع تعاقب الأيام لتكون هدى ونوراَ للمسلمين ، ووسيلة سماوية لتثبيت الإيمان في الأرض.
التفسير
قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً]
جاءت الآيتان السابقتان في ذم الذين يعتدون على الإسلام من أهل الكتاب، والإخبار عن ابتلائهم بضروب المحن وحال المسكنة والوهن، وجاءت هذه الآية لتخرج فريقاً من أهل الكتاب من عموم الآيتين السابقتين، ومن الآيات ان هذا الإخراج والتخصيص ليس ابتدائياً بل جاءت الدلالة عليه قبل ثلاث آيات في قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] لتؤكد هذه الآية أموراً:
الأول: التفصيل في أهل الكتاب وعدم إشتراكهم جميعاً في التعدي على المسلمين.
الثاني: وجود أمة مؤمنة منهم.
الثالث: بعد وصف المؤمنين من أهل الكتاب بانهم الأقل جاءت هذه الآية لتخبر عن كونهم أمة لها نهجها الثابت، فكونهم قلة بلحاظ عموم أهل الكتاب، وليس قلة في ذاتهم وعددهم وفعلهم، فهم أمة في الخير والصلاح، وعنوان القلة هنا فخر وعز ، قال تعالى [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ] ( ).
الرابع: التباين والتنافي بين المؤمنين والفاسقين من أهل الكتاب، وعدم إشتراك المؤمنين منهم في التعدي على الإسلام والمسلمين.
والجمع بين هذه الآية والآيتين السابقتين يفيد الإخبار عن المؤمنين من أهل الكتاب بأمور:
الأول: لن يضروا المسلمين، ولا يصدر منهم أذى أزاء الإسلام.
الثاني: لا يقاتل المؤمنون من أهل الكتاب المسلمين.
الثالث: قبول الجزية من أهل الكتاب غير الحربيين.
الرابع: يمكن إعتبار هذه الآية حبلاً من الله بخصوص المؤمنين من أهل الكتاب لما فيها من مدحهم والثناء عليهم.
فتفيد الواو في قوله تعالى في الآية السابقة [بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] الجمع وان من الناس من تصرف عنه الذلة للعهد والميثاق من الله ومن المسلمين ، كما في المؤمنين من أهل الكتاب لإيمانهم بالله واليوم الآخر، ولقيامهم بدفع الجزية هذا على القول بإرادة أمة من اليهود والنصارى ممن كان على دين موسى وعيسى عليه السلام وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد إبتدأت الآية بلفظ لم يوجد الا في هذه الآية “ليسوا سواء” وفيه دلالة على موضوعية الآية، وإعتبارها في معرفة مذاهب الناس والتباين بينهم حتى في حال إتحاد المذهب ، وتحتمل الدعوة والتنبيه في الآية وجوهاً:
الأول: إكرام أهل الكتاب مطلقاً لإنتمائهم الى كتاب سماوي.
الثاني: التمييز بينهم بلحاظ الملة التي ينتمون اليها فمنهم اليهود، ومنهم النصارى.
الثالث: الفصل والتمييز بينهم بحسب أفعالهم أزاء الإسلام، وكيفية تصرفهم مع المسلمين، وهل يختارون التعدي على حرماتهم أم لا.
الرابع: مؤاخذة أهل الكتاب جميعاً لقيام فريق منهم بالتعدي على المسلمين ومقاتلتهم.
الخامس: جعل المدار في كيفية التصرف معهم على الإيمان بالله أو الخروج عن الطاعة ، لقوله تعالى قبل ثلاث آيات [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ].
السادس: إعتبار دفع الجزية أو عدمه، فمن يدفع الجزية يختلف عمن لا يدفعها.
السابع: التمييز بينهم بحسب الوفاء بالعهود والمواثيق التي عقدوها مع المسلمين او عدم الوفاء بها.
والصحيح هو الثالث والخامس والسادس والسابع، ويتجلى هذا التعدد بالإطلاق الوارد في الآية الكريمة [لَيْسُوا سَوَاءً] وان كان يؤكد تقسيم أهل الكتاب الى قسمين مؤمنين وفاسقين، الا ان التعدد أعلاه لا يتعارض مع هذا التقسيم.
فبالنسبة للوجه الثالث أعلاه فان المؤمنين من أهل الكتاب لا يعتدون على المسلمين.
أما الوجه الخامس فان إيمان الطرف الآخر له موضوعية في إختيار صيغ التعامل معه وكأنه ملحق بحبل من الله.
واما السادس فانه دفع الجزية يملي على المسلمين حفظ العهد، وجعل الكتابي في ذمة الإسلام وحماية المسلمين.
وأما السابع فانه من مصاديق قوله تعالى [وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ] ولابد من الوفاء بالعهود والمواثيق وفيه نشر للأمن، وبعث الناس للتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وترغيب بدخول الإسلام ، والفوز بالنعم الأخروية التي بشر الله عز وجل بها المسلمين في القرآن.
وجاءت واو الجماعة في “ليسوا” للدلالة على أهل الكتاب من وجوه:
الأول: سياق الآيات ومجيؤها بخصوص أهل الكتاب.
الثاني: ورود تقسيم أهل الكتاب الى قسمين قبل آيتين كما في قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]، وجاء قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] إشارة للذين سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب.
الثالث: ذكر اهل الكتاب على نحو الخصوص كبيان لأصل التقسيم بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ] مما يدل على ان المراد من واو الجماعة في “ليسوا” هم أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى نسبة الى التوراة والإنجيل، وهذه النسبة ووجود أمة مؤمنة بينهم حجة على الفاسقين منهم.
الرابع: جاءت هذه الآيات بصيغتين في الخطاب:
الأولى: لغة الخطاب للسامع، وهم المسلمون بدليل قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثانية: لغة الغائب اذ تتكلم الآيات عن أهل الكتاب في تقسيمهم الى قسمين:
الأول: الفاسقون الذين يسعون للإضرار بالمسلمين، وهذا السعي جزء من خروجهم عن طاعة الله، وان استحقوا النعت بالفسق قبل البعثة النبوية المباركة.
الثاني: المؤمنون بالله واليوم الآخر من أهل الكتاب الذين إتبعوا الأنبياء السابقين، وتلقوا البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق.
وجاء “سواء” في المقام بمعنى التساوي والتشابه وتقدم ليس عليها في الآية “ليسوا سواء” يفيد نفي التساوي والتشابه بين أهل الكتاب، ويحتمل موضوع انتفاء التساوي أموراً عديدة في الشأن والمعاش، والهيئة والغنى والفقر وغيرها، الا ان موضوع الآية يتعلق بالعقائد وتقسيم أهل الكتاب بلحاظ الإيمان او عدمه، مما يدل على ان المدار في منازل الناس على الإيمان، ومن كان مؤمناً يستحق المدح والثناء ، ومن كان كافراً يأتيه الذم والتقبيح.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية الا انها تتضمن معنى الإنشاء ولغة الخطاب الى المسلمين وفيه مسائل:
الأولى: إخبار المسلمين عن حال أهل الكتاب.
الثانية: دعوة المسلمين الى معرفة إنتماء كل فرد أو جماعة من أهل الكتاب، وهل هم من المؤمنين ام الفاسقين.
الثالثة: التباين في المعاملة مع أهل الكتاب بلحاظ الإيمان، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عدمه.
الرابعة: جاءت هذه الآية رحمة بأهل الكتاب اذ ان المؤمنين منهم مدعوون لدخول الإسلام باعتبار ان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء من الإيمان، فمن كان يؤمن بالله منهم لابد وان يصدق بالبشارات التي جاءت في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل وبالمعجزات التي جاء بها بإذن الله، كوثيقة سماوية لتصديق نبوته، ومنها الآية العقلية الخالدة القرآن والذي يقسم أهل الكتاب الى قسمين بما يجعل المسلمين يحترزون من الكيد والشر وصيغ المباغتة في القتال، والآية إنحلالية بلحاظ الأفراد والجماعات والفرق من أهل الكتاب اذ يشملهم جميعاً الإختلاف والتباين.
وتقدير الآية ليس أهل الكتاب على درجة وحال واحدة، فالذين آمنوا منهم وصدقوا بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس كالذين كفروا وجحدوا بنبوته، ليكون هذا التفصيل مقدمة لبيان وجوه الإفتراق والإختلاف بينهم.
ومن الآيات إنتفاء اللبس والإجمال في الآية اذ جاء تقسيم أهل الكتاب الى قسمين مع بيان ما يلحق المسلمين من الأذى من الفاسقين.
بحث نحوي
في “ليسوا سواء” من جهة القراءة النحوية وجهان:
الأول: أنه كلام تام، وقوله تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] كلام مستأنف لبيان التفصيل، والتقدير: ليس أهل الكتاب سواء، فلما ذكرت الآيتان السابقتان سوء فعل فريق من أهل الكتاب وتعديهم على المسلمين جاء قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] لطفاً وفضلاً وتخفيفاً من عند الله عن المسلمين.
الثاني: انه كلام غير تام، ولا يصح الوقف عنده ويكون قوله تعالى “أمة ً” مرفوعاَ بإعتباره اسم ليس، وإنما جاءت “ليسوا” بواو الجماعة، على لغة “أكلوني البراغيث” التي تتضمن تكرار الفاعل بالواو في “أكلوني” والبراغيث وهو بعيد لفظاً ومعنى، وأنكره كثير من النحويين والمفسرين “فقال الزجاج والرماني: وليس الأمر كما قال، لأن ذكر أهل الكتاب قد جرى فأخبر ألله انهم غير متساويين، ولأن هذه اللغة أي أكلوني البراغيث رديئة في القياس والإستعمال”( ).
أقول: هناك تباين موضوعي في المعنى والمراد بين لغة “أكلوني البراغيث” وبين قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ] لإرادة البراغيث من واو الجماعة في “أكلوني البراغيث” وبين “الواو” والبراغيث تساوِ، أما بالنسبة للآية القرآنية، فبين “الواو” في ليسوا وبين قوله تعالى “أمة” عموم وخصوص مطلق وليس التساوي، فالمراد من “الواو” أهل الكتاب مطلقاً، أما المراد من الأمة فهي طائفة وفريق من أهل الكتاب، فلا لاتصل النوبة إلى الإستدلال بلغة أكلوني البراغيث أو نفيه.
ويكون الوجه الأول، وهو إعتبار( ليسوا سواء ) كلاماُ تاماً هو الصحيح.
قانون “ليسوا سواء”
تقدم في إعجاز الآية ان هذا اللفظ لم يأتِ في القرآن الا في هذه الآية الكريمة، لتكون إخباراً عن عدم وجود تساوِ وتشابه بين أفراد وجماعات أهل الكتاب والناس بلحاظ العقائد على أقسام ثلاثة:
الأول: المسلمون.
الثاني: أهل الكتاب.
الثالث: الكفار الوثنيون.
وجاءت الآية خاصة بأهل الكتاب، أما المسلمون فان الآيات القرآنية أكدت انهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ومن خصائص خير أمة الإتحاد عدم وجود تباين بين أفرادها في العقيدة والمذهب، لذا فان المسلمين يلتقون بالشهادتين، ويحكمون فيما بينهم وعلى غيرهم وفق الكتاب والسنة، كما جاءت الآيات بالتأكيد على وجوب إعتصامهم بحبل الله وإجتناب الفرقة والتشتت في المذاهب والأفعال.
وأما الكفار فان إنقسامهم وتشتتهم من باب الأولوية بالقياس الى أهل الكتاب، وليس عندهم أمة مؤمنة، وهذا التباين بين المسلمين وغيرهم عون للمسلمين لتثبيت دعائم التوحيد، ونشر مفاهيم الإسلام في الأرض، وجاء قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] بخصوص أهل الكتاب الا انه عام وشامل لغير المسلمين بلحاظ التباين في كيفية التصرف أزاء الإسلام والمسلمين.
فمن الكفار من حارب الإسلام والمسلمين كما في كفار قريش، ومنهم من يجتنب التعدي على الإسلام والمسلمين، وخصوص الوارد لا يخصص المورد الذي هو عام يتضمن دعوة المسلمين للتصرف أزاء الناس بحسب مذاهبهم وتصرفهم أزاء الإسلام والمسلمين، ومنهم من يمد أعداء الإسلام بالسلاح والمال ، ومنهم بخلافه إذ يقوم بمساعدة وإعانة المسلمين لدفع عدوهم.
وتؤسس الآية قواعد ومفاهيم للفصل والتمييز بين الناس بلحاظ المذهب والفعل مع التقيد بالكبرى الكلية وهي الدعوة الى الله تعالى، وهذا التمييز في المعاملة وسيلة وصيغة من صيغ الدعوة وجذب الناس الى منازل الإيمان والصلاح، وتلك آية إعجازية في فلسفة الدعوة الى الإسلام وتعدد صيغها، وكيفية إختيار السبيل والصيغة المناسبة مع كل فرد وجماعة وأمة من الناس، لذا تجد أحكام الجزية خاصة بأهل الكتاب ممن لم يقم بقتال المسلمين والتعدي عليهم والذي يسمى في الإصطلاح حربياً.
ولما جاء قبل عشر آيات قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] جاءت هذه الآية لتمنع الفرقة بين المسلمين بخصوص كيفية التصرف مع فرق أهل الكتاب وحصول التباين في الإجتهاد، وتمنع الآية من إصرار فريق من المسلمين على إلتزام صيغة واحدة مع جميع أهل الكتاب، اذ انها تخبر عن كونهم [لَيْسُوا سَوَاءً].
وهذا المنع مقدمة لعدم حصول الفرقة والإنقسام بين المسلمين ، وكثير من الأمم والمذاهب والقبائل إنقسمت بسبب مسألة خلافية ثم إتسعت وتفرعت الفرق والجماعات منها، أما المسلمون فان الله عز وجل يتعاهد وحدتهم بهدايتهم لأفضل السبل ويمنع من تفرقهم وتشتتهم وهذا المنع من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ان قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] ضياء عقائدي ينير للمسلمين دروب الجهاد والعمل، ويزيدهم إرتقاء في مراتب العلم والمعرفة، واذا كان الإختلاف موجوداً بين أهل الكتاب فمن باب الأولوية القطعية وجوده عند الملل الأخرى من أهل الأرض بإتحادها وتعددها أي بين أهل كل ملة على حدة، وبينها وبين غيرها من الملل والنحل، وهذا الإختلاف نوع رحمة بالمسلمين لأنه عون لهم لمواجهة الأعداء والمعتدين وفيه تيسير لنشر مبادئ الإسلام، وواقية لأحكامه.
ويحتمل الإختلاف بين أهل الكتاب الذي يدل عليه قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] وجوهاً:
الأول: الإختلاف على نحو جزئي وجهتي.
الثاني: تعدد الآراء والأقوال.
الثالث: كثرة المذاهب.
الرابع: التباين والتناقض.
وهذه الوجوه من مصاديق الآية، بدليل قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] الذي يبين موضوع الإختلاف في العقيدة والمبدأ وكيفية التصرف أزاء المسلمين الذين يدعون الى التوحيد ويحاربون الشرك والضلالة، وتحتمل الآية من جهة أوان الإختلاف والتباين بين أهل الكتاب وجوهاً:
الأول: إنحصار التباين بأيام التنزيل.
الثاني: بقاء أحكام الآية القرآنية، وعدم انقطاعها في زمان دون آخر.
الثالث: موضوع التباين عقائدي ويتعلق أيضاً بعالم الأفعال.
الرابع: تعدد الشواهد التأريخية واليومية التي تؤكد وجود هذا التباين بين أهل الكتاب ووجود فريق منهم يؤمن بالتوحيد، ويقر باليوم الآخر ولا يرضى بالتعدي على المسلمين، ووجود فريق منهم إختار الإضرار بالمسلمين والخروج عن طاعة الله.
بحث بلاغي
من وجوه “البديع” الإدماج، وهو أن يذكر المتكلم غرضاً ويبين غاية، ويأتي ببديع، ولكنه يقصد معه غرضاً وبديعاً آخر لا يظهر في الكلام، ولكنه يستقرأ من مفهومه ودلالته التضمنية أو الإلتزامية، ومن الآيات ان المقاصد والغايات في الآية القرآنية أعم وأكثر من أن يحيط بها العقل الإنساني، وهو من أسرار دوام تجدد القرآن وأسرار بلاغته وشموله للامنتهي من الوقائع والأحداث، فإبتدأت هذه الآية بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] والمتبادر الى الذهن من معنى واو الجماعة في “ليسوا” انها تعود لأهل الكتاب فبعد مجيء آيتين ببيان الأخلاق الذميمة للفاسقين منهم وسوء أفعالهم، جاءت هذه الآية للإخبار عن وجود تباين بين أفراد أهل الكتاب والدلالة على الإختلاف بينهم، ويحتمل هذا الإختلاف وجوهاً:
الأول: إنحصاره بالأشخاص والأفراد، فيكون الإختلاف والتباين على نحو القضية الشخصية.
الثاني: يقع الإختلاف بين الفرق والمذاهب منهم.
الثالث: الإختلاف بين اليهود والنصارى.
الرابع: وجود جماعات منهم تتعدى على المسلمين وتنقض العهود كما في يهود المدينة.
الخامس: تشمل أحكام الآية الصلات بين الدول.
السادس: التخفيف عن المسلمين وإستحضار ذكر نفر من اليهود الذين أسلموا، وحسن معاملة النجاشي للمسلمين الذين هاجروا الى الحبشة والتزام نصارى نجران بالصلح الذي أبرموه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: مضامين الآية عامة وشاملة لأفراد الزمان الطولية، وتشمل زمان العولمة والتداخل والتقارب بين البلدان والمدن والملل والنحل، لتكون هذه الآية سلاحاً بيد المسلمين الى يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، وفيها شاهد على تعدد أغراض الآية القرآنية والنفع العظيم لهذا التعدد.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن مجيء قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] بعد ذكر الفاسقين من أهل الكتاب وقبح أفعالهم، وتعديهم على المسلمين لتكون هذه الآية طرداً لليأس من قلوب المسلمين، ومانعاً من النفرة والشدة مع عموم أهل الكتاب ودعوة للمسلمين للإحتجاج والحجة وجذبهم للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكيرهم بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل.
والمراد من واو الجماعة في “ليسوا” وجوه:
الأول: اليهود والنصارى.
الثاني: الكفار والمشركون، لإرادة بيان التباين بين أهل الكتاب والمشركين.
الثالث: الناس جميعاً، للإخبار عن موضوعية الإيمان والكفر في تعيين منازل الناس.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: نظم الآيات، ومجيؤها بخصوص أهل الكتاب.
الثاني: ما جاء في آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] من تقسيم الناس الى قسمين، مؤمنين وفاسقين.
الثالث: ورود قوله تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ] لإرادة شطر من أهل الكتاب، فجاءت “الواو” في ليسوا عامة، ثم جاء البيان والإخبار عن فريق وأمة منهم ، وكأنه من ذكر الخاص بعد العام.
وتبين الآية عالمية الرسالة الإسلامية، وذكر آيات القرآن لأحوال الأمم وأهل الملل على نحو التفصيل، ويحتمل البيان والتفصيل في أحوالها وجوهاً:
الأول: الإخبار المحض.
الثاني: جذب أهل الكتاب الى الإيمان.
الثالث: دعوة المسلمين الى التمييز بين أهل الكتاب، وعدم مؤاخذتهم جميعاً بفعل الفاسقين الذين يعتدون على المسلمين ، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
الرابع: التفصيل والبيان شاهد على إعجاز القرآن، خصوصاً وان الذين على صلة وقرب من المسلمين ومحل التنزيل أمة قليلة من أهل الكتاب بينما جاءت الآية لبيان أحوال أهل الكتاب قبل وبعد التنزيل وعلى نحو الحكم العام الشامل للجميع.
الخامس: بيان حقيقة وهي ان المسلمين أئمة الهدى ، وقادة الأمم الى الصلاح.
وكل الوجوه أعلاه صحيحة بإستثناء الوجه الأول، اذ ان المسألة من البيان والقصص التي تتجلى فيها معاني الإعتبار والإتعاظ.
ويدل وجود أمة قائمة من أهل الكتاب على أمور:
الأول: النفع العام من بعثة الأنبياء السابقين.
الثاني: الأثر الحسن اللاحق المترتب على نزول الكتب السماوية السابقة.
الثالث: وجود أمة من أهل التوحيد حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتتصف هذه الأمة بالإيمان بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبادر الى دخول الإسلام.
قوله تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]
ذكرت الآية أهل الكتاب على نحو التخصيص وبصيغة التبعيض وليس الإطلاق، والمراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى لإنتسابهم الى الكتاب الذي أنزل من السماء على موسى وعيسى وهما التوراة والإنجيل.
بحث كلامي
جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، ولكنها تتضمن في معانيها لغة الإنشاء وتوجه الخطاب الى المسلمين لمعرفة أحوال الأمم الأخرى والتفصيل بين فرقها، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] اذ يتفضل الله عز وجل على المسلمين بإعتبارهم خير الأمم ويحذرهم من الإجمال والإطلاق في نعت الأمم والحكم على أهل الملل، فاذا قام يهود بني النضير بالتعدي على المسلمين، فلا يعني هذا ان اليهود جميعاً او هم والنصارى يتعدون على المسلمين ويرغبون في الإضرار بهم، وتتفرع عن هذه الحقيقة أمور منها ان النصر على بني النضير لا يعني أخذ أهل الكتاب بأشد الأحوال وان أظهر فريق من أهل الكتاب الإعراض عن الآيات، وقام بعضهم بالجدال وإثارة اللبس والريب، فلا يكون جداله مانعاً من دعوته وغيره للإسلام، وبيان الحجة والدليل، وذكر المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لغيره من أهل الكتاب متحداً كان او متعدداً.
ولم يستبعد الرازي ان يكون “المراد من أهل الكتاب كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فسماهم الله بأهل الكتاب كأنه قيل: اولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، يستويان، فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله “كنتم خير أمة” وهو كقوله أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ.
والصحيح ان المراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى وهو المتبادر وتدل عليه آيات عديدة قال تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( )، وقال تعالى [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ] ( )، وتدل واو العطف في الآية أعلاه على التعدد والتباين بين المسلمين وأهل الكتاب.
هذا بالإضافة الى نظم الآيات، وقوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] ( )، ومع ان المسلمين اهل كتاب سماوي الا انهم لم يخاطبوا في القرآن بنداء أهل الكتاب لوجوه:
الأول: بين القرآن والكتاب في المقام عموم وخصوص مطلق، فالقرآن كتاب سماوي وليس كل كتاب سماوي قرآناً، اذ ان القرآن اسم خاص لآيات الله التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: نعت اليهود والنصارى بأهل الكتاب تشريف لهم بلحاظ الإنتساب للكتاب السماوي، وفيه دلالة على صدق نزول القرآن من عند الله بجعل موضوعية لإتباع الكتاب السماوي والإنتساب اليه.
الثالث: الوصف بأهل الكتاب تذكير لليهود والنصارى بوظائفهم التي يمليها اتباع الكتاب السماوي، بالتصديق والعمل بالبشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل في صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم حصر الإيمان بنبوته ونصرته.
الرابع: بيان المائز بين اليهود والنصارى وبين الكفار الوثنيين وعبدة الأصنام.
الخامس: في نعت اليهود والنصارى بأهل الكتاب حجة عليهم، لأن القرآن كتاب الله ويتضمن الشهادة الذاتية على صدق نزوله من عند الله، فمن ينتسب للكتاب السماوي عليه العمل بالقرآن بإعتباره الكتاب السماوي الجامع للأحكام الشرعية.
قوله تعالى [أُمَّةٌ قَائِمَةٌ]
جاءت الآية بصيغة التبعيض بحرف الجر “من” في قوله تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] ولم تذكر باقي أهل الكتاب.
وقال الرازي ان تمام الكلام ان يقال: ومنهم امة مذمومة الا انه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر( ).
ولا تصل النوبة الى الإضمار من وجوه:
الأول: تقدم البيان قبل ثلاث آيات بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] وجاءت هذه الآية للبيان والتفصيل.
الثاني: قد تقدم في الآيتين السابقتين ذكر الخصال المذمومة للفاسقين الذين يسعون للإضرار بالمسلمين.
الثالث: ذكرت الآية أمة من أهل الكتاب ونعتتها بانها أمة قائمة مؤمنة بالله وفيه مدح وثناء لهذه الأمة، ولكنها لم تذكر غيرها من أهل الكتاب، وفيه وجوه:
الأول: ليس في أهل الكتاب أمة قائمة بذاتها من بين عموم أهل الكتاب غير هذه الأمة، وما عداها منهم فانهم أفراد وجماعات متفرقة.
الثاني: يقابل هذه الأمة أمم متباينة من أهل الكتاب.
الثالُث: تقسيم أهل الكتاب حسب ما جاء قبل ثلاث آيات الى قسمين بقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] وكما جاءت الآيتان السابقتان ببيان حال الفاسقين وقبح فعلهم وتعديهم على المسلمين، جاءت هذه الآية والآية التالية في بيان صفة المؤمنين من أهل الكتاب.
والصحيح هو الثالث، فقد قسمت هذه الآيات أهل الكتاب الى قسمين، وبينت صفات كل قسم منهم، وتفضل الله عز وجل وبين صفات المؤمنين منهم لمنع اللبس والجهالة.
لقد أكرم الله عز وجل المؤمنين من أهل الكتاب بان وصفهم بانهم “امة” ويفيد هذا الوصف الإتحاد، والإلتقاء في الصفات، وجاءت هذه الآية الكريمة لمنع إنخراط هذه الأمة في التعدي على المسلمين والمشاركة في السعي للإضرار بهم والإعانة على قتالهم خصوصاً وان الفاسقين لا يفتأون يحرضون إخوانهم لنصرتهم وإعانتهم في مواجهة المسلمين وقد يقومون بتوبيخ وتعيير من يتخلف عن نصرتهم من أهل الكتاب.
فجاءت هذه الآية ليتجلى وجه من وجوه الإعجاز القرآني في عزل الفاسقين، وحجب المدد عنهم، وجعلهم عاجزين عن إيجاد النصير والظهير من ابناء ملتهم، ليكون درساً وعبرة لهم، ودعوة للكف عن إيذاء المسلمين، وتزداد في ذات الوقت قوة المسلمين ويكثر عددهم مع تعاهدهم لمعاني الأخوة الإيمانية في حال السلم والحرب.
وتحث الآية أهل الكتاب على البقاء على الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم الجزع بسبب تمادي الفاسقين منهم بالغي واصرارهم على التعدي على الإسلام، وهذا الإيمان مقدمة للإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من السماء لأنهما فرع الإيمان بالله عز وجل فالذي يؤمن بالله لابد وان يصدق بأنبيائه وكتبه على نحو العموم الإستغراقي.
وقد أنفرد المسلمون بالفوز بهذه النعمة العظيمة ونالوا المرتبة الرفيعة، ومدحهم الله عز وجل في القرآن ووصفهم بانهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
ومن خصائص خير أمة تثبيت أهل التوحيد، ومنعهم من الإنزلاق الى الفتنة والغواية وجاء نعت المؤمنين من أهل الكتاب بأنهم [أُمَّةٌ قَائِمَةٌ]، وفي معنى قائمة وجوه:
الأول: أنها جماعة ثابتة على أمر الله، عن ابن عباس وقتادة( ).
الثاني: أمة عادلة، عن الحسن البصري ومجاهد وابن جريج.
الثالث: قائمة بطاعة الله، عن السدي.
الرابع: التقدير: ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، عن الزجاج، وأنشد للنابغة:
وهل يأتمر ذو أمة وهو طائع
أي: ذو طريقة من طرق الدين، ونعت علي بن عيسى هذا القول بأنه ضعيف لأنه عدول عن الظاهر( ).
الخامس: انها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له، غير مضطربة في التمسك به كقوله تعالى [إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ).
ويمكن تفسير الآية على وجوه ثلاثة:
الأول:الذين أسلموا من أهل الكتاب وهم عبد الله بن سلام وأصحابه
الثاني: يمكن تفسير الآية بوجه آخر خلاف المشهور، وهو إرادة فريق من أهل الكتاب توارثوا التوراة والإنجيل وآمنوا بالله واليوم الآخر، وهو المختار.
الثالث: تحتمل الآية الكريمة وجود مسلمين بين أهل الكتاب، ولكنهم يخفون إسلامهم خشية الضرر والأذى وفي حال وجودهم فانهم جزء من الأمة القائمة وليس كلها.
وتصح الوجوه أعلاه على هذا المعنى بإعتبار ان الآية جاءت مدحاً لهم وبياناً لأفعالهم كمسلمين يحسنون الإمتثال لأوامر الله عز وجل ويؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه رد على أحبار اليهود الذين غاضهم إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه فقالوا: ما آمن بمحمد الا شرارنا، فنزلت هذه الآية لتبقى وثيقة سماوية تبين حسن سمت الذين إختاروا الإسلام، وهجروا منازل الضلالة والكفر، وتدعو الناس الى عدم الإلتفات الى جرحهم والإفتراء عليهم بغير حق، وجاءت آيات عديدة بهذا المعنى.
وقد يرد إشكال على هذا القول وهو كيف يتلو غير المسلم آيات الله مع السجود، وقد تقدم قبل آيات ان المراد من آيات الله هو القرآن لقوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ]( )، والجواب من وجوه:
الأول: المراد من آيات الله في المقام المعنى الأعم، والكتب السماوية النازلة ومنها التوراة والإنجيل.
الثاني: في الآية حجة على أهل الكتاب، لما فيها من الأخبار عن وجود آيات من التوراة والإنجيل لم تصلها يد التحريف والتبديل.
الثالث: في الآية توكيد لتضمن التوراة والإنجيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن أفضل مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الناس لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، والزجر عن إنكار نبوته خصوصاً وان التوراة والإنجيل جاءا بالبشارة به، والمعجزات صاحبت نبوته وتأخرت عنها، وهو ما إنفرد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن باقي الأنبياء من وجوه:
الأول: معجزات الأنبياء حسية، تنتهي بإنتهاء أوانها وزمانها، وتبقى روايتها.
الثاني: يطرأ التحريف والتغيير على الرواية مع تقادم الأيام فيبالغ فيها قوم، ويجحد بها آخرون.
فجاء القرآن ليكون وثيقة سماوية لحفظ آيات الأنبياء من الضياع والتحريف، وهو واقية وحرز دائم من محاولات إنكارها، وقد نعت فرعون وقومه موسى عليه السلام في أيامه هو وهارون بانهما ساحران، وسعوا لتأليب وتحريض أهل مصر عليهما كما في التنزيل [قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا]( )، والقرآن حاجة للناس ومعجزات الأنبياء لتثبيتها والمنع من تحريفها ونسيانها، وترتب النسيان على التحريف وإستقلال كل فرد منهما بذاته، ووجود أسباب خاصة بكل من النسيان والتحريف.
الثالث: اتصاف معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانها عقلية، إذ ان القرآن آية متجددة ما دامت السماوات والأرض.
لقد ذكرت الآيات القرآنية تلاوة أهل الكتاب لآيات الله بصيغة الذم لعدم إنتفاعهم من التلاوة قال تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ]( )، وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية: معناه وأنتم تقرأون التوراة وفيها صفة ونعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
وعلى القول الذي ذكرناه من إحتمال إرادة فريق من أهل الكتاب تمسكوا بالعمل بالتوراة والإنجيل وتلاوتهما، وهم يتطلعون الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنعته وصفته المذكورة فيهما، كما لو كانت الآية تقصد جماعة من أحبار اليهود أو رهبان النصارى أو هما معاً ممن لم تصله الدعوة الإسلامية، ولم يعلم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وانه ليس من وسائط سريعة في أيام البعثة النبوية تنقل أخبار النبوة، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصورة صحيحة وخالية من التحريف والتشويه، وقريب من هذا المعنى ما تقدم ذكره عن عطا.
وبإرادة الآية لأمة من أهل الكتاب تكون للآية مقاصد سامية ومنافع متعددة منها:
الأول: بعث الأمل في نفوس المسلمين بوجود أمة من أهل الكتاب تصدق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو بلغتها بعثته.
الثاني: دلالة الآية على إنتشار الإسلام في أصقاع الأرض المختلفة، بإيمان أفراد هذه الآية بنبوته.
الثالث: حث المسلمين على نشر الدعوة الإسلامية في ربوع الأرض، وإيصال الدعوة الى أهلها الذين ينتظرون أوان الطلعة البهية لسيد الكائنات.
الثالث: منع دبيب اليأس الى قلوب المسلمين من أهل الكتاب فاذا رأوا تعدي يهود المدينة ونقضهم للعهود يصيبهم الألم والحسرة والخشية على أهل الكتاب، فجاءت هذه الآية لمنع القياس، والإخبار عن التباين والتضاد بين أهل الكتاب.
الرابع: هذه الآية حرب على المشركين، وكان كفار قريش يسألون يهود المدينة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته المذكورة في التوراة والإنجيل فيخبرونهم بخلافها ويساعدونهم في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
فجاءت هذه الآية لتخبر المشركين من أهل الكتاب أمة لا زالت على عهد موسى وعيسى عليهما السلام وتتطلع بشوق الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمة تختلف تماماً عن أولئك الفاسقين الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين، أمة تتلو آيات الله، ولا تتعمد تحريف التوراة والإنجيل، فابحثوا عنهم واسألوهم عن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان كانت المعجزات التي جاء بها تغني عن المسألة.
الخامس: تفضح الآية أهل الكتاب الذي يحاربون المسلمين ويجحدون بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقومون بتحريف صفته ونعته الوارد في التوراة والإنجيل، وهي من الوعيد الدنيوي اذ انها تخبر عن إسلام هذه الأمة القائمة، حال وصول أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليها، وتلك آية إعجازية من آيات القرآن ان يذم ويتوعد قوماً بإخوانهم الذين لا زالوا على الحق والهدى ،ويمنع من قيامهم بتخويف المسلمين بهم وبنصرتهم لهم.
فاذا ذهب المشركون ويهود المدينة الى نصارى الروم أو الحبشة وطلبوا منهم النصرة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فانهم لن يجدوا إذناً صاغية، فيرجع الفاسقون والكفار بالخيبة والخسران، والشواهد التأريخية في المقام كثيرة، وفي النجاشي وأصحابه حجة على صدق هذه الآية، ووجود أمة من أهل الكتاب على دين موسى وعيسى عليهما السلام، وتنتظر بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ذهب كفار قريش الى النجاشي طلباً للعون والنصرة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطرد المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة منها، فكان رده مدداً للمسلمين، وشاهداً على إيمانه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نبوته.
وهل يمكن التفكيك بين الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب لا، فكل مؤمن لابد وأن يكون مسلماً بإعتبار ان الإيمان تصديق بالجوانح والأركان ولابد للمؤمن الكتابي من التصديق بنبوةالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون أمة قائمة
لم يأتِ هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية، وذهب مشهور علماء التفسير الى إرادة عبد الله بن سلام وأصحابه وهم من اليهود الذين أسلموا وتقدم ذكره في أسباب النزول، ولكن الآيات جاءت في ذكر أهل الكتاب وإبتدأت هذه الآية بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ].
وظاهر الآية إرادة فريق من أهل الكتاب، وعبد الله بن سلام وأصحابه أصبحوا مسلمين، ولم يعودوا من أهل الكتاب الا أن يراد التذكير بفريق من أهل الكتاب الذين إختاروا الإسلام وهو بعيد، لأن الإسلام يجّب ما قبله ولا يتم التمييز بين المسلمين وفق إنتمائهم ومللهم السابقة، فما أن ينطق المسلم بالشهادتين، حتى يكَبر المسلمون معلنين الغبطة بإسلامه ويكون له ما لهم، وعليه ما عليهم، وينال صفة المسلم، ولا يصدق عليه بعدها أنه من أهل الكتاب.
وتشمل الآية أمة من النصارى ظلت على دين موسى وعيسى عليهما السلام وما جاءا به من أحكام التوحيد والإقرار بالمعاد وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهم مصاديقهما الدعوة لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخويف من الجحود بنبوته، ومن تحريف صفته ونعته في التوراة والإنجيل التي جعلها الله عز وجل أمانة عقائدية عندهم.
والمراد من الأمة القائمة أي الثابتة على الحق، وفيه تعريض بالفاسقين من أهل الكتاب، وبعث للسكينة في قلوب المسلمين، وبشارتهم بعدم إمكان الفاسقين إستمالة جميع أهل الكتاب، بل هناك أمة لا زالت على دين موسى وعيسى عليهما السلام لا تأخذها عصبية الجاهلية، وتمتنع عن نصرة الفاسقين، وبلحاظ التفسير الذاتي للقرآن فقد جاء في سورة المائدة التي هي آخر سور في القرآن نزولاً قوله تعالى بخصوص أهل الكتاب [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ]( )، ويفيد الجمع بينه وبين قوله تعالى قبل آيتين [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] وهذه الآية إرادة المدح والثناء على أمة من أهل الكتاب وذم أكثرهم، وان معنى الفسق الذي نعتوا به هو سوء الفعل وليس فقط التعدي على المسلمين.
والمراد من القصد في قوله تعالى [أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ] أي التوسط في الأمور، والإعتدال في أمور الدين، وعدم التعدي في الأحكام الشرعية، فان قيل ان الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شرط في صدق نيل صفة المؤمن، ولو كانت تلك الأمة من أهل الكتاب مؤمنة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصبحوا مسلمين.
وبين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، ولكن يراد من نعت أمة من أهل الكتاب بالإيمان المعنى الأعم والمناسب لحالهم، وهو الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر، والنبوات السابقة والتصديق ببشارة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا جاءت الآية التالية ببيان معنى الإيمان الوارد قبل ثلاث آيات في قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] بقوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ويمكن أن نطلق عليه اصطلاح “الإيمان الكتابي” الذي يتم ويصبح إيماناً تاماً بتصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند العلم بها.
وفي وجود أمة مؤمنة من أهل الكتاب تؤكد وراثة التوراة والإنجيل نفع عظيم للمسلمين، وتخفيف عنهم، ودعوة للناس من غير أهل الكتاب لدخول الإسلام، لأن إقرار أمة منهم بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجعل كثيراً من الناس يدخلون الإسلام لعدم وجود مصالح ومنافع عندهم في إنتمائهم للملل الأخرى، وليس عندهم رئاسات يحاولون المحافظة عليها عصبية وجهلاً، لذا تجد أكثر الذين يبادرون الى التصديق بالأنبياء هم المستضعفون والفقراء والمساكين ممن تخلصوا من الغشاوة التي يجعلها حب الدنيا على البصر والبصيرة.
لقد إبتدأت حياة الإنسان في الأرض بالإيمان ومصاحبة النبوة لآدم عليه السلام ومما ساهم في تثبيت الإيمان في الأرض عندها أمور:
الأول: التوبة من آدم وحواء على قيامهما بالأكل من الشجرة في الجنة، وتفضل الله تعالى بقبول التوبة.
الثاني: الحسرة على الجنة والحرمان منها.
الثالث: الأمل في الرجوع اليها.
الرابع: الملازمة بين الإيمان والرجوع اليها، اذ ان الإيمان مقدمة واجبة للعودة الى نعيم الجنة والإقامة فيها، لذا حرص آدم عليه السلام على تنشأة اولاده وأحفاده على الإيمان وطاعة الله وإجتناب معصيته.
ومن الآيات ان الله عزوجل جعل بعثة الأنبياء للناس مستمرة الى ان أختتمت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصدق على هذا الختم أنه إنقطاع تام لأن نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ظلت في الأرض بمعجزة القرآن الخالدة وجهاد المسلمين في تثبيت دعائم الدين وتعاهد الفرائض والعبادات.
فالأمة القائمة موجودة قبل الإسلام تتعاهد ميراث النبوة، تؤمن بالرسول السابق وتبشر بالرسول اللاحق، الى ان جاء الإسلام وفيه حجة على الكفار والفاسقين في كل زمان، فليس الكفار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحدهم الذين يكونون حطب جهنم، بل الكفار في كل زمان ممن يجحد بنبي زمانه.
وقوله تعالى [أُمَّةٌ قَائِمَةٌ] حث للمسلمين على القيام بأمور الدين، ووراثة التوحيد والتوجه الى الموحدين من أهل الكتاب لدعوتهم الى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ومنها بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموافقة نعته وصفته في التوراة والإنجيل لشخصه الكريم وبعثته وأوانها.
علم المناسبة
ورد لفظ “أمة” بصيغة المفرد في القرآن إحدى وخمسين مرة وليس فيه لفظ “أمة قائمة” الا في هذه الآية التي جاءت بخصوص شطر من أهل الكتاب، وقد ورد مدح المسلمين بإعتبارهم جميعاً أمة واحدة بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] .
ومن مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم انهم أمة واحدة تلتقي في أداء الفرائض كالصلوات اليومية الخمسة في أوقاتها كواجب مطلق غير مقيد بشرط مخصوص والصيام في شهر رمضان والحج في أيام معلومات، وكل منهما على نحو الواجب العيني الأصلي والمضيق بوقت مخصوص، والنفسي الذي أريد بالذات والتعييني الذي ليس له بديل، قال تعالى في بني اسرائيل [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ), وفيه تأكيد للغة الإنصاف التي تتجلى بأبهى صيغها في القرآن ومدح الفرد والجماعة التي تتصف بالصلاح من بين الأمة التي يرد ذمها وبيان سوء فعلها، وان قيل بإحتمال حمل معنى الأمة في الآية أعلاه على الأنبياء والأئمة من بني اسرائيل بعد أيام موسى عليه السلام.
وتوجه ابراهيم خليل الله، وإسماعيل عليهما السلام الى الله تعالى بالدعاء والمسألة بجعل أمة من ذريتهما تتعاهد الإسلام ومبادئ التوحيد كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]( ).
فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداقاً لما سألاه ليكون المسلمون الأمة التي ترث التوحيد، وتجذب أتباع الأنبياء السابقين مثلما جاء القرآن جامعاً للأحكام الشرعية ومتضمناً لما ورد في التوراة والإنجيل من الأحكام، ليبقى حجة على الناس يدعوهم للإيمان والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الوجوب العيني وليس التخييري، ومدح أمة من أهل الكتاب من عمومات تضمن القرآن لما في التوراة والإنجيل.
قوله تعالى [يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ]
بعد ان جاءت الآية السابقة بذم الفاسقين من أهل الكتاب ونعتهم بأنهم يكفرون بآيات الله، جاءت هذه الآية في مدح أمة من أهل الكتاب ووصفهم بأنهم يتلون ويقرأون آيات الله تعالى، وهذا التباين في الذكر، والتتابع آية إعجازية من آيات القرآن، وشاهد على لغة الإنصاف في القرآن، ومن منافعه دعوة الفاسقين الى التوبة والكف عن إيذاء المسلمين، وحث المؤمنين من أهل الكتاب على الإلتحاق بالمسلمين، والإرتقاء الى مراتب الإيمان الكامل، والتقيد بالوظيفة الشرعية، بالنطق بالشهادتين على نحو الوجوب العيني والنفسي.
ان الإيمان الكتابي ذاته طريق للإيمان التام والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت هذه الآية لتدعو مؤمني أهل الكتاب الى الثبات على الخصال الحميدة التي ذكرتها لأن مدح الفرد أو الجماعة بما عندهم من الحسن وسيلة كريمة لتعاهدهم لها.
مع إقتران هذا المدح بالدعوة الى الإسلام من وجوه:
الأول: جاءت الآيات الكريمة خطاباً للمسلمين.
الثاني: تحذر هذه الآيات المسلمين من الإضرار بهم، وتدعوهم لإعتبار تقسيم أهل الكتاب الى قسمين، وما يترتب على هذا التقسيم من البيان العقائدي عن أحوال الملل الأخرى، وبقاء أمة منهم على نهج الأنبياء وخروج أكثرهم عن الطاعة، ويحتمل المراد من آيات الله في الآية وجوهاً:
الأول: آيات القرآن الكريم من جهتين:
الأولى: المقصود من الأمة القائمة في هذه الآية عبد الله بن سلام وأصحابه بإعتبار انهم أسلموا وأحسنوا إسلامهم.
الثانية: عدد من الرهبان الذين يتلون آيات القرآن سراً وخفية لإيمانهم بأنها نازلة من عند الله.
الثاني: أمة تتلو آيات التوراة والإنجيل التي أنزلت على موسى وعيسى عليهما السلام، وما فيهما من الأحكام والسنن والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: أمة من اليهود تتلو آيات التوراة، وأمة من النصارى تتلو الإنجيل ، وما فيهما من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: أمة من النصارى على نحو الحصر والتعيين يتلون الإنجيل.
الخامس: أمة من اليهود على نحو الحصر يتلون التوراة.
وليس من حصر لآيات الله ، وهي من اللامنتهي ، وتعجز الخلائق متفرقة ومجتمعة الإحاطة بمشار منها ، والمراد هنا آيات القرآن ،وما فيها من الدلالة على أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته ، وبديع صنعه, بقرينة مجي الآية بقيد التلاوة الذي يفيد معنى القراءة.
والصحيح هو الأول والثالث لقوله تعالى [وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ] ( )، بالإضافة الى أصالة الإطلاق وعدم التقييد بملة مخصوصة منهما الا على القول بإرادة عبد الله بن سلام وأصحابه فيكون المعنى قراءتهم لآيات القرآن.
لقد أراد الله عز وجل لآيات الكتاب الحفظ في كل زمان ترثها وتتعاهدها أمة من أتباع الأنبياء،ويجعلونها تركة عقائدية لمن يأتي من بعدهم الى ان انزل الله عزوجل القرآن كتاباً جامعاً للآيات والأحكام الشرعية.
وهل يصح حصر مضامين الآية بأمة من النصارى، لأن القرآن جاء بذم وبتوبيخ بني اسرائيل للتباين بين فعلهم وما يأمرون به، قال تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ] ( )، فيه وجهان:
الأول: إرادة عموم بني اسرائيل بمضامين الآية أعلاه من سورة البقرة، وما فيها من مفاهيم الذم ، ومخالفتهم لسنن التلاوة ووجوب العمل بها.
الثاني: عدم التعارض بين الذم الوارد أعلاه، وبين تلاوة أمة من بني اسرائيل لآيات الله ومدحها في الآية محل البحث، وإستثناء تلك الأمة من عموم ذم بني اسرائيل.
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق وورود المدح للأمة بالإنتماء الى أهل الكتاب، كما ان الآية أعلاه من سورة البقرة جاءت بصيغة الخطاب، والثناء على أمة من أهل الكتاب جاء بصيغة الغائب والإخبار عن وجودها، من غير تعيين لزمانها او مكان سكناها او عدد أفرادها، ولفظ الأمة سور جامع يقع على المفرد والمثنى والجماعة، وقد أثنى الله عز وجل على ابراهيم ووصفه بانه أمة، قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ).
وتبين الآية فضل الله عز وجل على الأجيال المتقدمة من الناس، وأهل الكتاب خاصة، بإنزال آيات الله على الأنبياء، وجعلها في متناول أهل الإيمان، وهذه الآيات عنوان الصلة بين العباد والله عز وجل، نعم تدل الآية على عظيم النعم على المسلمين بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق كون المسلمين خير أمة، لأنهم يتلون آيات القرآن على نحو العموم الإستغراقي، فاذا كانت الأمة وجماعة من أهل الكتاب تقرأ آيات الله من التوراة والإنجيل، فان المسلمين جميعاً يقرأون آيات الله على نحو متكرر كل يوم في الصلاة.
وقراءة القرآن في الصلاة من وجوه تفضيل المسلمين وكونهم خير أمة، كما انها من عمومات قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ].
فجاءت الآية الكريمة في الإخبار عن جماعة من أهل الكتاب الا ان دلالاتها أعم، وتتضمن مدح المسلمين لتلاوتهم آيات الله وإشتراكهم مجتمعين ومتفرقين في الحفاظ عليها من التحريف والضياع والنسيان.
قوله تعالى [ِ آنَاءَ اللَّيْلِ]
آناء جمع إنى وهو الجزء والفرد من الوقت والساعة، وفي الخبر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء الى صلاة الجمعة “آذيت وآنيت” في إشارة الى التأخير وتضييع الوقت.
وبعد مدح هذه الأمة بالقيام والثبات وتلاوة آيات الله، جاء هذا الشطر من الآية للزيادة في مدحهم والثناء عليهم بقيد خاص بوقت التلاوة، اذ ان اليوم والليلة ينقسمان الى ساعات وآنات متعددة، وتختلف حال الإنسان في ساعاتها.
فقد جعل الله عز وجل الليل سكناً وأواناً للراحة والنوم بعد العناء والعمل في النهار، وتلك آية في الخلق ونعمة عظيمة على الناس جميعاً فالكل يلتقي بالنوم والحاجة اليه وأوانه ، وان تباينت ساعات النوم من شخص الى آخر، ويتجلى المدح في المقام بان هذه الأمة تقرأ آيات الله في ساعات الراحة وتختار التلاوة بدلاً عن النوم، وتدفع الميل الى الراحة بالشوق الى الآيات، وتقهر النفس الشهوية بالسهر في التلاوة.
وفي الآية إشارة الى تنمية ملكة الصلاح في النفوس، لأن منافع التلاوة لا تنحصر بالثواب الأخروي بل تشمل الحياة الدنيا بإمتلاء النفس بمعاني التقوى ومنها التصديق بالبشارات التي جاءت في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإعراض عن المعجزات الباهرات التي جاء بها، وفي أوان التلاوة المستقرأ من الآية أقوال:
الأول: المراد من [ِ آنَاءَ اللَّيْلِ] ساعاته وأوقاته، عن الحسن والربيع.
الثاني: يعني جوف الليل، عن السدي.
الثالث: وقت صلاة العتمة، أي صلاة العشاء، عن ابن مسعود.
الرابع: انه الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة، نسبه الطبرسي الى القيل( ).
ولا تعارض بين هذه الأقوال، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، ومن إعجازها انها جاءت بلفظ [ِ آنَاءَ] الذي يفيد معنى التعدد والإستيعاب لأوقات الليل من غير حصر بأوان مخصوص.
وتبين الآية انقطاع المؤمنين الى الله عز وجل عند سكون الحركة، وتغشي الظلام الأرض، لتكون خلوتهم وسمرهم مع آيات الله عز وجل وما فيها من مضامين التوحيد وأخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولزوم نصرته وظهور الإسلام على الأديان كلها.
وتبين الآية جهاد المؤمن في سبيل الله مع نفسه للغلبة على الميل الى النوم والشهوة، وسعيه للتنزه من الذنوب والمعاصي، والإستعداد لإصلاح الذات والحرص على الوقاية من التعدي والظلم.
لقد أراد الله عز وجل ان تكون هناك أمة مؤمنة تتوارث سنن التوحيد، وتتلو آيات الله الى ان بزغت على الأرض شمس الإسلام، ونزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان الكتاب الجامع لآيات الله وأحكام الحلال والحرام الى يوم القيامة، فمن يريد تلاوة آيات الله عز وجل فهي التي بين الدفتين، وتحتمل التلاوة في أوانها وجوهاً:
الأول: انحصارها بأوقات مخصوصة من الليل.
الثاني: شمولها لساعات الليل فمنهم من يقرأ الآيات في أول الليل، ومنهم في وسطه، ومنهم في آخره ، حتى على معنى إرادة صلاة العشاء وأداء المسلمين لها مع قراءتهم للقرآن في أوقات الليل.
الثالث: جاء ذكر أوقات الليل من باب الفرد الأهم والأمثل.
والصحيح هو الثالث، فلا يعني ذكر الليل في الآية الكريمة إنحصار التلاوة بأوقاته، بل هي أعم.
ولقد مدح الله عز وجل المسلمين في القرآن بقوله [كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ]( )، وفي قراءة آيات الله تعالى في الليل حجة على الكافرين والجاحدين، ودعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وبيان الأسرار السماوية الكامنة في آيات الله، اذ انها بذاتها تجذبهم للإيمان، وتدعوهم للتدبر في الآيات الكونية وبدائع السماوات والأرض، وتؤكد لهم صدق النبوة، وقبح الجحود بها.
ومن فضل الله تعالى على الناس ان جعل حواسهم جميعاً تدرك آياته فليس من حاسة من الحواس الخمسة الا وتحس بعدد من الآيات اللامتناهية التي تؤكد وجود الصانع، وتدعو لوجوب عبادته، ومن منافع تلاوة المؤمنين للآيات تعاهد الإيمان الخاص والإحتراز من الزيغ وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] ( ).
وتوارث البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته اذ انها مذكورة في التوراة والإنجيل واما بعد البعثة النبوية فان آيات القرآن تؤكد صحة نبوته، وصدق تلك البشارات وانها نازلة من عند الله، لذا تجد علماء اهل الكتاب الذين أسلموا أحسنوا إسلامهم واثبتوا حاجة الأمم السالفة لتلاوة آيات الكتاب وما فيها من الأحكام والسنن والبشارات بإعتبارها مقدمة لنزول القرآن وتمهيداً للتصديق به.
وفي الآية حث لكل مسلم ومسلمة على تلاوة القرآن في جوف الليل، وترغيب بالتلاوة وقراءة القرآن مطلقاً، وهي شاهد على إنتفاع المسلمين من آيات القرآن وما فيها من القصص والأخبار اذ يقتبس المسلمون منها الخصال الحميدة، ويحرصون على إجتناب الأخلاق المذمومة ، ومن الإعجاز مجيء الآية بصيغة الجمع من وجهين:
الأول: قيام المسلمين بالتلاوة.
الثاني: المتلو هو آيات الله، وليس آية من آياته.
علم المناسبة
ورد لفظ “آناء” بصيغة الجمع ثلاث مرات في القرآن كلها تتعلق بأوقات الليل فليس فيها آناء النهار لإرادة جوف الليل، كما انه لم يرد اللفظ بصيغة المفرد، وجاء في المرات الثلاث على نحو المدح و الثناء والدلالة على إتخاذ الليل وعاء للعبادة والصلاة والذكر، وهي:
الأولى: ما ورد في هذه الآية من مدح أمة من أهل الكتاب تتلو آيات الله تعالى أوقات الليل.
الثانية: مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوجه الأمر الإلهي له بالإنقطاع الى التسبيح في جوف الليل وأطراف النهار، وإقامة الصلاة، والصبر على ما يقوله الكفار والمشركون وتحمل أذاهم.
الثالثة: الثناء والمدح للمسلمين لقيامهم الليل واتخاذ ما فيه من السكينة مناسبة لإظهار الخشوع لله تعالى وأداء صلاة العشاء، وقيام المؤمنين الليل من أسرار التباين بين النهار والليل، وما تتجلى فيه من آيات قدرة الله تعالى في الخلق والإنشاء، وفيه تهيئة لمقدمات التوبة والإنابة الى الله، ومنع من الإنقطاع الى زينة ومباهج الدنيا.
لذا وردت الآية بذكر الخشية من الحساب يوم القيامة ، قال تعالى [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ]( ).
قانون أناء الليل
صحيح ان الليل مختلف عن النهار، وبينهما تباين في الوقت والضياء والظلمة، والحركة والسكون، الا إنهما يلتقيان في امور منها إتخاذهما وعاء للصلاة والذكر والتسبيح، فلا يعني ذكر آناء الليل في تلاوة آيات الله حصر وقت التلاوة به بدليل وجوب أداء الصلاة النهارية، وهي صلاة الظهر والعصر، بالإضافة الى النوافل، وصلاة الصبح التي تقع بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
وتبين الآية حاجة الإنسان للإنتفاع من الليل، وتوظيفه فيما ينفعه، اذ ان الله عز وجل غني عن الناس وعن عبادتهم، ولكن العبادة والتلاوة حاجة للإنسان ذاته في الدنيا والآخرة، ومن الآيات ان التلاوة في الليل مطلوبة بذاتها، وهي مقدمة لغيرها، اما الأول وهو كونها مطلوبة لذاتها، ففيه مسائل:
الأولى: في التلاوة تنقية للنفوس، وتهذيب للأخلاق.
الثانية: انها دعوة لمراجعة أفعال اليوم المنصرف، وملاحظة ما فيها من الحسنات والسيئات ، وشكر الله تعالى على الحسنات التي تمت بتوفيق منه سبحانه، والإستغفار عن السيئات.
الثالثة: طرو الأفكار القبيحة، وإجتناب نية السوء او العزم على الفواحش، اذ ان الليل مناسبة لسياحة الفكر في الآمال والأوهام وتقريب النفس الشهوية للبعيد، وإغفالها للحواجز والعوائق، فتأتي التلاوة لتكون برزخاً دون نية السوء.
الرابعة: تأتي التلاوة جزءاً واجباً من الصلاة، كما في قراءة القرآن في صلاة العشاء، لذا فهي واجبة لترشح الوجوب على الجزء من وجوب الكل.
الخامسة: من الآيات في أحكام الصلاة، نافلة الليل والإتيان بها على نحو الإستحباب المؤكد، وهو مناسبة لصيغة المدح والثناء في هذه الآية على الذين يتلون آيات الله أوقات الليل.
السادسة: ينشغل الإنسان في النهار بالسعي للكسب وطلب الرزق وأسباب المعيشة، الى جانب الإستئناس بغيره من الناس كالأهل والأصدقاء والجيران والأصحاب في العمل، ويكون عنده متسع في الليل للخلوة بالله تعالى وتلاوة الآيات.
السابعة: التلاوة في أوقات الليل من مقامات الشكر لله تعالى، وإقرار بالتنزيل، وان القرآن كتاب الله عز وجل أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الثاني وكون التلاوة في الليل مقدمة لغيرها، ففيه مسائل:
الأولى: التلاوة الليلية سلاح وواقية عقائدية في النهار، فمن يقرأ القرآن في الليل يحرص على العمل بأحكامها في النهار، ومن إعجاز القرآن تضمن آياته أحكام الحلال والحرام، وشمولها لميادين الحياة المختلفة، ففي كل واقعة أو مناسبة تطل عليك آيات قرآنية عديدة تنير لك طريق العمل، وتساعدك على الإختيار الصحيح.
الثانية: غلبة الخشية من الله على النفس الإنسانية ساعات الليل، وان كانت التلاوة في جزء متقدم او متأخر منه، وهذه الخشية واقية وحرز من إرتكاب المعاصي في الليل.
الثالثة: تنمية وتعاهد ملكة التقوى عند الإنسان، وقد جاء في آيات عديدة قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ومن مصاديق التقوى والسعي اليها وبلوغ مراتبها الرفيعة المواظبة على تلاوة القرآن في الليل ، والحرص على أداء الصلاة الواجبة في أوقاتها.
الرابعة: التفكر في خلق الله، والتدبر في آياته، ومنها الليل والنهار، والقمر والنجوم، والظلمة والنور.
الخامسة: التلاوة أوقات الليل سياحة في عالم الملكوت، وغرق في أنوار جلال القدس.
السادسة: التلاوة في الليل فرار الى الله تعالى ولجوء اليه سبحانه.
ومن وجوه تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى إستقبالهم كلاً من النهار والليل بالصلاة، وتلاوة آيات الله، والتلاوة مدرسة عقائدية وأخلاقية تعصم الإنسان من تأثير مفاهيم الضلالة والشرك، وتأخذ بيده الى سبل النجاة في النشأتين.
ويبين هذا القانون الفارق بين المسلم وغيره في ساعات الليل، وأنهما لا يلتقيان فيها ، مثلما لا يلتقيان في النهار وساعات العمل، اذ يحرص المسلم على تعاهد ذكر الله، والتقيد بأحكام الشريعة، بينما يكون الكافر في تيه وضلالة، وكذا في الليل فان المسلم يتعاهد إيمانه، ويحافظ على الصلة بينه وبين الخالق عز وجل بتلاوة آياته، ويبقى الكافر في غفلة وسبات، ومع هذا فان الآية ترغيب بالإسلام وبيان وجه ناصع من وجوهه وهو حال المسلمين في الليل وإستثماره بعبادة الله.
وتلاوة القرآن في الليل واقية من مفاهيم الشرك وحرز من أعداء الإسلام في النهار، وهو من أسباب عدم وصول الضرر من الفاسقين الى المسلمين، قال تعالى [واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا]( ).
ومنافع الآية للمسلمين عامة ، وان جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ]
يتضمن هذا الشطر ذكر صفة ومدح إضافي للأمة القائمة من أهل الكتاب، فبعد مدحهم بصفة تلاوتهم لآيات الله في جوف الليل، جاء هذا الشطر بوصفهم بأنهم يسجدون لله تعالى، وفيه وجوه:
الأول: المراد صلاة الليل، وانهم يتلون آيات الله في الصلاة، وتكون الواو حينئذ للحال، فجاء ذكر السجود للدلالة على الصلاة لإمور:
الأول: السجود ركن من أركان الصلاة.
الثاني: الإشارة الى ما في السجود من الخشوع والخضوع لله تعالى.
الثالث: ليس في السجود تلاوة، فذكرت الآية جزئين من الصلاة التلاوة والسجود.
الثاني: عطف جملة على جملة، والإخبار عن إستقلال كل من التلاوة والسجود ، فيأتون بالتلاوة قائمين وقاعدين، اما السجود فهو فعل مستقل يأتون به الى جانب التلاوة ليتصلا ويتداخلا ويكونا عنوان الإيمان والتسليم بالربوبية لله تعالى، والإقرار بان القرآن نازل من عنده سبحانه.
الثالث: المراد صلاة الليل.
الرابع: الإشارة الى إحيائهم الليل بالتلاوة والصلاة، ففي الصلاة تلاوة وسجود، ولكن التلاوة أعم من الجزئية من الصلاة، اذ تكون مطلوبة بذاتها، ويؤتى بها مستقلة وفي غير حال الصلاة، فقد يكثر المسلم من تلاوة الآيات بالقراءة في المصحف من غير الصلاة، ويتدبر في معاني ودلالات اللفظ القرآني، والدروس والعبر في آيات القرآن.
الخامس: ترشح السجود عن التلاوة وامتلاء نفوس المسلمين خشوعاً لله تعالى بالتدبر فيما يقرأون من الآيات فيبادرون الى السجود قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا]( )، في دلالة على إقرار فريق من أهل الكتاب بصدق نزول القرآن من عند الله، وانه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل، وهو شاهد سماوي على البشارة التي كانوا يتطلعون اليها، فيسجدون لله تعالى على نعمة تحقق البشارة، وتجلي مصداقها بآيات القرآن وإنعدام اللبس او الشك في المقام.
السادس: بيان حال خشوعهم وخضوعهم لله تعالى، وإقتران السجود بالتلاوة في الآية للدلالة على إعتبارهم وإتعاظهم لأنهم يقرأونها وهم يخشعون لله ويقرون بعبوديتهم له سبحانه.
السابع: إرادة معنى الإستئناف للواو في “وهم” والمراد أنهم يسجدون لله تعالى سواء في النهار او الليل، ولا يتركون الإنحناء والتطامن الى الأرض خشوعاً لله تعالى.
الثامن: في الآية حذف وتقديرها:
الأول: وهم يسجدون لله تعالى.
الثاني: وهم يسجدون على كل حال.
الثالث: وهم يسجدون شكراً لله تعالى على نعمة نزول القرآن وتلاوة الآيات.
الرابع: وهم يسجدون بعد التلاوة، أي يجعلون خاتمة التلاوة السجود.
الخامس: وهم يسجدون في الليل والنهار.
السادس: وهم يسجدون بدل النوم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية خصوصاً وان السجود خير محض.
وتبين الآية إنقطاع المسلمين الى الله تعالى، ويتجلى الإنقطاع بإلقيام بالتلاوة والسجود مجتمعين في الليل ، وهما عنوان الإقرار بالعبودية لله تعالى، وإظهار الخشوع له فتفضل سبحانه ومدحهم في هذه الآية، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً لإكرام أهل هذه الآية سواء كان المراد منها المسلمين عامة، او الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأخاه ، وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد ، وغيرهم من اليهود الذين أسلموا،والذين يشهدون بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأكدت الآية إستيلاء الإيمان على النفوس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ووجود أمة من الناس تواظب على الصلاة والسجود في الليل، ومقتضى الأصل الإطلاق الزماني للآية، وعدم إنحصار مضامينها بفترة التنزيل، وإستمرار وجود أمة تواجه الذين يستكبرون على السجود ويفسقون في الأرض ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ] ( ).
والسجود لله تعالى حرب على أهل الشرك والضلالة الذين يعبدون مخلوقاته كالشمس والقمر، قال تعالى [لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ]( )، والسجود مرآة للأخلاق الحميدة، وشاهد على الإلتزام بأحكام الشريعة.
لقد جعل الله عزوجل السجود عنواناً للعبودية، ودليلاً عملياً ظاهراً على إيمان الإنسان وإقراره بالربوبية لله تعالى، ومن الآيات إنفراد الله تعالى بالسجود له، وكيف يسجد الإنسان لغيره، وكل شيء يسجد له، واذ ورد في اللغة التباين بين “من” و”ما” وان المراد من “من” العاقل، و”ما” غير العاقل، فقد جاء موضوع السجود شاملاً للوجهين قال تعالى [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا] ( )، وقال سبحانه [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، في دلالة على قيام جميع الكائنات والخلائق على نحو العموم الإستغراقي بالسجود لله تعالى، وعدم تخلف فرد منها عن السجود، ومن يتخلف عن السجود من الناس إستكباراً يبوء بإثمه، ويخسر الدارين.
ومن الآيات ان الله عز وجل يمدح فريقاً من الناس على سجودهم، مع ان السجود نعمة ولطف منه تعالى، إذ تفضل وأعان أمة من أهل الكتاب على الإعراض عن الفاسقين والجاحدين، ليكون السجود في المقام على وجوه:
الأول: انه عنوان النجاة من الركون للظالمين والفاسقين.
الثاني: السجود مائز كريم وصفة حميدة تميز المؤمنين من أهل الكتاب.
الثالث:إنه شاهد على حسن الخلق،وتسخير العقل للنفع في الدنيا والآخرة
الرابع: فيه قهر النفس الشهوية والغضبية.
الخامس: السجود وسيلة لإتخاد الدنيا مزرعة للآخرة.
السادس: فيه إظهار لمعاني الخشوع والخضوع لله تعالى.
وجاء ذكر صفة السجود خاتمة لهذه الآية، ومتقدماً على صفة الإيمان بالله التي إبتدأت بها الآية التالية، لتوكيد ان سجودهم كان لله تعالى وانه مقترن بالإيمان به تعالى، وفي هذه الملازمة إشارة الى عدم إمكان انضمامهم الى فريق الفاسقين، وقد يظن بعضهم ان الكثرة تغلب القلة، وان أفراداً وجماعات ينضمون الى الكثرة والأمة الكبيرة خصوصاً اذا كانت الكثرة من إخوانهم كما في المقام، وإعتبار الإنتماء الى الكتاب السماوي سوراً جامعاً.
فجاء الإخبار عن هذه الأمة بالقيام وما يدل عليه من الثبات وعدم الإرتداد الى منازل التعدي والخروج عن الطاعة، ومواظبتهم على السجود المقترن بالإيمان بالله، والنفي الدائم لإنحيازهم الى الفاسقين والذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، وفيه تأديب للمسلمين، ودعوة للمؤمنين من أهل الكتاب الى إعلان إيمانهم، وبيان إنفصالهم وبراءتهم من التعدي على المسلمين، الذي يقوم به فريق منهم، ورفضهم لإعانة المشركين والكفار على المسلمين، وهل فيه دعوة للمسلمين للإنصات اليهم بخصوص البشارات السماوية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم على المعنى بان المراد بالآية عبد بن سلام وأصحابه من أهل الكتاب الذين أسلموا، اما على المعنى الآخر وإرادة المؤمنين بالله واليوم الآخر من أهل الكتاب فالجواب إن ما عند المسلمين من الآيات كاف للبرهان واليقين ، وتكون تلك البشارات موافقة لأصل التنزيل وما موجود في التوراة والإنجيل ومطابقة لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,وشاهداً وحجة للمسلمين.
والسجود هو الإنحناء والتطامن الى الأرض ، وكل شيء ذل فقد سجد، وفي المعنى الإصطلاحي وضع الجبهة على الأرض عبادة لله تعالى، والمراد في الآية هو المعنى الثاني، ولكنه لا يتعارض مع إرادة معنى الخشوع والخضوع لله تعالى عند تلاوة الآيات بلحاظ ترشح الخشوع من وجوه:
الأول: الإقرار بان الآيات نازلة من عند الله.
الثاني: التدبر والتفكر في معاني الآيات.
الثالث: ما في الآيات من الدعوة للخشوع والخضوع لله تعالى.
الرابع: الخشوع من مصاديق التسليم بالعبودية لله تعالى وينمي السجود بوضع الجبهة على الأرض ملكة التقوى عند الإنسان، ويساهم في عصمته من الزلل والخطأ، ويحتمل السجود في المقام وجهين:
الأول: العبادة، والإتيان بالسجود على نحو الوجوب وبهيئة مخصوصة، كما في الصلاة الواجبة.
الثاني: الندب والإستحباب، كما في السجود عند تلاوة آية يستحب فيها السجود، أو السجود لله شكراً عند تجدد نعمة أو دفع بلاء او تذكر احدهما او عند القيام بعمل صالح، ويكفي فيه مجرد وضع الجبهة مع النية ولا يشترط فيه الذكر، ولكنه مستحب كقولك “شكراً لله” او “شكراً شكراً” مرة واحدة او مكررة.
لقد جاء مدحهم في القرآن بلحاظ السجود ويحتمل أمرين:
الأول: إفادة الواو في [وَهُمْ يَسْجُدُونَ] الجمع، وان المدح لا يأتي الا اذا اقترن السجود بالتلاوة.
الثاني: إستحقاق القيام بالسجود طاعة وخضوعاً لله عزوجل.
ولا تعارض بين الوجهين في الآية الكريمة اذ جاء المدح مطلقاً وشاملاً للوجهين معاً.
قانون وهم يسجدون
جعل الله عز وجل العبادة علة خلق الإنسان والوظيفة الأساسية له ذكراً كان أو أنثى، وفيه تشريف عظيم للإنسان، وهو من مصاديق خلافته في الأرض، فكل الخلائق والكائنات تسجد لله تعالى، ويتصف الإنسان بأمور:
الأول: إتيانه السجود طوعاً.
الثاني: ملازمة الخشوع والخضوع لله تعالى حال السجود.
الثالث: وضع الإنسان جبهته على الأرض في السجود، وفيه دلالة على إعراضه عن الدنيا وزينتها وإختياره طاعة الله تعالى.
الرابع: يأتي سجود الإنسان جزء من فريضة عبادية هي الصلاة، ومن الآيات في أحكام الشريعة الإسلامية ان الصلاة عمود الدين.
وفي رسالتنا العملية الحجة المؤلفة من خمسة أجزاء ذكرنا المسألة (515) في أحكام الصلاة، وهي:
“يحرم السجود لغير الله”
وقلنا فيها ان هذه المسألة أقل مسائل الرسالة في عدد الكلمات ولكنها عمود الرسالة، وركن العبادة، وعنوان التوحيد.
لقد أراد الله عز وجل أن يكون السجود شاهداً عملياً للصلة بينه وبين العبد، وحجة على انقطاع المؤمنين له، وفيه رد يومي متكرر على الملائكة الذين قالوا عند خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، للتناقض بين سفك الدماء والسجود.
وفي قصة يوسف وقوله تعالى [وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا] ذكر قولان:
الأول: انه سجود تعظيم، وليس سجود عبادة، وأنه كان من سنة التعظيم آنذاك السجود للمعظم.
الثاني: المراد أنهم خروا لله سجداً، والمراد من الضمير “الهاء” في [وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا] أي لله تعالى.
ومن الآيات في خلق الإنسان ملازمة السجود له، منذ أيام أبينا آدم عليه السلام، ويصاحب الإنسان حتى يوم القيامة، وهو حاجة وسر من أسرار الحياة الإنسانية تعاهده وحافظ عليه المسلمون، وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، الا انها تتضمن المعنى الإنشائي من وجوه:
الأول: بيان الحسن الذاتي للسجود وإستحقاق الذي يقوم به المدح والثناء.
الثاني: حث المسلمين على تعاهد السجود.
الثالث: دعوة المسلمين الى التقيد بأحكام الصلاة، وإتيان ما فيها من الأركان والأجزاء الواجبة، ومنها السجود.
الرابع: جذب الناس للإيمان، وترغيبهم بالسجود لله تعالى.
الخامس: الآية من اللطف الإلهي بمن يواظب على السجود، ومن يتركه.
أما الأول فان الآية مدح عاجل له وبشارة بالثواب الجزيل، وأما الثاني فان الآية إنذار ووعيد ودعوة له للتدارك والإنابة.
ومن اللطف العام بالناس في الآية انها ترغيب بالسجود، وبيان منزلة السجود في مراتب العبادة، ورحمة بالناس عامة ووسيلة لجعل السجود قانوناً ثابتاً في الأرض يتولى القيام به أهل الإيمان، ويدرك الذي يتخلف عنه قصوره وتقصيره وإسرافه، وإضراره بنفسه وغيره، كما انه برزخ دون مواصلة الفاسقين التعدي على المسلمين.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وفيها وجوه:
الأول: إرادة صلاة الجماعة، وقيام المسلمين بالسجود في آن واحد أو إتباع المأمومين للإمام.
الثاني: قيام كل مسلم بأداء الصلاة منفرداً، ويتحقق معه معنى الجمع والتعدد.
الثالث: الإتيان بالسجود في غير الصلاة.
وإنفرد المسلمون بالقيام بالسجود كجزء واجب من الصلاة، ومن خصائص سجود المسلمين صدوره مكرراً من كل مسلم في اليوم الواحد، وعدم إنحصار تكرار السجود على المسلم الرجل دون المرأة.
وجاء وجوبه شاملاً للرجل والمرأة، وليس من تخفيف في سجود المرأة او نقص في عدد ركعات صلاتها، ومساواة المرأة بالرجل في المقام إكرام للمرأة المسلمة وتشريف لها، وهل يشمل قوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ] المرأة أيضاً، الجواب نعم ، من وجوه:
الأول: مدح المرأة المسلمة.
الثاني: الدعوة لإكرام المسلمة التي تحرص على أداء الصلاة والسجود لله.
الثالث: حث الناس رجالاً ونساء على السجود لله، فالرجل الذي يظن أنه مقدم على المرأة في الشأن عليه أن يسجد لله من باب الأولوية، لأن المدار في المنزلة والرفعة على الإمتثال لأوامر الله تعالى.
وقد مدح الله عز وجل المسلمين وأخبر عن ظهور آثار السجود في وجوههم، وان هذا الوصف خاص بهم في التوراة والإنجيل بقوله تعالى [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ] ( )، وهو من خصائص خير أمة بين الأمم، وعلامة السجود في الوجوه دعوة للناس للإسلام، وحث لهم على عدم الإعتداء على المسلمين، وفيه ترغيب بالسجود والمواظبة عليه وإتخاذه سلاحاً وواقية من الذنوب والمعاصي.
بحث عقائدي فقهي
السجود مناسبة ومحل للدعاء وطلب الحوائج سواء في السجود الواجب في الصلاة قبل الذكر الواجب اذ لا تجوز فيه قراءة القرآن، او الواجب عند تلاوة آية السجدة، او السجود المستحب كما لو قال فيه: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، والحمد لله رب العالمين، تبارك الله أحسن الخالقين”.
وتستحب إطالة السجود لأنه من أشرف العبادات وأفضل القربات، وهو المنسك الذي يلتقي فيه الموحدون من الأولين والآخرين، فصحيح ان الشرائع فيها ناسخ ومنسوخ، وان الشريعة الإسلامية جاءت بالأحكام المتكاملة التي تتجلى في بعض مصاديقها بكيفية وأحكام الصلاة الا ان السجود جامع مشترك بين كل الشرائع، وليس من نبي الا وجاء بالأمر بالسجود لله تعالى، وكان أسوة لأصحابه وأنصاره في التحلي بالسجود، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإمتاز في المقام بوجوه:
الأول: جعل السجود جزءاً أساسياً من السنة النبوية القولية والفعلية.
الثاني: المبادرة الى الصلاة في أوانها.
الثالث: إتيان السجود على النعم.
الرابع: نزوله من المنبر للسجود لله عند تلاوة آية السجدة، وأحياناً عند تلاوة آية يستحب فيها السجود في توكيد موضوعية السجود واظهار الخشوع لله تعالى.
الخامس: التكليف بإتيان الصلاة وفي كل ركعة منها سجدتان، ومن الآيات في الإرادة التشريعية ان كل شيء من الأركان والواجبات في الصلاة يؤتى به في الركعة مرة واحدة كالركوع والقيام والقراءة الا السجود فلابد من سجدتين في كل ركعة يفصل بينهما جلوس يستحب فيه الإستغفار الى جانب التكبير عند رفع الرأس من السجدة، وعند الهوي الى الأخرى.
السادس: تعدد مستحبات السجود الصلاتي، وهي على أقسام:
الأول: ما يسبق السجود ويكون مقدمة له، مثل التكبير حال الإنتصاب من الركوع قبل أن يهوي الى السجود، ورفع اليدين حال التكبير.
الثاني: ما يكون مقارناً للسجود، منها إطالة السجود وبسط اليدين في حال السجود مضمومتي الأصابع حتى الإبهامين، اذ ان اليدين من المساجد السبعة، ويكون بحذا الأذنين ومتجهاً بهما الى القبلة، وتكرار الذكر والختم على الوتر كأن يقول: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث أو خمس مرات.
الثالث: ما يؤتى به متعقباً للسجود منها التكبير بعد الرفع من السجدة سواء السجدة الأولى او الثانية.
والسجود من أرقى مراتب الخشوع لله، وفاز المسلمون بإتقانه وحسن أدائه والتقيد بأحكامه، وهو من خصائص خير أمة، وعنوان لخروجهم للناس لما في تعاهدهم للسجود وآداب الصلاة دعوة الناس جميعاً للإقرار بالعبودية لله تعالى، والتحلي بالإيمان زينة وبهجة وغبطة في الدنيا والآخرة.
بحث بلاغي
من البديع ملائمة الألفاظ بعضها لبعض، ورعاية حسن الجوار في الألفاظ وإنسجام المعاني، وتقارب مخارج الحروف، والنسق في النظم، ويؤتى بالمتداول مع مثله، والقريب مع شبهه.
ومن إعجاز اللفظ القرآني ملائمته للمعنى المراد، وهو عون على فهمه والغوص في دلالاته المتعددة، وتبين هذه الآية حاجة المسلمين والناس جميعاً الى القرآن والتنزيل، أما المسلمون فان هذه الآية ضياء ينير لهم دروب الجهاد والرشاد لكيفية معاملة أهل الملل الأخرى، والعناية بشطر من أهل الكتاب وعدم مؤاخذتهم بتعدي الفاسقين منهم.
ان أعداء الإسلام يحبون قيام المسلمين بمحاربة المؤمنين من أهل الكتاب لما في تعدد الأطراف التي يقاتلونها من إستنزاف لقوة المسلمين، وإضعاف لهم، فجاءت الآية لتوفير الجهد والعناء على المسلمين، وفيه حاجة للمؤمنين من أهل الكتاب بسلامتهم وعدم قتال المسلمين لهم، وفيه حث لهم على إجتناب الفاسقين وعدم مؤازرتهم في تعديهم على المسلمين.
فإبتدأت الآية بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] وفيه جذب للأسماع وحث على الإنصات للآية القرآنية والتدبر في معانيها.
وتستلزم بداية الآية الإصغاء الى ما بعدها لمعرفة نوع وجهة الإختلاف والتباين بين أهل الكتاب، ولا تنحصر هذه المعرفة بالمسلمين بل تشمل أهل الكتاب والناس جميعاًُ، وكان المشركون من قريش يسألون يهود المدينة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارهم أهل كتاب، ويجيبونهم بتحريف صفاته المذكورة في التوراة لمنع تجلي الحقائق بأنه نبي آخر زمان، فجاءت هذه الآية تنبيهاً لهم بعدم الإكتفاء بقول يهود المدينة، ولزوم الرجوع الى غيرهم من أهل الكتاب وان جاء جواب هذا الغير مطابقاً الى قول يهود المدينة فان دعوة هذه الآية لهم للرجوع الى الغير تتجدد الى حين الإطلاع على القول الآخر المغاير لقول يهود المدينة، ليحصل التعارض بين القولين، فيتساقطان فيرجع الناس ومنهم المشركون الى القرآن والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تؤكد صدق نبوته، لذا دخل الناس في الإسلام أفواجاً، ولم يمنع تحريف وتبديل صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارات التي جاءت به في التوراة والإنجيل مشركي قريش وأهل المدينة من دخول الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويأتي البيان متعقباً بقوله تعالى [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] فجاء التبعيض لتوكيد معنى واو الجماعة، وان الأمر يتعلق بأهل الكتاب ثم جاء قوله تعالى [أُمَّةٌ قَائِمَةٌ] لمدح فريق من أهل الكتاب والدعوة لمعرفتهم وإعانتهم في تثبيت الإيمان في نفوسهم، وفصلهم عن الفاسقين والمارقين والخارجين عن الطاعة، ومع ان لفظ “أمة” مفرد مؤنث جاء الوصف على المعنى بقوله تعالى [يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ] لإمور:
الأول: إفادة كثرة تلاوة الآيات.
الثاني: حصول التلاوة الإنفرادية والجماعية، فكل فرد من المؤمنين يتلو الآيات بمفرده، ويتلوها مع غيره، ولو قالت الآية “أمة قائمة تتلو آيات الله” لظن بعضهم إنحصار الأمر بالتلاوة المتحدة، وإتيانها في حال قيام الأمة.
ويتضمن لفظ الأمة البشارة للمسلمين، فهؤلاء الذين يتلون آيات الله ليسوا أفراداً قليلين أو جماعة محصورة بل أمة ثابتة على نهج التلاوة، لا يستطيع الفاسقون قهرها أو حملها على ترك منازل الإيمان.
ومع قلة كلمات الآية فان كل كلمتين منها لها معاني ودلالات خاصة وهي:
الأول: “ليسوا سواء”، وتتضمن بيان التباين والإختلاف بين أهل الكتاب.
الثاني: يفيد قوله تعالى “من أهل الكتاب ” التبعيض والتعيين، بحصر موضوع الإختلاف في أهل الكتاب ولا يعني هذا ان غيرهم من الملل الأخرى غير مختلفين بل ان إختلافهم عن طريق الأولى لحال الضياع والتشتت عند المشركين، وذكر هذا الإختلاف شاهد على صدق نيل المسلمين لمرتبة خير أمة أخرجت للناس لإنعدام الإختلاف والتشتت بين المسلمين ، وإدراكهم وإنتفاعهم من الإختلاف بين أفراد وفرق الملل الأخرى.
ومن الآيات انه إذا حصل الإختلاف والنزاع بين فرق المسلمين فانه سرعان ما يزول ويكون الدعاة الى الصلح ونبذ الفرقة، وذم الإختلاف أكثر من الأفراد والجماعات التي تشترك في الإختلاف والنزاع.
الثالث: قوله تعالى [أُمَّةٌ قَائِمَةٌ] بيان الأثر والنفع العظيم من بعثة موسى وعيسى عليهما السلام والإخبار عن مصداق من مصاديق موضوعية بعثة الرسل أولي العزم، ومنه وجود أمة تتطلع الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتؤمن بالبشارات التي جاءت به في التوراة والإنجيل وتصدّق به حين بعثته، لتكون حجة على الفاسقين، وآية في العالمين، وشهادة إيمانية من بقية النبوة في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: ” يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ ” يتضمن قوله تعالى ” أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ” بيان الكثرة والإتحاد والإئتلاف بن أفراد الأمة وعدم الإختلاف فيما بينهم في باب الإيمان والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا انه مجمل بخصوص عالم الفعل، فجاء هذا الشطر من الآية لتفصيل الإجمال والإخبار عن نوع وماهية الفعل الذي تواظب عليه هذه الأمة، وتستقرأ المواظبة في موارد الخير من وصفها بأنها “قائمة”.
وإبتدأت الآية بذكر صفة تلاوة الآيات ولابد من خصوصية في التلاوة بحيث جاءت في أول الصفات الفعلية بعد وصف الأمة بأنها قائمة وفيه مسائل:
الأولى: التلاوة قول وفعل.
الثانية: تدل التلاوة على الإيمان والثبات عليه.
الثالثة: التلاوة مدرسة فقهية وعقائدية، ووسيلة مباركة للإرتقاء في المعارف والعلوم.
الرابعة: التلاوة واقية وزاجر عن التعدي والظلم، وباب للصلاح وتهذيب الأخلاق والأفعال.
الخامسة: بيان موضوعية التلاوة في إظهار معاني الإيمان، وتثبيت السنن.
السادسة: تلاوة الآيات حجة للذي يتلوها، وحجة على السامع، فهذه الأمة تنشر معاني الإيمان بالتلاوة.
السابعة: التلاوة تعاهد للتنزيل ، وعلى المعنى المشهور بان المراد من الآية الذين أسلموا من أهل الكتاب فان الآية شاهد على حسن إسلامهم، وصدق سرائرهم، وإخبار بان من يسلم من أهل الكتاب يدخل في جماعة المؤمنين، ويمتثل للأوامر الإلهية وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تردد أو شك.
أما على القول بان المراد فرقة من أهل الكتاب فيحتمل المعنى وجوهاً:
الأول: تلاوتهم لآيات القرآن والتدبر في معانيها ومضامينها القدسية.
الثاني: توارثهم وتعاهدهم قراءة الكتب السماوية السابقة
الثالث : تلاوتهم لآيات التوراة والإنجيل، ورجوعهم اليها، وما فيها من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتصديق بها قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء الآخرين بحسب الآية أعلاه أمور:
الأولى: أنه مذكور في الكتب السماوية السابقة.
الثانية: ان بعثته أمر ثابت وحتمي لا يقبل الترديد.
الثالثة: ينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية في النبوة والإصطفاء وهي انه يدعو أمم أهل الكتاب جميعاً وأجيالهم المتعاقبة الى سبل الخير، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وتتجلى هذه الدعوة بوجوه:
الأول: آيات القرآن وما فيها من أحكام الحلال والحرام وبيان أحوال الأمم ووجوب الهداية والصلاح.
الثاني: تلاوة الذين آمنوا آيات القرآن والتدبر في معانيها، كما جاء في هذه الآية الكريمة، فان تلاوة آيات القرآن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قصد الأمر والنهي.
الرابع: إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، وتقيدهم بأداء الفرائض والعبادات.
الخامس: بقاء القرآن معصوماً من التحريف والتبديل، لدلالة إتصال وإستدامة أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالقيام بالأمر بالمعروف ونهيهم عن المنكر على بقاء آيات القرآن وأحكام الإسلام من غير تحريف أو تبديل، وفيه رحمة بأهل الأرض عامة والمسلمين خاصة.
الثامنة: جاء هذا الشطر بثلاث كلمات، وكل كلمة جامعة مانعة، وهي:
الأولى: قوله تعالى “يتلون” فبينت الآية المدح والثناء بسبب قراءة الآيات وإتصالها لتوكيد أمور:
الأول: التلاوة وسيلة لتثبيت معاني الآيات.
الثاني: التلاوة سبب لتعاهد الآيات، ومانع من ضياعها والتفريط فيها.
الثالث: يترشح عن التلاوة قهراً وإنطباقاً التدبر في معانيها، وهذا التدبر شامل للقارئ والمستمع والسامع، وتلك آية وسر من أسرار التنزيل وشاهد على أنه رحمة للعالمين إذ تنفذ معاني الآيات الى شغاف القلوب، وتخاطب العقول ، وتطرد عنها الغفلة والجهالة، وتجذبها الى سبل الإيمان.
الرابع: منع ضياع الآيات.
الخامس: الحيلولة دون حصول التحريف والتبديل في ألفاظ وكلمات الآيات.
السادس: حفظ آيات الله عن ظهر قلب والترغيب فيه.
السابع: من الآيات في المقام أمور:
الأول: دعوة ألله عز وجل الناس للإيمان وتلاوة الآيات.
الثاني: تفضله تعالى بمدح الذين يتلون آيات الله.
الثالث: الوعد الكريم بالثواب والأجر العظيم على تلاوة الآيات.
الثانية: “آيات الله” وفيه مسائل:
الأولى: تقييد موضوع التلاوة وأنها تكون لآيات الله خاصة، والألفاظ النازلة من عند الله كما في كلمات وآيات القرآن.
الثانية: دعوة المسلمين لتعاهد القرآن بالتلاوة.
الثالثة: بيان الفارق في الرتبة بينها وبين قراءة السنة، أو الدعاء والمناجاة.
الرابعة: ان تلاوة آيات الله حبل ممدود من الأرض الى السماء، وصلة مباركة ببن قلب العبد وبين الله تعالى.
الخامسة: التلاوة شاهد على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض.
السادسة: فيها توكيد للإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: تلاوة آيات الله جهاد في سبيل الله، وإعلان للثبات على الإيمان، وطرد لأسباب الشك والتردد والريب.
الثالثة: نسبة الآيات الى الله كما يتجلى في الآية الكريمة بإضافتها الى اسم الجلالة، لتكون التلاوة عنواناً للتصديق بنزول آيات القرآن من عند الله، وإقراراً بعظيم نعمة التنزيل ولزوم شكرها بالإمتثال لما في الآيات من الأحكام والسنن.
الخامس: قوله تعالى ” آنَاءَ اللَّيْلِ ” هذا الشطر من الآية وعاء زماني للتلاوة وبيان للجهاد الذاتي والغلبة على النفس الشهوية والغضبية، وطرد الخمول والكسل عن النفس والبدن بإختيار الإنقطاع الى تلاوة الآيات على النوم والركون الى الراحة، وهو شاهد على صدق الإيمان وحب لقاء الله ، والقراءة في جوف الليل حرز في النهار من أسباب المعصية، ومادة لطلب الرزق، وزيادة في الفهم والتفقه لما فيها من التدبر في المعاني القدسية للآيات.
السادس: قوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ] ويتكون هذا الشطر من كلمتين، وفيهما وصف سماوي لفعل عبادي يقوم به المؤمنون، وفيه مسائل:
الأولى: السجود عنوان الخشوع لله تعالى.
الثانية: يدل السجود على الخضوع لله سبحانه، وفيه نفي لأسباب الشرك والضلالة.
الثالثة: في السجود دعوة عملية ذاتية للناس للإيمان بالله عز وجل.
الرابعة: إخبار الناس جميعاً بان الذي يحرص على السجود لله عز وجل ينال رضاه ويستحق المدح والثناء.
الخامسة: تدل الآية على وجوب الصلاة بإعتبار ان السجود ركن منها.
قوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] الآية 114.
الإعراب واللغة
يؤمنون بالله: يؤمنون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعل، والجملة صفة ثناء اخرى للأمة.
بالله: جار ومجرور، ومتعلقان بيؤمنون.
واليوم الآخر: الواو: حرف عطف، اليوم: عطف على اسم الجلالة، الآخر: صفة لليوم.
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات: جمل ثلاث معطوفة على يؤمنون بالله.
وأولئك من الصالحين: الواو: إستئنافية، اولئك: اسم إشارة مبتدأ، ومن: حرف جر.
الصالحين: اسم مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر اسم الإشارة.
والسرعة: نقيض البطء، ويقال أسرع فلان بالمشي، وأسرع الى كذا، وسارع بمعنى أسرع، والجميع: سارعوا، ويسارعون.
قال تعالى [أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ]( )، أي ان نعمة الله عليهم بكثرة الأموال والأولاد هي إستدراج وامتحان لهم.
ويقال تسرع بالأمر: جاء به على نحو السرعة.
والمسارعة الى الشيء: المبادرة اليه.
وسرعان الناس: أوائلهم المستبقون الى الأمر.
والخير ضد الشر، وجمعه خيور، والخيرات جمع خيرة- بسكون الياء- وهي الفاضلة من كل شيء، والخير-بكسر الخاء- الكرم، ويأتي بمعنى الشرف والهيئة والأصل.
في سياق الآيات
إبتدأت الآية بما هو تتمة للآية السابقة، وذكر صفة من صفات تلك الأمة من أهل الكتاب، وشطر صفاتها وجعلها في آيتين سر من أسرار القرآن ودعوة للتدبر فيها وجعل موضوعية لها في إنصاف تلك الأمة، وهو عنوان شكر الله تعالى للذين يقرون بالتوحيد ويؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب.
وصحيح ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً، وان الناس محتاجون لها في دنياهم وأخراهم، الا انها محتاجة للناس ايضاً في تصديقهم لها، ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدخول الناس للإسلام، وجذبهم الى الإيمان، وجعلهم يتقيدون بأحكام الحلال والحرام.
ولما جاءت الآيات السابقة بتقسيم الناس في الآخرة الى قسمين بلحاظ لون الوجوه، جاءت هذه الآية لتخبر بان الإيمان بالله واليوم الآخر شرط من شرائط نيل مرتبة بياض الوجوه في الآخرة.
وجاء قبل أربع آيات ذكر أهل الكتاب وانهم فريقان، فريق المؤمنين وهم القلة منهم، وفريق الفاسقين منهم، وهم الكثرة قال تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ].
وجاءت هذه الآية لذكر ماهية إيمان الفريق الأقل منهم وهو إيمانهم بالله والمعاد.
وإذ ذكرت الآيات السابقة قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( )، جاءت هذه الآية لتخبر عن قيام أمة من أهل الكتاب بذات الفعل العبادي، وفيه وجوه:
الأول: إرادة جماعة من أهل الكتاب صاروا مسلمين كعبد الله بن سلام وأصحابه.
الثاني: المقصود أمة وفريق من اليهود والنصارى او من أحدهما على نحو الخصوص، يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإعتباره من تركة الأنبياء، وما جاءت به الكتب السماوية السابقة.
وجاء في الآية (111) تحذير للمسلمين من أهل الكتاب وسعيهم للإضرار بالمسلمين، وإحتمال قيامهم بمحاربتهم، مع البشارة بهزيمتهم وعجزهم عن إيجاد النصير والظهير في الدنيا والآخرة، وجاءت هذه الآية لتؤكد التقييد الوارد في الآيات السابقة والذي يفيد بان الإضرار لا يأتي الا من الفاسقين من أهل الكتاب، وهذه الأمة قهرت الفسق والفاسقين، فذكر قيامها بالأمر بالمعروف ونهيها عن المنكر شاهد على عدم إستحواذ الفاسقين على أمورها، او التحكم بها وبأفعالها.
وتمنع الآية من إستيحاش المسلمين من طريق الإيمان وكثرة الأعداء على جانبيه من الفاسقين والكفار والمشركين، فتضمنت الإخبار بوجود أمة تؤمن بالله من أهل الكتاب، وتتوارث البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء قبل آيات قانون تشريف المسلمين والإخبار السماوي بكونهم خير أمة أخرجت للناس وذكرت ثلاث صفات لهم وهي:
الأول: الأمر بالمعروف.
الثاني: النهي عن المنكر.
الثالث: الإيمان بالله عز وجل.
ولم تذكر الآية إيمانهم باليوم الآخر، بينما ذكرت الآية محل البحث إيمان فريق من أهل الكتاب باليوم الآخر، ويتعاهد كل مسلم ومسلمة الإيمان باليوم الآخر وحتمية المعاد، قال تعالى [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
وتفيد (إنما) معنى الحصر، واذ أخبرت الآية السابقة عن كفر فريق من أهل الكتاب بالآيات، وتماديهم في الغي بقتل الأنبياء ، جاءت هذه الآية لطرد وهم، والمنع من الظن بان أهل الكتاب جميعهم فاسقون، وفيه دلالة على لغة الإنصاف في القرآن، ومنع الحكم العام غير المناسب بسبب وجود أفراد خارجين بالتخصص او التخصيص عنه واقعاً، وهذا الإنصاف فرع شهادة القرآن للأنبياء السابقين بالنبوة، والإقرار بنزول التوراة والإنجيل وإكرام اليهود والنصارى بالتوكيد على إنتسابهم للكتاب السماوي، وجعل هذا الإنتساب صفة ثابتة لهم في القرآن، لتكون لها موضوعية في المعاملة اليومية للمسلمين مع أهل الملل الأخرى، ولم يمنع تعدي أهل الكتاب على المسلمين ومحاولاتهم الإضرار بالإسلام والمسلمين من تسميتهم بأهل الكتاب لأن القرآن نازل من عند الله عو وجل.
وليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين التغيير في ألفاظه وكلماته، وهذه التسمية من الشواهد على خلو القرآن من التحريف وعدم طرو فكرة تبديل كلمة منه على أذهان المسلمين، وهم مسلمون بحقيقة ثابتة ، وهي إنحصار المصلحة والمنفعة باللفظ القرآني وحرمة تبديل حرف من حروف القرآن، ولا عبرة بتعدي الفاسقين من أهل الكتاب على المسلمين، فقد جاء القرآن في هذه الآيات بأمور:
الأول: دعوة المسلمين للتسلح بالإعتصام بالقرآن والسنة( ) ، والقرآن هو الذي سمى اليهود والنصارى أهل كتاب، مما يعني عدم وجود ضرر على المسلمين من هذه التسمية، وهي باب للحجة عليهم، وإخبار بان القرآن كتاب سماوي، ومهيمن على الكتب السماوية الأخرى.
الثاني: مجيء الآيات بقسمة الناس يوم القيامة الى قسمين( ):
الأول: الذين تبيض وجوههم.
الثاني: الذين تسود وجوههم.
ويفوز المسلمون بنيل بياض الوجوه في الآخرة، وفيه دعوة لأهل الكتاب للسعي لبلوغ هذه المرتبة بدخول الإسلام.
الثالث: توكيد نزول القرآن من عند الله وتسمية آياته بآيات الله( ).
الرابع: تشريف المسلمين بالوصف الكريم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، لينالوا أفضل تسمية من بين أمم أهل الأرض، وليكون أهل الكتاب من الأمم والملل التي أخرج لها المسلمون، بإعتبار ان أهل الكتاب جزء من الناس، ويلحق الجزء ما يلحق الكل.
الخامس: تخلف أهل الكتاب عما هو خير لهم، وهو الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ]( ).
السادس: البشارة للمسلمين بعدم وصول الضرر من أشدهم عتواً وإصراراً على إيذاء المسلمين بقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
السابع: هزيمة أعداء الإسلام عند المواجهة مع المسلمين، كما في بني النضير وبني قريظة وبني المصطلق، قال تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ]( ).
الثامن: حلول الذل والهوان بالفاسقين في مقابل نيل المسلمين مراتب العز والمنعة ، قال تعالى [ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا]( ).
التاسع: حاجة أهل الكتاب الى عهد وميثاق مع المسلمين يزيح عنهم شبح الذلة.
العاشر: ذكر علة حلول الذلة والمسكنة بالفاسقين وهي الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء مما يدل على تنزيه المسلمين وسلامتهم من المسكنة لإنعدام المعلول بانعدام علته.
ولم تمنع لغة اللوم والتحذير والإنذار في هذه الآية من الثناء والمدح لفريق من أهل الكتاب يتصف بالإيمان بالله واليوم الآخر، وتتجلى في أفعاله مصاديق الصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
وجاءت الآية التالية في بيان ترتب الثواب على فعل الخير الذي يقوم به المؤمنون في الحث على الصالحات، ودعوة المؤمنين بالله واليوم الآخر من أهل الكتاب بعدم إتباع الفاسقين في ضلالتهم وتعديهم على المسلمين.
إن امتناع فريق من أهل الكتاب عن تعضيد ونصرة الفاسقين زجر لهم عن التعدي وإضعاف لهم، ومناسبة لإلتفات الناس للآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القول بان الآية نازلة في عبد الله بن سلام وأصحابه ممن أصبحوا مسلمين فان الآية تثني على إيمانهم وتخبر عن نيلهم الجزاء الحسن على مبادرتهم لدخول الإسلام، وفعلهم الصالحات.
أما على القول بان الآية نازلة بخصوص فريق من أهل الكتاب يؤمنون بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحرصون على عدم تحريف صفاته المذكورة في التوراة والإنجيل، فان الآية تخبر عن سعة رحمة الله في الثواب على فعل الخير مع الإيمان بالله واليوم الآخر والإقرار بالنبوات، وفيه إشارة الى عدم تضييع عمل الموحين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ممن سبق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن ومبادئ وأحكام الإسلام الفصل بين الخير والشر، والصحيح والسقيم في ذات الملة والجماعة، فمع ان الفاسقين يقاتلون المسلمين بصفتهم اهل كتاب الا ان القرآن يأتي بمدح أمة من أهل الكتاب تتصف بالإيمان بالله تعالى وتعترف بالحساب الأخروي، أمة يأمر أفرادها بالمعروف وينهون عن المنكر، ويبادرون الى الخير.
ومن خصائص المدح في المقام إقامة الحجة على الفاسقين، ودعوتهم للإيمان والكف عن إيذاء المسلمين، والمسلمون بحاجة الى منع التعدي عليهم لتثبيت دعائم الدين والتفقه في أحكام الشريعة، ونشر مبادئ الإسلام.
إعجاز الآية
بدأت الآية بذكر الإيمان بالله عز وجل وهو أفضل ما يختاره الإنسان لأنه أم الواجبات، والأصل الذي خلق من أجله الإنسان وطريق النجاة في النشأتين، وهو مفتاح التصديق بالنبوات ومقدمة واجبة لإتيان الفرائض والعبادات وقبولها.
وبينت الآية ضرورة التصديق باليوم الآخر، وجاءت به معطوفاً على الإيمان بالله الا انه لا يدل على كونهما بعرض واحد، بل الإيمان باليوم الآخر فرع الإيمان بالله، وكونه فرعاً لا يعني انه بمرتبة أدنى من الإيمان، فالإيمان من الكلي المتواطئ.
ولقد بينت الآية موضوعية الإيمان بالمعاد، في دلالة على أهميته في عالم العقائد والأفعال فمتى ما آمن الإنسان بان هناك جنة وناراً فانه يستعد للآخرة، ويأخذ أهبته بالتصديق بالنبوة، وأداء الفرائض والواجبات وإجتناب المعاصي.
ومن الآيات مجيء الوصف بصيغة الجمع وتقدير الآية: يؤمنون بالله ويؤمنون باليوم الآخر، ومن منافع صيغة الجمع التآزر والإتحاد والتعاون في مواجهة الفاسقين والكافرين الذين يجحدون باليوم الآخر وينكرون المعاد.
وذكرت الآية الكريمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإعتبارهما من شرائط الحسن وأسباب المدح، فقد مدحت هذه الآيات المسلمين لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ووصفتهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، اما هذه الآية فجاءت بخصوص أهل الكتاب وذكرت فريقاً منهم يتعاهد الأمر والنهي بإعتباره نهج الأنبياء.
ومن إعجاز الآية انها دعوة لأهل الكتاب لإصلاح الذات، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأبهى وأسمى مراتبه التي تتجلى بالدعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والنهي عن الجحود بها.
وتتضمن الآية الإخبار من عالم الغيب بمبادرة الذين ذكرتهم الى الخيرات، لتكون هذه المبادرة والمسارعة في الصالحات علامة يعرفون بها من بين أهل الكتاب، ومانعاً من اللبس والخلط بينهم وبين الفاسقين، وتبين الآية حقيقة وهي إستحقاق الذي يسارع الى فعل الخير المدح والثناء، ويحتمل الوصف هنا أمرين:
الأول: إنحصار العلم بمسارعة أهل هذه الآية بالخيرات بالله تعالى، فهو سبحانه وحده الذي يعلم بمسارعتهم بالخيرات.
الثاني: معرفة الناس بالمبادرة الى الخيرات للشهرة والظهور.
الثالث: معرفة الخاصة من الناس ممن يكون قريباً من فاعل الخير.
ولا تعارض بين هذه الوجوه للتباين في أحوال الناس، وإختيار دفع الصدقة في السر أو العلانية، والجهر بها أو إخفائها، وإشاعة الفعل بين الناس، أو عدمه، خصوصاً وان فعل الخير يقع على الغير من الناس، فحتى لو جاء به صاحبه سراً فقد يفشيه الطرف الآخر من باب الشكر والمدح والثناء، ومن أفضل وجوه الخيرات المبادرة الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “يؤمنون بالله” ولم يرد هذا اللفظ في بداية آية من القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية إصلاح لأهل الكتاب، وإعانة لهم على إختيار الإيمان، ودعوتهم للتسابق في الخيرات، والتحلي برداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد أراد الله عز وجل بنزول القرآن جذب الناس لسبل الإيمان، وإرتقاءهم في سلم الفضيلة، فبينت هذه الآية القواعد الكلية للصلاح، والتي لا يمكن الشك في حسنها وضرورتها، بالاضافة الى قبح تركها والإعراض عنها، لتكون حجة للمسلمين، ودعوة للناس جميعاً للرجوع الى الرشد وتوظيف العقل في جلب المصلحة ودفع المفسدة.
وذكرت الآية الصالحين بلغةالمدح لتحبيب محاكاتهم، والإقتداء بهم، والدخول في جماعتهم بالأعمال الحسنة التي ذكرتها هذه الآية والآية السابقة.
وتدعو الآية الإنسان للصلاح، وتبين له سنن الهداية، وفيه منع للجهالة والغرر في باب العقائد والأعمال، فبعد هذه الآية لا يستطيع سلطان او ملك أو جبار تغيير معاني الصلاح والرشاد، بل الآية سلاح في وجهه، ومانع من طغيانه وغروره، لأنها تدعو كل إنسان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه تعاهد معاني الصلاح.
وتبين الآية الأثر الحسن للتوراة والإنجيل ولو على نحو الموجبة الجزئية التي جاء القرآن بمدحها والثناء عليها، وهذا المدح سلاح من وجوه:
الأول: قيام المسلمين بالتمييز بين أفراد وجماعات أهل الكتاب.
الثاني: إعانة المسلمين على مواجهة الفاسقين والظالمين من أهل الكتاب الذين يواصلون التعدي على المسلمين.
الثالث: إجتناب إيذاء أهل الكتاب الذين يميلون الى الإسلام ويعلنون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: دعوة عامة أهل الكتاب الى إعلان الإقرار بالتوحيد، ويترشح عنه التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق باليوم الآخر، ويترشح عنه إجتناب المعاصي، ومنها التعدي على المسلمين.
الخامس: بيان صدق نزول القرآن من عند الله، لما فيه من الفصل والتميز بين أفراد أهل الكتاب بلحاظ العقيدة والعمل.
مفهوم الآية
جاءت الآية لهداية وإرشاد المسلمين الى إدارة شؤون الدولة والحكم، ومعرفة طبقات واحوال الناس، ولا تتعلق هذه المعرفة بامور الدنيا، والغنى والفقر، والرياسة أو عدمها، بل تتعلق بالحكم الشرعي لكل فرد وجماعة، وإذ جاءت الآيات القرآنية بوصف اليهود والنصارى بانهم أهل الكتاب، وهم معروفون بين الناس بالإنتماء لملة موسى عليه السلام، وملة عيسى عليه السلام.
جاءت هذه الآية لتبين إتصاف أمة من أهل الكتاب بخصال حميدة وفيه أمور:
الأول: إذا إعتدى على المسلمين فريق من أهل الكتاب فلا يجوز مؤاخذة جميع أهل الكتاب، والإنتقام من الذي يكون منهم قريباً من المسلمين في داره أو عمله.
ومن الأعراف السائدة في الجزيرة العربية زمن البعثة النبوية الثأر والإنتقام ممن ينتسب الى الجاني، ولا تنحصر هذه العادة الذميمة بالجزيرة بل تكون موجودة حيث الإبتعاد عن أحكام الشريعة السماوية، لذا فانها تظهر جلية في مجتمعات عديدة والى يومنا هذا، وجاء الإسلام ليمنع منها، ويحرم القصاص بغير الجاني، وينهى عن التعدي على البرئ قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
وجاءت الآية الكريمة محل البحث في مصداق مخصوص، ومسألة إبتلائية، وشأن عظيم يواجه المسلمين في جميع الأزمنة المتعاقبة من غير ان ينحصر بايام النبوة، لتخبر عن وجود امة من أهل الكتاب لا يجوز مؤاخذتها والإجهاز عليها بسبب ما يفعله إخوانهم من أهل الكتاب للتباين العقائدي الفعلي بين الفريقين، وإن اتحدا في الاسم والنسبة، وتؤكد بأن المدار على الفعل وليس الإنتماء.
وتبين هي والآية السابقة الصفات التي تتصف بها الأمة من أهل الكتاب التي تستحق الصلح معها، ولا يجوز الإنتقام منها بفعل الفاسقين من أهل الكتاب، هذا على القول بان المراد من الآية فريق من اليهود والنصارى، وليس جماعة منهم إختاروا الإسلام وإلتحقوا بالمسلمين وقاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طاعة لله ورسوله.
وجاءت هذه الآية والآية السابقة في ذكر خصالهم وتمييزهم عن غيرهم من أهل الكتاب، ولم تذكر الآيتان صفات الفريق الآخر وهم الفاسقون، لأن الآيات السابقةجاءت بذكرهم وذمهم، بالإضافة الى دلالة مفهوم هذه الآية والآية السابقة على ذم الفاسقين من أهل الكتاب، وإقامة الحجة عليهم في تخلفهم عن المبادئ والأحكام والبشارات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام.
وفي هذه الآية تعريض بالذين يكيدون للمسلمين ويعتدون عليهم من وجوه:
الأول: من يؤمن بالله لا يسعى في الإضرار بالمسلمين لأنهم يلتقون معهم بالتوحيد، والعبودية لله تعالى، والأصل أن تتوجه جهودهم مشتركة نحو الكفار والمشركين الذين يعبدون الأصنام ويتخذون الشريك، ويأبون الإقرار بالتوحيد والعبودية المحضة لله تعالى ، ومن اليهود من إتفق مع كفار قريش للإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: الذي يؤمن بالله يصدق بالأنبياء الذين بعثهم، ولا يفرق بين الرسل.
الثالث: يحرص المؤمنون بالله على تلاوة آيات الله، وما أنزل من التوراة والإنجيل والقرآن، وليس له أن يؤمن بالكتاب السابق، ويجحد بالكتاب السماوي اللاحق.
والأصل في الإنتماء للكتاب، والوصف بأهل الكتاب هو التصديق بالكتب السماوية كلها لوحدة السنخية وانها نازلة من عند الله، ومن البراهين الساطعة في القرآن تسميته في التنزيل بالكتاب، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابع: من خصائص الموحدين الإقرار باليوم الآخر، وان البعث حق، والجنة حق، وهذا الإقرار حرز من المعصية، وواقية من التعدي على الحرمات أو القيام بظلم الآخرين فالذي يخاف من شيء يتجنب المقدمات التي تسبب له الحزن والأذى فيه.
وتؤكد الآية حقيقة وهي ان الإقرار باليوم الآخر من شرائط أدنى مراتب الإيمان، فحتى اذا كان الكتابي يجحد بنبوة بعض الأنبياء الا انه يجب عليه الإقرار بالمعاد لأنه من الضروريات في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام، وبه جاءت التوراة والإنجيل، واذا كان الحسد يستحوذ على قلبه، وحب الدنيا يمنعه من إتباع الآيات والمعجزات، فان موضوع المعاد والإقرار به ليس فيه حسد او تنافس، بالإضافة الى أنه حتم وحق وصدق، ولابد أن يأخذ الإنسان أهبة الإستعداد له.
فان قلت ان كل كتابي يؤمن باليوم الآخر وان كان يعادي المسلمين، قلت: ان هذه الآية والآية السابقة جاءت بذكر المؤمنين من أهل الكتاب وصفاتهم على نحو الجمع والإتحاد وليس الترديد او كناية إحدى الصفات.وتتضمن في مفهومها ذم الفاسقين منهم .
الخامس: تؤكد الآية حقيقة وهي ان الأمر بالمعروف ملازم للتوحيد، فمتى ما أقر الإنسان بالعبودية لله تعالى فانه يسعى في إرشاد الناس الى سبل الصلاح، ويدعوهم لعمل الصالحات والتصديق بالأنبياء.
وتدل الآية في مفهومها على ان الفاسقين من أهل الكتاب لا يأمرون بالصلاح والرشاد، ومن أهم مصاديق المعروف التصديق بما في الكتب السماوية من البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه عند بعثته.
السادس: الإخبار عن تقيد المؤمنين بالله من أهل الكتاب بمضامين الزجر عن الفواحش والمعاصي، اذ ان الناس على ملل متباينة فمنهم المسلمون ومنهم أهل الكتاب ومنهم الكفار والمشركون، ويقتضي الإنتماء الى الكتاب السماوي، وإتباع الأنبياء دعوة الناس الى الإسلام والتصديق بالنبوة مطلقاُ، والتوجه لنهي الكفار عن الشرك والضلالة، ومنعهم من الإقامة على المعاصي.
وعلى فرض ان الآية جاءت بخصوص فريق من أهل الكتاب فانها دعوة لهم للثبات على النهي عن المنكر، وتوكيد على ضرورة القيام بمسؤوليات النهي عن التعدي على المسلمين.
وإذ ما جاء نهي الفاسقين عن الإضرار بالمسلمين من إخوانهم في الملة والدين فانه يكون أبلغ في الأثر، ويتضمن الدلالة على عدم نصرة الفاسقين وإنذارهم من العتو والغي، وهو من مصاديق ما ورد قبل ثلاث آيات بقوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] فيبدأ تركهم وعدم إعانتهم من قبل إخوانهم من أهل الكتاب الذين يرون بطلان التعدي على المسلمين.
وذكرت هذه الآية الصفات التالية للمؤمنين بالله من أهل الكتاب:
الأولى: الإيمان بالله، وعدم الجحود بالربوبية.
الثانية: الإقرار بالمعاد ويوم الحساب.
الثالثة: قيامهم بالأمر بالمعروف، والدعوة الى الخير.
الرابعة: زجرهم عن الفواحش.
الخامسة: مبادرتهم في الخير والصلاح.
السادسة: إستحقاقهم للإنضمام الى أهل الصلاح.
إفاضات الآية
الإيمان إرتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب، يأتي على نحو الإختيار وليس القهر والإجبار، الا ان الإختيار ليس محضاً بل يتم برشحة من اللطف الإلهي بالعباد، سواء ذات المؤمن أو ذريته أو جماعته وأمته أو الناس جميعاً.
أما المؤمن فانه ينتقل بالإيمان من منازل الضلالة والردى الى مقامات الهداية والرشاد، وأما ذريته فانهم يتبعونه على الإنطباق والمحاكاة والوراثة لسنن الإيمان وأفعال الصلاح، وأما جماعته وأمته فيكون الفضل الإلهي عليهم بإيمانه على وجوه:
الأول: زيادة قوتهم، وكثرة عدوهم.
الثاني: التخفيف عنهم للنقص الحاصل في معسكر الكفر والضلالة بخروجه عنه.
الثالث: إمتلاؤهم غبطة وسعادة بإضافة أخ جديد وفرد الى الأمة.
الرابع: إيمان الفرد الواحد شاهد على صدق النبوة، وسلامة الإختيار وحسن توظيف العقل لخدمة الذات والغير.
الخامس: إعلان الفرد إسلامه يعني إنضمام أمة الى المسلمين بلحاظ أولاده وأحفاده والأجيال المتعاقبة من ذريته.
وجاءت الآية بالمدح لفريق من أهل الكتاب لإيمانهم بالله وتصديقهم بالنبوات والإخبار عن صلتهم بالله عز وجل ولزوم إكرام المسلمين لهم لهذه الصلة، وفيه دعوة لهم لبذل الوسع في مرضاة الله، والسعي للنيل من عطاء الله.
لقد جاء تعاقب الأنبياء رحمة بالناس جميعاً، ووسيلة لهدايتهم الى سبل الرشاد وبرزخاً دون الضلالة والشرك، والناس في تلقيهم النبوة وأنبائها على وجوه:
الأول: التصديق بكل نبي من أنبياء الله.
الثاني: التصديق بالنبي السابق، والوقوف عنده، وإنكار نبوة النبي اللاحق طمعاً بالرياسة والجاه، أو إتباعاً للرؤساء من أهل الملة الذين يخشون على ما لهم من الشأن والمقام الرفيع.
الثالث: الجحود بالنبوة والأنبياء وهذا الجحود على قسمين:
الأول: انه فرع الكفر وانكار الربوبية.
الثاني: الإدعاء بعدم الحاجة الى الأنبياء، وان آيات الله عز وجل ظاهرة بينة، وغاب عن أصحابه ان بعث الأنبياء لطف إلهي وعون على معرفة الآيات الكونية والإقرار بها، والإهتداء الى وجود الصانع ولزوم عبادته، وذكرت الآية صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فيض من عند الله وباب لهداية الآمر والمأمور.
الآية لطف
جاءت الآية في مدح فريق من أهل الكتاب بالدليل الخارجي المترجل بالأفعال والأعمال، ليكون هذا المدح عنواناً للإكرام، وقد تقدم قبل آيات الإخبار الإلهي بان المسلمين هم [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وفيه في المقام ان خير أمة تعرف طبقات الناس وقادرة على التمييز والفصل حتى بين أبناء الملة الواحدة بلحاظ الصلاح أو الفسق، وان الله عز وجل أكرم المسلمين ، وجعلهم يدعون الناس الى الإسلام بلغة المدح والذم بما هو واقع فعلاً.
ومن اللطف الإلهي في الآية انها تثبت المؤمنين بالله من أهل الكتاب في منازلهم، وتجعلهم باقين على التصديق بالبشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته المطابقة لشخصه الكريم حين بعثته.
وفيه تخفيف عن المسلمين، وإعانة لهم من أهل الكتاب أنفسهم، اذ يكون فريق منهم ناصراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشاهداً على شهادة التوراة والإنجيل على صدق نبوته.
وتبين الآية حاجة الناس للقرآن وتنزيله ، فوصف فريق من أهل الكتاب بالمؤمنين وبأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حاجة من وجوه:
الأول: انه حاجة للمسلمين للمواظبة على الصالحات، وبلوغ أسمى مراتب التقوى والصلاح لأنهم خير أمة.
الثاني: إدراك حقيقة ان القرآن جامع للعلوم والأخبار ومعاني الفضيلة، اذ جاء بوصف الأمم والملل، وبيان التفصيل بين فرقها.
الثالث: حاجة المؤمنين من أهل الكتاب للمدح والثناء للبقاء على الإقرار بالتوحيد والنبوة.
الرابع: على القول بان الآية خاصة بفريق من أهل الكتاب فانها دعوة لهم للإسلام، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتباره فرع الإيمان بالله فمن يؤمن بالله لابد وان يصدق بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: جعل كل كتابي يتفكر في حاله، وينظر هل هو من الذين يشملهم المدح الوارد في هذه الآية والآية السابقة أم انه من الذين جاء في الآيات السابقة ذمهم ونعتهم بالفسوق والإخبار بان الذلة والمسكنة تلازمانهم.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان عدد من صفات الحسن التي يجب ان يتحلى بها الناس جميعاً.
الثانية: جاءت الصفات بعنوان المدح والثناء في مقابل ما تضمنته الآيتان قبل السابقة من ذم فريق آخر من أهل الكتاب ، وفيه دعوة مركبة من وجوه:
الأول: تثبيت المؤمنين بالله من أهل الكتاب على إيمانهم.
الثاني: حثهم على عدم نصرة الذين يعتدون على الإسلام لأن هذه النصرة تتعارض مع القواعد والسنن المترشحة عن الإيمان بالله.
الثالث: دعوتهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبار ان هذه الآية شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله لما فيها من الإخبار عن أحوالهم، وسرائرهم وخصالهم وسنخية أفعالهم، بالإضافة الى ما فيها من التوكيد على وجود أمة من أهل الكتاب لا تخلط بين الإيمان بالله وبين الفسوق والخروج عن الطاعة.
الرابع: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الخامس: تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا.
السادس: إعانة المسلمين في معرفة منازل الناس، وأهل الملل والنحل.
السابع: دعوة المسلمين للفصل والتمييز بين أبناء الملة الواحدة وأفراد الطائفة، فقد طرأ على الكتب السماوية السابقة تحريف وتغيير.
ومن الآيات ان هذا التحريف لم يتغش الأفراد كلهم، بل بقت أمة منهم على التوحيد والإيمان بالله وإنتظار تحقق البشارة ببزوغ شمس الإسلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت هذه الآية في إكرام هذه الأمة.
الثامن: منع المسلمين من إشاعة القتل والتشريد في أهل الكتاب، فقد يفر الذي يعتدي على المسلمين الى إخوان وأصحاب له من أهل الكتاب، فلا يعني الأمر أخذ الجميع بجريرة الفاسق المعتدي فربما كانوا من أهل الإيمان والتوحيد، ومنشغلين بالتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في طريقهم الى دخول الإسلام، لذا ترى المسلمين وبوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ أحداً القتال.
التاسع: حث جميع أهل الكتاب على الرجوع الى الإيمان بالله بإعتباره الجامع المشترك الذي يلتقي عنده أتباع الكتاب السماوي، ومنهم المسلمون.
العاشر: إضعاف الفاسقين والكافرين، وإخبارهم بخسارتهم لفريق من إخوانهم ممن لم يشترك معهم في التعدي على المسلمين ولا يقوم بنصرتهم عند بدأ القتال او عند هزيمتهم أمام جيوش المسلمين.
الحادي عشر: الإخبار بان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سنة الصالحين من أتباع الأنبياء، وانه ليس جديداً في الأرض إلا أن المسلمين تعاهدوه بكل مراتبه ودرجاته، وتقيدوا بأحكامه على نحو الوجوب في الأمر والنهي الواجبين، والمستحب بخصوص المندوب والمستحب منه.
الثاني عشر: بيان محبوبية فعل الخير، وحسن المبادرة اليه.
الثالث عشر: التوكيد على نيل الذي يؤمن من أهل الكتاب مرتبة الصلاح والإلتحاق بالصالحين من الأولين والآخرين.
التفسير
قوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]
إبتدأت الآية بأمور:
الأول: تتمة الصفات الحميدة التي جاءت في الآية السابقة.
الثاني: ذكر صفة الإيمان بالله، وهي الأصل الذي تتفرع عنه مصاديق الإيمان، ومضامين العبودية لله تعالى، والجامع المشترك بين الموحدين من الأمم السالفة واللاحقة.
وما يجاهد المسلمون إلا من أجل حمل الناس على الإيمان، ولم تقل الآية “يؤمنون” وحدها بل ذكرت الإيمان بالله عز وجل بما يفيد الإقرار بالتوحيد، ونفي الشريك، ونعت الفرد والجماعة ببلوغ مرتبة الإيمان بالله عز وجل تشريف وأكرام لهم، ودعوة للناس للإقرار بالعبودية لله ، ومناسبة كريمة للإمتثال لأوامره التي تأتي بالكتب المنزلة وبواسطة الأنبياء والمرسلين.
ولم يأتِ وصف الإيمان بالله في أول الصفات لهذه الأمة بل جاء بعد وصفهم بتلاوة آيات الله آناء الليل وخضوعهم وخشوعهم وسجودهم لله تعالى، وفيه مسائل:
الأولى: نظم وسياق الآيات، لأن الآية ذكرت أولاً قيام الأمة وتلاوتها لآيات الله.
الثانية: إبتدأت الآية بقوله تعالى [أُمَّةٌ قَائِمَةٌ] وفيه إشارة الى الثبات على الإيمان بإعتبار ان الثبات على الإيمان من معاني القيام في المقام.
الثالثة: إرادة إبتداء هذه الآية بالإيمان بالله وبيان أهميته بلحاظ مجيئه في أولها.
الرابعة: جاءت الآية بالبيان الموضوعي، وجعل موضوع الإيمان بالله وسط صفات المدح للأمة القائمة.
الخامسة: محاكاة لما تقدم من وصف خير أمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم ذكرت الإيمان بالله( ).
فتأخر فيها ذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أنهما رشحة من رشحات الإيمان بالله، وكذا تلاوة الآيات في جوف الليل والسجود الذي ذكر في الآية السابقة رشحة من رشحات الإيمان.
لقد جعل الله عزوجل عبادته علة تامة لخلق الإنسان، فلابد لكل إنسان ذكراً أو أنثى ان يقوم بعبادة الله، ومن الآيات ان كيفية العبادة ليست أمراً إختيارياً مطلقاً للعبد، بحيث يختار ما يراه مناسباً، أو يكتفي بالمسمى وصرف الطبيعة منه.
ولا يحق للإنسان ان يعبد الله عز وجل وفق أي شريعة من شرائع الأنبياء بل لابد من إعتبار النسخ والعمل بالشريعة الناسخة، والتي يتفق زمان وأيام الإنسان مع وجود أحكامها في الأرض.
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة في باب العبادات والأحكام وفيه تمام النعمة على المسلمين وأهل الأرض قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ).
ولا تتقوم العبادة الا بالإيمان بالله تعالى، وهو شرط في صحتها وقبولها، ولا ينحصر هذا الشرط بالإسلام بل هو قانون ثابت ومسألة سيالة منذ أيام أبينا آدم عليه السلام والى يوم القيامة، وهذا الإيمان واجب على كل مكلف ومكلفة، ومع هذا جاءت هذه الآية في مدح الذين يؤمنون بالله وهذا المدح فضل من عند الله عز وجل عليهم، ونوع شكر لهم، وبيان للطف الإلهي بالعباد.
اذ يقوم العبد بواجبه الإعتقادي فيأتي الشكر من الله تعالى والمدح له في القرآن، ليخلد ذكره ويكون هذا المدح دعوة له للإتيان بما يجب على المؤمن فعله، وبلوغ الرفعة في مراتب العبودية لله تعالى بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتيان الفرائض والواجبات.
وجاءت الآية بصيغة الجمع التي تدل على التسليم العام بينهم بالإيمان بالله عز وجل، وان الفاسقين والكفار لا يستطيعون حملهم على ترك الإيمان بالله عز وجل، وهي سور جامع مانع، جامع لهم في سبل الإيمان والهداية، ومانع من دبيب أفكار الشرك والضلالة، وواجب ذاتي وغيري.
أما الذاتي فالإيمان بالله هو الأصل الذي تبتنى عليه أصول وفروع الدين وهو واجب عيني مستديم على كل مكلف ومكلفة، وأما الغيري فانه مقدمة وشرط لصحة وقبول العبادة، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين جميعاً وجعلهم مؤمنين بالله ورسله وملائكته قال تعالى[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ] ( ).
علم المناسبة
ورد لفظ “يؤمنون” سبعاَ وثمانين مرة في القرآن ومع كثرتها فانها جاءت بالإيمان بالله والنبوة وأصول الدين أو نفي الإيمان عن قوم، وفيه مسائل:
الأولى: جاء ذكر الإيمان بالله في الآيات على نحو الإطلاق بلفظ “يؤمنون” قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
الثانية: ورد لفظ “يؤمنون بالله” في أربع آيات من بين مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ يؤمنون، مرة في هذه الآيات وثلاث مرات يراد منها المسلمون على نحو التعيين وهي:
1- قوله تعالى [لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ…إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
2- قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ] ( ).
3- قوله تعالى [لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )،وفيه إشارة الى ان المراد بالذين يؤمنون بالله هم المسلمون.
كما جاءت الآيات في مدح الذين يؤمنون بالقرآن والآيات ويؤمنون بالغيب واليوم الآخر، كما جاءت الآيات بذم الذين يتخلفون عن الإيمان وأحكامه والوعيد لهم بالعقاب الأليم في الآخرة لتذكيرهم بلزوم الإقرار باليوم الآخر، قال تعالى [بَلْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ] ( ).
ان الإيمان بالآخرة فرع الإيمان بالله عز وجل ولقائه يوم القيامة وجاء عدد كثير من آيات “يؤمنون” في التوكيد على الإيمان بالكتاب والآيات سواء آيات الآفاق أو آيات القرآن، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ] ( ).
وفيه دلالة على البشارة بحسن الثواب في الآخرة فمن يتلقى السلام من عند خاتم النبيين بأمر من عند الله عز وجل، فانه يكون في غبطة وسعادة، وأخبرت الآيات عن جحود وإبتعاد أكثر الناس عن الإيمان قال تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وفيه دعوة للمسلمين للتمسك بالقرآن والسنة وتعاهد الإيمان، ودعوة الناس للهداية وعدم الوحشة من طريق الإيمان بسبب إختيار أكثر الناس الكفر والجحود.
قوله تعالى [وَالْيَوْمِ الآخِرِ]
ذكرت الآية خصلة حميدة من خصال الذين ذكرتهم هذه الآية والآية السابقة من مؤمني أهل الكتاب، فأخبرت بأنهم يؤمنون باليوم الآخر، وهذه الخصلة وغيرها من الخصال مادة لمعرفة المؤمن من أهل الكتاب بانه يقر بالمعاد ولقاء الله في الآخرة، وانه يقف بين يديه سبحانه، والمراد من اليوم الآخر يوم القيامة، وبعث الناس من القبور للحساب.
ورجوع أجزاء بدن الإنسان الى الإجتماع وعودة الروح فيه ويسمى الوجود الثاني للأجسام، والأشخاص الإنسانية، وإختلف المتكلمون في عودة الأبدان والروح فيه على قولين:
الأول: إعادة البدن المعدوم، ورجوع الروح فيه.
الثاني: جمع أجزاء البدن الأصلية على ما كانت عليه ثم إعادة الروح فيها.
والقول الأول عليه الأكثر، أما الثاني فذهب اليه من لا يقول بإعادة المعدوم، والنزاع صغروي لأن الأمر يتم بمشيئته تعالى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تعليم وإرشاد المسلمين الى أحكام وشرائط الإيمان.
الثانية: الإخبار عن موضوعية الإقرار بالمعاد وبعث الناس يوم القيامة.
الثالثة: الإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الدين وضرورة عقائدية.
الرابعة: التمييز بين المؤمن وغير المؤمن بالإيمان باليوم الآخر، نعم لا يكفي هذا الإيمان للتعيين وثبوت صفة الإيمان الا إنه فرد من خصائص وشرائط الإيمان.
الخامسة: في الآية دعوة لأهل الكتاب للإيمان باليوم والآخر، وإعلان هذا الإيمان لما فيه من الدلالات العقائدية، والمفاهيم الإصلاحية.
السادسة: الآية عز وفخر للمسلمين وشاهد على إيمانهم بالله، والمعاد وهو من وجوه تفضيل المسلمين، فليس من مسلم أو مسلمة إلا ويؤمنان بالله تعالى وحتمية الوقوف بين يديه للحساب.
وإذ جاءت الآية لبيان خصال الأمة القائمة من أهل الكتاب، فانها تحتمل في مفهومها وجهين:
الأول: عدم إيمان الفاسقين من أهل الكتاب واليوم الآخر.
الثاني: لا تدل الآية على كفر وجحود الفاسقين من أهل الكتاب باليوم الآخر ، ولكنهم لم يستعدوا له.
والصحيح هو الثاني، لان إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، نعم الإيمان باليوم الآخر على مراتب فمنه ما يكون إيماناً تاماً بالإستعداد له بالإيمان والتصديق بالنبوات والعمل الصالح، ومنه ما يكون إقراراً لأنه مذكور في التوراة والإنجيل من غير استعداد له لذا جاءت الآية بذكر خصال المدح والثناء بواو العطف التي تفيد الجمع والمعية وأنه لابد من الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان باليوم الآخر.
لقد تفضل الله تعالى على الناس وكشف لهم شطراً من علوم الغيب، وأسراراً مما يجري يوم القيامة ليكون هذا الكشف عوناً لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فانه ضياء مبارك وإمام يقود الناس لفعل الصالحات، وحجة على الكافرين والظالمين.
وأما في الآخرة فان المؤمن لا يفاجئ بجميع أهوال الحساب وطول السفر وما فيه من الظمأ والجوع، بل يكون قد أخذ معه متاعه وزاده من الصالحات والمسارعة في الخيرات.
ومن منافع الآية ندب المسلمين الى اتيان الفرائض والمندوبات وحثهم على العمل للآخرة والسعي لملاقاة الموت بذخيرة من العمل الصالح.
ومن الفضل الإلهي تسمية يوم القيامة باليوم الآخر، ونعته بالأخير في إشارة الى جعله غاية في عمل الإنسان وادراك حقيقة وهي الخلود في الآخرة وعدم عودة الإنسان للدنيا وعالم الإبتلاء.
قانون بين الدنيا والآخرة
الإيمان هو التصديق والإقرار، وهو نقيض الكفر، وقد شرّف الله عز وجل الانسان بالعقل، وجعله وسيلة للهداية، وغلبة البصيرة والرشاد على الشهوة، وسبيلاً الى الإقرار بواجب الوجود ولزوم عبادته سبحانه، وإجتناب معصيته.
ومن الآيات ان الله عز وجل جعل حياة الإنسان على قسمين بينهما تباين وتضاد وهما:
الأول: عالم الدنيا.
الثاني: اليوم الآخر:
ومن وجوه التضاد:
الأول: الدنيا دار ابتلاء، والآخرة دار حساب.
الثاني: موضوعية الإختيار في عمل الإنسان في الدنيا، وإنعدامه في الآخرة، الا فيما يخص أهل الجنة وما يتمنون من الرغائب.
الثالث: الدنيا دار عمل وسعي وكسب، وليس في الآخرة عمل.
الرابع: يتباين الناس في الرزق والشأن والجاه في الدنيا بحسب الحال وعالم الأسباب ، والعلة والمعلول، اما في الآخرة فينحصر الرزق الكريم بأهل الإيمان، وينال الكفار العذاب الأليم.
الخامس: تتصف أيام الحياة الدنيا بانها محدودة زماناً، أما عالم الآخرة فهو الخلود الأبدي.
السادس: في الحياة الدنيا لهو ولعب ، وليس في الآخرة الا الثواب على فعل الصالحات، أو العقاب على الإنقطاع الى اللهو في الدنيا قال تعالى [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( ).
السابع: ترتب المقام في الآخرة على ماهية ونوع الفعل في الدنيا، وهذا الترتب دعوة للناس للتقيد بالفرائض والواجبات.
الثامن: تدعو الدنيا وما فيها من الآيات ووجوه الإبتلاء الى الآخرة والتهيء لها، ولا تدعو الآخرة الى الدنيا، بل ان ذكر الآخرة إنذار وتحذير من الإنقطاع الى الدنيا التي سماها الله عز وجل متاع الغرور قال سبحانه [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ]( ).
التاسع: الدنيا مزرعة للآخرة، وليس من طريق الى الآخرة الا الدنيا، وليس من غاية ونتيجة للدنيا وعاقبة سوى الآخرة.
ومن بديع خلق الله تعالى ان التضاد بين الدنيا والآخرة لم يمنع من وجوه عديدة للإلتقاء بينهما، وتلك خصوصية في الخلق وآية تدعو الناس الى الإيمان والتصديق، ومن وجوه الإلتقاء:
الأول: كل من عالم الدنيا والآخرة رحمة من عند الله عز وجل.
الثاني: تغشي الحياة الدنيا والآخرة بالفضل الإلهي.
الثالث: تجلي الآيات وبديع الصنع كل من عالم الدنيا والآخرة.
الرابع: عظيم قدرة الله، وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
الخامس: الدعاء وإمكان المسألة والتوجه الى الله في الحاجة، وللدعاء في الدنيا موضوعية وأثر، أما في الآخرة فيتجلى بشكر أهل الجنان على النعم المتصلة، ولا إعتبار لدعاء الكفار، قال تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
السادس: الإلتقاء الجهتي بان تكون البشرى للمؤمنين في الدنيا والآخرة قال تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( )، وتعقب العذاب للكفار لإعراضهم عن الإنذار وصدودهم عن الوعيد الذي يأتي بالكتب المنزلة وعلى لسان الأنبياء، قال تعالى [وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
الثامن: العز والرفعة للمسلمين في الدنيا والآخرة، والذلة والمسكنة للكافرين، كما تدل عليه هذه الآيات التي جاءت إنذاراً للكفار والفاسقين وتذكيراً بعالم الآخرة كي يكون الإيمان باليوم الآخر مقدمة لإصلاحهم، وتخلصهم من الكفر والجحود فتأتي آيات القرآن بالتخويف والوعيد للكفار، وتلحق بهم في الدنيا الذلة والمسكنة من أجل إنقاذهم في الآخرة.
التاسع: عائدية ملك الدنيا والآخرة لله تعالى فليس من مالك سواه، وليس له سبحانه شريك وهو إله في الدنيا وإله في الآخرة، وبيده مقاليد الأمور مطلقاً سواء في الدنيا أو الآخرة.
العاشر: النفع العظيم في الآخرة من التصديق بها في الدنيا، وقد مدح الله عز وجل المسلمين بقوله تعالى [وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] ( ).
قانون الإيمان بالآخرة واجب نفسي وغيري
قسم جديد من أقسام الواجب في علم الأصول
ينقسم الواجب في علم الأصول الى قسمين:
الأول: الواجب النفسي، وهو المطلوب بذاته ولذاته قربة الى الله.
الثاني: الواجب الغيري، وهو الواجب الذي يؤتى به واسطة ووسيلة لواجب آخر، كالوضوء بالنسبة للصلاة لذا جاء التكليف القرآني به بصيغة الشرط [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ…] ( ).
وذكرت الآية الإيمان باليوم الآخر كصفة كريمة من صفات المؤمنين وفي الإيمان باليوم الآخر وجوه:
الأول: انه واجب نفسي.
الثاني: انه واجب غيري.
الثالث: انه واجب نفسي وغيري.
والصحيح هو الأخير، فيتجلى في العلوم والمعارف الإلهية إجتماع أفراد الوجوب في الموضوع الواحد من غير تعارض بينها، ويحتمل إجتماع أفراد الوجوب في المقام وجهين:
الأول: الإتيان بكل فرد منهما بنية وقصد وفعل مستقل.
الثاني: إتحاد الواجب النفسي والغيري في ذات النية والقصد، ولا تعارض بين الوجهين.
إذ أن الإيمان باليوم الآخر واجب عيني على كل مكلف، وهو مرتبة من العلم، وفيه رفعة في النشأتين، ومن منافعه النفسية والغيرية أمور:
الأول: الإيمان باليوم الآخر من ضرورات الدين.
الثاني: الإقرار باليوم الآخر تهذيب للنفس، وإصلاح لها ومناسبة للسياحة في عالم الملكوت، والدنو من حضرة القدس لأنه إقرار بحتمية لقاء الله.
الثالث: أنه إرتقاء في المعارف الإلهية.
الرابع: سلامة الناس من أذى الذي يؤمن باليوم الآخر.
الخامس: أنه دعوة للناس للإيمان باليوم الآخر.
السادس: أنه علم يجذب الناس للإطلاع على مواضيعه وأحكامه وتفاصيله، فقد لا يكون الإنسان مؤمناً بالمبدأ والمعاد ولكنه حينما يطلع على أسرار يوم القيامة يؤمن بالله ويصلح حاله ويأخذ أهبته للإستعداد ليوم القيامة.
ومن الآيات عدم إنحصار الإستعداد له بمدة من العمر، أو نوع من الفعل، بل هو ملازم للإنسان في كل أيام حياته، مما يعني ان الإيمان باليوم الآخر على وجهين:
الأول: أنه إعتقاد في القلب والجوانح.
الثاني: ترشح القول والفعل منه بالحرص على أداء الواجبات، والسعي في دروب الطاعة والمبادرة الى فعل الصالحات.
السابع: من مصاديق كون الإيمان باليوم الآخر واجباً غيرياً حرص على الذي يؤمن به على العمل والسعي للجنة والشوق اليها والنفرة مما يقربه من النار والفزع منها، ليكون الإيمان باليوم الآخر برزخاً دون الوقوع فيها.
واليوم الآخر حق وصدق وأمر واقع على نحو القطع والجزم سواء آمن به الإنسان أو لم يؤمن به، ومن يؤمن به ينفع نفسه وغيره، والذين ينفعهم إيمانه على وجوه:
الأول: عائلته وأولاده، وان كانت المؤمنة باليوم الآخر إمرأة فانها تنفع اولادها ايضاً وتساهم في إصلاح الأسرة ونزول الرزق الكريم عليها وعليهم بسبب إيمانها وإصلاحها للذات.
الثاني: قيام المؤمن باليوم الآخر بالواجبات والفرائض، لأنه يعمل على الإستعداد له، فمن خاف من شيء إستعد له، وإحترز منه، ومن رجا وأمل شيئاً سعى اليه، وفي اليوم الآخر رجاء وخوف، رجاء للثواب، وخوف من العذاب.
الثالث: تثبيت دعائم الدين في الأرض، ودعوة الناس للإيمان بيوم القيامة.
الرابع: إعلان للحرب على الشرك والكفر ، ومنع شيوع أفكار الضلالة والجحود.
الخامس: الإيمان باليوم الآخر من مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومادة لهما.
ويحتاج الإنسان الإيمان باليوم الآخر لأنه ملاقيه، وحال به وعليه إجتناب إنكاره له، فمن ينكر اليوم الآخر يواجهه يوم القيامة بالجفاء والصدود، فصحيح ان يوم القيامة وعاء لعالم الحساب إلا أنه خلق قد يجعل له الله حجة على من أنكره.
وجوب الأمر والنهي مستديم
قد أسسنا في الجزء السابق قسماً جديداُ للواجب وهو الواجب المستديم يكون قسيماً للواجب المؤقت والواجب غير المؤقت، ومنه الإيمان بالله والنبوة ومنه في المقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اذ انه ملازم للمكلف في أيام حياته كلها، فليس له أن يتركه بسبب أدائه لمصاديق منه بل يتجدد كلما تجددت أسبابه الشرعية.
وإستدامة الواجب فرع علة خلق الإنسان، فما دام الإنسان لم يخلق الا لعبادة الله تعالى، فان الواجب يلازمه مدى حياته، ولا يفارق الإنسان مطلقاً الى يوم القيامة لأنه معلول، ولعدم تخلف المعلول عن علته، فلابد أن يقوم الإنسان بالعبادة فقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )يعني في دلالته ان الله عز وجل يجعل الإنسان يعبده، ويمتثل لأوامره .
ومن مصاديق العبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتسود مفاهيم الصلاح والتقوى في المجتمعات، وتكون وسيلة وغاية في عالم الأقوال والأفعال.
والقدر المتيقن من الوجوب هو إيجاد المعروف، وإعدام المنكر، فاذا تحققا ارتفع الوجوب سواء كان الوجوب عينياً او كفائياً.
فقد يؤتى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإرادتهما على نحو التعيين كواجب عبادي، ويؤتى بهما لإصلاح الغير متحداً كان او متعدداً، ويؤتى بهما في آن واحد كفعل عبادي ولإصلاح الطرف الآخر، وتنزيه النفوس والمجتمعات من درن المعاصي والسيئات.
ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب نفسي وغيري في آن واحد، وهذه الغيرية على وجوه:
الأول:الدعوة الى فعل حسن مخصوص، والزجر عن فعل منكر معلوم
الثاني: عصمة الآمر والناهي من الوقوع في ذات المعصية، والإنجذاب الى أصحابها، فمتى ما إنشغل المؤمن بالزجر عن المعصية فانه يكون يقظاً حذراً منها ومن مقدماتها كي لا يكون من الذين ينهون عن الفعل ويأتونه، وما في هذا التناقض من المهانة وشيوع حال الإستخفاف به من قبل الذين كان له سلطان عليهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيأبى بروح الإيمان تلك المهانة، ويحرص على قهر النفس الشهوية والغضبية، ويأتيه المدد من قبل الآخرين الذين يظهرون تباعاً الإستجابة لأمره والإنصات لأقواله، مع حرص الجميع على إكرامه بسبب قيامه بالأمر والنهي لإدراكهم أنه لا يرجو لهم الا الخير والنفع في النشأتين.
ومن خصائص الإنسان انه كائن محتاج، ومن حاجته ان جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عليه من وجوه:
الأول: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الإنصات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى [وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ] ( )، وذم الله قوماً يأتيهم الأمر بالعبادة والصلاح فيقابلونه بالجحود والصدود، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ]( ).
الثالث: الإمتثال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتخاذ الأمر والنهي وسيلة وسبباً للتوبة والإنابة والطاعة.
لقد فتح الله عز وجل على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باباً للصلاح والثواب الى يوم القيامة، فليس من غلق لهذا الباب ولا يستطيع أحد من الخلائق غلقه، ومن الآيات عدم وجود حد لهذا الباب في سعته وإستدامته وأثره.
اذ انه على وجوه:
الأول: يأتي تارة الأمر والنهي بالقول الصريح.
الثاني: الكتابة والتعريض والتلميح في الجذب الى الطاعات والنفرة من السيئات.
الثالث: قيام الآمر بالمعروف بإتيانه، وإجتناب المنكر ليكون أسوة للآخرين، وهل في هذا الإتيان رياء، الجواب لا بل هو من تعظيم شعائر الله والغاية منه الإصلاح وليس على المحسنين سبيل.
الرابع: الترغيب والتشجيع بالمعروف وتقديم النصيحة والمشورة في الإصلاح.
الخامس: المدح والثناء على فاعل المعروف وجعله قدوة وإظهار معاني الإكرام والتقدير له، لأن إتيان المعروف والتقيد بالفرائض شاهد على بلوغ مرتبة من العلم، وتتجلى فيه القدرة على التغلب على الشهوة ووساوس الشيطان.
السادس: الإعانة والمدد بالمال والجاه والجهد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجوز إعطاء الزكاة لمن يجعلها وسيلة للتوبة وإصلاح الذات والكف عن المعاصي.
السابع: إستعمال مراتب اليد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل وجه من هذه الوجوه يؤتى به للوجوب النفسي أو الغيري لما فيها من النفع الشخصي والنوعي بلحاظ ان الأمر والنهي تأديب للذات كما أنه تأديب وإصلاح للغير، ولا تنحصر الحاجة للأمر والنهي بالمأمور بل تشمل الآمر والسامع والمستمع,
ومن الحكمة الإلهية ان جعل الله سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبين على المكلفين، وحث المسلمين على إتيانهما وبشرهما بالثواب العظيم والجزاء الحسن على القيام بهما، ومن الآيات انه سبحانه يسّر لهم الإتيان بهما من وجوه:
الأول: الطمع بالثواب العظيم في الآخرة على الأمر والنهي.
الثاني: وجود آذان صاغية للأمر والنهي.
الثالث: سقوط الأمر والنهي مع خشية الضرر والأذى على النفس او العرض أو المال.
الرابع: دفع البلاء والإفتتان.
الخامس: وجود ظهير ونصير لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الجملة.
السادس: ميل النفوس لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ]
بعد مجيء هذه الآية بالإخبار عن صفتين من صفات الأمة القائمة من أهل الكتاب، وهما:
الأول: الإيمان بالله.
الثاني: الإيمان باليوم الآخر .
وبالإضافة الى صفاتهم التي جاءت بها الآية السابقة بذكر تلاوتهم لآيات الله في وسط الليل وسجودهم لله تعالى، جاء هذا الشطر من الآية ليؤكد صفة أخرى لهم وهي قيامهم بالأمر بالمعروف، وتلك وظيفة تبعث على العز والفخر، وتتجلى فيها منافع عديدة للذات والغير، ولا تتقوم حياة الناس في الدنيا الا بالأمر بالمعروف، وله موضوعية عظيمة في تعيين منازل الناس في الآخرة على وجوه:
الأول: الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتقيد بأحكامهما.
الثاني: الذي يقوم بالأمر ويتقيد به، وينهى عن المنكر ويتجنبه في السر والعلانية.
الثالث: من ينصت للأمر والنهي ويستجيب للآمر، وينزجر عن المنكر.
الرابع: الذي يكتفي بالسماع دون الإمتثال، ولكنه يقوم بنقل مضامين الأمر والنهي الى غيره.
الخامس: الذي يأبى الإستماع للأمر والنهي.
السابع: من تتهيء له وظيفة الأمر والنهي، ويكون في مقدوره فعله، ولكنه لا يقوم بهذه الوظيفة العبادية.
الثامن: الذي يميل الى الأمر والنهي، ويود القيام بهما ولكنه لا يفعلهما تكاسلاً وليس حذراً وتقية وخوفاً من الأذى.
وينال الثواب الثاني والثالث أعلاه، فجاءت الآية في مدح الذين يأمرون بالمعروف، ويعملون به، وينهون عن المنكر ويجتنبونه بأدلة وقرائن في الآية هي:
الأول: وصفهم بالإيمان بالله عز وجل.
الثاني: إستعدادهم للحساب يوم القيامة.
الثالث: مبادرتهم ومسارعتهم الى فعل الخير والإحسان الى الآخرين.
الرابع: نعتهم بالصلاح مما يدل على نزاهتهم من المعاصي والسيئات التي يرتكبها الفاسقون والذين يتعدون على الإسلام بغير حق.
وتحتمل الآية وجهين:
الأول: إرادة المسلمين بلحاظ قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طاعة وقربة الى الله، وروى الحسن عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في ارضه وخليفة كتابه ورسوله)( )، مما يدل على إرادة المسلم العارف الذي إمتحن الله قلبه للإيمان وإرتقى في مراتب المعرفة، وإستطاع ان يتكلم ويفعل بأحكام القرآن والسنة.
ومن الأسرار في الحديث أعلاه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلافته وخلافة القرآن بعرض واحد مع خلافة الله ومعطوفة عليها، من غير تعارض بين وجوه الخلافة وكلها نور واحد، وهذا التعدد شاهد على المنافع العظيمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحاجة اليهما، لذا أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلها واجباً ملازماً لهم في حياتهم العبادية والإجتماعية، سواء كان واجباً كفائياً او عينياً بحسب الحال والشأن والمقام، والأصل فيه انه واجب كفائي يتوجه الخطاب فيه الى المسلمين، واذا قام به أحدهم سقط عن الباقين.
الثاني: إرادة المؤمنين بالله من أهل الكتاب الذي ظلوا يعملون بأحكام التوراة والإنجيل، والذين ذكرتهم آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] بأنهم مؤمنون من أهل الكتاب ولكنها أخبرت عن تخلفهم عن الإيمان، أي الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ] فجاءت الآية لبيان الإنصاف في التنزيل، وذكر ما للفرد والجماعة والفرقة، وما عليها، ومدحتهم بالأمر بالمعروف، وفي هذه الحالة يكون المعروف على نحو الموجبة الجزئية، لأن من أهم أفراد المعروف الدعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: المقصود الذين أسلموا من اليهود كعبد بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد، وأسيد بن عبيد، وغيرهم.
ويحتمل المراد من جهة الزمان والحال أموراً:
الأول: أيام ما قبل اسلامهم، حينما كانوا ينتظرون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: مرحلة تصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي سابقة لإعلانهم الإسلام فكانوا يأمرون بالمعروف ويدعون الناس للتصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم او التدبر في معانيها ومضامينها القدسية.
الثالث: إرادة حالهم بعد اعلانهم إسلامهم.
والصحيح هو الثالث، لقد كان المؤمنون من أهل الكتاب يبشرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدعون الناس الى التصديق به قبل إسلامهم، وعلى فرض إرادة هذا المعنى يكون المراد من قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] هو الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع منزلة وموضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد إختلف المتكلمون في وجوبهما على أقوال:
الأول: أنهما واجب بالسمع لنزول الآيات ومجيء السنة بالندب اليهما.
الثاني: وجوبهما عقلاً والسمع يؤكد الوجوب.
الثالث: “ليس في العقل ما يدل على وجوبه الا اذا كان على سبيل دفع الضرر”( ).
لقد جاءت الآيات القرآنية صريحة بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يكون العقل بعرض واحد مع السمع، بل هو تابع للسمع أي للتنزيل والسنة، ولا تصل النوبة الى القول بان العقل يحكم بما جاء به التنزيل فهو منقاد للتنزيل، ويدرك منافع الإمتثال للأوامر الإلهية وأضرار الأعراض عنها.
ومنهم من حصر الأمر بالمعروف بالواجب، والنهي عن المنكر بالمحرم، ولا دليل على هذا التقييد، والأصل هوالإطلاق، والسعي رجاء المطلوب خصوصاً وان المعروف عنوان جامع للخيرات ومصاديق البر والصلاح، فيشمل الواجب والمندوب وقد يأتي المعروف بترك المحرم الى المكروه، لقاعدة الميسور او للتدريج، بعد العجز عن الإصلاح دفعة واحدة، والإنتقال من إرتكاب الحرام إلى الإتيان بالواجب.
وأيهما أهم الأمر بالمعروف أم الإمتثال والإستجابة له، الجواب ان كل فرد منهما له أهميته وموضوعيته، وتدل الآيات على أهمية الأمر بالمعروف من وجوه:
الأول: أنه مقدمة لإتيان المعروف.
الثاني: الأمر بالمعروف سبب للقيام به.
الثالث: الأصل هو إنبعاث الأمر بالمعروف عن التقيد به وإتيانه، كما انه حث على الثبات على فعل المعروف والتقيد بأحكامه وسننه، ولذا أختتمت الآية بالإخبار عن إنتسابهم الى الصالحين ونيلهم مرتبة الصلاح.
قانون الأمر بالمعروف خلافة
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض، وهو قانون ثابت إعترفت به الملائكة واذعنت له الخلائق جميعها، فليس من مخلوق الا ويقر بحقيقة خلافة الإنسان، وهي مرتبة من الشرف لم يرق اليها مخلوق غير الإنسان، ومع إقرار الخلائق بخلافة الإنسان فإنها تغبطه على هذه النعمة العظيمة والمرتبة السامية، وتتطلع الى تعاهده لها بالصلاح والتقوى، وتنزيه الأرض من الفواحش والذنوب الكبائر منها والصغائر.
وتحتمل خلافة الإنسان إبتداء وإستدامة وجوهاً:
الأول: المدد الإلهي للأنبياء في خلافتهم في الأرض، بأن رزقهم العصمة، وهداهم الى سبل الجهاد في سبيل الله سواء على القول بان الخلافة شخصية او نوعية.
الثاني: إعانة المؤمنين في كل ملة من ملل التوحيد للهداية في سبل الخلافة في الأرض.
الثالث: إرشاد المسلمين لأحكام وسنن الخلافة.
الرابع: هداية الأجيال المتعاقبة من المسلمين.
الخامس: توجيه الناس جميعاً للمواظبة على الخلافة في الأرض بإعتبار ان الخلافة نوعية وليست شخصية فلا تنحصر بأشخاص الأنبياء بل تشمل بني آدم مطلقاً.
ويأتي الأمر بالمعروف مادة لحفظ وتعاهد خلافة الإنسان في الأرض، فلا تتقوم الخلافة الا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خصوصاً مع تعدد المنتفع من الأمر والنهي على وجوه:
الأول: الآمر بالمعروف لما له من الأجر والثواب والعمل على إصلاح الغير، وما يترشح عنه من تعاهد إصلاح الذات.
الثاني: المأمور بالمعروف، الذي يتلقى الموعظة وأسباب الهداية.
الثالث: المستمع للآمر بالمعروف وهو على وجوه:
الأول: الذي يحاكي الآمر في أمره، ويقوم بالأمر من وجوه:
الأول: توكيد الأمر بالمعروف الى ذات الشخص.
الثاني: القيام بأمر آخرين غير الذي توجه له الأمر.
الثالث: يكون أمره في ذات الموضوع الذي إستمع له.
الرابع: يقوم بالأمر في مصاديق أخرى من المعروف.
الخامس: الإتيان بالجامع من الأمر في ذات الموضوع وفي غيره من المواضيع.
ليكون الأمر بالمعروف كالبذرة التي توضع في الأرض فتكون شجرة متعددة الأغصان كثيرة الثمار مع الفارق وهو ان قطف ثمار الأمر بالمعروف ليس له موسم وأوان معين بل يتغشى أيام السنة كلها.
وليس من إنسان الا وينتفع من ثمار وضلال شجرة الأمر بالمعروف طوعاً وقهراً، وينصت لوجوه الخير والصلاح، ولا عبرة بأهل العناد والجحود، وهؤلاء ايضاً ينتفعون منها، ولكن على نحو الموجبة الجزئية، لذا يتجلى هذا الإنتفاع بمبادرة الكافر الى التوبة والإنابة.
لقد أراد الله عز وجل لخلافة الإنسان في الأرض الإستدامة والحفظ، وان تكون ملازمة له في حياته وإعماره للأرض، بالإيمان بالله عز وجل والتصديق بأنبيائه، وإقامة الفرائض، ومزاولة وإتيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قانون الإمتثال عون ومادة للأمر
جاءت الآية بالمدح على الأمر بالمعروف، وتوكيد الوصف به وفيه نعمة مركبة ومتعددة من وجوه:
الأول: المدد الإلهي في القيام بالأمر بالمعروف، فليس بمقدور الإنسان أن يقوم بالأمر بالمعروف ويدعو الناس اليه الا بفضل وتيسير من عند الله عزوجل.
الثاني: الأمر بالمعروف شاهد على الإيمان، لأن الأمر يصدر عن هداية وإيمان.
الثالث: إنصات الناس الى الآمر بالمعروف نعمة عليه وعليهم.
الرابع: الأمر بالمعروف تأديب للنفس، وإصلاح للمجتمع، وباب للهداية والرشاد.
الخامس: تعدد وتجدد موارد الأمر بالمعروف، وكل فرد منها نعمة مستقلة.
السادس: الأمر بالمعروف موضوع للثواب ونيل المنازل الرفيعة في الدنيا والآخرة.
وتحتمل موضوعيته وجهين:
الأول: نيل الثواب على الأمر بالمعروف على نحو الموجبة الكلية والعنوان الشامل.
الثاني: إحراز الأجر والثواب على كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف.
ولا تعارض بين الوجهين، ولايقدر على منح الثواب الجزيل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الا الله تعالى لأنه من خصائص كرمه وجوده وإحسانه بالإضافة الى إتيان الأمر بالمعروف بالأمر والعناية واللطف الإلهي، وتلك آية أخرى، فيأمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف وهو غني عنهم، وعن أفعالهم، ولكن الأمر لمنفعتهم في النشأتين، ولجلب المصلحة ودفع المفسدة عنهم.
وهل يستلزم الثواب على الأمر الإمتثال من الذي يتوجه له الأمر بالمعروف، الجواب لا، فقد جاءت الآية بالخطاب التكليفي بالأمر بالمعروف، ولم تذكر الإستجابة، كما ان قاعدة الإشتغال اليقيني تقتضي الفراغ اليقيني بحصول الأمر وإبلاغه للطرف الآخر، وتلك آية إعجازية في مضامين الأمر بالمعروف وحصول الإجزاء بصدور الأمر ، وفيه من جهة الأُثر وجوه:
الأول: ترتب الأثر حال صدور الأمر، وإمتثال الطرف الآخر له.
الثاني: تأخر حصول الأثر زماناً.
الثالث: حصول الإستجابة على نحو الموجبة الجزئية في الموضوع والكم والأفراد.
الرابع: تعقب الإستجابة للأمر، فحالما يصدر الأمر بالمعروف تأتي الإستجابة من جهة المأمور.
الخامس: إمتناع الإستجابة، وإصرار المأمور على عدم الإمتثال.
وكل هذه الوجوه ممكنة الحدوث، ولا يضر التباين بينها في نيل الآمر للأجر والثواب لتعلقهما بالقيام بوظيفة الأمر بالمعروف ، وهو القدر المتيقن من الآية وفيه شاهد على ترتب الأثر على الأمر بالمعروف على نحو القطع وحصول المنفعة، وتجلي الثمرة من ألأمر بالواقع العملي من وجوه:
الأول: شيوع لغة الأمر بالمعروف وإنتشاره بين الناس.
الثاني: بعث السكينة في النفوس لتجلي الأمر بالمعروف، وظهوره على اللسان والجوارح.
الثالث: زحزحة المنكر والباطل، وعدم جعله يستقر في النفوس والمجتمعات، فالمعروف أمر ثابت، أما المنكر فيتوجه له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليشتركا معاً في تنحية الباطل، وقلعه من جذوره، ومنع تفشيه وانتقاله من منازله ومواطنه الشخصية او إتساعه، فحينما يأتي الزجر عنه لمن يتلبس به فان غيره من الناس يتعظ به ويتجنب محاكاته في فعل ينهاه أهل الصلاح عنه، خصوصاً مع ظهور القبح الذاتي للمنكر.
الرابع: اللطف الإلهي بإعانة شطر من الناس وجعلهم ينصتون للأمر بالمعروف ويمتثلون لما فيه، وفيه دعوة لغيرهم للإقتداء بهم.
الخامس: من يكون آمراً في مصداق من مصاديق المعروف، قد يكون مأموراً بمصداق آخر منه، وهذا التعدد في الوظيفة والمقام عون على الإمتثال للآمر بالمعروف ودعوة للآخرين للإستجابة والإمتثال ايضاً.
السادس: ترتب الثواب والأجر العظيم على القيام بالأمر بالمعروف، فلا يؤثر عدم الإستجابة من الطرف الآخر سلباً على درجة الثواب التي ينالها المؤمن، وهو ظاهر من ورود الآيات بخصوص الأمر بالمعروف.
السابع: وجود موضوع للأمر بالمعروف وغاية كريمة يسعى اليها الآمر بالمعروف تتصف بالحسن الذاتي.
ان حصول الإمتثال للأمر بالمعروف على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية سبيل لإستدامة الأمر بالمعروف وعون للمؤمنين في سعيهم بين الناس بالصلاح والندب الى فعل الطاعات، والمسارعة الى الخيرات.
ويؤدي حسن الإستماع الى الآمر بالمعروف الى المبادرة اليه، وعدم التردد في توجيه النصح والإرشاد للآخرين ودعوتهم للإيمان، وفيه طرد للنفرة والكدورة، وبرزخ دون إستحواذ النفس الشهوانية والغضبية على الإنسان وان كان متخلفاً عن منازل المعروف، لأن الإستماع مقدمة للإمتثال، ووسيلة للتدبر في منافع المعروف وإتيان الصالحات، والإضرار والعواقب الوخيمة التي تنتظر فاعل المنكر.
قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]
يأتي النهي عن المنكر في الآيات القرآنية بعد الأمر والنهي عن المنكر وفيه مسائل:
الأولى: الملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: عدم تخلف النهي عن المنكر عن الأمر بالمعروف في عالم الأقوال والأفعال.
الثالثة: حاجة الناس الى الملازمة بينهما.
الرابعة: الحاجة الذاتية للأمر والنهي للتداخل بينهما، فأحدهما متمم للآخر.
الخامسة: في الملازمة بينهما مانع من الخلط بين الأمر والنهي، وبرزخ دون قلة الأثر وعدم إستدامته.
السادسة: بلوغ الغاية بالملازمة وعدم التفكيك بينهما، كما يحتمل الأمر والنهي بلحاظ الإتحاد والتعدد وجهين:
الأول: اتحادهما في ذات الموضوع، فيصدر من الآمر الى المأمور أمر ونهي في آن واحد بان يصدر الأمر بالطاعة، وينهاه من ترك المعصية، او العكس بان يزجره وينهاه عن المعصية ويأمره بالطاعة من غير فصل وفترة بينهما .
الثاني: التعدد بأن يصدر الأمر في موضوع والنهي من موضوع آخر.
الثالث: التدريج بان يأتي النهي عن المعصية أولاً، وبعد الكف عن المعصية، يأتي الأمر بفعل المعروف.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي وسيلة وسبب لتهذيب النفوس، واقتلاع الفواحش والسيئات من الأرض.
وعلى القول بأن الآية خاصة بالمؤمنين بالله عز وجل من أهل الكتاب فانها تؤكد على ان النهي عن المنكر سنة متوارثة عند المليين وهو منهج الصالحين، وتركة الأنبياء وأصحابهم وأنصارهم، ومن أهم مصاديق النهي عن المنكر الزجر عن محاربة المسلمين، والتحذير من الإصرار على التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على وجود أمة من أهل الكتاب تدعو إخوانها من أهل الكتاب عامة الى الكف عن التكذيب بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون الحجة على الفاسقين أبلغ وأتم، وفيه مناسبة للتدبر بالآيات وظهور معالم التصديق بالنبوة في منتديات أهل الكتاب، ومن منافع هذا التصديق المنع من المناجاة والإتفاق على إيذاء المسلمين، خصوصاً وان المناجاة بالمنكر مقدمة للتعدي على المسلمين، وتهيئة لإثارة الشكوك والريب، وإعداد لأسباب الإجهاز على المسلمين.
وفي الآية دعوة للمؤمنين بالله من أهل الكتاب لمواصلة الزجر عن المنكر، وإخبار بان الله عز وجل يعلم ما يجري بين أهل الكتاب من الكلام، والأمر والنهي، ولا ينحصر موضوع النهي عن المنكر بالزجر عن التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يشمل النهي عن الشرك والضلالة والفسق وإرتكاب المحرمات، ومنها ما هو ثابت في كل الشرائع السماوية وفيه مقدمة لدخول الإسلام، وسبب لإدراك عموم أهل الكتاب بان الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ذاته الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام بخصوص النهي عن تلك المحرمات.
ولا يكون قيامهم بالنهي عن المنكر تاماً وكاملاً بل يأتي بقدر الإستطاعة وبخصوص موضوعات معينة، لأن وظيفة النهي عن المنكر على نحو التمام والكمال ولا يقدر عليها الا المسلمون لذا إستحقوا صفة (خير أمة أخرجت للناس).
أما على القول بان المراد هم النفر الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأخيه فان ألآية تؤكد تحليهم بوظائف الإيمان، وبلوغهم مراتب العز بالإنضمام الى خير أمة أخرجت للناس، والتي تقوم بوظائف الأمر والنهي والتقيد بسنن المعروف، وإجتناب الفواحش والسيئات.
وتبين الآية ان النهي عن المنكر من صفات الحسن التي تستحق المدح، ومن علامات الإيمان، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً للنهوض بهذه المسؤولية، وإعانة المسلمين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ومن وجوه الإعانة إظهار الإستجابة لهم، ومد يد المساعدة لهم، وعدم وضع المعوقات أمامهم، وإثارة الشكوك وبعث روح التردد والريب فيما يدعون اليه، مع وضوحه وتجلي معانيه بلحاظ تسمية المعروف وما تدل عليه من معرفة الناس لحسنه، وتسمية المنكر وما تتضمنه من الإنكار العام من قبل الناس للفعل القبيح والمذموم، وجاءت الآية بصيغة المضارع وتدل على الإستدامة والتجديد في مضامين النهي عن المنكر وعدم إنقطاع النهي، مما يدل على وجود أهل هذه الآية سواء أريد بها المؤمنون من أهل الكتاب، أم فريق من المسلمين كانوا من أهل الكتاب.
وعلى المعنى الأول وإرادة المؤمنين بالله من أهل الكتاب فان الآية تشمل الذين أصبحوا مسلمين كعبد الله بن سلام من باب الأولوية القطعية مع الشرف الذي يلحقهم بسبب الإنتماء للإسلام وقصد القربة في النهي ، والتباين في الكم والكيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن إختيارهم وإعلانهم الإسلام وحده من أفضل مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصحيح ان الإنتماء الى الإسلام فعل ذاتي، وعمل يخص النفس ولكنه أمر معروف من وجوه:
الأول: فيه دعوة لكل الناس لدخول الإسلام والإقتداء بمن ينطق بالشهادتين.
الثاني: ترغيب الناس في التدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: فضح الشكوك وأسباب الريب التي يثيرها أعداء الإسلام.
الرابع: حث المسلمين على التمسك بالقرآن والسنة، وجعلهم يشعرون بحسن إختيارهم وسبقهم للإيمان.
الخامس: وضع الأسس الإيمانية المباركة للأولاد والذرية، والقيام بتهيئة أسباب نجاتهم في الدنيا والآخرة.
السادس: وقاية المسلمين من الشر الذاتي، الذي قد يحصل من بقاء شطر من الناس على الكفر والجحود، فعندما يعلن العبد إسلامه ينقص عدد الكفار ويزيد عدد المسلمين، وتبتهج الملائكة بإسلامه، وما فيه من الفوز والظفر ومحاربة للمنكر الذي يكون الكفر أهم وأخطر أفراده بالإضافة الى تفرع وجوه عديدة من المنكر منه، فيأتي إيمان العبد الواحد ليكون إيماناً لأمة من بعده، وحرباً على أفراد عديدة من المنكر والجحود.
أما على إرادة المعنى الثاني وان المقصود هم الذين أسلموا من أهل الكتاب، فان الآية لا تشمل أفراد القسم الأول أي المؤمنين بالله من أهل الكتاب، وتكون خاصة بالذين إختاروا الإسلام من أهل الكتاب وتكون الآية على الوجهين دعوة لأهل الكتاب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجتناب التعدي على المسلمين وحرماتهم، ونبذ التحريف الذي طرأ على التوراة والإنجيل، والرجوع الى الأصل منها والتدبر في البشارات التي جاءت فيها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلامات نبوته.
وبخلاف ما جاء قبل أربع آيات بتقدم النهي عن المنكر على الإيمان بالله، جاءت هذه الآية بتقدم الإيمان بالله عز وجل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعارض بين الصورتين، وجاء هنا النهي عن المنكر مترشحاً عن الإيمان بالله ومتفرعاً عنه وطريقاً لتثبيته في النفس وفي الأرض، اذ يحتاج نشر كلمة التوحيد في الأرض النهي عن الكفر والضلالة والجحود، والمنع من خلط العمل الصالح بالسيء.
وتبين الآية ان الله عز وجل يريد من العبد ان لا يقف عند حدود الإيمان به بل يسعى في دروب الخير والصلاح بين الناس اذ ان النهي عن المنكر نوع مفاعلة بين الناهي ومرتكب المنكر، وقد يمتثل مرتكب المعصية للنهي وقد لا يمتثل، ويصر على فعل الذنب ، ولكن وظيفة النهي عنه تحققت، وهذا المرتكب لم يخلِ بينه وبين المعصية، بل جاءه النهي من قبل المؤمنين الله وبحسب ما موجود في الكتب السماوية، وما جاء به الأنبياء من عند الله، وتكون الكتب السماوية والنبوة ظهيرين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواقية له من الأذى والضرر الذي يأتي بسبب قيامه بوظيفة الأمر والنهي.
ومن الآيات ان يأتي الأمر بالمعروف لتثبيت سنن الهداية في الأرض، والنهي عن المنكر لزحزحة السيئات والمعاصي، وطردها من الأرض ولا يعني هذا ان أهل الإيمان لم يواجهوا الحرب من الكفار والفاسقين وأسباب صدهم عن الصلاح والتقوى، وهناك من ينهى عن المعروف وفعل الخير، ويتوعد الأنبياء والصالحين بالبطش بهم وفي قصة نوح عليه السلام ورد قوله تعالى [قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ] ( )، وورد في لوط عليه السلام قوله تعالى [قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ]( ).
والنهي عن المنكر حلية الأولياء ووصية الأنبياء والصالحين الى أبنائهم، والعهد الذي يخلفه المؤمن لذريته من بعده، والأثر الذي يعرف به بين الناس، وفي القرآن ورد في التنزيل [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( )، في دلالة على التقيد الذاتي بمبادئ الإيمان، ودعوة الناس لفعله وإتيانه، وحثهم على إجتناب السيئات، ويأتي هذا الحث والزجر عن المعاصي من خلال التقيد الشخصي بأداء العبادات وإجتناب الذنوب، بإعتبار ان الصلاة واقية من الذنوب والمعاصي.
وقد لا يكون النهي بسيطاً بل يمر بمراتب متعددة ويستلزم الإحتجاج والسعي وبذل الوسع وتحمل الأذى، وفي قصة نبي الله صالح عليه السلام وما كان يلاقيه من قومه من الصدود والعناد حينما كان يدعوهم الى عبادة الله، ورد عنهم في التنزيل [أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا] ( ).
قوله تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]
جاء هذا الشطر من الآية بذكر صفة حميدة من صفات الذين ذكرتهم هذه الآية والآية السابقة، وهي المبادرة الى فعل الطاعات وعمل الصالحات، وهذه الصفة ليست بسيطة بل هي مركبة من أمرين:
الأول: فعل الصالحات وعمل الخيرات.
الثاني: المبادرة اليها، وتلك خصوصية إضافية تبين صلاح نفوسهم، وأثر الإيمان بالله واليوم الآخر في ماهية أفعالهم، فمن يؤمن بالله، ويعترف بالحساب يوم القيامة يستعد له بالعمل الصالح، وتحتمل المبادرة الى فعل الخيرات أمرين:
الأول: انها جزء من فعل الخير ذاته.
الثاني: أنها أمر مستقل يستحق ثواباً إضافياً.
والصحيح هو الثاني، فالمبادرة وان كانت في ذات فعل الخير الا انها فعل إضافي، وعمل مبارك.
وتدل الآية الكريمة على إستحقاق العبد على هذه المبادرة الثناء والمدح، فلم تقل الآية (ويفعلون الخيرات) بل ذكرتهم بصفة المبادرة الى فعل ما فيه من الخير والفلاح والصلاح.
وهل تأتي المسارعة في الخيرات مجردة ومستقلة ام تكون متصلة ومتداخلة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب هو الثاني، فان واو العطف في “ويسارعون” تفيد المعية والجمع، وفيه وجوه:
الأول: في الجمع بين الإيمان بالله والمسارعة في الخيرات مسائل:
الأولى: فعل الخير شاهد على الإيمان بالله عز وجل.
الثانية: في المبادرة الى فعل الخيرات، دعوة الى الإيمان بالله عز وجل.
الثالثة: هذه المبادرة سعي في طلب مرضاته.
الرابعة: فيها تثبيت لمعاني التقوى والصلاح.
الخامسة: من خصائص اهل الإيمان المسارعة والتسابق في فعل الخيرات والإحسان الى الآخرين.
السادسة: يملأ الإيمان بالله القلب رحمة ورأفة بالناس ويجعل صاحبه يبادر من غير تفكر وروية الى عمل الخير وإصلاح الحال، ودفع الضرر عن الآخرين.
السابعة: فيها قصد القربة ورجاء رضا الله، وصحيح ان وجوهاً من فعل الخير لا تستلزم قصد القربة الا ان بعضها أفعال تعبدية، يكون قصد القربة شرطاً في صحتها، والداعي اليها الإمتثال لأمر الله تعالى ولا يشوبه رياء أو شهرة أو ضميمة أخرى، بل يكون قصد العبادة ورضا الله عز وجل علة تامة لإتيانها كالصلاة ودفع الزكاة.
الثاني: في الجمع بين الإيمان باليوم الآخر والمسارعة في الخيرات وجوه:
الأول: في المبادرة الى فعل الخير إكتناز للصالحات.
الثاني: من مصاديق الإقرار باليوم الآخر التهيء له بفعل الخير، والإحسان الى الناس، وإجتناب الشر والأذى.
الثالث: في المسارعة الى فعل الخيرات دعوة للناس للإقرار بيوم البعث، لما فيها من السعي والجهد والإنفاق ورجاء الثواب والأمن من أهوال يوم القيامة، قال تعالى [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا] ( ).
الثالث: الجمع بين الأمر بالمعروف والمسارعة في الخيرات، وفيه وجوه:
الأول: بين المسارعة في الخيرات والأمر بالمعروف عموم وخصوص من وجه، ومادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: كل منهما سعي في سبيل الله.
الثاني: فيهما طاعة لله تعالى.
الثالث: في كل فرد منهما ثواب عظيم.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: يأتي الأمر بالمعروف على نحو الوجوب سواء الوجوب الكفائي وهو الأصل ، او الوجوب العيني الذي قد يترشح عنه في بعض الحالات.
الثاني: يأتي الأمر بالمعروف قولاً على اللسان، او فعلاً بالجوارح لإصلاح الغير في الغالب، اما المسارعة في الخيرات فهي مبادرة شخصية وقيام بفعل صالح.
الثالث: يكون الأمر بالمعروف مقدمة للمسارعة في الخيرات، وقد تكون المسارعة في الخيرات مقدمة للأمر بالمعروف ايضاًَ.
الرابع: المسارعة في الخيرات فعل ذاتي يتضمن في دلالته الأمر بالمعروف والندب الى فعل الخيرات.
الرابع: الجمع بين النهي عن المنكر والمسارعة في الخيرات، وفيه وجوه:
الأول: يزيح فعل الخير المنكر والقبيح عن منازله.
الثاني: تدل المسارعة في الخيرات على هجران منازل المنكر، فمن يفعل الخير يؤكد بالواقع العملي رفضه ونفرته من المنكر.
الثالث: فعل الخير ونشر الصلاح دعوة للناس جميعاً للتخلص من المنكر والقبيح.
وجاءت المسارعة في الخيرات متخلفة عن كل من:
الأول: الإيمان بالله لبيان ان فعلهم الخير، والمبادرة اليه بسبب الإيمان بالله والإمتثال لأوامره رجاء رضاه تعالى.
الثاني:الإقرار باليوم الآخر للدلالة على رجاء الثواب والإقامة في الجنة بفعل الصالحات.
الثالث: فيه دعوة لإعانة الذين يؤمنون بالآخرة، لتكون المسارعة في الخيرات تثبيتاً لشعائر الله والإقرار بالمبدأ والمعاد.
الثاني: الأمر بالمعروف عبادة، وعون على فعل الصالحات ليكون المؤمن أسوة للآخرين، وتكون مبادرته في الصالحات شاهداً عملياً على إخلاصه وصدقه بالقيام بالأمر بالمعروف.
الرابع: النهي عن المنكر، لتأتي المسارعة في الخيرات توكيداً له، ووسيلة لتنقية النفوس من السعي في دروب المعصية ، وغلبة الشهوة والغضب عليها.
وبالإضافة الى كون المسارعة في الخيرات مقدمة الى العبادات فانها بذاتها فعل عبادي يتضمن الوجوب والإستحباب بحسب الموضوع والحكم ، فمن الخيرات طاعة الله ورسوله، وأداء الصلاة، ومنها دفع الزكاة الواجبة، ومنها ما هو مندوب ومستحب كالزكاة المستحبة وإصلاح ذات البين ، وإفشاء السلام ، والكلمة الطيبة ، ونشر معاني الفضيلة بين النفوس.
ويتضمن فعل الخير ثلاثة أطراف هي:
الأول: الفاعل.
الثاني: ذات الفعل.
الثالث: المسارعة والمبادرة الى فعل الخير والصلاح.
ومن الآيات ان تأتي الآية بصيغة الجمع في الأطراف الثلاثة، مما يدل على كثرة فعل المؤمنين لوجوه الخير والعمل الصالح، وإستمرار محاربة الكفر والضلالة والمنكر في ميادين الصلاح الى جانب الأمر بالمعروف وطاعة الله، والنهي عن المعاصي والكفر والجحود، وتكون المسارعة في الخيرات وسيلة لتثبيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأرض، وعوناً على الإستجابة لهما، والعمل بمضامينهما من قبل الناس، لما في فعل الخير من نشر لروح المحبة والود، ونزع للكدورة والبغضاء من النفوس، وقهر لمفاهيم الشهوة والغضبية، ومنع من إستحواذها على النفوس.
ولم تقل الآية “الذين يسارعون في الخير” بإعتبار ان الخير اسم جنس يصدق على المفرد والمتعدد، ولكنها جاءت بلفظ الخيرات في دلالة على تعدد وكثرة مواضيع الخير والإحسان التي يبادرون اليها، وعدم إكتفائهم بموضوع او ميدان واحد خصوصاً وان المواضيع والعلوم متداخلة ومتقاربة، ويؤثر بعضها ببعض.
وتحتمل المسارعة في موضوعها وجوهاً:
الأول: اتحاد المسرع الى الخيرات وتعدد الموضوع، فتراه شخصاً واحداً يبادر في موارد الخير المتعددة، ويشير اليه الناس بالبنان، ويسألونه فعل الصالحات وإعانة المحتاجين.
الثاني: تعدد المسرع الى الخير مع إتحاد الموضوع فيتسابق اثنان او أكثر على ذات الموضوع من الخير، وهو على أقسام:
الأول: كفاية مبادرة محسن واحد.
الثاني: الحاجة لمبادرة اكثر من محسن.
الثالث: إشتراك أكثر من محسن في ذات الموضوع وان كان يكفي فيه محسن واحد.
الثالث: تعدد المسرع مع تعدد الموضوع، كما لو كانت مواضيع الخير كثيرة ومتعددة والذين يبادرون اليها متعددين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهي من مصاديق الآية الكريمة وصيغة الجمع فيها، وما تدل عليه من معنى الإنحلال وإمكان الإنفراد بالمسارعة وفعل الخير او التعدد، وصيغ الجمع هي الأنسب والأصلح والأكثر نفعاً في النشأتين، وهو من إعجاز الآية ومجيئها بصيغة الجمع، وفي الوقت الذي جاءت فيه النصوص بذم العجلة كما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ” التأني من الله والعجلة من الشيطان”( ).
فان هذه الآية جاءت في مدح المسارعة وفيه مسائل:
الأولى: بين السرعة والعجلة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء التقدم، ومادة الإفتراق ان السرعة تقدم فيما ينبغي على ما قيل، والعجلة تقدم فيما لا ينبغي وان السرعة محمودة وضدها الإبطاء، ولكن السرعة الممدوحة هي التي تكون مقيدة بحسن الذات او الموضوع او الغاية، والا فقد ورد ذكر للسرعة المذمومة في آيات عديدة، منها قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ).
الثانية: جاء مدح السرعة مقيداً بانه في الخيرات، والا فليس كل سرعة ممدوحة، فان قلت قد تؤدي المساعة في الخيرات الى الندامة والخطأ.
والجواب ان الآية تنفي الندم في باب فعل الخيرات، وتمنع من حصول الخطأ والضرر في فورية أداء الطاعات والصالحات، الا مع وجود مانع في البين من المبادرة، ووجود هذا المانع لا يضر بصدق المبادرة من وجوه:
الأول: اتخاذ المبادرة في الخيرات منهجاً وسجية ثابتة.
الثاني: تصدق المبادرة والفورية على إتيان الفعل وعمل الخير بعد زوال المانع مباشرة لوجود المقتضي وفقد المانع.
الثالث: يأتي المانع أمراً متزلزلاً وغير مستقر وعلى سبيل القضية الشخصية، أما موارد الخير فهي كثيرة ومتعددة.
الثالثة: ليس كل عجلة مذمومة، فاذا جاءت العجلة في الصالحات والخيرات فهي أمر حسن.
وفي مدح موسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] ( ).
ولم تقل الآية “الذين يسارعون الى الخيرات” بل جاءت بحرف الجر “في” الذي يفيد الظرفية ليشمل وجوهاً:
الأول: المبادرة الى الخيرات.
الثاني: تهيئة مقدمات فعل الخير، وهذه المقدمات من فعل الخير والصلاح.
الثالث: بين المسارعة في الخيرات، والمسارعة الى الخيرات عموم وخصوص مطلق، فتتعلق المسارعة الى الخير بفعل مقدمات الفعل الحسن وتهيئة أسبابه وهو من المسارعة في الخيرات ايضاً لأن مقدمة الخير خير ايضاً اذا لم يأتِ عنوان عرضي مغاير، اما المسارعة في الخير فتتعلق بأمور:
الأول: مقدمات فعل الخير.
الثاني: العزم على الفعل الحسن والمبادرة اليه.
الثالث: الإستمرار في الفعل لحين إتمامه.
وهذا التعدد من الإعجاز القرآني في إختيار لفظ “في” في الآية الكريمة وفيه وجوه:
الأول: الحث على المبادرة الى فعل الخيرات.
الثاني: ندب المسلمين الى فعل الخير.
الثالث: الدعوة الى الإستمرار بفعل الخير، فكثير من الناس يعزم على فعل الخير ثم تمر الأيام والليالي وينتابه الكسل أو ينشغل عنه بغيره من أمور الدنيا وما فيها من الإبتلاء فجاءت هذه الآية بالدعوة الى الإستمرار والمواظبة على فعل خير وعدم التردد فيه.
قانون المسارعة في الخيرات حسن خلق
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض، وتترشح عن هذا الجعل أسباب اللطف الإلهي بإعانته على فعل الخير والصلاح، وظهرت الحاجة الى حسن الخلق في الأرض منذ ان قام قابيل ابن آدم بقتل أخيه هابيل، ومن منافع حسن الخلق انه مقدمة لإقامة شعائر الله، وسبب لتنزيه الأرض من الظلم والتعدي والمعاصي.
فجاءت هذه الآية لترسخ مبادئ الأخلاق الحميدة في الأرض، وتمدح المسلمين على ما يتصفون به من حسن خلق، وهو من خصائص خير أمة التي أخرجها الله عز وجل للناس.
وتدعو الآية في مفهومها المسلمين الى تعاهد لواء الخلق الحميدة، وتبين لهم معالمها وضوابطها في المقام وهي الإيمان بالله عز وجل والإقرار بالمعاد، والأمر بما هو حسن شرعاً، وممدوح عقلاً والنهي عن المعاصي والذنوب، ومنها المبادرة الى فعل الصالحات والإحسان الى الآخرين ، والحكمة العقلية وهي الوسط بين العقل العملي الذي تكون وظيفته الفكر والتدبر في الأفعال والسنن بإختيار الخير وما هو حسن، وإجتناب السذاجة والبلاهة والتعدي.
والمسارعة في الخيرات قهر للطمع وطرد للشح والبخل من النفوس والمجتمعات، وتعني المسارعة في الخيرات عدم التردد او التلكأ او الضرر وذكر المانع المحتمل، او التفكير بما قد يطرأ من المعوقات، ومن منافع المسارعة في الخيرات الحيلولة دون حجب الخير بسبب طرو مانع مستحدث، او مجيء أمر لم يكن في الحسبان.
وكم من إنسان نوى فعل الخير، ولكن تقادم الأيام والميل الى الدنيا والإنشغال الشخصي حال دون فعله الخير وإتيانه، فجاءت الآية في مدح الذين يبادرون الى الطاعات وإتيان القربات، على نحو الملكة الثابتة عندهم، وبما يفيد إستدامة المعروف في الأرض، وعدم إستحواذ الشهوة والغضب والشره على النفوس.
وتبين الآية جهاد الأنبياء في تثبيت أسس ودعائم فعل الخير في الأرض وتعاهد الموحدين لحسن الخلق، وإتخاذه سجية وملكة دائمة، وقد ورث المسلمون صفة المبادرة الى فعل الخيرات ليكونوا أئمة للناس في الإصلاح، وإتباع نهج الأنبياء والإتيان بالواجبات العبادية، وفي الآية دلالة على حاجة المسلمين الى التأديب والتعليم والإرشاد القرآني، وحاجة الناس للمسلمين في مسالك الخير والصلاح.
وهذه الآية مدرسة في الأخلاق الفاضلة وحرب على الرذيلة والأخلاق المذمومة، لأنها تدعو الى الفورية في أفعال الخير والإحسان الى الآخرين، وتطرد روح التردد والجبن والخوف من المستقبل فيما يخص الإنفاق والإحسان، وتمنع من الإنشغال في الدنيا، وتؤسس الآية ما يشبه العلم القائم بذاته في فعل الخير ، وتجعل له موضوعاً خاصاً يتألف من طرفين:
الأول: المبادرة الى الخير وعدم التخلف عن موارده.
الثاني: فعل الصالحات، وإتيان الحسنات سواء ما كان منها واجباً او مندوباً، او مباحاً، كي يفوز صاحبها بالسعادة الأبدية.
وتساهم هذه الآية في جعل النفس منقادة لأحكام الشريعة، ومدركة لحقيقة وهي الحسن الذاتي والغيري للمبادرة الى فعل الخيرات، وانها من وجوه غلبة القوة العاقلة وأسباب كبت القوة البهيمية والشهوانية من وجوه:
الأول: ذات موضوع الخير الذي تتم المسارعة فيه.
الثاني: مواضيع ووجوه أخرى للخير والإحسان.
الثالث: سلامة الذي يبادر الى فعل الخير من آفة الشح والبخل.
الرابع: عند الذي يرى او يسمع بفعل الخير وإتيان العبد لضروب الطاعة، أو إتيان المحسن للمعروف.
وهذه الآية الكريمة رحمة ولطف بالمسلمين، وهي من مصاديق كونهم خير أمة أخرجت للناس، وفيها بعث على حسن السلوك ، وجلب المنفعة للذات والغير ودفع المضرة عن الذات والغير سواء كانت الخيرات في باب العبادات او في المعاملات.
قانون الجمع بين الأمر بالمعروف والنهي والمسارعة
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان كائناً اجتماعياً يتعلم من الآخرين، ويأخذ الدروس والعبر من الحياة، وما يمر به هو ومن حوله من الناس، ومع التداخل بين الحضارات والتقارب بين البلدان، يسهل الإقتباس والتأثر بالعالم الأوسع، وتتعدى بيئة الإنسان في حدودها القرية والمحلة والبلدة لتشمل أمصاراً عديدة من العالم.
وجاء القرآن ليكون الواقية من إقتباس الأخلاق المذمومة، والإمام الذي ينمي فضيلة الطاعة لله والكرم والسخاء وإصلاح الناس، ومن وجوه الإصلاح هذه الآية التي وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها تحث المسلمين على المبادرة الى فعل المعروف، والسعي في الخير والفلاح وتبين لهم الحسن الذاتي للمبادرة والتسابق في فعل الصالحات، ومنها أمور:
الأول: إجتناب نهي الآخرين من فعل الخير واتيان الصالحات، فقد يهم المسلم بالصدقة المستحبة مثلاً فيأتي من يحذره ويمنعه، ويتعلق هذا التحذير بالذات او ماهية الفعل، او موضوعه او موضعه.
ومن الأول كما لو قيل له ان إدخار المال خير لك من الصدقة لإحتمال حاجتك له، وأما ماهية الفعل، فكما لو قال بعضهم بعدم الحاجة الى الصدقة، أو انها لا تتعلق بماله.
وأما الموضوع فكما لو جاء أحدهم ليقول له بكفاية الصدقة الواجبة.
وأما الموضع فهو الأمر الذي يكثر فيه المنع والقول بأن الذي يعطى الصدقة غير محتاج أو أنه ليس أهلاً للصدقة وغير جامع للشرائط، ولا ينطبق عليه عنوان الفقير الذي لا يملك قوت سنته أو قوت يومه.
فتأتي هذه الآية الكريمة لتكون برزخاً دون كل من:
الأول: ترتب الأثر على هذا المنع، بعدم الإلتفات اليه في حال حصولها.
الثاني: حصول أصل هذا المنع، فاذا كانت الآية تمدح الذين يسارعون في الخيرات فانها تدل في مفهومها على الزجر عن منع المبادر الى الخير عن إتيان العمل الصالح والإحسان الى الآخرين.
الثالث: ان اجتناب نهي الآخرين عن المسارعة في الخيرات من أسرار إجتماع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المسارعة في الخيرات، كي تأتي المبادرة الى الخير من غير موانع عرضية من الآخرين خصوصاً وان هذه الموانع قد تصدر من الزوجة مثلاً حرصاً على حال الأسرة وإحترازاً لما تخفيه الأيام من الإبتلاء وضروب الحاجة، او من الأب أو الزوج أو الصديق.
الثاني: تهيئة مقدمات المبادرة في فعل الخيرات، وتأتي هذه التهيئة من جهات متعددة منها:
الأول: الذي يريد المبادرة في فعل الخير.
الثاني: الوسيط والسبب في فعل الخير، والذي ينال الثواب والأجر على الدعوة الى الخير وتيسير أسباب المبادرة.
الثالث: من يعضد ويساعد فاعل الخير، ويحرص على إعانته وإزاحة المعوقات دون فعله الخير.
الرابع: الذي يقوم بتعليم وإرشاد غيره لفعل الخير، كما في تعليم الصلاة وبيان الأحكام الشرعية، وطرد أسباب التقصير والقصور والغفلة والجهالة.
الخامس: الإنسان المحتاج للإحسان وفعل الخير فمتى ما أدرك وجود محسنين او يظن في شخص خيراً فانه يقصده ويسعى لبيان مراده بالتصريح او الكناية والتلميح.
السادس: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فمن وظائفه حث الناس على المبادرة الى الخيرات ، وإجتناب الشح والبخل والمعصية وارتكاب الذنوب.
والقيام بحث الناس على المسارعة في الخيرات من مصاديق وأسرار الجمع بين الأمر والنهي والمسارعة في هذه الآية الكريمة.
فمن منافع الجمع في المقام أمور:
الأول: الحرص على عدم منع فاعل الخير.
الثاني: عدم توجيه الذم فيما بعد لمن يسارع في الخيرات، فلا يقول له أحد لو إحتفظت بالمال لمنفعة لنفسك.
الثالث: الوقاية الذاتية للذي يسارع في الخيرات من اللوم وأسباب الشح، فحتى لو قام شخص أو جماعة بتحذيره مما قد يترتب على فعل الخير من النتائج العرضية فلا ينصت لمن ينهاه عن فعل الخير، ولا من يلومه بعد الفعل.
ومن الآيات دلالة صيغة الجمع في الخيرات على تعدد المحسنين وكثرة موارد الخير التي يبادرون فيها من وجوه الطاعات والإحسان ويقلل هذا التعدد من صدور المنع والنهي عن فعل الخير، وان صدر فانه يكون محدوداً كماً وكيفاً، بالإضافة الى قلة أثره في مقابل كثرة المحسنين ومواضع فعل الخير.
ان تقدم الأمر والنهي على المسارعة أعم من الترتيب في باب القول والعمل، خصوصاً وان الأمر والنهي يتعلقان بفعل الغير وإصلاحه، أما المبادرة فانها عمل ذاتي يأتي عن ملكة.
ومن أسرار الآية القرآنية التعدد في وظائف الحرف القرآني، والسعة في مضامين الترتيب في ألفاظها فقد يأتي الأمر بالمعروف مقدمة للمسارعة في الخيرات، وقد يحصل العكس فاذا رأى الناس المسلم يبادر الى الطاعات وإتيان الفرائض بأوقاتها وشرائطها فانهم يصغون اليه، ويستجيبون لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
قانون المسارعة في الخيرات
جاءت الآية بصيغة المدح والثناء على الذين يبادرون الى فعل الخير ولا يترددون في الإحسان الى الآخرين، وتحتمل المبادرة وجوهاً:
الأول: المسارعة الى الخيرات مرة واحدة، وكفاية صرف الطبيعة بتحصيل هذا العنوان ومرتبة التشريف، وحمل صيغة الجمع في الآية “الخيرات” على الإنحلال، وان كل فرد منهم يبادر الى فعل مصداق واحد على الأقل من مصاديق الخير.
الثاني: الإشتراك الجمعي في فعل الخير فيصدق على العبد انه مبادر الى الخير اذا سارع هو وجماعة في فعل فرد من أفراد الخير والصلاح.
الثالث: المراد إحراز ملكة المسارعة في الخيرات بحيث يتخذها سجية خلقية ثابتة، ويبادر الى فعل العمل الصالح من دون روية وتفكر.
والصحيح هو الثالث اذ يترجل فعل الخير على أعمال الجوارح والأركان، ويبذل الإنسان من جهده ووقته وماله في سبل الخير والإصلاح.
ومن أهم مصاديق المسارعة في الخيرات المبادرة الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه مدح للذين يبادرون الى دخول الإسلام من أهل الكتاب ، ويمكن أن يكون تقدير الآية بخصوصهم انهم يسارعون في الخيرات فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقومون بالدعوة الى فعل الصالحات لتاتي دعوتهم عن صدق وإخلاص، وتكون شاهداً على إيمانهم وحرصهم على إكتناز الصالحات لليوم الآخر.
ومن منافع المسارعة في الخيرات بيان رجحان كفة الخير والصلاح في الأرض اذ ان المنكر يؤتى به بطيئاً وتدريجياً على إستحياء ويطارده النهي والزجر عنه ونفرة النفوس منه، اما الخير والمعروف فيبادر اليه مع المدح والثناء على فاعله، والمسارعة في المقام من أسرار جعل الدنيا دار إبتلاء يتصارع فيها الخير والشر، مع إتصال اللطف الإلهي في إعانة الناس على إتيان الخير وإجتناب الشر، من وجوه:
الأول: ما تتضمنه الآية من المدح للذي يسارع في الخيرات.
الثاني: في الآية دعوة الى المبادرة الى الخيرات.
الثالث: تدل الآية في مفهومها على بغض المسارعة في السيئات وارتكاب المنكر.
الرابع: تدعو الآية الى المناجاة في فعل الخيرات، وقيام المؤمنين بحث بعضهم بعضاً على فعل الصالحات واتيان الطاعات، وقد لا يستطيع شخص المبادرة الى باب من أبواب الخير بسبب ما يستلزمه من مال ونفقة تتعذر عليه، فتأتي هذه الآية لتدعوه الى حث الآخرين على فعل الخير، وهذا الحث من مصاديق المسارعة في الخير، وتلك آية في موارد الثواب وأسباب نيل الأجر.
الخامس: قد يظن بعض الناس بقبح العجلة والمسارعة في فعل الشيء مطلقاً، فجاءت هذه الآية لتؤكد حقيقة وهي حسن المسارعة في الخيرات وانها خالية من أسباب القبح الذاتي او الغيري، لأنها خير محض، وبلحاظ ما لها من الغايات السامية التي تتعلق بوجوه:
الأول: شأن وحال فاعل الخير في الدنيا.
الثاني:المنزلة الكريمة في الآخرة للذي يتخذ المسارعة في الخير منهجاً ثابتاً.
الثالث: من يقع عليه فعل الخير، ويتلقى المساعدة والإحسان.
الرابع: الذي يتعلم من فاعل الخير، ويرى مبادرته الى الطاعة والعمل الصالح.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين توارث المبادرة في الخيرات، وعدم الإبطاء فيها، ومنع ظهور الأخلاق المذمومة بينهم التي تتمثل بالتكاسل عن العبادات، وظهور السجايا المكروهة مثل البخل والشح والأنانية، وجاءت هذه الآية لتدعوهم الى تثبيت تمسكهم بالقرآن والسنة، وإظهار معاني الأخوة الإيمانية بينهم لقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، اذ ان المبادرة الى الطاعات ووجوه الإحسان شاهد على الإيمان، وعنوان للوحدة والتآخي بين المسلمين، وبرزخ دون الفرقة والتشتت وظهور العداوة وأسباب البغضاء بينهم.
ومن إعجاز القرآن ان يأتي المصداق العملي للآية تثبيتاً وتعاهداً لأحكام الآية القرآنية الأخرى، فلم تمر سبع آيات بعد آية [وَاعْتَصِمُوا]حتى جاءت آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] لتأهيل المسلمين للإعتصام بحبل الله، وبعث السكينة في نفوسهم لنيل الرغائب وبلوغ الغايات الإيمانية السامية.
ثم جاءت بعدها بأربع آيات هذه الآية الكريمة التي تثبت معاني الإعتصام بحبل الله وتساهم في نبذ الفرقة وتطرد أسباب الحسد بين المسلمين، وتبعث بينهم معاني الأخوة الإيمانية، وتجدد عهدهم بالتمسك بالقرآن والسنة، وما فيهما من أحكام الأخوة المبنية على مرضاة الله والسعي في دروب الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد جعل الله عز وجل المسارعة في الخيرات صفة تمتاز بها خير أمة، وهم المسلمون، وتلازمهم في حياتهم اليومية وعباداتهم، ومعاملاتهم، وصلاتهم فيما بينهم، وصلاتهم مع أهل الكتاب والناس جميعاً.
علم المناسبة
ورد لفظ الخيرات بصيغة الجمع عشر مرات في القرآن وتكرر في سورة الأنبياء والمؤمنون ولم يرد بصيغة المفرد، وفيه دلالة على تعدد مصاديق الخير، وبيان لعظيم فضل الله تعالى على المسلمين والناس في نزول الخير عليهم، وسعة أبواب الخير وقربها منهم، فمن شاء ان يعمل الخير فهو أمر قريب ويسير ومنه إتيان الفرائض والطاعات والذكر والتسبيح وهو خير محض وكثير وجاء في سورة البقرة، [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]( ).
ويدل الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث على ان مسارعة الفرد او الجماعة في فعل الخير لا تسقط المسارعة اليها عن الآخرين، فالكل يتسارع ويتسابق لفعل الخير وان كان متحداً، وهو باب للتنافس الكريم الذي يدل على أهلية المسلمين لنيل مرتبة خير الأمم قال تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( )، فيأتي التنافس من وجوه:
الأول: التسابق لتحصيل فعل الخير.
الثاني: مسارعة فرد أو جماعة لإتيان فعل الخير.
الثالث: المسابقة في فعل الخير المتحد، كما لو كان هناك فقير يحتاج العون والمساعدة فيتسابق جماعة من المسلمين لإعانته وقضاء حاجته.
الرابع: المسابقة في فعل الخير المتعدد، مع إتحاد المتسابقين او اختلافهم فترى جماعة يتسابقون في موارد الخير من غير ملل او كلل، ولا تظهر عليهم أمارات البخل والشح لأنهم يدركون عظيم النفع في تلك المسابقة، بالإضافة الى ندب القرآن اليها.
ومن الآيات في فضل الله عز وجل وحبه لعباده نيل كل متسابق ومسارع الى الخير ألأجر والثواب، فلو قام مسلم بفرد من أفراد الخير على نحو الكفاية والتمام، ثم جاء آخر ليقضيه ظناً منه ببقاء الموضوع فانه لا يحرم من الثواب ,بل ينال الأجر والثواب ايضاً من غير ينقص من ثواب الأول شيئاً.
وورد في قوله تعالى [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ] عن الربيع: معناه سارعوا الى الخيرات( )،ولكن بين التسابق والمسارعة عموم وخصوص مطلق، فكل تسابق هو مسارعة وليس العكس،وقد تأتي المسارعة على نحو المبادرة الشخصية.
والخيرات هي الطاعات لله تعالى، وفيه دعوة لأهل الكتاب وغيرهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه، ويبعث الجمع بين الآيتين على التنافس في الخير، والرغبة فيه والشعور بالرضا والغبطة عند السعي في موارد الخير والصلاح.
وقد جاء في سورة المؤمنون مدح للمؤمنين بآيات الله ووصفهم بانهم [يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( )، وفيه شاهد على إرادة المسلمين في وصف المسارعة في الخيرات بإعتبار انهم يؤمنون بآيات الله عز وجل على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، وانهم ينفردون بالسبق الى الخيرات ، فلو سارع غيرهم الى الخيرات فانه سيجدهم امامه سواء في الطاعات او المندوبات وإعانة الآخرين ونشر مفاهيم الإحسان والرأفة بين الناس وفي المضامين والقيم الأخلاقية والعادات الحميدة، وسعي المسلمين للمسارعة في الخيرات مع السبق اليها شاهد على تفضيلهم على جميع الأمم.
بحث أصولي
تنقسم الخيرات في المقام الى أقسام:
الأول: ما هو واجب على العبد، فمن فضل الله على المسلم ان يأتي الأمر الإلهي بوجوب فعل شيء ويحسبه الله الإمتثال فعلاً للخير، والواجب بخصوص المقام على وجوه:
الأول: ما هو فعل ذاتي محض، وتكليف عيني يخص المكلف كأداء الصلاة بإعتبارها واجباً بدنياً.
الثاني: ما هو واجب ذاتي وله أثر ونفع مادي على الغير كأداء الزكاة لما فيها من إعانة الفقراء والمحتاجين.
الثالث: ما يأتي الواجب لجلب مصلحة للغير وإنقاذه من مفسدة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الخير الذي يؤتى به على نحو الندب والإستحباب ولا يعني الإستحباب في المقام ان الخيرات المستحبة أدنى درجة دائماً من الواجب ولكن الإختلاف بلحاظ الحكم التكليفي، وفي الخيرات المستحبة منافع كثيرة وحاجة للناس.
الثالث: الخيرات المباحة التي تساهم في تهذيب النفوس وإصلاح الحال.
وينقسم فعل الخيرات الى عيني وكفائي، فقد يتوجه الأمر الى شخص ما على نحو التعيين، أو يأتي التكليف والخطاب عاماً ويسقط بأداء أحد المكلفين له، ويأتي عنوان المسارعة لإفادة العموم والتداخل بين كل من الواجب والمستحب، وبين العيني والكفائي ، فمع المسارعة والمبادرة في الخيرات لا تكون ثمة مسافة بين العيني والكفائي، ويتسابق المسلمون في أداء فعل الخير وان كان كفائياً، وكل فرد يظن أنه خطاب عيني متوجه اليه، وانه أولى من غيره بإتيانه والمسارعة اليه، وينظر الى المستحب وكأنه واجب فيبادر الى فعله.
وتبعث هذه الآية الكريمة المسلمين الى فعل الخيرات بشوق ورغبة، وتتضمن الدعوة للبحث والتحقيق في مصاديق الخير، وتساهم في الإرتقاء في المعرفة الإلهية، والإحاطة بأحوال الناس والمجتمعات، وتزيد من المقدرة على التمييز بين الخير والشر، وما هو صالح وما هو طالح وتمنع من اللبس والخلط بينهما، لأنها تجعل المسلم حريصاً على فعل الخير وهذا الحرص مقدمة لتعيين مصاديق الخير، خصوصاً وانه يأتي به لأغراض الأجر والثواب.
ومن الآيات ان المسارعة في الخيرات خالية من الأضرار الجانبية، فلا تسبب الترديد والخلط بين الخير وضده العام والخاص، بل ان معاني الخير والصلاح ظاهرة بينة للمسلمين خصوصاً وأن هذا الظهور والبيان من أسرار إجتماع الأمر والنهي والمسارعة في الآية الكريمة اذ ان المسلم يدرك مصاديق الخير ويدعو اليها، ويأمر بها، ويعلم أفراد المنكر فيجتنبها وينهى عنها، فتأتي المسارعة في أمور:
الأول: ذات المصاديق التي يأتيها ويأمر بها، ويدعو اليها.
الثاني: في مقدمات وأسباب الطاعة والمعروف والصلاح.
الثالث: في النتائج والآثار التي تترتب على فعل الطاعة والأمر بالمعروف.
وتكون المسارعة عوناً على تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الإبطاء فيهما.
قانون المسارعة في الخيرات رحمة
من أسماء الله تعالى الرحمن الرحيم وتتغشى رحمته الخلائق كلها، وليس من شيء الا ويحتاج رحمته ابتداء وإستدامة ومن رحمة الله تعالى نزول هذه الآية في مدح الذين يبادرون الى فعل الخير، ليكون سنخية ثابتة بين أهل الإيمان، وإحتجاجاً عملياً لتثبيت معاني الخير والصلاح في الأرض، وذم المعاصي والأفعال القبيحة، ودعوة للناس جميعاً للتعاون في تنزيه الأرض من الكفر والجحود والعادات المذمومة، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وفي المسارعة في الخيرات رحمة متعددة الأثر من وجوه:
الأول: انها رحمة بالذي يسارع في الخيرات، ويعمل الصالحات، لما فيها من تنمية ملكة التقوى في النفس وإصلاح الذات وتهذيب اللسان وافعال الجوارح، ونيل الأجر والثواب، بالإضافة الى حسن الصيت والسمعة بين الناس، وما لها من المنافع الإجتماعية والإقتصادية وكسب ثقة الناس وميل القلوب لفاعل الخير.
الثاني: المسارعة رحمة بصاحب الحاجة، والذي تستلزم حالته العون ومد يد المساعدة له.
الثالث: المسارعة رحمة بالمسلمين عموماً لأنها مدرسة عقائدية وأخلاقية تساهم في تثبيت معالم الدين ونشر سنن الفضيلة.
الرابع: المسارعة باب لهداية الناس، وسلاح ضد الفقر والجوع وحرب على الكفر والضلالة، ومفاهيم البخل والشح والعتو والإستكبار والمسارعة في الخيرات من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] اذ انها شاهد عملي على صدور الأفعال عن إيمان ودليل على إقرار الذين يسارعون في الخيرات باليوم الآخر والمعاد.
الخامس: تبعث المسارعة في الخيرات على الإحسان، وحصول المنافسة في أداء الصالحات وقضاء حاجة المحتاج.
السادس: في المسارعة في الخيرات درء للفتن، ومنع من تفاقمها، وهي عنوان للصلاح ونبذ الفرقة.
السابع: من مصاديق المسارعة في الخيرات المبادرة الى إصلاح ذات البين، ونزع أسباب الخصومة وقد يستلزم ألإصلاح الإنفاق وبذل المال والجهد والمبادرة الى التدخل والشفاعة وتهدئة الأمور، فجاءت الآية للحث على المبادرة في المقام، وجعلها محبوبة بذاتها، ولا تنفر منها النفوس.
ومن خصائص صيغة الجمع في “الخيرات” الإشارة الى الحاجة الى المبادرة في أكثر من مورد بخصوص الموضوع الواحد، كما في الإصلاح بين طرفين اذ يستلزم الأمر المبادرة الى التقريب بينهما، وطرد الكدورات وأسباب النفرة وتدارك أسباب الخلاف.
ان المسارعة في الخيرات سبب لنزول رحمة الله عز وجل على الذين يبادرون الى فعل الصالحات، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وهذه الآية الكريمة من مصاديق قوله تعالى [هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ] ( )، وهي هدى وضياء يستنير به المسلمون، ويتعاهدون معها العبادات، ويصلحون حالهم وشأنهم وتكون مقدمة لمواجهة الأعداء، وهي رحمة بهم لما فيها من المدح والثناء عليهم لمبادرتهم لأداء الفرائض والواجبات، وعدم التسويف أو الإبطاء في أدائها.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين ان يتعاهدوا المنزلة التي شرفهم بها بان جعلهم خير الأمم، وأخرجهم للناس لينظر الناس وجود أمة يتنافس أفرادها في فعل الصالحات، ويحرصون على الإتيان بالواجبات بشرائطها ومن تلك الشرائط الوقت المضيق لأداء العبادات.
لقد جعل الله عز وجل الدار الدنيا دار استغفار وسؤال للتوبة والإنابة، وتأتي المسارعة في الخيرات رجاء لرضا الله، وطلباً للمغفرة، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( )، وفي الصلة بين المسارعة في الخيرات، والآية أعلاه وجوه:
الأول: المسارعة في الخيرات ذاتها مسارعة الى مغفرة الله عز وجل.
الثاني: المبادرة الى الخير مقدمة لنيل العفو والمغفرة من عند الله سواء كانت المبادرة في العبادات او المعاملات.
الثالث: بينهما تباين وكل فرد منهما له موضوعه وحكمه وخصوصيته، وهذا التعدد ينفع في الإكثار من الصالحات مع الإستغفار ورجاء الثواب من عند الله تعالى، فيبادر المسلم الى فعل الخير، كما يبادر الى ما ينال معه رضا الله تعالى ومحو الذنوب والخطايا، والفوز بالمقام في جنة الخلد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكل فرد منها فضل من عند الله، وباب لنيل الثواب والأجر، ومن رحمة الله تعالى إعانة المسلمين على المسارعة في الخيرات، وهو من مصاديق مجيء الآية بصيغة الجملة الخبرية، فلا يستطيعون المسارعة في الخيرات ابتداء وإستدامة الا بتوفيق من الله عز وجل، الأمر الذي يستلزم من أجيال المسلمين والمسلمات الشكر لله تعالى على هذه النعمة المصاحبة لهم في الحياة الدنيا ، والتي تكون واقية من حر نار جهنم يوم القيامة.
قانون من مصاديق المسارعة
هذه الآية الكريمة شاهد على ثبوت حسن الخلق في الأرض بإنتهاج سبل الخير، والمسارعة فيها، وتكون المسارعة على وجهين:
الأول: الوجوب فيما يخص أداء الفرائض في أوقاتها، وإنقاذ الأنفس، وإعانة المضطر، ورفع الأذى والضرر الذي لا يحتمل عن النفس.
الثاني: الإستحباب فيما يكون وقته متسعاً غير مضيق، ونشر معاني الفضيلة والآداب، وتيسير الحوائج.
وتفتح هذه الآية أبواباً من الرحمة الإلهية على الذين يحسنون الى الناس، قال تعالى [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع في الخيرات من غير تعيين لموضوعاتها وأفرادها ، ويساهم هذا الإطلاق في شمول أحكام الآية للأزمنة المتعاقبة ويدل بالدلالة الإلتزامية على إحتمال ظهور وجوه جديدة من الخيرات بحسب المكان والزمان وتبدل الأحوال وتعدد وجوه الشأن، لتكون مصاديق الخير على قسمين:
الأول: ما هو ثابت في كل زمان، ومنه أداء الفرائض والعبادات، ومن أسرار المسارعة فيها تعاهدها وحفظها والمنع من التفريط بها او في أحكامها او في شرائطها.
الثاني: ما هو متغير ومتبدل في الكيفية مع إتحاد السنخية، وصدق عنوان الخير عليه من وجوه الإحسان والخلق الحسن.
وتأتي هذه الآية لتثبت السجايا الحميدة وتهذب الأفعال وتدعو الناس لفعل الخيرات، والإمتناع عن السيئات، وتأتي الواقية من فعل السيئات من جهتين:
الأولى: فعل الخيرات، وما فيه من إزاحة للباطل، ومنع من مقدمات المنكر وظهور الفواحش.
الثانية: المسارعة في الخيرات، وما فيها من الإنشغال بفعل الخير والمبادرة اليه، وجذب القلوب نحوه، وليس من حد لأفراد الخير التي يمكن المبادرة اليها وهي متصلة ومتجددة وشاملة للمواضيع المختلفة، ويستطيع المسلم إتيانها وهو في البيت والعمل والسوق والمسجد والشارع وفي حال الصحة والمرض، والحضر والسفر، ومع الأهل والجار والصديق والصاحب والغريب، بل ومع الخصم والعدو، ومنها درء السيئة بالحسنة والتجاوز عن السيئات، والعفو مطلقاً سواء مع القدرة او عدمها، والصبر على الأذى .
وهذه الأمور ليست عدمية بل هي أمور وجودية يأتي بها المسلم عن إيمان وعلم بان الله عز وجل هو العدل، ويجعلها تجارة معه تعالى بنشر معاني الأخلاق الحميدة والإنقطاع اليه سبحانه، فدرء السيئة بالحسنة من المسارعة في الخيرات، وكذا المبادرة الى الصبر وترك مقابلة التعدي بمثله.
ومن أهم مصاديق الخير والمسارعة فيه التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتثال للبشارات التي جاءت به في التوراة والإنجيل، اذ انها تدل بالدلالة التضمنية على دعوة أهل الكتاب الى المبادرة للإيمان برسالته حال بعثته وقد جاءت معه المعجزات والآيات التي تكون حجة على الناس، ومن أسرار استدامة الحجة بها بقاؤها غضة طرية الى يوم القيامة.
ان ذكر الآية لأهل الكتاب ووجود أمة منهم تسارع في الخيرات توكيد لمبادرة فريق منهم الى دخول الإسلام، وصحيح ان الأخبار ذكرت عبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد.
الا ان ذكر هؤلاء جاء من باب المثال ولأنهم كانوا من علماء بني اسرائيل ولهم شأن بين قومهم والا فان الذين بادروا الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام من أهل الكتاب جماعات وأمم عديدة، بالإضافة الى عدم إنحصار احكام الآية بأيام النبوة والتنزيل بل هي باقية الى يوم القيامة تدعو الناس الى المبادرة الى الإسلام وتمدح الذين يصدقون بالآيات ويحرصون على إجتناب المعاصي والسيئات
وفي الآية تخفيف عن الفقراء وأصحاب الحاجات، وإخبار بان الله عز وجل يعلم حالهم، وندب فريقاً من عباده لقضاء حوائجهم، ويتجلى هذا الندب في أحسن مصاديقه بوجوب الزكاة، وحسن الإنفاق في سبيل الله، وما ينتظر المحسنين من الثواب والأجر العظيم، وهذا الثواب وسيلة سماوية لجعل الناس يتسابقون في ذات المسارعة الى الخيرات، ويتفقهون في الدين من أجل الإرتقاء والسمو في الدنيا والآخرة، ورجاء نزول البركة والفضل الإلهي، فمع الأمر الإلهي بالصالحات تأتي البشارة والجزاء والوعد الكريم.
علم المناسبة
ورد لفظ يسارعون في القرآن سبع مرات، وجاءت على قسمين:
الأول: صيغة المدح، ووردت فيها ثلاث آيات:
الأولى: هذه الآية الكريمة وما فيها من الثناء على الذين يبادرون الى فعل الصالحات.
الثانية: في مدح زكريا عليه السلام وزوجه والأنبياء من بني اسرائيل، وبيان علة فضل الله تعالى بإصلاح شأن زوجة زكريا للحمل والولادة مع تقدمها وإياه في سن الشيخوخة، ووضعها ليحيى بعد طول صبر وإنتظار وإلحاح بالدعاء قال تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] ( )، والجمع بين هذه الآية والآية محل البحث وجوه:
الأول: الجزاء العاجل في الدنيا، لمن يسارع في الخيرات، ولا ينقص هذا الجزاء من جزائهم الأخروي والثواب العظيم يوم القيامة على المسارعة في الخيرات.
الثاني: بيان الإيمان بالله واليوم الآخر في الآية أعلاه بقوله تعالى [وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا] في أمل لنيل الفضل الإلهي في الدنيا، والنعيم الدائم في الآخرة، وخشية الإبتلاء والإفتتان والعوز وشماتة الأعداء في الدنيا وإجتناباً لدخول النار في الآخرة.
الثالث: المسارعة في الخيرات بقصد القربة أمر محمود، ومرتبة في الإيمان لا ينالها الا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر.
الرابع: لزوم إجتناب الرياء والشهرة في المسارعة في الخيرات وان تتم المبادرة الى الصالحات طاعة لله ولرسوله، وعدم نسيان ذكر الله عند المسارعة والمبادرة الى الخيرات، وتدل عليه خاتمة الآية أعلاه [وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ].
الثالثة: مدح المؤمنين الذين يبادرون الى الصالحات مع تقدمهم وسبقهم لغيرهم في أدائها وفعلها بقوله تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ]( )، فدلت الآية على المبادرة الى فعل الخير، وسبق الآخرين في إتيانه، فاذا أراد شخص ان يفعل الخير يجدهم قد فعلوه وبادروا اليه ولم ينتظروا مشاركة ومساهمة الآخرين به، نعم قد يأتي طلب المعونة والمشاركة في المسارعة في الخيرات ولا يتعارض معها ويكون السبق مركباً من ندب الآخرين الى الفعل وذات المسارعة.
أما بخصوص الذم فقد وردت أربع آيات تتضمن لفظ “يسارعون” هي:
الأولى: قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( )، وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعدم الإلتفات لقبح فعل الكفار، وسوء مسارعتهم في الضلالة والشرك.
الثانية: جاءت الآية الحادية والأربعون من سورة المائدة بذات المعنى والخطاب والموضوع الذي وردت فيه الآية أعلاه.
الثالثة: وردت آية في ذم المنافقين والذين لم يدخل الإيمان قلوبهم وركونهم للظالمين خشية تلقي الضرر منهم، بينما جاء قبل آيتين ان ضررهم لن يصل للمسلمين الا على نحو الأذى، قال تعالى [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم] ( ).
الرابعة: جاءت آية في ذم الذين يكتمون الكفر ويدعون الإيمان كذباً قال تعالى [تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( )، وجاء قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، في إشارة الى ما في المسارعة في الخيرات من المغفرة والعفو الإلهي.
قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]
جاء هذا الشطر من الآية خاتمة من وجهين:
الأول: خاتمة للآية الكريمة.
الثاني: آخر الأوصاف الحميدة التي مدحت بها الأمة القائمة من أهل الكتاب في هذه الآية والآية السابقة.
وتتجلى الصلة بين أول الآية السابقة وهذا الشطر من الآية بإكرام أفراد الأمة القائمة وذكرهم بصيغة اسم الإشارة “اولئك” في دلالة على تعيينهم، وظهور علاماتهم وأوصافهم بينة واضحة، ومن خصائص اسم الإشارة في المقام منع اللبس والترديد بالإضافة الى تحصيل هذا المنع من خلال تعدد الصفات الحميدة التي ذكرتها هذه الآية والآية السابقة اذ جاءتا بإحدى عشرة صفة.
وكل صفة مدرسة ذات شأن مستقل في العقيدة والعمل وأمر مستبين في الواقع اليومي ومائز قائم بذاته يفصل المؤمنين عن الفاسقين ويدعو الى إكرام أهل الإيمان والطاعة.
ولم تقل الآية [وَأُوْلَئِكَ الصَّالِحُونَ ] بل ذكرتهم بلغة التبعيض وفيه وجوه:
الأول: المعنى انهم جزء وفريق من الصالحين، الذين في زمانهم.
الثاني: إرادة الصالحين من أهل الإسلام عموماً.
الثالث:المعنى الأعم،والمراد الصالحون في كل الأزمنة منذ أيام أبينا آدم.
والصحيح هو الأخير لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين.
الثاني: ورود آيات تفيد العموم ووصف الأنبياء بانهم من الصالحين كما في قوله تعالى في إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم [ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ] ( ).
الثالث: إتحاد سنخية الصلاح، وتجلي معاني الفلاح، وثبوتها في كل زمان، وهذا الثبوت دعوة متصلة في كل زمان للتحلي بصفات أهل هذه الآية، فمع إختتام الآية بصفة الصلاح، والشهادة لأهل هاتين الآيتين بالإيمان وحسن المقام فان الآية تبين بعض خصال الصالحين وترغب بالإنتساب اليهم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع الذي يفيد معنى الإستغراق والشمول، وهو من معاني اللفظ القرآني وإطلاقه، لإنعدام الإستثناء أو الشروط الإضافية، فوصفتهم الآية بحالتهم وسمتهم الحسن ثم نعتتهم بالصلاح وهو من أبهى الصفات التي يسعى اليها الإنسان في الدنيا، وحرز يوم القيامة من العذاب.
وبما ان أحكام الآية متصلة ودائمة ولا تنحصر بزمان دون زمان وان أهل هاتين الآيتين موجودون في كل زمان فان صفة الصلاح باقية ومتجددة في الأرض.
وفي الآية ترغيب بالصلاح وحث على فعل الصالحات ودعوة لكل إنسان أن يكون صالحاً وان ينضم الى زمرة وفوج الصالحين، بالتحلي بالصفات الواردة في هاتين الآيتين، ومن خصائص هذه الصفات أمور:
الأول: الحسن الذاتي لكل صفة من هذه الصفات مستقلة.
الثاني: البهاء والحسن لهذه الصفات مجتمعة غير متفرقة.
الثالث: إنتفاء العسر والحرج في إتيانها، فليس في كل واحدة منها أي مشقة على العبد وكذا فيها جميعاً.
الرابع: تغشيها لعالم الإعتقاد والأفعال والأقوال.
ويتجلى الإعتقاد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وتنفرد تلاوة الآيات بعالم اللسان ، وان كانت الجوارح والجوانح تشترك معه في التدبر والتفكر في معاني الآيات.
ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في الخيرات من عالم الأقوال والأفعال معاً اذ يأتي كل فرد منها بالقول والعمل، وهذا التعدد والإشتراك باب لنيل الثواب العظيم في الآخرة، وينفرد السجود بانه من عالم الأفعال الا انه يتضمن القول بالتسبيح والذكر حال السجود.
وليس من فعل او قول من هذه الخصال الا ويرتكز إلى الإعتقاد والإيمان بالله وقصد القربة لتستولي الخصال الحميدة متفرقة ومجتمعة على العبد، وتجعل عنده التقوى والصلاح ملكة ثابتة، تميل اليها النفوس وتتجنب أسباب النفرة منها ومن أهلها، وهذا الميل مدخل للإنصات للصالحين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومقدمة للإقتباس منهم ومحاكاتهم في عباداتهم ومناسكهم، وهو من خصائص مدرسة القرآن في التعليم والتعلم بين الناس بما هو نافع ومفيد، فمع كثرة الصفات الواردة في الآية جاء ذكر أهلها وعلى نحو التبعيض من الصالحين لبيان حقيقة وهي تعدد الخصال الحميدة التي ينال معها الإنسان صفة الصلاح، وفيه باب للدعاء والتوسل الى الله تعالى لنيل هذه المرتبة العظيمة.
وهذا التبعيض مدرسة للإرتقاء في المعارف الإلهية والتفقه في الدين وعلوم القرآن وتلمس طريق الفوز بنيل هذه المرتبة التي تغبط الخلائق صاحبها على بلوغها.
قانون المدح في القرآن
ليس من حد للنعم الإلهية الموجودة في القرآن والتي تترشح منه، وكذا ليس من حد بالنسبة للجهات التي تتوجه اليها هذه النعم وتنهل منها، وتتعاقب الأجيال والطبقات على عمارة وسكن الأرض، وكل جيل يأخذ حاجته وكفايته من القرآن وتفوته كثير من النعم الموجودة فيه، وهو من خصائص النعمة الإلهية أن يكون فيها فضل أكثر من الذي أخذ منها وتبقى في الآية كنوز وذخائر أكثر كماً وكيفاً من التي أقتبست منها مع ان إنتفاع جيل او أجيال من النعمة القرآنية لا يمنع من إنتفاع المتأخر من ذات النعمة كما ان إرجاء الإمتناع من اكثر خزائن القرآن وعدم الوصول اليها لايضر في قانون الاكتفاء وإقامة البرهان والحجة بالعلوم المستنبطة منه في كل زمان.
وكل آية من آيات القرآن نعمة قائمة بذاتها، وهي نعمة ايضاً بجمعها مع آية أو آيات القرآن وعلى نحو متعدد ففي كل جمع مناسب تكون ذات الآية نعمة متعددة ومتشعبة، ومنها هذه الآية اذ انها نعمة متعددة بالذات من وجوه، فكل صفة من صفات أهل هذه الآية نعمة من وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى بمدحهم بتلك الصفة كالإيمان بالله، والله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا المدح شهادة من عند الله عز وجل على إيمانهم وصلاحهم.
الثاني: كل صفة من الصفات الإحدى عشرة الواردة في هذه الآية والآية السابقة شهادة من عند الله على حسن السمت، والخلق الحميد.
الثالث: ذكر الصفات بصيغة المدح بشارة الثواب الكريم في الآخرة، و من خصائص المدح والشهادة الإلهية ان تكون وعداً باللبث في الجنة.
والمدح في القرآن سبيل نجاة في الآخرة، وواقية من النار، وبرزخ دون الخوف من أهوال يوم القيامة وما فيها من أسباب الفزع، فطوبى لمن تغشاه المدح القرآني، وكان من المصاديق والأفراد الذين يشملهم المدح بالاسم او الصفة او الفعل.
الرابع: من الوظائف العقائدية للمدح القرآني إصلاح الناس لنيل مقامات المدح، والتلبس بأسبابه وصفاته ، ويأتي هذا الإصلاح من وجوه:
الأول: تجلي مضامين الآية القرآنية بالدعوة الى الصلاح والندب الى مواضيع المدح والثناء.
الثاني: تحلي نفر من المؤمنين في كل زمان بصفات المدح القرآنية.
الثالث: إدراك العقل لحسن مواضيع المدح القرآني.
الرابع: الإنبعاث الفطري في النفس الإنسانية نحو فعل الخير والصلاح.
الخامس: إتحاد سنخية مواضيع المدح القرآني، بتجليها في الصلاح والحسن الذاتي والغيري والنفع العظيم للناس جميعاً.
السادس: إنتفاء اللبس والترديد بين مواضيع الصلاح وما هو ضدها، وفيه وجوه:
الأول: انه عون للناس جميعاً على ركوب جادة الحق التي يتلألأ ضياء الهداية على جانبيها.
الثاني: تجلي الصلاح بالأمور المحسوسة، والمثل ووصوله الى الأذهان من غير وسائط.
الثالث: نفرة النفوس من القبيح والفعل السيء.
الرابع: مجيء آيات القرآن بذم المنكر ومرتكبه.
ويدل هذا الذم في مفهومه على تثبيت سنن الصلاح، وبيان المواضيع والصفات التي تستحق المدح والثناء لأفعال الصلاح اذ ان الأمر والنهي مقدمة لإتيان أسباب المدح وتوكيد لها، وبرزخ دون مغادرتها الأرض.
ومن الآيات ان تأتي هاتان الآيتان في ذكر صفات الحسن عند أمة قائمة، وتختتم هذه الآية ببيان السعة والتعدد في صفة الصالحين، وانهم أعم من الذين ذكرت صفاتهم في هاتين الآيتين، في دعوة الى تلمس دروب الصلاح في الآيات القرآنية الأخرى، وعدم الوقوف عند هذه الصفات الحميدة مع حسنها.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا داراً لمدح المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ومزرعة لإتيان الأفعال الحميدة ولبس رداء المعروف والتباهي به بين الخلائق، وجذب الناس اليه وإعانتهم على ارتدائه وليس من نقص او قلة في رداء الصلاح والمعروف بل جعل الله عز وجل بمقدور كل إنسان لبسه والتحلي به والدخول به الى القبر بإعتبار انه لا يدخل مع الإنسان في قبره الا العمل الصالح ليكون المدح القرآني على الصلاح والصفات الحميدة واقية للإنسان في الدار الآخرة وحاجباً دون عذاب القبر، وأهوال يوم القيامة ، ويعتبر المدح في القرآن فضلاً ونعمة من عند الله على الناس جميعاً من وجوه:
الأول: فضل على الذين يرد مدحهم بالاسم او الصفة في القرآن من وجوه:
الأول: انه عنوان لشكر الله تعالى لهم على حسن فعلهم، وشكره تعالى فضل ولطف إضافي.
الثاني: فيه شهادة قرآنية على حسن سمتهم.
الثالث: يتضمن المدح القرآني دعوة لمن يقع عليه ويستحق المواظبة على مواضيع المدح.
الرابع: انه توثيق سماوي خالد، يبين وجود أمة دائبة على نعمة الخير والصلاح.
الخامس: في المدح سبب لثبات الصفات الحميدة في أفعال المؤمنين، وصدورها عن ملكة.
السادس: انه واقية من الزيغ وإتباع الهوى.
الثاني: انه فضل على الذين لم يرد مدحهم في القرآن ممن لم يتصف بالتلبس بما هو ضد الصفات الحميدة من وجوه:
الأول: بعث الشوق في النفوس لأسباب المدح القرآني.
الثاني: التدبر في مضامين المدح في القرآن وأسبابه ومنافعه وآثاره.
الثالث: إدراك العقل لقاعدة كلية وهي فوز الذين مدحهم القرآن في الدنيا والآخرة، فان قلت يمدح القرآن من لاقى أشد الأذى في جنب الله، قلت: ان المدح بذاته فوز وعز ورفعة في الدنيا ، وذكر حسن متوارث وباق الى يوم القيامة، وفيه دعوة للصبر على الأذى وعدم الشماتة بالمؤمن الذي يلاقي الضرر بسبب إيمانه، سواء كان الضرر في بدنه أو ماله أو رزقه.
الرابع: ندب الناس لفعل الصالحات ومحاكاة أهل الإيمان والإقتداء بهم.
الثالث: في المدح القرآني فضل على الذين يرتكبون المعاصي من وجوه:
الأول: يدل المدح القرآني لأهل الصلاح والتقوى على الزجر عن إرتكاب الفواحش والسيئات وأسباب الذم.
الثاني: المدح القرآني على الصفات الحسنة باب للإستغفار والإنابة والكف عن الذنوب والمعاصي.
الثالث: المدح القرآني لأهل الإيمان جذب لكل إنسان لفعل الصالحات.
ويأتي المدح القرآني تارة بالتصريح والشكر والثناء على أهل الإيمان، وتارة في بيان الصفات الحميدة التي يستحق صاحبها المدح والثناء للملازمة بين الفعل والفاعل في مضامين المدح وما يترتب عليه من آثار ولا تنحصر منافع المدح القرآني به بالذات بل تترشح عنه مضامين من المدح من الناس.
فمن الآيات ان المؤمن الذي يبادر الى فعل الصالحات يلقى المدح والثناء من أهل الإيمان وغيرهم، فحتى الذي يتخلف عن المبادرة في الخيرات والذي يفعل السيئات يذكر المؤمن الذي يفعل الخير ويعمل الصالحات بالثناء ويمدحه في حضوره وغيبته.
قانون الإنتفاع بالمثل القرآني
يعتبر المثل في القرآن مدرسة عقائدية وإجتماعية وأخلاقية مستقلة، وهو شاهد على إعجاز القرآن الذاتي والغيري، وتتجلى فيه معاني اللطف الإلهي بتقريب الناس الى وجوه الطاعة، وإعانتهم على الإمتثال بالبعث على الإقتداء بالأنبياء، ومحاكاة الصالحين، والنفرة من فعل المعصية والولوج في مقدماتها.
ولم يأتِ المثل القرآني لأمة دون أخرى، أو للخاص دون العام، بل هو خطاب ونداء وكنز معروض لكل إنسان ذكراً كان أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، والمثل هو الشبيه والنظير، وقد يأتي بمعنى الصفة.
ومن خصائص المثل القرآني انه لم يأتِ عن تجربة ووجدان وحس بل هو كلام الله عز وجل ورحمة خالصة، وفضل على المسلمين والناس جميعاً الى يوم القيامة، وحكمة بالغة تساهم في إصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات، والأخلاق الحميدة، وهو حجة دامغة وبرهان في الإحتجاج، وسلاح بيد المسلم، وعون له في الثبات على الإيمان، وتتصف أمثلة القرآن بالإستغراق لأفراد الزمان الطولية والأماكن العرضية، وبالعصمة من اللبس والشك والترديد.
ويأتي المثل القرآني لتقريب المعقول بصيغة المحسوس بلحاظ ان الأمور المعقولة لا تثبت بالذهن الا بالمحسوس، او تقريب محسوس بالإعتبار بمحسوس آخر مثله.
وتأتي الأمثلة على أقسام:
الأول: الأمثال المصرحة التي تأتي بصيغة المثل للإتعاظ والإعتبار، كما في قوله تعالى [فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ] ( )، ويمتاز المثل القرآني بالوضوح والقرب من كل الناس، لتكون الفائدة منه عامة.
الثاني: الأمثال الكامنة: وهي الأمثلة التي لم ترد بلفظ التمثيل على نحو صريح وظاهر، وتأتي بالصفة والدلالة كما في قوله تعالى [لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ] ( ).
الثالث: الأمثال المرسلة والتي تجري مجرى الأمثال، ومنها ما يؤتي به للمدح والثناء او الترغيب او الزجر.
وقد جمعت هذه الآية الأمور الثلاثة، فان وصف أهلها بانهم من الصالحين مدح لهم، وترغيب للناس للإرتقاء في مسالك الصلاح والتقوى، وزجر عن الإبتعاد عن سنن الصلاح، وفعل ما هو ضدها، ولا يستطيع العقل الإنساني الإحاطة بمدرسة المثل والوصف القرآني، فجاء الوصف في هذه الآية لمنع الخلط في المفاهيم ووقاية من الذين يحرفون الكلم والأحكام ويسعون في تثبيت العادات المذمومة كما ورد ذم لقوم في التنزيل [ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ] ( ).
فجاءت هذه الآية لجعل الناس يدركون ماهية وحقيقة الصلاح وكيفية الوصول اليه، وبلوغ منازله وما فيه من السعادة والغبطة التي تملأ قلوب أهل الإيمان شكراً لله على التوفيق والعمل في سبل الصلاح.
لقد جعل الله عز وجل شطراً من مصاديق وأفراد الصلاح من البديهي الذي لا يحتاج الى كسب، يعرفه الإنسان بالفطرة، وبما رزقه من العقل، ومنها ما يكون نظرياً وتحتاج معرفته الى كسب ونظر، وجاء القرآن لبيان وتثبيت القسمين وإرشاد الناس الى سبل الصلاح وأسباب الهداية، ليأتي المسلم بأفعال الصلاح والتقوى مع حال الحب والإمتنان لله تعالى على نعمة الهداية، والإعانة على التحلي بصفات وشمائل الصالحين، وجاءت هذه الآية لمعرفة الصالحين والتمييز بينهم وبين غيرهم من الناس بلحاظ الصفات الحميدة التي يتحلون بها.
علم المناسبة
ورد لفظ “الصالحين” بصيغة جمع المذكر السالم المنصوب او المكسور بالياء ستاَ وعشرين مرة، وجاءت نصفها أي ثلاث عشرة مرة بصيغة التبعيض “من الصالحين” وجاء أكثرها بخصوص الأنبياء وبيان ما لهم من عظيم المنزلة، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ] ( ).
وفي يحيى ورد قوله تعالى [ِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ]( )، مما يدل على عظيم منزلة أهل هذه الآية اذ جاء وصفهم بانهم من الصالحين وفي زمرتهم، وهو بشارة الثواب والمقام الكريم يوم القيامة.
ومع ان ابراهيم عليه السلام نبي من الرسل الخمسة أولي العزم، فانه تضرع الى الله تعالى بان يلحقه بالصالحين ، وورد حكاية عنه في التنزيل [رب هب لي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( ).
وورد لفظ “الصالحون” بصيغة الجمع والرفع بالواو ثلاث مرات منها قوله تعالى [أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] ( )، ويبين الجمع بين هذه الآية والآية محل البحث حقيقة وهي إرادة المسلمين في الأوصاف الحميدة المذكورة في الآية محل البحث والآية التي قبلها، وجاء لفظ الصالحين بصيغة المثنى مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى في ذم إمرأة نوح ولوط قال تعالى [كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا]( ).
ومن الآيات في تعدد الدلائل والأسرار في لفظ “الصالحين” انه يأتي وصفاً في الآخرة للأنبياء لبيان ما لهم من المقام الكريم قال تعالى [وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] ( )، وفيه حث للمسلمين على تعاهد صفات الإيمان، والثبات في منازل التقوى والسعي الحثيث في مرضاة الله لمغادرة الدنيا على الصلاح، وفي التنزيل [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
بحث عقائدي
إبتدأت هذه الآية بالإخبار عن الإيمان بالله لبيان موضوعيته، وطرد الشك عن نفوس المسلمين بخصوص حسن إسلامهم، ويدخل الكتابي الإسلام فيأتي وصفه في القرآن بانه يؤمن بالله، ليكون عوناً له، ودعوة للمسلمين لقبوله وإكرامه ومنحه الحقوق التي يستحقها.
لقد أراد الله عز و جل للمسلمين إنعدام الفوارق بينهم في الأهلية للمنازل والمقامات الإجتماعية والسعي لنيل المراتب، فان حداثة دخول الكتابي للإسلام لا تمنع من قيامه بالإمامة في الصلاة في محلته وقريته، وتشهد له الآية بالإيمان بالله عز وجل، والأقرار باليوم الآخر، وهذا الإقرار وسيلة للسلامة من أدران الضلالة والشرك.
وفي الآية دعوة لإعتبار الإيمان بالله في لغة المدح والثناء، فمن يؤمن بالله يستحق المدح، كما تدل الآية بالدلالة على الإلتزامية على توجيه اللوم والذم للفاسقين من أهل الكتاب لخروجهم عن الطاعة، وسعيهم في الإضرار بالمسلمين، فمن يؤمن بالله عز وجل والكتب السماوية التي انزلها يتجنب التعدي والظلم، ويعمل بالبشارات التي جاءت بها الكتب السماوية.
وذكرت هذه الآية صفات المؤمنين من أهل الكتاب والصلة بينها على وجوه:
الأول: الصلة بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر هي صلة الفرع بالأصل، فمن يؤمن بالله لابد وان يؤمن باليوم الآخر لأنه حق وأخبر الله عنه في الكتب السماوية وجاء به الأنبياء والمرسلون، ولأن الله عز وجل جعل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وجعل الحساب والثواب والعقاب في الآخرة.
الثاني: الصلة بين صفة الإيمان بالله والأمر بالمعروف وهي ان الأمر بالمعروف امتثال لأمر الله تعالى به، وشاهد على الإيمان بالله وإظهار للتقيد بالأحكام الشرعية، وحب إنقياد الناس جميعاً للأوامر الإلهية وإظهارهم الإيمان بالله لأنه السبيل الوحيد للنجاة في الدنيا والآخرة.
الثالث: الصلة بين الإيمان باليوم الآخر والأمر بالمعروف وفيه ان الذي يقر ويعترف بالحساب واليوم الآخر يستعد له , ومن وجوه هذا الإستعداد قيامه بالأمر بالمعروف ودعوة الناس للإسلام.
الرابع: الصلة بين الإيمان بالله والنهي عن المنكر وهي ان الإيمان بالله تنزيه للأرض من أدران الرذيلة والذنوب والمعاصي فالإيمان بالله سبب للإمتناع الذاتي عن الذنوب، ووسيلة مباركة للتوجه للآخرين لزجرهم عن المعاصي والقبيح من الأقوال والأفعال ومن المنكر الكفر والشرك والإمتناع عن أداء العبادات تقصيراً أو قصوراً فجعل الله عز وجل المؤمنين جنوداً ودعاة لفعل الصالحات، فمن لا يمتثل لما في الكتب السماوية وما جاء به الأنبياء من إتيان العبادات وإجتناب المعاصي، يفاجئ بأخيه الإنسان المؤمن وهو يدعوه لمضامين الكتب السماوية، وتلك مسألة إعجازية في خلق الإنسان، وأسرار الألفة والأنس والأخوة النسبية بل والإيمانية، فقد يصدر النهي عن المنكر من المؤمن الى المؤمن لبلوغ مراتب الإيمان.
الخامس: الصلة بين الإيمان باليوم الآخر وبين النهي عن المنكر.
ان الإقرار باليوم الآخر سبب للحرص على النجاة من العذاب يوم القيامة، بنيل الحسنات في دعوة الناس للإسلام وحثهم على إجتناب المعاصي والسيئات.
السادس: الصلة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الملازمة والتداخل والتأثير المتبادل، فالأمر بالمعروف نهي عن المنكر، في المفهوم والدلالة والغاية الحميدة، وكذا العكس أي ان النهي عن المنكر، وقد يجزي أحدهما عن الآخر بلحاظ وحدة الموضوع او السبب والمسبب فان الأمر بالمعروف في دلالته نهي عن المنكر، بالواسطة والدلالة، وكذا بالنسبة للنهي عن المنكر فانه أمر بالمعروف ويدل إجتماعهما عند المؤمن على بلوغه مراتب الإيمان والتقوى، ودرجات الصلاح والهداية.
السابع: الصلة بين الإيمان بالله والمسارعة في الخيرات ومن يؤمن بالله يجتهد في طلب رضاه، ونيل محبته، والسؤال العملي بالمغفرة والعفو، ويتجلى هذا السؤال بالمبادرة الى الصالحات، والتسابق في فعل الخيرات واجتناب البخل والشح.
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعافية والقدرة على السعي، والمال والسعة فيه لتكون أسباباً للإمتحان والإختبار ووسيلة للفوز يوم القيامة، ومن وجوه الصلة بين الإيمان بالله والمسارعة في الخيرات قصد القربة في فعل الخيرات وفي ذات المسارعة.
الثامن: الصلة بين الإيمان باليوم الآخر والمسارعة في الخيرات اذ ان الإقرار باليوم الآخر علة لفعل الصالحات والمبادرة الى العبادات والسعي في قضاء حوائج الآخرين، والإنفاق في سبيل الله، وإصلاح ذات البين.
التاسع: الصلة بين الأمر بالمعروف والمسارعة في الخيرات، وهي آية في مسالك الإيمان والأخلاق الحميدة، فيرى الناس الذي يأمرهم بالمعروف وهو يقوم بالمبادرة الى فعل الخيرات، فهو قد يأمرهم في وجه من وجوه الخير ومن غير طلب المسارعة اذ يكفي إتيانه، ولكنه يمتاز عنهم بأمور:
الأول: القيام بذات الفعل الذي أمرهم به.
الثاني: المسارعة فيه.
الثالث: المسارعة في غيره من وجوه الخير، فيكون أسوة لهم، ويطرد عنهم أسباب الشك والريب والحسد.
ومن يسارع في الخيرات يكون أسوة لغيره من الناس، ويساهم في طرد أسباب البخل والشح عن النفوس.
العاشر: الصلة بيين النهي عن المنكر والمسارعة في الخيرات وفيه وجوه:
الأول: المسارعة في الخيرات إزاحة للمنكر ومفاهيمه.
الثاني: يستجيب الناس للذي يعمل الصالحات ويبادر الى الخير حينما ينهاهم عن المعاصي والسيئات.
الثالث: فعل الخير إشاعة للمعروف، وزجر عن المنكر وتحبيب بالصالحات، وجعل النفوس تنفر من المنكر.
الحادي عشر: إختتام الآية بالوصف بالصلاح، وان الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل الصالحات من الصالحين شهادة قرآنية على الحسن الذاتي للإيمان وفعل الصالحات، ودعوة للناس للإنضمام الى الصالحين والفوز بالمدح والثناء القرآني.
بحث عقائدي بلاغي
من وجوه البديع “الفرائد” وكأن كل كلمة منه كالفريدة والجوهرة التي لا مثيل لها، وهي أمارة على فصاحة الكلام وبلوغه مراتب عالية من الجزالة في المنطق، ودقة ما فيه من البيان، بحيث يتعذر إفادة تمام المعنى إلا بها. وتتكون كل آية آيات القرآن من فرائد وجواهر، وهو من أسرار عصمة القرآن من التحريف وإمتناع كلماته على التبديل، وموضوع لتعاهد المسلمين لألفاظه وكلماته وجهادهم في سبيله وحفظه من الضياع بالكتابة والتدوين والحفظ عن ظهر قلب وتوارث الحفظ وتلاوته في الصلاة، وإستحضاره دليلاً وحجة وشاهداً وقراءته في آناء الليل وساعات النهار، وفي المساجد والمنتديات والمناسبات العامة والبيوت لأنه الصلة والحبل الذي يربط بين الخالق والمخلوق.
وكلمات الآية السابقة وهذه الآية فرائد وجواهر تتعلق بموضوع وحكم واحد نذكرها معاً وهي على قسمين:
الأول: الفرائد التي جاءت في الآية السابقة، وهي على وجوه:
الأول: قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً] لبيان نفي التساوي والتشابه بين أهل الكتاب، ودعوة المسلمين الى معرفة هذه الحقيقة، وأسباب ومواضيع الإختلاف والتباين فيما بينهم.
فأكدت هاتان الكلمتان وجود تباين بين أهل الكتاب، بما يتعذر عليهم نفيه وتغطيته، فقد يحاول الفاسقون إخفاء هذا التباين، وإظهار الإتحاد والتشابه بينهم وبين المؤمنين من أهل الكتاب لبعث الخوف والرعب في قلوب المسلمين، ومنع الناس من دخول الناس وجعلهم يفتتنون بأهل الكتاب.
وجاءت هذه الآية مدداً سماوياً، وعوناً للمسلمين، وكشفاً للحقائق وفيه رحمة بالفريقين من أهل الكتاب، ومنع من الرياء والزيف وإدعاء الباطل، وفيه دعوة لعامة أهل الكتاب والناس جميعاً بعدم الإفتتان برؤساء الكفر والضلالة، وهو مقدمة لبعث الضعف والوهن في صفوفهم، وجعلهم يلتفتون الى الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قوله [مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] جاء هذا القيد لتعيين الذين هم في إختلاف مع إتحادهم في الاسم والإنتساب، وفيه منع من العموم والإطلاق، ومن اللبس والترديد، فقد جاء الخطاب الإلهي للمسلمين بأنهم خير أمة أخرجت للناس في توكيد على إتحاد المسلمين ومادة هذا الإتحاد هي الإعتصام بحبل الله، ونفي وجود إختلاف بينهم، وجاءت هذه الآية لذكر أهل الكتاب وأنهم مختلفون وليسوا سواء، مما يدل على المائز وأسباب التفضيل والترجيح التي يتصف بها المسلمون.
وهل تدعو الآية الى السعي في إتحاد أهل الكتاب وإصلاح ذات بينهم الجواب لا، لأن وظيفة المسلمين هي دعوة الناس عموماً الى الإسلام حيث الوحدة والإتحاد في طاعة الله تعالى، ولكن الآية جاءت لبيان حال أهل الكتاب، ومنع دبيب اليأس والخوف الى قلوب المسلمين، وفيها بعث للأمل في إسلام فريق من أهل الكتاب ممن تعاهد البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل، وتلقى المعجزات التي جاء بها بالتصديق والقبول.
الثالث: قوله تعالى [أُمَّةٌ]
لقد جاء قبل آيات قوله تعالى في أهل الكتاب [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] أما هذه الآية فجاءت بالبيان والإخبار بان المؤمنين منهم أمة، ويفيد الجمع بين الآيتين بأن وصفهم بالقلة في مقابل كثرة الفاسقين لا يعني أنهم جماعة قليلة وأفراد متفرقون لا إعتبار لهم، بل إنهم أمة متحدة لم تتأثر سلباً بفعل الفاسقين وتعديهم على المسلمين، أمة تساهم في زجر الفاسقين ومنع الظالمين من التعدي على الإسلام والمسلمين، وتكون حجة عليهم في لزوم التحلي بالسنن والآداب التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة.
الرابع: “قائمة” لو جاءت الآية بلفظ “أمة” وحده لكان كافياً لتوكيد وجود جماعة متحدة من أهل الكتاب تلتقي في الإيمان بالله، لكنها جاءت ايضاً بوضعها بانها قائمة وفيه مدح إضافي لهذه الأمة، ودعوة للعناية بها، وتوكيد للتباين بينها وبين الفاسقين من أهل الكتاب.
الخامس: قوله تعالى [يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ] وفيه بيان لماهية القيام، والموضوع الذي تعتني به هذه الأمة، وتعاهدها للبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تقل الآية يتلون الآيات، بل بالتوكيد بأن الآيات التي يقومون بتلاوتها هي آيات الله عز وجل وأحكام التنزيل، ويدل القيام بالتلاوة على إرتقاء في المعرفة، ومواظبة على التحصيل وتقود هذه المواظبة الى إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن نبوته حق وصدق.
لقد أراد الله عز وجل بوجود أمة من أهل الكتاب تتلو آيات التوراة والإنجيل والقرآن الإعتراف العام بظهور وأفضلية القرآن على الكتب السماوية الأخرى، وتوكيد نزوله من عند الله عز وجل ويتجلى هذا الظهور والتفضيل بأدنى مقارنة بينها لذا ترى شطراً من علماء أهل الكتاب يبادرون لدخول الإسلام، ويقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: قوله تعالى [آنَاءَ اللَّيْلِ] وهو قيد زماني لتلاوة فريق من أهل الكتاب آيات الله، وفيه وجوه:
الأول: مدح القرآن لفريق من أهل الكتاب.
الثاني: تلاوة الآيات عنوان للتشريف والمدح.
الثالث: في الآية إخبار عن الغيب، وإظهار لحال وفعل فريق من أهل الكتاب لا يطلع عليه الا الله، لأن الإنسان يغلق بابه في الليل، ويتبادر الى الأذهان انه ينام ويسكن الى الراحة فجاءت الآية لتخبر عن جماعة متعددة من أهل الكتاب وكيف أنهم يمضون ساعات جوف الليل في تلاوة الآيات والتفقه في الدين، والتلاوة واقية من الركون للفاسقين، ان ذكر التلاوة في المقام آية إعجازية، وبيان لبقاء تعاهد التنزيل في الأرض، واذا كان أهل الكتاب لا يتلو منهم الآيات الى القلة منهم في جوف الليل، فان المسلمين جميعاً يتلون آيات الله في الليل والنهار، وعلى نحو الوجوب كما في الصلاة، والإستحباب في مواطن عديدة، وفيه توكيد على ان المسلمين خير أمة، وفي تعاهد المسلمين لهذه الآية وما فيها من الدلالات شاهد على أنهم أخرجوا للناس ليدعوهم للإسلام وتلاوة آيات الله.
السابع: قوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ] أختتمت الآية السابقة بالسجود، كما تختتم به أفعال الصلاة قبل التشهد والتسليم، ليكون شاهداً على ان الإنسان يتعهد في كل الأزمنة السجود والخضوع لله تعالى، فقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم لتجتهد ذريته بالمواظبة على السجود لله تعالى، وليرث المسلمون السجود فيرسخ في الأرض الى يوم القيامة، فليس من أمة إستطاعت ان تحافظ على السجود وتتعاهده مثل المسلمين ، وفيه شاهد عبادي يومي متجدد على كونهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
لقد جعل السجود على المليين أمراً واجباً وجزء من فريضة ثابتة وهي الصلاة، وليس عند المسلم شيء أحب اليه من السجود لله تعالى، وهو عنوان الصلة بين أهل الإيمان، ومن الآيات ان السجود من مختصات المسلمين، فليس من أمة تباشر السجود على نحو الوجوب طاعة لله تعالى الا المسلمين، وفيه دعوة للناس للفرار الى طاعة الله، وإظهار الخضوع والخشوع له، ومنها ان يأتي وجوب السجود على نحو التعيين في الصلاة من وجوه:
الأول: عدد الفرائض اليومية، وانها خمسة لا تقبل الزيادة أو النقصان.
الثاني: عدد ركعات كل فريضة من الفرائض الخمسة على نحو التعيين وعدم جواز الترديد والإختيار فيها.
الثالث: الإتيان بكل ركعة من ركعات الصلاة بسجدتين متعاقبتين ليس بينهما الى جلسة خفيفة.
الرابع: إختتام كل ركعة بالسجود.
الخامس: الإتيان بالذكر والتسبيح في كل سجدة من الصلاة.
ويحتمل السجود في قوله تعالى [وَهُمْ يَسْجُدُونَ] وجوهاً:
الأول: السجود اثناء التلاوة.
الثاني: السجود عقب التلاوة.
الثالث: السجود آناء الليل.
الرابع: القيام بالسجود طاعة لله تعالى في الصلاة، وعلى نحو الإستحباب.
الثاني: الفرائد التي جاءت بها هذه الآية، وهي على وجوه:
الأول: قوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ].
إبتدأت الآية الكريمة بهذه الفريدة، ووجودها ضرورة في المقام لشرط قصد القربة في إتيان الصالحات، وهناك ملازمة في القرآن بين المدح وبين الإيمان بالله، فمن يؤمن بالله يستحق المدح والثناء، ومن لا يؤمن بالله لا يستحق المدح، ومع ان الإيمان بالله واجب على العباد فانه سبحانه يمدح المؤمن وهذا المدح فضل من عنده تعالى وبشارة الثواب، ولطف إلهي بدعوة الناس الى الإيمان والهداية، وجعل النفوس تميل الى المؤمن.
الثاني: قوله تعالى [وَالْيَوْمِ الآخِرِ] عطفت الآية الإيمان بيوم القيامة على الإيمان بالله عز وجل مما يدل على موضوعية الإيمان بالحساب في صلاح الإنسان، وجاءت الآية بصيغة الجمع، وفيه شاهد على المؤازرة وشد المؤمنين بعضهم لعضد بعضهم الآخر في رسوخ الإيمان بالله واليوم الآخر، والسعي الحثيث ليوم القيامة بالحرص على طاعة الله، وإجتناب ما نهى عنه.
ولم تقل الآية “يؤمنون بالله يوم القيامة” بل ذكرت يوم الحساب بصفة اليوم الآخر في دلالة على إدراكهم لزوال الدنيا وإنقضاء أيامها وأنها مزرعة للآخرة، والصلة بين الإيمان بالله واليوم الآخر هي ان اليوم الآخر شاهد على عظيم قدرة الله، وحاجة الإنسان المستديمة الى رحمة الله تعالى في الحياة الدنيا والآخرة، وان الإيمان بالله عز وجل عالم عقائدي تتفرع عنه مسائل وأحكام عديدة، تجعل الإنسان منشغلا بالعبادة متفقهاً في دينه، مجتهداً في تحصيل أسباب النجاة يوم القيامة.
الثالث: قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] من يؤمن بالله واليوم الآخر يحرص على القيام بالأمر بالمعروف من وجوه:
الأول: وجوب الأمر بالمعروف.
الثاني: انه مقدمة لجذب الناس الى الإيمان بالله واليوم الآخر.
الثالث: فيه تهذيب للنفوس وإصلاح للمجتمعات.
الرابع: الأمر بالمعروف وسيلة للإجتهاد في سبل الخير والصلاح.
ان صدور الأمر بالمعروف من الأمة خير وأفضل من صدوره من الجماعة والفرد، وفيه شاهد على ترتب الأثر الأتم عليه ، وندب لأهل الكتاب للقيام بالأمر بالمعروف ومنه الحث على إكرام المسلمين، والإنصات لآيات القرآن.
الخامس: قوله تعالى [وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] من الفرائد في هذه الآية تعقب النهي عن المنكر للأمر بالمعروف، ليعمل الأمر والنهي على إستدامة صلاح الأمة، وتهذيب الأخلاق ونبذ العادات السيئة.
السادس: [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] يبادر المؤمنون الى الخيرات، وتأتي هذه المبادرة بعرض واحد مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتقدم عليه تارة وتصاحبه تارة، وتتأخر عنه تارة أخرى من غير تعارض أو تزاحم بينها، وهذه الملازمة نوع جهاد لا يتم الا بالإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان علة للمسارعة في الخيرات وبذل الوسع في الإصلاح، ولم تقل الآية “ويسارعون في الخير” بل ذكرت الخيرات لإرادة الكثرة في الطاعة والإحسان الى الآخرين وللإشارة للتعدد من وجوه:
الأول: في ذات الفعل.
الثاني: في المسارعة، فكل فرد يسارع من جهته ويبادر الى فعل الخير.
الثالث: تعدد موضوع الخير لذكره بصيغة الجمع.
الرابع: الأثر الحسن المترتب على فعل الخير بإعتبار انه فعل توليدي تترشح عنه وجوه متعددة من الخير والصلاح.
السابع: قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] أختتمت هذه الآية، والصفات المذكورة فيها وفي الآية السابقة بنعت المؤمنين بانهم من الصالحين مما يدل على المتعدد في الخصال الحسنة، والنسبة بين المؤمن والصالح العموم والخصوص المطلق فكل صالح هو مؤمن قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ] ( )، وجاء وصفهم بانهم من الصالحين مدحاً إضافياً، وشهادة سماوية لهم، ودعوة لثباتهم على الإيمان وفعل الخيرات.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب “التفسير” وهو أن يكون في الكلام ترديد وخفاء فيأتي البيان والتفسير لإزالة اللبس والترديد، ومن الآيات ان القرآن ليس فيه لبس وخفاء يستلزم التفسير ولكن فيه مجمل ومبين، فبعد ان جاء قبل ست آيات، ذم أهل الكتاب لتخلفهم عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تقسيمهم الى قسمين مؤمنين وفاسقين في قوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
جاءت هذه الآية والآية السابقة في ذكر صفات المؤمنين منهم، وفيه آية إعجازية من وجوه:
الأول: لغة البيان والتفسير في القرآن.
الثاني: دعوة أهل الكتاب للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقرار بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالث: مدح الذين بادروا الى دخول الإسلام من أهل الكتاب، فليس من مصداق في الخير أفضل من دخول الإسلام.
الرابع: بيان وجوه الإيمان عند فريق من أهل الكتاب.
الخامس: تفسير قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ] بأنهم أمة قائمة تتعاهد الإيمان بالله واليوم الآخر، وتبادر الى فعل الخيرات.
السادس: توكيد وحدة نظم الآيات وتداخل مواضيعها، اذ ان التفسير والبيان يكون متمماً لما تم تفسيره.
السابع: من الآيات مجيء التفسير في المقام على نحو التفصيل وتعدد الصفات، بما يمنع من اللبس.
الثامن: من أسرار وغايات التنزيل تثبيت القيم العقائدية والأخلاقية الحميدة ، فجاءت هذه الآية بذكر صفات الحسن في الإيمان والفعل الحسن، ومنها المسارعة في الخيرات وتوظيف اللسان في الصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الإحسان بين الناس وإتيان وجوه الطاعة بالمبادرة الى الخيرات والإنقطاع الى الله تعالى، ومن الآيات ان التفسير والتفصيل وما فيه من الآيات لا يحول دون إقتباس الدروس والعبر من المجمل في القرآن، وفيه شاهد على تفقه المسلمين في الدين، وارتقائهم في المعارف الإلهية، وأهليتهم للحكم بين الناس، ومعرفة منازلهم.
فيأتي التفسير مستقلاً، ومتعلقاً بما قبله ومتمماً له من غير تعارض بين الوجهين، أما المجمل فانه يأتي على نحو الإستقلال ولا يتعلق بتفسيره على نحو الموجبة الكلية، فقوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] كافِ لمعرفة حال أهل الكتاب، ولكن التفسير لطف من عند الله بالمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً، ووسيلة سماوية لجذب الناس الى الإيمان، والإنصات لآيات القرآن ومعرفة قصص الأمم الأخرى من القرآن ، وحجة دائمة وبرهان إعجازي ، وشاهد على نزول القرآن من عند الله عز وجل.
قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] الآية 115.
القراءة والإعراب واللغة
في قراءة يفعلوا ويكفروه وجوه:
الأول: [يَفْعَلُوا] ويكفروه وهي قراءة اهل الكوفة إلا أبي بكر.
الثاني: تفعلوا، وتكفروه ( بالتاء) وهي قراءة الباقين.
الثالث: التخيير بين القراءة بالياء، والتاء، وهي قراءة ابي عمرو.
ووجه القراءة بالياء لنظم الآيات السابقة وإرادة ضمير الغائب وان المراد منه المذكورون في الآيتين السابقتين من أهل الكتاب، اما القراءة بالتاء فلإرادة الخطاب للمكلفين عامة في حث للمسلمين للثبات على الإيمان وترغيب بالمبادرة الى الفرائض والمناسك ، ودعوة الناس لدخول الإسلام وفعل الصالحات.
قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ]
الواو: إستئنافية.
ما: موصولة إسمية وحرفية أي لن يضيع عملهم والذي عملوه، وهي بمعنى الشرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليفعلوا.
يفعلوا: فعل الشرط مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل.
من خير: جار ومجرور، في محل نصب على الحال.
فلن يكفروه: الفاء رابطة لجواب الشرط، لن: حرف نصب.
يكفروه: فعل مضارع منصوب بلن، الواو: نائب فاعل.
الهاء: مفعول به ثان، وجملة “فلن يكفروه” في محل جزم جواب الشرط.
[وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ]
الواو: إستئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ مرفوع بالضمة، عليم: خبر مرفوع بالضمة، بالمتقين: جار ومجرور متعلقان بعليم.
والخير اسم جامع للفعل الحسن، والصفات المحمودة، وضده الشر، وفي الحديث:”خير الناس خيرهم لنفسه”( ).
وكأن الحديث تفسير لهذه الآية والتي تخبر عن عدم ضياع فعل الخير وان الله عز وجل يجازي فاعله في النشأتين.
وأصل الكفر التغطية، وكل شيء غطى شيئاً فقد كفره.
والكفر سواد الليل لظمته، ولما فيها من الستر قال الشاعر:
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر.
ويقال توقيت وإتقيت الشيء وتقيته وأتقيه وتقيه وتقاء: حذرته، والاسم التقوى، والمتقون: جمع تقي وهو الذي يخشى الله، ويتقي عقابه ويجتهد باتيان الطاعات والقربات ، وما يؤدي الى نيل الثواب من عند الله سبحانه .
في سياق الآيات
ذكرت الآيات السابقة أهل الكتاب، وجاءت على وجوه:
الأول: ان الله عز وجل لا يضيع عمل المسلمين، ونعتهم بانهم خير أمة أخرجت للناس شاهد على حسن سمتهم وصلاحهم.
الثاني: جاء في الآية العاشرة بعد المائة قوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] ومن وجوه الخير في المقام عدم كفران او حجب الثواب على فعل الخير، ويفيد الجمع بين الآيتين ذكر مصداق من مصاديق الخير الذي يناله أهل الكتاب لو صدقًوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: صلة ومعاملة أهل الكتاب مع المسلمين، فبينت الآية وجه التفصيل في هذه الصلة وكيفية المعاملة وهم على قسمين:
الأول: المؤمنون بالله والنبوة من أهل الكتاب.
الثاني: الفاسقون والخارجون عن الطاعة.
الرابع: تحذير المسلمين من الضرر القادم من الفاسقين والذي لا يصل الا على نحو الأذى القليل بفضل الله.
الخامس: الإخبار السماوي عن حدوث القتال بين المسلمين والفاسقين فقوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] لا يعني مجرد الإمكان، بل الإخبار عن وقوع القتال والشواهد التأريخية تؤكده، وجاءت صيغة الشرط لبيان نتيجة القتال لتكون بشارة للمسلمين.
والصلة بين هذا الإخبار والآية محل البحث من وجوه:
الأول: حث المؤمنين من أهل الكتاب على التقيد بالتنزه عن التعدي على المسلمين.
الثاني: دعوة أهل الكتاب مطلقاً الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بيان مصداق سماوي، وشاهد وجداني وحسي على صدق نزول القرآن من عند الله.
الرابع: دعوة الفاسقين من أهل الكتاب للتوبة والإنابة.
الخامس: حث المؤمنين من أهل الكتاب على فعل الخير وإتيان الصالحات.
الثالث: حسن إختيار المؤمنين من أهل الكتاب لأن نتيجة محاربة الإسلام الهزيمة لأعدائه، وانعدام وجود الناصر لهم في الدنيا والآخرة، فاختار المؤمنون منهم السلامة وبادروا الى التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: لقد جاءت أحكام الجزية مطلقة وشاملة لأهل الكتاب ممن لم يختار الحرب على الإسلام، ومن الآيات عدم وصف دفع الجزية بانه من الذلة، بل ذكرت الآية حال الصغار المقترن بدفع الجزية وما فيها من حفظ الذمام قال تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الخامس: اخراج المؤمنين من أهل الكتاب من لغة الذم الواردة قبل آيتين ونعت الفاسقين بانهم [كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ] والإخبار بانهم إرتكبوا المعاصي وكانوا يعتدون على الناس وعلى أهل الإيمان في زمانهم من أنصار وأتباع الأنبياء وفيه بيان لموضوعية الإيمان بالله واليوم الآخر للنجاة من حلول الذلة والمسكنة، وإشارة إلى أن عدم لحوق المؤاخذة على قتل الإنبياء للإجيال المتعاقبة من أهل الكتاب بلحاظ الإنتساب والإنتماء لذات الملة كاليهودية بل بلحاظ الرضا بفعل المجرمين ممن سبقهم الذين قتلوا الأنبياء وأصروا على الإعتداء، ومن مفاهيم الآية دعوة أهل الكتاب للتبرأ من أفعال أولئك المجرمين .
السادس: دعوة أهل الكتاب لنيل مرتبة الصلاح والإلتحاق بجماعة الصالحين، ولم تأتِ هذه الدعوة إجمالية في الكيفية والسبيل، بل جاءت بصيغة البيان والتفصيل ، ثم جاءت هذه الآية بالوعد الإلهي الكريم بعدم تضييع عمل الصالحين.
السابع: الآية إنذار للكفار والفاسقين لأن عدم تضييع فعل الخير يكون مع الإيمان وليس مع الفسوق والتعدي.
الثامن: توجيه اللوم للكافرين لإختيارهم الإضرار بالمسلمين وهو ليس من فعل الخير، بل هو شر محض، وهذا الشر من وجوه:
الأول: انه شر وأذى بأهله أي بالفاسقين الذين يضرون المسلمين.
الثاني: في التعدي على المسلمين حرمان من الثواب وان جاء التعدي بفرد من أفراد الخير.
الثالث: التنافي والتضاد بين الفسق وبين التقوى، اذ مدحت هذه الآية المتقين.
الرابع: تحبيب التقوى الى نفوس أهل الكتاب عامة، ومنهم الفاسقون، ودعوتهم والناس جميعاً الى الخشية من الله في السر والعلانية، ومن مصاديق الخشية من الله عدم التعدي على المسلمين.
الخامس: من الخير ومصاديق التقوى أمور ذكرتها الآيتان السابقتان وهي:
الأول: تلاوة وترتيل آيات القرآن.
الثاني: إختيار جوف الليل لقراءة القرآن.
الثالث: السجود لله خضوعاً وخشوعاً.
الرابع: الإيمان بالله، والإقرار بربوبيته للخلائق كلها.
الخامس: الإقرار بالمعاد واليوم الآخر والإستعداد له بالعمل الصالح والمبادرة الى فعل الخيرات.
السادس: الأمر بالمعروف بإعتباره من مصاديق الخير.
السابع: القيام بالزجر عن المنكر، والسعي لتخليص مرتكب المعصية من فعلها، وهذا الزجر خير محض لأن منافعه لا تنحصر بتوبة وصلاح مرتكب المعصية بل تشمل غيره من الناس بهدايتهم، وعدم إغرائهم بالمعاصي، لذا فان النهي عن المنكر مدخل كريم للإصلاح المتعدد وان جاء على نحو القضية الشخصية في الناهي او المنهي.
الثامن: من فعل الخير الذي لن يضيع المبادرة الى فعل الخيرات، وإتيان الصالحات، وهو من مصاديق التقوى لما فيه من طلب مرضاة الله عز وجل.
واذ جاءت الآية محل البحث بالبشارة والإخبار عن الجزاء الحسن لفعل الصالحات، جاءت الآية التالية بصيغة الإنذار والوعيد للكافرين والإخبار بان اموالهم وأولادهم لن يحجبوا عنهم عذاب الجحيم ويدل الجمع بين الآيتين على الترغيب بالإيمان، وجعل النفوس تميل اليه، وتنفر من الكفر لأن الإنسان مجبول بالفطرة على الميل الى ما فيه النفع والمصلحة، والإبتعاد عما فيه الضرر والمفسدة، واذ أختتمت الآية السابقة بلفظ الصالحين، والإخبار عن كون فريق عن أهل الكتاب من الصالحين، جاءت هذه الآية بالإخبار عن علمه تعالى بالمتقين فما هي النسبة بينهما، فيه وجوه:
الأول: التساوي، وان الصالح هو ذاته المتقي.
الثاني: العموم والخصوص من وجه ووجود مادة للإفتراق ومادة للإلتقاء، فمادة الإفتراق ان الصلاح يتعلق بماهية العمل، والتقوى بالإعتقاد والخشية من الله، ومادة الإلتقاء الحسن الذاتي لكل من الصلاح والتقوى، ونيل الثواب على كل صفة منها.
الثالث: العموم والخصوص المطلق ، وفيه وجهان:
الأول: التقوى فرع وجزء من الصلاح.
الثاني: الصلاح فرع التقوى.
والأصل عدم وجود تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مفاهيم الصلة والتداخل بين الصلاح والتقوى، وأثر كل واحد منهما في إيجاد الآخر، وهو من أسرار خلق الإنسان وقواعد اللطف الإلهي، وإعانة العبد على بلوغ مراتب الإيمان وأسباب الهداية.
إعجاز الآية
بعد أن جاءت الآيتان السابقتان في وصف المؤمنين من أهل الكتاب بصفات المدح والثناء، جاءت هذه الآية لتبين ان العمل الصالح لن يذهب سدىَ، وان من كرم ورحمة الله تعالى انه لا يكتفي بالوصف الحسن للأمم الصالحة، بل يخبر عما أعد لها من الثواب وفيه شاهد بان القرآن ليس كتاب أخبار وقصص فقط بل تقترن فيه الأحكام بالإخبار عن الثواب والعقاب ، وكل قصة أمة يتعقبها حكم فعلها، ومن أسمائه تعالى [خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] ( )، فهو سبحانه يخبر بالحق، ويبين الأحكام والجزاء ليكون هذا البيان مقدمة سماوية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه آية وهي إقتباس سبل ومضامين الأمر والنهي من أخبار وأحكام القرآن وما فيه من الجزاء والوعد والوعيد [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] ( ).
ومن إعجاز الآية تعقب الإخبار عن الثواب للإخبار عن صفات الحسن وإختتامها بقيد إحاطة الله عز وجل علماً بأحوال المتقين، وحضور أعمالهم وحسن سمتهم عنده تعالى ، وفيه مدح للمسلمين والمسلمات خاصة.
ومنه إنحصار الملازمة بين الثواب والفعل بخصوص المؤمنين، مع إختيارها للفظ الخير وما فيه من الدلائل بإعتباره سوراً جامعاً للصالحات.
لقد جاءت الآية بلفظ الخيرات وهو سور جامع للواجب والمستحب لتكون المبادرة اليها من المندوبات التي يبعث اليها القرآن ويرغب فيها، ويدعو اليها، ويخبر عن الوعد الكريم لمن أتاها.
وجاء قبل آيات قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] ( )، وأخبرت هذه الآية الكريمة عن وجود أمة تعمل الخير وان الله عز وجل لن يضيع أعمالهم .
ويفيد الجمع بين الآيتين بان المسلمين يدعون الى الخير ويعملون به ويجمعون الحسنيين، وهو من مصاديق كونهم خير أمة أخرجت للناس وفيه سر من أسرار سياق الآيات وإعجاز في نظمها وترتيبها وتداخلها فتدعو الى الخير أمة من المسلمين، أما الذين يقومون به فهم المسلمون جميعاً، لتكون الدعوة الى الخير كالإمامة في ميادينه لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبي عمرو الزبيري: “يعني الامة التى وجبت لها دعوة ابراهيم كنتم خير امة اخرجت للناس وهم الامة الوسطى وهم خير امة اخرجت للناس”( ).
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “وما يفعلوا” لوجهين:
الأول: لم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية.
الثاني: مجيء هذا اللفظ في أول الآية.
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية سلاحاً بيد المسلم على نحو القضية الشخصية، وبيد المسلمين متحدين، وتكون صبغة هذا السلاح عقائدية وأخلاقية وتأديبية، فتأتي الآية بصيغة الأمر أو النهي أو القصص او بيان الحكم، لتكون وسيلة سماوية مباركة لإصلاح النفوس وتهذيبها من الكدورات والحجب الجسمانية، وتدعو المسلمين الى تعاهد الفرائض سواء كانت هذه الدعوة مباشرة وصريحة أو كانت بالواسطة.
وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية ولفظ الغائب “يفعلوا” الا انها مدح وثناء للمسلمين ودعوة لهم لتعاهد الإيمان وفعل الصالحات، والمواظبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل صفة من هذه الصفات وظيفة وحاجة للمسلمين والناس جميعاً، ويحتمل النفع من فعل الخير بلحاظ زمانه وجوهاً:
الأول: عند فعله والإتيان به.
الثاني: في الحياة الدنيا مطلقاً.
الثالث: في عالم الآخرة.
الرابع: في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول: أصالة الإطلاق في عدم التضييع فعل الخير وعدم وجود دليل او قرينة على التقييد او الحصر.
الثاني: الدنيا والآخرة من ملك الله عز وجل وحكمة سبحانه نافذ فيهما.
الثالث: جعل الله عز وجل الدنيا مزرعة للآخرة، فيكون فعل الخير واقية من النار، وسبيلاً الى الجنة.
الرابع: دلالة هذه الآية وما فيها من الإخبار عن الثواب المستقرأ من التوكيد بعدم كفران وضياع فعل الخير.
وجاءت خاتمة الآية دعوة للمسلمين للثبات في منازل التقوى والخشية من الله، ومتى ما أدرك العبد ان سيده يعلم بما يفعله، ويرى كيفية أدائه لعمله، فانه يحرص على بذل الوسع، ويتجنب التقصير او التفريط، واذ لا يستطيع السيد وصاحب العمل الإحاطة التامة بعمل العبد او العامل الا في أوقات ومواضع محدودة خصوصاً مع كثرة مواضع العمل سواء في الصناعة او الزراعة او التجارة فان الله عز وجل ينفرد بإحاطته التامة بأفعال عباده المنتشرين في أرجاء الأرض، ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة من أفعالهم.
كما ينفرد سبحانه بانه لا ينسى تلك الأعمال بل هي حاضرة عنده في كل زمان، ويعلم بها قبل ان تكون وقبل ان يولد أصحابها، وهذا العلم مدخل كريم وعون للمسلمين للتسابق والمبادرة في فعل الخيرات، وتعاهد أداء الفرائض والعبادات بأوقاتها ونشر مفاهيم الصلاح، ومبادئ الإسلام بين الناس.
مفهوم الآية
ذكرت الآية عدم منع جزاء الفعل الحسن الصادر من الأمة القائمة من أهل الكتاب، ولم تذكر الآية الفعل السيء والعقوبة عليهم وتلك آية إعجازية في القرآن تؤكد رحمة الله ورأفته بالناس عامة وبالمؤمنين خاصة بذكر الصفات الحسنة للعباد وما يأتي من الثواب الجزيل عليها كما في هذه الآية، ليعيش المؤمن في أمل ومندوحة ورجاء نيل الثواب والأمن والسلامة من العقاب والعذاب الشديد.
وتتضمن الآية صيغة الإطلاق في قبول العمل الصالح، وعدم تضييع فرد منها كثر أو قل، وفيه دعوة للمسلمين لفعل الصالحات، والتزود من الحسنات لأن الآية وعد كريم، وعهد من عند الله، وفيها دعوة للمؤمنين بالله من أهل الكتاب من وجوه:
الأول: دخول الإسلام والتوكيد العملي للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها من أحسن مصاديق الخير.
الثاني: عدم إخفاء البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل.
الثالث: إجتناب مؤازرة الفاسقين في تعديهم وقتالهم المسلمين.
الرابع: السعي في فعل الخيرات.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهم مصاديق الأمر بالمعروف دعوة الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ان الإخبار عن ثبوت الثواب على فعل الصالحات مغنم عظيم يناله الإنسان، وحرز وواقية من السيئات وفعل القبائح والذنوب.
فهذه الآية وثيقة سماوية تتضمن الوعد الكريم بقبول الصالحات وحفظها لأصحابها لحين يوم الحساب، ونيل الأجر العظيم عليها.
ويدل إختتام الآية بعلم الله تعالى بالمتقين على عدم غياب شيء عنه وتقسيم الناس الى قسمين:
الأول: المتقون الذين يخشون الله.
الثاني: غير المتقين.
وإذ بينت الآية صفة المتقين وأخبرت عن علمه الله تعالى بهم وبأفعالهم، فانها تدل في مفهومها على علمه سبحانه بغير المتقين، وفيه إنذار لمن لا يخشى الله بالغيب.
لقد جاءت آيات القرآن بالتوكيد على إحاطة الله علماً بكل شيء، وانما جاءت هذه الآية لتدل في مفهومها على البشارة والوعد الكريم للمؤمنين ليستحضر المسلم علم الله تعالى بفعله عند عمل الصالحات، وليكون هذا الإستحضار مقدمة لفعل الخير، وسبباً لإتيانه فيكون سابقاً لفعل الخير وملازماً له ومتأخراً عنه ، ويتجلى بالغبطة والسعادة التي تتغشاه عند التوفيق للعمل الصالح، لذا فان إخبار الآية عن علم الله تعالى بالمتقين إكرام ووعد كريم لهم، وفي الآية مسائل:
الأولى: توكيد فعل المسلمين للصالحات.
الثانية: مصاحبة علم الله تعالى لفعل الخيرات.
الثالثة: ترتب الثواب الحسن عليه.
الرابعة: ان إشتراك المؤمنين بالله من أهل الكتاب مع الفاسقين الذين يتعدون على الإسلام والمسلمين بالإنتساب للكتاب السماوي لا يمنع من انصاف المؤمنين بالله منهم، والإعتراف بتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وامتناعهم عن التعدي على المسلمين.
الخامسة: علم الله تعالى بما يفعله المسلمون، وما يلاقونه من الأذى وصبرهم في طاعة الله، وثباتهم في منازل التقوى فان الضرر والقتال والتعدي من أعداء المسلمين لم يمنعهم من تقوى الله وخشيته والتقيد بأحكام الشريعة.
وتضمنت الآية ثلاثة مواضيع:
الأول: فعل المؤمنين لوجوه الخير.
الثاني: عدم منع الجزاء الحسن عنهم.
الثالث: علم الله تعالى بالذين يخشونه ، ويحرصون على طاعته والإمتثال لأوامره.
والصلة بين صدر الآية وآخرها هو الإخبار عن أن الجزاء بيد الله تعالى، ولا تستطيع الخلائق حجبه، ويأتـي تابعاً لفعل المسلم لأفعال الخير والإحسان.
إفاضات الآية
يبذل المؤمن من ذاته ما يظن منتاه، ويسعى جاهداً للنيل من عطاء الله تعالى، ولطفه غير المتناهي، لتتجلى معاني الإصطفاء في آخر الزمان بالمسلمين بإعتبارهم ورثة النبوة، وخير أمة أخرجت للناس واتباع سيد الأنبياء والمرسلين، وتظهر الآية الملازمة بين أمور هي:
الأول: الإيمان بالله واليوم الآخر.
الثاني: فعل الخير، والمبادرة الى الطاعات والصالحات.
الثالث: عدم حجب الثواب والجزاء الحسن عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الرابع: علم الله تعالى بأهل الإيمان، وما يأتونه من الطاعات ووجوه القربات.
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بهدايته الى الإيمان ليكون هذا الإيمان ضياء ينير لأهل السماوات طرق الأرض مع أنه عرض وعمل فيحتمل مصدر الضياء وجوهاً:
الأول: ذات العبد المؤمن بحسن إعتقاده وصلاحه وتعلق قلبه بحب الله، والشوق الى لقائه.
الثاني: صبغة الإيمان الذي هو إرتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب، والذي يحصل على نحو الإختيار، ولكنه ليس إختياراً محضاً، بل بفضل وتوفيق من عند الله فينبعث منه إشعاع نوراني يملأ الآفاق.
الثالث: أفعال الخير ومصاديق الطاعة والإمتثال للأوامر الإلهية، وما يصدر من المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يكون على وجوه من غير تعارض بينها:
الأول: تلقي الطرف الآخر للأمر والنهي بصيغة الكلام او الفعل الحسن الذي يأتي للإصلاح.
الثاني: إستماع الآخرين له ليكون دعوة لهم للهداية والرشاد.
الثالث: رؤية الخلائق الأخرى للفعل العبادي ومصاديق الخير بهيئة الضياء والنور الذي يملأ المحل فيعرف أهل السماء مواطن ومحال طاعة الله في الأرض لتكون مظهراً لجمال وجلال صفات الله تعالى، وشاهداً على بديع صنعه في جعل الإنسان خليفة في الأرض.
الرابع: ترتب الثواب والأجر الجزيل على فعل الخير الصادر من المؤمنين.
وتضفي الآية على فعل الخير اشراقة وبهاء من وجوه:
الأول: لغة المدح القرآني لفعل الخير في هذه الآية.
الثاني: الندب الى إتيان الصالحات.
الثالث: الوصف الكريم لمن يؤمن بالله واليوم الآخر ويسارع الى فعل الخبرات كما جاء في الآية السابقة.
الرابع: دعوة المسلمين للتفاني المحض في مرضاة الله عز وجل لإخبار الآية عن علمه سبحانه بالمتقين، وجاء العلم في الآية على نحو الإطلاق ومن غير تقييد او تعيين لموضوعه، فمع ان موضوع الآية هو إتيان المؤمنين بالله واليوم الآخر لمصاديق الخير والصلاح ، فان خاتمتها جاءت مطلقة في موضوع العلم الإلهي وإحاطته علماَبذات المتقين وأحوالهم، ليفوزوا بأنواع البهجة والكرامة والإستقرار في حضرة الملك الجبار.
الآية لطف
كما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء فانه سبحانه تفضل وجعلها محلاً للطفه وإحسانه، ومن اللطف الإلهي هذه الآية، وتحتمل في جهتها وجوهاً:
الأول: إرادة المسلمين والمسلمات وبيان العناية بهم.
الثاني: المؤمنون بالله والذين صدقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب.
الثالث: عموم أهل الكتاب بدعوتهم الى الإيمان بالله واليوم الآخر وما جاءت به الرسل من عند الله، وحث الفاسقين منهم على عدم التعدي على الإسلام والمسلمين.
الرابع: الناس جميعاً ودعوتهم للإيمان بالله والملائكة والأنبياء واليوم الآخر، والمبادرة الى الطاعات وفعل الصالحات، وليس من فعل للإنسان على مدى أيام الحياة الدنيا أفضل من العبادة والصلاح.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية التي جاءت بالدعوة المركبة الى فعل الطاعات، والمبادرة اليها، وعدم التأخير او الإبطاء فيها لتكون الفورية بلحاظ التكليف وأوانه وموضوعه كماً وكيفاً، ولا ينحصر اللطف في الآية الكريمة بالدعوة الى الإيمان وفعل الخيرات، بل يتضمن وجوهاً إضافية كريمة أخرى هي:
الأول: البشارة بإحراز الثواب الجزيل، وعدم تضييع العمل الصالح فمن خصائص الإبتلاء في الحياة الدنيا ان الإنسان قد يعمل عملاًَ ويبذل وسعه فيه، وينفق من أمواله على أمل النفع والفائدة ولكن عمله يذهب سدى أو أن الفائدة تكون أقل وغير معتد بها، اما إتيان الطاعات وفعل الصالحات فانه يتصف بأمور:
الأول: نيل الجزاء عليه.
الثاني: عدم تضييع أي جزء منه ولو كان يسيراً.
الثالث: مضاعفة الفعل العبادي والصالحات، وهذه المضاعفة تحتمل وجوهاً:
الأول: المضاعفة والزيادة بمقدار ذات الفعل.
الثاني: المضاعفة المتعددة، كما لو كانت ضعفين او ثلاثة اضعاف.
الثالث: المضاعفة المتكررة.
والصحيح هو الثالث، وتلك نعمة لا يقدر عليها الا الله، وتكون ممن الممتنع على غيره سبحانه لأن كل مخلوق محتاج وفقير، وهو الى زوال وانقطاع، ومن الآيات ان تكرار المضاعفة من اللامنتهي وفيه حث إضافي للناس على المبادرة الى فعل الخيرات المقترنة بالإيمان بالله عز وجل وقصد القربة.
الثاني: الندب الى شكر الله تعالى على عدم تضييع الفعل الحسن الصادر من العباد.
الثالث: العناية الإلهية بالمتقين في الدنيا والآخرة.
لقد نعت الله عز وجل فريقاً من الناس بانهم متقون، وفيه تشريف لهم، وحجة على غيرهم من الناس، وشاهد على تعاهد سنن الإيمان في الأرض.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تثبيت وتوكيد مضامين الآيتين السابقتين.
الثانية: الشهادة القرآنية الخالدة بان المؤمنين يفعلون الخير، وفيه تنزيه لهم، ودعوة للناس لإجتناب جرحهم والإفتراء عليهم مجتمعين ومنفردين.
الثالثة: تطرد المبادرة الى الخيرات روح الشك والريب من النفوس، فجاءت الآية لإصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات، ورفع اسباب النفرة والكدورة.
الرابعة: بعث اليقين في نفوس المسلمين بحسن الجزاء والعاقبة.
الخامسة: إدراك المسلمين لحقيقة أنهم بعين الله، وأنه سبحانه يعلم ما يفعلون، وما يلاقون من الأذى والكيد وأسباب الضرر من أعداء الإسلام.
السادسة: بعث الحسرة والندامة في قلوب الكافرين لضياع أعمالهم، ولما يفوتهم من الثواب والأجر.
السابعة: ترغيب الناس بأمور:
الأول: الإيمان.
الثاني: إتيان الطاعات.
الثالث: فعل الخيرات ونشر مفاهيم الفضيلة.
الرابع: المبادرة الى الطاعة وفعل الخير .
الثامنة: إدراك المنافع الدنيوية والأخروية للمسارعة في الخيرات، والتسابق فيها، والسعي لمعرفتها من المنقول والمعقول والمحسوس.
التاسعة: دعوة الناس جميعاً لمعرفة خصال الصالحين، وسمتهم الحسن، وما يتصفون به من الصفات الحميدة التي إستحقوا بها المدح والثناء من عند الله تعالى.
التفسير
قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ]
إبتدأت الآية بحرف العطف “الواو” الذي يدل على إرتباط موضوع وأحكام هذه الآية بالآية السابقة من وجوه:
الأول: تتعلق الآية بعالم الأفعال لقوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا] وهو عالم واسع ورحب، ويشمل الأقوال ايضاً.
الثاني: قيدت الآية موضوع الفعل بانه في أبواب الخير والفلاح، فلم تقل وما يفعلوا فلن يكفروه” بل ذكرت ماهية العمل الذي لن يضيع وهو الذي يتصف بالحسن والصلاح، وفيه وجوه:
الأول: ان أهل الآيتين السابقتين لم يفعلوا الا الخير.
الثاني: انهم يؤدون الفرائض ويفعلون الخير، ويفعلون ايضاً السيئات، ويتفضل الله عز وجل عليهم فيجازيهم على أفعال الخير، اما فعل السيئات فيمحوه الله عنهم.
الثالث: جاءت الآية بخصوص فعل الخير، اما إرتكابهم للذنوب فله أحكامه الخاصة في ميزان الأفعال.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة، وتدل على سعة رحمة الله عز وجل قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
الثالث: جاءت الآية بصيغة الجمع “يفعلوا” وفيه وجوه:
الأول: الآية إنحلالية وتفيد معنى وما يفعل كل واحد من المؤمنين من الخير، ومن أفعال الخير ما يكون على نحو القضية الشخصية.
الثاني: إتيان أفعال الخير على نحو التعدد والجماعة.
الثالث: مجي أفعال الخيرعلى نحو الإنفراد والإجتماع، فيقوم المؤمن بفعل الخير على نحو شخصي ومستقل، ويقوم به بالإشتراك مع الجماعة ومن الآيات الإعجازية في المقام بان الأفعال التي تتضمنها الآيتان السابقتان يصدق عليها الإنفراد والتعدد، فيصح اتيان كل فرد منها على نحو الإستقلال وعلى نحو الإشتراك مع الآخرين، مع ترشح النفع العظيم من فعل كل فرد من المؤمنين على غيره مطلقاً، أي على المؤمن وغير المؤمن.
ولا تعارض بين الوجوه الثلاثة أعلاه، وكل فرد منها باب لنيل الثواب والأجر، وسبب في تنمية ملكة فعل الخير والمواظبة عليه.
الرابع: جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع “يفعلوا” وفيه مسائل:
الأولى: الدلالة على التجدد والحدوث.
الثانية: انه شاهد على مواظبة أهل هاتين الآيتين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الصالحات، وفيه دلالة على إحصاء الله عز وجل لكل فعل من أفعال الخير التي يفعلونها قال تعالى [وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا] ( ).
الثالثة: ان عدم كفران او تضييع أفعال الصلاح شامل للأفراد التوليدية المتعددة منه.
الرابعة: شمول الآية لأفراد الزمان الطولية المتجددة، وعدم إنحصار موضوعها بأيام النزول.
الخامسة: في الآية دعوة لأهل الكتاب لدخول الإسلام، فالآية خطاب متكرر ومتجدد يدعوهم للإسلام بإعتبار ان التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنطق بالشهادتين من أفضل مصاديق الخير والصلاح، وتدل على هذا المعنى خاتمة الآية وما فيها عن علم الله تعالى بالمتقين الذين يخشونه بالغيب.
وجاءت الآية بصيغة الحرف “ما” في قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا] وتقع “ما” على ما لا يعقل ، وعلى صفات من يعقل كما في قوله تعالى [وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا] ( )، في إشارة الى عصا موسى وأخذها لما صنعوه من الأفاعي الوهمية.
ومن خصائص “ما” سعة الإستعمال والإبهام اذ انها تقع على كل شيء لذا جاء مد الألف في آخرها للإشارة في اللفظ والرسم على السعة والشمول وكأن الإتساع في هواء الفم أمارة على الشمول في الإستعمال وتأتي مقيدة بالسكون في آخرها، وفي تقييدها إشارة الى إختصاصها بالعقلاء، وتستعمل (ما)في المفرد والمثنى والجمع ، ويظهر في المقام من وجوه:
الأول: ذات الإستعمال كما لو أريد منها الفرد الواحد من أفراد الخير، او الفعلين او الكثرة والجمع.
الثاني: في الفاعل والنسبة كما في فعل المسلم الواحد، والمسلمة، والمثنى، والجمع، والآية إنحلالية وكأن المعنى على وجوه:
الأول: صيغة المفرد المذكر، وتقديره: وما يفعل من خير فلن يكفر.
الثاني: صيغة المفردة المؤنثة وتقديره: وما تفعل من خير فلن تكفره.
الثالث: صيغة المثنى، وتقديره وما يفعلان من خير فلن يكفراه.
الرابع: لغة الجمع المؤنث وتقديره: ومايفعلن من خير فلن يكفرنه.
الخامس: صيغة جمع المذكر كما في الآية الكريمة [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ].
ومن الإعجاز ان هذه الصيغة أي الأخيرة والزاردة في الآية القرآنية هي وحدها الجامعة للصيغ المتقدمة ، وتتضمن إرادة المذكر والمؤنث والمتحد والمتعدد في ذات الفعل والفاعل.
الثالث:إتحاد او تعدد موضوع الخير.
الرابع: التعدد في الغاية والجهة التي يتوجه اليها فعل الخير.
الخامس: المقاصد السامية من فعل الخير، وإرادة الإصلاح ونشر مفاهيم الفضيلة ومكارم الأخلاق، وتثبيت معالم الدين، وتعظيم شعائر الله.
وجاءت صيغة الجمع للدلالة على وجوه:
الأول: فعل العبد بمفرده الصالحات.
الثاني: إشتراك اثنين من المؤمنين في فعل الخير.
الثالث: قيام المؤمنة بفعل الخير.
الرابع: إشتراك مؤمنتين من المؤمنات بفعل الخير على نحو الإتحاد، فيصدر مصداق واحد من مصاديق الخير من الإثنتين معاً ولا ينقص الإشتراك من ثواب أي واحدة منهما.
الخامس: إشتراك مؤمن ومؤمنة بفعل الخير.
السادس: قيام المؤمنين بفعل الخير.
السابع: اتيان المؤمنات فعل الخير المتحد والمتعدد.
الثامن: إشتراك جماعة من المؤمنين في فعل الخير.
التاسع: قيام عدد من المؤمنين والمؤمنات بفعل الخير وإتيان الصالحات على نحو الشركة والاشتراك، وهذا التعدد من فضل الله عز وجل على المسلمين سواء في الأصل أو الثواب والأجر.
وجاءت الآية بذكر فعل الخير ، ويحتمل وبلحاظ مضامين الآيتين السابقتين وجوهاً:
الأول: المراد المسارعة في الخيرات.
الثاني: إتيان فعل الخير إبتداء أو إستدامة.
الثالث: الإطلاق في فعل الخير وشموله لصفات الحسن المذكورة في الآيتين السابقتين.
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق والصدق في فعل الخير على كل صفة منها، ويدخل في فعل الخير الإستغفار والإنابة والتوبة وإجتناب المعاصي والذنوب بإعتباره امراً وجودياً يستلزم قصد القربة، والصبر عن المعصية، ومع ان الآية السابقة ذكرتهم بصفة المسارعة في الخيرات والمبادرة اليها، جاءت هذه الآيةبذكر فعلهم الخير، وفيه وجوه:
الأول: بين المسارعة في الخيرات وفعل الخير عموم وخصوص مطلق، فكل مبادرة الى الخير هي فعل له وليس العكس، فقد يأتي فعل الخير من غير مبادرة، ويحصل بعد تردد مع وجود أسباب عديدة لزوال التردد، منها رسوخ الإيمان بالله واليوم الآخر عند العبد اذ ان الإيمان بالله يجعل الإنسان يمضي في رضاه ويطمع في ثوابه، والإقرار باليوم الآخر سبب في السعي لإكتناز الصالحات، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحث الإنسان على المبادرة الى الخير وفعله، ومنها حب ذات المبادرة الى الخيرات.
الثاني: بيان تعدد وجوه الثواب، فجاءت هذه الآية بالمدح على فعل الخير، والبشارة بنيل الأجر والثواب عليه، اما الآية السابقة فذكرت المسارعة في الخير المتعدد وفعله.
الثالث: بيان كبرى كلية وهي تعلق الثواب والجزاء الحسن بما هو أعم من المبادرة الى الخيرات، فجاءت الآية السابقة بمدح المسارعة الى الخيرات، اما هذه الآية فجاءت بالإخبار عن الجزاء الحسن على أمرين:
الأول: فعل الخير سواء بالمبادرة اليه او بالتأني والإبطاء، وإتيانه بالدفعة أو التدريج.
الثاني: صيغة الخير بلفظ الإنفراد، وان كان اسم الجنس يصدق على المفرد والمتعدد، ولم تقل الآية “وما يسارعون اليه من الخيرات” او “وما يفعلوا من الخيرات” بل ذكرت فعل الخير مطلقاً في إشارة الى قبول القليل منه، وبيان ما له من الثواب خصوصاً مع إدراك حقيقة وهي ان الله عز وجل يزكي القليل، ويجعله كثيراً في ميزان الأعمال.
الثالث: نيل الثواب على فعل الخير سواء جاء به المفرد الواحد او الجماعة من المؤمنين، من غير أن ينقص من ثواب أحدهم، وفي الآية حث على الإشتراك في فعل الخير، وإتيان الصالحات، والمساهمة في أعمال البر.
وتفيد الواو في [ يَفْعَلُوا] وجوهاً:
الأول: إرادة أهل الآية السابقة الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات.
الثاني: المقصود أهل الآيتين السابقتين لتعلقهما بموضوع واحد وبيان صفة الأمة القائمة من أهل الكتاب.
الثالث: تعود الواو للصالحين لأن الضمير يعود للأقرب، ولإفادة المعنى الأعم وأصالة الإطلاق.
والصحيح هو الثاني فالآية بشارة ووعد كريم في المقام للذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويواظبون على تلاوة الآيات، ويقومون بالسجود والخضوع لله تعالى، ويتعاهدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستجيبون للأمر والنهي، ومما يتصف به المسلمون انهم يأمرون بالمعروف ويتقيدون ويمتثلون للأمر به، فجاءت هذه الآية لتؤكد موضوعية عالم الفعل، وان ألأمر بالمعروف يجب ان يصدر عن تقيد به، ويؤدي الى الإمتثال له، وتأتي الإستجابة عوناً ومادة للإستمرار بالأمر بالمعروف.
لقد أخبرت ألآيتان السابقتان عن قيام أمة من أهل الكتاب بالمسارعة في فعل الخير، والسعي في مرضاة الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت هذه الآية للإخبار عن عدم تضييع عملهم، لذا فان “ما” في قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ] أقرب للموصولة منها الى الشرطية، جمعاً بين هذه الآية والآيتين السابقتين.
قانون “التداخل في فعل الخير”
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار عمل، ومزرعة لفعل الصالحات ورزق الله الإنسان العقل ليدرك الحسن الذاتي للخير وفعله وجاءت الكتب السماوية لتحث الإنسان على ركوب جادة الخير، والسعي الحثيث في مسالكه، والإكثار من إتيانه، وإكتناز الصالحات، وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن جامعاً لأحكام الشريعة السماوية، واماماً هادياُ لفعل الخير والتسابق فيه.
وجاءت هذه الآيات دعوة للهداية والصلاح، وباباً لنيل الثواب، وهي مدرسة في الآداب والأخلاق الإسلامية لما فيها من البيان لمواضيع الخير، وذكر لأسمى أفراده، والإخبار عن الثواب العظيم الذي ينتظر فاعل الخير، وليس من حد أو قيد لفعل الخير فيمكن للإنسان ان يختار ملازمة فعل الخير ويكون عمله للصالحات متصلاً ومتجدداً، فالإيمان بالله من فعل الخير وهو إعتقاد مصاحب للمؤمن لا يغادره ولا ينفك عنه، وكذا الإيمان بالنبوة واليوم الآخر.
وقد أنعم الله عز وجل على الإنسان وجعل الصلاة فعلاً للخير يتكرر كل يوم على نحو الوجوب لكي يأتي الثواب للمسلم على نحو الإنطباق من الصلاة ومما يترشح عنها من فعل الخير وأسباب إجتناب السيئات بإعتبار الصلاة واقية منها ومدخلاً لفعل وجوه أخرى من الخير والإحسان، وتلك آية في خلق الإنسان وإعانته على فعل الخير وإكتساب الصالحات، بان يكون إتيان الفريضة باباً ووسيلة لتنمية ملكة فعل الخير والإكثار من الصالحات.
وفيه رحمة إضافية بالمسلمين، وهو شاهد على كونهم خير أمة أخرجت للناس لمواظبة المسلمين على فعل الصالحات، وما فيها من دعوة الناس الى فعلها وإتيان الفرائض ايضاً، وشاهد على عدم وجود برزخ بين مصاديق العبادات وفعل الصالحات، فكل فرد منها يقود للآخر ويهدي اليه، ويمنع من تركه والإعراض عنه، فمن يأتي بالصلاة يحرص على الصيام، وكذا العكس، ومن يؤدي العبادات البدنية يبادر الى العبادات المالية ودفع الحقوق الشرعية الى أهلها بمبادرة ومسارعة فإتيان العبادات برزخ دون التردد في فعل الخير ومانع من الشك والريب وأسباب النكوص والتسويف في فعل الخير، ومن يؤدي العبادة بشرائطها الزمانية والمكانية والفعلية يحرص على إتيان الخير ونشر مفاهيم الإحسان بالمبادرة اليه في السر والعلانية، وفي الليل والنهار، وعلى نحو الإنفراد او الإشتراك مع غيره من المؤمنين لما في المشاركة من أسباب المؤازرة والتعاون والتعاضد في فعل الخير، ومع تضمن الآيتين السابقتين لأفراد من الخير والصلاح فان التداخل بينهما ظاهر وبين، وهو على وجوه:
الأول: الإيمان بالله عز وجل مدخل كريم للإقرار بيوم البعث والنشر والتسليم بعالم الآخرة وما فيها من الحساب.
الثاني: الإيمان بالله سبب وعلة للأمر بالمعروف، فمن يؤمن بالله يدعو الناس الى الهداية والإيمان، ويحرص على نيل الثواب، ومن أهم مواطن الثواب جذب الآخرين لمنازل الإيمان، وحثهم على فعل الخير، ليكون الأمر بالمعروف خيراً شخصياً محضاً يترشح عنه خير متعدد الجهات والأطراف.
الثالث: الإيمان بالله حاجب دون فعل المنكر، وسبب لزجر الآخرين عن إرتكاب السيئات، فمن يمتلأ قلبه بالإيمان تنفر نفسه من القبيح، ويرجو للناس الإبتعاد عن السيئات، ولا ينحصر هذا الرجاء بالتمني والرغبة، بل يترجل في الخارج بالنصح والإرشاد والدعوة الى نبذ الذنوب وترك المعاصي وبيان أضرارها الشخصية والعامة.
الرابع: متى ما آمن الإنسان بالله عز وجل وأقر بيوم البعث والوقوف بين يدي الله للحساب فانه لا يتردد في فعل الخيرات، وإتيان الصالحات، فالمسارعة الى الخيرات فرع الإيمان واليقين بان عمل الخير لن يذهب سدى وان أبواب الثواب مفتوحة في النشأتين تدعو الناس اليها، ويهديهم الله بالقرآن الى طرقها والسبل المؤدية لإحراز الثواب، والفوز بالمقام الكريم بالمسارعة في الخيرات طاعة وقربة الى الله عز وجل.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منبع ومصدر لفعل الخير والمسارعة فيه ونيل الثواب.
السادس: المسارعة في الخيرات تثبيت لدعائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمتى ما بادر المسلم الى فعل الخير فانه يؤكد إستجابته للأمر والنهي، وكذا بالنسبة للذي يبادر لدخول الإسلام فانه يبين حسن إمتثاله للأمر والنهي، وعدم إصراره على الكفر والجحود.
وتبعث تلاوة آيات القرآن على المسارعة في الخيرات ، وتحصن المسلم من أدران الشح والبخل والرياء والأخلاق المذمومةـ ومنها تلاوة هذه الآيات وما فيها من الوصف الذي يدعو المسلمين للثبات على سنن التوحيد وآداب النبوة.
بحث بلاغي
لقد جاءت الآيتان السابقتان في ذكر خصال حميدة متعددة منها الإيمان بالله واليوم الآخر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات، فذكر موضوع المسارعة وانه في الكثير والمتعدد من الخير، ثم جاءت هذه الآية لتثبث الخاص، ويدل ثبوته على ثبوت العام، وان كان نفيه لا يدل على نفي العام، فلذا كان نفي العام أحسن من نفي الخاص لأنه يأتي عليه، فالنور أعم من الضياء مثلاً فقوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] ( )، فنفي النور وهو العام يدل على نفي الخاص وهو الضياء.
وإثبات الخاص أحسن وأكبر من إثبات العام لأنه يدل على وجود العام ومنه هذه الآية الكريمة إذ جاء قوله تعالى [وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ] وفيه دلالة على إثبات أفراد الخير التي يفعلونها وعدم تضييع أي فرد منها، اذ وردت الآية بصيغة الإبهام والإجمال بالحرف “ما” الذي يقع على الكثير والقليل من فعل الخير، كما يشمل الذي يأتون به مجتمعين و منفردين.
فلو أشترك جماعة من المؤمنين بفرد واحد من أفراد الخير فانهم يثابون عليه جميعاً من غير أن ينقص من ثواب أحدهم شيء، وفيه دلالة على عظيم فضل الله تعالى ، والترغيب بفعل الخير وحبه تعالى لفاعله متحداً كان أو متعدداً.
وتدل الآية على ان أعمال العباد جميعاً حاضرة عند الله لا تخفى عليه ولا تغيب عنه وفيه ترغيب بالإيمان، ودعوة سماوية لفعل الخيرات، والتسابق فيها، وتحذير من الكفر والضلالة، وزجر عن فعل المعاصي بإخبار الآية عن علمه تعالى بالمتقين الذين يخشونه بالغيب ، إذ أنه لا يفيد الحصر، بل أنه سبحانه أحاط بكل شيء علماً، ولكن ذكر علمه تعالى بالمتقين جاء لإكرام المسلمين، وبعث السكينة في نفوسهم، ودعوتهم للتسابق في الخيرات والثبات على الإيمان وإكتناز الصالحات.
قوله تعالى [فَلَنْ يُكْفَرُوهُ]
بعد إبتداء الآية الكريمة بالإخبار الذي يتعلق بموضوع الآيتين السابقتين جاء هذا الشطر وعداً كريماً من عند الله عز وجل ودليلاً على العدل الإلهي وأنه سبحانه لن يضيع عمل الذين يؤمنون بالوحدانية ويقرون بالنبوات، وبياناً لعظيم فضل الله على المسلمين والناس جميعاً، وما أعد من الجزاء الحسن للمؤمنين.
وفيه دعوة للإقرار بنزول القرآن من عند الله، بإعتبار ان الوعد بالجزاء لا يقدر عليه الا الله، ولم تذكر الآية الجزاء والثواب الا انها أخبرت عن عدم تضييع فعل الخير من أفراد الأمة القائمة من أهل الكتاب، وهذا الإخبار آية إعجازية لما له من الدلالات والمعاني العقائدية اذ انه يحتمل وجوهاً:
الأول: دلالة الآية في مفهومها على الثواب والجزاء الحسن.
الثاني: ان الله عز وجل اذا اعطى يعطي بالأوفى والأتم، وحينما تفضل وأخبر سبحانه عن عدم كفران فعلهم فيدل الأمر على حسن المثوبة والأجر.
الثالث: الآية أعم من الجزاء، وينحصر موضوعها بالإخبار عن عدم تضييع عمل الخير ويحتمل وجوهاً:
الأول: في حال حمل الآيتين السابقتين على المؤمنين بالله من أهل الكتاب فان الآية إخبار عن التفع الذي يأتيهم مترشحاً من الإيمان بالله، ومنه اللطف الإلهي بتقريبهم من الإيمان وإعانتهم على دخول الإسلام ومنعهم من الخوف من الفاسقين والذين يصدونهم عن الهداية والرشاد، ومنه تخفيف الحساب او العذاب في الآخرة.
الثاني: على القول بان الآية تتعلق بالذين أسلموا من أهل الكتاب فإنها إخبار عما ينتظرهم من الجزاء الحسن، ودليل على إلتحاقهم بالمسلمين.
الثالث: العنوان الجامع وان الله عز وجل لا يضيع عمل من آمن به وأقر باليوم الآخر، مع التباين في الأجر والثواب، وفيه إشكال وهو ان ألإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع الإيمان بالله عز وجل، فمن يؤمن بالله لابد وان يصدق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
لقد جاءت الآية بصيغة الإجمال والإبهام والإخبار عن عدم تضييع الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في الخيرات، كما انها لم تبين اوان الجزاء وهل هو في الحياة الدنيا أم في الآخرة ، وكأن الآية من نفي النفي وما يدل عليه من إثبات احتساب فعل الخير وعدم تضييعه.
وجاءت الآية بصيغة المستقبل التي يدل عليها الحرف “لن” لتتضمن الوعد الكريم والإخبار عن فضل الله عز وجل على الصالحين مطلقاً بان الله عز وجل يثيبهم خيراً على أفعالهم.
وتبين الآية حاجة الإنسان لرحمة الله تعالى، فالإنسان كائن ممكن محتاج، ومن وجوه حاجته إدخار الحسنات وفعل الصالحات الى الغد القريب والبعيد، للحاجة اليها في مستقبل أيامه في الحياة الدنيا، وفي عالم الحساب والآخرة.
وجاءت الآية بشارة وسكينة للمؤمنين لما فيها من الإخبار عن الثواب الجزيل الذي ينتظر المسلمين، اذ ان عمل الصالحات واقية من الآفات والأضرار، وسلاح في المصائب وعند الإبتلاء، وضياء مبارك في سلم الإرتقاء في المعارف الإلهية، وتحصيل العلوم الكسبية والتدبر في آيات الخلق والتنزيل، وجاءت الآية بصيغة الجمع مما يدل على إنتفاع الفرد من عمل الجماعة ، وإنتفاع الجماعة من عمل الفرد للتأثير المتبادل والتداخل، والإلتقاء في ماهية الأعمال والأفعال الصالحة.
ولم تقل الآية “وما فعلوا من خير فلم يكفروه” بل ذكرت الفعل والجزاء بصيغة المضارع “وما يفعلوا” وفيه دلالة على إرادة المسلمين وأجيالهم المتعاقبة، وان الآية وعد كريم ينبسط على كل أيام الحياة الدنيا، وندب الناس لدخول الإسلام وفعل الصالحات واتيان الطاعات وان الدنيا مزرعة الآخرة.
قانون “لن يكفروه”
لم يرد لفظ “يكفروه” الا في هذه الآية الكريمة، وهو مدرسة في بيان آية إعجازية في الفضل الإلهي وإدخار الصالحات لأصحابها، وعدم حجبها عنهم، وفيه دعوة للمسلمين الى الإفتخار والإعتزاز بما قاموا به من الصالحات ، وتحضر مضامين هذه الآية في فعل الخير في حالات هي:
الأولى: قبل الشروع بفعل الخير بإدراك حقيقة على نحو القضية الشرطية وهي ان فعله للخير مدخر ومحفوظ.
الثانية: عند تهيئة الفعل، والإتيان بمقدماته البعيدة والقريبة، اذ يأتي بها العبد بشوق ورغبة وإرادة تحصيل الفعل الحسن والعمل الصالح.
الثالثة: حال الشروع في فعل الخير والتلبس به، سواء كان من الإيقاع والوقوع من طرف واحد، أو انه يستلزم المفاعلة ووجود طرف ثانِ كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة: بعد الإتيان بفعل الخير وإتمام العمل الصالح فان السكينة والأمل يملآن نفس المؤمن لنيل الوعد الإلهي الذي جاءت به هذه الآية المباركة التي جاءت بصيغة الإبهام حتى في زمانها وان حصرته بالمستقبل بالحرف “لن”.
والإبهام هنا نعمة إلهية عظيمة تتغشى الإنسان في حياته الدنيا وفي الآخرة لأصالة الإطلاق ولأن الله سبحانه يرزق بالأوفى والأتم، فهذه الآية رحمة حاضرة وواقية من التهلكة في النشأتين، وهي دعوة للمواظبة على فعل الصالحات وعدم تركها الى ضدها، وفيه دلالة على تعاهد الآيات القرآنية لأفعال الخير، وتثبيت مفاهيم الصلاح في الأرض فمتى ما شعر الإنسان ان فعله للخير محفوظ ومدخر وهو يقر ويعترف ويدرك بالوجدان والعقل والحواس انه محتاج فقير وان إدخار الحسنات ينفعه في النشأتين فانه يحرص على إتيان الطاعات، ويجتهد في فعل الصالحات وهذا الإجتهاد برزخ دون ارتكاب السيئات، وإقتراف الذنوب والسعي اليها.
لقد جاءت هذه الآية بشارة ووعداً كريماً اذ انها أخبرت عن عدم ضياع أعمال أهل الإيمان، وفيه وجوه:
الأول: الجزاء وترتب الأثر في الحياة الدنيا، وهو على وجوه:
الأول: لن تضيع أعمال المؤمنين بل تتجلى في أسباب الرزق وسعته.
الثاني: تظهر منافع الإيمان وفعل الخير بالذرية الصالحة التي ترث مبادئ الإيمان وتتعاهد فعل الصالحات.
الثالث: تنعكس آثار فعل الخير بالسلامة من الأمراض والآفات.
الرابع: فعل الخير أمن وسلامة من الفقر والفاقة والعجز عن الفعل، فالمبادرة الى الخيرات سبب في بقاء القدرة على العمل والإنفاق.
الخامس: الأهلية والمنزلة المناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن يبادر الى فعل الخيرات يصلحه الله عز وجل للإستمرار في فعله، ويطرد عنه أٍسباب الوهن والضعف.
السادس: إكرام الناس للمؤمن الذي يعمل الصالحات، وإحرازه لثقتهم به، وهذه الثقة مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإمامة الناس في سبل الخير، وإيجاد اذن صاغية لدعوته في أعمال البر والصلاح.
السابع: زيادة الهدى، والثبات على الإيمان والإجتهاد في فعل الطاعات.
الثاني: الجزاء الكريم في الدار الآخرة، وهو على وجوه:
الأول: الثواب الجزيل على فعل الخير.
الثاني: فعل الخير واقية من عذاب البرزخ.
الثالث: رجحان كفة الحسنات يوم القيامة.
الرابع: إتيان العبادات وفعل الصالحات حرز من حر جهنم وما فيها من العذاب الأليم.
الخامس: نماء وزكاة فعل الخير يوم القيامة.
السادس: الجزاء الحسن بدخول الجنة على إتيان الطاعات وفعل الصالحات.
الثالث: الجامع الجميل للجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، ولا يقدر على هذا الجزاء او جزء قليل منه الا الله تعالى، مما يدل على ان الآية وعد كريم وبشارة وفضل من عند الله.
والملك كله له تعالى، وبيده مقاليد الأمور، والآية الكريمة من اللطف الإلهي وتقريب العباد لفعل الطاعات وإعانتهم على فعلها وإتيان المندوبات، والتحلي بالصفات التي ذكرتها الآيتان السابقتان، وتثبيتها في الأرض لتكون نبراساً للمسلمين، ودعوة للهداية والرشاد، وحثاً لعموم أهل الكتاب لنبذ التعدي على المسلمين، والخروج عن الطاعة، وفي الآية بشارة لكل الصالحين بان الله عز وجل يحفظ لهم أعمالهم، ويعني هذا الحفظ الجزاء الحسن والثواب الكريم.
قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ]
جاء هذا الشطر من الآية خاتمة لها وقانوناً ثابتاً في الحياة الدنيا والآخرة، ويتضمن التشريف للمسلمين الذين يخشون الله عز وجل بالغيب، ويجتهدون في طاعته، ويحرصون على الإمتثال لأوامره، ومن صفات الله تعالى انه عالم بكل شيء، وعلمه سابق للأشياء، وكل شيء حاضر عنده لا يغيب عن علمه ، ولكن الآية جاءت بخصوص المتقين فلابد من دلالات خاصة لها في المقام منها:
الأولى: الآية إكرام لأهل الإيمان والتقوى.
الثانية: ذكر علمه تعالى بالمتقين في الآية بشارة ووعد كريم للمسلمين، وإخبار عن إحرازهم الثواب والأجر على إتيانهم الصالحات.
الثالثة: خاتمة الآية أعم في موضوعها من صفات الذين جاءت الآيتان السابقتان في مدحهم، وتفتح أبواب العمل الصالح للمسلمين، وتجعل حياتهم نضرة تزهو بالمبادرة الى فعل الخير.
الرابعة: تلازم الآية المسلمين والمسلمات في عباداتهم ومعاملاتهم، وتجعلهم يستبشرون بإدخار وحفظ ما يؤدونه من العبادات.
الخامسة: في الآية دعوة للمسارعة في الخيرات والتسابق فيها، لما في الإخبار عن علم الله تعالى بحال المتقين من الحث على اتيان الصالحات.
السادسة: لم تقل الآية بان الله يعلم ما يفعله المتقون، بل أخبرت عن علمه تعالى بالمتقين أشخاصاً وأمة وأفعالاً.
وفيه إشارة الى نصرتهم من عند الله وإعانتهم على سبل الخير والصلاح، وتيسير أسباب فعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع البلاء والأذى عنهم، والمنع من التعدي عليهم، ومنه قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
لقد جاءت الآية للإخبار عن شكر الله تعالى للمؤمنين على فعلهم الصالحات وتوكيد انه تعالى شاكر عليم يعطي الكثير بالقليل، يهدي الناس الى سبل الخير، ويدعوهم الى المبادرة الى الصالحات وأعمال البر ويقترن مع الدعوة الإخبار عن شكره وثوابه تعالى على فعلهم، فصحيح ان الثواب يأتي متعقباً لفعل الخير والصلاح الا ان الإخبار عن الثواب يأتي مصاحباً للدعوة الى ما يستحق عليه العبد الثواب، وتلك نعمة إضافية وفضل من الله على المسلمين والناس جميعاً، وهذه المصاحبة عون للإنسان على فعل الصالحات وترغيب بها.
لقد جاءت الآيات القرآنية بحث المسلمين على تقوى الله، وفي خطاب للمسلمين في موضوع الحج قال تعالى [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
وتبين الآية ان فعل الخير الذي يأتي بقصد القربة طاعة الله من مصاديق تقوى الله والخشية منه ورجاء ثوابه ولقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، وهو محتاج لفضل الله وجلب الرزق ودفع البلاء، وكذا فانه محتاج لتقوى الله وربما لم يذكر على نحو التفصيل في علم الكلام موضوع حاجة الإنسان لتقوى الله مع انها مدرسة عقائدية وأخلاقية.
وجاءت الآيتان السابقتان في وصف حال المؤمنين من أهل الكتاب وخصالهم الحسنة بتلاوة آيات الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في الخيرات وجاءت هذه الآية بالإخبار عن عدم تضييع أعمالهم.
اما خاتمة الآية فجاءت بذكر ما هو أخص وهو حال المتقين وعلم الله تعالى به، وبين المتقين والمؤمنين عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مؤمن وليس العكس، وقد يقال بينهما تساوِ، فجاءت خاتمة الآية لحث أهل الكتاب على دخول الإسلام فمن مصاديق الخشية من الله التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته وإتباعه وفيه آية إعجازية وشاهد على أن مراتب الإيمان متعددة وان التقوى تتجلى في القول والفعل وأداء العبادات والفرائض والتسابق في الخيرات قربة الى الله تعالى، وليس رياء او زلفة لأحد أو حمية وعصبية، بل يؤتى بفعل الخير والإحسان طلباً لرضا الله عز وجل وحباً له سبحانه، وشوقاً الى لقائه وإقراراً بالجزاء والثواب وانه تعالى مالك كل شيء، ولا يغيب عن علمه شيء.
علم المناسبة
ورد ذكر المتقين في القرآن تسعاَ وأربعين مرة تتضمن جميعها مدح أهل التقوى والصلاح وما هم عليه من الصبر والهداية وجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
وما أعد الله عز وجل لهم من المقام الكريم في دار الخلود والنعيم الدائم في الآخرة، قال تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ] ( ).
وجاءت هذه الآية لحث المسلمين على فعل الخيرات، والندب الى الصالحات، والمنع من الأخلاق المذمومة والمناجاة بالبخل والشح، ومن اللطف الإلهي مجيء هذه الآية لإعانة المسلمين على فعل الخير، وترغيب أهل الكتاب والناس جميعاً، ويأتي هذا الفعل بواسطة القرآن وهذه الواسطة دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمافي القرآن من الإعجاز، وشاهد على حاجة الإنسان للإسلام كبيراً كان أو صغيراً، ذكراً أو انثى، حراً أو عبداً، عربياً أو أعجمياً، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
فجعل الله عز وجل التقوى هي المائز وعلة التفضيل، وهو دليل على ان أفضلية المسلمين على غيرهم بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] هو احرازهم أعلى مراتب التقوى والخشوع لله تعالى من بين الأمم، ومن مصاديق خشوع وخشية المسلمين من الله مبادرتهم الى الخيرات وإدراكهم لحقيقة وهي ان فعل الطاعات واجب وهو واقية من ضرر الكفار في الدنيا، وحر جهنم في الآخرة، وجاءت الآية بالإخبار عن علم الله تعالى بالمتقين ويتضمن هذا الإخبار وجوهاً:
الأول: توكيد كتابة الحسنات للمسلمين على حسن إيمانهم وفعلهم الخير.
الثاني: الإخبار عن علم الله تعالى بكل فعل حسن من أفعال المسلمين لأن الآيتين السابقتين جاءتا بذكر الصفات الحميدة التي يتصفون بها، وجاءت هذه الآية للإخبار عن عدم ضياع كل فعل حسن يفعلونه.
الثالث: الآية إنحلالية من وجوه:
الأول: ان الله عز وجل يعلم بكل متقِ.
الثاني: يتضمن الإخبار عن علم الله سبحانه بحال وفعل كل متقِ الإشارة الى تفضله تعالى بالذب عن المؤمن ودفع الضرر عنه قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
الثالث: الآية بشارة وجود المتقين بين الناس وعلم الله تعالى بهم.
الرابع: إظهار التقوى وعلامات الإيمان، وجعل الناس يعلمون بأفعال المتقين ذات صبغة الصلاح كي تكون سبباً للهداية العامة وحجة على أهل الفجور والجحود.
الرابع: الأصل هو توجه خطاب التقوى الى الناس جميعاً قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] ( ).
وتدل آيات القرآن على فوز المسلمين بتعدد خطابات التقوى المتوجهة اليهم من وجوه:
الأول: يأتيهم الخطاب بصفتهم أفراداً من الناس، فلفظ يا ايها الناس يشمل المسلمين، وبينهم عموم وخصوص مطلق، فكل مسلم هو انسان وليس العكس.
الثاني: مجيء الأمر للمسلمين بتقوى الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا] ( )، وكثيرة هي الآيات التي ترد بحث المسلمين على التقوى مع بيان موضوع من مواضيعها، ومصداق من مصاديق التقوى في العبادات والمعاملات، لتكون التقوى والأمر الإلهي بها عوناً لهم على بلوغ مراتبها ونيل الثواب العظيم.
الثالث: الإتعاظ والإعتبار من الأمم الأخرى، وورود الآيات القرآنية بحثهم على التقوى والصلاح، قال تعالى [لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ] ( )، فينتفع المسلمون من خطابات التقوى، ووسائل حث الناس على الإيمان وخشية الله عز وجل، فيأتي الخطاب التكليفي لأهل الملل الأخرى، فينتفع المسلمون منه، ويحرصون على تقوى الله، ويتقيدون بالفرائض والمناسك، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس وفي تقيدهم بالواجبات حجة على الناس، ودعوة لهم للإيمان.
ويبتنى الحكم على جلب المصلحة ودفع المفسدة وما يسمى بوجود المقتضي وفقد المانع.
وجاءت الشريعة الإسلامية خاتمة للأديان السماوية وجامعة للأحكام والعبادات والمعاملات وما يجب على الإنسان فعله، وما يحرم عليه إتيانه بآية إعجازية وهي ملائمتها لكل الأزمنة والأمكنة، وجاء الحث على التقوى سوراً جامعاً وسبيل هداية ودعوة الى الناس للتنافس والتسابق والمبادرة الى فعل الخير والتمسك بالإيمان، ولا يستلزم أمر التقوى بلوغ مرتبة الإجتهاد ، والحاجة الى الرجوع الى الفقيه، وهذه الآيات شاهد بان القرآن هو الإمام وتقود إمامته الناس في مسالك الخير وسبل الصلاح والفلاح.
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] الآية 116.
الإعراب واللغة
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا]
ان الذين: ان واسمها.
كفروا: فعل ماض، والواو فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول.
[لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ]
لن: حرف نصب، تغني: فعل مضارع منصوب ب(لن).
عنهم: جار ومجرور متعلقان بتغني.
أموالهم: فاعل مرفوع بالضمة، وهو مضاف، والضمير (هم): مضاف اليه.
[وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ] معطوف على أموالهم، من الله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
شيئاً: مفعول به، وقيل انه مفعول مطلق.
وجملة لن تغني في محل رفع خبر الحرف المشبه بالفعل “ان”
(واولئك اصحاب النار)
الواو: حرف عطف، اولئك: اسم إشارة مبتدأ.
أصحاب: خبر مرفوع بالضمة، وهو مضاف، النار: مضاف اليه.
من أسماء الله “الغني” وغناه تعالى مطلق، وهو الذي لا يحتاج الى شيء ، وكل شيء محتاج اليه وجوداً وإستدامة وعدماً، ومن أسمائه تعالى “المغني” وهو الذي يغني من يشاء من عباده ويرزق من يشاء بما يكفيه ويسد حاجته، والغنى: اليسار، واستغنى الله أي سأل الله ان يغنيه وفي الدعاء: اللهم اني استغنيك عن كل حازم، واستغنيك عن كل ظالم( ).
ويقال: ما يغني عنك هذا أي ما يجزء عنك، وما ينفعك، واغنى الله الرجل حتى غني غنى أي صار له مال، وفي التنزيل [وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى] ( )، أي صار الغنى اصلاً ثابتاً عنده، ورزقه الله ما يرضيه ويدخره بعد الكفاية.
والأموال: جمع مال وهو ما يملكه الإنسان من الأعيان والعروض والذهب والفضة والنقود الورقية، وقال الجوهري: ذكر بعضهم ان المال يؤنث، وأنشد لحسان:
المال تزري بأقوام ذوي حسب وقد تسود غير السيد المال
فلم يقل المال يزري .
ويقال مال الرجل يمول ويمال مولاً ومؤولاً: أي صار غنياَ صاحب مال .
في سياق الآيات
في نظم الآية وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية وألآيات السابقة وفيه مسائل:
الأولى: جاءت الآية “101” بندب المسلمين للدعوة الى الإيمان والخير والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلة بينها وبين هذه الآية على وجوه:
الأول: حث المسلمين على دعوة الكفار الى الإيمان بالموعظة والحكمة وإقامة الحجة والبرهان، وبمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأخرى ومنها اليد مع الإمكان وتعذر الإنتفاع من القول والنصح والترغيب والإرشاد.
الثاني: من صيغ الحجة على الكفار عدم إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم في النشأتين.
الثالث: هذه الآية من الشواهد على ان المسلمين خير أمة أخرجت للناس لأنهم يبينون للكفار عدم إجزاء الأموال والأولاد عنهم وتدعو الناس كافة للإعتبار من حال الكفار وما هم فيه من حال الخسارة المستديمة.
الرابع: بيان عموم وظيفة المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشمولها للكفار ايضاً.
الخامس: ذكر مادة وموضوع لتفضيل المسلمين بذكر خلة وسبب للمرجوحية عند غيرهم، وموضوعين للدعوة والأمر والنهي وهما:
الأول: عدم إنتفاع الكفار من أموالهم.
الثاني: حرمانهم من الإنتفاع من أولادهم.
السادس: مدحت الآية (104) من سورة آل عمران المسلمين وأختتمت بالبشارة ووصفهم بانهم المفلحون، أما الآية محل البحث فأختتمت بالوعيد والإنذار للكافرين ونعتتهم بانهم أصحاب النار.
الثانية: جاءت الآية (106) بتقسيم الناس الى قسمين في الآخرة قسم يأتون ووجوههم بيضاء مشرقة، وقسم يأتون ووجوههم سوداء قاتمة يتوجه لهم الذم واللوم لإختيارهم الكفر والجحود، وفيه وجوه:
الأول: توكيد حقيقة وهي ان الكفار هم الذين تسّود وجوههم يوم القيامة.
الثاني: من وجوه اللوم الذي يوجه الى الكفار ان اموالهم وأولادهم لم تنفعهم في الآخرة.
الثالث: وجود نوع ملازمة بين عدم الإنتفاع من الأموال والأولاد في الآخرة وبين سواد الوجه فيها، ووجود ملازمة بين الإنتفاع من الأولاد والأموال في مرضاة الله في الآخرة ببياض الوجوه فيها.
الرابع: الكفر علة تامة لسواد الوجوه يوم القيامة، وسبب لعدم الإنتفاع من الأموال والأولاد.
الخامس: جاءت الآية (105) بذكر العذاب العظيم الذي ينتظر الكفار ، أما هذه الآية فذكرت انهم خالدون في النار، مما يدل على ان العذاب الذي ينال الكفار هو عذاب جهنم.
السادس: بيان عدم إنتفاع الكفار من الأموال والأولاد وهو الكفر لقوله تعالى في آية [تَبْيَضُّ وُجُوهٌ] [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] في خطاب للذين تسود وجوههم يوم القيامة.
السابع: حرمان الكفار يوم القيامة من صيرورة الأموال والأولاد واقية لهم من عذاب النار.
الثالثة: ذكرت الآية (107) بياض وجوه المسلمين يوم القيامة وكيف انهم خالدون في رحمة الله ، وفيه وجوه:
الأول: الصلة بينها وبين هذه الآية هي ان المسلمين إنتفعوا من أموالهم وسخروها في رضا الله تعالى، وأدبًوا اولادهم على طاعة الله،وتركوا عندهم الإيمان بالله ورسوله وديعة وأمانة.
الثاني: من البيان والحكمة والموعظة بيان حال المؤمنين في الآخرة وحث الكفار على اللحاق بهم، ومن الآيات ان جعل الله عز وجل باب الدخول الى الإسلام مفتوحاً، وولوج سبل الإيمان ومسالك الهداية أمراً متيسراً للناس جميعاً.
الثالث: آية “ابيضت وجوههم” دعوة للكفار للإيمان، والإنتفاع من الأموال والأولاد، وزجر لهم عن تضييع نعمة المال والولد في الآخرة.
الرابع: توكيد التباين في الجزاء بين الذين ينتفعون من الأولاد والأموال ويجعلونها في طاعة الله، وبين الذين يفرطون بها ويخسرون النشأتين.
الرابعة: الصلة بين آيتي الوجوه( )، وهذه الآية وفيه وجوه:
الأول: موضوعية الإيمان أو الكفر في تعيين المقام والمثوى في الآخرة.
الثاني: الكفر والجحود سبب لحجب نعمة بياض الوجه في الآخرة.
الثالث: دعوة الكفار للإلتفات الى مسألة بياض وسواد الوجوه في الآخرة، ولزوم السعي لنيل نعمة بياض الوجوه في الآخرة، والتي لايمكن بلوغها الا بالإيمان والتقوى ، وتسخير الأموال والأولاد في طاعة الله عز وجل والمبادرة في الخيرات.
الرابع: لا تنحصر أضرار الكفر والجحود بسواد الوجه يوم القيامة بل تشمل العذاب الأليم في الآخرة.
الخامس: الإخبار عن حال الوجوه يوم القيامة ترغيب بالإيمان والإنتفاع من الأموال والأولاد، وتحذير وإنذار من الكفر وما يؤدي اليه من العقوبة، من سواد الوجه المستديم، والعذاب الشديد المتصل.
السادس: مخاطبة القرآن للعقل الإنساني وترغيب الكفار والناس جميعاً بالإيمان والإنتفاع من الأموال والأولاد، وبيان منافع الإيمان ببياض وإشراقة الوجوه.
الخامسة: الصلة بين الآية محل البحث والآية “108” آية “نتلوها عليك” وفيه وجوه:
الأول: من آيات بيان عدم إنتفاع الكفار من أولادهم.
الثاني: تحذير الآية محل البحث من سواد الوجوه في الآخرة، وأسبابه.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار.
الرابع: أختتمت آية “نتلوها عليك” بقوله تعالى [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ] والآية محل البحث شاهد على تنزه الله تعالى عن الظلم مطلقاً بإقامة الحجة على الكفار وإنذارهم وتحذيرهم.
الخامس: تبين هذه الآية آيات من عند الله تتعلق بأمور الحساب والجزاء في الآخرة.
السادسة: الصلة بين هذه الآية والآية “109” آية (والى الله ترجع الأمور) وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن كون الدنيا والآخرة من ملك الله عز وجل.
الثاني: عائدية وعودة الأموال الى الله تعالى، وفيه حث للناس جميعاً للإنتفاع من الأموال وتسخيرها في طاعة الله، وفعل الخيرات، وأعمال البر والإحسان.
الثالث: دعوة الكفار والناس جميعاً الى الإنفاق في سبيل الله، والسعي في أبواب الخير والبر والإحسان، وان الله تعالى يخلف الصدقة والإنفاق أضعافاً مضاعفة.
الرابع: أخبرت الآية “109” عن كون كل ما في السماوات والأرض ملكاَ لله تعالى، ويدخل في ملكه تعالى أموال وأولاد الكفار، فأخبرت هذه الآية عن حجب الله تعالى ملكه عن الكفار وعجزهم عن الإنتفاع منه وان كان ظاهراً في أيديهم، فان قلت لماذا لم يحجب عنهم جوارحهم وفعلهم، قلت: انه من الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا ومثل هذا الحجب حاصل على نحو السالبة الجزئية بعجز الكفار عن تحقيق ما يريدون من المكر والإضرار بالمسلمين.
الخامس: تحذير الكفار والناس جميعاً من الخسارة وتضييع الأعمال في الآخرة.
السادس: الإخبار عن عالم الحساب والجزاء في الآخرة.
السابعة: الصلة بين آية “كنتم خير أمة” وهذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: شكر المسلمين لله على إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم في مرضاة الله.
الثاني: في خروج المسلمين للناس بيان لحال الكفار وخسارتهم في الآخرة.
الثالث: مضامين هذه الآية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اذ انها تدعو المسلمين لتوجيه الأمر للكفار بالإنتفاع من أموالهم وأولادهم، وزجرهم عن تضييعها في الدنيا والآخرة.
الرابع: ورد في آية (كنتم خير أمة اخرجت للناس) قوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] وفي الآية محل البحث بيان وتفسير لنعمة الإيمان وأسباب التفضيل فيها بأن ينتفع من آمن بالله ورسوله من ماله وولده.
الخامس: الزجر عن الفسق والخروج عن الطاعة، والإخبارعن كونه سبباً في تضييع الأعمال.
السادس:الدلالة على ان المسلمين هم خير أمة لإنتفاعهم من أموالهم وأولادهم التي رزقهم الله عز وجل في الدنيا، وجعلها وسيلة مباركة لإكتناز الصالحات في الدنيا، ونيل المراتب العالية في الآخرة.
السابع: الآية شاهد على خروج المسلمين للناس جميعاً ببيان حاجة الكفار الى الزجر والوعيد، والإخبار عن عدم إتخاذهم الأموال والأولاد واقية من العذاب الأخروي.
الثامن: جاء الإخبار عن قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة المضارع في آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] وجاءت هذه الآية عوناً للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي باقية الى يوم القيامة، يتلوها المسلمون في صلاتهم ومساجدهم، وفي الإحتجاج على الكفار، وإقامة البرهان على خسارتهم مما يدل على إستدامة قيام المسلمين بالجهاد والتبليغ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التاسع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب إنتفاع الإنسان والجماعة من الأموال والأولاد، وفيه شاهد على ان المسلمين خير أمة لفوزها بالإنتفاع المطلق في الدنيا والآخرة من الأموال والأولاد.
العاشر: لقد جعل الله عز وجل المسلمين أتباعاً لخاتم النبيين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجهم للناس لينقذوهم من عذاب النار والخلود فيها، ويتجلى السعي لإنقاذهم بتحذيرهم وإنذارهم وبيان حقيقة وهي ان الكفر مانع من الإنتفاع من المال والولد، وهذا المانع سبب للتخلية بين الكافر وبين النار، وإنعدام الشفيع.
الحادي عشر: الخطاب في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] توليدي موجه لكل جيل من المسلمين، مما يدل على ان الآباء من المسلمين إنتفعوا من الأبناء، وأحرزوا الثواب من أقوالهم وأفعالهم، وتقيدهم بإخراج الحقوق الشرعية من أموالهم، وهو من خصائص خير أمة ، وهم المسلمون على نحو الحصر والتعيين ودلالة الشواهد.
الثاني عشر: المسلمون أسوة للناس في كيفية الإنتفاع من الأموال والأولاد، وفي سيرتهم وحسن سمتهم دعوة للناس جميعاً للإقتداء بهم،فدفع المسلم الزكاة للمستحقين دعوة للناس للتقيد بالواجبات المالية والاحسان الى الأخرين، وجعل موضوعية لقصد القربة في الانفاق وعندما يؤدب المسلم أولاده على أداء الفرائض فانه يبين للناس وظائف الأبوة التي تنفع الإنسان في النشأتين، وهو من خصائص خير أمة، وفيه دليل على التباين بين المسلمين والكفار في الفعل والعاقبة.
الثالث عشر: جاءت في آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] شهادة من عند الله عز وجل بان المسلمين يؤمنون بالله، وفيه دعوة سماوية للكفار والناس جميعاً للإيمان بالله وإجتناب الكفر والضلالة.
الرابع عشر: ان الفاسقين لا تجزي عنهم أموالهم وأولادهم في الآخرة.
الخامس عشر: في الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين كخير أمة بالصبر وعدم الإفتتان عند رؤية أموال وكثرة عدد وأولاد الكفار، لأنهم لا يجزون عنهم في الآخرة ولن يكفوا عنهم حر النار.
فمن اللطف الإلهي بالمسلمين مجئ القرآن بقصص وبيان أحوال الأمم عبرة وموعظة للمسلمين ، وهو من خصائص خير أمة ان يأخذوا الدروس والمواعظ من الأمم، ويروا النعم الإلهية عليهم عند المقارنة ورؤية التباين بينهم وبين عدوهم.
الثامنة: الصلة بين هذه الآية وآية “لن يضروكم” وهي على وجوه:
الأول: توكيد عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين، ومن أسباب عدم إضرارهم بالإسلام والمسلمين عدم إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم لأن عدم الإنتفاع هذا عنوان وسبب للضعف والوهن.
الثاني: لو إجتمع الكفار في إرادة التعدي على المسلمين فلن يستطيعوا الإضرار بهم لأن العجز عن الإنتفاع من الولد والمال يجعل الفرد والجماعة عاجزين عن تحقيق الغايات الخبيثة في الإضرار بالمسلمين.
الثالث: يدل الجمع بين الآيتين على ان من بين أسباب عدم إضرار الكفار بالإسلام والمسلمين إنشغالهم بأنفسهم، وإدراكهم لضعفهم وعجزهم عن إيجاد المدد والمؤونة الكافية للتعدي على المسلمين.
الرابع: يفيد الجمع بين الآيتين بيان قاعدة كلية وهي ان الذي يتعذر عليه الإنتفاع من ماله وولده لا يستطيع الصبر في القتال، وهو أمر ظاهر للعيان وتدل عليه الوقائع والأحداث.
الخامس: تحذير وإنذار الكفار من التعدي على المسلمين ببيان حقيقة الضعف والوهن عند الكفار والمترشح عن عجزهم عن توظيف أموالهم وأولادهم في محاولة الإضرار بالمسلمين.
السادس: قلة عدد الكفار عند إشتداد القتال، وترى أبناء هم والذين تبعوهم طمعاَ بالمال والصلة يبادرون الى الفرار من ساحة المعركة.
السابع: زجر الكفار عن التعدي على المسلمين، ودعوتهم للكف عن قتال المسلمين ببيان عدم إجزاء الأموال والأولاد عنهم في القتال وبعد القتال.
الثامن: تخلي اولاد الكفار عن آبائهم، وعدم إنتفاعهم من أموالهم من مصاديق إنعدام النصرة والمدد عنهم، والذي تدل عليه خاتمة آية “لن يضروكم” وهي [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ].
التاسع: وردت آية [لن يضروكم] بصيغة المضارع مما يدل على إستدامة عجز الكفار وعدم إنتفاعهم دائماً من أموالهم وأولادهم.
العاشر: من البديهيات حاجة المقاتلين والغزاة الى المال، وتبين الآية ان الكفار لن ينتفعوا من أموالهم في قتال المسلمين، وإن وظفوها في قتال المسلمين فانهم يخسرونها ويتركونها وراء ظهورهم عندما يولون الأدبار فيكون الجمع بين الآيتين شاهداً على عدم إنتفاعهم من أموالهم.
ومن الآيات مجيء موضوع القتال وتعدي الكفار على المسلمين بصيغة الشرط [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ] أي انهم لن ينتفعوا اصلاً من الأموال في العزم على القتال وان جعلوها مادة للقتال فانهم يفقدونها.
الحادي عشر: عدم إجزاء وكفاية الأموال والأولاد عن الكفار في القتال.
الثاني عشر: أختتمت آية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] بقوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] وجاءت خاتمة هذه الآية بالإخبار عن خلود الكفار في النار، مما يدل على ان أموالهم وأولادهم لن تكون واقية لهم يوم القيامة، وان أولادهم لم يفعلوا ما يعود على الآباء بالنفع في الآخرة لأنهم ورثوا عنهم الكفر والضلالة.
التاسعة: الصلة بين هذه الآية وآية [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) وفيه وجوه:
الأول: عدم الإنتفاع من الأموال والأولاد من أسباب حلول الذلة بالكفار، وكذا حلول الذلة فانه سبب لعدم الإنتفاع من الأموال والأولاد، ومن الآيات اجتماعهما في محل واحد وهو الكفار، ونجاة المسلمين منهما معاً والى يوم القيامة، وهذه النجاة من خصائص خير أمة وأسباب تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم.
لقد أراد الله عز وجل بنجاة المسلمين منهما دعوة الناس للإسلام، وبعث الشوق في نفوسهم للإيمان، وأراد الله سبحانه من إجتماع عدم إنتفاع الكفار من الأموال والأولاد ونزول الذلة بهم زجرهم عن البقاء على الكفر، ودعوة أبنائهم الى التخلي عن مفاهيم الضلالة والشرك التي عليها آباؤهم.
الثاني: لقد جعل الله عز وجل الأموال والأولاد أسباباً للعزة والتخفيف وتيسير قضاء الحوائج، ويتضمن ضرب الذلة على الكفار في مفهومه عدم إنتفاع الكفار من الأموال والأولاد في الحياة الدنيا.
الثالث: ضرب الذلة على الكفار شاهد على فقرهم وعوزهم وحاجتهم، وعدم وجود أسباب للتخلص منها، واليأس من الإستفادة من المال والولد لرفعها.
الرابع: من غضب الله عزوجل على الكفار حرمانهم من الإنتفاع من الأموال والأولاد مع كثرة الأموال وتعدد الولد.
الخامس: يجعل ضرب الذلة المسكنة والهوان على الكفار عاجزين عن الإستفادة من الأموال والأولاد عند الحاجة.
السادس: ورد في آية [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] ويجعل إصرار الكفار على المعصية والتعدي اولادهم ينفرون منهم، ويبتعدون عنهم.
السابع: إرتكاب الكفار للمعاصي يجعل توظيف الأموال في غير محلها، ويكون مصداقاً عملياً لهذه الآية.
الثامن: تعتبر الأموال والأولاد آية ونعمة من عند الله، ولكن الكفر مانع من الإنتفاع من هذه النعمة المركبة.
التاسع: من أقبح وجوه الكفر قتل الأنبياء، والرضا به، وقد ورد في آية [إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] الإخبار السماوي عن قتل الكفار للأنبياء، وهو سبب لإرتفاع البركة، ونزول السخط الإلهي.
العاشر: يفيد الجمع بين الآيتين توكيد الملازمة بين الكفر والتعدي، وترشح المعصية والتعدي عن الكفر، فيأتي العقاب الإلهي بعدم إنتفاع الكفار من الأموال والأولاد كي لا تكون مجتمعة ومتفرقة سبباً في زيادة معصية وتعدي الكفار.
العاشرة: الصلة بين آية [لَيْسُوا سَوَاءً] وهذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: بيان حال المؤمنين من أهل الكتاب ومدحهم والثناء عليهم، اما هذه الآية فبينت سوء عاقبة الكافرين وفيه توكيد للتباين بين الهداية والضلالة، وجلب المنافع بالإيمان ونزول البلاء والسخط الإلهي بإختيار الكفر.
الثاني: إقامة الحجة على الفاسقين من أهل الكتاب بوجود أمة منهم يؤمنون بالله واليوم الآخر.
الثالث: دعوة الكفار للإيمان وتلاوة آيات الله، وهذه التلاوة برزخ دون الحرمان من نعمة المال والولد.
الرابع: دعوة المسلمين للفصل والتمييز بين أهل الكتاب بلحاظ الإيمان والفسق.
الحادية عشرة: الصلة بين آية [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( )، بالإخبار عن المسارعة في الخيرات وبين هذه الآية ، ومن مضامين ومادة فعل الخيرات الإنتفاع من الأموال والأولاد لتكون وسائل كريمة لفعل الخير والمبادرة فيه، ويدل في مفهومه على حرمان الكفار من هذه النعمة.
السادس: إذا كان المؤمنون يتخذون من الأموال والأولاد وسائل لفعل الخير والمبادرة فيه، فان الكافرين يفتقرون الى نعمة الإنتفاع من الأموال والأولاد.
السابع: أختتمت آية [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] بالمدح والوصف بإنتماء الذين يؤمنون بالله بانهم من الصالحين، ومن صفات الصالحين الإنتفاع من الأموال والأولاد في مرضاة الله، بينما جاءت هذه الآية بانعدام إنتفاع الكفار من الأموال والأولاد.
الثانية عشرة: الصلة بين آية [وَمَا يَفْعَلُوا]( ) وبين هذه الآية وفيها وجوه:
الأول: يفعل المؤمنون بالله عز وجل الخير وما هو حسن شرعاًُ وعقلاً، أما الكفار فانهم إختاروا الجحود والإبتعاد عن سبل الحق.
الثاني: يلقى المؤمنون الجزاء الحسن على أدائهم الفرائض والطاعات وقيامهم بالمستحبات، أما الكفار فانهم محرومون من الجزاء الحسن.
الثالث: يتعذر على الكفار الإنتفاع من أموالهم وأولادهم في سبل الخير.
الرابع: يستطيع المؤمنون بالله نيل مرتبة التقوى بالخشية من الله، أما الكفار فانهم إختاروا الضلالة والجحود.
الخامس: ذكرت آية (وما يفعلوا) المؤمنين بالمدح والثناء والوعد الكريم، أما هذه الآية فجاءت بالذم والوعيد للكافرين مما يدل على تضمن القرآن لآيات البشارة والإنذار، والوعد والوعيد.
السادس: لقد أراد الله عز وجل بالشرائع وبعث الأنبياء حفظ الناس في أنفسهم ودينهم وعقولهم وأولادهم وأموالهم، وفي إحراز هذه الأصول الخمسة مصلحة، وفي فواتها وتضييعها مفسدة.
السابع: لقد أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن علم الله تعالى بالمتقين، أما هذه الآية فجاءت بذم الكافرين وبيان سوء عاقبتهم، وما ينتظرهم من العذاب الأليم.
القسم الثاني: الصلة بين هذه الآية والآيات التاليات، وفيه جهات:
الأولى: الصلة بين هذه الآية والآية التالية، وفيه وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية بالإخبار عن ذم الكفار وذهاب أموالهم وأولادهم من غير ان ينتفعوا منها، وجاءت الآية التالية لبيان سوء أثر وعاقبة ما ينفقونه.
الثاني: لم تنفِ الآية التالية حصول الإنفاق من الكفار ولكنها بينت ذهابه سدى، وضياعه وعدم إنتفاعهم منه في النشأتين.
الثالث: جاءت الآية التالية بصيغة المثل بمجيء الريح الباردة على الزرع مما يؤدي الى هلاكه، وكذا بالنسبة للكفار فان أنفقوا في سبل الخير فان الكفر ماحق لهذا الفعل ومانع من ترتب الأثر الحسن عليه.
الرابع: ان علة عدم إغناء أموال الكفار عنهم هو ظلمهم لأنفسهم وسوء إختيارهم الكفر والضلالة.
الخامس: لما جاءت هذه الآية بالإخبار عن ضياع أموال وأولاد الكفار جاءت الآية التالية لتنزيه مقام الربوبية، وتوكيد ظلم الكفار لأنفسهم.
السادس: يفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي ان الكفر ظلم للنفس.
السابع: جاءت هذه الآية للإخبار عن ضياع ما ينفق الكفار في الحياة الدنيا، وموضوع ضياعه يشمل النشأتين بإعتبار ان الدنيا مزرعة الآخرة، فيهلك زرع الكفار قبل ان ينتفعوا منه مما يعني حرمانهم من أسباب الثواب.
الثامن: يدل الجمع بين الآيتين على ان الكفر هو سبب ضياع ما ينفق الإنسان، وهو برزخ دون الإنتفاع من النعم الدنيوية.
التاسع: التحذير من الكفر ولزوم إجتنابه، وبيان أضراره في الدنيا والآخرة.
الثانية: الصلة بين هذه الآية والآية “118” وفيه وجوه:
الأول: لما جاءت هذه الآية بذم الكفار، وبيان عدم إنتفاعهم من أموالهم جاءت الآية بعد التالية بدعوة المسلمين الى الحذر من الكفار، وإجتناب الميل والركون اليهم.
الثاني: ظهور عداوة الكفار للمؤمنين وتجلي البغضاء على ألسنتهم في كلامهم.
الثالث: يؤدي الكفر بالإنسان الى بغض أهل الإيمان وكراهة الحق.
الرابع: يفيد الجمع بين الآيتين بعث السكينة في قلوب المسلمين، وعدم الخشية من مكر وكيد الكفار وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، فمن أسباب قلة الضرر تحذير القرآن للمسلمين، ومنعهم من الإطمئنان الى الكافرين.
الخامس: جاء في الآية التالية قوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] ومن الآيات موضوعية مضامين الآية محل البحث وما فيها من الإخبار عن عجز الكفار عن الإستفادة من أموالهم وأولادهم.
السادس: سوء سريرة الكفار، وحسدهم للمسلمين.
السابع: توكيد حقيقة وهي ان عجز الكفار عن الإنتفاع من أموالهم وأولادهم ليس حائلاً دون بذلهم الجهد للإضرار بالمسلمين، وسعيهم فيما يؤدي بالمسلمين الى المشقة والأذى، لذا فان الجمع بين الآيتين يفيد تحذير المسلمين من الكافرين، وهذا التحذير مركب من أمور:
الأول: عدم إتخاذ الكفار والمنافقين خاصة واولياء.
الثاني: الإنتباه الى السموم والمكر الخبيث في أقوالهم وسوء احتجاجهم وأظهار التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: أخذ الحائطة لما قد يصدر منهم من أسباب الحقد والعداوة التي جاءت بصيغة التنبيه بقوله تعالى [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ].
الثالثة: الصلة بين هذه الآية والآية “119” وفيه وجوه:
الأول: بيان التباين الأخلاقي بين المسلمين والكفار.
الثاني: حب ورغبة المسلمين بدخول الكفار الإسلام والإنتفاع الأمثل من الأموال والأولاد، وسعي الكفار للإضرار بالمسلمين.
الثالث: توكيد حقيقة إيمان المسلمين بالله عز وجل والأنبياء والكتب السماوية المنزلة على نحو العموم الإستغراقي، وهو أمر يختص به المسلمون، ومن أسباب تفضيلهم على الأمم الأخرى.
الرابع: تفضل الله تعالى ببيان بغض الكفار لأهل الإيمان بما يجعل المسلمين أكثر إحترازاً.
الرابع: توبيخ الكفار بإخبارهم بان الله عز وجل يعلم عداوتهم للمسلمين، وما يخفونه من المكر.
الخامس: يفيد الجمع بين الآيتين الإخبار السماوي عن عدم إضرار الكفار بالإسلام، وانهم لفقرهم وعجزهم عن الإنتفاع من أموالهم واولادهم يكتفون بالغضب النفسي وعض الأنامل على المسلمين.
وإذ ذكرت الآيات السابقة حال أهل الكتاب وتقسيمهم الى قسمين وان أكثرهم وهم الفاسقون يمكثون في غضب الله وتحل بهم الذلة والمسكنة لقبح ما فعلوه وإصرارهم على التعدي والظلم، فان هذه الآية الكريمة جاءت بخصوص “الذين كفروا” وعدم إجزاء أموالهم وأولادهم عنهم من الله عز وجل شيئاً، وفيه وجوه:
الأول: المراد الذين كفروا بالله العظيم.
الثاني: الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الذين يصرون على المعاصي.
الرابع: الذين يحاربون المسلمين، ويكفرون بالمعجزات ومنها المعجزة العقلية الكبرى القرآن، الذي جاء بالوعيد للكفار وحرمانهم من نعمة الإنتفاع الأخروي من المال والولد .
اعجاز الآية
جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية لبيان قانون ثابت في الأرض، وفيه إعجاز وتحدِ وكشف وإخبار وبيان.
اما الإعجاز فلأن الآية تخبر عن حقيقة لا يعلمها الا الله، ولا يستطيع الإخبار عنها الا هو سبحانه، فهي شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله، والمتعارف والظاهر بين الناس الإنتفاع الشخصي والنوعي من المال الخاص ومن الأولاد، فجاءت هذه الآية لتنفي هذه المنفعة عن الكفار على نحو الإطلاق.
وأما التحدي فلأن الكفار يعجزون عن إثبات خلاف هذه الحقيقة، وهي تطل عليهم كل يوم، وتكون حجة، وبرهاناً.
وأما الكشف فلأن الآية جاءت بفضح الكفار وبيان انعدام المدد والعون لهم حتى من ذاتهم وملكهم، وتلك آية في عالم الدنيا ومصداق لعائدية كل ما في الأرض لله تعالى.
وأما الكشف فان الآية دليل على ضعف ووهن الكفار وشاهد على عجز الكفار عن التصرف المطلق فيما يملكون.
واما الإخبار فان الآية بشارة عن إنتصار الإسلام وتهيئة المقدمات الغيرية لظفر المسلمين بجعل عدوهم ضعيفاً قاصراً عن بلوغ غاياته وتحقيق مقاصده.
وأما البيان فان الآية تدل على ان القوة لله جميعاً، وان الأموال والأولاد لا تكون واقية من عذاب الله ونزول بطشه وسخطه بالكفار وجعلت الآية للنار أصحاباً مع ان الملك كله يوم القيامة لله تعالى، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ).
ومن إعجاز الآية إجتماع الأموال والأولاد في الحكم مع التباين الموضوعي بينهما، فالأموال من الجوامد والأعيان التي يتصرف بها الإنسان، اما الأولاد فلكل واحد منهم إرادة وإختيار وفعل، وقد يختار ابن الكافر الإسلام ويصبح نافعاً لنفسه ولغيره، ومنتفعاً من ماله، ولكن أباه الكافر لا ينتفع منه، لأن الكفر برزخ دون نيل الثواب، لذا جاءت الآية بالجمع بين الأموال والأولاد أي ان عدم الإنتفاع من الولد مطلق وفي حال الكفر والإسلام.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “لن تغني”
الآية سلاح
لقد جاءت آيات القرآن عوناً للمسلمين في ظاهرها، ومضامينها القدسية ودلالالتها، يقتبسون منها الأحكام ويأخذون منها الدروس والمواعظ وتكون موضوعاً لتفقههم في الدين، وسبباً في طرد الجهالة والغفلة عنهم، وقسمت هذه الآية الناس الى قسمين على أساس الإنتماء العقائدي اذ ذكرت في منطوقها الكفار بلغة الذم والتوبيخ مما يدل على مدح المؤمنين والثناء عليهم.
وفي الآية دعوة للمسلمين للثبات في منازل الإيمان، والإنتفاع الأحسن من الأموال والأولاد، وجعلها أسباباً لفعل الطاعات والمسابقة في الخيرات، ونيل المراتب العالية في الجنة والخلود فيها.
ومن الآيات تنبيه وتحذير الكفار بلغة التوبيخ وفيه وجوه:
الأول: انه دعوة للكفار للإبتعاد عن منازل الكفر.
الثاني: إدراك الكفار لحقيقة وهي عدم دفع الأموال والأولاد العذاب عنهم.
الثالث: بيان موضوعية الإعتقاد والعمل في منازل الآخرة، فقد يرى الإنسان مقامه في الدنيا وأكرام وحاجة الناس له، فيستصحب هذا الحال ويظن حسن الشأن في الآخرة، فتأتي هذه الآية لتبين التباين بين عالم الدنيا والآخرة في أسباب تعيين المقام والشأن.
وتجعل الآية المسلم يشعر بالغبطة والسعادة لما في يده من المال وما عنده من الولد وتوظيفهما في مرضاة الله تعالى.
وتبين الآية ان القوة لله جميعاًً وانه سبحانه قادر على كل شيء ومن قدرته سبحانه حجب المنافع عن الكفار، ومنعهم من الإنتفاع بما في أيديهم في عالم الجزاء.
مفهوم الآية
تدل الآية على ان الأموال والأولاد نعمة من عند الله تفضل بها على الناس، وجعلها وسيلة لتحقيق الغايات ونيل المنازل في النشأتين، ويكون الإنتفاع منها على قسمين:
الأول: في الحياة الدنيا.
الثاني: في الآخرة.
وهناك تباين في مقدار وكيفية ومدة الإنتفاع بين القسمين، ويعجز الإنسان عن تقدير الفارق بينهما لسعته وانحصار أفراده في الدنيا وتعددها وكثرتها وكونها من اللامنتهي في عالم الآخرة، وتدل الآية في مفهومها على أمور:
الأول: شفاء صدور المسلمين، ومنع تسرب الحزن واليأس الى نفوسهم.
الثاني: عدم إفتتان المسلمين بالكفار وما يملكون وما تظهر عليهم من أمارات القوة والمنعة.
الثالث: بعث السكينة في نفوس المسلمين بإدراك إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم بإعتبار ان الأصل هو إنتفاع الإنسان مما رزقه الله مطلقاً، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم النفع بإختيارهم الكفر والجحود.
الرابع: توجه المسلمين بالشكر لله تعالى من وجوه:
الأول: نعمة انتفاعهم من أموالهم.
الثاني: الإستفادة من الأموال في عملهم الصالح في النشأتين.
الثالث: ضعف ووهن الكفار بسبب حجب النفع من الأموال والأولاد عنهم.
وتدل الآية في مفهومها على تعدد النعم الإلهية على الإنسان وهي في المقام على وجوه:
الأول: نعمة المال في الدنيا.
الثاني: نعمة المال في الآخرة.
الثالث: نعمة توظيف المال في الدنيا لنيل الثواب في الآخرة.
الرابع: نعمة الولد في الدنيا.
الخامس: نعمة الولد في الآخرة.
السادس: نعمة الإنتفاع من الولد في الدنيا لأغراض الآخرة وإحراز المقام الكريم فيها.
السابع: إجتماع نعمة المال والولد والإنتفاع منهما في الدنيا والآخرة وقد ينتفع الكافر من وجوه النعم أعلاه في الدنيا إنتفاعاً جزئياً مؤقتاً، ولكنه يعجز عن الإنتفاع منها في الآخرة على نحو الإطلاق أما المسلم فانه ينتفع منها في الدنيا والآخرة، ويزيد الله عز وجل عليه من فضله، ويحتمل ترتب أثر عدم إجزاء الأموال والأولاد وجوهاً:
الأول: الكفار هم السبب في حرمان أنفسهم من الأموال والأولاد.
الثاني: قصور أموال الكفار عن نفعهم وكفايتهم.
الثالث: عقوق الأبناء.
الرابع: وراثة الأبناء الكفر برزخ دون صدور النفع منهم لآبائهم ولأنفسهم.
وفي الآية توكيد لعالم الحساب والفصل بين المؤمنين والكفار بإقامة المؤمنين في الجنة لحسن إنتفاعهم من الأموال والأولاد، وإقامة الكفار في العذاب لتخلفهم عن الإستفادة من الأموال والأولاد، وتضييع النعمتين من أيديهم بسوء إختيارهم.
وتبين الآية موضوعية الإختيار وما يترتب عليه من الأثر العظيم، فأما الإختيار الحسن بالهداية الى الإيمان ومجئ السعادة الأبدية معه ، وأما الإختيار القبيح للضلالة والجحود، ويكون صاحبه في الدنيا معروفاً بأنه من أصحاب النار وتلازمه هذه الصفة في الدنيا، حتى إذا قامت القيامة القته الملائكة في نار جهنم ليترك خلفه الأموال والأولاد وهم عاجزون عن نصرته وإنقاذه من العذاب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وصحيح ان السبب هو الكفار أنفسهم لإختيارهم الكفر والضلالة، الا ان أموال الكفار تنعدم فيها البركة وأسباب النماء، وأولادهم يفتقرون إلى مقومات النفع لأنفسهم ولغيرهم، الا ان يختاروا الإيمان فيفوزوا بالسعادة الأبدية، ولكنهم في هذه الحالة لا ينفعون آباءهم الكفار ايضاً، وإذا كانت أموال وأولاد الكفار لا تجزي عنهم يوم القيامة من الله شيئاً فان أموال وأولاد المسلمين عون لهم في الحياة الدنيا والآخرة، وسبب لإرتقائهم في مراتب ودرجات النعيم الأخروي.
وتتضمن الآية مسائل:
الأولى: إختصاص الآية بذكر الذين كفروا بصيغة الذم والتوبيخ.
الثانية: فقر الكفار يوم القيامة وإنعدام أسباب النفع عنهم.
الثالثة: موضوعية الأموال والأولاد في حياة الناس في الدنيا، وحاجتهم اليها في الدنيا والآخرة، وتتجلى هذه الموضوعية بذكرها على نحو الخصوص في هذه الآية، فاذا كانت الأموال والأولاد لا تنفع الكفار فمن باب الأولوية القطعية عدم إنتفاعهم من مراتب القرابة الثانية التي تضم الأجداد والأخوان، والثالثة التي تضم الأعمام والأخوال، وعدم إنتفاعهم من أموال غيرهم، ومع ان الآباء يشتركون مع الأبناء في المرتبة الأولى من القرابة، فجاءت الآية بذكر الأبناء على نحو الخصوص وفيه وجوه:
الأول: الولد أقرب الى الإنسان من أبيه.
الثاني: تعدد وكثرة الأولاد عند الشخص الواحد، في مقابل إتحاد الأب، فجاءت الآية ببيان عدم الإنتفاع من المتعدد للدلالة على عدم الإنتفاع من المتحد من باب الأولوية القطعية.
الثالث: يغادر الإنسان الحياة الدنيا، ويبقى أولاده من بعده، فجاءت الآية للإخبار عن عدم إنتفاع الميت من أبنائه الباقين من بعده بسبب إختياره الكفر والجحود.
الرابع: لقد ترك ابو الكافر له الكفر تركة مما يدل على عدم إنتفاعه منه أصلاً.
الرابعة: ان القوة لله جميعاً، وان الإنسان يحتاج الى أسباب للنجاة من سخط الله، ووسائل لنيل رضاه سبحانه.
الخامسة: نعت الكفار بانهم أصحاب النار، وكأن النار خلقت من أجلهم وأعدت مثوى لهم.
السادسة: خلود الكفار في العذاب الأليم، وعدم خروجهم من النار، مما يدل على عدم إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم في الآخرة ابتداء وإستدامة.
إفاضات الآية
لقد أراد الله عز وجل للإنسان ان يطهر قلبه مما يشغله عن ذكر ربه، وان يجعل ما يملك وسيلة لنيل المراتب العالية في الآخرة، وان يخلص العبادة له سبحانه، ويتحلى بالفضائل، فجاءت آيات البشارة والإنذار لتعملا معاً في إصلاح الإنسان وتهذيب أخلاقه، وجذبه الى منازل الإيمان وجعله ينفر من الكفر ومقدماته وعواقبه الوخيمة.
وجاءت هذه الآية لتبين تضييع الإنسان لأعز وأهم ما عنده من الذخائر يوم القيامة، فليس عنده شيء أفضل من المال والولد، وهما مجتمعان ومتفرقان عون له في أمور الدنيا، وقضاء الحوائج، ودفع الأذى والشر.
ومن خصائص المال والولد التحكم بهما في التصرف، وتوظيفهما ساعة الحاجة فلا يستلزم الإنسان للتصرف في ماله الإذن من غيره، وكذا بالنسبة لولده فانه يأمره بالفعل ولا يطلب منه أو يسأله ، ويرجو منه الإمتثال لأمره ، وينتفع غالباً من ماله وما يملك ويبادر الولد لنصرة أبيه طوعاً.
فجاءت هذه الآية انذاراً للكفار وإخباراً بحرمانهم من الإنتفاع من المال والولد يوم القيامة، لتكون لغة الإنذار والتوبيخ زاجراً عن المعاصي، ودعوة لنبذ الكفر والجحود، ووسيلة لإصلاح الذات، والإنصات لآيات القرآن وما فيها من الدروس والمواعظ والعبر، وهذا من إعجاز الآية وأسباب جذب القرآن للأسماع ودعوته العقول للتفكر والتدبر، وجعل الكافر يمتنع عن التمادي في المعاصي والضلالة، وفيه دعوة للتوبة والإنابة، فغاية الإنسان من المال هي الإنتفاع والإستفادة منه، كما انه يتطلع الى الفائدة والثمرة من الولد، وذات الولد نفسه ثمرة.
فجاءت هذه الآية لتجعل الكافر في مفترق طريقين لا برزخ بينهما وليس بينهما تلاقِ بل هما متباينان كل واحد منهما يؤدي غاية ونتيجة مغايرة تماماً للأخرى، فأما الإنتفاع التام من المال والولد فانه لا يتحقق الا بقيد الإسلام وصبغة الإيمان، ومن الآيات في المقام مسائل:
الأولى: إنحصار لغة الإنذار بالكافرين.
الثانية: بيان فقر الكفار يوم القيامة.
الثالثة: لغة الإنذار في الآية بشارة للمسلمين، وإخبار عن إنتفاعهم من المال والولد.
الرابعة: دعوة الكفار بصيغة الإنذار الى التوبة والإنابة وتتجلى في آيات القرآن والإخبار عن علمه تعالى بالنظام الأحسن، وأفضل الصيغ لهداية الناس الى سبل الإيمان، ومنع الكفر من الإنتشار بين الناس والإستحواذ على عالم الأقوال والأفعال ، اذ ان لغة التوبيخ والوعيد في الآية تحاصره، وتفضحه وتبين أضراره الجسيمة في النشأتين.
الآية لطف
كل آية من آيات القرآن نعمة متجددة على الناس جميعاً، ومناسبة للشكر لله تعالى، سواء كانت آية إنذار أو بشارة وجاءت وعيداً أو وعداً كريماً، ومن الآيات ان الوعيد يتضمن الوعد في مفهومه ودلالته، ولا يعني هذا التباين والإختلاف في جهة الوعيد والوعد بان يتوجه الوعيد الى جهة، والوعد الى جهة أخرى، كما لو كان الوعيد يتوجه الى الكفار، والوعد الى المؤمنين، بل ينتفع الجميع من لغة الوعد والوعيد منطوقاَ ومفهوماَ .
وجاء القرآن بتقريب المحسوس بمحسوس آخر أكثر ظهوراً منه، لذا فان إخبار الآية عن عدم إغناء وإجزاء المال والولد عن الكافر يدل على إنتفاعه من غيرهما بالأولوية القطعية مما يعني بقاء الكافر وحيداً ليس له ناصر ولا شفيع.
وهذه الوحدة والوحشة بسبب إختيار الكفر والجحود والعناء، ومن اللطف الإلهي بالناس جميعاً مجيء هذه الآية الكريمة وفيه وجوه:
الأول: إدراك الكافر لسوء فعله وقبح إختياره.
الثاني: إقامة الحجة على الكافر.
الثالث: دعوة الكافر للتوبة والصلاح.
الرابع: إطلاع المسلمين على حال الكافر في الآخرة ، وفيه نفع من وجوه:
الأول: التفقه في الدين.
الثاني: معرفة أسرار اليوم الآخر.
الثالث: زيادة الإيمان، وتثبيت الإقرار باليوم الآخر.
الرابع: إكتساب المعارف الإلهية.
الخامس: تقريب المعقول بصيغة المحسوس.
السادس: الإحتراز من الكفار.
السابع: الآية موضوع للإحتجاج والحجة على الكفار.
الثامن: في الآية شفاء لصدور المسلمين.
التاسع: تدعو الآية المسلمين للصبر وعدم الإفتتان بالأموال وما تكون عاقبته الى الزوال وإنعدام الأثر.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين ان يشكروه على نعمة الهداية، وجاءت هذه الآية لتبين في مفهومها العاقبة الحميدة للهداية وانها جامعة مانعة، جامعة لوجوه الخير والإنتفاع من النعم، ومانعة من ضياع المال والولد في الدنيا والآخرة، ليكون المسلم مرآة للكمال، وعمله ضياء يجذب الناس خصوصاً مع فضح هذه الآية للكفر وبيانها لسوء أثره وما له من الأضرار على الشخص والجماعة، وعلى الولد، فلا خير في الولد الذي لا ينتفع منه.
وترشد الآية الإنسان الى الإنتفاع من الولد، وجعله ينفع أباه وينفع نفسه، ويتخذ من تركة المال وسيلة للعبادة والصلاح، وأداء الفرائض والطاعات بالتقوى والهداية ، والسفر في عالم الإيمان وما فيه من السعادات والكمالات، والحرص على التفاني المحض في مرضاة الله سبحانه.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: جاءت الآية بخصوص الكفار وحالهم في الآخرة.
الثانية: لقد جعل الله الأموال والأولاد نعمة في الحياة الدنيا، وهي باب للإفتتان، فأما ان يحسن الإنسان التصرف فيها، فترجع عليه بالخير المستديم، وأما ان يسيء ملكيتها، فترجع عليه بالندم والعذاب الأليم.
وتفضل الله تعالى بإخبار المسلمين عن سوء تصرف وإختيار الكفار، ولا تنحصر منافع هذا الإخبار بالمسلمين بل تشمل الناس جميعاً ومنهم الكفار اذ انها إنذار وموعظة لهم، وهو من اللطف الإلهي وأسرار عالمية القرآن ونزوله رحمة للناس جميعاً.
الثالثة: الحاجة الشديدة للمال والولد يوم القيامة وصحيح ان مقامات الناس في الآخرة على الأفعال، الا ان المال والولد مادة للفعل فاذا كان الكافر بذاته إختار الكفر فحجب عن نفسه الإنتفاع من الذات والفعل الشخصي، فان الأموال والأولاد هي الأخيرة لا تنفعه لأن الكفر حاجب من الإنتفاع منها.
الرابعة: الإخبار عن حقيقة أخروية وهي ان الملك لله تعالى يوم القيامة، وان أموال الكافر تتبرأ منه، ولا يستطيع الإنتفاع منها أما أولاده فيؤاخذونه على تركه الكفر لهم إرثاَ ، ومن إهتدى منهم الى الخير ودخول الإسلام فانه ناله بفضل الله وسعيه وفطنته وتدبره في عواقب الأمور وإدراكه لحقيقة عدم إنتفاع أبيه منه ومن ماله، فلم يرضَ الولد لنفسه ان يحرم من نفع أولاده ، فإختار لنفسه ولأولاده من بعده الإسلام.
فمن غايات الآية قطع توارث الكفر ونفرة الأبناء والأجيال اللاحقة منه ، خصوصاً مع ترغيب الآية في مفهومها بالإيمان والإشارة الى كونه السبيل الوحيد للإنتفاع من المال والولد.
الخامسة: لزوم اللجوء الى الله والخشية منه، والإقرار بان الأمور كلها مستجيبة لأمره.
السادسة: بيان حكم الكفار وسوء عاقبتهم وما ينتظرهم من العذاب الأليم.
السابعة: الإخبار السماوي عن وجود أصحاب للنار، وهذه الصفة عنوان للبث الدائم فيها.
الثامنة: دعوة الناس للإستعداد للحساب، وجعل الأموال والأولاد واقية ووسيلة لنيل رحمة الله، واكتساب الأجر والثواب.
التفسير
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا]
بعد مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب والإخبار عن عدم ضياع ما يفعلونه من الطاعات ووجوه البر والخير، وإختتام الآية السابقة بعلم الله تعالى بالذين يخشونه بالغيب، ويحرصون على إتيان الفرائض والعبادات والمناسك، جاءت هذه الآية بخصوص الذين كفروا وذكرتهم بصيغة الذم وإرادة التوبيخ، وفيه مسائل:
الأولى: تحذير المسلمين من الكفار وسوء فعلهم.
الثاني: تنبيه الكفار الى سوء إختيارهم.
الثالث: إخبار الناس بمآل الكفر والجحود.
الرابع: بيان موضوعية حال الإنسان في عالم الآخرة.
الخامس: الآية شاهد على إحاطة القرآن بأحوال الناس، وشمول مواضيعه وأحكامه لإمور الدين والدنيا.
وتجذب الآية الأنظار والأسماع، وتجعل الناس يلتفتون الى مضامينها، وما تقوله بخصوص الكفار وما يستحقونه من الجزاء، ان الكفر عنوان للجحود وظلم النفس والغير، وهو قبيح شرعاً وعقلاً، وشاهد على فساد الإختيار وقصد إيذاء النفس لما فيه من ترك الواجب وهو الإيمان، وتؤكد الآية وجود شطر من الناس إختاروا الكفر والضلالة والجحود، وتحتمل الآية من جهة الكثرة والقلة وجوهاً:
الأول: قلة عدد الكفار.
الثاني: كثرة عدد الكفار.
الثالث: الترديد والتباين، فمرة يكون عدد الكفار كثيراً، ومرة يكون قليلاً.
والصحيح هو الثاني إذ ان شطراً من الناس إختاروا الكفر والجحود قال تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا] ( )، أي جحوداً للحق، وتحتمل هذه الكثرة وجهين:
الأول: الكثرة بلحاظ مجموع أفراد الزمان الطولية.
الثاني: كثرة الكفار في كل زمان.
ولا تعارض بين هذين الوجهين، وكل واحد منهما حاصل في الواقع ، والوجدان والشواهد تدل عليه لذا جاءت هذه الآية لطفاً ورحمة من عند الله بالناس جميعاً ومنهم الكفار أنفسهم، ببيان خسارتهم في النشأتين.
وهي حجة عليهم، ومانع من إحتجاجهم يوم القيامة بعدم العلم بما ينتظرهم من العذاب الأليم، ويحتمل الكفر في الآية وجوهاً:
الأول: الكفر والجحود بالربوبية.
الثاني: الكفر وعدم التصديق باليوم الآخر.
الثالث: الكفر بالنبوة مطلقاً وعدم الإقرار بنبوة أي نبي من الأنبياء.
الرابع: الكفر بنبوة النبي اللاحق دون النبي السابق.
الخامس: الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص مع الآيات والمعجزات التي جاء بها والتي تتجدد في كل زمان بمعجزة القرآن العقلية، وتشمل أحكام الآية هذه الوجوه كلها، وهي انذار وتحذير وزجر عن الكفر بكافة أقسامه، لقبح كل فرد منه مستقلاً ومنضماً الى غيره، ان ذكر الكفار بصيغة الذم والتوبيخ في القرآن شاهد على أمور:
الأول: ان القرآن وحي وكتاب نازل من الله تعالى.
الثاني: قوة شوكة المسلمين، وثبات قواعد الإسلام بحيث جاءت الآيات لذم الكفار.
الثالث: عدم الخشية من الكفار، وسوء ردهم على ذمهم.
الرابع: فيه دلالة على إقرار الكفار بقبح اختيارهم وضلالتهم.
الخامس: هذه الآية عنوان لجهاد المسلمين، ومحاربتهم للكفر والكفار، وهو على قسمين:
الأول: يقوم المسلمون بذم الكفر ومفاهيمه وبيان قبحه الذاتي والغيري.
الثاني: توبيخ المسلمين الكفار لإختيارهم الكفر، ويستلزم هذا التوبيخ شأناً وقوة عند المسلمين يستطيعون معها مواجهة الكفار، وتلقي الضرر وصد التعدي الذي يصدر عنهم.
وهذه الآية دعوة للمسلمين لمواجهة الكفار، وإقامة الحجة عليهم، وإبلاغهم بما ينتظرهم من سوء العذاب، وبيان حقيقة وهي ان عدم إنحصار عذاب الآخرة بالنار، بل يشمل خسارة الكفار للأموال والأولاد، وعدم إنتفاعهم منها.
لقد إبتدأت الآية بذكر الذين كفروا وفيه وجوه:
الأول: دعوة المسلمين لمعرفة الكفار ونهجهم الكفر.
الثاني: إبلاغ المسلمين بلزوم عدم ترك الكافرين وشأنهم، فلابد من توبيخهم وإخبارهم بقبح إختيارهم، وإضرارهم بأنفسهم.
الثالث: بيان الأضرار التي تنجم عن الكفر، فقد يظن الإنسان ان الكفر سبب للضرر الشخصي بإعتبار انه إعتقاد وفعل سيء يتحمل صاحبه وزره، فتأتي هذه الآية لتؤكد هذا المعنى،وما هو أعم منه ، وتبين ان أضرار الكفر تلحق بالولد وتجعله عاجزاً عن نصرة أبيه ومبتعداً عن معاني البر.
الرابع: تذكير الكفار بعالم الآخرة، وبيان أهوال يوم القيامة، وخسارة الكفار في النشأتين.
الخامس: من مضامين الآية ان المسلمين حكام الأرض يبينون للناس منازلهم في الدنيا والآخرة ، وهذا البيان ليس إجتهاداَ منهم، بل هو أمر سماوي غير قابل للتغيير او التبديل، نعم يحصل بالمصاديق والأفراد عندما يترك الإنسان منازل الكفر ويختار الإسلام، وينجو بنفسه ويكون سبباً لنجاة غيره وعياله ومن يستمع له.
وجاءت هذه الآية لتحصيل هذا التبديل وانقاذ الناس من الكفر، فليس من عهد وملازمة قطعية ثابتة بين الكفر وإنسان ما، فمن يكون كافراً قد يصبح مؤمناً بطرفة عين، وبرؤيته للآيات البراهين الدالة على وجود الصانع، او بالإستماع الى آيات القرآن ، ومنها هذه الآية التي تبعث في النفس الإنسانية الفزع والخوف من الكفر وما يترتب عليه.
وتخاطب الآية العقل وتذكره بوظيفته في إجتناب الأضرار التي تلحق بالنفس والبدن، وجعل الكافر يتدبر في حاله وشأنه وإدراك منافع الإيمان وسوء عاقبة الكفر، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع وفيها دلالة على شمول حكم عدم إجزاء الأموال والأولاد للكفار على نحو العموم الإستغراقي من غير إستثناء، وتلك زيادة في توبيخهم، وقطع للأمل عندهم، فقد يظن بعضهم ان نسبه او إنتسابه الى ملة ما ينفعه فجاءت صيغة الجمع للإخبار عن الملازمة بين الكفر وضياع الأموال والأولاد في الآخرة وعدم الإنتفاع منها مع شدة الحاجة لها.
ومن الآيات القرآنية ما تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخباره والمسلمين بحال الكفار بما يجعل المسلمين في غبطة وسعادة لإختيارهم الإيمان الذي هو إرتباط خاص بين العبد والخالق، ويتضمن الإقرار بالربوبية والقدرة والتدبير وصفات الكمال والجلال له تعالى، وبما يجعل نفوسهم تنفر من الكفر والكفار لأن العالم شاهد على جلاله وجماله وصفاته.
والآية مناسبة لبعث الحب لله في نفوس المسلمين وتوجههم بالشكر له تعالى على نعمة الهداية والتنزه من الكفر ومفاهيم الجحود، وتولي وظيفة تحذير وإنذار الكفار
قانون إنذار المرأة من عواقب الكفر
القرآن رسالة سماوية للناس جميعاً، نزل على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم بتبليغ آياته، وتعاهده المسلمون والمسلمات بالحفظ والتلاوة والعمل بأحكامه، فكان المدرسة الأولى في التأريخ ، ولم ترقِ الى معشاره مضامين الكتب السماوية الأخرى، وهذا التعاهد من أسباب تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم، ويترشح عنه قيام المسلمات بأعباء التبليغ الى جانب الرجال مع تقيدهن بالعمل بسننه، والفزع مما فيه من لغة الإنذار والوعيد .
وتأتي الآية تحذيراً وزجراً للكفار فيمتلأ قلب المسلمة بالخشية من الله، وتحرص على طلب مرضاته وإجتناب مقدمات وأسباب سخطه وغضبه، وفيه حجة على الكفار رجالاً ونساء، فاذا كانت المرأة المسلمة أمة في الخير، وداعية الى الصلاح بحسن اعتقادها، وسلامة فعلها، واحترازها من الآفات التي تأتي على الإنتفاع من المال والولد، فعلى الكفار ان يأخذوا الدروس والمواعظ منها، ويتركوا الإقامة على الكفر والجحود.
وقد تعاني المرأة في عدد من المجتمعات من الظلم ، والمنع من التدخل في الأمور العامة، وتعجز عن نصرة نفسها وإنتزاع حقوقها التي جاءت بها الشرائع السماوية الا ان هذا لا يمنع من توجه الخطاب التكليفي لها بعرض واحد مع الرجل، وإدراكها لحقيقة مسؤولياتها الشرعية، ووقوفها بين يدي الله للحساب، وهذا الإدراك مادة للصبر والتحمل في الدنيا، ومناسبة لإصلاح الذات والتدبر في شؤون الخلق، ومعرفة وجود عالم غير الدنيا يتصف بالدوام ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح ، وهو حجة وشاهد على إكرام الإسلام للمرأة.
والآية حث للنساء على إجتناب الكفر والضلالة وهي وان جاءت بصيغة المذكر الا انها مطلقة وشاملة للرجال والنساء، وتدعو الآية النساء للنجاة من عذاب النار فان اجسامهن الضعيفة لا قدرة لها على تحمل شدة العذاب والمكث الدائم فيها.
وفي الآية ترغيب لهن بالإنتفاع من المال والولد في طاعة الله، وإصلاح الذات والوقاية من عذاب النار، وهل يستطيع الرجل الحيلولة بين المرأة وبين إتخاذها مالها وولدها واقية من عذاب النار، الجواب لا، سواء كان أباً او زوجاً أو أخاً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومن تمنع كرهاً من الإنتفاع من مالها وولدها فان الله عز وجل واسع كريم، غفور رحيم، عالم بحال العباد، ولابد أن يكون هذا المنع مؤقتاً غير دائم.
ومن الآيات في أحكام الشريعة الإسلامية ان المرأة مكلفة بذات العبادات التي كلف بها الرجل من الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس، وليس من فارق بينها وبين الرجل في عدد الفرائض اليومية للصلاة، وفي مدة الصيام وإبتدائه وانتهائه وكيفية القضاء، وتتحمل المرأة أعباء خاصة في تربية الأولاد خصوصاً في سن الطفولة والصبا، وعند إنشغال الزوج في الجهاد وتوفير مؤونة العيش.
وجاءت الآية لدعوة المرأة لإستثمار نعمة الولد وجعلها واقية يوم القيامة بإعداد الأبناء إعداداً سليماً، وإصلاحهم لأمور الدين والدنيا، وتشمل نعمة الإنذار الواردة في الآية النساء، وتحذرهن من الكفر والضلالة.
وهل يتوجه اليهن الخطاب بواسطة الرجال آباء وأزواجاً، أم انه يأتيهن مباشرة، الجواب هو الثاني اذ يتوجه الخطاب التكليفي الى النساء بعرض واحد مع الرجال، وقد تنتفع المرأة من الآية قبل أبيها وزوجها، وأخيها، وهم يتبعونها في إيمانها، وقد تتلقى منهم المشقة والأذى ، ويسبب الإيمان الفراق والإنفصال عن الزوج، وهناك شواهد عديدة في التأريخ تبين ما للمرأة من المنزلة في ميادين الجهاد، وإقرارها بالنبوة ، وتسليمها بالمعجزات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدرك المرأة بما رزقها الله من العقل العواقب الوخيمة للكفر ، ومنها الحرمان من الولد يوم القيامة ، ولا يعلم مقدار تعلق الأم بولدها وحبها له الا الله تعالى ، كما انها تعجز عن وصف حبها لولدها لغيرها، ومهما ظهر منها من بيان هذا الحب ، وتجلى في عالم الفعل فانه يتخلف عن كنه حقيقة حبها له.
وجاءت الآية لتخبر عن إضرار الكفر بها وبولدها والصلة بينهما، وتلك مسألة لا تستطيع الأم التفريط بها فتنفر نفسها من الكفر والضلالة، وتجتهد في تأمين إنتفاعها من إبنها في النشأتين، بالإنتقال الى الإسلام بإعتباره السبيل الوحيد لتحقيق هذا الإنتفاع، ليتبعها أولادها، ويفوزوا بنصرة بعضهم لبعض وشفاعة بعضهم لبعض، وهذه الآية وما فيها من الإنذار رحمة بالنساء مطلقاً، وتحذير لهن من الكفر والضلالة، ودعوة لهن للإقرار بالعالم الآخر والإستعداد له بالإيمان، ونبذ الكفر والضلالة.
قوله تعالى [لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ]
بعد ان ذكرت الآية الذين كفروا وتعيينهم بالصفة والإعتقاد السيء والفعل القبيح الذي يترشح عن الكفر، جاء هذا الشطر خبراً وبلاغاً عن حال الذين كفروا، وهذا البلاغ وثيقة سماوية وفرد من علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله تعالى لأنه يبين الخسارة التي تلحق بالكفار يوم القيامة، بالإضافة الى لغة التحدي في توكيد مصاديق خسارتهم في الحياة الدنيا وما فيها من الإبتلاء والإمتحان.
ومع ان المال اسم جنس فقد ذكرت الآية الأموال بصيغة الجمع وتحتمل وجوهاً:
الأول: انحلال المعنى فكل فرد من الكفار له ماله الخاص.
الثاني: الكفار على أقسام بلحاظ تلك الحال وهي:
الأول: من لا مال له.
الثاني: من عنده مال قليل.
الثالث: الذي عنده مال كثير.
الرابع: الذي يكون مرة فقيراً وأخرى غنياً.
الخامس: الكافر الذي تكون عنده أموال كثيرة.
الثالث :الشركة بين الكفار في الأموال .
وجاءت الآية بلحاظ الأكثر وألأعم، فتنطبق الآية على الذي عنده أموال كثيرة أو قليلة، وهل تشمل الفقير من الكفار الجواب نعم لأن صاحب المال منهم لا يستطيع نصرة وإعانة صاحبه الفقير الذي يرى عدم نفع المال له ولغيره من الكفار .
ومن خصائص صيغة الجمع في الآية ان الكفار قد يوظفون الأموال على نحو العموم والملكية العامة، التي تكون مشتركة بينهم، فجاءت الآية لبيان إنتفاء النفع من المال العام العائد للكفار.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه نهى عن إضاعة المال، وذكرت فيه أقوال منها لزوم العناية بالحيوان وعدم أهماله ومنها ان المراد من إضاعة المال هي انفاقه في الحرام والمعاصي، والتبذير والإسراف.
وجاءت هذه الآية لتضيف معنى آخر لإضاعة المال وهو عدم إجزائه عن صاحبه اذا تلبس بالكفر والضلالة، فيكون الكفر سبباً لتضييع المال، وهذا التضييع هو الحقيقي والأكبرالذي يؤدي الى الحاق الضرر بصاحبه، وعدم الإنتفاع من المال وقت الحاجة في الآخرة، فقد يضيع المال في الدنيا على نحو السالبة الجزئية، ولكن الإنسان يستطيع التدارك والصبر عنه، او السعي لإيجاد البديل والعوض من المال، اما في الآخرة فليس من بديل عن المال الضائع مع الحاجةالمستديمة له والى إنفاقه في الحياة الدنيا في سبل الخير وقصد القربة لله تعالى.
لقد أراد الله عز وجل توكيد إنشغال الكفار بأنفسهم يوم القيامة، وبقاء كل واحد منهم وحيداً منفرداً يتعذر عليه العون والمدد، ويشعر باليأس والقنوط لفقدان المال وضياعه، وهذا اليأس عذاب إضافي ومصداق من مصاديق العقاب الأليم يوم القيامة، بينما يرى الكافر كيف ان المؤمن تأتيه الحسنات بما فعله من الصالحات، وانفاقه ماله في سبيل الله ، وتكون أموال المسلمين سبباً لرجحان كفة أعمالهم في الصالحات، بالإضافة الى نمائها ومضاعفتها وأجرها بفضل من عند الله.
ويرى الكافر يوم القيامة جاره المسلم الفقير وقد جاءته الحسنات من إنفاقه المال في سبيل الله، ويتساءل الكافر حينئذ من أين لجاره المسلم هذا الإنفاق وأجره ، ولم يكن يملك شيئاً الى ان غادر الحياة الدنيا، فيدرك نعمة الله بمضاعفة الأجر والثواب على الصدقة القليلة، وقبول الدعاء والمسألة ، وجعلها بمنزلة الإنفاق، ليكون يوم القيامة الحزن الأكبر على الكافر.
وجاءت الآية بصيغة المستقبل التي يدل عليها الحرف “لن” وتحمل على المعنى الأعم، وإرادة أيام الحياة الدنيا والآخرة ، وهل ينحصر الأمر في الآخرة بأوان الحساب الجواب لا ، فيشمل الإستدامة في العذاب، فلا تكون أموال الكافر سبباً لتخفيف عذاب النار عنه، كما انه يبقى في حسرة مستديمة في جهنم لتضييع المال، وعدم توظيفه في مرضاة الله عز وجل.
ويترك الإنسان المال تركة لمن بعده من الورثة، ومن أسباب العذاب ان إنتفاع الوريث الكافر من المال سبب لزيادة عذاب المالك، لأنه ترك وسيلة للتمادي في الكفر والبقاء عليه، ومادة للإنشغال بالحياة الدنيا واللهث وراء زينتها وتوظيف ذات المال في المعصية وأسباب الجحود، وهو من مصاديق عذاب الكافر يوم القيامة ، وإمتلاء نفسه بالحسرة والندم والأسى.
لقد جعل الله عز وجل المال والمقتنيات الخاصة من الأعيان والنقود والعروض نعمة عظيمة على الإنسان، وسبباً لإستدامة الحياة، والشأن بين الناس في الحياة الدنيا، والسعي في قضاء الحوائج الخاصة والعامة، وأراد من الإنسان الشكر على هذه النعمة، ويتقوم الشكر بمعرفة المنعم وانه الله تعالى وادراك العبد لوظائفه العبادية وانه كائن محتاج ومفتقر الى رحمة الله، فجاءت هذه الآية لبيان لزوم الإيمان والإقرار بالعبودية والطاعة لله تعالى وبيان أضرار الكفر والمعاصي.
ويدل نفي إجزاء الأموال عن الكافر على حاجة الإنسان يوم القيامة الى المال وتتباين تلك الحاجة مع حاجته له في الدنيا، فلا يستطيع الإنسان في الآخرة إقتناء المال والتصرف فيه لأنها دار حساب بلا عمل، وجاءت هذه الآية لبيان وظيفة المال يومئذ ودخوله في موازين الحساب، وتحذير الكفار من عاقبة تضييع المال، لذا فان القرآن رحمة بالناس جميعاً وإخبار سماوي عن حقيقة كنه الحياة الدنيا، فيسمع الكافر الآية ويتدبر في معانيها، ويدرك بواسطتها وجود عالم آخر لا يستطيع التصرف فيه بماله، وان طلبه لا يمكن إحضاره له، ومن يتعدى على مال الغير في الحياة الدنيا يكون ظالماً، ويحرم التصرف في مال الغير من دون إذنه ومن القواعد الشرعية المستقرأة من السنة النبوية “الناس مسلطون على أموالهم” أما في الآخرة فليس للإنسان سلطان على ماله، ويكون الناس يومئذ على قسمين وهما:
الأول: من ينتفع من ماله وهو المؤمن الذي عمل الصالحات في الحياة الدنيا وسخر ماله في مرضاة الله.
الثاني: الذي خسر ماله، وعجز عن الإنتفاع منه وهو الكافر.
وليس من واسطة أو برزخ بين القسمين، وبذا جاءت الآية صريحة بخصوص القسم الثاني لتدل في مفهومها على التباين والتضاد بين القسمين، ولتدعو الكافر للإنتقال الى الإيمان والإنتفاع الأمثل من المال والمقتنيات، وهو من مصاديق شكر العبد لله تعالى على نعمة المال.
والمراد من الأموال في المقام ذاتها وعينها، والإشارة الى الجهد والعناء الذي بذله الكفار في اللهث وراء الدنيا، وإمتناعهم عن إنفاقها في سبيل الله، وسعيهم لجمعها بالباطل والطرق المختلفة، فالآية عنوان لذهاب سعيهم في الدنيا سدى ، والمدار على النفع أو الخسارة في الآخرة لأنها دار الخلود.
وقد يكون الكافر أنفق من أمواله في إعانة الفقراء وقضاء حاجة المحتاج، وإصلاح ذات البين وإقراء الضيف ، ولكنها لن تنفعه يوم القيامة وفيه وجهان:
الأول: عدم قبول فعل الحسنات منه لأن الكفر مانع من وصول الثواب والأجر إليه.
الثاني: حساب الحسنات وفعل الخير للكافر، ولكن إنفاقه في الخيرات لا يثقل الميزان ولا يرجح كفة الحسنات.
والصحيح هو الأول اذ ان الكفر مانع من ترتب الأثر على الإنفاق أو حصول الثواب عليه.
قانون “لن تغني عنهم أموالهم”
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، والحاجة ملازمة للإمكان وكل مخلوق محتاج، الا ان حاجة الإنسان تختلف عن حاجة غيره من الخلائق لإتصاف حاجة الإنسان بما يلي:
الأول: إستدامة حاجة الإنسان.
الثاني: تغشي حاجة الإنسان لعالم الدنيا والآخرة.
الثالث: تشمل حاجة الإنسان أيام وجوده وما بعدها.
الرابع: حاجة الإنسان في الآخرة أكثر منها في الدنيا.
الخامس: تعدد حاجة الإنسان.
السادس: ملازمة الحاجة للإنسان في كل آن من آنات حياته في عالم البرزخ ويوم القيامة.
وجاءت الآية لبيان أمور:
الأول: حاجة الإنسان للمال.
الثاني: حاجته للولد.
الثالث: إنقسام الناس الى قسمين متضادين في الإنتفاع من المال أو عدمه.
وتبين الآية حاجة الإنسان في الآخرة الى المال، وشدة هذه الحاجة، ولم تجعل الآية الفاعلية السالبة في الآية للكفار، فلم تقل “لن ينتفع الكفار من أموالهم” بل جعلت الفاعلية للأموال بان أخبرت عن عدم إجزائها عن الكفار، مما يدل على حاجة الكفار يوم القيامة ، ونزول العذاب الأليم بهم، وعدم إمكان دفع العذاب بالمال، فقد يشتري الإنسان نجاته في الآخرة من الأذى بالمال ، وينال به الرغائب والآمال سواء كان الإنسان براً أو فاجراً، مؤمناً أو كافراً، أما في الآخرة فالأمر مختلف اذ لا سبيل لإنتفاع الكافر من ماله الذي جمعه في الدنيا.
وبين حال المؤمن والكافر يوم القيامة بخصوص المال عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء عدم إمكان التصرف في المال، وأما مادة الإفتراق فان مال المؤمن سبب لنيله الثواب، والكافر محروم من الإنتفاع من ماله على نحو السالبة الكلية.
ويحمل هذا الحرمان صفة المادة والمجرد، فلا تكون أموال الكفار حاضرة عندهم يوم القيامة، وليس من أثر لها في عالم الأفعال، وقد ذكرت الآية الكفار وعدم إجزاء أموالهم عنهم، وأما المسلمون فيحتمل الأمر وجوهاً:
الأول: ان أموال المسلمين تغني عنهم في الآخرة.
الثاني: عدم وصول النوبة الى إغناء الأموال او عدمه، لأن الله عز وجل يكفي المسلمين.
الثالث: إنحصار موضوع المال او عدمه بحال الكفار وعدم إجزائه عنهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وان ظهر تباين بينها فهو بدوي يزول بالتأمل والتفكر، فالمؤمن محتاج يوم القيامة الى ماله وما عمله به يوم القيامة، وتسخيره له في سبيل الله وإخراجه الزكاة منه وإنفاقه في طاعة الله، ويأتي المال الذي أنفقه كالجبل من الأعمال التي تحول دون تعرض المؤمن للعذاب وتكون واقية له، ومن رحمة الله تعالى جعله عمل المسلم حرزاً من العذاب، وإنفاقه واقية من النار، فيكون ماله في الدنيا وسيلة لإحرازه المراتب العالية في الآخرة.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بان جعل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، ورزقه المال ليكون وسيلة لفعل الصالحات ومنحه العقل ليكون مادة ذاتية للإختيار الأحسن وإدراك الوظيفة الشرعية، والتقيد بأحكام السنن، وبعث الله عزوجل الأنبياء مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم الكتب السماوية لهداية الناس، وجعلهم يحملون معهم الزاد الى الآخرة.
وجاءت هذه الآية لتوبيخ الكفار على عدم إنتفاعهم من الآيات والنذر، وعدم إتخاذهم المال واقية من النار ، والسبب انهم إختاروا الكفر الذي هو حاجب دون الإنتفاع من المال، وعلة لرد الأعمال وعدم قبولها، مما يدل على انه ليس من شيء أشد ضرراً على الإنسان من الكفر، فجاءت الآية رحمة بالناس ولطفاً متصلاً وإنذاراً للكفار، وطرداً للكفر من الأرض، وتنزيهاً للنفوس منه، وهذا التنزيه مقدمة لدخول الناس للإسلام، وسلامتهم الذهنية والعملية من مفاهيم الضلالة وإستحواذها على الجوارح.
بحث كلامي
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بان خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وجعله في صورة بهية ، وتجلت فيه معاني القدرة الإلهية بان جعل الله أعضاءه متناسقة يستطيع معها أداء وظائفه، وقضاء حوائجه بيسر وليس من حصر للأعضاء والأجزاء التي تتحرك وتنشطر وتعمل داخل بدنه ومع هذا لايشعر بها، ولا يلتفت اليها فكأنها تعمل منفصلة عنه.
حتى اذا أبتلي بمرض أدرك موضوعية العضو المصاب وكيف انه يعمل طيلة سنوات عمره من غير ان يحس به او يشكو منه ، وكم هو مقصر في الشكر على تلك النعمة.
ومن الآيات قدرة تلك الأجزاء اللحمية، والعظمية والعصبية على العمل المتنامي في سنوات العمر المتعاقبة، ثم تفضل الله سبحانه وسخر له ما في الأرض، وجعل عنده الأهلية على التملك، والقدرة على التصرف في ملكه، ومنها ان ملكية الناس متباينة كثرة وقلة، وليس من ملازمة بينها وبين الإيمان، فلم يحصر الله سبحانه الملكية في المؤمنين، ولم يحرم أياَ من الناس منهم بلحاظ إنتمائه وعقيدته وتلك من مصاديق الرحمة في الحياة الدنيا بالناس جميعاً، ومن وجوه الإبتلاء فيها ، وتكون الصلة بين الصحة والمال على وجوه:
الأول: إقتران الصحة بالمال، فترى إنساناً سليماً معافى، ويمتلك ثروة ومالاً كثيراً.
الثاني: تمتع الإنسان بصحة وسلامة من الأمراض ولكنه فقير محتاج.
الثالث: إنسان غني يمتلك مالاً كثيراً، وهو مريض يعاني من مرض مزمن، وآفات في البدن.
الرابع: شخص مريض ولا يمتلك مالاً، ويعجز عن توفير الدواء لنفسه.
وبلحاظ الإيمان والكفر تكون هذه الأقسام ثمانية، وهذا التعدد آية أخرى في خلق القرآن، ودعوة له للتفكر في الخلق وتلك الدعوة من وجوه:
الأول: التدبر في حاله، وشكر الله عز وجل على ما هو فيه من النعم، وهل يتوجه الفقير المريض الى الله عز وجل بالشكر، الجواب نعم من وجوه:
الأول: كثرة وتظافر النعم الإلهية عليه.
الثاني: كل من المرض والفقر إبتلاء وإمتحان وسبب لدفع أذى وشر لا يعلمه الا الله، فقد يكون الفقر والمرض أصلح للإنسان ، وواقية من فعل المعاصي، وحرزاً من وقوع الأذى عليه.
الثالث: الإبتلاء والإختبار مناسبة للدعاء.
الرابع: الأصل هو الشكر لله تعالى على كل حال، ومع إستمرار العافية وحصول الغنى، او عند المرض والفقر والعوز.
الثاني: رؤية الآخرين وماهم فيه من الحال والشأن، والإعتبار منهم، وهذا الإعتبار على وجوه:
الأول: الإمتحان والإختبار بالمال الكثير الذي يناله الغني.
الثاني: الإبتلاء بالفقر الذي يصيب شطراً من الناس.
الثالث: صيغ إنتفاع الغني من ماله.
الرابع: كيفية صبر الفقير، وتحمله للعوز.
الخامس: توظيف الصحة والعافية في مرضاة الله.
السادس: إظهار تحمل المرض رجاء الثواب والأمل بالعافية.
السابع: موارد جمع المال ووجوه صرفه في حال الصحة والمرض، والمندوحة والضيق.
الثالث : إدراك ماهية المال وأنه مادة وموضوع للإمتحان .
الرابع : العلم بعاقبة الكفر والجحود .
وذكرت الآية بصيغة الذم والتوبيخ الذين كفروا لبيان حقيقة وهي ان الكفر مبطل للعمل، وسبب لنزول السخط الإلهي مثلما هو مانع من فعل الخير، اذ ان النية والعزم على فعل الخير يأتيان مع الإيمان وقصد القربة، وطلب مرضاة الله تعالى.
وهذه الآية دعوة لكل إنسان مسلماً او غير مسلم للتدبر في حاله وشأنه وإدراك موضوعية الإيمان في قبول الأعمال، والإنتفاع الأمثل من المال في الدنيا والآخرة، وكون الكفر علة تامة لحجب النفع من المال في الآخرة، قال تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ] ( ).
ان حاجة الإنسان للمال يوم القيامة شديدة بمعنى أنه يرى أثره ومنافع فعل الخير والإنفاق وتسخير الأموال في قضاء الحوائج، فقد يفعل الكافر معروفاً ويساعد محتاجاً، ويحسن الى غيره وحينما يرى الحسنات، وفعل الخير يترى على المؤمن يوم القيامة بما يثقل ميزانه، يتذكر أفعاله تلك ويتطلع الى وصولها اليه لتشابه الموضوع والفعل، ولكنه يفاجئ بالتباين في الحكم لأن المدار على الإيمان والكفر.
ومن فضل الله عز وجل مجيء هذه الآية إنذاراً كي لا يفاجئ الكافر بسوء العاقبة في الآخرة، وتلك آية ومصداق على أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس لأن أفرادها يجاهدون في تبليغ البشارات والإنذارات وتوجيه النصح والإرشاد الى عدوهم ، ومن يتعدى عليهم بإخباره بعاقبته اذا بقي على الكفر، وتحذيره من عدم الإنتفاع من المال عند الحاجة الحقيقية له.
فقد يحتاج الإنسان ماله في الدنيا ويسخره في قضاء حوائجه وتحقيق رغائبه، ولكن تلك الحاجة محدودة ويستطيع العيش بدونه، وتمر الساعات والأيام على الغني والفقير وكل واحد منهما يعيش في كنف رحمة الله، ومن يكون فقيراً تقضى حوائجه أيضاً بمقدار.
أما في الآخرة فالأمر مختلف تماماً لشدة الحاجة إلى المال وانفاقه في سبيل الله وعدم إجزائه عن الكافر يومئذ، وقد يكون الإنسان موفقاً في حياته بتحقيق الأرباح وتدبير أمور تجارته وصناعته وكيفية المعاملة وتوظيف أمواله ، ويتألم ان تعرض لخسارة في ماله، وليس من خسارة في المال أكبر من خسارة الكافر يوم القيامة لأمواله كلها دفعة واحدة، ويصيبه اليأس من نيل الحسنات بالإنفاق لإختياره الكفر فيتمنى ان يكون ماله حاضراً عنده ليشتري سلامته من النار، او تخفيف العذاب عنه او تعليقه لساعات ، ولكن دون جدوى ، اذ ان الكفر برزخ أخروي بينه وبين ماله.
بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا جامعة يقتبس فيها الإنسان الأخلاق الحميدة بالتجربة والوجدان والتعلم والإعتبار من الذات والغير، وجاءت مدرسة النبوة والتنزيل لتكون نبراساً ووضياء للأخلاق الحميدة، وفيها تخفيف عن الإنسان وإستغناء عن كثير من صيغ التجربة والوجدان لأنها تتضمن الأوامر الإلهية بالأخلاق الحميدة، والنواهي والزجر عن الأخلاق المذمومة.
ومن الآيات ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وفيه دلالة على تفضيله على الأنبياء الآخرين، وشاهد بان المسلمين خير أمة أخرجت للناس، لما يتحلون به من الفضائل وتأديبهم للناس بترك الرذائل والعادات السيئة.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عليهم، تطل عليهم نعمة النهار فيتوجهون الى الناس بنشر مفاهيم الصلاح والإحسان، ويكونون أسوة حسنة في سمعتهم وعباداتهم وتسخيرهم الأموال في مرضاة الله، الى جانب السعي في المعايش والزراعات والنظم العامة، ويأتي الليل فيكون مناسبة للدعاء والإستغفار .
ومن الآيات انهم يفتتحون الليل بصلاة واجبة كما يفتتحون بها النهار مما يدل على موضوعية الذكر والعبادة في الليل والنهار، ولم تمنعهم الظلمة من الإنفاق في سبيل الله.
ويستثمرون الليل لتلاوة آيات القرآن كما تقدم قبل ثلاث آيات [يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ] لتكون التلاوة إحترازاً من السيئات، وطرداً لأغواء الشيطان ووسيلة مباركة للمبادرة في فعل الخيرات، وذخيرة ليوم الحساب ، وجاءت هذه الآية لإرتقاء المسلمين والمسلمات في ميادين العلم والمعرفة.
ومن الآيات ان أول ما أنزل من القرآن دعوة الى العلم، ونبذ الجهل قال تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ] ( ).
وقد سخر الله عز وجل ما في الأرض للإنسان، وكانت كنوزها على قسمين:
الأول: ما يسعى اليه الإنسان بنفسه.
الثاني: ما يأتي للإنسان من غير عناء وجهد كبير، كما في الإرث والنماء المتصل والمنفصل في ذات المال، والرزق غير المحتسب والذي يأتي فضلاً من عند الله، وهو سبحانه لا يفعل الا ما له غاية ومقاصد سامية ، فرزق الله عز وجل الإنسان المال وجعل عند شطر من الناس أكثر من حاجتهم وكفاية مؤونتهم ، وفيه وجوه:
الأول: انه من إكرام الله عز وجل للإنسان.
الثاني: لما تفضل الله تعالى وجعل الإنسان خليفة في الأرض، انعم عليه بالمال وما يحتاج اليه.
الثالث: بعث الغبطة والسعادة في نفس الإنسان بكثرة المال وأسباب الرزق.
الرابع: تنمية ملكة السكينة في نفس الإنسان وطرد الفزع والخوف من الغد من نفسه، ولا ينحصر موضوع السكينة في المقام بصاحب المال بل يشمل عياله وأبناءه ، ومن تربطه معه صلة يستطيع من خلالها الإنتفاع من ماله ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الخامس: إشاعة الأخلاق الحميدة، والآداب الرشيدة.
السادس: محاربة الفساد وطرد الجهل والكدورات الظلمانية، وتكون محاربة الفساد بالأموال على وجوه:
الأول: تسخير الأموال في فعل الخيرات وإصلاح ذات البين.
الثاني: اتخاذ المال وسيلة لدفع المفاسد والآثام.
الثالث: المال زينة ومنعة وواقية من الرذائل والفواحش، ووسيلة لنيل اللذة بالحلال كما في حال النكاح وبذل المهر والإنفاق على الزوجة متحدة كانت أو متعددة، وفيه واقية من الفواحش، ووسيلة للإنتفاع من الذرية الصالحة.
الرابع: المال عون على أداء العبادات وأداء الفرائض، وتلك آية في الخلق وبديع صنع الله فحينما أمر الله تعالى الإنسان بعبادته سخر له ما في الأرض لإعانته وتيسير أدائه العبادات، وهو من مصاديق فضل الله على الناس وشكره تعالى لعباده.
ومن الآيات ان الأقل من الناس هم الذين يواظبون على العبادة ومع هذا تتغشى نعمة المال الناس جميعاً لتكون تأديباً لهم، ودعوة للهداية والرشاد.
السابع: الإنفاق في سبيل الله، وإخراج الحقوق الشرعية وإعانة الفقراء بما يؤدي الى تمسكهم بالإيمان وتذكيرهم بوظائفهم العبادية ولزوم الشكر لله تعالى على نعمة وصول المال اليهم بقصد القربة من الدافع.
ومن الآيات ان تأتي هذه الآية بصيغة الإنذار لمن يتخلف عن الإنتفاع من نعمة المال في مرضاة الله، فمن الشكر لله تعالى مقابلة نعمة المال بالتحلي بالأخلاق الحميدة، والتخلي عن الرذائل والتنزه عن الفواحش والذنوب والسيئات، وهذه الآية سلاح للإنتفاع من المال، وإخبار عن قانون في عالم الآخرة وهو إنتفاع المؤمن يوم القيامة من ماله وإنفاقه في سبيل الله وخسارة الكافر لماله يوم القيامة، والآية دعوة الى الإيمان وإتخاذ المال وسيلة للصلاح والإصلاح.
علم المناسبة
ورد لفظ “أموالهم” بصيغة الجمع وإرادة الغائب إحدى وثلاثين مرة، وهي على وجوه منها:
الأول: مدح المسلمين الذين يسخرون أموالهم في مرضاة الله، وينفقونها جهاداً في سبيله.
الثاني: ذم الكفار الذين ينفقون أموالهم مراءاة للناس.
الثالث: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الى عدم الإفتتان بأموال الكفار، قال تعالى [فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ]( ).
الرابع: بيان فضل الجهاد بالأموال وجعلها في سبيل الله، قال سبحانه [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( ).
الخامس: إجتناب الظلم في باب المال، والحث على إعطاء اليتامى أموالهم ، قال تعالى [وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ] ( ).
السادس: الإخبار عن عدم إغناء أموال الكفار عنهم، وهو الذي جاءت به هذه الآية على نحو النص الصريح الذي لا يقبل الترديد والإختلاف ، ومن الإعجاز فيه منع اللبس وتعدد التأويل، وهذا المنع تخفيف عن الناس، وإعانة لهم على إدراك قوانين الآخرة وأحكام الحساب وتوكيد حقيقة وهي ان الكفر حاجب لكل مصاديق الخير يوم القيامة، مما يجعل النفس الإنسانية تنفر منه ، وتحرص على إجتناب مقدماته.
وجاءت الآيات بإكرام المسلمين ودعوتهم لعدم الإنشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
لقد جعل الله الأموال فتنة وزينة في الحياة الدنيا، ليكون إنفاق الإنسان من ماله في سبيل الله جهاداً وقهراً للنفس الشهوية والغضبية، ويكون هذا الجهاد سجية وملكة عند الإنسان عندما يؤمن بالله واليوم الآخر، ويصدق بالنبوات ويعلم ان هناك حساباً ينتظره ويحتاج فيه الى المال وإنفاقه وتسخيره في سبيل الله.
ومن الآيات ان الله عز وجل جعل حقاً للفقراء والمساكين في المال الشخصي وجاء النصاب في الزكاة للتخفيف عن المسلمين وإرشادهم الى سبل طاعة الله في الإنفاق من المال قال سبحانه [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( )، ويكون المحروم يوم القيامة الكافر الذي لا ينتفع من ماله وهو في أشد الحاجة الى القليل منه.
ومن الآيات الإعجازية بيان القرآن لعدم قبول الفدية من الكفار مطلقاً، بذكر مقدار يعجز عنه الكفار مجتمعين وهو لا يكفي للفدية عن واحد منهم قال تعالى [فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ] ( )، مما يدل على عدم وجود برزخ وحاجز بين الكفار وبين النار يوم القيامة.
قوله تعالى [وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ]
عطفت الآية الأولاد على الأموال وهذا العطف وإجتماع الأموال والأولاد آية من عند الله، فقد يدرك الكافر خسارته لأمواله ولكنه لا يظن أنه يخسر أولاده أيضاً، اذ ان الولد له عقل وإختيار ويظهر العون لأبيه في الدنيا، وحينما يرى والده في عذاب جهنم قد يبادر الى نصرته والشفاعة له، او تحمل العذاب بدلاً منه، فجاءت هذه الآية للقطع بعدم إغناء ابناء الكفار عن آبائهم، وفيه وجوه:
الأول: عجز أولاد الكفار عن نصرة آبائهم.
الثاني: إنشغال أولاد الكفار بما يلاقونه من العذاب الأليم.
الثالث: وجود موانع وحواجز بين الأبناء والآباء من الكفار يوم القيامة.
الرابع: قصور أولاد الكفار عن نصرة آبائهم.
الخامس: من أحكام يوم القيامة عدم وجود نصير أو شفيع للكفار قال تعالى [مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ] ( ).
السادس: نقمة أبناء الكفار على آبائهم لوراثتهم لهم الكفر والجحود.
السابع: التنافي والتضاد بين الإجزاء وبين الكفر، فليس من أحد يجزي عن الكافر يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيها توكيد لقبح إختيار الكفر وآثاره الضارة على الإنسان في النشأتين.
ولم تذكر الآية حال أولاد الكفار يوم القيامة، فذكرت موضوع عدم إجزائهم عن آبائهم، والمراد من الأولاد هنا وجوه:
الأول: أولاد الكفار الذين ورثوا الكفر والجحود.
الثاني: أولاد الكفار مطلقاً، بما فيهم الذين دخلوا الإسلام.
وجاءت الآية بصيغة الإطلاق الشاملة للجميع لأن العلة في ذات الكفار وتخلفهم عن نيل أسباب الإجزاء والكفاية ، ونسبة الأولاد الى الكفار بقوله تعالى [أَوْلاَدُهُمْ] لا تكفي للتخصيص لإرادة النسب والتقييد، قال تعالى [لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ]( )، بالإضافة الى ان اختيار الولد للإيمان تم بعون وتوفيق من عند الله وعزم من الولد على عدم البقاء على الكفر، والتخلي عن العادات السيئة ومفاهيم الضلالة والجحود.
ويحيط أولاد الكفار بآبائهم في الحياة الدنيا، ويظهرون معهم بمظاهر القوة، ويتطاول الكفار بأولادهم على المسلمين، فيشعر المسلم بالأسى والألم لما عليه الكفار من المنعة والإنتفاع من الولد في أمور الحياة الدنيا وقد يتوعدون المسلمين بأولادهم وإمتثالهم لأوامرهم في التعدي على حرمات المسلمين، فجاءت هذه الآية لتشفي صدور المسلمين، وتبعث السكينة في نفوسهم وتنقلهم الى عالم الجزاء وما فيه الثواب والعقاب، وتخبر بان المدار على الآخرة والحاجة فيها للولد، وتعذر إنتفاع الكفار من أولادهم يومئذ.
ومن إعجاز الآية الكريمة انها ذكرت أهم أمرين يختص بهما الإنسان ويحتاجهما ويوظفهما في حياته اليومية، فجاءت الآية للإخبار عن تخلفه عن الإستعانة بهما، وقصورهما عن نجدته، مما يدل على ان غيرهما وما هو دونهما يكون متخلفاً عن إعانة الكفار من المختصات من باب الأولوية القطعية، فلا ينتفع الكافر من زوجته او أخيه أو صديقه أو صاحبه، فيبقى وحيداً فريداً في المحشر، وهل يرى أولاده حينئذ الجواب نعم، يراهم وهو في ذهول ويأس من الإستعانة بهم الى جانب النفرة والعداء بينهم للتوارث المذموم للكفر والضلالة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع، والمراد على وجوه:
الأول: عدم إنتفاع كل كافر من ولده.
الثاني: إنحصار عدم النفع بالأولاد الذكور.
الثالث: عدم الإجزاء من الأولاد مطلقاً يشمل الأولاد الذكور والإناث.
الرابع: تخلف نصرة أولاد الكفار لآبائهم على نحو العموم المجموعي، فلو أجتمع أبناء الكفار لا يستطيعون الذب عن آبائهم متحدين ومنفردين.
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة، لأصالة الإطلاق وما يترشح عن صيغة الجمع من المعاني، ومن الآيات ان الكافر يعتبر ولداً وأباً في آن واحد، فأبوه لا ينتفع منه وهو لا ينتفع من إبنه ولا من أبيه، لأن ذكر عدم إجزاء الابن عن أبيه يدل على عدم إجزاء الأب الكافر عن إبنه، خصوصاً وان الأب ترك الكفر إرثاً لإبنه ولم يعمل على إصلاحه للآخرة، بل سبب في ضلالته، وترك الشيطان يستحوذ عليه ويقوده الى النار لينقم في الآخرة على أبيه الى جانب عجزه عن نصرته وإعانته.
وتبين الآية أموراً:
الأول: عدم إنتفاع الكفار من أموالهم.
الثاني: عدم إجزاء الأولاد عن الكفار.
الثالث: عجز الكفار عن توظيف الأموال لتسخير الأولاد، فلا يستطيعون صرف أموالهم بما يجعل أبناءهم يجزون عنهم أو يكفون عنهم العذاب.
الرابع: قصور الأولاد عن توظيف أموالهم وأموال آبائهم لنجاة آبائهم من العذاب.
فمن إعجاز الآية ان موضوعها وعدم الإجزاء لا ينحصر بالأموال والأولاد كلاً على نحو الإستقلال، بل يراد منه إجتماعهما وتسخير أحدهما للآخر، وتفيد الواو في قوله تعالى [وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ] الجمع والعطف.
قانون عدم إغناء ولد الكافر عن أبيه
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان يتصارع فيها الخير والشر، والعدل والظلم، والإيمان والكفر، والحق والباطل، في بقاع الأرض، وفي النفوس البشرية، وتظهر الغلبة لأحد الطرفين في زمان مخصوص ثم لا يلبث الطرف الآخر ان يظهر على الأول، مع التباين بينهما من وجوه:
الأول: كثرة غلبة الإيمان والحق، أو ان غلبة الكفر تكون سريعة ومتزلزلة ومتعلقة بحال او شخص معين كما لو تولى الحكم جبار من الكفرة، فيزول سلطان الكفر بهلاكه وزوال سلطانه، الى جانب سعي أهل الحق لتنحية الباطل عن مراتب السيادة، فاذا ظهر الكفر لا يقنط المؤمنون بل يجاهدون لتنكيسه، واذا ظهر الحق عجز الكفار عن الإضرار بمقاماته وأهله، وتلك رحمة إلهية بالناس جميعاً، وباب للهداية، ليكون هذا العجز دعوة لهم للتدبر في أسرار الدنيا، وما فيها من الإمتحان والإختبار، وزاجراً عن الكفر، والإقامة عليه.
الثاني: ان الحياة الدنيا كلها مدرسة تنهى فصولها ومضامينها عن الكفر، وتدعو الآباء الى الإنتفاع من الأولاد في النشأتين.
الثالث: لقد جعل الله عز وجل الولد نعمة عظيمة على الإنسان، ووسيلة لحب الحياة الدنيا، وطول العمر فيها سواء بالعناية بالولد وتربيته وتنشأته وكفايته مؤونته، او بالإنتفاع منه والتمتع بما عنده من الحسن في العلم والعمل والشأن، وجاءت هذه الآية لتبين موضوعية عالم الآخرة، وحاجة الإنسان فيها الى الولد، ولا تبتنى تلك الحاجة على العمل والتربية، والنشأة، بل تنحصر بأمرين:
الأول: زيادة حسنات المؤمن وشفاعة إبنه له، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له”.
الثاني: حاجة الكفار الى من يدفع عنهم العذاب الأليم، فيتوجهون الى أولادهم فيرونهم عاجزين عن نصرتهم، مشغولين بأنفسهم، يلومون آباءهم على وراثتهم الكفر والضلالة، والتباين في الحاجة والنفع من خصائص يوم القيامة، ومن مقدمات فوز المؤمنين، وخسارة الكافرين، إذ أن الحاجة تلازم الإنسان في عالم الآخرة، ولكن تلك الحاجة مختلفة عن الحاجة في الدنيا، إذ تصيب النعم في الدنيا البر والفاجر، ويستطيع كل إنسان أن يسعى في قضاء حوائجه، وتحقيق رغائبه، وقد ينال الكافر بغيته من دون المؤمن، إما في الآخرة فليس من سعي وتسابق لبلوغ الأماني بل هناك قانون ثابت وهو نيل المسلم لرغائبه وبلوغهم مقامات من السعادة والمقام الكريم لم تطرأ على باله، وحرمان الكافر من النعم التي كان يتنعم بها في الحياة الدنيا، وما إدخره في حياته.
فمن خصائص الإنسان إدراكه لحاجته وخشيته من مداهمتها له، وتقلبات الزمان فانه يسعى لتوفير ما يحتاجه من المال والجاه، مؤمناً كان أو كافراً ولكن عالم الآخرة له موازينه الخاصة، إ ذ لا يستطيع الكافر الإنتفاع مما جمعه وإدخره في حياته الدنيا، وجاءت الآية إخباراً عن هذا القانون، وإنذاراً وتحذيراُ من عواقب الكفر والجحود، ومن إعجاز القرآن ان تأتي الآية القرآنية إنذاراً وتوبيخاً وتكون رحمة ولطفاً، وتحذيراً سماوياً للناس جميعاً، وواقية من الذنوب والسيئات والإقامة على الكفر.
وينشر الله عز وجل رحمته يوم القيامة وحتى إبليس يطمع بها، فهل يحتمل شمول الكافرين بها، وإغناء وكفاية أولادهم عنهم الجواب لا، فقد جاءت الآية على نحو الجملة الخبرية التي تتضمن القطع والجزم، وإمتناع النسخ والتبديل، وهذا القطع حجة على الكافرين وإنذار إضافي لهم، ودعوة للتخلص من الكفر والضلالة.
ومن المعلوم ان الآخرة دار حساب بلا عمل، وليس بمقدور الإنسان السعي والكسب فيها او بالواسطة، فلا يستطيع أن يبلغ أو يأمر أحداً من أهل الدنيا بالقيام بما يعود عليه بالثواب ولكن من رحمة الله عز وجل تفضله بنعمة الولد ومجيء الثواب للمؤمن وهو في قبره بما يفعل إبنه من الصالحات، وعن الإمام الصادق عليه السلام: “مر عيسى بن مريم بقبر يعذب صاحبه ثم مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب ، فقال : يا رب مررت بهذا القبر عام اول فكان صاحبه يعذب ثم مررت به العام فإذا هو ليس يعذب فأوحى الله جل جلاله إليه يا روح الله انه ادرك له ولد صالح فاصلح طريقا وآوى يتيما فغفرت له بما عمل ابنه.
فيكون ن ذات الولد تركة إضافية إيمانية مباركة يتعاهد العبادة في الأرض ويجزي عن والديه في الآخرة ويأتيهما الثواب وهما في قبرهما وكأنهما لا زالا يعملان في الدنيا ويجنيان الحسنات وهذه النعمة يختص بها المؤمنون، ويحرم منها الكفار.
وجاءت هذه الآية لتوكيد هذا الحرمان، من غير أن يتعارض هذا التوكيد مع حثهم على الإيمان، ودعوتهم للإنتفاع من الولد أحياء وأمواتاً بنبذ الكفر ودخول الإسلام.
قانون نعمة المال والولد
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بأن خلقه ونفخ فيه من روحه، وجعل له الحياة الدنيا سكناً وموطناً الى حين تتعاقب فيها الأجيال من الناس ، وهم في إزدياد ومنهم من يتنافس على المال، ومنهم من يتزاحم على الجاه والشأن، ومنهم من يتسابق في عمل الصالحات، إذ تتباين المقاصد والغايات، وماهية الأفعال والصفات ويجتهد الإنسان في السعي في الدنيا وكأن وجوده فيها مستديم، فتأتي الآيات القرآنية لإخباره بحتمية مغادرته لها، وتحتمل المغادرة أمرين:
الأول: الزوال والعدم.
الثاني: الإنتقال الى عالم آخر.
والصحيح هو الثاني، إذ ان الموت أمر وجودي، قال سبحانه [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( )، فينتقل الإنسان بالموت الى عالم آخر يكون المدار فيه على العمل، ومن الآيات ان عمل الإنسان في الدنيا حاضر عند الله عز وجل غير غائب عنه،وفيه دعوة للإنسان لإختيار العمل الصالح،وإجتناب العمل القبيح.
وهناك تباين بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، لأن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان،تكون فيها الأموال والأولاد فتنة وزينة،وطريقاً لتعيين المقام في الآخرة،فاما الإنتفاع منها في مرضاة الله،والفوز بالخلود في الجنة،وأما جعلها وسيلة لمحاربة المسلمين وفعل القبيح وخسارة الدارين،ومن اللطف الإلهي ان الله عز وجل أنزل الآيات التي تحذرالإنسان من خسارة الدارين
فجاء الإنذار في القرآن الذي هو خطاب سماوي للناس جميعاً، ويتضمن الإنذار للكافرين من وجوه:
الأول: لغة الإنذار الصريحة للكفار.
الثاني: صيغ الوعيد والتخويف بدخول النار لمن جعل أمواله وأولاده في معصية الله.
الثالث: البشارة بدخول الجنة والإقامة فيها لمن آمن بالله واليوم الآخر وفعل الصالحات، وأنفق من أمواله في مرضاة الله.
الرابع: حسن سمت المسلمين، وأداؤهم للفرائض والواجبات العبادية ، ويتضمن هذا الأداء تحذير للكافرين من الإقامة على الجحود والمعصية، فلا غرابة ان يقوم أقطاب الكفر والفسوق بالتعدي على المسلمين.
والأصل هو إتباع نهج المسلمين ومحاكاتهم في أفعالهم العبادية، ولكن الإصرار على الكفر يجعل فريقاً من الكفار يتمادون في الغي، وينفقون من الأموال في محاربة شعائر الله، فتأتي هذه الآية لإنذارهم ودعوة المسلمين للصبر المتعدد، أي الصبر في أداء الواجبات , والصبر على الأذى الذي يأتي من الكفار، وفي الإعراض عنهم.
الخامس: بشارة المسلمين بسوء عاقبة الكفار، وما ينتظرهم من العذاب الأليم، ومنه هذه الآية التي تتضمن في مفهومها إخبار المسلمين بإقامة الكفار في نار جهنم.
السادس: إقامة الحجة على الكفار، فقد رزقهم الله عز وجل الأموال والأولاد وأمرهم ان يجعلوها في مرضاته تعالى، ولكنهم جعلوها في المعصية والضلالة فإستحقوا العقاب الأليم.
وقد يقال لماذا يترك الله عز وجل الإنسان الى زمان الآخرة، ولا يؤاخذه في الحياة الدنيا وينزل به من البلاء ما يجعله يعتبر ويتعظ ويتوب، أو يجتنب التعدي على المسلمين، أو يكون قاصراً وعاجزاً عن إيذاء المسلمين.
والجواب ان هذه الأمور حاصلة في الدنيا فالله عز وجل يبتلي الكفار بأنواع البلاء، ويشغلهم بأنفسهم، ويجعلهم في أوقات كثيرة عاجزين عن التعدي على المسلمين، كما يمد المسلمين بالقوة والمنعة التي تجعل الكفار يرهبون جانبهم، ويحذرون ردهم وهجوم غزاتهم.
وجاءت هذه الآية بالإنذار الأعم الشامل للحياة الدنيا والآخرة، اذ انها تفيد عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الكافرين [مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] والله عز وجل له ملك السماوات والأرض وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء، ويجعله بقدر محدود لمن يشاء من العباد ويكون الكفر والجحود مانعاً من الفضل والنماء والبركة في المال والولد لذا ترى بعض الكفار في سعة وغنى، ولكن ما تلبث تلك الأموال أن تتبدد سواء في حياته أو بعد وفاته وإنتقالها الى الذرية، كما ان لغة الإنذار تلاحقه والكفار جميعاَ، وتمنع من تحقيق الغايات الخبيثة التي توظف من أجلها وفيه درس وإنذار إضافي للكفار، أي ان لغة الإنذار لا تنحصر بالتنزيل والسنة النبوية بل تشمل التجربة والوجدان والواقع الذي يأتي مصداقاً لهذه الآية والآيات الكثيرة الأخرى المشابهة لها، والتي تدل في منطوقها أو مفهومها، أو هما معاً على صدق الإنذار وتحقيق مقدماته في الدنيا.
وهذه المقدمات دعوة للكفار للألتفات الى لغة الإنذار القرآنية، وزاجر عن المعاصي ووسيلة عملية تدعوهم للكف عن الإنفاق في المعصية، وتحثهم على عدم ترك الكفر والجحود تركة للأبناء، وكل من الأموال والأولاد وديعة شرعية عند الإنسان فليحسن تعاهد هذه الوديعة، وعدم تسخيرها في المعصية.
ومن الآيات ان الفقير يسعى لجمع المال، ويتمنى أن يكون عنده مال كثير وينظر الى الأغنياء بعين الحسد الا المؤمن الذي يرضى بما قسم الله له تعالى من الرزق، ويتمنى العقيم الذي ليس عنده ولد الولد، ويبذل الوسع من أجله، وينفق الأموال الكثيرة، ويسافر الى البلدان البعيدة للعلاج ، وتحصيل أسباب الإنجاب، وهو فرد قليل من الناس أي ان الأكثرية الغالبة جعلها الله عز وجل مؤهلة بالخلقة للولد، ومن الشكر لله تعالى على نعمة الولد والمال هو تسخيرهما في مرضاة الله، وتعليم الأولاد سنن الإيمان وإجتناب جعلهم وسيلة لمحاربة الإسلام والمسلمين.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بان حذرهم من الإنشغال بالمال والولد عن ذكر الله وأداء الفرائض في أوقاتها، والجهاد في سبيله)، من غير أن تتعارض هذه الدعوة مع لزوم إعطاء الأولوية لسنن التقوى، والإجتهاد في طاعة الله، وعدم جعل الأموال والأولاد تزاحم أو تعارض العمل الصالح، وفيه شاهد على التباين بين الإيمان والكفر في عالم الأفعال والوسائل والغايات، وتسخير الأموال والأولاد في طاعة الله وعدم الإنشغال بها عن العبادة والنسك سبب لنمائها، ومناسبة لجعل البركة فيها،وتأديب حسن للأولاد ، لذا ترى إتصال النماء والزيادة في عدد المسلمين وكثرة ابنائهم , وجاءت الآيات والنصوص التي تدل على إستحباب كثرة الإنجاب ، والوعد الإلهي بالرزق الكريم لهم قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ] ( ).
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] ثلاث مرات في القرآن( )، إثنين منها في سورة آل عمران وحدها، وفيه دلالة على ان سورة آل عمران سورة الإنذار من أهوال القيامة، والتحذير من الخسارة فيها ، وجاءت آياتها لتحذر الكفار من ضياع الأموال والأولاد، ومن الآيات ذكر الأولاد مع الأموال في مسألة عدم الإجزاء ليأتي الإنذار جامعاً مانعاً، جامعاً لما يحتمل الإنتفاع منه، ومانعاً من الظن بحصول النفع من الأولاد ان ذكرت الأموال وحدها، ومن الأموال ان ذكر الأولاد وحدهم.
لقد أمر الله عز وجل الإنسان بالإحسان الى والديه قال سبحانه [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا] ( )، وجاءت الوصية من عند الله عز وجل إلى الناس مطلقاً من غير تقييد بوصف حسن من صفات الهداية والإيمان، وجاءت أدعية الأنبياء الصالحين بسؤال العفو والمغفرة للوالدين، وفي نوح عليه السلام ومع دعائه على الكفار فانه سأل الله عز وجل ان يغفر لوالديه ، كما ورد حكاية عنه في التنزيل [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا] ( ).
وجاءت الآية محل البحث للإخبار عن إنتفاع الآباء من الأبناء، وأنهم لا يجزون عن آبائهم من الكفار، فلا يستطيعون رفع أو تخفيف العذاب عنهم، ويحتمل وجوهاً:
الأول: يتمنى الأولاد ان يقع العذا ب عليهم بدل وقوعه على آبائهم.
الثاني: لا يتمنى الأولاد نزول العذاب بهم بدل آبائهم لشدة العذاب.
الثالث: يعاني الأبناء من العذاب الشديد لإختيارهم الكفر، ولا يستطيعون تمني زيادة قليلة.
والصحيح هو الثاني والثالث، فكل كافر يعاني من شدة العذاب، وكما للأب حق على الابن في بره والعناية به وعدم إيذائه، فان للابن حق على الأب في تربيته وإصلاحه للعبادة وتعليمه الآداب والعادات الحميدة، وزجره عن الضلالة والأخلاق المذمومة كالتعدي والغيبة والحسد.
لذا يأتي ابن الكافر يوم القيامة وهو ساخط على أبيه لكفره وضلالته، وحجب سنن الإيمان عنه، وقال رجل من الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبر قال: والديك، قال: قد مضيا، قال: بر ولدك.
بحث فلسفي
لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل، وجعله آلة التمييز، والمائز بين الإنسان وغيره من الخلائق من جنس الحيوان والنبات، والعقل من بديع خلق الله وبه يستطيع الإنسان تعيين مراده وقصده، وإختيار أقواله وأفعاله، ومعرفة الأشياء والجواهر والعروض، والمعقولات على قسمين موجودة ومعدومة، والموجود أشرف من المعدوم، وينقسم الموجود الى قسمين:
الأول: الجماد الذي يفتقر الى الحركة والنمو والحس.
الثاني: النامي، وهو الذي يقبل النمو والزيادة الذاتية، وهو على قسمين:
الأول: الحساس.
الثاني: النامي غير الحساس.
وينقسم النامي الحساس الى قسمين:
الأول: النباتي.
الثاني: الحيواني، وهو على قسمين:
الأول: العاقل.
الثاني: غير العاقل.
والعاقل هو الأشرف والأفضل، وقد تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان العاقل خليفة في الأرض، ليتخذ من عقله وسيلة مباركة للإقرار بالربوبية لله تعالى، ويعمر الأرض بالعبادة.
وتؤثر في سلوك وماهية عمل الإنسان ثلاث قوى وهي:
الأولى: القوة العاقلة وهي التي تتولى الأعمال الفكرية، وتدبير أحوال البدن.
الثانية: القوة الشهوية ، وتتضمن الغرائز واللذات الحيوانية من حب المال والميل الى النساء والتمتع بالطيبات.
الثالثة: القوة الغضبية، وهي منبع العواطف والإنفعالات والشجاعة والغضب.
وتؤثر هذه القوة مجتمعة ومتداخلة في عمل الإنسان وتنعكس على سجاياه وتصرفاته وكيفية سعيه لتحقيق غاياته، وجاءت الرسالات القرآنية لإمامة الناس وقيادتهم للإيمان بالله وعبادته وذكره وإظهار صفة العبودية المحضة، وفيها تهذيب للسلوك وإصلاح للمجتمعات، وجاء القرآن بمضامين التقوى وتثبيت سنن التوحيد في الأرض ونبذ الشرك والضلالة، ومنها السعي لتهذيب أخلاق الأبناء وبذل الوسع في هدايتهم لسبل الخير، والعمل على الإنتفاع منها في النشأتين والذي لا يتحصل الا بجعل الإيمان تركة يرثونها.
وجاءت هذه الآية لتبعث في النفس الإنسانية التساؤل عن العاقبة الأخروية، وإجتناب الخسارة يوم القيامة قال سبحانه [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، وتجعل الإنسان يتدبر أمره ويقبل على عمله رجاء الغايات الحميدة والفوز في الآخرة وإظهار الحرص على سلامته وسلامة أولاده في عالم البرزخ ويوم القيامة.
قانون إجزاء البنت
لقد رغّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبنت، ودعا الى عدم التطير والتشاؤم من ولادتها , وذكر أنه أتى رجل الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر بمولود أصابه فتغير وجه الرجل فقال له النبي صلى الله عليه وآله : مالك ؟ فقال خير ، فقال : قل ، قال : خرجت والمرأة تمخض فاخبرت أنها ولدت جارية ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله : الأرض تقلها والسماء تظلها ، والله يرزقها وهي ريحانة تشمها ، ثم أقبل على أصحابه فقال : من كانت له ابنة فهو مفدوح ومن كانت له ابنتان فيا غوثاه بالله ومن كانت له ثلاث وضع عنه الجهاد وكل مكروه ، و من كان له أربع فيا عباد الله أعينوه ، يا عباد الله أقرضوه ، يا عباد الله ارحموه( ).
وحارب الإسلام من أيامه وأد البنات وقتلهن، تلك الظاهرة التي كانت موجودة في الجزيرة العربية، ومنع من تكراره في أمصار ومناطق أخرى من العالم، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبنت وبارك تربيتها وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم أبا بنات كن مثالاً للعفة والطهارة والإيمان، ووردت الأخبار بان فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، مما يعني دخول النساء الجنة ، ومن تدخل الجنة تنفع أبويها المؤمنين، لذا جاءت الآية بإنقاذ البنات من الكفر والضلالة وما يترشح عنهما من الإضرار الإجتماعية والأخلاقية.
لقد أولى الإسلام عناية خاصة بالبنت لذاتها ولغيرها، اما الذات فان تربيتها أمانة عند الوالدين لتنمية ملكة العفة والتقوى عندها، ومن وظيفتهما إصلاحها لوظائفها العبادية لتوجه الخطاب التكليفي لها بعرض واحد مع الرجال، وتضمنت هذه الآية التحذير من إهمال تربية الناشئة تربية إيمانية، ولزوم جعلهم إذناً صاغية وداعية لمفاهيم التوحيد وإعانتهم على التصديق بالكتب السماوية المنزلة،والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل وإتيان الأوامر وإجتناب النواهي، وتعمل البنت على سد الفراغ في البيت الذي يخلفه خروج الوالد للعمل وغيابه بحرصها على العبادة والذكر وعدم تفريطها بالفرائض ليبقى البيت بها مزداناً بالصلاح والتقوى.
وصلاح وعبادة البنت مناسبة لإكتساب الأب الصالحات من بيته وعياله، حتى في حال غيبته، بالإضافة الى انها زينة في الدار، وباعث على السكينة والسعي لمؤونة العيال، وعن الإمام الصادق عليه السلام “ان ابراهيم عليه السلام سأل ربه أن يرزقه إبنة تبكيه وتندبه بقدومه”( ).
ان إكرام البنت لوالديها في الدنيا يتجلى بإدراكها لحاجتهما الى إستغفارها لهما، واستقامتها وحسن سمعتها وتعاهدها للعبادة الذي يعود عليهما بالثواب، وان كانا ميتين وجاءت الآية لبيان خسارة الكفار لهذه النعمة، وعدم إنتفاعهم من بناتهم لأنهم لم يؤدبوهن على الإيمان وسنن التوحيد.
ولقد نهى الإسلام عن عقوق الوالدين، ودعا الى العناية بهما وإجتناب الإساءة لهما ، قال تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا] ( )، مما يدل بالأولوية القطعية على حرمة إيذائهما والإضرار بهما أو ضربهما، وهذا التأديب شامل للولد والبنت، وجعل الله عز وجل للبنات حقاَ على الآباء والأمهات في إصلاحهن وحسن تأديبهن، ومن الآيات ان هذا الحق يعود بالنفع على الآباء والأمهات أنفسهم في الآخرة وهي دار الجزاء والثواب، فمن يجتهد في إصلاح بناته ويورثهن التقوى ينال الثواب في الآخرة، إذ يؤذن للصالحات بالشفاعة لآبائهن وإمهاتهن، وسؤال العافية والسلامة من العذاب لهم.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: رحم الله والدين أعانا ولدهما على برهما)، ومن بر الوالدين الدعاء لهما، وطلب العفو والمغفرة لهما، وهو وان جاء في الدنيا الا انه من أفراد وأقسام الإجزاء في الآخرة بفضل الله، فيأتي دعاء البنت رحمة لوالديها اللذين أصلحاها لسنن الإيمان، ويحرم الكافر من دعاء أبنائه له، وما يترشح من الدعاء من تخفيف العذاب ونيل العفو والمغفرة.
ومن الآيات في أحكام الإسلام ان القضاء على الوأد لم يؤدِ الى حياة البنت وحدها بل فيه حياة للأمة وصلاحها ، ونماء للأجيال المتعاقبة، لإقتران حرمة الوأد بالثبات على الإيمان، كما ان حرمته باب لشكر المرأة المسلمة الله عز وجل على هذه النعمة وتجلي الشكر بتعاهد العبادة وأداء الفرائض والدعاء الى الوالدين والإستقامة في أمور الدين والدنيا , وتنشأة الأبناء تنشأة إسلامية.
قوله تعالى [مِنْ اللَّهِ شَيْئًا]
جاءت الآية للإخبار عن عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الكفار شيئاً، اذ ان الإطلاق يحتمل وجوهاً:
الأول: عدم الإجزاء مطلقاً في الدنيا والآخرة.
الثاني: عدم الإجزاء في أمور الدين والدنيا.
الثالث: لا يكون أولاد الكفار عضداً وعوناً لهم في المعاشات والزراعات والمكاسب.
الرابع: إنحصار عدم إجزاء أولاد الكفار عن آبائهم في عالم الآخرة، دون الحياة الدنيا.
وجاءت الآية الكريمة بذكر قيد لعدم إجزاء الأموال والأولاد وهو انها لا تجزي الكفار من الله عز وجل، والأصل فيه هو عدم الإجزاء في الآخرة وعند الحساب، الا انه عام يتغشى الوجوه أعلاه، وتظهر آثاره في الحياة الدنيا في دعوة للكفار وللإنانة وإدراك أضرار الكفر وإجتناب الإقامة عليه.
بالإضافة الى توكيد قاعدة كلية وهي عجز الكفار عن تسخير أموالهم وأولادهم للإنتفاع منهم بالواسطة، فلا يجد الكافرون من يعينهم على الإنتفاع من أموالهم وأولادهم في الآخرة ، كما ان الأولاد يعجزون عن إيجاد من ينصرهم ويساعدهم لإعانة آباءهم، فالخلائق كلها تعجز وتتبرأ من نصرة الكافر يوم القيامة.
وفي الآية بيان لحقيقة وهي ان الأمر كله لله ، وانه سبحانه قادر على كل شيء في الدارين ، وتفضل بالإخبار عن الثواب والعقاب في الأخرة.
لقد جاءت الآيات القرآنية بتوكيد حلول العذاب الأليم بالكفار، وإتصافه بالإستدامة والتأبيد، فلا يغادر الكفار النار أبداً، وجاءت هذه الآية لبيان إنتفاء أسباب المغادرة بخصوص الأموال والأولاد والمقتنيات الخاصة التي عند الكفار فقد جعل الله عز وجل الأموال والأولاد قرينة في الحياة الدنيا، أما في الآخرة فان المؤمن يتخذها وسيلة لنيل الحسنات والفوز بالنعيم، وأما الكافر فانه يحرم من الإنتفاع منها وتكون حسرة عليه، فيستغيث وليس من مجيب، ويندب أولاده وأمواله دون جدوى.
وفي الآية دلالة على ان القوة لله جميعاً، وأنه سبحانه جعل الأموال والأولاد امتحاناً للإنسان، وإختباراً ليرى هل يجعلها في طاعته ورجاء مرضاته فيفوز بالإنتفاع الأخروي منها، أم انه يختار الكفر والضلالة ويجعلها مادة لبقاء مفاهيم الكفر في الأرض، فيتلقى العذاب الأليم بسببها يوم القيامة.
ومتى ما أدرك الإنسان ان مقاليد الأمور كلها بيد الله تعالى فانه يلتفت الى وظائفه العبادية وينزجر عن المنكرات ويسعى لبلوغ مراتب رضا الله في النشأتين ويحرص على جعل الأموال والأولاد تجزي عنه، وتكفيه، ولا يكون هذا الجعل الا بتسخيرها في طاعة الله، وإصلاح الأولاد للعبادة ووراثة الطاعات وأداء الفرائض والمناسك ، وهو من أهم وجوه الإبتلاء في الدنيا، وجاءت الآية الكريمة للتنبيه عليه، والعناية به، وعدم التفريط به، لأن التفريط يقود الى الخسران المبين بعدم إجزاء الأموال والأولاد.
أسباب النزول
ذكرت في أسباب وموضوع هذه الآية والآية التالية وجوه:
الأول: المراد قريظة والنضير من اليهود، وهو المروي عن ابن عباس لتوظيف رؤساء اليهود والأموال في معاندة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: نزلت الآية في مشركي قريش، وكان أبو جهل كثير الإفتخار ونزل فيه قوله تعالى [وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا]( ).
الثالث: نزلت الآية في أبي سفيان لأنه أنفق مالاً كثيراَ على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: نزلت الآية في الكفار عامة اذ انهم يتباهون بكثرة الأموال والأولاد، وينعتون النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالفقر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، كلها ومن مصاديق الآية الكريمة والجمع بين التخصيص والعموم وأحكام الآية إعجاز إضافي للقرآن كما ان الآية أعم منها فهي تتضمن الإنذار على الإنفاق في الدنيا لمعاداة الإسلام، وفي معصية الله مطلقاً، وتحذر من الكفر بإعتباره ماحقاً للنعمة وحاجباً عن الإستفادة في الآخرة من الأموال والأولاد، وتبعث الآية الفزع في قلوب الكفار، وتقطع إنقطاعهم الى المال والإفتخار به وبالأولاد وهي سلاح بوجه الكفار الذين يتوعدون بأموالهم وأولادهم المسلمين من أيام التنزيل والى الآن وفي المستقبل ، وتخبرهم بان النفع من المال والولد مع الكفر محدود ولا يتعدى أيام الحياة الدنيا ولن تستطيع أموالهم وأولادهم دفع العذاب الأليم عنهم.
قوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ]
جاء هذا الشطر حكماً وقاعدة كلية، تبين أحوال الكفار في الآخرة، وسوء مقامهم فيها، ونعتتهم بأنهم أصحاب النار وتحتمل الصحبة هنا وجوهاً:
الأول: إنفراد الكفار بالإقامة في النار.
الثاني: كون الكفار أصحاب النار أي انها خاصة بهم ولهم.
الثالث: المصاحبة والملازمة بين الكفار والنار فلا يخرج الكفار من النار
والصحيح هو الثالث، فالصحبة تعني الملازمة ولكن إضافتهم بنعت الأصحاب الى النار إشارة الى إنفرادهم بدوام البقاء فيها، وأستدل شطر من العلماء بهذه الآية بعدم إستدامة بقاء فساق المسلمين في النار على نحو التأبيد، لإفادة الحصر في الصحبة من معنى الآية وإختصاص دوام البقاء في النار بالكفار.
وجاءت الآية باسم الإشارة بصيغة الجمع “أولئك” الذي يفيد البعد ومعنى التوبيخ والإزدراء، فالآية خطاب للمسلمين يتضمن توبيخ الكافرين بالإخبار عنهم بلغة البعد، التي تشير اليها صيغة الإشارة، بالإضافة الى إستقراء التوبيخ الإضافي من نعتهم بأنهم أصحاب النار، وتفيد صيغة الجمع في المقام شمول الوصف وإستغراقه لجميع الكفار فكلهم مقيمون في النار.
وجاءت بداية الآية بالإخبار عن عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الكفار في مواطن الحساب وعالم الجزاء، ثم جاء هذا الشطر من الآية للإخبار عن ملازمة الكفار للنار والصلة بين أول الآية وآخرها من وجوه:
الأول: ان الكفار ملازمون للنار أبداً، ويترشح عن هذه الملازمة عدم أجزاء الأموال والأولاد عنهم.
الثاني: الآية من الإستدلال بالبرهان الإني أي الإستدلال من العلة الى المعلول، فما دامت الأموال والأولاد لا تجزي عن الكفار تكون النار مثوى دائماً لهم.
الثالث: بيان قاعدة كلية في أحكام يوم القيامة وهي الملازمة بين الخلود في النار، وعدم إجزاء الأموال والأولاد، ويختص الكفار بهذه الملازمة.
الرابع: بيان صفة الكفار، وأنهم يتصفون بعلامات هي:
الأول: عدم إجزاء الأموال عنهم.
الثاني: عدم كفاية أولادهم لهم، وعجزهم عن نصرتهم وإعانتهم في الآخرة.
الثالث: الملازمة بين إختيار الكفر ودخول النار، فمع مجيء الآية بصيغة الغائب الا انها تتضمن معنى مخاطبة الكفار على نحو متحد وتقديرها “ايها الكفار لن تجزي عنكم أموالكم ولا أولادكم من بطش الله شيئاً” كما ان الآية إنحلالية تتضمن توجيه التوبيخ لكل فرد من الكفار، وزجره عن الكفر، ويأتي هذا الزجر بالواسطة والمفهوم بإدراك الكافر لما ينتظره من العذاب الأليم بسبب كفره، وإنعدام الناصر والعون والمدد من القريب والبعيد.
وتحتمل ملازمة وصحبة الكفار للنار وجوهاً:
الأول: الصحبة أمر قهري ملزم للكفار لا يستطيعون التخلص منه.
الثاني: النار هي التي تختار أصحابها من بين الناس.
الثالث: ليس من صلة بين الإنسان مطلقاً وبين النار في الأصل، ولكن الكفار هم الذين إختاروا صحبة النار، والحلول بالعذاب الأليم.
والصحيح هو الثالث لأن الدنيا دار إمتحان وبلاء ومقدمة لعالم الحساب والجزاء، وقد هدى الله عز وجل الناس للإيمان بالكتب السماوية المنزلة والنبوة والعقل، وأنذرهم من الكفر والجحود وبين لهم سوء عاقبة الكفر، ومنه هذه الآية، التي هي رحمة بالناس جميعاً، وحجة على الكفار، ودعوة للإيمان والنجاة من العذاب الأليم في الآخرة، فليس من صلة بين الإنسان وبين النار لكن الكافر هو الذي يسعى بيديه للعذاب الأليم، وذات النار لا تريد للإنسان دخولها، وفي التنزيل [َيوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ] ( ).
ومن منافع هذه الآية أمور:
الأول: منع الناس من الإقامة على الكفر فمن كان كافراً تأتي هذه الآية لتزجره عن الكفر من وجوه:
الأول: إخباره عن سوء إختيار الكفر والجحود، بإفتتاح الآية بذم الذين كفروا وما فيه من الدلالة على الجحود والعناد.
الثاني: إخبار الآية عن عدم إجزاء أموال الكافر عنه، في الوقت الذي ينتفع فيه المؤمن من أمواله التي أنفقها في الدنيا فتكون له واقية من النار، ووسيلة مباركة لدخول الجنة.
الثالث: الآية شاهد سماوي على عدم إمكان أولاد الكفار الذب عن آبائهم وأمهاتهم في عالم الآخرة، ومن خصال الإنسان الرغبة في الولد كي ينفعه في أيام حياته، فجاءت الآية لتؤكد على الموضوع الأهم في المقام وهو نفع الولد في الآخرة او الحرمان منه، وقد أنحصر الحرمان من الولد في الآخرة بالكفار.
الرابع: الوعيد بملازمة الكفار للنار، والحلول في العذاب الأليم.
الخامس: خلود الكفار في جهنم.
قانون أصحاب النار
لقد جعل الله عز وجل يوم القيامة وعالم الحساب متأخراً زماناً عن الدنيا، وليس من أثر ظاهر للجنة والنار في الحياة الدنيا، فلا يحس الإنسان بنعيم الجنة، ولا شدة حرارة النار، ولكن القرآن جاء بإخبار الجنة والنار بما يجعل الإنسان يشعر بقرب الحساب، ويدرك لذة نعيم الجنة عند ذكر آيات القرآن لها، وتنفر نفسه من النار وشدتها عند سماع آية الإنذار والوعيد بالنار، وتلك خصوصية وإعجاز خاص للآيات القرآنية .
فليس من كتاب وإخبار عن الجنة يكون له ذات التأثير والسلطان على النفوس مثل الأثر المترتب على تلاوة أو سماع الآية القرآنية وما فيها من أخبار عالم الآخرة، ولا ينحصر موضوع تأثير الآية القرآنية بالمسلم والمسلمة دون غيرهما من الناس، بل هو عام وشامل فالفاسق والظالم والكافر تمتلأ نفوسهم فزعاً وخوفاً حين سماع آيات الوعيد، ويرون ما ينتظرهم من العذاب ليكون هذا الخوف رحمة دنيوية بهم ودعوة لهم للتوبة والإنابة وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فمن مصاديق الرحمة الإلهية مجيء آيات القرآن بالوعيد للكافرين، وإخبارها بانهم أصحاب النار ليكون هذا الإخبار زجر للإنسان عن الكفر والتعدي على المسلمين، وصحيح ان هناك ملازمة بين النار والكفر، ومصاحبة الكافر للنار في الآخرة، إلا ان الكفر ليس ملازماً لكل إنسان ورث الكفر عن آبائه، أو كان رئيساً من رؤساء الكفر،لبقاء باب التوبة .
فجاءت المصاحبة والملازمة بين النار ومن يموت على الكفر أما الكافر من أهل الدنيا فان هذه الآية وما فيها من الإنذار تدعوه بلطف الى التخلص من الكفر والإقلاع عن المعصية وتحثه على ان لا يكون من أصحاب النار الذين ذكرتهم هذه الآية، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد في جذب الناس للإسلام، ودعوتهم للإيمان ، والتخلص من براثن الكفر والجحود.
ومن يصر على الكفر فان هذه الآية إنذار له، وحجة عليه لذا تتصف الآية القرآنية بخصوصية إعجازية وهي تعدد الغايات منها مع تعدد الموضوع والجهة المقصودة أو إتحادها، ويتجلى تعدد الجهة بتوجه الآية القرآنية في منطوقها ومفهومها الى المؤمن والكافر، فحينما تأتي آية الوعيد بالنار والإخبار عمن يكون من أهلها وأصحابها فان المؤمن يشكر الله عز وجل على النجاة من النار والعقوبة بها، ويحرص على إجتناب الأسباب المؤدية للنار، لذا تراه يتخذ من آيات الإنذار وسيلة لزيادة إيمانه وإرتقائه في المعارف الإلهية، والإنقطاع الى الله تعالى، أما الكافر فانه يتلقى الإنذار والوعيد، ويدرك ما ينتظره من العذاب، ومنهم يسعى لما ينجيه من صحبة النار بالتوبة.
ومن إعجاز الآية القرآنية انها إنذار متجدد، يطل على الإنسان كل يوم فمن لم ينتفع من مضامينها والإستماع اليها مرة أو مرات عديدة فانها لا تهجره او تعرض عنه، بل تستمر بمخاطبته والتودد اليه فينسى موضوعها ،ولكن الكافر ينشغل بالدنيا وجمع الأموال وتسخيرها والأولاد في المعصية والتعدي، فتعاود الآية القرآنية الكره بإنذاره وترغيبه بالإيمان، وحثه على ترك الكفر، وهذا التكرار يحتمل في أثره وجوهاً:
الأول: إنصات الكافر لها بنفس الإنصات والإصغاء في كل مرة.
الثاني: إعراض الكافر عنها لأنه سبق وان سمعها.
الثالث: تجدد إلتفات الكافر الى مضامين ومقاصد الآية القرآنية.
الرابع: إزدياد نفرة الكافر من الكفر والجحود، ومايؤدي اليه.
الخامس: إدراك الكافر لحاجته للإيمان.
السادس: تدبر الكافر بماله في الآخرة، وضرورة إختيار وفعل ما يؤدي الى سلامته فيها.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس والسادس، ففي كل مرة ينصت الكافر فيها الى الآية القرآنية يتجدد إحساسه بألم النار، ويبتعد عن حرها وينفر من شدتها، وقد تقدم في الجزء السابق قانون “الإخبار القرآني إعجاز”( ).
وفي إخبار هذه الآية إعجاز من وجوه:
الأول: إختصاص الذم والوعيد فيها بالكافرين.
الثاني: عدم إجزاء ونفع أموال الكافرين عنهم.
الثالث: عجز أولاد الكفار من نصرتهم وإعانتهم والشفاعة لهم.
الرابع: التخلية بين الكفار وعذاب الله.
الخامس: الإخبار بمصاحبة النار للكافرين، وملازمتهم لها.
السادس: اللبث الدائم للكفار في النار.
وكل فرد من هذه الأخبار إعجاز من وجوه:
الأول: إعجاز المعنى المستقل لكل فرد منها.
الثاني: الإعجاز بإنضمام الخبر الواحد منها للأخبار الأخرى الواردة في الآية مجتمعة.
الثالث: الإعجاز بإنضمام كل فرد منها مع فرد واحد من مجموع الأخبار الواردة في الآية الكريمة.
لقد أراد الله عز وجل للناس الهداية في الدنيا، والسلامة والأمن في الآخرة، فجاءت هذه الآية لبيان قبح الكفر وما يترتب عليه من الآثار والأضرار في الدنيا والآخرة، وحث الكفار على التخلي عن الكفر ونبذ التعدي على الإسلام ، وتوكيد حقيقة وهي قدرة الإنسان على التخلي عن الكفر، والإحتراز من ظلمه لنفسه ولغيره، لكي ينجو من النار وملازمتها الأبدية.
علم المناسبة
ورد لفظ (أصحاب) بصيغة الجمع سبعاً وسبعين مرة في القرآن وواحدة مضافة الى الضمير المتصل “أصحابهم” وهو عدد كثير ومدرسة في الصحبة والملازمة المتباينة، إذ ان لفظ أصحاب عام وشامل فجاء في أمور الدين والدنيا، وفي خصوص عالم الآخرة، وصحبة الجنة أو صحبة النار، ويأتي لفظ الصحبة الوارد بخصوص الدنيا عنواناً للمدح أو الذم، وإشارة لدخول الجنة أو النار، ومن المدح والوعد الكريم ذكر أصحاب الكهف والرقيم، وذكر المؤمنين في قوله تعالى [فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى] ( ).
لقد جاء ذكر أصحاب النار في خمس وعشرين آية منها، على ثلاث صيغ:
الأولى: ورد بلفظ أصحاب النار سبع عشرة مرة.
الثانية: جاء بصيغة أصحاب الجحيم خمس مرات.
الثالثة: جاء بصيغة أصحاب السعير ثلاث مرات.
كما ورد لفظ “أصحاب النار” وصفاً للقائمين عليها من الملائكة قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً]( )، وفيه إنذار للكفار وأنهم لن يتركوا في النار بمفردهم بل هناك ملائكة غلاظ مسلطون عليهم.
والتعدد في وصف أصحاب النار توبيخ إضافي للكفار، وتشديد في الإنذار وإخبار عن تعدد النيران وما فيها من العذاب الأليم كما جاء وصف أهل النار بانهم أصحاب المشئمة في مقابل أصحاب الميمنة وهم المؤمنون ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ] ( )، والمراد أنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال وانهم أصحاب الشؤم على أنفسهم، وتطبق عليهم أبواب النار، وبلحاظ تفسير القرآن بالقرآن فان المراد من صحبتهم للنار غلق أبوابها عليهم فلا يخرجون منها، ولا يطرق عليهم بابها ضيف أو شفيع.
“والجحيم “اسم من أسماء النار، والمراد بها النار الشديدة التأجج، فهي تجحم جحوماً أي توقد توقداً”، ويكثر جمرها ولهبها ويشتد إشتعالها، كما في قصة ابراهيم عليه السلام في التنزيل [قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ] ( ).
والسعير من أسماء النار أيضاً يقال سعر النار يسعرها سعراً: أوقدها وهيجها، ويطلق على من يبدأ الحرب ويشعل فتيلها: أسعر الحرب.
ومن الآيات ان يأتي إجتماع لفظ الجحيم والسعير معاً في وصف النار قال تعالى [وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ] ( )، وقال تعالى [وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا] ( ) وقيل السعير لهيب النار.
قانون أولئك أصحاب النار
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالحياة الدنيا، إذ ان الحياة ذاتها نعمة عظيمة، ومدرسة جامعة، ومناسبة لفعل الصالحات والتلذذ بالطيبات، والأنس بالأولاد، والغبطة والسكينة بالأموال، يقتني الفقير شيئاً يسيراً فيفرح به، ويسعى الغني الى جمع الأموال الكثيرة ويتوجه الخطاب التكليفي لهما والناس جميعاً بالشكر له تعالى على نعمة المال والولد والعافية وطول العمر، والسكن في الأرض وعمارتها والمنزلة التي جعل الله عز وجل الإنسان بها بين الخلائق، ومن الآيات ان نعمه تعالى لا تنتهي عند حد الدنيا وان جزاءه على الشكر له سبحانه لا يتوقف عند مضاعفة وزيادة النعم الإلهية في الدنيا، بل يتجلى الشكر والفضل الإلهي في عالم الآخرة بخلود المؤمنين الذي يعملون الصالحات بالجنة والنعيم الدائم، وجاءت هذه الآية لدعوة الناس جميعاً الى الفوز بالجنة بالمنطوق والمفهوم، أما المنطوق فهو مجيء الآية بالوعيد للكفار بالخلود في النار، وأما المفهوم فهو أن النجاة من النار مدخل إلى الجنة إذ لا واسطة بينهما.
ومن الآيات إنفراد الوعيد الإلهي بالشدة والإنذار بالعذاب الأليم وعدم وجود مانع من تحقيقه، فقد يتوعد الملوك ولكن أيديهم لا تصل الى الخصم والعدو، أو أنهم يميلون الى المصالحة والتنازل، او ينتصر الخصم ليهرب الملك أو يُقتل بعد عزه وسلطانه، فيذهب وعيده وتهديده ادراج الرياح.
وفي هلاكه عبرة وموعظة للناس جميعاً، ودليل على ان القوة جميعاً لله تعالى، وقد يعد الملك أنصاره والمقربين منه بالمنح والجوائز والمناصب ولكن ملكه لا يلبث أن يزول فلا يترتب على وعوده أثر أو نفع، أو ان ملكه يبقى مدة ولكنه يعجز عن الوفاء بوعوده ويبتلى بما يشغله عنه، لتوكيد حقيقة ثابتة وقانون دائم وهو ان الله عز وجل وحده القادر على الوفاء بوعوده للمؤمنين وفعل وعيده بأعدائه.
ومن الآيات ان وعود الله عز وجل من اللامنتهي سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الأمة ، والقرآن كله وعد وبشارة، سواء بالمنطوق والنص، أو بالمفهوم، وفيه من الوعيد ما لا يقدر عليه الا الله تعالى، ومنه هذه الآية ومن الآيات ان الجهة التي يتوجه اليها الوعيد معلومة بالصفة التي لا تقبل الترديد أو اللبس، إذ ان الوعيد يخص الكافرين الذين يجحدون بالآيات.
والأصل هو الإيمان وعليه الفطرة ومن اللطف الإلهي بالناس أن تأتي الإنذارات للكافر الظالم لنفسه، وفيها وعيد وتخويف بما ينتظره من العذاب الأليم ،وإخبار عن علم الغيب وأمر لا يعلمه الا الله تعالى ولكنه أصبح بهذه الآيات معلوماً للمؤمن والكافر، وهذا العلم رحمة بالناس من وجوه:
الأول: علم المؤمن بما ينتظر الكافر من العذاب الأليم، وفيه مسائل:
الأولى: بعث السكينة في نفس المسلم لعدم إرادته بالإنذار والوعيد.
الثانية: توجه المسلم بالشكر لله تعالى على نعمة الإيمان والأمن والسلامة من الوعيد بالخلود في النار.
الثالثة: عدم الخوف والخشية من الكفار، فاذا علم المسلم سوء مقامهم في الآخرة فانهم يزدريهم ولا يعني هذا الإستخفاف بقوتهم وقدرتهم على الغدر والتعدي.
لذا فمن إعجاز الآية انها تبين عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الكفار من الله، وفيه إشارة الى يوم القيامة وما فيه من الحساب، وتحذير للمسلمين من تسخير الكفار لأموالهم وأولادهم في الدنيا.
الرابعة: إذا قام الكفار بالتعدي على المسلمين وتوظيف أموالهم وأولادهم في إيذاء ومقاتلة المسلمين، فان المسلمين لا يفتتنون بهم لعلمهم بان هذه الأموال وبال عليهم وإستدراج لهم، وان الأولاد يعجزون عن نصرة آبائهم يوم القيامة.
الخامسة: شفاء صدور المؤمنين لما يلاقيه الكفار يوم القيامة.
السادسة: إستبشار المسلمين بإنتفاعهم من أموالهم وأولادهم يوم القيامة لتسخيرها في مرضاة الله.
السابعة: النفرة من الكفر والكفار.
الثامنة: قيام المسلمين بالدعوة الى النجاة يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] ( ).
التاسعة: نيل المسلم الثواب بتلاوته لهذه الآية، وتدخل هذه التلاوة في عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من مصاديق خير أمة أخرجت للناس، فتكون التلاوة أمراً بالمعروف ودعوة للإيمان، وزجراً عن الكفر والضلالة ويتجلى إخراجهم للناس بتلاوتهم الآيات على نحو الوجوب في الصلاة الواجبة، الى جانب تلاوتها إستحباباً.
العاشرة: الآية عون للمسلمين في ميادين القتال، وفيها تعليم وإرشاد لهم بتحذير وإنذار الكفار من القتال، والإخبار عما يلاقونه من العذاب مع إصرارهم على الكفر والجحود، لذا فمن آداب القتال ان يقوم المسلمون بالنصح والإرشاد وتحذير العدو من القتال وتخويفه من بطش العزيز الجبار.
الحادية عشر: إستقبال الذي يتوب ويسلم من الكفار بالبشارة بالنجاة من الخلود في النار، وإظهار السعادة لهدايته، وإعانته على الإنفاق من ماله في سبيل الله، وإصلاحه لأولاده وإرشادهم الى سبل الهداية والإيمان.
الثانية عشر: إدراك حقيقة وهي ان الغنى والفقر في الآخرة وليس في الدنيا، والغني هو الذي ينتفع من أمواله يوم القيامة، والفقير الذي يحرم منها ولا تجزي عنه شيئاً وهو الكافر.
الثاني: علم الكافر بما ينتظره من العذاب الأليم، وفيه مسائل:
الأولى: هذه الآية إخبار للكافر عن حتمية يوم القيامة.
الثانية: توكيد حقيقة الجزاء يوم القيامة.
الثالثة: قطع أمل الكافر بما لديه من الأموال والأولاد، وغيرها عن طريق الأولى، فاذا كانت الأموال والأولاد لا تنفع الكافر يوم القيامة فلن تنفعه أموال الآخرين ولا الأقارب من المرتبة الثانية والثالثة، ولم تذكر الآية آباء الكفار مع انهم أكثر شفقة عليهم من أبنائهم، والجواب ان الكافر يسخر ولده وينتفع منه في الدنيا، ويحتاجه في أيام مرضه وكبره وهرمه.
فجاءت هذه الآية لتخبر عن عجزه عن الإنتفاع من أبنائه وأبناء الكفار الآخرين يوم القيامة.
الرابعة: دعوة الكفار للإنتفاع من أموالهم وأولادهم يوم القيامة بهجران الكفر، وإختيار الإسلام.
الخامسة: إدراك الكفار للمائز بين المسلمين وبينهم يوم القيامة، وهو إنتفاع المسلمين من أموالهم وأولادهم وعجز الكفار عن نيل جزء من هذه النعمة العظيمة.
السادسة: بيان قانون من قوانين يوم القيامة، ومن منافع هذا البيان توكيد العالم الآخر، فكما قسمّت هذه الآيات أهل الكتاب الى مؤمنين وفاسقين كما في قوله تعالى [مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] وبينت خصال المؤمنين، وخصال الفاسقين الذين يعتدون على المسلمين، جاء هذا الشطر من الآية للتذكير باليوم الآخر ليترسخ الإيمان به عند المؤمنين، ويعتبر ويتعظ الكافر وتقام عليه الحجة.
ان ذكر بعض وقائع وأخبار يوم القيامة في القرآن آية إعجازية ودعوة للتصديق به، وحث على إستحضار يوم القيامة في الذهن ، وظهور آثاره على الإنسان في العمل والفعل.
انها مدرسة القرآن التي تجذب الناس لسبل الإيمان وتفتح أمامهم آفاق الغيب بما يساهم في صلاحهم وحرصهم على السعي للفوز يوم القيامة بإنفاق أموالهم في سبيل الله، وتأديب أولادهم على أداء الفرائض والعبادات.
السابعة: تبعث الآية الحرص في قلب الإنسان مطلقاً على عدم التفريط بنعمة المال والولد.
الثامنة: تدعو الآية الفاسقين الى عدم التعدي على المسلمين، لأن المسلمين يسعون لجلب المصلحة ودفع المفسدة عن أنفسهم وعن الناس بالدعوة الى الإنتفاع الأمثل من نعمتي الأموال والأولاد، وما يترشح عنهما وما يلحق بهما من النعم الإلهية.
الثالث: تذكير الكتابي الفاسق بيوم القيامة وفيه مسائل:
الأولى: يتصف الكتابي عن الكافر الوثني بأنه يقر باليوم الآخر لأنه أمر وارد في الكتب السماوية التي ينتسب اليها، وكانت له موضوعية في سنة وسيرة الرسل أولي العزم والرسل عامة والأنبياء جميعاً، فما من نبي الا ويخبر عنه ويحث أصحابه وأنصاره على التصديق به والسعي اليه.
الثانية: الإيمان باليوم الآخر عون على أداء الفرائض والواجبات.
الثالثة : الإعتبار من المؤمنين من أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر.
الرابع: زجر الفاسقين عن التعدي على المسلمين من وجوه:
الأول: التقاء المسلمين وأهل الكتاب في الإيمان باليوم الآخر.
الثاني: تجلي معاني التصديق باليوم الآخر في مضامين أعمال وأفعال المسلمين.
الثالث: سعي المسلمين في تذكير أهل الكتاب باليوم الآخر ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح.
الرابع: الإيمان بما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر.
الخامس: إدراك حقيقة وهي الحلول في العذاب يوم القيامة في حال التعدي على المسلمين.
ان الإيمان والتصديق باليوم الآخر وإستحضاره في الذهن ليس أمراً مجرداً، بل هو مدرسة عقائدية تتفرع عنها مسائل وأحكام عديدة منها:
الأولى: ان الله عز وجل قادر على كل شيء.
الثانية: إن الحياة الدنيا دار عمل ومزرعة للآخرة.
الثالثة: الملك يوم القيامة لله تعالى.
الرابعة: حضور الأعمال في الآخرة ، فمتى ما أدرك الإنسان ان ما يفعله يصاحبه في القبر ويحضر معه يوم القيامة ولا يستطيع إخفاءه أو ستره فانه يحرص على أن يكون حسناً، ويتجنب الفعل القبيح شرعاً.
الخامسة: إدراك حقيقة ان المسلمين على حق في دعوتهم للإيمان بالله والتصديق بالأنبياء على نحو العموم الإستغراقي، والإقرار باليوم الآخر، وهذا الإدراك برزخ دون التعدي عليهم، وحجة على الناس في لزوم محاكاتهم في أفعالهم العبادية.
السادسة: الإصغاء الى الإخبار السماوية عن يوم القيامة، والتدبر في مضامينها القدسية، لأن هذا الإخبار فضل من الله عز وجل على الناس جميعاً جاء بواسطة الأنبياء والكتب المنزلة.
السادس: دعوة الفاسق باللحاق بالمؤمن من أهل الكتاب.
السابع: الحث على الرجوع الى التوراة والإنجيل، والتذاكر بما فيهما من أخبار يوم القيامة.
الثامن: منع حصول التحريف في وقائع يوم القيامة أو تبديل أخباره التي جاءت بها الكتب السماوية، ان دعوة الفاسقين الى الإيمان بإستحضار قوانين الحساب يوم القيامة شاهد على ان المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وواقية من التعدي عليها، ووسيلة لإدراك الناس لخسارة وهزيمة من يقاتل المسلمين، فمن خصائص خير أمة الثبات في طاعة الله، وتعاهد الدعوة الى الإيمان والتصديق باليوم الآخر، ومنع الكفر والجحود به.
التاسع: ترغيب الفاسقين والناس جميعاً بالنجاة من العذاب الأليم يوم القيامة، ودعوتهم للإنتفاع فيه من نعمة المال والولد، وغيرهما من النعم، وبيان حقيقة وهي الملازمة بين هذا الإنتفاع وبين الإيمان وهي نعمة إلهية عظيمة تلحق الإنسان في الآخرة، ومن فضل الله أنه جعل الله الحياة الدنيا مناسبة لنيلها والفوز بها، والقرآن كتاباً سماوياً للتذكير بها، والمسلمين دعاة اليها في أفعالهم وأقوالهم، وهذه الدعوة من مصاديق الدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قوله تعالى [ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
لقد أفاد الشطر السابق من الآية الحصر في صفات أهل النار وانهم الكفار لدلالة اسم الإشارة على حصر الذين يلازمون النار، وتحتمل تلك الصحبة وجوهاً:
الأول: الإقامة الدائمة في النار.
الثاني: البقاء المؤقت في النار.
الثالث: تعلق الصحبة بالاسم والهوية دون الواقع.
الرابع: إمكان خروج الكفار من النار، كما يقال “أولئك أصحاب زيد” فلا يعني ملازمتهم لزيد على نحو الدوام بالليل والنهار، فيكفي الصدق العرفي للصحبة.
الخامس: تعيين مدة معينة لبقاء الكفار في النار، ثم يخرجون منها، وهو على أقسام:
الأول: تعيين مدة بقاء كل كافر على نحو مستقل بلحاظ ذنوبه والمعاصي التي ارتكبها وإستحق بها دخول النار.
الثاني: للنار عمر محدود، ومع إنتهائه، وبلوغ الأجل ينتفي موضوعها، فلا يبقى أحد في النار.
الثالث: كفاية المسمى وصرف الطبيعة في بقاء الكفار في النار .
الرابع : تحديد مدة بقاء الكفار في النار، وضبط أجل لخروجهم منها، وهذا الأجل على وجوه:
الأول: لا يعلمه الا الله عز وجل.
الثاني: تعلمه الملائكة القائمون على النار قال تعالى [عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( ).
الثالث: يعلم بالأجل أهل الجنة.
الرابع: هو أمر معلوم عند الملائكة جميعاً.
الخامس: يعلم أهل النار أوان خروجهم من النار.
الرابع: تعلق مدة البقاء في النار بنوع الذنوب والمعاصي التي إرتكبها العبد فكل ذنب له أجل مخصوص، وهذا الوجه على قسمين:
الأول: التداخل بين أفراد العقوبة، فاذا كان ذنب يستحق البقاء في النار عشر سنوات، وذنب يستحق عليه اللبث في النار خمس سنوات، فلا يبقى الا عشر سنوات.
الثاني: التعدد وعدم التداخل في العقوبة بأن يقضي عقوبة ذنب ثم يقضي عقوبة غيره، وهذا القسم على وجوه من حيث الترتيب في الذنوب وهي الأول : بلحاظ التقدم والتأخر الزماني
الثاني : سوء وقبح الفعل، فتقضى أولاً العقوبة الأشد أو العكس .
الثالث : شدة وقلة العقوبة، ومدتها.
الخامس: إنتقال أهل النار بعدالخروج منها الى عذاب أخف منها، وموضع أقل ألماً وشدة.
السادس: التباين بين أصحاب النار، وبين فساق المؤمنين الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها.
والصحيح هو الأول إذ أن أهل النار مقيمون فيها على نحو التأبيد والدوام ولا يتعارض مع الوجه السادس مع وجود الدليل عليه.
ليكون المراد من لفظ “أصحاب النار” إرادة الذين لا يخرجون منها أبداً فهي باقية لا تفنى ولا تزول، وهم مصاحبون لها، تلازمهم في حرها وشدتها.
وجاء هذا الشطر من الآية لتوكيد خلود الكفار في النار، والإخبار عن عدم خروجهم منها، ومن الآيات ان تتضمن خاتمة الآية ببيان شدة العذاب وإستدامته، بإعتبار ان الإستدامة عذاب إضافي، فليس من أمل عند الكفار بالخروج من النار، نعم جاءت هذه الآية رحمة بهم في الدنيا وإنذارا لهم، وزجراً عن الإستمرار في الكفر والجحود، وتسخير الأموال والأولاد في المعصية والضلالة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وفيها إخبار إنحلالي عن خلود كل كافر في النار، ويتساوى في اللبث الدائم فيها الرئيس والمرؤوس، والتابع والمتبوع من الكفار، لأن علة الخلود فيها هي الكفر والجحود، وفيه دعوة لجميع الكفار للتخلص من أسباب المكث الدائم في النار، وإجتناب أسبابه، لذا فان خاتمة الآية من اللطف والعناية الإلهية بالناس جميعاً، وهي من مصاديق دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونيلهم مرتبة خير أمة أخرجت للناس فلغة الإنذار في هذه الآية نهي للكفار عن الإقامة على الكفر والجحود، ودعوة لهم للنجاة من الخلود في النار.
ومن الشواهد على ان المسلمين خير أمة انهم لم يبخلوا في نصح أعدائهم، ولم يقصروا في السعي لجذبهم للإيمان، فاذا إعتدى الكفار على المسلمين فان المسلمين يستمرون في دعوتهم للهدى، ونهيهم عن الكفر، وبيان سوء عاقبته، وخلود أصحابه في النار، ويأتي هذا البيان بآية سماوية لأمر المسلمين بتلاوتها ، وفيه توكيد لرحمة الله بالناس جميعاً، والرحمة في المقام مركبة من وجوه:
الأول: مجيء الإنذار من عند الله.
الثاني: إخبار القرآن عن علم الغيب.
الثالث: تلاوة المسلمين لآيات الإنذار والوعيد للكافرين.
الرابع: بلوغ الآيات ومضامينها القدسية للكفار أنفسهم، وترى المسلمين يحرصون حتى في سوح القتال على تلاوة آيات الإنذار، وبيان مضامينها لمنع الكافر من الإستمرار بالتعدي على المسلمين ولتوكيد بقاء باب التوبة مفتوحاً لهم.
الخامس: خلو آيات الإنذار من الإجمال واللبس والترديد فأطراف هذه الآية بينة واضحة وهي:
الأول: إرادة الكفار بمضامين الإنذار فيها.
الثاني: عدم إجزاء أموال وأولاد الكفار عنهم.
الثالث: ان الله عز وجل هو الذي يتولى عذاب الكفار.
الرابع: الكفار هم أصحاب النار.
الخامس: إقامة الكفار الدائمة في النار، وعدم خروجهم منها.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “الطرد والعكس” وهو أن يؤتى بكلامين يكون مفهوم أحدهما بياناً وتفسيراً وتوكيداً لمنطوق الآخر، ان آيات القرآن تتداخل في معانيها ومضامينها القدسية، وكل آية منه بيان وكشف وتفسير لآية أو آيات أخرى في منطوقها ومفهومها، أي ان علوم القرآن أعم من الطرد والعكس في المقام إذ ان الآيات يقرر ويؤكد بعضها مضامين بعضها الآخر في باب العقائد والأحكام والأخلاق والبلاغة، وكذا كلمات ذات الآية الواحدة.
لقد أخبرت هذه الآية والآيات السابقة عن حصر الجزاء بأمرين فأما الثواب على فعل الخير لأهل الإيمان والتقوى، وأما العذاب الأليم في نار جهنم لأهل الجحود والضلالة، وكل فرد منهما يقرر في منطوقه ومفهومه الآخر مع حث الإنسان على الإيمان، وزجره عن الكفر والضلالة، فجاءت هذه الآية بخصوص الكفار وعدم إجزاء ما عندهم من الأموال والأولاد من الله شيئاً في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة فهذا الأمر معلوم اذ ان الملك يومئذ لله تعالى، ولا يستطيع الإنسان العمل ودرء الأذى وجلب المنفعة لنفسه، فليس له الا عمله في الدنيا الذي يكون مصاحباً له، أما في الدنيا فان الأموال والأولاد لا تستطيع دفع البلاء والسقم والهرم، وايضاً تعجز عن جعل الكافر يصبر في مواجهة سرايا المجاهدين.
ومن الشواهد حرمان يهود المدينة أيام البعثة النبوية المباركة من أموالهم وبساتينهم وزراعاتهم بسبب مكرهم وكيدهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإصرار على محاربته والمسلمين.
ان الله عز وجل له ملك السماوات والأرض، وهو الذي يهب الأموال والأولاد لمن يشاء من عباده، على ان يقابلها العبد بالشكر له تعالى الذي يتجلى بالإيمان والطاعة.
ان عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الإنسان عقوبة أليمة وعذاب شديد ومقدمة للعذاب لذا جاءت خاتمة الآية بالإخبار عن خلودهم في النار، والآية خالية من اللبس والترديد ، ولم تقيد عدم إجزاء الأموال والأولاد بالتعدي على المسلمين، بل جاءت بخصوص الكفر وحده، وفيه دلالة على ان الكفر أم الكبائر وعلة تامة لنزول العذاب والخلود في النار، ويؤكد منطوق عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الكافر دخوله النار وخلوده فيها، كما يقرر الخلود في النار عدم الإنتفاع من الأموال والأولاد لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمن يخلد في النار لم ينفق من أمواله في سبيل الله ولم يؤدب أولاده على الإيمان، فمع ان الآية جاءت بخصوص الكافرين الا انها تتضمن أمرين:
الأول: عدم إجزاء الأموال والأولاد عنهم من الله عز وجل وعقابه وبطشه.
الثاني: خلودهم في النار.
وكل قسم من القسمين تقرير للآخر، ولم تذكر الآية ان أولاد الكافرين معهم في جهنم، لأن المدار على عمل الأولاد ذاتهم، وفيه دعوة لأولاد الكفار للتوبة والإنابة والإعتبار من حال آبائهم، وحثهم على عدم الحرمان من أموالهم وأولادهم كما حرم منها آباؤهم بسبب إختيارهم الكفر والضلالة، وهو من إعجاز الآية إذ تتضمن ذم الكفار، وتحذير أبنائهم من نهجهم وإصرارهم على الجحود، عسى أن يكون ولد الكافر داعية إلى الهدى .