بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا رشحة من رشحات فضله وإحسانه، وآية باهرة يتجلى فيها بديع صنعه وعظيم قدرته، ووعاء زمانياُ لذكره وعبادته، وموضعاً متسعاً لنزول رحمته وجوده وكرمه، ومقدمة لدخول المؤمنين الجنة والخلود فيها، وليس من حصر للجهات والمواضيع التي تترشح منها البركة في الحياة الدنيا، وإن تباينت في الموضوع والكم والكيف.
وتأتي الآية القرآنية مائدة عقائدية وعلمية نازلة من السماء، وإماماُ هادياُ للناس جميعاُ، فمن الآيات ان القرآن نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو خطاب سماوي للمسلمين الا ان منافعه ومضامينه القدسية عامة وشاملة للناس جميعاً، فكل آية مدرسة للأجيال المتعاقبة، ودعوة الى الصلاح والهداية، وسبيل الى الرشاد ونعمة متجددة، وإفاضة مباركة وحبل نازل من السماء، وصلة صاعدة من العباد ليلتقي فيها قوس النزول والصعود لمنفعة ومصلحة العباد والله غني عن العالمين.
وكل آية ضياء تهتدي به الأمم ، وكنز قدسي يحتوي على ذخائر متعددة من العلوم والأسرار وأسباب الهداية والرشاد، وجامعة عقائدية مصاحبة للأفراد والجماعات، وسنة حميدة تقود الناس الى النجاة في النشأتين، ورحمة متصلة، ورأفة دائمة بالناس جميعاُ برهم وفاجرهم، فتأتي آية البشارة والوعد للمؤمنين لتثبيتهم في مسالك الإيمان، وتكون في مفهومها دعوة للكفار للإقتداء بهم، ونهج سبيل الصلاح والتقوى.
وتتضمن آية أخرى الإنذار والوعيد للكفار لبعث الفزع والخوف في نفوسهم، ودعوتهم للتوبة والإنابة، وتكون في مفهومها حجة للمسلمين، وحثاُ لهم على الصبر وتحمل الأذى في ذات الله.
ويتضمن هذا الجزء وهو الرابع والثمانون من “معالم الإيمان في تفسير القرآن” تفسير آية واحدة وهي السابعة عشرة بعد المائة من سورة آل عمران، ليكون مدرسة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، وكله تأويل وإستنباط وتأسيس لقواعد وقوانين عقائدية مستحدثة ومستقرأة من فيوضات الآية الكريمة وما فيها من الإشراقات التي تبهر العقول.
ومع ان هذه الآية الكريمة من آيات الإنذار والإخبار عن إضرار الكفار بأنفسهم الا انها دعوة مفتوحة ومتصلة لهم لحفظ وصيانة أموالهم بإختيار سبل الإيمان وتغيير قصد وموضوع الإنفاق ليكون في سبيل الله ويحصل فيه النماء والزيادة والبركة، ويعود عليهم بالخير في الدارين [أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] الآية 117.
الإعراب واللغة
قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]
مثل: مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره.
ما: اسم موصول بمعنى الذي في محل جر بالإضافة.
ينفقون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، وجملة (ينفقون) صلة الموصول.
في هذه: جار ومجرور متعلقان بينفقون.
الحياة: بدل من اسم الإشارة.
الدنيا: صفة للحياة
قوله تعالى [كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ]
كمثل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر “مثل” وهو مضاف.
ريح: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
فيها: جار ومجرور متعلقان بخبر ل(خير) مقدم.
خير: مبتدأ مؤخر.
[أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ]
أصابت: فعل ماض، والتاء تاء التأنيث الساكنة، والجملة صفة لريح.
حرث: مفعول به لأصابت.
قوم : مضاف اليه مجرور بالكسرة
ظلموا: فعل ماضِ وفاعل، وجملة ظلموا في محل جر صفة لقوم.
أنفسهم: مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف والضمير هم: مضاف اليه.
فأهلكته: الفاء حرف عطف، أهلكته: فعل وفاعل ومفعول به.
قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]
الواو: حرف إستئناف، ما: نافية، ظلمهم: فعل ماض ومفعول به مقدم.
اسم الجلالة: فاعل مؤخر.
لكن: مخففة من الثقيلة، تفيد الإستدراك.
أنفسهم: أنفس مفعول به مقدم، وهو مضاف والضمير “هم” مضاف اليه.
يظلمون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون.
الواو: فاعل.
والمثل: الشبيه والنظير، والمثل الصفة كما في قوله تعالى في مدح المسلمين والإخبار عن صفاتهم [ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ] أي صفتهم، ولا يخلو من معنى المثل والشبيه وان تعلق بفرد مخصوص لأن المثل مأخوذ من المثال والحذو.
والمراد المطابقة والتساوي بين ما ذكر عنهم في التوراة والإنجيل وبين حسن سمتهم وفعلهم في الواقع الخارجي، فتتعلق المثلية والتساوي بين الوصف المذكور لهم في التوراة والإنجيل وبين فعلهم، لتكون أمارة على صدق البعثة النبوية.
ولاتنحصر البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بشخص وصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل تشمل صفات أمته، وفيه دعوة إضافية لأهل الكتاب لدخول الإسلام ، وترغيب بالإيمان ، وبشارة التساوي والتشابه بين صفات المسلمين في التوراة والإنجيل وبين صلاحهم وإنقطاعهم الى العبادة والنسك، فكأنهم ساروا على المثال الذي ذكر لهم، وحذو حذوه بإعتباره نعتاً كريماً خصهم الله عز وجل به.
ومثل: كلمة تسوية، وبين المساواة والمماثلة عموم وخصوص مطلق فكل مساواة هي مماثلة وليس العكس، لإفادة التساوي التكافؤ، وعدم الزيادة أو النقصان، والمثل يؤتى به للتشبيه وتقريب وبيان المعنى.
والريح: نسيم الهواء، وهي مؤنثة، وتطلق على نسيم كل شيء، والريحة: طائفة من الريح، “وفي التهذيب: الريح ياؤها واو صُيّرت ياء لإنكسار ما قبلها وجمع الريح، رياح”( ).
وقد تجمع الريح على أرواح لأن أصلها الواو، وإنما جاءت بالياء لإنكسار ما قبلها، وفي الحديث: هبت أرواح النصر( )، وفي الحديث: كان عليه السلام يقول إذا هاجت الريح: اللهم إجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً، وفي الحديث: الريح من روح الله)، أي من رحمته بعباده.
والصر: بكسر الصاد- الريح الباردة، وقيل البرد عامة، وقال حاتم الطائي:
أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر
وريح صر وصرصر: شديدة البرد، وقيل شديدة الصوت.
وقال ابن السكيت: ريح صرصر، فيه قولان:
الأول: أصلها صرّر من الصر، وهو البرد، فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل، كما قالوا نجفجف الثوب وكبكبوا وأصله نجفّف وكبّبوا.
الثاني: هو من صرير الباب ومن الصرة، وهي الضجة قال عز وجل: فأقبلت أمرأته في صرة أي في ضجة وصيحة.
وقال الزجاج: الصر صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح.
والحرث والحراثة: العمل في الأرض مقدمة للغرس أو القيام بالغرس والزراعة.
وقد يراد من الحرث نفس الزرع كما في هذه الآية، يقال: حرث يحرث حرثاً، وقال الأزهري: الحرث قذفك الحب في الأرض للإزدراع.
وفي الحديث: إحرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، وإعمل لآخرتك كأنك تموت غداً( ).
والحرث: كسب وجمع المال، والمرأة حرث الرجل لأنها وعاء لولده، وكأنه يحرث ليزرع ويحصد، وفي التنزيل: [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] ( ), قال الزجاج: زعم أبو عبيدة انه كناية، والقول عندي فيه ان معنى حرث لكم: فيه تحرثون الولد واللذة.
والحرث: الثواب والنصيب، ويأتي بمعنى تفتيش الكتاب وتدبّره، ويقال: هلك هلكاً وهلاكاً: مات.
ويحتمل الصر في الآية وجوهاً:
الأول: البرد الشديد، وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي.
الثاني: السموم الحارة، وهو الذي ذهب اليه ابن الانباري وقال: وانما وصفت النار بانها (فيها صر) لتصويتها عند الإلتهاب ، ولكن الصوت اعم من ان يكون للنار والحر، وروي ابن الانباري باسناده عن ابن عباس (فيها صر) فيها نار.
الثالث: الصوت الشديد المصاحب للريح لسرعتها وكثافتها، فيكون لها دوي وصوت يبعث على الفزع والخوف وفقدان الأمل من بقاء شئ من الزرع والنبت والحرث.
الرابع: المعنى الأعم فمرة تكون الريح باردة، وأخرى تكون حارة بحسب فصل الشتاء والصيف ، ولبيان عظيم قدرة الله وسخطه على الكفار، وإصرارهم على الإنفاق في المعصية ، وتأتي في أي وقت في دلالة على المشبه وهو بطلان نفقة الكفار في أي فعل يفعلونه وفي أي وقت من ايام السنة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية وما فيها من المثل، وهو من الشواهد على إعجازها، وقد ورد عن ابن عباس الوجه الأول والثاني اعلاه، ويدل هذا المعنى على إحباط إنفاق الكافر مطلقاً.
واستدل المعتزلة بهذه الآية على القول بالاحباط، وان الكفر يبطل الإنفاق كما تهلك الريح الحرث، وقال الأشاعرة بعدم استحقاق العمل للثواب الا بالوعد الإلهي والخلاف صغروي، والآية الكريمة تمنع من الإتساع فيه، وهو من إعجاز القرآن بان يمنع من الخلاف وتعدد الإجتهاد والتباين في التأويل في مقابل النص.
وجاءت الآية صريحة واضحة في موضوعها ولغة المثل فيها التي تبين عاقبة الكفر والإنفاق فيه، ويدرك مضامينها الناس جميعاً وان تباينت مداركهم وإختلفت أعرافهم وبيئتهم، فيعرفها المؤمن والكافر، والذكر والأنثى، والعالم والجاهل، وصحيح ان الزرع والنبت أمران يخصان أهل الريف والفلاحين الا ان ابن المدينة والتاجر والعامل يدركون مضامين الآية.
وبين ماذكروه من بطلان عمل الكافر وبين مضامين هذه الآية عموم وخصوص مطلق فمادة الالتقاء هي إنفاق الكفار ، وما ذكروه من بطلان عمل الكافر أعم لأن العمل لاينحصر بموضوع الإنفاق وحده، ومن إعجاز القرآن ان اوهام البشر لاتحيط بمضامينه القدسية، وكل انسان يظن عند الإنفاق ان إنفاقه ينفعه ولكن المدار على الايمان او الكفر، اذ ان الكفر ماحق للعمل.
في سياق الآيات
في الآية وجهان:
الوجه الأول: الصلة بين هذه الآية، والآيات السابقة وفيه مسائل:
الأولى: الصلة بين هذه الآية وآية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] ( )، وفيه وجوه:
الأول: ندبت آية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] المسلمين الى الدعوة الى الخير، وحث الناس على طاعة الله، وفعل الصالحات، وجاءت هذه الآية لذم الكفر والجحود ليكون هذا الذم من مفاهيم الدعوة الى الخير بإزاحة المانع من فعله، ومن الدعوة الى الخير بيان قبح ضده، والكفر شر محض، وضرر فادح يأتي على الإنسان والجماعة كما تدل عليه هذه الآية.
الثاني: يدل الجمع بين الآيتين على قيام المسلمين بالدعوة الى تعاهد الإنفاق بالإيمان، وعدم تضييعه.
الثالث: مضامين هذه الآية من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيها من بيان أضرار الكفر الدنيوية والأخروية، وحث الناس على نبذ الكفر.
الرابع: جاءت آية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] بالمدح والثناء على المسلمين في سعيهم في سبل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الوعد الكريم بالفلاح والفوز بقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]، أما الآية محل البحث فقد أختتمت بذم الكفار ونعتهم بأنهم ظالمون لأنفسهم مما يعني حرمانهم من الفلاح وأسباب الفوز.
الثانية: الصلة بين آية [تَبْيَضُّ وُجُوهٌ] ( )، وهذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: توكيد الملازمة بين الكفر وسواد الوجوه في الآخرة.
الثاني: الكفر بعد الإيمان مانع من بياض الوجوه في الآخرة.
الثالث: يرى الكافر يوم القيامة إنفاقه وسعيه قد ذهب أدراج الرياح بسبب إختياره الكفر فيسوَد وجهه حسرة وحزناً.
الرابع: أختتمت آية تبيض وجوه بقوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] وفيه ان هلاك الزرع والإنفاق يجعل الإنسان فقيراً يوم القيامة، وليس في ميزان حسناته ما ينجيه من العذاب الأليم.
الخامس: بعث الناس الى معرفة إنقسام الناس يوم القيامة الى قسمين، قسم وجوههم بيضاء، وقسم وجوههم سوداء، وان هذه القسمة مترتبة على الفعل في الدنيا.
السادس: لا يستطيع الإنسان الفوز بنعمة بياض الوجه في الآخرة الا بقيد الإيمان.
السابع: سواد الوجه يوم القيامة نتيجة حتمية للتلبس بالكفر.
الثالثة: الصلة بين آية “ابيضت وجوههم”( ) وبين هذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: جاءت آية [ابيضت وجوه] خاصة بأهل الإيمان والتقوى، وفيه ترغيب للناس بالإيمان، ووعد كريم بالإنتفاع من الإنفاق في سبيل الله، وتخويف وإنذار من الكفر والجحود بإعتباره علة لضياع العمل.
الثاني: يفيد الجمع بين الآيتين إشتراك الوعد والوعيد في إصلاح النفس الإنسانية،والزجر عن الأخلاق المذمومة.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار، وإخبارهم بانهم السبب في حرمانهم من النعيم يوم القيامة لذا جاءت خاتمة هذه الآية ببيان اضرارهم بانفسهم [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] فالله عز وجل منزه من الظلم.
الرابع: من فضله تعالى انه لم يخلِ بين الكافر والكفر، ويفيد الجمع بين الآيتين بيان قبح الكفر وسوء عواقبه، والترغيب بالإيمان وذكر منافعه التي يعجز الإنسان عن إحصائها.
الرابعة: الصلة بين آية “نتلوها عليك”( ) وبين هذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: مجيء هذه الآية بالمتعدد من الحجج والبراهين.
الثاني: هذه الآية من الآيات التي تفضل الله بتلاوتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون ضياء يهتدي به المسلمون، وعوناً للناس على التوبة والإنابة.
الثالث: أختتمت آية [نتلوها عليك] بتنزيه مقام الربوبية من الظلم، وجاءت هذه الآية بتوكيد ظلم الكفار لأنفسهم.
الخامسة: الصلة بين آية [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ) وبين هذه الآية وفيه وجوه:
الأول: ان ما يملكه الإنسان يعود لله تعالى، لأنه ملك السماوات والأرض له سبحانه.
الثاني: رجوع الأمور كلها لله تعالى زجر عن الكفر والجحود، ودعوة للناس للإيمان.
الثالث: الحث على الإنفاق في سبيل الله وإجتناب الشح والبخل.
الرابع: الإخبار عن زوال الدنيا، ووقوف الناس يوم القيامة بين يدي الله للحساب.
السادسة: الصلة بين آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] وبين هذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: أداء المسلمين للعبادات والفرائض دعوة للناس للإيمان.
الثاني: قيام المسلمين بالإنفاق في سبيل الله حث للناس على محاكاتهم، والإلتفات الى حال الفاقة يوم القيامة والإستعداد للحساب.
الثالث: هذه الآية من مصاديق إخراج المسلمين للناس، إذ يحمل المسلمون لواء التخويف من الكفر، وبيان أضراره الدنيوية والأخروية.
الرابع: تلاوة هذه الآية من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن الآيات ان يمدح الله المسلمين ويجعل الآية القرآنية مادة وموضوعاً لهذا المدح، إذ يحذر المسلمون الناس جميعاً من الكفر بتلاوة هذه الآية وما فيها من خسارة الكافر في النشأتين.
الخامس: الإيمان والصلاح هو سبيل النجاة، ووسيلة الإحتراز من ضياع الأعمال قال تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ].
السابعة: الصلة بين آية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] ( )، وهذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: قلة أثر ما ينفقه الكفار في محاربة المسلمين.
الثاني: مجيء الريح الباردة على إنفاق الكفار من أسباب هزيمتهم أمام المسلمين سواء بإرادة المعنى الأعم لهلاك حرث الكفار وشموله الدنيا والآخرة، أم على المعنى الأخص وإرادة عالم الآخرة، لتجلي آثار سوء العاقبة على الكفار في أفعالهم وحياتهم الدنيا.
الثالث: يفسر القرآن بعضه بعضاً، وسعي الكفار لقتال المسلمين ومحاربة الإسلام سبب لبطلان أعمالهم، وذهاب إنفاقهم أدراج الرياح.
الرابع: من لم يستطع تعاهد ما أنفق على نفسه وجنده وسلاحه لا يقدر على الإضرار بالمسلمين، لذا جاءت آية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] بالبشارة بتخلف الكفار عن الإضرار بالمسلمين.
الخامس: لأن الكفار ظالمون لأنفسهم فانهم لن يضروا المسلمين.
السادس: أختتمت آية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] بالإخبار عن إنعدام الناصر للفاسقين الذين يعتدون على المسلمين.
وجاءت هذه الآية بتوكيد ظلم الكفار لأنفسهم ومن مصاديق هذا الظلم السعي في إيذاء المسلمين، ومحاولة التعدي عليهم.
ويدل إخبار الآية أعلاه عن عدم إضرار الكفار بالمسلمين الا على نحو الأذى في مفهومه على دفع ضرر الكفار، وجعلهم عاجزين عن الإضرار بالمسلمين، ويتضمن هذا العجز وجوهاً:
الأول: لحوق الضرر بالكفار أنفسهم.
الثاني: منع الكفار عن تهيئة العدة وكثرة العدد، والقدرة على التعدي.
الثالث: حال الإحباط والقنوط التي تصيب الكفار نتيجة فشل محاولتهم الإضرار بالمسلمين.
الرابع: ذهاب أموالهم التي ينفقونها أدراج الرياح، وعدم ترتب الأثر والقصد على صرفها وبذلها، فيشترون بها السلاح ولكنه لا ينفعهم لا في الهجوم على المسلمين ولا في الدفاع عن أنفسهم، وعدم النفع هذا ضرر إضافي الى جانب انه مقدمة لضرر وخسارة أكبر.
الثامنة: الصلة بين آية [لَيْسُوا سَوَاءً] ( )، وبين هذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: دعوة أهل الكتاب لنبذ الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: بيان الأضرار الدنيوية والأخروية للجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنكار المعجزات التي جاء بها.
الثالث: تأديب المسلمين، وإرشادهم الى الإستبشار بمن يدخل الإسلام، وينزع رداء الكفر والضلالة.
التاسعة: الصلة بين آية [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ) وبين هذه الآية، وفيه وجوه:
الأول: الإيمان بالله شرط لقبول الإنفاق، ونيل الثواب والأجر.
الثاني: الكفر مانع من إحراز الثواب وسلامة الحرث.
الثالث: ترغيب أهل الكتاب بتلاوة الآيات وإقامة الصلاة من أجل عدم ضياع الإنفاق.
الرابع: مع الإيمان يتغير موضوع الإنفاق، ويستحضر قصد القربة فيه، فبدل ان ينفق الكافر ماله في المعصية ومعاداة المسلمين، فأنه حينما ينتقل الى منازل الإيمان ينفق ماله في طاعة الله، ليأتي معه الثواب والأجر.
العاشرة: الصلة بين آية [وَمَا يَفْعَلُوا] ( )، وهذه الآية وفيه وجوه:
الأول: نعت فعل المؤمنين بانه من الخير وما هو حسن ذاتاً، ونعت ما ينفقه الكفار بانه الى هلاك.
الثاني: كتابة الثواب والأجر للمؤمنين، والعقاب الأليم للكفار.
الثالث: إختتام آية [وَمَا يَفْعَلُوا] بالوعد الكريم بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ] وختم هذه الآية بالإنذار والوعيد للكافرين.
الرابع: ترغيب الكفار بالإسلام.
الخامس: بعث الشوق في نفوس الناس لفعل الخير المقرون بقصد القربة والطاعة لله تعالى، وجعلهم ينفقون في أمور الدين والدنيا وإدراك شرط الإيمان ووجوبه عند إرادة فعل الخير.
الحادية عشرة: الصلة بين الآية السابقة آية [لَنْ تُغْنِيَ] وهذه الآية، وفيها وجوه:
الأول: تؤكد هذه الآية عدم إجزاء أموال وأولاد الكافرين عنهم لأنها الى هلاك وزوال.
الثاني: تخلف أموال وأولاد الكفار عن الحضور يوم القيامة، فان قلت: ان الأولاد موجودون في المحشر كباقي الناس، والجواب انهم مشغولون بأنفسهم، وما يلاقونه من العذاب بسبب كفرهم وجحودهم، أما من أدركته رحمة الله بالإيمان من أولادهم فانه يتبرأ من الكفر والضلالة.
الثالث: عدم إجزاء الأموال والأولاد عن الكفار معلول للكفر، ومصداق من مصاديق ظلمهم لأنفسهم.
الرابع: من معاني الحرث الكسب، والمال والولد من كسب وسعي الإنسان، ويحرم الكافر من الإنتفاع منه، وهذا الحرمان من وجوه ظلمه لنفسه ونزول العذاب الأليم به.
الخامس: تجلي حقيقة وهي ان الكفر ظلم للنفس، وهلاك للحرث وضياع للمال والولد.
السادس: جاءت الآية السابقة بعدم إجزاء أموال وأولاد الكافرين عنهم وجاءت هذه الآية بالإخبار عن ذهاب إنفاقهم سدى في إشارة الى ان الإنفاق في وجوه الكفر والمعصية والتعدي لا يترتب عليه أثر.
الوجه الثاني: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيه مسائل:
الأولى: الصلة بين هذه الآية والآية التالية من وجوه:
الأول: إنتقال الخطاب الى المسلمين، بعد ان جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية.
الثاني: جاءت هذه الآية في ذم الكفار، والإخبار عن ضياع أعمالهم، أما الآية التالية فجاءت في تحذير المسلمين من إتخاذ الكفار خاصة لهم.
الثالث: بيان قبح فعل الكفار، وسوء عاقبتهم، وخسارتهم في هذه الآية عون للمسلمين على التقيد بأحكام الآية التالية.
الرابع: زيادة توبيخ الكفار بنفرة وحذر المسلمين منهم.
الخامس: الجمع بين الآيتين برهان على علم الله تعالى بسوء سريرة الكفار، والإضرار المترتبة على الإنفاق المحرم وظلم الكافر لنفسه.
السادس: حث المسلمين على إجتناب الكفار، وأخذ الحائطة مما يقولون والإخبار عن عدم إرادتهم النصيحة للمسلمين.
الثانية: الصلة بين هذه الآية والآية بعد التالية، وفيه وجوه:
الأول: الذي يظلم نفسه بإختيار الكفر لا يحب أهل الإيمان والصلاح، وتلك حقيقة يدل بيانها على إعجاز القرآن.
الثاني: ظهور حسد وعداوة الكفار للمسلمين، الأمر الذي يستلزم التوقي منهم وإجتنابهم.
الثالث: بيان التضاد والتباين بين المسلمين والكفار، اذ ان المسلمين يؤمنون بجميع الكتب السماوية التي أنزلها الله عز وجل.
الرابع: التخلف عن الإيمان ببعض الكتب السماوية ظلم للنفس
ونذير سوء العاقبة، لأن الواجب يقتضي التصديق بها على نحو العموم المجموعي.
الخامس: بيان وتوكيد جهاد وصبر المسلمين فيما يلاقونه ويتحملونه من الكفار.
إعجاز الآية
بدأت الآية بالمثل لفظاً ومعنى، لتأتي ببيان إضافي وتقريب المعقول بلغة المحسوس، والعالم الأخروي بالمثل القريب الدنيوي، وهو من إعجاز القرآن وتجلي علومه وإفادتها النفع العام، وفيه شاهد على رحمة الله تعالى بالناس بنزول القرآن، وما في آياته من الكشف وتقريب البعيد، وإيضاح المبهم، وتفصيل المجمل، وقد يظهر الكافر بمظهر المنفق والباذل في وجوه الإحسان وإعانة الفقراء.
فجاءت هذه الآية لمنع إفتتان المسلم لأنها تخبر عن عدم ترتب الأثر على هذا الإنفاق، لتؤكد على حكومة الإنتماء العقائدي، وحقيقة نسخ ومحو الكفر لأثر الإنفاق، كما تدل الآية على وقوع إنفاق الكفار في القبيح وقصد الإضرار والأذى.
ولله تعالى ملك السماوات والأرض، وهو الذي يمنع الكفار من التمادي في الكفر والمعصية، ويحول دون اتساع رقعة الكفر وتفشي الأخلاق الذميمة، وتسخير الأموال في المعصية فليس في انفاق الكفار الا ضياع الأموال والجهد والمشقة والحسرة عليها وعلى أنفسهم، لأن هذا الإنفاق ظلم محض للذات ، وعاقبة الإنفاق في موارد الكفر هي النار والعذاب الأليم، فيكون ظلم الكافر لنفسه مركباً من إختياره الكفر والإصرار عليه والإنفاق فيه الذي يجلب الضرر والأذى على النفس والجماعة، ويخلف الندامة والحسرة، ويمنع من جلب المصلحة ودفع المفسدة.
وتدعو الآية الى تعاهد العمل بإختيار نوعه وماهيته، والحفاظ عليه، وليس من وسيلة للحفاظ على العمل الا بالإيمان اذ ان الكفر ماحق للعمل وسبب للحلول في غضب الله، ومع قلة كلمات الآية فقد وردت مادة “ظلم” فيها ثلاث مرات وبصيغ مختلفة “ظلموا، ظلمهم، يظلمون” لبيان إقتران الكفر بظلم الذات والغير، وفيه زجر عن الكفر والجحود لأن الظلم قبيح شرعاً وعقلاً.
وتلاحق مضامين الآية الكفار الذين أنفقوا وينفقون أموالهم في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتجعل إنفاقهم حسرة عليهم في النشأتين، وتبعث مضامين الآية على التدبر في ألفاظها وتعاهدها وما فيها من لغة الإشارة والتعريض بالكفار وبيان سوء فعلهم وسعيهم للإضرار بأنفسهم عن قصد.
لقد تجلت صفات الله عز وجل في كتابه الكريم، ويعلم عباده من مضامين آياته سعة رحمته، وشدة بطشه مع التباين والتضاد بين موضوع وحكم كل فرد منهما، وجاءت هذه الآية بلغة المثل الواضح الذي يفيد البيان وإدراك كل إنسان وجماعة لمعانيه ومقاصده السامية بما يمنع من قيام كبراء وأقطاب الكفر باللبس على الناس عامة وأتباعهم خاصة.
وهذه الآية سلاح ومدد للمستضعفين ودعوة للناس جميعاً لنبذ الكفر، ومعرفة أضراره، وفيها حث على عدم إنفاق المال بالباطل لأنه يرجع على الإنسان وماله وصحته وبدنه.
لقد أراد الله عز وجل في هذه الآية وقاية المسلمين من الأموال التي يوظفها الكفار في محاربة الإسلام ومنع إنفاق الأموال في شراء السلاح وتجني الرجال ضد الإسلام والمسلمين.
وفي الآية بشارة نصر المسلمين وظهور مبادئ الإسلام وإندحار الكفار والفاسقين الذين يحاربون الإسلام، لأن الآية ذكرت هلاك حرث وتلف أموال الكفار الذين ينفقون شطراً من أموالهم في المعصية والتعدي.
ومن إعجاز الآية البشارة بعجز الكفار عن الإستمرار في جمع العساكر ضد المسلمين وان الآفات مقبلة عليهم، وعدم نفع المال مع الكفر، والكفر ماحق للمال وسبب في تلفه وحلول الوهن والضعف بالكفار.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “كمثل ريح ” ولم يرد لفظ صر في القرآن الا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
من خصائص الدنيا انها دار إبتلاء وإمتحان، وليس من حد لوجوه الإبتلاء فيها، إذ انه يواجه الإنسان في كل ميادين الحياة الدنيا، ويأتيه تارة عن علم سابق منه وفيه فرصة للتدبر والتفكر والتروي وإختيار المناسب من القول والفعل، ويأتيه تارة أخرى فجأة ودفعة واحدة.
وهذه الآية ملائمة للحالتين، وهي رحمة بالناس جميعاً، وسلاح في مواطن الإبتلاء، إذ انها تدعو الى عدم انفاق المال في أسباب الكفر وتثبيت معاني الجحود في الأرض.
لقد جعل الله عز وجل المال من أهم مصاديق الإبتلاء والإختبار في الدنيا، وهو حجة للمؤمن في إنفاقه وحجة على الكافر في كيفية صرفه، ووجوه بذله وإنفاقه فيكون وبالاً على الكافر في الآخرة، وجاءت هذه الآية لتمنع من خشية المسلمين من الكفار وكثرة أموالهم وإنفاقها في محاربة المسلمين، ويدخل فيه السلاح والعدة التي يمتلكها الكفار.
وأتصفت أيام التنزيل والبعثة النبوية بالغنى عند اليهود في المدينة، وكفار قريش، وقام فريق من يهود المدينة بإقراض مشركي قريش المال وإعانتهم لمحاربة المسلمين ومحاولة القضاء على الإسلام، فجاءت هذه الآية لتبعث في نفوس المسلمين العزم على مواجهة الكفار وان كانوا ذوي عدة وأموال ويأتيهم مدد من خلفهم، وكانت منافع هذه الآية، ومعاني العزم والصبر وعدم الخشية من الكفار وأموالهم جلية واضحة في قتال المسلمين مع الكفار ، ومن أهم مصاديقه:
اولاً: معركة بدر في السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة.
الثاني: معركة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة.
الثالث: معركة الخندق وغزوة بني قريظة في شوال سنة أربع.
الرابع: غزوة بني المصطلق في شعبان سنة خمس.
الخامس: غزوة خيبر سنة ست.
السادس: غزوة فتح مكة في سنة ثمان لعشر بقين من شهر رمضان
ومع إزدياد عدد المسلمين فانهم لاقوا الأذى وانهزم أكثرهم في أول معركة حنين لولا ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أصحابه ونزل قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا]( ).
والله عز وجل ناصر المسلمين في حال القلة والكثرة، والعدة ونقصها، ومعذب الكافرين في حال الغنى والفقر، والمنعة وكثرة العدة والسلاح.
وتبين الآية المدد الإلهي للمسلمين بإضعاف عدوهم وإرجاع كيده الى نفسه وماله، وجعله حائراً يقلب يديه على خسارته أمواله التي أنفقها في الحياة الدنيا، وعدم ترتب أي أثر على إنفاقها الا اللبث الدائم في النار، وتساهم الآية في إرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة الإلهية بإخبارهم بان الكفار ظالمون لأنفسهم في إختيارهم الكفر، وإنفاقهم الأموال في المعاصي، وتؤكد الملازمة بين الكفر وبين ذهاب الإنفاق أدراج الرياح، فحتى لو أنفق الكافر ماله في الإحسان الى الآخرين فانه يكون وبالاً عليه، لأن الكفر برزخ دون قبول العمل ، وسبب لجلب الحسرة الدائمة لمن يختاره.
قانون الآية القرآنية
من إعجاز القرآن وأسراره القدسية أن كل آية من آياته سلاح للمسلمين عامة، ولكل مسلم ومسلمة منهم على نحو الخصوص، ولا ينحصر موضوع الإنتفاع من الآية القرآنية واتخاذها سلاحاً في موضوع دون آخر، وميدان دون غيره كما انها سلاح مركب من وجوه:
الأول: الآية القرآنية حرز من الكيد والمكر.
الثاني: تعتبر الآية القرآنية واقية وخندقاً يقي المسلمين هجوم وتعدي الكفار، فقد حفر المسلمون خندقاً حول المدينة للوقاية من المشركين بعد معركة أحد، وسميت تلك المعركة بمعركة الخندق، وكل آية قرآنية هي خندق عام ومستديم وإحتراز ذاتي من الأعداء.
الثالث: الآية القرآنية زاجر سماوي يردع الكفار عن التعدي على المسلمين، كما في هذه الآية التي تتضمن إنذار الكفار وإخبارهم بأن إنفاقهم المال في محاربة الإسلام يرجع بالهلاك والتلف على ما يملكون.
الرابع: القرآن مدرسة الأجيال ينهل منه المسلمون العلوم ويستنبطون منه الدروس والأحكام والمواعظ والعبر، وهذا الإستنباط سلاح بأيديهم في تثبيت دعائم الدين وسنن الشريعة.
الخامس: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين النجاة يوم القيامة، والفوز بالخلود في النعيم، فجاءت آيات القرآن واقية سماوية مباركة من النار، وسلاحاً لنيل المراتب العالية في الجنة.
السادس: من أسماء الله تعالى “الرحمن” و”الرحيم” ومن رحمته تعالى ان كل آية قرآنية رحمة بالناس، وإذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء فأنه سبحانه رزق المسلمين القرآن ، وجعل كل آية قرآنية سلاحاً في مسالك الإبتلاء، وحرزاً لمواجهة الإفتتان بزخرفها وزينتها.
السابع: الآية القرآنية سلاح للتوبة والإنابة، فكل آية قرآنية تدعو المسلمين والناس جميعاً للتوبة والإنابة.
الثامن: لم ينحصر موضوع إتخاذ الآية القرآنية سلاحاً بالمسلمين، بل يشمل الناس جميعاً، فكل إنسان يأخذ من الآية ما يحتاج اليه، وقد تكون حاجة الكافر للآية القرآنية أكثر من حاجة المسلم لها لأن حاجة الكافر مركبة من أمرين:
الأول: التوبة، والإقلاع عن الكفر والضلالة.
الثاني: دخول الإسلام، والتقيد بأحكامه وسننه.
التاسع: الآية وسيلة سماوية لإنقاذ الناس من الضلالة والتردي، وهل يستلزم تعلق الإنسان بها أم انها تأتي إليه لتقربه الى الطاعة، وتأخذ بيده نحو سبل الهداية.
الصحيح هو الثاني وان كان لا يتعارض مع الأول، لأن تعلق المسلم بالآية عنوان اللجوء الى الله عز وجل، ومن الآيات ان جعل الله عز وجل تلاوة القرآن واجباً عينياً يومياً متكرراً على المسلمين لتنفذ مضامين الآية وما فيها من المقاصد السامية الى شغاف القلوب وتدعو الناس للتفكر في معانيها والتدبر في إسرارها.
العاشر: لقد جعل الله عزوجل الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، لتتطلع الخلائق الى رحمته، وترجو فضله وإحسانه، والإنسان من عالم الإمكان فالحاجة ملازمة له، ولا ينفك عنها في ليله ونهاره، ويقظته ونومه، وغناه وفقره، وتظهر معاني الحاجة على الإنسان في قوله وسعيه.
وجاءت الآيات القرآنية لتغطي حاجة الإنسان وتجعله غنياً بالإيمان، فكل آية سلاح لقضاء الحوائج، وحرز من الفقر والعوز، ومن الآيات ان الله عز وجل جعل الإنسان محتاجاً، وهيء له أسباب قضاء حاجته بالقرآن والتنزيل، وندبه الى تلاوة القرآن على نحو الوجوب والإستحباب لتكون التلاوة والإصغاء اليها مناسبة لقضاء الحوائج، وإيجاد السبل الكفيلة بقضائها.
الحادي عشر: كل آية قرآنية سلاح في الصبر، وتحلي الفرد والجماعة والفرقة به، ويدعو القرآن الى الصبر في طاعة الله لذا سميت الفرائض بالتكاليف لما فيها من القصد والجهد والصبر عن المعصية، والصبر عند المصيبة.
الثاني عشر: الآية القرآنية ضياء سماوي مبارك ينير للمسلمين دروب الهداية، وسلاح ضد اليأس والقنوط والتفريط، فمن فضل الله تعالى ان القرآن يهدي للصالحات، ويصاحب المسلم في أدائه العبادات والصالحات، ويقوده في فعل الخير وموارد الإحسان، ويمنعه من إرتكاب المعاصي والسيئات.
مفهوم الآية
تدل الآية على وجود أموال وعروض عند الكفار، وهو أمر ظاهر للعيان في كل زمان منذ أيام البعثة النبوية الشريفة، وتبين ان الكفار ينفقون هذه الأموال أو شطراً منها، ولكنها تنفي ترتب النفع على هذا الإنفاق بل تدل على إضراره بالكفار أنفسهم ، ورجوعه على ما عندهم من الأموال.
وتحذر الآية من الكفر والجحود وتخبر عن كونه مانعاً من جلب المصلحة لصاحبه وان سعى اليها، وصرف أمواله من أجلها، ويحتمل إنعدام المصلحة من إنفاق الكافر للأموال أموراً ثلاثة:
الأول: في الحياة الدنيا.
الثاني: في عالم الآخرة.
الثالث: الجامع المشترك للحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق، وتعلق المثل بالحياة الدنيا وما فيها من الريح والحرث وهلاكه ، والشواهد التأريخية على خسارة الكفار في الدنيا أكثر من أن تحصى اذ يعدون العدة ويجمعون الجنود لقتال المسلمين والتعدي على حرماتهم، فيقعون في الأسر، وتصبح أموالهم غنائم للمسلمين الغزاة.
وهذه الآية بشارة للمسلمين، ودعوة لهم للصبر والتحمل، وانتظار الآيات والبراهين في خسارة الكفار وضياع أموالهم، وتلف ما ينفقون ، وفيها إنذار ووعيد للكفار، فيحرص الإنسان على الإنتفاع الأمثل من ماله، ويسعى الى نمائه وزيادته، ويبذل جهده لإجتناب الخسارة وتعرض أمواله وتجاراته وزراعاته للتلف، ويحترز من الآفات الأرضية ونحوها فتأتي هذه الآية لتخبر عن الملازمة بين الكفر وتلك الأموال والتعرض للخسارة.
لقد جاءت الأمثال القرآنية بالبشارة للمسلمين، والإنذار للكافرين من غير تعارض بينهما، وكل طائفة من الأمثلة تؤدي في مفهومها ذات الغرض الذي تهدف اليه الطائفة الأخرى في منطوقها، وتلك آية إعجازية في المثل القرآني، وجاء المثل في هذه الآية بصيغة الإنذار والوعيد للكفار ويدل في مفهومه على أمور:
الأول: ضلالة الكفار في الحياة الدنيا.
الثاني: هلاك أموال الكفار، وعدم إنتفاعهم منها.
الثالث: جعل المسلمين يستعدون لمواجهة الكفار والإحتراز منهم، ومما يبذلونه من الأموال في قتال المسلمين والتعدي عليهم، فقد يظن شطر من المسلمين ان الكفار لا يفرطون في أموالهم في محاربة الإسلام، لأن الهزيمة هي النتيجة، او انهم يحبون أموالهم ولا يبذلونها في القتال والحرب، وفي الآية مسائل:
الأولى: تحذير وإنذارالمسلمين.
الثانية: دعوتهم لأن يكونوا على أهبة الإستعداد لمواجهة الكفار، وإنفاقهم في شراء الأسلحة، وبذل الأموال في حشد وإطعام الجنود وتزويدهم بالعدة وأسباب البقاء في المعركة.
الثالثة: البشارة للمسلمين بخسارة وهزيمة الكفار.
الرابعة : لزوم إجتناب التهاون والإستخفاف بما ينفقه الكفار في محاربة الإسلام
الرابع: توكيد ظلم الكفار لأنفسهم بإختيار الكفر وإصرارهم على الضلالة والجحود.
الخامس: الإنذار السماوي لم يمنع الكفار من الإنفاق في المعصية.
السادس: إقتناء المال نعمة من عند الله على العباد، الأمر الذي يستلزم الشكر منهم بجعلها وإنفاقها في سبيله.
ومن الآيات ان الناس على مراتب متفاوتة في إقتناء المال، وفي كيفية صرفه، فجاءت هذه الآية لتدعو في مفهومها الى الإنفاق في سبيل الله، والحث على إختيار الإنفاق الذي يعمر الديار ويصلح الشأن، ويكون سبباً في نيل الثواب والأجر العظيم في الآخرة.
السابع: في الآية رحمة بالناس جميعاً، لأنها تدعو الى الإحسان الى النفس، وإكرامها، وإجتناب الأسباب التي تؤدي الى سوء العاقبة، والحلول بالعذاب الأليم، وتأتي هذه الدعوة ببيان قبح الإنفاق في المعصية، وإعتباره ظلماً للنفس، وفي الآية مسائل:
الأولى: الإتيان بالمثل المحسوس لبيان سوء عاقبة الكفار، وخسارتهم أموالهم وأنفسهم.
الثانية: ذكر الحياة الدنيا على نحو التعيين كوعاء زماني لما ينفقه الكفار، وفيه تذكير بان الدنيا دار إمتحان وإختبار وان العاقبة للمتقين، وإشارة الى عدم تحقيق الكفار منافع دنيوية من إنفاقهم المال وان سعوا اليها، بالإضافة الى خسارتهم في الآخرة التي أكدتها الآية السابقة.
الثالثة: ان البرد الشديد يهلك الزرع والحرث.
الرابعة: الدعوة الى حفظ وتعاهد المال من الآفات وأسباب التلف والهلاك، والحث على الإبتعاد عن العقيدة الفاسدة والفعل القبيح.
الخامسة: تنزيه مقام الربوبية من الظلم.
السادسة: الإنسان الكافر هو الذي يظلم نفسه بإختياره الكفر.
السابعة: إختيار الإيمان نجاة من ظلم النفس، وباب لنيل الأجر والثواب.
الثامنة: هلاك وتلف أموال الكفار سواء التي أنفقوها أو التي بقيت عندهم.
التاسعة: من آثار وأضرار إنفاق وصرف الكافر أمواله في المحرم إنعدام النفع منها في النشأتين، ورجوعها على ما عنده من المال والخير فتهلكه.
العاشرة: ذكر الريح التي تجلب الضرر على الحرث والزرع، وفيه تحذير للمسلمين ودعوة للإحتراز بالدعاء، وهل في الآية دعوة الى الإنتفاع من العلم في منع أضرار الرياح الباردة الجواب نعم، وهذه الدعوة ينتفع منها المؤمن كما يوظف الكافر العلم لمصلحته وحفظ زرعه، ولكن الكافر يبتلى بما يؤدي الى تلف أمواله، وهو من أسرار مجيء الآية بلغة المثل لأن ذكر الريح التي فيها صر تمثيل وتشبيه، وإشارة الى تلف أموال الكفار بسبب ما ينفقون وموضوع الإنفاق الذي يتصف بالقبح الذاتي.
ووردت في هذه الآية الفاظ لم ترد في غيرها من آيات القرآن:
الأول: مثل ماينفقون.
الثاني: في هذه الحياة الدنيا.
الثالث: كمثل ريح
الرابع :فيها صر.
الخامس: أصابت.
السادس: حرث قوم.
السابع : أهلكته.
الثامن: [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
وهذا من إعجاز القرآن فمع قلة كلمات هذه الآية، تجد فيها هذا العدد من الكلمات الذي الذي لم يرد الا فيها، وأما بالنسبة قوله تعالى “كمثل ريح” فمع كثرة الأمثلة في القرآن فان الريح لم تذكر مثلاً بصيغة وأداة التشبيه الا في هذه الآية الكريمة، وكذا بالنسبة للصر والبرد الشديد الذي تتصف به، مما يدل على موضوعية المثل الوارد في هذه الآية، وتوكيد أمور:
الأول: قبح الكفر.
الثاني: بغض الإنفاق من منازل الكفر وسوء عمل الكفار.
الثالث: إستئصال أموال الكفار بسبب إنفاق شطر منها بالباطل.
الرابع: الغضب الإلهي على الكفار لسوء فعلهم.
الخامس: شدة الإنذار الموجه للكفار بسبب إنفاقهم المال في المعصية ومحاربة الإسلام.
إفاضات الآية
الحياة الدنيا فيض من فيوضات الله عز وجل، ونعمة عظيمة على الإنسان والخلائق مطلقاً، وله سبحانه السلطان المطلق في نظام العالم، وكما خلق الله عز وجل الإنسان وجعله في أحسن تقويم، وأبهى صورة فأنه سبحانه جعل العالم في جمال ورونق يبعث النضارة في الحياة الدنيا.
وتفضل سبحانه وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل عليه القرآن لإستدامة الحسن والجمال في العالم، ويكون في أحسن نظام وأتم خلق، فترى الملائكة المسلم وهو منقطع الى الله في عبادته وإنفاقه أمواله في مرضاة الله فتعلم بديع قدرة الله في خلق الإنسان مركباً من العقل والشهوة وتغلب العقل عنده، فتدعو له بالبركة والعز والتوفيق ، وترى فريقاً من الناس إختاروا الكفر والضلالة وينفقون أموالهم بالباطل، فتأتي هذه الآية لتخبر عما ينتظرهم من العذاب الأليم، فهي من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة عندما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فقال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
فمن علمه تعالى ان أنزل هذه الآية وما فيها من الإنذار والوعيد والإخبار عن هلاك وتلف أموال الكفار، وعدم إنتفاعهم مما ينفقون وهي صلة بين عالم الغيب وعالم الشهادة وما يتجلى فيها من العلوم والإخبار عن المغيبات الذي جاء على نحو القانون والقاعدة الكلية الشاملة للكفار جميعاً مدرسة وموعظة للأجيال المتعاقبة، إذ جعل الله عز وجل الرزق بين الناس على نحو متباين ومن غير أن يتعلق بالإيمان على نحو الموجبة الكلية، فترى كافراً يمتلك الأموال الطائلة، ومؤمناً لا يملك شيئاً، او العكس، أما بخصوص العواقب فالأمر مختلف، فإنفاق المؤمن يكون في نماء متصل الى يوم القيامة، وإنفاق الكافر يكون وبالاً عليه، وسبباً لنزول البلاء به.
وهذا التباين دعوة للناس للسعي في سبل المعرفة والتخلي عن الكفر والجحود والرذائل مطلقا، والتحلي بالفضائل، وإخلاص العبادة لله تعالى، ودخول الإسلام وإرتداء لباس الإيمان الذي يكون واقية من تلف الأموال ووسيلة لزيادة الأموال والإنتفاع منها في الدنيا والآخرة.
الآية لطف
لقد أراد الله عز وجل للناس أن يشكروه على توالي وإستقرار النعم عندهم، ومنها الصحة والمال وإتصال الرزق وكثرة الولد، فيكون الإنسان رجلاً او امرأة وحيداً، ثم يصل سن البلوغ ويعقد النكاح، فيتعدد الولد الذي هو فرع منه وكسب كريم من كسبه، وعون له في أمور المعاش والكسب، أما إعانته له في أمور الدين وهي الأهم فتتعلق بإيمان العبد وتأديبه أبناءه على سبل الهداية، والإيمان، وتعليمهم العبادات والمناسك.
ومن الآيات ان الأب والأم يؤديان الفرائض أمام أولادهما كل يوم عدة مرات، وهي أفضل وسيلة للتأديب والتعليم،وتثبيت معالم الدين ، ولم يشهد تأريخ الإنسانية لها مثيلاً ، وتلك آية في المعرفة الإلهية ومن مصاديق وعمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “أدبني ربي فأحسن تأديبي( )”
فيلازم الصبي التأديب بأداء الفرائض منذ صغره، إذ يرى أهله وغيرهم يؤدون الصلاة، ويقوم بمساعدتهم في إعداد طعام الإفطار في شهر رمضان مثلاً لينشأ على التقوى والصلاح، وترسخ في ذهنه مفاهيم العبادة ويرى الإنفاق في سبيل الله والمبادرة الى الخيرات ويدرك حسنها الذاتي والغيري فيحرص على تعاهدها والفوز بما لها من الثواب والأجر العظيم، أما الكافر فان أولاده ينشأون على التيه والضلالة إلا انه لا يستطيع أن يحجب عنهم سبل الهداية والدعوة الى الله ، وهذه الآية تفضحه عندهم سواء في دلالتها وما فيها من الوعيد ، أو في مصاديقها.
لذا جاءت هذه الآية لتصل الى أسماع الآباء والأمهات والأبناء، وتمنع من إتخاذ النعم وسيلة لمحاربة أهل الإيمان، وتخبر عن الخسارة الفادحة التي تلحق الذين يقومون بإنفاق أموالهم في المعصية والتعدي على المسلمين.
لقد جاءت الآية لطفاً ورحمة من وجهين:
الأول: انها لطف بالمسلمين وأبنائهم من وجوه:
الأول: بيان صحة ونفع الإنفاق في سبيل الله.
الثاني: ذم الكفار الذين ينفقون أموالهم في المعاصي.
الثالث: ندب المسلمين الى تلاوة الآية وإنذار الكفار بمضامينها.
الرابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين وجعلهم يدركون عدم ترتب الأثر او مجيء الضرر من قيام الكفار بالإنفاق في محاربة الإسلام.
الثاني : الآية رحمة بالكفار من وجوه:
الأول: بيان قبح الكفر، وما له من الأضرار الذاتية والعرضية، الدنيوية والأخروية.
الثاني: دعوة الكفار للإقلاع عن الكفر.
الثالث: الإخبار عن وجود صلة مستمرة ودائمة بين السماء والأرض، بين الخالق والمخلوقين، وتتجلى هذه الصلة بالقرآن وما في آياته من الوعد والوعيد.
الرابع: إنذار الكفار وبيان سوء عاقبة إنفاقهم، فلم يتركهم الله عز وجل في غيهم وضلالتهم وبذلهم الأموال في الإضرار بالمسلمين، بل تفضل وأنذرهم في هذه الآية وحذرهم من تلف أموالهم.
الخامس: بيان قانون دائم وهو عدم ترتب النفع على الإنفاق المقترن بالكفر والجحود، فلا ينفع الكافر ما يبذله من المال والإحسان الى الآخرين ما دام مقيماً على الكفر والجحود.
السادس: البيان السماوي لظلم الكفار لأنفسهم لطف بهم في الحياة الدنيا، فقد لايلتفت الكفار للبيان والتحذير لوجاء من بعضهم أو بعض المؤمنين، ولكنه جاء من عند الله.
ومن خصائص البيان والكشف القرآني مصاحبته للناس في جميع الأزمنة والأمصار، وله الأهلية للوصول الى جميع الناس مع كثرتهم وتعدد النسل وتباعد أماكن السكن.
فيصل ما في هذه الآية من الإنذار والوعيد الى جميع الناس وهو في مفهومه دعوة للمسلمين للثبات على سنن الإيمان والإستبشار بالإنفاق في سبيل الله، وحث لهم للقيام بالتبليغ والتحذير من الكفر والجحود، وما فيه من الظلم للنفس والإضرار بها وبالمال والحرث والذرية، وعن ابن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن اربع : عن عمره فيما افناه ؟ وعن جسده فيما ابلاه ؟ وعن ماله فيما انفقه ؟ ومن اين اكتسبه؟ وعن حبنا اهل البيت( ).
من غايات الآية
من بديع خلق الله عز وجل ان جعل الإنسان يتصرف في الحياة الدنيا بذاته وبإختيار بمقدار مع التباين في الفعل والصدور، فالمؤمن يدرك ان الله عز وجل يراه ويحصي عليه أعماله ويكتب ثواب حسناته.
أما الكافر فلا يستحضر الحساب ولا يؤمن باليوم الآخر ولا يعلم ان الحياة الدنيا دار مشقة وعناء وتكاليف، وان نعمها تستلزم الشكر لله تعالى قال سبحانه [ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ *يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا] ( )، فيظن الكافر انه حر بإرتكاب المعاصي والسيئات والإنفاق فيها، وان لا أحد يستطيع منعه من التصرف في ماله وكيفية إنفاقه فيأتيه الإبتلاء بتلف ماله في الدنيا، وانعدام النفع منه في الآخرة.
وتدعو الآية الى لزوم إعتبار الأمور الغيبية، وحلول البركة او التلف في المال بآفات لم يتوقعها الإنسان ، وتأتي البركة لمن ينفق ماله في سبيل الله، وتتجلى بالنماء في المال والسعة في الرزق، او العافية والعمر المديد، او دفع البلاء والفتن والسقم، اما التلف فيحل بالكافر بكساد التجارة، ودنو الأجل، والإسراف في المال والتعرض للظلم والغدر، وعقوق الأبناء، والآفات الأرضية والسماوية.
وجاءت هذه الآية بخصوص القسم الثاني إذ انها اخبرت عن مجيء إبتلاء وآفة على أموال الكافر فتمحقها لأن الأرض لله تعالى، ولا يريد للكفر الإستحواذ عليها، فيمنع سبحانه الكفار من إفشاء ونشر مفاهيم الكفر وإتخاذ الأموال وسيلة لنشرها ولمحاربة الإسلام والمسلمين.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار صراع بين الإيمان والكفر، من غير تكافئ بينهما، إذ ان الله عز وجل ينصر أهل الإيمان، ويخذل الكفر والكفار، ويتجلى النصر في هذه الآية، ببشارة المسلمين بما يلقاه الكفار من الخسارة الفادحة في المال، وصيرورتهم عاجزين عن الإضرار بالمسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
فمن أسباب إنتفاء الضرر الفادح بالمسلمين تلف أموال الكفار وعدم الإنتفاع مما ينفقونه في محاربة المسلمين ، أما خذلان الكفار في الآية فيتجلى بإخبارها السماوي على نحو القطع والتحدي بتلف أموالهم وإضرار إنفاقهم بهم، وملازمة الخسارة والحسرة للكفر والضلالة.
وتبين الآية حقيقة وهي ان الكفر ظلم للنفس في الدنيا والآخرة، فقد يظن بعضهم ان الدنيا دار إمهال للكافر وانه لن يلقى العذاب الا في الآخرة.
فجاءت هذه الآية لتخبر عن نزول العذاب بالكافر بخسارته أمواله، وان ظلم الإنسان لنفسه سبب لجلب الضرر والأذى له، وان الغضب الإلهي يحل بالكافر في الدنيا ليكون هذا الحلول إنذاراً عملياً متمماً للإنذار القولي الوارد في آيات القرآن، ومناسبة للتوبة والكف عن الإنفاق في المعاصي، ودعوة لهجران الكفر والضلالة.
ومن غايات الآية حث المسلمين على الصبر في ذات الله، وعدم الإفتتان بما عند الكفار لأنه في طريقه الى الفناء والتلف، ليتجلى المدد الإلهي للمسلمين بالظهور برداء القوة والمنعة وكثرة الأموال والأولاد، وفقر عدوهم الذي كان يعد العدة وينفق الأموال الكثيرة للإضرار بهم والتعدي على ثغورهم، والإستهزاء بأحكام الشريعة، ومحاولة بعث الشك في النبوة.
فالآية بشارة النصر والظفر والغلبة للمسلمين بجنود ومدد من عند الله، وخسارة فادحة تلحق بعدوهم وتجعله عاجزاً ليس فقط عن الإضرار بهم بل عن رد سرايا المجاهدين، ورسل الدين والمبلغين لأحكام الحلال والحرام.
أسباب النزول
ذكرت في أسباب نزول الآية وجوه:
الأول: نزلت الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند محاربتهم وإنفاقهم الأموال لمقاتلة المسلمين.
الثاني: نزلت الآية فيما كان ينفقه شطر من يهود المدينة في تحريف وتغيير صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة.
الثالث: كان المنافقون ينفقون أموالهم في إعانة المسلمين وسرايا الغزو على نحو التقية، والخوف من المسلمين، والمداراة لهم، فجاءت الآية لبطلان عمل المنافقين لإفتقارهم الى قصد القربة.
الرابع: ما ينفقه الكفار والفاسقون ويظنون انه يقربهم الى الله تعالى مع انه لا شيء يقرب الكافر من الله عز وجل.
الخامس: لقد جمع كفار قريش العساكر وتوجهوا من مكة الى المدينة المنورة على مسافة نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً، وهم يقومون بإطعام العساكر ويذبحون البدن والأغنام في إطعامهم، وقاموا بتجهيزهم بالسلاح والعدة والرواحل، وأمدوهم بالمال ، فجاءت هذه الآية لتخبر عن هلاك أموالهم، ونصر المسلمين ورجوع الكفار خائبين من أحد، ولم يحققوا ما يريدون من قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو القضاء على الإسلام.
ورغم الخسائر التي لحقت المسلمين، فقد كانت المعركة ونتائجها كالريح التي فيها صر إذ سببت تلف أموال قريش وخسارة ما أنفقوه ، وكساد تجارتهم، وخزيهم وفضحهم بين القبائل وأهل الملل.
وتشمل الآية هذه الوجوه، كما أنها أعم منها، إذ انها قانون يبين حكماً ثابتاً في الأرض ، ومصاحباً للكفر والضلالة ، وهو عون للمسلمين لما فيه من إضعاف عدوهم، وخزيه في الدنيا والآخرة.
التفسير
قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ]
بدأت الآية بلفظ “مثل” الذي يفيد التشبيه والتمثيل، وتشرأب الأسماع عند سماع كلمة التشبيه الى ما بعدها لمعرفة موضوع التمثيل والمشبه به، فمن الآيات ان تبدأ الآية بما يجعل الناس يحرصون على الإستماع الى مضامين الآية بشوق ليكون هذا الإستماع وسيلة للتفقه في أمور الدين والدنيا، فلابد من علة لتلف الأموال التي ينفقها الكفار مع أنهم يرجون فيها النفع الذي يناسبها وجني الأرباح منها، سواء الأرباح المادية او تحصيل الأمن والسلامة أو الغلبة والنصر، ويفيد ورود الواو في “ينفقون” وعودته للكفار حصر تلف الإنفاق بهم على نحو التعيين ، وإشارة الى أنه خلاف المتعارف بين الناس في إستثمار الإنفاق والإنتفاع منه، وتشمل الآية وجوهاً:
الأول: الإنفاق الشخصي للكافر، وتقدير الآية: مثل الذي ينفقه الكافر.
الثاني: الإنفاق النوعي العام، وهو الذي تدل عليه صيغة الجمع في الآية.
الثالث: الإنفاق في المعصية.
الرابع: بذل الأموال في محاولات نشر مفاهيم الكفر والضلالة.
الخامس: إعانة الكفار الآخرين لبقائهم في منازل الكفر.
السادس: صرف الأموال لصد الناس عن الإسلام، ومنعهم من دخوله.
السابع: جلب الأنصار والأعوان وتجنيد الجنود لمحاربة الإسلام والمسلمين.
الثامن: شراء المؤون والأسلحة التي تساعدهم على التعدي على ثغور الإسلام.
التاسع: ما ينفقه الكفار في صد المسلمين عن تحقيق الغايات السامية التي يسعون اليها في نشر مبادئ الإسلام.
العاشر: الإنفاق العام لأمور الحياة، لأنه يتم مع الإصرار على الكفر وبنية الجحود والضلالة فيكون هذا الإنفاق مادة لتثبيت مفاهيم وسنن الكفر في الأرض، لذا ورد قوله تعالى [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ] ( ).
وتدل على هذه الوجوه وتعددها أصالة الإطلاق المستقرأة من مضامين الآية اذ انها لم تقيد نوع الإنفاق الذي يذهب هباء، بل جاءت بصيغة الشمول والعموم، وفيه توبيخ للكفار وانذار لهم وإخبار عن خسارتهم في النشأتين، لتكون مدرسة المثل القرآني حجة ودليلاُ وشاهداً على ان الدنيا دار بلاء وأذى للكفار، وأنهم لم يتنعموا بما عندهم من الأموال لأنها الى ضياع ، ولا تخلف في نفوسهم الا الحسرة والندامة.
ومنهم من قال بان المراد بالإنفاق هو جميع أعمال الكفار التي يرجون الإنتفاع بها في الآخرة، سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ] ( ) ذكره الرازي في أحد القولين ( ).
ولكن المراد من الإنفاق في المقام هو بذل الأموال في محاربة الإسلام والإضرار بالمسلمين ومحاولات إخراجهم من ديارهم، وغزو ثغورهم، وصدهم وغيرهم من الناس عن سبيل الله، إذ يقوم الكفار بالإنفاق من منازل الكفر ، في محاولة لتثبيته ومنع إنحساره وزواله [وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
فيحل بهم البلاء الذي يجعلهم عاجزين على الإنفاق لأنه سالبة بإنتفاء الموضوع، أي ليس عندهم ما ينفقونه مرة أخرى، وهذه الآية من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا [ا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله تعالى أنه يرمي الكفار بالفقر وتلف الأموال، ويجعلهم عاجزين عن الإفساد في الأرض، إذ ان الأموال مادة ووسيلة للأعمال سواء كانت صالحة أو طالحة، فجاءت هذه الآية للإخبار عن القضاء على وسائل الفساد وأسباب سفك الدماء فان قلت ان المسلمين قد يقومون بالقتل وعرض الناس على السيف، في الغزوات والجواب ان الأمر مختلف إذ ان المسلمين لا يعرضون على السيف الا الكافر الوثني لمنعه من الفساد في الأرض والبقاء على ملة الكفر والإنفاق فيه.
فمن علم الله تعالى بحال الإنسان في الأرض تآكل أموال الكفار وإصابتها بالنقص والزوال، مع قوة المسلمين ونماء أموالهم بالزكاة والإنفاق في سبيل الله، فكلا الطرفين ينفقان المال ولكن أحدهما تحل به المصائب التي تأتي على ما تبقى عنده من الأموال وهم الكفار.
والطرف الآخر وهم المسلمون تزداد أموالهم بالإنفاق لموضوعية القصد والنية والعزم، ولعظيم فضل الله تعالى على المسلمين ونصرهم في السراء والضراء.
ومن منافع المثل الوارد في الآية دعوة المسلمين الى الصبر وتحمل الأذى الذي يأتي من الكفار مع إدراك حقيقة وهي حتمية إنقطاع هذا الأذى وعدم إستمراره لأن البلاء يحل بالكفار وأموالهم فيجعلهم قاصرين صاغرين، مع ترك فريق منهم منازل الكفر، فكما ان الإنسان يترك الأرض والمكان الذي تأتي فيه الرياح الباردة التي تهلك الزرع والحرث ، والتي فيها الزلازل والصواعق المحرقة، فكذا بالنسبة للكفر والإنفاق فيه فان الناس يتركونه ويتخلون عن منازله ويتجهون صوب الملة الحق التي يكون فيها نماء وزيادة الأموال والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومن إعجاز القرآن وتكامل الأحكام فيه انه لم يدع المسلمين الى الصبر وحده وإنتظار البلاء الذي يحل بالكفار، بل حثهم على الجهاد ومحاربة الكفار قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( )، وتبين الآية ان مقاليد الأمور كلها بيد الله تعالى، وانه سبحانه يؤاخذ الكفار والمجرمين في الدنيا ويرميهم بأنواع البلاء التي هي من اللطف الإلهي لمنع الإقامة المستمرة على الإثم والمعصية.
وتتضمن الآية الكريمة معنى عدم إنتفاع الكافر في الدنيا والآخرة مما ينفقه، أما في الدنيا فان مبادئ الإسلام في منعة وواقية سماوية ، والمسلمون يزدادون قوة، ومستمرون في الجهاد في سبيل الله ودحض عدوهم.
وجعله عاجزاً عن الإنتفاع من أمواله في التعدي والظلم، وأما في الآخرة فان الكفر سبب لدخول النار، ومانع من إنتفاع الكافر من عمله في باب الإحسان، فلو قام الكافر بإعانة الفقراء والضعفاء والشفقة على الأيتام وبناء الرباطات ، فانه لن ينتفع منها في الآخرة ، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ] ( ).
علم المناسبة
بدأت الآية بالاسم “مثل” الذي يدل على التشبيه، ويشير الى إرادة التمثيل، ويتبادر الى ذهن القارئ للآية والمستمع لها مجيء التشبيه بما يكون معروفاً بيناً وخالياً من اللبس، ولا تنحصر هذه المبادرة بأيام التنزيل او بأهل العربية، بل يشمل المسلمين والناس جميعاُ لما مرتكز في الأذهان من مجيء القرآن بالمثل القريب من الناس في أجيالهم المتعاقبة، لذا يكثر فيه ذكر الآيات الكونية الثابتة، كالرياح والمطر، والحشرات الموجودة في عموم الأرض كالذباب والعنكبوت والبعوض.
وكما ذكرت هذه الآية بصيغة المثل عاقبة الأموال التي ينفقها الكفار، فان آية أخرى جاءت بتشبيه حال الكفار أنفسهم، قال تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً]( )، ليلبس القرآني المعنوي والمعقول لباس المحسوس مع ذكر البرهان المدرك للناس جميعاً، وفيه لطف إلهي لإنقاذ الناس من مستنقع الجهالة والضلالة، وإفادة لغة الذم والتقبيح التأديب والتنبيه، والحث على فهم لغة الدعوة والهداية والإرشاد، ودعوة الكافر بان لا يكون كراعي الأغنام الذي يطلق أصواتاً وألفاظاً بلغة الآدميين لجمعها أو تفريقها، مع ان البهائم لا تفهم كلامه.
واذ جاءت الآية محل البحث في ذم وإنذار الذي كفروا لإنفاقهم في الباطل، وغلبة الشهوة ورغائب البدن والعالم الجسماني عندهم، جاءت آية أخرى في مدح المؤمنين في إنفاقهم، وغلبة العقل على الشهوة في أقوالهم وأفعالهم ، ونيلهم مراتب الإرتقاء في المعارف وحسن الإختيار وبلوغ درجة التقوى والإنفاق في سبيل الله وإعانة الفقراء واخراج الحقوق الشرعية ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُحبة]( ).
ويتجلى التباين بين انفاق الكفار وإنفاق المؤمنين من وجوه:
الأول: ضياع أموال الكفار التي ينفقونها ورجوعها بالضرر عليهم وعلى أهليهم.
الثاني: نماء وزيادة الأموال التي ينفقها المسلمون.
الثالث: إطلاق الخسارة في إنفاق الكفار، وعدم تقييدها بمورد معين من موارد الإنفاق.
الرابع: بيان قانون ثابت وهو كلما حرص الكفار على تحصيل المنفعة، واتقنوا المقدمات والأسباب جاءت ذات النتيجة وهي الخسارة والضياع.
جاءت الآية السابقة في ذم الذين كفروا والإخبار عن عدم إجزاء أموالهم وأولادهم عنهم من الله عز وجل، وقد يظن بعضهم ان ابتلاء الكفار والضرر الذي يلحق بهم ينحصر بعدم إجزاء أموالهم وأولادهم عنهم من الله شيئاً، فجاءت هذه الآية إتماماً لموضوعها، وبياناًُ للأضرار التي تلحق الكفار في أموالهم وأنفسهم وان الأمر لا ينحصر بعدم إجزاء الأموال عن الكفار بل يشمل تلف الأموال ذاتها، ويحتمل ها التلف وجوهاً:
الأول: تلف وضياع الأموال في الحياة الدنيا.
الثاني: ضياع وتلف الأموال في الآخرة، فلا يكسب الكافر منها ومن إنفاقها شيئاً لتكون هذه الآية تفسيراً وبياناً للآية السابقة وما فيها من الإخبار عن عدم إجزاء أموال الكفار عنهم.
الثالث: العنوان الجامع للحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثالث، لأصالة الإطلاق ولعدم ورود تقييد وتخصيص في الآية الكريمة، ولأن الكفار يؤخذون بأشد الأحوال، ولحاجة المسلمين لإلحاق الضرر بأموال الكفار التي يتخذونها وسائل للإعتداء على الإسلام والمسلمين، ومن المعروف ان الأموال تختلف عن غيرها من الوسائل التي تكون في حوزة الإنسان، إذ انها تصلح لكل شيء يجري عليه عقد البيع والشراء، وتكون أغلب الأمور المادية والمقتنيات بالمال والشراء.
فيوظف الكافر أمواله لنشر مفاهيم الضلالة، وإنكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في الكتب السماوية السابقة، وإخفاء المعجزات وصرف الناس عن التدبر بآيات النبوة وسبل نجاتهم في النشأتين فتكون أموال الكفار ضرراً نوعياً عاماً على كل من:
الأول: المسلمون، بان يعانون من الضرر والأذى من تسخير الكافر أمواله في التعدي عليهم، ويواجهون المشقة في دفع كيد ومكر الكفار، إذ ان الكيد يختلف في كمه وكيفيته وأثُره مع تسخير الأموال له.
الثاني: الكفار أنفسهم، لما يلحقهم من الضرر من وجوه:
الأول: خسارتهم أموالهم.
الثاني: ذهاب إنفاقهم في السيئات أدراج الرياح.
الثالث: صيرورتهم في حسرة وندم بسبب عدم ترتب الأثر والغاية التي يريدون من إنفاق الأموال، فيسعى الكافر في الإضرار بالمسلمين ويبذل الأموال ولكنه لا يحصد إلا الخيبة، ويرى كيف يزداد المسلمون قوة ومنعة واحترازاً من محاولات الإضرار بهم.
الرابع: الخسارة التي تلحق أولاد الكافر بسبب عدم بقاء الأموال تركة لهم ولأٍسرهم، فان قلت يلتقي المسلمون أيضاً بهذا المعنى بان يكون إنفاقهم سبباً لعدم بقاء الأموال تركة لأبنائهم من بعدهم والجواب انه قياس مع الفارق اذ ان إنفاق المسلمين له عوض وبدل من عند الله.
ويتصف هذا العوض بأمور:
الأول: أنه أضعاف مضاعفة لما تم إنفاقه.
الثاني: مجيؤه في الحياة الدنيا والآخرة، وعدم إنحصاره بعالم الثواب والجزاء، ومن خصائص العوض في الدنيا أمور:
الأول: عدم إنحصاره بالبدل المالي.
الثاني: يأتي العوض في الدنيا متعدداً في كيفيته وموضوعه.
الثالث: يأتي العوض في الدنيا عن حاجة وفقر، ويأتي عن ظهر غنى.
الرابع: تغشي البركة للعوض الذي يأتي للمؤمن من عند الله عز وجل.
الثالث: العوض في النشأتين فضل من عند الله، وليس عن إستحقاق.
الرابع: يدل على العوض والبدل على الإنفاق في سبيل الله على عظيم قدرة الله، وان له ملك السماوات والأرض.
الثالث: الناس جميعاً، لأن إنفاق الكفار المال في المعصية برزخ دون وصول آيات التبليغ وأٍسباب الهداية الى الناس جميعاً، ومن فضل الله تعالى ان هذا البرزخ لا يكون على نحو السالبة الكلية، بل هو جزئي ومحدود، ليبقى حجة على الكفار وسبباً في خزيهم وإمتلائهم غيضاً، وهو من مصاديق الضرر الذي يلحق بالكفار في الحياة الدنيا.
وإبتدأت الآية بلفظ (المثل) لغة ومعنى وقصد إرادة التشبيه، وفيه دعوة للإنصات، ولطف إلهي بالناس جميعاً، لأن المحسوس أكثر ثباتاً في الذهن، فيكون المثل القرآني كالواسطة بين عالم الغيب وعالم الشهادة وحجة في تحصيل الغاية السامية من الآية القرآنية وفهم المخاطبين لمضامينها وما فيها من الدروس والعبر، ليتساوى في فهم دلالاتها العقائدية العالم والجاهل، والقريب والبعيد، والتالي للآية والمستمع والسامع لها، ويسهل على الناس الإنتفاع منها والإعتبار مما فيها من الدروس والمواعظ خصوصاً وان الآية تتعلق بمسألة إبتلائية عامة يتأذى منها الجميع، فالمسلمون يعانون من الأذى الذي يأتيهم بسبب إنفاق الكفار أموالهم في التعدي وركوب المعاصي، والكفار أنفسهم يعانون من الضيق والخسارة والضرر في المال والبدن.
والكفر إختيار مذموم، وفعل قبيح، يقوم به شطر من الناس ومخالف للفطرة وعلة الخلق، فيتحمل الناس جميعاً أعباء إختيار شطر منهم له، ويبقى تركة ثقيلة يئنون من أضرارها المتعاقبة، ومن أسرار خلق الإنسان ومضامين الإبتلاء في الحياة الدنيا ان يتلقى المؤمنون الأذى وتلحقهم الخسارة بسبب سوء إختيار غيرهم، ولكن هذا الأذى خاص في الدنيا، وهو باب لنيل الثواب وإحراز الأجر في الآخرة، وتتضمن هذه الآية منافع وغايات ودروساً عديدة منها:
الأول: ان الدنيا دار وعيد وتخويف.
الثاني: ليس كل الإنفاق حسناً، فمنه ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح، والحسن ما كان في سبيل الله، والقبيح هو الذي يقترن بالكفر والجحود ويؤتى به في وجوه المعصية، قال تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثالث: توظيف المثل الحسي لبيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية.
الرابع: الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وجعل الله عز وجل فيها الأموال مادة للإبتلاء المقرون بالإفتتان، إذ ان الإنسان يحرص على ماله، ويحب نماءه وكثرته، ويرجو الإنتفاع منه في ساعة الضيق والشدة والحاجة، ويدرك الإنسان بالتجربة والوجدان ان حاجته الى المال مستمرة حتى في حال السعة والصحة، والمال سبب لتوفير مستلزمات المعيشة وصلة الرحم والإحسان الى الناس، والغنى عما في أيديهم، وهو برزخ دون الذل والهوان بينهم، لما في المسألة والحاجة من الذلة والمسكنة.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن حقيقة وهي ان الآخرة دار العز أوالذل الدائمي، والمدار في الإقامة في العز هو الإيمان بالله والإنفاق بقصد القربة، أما الحلول في الذل والهوان فعلته الكفر والجحود والإنفاق في المعصية، ومن أسباب تفضيل المسلمين وكونهم خير أمة أخرجت للناس ايمانهم بالله والأنبياء جميعاً، ومبادرتهم للإنفاق في سبيل الله، وتحذيرهم الكفار من الإنفاق في المعاصي، وقتالهم لهم ليتأكد للكفار في الواقع العملي الضرر الفادح للكفر، وإنعدام النفع مما ينفقون.
لقد أراد الله عز وجل للناس بلغة المثل في القرآن البيان والإعتبار والإتعاظ وتقريب عالم الغيب وجعل الناس يدركون ان كثيراً من الوقائع والحوادث هي نتائج لأفعالهم وآثار لأعمالهم، ومنها ما يصيب أموال الكافرين من التلف والهلاك.
فجاء المثل في هذه الآية ليستحضر الكفار موضوع أموالهم قلة وكثرة وجمعاً وانفاقاً، وحصول التغيير والتبدل في شأنهم، وعدم الإنتفاع من الأموال التي جعلوها في المعاصي، وإذ جاءت الآية السابقة بالإخبار عن عدم إجزاء أموال وأولاد الكفار عنهم من الله، وإنذارهم بالخلود في النار، جاءت هذه الآية لبيان خسارتهم في الدنيا، وأسباب هذه الخسارة من الضلالة والغي والإسراف وبذل الأموال في صد أنفسهم والناس عن الهدى والإيمان، وفيه بيان وتفسير لعلة خلودهم في النار وتوكيد لظلمهم لأنفسهم، وهذا البيان والتفسير من منافع المثل القرآني، والمثل على وجوه ثلاثة:
الأول: المثل الصريح الظاهر الذي لايحتاج الى واسطة لفهمه.
الثاني: المثل المرسل الذي يجري مجرى الأمثال.
الثالث: المثل الكامن الذي لم يصرح به بلفظ التمثيل والتشبيه.
وأكثرها دلالة وبياناً المثل الصريح، ومنه ما جاء في هذه الآية، ومن البيان إبتداؤها بلفظ “المثل” لجذب الأسماع وجعل الناس يلتفتون الى المثل الوارد فيها ويتدبرون في معانيه ومضامينه وما له من الغايات السامية، وقوله تعالى “ما ينفقون” توكيد لإنحصار المثل بإنفاق الكفار وموارد صرفهم الأموال وخروج ما ينفقه المسلمون بالتخصص من مضامين هذه الآية من وجوه:
الأول: مجيء الآية بصيغة الجملة الخبرية، وإرادة الضمير الغائب في ينفقون.
الثاني: نظم الآيات، وتعلق موضوعها بالكفار، اذ تتحدث الآية السابقة عن الكفار وعدم إجزاء أموالهم وأولادهم عنهم.
الثالث: ورود الآيات القرآنية بالمدح والثناء على المسلمين لإنفاقهم أموالهم في سبيل الله ومضاعفتها والإجزاء بها.
الرابع: مجيء آيات قرآنية بإنذار الكفار لسوء تصرفهم في أموالهم وإنفاقهم في المعاصي ومحاربة الإسلام، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً] ( ).
وهل مضامين هذه الآية من الإنذار أم من الحسرة، الجواب انها منهما معاً، إذ تبعث لغة الإنذار الواردة في الآية الحسرة في نفوس الكفار قبل الإنفاق وأثناءه وبعده، وهذه الحسرة مقدمة ومثال لحسرتهم الدائمة يوم القيامة.
وتبين الآية إحصاء الله تعالى لأفعال العباد جميعاً، وان الأموال عندهم نوع أمانة متزلزلة، وموضوع للإمتحان والإختبار، ولكن الإختبار بها ليس أمراً مستقلاً بل فرع الإعتقاد، فمن كان مؤمناً يكون تصرفه في المال وفق أحكام الشريعة سبباً لنيله المراتب العالية في الجنة.
ومن كان كافراً لا ينفعه إنفاقه وتصرفه بأمواله وان كان هذا الإنفاق في الإحسان الى الآخرين، لأن الكفر ماحق للنعم، ومانع من الثواب، فيكون إنفاقه وبالاً عليه.
وفي الآية دعوة للكافر للحرص على أمواله وتعاهدها ، وهذا التعاهد لا يكون بحفظها والإحتراز في إدخارها والذب عنها ودفع يد السرقة والتعدي عنها، وان كانت هذه الأمور من مصاديق الحفظ والتعاهد، ولكن أصل الحفظ والتعاهد هو إختيار الإيمان ونبذ الكفر ، ولا تنحصر موضوعية الإيمان بخصوص الأموال الخاصة في حفظها، بل تشمل وجوهاً:
الأول: نماء الأموال مع الإيمان.
الثاني: نيل المؤمن الأجر والثواب على إنفاقه.
الثالث: إنفاق المؤمن بعث للبركة في أمواله، وسبب في حفظه وسلامته، أما الكافر فان إنفاقه وبال عليه ومادة لهلاك وتلف أمواله.
وهذا التضاد آية في الخلق وعالم الأعمال وما يترتب عليها من الآثار والنتائج، وفيه شاهد على ان المسلمين خير أمة أخرجت للناس من وجوه:
الأول: قيام المسلمين بالإنفاق في سبيل الله ينمي أموالهم.
الثاني: يجعل الإنفاق البركة في رزقهم، ومنه ثروة النفط والغاز وكنوز الأرض التي أنعم الله عز وجل عليهم بها، وهي شاهد على سلامة إختيارهم وشكر الله تعالى لهم على حسن أمتثالهم للأوامر الإلهية في أداء الفرائض والعبادات ، وفيه دلالة على ان الله عز وجل يرزق خير الأمم أفضل النعم وأتم البركات.
الثالث: دعوة المسلمين الناس جميعاً للإقتداء بهم في إختيار الإيمان ليكون الإنفاق وسيلة لحفظ الأموال، ومانعاً من تلفها وضياعها.
الرابع: المسلمون في سمتهم وحسن نهجهم وتقيدهم بسنن وأحكام الشريعة الناسخة حجة على غيرهم من أهل الكتاب والكفار.
الخامس: حث المسلمين الناس جميعاً على حفظ أموالهم، وإجتناب صيرورتها سبباً في عذابهم، وينحصر هذا الحفظ بالإيمان بالله والنبوة واليوم الآخر، والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا سمع الكفار الآية السابقة، فقد يظنون ان الأمر يقف عند عدم إجزاء أموالهم عنهم في الآخرة، فجاءت هذه الآية لتكون إنذاراً مصاحباً لهم في ليلهم ونهارهم، وحاضراًُ معهم عند القيام بالإنفاق والتصرف في المال، وعند الإبتلاء بنقص الأموال وقلة البركة والنماء فيها وكساد التجارات والقصور في تحقيق الغايات منها.
وتلك آية إعجازية في مضامين الوعيد القرآنية بان تكون موضوعاً للذكرى والموعظة، وسبباً لجذب الإنسان لمنازل الإيمان، ووسيلة لنفرته من الكفر والجحود وما يستلزم الإنذار والوعيد، بان تتجلى مصاديق الوعيد في الواقع العملي وعلى نحو يومي متصل، خصوصاً وان الإنسان ينفق من أمواله، ويجري معاملات البيع والشراء في أغلب أيام حياته، فتأتي الوقائع والأحداث موافقة لمضامين الآية الكريمة ، لتكون رحمة إضافية بالناس ووسيلة ملكوتية لترغيبهم بالإسلام، والتخلي عن الكفر والضلالة، والإنفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وجاءت الآية شاملة لكل أفراده الكثيرة والقليلة.
وهل ينحصر موضوع الآية بأيام التنزيل وما كان ينفقه الكفار في محاربة المسلمين كما في مشركي قريش وهوازن، الجواب لا، إذ ان أحكام الآية وما فيها من الإنذار والوعيد عامة ومطلقة، وشاملة لأفراد الزمان الطولية المتعاقبة، والأمصار والبلدان المختلفة ويدل عليه الشطر التالي من الآية الكريمة.
وجاءت الآية بصيغة المضارع “ينفقون” وفيه وجوه:
الأول: شمول أحكام المثل الوارد في الآية لجميع ما ينفقه الكفار في أفراد الزمان الطولية الماضي والمضارع والمستقبل.
الثاني: لو دار الأمر بين العموم والتخصيص في المقام ، فالأصل هو العموم وعدم وجود إستثناء فيما ينفقه الكفار سواء على نحو القضية الشخصية وخروج بعض أفراد أمم الكفر والشرك أو وجه من وجوه إنفاقهم من عمومات الآية الكريمة، فتشمل أحكام المثل الوارد في الآية القرآنية ما ينفقه الكفار في المعاصي ومحاربة الإسلام ،وجحود الكافر لنعمة ربه ، وظلمه لنفسه كالذي يظن ان ما في يده من الكروم والأشجار يكفيه ويغنيه ، فيصر على الجحود ، قال تعالى [وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا] ( ).
الثالث: إطلاق الحكم في أفراد الزمان الطولية ، ففي كل زمان تطل هذه الآية على الناس وعيداً ووعداً، فهي في منطوقها وعيد للكافرين بسوء عاقبة ما ينفقون، ووعد في مفهومها للمسلمين في إصابة عدوهم بالندم والحسرة وتقليب كفيه ظهراً لبطن، واذا كان الجاحد بالنعم يحاط به ويتلف ما عنده، فمن باب الأولوية أن يلقى الكافر الذي ينفق أمواله ذات العاقبة وما هو أشد وأمر منها.
الرابع: ذكر الوعاء الزماني الأعم في الآية بقوله تعالى [فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] الذي يفيد إستمرار الموضوع والحكم وثبوت النسبة بينهما.
ويدل هذا التعدد على البيان الإضافي، والتوكيد على الحكم، والزيادة في التحذير والوعيد، وهو من اللطف الإلهي بالناس جميعاً، وشاهد على تضمن القرآن توكيد الأحكام وعدم الإكتفاء بالإشارة اليها، وفيه شاهد بان المثل القرآني ليس تنبيهاً وكناية مجملة فحسب، بل هو دليل وحجة مقرونة بالبيان الخالي من اللبس والترديد.
الخامس: تقييد إنفاق المسلمين بأنه في سبيل الله، وترتب الثواب على قصد القربة الى الله تعالى.
السادس: إمتناع حصول قصد القربة عند الكفار.
السابع: إزدياد المسلمين قوة ومنعة بكثرة أموالهم ، وما يحصل فيها من النماء.
الثامن: إصابة أموال الكفار بالنقص المستمر وظهور أمارات الضعف عليهم.
التاسع: الأجر والثواب العظيم للمسلمين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله.
العاشر: الإثم والعقاب الأليم للكفار لإنفاقهم أموالهم في الباطل.
فمن الآيات في القرآن وجود صيغة الإنذار والبشارة في الموضوع الواحد، فتتعلق آيتان بمضوع واحد هو الإنفاق ولكن المصدر والجهة والقصد متباينان مما يترتب عليه التباين والتضاد في النتيجة والأثر، ولا ينحصر هذا التضاد بعالم الآخرة وما فيه من الثواب على الإنفاق في سبيل الله، والعقاب الأليم على الإنفاق في المعاصي، بل يشمل الحياة الدنيا بما يظهر معاني الفضل الإلهي المركب على المسلمين بنماء أموالهم، ونفق وضياع أموال أعدائهم الذي ذكر بصيغة المثل الحسي الظاهر.
ان تشبيه إنفاق المسلمين في سبيل الله بحبة تتفرع عنها سبع سنابل وفيها سبعمائة حبة مع المضاعفة والزيادة من عند الله ترغيب بالإنفاق من وجوه منها عدم وجود مثل هذا الحاصل للحبة الواحدة وقد يكون على سبيل النادر في الذرة ،وفيه إشارة الى ان الله عز وجل يثيب على العمل الصالح ما يفوق عالم التصور،فضلاً منه سبحانه، وفيه تعريض بالكفار الذين أعرضوا عن هذه النعمة، وإختاروا الخسارة في النشأتين ، وجاء ذمهم في القرآن بصيغة المثل أيضاً بقوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً]( ).
ومن صيغ إطلاق ذم الكفار في إنفاقهم عدم تقييده بالحرب أو السلم، أو السر والعلانية ليكون الإطلاق توكيداً لمنع الإستثناء والتخصيص في عموم خسارة الكفار، بينما جاء مدح المسلمين الذين ينفقون أموالهم ببيان التفصيل في الإنفاق منها قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ليكون الثناء متعدداً من وجوه:
الأول: الإنفاق سراً في الليل.
الثاني: الإنفاق علانية في الليل.
الثالث: الإنفاق سراً في النهار.
الرابع: الإنفاق علانية في النهار.
الخامس: الإنفاق سراً وعلانية في الليل.
السادس: الإنفاق سراَ وعلانية في الليل والنهار.
السابع: الإنفاق سراً في الليل والنهار.
الثامن: الإنفاق علانية في الليل والنهار.
وتفيد لغة التعدد في المقام كثرة المدح والثناء، وبعث الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين، والحسرة والندامة في قلوب الكفار قال تعالى [وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ] مركبة من وجوه:
الأول: مدح المسلمين على إنفاقهم في سبيل الله.
الثاني: تعدد وجوه المدح الإلهي للمسلمين.
الثالث: الإخبار الإلهي عن ضياع ما ينفقه الكفار من الأموال.
الرابع: توكيد القرآن على الضرر الفادح الذي يلحق بالكفار بسبب إنفاقهم الباطل.
وفي الجمع بين الآية أعلاه من سورة البقرة وبين المثل الوارد في الآية توكيد لتفسير آيات القرآن بالمنطوق والمفهوم للمثل القرآني إذ ان مفهوم هذه الآية توبيخ للكفار، ودعوة لهم للإمتناع عن بذل الأموال في محاربة الإسلام.
وورد لفظ “مثل” في القرآن إحدى وأربعين مرة، منها أربع مرات في سورة آل عمران، وفي آيتين منها، ومنه قوله تعالى [مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( )، وفيه دلالة على حصول التشبيه حتى في خلق الأنبياء بإعتبار ان خلق آدم أمر معلوم عند الملل والأديان كلها، وحجة على أهل الكتاب ودعوة للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والرجوع الى القرآن عند الشبهات لتضمن القرآن دعوة الناس جميعاُ للهداية والرشاد وفضح العقائد الباطلة، وذم الأفعال القبيحة ومنها الإنفاق في المعاصي ومحاربة الإسلام.
ومن الآيات ان لفظ مثل لم يرد بعد سورة آل عمران الا في سورة الأعراف، فليس في سورة النساء والمائدة والأنعام لفظ مثل ولكن هذا لا يعني عدم وجود التشبيه في هذه السور بل هو كثير وقد تقترن أداة التشبيه ووجهه وهو أعلى وأبلغ وجوه التشبيه قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا] ( )، فجاء أكل مال اليتيم كالنار التي تدخل البطون مع انها لا تؤكل.
علم المناسبة
وردت كلمة “ينفقون” في القرآن عشرين مرة، وكلها في مدح المؤمنين وبذلهم لأموالهم في سبيل الله، بإستثناء أربعة منها جاءت في ذم الكفار والمنافقين، وكيفية وغاية ما ينفقون.
ويدل هذا التباين في العدد على غلبة إنفاق المؤمنين، وموضوعية قصد القربة فيه ، وكل آية مدرسة في الجهاد بالأموال، وسعي في سبيل الله، وشاهد على صدق إيمان المسلمين، وغلبة الإيمان عندهم على الشهوة وحب المال، ودليل على قوة الإسلام وعدم حصول الخوف أو الفزع من القوم الكافرين، كما يدل على توفر المال عند المسلمين، وتعلق الزكاة والخمس في الأعيان التي يملكونها.
ومن الآيات حصول مصاديق هذه الآيات في أيام التنزيل، فلم تمر سنوات على الدعوة الإسلامية حتى جاء الغزاة من المسلمين بالذهب والفضة غنائم ، وفتحت الأمصار، وأصبحت بلاد المسلمين قوية وذات منعة، وحتى الذين لا يجدون ما ينفقون في سبيل الله جاءت الآيات بمدحهم والتخفيف عنهم، وبيان موضوعية صدق إيمانهم وسعيهم في النصح لله تعالى ورسوله ، قال تعالى [وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ] ( ).
وتبين الآية ما على المسلمين جميعاً من ينفق ومن ليس عنده مال ينفقه من وجوب طاعة الله ورسوله في السر والعلانية، وتوليهما ، والحب والبغض فيهما ، والإخلاص في إتيان العبادات والفرائض وعدم ا لتخلف عن الواجبات لأن الإنفاق باب من أبواب الجهاد والطاعة فالذي يتعذر عليه الجهاد في المال والإنفاق يتحلى بالإيمان وطاعة الله، ويبين الجمع بين هذه الآية والآية محل البحث ان الناس على أقسام:
الأول: المؤمن الذي ينفق أمواله في سبيل الله.
الثاني: المؤمن الذي ليس عنده ماله ينفقه ويدخل فيه من لم تكن عنده زيادة على المؤونة.
الثالث: الكافر الذي ينفق ماله في المعصية ومحاربة الإسلام.
وليس من كافر ليس عنده مال ينفقه، لأن الأمر والإنذار لا يتعلق بالزائد على المؤونة بل يشمل كل ما يصرفه في بقائه وعياله على الكفر، نعم من الكفار من ليس عنده مال ينفقه في محاربة الإسلام.
وجاءت الآية محل البحث لذم الكفار جميعاُ وانذارهم بذهاب أموالهم هباء حتى تلك التي ينفقونها في قضاء الحوائج لأنهم يتخذونها عوناً لإستدامة الكفر، وسبباً لمواجهة زحف الإسلام ومبادئه وجنوده قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( )، وتفضل الله عز وجل على المسلمين كافة وفتح لهم باباً للإنفاق لا يتخلف عنه أحد، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ] ( )، ليكون العفو بذلاً من الذات وتنازلاً عن الحق.
ووردت آيات عديدة تمدح المؤمنين الذين ينفقون من أموالهم بإعتبارها رزقاً من عند الله قال سبحانه [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( )، في إشارة الى ان ما عند الإنسان من المال فضل من عند الله، وموضوع للإبتلاء والإمتحان وان المؤمنين فازوا بحسن التصرف وبذل الأموال في مرضاة الله، انه نوع شكر فعلي على الرزق، وتجارة لكسب المزيد من الأموال وحصول النماء فيها .
ويدل مدح المؤمنين على الإنفاق في مفهومه على التعريض بالكفار لسوء فعلهم، وقبح عملهم، وتسخيرهم ما رزقهم الله في معصيته، والوعيد بسوء العاقبة، ويفيد الجمع بينه وبين منطوق الآية محل البحث الحجة على الكفار في ذهاب وضياع أموالهم، وتبعث الآيات الفزع في قلوب الكفار لما فيها من الأخبار عن تعاهد المسلمين للإنفاق في سبيل الله في الشدة والرخاء قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] ( ).
وتؤكد الآيات القطع بعدم قبول نفقات وصدقات الكفار لأنها تفتقر الى شرائط القبول وقصد القربة ، قال تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ]( ).
قانون مثل ما ينفق الكفار
من خصائص خلافة الإنسان في الأرض إمتلاكه المال، إذ ينفرد الإنسان من بين الخلائق بالتملك والقدرة على حفظ المال أعياناً وعروضاً وإستدامته أيام حياته، والتصرف به.
وبقاؤه تركة لغيره من بعده على نحو الإختصاص والتملك، وهو فضل عظيم ، وفرد من أفراد الخلافة في الأرض من وجوه:
الأول: قدرة الإنسان على التملك.
الثاني: تسخير الأشياء للإنسان، وإباحتها، وجعله قادراً على حيازتها.
الثالث: إدراك وإحترام الناس للملكية الشخصية، والفصل بينها وبين الملكية العامة، وما يكون الناس فيه شرعاً سواء، كالماء والكلأ.
الرابع: إمكان إدخار الإنسان لما يملك،، وإتقانه لوجوه الخزن والحفظ.
الخامس: الإعانة واللطف الإلهي للإنسان في كيفية التصرف في ماله، وجعله في سبيل الله.
السادس: زجر الإنسان عن الإسراف والتبذير والإنفاق في المعاصي.
ومن مصاديق الإختبار في الدنيا مجيء الأموال للإنسان وإمتحانه فيها جمعاً وتملكاً وتصرفاً ، وتشمل وجوه الإمتحان أموراً:
الأول: كيفية إحراز المال والحصول عليه، وهل جاء بطريق شرعي كالعمل والكسب ، أم أنه جاء من الحرام كالسرقة، ولم يترك الإنسان وذاته في إختيار الكيفية المناسبة لكسب المال، فقد تستحوذ عليه النفس الشهوية على نحو السالبة الكلية أو الجزئية أي قد يسعى في جمع المال من الحرام على نحو الدوام، أو يميل أحياناً للحرام عند الطمع والشره وغفلة صاحب المال أو عند الإغواء والإغراء.
الثاني: جمع المال وحيازة الكثير منه ومقدار النصاب، وهل أخرج الزكاة منه قبل إدخاره.
الثالث: كيفية صرف المال، وأبواب إنفاقه.
الرابع: القصد والنية في وجوه الإنفاق.
الخامس: إعتقاد المالك، إذ يأتي الإنفاق على أمرين متضادين:
الأول: الإنفاق عن إيمان بالله، وقصد طاعته ونيل رضاه تعالى.
الثاني: الإنفاق عن كفر، وبقصد المعصية والصد عن سبيل الله.
ويؤثم الكافر في الأمور الخمسة المتقدمة.
أما الأول فانه لا يحترز من كسب المال عن طرق الحرام سواء في كيفية الكسب أو نوع المهنة والصنعة او طريقة البيع، ومن حاجات الإنسان في الدنيا لزوم إستحضار أحكام الحلال والحرام في كسب المال ومعاملات البيع والشراء وهو أمر يصر الكافر على الإعراض عنه.
وأما الثاني فان الكافر مأمور بإخراج الزكاة والحقوق الشرعية من أمواله، لأنه مكلف بالفروع كتكليفه بالأصول، ولكنه لا يخرجها، ولو قام بإخراجها فانها لا تقبل منه.
وأما الثالث فان هذه الآية جاءت بالإخبار عن عدم إنتفاع الكافر من إنفاقه، وصيرورة هذا الإنفاق سبباً لتلف أمواله وخسارته.
وأما الرابع فللنية موضوعية وإعتبار في عمل الإنسان، وتتصف نية الكافر بالقبح الذاتي والغيري، وتتجلى هذه الحقيقة بما في هذه الآية من الإنذار والتوبيخ للكفار على إنفاقهم الأموال والمقاصد الخبيثة له.
وأما الأمر الأول من الوجه الخامس فانه سبيل نجاة للإنسان، ولكن الكافر إختار الصدود والإبتعاد عنه، وأما الأمر الثاني منه فانه وبال على صاحبه، وهو الذي جاءت به وببيان سوء عاقبته هذه الآية الكريمة.
ومن القواعد الثابتة في القرآن ان لغة المثل التي تتضمنها آياته لا تتعارض مع ثبوت القوانين التي تأتي بها آيات القرآن وهو مدرسة إعجازية ينفرد بها القرآن، وشاهد على إستدامة ما فيه من لغة الحجة والبرهان، وآية في الدعوة الى الله عز وجل، وتجلي ضياء الآيات وبقاء أحكامها الى يوم القيامة، ومن الآيات إبانة لغة المثل في القرآن للمشبه، وموضوع المثل فتؤكد هذه الآية قيام الكافرين بالإنفاق، وفيه إخبار عن إمتلاكهم الأموال، وتعاونهم في صرفها في المعصية والتعدي، وإشتراك الجماعة في الإنفاق أكثر أثراً من قيام الفرد الواحد بالإنفاق، ويحتمل وجوهاً:
الأولى: قلة الإنفاق من الفرد الواحد.
الثاني: إنفاق الجماعة أكثر من إنفاق الفرد الواحد.
الثالث: قد يكون إنفاق الفرد الواحد أكثر من إنفاق الجماعة وفيه وجهان:
الأول: إنفاق الفرد حينئذ أهم وأكثر ضرراً من إنفاق الجماعة.
والصحيح هو الوجه الثاني أعلاه الا مع القرينة التي تدل على الخلاف، لموضوعية فعل الجماعة والتآزر والإشتراك فيما بينها في الفعل والتعاون فيه، أما إذا كان الإنسان يعمل بمفرده فانه يشعر بالوحشة والغربة خصوصاً في موضوع الإنفاق بالباطل، لإدراك العقل قبح هذا الإنفاق، ومجيء الآيات القرآنية بالإخبار عن سوء عاقبته .
ولو قام الفرد الواحد من المشركين بالإنفاق في الباطل والتعدي على المسلمين فهل يضر بجماعة المشركين وأموالهم، الجواب نعم، وهو من مصاديق لغة الجمع في الآية لترتب العقوبة على الكفر والجحود، والإنفاق بالباطل والتعدي فرع الكفر والضلالة.
وجاء المثل في الآية لتحذير الكفار مطلقاً من إنفاق الأموال في التعدي على المسلمين وفي المعاصي مطلقاً، وفيه وجوه:
الأول: الآية إنحلالية والمراد توجه المثل وما فيه من لغة التحذير الى كل كافر من الكفار.
الثاني: دعوة الكفار الى زجر بعضهم من الإنفاق في الباطل، والإمتناع عن إغوائه وإغرائه بالإنفاق.
الثالث: حث الكفار عن وقف تفشي وإنتشار الإنفاق في الباطل بينهم.
الرابع: يتضمن المثل الوارد في هذه الآية في معناه ودلالته نهي الكفار عن المناجاة بالباطل والإنفاق فيه ، وهذا النهي من مصاديق الرحمة الإلهية بالناس جميعاً.
ان المثل وسيلة للتأديب ومدرسة في التعليم والإرشاد وإتخذه الإنسان مادة لتقريب البرهان، وسلاحاً لطرد الغفلة والنسيان، فجاء القرآن ليلبس المثل لباساً عقائدياً ويضفي عليه صبغة سماوية، ليكون حجة على الناس جميعاً ، وعلى الكافرين خاصة، ووسيلة مباركة لتثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
لقد أراد الله عز وجل للمثل ان يكون سلاحاً سماوياً يساهم في إصلاح النفوس وطرد الكدورات الظلمانية، وإزالة الحواجز الجسمانية والبدنية فهو رحمة للناس جميعاً، ومما ينفرد به المثل القرآني من الأمثلة انه باقِ الى يوم القيامة لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، ومن الأسرار انه ملائم لكل الأزمنة والأمصار وتلك آية إعجازية وصفة كريمة يختص بها المثل القرآني من بين أمثلة الكتب السماوية الأخرى، وأمثلة الأمم والشعوب المختلفة.
وفيه توكيد لتفضيل المسلمين على الأمم الأخرى وكونهم خير أمة أخرجت للناس، تتخذ من أفضل وأسمى الأمثلة وهي أمثلة القرآن نبراساً وضياء وموضوعاً للحكمة ووسيلة للفوز في الدنيا والآخرة، وسلاحاً لمواجهة الكفار والمنافقين كما في المثل الوارد في هذه الآية وما فيه من الدروس والمواعظ ولغة الوعيد للكفار، ودعوة المسلمين الى الصبر والبشارة بتحقيق الظفر بالأعداء لإخبار المثل في هذه الآية عن مآل الكفار الى الفقر والعوز والعجز عن الإستمرار بمحاربة المسلمين، وإشغالهم عن ذكر الله وإقامة الشعائر، وفيه ندب ودعوة للمسلمين لمواصلة نشر معالم الدين الإسلامي.
قوله تعالى [فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]
من إعجاز الآية انها لم تقف عند الإخبار عن إنفاق الكفار لأموالهم، بل ذكرت الوعاء الزماني الإمتدادي لموضوع إنفاقهم، وفيه مسائل:
الأولى: شمول مضامين الآية الكريمة لكل ما ينفقه الكفار.
الثانية: التنبيه على ان الحياة الدنيا ملك لله تعالى، وانه قادر على ضرب الناس بصنوف الإبتلاء والإفتتان، وانه تعالى يؤاخذ الكفارعلى ما يفعلونه في الحياة الدنيا، وكيفية تصرفهم في أموالهم.
الثالثة: الآية دعوة للناس جميعاً لإتخاذ الحياة الدنيا مزرعة للآخرة.
الرابعة: تقييد الحياة بوصفها بالدنيا إشارة الى حياة أخرى غيرها، وهي الحياة الآخرة وما فيها من الخلود والثواب والعقاب.
ويفيد حرف الجر في قوله تعالى [ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] الظرفية، فالدنيا وعاء لحياة الانسان وعمله فيها، مما يدل على التباين والتغاير بين حياة الإنسان والحياة الدنيا، وكل فرد منهما موجود، فالإنسان يعيش حياته في الدنيا، ولكنها أعم من بقاء الانسان فهي موجودة قبل ان يوجد الانسان ثم يحيى فيها ويغادرها بالموت وهي باقية من بعده، فلفظ الحياة فيها أعم من حياة الإنسان.
فمن اعجاز الآية البيان الذي يدل عليه الحرف (في) ومايتضمنه من معاني الظرفية، والمراد على وجوه:
الأول: إنفاق الكفار في زينة ومباهج الدنيا ، وفيه مسائل:
الأولى: إرادة ذم وتوبيخ الكفار بسبب سوء فعلهم.
الثانية: الإشارة إلى إسراف وتبذير الكفار بانفاقهم أموالهم لأغراض الدنيا.
الثالثة: تحذير الكفار من الإستمرار في إنفاق الأموال في مباهج الدنيا.
الرابعة: توكيد حقيقة وهي إفتتان الكفار بالدنيا، ولهثهم وراء زينتها.
الخامسة: يؤدي إنفاق الأموال في أغراض الدنيا الى هلاك الأموال.
السادسة: هذه الآية تفسير للآية السابقة في عدم إغناء أموال الكفار عنهم، فليس من ثواب أو أجر في الإنفاق على زينة الدنيا بقصد اللهو والتمتع المقترن بالإعراض عن النبوة والتنزيل .
وتدل الآية السابقة في مفهومها على دعوة الكفار لجعل إنفاقهم يغنيهم في الدنيا والأخرة، ولايكون الا باختيار الإيمان، ويأتي مع الايمان في خصوص الإنفاق أمور:
الأول: التدبير والحكمة في الإنفاق.
الثاني: الإنفاق في موارد الخير والصلاح.
الثالث: حصول النماء والبركة في اموال المسلمين.
الرابع: بعث السكينة في النفس عند الإنفاق في سبيل الله.
الخامس: نيل الأجر والثواب على الإنفاق في سبيل الله.
السادس: السعة في الثواب بالإنفاق، فمن فضل الله تعالى أن نفقة المؤمن على عياله تكتب له إنفاقاً في سبيله.
ومن إعجاز الآية القرآنية ان تأتي في موضوع، ولكن مفهومها أعم ويشمل ذات الموضوع وغيره من المواضيع، ومن دلالات هذه الآية الترغيب في الآخرة، والدعوة الى جعل موضوعية لها في عالم الأعمال، فيعمل الإنسان للدنيا وكأن وجوده فيها دائم، وتلك خصوصية في الإنسان وتحتمل وجوهاً:
الأول: انها من عمومات خلافة الإنسان بأن يظن انه باق فيها الى الأبد.
الثاني: انه من خصلة النسيان التي جعلها الله عز وجل عند الإنسان، فينسى ان الدنيا دار زوال ، وان الآخرة هي دار الخلود.
الثالث: لقد خلق الله عز وجل الإنسان مركباً من عقل وشهوة، فيؤدي إجتماعهما وتداخلهما وغلبة الشهوة أحياناً إلى لهث الإنسان وراء الدنيا وزينتها.
الرابع: الظن بالبقاء في الدنيا جزء من خلق وتكوين الإنسان.
الخامس: من وجوه الإبتلاء والإمتحان في الدنيا الظن بدوام البقاء فيها.
السادس: للإنسان أن يعمل للدنيا وكأنه يعيش فيها أبداً بقيد الإلتفات إلى الآخرة لعدم التفكيك بين طرفي الحديث.
السابع: من نعم الله عز وجل على الإنسان ان يعمل للدنيا وكأن بقاءه فيها مستديم.
الثامن: الدنيا دار غرور، ومن مصاديق الغرور فيها ان يفتتن الإنسان بها، ويظن البقاء فيها.
التاسع: تمتلأ الدنيا بآيات الجمال والزينة والبهاء، وخلق الله عز وجل الإنسان ضعيفاً، ومن ضعفه إفتتانه بالدنيا ومباهجها، ولكن قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( )، يبين موضوعية التخفيف عن المؤمن ومن مصاديق التخفيف ورود الآيات التي تحذر من الركون الى الدنيا، وهذا التخفيف خاص بالمسلمين لصيغة الخطاب الواردة في الآية أعلاه ، وتلك نعمة إختص الله تعالى بها المسلمين، وهو من وجوه تفضيلهم على الأمم الأخرى.
أما الأول فلا دليل على الملازمة بين خلافة الإنسان في الأرض، وظنه انه باق في الحياة الدنيا على نحو دائم.
وأما الثاني فللنسيان موضوعية في عمل الإنسان وجاءت الآيات القرآنية لطرد النسيان عن الإنسان بخصوص زوال الدنيا، وبيان ماهيتها والتحذير من الركون اليها.
أما الثالث فهو صحيح ولكنه ليس علة للإفتتان بالدنيا وهو وسيلة للتغلب على ما في الدنيا من الإغواء.
أما الرابع فهو غير صحيح إذ ان الله عز وجل جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين،مبشرين بالجنة، ومنذرين من الإنقطاع الى الدنيا، وورود النار.
وأما الخامس فهو صحيح لذا تفضل الله تعالى بالتحذير من الدنيا وزينتها، وإغواء الشيطان ودعوته الإنسان للإفتتان بها .
أما السادس فيجب ان لا يكون عمل الإنسان للدنيا مستقلاً عن عمله للآخرة، فكلا الأمرين متلازمان، أحدهما متمم للآخر، وتلك آية في خلق الإنسان، وحاجة له في الدنيا والآخرة، اذ ان العمل للدنيا مقدمة للسعادة في الآخرة بتوظيف أيام الدنيا في العبادة والنسك.
أما السابع فان الدنيا وما فيها نعمة وفضل من عند الله، ومن النعم الإلهية ان بّين الله عز وجل للإنسان بالنبوة والتنزيل والعقل والآيات الكونية ماهية وحقيقة الدنيا، وكون مدة بقاء الإنسان فيها من المتناهي بإعتبار أن كل عدد يفرض قل أو كثر فهو متناه.
أما الثامن فهو صحيح وقد جعل الله عز وجل الدنيا موضوع الإمتحان، ويتوقف الحساب في الآخرة على العمل فيها.
وجاءت هذه الآية لجعل عمل الإنسان فيها طريقاً للجنة، ومقدمة للنعيم الدائم فيها.
أما التاسع فان الدنيا من بديع صنع الله عز وجل، وجعل سبحانه آياتها وسيلة لجذب الإنسان لمنازل الإيمان.
والإقرار بالربوبية المطلقة لله تعالى والعبودية والخشوع له سبحانه.
ان تقييد الإنفاق الوارد في هذه الآية وحصره بالحياة الدنيا مدرسة عقائدية ووسيلة لتأديب المسلمين والناس جميعاً، من وجوه، أما بالنسبة للمسلمين فان الآية تتضمن مسائل:
الأولى: التوجه الى الله تعالى بالشكر على نعمة الهداية والإيمان والنجاة من المعاصي ، والأمن من الكفر الظاهر والخفي ، ومن الآيات في المقام حرمة إرتداد المسلم ليبقى الإيمان مستقراَ عند الأفراد والجماعات وفي النفوس.
الثانية: معرفة سوء عاقبة الكفار، وما تؤول اليه أموالهم، وفيه بعث للعز في نفوس المسلمين، وإدراك التباين والتضاد بينهم وبين الكفار ، وان هذا التباين لم يحصل صدفة وإتفاقاً، بل أنه بفضل وتوفيق من الله بالمسلمين، وبطش وسخط على الكفار.
الثالثة: إزدياد إيمان المسلمين، وإقبالهم على العبادات برغبة وشوق.
الرابعة: عدم الإفتتان بما عند الكفار من الزينة والأموال والجاه والسلطان فانه الى إضمحلال وزوال بسبب التلبس بالكفر والإنفاق في مسالكه.
الخامسة: تعلم المسلمين كيفية انذار الكفار، ودعوتهم للإسلام وإتخاذ المثل القرآني حجة وصيغة للإنذار وموعظة.
السادسة: الوقاية من شبهات الكفار، والسلامة مما يحاولون الحاقه بالمسلمين من الأضرار بواسطة ما ينفقونه ، وهل تكون هذه السلامة هي المقصودة من المثل الوارد في هذه الآية وهلاك أموال الكفار، الجواب أنه من مصاديق المثل الكريم الوارد في هذه الآية لأن المثل الوارد في الآية يحمل على معناه الحقيقي وما يدل عليه من الإطلاق، ولحصول التلف في ذات أموال الكفار.
أما سلامة المسلمين من ضررهم فهي شاهد على أن التلف يشمل أيضاً آثار إنفاق الكفار ببطلان وعدم حصول الغايات التي يقصدونها منه، أما بالنسبة لغير المسلمين فان الآية تأديب لهم في منطوقها ودلالاتها وما فيها من المثل الكريم الذي يحذر من الكفر بالبيان الحسي الذي لا يقبل الترديد والتباين في التأويل.
ولم تقل الآية (في الحياة الدنيا) بل جاءت باسم الإشارة (هذه) الذي ينبسط على جميع ايام الدنيا ، وفيه وجوه:
الأول: توكيد حقيقة وهي ان أحكام الآية قانون ثابت منبسط على كل الأزمنة.
الثاني: تشمل مضامين الآية الكفار قبل نزول القرآن وفي ايامه ومابعده من الأيام والسنين.
الثالث: إتحاد سنخية الكفار وقبح فعلهم في كل الأزمنة.
الرابع: الإخبار عن حاجة الناس في كل زمان الى قيامهم بالإنفاق في سبيل الله.
الخامس: نبذ الكفر، وبيان سوء عواقبه في كل زمان ، فمن إعجاز وأسرار القرآن مجيؤه بالأحكام العامة والقواعد الثابتة التي تبين سنن عالم الافعال والاعمال، وعدم انحصار مضامينه وأحكامه باهل زمان دون أخر، وهو من عمومات جعل المدار على عموم اللفظ لاخصوص سبب النزول:
السادس: الاطلاق في أحكام الآية ومايلحق الكفار من الضرر في إنفاقهم، فقد يترك الكافر نفقة وصدقة جارية من بعده كبناء الرباط والقنطرة.
فجاءت الآية للإخبار عن عدم نفعها له، لما فيها من لغة الإطلاق الزماني في تلف وهلاك إنفاق الكفار وعدم إجزائه عنهم، ولايمنع من هذا الإطلاق ورود الفعل(ينفقون) بصيغة المضارع المبني للمعلوم ودلالته على التلبس بفعل الإنفاق لان الآية تبين محق الكفر للإنفاق ، وان مات الكافر فان أصل ومرتكز انفاقه مبني على الكفر والجحود، وعدم قصد القربة الى الله عز وجل.
السابع: جاء اسم الإشارة (هذه) للدلالة والتعيين والحصر، والإخبار عن وجود حياة أخرى هي (الحياة الآخرة) وهو أمر ثابت وقطعي عند جميع المليين، والشواهد عليه من التنزيل اكثر من ان تحصى إلى جانب السنة النبوية القطعية الدلالة.
الثامن: تحتمل دلالة اسم الإشارة وجوهاَ:
الأول: قيام الكافرين بالإنفاق في الآخرة، وهذا الإحتمال في اثره على شعبتين:
الأولى: عدم قبول الإنفاق منهم.
الثانية: قبول الإنفاق منهم لأنهم يرون في الآخرة الآيات البينات، ولايستطيعون فيها البقاء على الكفر والجحود.
الثاني: انحصار الإنفاق في الآخرة بالمسلمين، فهم وحدهم الذين يستطيعون الإنفاق حينئذ.
الثالث: إنغلاق باب الإنفاق في الآخرة مطلقاً سواء من المسلم أو غيره.
والصحيح هو الاخير فان الآخرة دار حساب بلا عمل.
التاسع: بيان حقيقة وهي ان الحياة الدنيا دار الإنفاق ويكون الكافر فيها من حيث الإنفاق او عدمه على أقسام:
الأول: الذي ينفق من أمواله في محاربة الإسلام.
الثاني: الذي يسرف ويبذر المال .
الثالث: من يمتنع عن الإنفاق ويحرص على إدخار وحفظ أمواله.
الرابع: الذي ينفق أمواله في المعصية.
الخامس: الكافر الذي ينفق امواله في المعاصي والذنوب ولكنه يقوم احياناً بمساعدة الفقراء والمحتاجين.
فجاءت الآية شاملة للوجوه اعلاه ، وتدل على ان إنفاق الكفار يذهب سدى ولاينتفع منه الكفار وإذ يقوم الكفار بجدال المسلمين في الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها ، إخبار القرآن عن عالم الحساب ومافيه من الثواب والعقاب في الأخرة ، جاءت هذه الآية لتجعل الكفار ينشغلون بأنفسهم، وتخبر عن فقرهم وان كانوا أغنياء، وتؤكد على موضوعية أمرين:
الأول: الإيمان بالله عزوجل.
الثاني: الإنفاق في سبيل الله.
وتخبر الآية الكفار عن ضياع اعمالهم وهم في الدنيا، وتحرمهم من الحلاوة واللذة المصاحبة للإنفاق وإعانة الآخرين.
العاشر: تبين الآية قبح فعل الذي تغره الحياة الدنيا، ويجعلها غايته وقصده.
الحادي عشر: تتضمن الآية الإنذار والوعيد للكفار بالإشارة الى قصر وزوال الحياة الدنيا، وحصول الحساب والعقاب للكفار.
الثاني عشر: توكيد عدم ترتب الأثر على إنفاق الكافر، فما ينفقه الكفار في محاولات الإضرار بالمسلمين، والإعتداء عليهم لن يكون له أي اثر في الواقع وفيه بعث للسكينة والأمل في نفوس المسلمين، وبيان المائز بينهم وبين الكفار في الدنيا والآخرة.
الثالث عشر: طرد الخوف من نفوس المسلمين فيما يخص إنفاق الكفار، فقد يشترى الكفار السلاح والعدة، وينفقون الأموال الكثيرة في جمع الجنود وتجهيزهم، وتوفير المؤون الكافية لهم فتأتي هذا الآية لتخبر عن هلاك تلك الأموال، وعدم إنتفاع الكفار منها، وفيه بشارة وقوعها غنائم في أيدي المسلمين، وتؤكد الوقائع التأريخية في أيام التنزيل هذه الحقيقة بكثرتها وتواترها، وتجلي الإعجاز فيها.
ولم يرد لفظ (في هذه الحياة الدنيا) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، مما يدل على موضوعية أهمية مضامينها القدسية إذ ان إنفاق الأموال امر يتقوم به الملك والسلطان، ويكن سبباً لتحقيق الغايات والمقاصد، وهو وسيلة لنيل المراتب العالية.
ومن صفات الحياة الدنيا ومافيها من الإبتلاء والامتحان توظيف البر والفاجر المال في تحقيق غاياته، وينتفع منه صاحب الحق لإثبات حقه، ويتخذه الظالم والكافر لصرف الناس عن الإسلام.
فجاءت هذه الآية لفضحهما ومنع الناس من الإنقياد للظالم وأقطاب الكفر , وجعل اموالهم تذهب سدى.
قانون مساهمة الآيات الكونية في عدم تحريف القرآن
لقد سخر الله عزوجل مافي الدنيا للإنسان، وهذا التسخير اعم من ان ينحصر بموضوع الرزق والكسب وأسباب المعاش، بل تتعلق الأولوية في مصاديقه بالإيمان وعبادة الله تعالى، خصوصاً وان هذا التسخير لايخرج عن علة وأسباب خلق الإنسان، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وقد تفضل الله تعالى بإنزال القرآن وهو نعمة سماوية لإصلاح الإنسان وإعانته على ضروب العبادة وأداء المناسك، لتجتمع وتتداخل النعم والآيات السماوية والأرضية في تقريب العبد من الطاعة واتيانه الفرائض، وجعله يحترز من أسباب الكفر والضلالة، ومن عظيم رحمة الله عزوجل، وسعة فضله ان تكون الآيات الكونية تعضيداً للآية القرآنية، وتثبيتاً لمضامينها في الوجود الذهني، لاقتباسه من الوجود الخارجي، وانطباع الأمور الواقعية فيه، ويدل على أمور:
الأول: ان الموجودات جميعاً مستجيبة لله تعالى.
الثاني: بديع صنع الله في عدم وجود تضاد في الموجودات والغايات منها.
الثالث: أداء الآيات الكونية لوظائف حفظ الآية القرآنية، وثبوتها في الأذهان بالمصاديق الواقعية التي تؤكد مضامينها.
الرابع: مساهمة الآيات الكونية في عدم تحريف آيات القرآن، في ألفاظها وأحكامها ودلالتها، وهذا سر من أسرار الحياة الدنيا، وشاهد على تعضيد آيات الآفاق للقرآن، ودليل على نزول القرآن من عندالله عزوجل، وبشارة عدم طرو التحريف عليه، وجاء القرآن بالإخبار عن آيات الكون وبديع صنع الله عزوجل.
ومنها سير الكواكب والأفلاك بنظام دقيق، ويأتي العلم الحديث وغزو الانسان للفضاء والكواكب الأخرى من غير ان يحصل تعارض وتضاد بين آيات القرآن وعلوم الفضاء المكتشفة، لتبدأ وظيفة العلماء وذوي الإختصاص بايجاد الصلة بين هذه الاكتشافات وبين آيات القرآن، وما فيه من الأنباء والأخبار التي تؤكد صدق نزول القرآن بموازين علم الفضاء الحديث، ويكون مصداقاً لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
لقد جاء القرآن شاهداً على الآيات الكونية، وداعياً الى التدبر في خلقها وإستدامة وجودها، ليتعظ الإنسان منها ومافيها من بديع الصنع والدلالة
على وجود الصانع ولزوم عبادته، والإمتثال لأوامر الله، واراد الله عزوجل للقرآن البقاء الى يوم القيامة والسلامة من التحريف والتغيير مطلقاً، أي سواء التحريف في الفاظه او في معانيه أو في دلالته، وتساعد الآيات الكونية على تحصيل هذه السلامة، وتكون عوناً للمسلمين في دوام بقاء القرآن كما أنزل من عندالله وبينًه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
فتطل الآيات الكونية على الناس مؤيدة ومصدقة للقرآن في بديع صنعها وأنظمتها ودقتها وتكون أسرارها مصداقاً لكنوز العلم التي تتضمنها آيات القرآن، وحصانة من التحريف والتبديل في آيات القرآن، وهذه الحصانة من وجوه:
الأول: الآيات الكونية مصداق عملي لآيات القرآن.
الثاني: عدم وجود تعارض او إختلاف بين آيات القرآن، ومافي الكون من الآيات.
الثالث: دعوة آيات القرآن لدراسة اسرار الأفاق.
الرابع: الآيات الكونية وسيلة حسية وعقلية لاستخراج علوم القرآن.
الخامس: تدعو آيات القرآن الإنسان للسياحة في عالم الأفلاك والكواكب.
السادس: اتخذت بعض الأمم السابقة من الآيات الكونية آلهة، فمنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، فجاء القرآن ليبين وظائف هذه الآيات الكونية، وكيف ان الله عزوجل سخرها للإنسان في عباداته ومعاملاته، وأمور حياته.
فبحركة القمر وتغيره من هلال الى بدر على نحو التدريج، ثم ابتدائه بالنقص التدريجي ايضاً إلى حين المحاق، ثم خروجه مرة أخرى من تحت الأفق يعلم الانسان أوان العبادة كالصوم الذي يبدأ بهلال شهر رمضان ونهايته التي تكون بهلال شوال، ومناسك الحج في شهر ذي الحجة، الى جانب آجال الديون، وعدة المطلقة والمعتدة والأعمار والمواقيت والعقود والعهود وغيرها ، مما يرتبط بافراد الزمان الطولية وتعاقبها المنتظم الذي لايقبل الترديد واللبس والخطأ.
وتلك آية كونية اخرى تساهم في توثيق آيات القرآن، والحكمة الإلهية في تحريم النسئ والزيادة في الحساب، وكما يحرم الربا في الإسلام، فان الآيات الكونية تساعد في عدم التسويف في الآجال او تقديم ماهو متأخر.
وجعل الله عزوجل الشمس وسيلة لنهوض الإنسان للعمل، ولايكون هذا النهوض على نحو القضية الشخصية بل هو عام وشامل للناس جميعاً فالشمس تدعو كل انسان للعمل، وتحثه على طلب الرزق والسعي في امور الدين والدنيا، وتجعله يتدبر في آية الشمس، وما يحصل بشروقها من تغيير في الآفاق والزراعات، وفي ذات الإنسان نفسه، إذ تأتيه الهمة والرغبة في السعي وهجران النوم والكسل والسكون، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] ( )، ويستلزم هذا الفضل الإلهي الشكر الشخصي والنوعي من الناس، فتسخير الشمس والقمر للناس جميعاً، وفاز المسلمون بمرتبة الشكر لله تعالى على كل من:
الأول: نعمة الشمس.
الثاني: نعمة القمر.
الثالث: نعمتا الشمس والقمر والنفع الحاصل منهما مجتمعتين ومتفرقتين.
الرابع: نعمة النهار.
الخامس: نعمة الليل.
السادس: نعمتا النهار والليل معاً.
السابع: نعمة الشمس والقمر والنهار والليل.
فصحيح ان الشمس علة لوجود النهار، والقمر نور في الليل، الا انه لايمنع من استقلال كل نعمة بمنافع عظيمة على الإنسان في وجوده وعمله وسعيه للنشأتين، وهذا التسخير دعوة للناس لعدم عبادة المخلوقات او الإفتتان بها، لتصاحب آيات القرآن الإنسان في نهاره وليله، وتجعل حواسه كلها مرتبطة به ومتصلة بالمضامين القدسية لآياته وعلومه، وقلبه منقطع الى البشارة بالجنة ومافيها من النعيم المقيم وخلوها من الحر والبرد ، قال تعالى [مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا]( )، وكما ان الآيات الكونية ثابتة في وجودها وحضورها وقربها من الإنسان، فكذا آيات القرآن فإنها ثابتة وباقية على نحو الدوام والى يوم القيامة تؤكد عظيم خلق الله وبديع صنعه في الكائنات، وتفضله بانزال القرآن، ومافيه من الأسرار القدسية، وعجز الناس عن تغيير آية كونية، او آية قرآنية.
علم المناسبة
جاءت هذه الآية في ذم الكفار، والإخبار عن رجوع كيدهم اليهم وتسببه بالاضرار بهم في أموالهم ومايترتب من الآثار الضارة على ابدانهم وصحتهم ومزاجهم، وفيه زجر عن مواصلة التعدي على المسلمين وإخبار بان انفاق الأموال في الباطل لن يوقف اتساع رقعة الإسلام، وانتشار مبادئه، وإطلاع الناس على المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات ان جعل الله عزوجل القرآن سالماً من التحريف والتغيير مثلما هو سالم عن المعارضة وهذه السلامة المركبة عنوان للتحدي وشاهد على عدم إمكان النيل منه، ومما فيه من المضامين القدسية، وعلى الضد من ذم الكفار جاء القرآن بمدح المسلمين بخصوص الدنيا وجعل الحياة الشخصية فيها وسيلة لبلوغ أسمى المراتب في الجنة، باختيار القتال والإنفاق في سبيل الله لما فيه من الإصلاح النوعي العام للناس، والسعي لهدايتهم والتصدي للكفر والضلالة والفجور، قال تعالى [فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ] ( ).
وقد نهت الآيات القرآنية المسلمين عن الإفتتان بما عند الكفار من الأموال ومباهج الدنيا، وإقترن هذا النهي بأمور:
الأول: الإخبار عما يلحق الكفار من الأذى الإضافي بسبب أموالهم وتوظيفها في المعصية والتعدي.
الثاني: بيان سوء عاقبة الكفار، ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ]( ).
الثالث: إجتناب الركون للضالمين أو إتخاذهم بطانة قال تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] ( ).
وجاءت الآية محل البحث لبيان ضرب من العذاب الذي يحل بالكافرين بسبب انفاقهم الأموال في المعاصي والظلم، فان قلت ان الآية تخبر عن ذهاب الأموال التي ينفقها الكفار أدراج الرياح، ولم تذكر عذاب الكافرين قلت: ان ذهاب وهلاك الأموال نوع عذاب وضرر يلحق الكفار، ويتجلى بوجوه:
الأول: خسارة الأموال وظهور النقص فيها.
الثاني: عدم تحقق الغايات الخبيثة التي يبغونها.
الثالث: إنعدام الاثر من إنفاق الأموال.
الرابع: رؤية اتساع رقعة الاسلام وإنتفاع المسلمين مما ينفقون مع قلته.
الخامس: امتلاء نفوس الكفار بالفزع والخوف من المسلمين.
السادس: إدراك الناس جميعاً للتضاد والتباين بين المنافع العظيمة لإنفاق المسلمين عليهم وعلى الناس، وبين الإضرار الجسيمة لإنفاق الكفار على انفسهم، وفيه دعوة للناس للإيمان والتدبر في الآيات لما في هذا التضاد مع اتحاد الموضوع من إعجاز وتوكيد لحقيقة أن الأمور كلها بيد الله عزوجل وان الدنيا مزرعة للأخرة ليس فقط في أعمال الناس بل في مضامين اللطف الإلهي بتقريب العباد لسبل الطاعة، وجعل النفوس تنفر من الضلالة والإنفاق فيها.
السابع: في هلاك اموال الكفار خزي لهم ، وهو من مصاديق الشطر الأول من قوله تعالى [لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
قوله تعالى [كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ]
إنتقلت الآية من المشبه الى المشبه به، ومن معاني التشبيه ان المشبه به اكثر وضوحاً ودلالة من المشبه عند المخاطب_ بالفتح _، وهذا الوضوح عون على فهم موضوع التمثيل والغايات والأغراض منه، ومن الإعجاز في المثل القرآني معرفة الناس به في كل زمان ومكان، وهذا المعرفة شاهد على عالمية القرآن، وعموم الخطاب القرآني وتوجهه لكل الناس وفي مختلف الأمكنة والتعدد الطولي لأفراد الزمان التي لايمكن احصاؤها ويعجز العقل الإنساني عن درك نهايتها وأمدها إذ يتضمن المشبه به في المثل القرآني في هذه الآية أطرافاً:
الأول: ذكر الريح وهو أمر معروف للناس جميعاً فما من بلد او مصر او قرية او مكان في الأرض إلا وتهب عليه الريح بكيفيات متعددة جهة وسرعة وبرودة او حرارة.
الثاني: اتصاف الريح بانها باردة وشديدة البرودة.
الثالث : مجئ الريح العاتية الباردة على حرث الكافرين الذين ظلموا أنفسهم .
فان قلت هناك من البلدان مايكون المناخ فيه صحراوياً حاراً، وقد لايعرف اهلها الريح الباردة قلت: من البديع في خلق الأرض والسماء وما بينهما بخصوص الرياح وجوه:
الأول: هبوب الريح في عموم أنحاء الأرض.
الثاني: تعدد جهات الريح فمرة تكون الريح جنوبية، وأخرى شمالية غربية.
الثالث: لكل ريح صفتها الخاصة وأثرها ، وجعلت العرب ريح الجنوب عنواناَ للود والصفاء بين الأثنين أو أكثر، وريح الشمال إشارة للتفرق و النفرة، قال الشاعر:
لعَمْري لئن ريح المودة أصبحت شمالاً لقد بُدِّلت وهي جنوب
الرابع: تغير سرعة ودرجة حرارة ذات الريح في الفصول المختلفة، فمرة تكون الريح حارة وأخرى باردة، وما من بلد او مكان في الأرض الا ويغلب عليه في بعض أيام السنة ريح باردة، وتلك آية في بديع صنع الله وفضل منه تعالى بان يرى الناس الريح الباردة ، وما فيها من الدروس ووجوه الإعتبار، وكما هي الريح الجافة والحارة فان الريح الباردة على مراتب متفاوتة وهي:
الأول: الريح الباردة التي تبعث النشاط في الأبدان، ولاتضر الزرع.
الثاني: الريح الباردة التي تساعد في لقاح الأشجار والنباتات.
الثالث: من الريح الباردة ما تكون مناخاً ملائماً لنمو بعض النباتات والأشجار.
الرابع: الريح الباردة الشديدة التي تهلك الزرع.
والوجه الأخير هو المقصود في الآية الكريمة، وما من بلد الا ويشهد مثل هذه الريح في أيام مخصوصة من السنة أو في أكثر من سنة، كثيرة كانت أيامها أو قليلة، وهو نوع إبتلاء وإختبار في الحياة الدنيا، ووسيلة للتذكير بعظيم قدرة الله عزوجل، وتوكيد حقيقة ثابتة وهي ان مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه وان الأشياء جميعاً مستجيبة له.
والريح العاتية او الخفيفة او إنعدامها مناسبة كريمة للتوجه الى الله تعالى بالدعاء، ورجاء الأحسن، والإستعاذة من العناء منها وما فيها من الأذى، ولم يلتفت الكفار الى موضوعية الدعاء والإستعاذة في المقام، ولو قاموا بالدعاء والإستعاذة فهل يستجاب دعاؤهم، الجواب لا، لان الكفر مانع من صعود الدعاء وقبوله، قال تعالى [قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
لذا جاءت الآية الكريمة بذم انفاق الكفار مطلقاً ، وسوء عاقبته من وجوه:
ألأول: الإنفاق في عداوة الرسول ومحاربة الإسلام.
الثاني: إنفاق الفاسقين والكفار في الفتن والخصومات والمعارك التي تحصل فيما بينهم ، قال تعالى [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ]وهو من مصاديقه إهلاك الإنفاق للحرث.
الثالث : الإنفاق في إعانة الكفار، وفيه تثبيت لمضامين الكفر في الأرض، وزيادة عدد الكفار، وبرزخ دون رؤية العامة من الكفار للآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن انفاق الكفار وإعانتهم لإخوانهم في الكفر محاولة لتعاهد مفاهيم الكفر في الأرض فتترشح عنه اضرار عقائدية وإجتماعية عديدة تكون مصداقاً للهلاك والضرر، لذا فان الآية تحذر في مفهومها الكفار من مد يد العون وبذل المال فيما بينهم لما فيه من محاربة للإسلام بالعزم والإرادة او بالأثر المترتب على هذا الإنفاق .
وتخبر ألأية في مفهومها عن عدم تحقيق الغايات المقصودة من مكر الكفار، أي انه لايؤدي الى استدامة الكفر، وحصول وحدة الكفار او ثباتهم ولو إلى حين عند مواجهة المسلمين لان البشارة والإخبار عن تلف أموالهم وهزيمتهم جاء مطلقاً ، سواء كان مع بذل المال والتعاضد وحصول العون فيما بينهم، او عدمه، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] .
فلو اكثر الكفار من الإنفاق فيما بينهم، وقام بعضهم بمساعدة بعضهم الآخر بالمال قرضاً وهبة فان النتيجة ذاتها تبقى وهي عجزهم عن الإضرار بالمسلمين ، وهو من إعجاز القرآن وشاهد على ان المسلمين خير امة أخرجت للناس، إذ ان المال عون في الشدائد، ووسيلة لقضاء الحوائج، وسلاح في مواجهة الأعداء ويقوم الكفار بتوظيفه في المصالح الخاصة بهم، ولكنه لايؤدي الا الى المفسدة والإضرار بهم، فيكون سبباً لبعث اليأس والقنوط في نفوسهم وإثارة الفرقة والخلاف فيما بينهم إذ ينفق الأغنياء من الكفار شطراً من أموالهم في مساعدة الفقراء منهم وإعانتهم على البقاء على ملتهم، ومحاربة الإسلام، فيرون أموالهم تذهب سدى ولاتتحقق منها الغايات التي يرومون، إلى جانب نقصها بالتلف والآفات ، فيقبضون أيديهم.
ويرى الفقراء من الكفار أنفسهم انهم لم يقصروا في عملهم وولائهم ومع هذا تحجب عنهم الإعانات فينقمون على اغنيائهم، وهو من مصاديق هلاك إنفاق الكفار، وعدم انتفاعهم مما ينفقون وشاهد على ان الكفر سبب لضياع الإنفاق وخسارة الاموال.
وذكرت الآية المشبه به صريحاً بقوله تعالى [كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ] وهو آية بلاغية وكلامية، اذ جاء المشبه به واضحاً بيناً لايحتمل الترديد او اللبس، اما المشبه فيحتمل وجوهاً:
الأول: إنفاق الكفار في تثبيت مفاهيم الكفر.
الثاني: ماينفقه الكفار في محاربة الإسلام والمسلمين.
الثالث: مجموع الأموال التي يمتلكها الكفار وتكون في حوزتهم.
الرابع: مايصرفه الكفار في مؤونتهم ومؤونة عيالهم.
الخامس: الإعانات بين الكفار، ومساعدة غنيهم لفقيرهم.
السادس: مايشتريه ويقتنيه الكفار من السلاح والعتاد.
السابع: المال الذي ينفقه الكفار في صد الناس عن الإسلام.
الثامن: انفاق الكفار في محاولة إرتداد بعض المسلمين عن دينهم.
التاسع: المال الذي يصرفه الكفار في نشر الريب والشك بالإسلام.
العاشر: ماينفقه الكفار في زينة الدنيا، والتمتع بمباهجها وزخرفها.
وهذه الوجوه من مصاديق صيغة الإطلاق التي جاءت بها الآية بقوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] إذ انها تقيد موضوع او جهة الإنفاق الذي يذهب أدراج الرياح بالاضافة الى موضوعية سوء جمع الأموال، فمنها ما يكون سحتاً، ويأتي عن ظلم وتعد، أومعاملة باطلة كالربا.
وهذا الاطلاق آية اعجازية، وتحد كبير دائم يفضح الكفار ، وفيه رحمة بهم، ودعوة للإنابة والتوبة،كوسيلة لحفظ أموالهم وتعاهدها، ونبذ الكفر والإبتعاد عن مفاهيمه، والرجوع إلى الإيمان .
وتشمل الآية ومافيها من الإنذار والذم الفقراء من الكفار بما تدل عليه في مفهومها من بقائهم في حال الفقر وحجب الغنى عنهم لتعذر حصول النماء في أموالهم في حال توفر المال في أيديهم لانعدام المنافع من الإنفاق، ومن اهم المنافع حصول النماء في المال أو تحقق مقدماته الشخصية والنوعية.
ولم تقل الآية “كريح فيها صر” بل قالت “كمثل” وتلك آية إعجازية في الآية الكريمة إذ تتكرر وتتصل أداة التشبيه لتجمع كلمة واحدة هي “كمثل” أداتين للتشبيه حتى على حمل المثل في المقام على معنى الصفة والإخبار عن الريح، وهو يختلف عن قوله تعالى “ليس كمثله شيء”،الذي يعني ليس مثله شيء في عظمته وقدرته ، وأن صفاته الحسنى خاصة به تعالى.
لقد جاء التشبيه في قوله تعالى [كَمَثَلِ رِيحٍ] لإفادة العموم والتعدد في المشبه به في إشارة الى تعدد الآفات التي تأتي على الزرع والحرث وكذا وجوه الإبتلاء والأذى الذي يلحق الكفار في أموالهم وما ينفقون وفي تعدد أداة التشبيه مسائل:
الأولى: الزيادة في الإنذار.
الثانية: توكيد توبيخ الكفار.
الثالثة: انه زجر ودعوة إضافية لهم للكف عن ا لتعدي على حرمات المسلمين.
الرابعة: الإخبار عن طرو وجوه مستحدثة من البلاء على الكفار.
الخامسة: التوكيد على موضوع الآية وهو إنفاق الكفار أموالهم في الباطل، وبيان تعدد صنوف البلاء التي تأتي عليها.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي بن كعب قال: كل شئ في القر والرياح فهو رحمة، وكل شئ فيه الريح فهو عذاب) ولهذا ورد في الحديث: اللهم أجعلها رياحاً، ولاتجعلها ريحاً.
ومن وجوه التباين بينهما أن رياح الرحمة متعددة الصفات والمنافع وجهة الهبوب، وتتداخل الرياح فيما بينها فتخرج منها ريح لطيفة تصلح ابدان، وتنفع الحوان والنبات، أماريح العذاب فتأتي من جهةواحدة وتحمل الأذى وأسباب الضرر، وليس لها ماين لطها ويكسر سورتها.
أن قوله تعالى [وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ] ( )، قهو أمر مختلف لوجوه:
الأول: وجود قرينة لفظية بوصف الريح بأنها طيبة.
الثاني: المقابلة والتضاد في نفس الآية أعلاه[جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ].
الثالث: بيان عظيم قدرة الله وبديع صفة، وأنه سبحانه يجعل الخيرة في الريح كما يجعله مكر الرياح، وهو الواسع الكريم، وفيه باب للدعاء والمسألة.
قانون مخالفة النتائج لنوايا الكفار
من خصائص الدنيا وأسباب الغبطة فيها الملازمة بين سنخية الغرض والنتيجة لفعل الإنسان والجماعة، فيعزم الانسان على فعل ويقصد منه تحقيق غايات ونتائج مقصودة فتأتي النتائج موافقة للنوايا ولو على نحو الموجبة الجزئية ولكن هذه الملازمة ليست دائمة فقد تحدت عواقب واسباب طارئة تحول دون تحصيل النتائج المرجوة، او يكون هناك خطأ في الحساب والتقدير، وقد يعاود الإنسان الكرة مستفيداً من تجربته السابقة، ومتجاوزاً للأخطاء، ومدركاً للإحتمالات والأمور الطارئة فيحصل على نتائج حميدة ويصل الى بغيته المطلوبة ولكن الأمر بالنسبة لإنفاق الكفار مختلف تماماً، وخارج هذه الملازمة والقانون البديع الذي يحكم افعال الناس وتوظيفهم لنعمة العقل والمال والسعي في دروب الحياة.
ويخرج بذل الكفار الأموال بالتخصص من هذا القانون ويستثنى منه، وله قانون خاص به يتناسب وقبح نواياهم ومخالفتها لإدراك العقل، ووظيفة الإنسان بلزوم عبادته لله تعالى.
ومن وجوه العبادة انفاق المال في سبيل الله واخراج الزكاة والحقوق الشرعية وإيصالها الى المستحقين من المسلمين، وعدم إنفاق الأموال بالباطل والتعدي على حرمات الاسلام، وإشغال الكفار للمسلمين وجعلهم ينفقون اموالهم في مواجهة الكفر والتعدي بدل توظيفها في تثبيت دعائم الإيمان، وإعانة الفقراء وإيجاد فرص عمل مناسبة للناشئة، لذا فان إنفاق الكفار يضر بأنفسهم والمسلمين.
ولاينحصر هذا الضرر بأهل زمانه بل يشمل في آثاره الأجيال اللاحقة، ومن اللطف الإلهي تقريب الناس الى الطاعة، وهدايتهم الى الإيمان ومنع إستحواذ الكفر على النفوس والمجتمعات والسلطان، ومن اسباب هذا المنع وجوه:
الأول: إبطال مقدمات الكفر.
الثاني: عدم ترتب الأثر على إنفاق الكفار أموالهم في محاولة نشر مفاهيم الكفر.
الثالث: فضح عجز الكفار عن بلوغ الغايات الخبيثة.
الرابع: جعل إنفاق الكفار وبالاً عليهم، وسبباً لبعث الحسرة في نفوسهم.
وجاءت هذه الآية لتوكيد هذا المعنى، والإخبار عن قانون ثابت يختص بانفاق الكفار في الحياة الدنيا، وأطرافه ثلاثة هي:
الأول: الإقامة على الكفر.
الثاني: إرادة الضرر من الإنفاق واتخاذه وسيلة للتعدي والتحدي بالباطل.
الثالث: بذل الأموال في المعصية والتعدي فاراد الله عزوجل ان يبقي الحياة الدنيا وعاء زمانياً لعبادته، والأرض محلاً لذكره وتسبيحه ، وإقامة الشعائر.
فمنع الله الكفار من الإنتفاع من أموالهم وإنفاقهم لها في الباطل ليكون هذا المنع درساً وعبرة لهم ودعوة للمسلمين للجهاد في سبيل الله، وعدم الخشية من الكفار وما عندهم من الأموال والسلاح.
إذ ان السلاح فرع الإنفاق، فاذا كان إنفاقهم يذهب سدى، فكذا اسلحتهم فانها لاتساعدهم في إرادة الغلبة على المسلمين وقد جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن قانون ثابت وهو هزيمة الكفار عند المواجهة على نحو الإطلاق أي سواء كانوا اكثر عدداً واقوى عدة، أم لا، وفي الآية مسائل:
ألأولى: بيان موضوعية النية في أثر الإنفاق.
الثانية: توكيد حقيقة وهي التباين في أثر الإنفاق بلحاظ النية والعزم.
الثالثة: التحذير من الإنفاق من منازل الكفر، فالكفر كبيرة ومعصية يستحق صاحبها النار، وكذا الإنفاق في الكفر ومحاولات تثبيته معصية كبيرة تلحق بصاحبها الضرر العاجل والأجل، اما العاجل فحصول المصيبة والبلاء به بسبب إنفاقه ، وأما الآجل فالخلود في النار.
وقد ورد الإنذار في القرآن للذين لاينفقون أموالهم في سبيل الله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
ويستحق الذي ينفق أمواله في المعصية ومحاربة الإسلام الخلود في العذاب من باب الأولوية القطعية بالإضافة الى عذاب الحسرة والألم على الإنفاق من منازل الكفر وتسخير الأموال التي رزقه الله تعالى في المعصية والظلم والتعدي، وتتجلى في مضامين هذا القانون تفضيل المسلمين ومصاحبة العز لهم في الدنيا ومطابقة النتائج للنوايا والمقاصد السامية التي يسعون اليها بالاضافة الى ترشح الثواب والأجر على افعالهم في الدنيا.
بينما تأتي النتائج مغايرة لمقاصد الكفار وان بذلوا الأموال الطائلة في تحقيقها وسعوا اليها بجد وتدبير ومكر مما يبعث الخيبة في نفوسهم، ويكون سبباً في نفرتهم من الكفر والأخلاق المذمومة.
وهذه النفرة من رحمة الله عزوجل بالناس في الحياة الدنيا، فمخالفة النتائج لنوايا الكفار مناسبة لإتعاظهم ودعوة للرشد والهداية، وهي آية ظاهرة يدرك المسلمون ما فيها من المدد والعون في تثبيت دعائم الإسلام ودفع الضرر والأذى عنهم، وهل هذه المخالفة من الإبتلاء في الدنيا ام العقوبة العاجلة للكفار، الجواب الأمران معاً إذ لاتعارض بينهما وكل فرد منهما رحمة بالناس جميعاً فهو دعوة للكفار لترك الكفر والإنفاق في المعصية، وحث للمسلمين للثبات في منازل الإيمان وعدم الفزع من الكفار وجعجعة خيولهم.
ودعوة للناس لاجتناب الكفار الذين يعتدون على المسلمين ويصرون على إيذائهم.
فمن وجوه نفقة الأموال جمع الأنصار والأعوان وإغراء المستضعفين والمحتاجين وشراء الذمم، فتأتي هذه الآية لزجر الناس عن إعانة الكفار في التعدي على الإسلام، وعدم الإفتتان بأموالهم وماينفقون في الباطل، لتكون مضامين هذه الآية إنذاراً مستديماً للناس ومنعهم من الإضرار بالإسلام وتكون حقيقة مخالفة النتائج لنوايا الكفار فضحاً متقدماً لفعلهم، وآية إعجازية وتحد للكفار .
ويأتي الواقع مصداقاً لمضامين هذه الآية ومافيها من الإنذار لتكون الآية ومصاديقها الواقعية في ضياع ماينفقه الكفار ومخالفة النتائج لنواياهم حجة عليهم وعلى من يركن اليهم.
قانون ريح فيها صر
من بديع صنع الله تعالى في الحياة الدنيا سنخية وطبائع الإنسان، والأنس والألفة بين الناس، ووجوه المعاملة والبيع والشراء والأهلية للتملك سواء ملكية العروض والأعيان أوالنقود الذهبية والفضية والورقية، ويمتلأ الانسان مطلقاًٍ فرحاً بحيازته لمال يناسب شأنه ومقدار رزقه وإنفاقه الا ان المسلم يمتاز عن الكافر في المقام بأمور:
الأول: ان فرحه باداء العبادات والفرائض اكبر من فرحه بالمال، ومن الآيات ان الصلاة تستوعب آنات اليوم والليلة إذ يؤديها المسلم خمس مرات، فكما تكون الصلاة نهراً جارياً لمغفرة الذنوب التي يرتكبها المسلم، فكذا تكون عنواناً لشكر الله تعالى على الرزق الذي يأتي في اليوم والليلة، لتكون وسيلة لزيادة الرزق والمال لعمومات قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] كما ان قيامه بإخراج الزكاة والخمس نماء وتطهير لما رزقه الله من الأموال.
الثاني: توظيف المسلم أمواله في مرضاة الله.
الثالث: إتخاذ المسلم المال وسيلة للثبات على الإيمان، وتنشأة أولاده وعياله على الطاعة والأخلاق الحميدة.
الرابع: المال عون للمسلمين في التصدي للكفار، وسبب للدفاع عن الأرض والوطن والثغور، ومنع الكفار من الإستيلاء عليها.
وجاءت الآيات القرآنية بحث المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، والمسارعة في الخيرات والتنافس فيها من النفع في الدنيا والآخرة.
اما ذكر الآيات للكفار وماعندهم من الأموال فيحتمل وجوهاَ:
الأول: الإكتفاء بذمهم على الكفر، وبيان قبحه وسوء عاقبته، لان مجئ الآيات بقبح الكفر وما اعد الله عزوجل للكافرين من العذاب الأليم، صيغة من صيغ الإنذار والوعيد.
الثاني: توبيخ الكفار على جمعهم الأموال، والإخبار بانها سحت وحرام.
الثالث: دعوة الكفار للتبرع بالأموال في سبيل الله وإجتناب حيازتها.
الرابع: تحذير الكفار من إدخار الأموال، لانها ستكون في أيدي الذين يرثون منهم الكفر والضلالة.
الخامس: مجئ الآيات ببيان قانون ثابت وهو تلف وضياع الأموال التي ينفقها الكفار، ويحتمل هذا الضياع وجوهاً :
الأول: إنعدام الثواب الأخروي.
الثاني: عدم إنتفاع الكفار من أموالهم في الدنيا والآخرة.
الثالث: من الآيات في خلق الإنسان انه يجتهد في جمع الأموال ويقتصد مع نفسه ، وهو يعلم انه بجمع مايتركه من بعده لذا ترى الأموال تتكاثر مع تعاقب الأجيال، والأصل في الأموال ان يبقى الزائد منها على المؤونة للورثة والعيال.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن خروج ماينفقه الكفار بالتخصيص من هذا القانون، ليس لانه ينفق ويصرف بل لانه وبال على صاحبه، وسبب في تلف أموال الكافر الأخرى ، ولاتعارض بين الأمور الثلاثة أعلاه، وهي من أخذ الكافر بأشد الأحوال.
السادس: زجر الكفار عن الإنفاق في الباطل والمعصية والصد عن سبيل الله.
السابع: إقامة الحجة على الكفار في الدنيا والأخرة، وجعلهم يدركون بوار تجارتهم، ويرون عاقبة إنفاقهم قبل وعند وبعد الإنفاق، إذ تجعل هذه الآية الكريمة الكفار والناس جميعاً على علم بنتائج ماينفقه الكفار ورجوعه بالضرر عليهم، ولاينحصر هذا الضرر بالنشأة الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا ويحتمل شموله الحياة الدنيا وجوهاً:
الأول: الأثر العاجل، والضرر المصاحب للإنفاق.
الثاني: ظهور الضرر آجلاً وفيما بعد.
الثالث: لحوق الضرر بالأبناء بنقص التركة وسوء التصرف في الأموال، وكثرة الخلاف والنزاع فيما بينهم.
ولاتعارض بين هذه الوجوه الثلاثة ولكنها من مصاديق الضرر والهلاك والتلف الذي يلحق اموال الكفار وما يترشح عنه من النتائج والآثار على الكفار وذويهم واصحابهم.
لذاجاءت الآية بالتمثيل بالريح الضارة التي لاتستثني حرثاَ أو زرعاً أو نبتاً مما تمر عليه في هبوبها وسرعتها.
لقد جعل الله عزوجل الريح السريعة التي فيها برد وتهلك الزرع آية كونية في كل زمان ومكان من غير ان تصل النوبة الى العولمة والفضائيات لتنقل وصفها وآثارها لأمم لم ترها او لم تعرفها، ولاتحتاج الأمم قديماً وحديثاً الى دراسة التأريخ وسماع الأخبار عن الريح العاتية والباردة ، واضرارها وما تتركه خلفها من الدمار والخراب، فكل امة وجيل وجماعة من الناس يرون أضرار الرياح العاتية في المزروعات سواء كانوا يسكنون القرية او المدينة.
قانون بديهية التمثيل القرآني
كل قضية يصدق بها العقل عند حضور مفرداتها في الوجود التصوري ومن غير التوقف على مبدأ غيرها تسمى بديهية فيكفي حضور طرفي الموضوع والمحمول للقضية للحكم عليها من غير ان تصل النوبة الى مؤونة زائدة.
والمثل مدرسة عالمية متوارثة، ومنهج تعمل به أمم الأرض، وتسعى فيه بالفطرة والسجية إلى إقترابها وعدم إبتعادها عن عالم البديهيات، وتحرص على جعل المنقح من امثالها من مصاديق البديهيات، ولكنها لاتستطيع إدراك هذه المرتبة، وظلت اكثر أمثالها متخلفة عن تصور الناس عن الصلة بين طرفيها أي المحكوم عليه والمحكوم به.
اما المثل القرآني فهو مدرسة جامعة في البديهيات وتأسيس لقوانين ثابتة في العلوم الإنسانية ويبعث على الصلاح في ميادين العقيدة والإجتماع والسياسة، وهو سلاح دائم لإصلاح العرف وتهذيب النفوس، وفضح الكفر والضلالة، وتثبيت النفرة منها عند الناس جميعاً، ويمتاز المثل القرآني بالبديهية في المشبه به بحيث ان العقل يحكم فيها بذاته من غير سبب خارجي، وهو من مصاديق إعجاز القرآن، وشاهد على عدم انحصار إعجازه بالبلاغة.
فقانون بديهية المثل القرآني إعجاز متجدد للقرآن، وتحتمل البديهية في المثل القرآني بلحاظ السعة والضيق وجوهاً:
الأول: إنحصار بديهية المثل القرآني بآيام التنزيل.
الثاني: إختصاص البديهية بأهل مكة والمدينة وما حولهما.
الثالث: يتعلق موضوع بديهية المثل القرآني بالمسلمين.
الرابع: شمول أهل الكتاب ببديهية التمثيل القرآني.
الخامس: عالمية بديهية التمثيل القرآني، وهذه العالمية على أقسام:
صها بزمن تنزيل القرآن.
الثاني: حصول البديهية والفهم المباشر ايام الصحابة والخلافة الراشدة.
الثالث: البديهية إلى أجل معين، وزمان مخصوص من سني الدنيا.
الرابع: الإطلاق الزماني وشمول افراد الزمان الطولية المتعاقبة بهذا القانون.
والصحيح هو القسم الرابع من الوجه الخامس ، فليس من زمان ومكان مخصوص لتوكيد بديهية التمثيل القرآني، فتتجلى معاني البديهية في المثل القرآني في كل زمان ومكان، وهو اهم أسباب إنتشار الإسلام ، وتثبيت أحكامه، ووسيلة عقائدية عامة لمحاربة الكفر وإزاحة سلطانه عن النفوس والمجتمعات، ولاتنحصر هذه المحاربة بمضامين المثل القرآني الخاص بالحسن الذاتي، والعرضي للإنتماء للإسلام، او المثل الذي يدل على وجوب نبذ الكفر، وبيان سوء إختياره والبقاء في منازله بل يشمل كل مثل قرآني ومافيه من المضامين التي يدركها الإنسان من غير حاجة الى وسائط ومفاهيم إضافية تستلزم السعي والكسب، وفيه مسائل:
الأولى: المثل القرآني شاهد على إنتفاء الوسائط بين الخالق والمخلوق، وانعدام الحواجز بين الرب والمربوب.
الثانية: انه عنوان اللطف الإلهي في القرآن، وتجلي معاني الرحمة الإلهية بالناس جميعاً.
الثالثة: بديهية مضامين المثل القرآني تخفيف عن الناس في دعوتهم للإسلام، ووسيلة لجذبهم للهداية والايمان.
الرابعة: توكيد إعجاز القرآن بلحاظ المقارنة بين المثل القرآني وامثال الشعوب، ومافي المثل القرآني من الأسرار والدلالات.
الخامسة: بالبديهية يكون المثل القرآني معلماً ومؤدباً للناس عامة.
السادسة: أهلية الإنسان مطلقاً لإستنتاج الأحكام والمسائل من المثل القرآني سواء كان مسلماً او غير مسلم، عربياً او غير عربي.
السابعة: التقاء الناس في معرفة مضامين المثل القرآني وما له من المعاني.
الثامنة: قرب مفاهيم المثل القرآني من الناس جميعاً مع التباين في أمصارهم.
التاسعة: بديهية المثل القرآني عنوان للصلة بين الناس جميعاً، وموضوع للإتصال والتفاهم فيما بينهم بغض النظر عن العمر والعقيدة والجنس، وهو من وسائل الجذب للإسلام.
العاشرة: بديهية المثل القرآني شاهد على كون المسلمين خير أمة أخرجت للناس من وجوه:
الأول: التفقه في المثل القرآني وأحكامه.
الثاني: اقتباس الدروس والمسائل من المثل القرآني، فلا يكتفي المسلمون بتلاوة الآيات القرآنية ومافيها من العلوم بل يستنبطون منها الأحكام.
الثالث: الإعتبار بالمثل القرآني.
الرابع: إتخاذ المثل القرآني مؤدباً ودليلاً.
الخامس: دعوة الناس للإقتباس من المثل القرآني.
السادس: إمتلاك المسلمين لسلاح المثل القرآني، ومافيه من البديهية في الدلالة والمضمون.
السابع: إستعانة المسلمين بالمثل القرآني في الإحتجاج والإستدلال على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن من عندالله وهو من أسرار المثل القرآني من وجوه:
الأول: ملازة المثل للأجيال المتعاقبة من الناس.
الثاني: عدم وجود فرد او جماعة يجهلون موضوع المثل القرآني، فكل امثال الشعوب تحتاج الى بيان وتفسير سواء لذات الأمة التي وجهت لها الأمثال او للأمم الاخرى، اما المثل القرآني فانه لايحتاج الى البيان والتفسير بالنسبة لجميع أمم الأرض ، وليس للعرب الذين نزل بساحتهم القرآن او للمسلمين والمسلمات وحدهم ، إذ نزل القرآن خطاباً استغراقياً عاماً لاهل الأرض كافة.
الثالث: المثل القرآني لغة يفهمها الناس جميعاً.
الرابع: غلبة المثل القرآني على السلاطين والقوى التي تحاول السيطرة على الناس.
الخامس: بديهية المثل القرآني وسيلة اعلام عالمية مفتوحة للأجيال جميعاً، اذ انه يصل لأسماعهم، ولاتستطيع جهة او قوة تحول دون وصوله للناس وفهمهم لمعانيه، وهو من خصائص البديهيةفي المثل القرآني، فلو كان الأمر ينحصر بالتلاوة والسماع لإحتاج الناس الى بيان وتفسير المثل القرآني، واستطاع اهل الكفر والضلالة حشد قواهم وطاقتهم لمنع الناس من معرفة المثل القرآني وانتفاعهم الأمثل منه، ولكن بديهية المثل القرآن تغني عن الوسائط وسد الذرائع على الناس، وتمنع من وجود الحواجز دون معرفتهم لأحكامه وسننه وغاياته السامية.
قانون المثل القرآني حجة
ليس في القرآن من موضوع إلا وله دلالات عقائدية وتترشح عنه منافع متعددة، والمثل القرآني علم مستقل في القرآن له دلالاته الخاصة، وكل مثل آية وإعجاز، وهو من مصاديق قانون تضمن الآية القرآنية لآيات متعددة وكل مثل قرآني ذاته آية إنحلالية تنقسم إلى عدة آيات، وهو من مختصات القرآن من بين الكتب السماوية، وشاهد على انه نازل من عندالله، وفيه دلالة على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى لكثرة الآيات النازلة عليهم وانها من الامنتهي بلحاظ مضامينها وانشطار كل آية من آيات القرآن الى آيات متكثرة تقبل الإنشطار مع تقادم الزمان من غير أن يكون هناك حصر وحد لهذا الإنشطار وكثرة الآيات القرآنية.
لقد أراد الله عزوجل للمثل القرآني أن يكون موضوعاً ومادة لمدارس مستحدثة من العلوم فكل مثل فيه كنز ينهل منه المسلمون المعارف، ويتزودون منه بالفقه والآداب ومحاسن الأخلاق،وفيه دعوة للناس للهداية، والايمان، وتتجلى هذه الدعوة بالمثل القرآني ذاتاً وعرضاً،فاما ذات المثل فانه بيان وكشف عن البهاء والحسن في الايمان، واما العرض فان المثل القرأني عبرة وموعظة ومناسبة للتدبر والإنتفاع من مضامين المثل ودلالاته، ولاينحصر هذا الانتفاع بالذين يتعلق بهم موضوع المثل، بل يشمل الناس جميعاً، وتلك خصوصية يختص بها المثل القرآني، فليس من مثل من أمثال الامم والشعوب الا وهو ينحصر بجماعة او مهنة او قضية وموضوع ، أما المثل القرآني فهو عام وجاء منطوق المثل في هذه الآية على وجوه:
الأول: انه إنذار وتحذير للكفار، وإخبار عما ينتظرهم من سوء العاقبة في الدنيا والأخرة، اما في الدنيا فضياع الأموال وما يسببه من الضرر والحاجة والنقص فيها والفقر والفاقة، وتأتي الفاقة من وجوه:
الأول: تلف ما تم اعداده وتجهيزه في أهل الفسق والضلالة.
الثاني: الأضرار الوضعية للإنفاق في المعصية.
الثالث: ظهور الاسلام وانتصار المسلمين في المواجهة مع الكفار.
الرابع: تعرض الكفار للهزيمة، وترك أموالهم وراء ظهورهم.
الثاني: بيان أضرار الكفر، والأفعال التي ترتكز عليه.
الثالث: الإخبار عن قانون ثابت وهو ان الأموال وديعة وأمانة عند الناس وان إنفاقها في المعصية وارادة تثبيت مفاهيم الكفر يؤدي الى خسارتها وضياعها، اما مفهوم المثل في هذه الآية فهو على وجوه:
الأول: طرد الخوف والفزع من نفوس المسلمين مما ينفقه الكفار من الأموال في مواجهة الإسلام، وتلك آية من آيات المثل القرآني، ومصداق في تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى بان يكون المثل القرآني واقية لهم من الفزع من الأعداء.
الثاني: حث الناس على إجتناب الإنفاق في المعاصي، لان الإنفاق فيها سبب لانتشارها وشيوعها لولا الفضل الإلهي بمنع إنتشارها، ومن مصاديق هذا المنع تلف الأموال التي تنفق فيها، وعدم حصول النماء فيها، لأن النماء في المال وسيلة للإكثار من الإنفاق فيها، فيأتي هذا المثل ليخبر في مفهومه عن حال التضييق والحد من اتساع الفسق والفجور، وعدم ميل الناس اليه والى محاربة الاسلام.
الثالث: بيان التباين بين الإنفاق في سبيل الله والإنفاق في المعاصي وأسباب الجحود والكفر إذ يؤدي الإنفاق في سبيل الله الى نماء المال واكتناز الصالحات، بينما يكون الإنفاق مع الكفر سبباً للخسارة وحمل الآثام الى يوم القيامة.
الرابع: إقامة الحجة على الكفار في سوء إنفاقهم ، وما يترتب عليه من الخسارة.
لقد أراد الله عزوجل للمثل القرآني ان يكون حجة دائمة من وجوه:
الأول: الحجة في المشبه بذكر موضوع المثل ودلالاته وما له من الغايات الحميدة .
وتتضمن آيات القرآن الحث على جعل موضوعية واعتبار لموضوع المثل القرآني، فما من موضوع يذكر بصيغة المثل الا وله اهمية خاصة ، وجاء المثل لإعانة المسلمين على طاعة الله واقامة الحجة على الكفار فيه، ومن الآيات ملازمة الدعوة الى التوبة للحجة في المقام، فليس من صلة وارتباط دائم بين الانسان والكفر، والأصل هو الايمان، فيأتي المثل القرآني موافقاً للفطرة الإنسانية، وباعثاً على التوبة والإنابة، لتكون مفاهيم الحجة في المثل القرآني دعوة للصلاح وتهذيب النفوس ورؤية الاشياء على حقيقتها، وفي الحديث:”رب أرني الأشياء كما هي”.
الثاني: الحجة في المشبه به باتصافه بالجزئية من الواقع اليومي لكل جيل وأمة وجماعة، فمع تعدد وكثرة أفراد المشبه به في القرآن فانها تحمل صبغة الدوام والحضور في كل المجتمعات، ويمكن الإستدلال بالبرهان الإني من المعلول على العلة بان المواضيع المذكورة في المثل القرآني كمشبه به أمور باقية مع بقاء الليل والنهار، كما في هذه الآية والتمثيل بالريح التي فيها برد شديد من وجوه:
الأول: حصول الريح الشديدة، وعدم امكان الحيلولة دون هبوب الرياح العاتية.
الثاني: تضمن الرياح البرد الشديد معها وفيه حجة على إستدامة مثل هذه الرياح مع الإحتباس الحراري، وان حصل تباين في الكم والعدد.
الثالث: ترتب الضرر على الريح العاتية وهلاك المزروعات، ولايتعارض هذا الأمر مع دعوة المسلمين الى إصلاح المزروعات والإحتراز من الرياح العاتية بالوسائل العلمية وطرق حفظ المزروعات المتعارفة من زراعتها بين الأشجار ووضع الحواجز ونحوه.
الثالث: اتخاذ المثل القرآني حجة على الكفار، سواء في الموضوع او المحمول وهو عون للمسلمين في الجدال، وميدان الإعلام والدعاية والتصدي لإفتراء الكفار، والإعراض عن تهديدهم وتخويفهم للمسلمين ببذل الأموال في محاربة الاسلام.
وذات المثل القرآني حجة ورسالة للناس ودعوة للصلاح وتهذيب النفوس، ويطرد المثل القرآني الوهن والضعف عن نفوس المسلمين ويمنع من الفرقة والضلالة، ويحول دون إستضعاف المسلمين او جماعات منهم لأن المثل القرآني خطاب عام يدرك مضامينه كل مسلم، ولا يستلزم درجة عالية من الفقه والتحصيل خصوصاً وانه يأتي بأمثال حسية قريبة من كل إنسان.
قانون “تضمن الآية القرآنية لآيات متعددة”
لقد أنزل الله عز وجل القرآن نجوماً، ولم ينزل دفعة واحدة ويتكون من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية “.
ويستقل كل عدد من الآيات بسورة مستقاة ، وله منافع عديدة منها:
الأول: بيان حقيقة تقسيم القرآن الى سور، وكل سورة تتكون من آيات عديدة.
الثاني: تعيين اسم خاص لكل سورة ومعرفة المسلمين اسم السورة، وهذا التعيين عون على حصر آياتها.
الثالث: تيسير حفظ المسلمين للقرآن.
الرابع: تعاهد آيات القرآن، والحرص على عدم تضييع آية منه.
الخامس: بيان الإعجاز في سياق ونظم الآيات.
السادس: حفظ القرآن من التحريف.
السابع: توكيد قانون تفضيل المسلمين ، اذ ان نزول القرآن نجوماً ، وتكونه من آيات ، وحفظ وتعاهد المسلمين لها، وحرصهم على عدم حصول تغيير في كلماته شواهد على ان المسلمين خير أمة، ويمكن إستنتاجها وفق القياس الإقتراني.
خير أمة التي تتعاهد كتابها المنزل من التحريف
المسلمون تعاهدوا القرآن ولم يطرأ عليه التحريف
المسلمون خير أمة
الثامن: وضوح الأحكام، ومنع اللبس والترديد فيها.
التاسع: تفسير القرآن بالقرآن وشهادة كل آية قرآنية على صدق نزول آيات عديدة من القرآن مع بيان مضامينها ، وهذا التفسير من مصاديق تضمن الآية القرآنية لآيات عديدة بإعتبار ان كل تفسير لآية أخرى من القرآن هو آية.
ويتجلى الإعجاز القرآني في قسمة القرآن الى آيات كثيرة يمكن معها إستنباط الأحكام والمسائل من وجوه:
الأول: كل آية على نحو مستقل.
الثاني: إستنباط الأحكام من الجوار وسياق الآيات.
الثالث: التداخل والترابط بين الآيات في كل سورة من سور القرآن.
الرابع: الصلة في الموضوع والحكم بين عموم آيات القرآن، فان الفصل بين الآيات وتقسيم القرآن الى مائة وأربع عشرة سورة لم يمنع من إتحاد الموضوع والحكم في الآيات وصدق نزولها من عند الله، وصدق انها من القرآن وتلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها، ومن الشواهد على هذه الصلة إعتبار المثل القرآني في دلالة وأحكام عدد من آيات القرآن، كما في المثل الكريم الوارد في هذه الآية إذ انه دليل على صدق مضمون الآيات التي تتعلق بإنفاق الكفار في التعدي على المسلمين وفي المعصية ومحاولة تثبيت ونشر مفاهيم الضلالة والجحود، سواء في ذات السورة أو في السور الأخرى، ومنها قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ]( ).
فقد يظن الكافر ان إنفاقه المال في محاربة الإسلام وسيلة لسلامته او لبقاء مفاهيم الكفر، فجاءت هذه الآية لتخبر بان الإنفاق يعود عليه بالضرر، واذا كان الإنفاق يعود على الكافر بالضرر فما هي النتيجة لو لم ينفق الكفار أموالهم في محاربة الإسلام ، الجواب هو خسارتهم أيضاً من باب الأولوية، لأن علة تلف الأموال هو إختيار الكفر والضلالة.
لقد جاء المثل في هذه الآية مدرسة في العقيدة والإنفاق والأخلاق، أما الأول فانها تبين موضوعية العقيدة في عالم الأفعال والتصرف ، فالمؤمن ينفق أمواله إبتغاء مرضاة الله فيأتيه النصر والظفر، ويحصل عنده النماء والبركة، ويرى التوفيق ويكون الإنفاق وسيلة للصلاح والإصلاح، أما الكافر فان سوء إختياره الكفر يؤدي به الى التيه والضلالة، ويكون إنفاقه حسرة عليه.
ويأتي المثل في هذه الآية ليكون لطفاً وعوناً للناس جميعاً، المسلم والكافر، أما المسلم فانه يزداد إيماناً ولا يخاف في الله وعيد وتعدي الكفار، وأما الكتابي فانه مدعو الى عدم نصرة الفاسقين والى إجتناب التعدي على المسلمين، واما الكافر فانه يرى أضرار الكفر العاجلة وما يلحقه من الضرر والأذى في النفس والمال بسبب الكفر والضلالة.
ومن إعجاز هذه الآية مصاحبتها للإنسان في أطوار حياته المختلفة، وملازمة مضامينها للمؤمن والكافر أما المؤمن فيتخذها وقاء وحرزاً وسلاحاً وتبعث في نفسه السكينة والرضا، وأما الكافر فان الفزع يصاحبه لأسباب:
الأول: خسارته الأموال.
الثاني: عدم تحقق الغايات التي يقصدها من الإنفاق.
الثالث: لحوق الهزيمة والخسارة بقوى الكفر والضلالة.
الرابع: إزدياد قوة المسلمين.
الخامس: إنتفاع المسلمين من الإنفاق في سبيل الله.
السادس: ظهور مصاديق المثل الوارد في هذه الآية في الواقع اليومي، ليكون هذا الظهور سبباً لرسوخ مضمونها في عالم التصور، وتكون حاضرة في الوجود الذهني عند الكافر لتبعث في نفسه النفرة من الكفر والإنفاق في الكفر والضلالة.
ان الصراع بين الإيمان والكفر متصل ومستمر في الحياة الدنيا، ولكن طرفي الصراع ليسا متكافئين فيأتي المدد الإلهي لأهل الإيمان، والتحذير والتخويف السماوي لأهل الكفر والضلالة، ومنه هذه الآية الكريمة التي جاءت بمثل يدرك ما فيه من مضامين الإنذار كل كافر، ويستطيع الربط بينه وبين الشواهد الواقعية.
وكل واقعة هي آية بلحاظ كونها مصداقاً لهذه الآية الكريمة وما فيها من المثل الذي يبهر العقول بذاته وموضوعه وحكمه المطلق، فالآية لم تستثنِ فرقة أو أحداً من الكفار في حكمها.
وكل فرد منهم يلاقي ذات المصير وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، لتكون الآية القرآنية قانوناً ثابتاً تتجلى مصاديقه في كل يوم، ويأتي المثل لتقريب معنى ومضامين الآية الى الأذهان ليكون عوناً للناس على الهداية، ودعوة عملية لنبذ الكفر والضلالة، وهو من مصاديق التخفيف والرحمة الإلهية بالناس جميعاً.
وكل آية من القرآن نعمة من عند الله، وتترشح منها نعم متعددة بلحاظ الآيات التي تتضمنها، ومن النعم الإلهية المثل القرآني وما فيه من الآيات والدلالات والعبر ولغة التيسير عن الناس في فهم مضامين الآية القرآنية.
قانون “المثل القرآني تأديب”
من الآيات في المثل القرآني عدم وجود حد ومقدار للمسائل المستنبطة منه، في الكم والموضوع، ومن مواضيعه التأديب، فيأتي المثل القرآني وصفاً وتقريباً للمعقول بصيغة المحسوس ليكون النفع منه عاماً وشاملاً للناس جميعاً بلحاظ الإحاطة العامة بموضوع المثل القرآني ويتأتي التأديب من وجوه:
الأول: المثل القرآني تأديب للمسلمين، ولا ينحصر بعصر التنزيل وأيام الصحابة.
ومن مضامين ودلالات القرآن ما فيه من الأمثال وكل مثل موعظة، ولا ينحصر موضوع المثل القرآني بلغة الإنذار والوعيد للكفار، بل يشمل المدح والثناء والوعد الكريم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]( ).
وظاهر الآية ان مثل الكلمة الطيبة ضربه الله في غير هذا المقام لأن الآية جاءت بصيغة الماضي، وفيه إشارة الى الكتب السماوية السابقة، وقد ورد عن ابن عباس ان جبرئيل قال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “أنت الشجرة، وعلي غصنها وفاطمة ورقها والحسن والحسين ثمارها”( ).
وفيه دلالة على إرادة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السابقة وانه الشجرة الطيبة المباركة، وان الإسلام نعمة متصلة تترشح عنها في كل زمان منافع عظيمة للناس جميعاً وروى أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ان هذه الشجرة هي النخلة( ).
وتحث الآية على الكلمة الطيبة والدعوة الى الإيمان، وتبين بقاء أثرها وعدم إنحصار نفعها بقائلها أو المستمع اليها، فقد ينتفع منها السامع لها عرضاً، أو الذي تنقل له الكلمة الطيبة، وهذا النقل قد يأتي بوسائط متعددة، بينها فترات متعاقبة ويحصل النقل في أماكن متفرقة، وتقادم الزمان على الكلمة الطيبة يفيد تعدد وكثرة نقلها والإنتفاع منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ] ( )، أي في كل وقت وزمان، ومنه ما يتفرع عن الكلمة الطيبة من الكلام الطيب والفعل الحسن.
ومن الآيات ذكر الضدين معاً في الآية، فمع ذكر الكلمة الطيبة والمشبه به، جاء ذكر الكلمة الخبيثة بقوله تعالى [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ] ( )،وفيه إشارة الى إنفاق الكفار وانه كالشجرة الخبيثة تأتي الريح العاتية الباردة فتقلعها من أصلها، أو انها تسبب هلاك أغصانها، وسهولة إقتلاع جذورها مع تقادم الأيام، بعد بقائها شاهداَ على نزول الغضب الإلهي بالكفار ، وجاء الإجتثاث بصيغة المبني للمجهول “أجتثت” لإفادة المعنى الأعم للقائم بإستئصال جذع وساق الشجرة من الأرض، وكذا بالنسبة لإنفاق الكفار فانه يؤدي الى هلاك المال سواء بذاته أو بسبب خارجي، او بفعل جهاد المسلمين ودفعهم للأضرار.
الثاني: تأديب أهل الكتاب بلزوم تعاهد أحكام التنزيل، والإخبار عن عدم ترك التوراة والإنجيل وما انزل الله عز وجل من الكتاب، فمن الآيات في المثل القرآني حثه على تقيد أهل الكتاب بما في كتبهم من الأحكام والسنن وعدم الإكتفاء بحملها والإخبار عن الإنتساب لها، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ]( ).
فذكر الله تعالى فريقاً من اليهود الذين أمروا بالعمل بأحكام التوراة وحمل ما فيها من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه ونصرته، ولكنهم لم يعملوا بها وأعرضوا عما فيها من البشارات، وقاموا بتحريف التكاليف الواردة فيها فجاء المثل في الآية الكريمة بذكر الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره وهو لا يعرف معناها ولا يدرك أهميتها وأثرها، وفيه دلالة على عدم ترتب الأثر على التحريف والإعراض عن التوراة الا بالنسبة لأهل الجحود بها ، وإخبار عن إظهار الله عز وجل للعلوم والحكمة بالقرآن وآياته، وقال أحد كبار المفسرين في تفسير الآية: وعلى هذا فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج اليه كان هذا المثل لاحقاً به وان حفظه وهو طالب لمعناه فليس من أهل هذا المثل، ولكنه قياس مع الفارق.
اذ ان الآيات جاء بمدح المسلمين والإخبار عن كونهم خير أمة ولا دليل على أن فريقاً من المسلمين ملحق بأهل هذه الآية، والأصل هو إنحصار موضوع وأحكام المثل القرآني في هذه الآية باليهود الذين كلفوا بالعمل بالتوراة ولكنهم تخلفوا عن العمل بأحكامها، ويلحق بهم الذي مثلهم من الأمم السابقة وليس من المسلمين.
ان تلاوة المسلم في الصلاة للآية القرآنية وإنصاته له ، وورود الآيات القرآنية في مدحه والثناء عليه تخرجه من صيغ الذم الواردة في المثل القرآني.
ويقتبس كل مسلم من القرآن وآدابه بالفطرة والقصد والوراثة والتعلم، وليس من مسلم الا ويتعاهد آيات القرآن ، ويتقيد بأحكامها وسننها، ويحرص على عدم تحريفها وتغييرها، وذكر في تفسير الآية قول محمد في مهران( ): يا أهل القرآن إتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم( ).
ولكن القرآن لا يتبع أحداً واذا كان المراد من إتباع القرآن لهم معنى آخر كالحساب فلابد من بيانه، وهو يتعارض مع قانون ثابت وهو إتباع المسلمين للقرآن دائماً وابداً وهو من مصاديق مدح المسلمين ونيلهم مرتبة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثالث: تأديب وإرشاد الكفار الى سبل الهداية فمن رحمته تعالى مجيء المثل في القرآن كخطاب ونداء للناس جميعاً، ومنهم الكفار ليكون حجة عليهم، ودعوة للإيمان ووسيلة لإزاحة سلطان الجبابرة والطغاة على عقول الناس ومن الآيات ان الجبابرة ورؤساء الكفر يعجزون عن الإتيان بمثل المثل القرآني وعن رده أو معارضته.
ليبقى صلة دائمة بين الخالق والمخلوق، ودعوة دائمة للإيمان لا يستطيع أحد ان يجعل برزخاً بينه وبين شطر من الناس، ويمنع المثل القرآني الكافر من العتو والإفراط في التعدي والتلبس بمفاهيم الكفر، فيقف هذا المثل شاخصاً أمام الكافر مطلقاً سواء كان زعيماُ في الكفر أو غنياً صاحب ثروة ومال ، أو رجل سلطان ليؤكد له بان عمله يذهب هباء، وهذا الذهاب حجة عليه في لزوم الكف عن إيذاء المسلمين، والإمتناع عن الإنفاق في الباطل، ولزوم هجران منازل الكفر والضلالة لما فيها من ا لخسارة في الدنيا، التي هي مقدمة للخسارة في الآخرة، لأن صدق مضامين المثل القرآني وتحققها في الواقع الخارجي دليل على صدق القرآن ونزوله من عند الله وما فيه من الإخبار عن عالم البعث والنشور، وخلود المؤمنين في الجنة، وخلود الكفار في النار، ولا تنحصر علة دخول الكفار النار بالإنفاق في المعاصي والتعدي على المسلمين بل تتعلق بإختيار الكفر والجحود.
قانون المثل القرآني حكمة
من أسماء الله تعالى الحكيم وهو الذي أتقن الأمور كلها، والعالم الذي أحاط بكل شيء علماُ، والحكمة صدور الشيء على الوجه الأحسن والأتم والأكمل وإصابة الحقيقة، والمثل القرآني حكمة ومقدمة للحكمة واقتران العلم بالعمل، وفق قواعد وأدلة العلم، ومن الآيات ان يكون المثل القرآني علماً مستقلاً يقود الى العمل، ويتجلى العمل بالمثل القرآني من وجوه:
الأول: إتخاذ المسلمين للمثل القرآني دليلاً وعيناً، ووسيلة للنجاة، ومن خصائص المثل القرآني قدرة كل إنسان على الأخذ منه، والتزود بالعلوم من مضامينه القدسية، والإهتداء بأنواره كل بحسب مداركه وشأنه وصنعته وبما يكفيه للإعتبار والإتعاظ، أي ان الإختلاف في المدارك لا يضر في الإنتفاع الأمثل لكل مسلم ومسلمة من المثل القرآني، والعمل بمضامينه، وهو من الحكمة وإقتران العمل بالعلم.
لقد أراد الله عز وجل للناس بالمثل القرآني الإرتقاء في سلم المعارف ونيل المراتب العالية في النشأتين لذا جاء بصيغ البيان والوضوح والكشف، والإخبار عن ماهية العمل، ومنافع الإيمان وقبح الكفر.
والمثل القرآني من مصاديق الحكمة ، قال تعالى [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ] ( )، فهو حكمة وعلم ومدرسة وموضوع لتوظيف العقل للتمييز بين الحق والباطل بذكر الأمثلة الحسية كوسيلة للتدبر والنظر في الأشياء وعواقب الأمور.
ولا تنحصر مضامين الحكمة بلغة وصيغة المثل القرآني لأنه جزء من التنزيل وكل لفظ منه حكمة بالغة، بل تتجلى الحكمة ايضاً بوجوه:
الأول: مفهوم المثل القرآني، وما يعنيه في دلالاته العقائدية والإجتماعية والأخلاقية.
الثاني: المسائل المستنبطة من المثل القرآني والتي لا تنحصر في موضوعه.
الثالث: إستدامة وجود المشبه به في الأرض وفي أذهان الناس.
فقد تضرب الأمم والشعوب والأمثال ثم ينقرض موضوعها، ولا يبقى للمشبه الا الذكر والمعنى الإجمالي المستقرأ من المشبه، مع ان الأصل هو كون المشبه به أكثر وضوحاً وبياناً من المشبه وتؤدي هذه الحال الى عدم إنتشار هذه الأمثال وإندثارها، وقلة تداولها بين الناس حتى في الأمصار وعند الأمة التي تكونت وولدت عندها، أما المثل القرآني فانه باقِ وثابت في الأرض بطرفيه طرف المشبه والمشبه به، وما بينهما من الصلة ووجوه الألتقاء وان كانت على نحو التقريب، ليكون هذا البقاء إستدامة للحكمة المستقرأة من المثل القرآني.
الثالث: ترتب الأثر على المثل القرآني في عالم الأفعال والأقوال، وإصلاح المجتمعات وإنقياد المؤمنين لمضامين المثل القرآني.
الرابع: من خصائص الحكمة انها تنطبع في القلوب وتتجلى على الأفعال، فيكتسبها الإنسان ويعمل بها من غير ان يستحضرها في كل قول أو فعل يترشح عنها بالأصل، ومنه المثل القرآني الذي يستلزم الشكر من المسلمين والناس جميعاُ لله تعالى ، بإعتبار أن المثل نعمة متعددة في ذاته وموضوعه ودلالاته وأثره، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ] ( ).
ولقد جعل الله عز وجل الحكمة في متناول كل مسلم ومسلمة بآيات القرآن ومضامينها القدسية، لتكون سيرتهم مرآة للقرآن وما فيه من تنمية لملكة صدور الأفعال عن عقل وتبصر ووضع الأشياء في مواضعها، وإتباع صيغ الصواب والسداد وإيقاع الأفعال على ما ينبغي بعد البيان والتقريب بلغة المحسوس، وإجتناب ما لا ينبغي وما يؤدي الى الخسارة والضياع.
لقد أراد الله عز وجل للمسلم أن يأتي فعله على حسب العلم والمصلحة والغرض الدنيوي والأخروي، فجاء المثل القرآني لترسخ معاني الحكمة في ذهنه، ويقدم على الأفعال التي تنفعه وان كانت مما تكرهه النفس وتجد فيه مشقة وتكليفاً، ويمتنع عن أشياء عديدة مما تشتهيه وتهواه النفس لأن فيها ضرراَ عليه في الدنيا والآخرة.
وجاءت الآية محل البحث بلغة المثل لتكون حكمة بالغة، وبياناً للحكم الذي يقترن بالعلة والسبب، ومن خصائص العلة أن معلولها لا يتخلف عنها، وهو الذي نص عليه المثل القرآني في هذه الآية الكريمة، مع آية إعجازية وهي أن المعلوم معين ومقصود ، وهو هلاك الزرع الذي يرمز إلى تلف أموال الكفار.
وكل آية في القرآن هي حكمة بالغة، ودليل عقلي وشرعي، وحكم سماوي يتصف بصبغة الدوام الى يوم القيامة، ومنه المثل القرآني الذي ينطق بالحكمة والعلم، ومن خصائصه عدم انحصار صفة الحكمة بالفاظه وموضوعه بل انه يدعو الى الحكمة ويقود اليها القارئ والمستمع والسامع ومن يتأثر بهم، وهو مادة للإقتباس لذا تفضل الله وجعله بلغة تشبيه يعرفها الناس جميعاً ليكون النفع اعم والفائدة اكثر.
لقد تفضل الله عزوجل وخاطب الناس على قدر عقولهم ومداركهم، وبما يفهمونه من المواضيع بتقريب المبادئ والأحكام بالتمثيل بما هو محسوس للإنسان مطلقاً، قال تعالى [مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ]( ).
وهذا المثل شاهد على التضاد بين المؤمنين والكفار بلحاظ الاجتماع والافتراق، فينتفع المسلمون من حواسهم، ويستعملونها في إدراك وأداء وظائفهم، اما الكفار فان حواسهم معطلة لاينتفعون منها، وهي كالمعدومة وهو من الشواهد على توكيد المثل القرآني لتفضيل المسلمين على الأمم الأخرى وبيان التباين بينهم وبين الكفار في الحياة الدنيا.
وأسباب تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى ، وبيان التباين بينهم وبين الكفار في الحياة الدنيا، وأسباب دخول المسلمين الجنة، ودخول الكفار النار.
فان قلت من المسلمين من يكون اعمى واصم خلقة ، فهل يشمله الذم الجواب لا، لان الآية جاءت يمدحه واعتباره بصيراً سميعاً باختياره الاسلام، وانه ادرك مايجب عليه من الواجبات ، واستطاع التمييز بين الحق والباطل، واتباع الحق واجتناب الباطل .
وانما جاءت الآية للكناية والتشبيه والتعريض بالكفار لإعراضهم عن الآيات الحسية التي تدعو الناس للإيمان بالله تعالى، وفيه إشارة الى نعمة الله تعالى على الإنسان فيما رزقه من الحواس، والوظيفة الاساسية للحواس فكما قال تعالى[مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فكذا بالنسبة للحواس فان الله عزوجل جعلها عند الإنسان وسيلة ومادة لعبادته ، ويمكن ان نؤسس قاعدة كلامية في المقام وهي تعلق الواجب بالجزء كتعلقه بالكل، فللبصر وظيفة وهي رؤية الآيات الكونية والإلتفات الى بديع صنع الله وعظيم خلقه وغيرها من الوظائف العقائدية لتكون حاجة الانسان للبصر في امور الدين اكثر من حاجته لها في امور الدنيا، وفيه اشارة الى ان الله عزوجل جعل البصر عند الانسان لإعانته على العبادة، مع اشتراك البصر في العبادة والخضوع لله تعالى.
وكذا السمع فانه حاسة من حواس الانسان، ونعمة ووسيلة للعبادة والإنصات الى آيات القرآن ، وسماع الحكمة ومنها المثل القرآني ومافيه من الدروس والعبر، وسماع الآيات الكونية كالرعد، وصوت الريح العاتية، وهو آلة للارتقاء في المعارف الالهية، وتعلم احكام الحلال والحرام.
وكذا فان وظائف السمع العقائدية اكثر من وظائفه الشخصية ويؤثم الكفار لتعطيلهم هاتين الحاستين، وعدم الانتفاع منهما مجتمعتين ومتفرقتين في رؤية وسماع الآيات والبراهين الدالة على الربوبية ولزوم عبادة الله تعالى، واشراكها في العبادة ومثلاً ورد في الحديث (النظر الى الكعبة عبادة)( ) فيشترك البصر في العبادة، وتكون له وظيفة مستقلة ينال من خلالها الانسان الأجر والثواب .
ومن الآيات ان استعمال البصر والسمع في العبادة عون للانسان في امور الدنيا وقضاء الحوائج والتبصر في الأشياء واختيار الصالح والانفع له وللناس، فجاء المثل القرآني ببيان المائز بين المسلمين والكفار بما يجعل التضاد والاختلاف بينهما دائماً ومتصلاً وفيه دليل على حتمية نصر وغلبة المسلمين وهو من أسباب عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين، وهزيمتهم في القتال كما تقدم في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] ( ).
إذ يعجز الأعمى عن الإضرار بالبصير في المواجهة والقتال، وهو من مصاديق ذهاب ماينفقه الكفار هباء لانهم لايستطيعون استعمال السلاح والعدة بالوجه الصحيح بسبب العمى الذي ألم بهم ولايقدرون على صد هجوم المسلمين، ووسائل مباغتتهم وإصابتهم بالعمى والصمم كما انهم يعجزون عن الاحتراز من الريح العاتية التي تأتي على زرعهم وحرثهم، بينما يكون المسلمون في يقظة دائمة، ويمتلكون القدرة على التدبير والإحتراز.
ومن خصائص البصر والسمع الإعانة على الإلفة والجماعة والتعاون والتعاضد وقضاء حاجات الإخوان، لذا جاء المثل لبيان تفضيل المسلمين لتوظيفهم الحواس في مرضاة الله ، وهل يعني نعت الكفار بالعمى والصمم من الذنوب الخاصة بجارحتي البصر والاذن الجواب لا، لان المراد هو اختيارهم الإعراض عن الآيات،وتطيل الجوارح في أهم وظيفة لها في الحياة الدنيا ، لذا جاءت بصيغة التشبيه التي يدل عليها حرف التشبيه الكاف في (كالاعمى) وهو من الاعجاز لتقديم وصف الكفار وتشبيههم مع التعدد بالاعمى والاصم.
وقسمت الحكمة التي تعني معرفة الأشياء الى قسمين:
الأول: الحكمة النظرية: التي تفيد إدراك الحق وتنمية ملكة النظر والإستدلال وإستحضار الحجة.
الثاني: الحكمة العملية: وتعني العلم بالأمور الخاصة بقدرة وإختيار الإنسان، وتحصيل الخير وأسباب الهداية والرشاد.
والمثل القرآني جامع للقسمين معاً لما فيه من معاني الإستدلال والإحتجاج والإستقراء والتفكر والتأمل والتدبر، كما انه يهدي الى سبل الرشاد ، ويعين الإنسان على إختيار ما فيه المصلحة ، وإجتناب ما يؤدي الى المفسدة ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
والمثل القرآني مدرسة جامعة تجعل الإنسان لا يفعل الا الأفضل والأولى والأحسن، والذي يعمل به حكيماً في قوله وفعله، ويجلب المنفعة لنفسه ، ويجتهد في دفع الضرر عنها،و يكون بعيداَ عن السفه.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الاستقصاء) وهو ان يأتي المتكلم بموضوع فيستقصي معانيه، ويستحضر صفاته الذاتية وعوارضه، وجاءت هذه الآية والآية السابقة بخصوص الكفار، فذكرتهم الآية السابقة على نحو التعيين والحصر وان أموالهم لن تنفعهم ولا تدفع عنهم البلاء ووجوه الشر، وكذا أولادهم، واذا كانت الأموال والأولاد لاتنفع الكافر متحداً ومتعدداً، فانه يبقى منفرداً عاجزاً، وفاقداً لنصرة الغير سواء كان رحماً او جاراً او بعيداً، وجاء الإستقصاء في هذه الآية والآية السابقة من وجوه:
الأول: عدم كفاية الأموال والأولاد عن الكفار.
الثاني: ان الله عزوجل هو العزيز الجبار القوي الذي يقهر الكفار ويؤاخذهم على ذنوبهم.
الثالث: انغلاق باب الفداء والنصرة بالنسبة للكفار، فمن خصائص المسلمين وتفضيلهم على الأمم الأخرى باب الكفارات، ودفع المال وإطعام الطعام للتكفير عن الخطأ والتقصير الشرعي مع مارزقهم الله عزوجل من فتح باب الإستغفار وهو أعظم كفارة.
الرابع: مصير الكفار في الآخرة دخول النار.
الخامس: الإقامة المؤبدة للكفار في النار ، فلا يخرجون منها ولايغادرون العذاب الأليم.
السادس: من الإستقصاء إنتقال هذه الآية الى موضوع إنفاق الكفار، ومايبذلون من الأموال التي في أيديهم.
السابع: ذم الكفار على إنفاقهم الأموال في المعاصي وإرتكاب الفواحش.
الثامن: ذكر عاقبة أموالهم بصيغة المثال المحسوس لتكون أكثر وضوحاً وبياناً.
التاسع: رؤية الكفار العذاب في الدنيا بتلف الأموال، وقلة المعاشات، وتعطيل الأعمال، لأن نزول الآفات السماوية والأرضية سبب للكساد.
العاشر: الإشارة الى ظلم الكفار أنفسهم بإختيارهم الكفر، وإقامتهم على الجحود والعناد.
الحادي عشر: إنذار الكافرين بانه إذا نزل بهم البلاء فانه لايبقى شيئاً.
الثاني عشر: تنزيه الله عزوجل من الظلم ، لأن الظلم قبيح ، والله سبحانه منزه عن القبيح.
الثالث عشر: مجيء القرآن بالموعظة وأسباب الهداية بصيغة الإنذار والوعيد.
لقد جاء الإستقصاء في هاتين الآيتين ببيان العذاب والبلاء الذي يلحق الكفار في أنفسهم وأموالهم في الدنيا والأخرة، وفيه مدد للمسلمين وسبيل قوة لهم، ودعوة لهم لمواصلة الجهاد ودرء أسباب الخوف واليأس والقنوط، لأن عدوهم في ضعف متصل،وفي خوف من نزول البلاء السماوي، وحال من الإرباك والذهول والتشتت بسبب لغة الإنذار القرآنية وما يحل به في الواقع، لأن الإنذار والوعيد القرآني في المقام على قسمين:
الأول: دنيوي.
الثاني: أخروي.
ولابد من مصاديق عاجلة وآجلة للإنذار الدنيوي وهو من اعجاز القرآن، والشواهد العملية على صدق نزوله من عندالله، ودليل على تفضيل المسلمين بحملهم لواء الإنذار للناس ومن منافع الإستقصاء في المقام حصول الامن عندالمسلمين ، وذهاب الخوف عنهم من عدوهم لإفادة الإستقصاء شمول الضرر والبلاء الكافرين وأموالهم وعجز أولادهم عن تصرفهم ،بسبب ظلمهم لأنفسهم وجحودهم.
وقد ذكرت الآية السابقة أموال وأولاد الكفار وانهم لن يغنوا عنهم شيئاً، وجاءت هذه الآية بالتمثيل على تلف أموالهم بالريح الباردة فما هو حال ابناء الكفار، وهل ينحصر عدم غناهم لآبائهم في عالم الأخرة ام يشمل الحياة الدنيا، الجواب هو الثاني لان أولاد الكفار سبب لأذاهم وعذابهم في الدنيا والأخرة قال تعالى [فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ] ( ).\
ومن وجوه العذاب بالأولاد في الدنيا تربيتهم ونشأتهم على مفاهيم الكفر، وما فيها من المشقة الإضافية لأنها خلاف حكم الشرع والعقل ، وكما تتعرض الأموال للتلف والغًُنم، فان أولاد الكفار يتعرضون للسبي، ومنهم من يبادر الى دخول الإسلام ليخلف الندم والحسرة والألم في قلب ابيه الكافر، ليكون اذى وعذاب الكفار في أموالهم وأولادهم بدل التنعم بها واتخاذها زينة من مصاديق الاستقصاء في الآية الكريمة، ومافي مفهومه من البشارة للمسلمين بحال البؤس والألم التي تصيب الكفار ، وهي من وجوه ضعفهم وقلة الحيلة والمكر عندهم، ومن الشواهد العملية والمصاديق الخارجية على قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
قانون الصلة بين أمثلة القرآن
القرآن كلام الله عزوجل، وكتاب نازل من السماء، هبة إلهية لأهل الأرض جميعاَ ، تتداخل آياته في معانيها وتترشح الأنوار القدسية من كل آية قرآنية على الواقع العملي للناس، وتفسر الآية القرآنية اختها سواء كانت مجاورة لها او موجودة في سورة اخرى، ومن وجوه التفسير والتداخل بين الآيات الصلة العقائدية بين امثلة القرآن لتقديم وصف الكفار وتشبيهم مع التعدد بالاعمى والاصم سواء في الامثلة الصريحة او المرسلة.
فلايمكن الفصل بين أمثلة القرآن كما ان ترك الصلة بينها تفويت لمنافع عديدة تتعلق بالعقيدة والإجتماع والسياسة والأخلاق، ان دراسة الصلة بين أمثلة القرآن علم جديد وسر مكنون من أسرار القرآن، وكنز يفتح الباب امام العلماء والباحثين لإستنباط العلوم من المثل القرآني وصلته مع غيره من الأمثال القرآنية.
وجاء المثل القرآني في هذه الآية خاصاً بما يفعله الكفار ، وجاءت أمثلة أخرى في إنفاق الذين آمنوا في سبيل الله مع تجلي آثار التباين بينهما بلحاظ الايمان والكفر والنتيجة والعاقبة، فانفاق الكفار يذهب سدى وتهلكه الرياح، ويكون وبالاً عليهم يوم القيامة، اما إنفاق المسلمين في سبيل الله فانه مبارك وفيه النماء والزيادة ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
وفيه دلالة على سلامة اموال المسلمين وماينفقون من أسباب الهلاك والتلف للإخبار عن حصول السنبل الكثير والدلالة على حصاده والانتفاع منه، ليكون الايمان وقصد الإنفاق في سبيل الله واقية من الريح العاتية التي تأتي على زروع واموال الكفار فتتلفها، فيكون الإنفاق القليل من المسلم ريعاً كثيراً.
وكما جاءت الآيات في نصر القلة من المسلمين على الكثرة من الكفار قال تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]( ).
فكذا الأمر في الإنفاق فان انفاق المسلمين للمال القليل في سبيل الله وتعاهده يكون اكثر أثراً ونماء من المال الكثير الذي ينفقه الكفار، وفيه بشارة ظهور المسلمين في باب العدة والسلاح وكثرة الاموال.
ويمكن الجمع وإيجاد الصلة بين أمثلة البشارة وأمثلة الإنذار في القرآن ومع اختلاف جهة الخطاب فيها فان مضامينها تنفع كل انسان، فامثلة البشارة موجهة للمؤمنين الا انها تتضمن في موضوعها ومفهومها ترغيب الكفار بالاسلام، اما أمثلة الإنذار الموجهة للكفار فتنفع المسلمين من وجوه:
الأول: بيان ضلالة الكفار وسوء اختيارهم.
الثاني: التأكد من نصر الله عزوجل للمسلمين وإضعاف عدوهم.
الثالث:الإستعداد للقتال والدفاع عن بيضة الإسلام من غير خوف أو وجل
الرابع: رؤية البلاء الذي يحل بالكفار في أموالهم وأنفسهم وذراريهم.
الخامس: إزدياد المسلمين ايماناً لمطابقة الشواهد الواقعية للغة الإنذار الواردة في القرآن.
السادس: إنذار المسلمين للكفار، ودعوتهم لهجران منازل الكفر والضلالة.
السابع: نمو ملكة الجدال والاحتجاج عند المسلمين ، لتكون سلاحاَ عقائدياَ.
والقرآن تبيان لكل شئ، وجاء تبيانه للأشياء والأحكام بصيغ متعددة منها عموم المثل القرآني وشموله للمواضيع المتعددة ، قال تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] ( ).
وفيه دلالة على توجه المثل القرآني الى الناس جميعاً البر والفاجر، والمؤمن والكافر لقوله تعالى [لِلنَّاسِ] وشموله للمضامين المختلفة بلحاظ سور الموجبة الكلية (كل)في الآية الكريمة [مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] مع ارادة التبعيض التي تتجلى بحرف الجر (مِنْ) لتتم الفائدة، وتحصل المنفعة العامة،ويحرب الغرور وتطرد الغفلة عن الناس، وليكون المثل القرآني برزخاً دون إستغلال الرؤساء الكفر للمستضعفين من الناس باعتباره تعليماً وارشاداً كافياً لاجتناب الضرر بالنفس وبالغير، ومانعاً من نصرة الباطل والمشاركة في التعدي.
ومن الآيات ان ترى الذين ينقادون للظالم، وينفذون اوامره يتدبرون في المثل القرآني، ويقيسون احوالهم على مضامينه، ويدركون خطأهم وسوء فعلهم باتباع الظالم لذا ترى نفراً منهم يتخلون عنه فجأة او يعملون على الإبتعاد عنه.
ودعت الآيات القرآنية الناس للانصات للمثل القرآني ، وعدم التفريط بما فيه من الدلالات والمضامين القدسية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوالَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ]( ).
في بيان عجز الناس وان اجتمعوا عن خلق الذباب، وعدم قدرتهم على استرداد ما يأخذه منهم الذباب مع قلته وصغره وعدم أهميته، لان الذباب لايأخذ الجواهر وما له قيمة، ومع هذا لايستطيعون استرداده منه، في إشارة إلى عجز الأصنام التي يعبدون ،قال تعالى [ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ].
والذباب حشرة ، ومن عالم الحيوان الذي يكون على مراتب متفاوتة، وتلتقي افراد الممكن والحيوانات في الضعف ، وان كان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متباينة في الحجم والقوة والأعضاء وغيرها ، وفيه دلالة على ملازمة الضعف للإمكان ، وإنحصار القوة بواجب الوجود قال تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( )، فيأتي المثل القرآني ليكون مدرسة في علم الكلام، وفيه فضح للكفار، وبيان ضعفهم وعجزهم.
فمن باب الأولوية انهم لايستطيعون إسترداد الأرض التي يأخذها المسلمون عنوة او صلحاً ولايحصل ارتداد للافراد الذين هجروا الكفر ودخلوا الإسلام.
فصحيح ان المثل جاء في الذباب الا انه يبين ضعف ووهن الكفار وما يعبدون ، ومن أسباب ضعفهم ذهاب أموالهم عدم تحقق أي غاية مما ينفقونه من المال، وفيه دعوة للحفاظ على الأموال، والمنع من التفريط بها، وينحصر حفظها بالايمان واخراج الحقوق الشرعية الذي هو نماء لها.
وتتجلى مباحث الصلة بين امثلة القرآن، بأخذ كل مثل على نحو مستقل ثم دراسة صلته مع الامثلة الأخرى دراسة مقارنة او بقانون التفسير الذاتي للقرآن واتحاد المثلين في الموضوع والحكم، وكما يدل ذم الكفار في مفهومه على مدح المؤمنين، والثناء على حسن الخلق بذم الافعال القبيحة فان المثل القرآني مدرسة بمنطوقه ومفهومه وبالمعنى الاعم الذي يكون مقدمة لاستنباط المسائل والاحكام منه.
قانون أثر المثل القرآني
هناك تباين وتغاير بين الكلام وأثره، فالكلام غير الأثر، ولكن الصلة والتداخل في الموضوع ظاهر بينهما، خصوصاً وان الأثر فرع المؤثر ، ومترشح عنه، ويحتمل اثر الكلام مطلقاً وجوهاً:
الأول: وجود أثر نافع للكلام.
الثاني: وجود أثر عكسي وسلبي للكلام.
الثالث: عدم وجود أثر للكلام سواء كان لغواً او ذا قصد وغاية.
وتتصف آيات القرآن بوجود أثر نافع لكل آية منها، من وجوه:
الأول: إستدامة أثر الآية القرآنية الى يوم القيامة وعدم انحصاره بزمان مخصوص.
الثاني: العموم المكاني لأثر الآية القرآنية، فلم ينحصر أثرها ، وما فيها من المعاني والبراهين باهل مكة والمدينة أو سكان الجزيرة ، بل هو شامل لكل أمصار العالم.
الثالث: شمول أثر الآية القرآنية لكل ميادين الحياة، وهو من مختصات القرآن وشاهد على إعجازه.
فليس من ميدان او موضوع الا وتجد مايخصه ويصلحه في القرآن وثنايا آياته المباركات، ليكون فيه غنى لكل مسلم ومسلمة.
ومن أسرار الحياة الدنيا تشعب وتفرع المواضيع فيها ، ومع هذا فان القرآن يسعها جميعاً، ويجد المؤمن ضالته في أحكام الآيات ويكون كلام لله هادياً وإماماَ له في المواضيع المختلفة ، وهو من الأثر النافع للآية القرآنية، وفيه دلالة على أمرين:
الأول: حاجة الانسان لله تعالى.
الثاني: تفضل الله تعالى بتيسير وقضاء حاجة الإنسان .
ومنه نزول القرآن والأثر المبارك لكل آية ، ومافيها من البينات ، ومنه المثل القرآني وما له من الدلالات، وهو نعمة من عندالله، ومن خصائص النعمة الإلهية انها تأتي تامة كاملة تغني الانسان وتسد حاجته وتجعله غير محتاج الى غيرها في موضوعها ، لذا جاء المثل القرآني جلياً واضحاً في المشبه والمشبه به وموضوع التشبيه، ولطفاً الهياً بالناس جميعاً ، ومن وجوه اللطف الإلهي في المثل القرآني أمور:
الأول: ذكر الايمان وآثاره بصفة المدح الحسية التي يدرك مضامينها كل إنسان.
الثاني: ترغيب الناس بالإسلام بالمثل الحسي القريب من مداركهم وافهامهم.
الثالث: بعث الناس على الشوق الى العمل الصالح والإنفاق في سبيل الله بذكر مافيه من النفع والثواب كما في قوله تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ].
فقيدت الآية الإنفاق بانه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لتكون الغاية الحميدة حاضرة عند الإنفاق بما ينفع في تثبيت دعائم الإسلام، وفي آية أخرى بيان لمضاعفة الثواب والأجر في الانفاق ، قال تعالى [كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( )، ولم يستغرب احد من المسلمين مضامين هذا المثل، كما انه لم يرد احتجاج من الكفار عليها.
وتلك آية اعجازية في المثل القرآني اذ يأتي في طرف المشبه به بما يفوق الأمر الواقعي ، والآية أعم في موضوعها وإعجازها من وجوه:
الأول: الإخبار عن علم الغيب، وما يحصل في مستقبل الأيام.
الثاني: الإشارة الى ما تؤول اليه الزراعة بتوظيف العلم والتقنية والوسائط المستحدثة مثل المختبرات والانابيب والاستنساخ.
الثالث: بعث السكينة في قلوب الناس، وطرد الخوف والخشية من الجماعة ونقص الغذاء في مقابل زيادة سكان الامصار او العالم مطلقاً.
الرابع: مناسبة احكام القرآن لكل الأزمنة والأحوال.
الخامس: بيان عظيم فضل الله على الناس ، والنماء والبركة في خيرات الأرض.
السادس: وجود كنوز في الأرض لم تستخرج بعد.
السابع: دعوة الناس الى توظيف العلم في الزراعة.
الثامن: مجئ الآية وموضوع الزيادة في الحنطة باعتبارها غذاء اساسياً للناس جميعاً، وفيه بعث للطمأنينة، ودعوة للشكر لله تعالى واشارة الى حصول الزيادة والنماء في غيرها من المحصولات.
لقد أراد الله عزوجل للآية القرآنية ان تبقى في الأرض بالفاظها وموضوعها واحكامها، وتنفذ الى القلوب ، وتكون حاضرة في الوجود الذهني، وتلازم السلوك والأعمال، وتكون إماماً للجوارح، فجاء المثل القرآني عوناً للمسلمين والناس جميعاً على معرفة أحكام الدين ومايجب عليهم فعلهم، ومالايجوز فعله بلغة المثل وما فيها من التشبيه، ومن خصائص التشبيه اذا كان موضوعه معروفاً عند الناس الرسوخ في الأذهان، والقرب من عالم الافعال.
فجاء المثل في هذه الآية بالريح الشديدة الباردة التي تترك أثرها في المزروعات ويترشح عنها الأثر في النفوس والأسواق بارتفاع الأسعار وحصول الغلاء وندرة الحبوب والخضروات.
وفيه دلالة على ان الإنفاق في الباطل والمعصية يؤدي الى المجاعة او الكساد ليكون المثل القرآني مدرسة ومادة للإعتبار والإتعاظ والعمل بالإحتياط والإحتراز من الريح الباردة والآفات الأرضية والسماوية وادخار الحبوب والمؤون، وبذل الوسع لنجاة الناس من الكفر والإنفاق فيه.
لذا فان طرف المشبه به في المثل الوارد في هذه الآية ليس وهمياً على نحو الإطلاق او ليس له وجود، اذ ان موضوع الريح الشديدة واهلاكها للزرع امر ظاهر ومدرك بالحواس، وهو من المثل القريب الميسور الذي ينتقل اليه الذهن من غير حاجة الى واسطة واستعانة بغيره، ولاينحصر هذا الانتقال بموضوع الريح بل يشمل الصلة بينها وبين الإنفاق في الباطل ليترشح عنه النظر والتأمل في الملازمة بين آثارها، ومعرفة العواقب والآثار الوضعية التي تترتب على إنفاق الكفار في المعصية والباطل.
بحث بلاغي
اختصت مباحث التشبيه بمفاهيم البديع، وقواعد البلاغة وما فيه من تقريبه البعيد، وظهور معاني الألفاظ، وجلاء الغايات، وبيان المقاصد، وجاء المثل القرآني ليكون الرائد في علوم البلاغة، ويتضمن الإعجاز في البيان والبديع في باب التشبيه والمثل ليبقى يتحدى الناس في مضامين التشبيه، ويدعوهم الى تلمس الأسرار الملكوتية في مضامينه ، وهو يشترك مع الأمثال العامة بزيادة المعاني وضوحاً وبهاء وينفرد عنها بأمور:
الأول: صيغة الاعجاز في بلاغته، فلا تستطيع الأمثال ان ترقى اليه.
الثاني: إضفائه صفة القدسية على المثل.
الثالث: معرفة جهة الصدور، وانه نازل من عندالله عز وجل.
الرابع: تنطبق على المثل القرآني عمومات [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( )،فهو منزه من الخطأ او النقص وغير قابل للتحريف في طرفي التشبيه.
الخامس: إستغراق المثل القرآني للوقائع والأحداث الخاصة به.
السادس: تأسيس القرآن لعلوم مستحدثة في فنون البلاغة.
لقد تفضل الله عز وجل بالمثل القرآني ليكون مدرسة تأديبية في عالم التشبيه والامثال، ويساهم في تنقيح اللغات وتهذيب امثالها، ويجعلها وسيلة للصلاح والرشاد، وهو من اللطف الإلهي بالناس جميعاً، وشاهد بان منافع بلاغة القرآن لاتنحصر بعلوم اللغة العربية وحدها التي نزل القرآن بها.
بل هو رحمة بالناس جميعاً، ووسيلة سماوية لتهذيب الألسن وإصلاح المجتمعات بالمثل، ودعوة للناس باختيار الأمثال التي تتصف بالحكمة وتترشح بالموعظة.
قانون فضل المثل القرآني على العربية
من نعم الله على المسلمين والناس جميعاً نزول القرآن باللغة العربية، وتلك آية لم تستوف حقها في البحث والدراسة بعد، ولم تتجلى معالم الآيات والأسرار الخاصة بلغة القرآن واثرها في جذب الناس الى الايمان، ومنع التحريف عن القرآن، وتهيئة أمة تجعل صدورها وعاء دائماً للقرآن.
وهذه النعمة من وجوه الفضل الإلهي على اللسان العربي، وفضل القرآن على اللغة العربية، وشاهد على النعمةالإلهية بلغة القرآن، واكرامها وصيانتها من الاندثار والمحو والزوال.
وتجلت معالم هذا الفضل في زمن تداخل الأمم والحضارات، وتقارب البلدان ، ومفاهيم العولمة بصيانة الفاظ وقواعد اللغة العربية من الشوائب والاقتباس من اللغات الأخرى من غير ان يبذل القائمون عليها والأدباء جهداً كبيراً، او يلاقوا عناء ومشقة في حفظ مفردات العربية، مما يعني ان فضل القرآن على اللغة العربية والقائمين عليها يتمثل بوجوه منها تخفيف المؤونة في حفظ اللغة ، والسلامة من ادران العامية واللهجات الدارجة، وتساهم كل آية قرآنية في هذا الحفظ وحصانة اللغة العربية، وتبدو هذه المساهمة بوجوه وصيغ مباركة منها القراءة في الصلاة.
فان قراءة الفاتحة وسورة كل يوم عشر مرات يومياً ، ومنها القراءة الجهرية وموضوعية اتقان القراءة خصوصاً للإمام آية في حفظ اللغة تنفرد بها العربية من بين اللغات القديمة والحديثة، وهو شاهد على تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم بتعاهد لغة كتابهم الذي انزل على نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودليل على كونهم خير أمة أخرجت للناس، وتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين.
ومن صيغ تعاهد العربية بالقرآن، المثل القرآني الذي هو آية في البلاغة والبيان والبديع، ومدرسة في الحكمة والموعظة، فمن خصائص المثل القرآني مناسبته للوقائع وعند الاحتجاج والإستدلال، مما يجعله حاضراً في الأذهان، وقريباً من النفوس بالاضافة الى إتصافه بسهولة الحفظ والتلاوة لجزئيته من القرآن، واختصاص القرآن بخصوصية سرعة الحفظ وتيسير تلاوة آياته، لذا ترى المسلم حالما يسمع أول المثل القرآني تتبادر الى ذهنه تتمته ويدرك مضمونه.
وفيه عون على تثبيت الفاظ اللغة العربية في الإذهان، وطرد للهجات العامية، وهو وسيلة للارتقاء باللسان الاسلامي العام للنطق بالكلمات القرآنية كتنزيلها.
وهو شاهد على تعدد النفع من المثل القرآني، وعدم انحصاره في موضوعه بل تترشح عنه البركات والمنافع لتشمل اللغة العربية وجذب المسلمين الى تعلم مفرداتها، والحفاظ عليها، فيشترك كل مسلم ومسلمة بتعاهد اللغة العربية سواء بحفظ المثل القرآني او الانصات له، او تلاوته، او قراءته وتعلم مضامينه ومقاصده.
وتلك آية في المثل القرآني وتعدد سبل الإنتفاع منه، إن إنطباق المثل القرآني على الواقع، وحصول الشواهد اليومية التي تدل على صدقه وصحته سبب لحضوره الذهني المتجدد، ومناسبة كريمة لحفظ المسلمين له، وترغيب بتلاوته وقراءته، والميل اليه، واشارة خفية للقلوب المنكسرة بان القرآن كتاب سماوي نازل من عندالله.
ويتضمن المثل القرآني الأسرار العامة التي تشمل المجتمعات كافة، وتتعلق بماهية النفس الإنسانية، وكيفية إصلاحها، ومن وسائل الإصلاح مجئ القرآن بالمثل وعدم انحصار موضوعه بالعقائد بل يشمل عالم الثواب والجزاء الحسن ، قال تعالى [وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ] ( )، في تقريب وصف الحور العين التي تصاحب أهل الجنة بانها كالدر المتلألأ المحفوظ في الصدف لم تصل اليه الأيدي، وفيه أشارة الى أن الحورالعين اخص من العذارى وانها لم تمس الأيدي، ادخرها الله تعالى للمؤمنين في الآخرة .
ليكون هذا الوصف بياناً وشاهداً على عظيم قدرة الله عزوجل وسعة فضله تعالى للمؤمنين والجزاء الذي أعده لهم في الأخرة، وفيه ترغيب بالعفة، وحث على إجتناب الزنا والفواحش، ودعوة للصبر والإمتناع عن المعصية، وإشارة الى الجواهر والدرر وموضوعيتها وحسنها كخلق من خلق الله تعالى، ولاينحصر فضل المثل القرآني على اللغة العربية وحدها ، بل هو فضل إلهي على اللغات المختلفة ، وعلى الناس في مخاطباتهم وصيغ الكلام بينهم.
قانون المثل القرآني تراث للإنسانية
القرآن كنز سماوي في الأرض، وآية ملكوتية تتجلى للناس في آنات الليل والنهار، لايطرأ عليه التغيير، ولا يتخلف عن الزمان، والوقائع والاحداث، ويمتنع عن التحريف، وهو مدرسة الاجيال المتعاقبة وسر النبوة في الأرض، وخزائنه اعم من ان تنحصر بموضوع دون آخر.
ومن هذه الخزائن (المثل القرآني) فهو عالم مستقل، ووسيلة لنشر مبادئ الحكمة، وغرس سنن الفضيلة في النفوس، وبرزخ دون طغيان مفاهيم الضلالة وشيوعها في المجتمعات، ودعوة للإيمان والهداية، وضياء ينير دروب الصالحات ، وآية جعلها الله رحمة للناس جميعاً.
لقد جعل الله عزوجل الإنسان محتاجاً، والحاجة ملازمة للإمكان، وتفضل وانعم عليه وجعل المثل القرآني من وجوه حاجته وسبباً لاصلاحه، وتنزيه المجتمعات من الأخلاق المذمومة، ومن أسرار المثل القرآني ملائمته للأمم والشعوب كافة مع التباين في مشاربها ومذاهبها، وهو أمر ينفرد به المثل القرآني، ومصداق من مصاديق إعجازه وتجلي معاني الرحمة الإلهية في تلاوته وتدارسه والعمل بضامينه.
ومن الآيات ان المثل القرآني ليس ملكاً للعرب وان جاء بلغتهم، ولا للمسلمين وان كان خطاباً سماوياً موجهاً اليهم ذكوراً وأناثاً، بل هو ملك للإنسانية جمعاء ، وفي افراد الزمان الطولية ، والأجيال المتعاقبة لانه فضل من عندالله على الناس جميعاً، فينتفع منه المسلم من وجوه:
الأول: تلاوة المثل القرآني.
الثاني: الأجر والثواب المترتب على التلاوة ، والذي يتعدد بلحاظ تعدد حروف المثل القرآني لان في كل حرف عشر حسنات.
الثالث: الاتعاظ من المثل القرآني.
الرابع: اتخاذ المثل القرآني نبراساً وضياءاً يهتدى به.
الخامس: المثل القرآني سلاح للاحتجاج وتنمية ملكة الجدال بالحق.
السادس: جعل الله المثل القرآني واقية من الأخلاق المذمومة.
السابع: دعوة الناس للإسلام بالمثل القرآني ، ومافيه من معاني الحكمة
أما الكتابي فينتفع من المثل القرآني من وجوه:
الأول: إدراك حقيقة نزول القرآن من عندالله عزوجل.
الثاني: المقارنة بين الأمثلة الواردة في التوراة والإنجيل والأمثلة الواردة في القرآن ، ومعرفة المائز الذي يميز المثل القرآني، وهو من وجوه تفضيل القرآن على الكتب السماوية الأخرى.
الثالث: إجتناب الجدال مع المسلمين لما في المثل القرآني من البيان والحجة والدليل الحسي الملموس .
الرابع: الكف عن محاولات الإضرار بالمسلمين لما في المثل القرآني من فضح لأعداء الإسلام ، وبيان الخزي الذي يلحق بهم، كما في هذه الآية التي اكدت على ضياع الأموال التي ينفقها الكفار في محاربة الإسلام.
الخامس: الكف عن إفتراء الكفار على المسلمين.
السادس: الإمتناع عن تحريف صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة والإنجيل.
اما الكفار الوثنيون فان المثل القرآني ينفعهم من وجوه:
الأول: المثل القرآني شاهد على اعجاز القرآن.
الثاني: فيه دعوة للناس لدخول الاسلام.
الثالث: الاقتباس من المثل القرآني ومن المسلمين، وتعلم الاخلاق الحميدة ، ونبذ الشح والإصرار على الباطل .
الرابع: المثل القرآني حجة على الكفار، وزجر عن المعاصي، ودعوة الى نبذ الكفر والمعصية ، وجاء المثل القرآني في هذه الآية تحدياً لهم وتقدير صيغة التحدي فيه : ماتنفقون في عداء الاسلام يذهب هباء، ويعود عليكم بالخسارة.
الخامس: التعلم من المثل القرآني، خصوصاً وانه لاينحصر بموضوع معين بل يشمل المواضيع والميادين المختلفة.
ان المثل القرآني صاحب كريم للمسلم وواسطة بينه وبين الناس، وسلاح في المعاملة ، ويستطيع كل انسان ان يأخذ الحكمة من المثل القرآني، ويقوده هذا الأخذ الى التبصر في أمور الدين والدنيا، والتمييز بين الحق والباطل.
وسيبقى المثل القرآني مدرسة إنسانية عامة، تعرض دروسها وفصولها على الناس جميعاً، وتتودد اليهم بلغة التشبيه ، وتقريب المعقول بصيغة المحسوس من أجل إصلاحهم وتهذيب نفوسهم، وإعانتهم على تلمس سبل الرشاد.
قانون تعدد وكثرة المثل القرآني
كل آية من آيات القرآن نعمة متصلة ومتجددة، والمثل القرآني نعمة قائمة بذاتها، فمع جزئيته من الآية القرآنية الا ان له شأناً ، ودلالات عقائدية خاصة به.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن ان المثال فيه لم يأت على نحو الأفراد القليلة المتفرقة في السور القرآنية، بل جاء على نحو التعدد والكثرة، وفي هذه الكثرة مسائل:
الأولى: موضوعية المثل القرآني في التنزيل.
الثانية: شمول المثل القرآني للميادين المختلفة.
الثالثة: حمل الانسان على الالتفات الى المثل القرآني، فقد يغفل او ينشغل عن المثل المتحد، ولكن حينما تتعاقب عليه الأمثلة القرآنية فانه يلتفت اليها ، ويتعلم منها.
الرابعة: التدبر في كثرة المثل القرآني، وإستنباط الدروس منها.
الخامسة: الاقرار النوعي العام من الناس بتعدد مضامين المثل القرآني.
السادسة: إقامة الحجة على الناس بكثرة المثل في القرآن كوسيلة للهداية والصلاح والرشاد.
السابعة: الغنى بالمثل القرآني، وعدم الحاجة الى اللجوء الى الأمثلة غير القرآنية، وهو من أسرار الكثرة في المثل القرآني، والإعراض عن غيره.
ان الله عزوجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وجاء المثل القرآني وفق هذه القاعدة من حيث كثرته واستيفائه للمسائل الإبتلائية، وشموله للمواضيع المختلفة.
ومع تعدد أدوات التشبيه، فان كل أداة منها جاءت مرات عديدة في القرآن ومنها الكاف، وكأن، ومثل،ويكون التشبيه في كل مرة مدرسة وموعظة وصلة للربط بين المشبه والمشبه به،بلحاظ الموضوع والحكم المشترك بينهما، فالمتعدد في التشبيه في القرآن مركب،بتعدد كل أداة من ادوات التشبيه فيه.
وجاءت أداة التشبيه (مثل) في هذه الآية مرتين، كما اجتمعت اداتان للتشبيه في كلمة واحدة هي (كمثل)كما ورد في قوله تعالى[وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً] ( ).
لتدل الآيتان مجتمعتين على عدم إنتفاع الكفار من اولادهم واموالهم التي ينفقونها في الباطل، وفي هذا الجمع دلالة على حتمية ضياع ماينفقون وحصول الإرباك في صفوفهم، والفرقة والتشتت بينهم، ويدل على التعدد والكثرة في لغة التشبيه القرآني قوله تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] ( )، وجاء الإطلاق في الآية من وجوه:
الأول: لفظ الناس، ومافيه من إرادة المسلمين واهل الكتاب والكفار الوثنين.
الثاني: الالف واللام في (الناس) التي تفيد الاستغراق والعموم وشمول الناس جميعاً، ولاينحصر موضوعها بايام التنزيل وعهد الصحابة، بل يشمل الاجيال المتعاقبة من الناس.
الثالث: لفظ (كل)في قوله تعالى [مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] وهو سور الموجبة الكلية، وفيه دعوة لتلمس امثال القرآن، وتوكيد صدق العموم فيها.
ولايضر فيه ورود لفظ (من) الذي يفيد التبعيض، لانه يدل على الانتقاء وتوكيد الجزئية التي تتضمن الإشارة إلى العموم من وجوه:
الأول: الكتب السماوية السابقة، ومافيها من الامثال.
الثاني: المواعظ والعبر والدروس المستخلصة من الحياة الدنيا.
الثالث: أمثلة ومواعظ الأمم والشعوب السالفة, وفي امثلة القرآن غنى عن أمثلة غيره.
الرابع: المسائل الإبتلائية التي تواجه المسلمين في جهادهم وعباداتهم، والمعاملات، فان المثل القرآني اعم من التشبيه بما هو حسي واقعي، إذ يتضمن الدلالات العقائدية التي تؤكد إمامته للناس، واخذه بايديهم الى سبل الهداية والنجاة، وهذا الأخذ على قسمين:
الأول: جذب الناس الى الاسلام وفعل الصواب.
الثاني: فعل المسلمين الصالحات وصدق إيمانهم، وهو من تعدد وظائف المثل القرآني وعدم انحصاره بالمسلمين او امة من الامم، بل يشمل الناس في مراحل حياتهم المختلفة، وفي ميادين العقائد والسياسة والاجتماع وغيرها.
بحث عرفاني
لقد أراد الله عزوجل للمثل القرآني ان يكون واسطة للوصول الى طرق الهداية والتلذذ بشم رائحة الجنة بالامثلة التي تذكرها بابهى صورة واحسن تشبيه قال تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ] ( ).
وقد نزل القرآن في الجزيرة وليس من نهر او مجرى متصل للماء، او قصب ( )، فذكرت الآية انهار الجنة بصيغة الجمع لارادة البيان والوصف البديع الذي يبهر الابصار، ويجعل النفوس تعشقه، ويدفعها الى فعل مقدمات الوصول اليه، والعيش في هذا النعيم الخالد ليكون المثل وسيلة سماوية مباركة لجذب الناس الى الايمان وفعل الصالحات بالشوق للأجر والثواب الذي يأتي بالمثل القرآني بصيغ الوضوح والتصريح.
لقد تضمنت امثلة القرآن اشراقات تأخذ بايدي المسلمين في الإرتقاء في سلم المعارف، وتحصيل العلوم واكتناز الصالحات، كما انها واقية من استحواذ النفس الشهوية والغضبية لان امثلة القرآن حاضرة في اذهانهم، وتكون مرآة لهم في اعمالهم ويأتي المثل القرآني احياناً بصيغة الوصف التأديبي والتعليمي والإرشادي كما في قوله تعالى في وصف المؤمنين [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ).
ويتجلى بهاء المثل القرآني في الحرص على الفناء في مرضاة الله في الليل والنهار، والسعي الحثيث في ميادين العبادة والصلاح، وبيان وجوب الإنفاق والبذل في سبيل الله , مواجهة إنفاق الكفار في المعاصي ومحاربة الإسلام.
ويتضمن المثل القرآني الترغيب والزجر ، الترغيب بالعمل الصالح، والزجر عن المعاصي، ومن الآيات اقتران الترغيب والزجر بالشوق والانذار والوعد والوعيد، الشوق الى الثواب الكريم والوعد بالجنة لمن يفعل الصالحات والإنذار من العذاب الأليم والوعيد بالنار يوم القيامة.
ومن خصائص النفس الإنسانية الإنجذاب الى الحسن، والتجافي عن القبيح، فجاء المثل القرآني لبيان حسن الايمان وثوابه، وقبح الكفر وسوء عاقبته بلسان يفقهه كل انسان، ليكون المثل القرآني حجة وصاحباً كريماً وناصحاً مخلصاً لكل من يتلوه او يسمعه لتتغشى قلبه المحبة الإلهية التي تتجلى بالطاعة له، واحراز ملكة الشكر، واستقرارالملازمة بين النعمة وشكرها في نفسه، وهذا الاستقرار واقية من غلبة الهوى على النفس، والالوان المادية على الذهن والغايات ، وبرزخ دون الخروج عن بزة العبودية لله تعالى.
ان المعقولات لاتدرك بالاوهام، والموهومات لاتدرك بالخيالات، والمتخيلات لاتدرك بالحس، فجاء المثل القرآني لتقريب المعقولات برداء الحسيات، ويدل في مفهومه على نفي المتخيلات التي لا أصل لها.
قانون المثل القرآني سلاح
لقد أنعم الله عزوجل على المسلمين خاصة والناس عامة بالقرآن، وآياته البينات في الفاظها ودلالاتها، وليس من كلمة فيه الا وهي تنضح بالحكمة، وتترشح منها العلوم، وتدعو الناس الى النهل مما فيها من الاحكام والسنن.
وليس من حد لمصاديق العلوم التي تستنبط من الآية القرآنية، والمنافع العقائدية والاخلاقية لها، ومن هذه المنافع ما يتفرع عن المثل القرآني الذي هو سلاح ذو حدين:
الأول: المثل القرآني آلة للهجوم يسعى الفرد والجماعة الى اقتناء السلاح المناسب والملائم لتحقيق غاياته التي تستلزم السلاح في انتزاع الحق او تحقيق المصالح او دفع الخصم، والسلاح على وجوه واهمها آلة الحرب والقتال، وكل بحسب زمانه ومناسبته، ولكن المثل القرآني سلاح في كل المواضيع والميادين وليس هو آلة حربية كالسيف والبندقية والصاروخ، ولكنه حكمة وموعظة تنفذ الى القلوب ، وتؤثر في المجتمعات والنوايا والغايات.
واذ تستعمل آلة الحرب في الحق والباطل، وقد تتخذ وسيلة للتعدي واستدامة الظلم, فان المثل القرآني لايستعمل الا بالحق والهجوم على الباطل، وازاحته عن النفوس، ومنع الكفر من الإستحواذ على المجتمعات او ظهوره على الألسنة ، وقد يعجز المؤمن عن توفير السلاح الذي يستطيع معه مزاولة وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجذب الناس الى سبل الهداية والايمان فيأتي المثل القرآني ليكون سلاحاً له في الإصلاح والزجر عن الفواحش.
ومما يتصف به المثل القرآني انه سلاح فردي وجماعي، فلا ينحصر الانتفاع منه بالافراد بل يشمل الجماعات والأمة كلها، اذ تتخذ المثل القرآني وسيلة للهجوم على مفاهيم الكفر والضلالة، كما في المثل الوارد في هذه الآية الذي يتضمن خزي الكفار في الدنيا والآخرة، والإخبار عن ضياع أموالهم كلها بالإنفاق بالباطل.
اذ انهم يقومون بتسخير شطر من اموالهم في محاربة الاسلام فتكون النتيجة خسارتهم المعركة وهزيمتهم في القتال، وترك اموالهم غنائم للمسلمين.
الأمر الذي بينته الآية بصيغة المثل الحسي القريب من الأذهان، والمدرك بالحواس والوجدان ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ] ( ).
لتوكيد ضعف بناء الكفار، وان بذلوا الوسع وانفقوا الأموال في نسجه واصلاحه، وقد إبتلى الله عزوجل قوم لوط بريح عاصف فيها حصباء، ومدين وثمود بالصيحة، وقارون بالخسف، وقوم نوح وفرعون بالغرق، وجاء ذكر الريح التي فيها برد في هذه الآية لعموم الكفار، والاموال التي ينفقونها في معصية الله.
فان الصيحة والخسف والغرق من أسباب ومصاديق تلف وهلاك الاموال، وجاء ذكر الريح لتوكيد التلف التام للأموال، وضياع الممتلكات سواء كان بالصيحة او الخسف او الغرق او غيرها، ان وهن وضعف بناء الكفار شاهد على عجزهم عن التغلب على المسلمين، وعدم إنتفاعهم من اموالهم مطلقاً سواء التي يحتفظون بها او التي ينفقونها لانها لاتساعد على تقوية بنائهم وبيوتهم، وفيه بشارة التخفيف عن المسلمين في ضعف ووهن الكفار.
ان لغة التشبيه ذاتها سلاح مستقل لما فيها من تقريب البعيد، وبيان المجمل، وتوضيح المبهم، وجعل الناس يشتركون في تفسير مضامين الآية القرآنية، ويدركون المقاصد السامية منها، ووجودها في القرآن، وشمولها للمواضيع المختلفة كآية تدل على رحمة الله تعالى بالناس.
وشاهد على نزول القرآن من عندالله تعالى بمناسبة المثل القرآني لكل الناس وفي جميع الازمنة والامكنة، فترى المثل القرآني في هذه الآية يأتي سلاحاً هجومياً ودفاعياً في آن واحد.
فمن مصاديق الهجوم فيه وجوه:
الأول: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار والظالمين.
الثاني: الوعيد والتخويف للكفار.
الثالث: ماينزل من بلاء وآفات باموال الكفار هو من عندالله، وتخبر هذه الآية عن عدم مجيئه دفعة وفجأة ، وجاءت بصيغة الإنذار والتخويف، لتكون حجة وزاجراً عن التعدي على المسلمين.
الرابع: تبين الآية للمسلمين إمكان غزو الكفار في عقر دارهم ان كانوا يريدون الهجوم على المسلمين، لأن إنفاقهم وسلاحهم لن يحول دون تحقيق النصر عليهم.
الخامس: الآية حجة في الجدال والإحتجاج على الكفار الذي ينفقون الأموال في المعاصي والتعدي.
ومن مصاديق الدفاع في المثل القرآني كسلاح وجوه:
الأول: بعث السكينة في نفوس المسلمين لما يؤول اليه إنفاق الكفار للأموال.
الثاني: ندب المسلمين الى الدفاع عن أنفسهم ، وعدم الخوف من الكفار وأسلحتهم.
الثالث: رضا المسلمين بما عندهم من السلاح وان لم يكن مكافئاً لأسلحة ومؤون الكفار.
الرابع: إستحضار المثل الوارد في هذه الآية وعاقبة أموال الكفار وما ينفقونه في الباطل.
الخامس: المثل القرآني الوارد في هذه الآية بشارة وقوع أموال الكفار غنائم في أيدي المسلمين، لأنها تخبر عن ضياعها وخسارة الكفار، ومن مصاديق ضياعها وقوعها في أيدي المسلمين عندما يقوم الكفار بالتعدي عليهم وعلى الثغور الإسلامية.
ويأتي المثل القرآني واقية ذاتية من الأدران والحجب الجسمانية، وهو سلاح في المعاملات , والتفقه في الدين ، ومدرسة في الإعتبار والإتعاظ، ويفوز المسلمين بالإنتفاع الأمثل منه قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ] ( ).
قانون إحصاء مواضيع المثل القرآني
يعتبر المثل القرآني مدرسة عقائدية تترشح عنها منافع وفوائد كثيرة ومتعددة في مختلف الميادين، وإذ يمكن إحصاء المثل القرآني بلحاظ تتبعه في آيات القرآن فان منافعه أكثر من أن تحصى وهي من اللامنتهي، والأمور التوليدية المتجددة.
ويشمل هذا التجدد ميادين ومواضيع المثل القرآني وبما يلائم التغيير والتعدد في أحوال الناس وتقلبات الزمان ولكن الغايات الحميدة للمثل القرآني باقية على حالها في الدعوة الى الإيمان بالله ورسوله وإتيان الواجبات ، وإجتناب النواهي ونبذ الشرك والجحود، ويعني إحصاء الأمثال القرآنية توكيد حقيقة عدم إحصاء مواضيع ومضامين ومنافع وميادين المثل القرآني، بل ان ذات الإحصاء له منافع عديدة، وهو حجة وشاهد على إعجاز القرآن من وجوه:
الأول: تعدد المثل القرآني وكثرته.
الثاني: وجود المثل القرآني في سور القرآن، وعدم إنحصاره في سورة واحدة أو سور قليلة ليكون مصاحباً كريماً لمن يتلو آيات القرآن، وحاضراً في الصلاة اليومية عند القراءة للتدبر في معانيه، والتبصر في أمور الدين والدنيا.
الثالث: تبعث كثرة المثل القرآني الشوق في قلب المسلم على تتبعه ومعرفة مضامينه.
الرابع: الكثرة في المثل القرآني لطف إلهي، ونعمة إضافية في باب المثل، لما فيها من الفرصة والمناسبة للتفقه في أمور الدين والدنيا ، والسعي في دروب الهدى، والإبتعاد عن الضلالة وأسبابها.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الفرائض العبادية شاملة للمسلمين جميعاً، يشتركون في أدائها الا ما خرج بالدليل ، فالصلاة مثلاً لا تترك بحال، يؤديها كل مكلف ذكراً كان أو أنثى، ولو على فراش المرض، وجاء المثل القرآني واضحاً في لغته، بسيطاً في معناه كي يشترك الناس جميعاً في فهمه والإنتفاع منه.
السادس: تعدد المثل القرآني وكثرة مواضيعه شاهد على نزول القرآن من عند الله، وإحاطته باللامنتهي من الوقائع والأحداث.
السابع: كثرة مواضيع المثل القرآني حجة على الكفار ، وسلاح للإحتجاج عليهم.
الثامن: تبعث كثرة مواضيع المثل القرآني الفزع والخوف في قلوب الكفار، إذ أنه يلاحقهم في مختلف حالات الحياة.
إن إحصاء المثل القرآني علم مستقل بذاته، ويفتح الباب لعلوم متعددة، إذ انه لا ينحصر بجمع وإحصاء الأمثال القرآنية بين دفتين فحسب، بل يشمل المواضيع التي تتعلق بها هذه الأمثال، وهذه المواضيع على وجوه:
الأول: مواضيع المشبه، كما في هذه الآية التي يكون فيها المشبه هو ما ينفقه الكفار، ومواضيعه على وجوه منها:
الأول: إنفاق الكفار في محاربة الإسلام.
الثاني: إنفاقهم في قتال المسلمين.
الثالث: الإنفاق في محاولة إخراج المسلمين من ديارهم.
الرابع: صد المسلمين عن سبيل الله.
الخامس: بذل المال لمنع الناس من دخول الإسلام.
السادس: الإنفاق في تحريف الحقائق، والأخبار التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة.
السابع: الإنفاق في مؤونة الجيوش التي تحارب المسلمين.
الثامن: الأموال التي تنفق لنشر مفاهيم الكفر والضلالة ، والإفتراء على الإسلام والمسلمين.
التاسع: إعداد الجيوش ، وشراء السلاح في محاولات تثبيت مفاهيم الكفر.
العاشر: إعانة الكفار الآخرين في محاربة الإسلام ، فمنهم من لم يشترك في مقاتلة المسلمين، ولكنه يمد أعداء الإسلام والذين يحاربون المسلمين بالمال والسلاح.
الحادي عشر: تبذير الأموال، وإنفاقها في المعاصي وإرتكاب السيئات.
الثاني عشر: بذل الأموال في السعي لإرتداد بعض المسلمين من ضعيفي الإيمان.
الثالث: المدد والعون بين الكفار للبقاء على ملة الكفر والضلالة.
وإذ يتم إحصاء الأمثلة الواردة في القرآن بخصوص إنفاق الكفار فان مواضيع إنفاقهم المقصودة في القرآن كثيرة ويصعب إحصاؤها، ولكن هذا المثل حجة تتغشى كل مواضيع الإنفاق، ويتضمن الإخبار عن علم الله تعالى بإنفاق الكفار وأثره وعاقبته العاجلة في الدنيا، والآجلة في الآخرة.
الثاني: مواضيع المشبه به التي تأتي واضحة بينة، ينعكس موضوعها على المشبه فيجعله ظاهراً مبيناً للناس جميعاً، وشملت مواضيع المشبه به في القرآن الأمور الصغيرة والكبيرة، والآيات الكونية وما يكون مدركاً ومحسوساً للناس جميعاُ، وجاء في هذه الآية بذكر الريح التي فيها صر وفيه وجوه:
الأول: الريح العاتية التي تهلك الزرع.
الثاني: هبوب الرياح الباردة التي تضر الزرع.
الثالث: مجيء الرياح الشديدة الحرارة التي لا يقوى الزرع على تحملها.
الرابع: الإخبار الإلهي عن وجود رياح عاتية شديدة البرد.
الخامس: الآية بشارة إنتشار الإسلام ووصوله الى البلاد الباردة، إذ كانت أيام التنزيل هناك دولتان هما الدولة الرومانية في الشام وما خلفه، والدولة الفارسية في بلاد فارس، وكلاهما من المناطق الباردة وتتعرض فيها المزروعات الى البرد الشديد، فجاءت الآية للإخبار عن بلوغ الدعوة الإسلامية الى الأمصار والبلدان التي فيها برد شديد، ومعرفة المسلمين بأحوالها ، مع إقتران الدعوة بالبشارة للمسلمين والوعيد للكافرين ، وكأن متعلق المثل الوارد في هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [السَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى] ( ) ، وذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الآية في رسائله إلى ملوك فارس والروم من تفسير السنة للقرآن.
السادس: من إعجاز الآية الإشارة الى حصول التداخل والتقارب بين البلدان، ومعرفة أهل المشرق بأحوال أهل المغرب وبالعكس، وإحاطة الناس في البلدان الأخرى بأحوال غيرهم وما ينزل بهم من البلاء، والبط بينه وبين مضامين المثل في هذه الآية الكريمة .
ومتى ما سمع الناس بهبوب ريح باردة في بلد ما وإحداثها لأضرار فادحة في المزروعات، فانهم يستحضرون هذه الآية ، وما فيها من بيان لعاقبة الكفار، وخسارتهم أموالهم وضياعهم.
السابع: الآية دعوة للمسلمين للإحتراز من الريح الباردة التي تهلك الزرع، وهذا الإحتراز على وجوه هي:
الأول: الدعاء والتوسل الى الله بالسلامة من الآفات الأرضية والسماوية.
الثاني: إتخاذ أسباب الوقاية في باب الزراعات كما في زراعة الخضروات في ضلال الأشجار في هذا الزمان والزراعة المغطاة ونحوها.
الثالث: إدخار الحبوب والمؤون الغذائية لإحتمال حصول تلف في المزروعات ، وهذا الإدخار عون للمسلمين في جهادهم في سبيل الله.
الرابع: الإكثار من الإنفاق في سبيل الله لأنه واقية من الآفات ووسيلة لنماء الأموال.
الخامس: أخذ الحائطة من الريح الباردة في الأبدان والبيوت والعروش والإستعداد لموسم الشتاء.
السادس: موضوعية المناخ المناسب للغزو والهجوم ، وإجتناب تعريض الجنود والغزاة الى الضرر.
الثالث: مواضيع وجه الشبه وما يشترك فيه المشبه والمشبه به ومع أنها جهتية وتخص مضمون التشبيه الا انها متعددة في كل مثل من أمثلة القرآن ، وتكون في الآية محل البحث على وجوه:
الأول: الضرر الفادح من إنفاق الكفار إذ انه يشبه الريح العاتية.
الثاني: عدم وجود نفع في إنفاق الكفار، وهو اذى محض.
الثالث: عودة الضرر على الكفار في إنفاقهم.
الرابع: حصول آثار ونتائج مخالفة لما يتوقعه وينتظره الكفار من الزرع والحرث.
قانون “فاعلية الإنفاق”
الشبه والشبيه هو المثل –بكسر الميم- وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم، والمتشابهات: المتماثلات ، وفي حديث حذيفة وذكر فتنة فقال: تشبه مقبلة وتبين مدبرة( ).
أي ان الأمور تتداخل وتلتبس عليهم في بداية الفتنة، فيندفعون فيها وكل فريق يظن أنه على الحق ويروم الصواب، وإذا أدبرت وأنتهت أحداثها تجلى لهم أنهم على خطأ، وان موضوعها لا يستحق بذل الجهد والأموال وتعطيل الأعمال ونحوه.
والتشبيه في الإصطلاح عقد مماثلة بين أمرين أو أكثر لبيان إشتراكهما في صفة أو جهة مخصوصة أو أكثر من جهة تتجلى بالقرائن، وجاءت هذه الآية لبيان الصلة بين إنفاق الذين كفروا وبين الرياح العاتية الباردة.
فقد جعل الله عز وجل المال عند الناس لقضاء الحوائج وتوفير المؤون ودفع الضرر، وهو زينة وبهجة في الحياة الدنيا ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا].
وتصرف الإنسان بها جزء من الإمتحان والإبتلاء في الحياة الدنيا، وهو موضوع للحساب يوم القيامة، وجاءت هذه الآية بخصوص إنفاق الكفار وكيفية تصرفهم في الأموال التي جعلها الله عز وجل وديعة في أيديهم ليختبرهم، وهذا الإختبار مركب من وجوه:
الأول: الملة والعقيدة، وإيمان الإنسان أو كفره ومرتكز التصرف في المال.
الثاني: القصد والنية والغاية من إنفاق المال، فقد ينفق الكافر ماله في اعانة الآخرين ولكنه لن يتقبل منه، لإنعدام قصد القربة، ولإرادة تثبيت مفاهيم الكفر والضلالة.
الثالث: الحساب يوم القيامة على الأموال جمعاً وإدخاراً وإنفاقاً، وجاءت هذه الآية لتلاحق الكفار في تصرفهم في الأموال.
والأخبار بان قبح الكفر ذاتي وعرضي وان العرضي منه يتعلق بأمور عديدة منها الأموال وإنفاقها، كما ان هجران منازل الكفر والجحود ينجي الإنسان من مضامين التشبيه الواردة في الآية لإختصاصها بالذين يصرون على الكفر، وينفقون أموالهم بقصد البقاء فيها، ومنع الناس من الهداية والرشاد.
وتبين الآية خسارة الكفار لأن الإعجاز والآيات تنفذ الى أعماق المجتمعات وتصل الى القلوب المنكسرة، وتقفز حاضرة في أذهان الناس، وتكون قريبة من حواسهم ووجدانهم.
فلا تستطيع أموال قليلة من الكفار صدها ومنع تأثيرها، فجاء التشبيه في الآية ليحكي حقيقة خسارة الكفار الحتمية فكما ان الريح العاتية الباردة لا تبقي المزروعات والحرث، فكذا الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها لا تبقي للكفر منزلاً ومقاماً، بل تأتي عليه من أصوله وتطرده من مواقعه في النفوس والمجتمعات ، وجاء ذكر الإنفاق للبيان والدلالة.
لذا مثلت الآية الكريمة ذات الإنفاق بالريح الباردة، فلم تشبه الإنفاق بالحرث وان الرياح تأتيه فتهلكه، بل قالت [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ].
فتكون الفاعلية في المثل للإنفاق وما يبذله الكفار من منازل الكفر والجحود فيكون سبباً لهلاك أموالهم ومدخراتهم، وضياع أملاكهم وضياعهم وأفعالهم، وهو إعجاز قرآني فلم تقل الآية “مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم أصابته ريح فيها صر فأهلكته” للإخبار عن مجيء البلاء والإنتقام بخصوص ما ينفقه الكفار، بل ان إنفاقهم نفسه سبب في هلاك أموالهم عامة في الوقت الذي يكون فيه إنفاق المسلمين لأموالهم سبباً لزيادتها ونماءها فضلاً عن نزول البركة في غيرها من المقتنيات والعروض بآية من عند الله عز وجل.
والأصل أن تكون الفاعلية الوضعية للإنسان وهو الذي يتصرف في الأموال من غير خروج عن مشيئة الله عز وجل ، لذا ذكرت الآية الإنفاق ونسبته الى الكفار في بيان لموضوعيته في ترتب الآثار ونزول البلاء الذي وصفته الآية وصفاً بليغاً بالتشبيه بالريح .
ومن الآيات ان الآية لم تقل “كريح” بل قالت “مثل ريح” مع إتحاد اللفظين في التشبيه لأن إرادة التشبيه قد تكون إسماً كما في المقام، وقد تكون حرفاً كالكاف، ولكن ورود “مثل” إشارة الى تعدد وجوه البلاء وان الريح جاءت مثالاً وعنواناً للمتعدد من البلاء والضرر الذي يلحق بالكفار بسبب سوء تصرفهم بالأموال التي جعلها في أيديهم إمتحاناً وإختباراً، وهذا البلاء من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
فان ضياع أموال الكفار أنما يكون بأيديهم، ومن خصائص الإنسان انه حريص على ماله وحفظه ونمائه ويبذل وسعه في زيادته وأعمال الفكر ، وبذل الجهد في بقائه ومضاعفته ويحزن عندما يصيبه النقص، ويفرح عندما يحصل له كسب.
فجاءت الآية الكريمة لجلب المنفعة المالية، وحسن العاقبة والثواب، وطرد الحزن والكدر عن النفوس، وتنحصر المنفعة في المقام بدخول الإسلام ونبذ الكفر، وإجتناب أسباب الضلالة، لذا أراد الله عز وجل في هذه الآية بيان موضوعية الإنفاق في عالم الحساب والثواب.
قانون “دخول الإسلام نماء للمال”
لقد جعل الله عز وجل الإيمان ملازماً للإنسان في وجوده على الأرض، فنزل الإنسان الأرض وليس مع الإيمان ضد من الكفر والضلالة ومصاديقهما، وكانت الحياة فيها فرع الحياة في الجنة ورفقة الملائكة.
ومشاهدة الآيات الإعجازية بالحواس الخمسة، والعقل والوجدان لأن الحياة في الأرض ابتدأت بآدم وحواء اللذين خلقهما الله في الجنة وعاش أياماً في بحبوحتها، ومما يترشح عن الإيمان نزول البركات، وإخراج الأرض خزائنها فعمرها آدم وحواء والصالحون من ذريتهما بالعبادة والإيمان لتنمو النباتات والأشجار.
وقد أنعم الله عز وجل على آدم عليه السلام بالنبوة لتكون لطفاً ورحمة إلهية بالناس جميعاُ لما فيه من أرقى مفاهيم الإيمان، وأسمى أفراد العبادة والطاعة لله تعالى، وبذا فان نبوة آدم عليه السلام حاجة للناس جميعاُ وليس له وحده أو له ولحواء، أو لهما ولأبنائهما الصلبيين، بل للأجيال المتعاقبة من البشر، ليترسخ الإيمان في الأرض، ويكون الكفر عرضاً متزلزلاُ غير ثابت.
وجاءت هذه الآية للإخبار عن إجهاضه ومنعه من الإستحواذ على مجريات الأمور، والقرارات العامة للناس بعجز أقطابه عن توظيف الأموال في إشاعة مفاهيم الكفر والضلالة.
وهذا المنع باب ومدخل لإستدامة الإيمان وعلو لواء الإسلام، وهو قوة غيبية وسماوية لدحض الكفر، وزحزحته عن منازله التي لا يستطيع ان يستقر فيها أصلاً ، وهذه الآية زاجر للكفار، وتحذير من تعديهم على الإسلام ودعوة لدخول الناس الإسلام طوعاً أو قهراً، أما طوعاً فلحكم وإدراك العقل بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه من عند الله، ورؤية الضرر الفادح الذي يلحق بالكفار لبقائهم على ملة الكفر والضلالة، وتوالي الآيات والمعجزات التي تدل على لزوم دخول الإسلام .
أما قهراً فلأن البقاء على الكفر مجلبة للفقر ، وسبب للذل والهوان وباعث على الفرقة والتشتت بين الكفار وعلة لضعفهم وظهور النقص في عدتهم، وإنخفاض أصواتهم وتردي مقاماتهم واذ جاءت الآية بالإخبار عن ضياع أموال الكفار فان آيات كثيرة تؤكد حصول النماء والزيادة في أموال المسلمين، وهو إعجاز يتضمن التحدي المتعدد والمتجدد.
ويبذل الكفار قصارى جهدهم في جمع الأموال والعناية بها ولكن النتيجة الحتمية هي ضياعها وخسارتها، وقد ينشغل المسلمون عن الأموال وجمعها بالجهاد ووجوه العبادة والصلاح ولكن أموالهم في نماء متصل، وزيادة مضاعفة لأن الإنفاق والجهاد في سبيل الله من أسباب نزول البركة في الأموال.
ومن خصائص الإنسان حب إقتناء المال، والإكثار منه، وإدخاره لأيام الحاجة والعسر والشدة، وليكون واقية من الفاقة والعوز وذل المسألة وقد انعم الله عز وجل على الناس بهدايتهم الى أحسن السبل لجمع الأموال وإقتنائها وهو دخول الإسلام وإتيان الفرائض والطاعات، والله بيده مقاليد الأمور وقد أخبر سبحانه عن حصول النماء في أموال المسلمين بلغة المثال بقوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
فجاء المثل القرآني لجذب الناس الى الإسلام، ومحاربة الكفر والضلالة وأٍسبابهما، ويدعو الناس الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلغة الشبه والمثل التي يفقهها كل واحد منهم، وإعجاز وبهان ينفذ الى شغاف القلوب ويستحوذ على النفوس ، ويكون حرزاً وواقية بينها وبين الشيطان وإغوائه.
وفعل العبد أما طاعة أو سفه او عبث أو ضرر، والطاعة تنقسم الى قسمين أما تكون موافقة للتكليف وعلة خلق الإنسان وهي العبادة، أو لا، ودخول الإسلام من الأول بإتيان المأمور ولو ندباً، وترك المنهي عنه ولو كراهة، ليأتي الثواب والجزاء متعقباً للطاعة التي تتجلى بأبهى معانيها بدخول الإسلام والتصديق بنزول القرآن من عند الله.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ومن وجوه الإبتلاء والإمتحان فيها، نقص المال مع الكفر وزيادته مع الإيمان ليكون هذا القانون والتباين عوناً للإنسان وسبباً لإستبصاره وهدايته، ومانعاً من حصول القوة عند الكفار في العدة والعدد، ودعوة للإنسان لتوظيف العقل في إختياره وأفعاله، وندباً لشراء سلامة امواله، والعناية بعياله وأولاده حياً وميتاً بدخوله الإسلام.
اذ ان الإنسان يحرص على ان يترك ارثاً وتركة لأبنائه من بعده تكون عوناً لهم في أمور الدنيا وحاجاتها ، ويأتي المثل القرآني ليهديه الى حفظ الأموال وتركها لأولاده من بعده، وهذا السبيل ينحصر بدخول الإسلام وإتيان الفرائض والعبادات.
قانون المثل القرآني تعليم
المثل القرآني عالم رحب وواسع، يفتح أبوابه لكل الناس، يدعوهم بلسان عربي فصيح، وبمواضيع في التشبيه حاضرة في الأذهان غير غائبة عنها في الليل او النهار، وصلات في التشبيه تحكي الدقة والإعجاز، وتظهر صيغة من صيغ التأديب والتعليم الإلهي للناس .
ويؤكد المثل القرآني حقيقة وهي ان الله عز وجل لم يخلق الناس ويتركهم وشأنهم، بل تفضل بالعناية واللطف بهم، وتهيئة أسباب إصلاحهم وإرشادهم الى سبل الخير والفلاح، وهيء لهم مقدمات التمييز بين الحق والباطل، وعلمهم كيفية المحافظة على الأموال الخاصة والعامة، وأسباب تلفها وزوالها، اذ ان المثل الكريم الوارد في الآية محل البحث لا يتعلق بالأموال الخاصة وحدها، بل يشمل بيت المال وأموال الدولة والمصالح العامة، فيأتي التلبس بالكفر والضلالة عليها كلها، ليكون نقصها أو تلفها جزء علة لزوال دولة الكفر، ومقدمة لعلو ورفعة الإسلام.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن كتاباً سماوياً جامعاً للأحكام ومبيناً للحلال والحرام، ومن صيغ البيان فيه التمثيل والتشبيه ليكون باباً للتعلم والهداية، وإتخذ الإنسان في الأجيال المتعاقبة التشبيه لغة في التعلم والتعليم، وهو وسيلة تتقارب فيها الأمم والشعوب والأفراد في المعارف، وإدراك الموضوع والحكم القرآني بما يساهم في جعلها تقوم بوظائفها العبادية، وتصلح نفسها للآخرة وعالم الحساب .
وفي المثل القرآني ظهور لحجة الإيمان، وإعلان سماوي لسنن الهداية والرشاد ، ودعوة لتغشيها الناس جميعاً.
لقد أراد الله عز وجل للإنسان التعلم والتفقه في الدين، وابتدأ التنزيل بقوله تعالى [إقرأ] وفيه دعوة للتعلم إذ ان الأمر بالقراءة توجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن خلاله الى المسلمين جميعا، والمثل القرآني من القراءة والتعلم، وفيه ربط وإظهار للصلة بين الأحكام والموضوعات والتكاليف والآيات الكونية في آية تشهد على نزول القرآن من عند الله لعجز الخلائق عن إيجاد الصلة والربط بينها وبما يؤدي الى تعلم كل من يقرأ أو يستمع للآيات لمضامين الآية ودلالاتها القدسية، والغايات والمقاصد السامية منها، وهو من عمومات قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
فمن وجوه عجز الخلائق عن الإتيان بمثل سور القرآن مافيها من المثل ومايتضمنه ضروب الحكمة , والأسرار والعلوم التي ينهل منها الناس جميعاً والى يوم القيامة.
ويتضمن المثل القرآني البشارة للمسلمين بالجنة والمغفرة بلغة يعلم معانيها وتعاهدها الناس جميعاً، فتبعث الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين، والحزن والحسرة في قلوب الكافرين، وتكون حجة على الناس جميعاً، فمن لم يتعظ بالأحكام والأوامر والنواهي، تأتيه الامثلة القرآنية لتكون شاهداً عليه في الدنيا والآخرة على لزوم إختيار سبل الإيمان، وهجران الكفر والضلالة، ومنها المثل الوارد في هذه الآية الكريمة الذي هو تعليم محض، وبيان للناس بأن طريق الكفر ماحق للمال، وسبب في هلاك المزروعات وتلف العروض,وخسارة للمدخرات ، وهذه الخسارة مقدمة للخسارة في الآخرة.
فكما رزق الله عزوجل المسلمين فريضة الحج وجعلها محشراً أصغر، وشاهداً دنيوياً على بعث الناس يوم القيامة في أكفانهم ووقوفهم بين يدي الله عزوجل للحساب، ليكون الحج مثالاً عبادياً عملياً، وتوسلاً ووسيلة للمغفرة ونيل الرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة.
ومن الآيات ان الله عزوجل لم يجعل الحج فريضة على المسلمين وحدهم ، بل فريضة على الناس جميعاً ، قال سبحانه [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
لتكون نعمة الحج والانتفاع منها قريبة من الجميع ، ليس بين الانسان وبينها من حاجز الاحاجزين:
الأول: عدم حصول الإستطاعة في الزاد والراحة ويكون فيه المسلم معذوراً وتسقط الفريضة عنه مع نيله ثواب إرادة الحج في حال توفرها.
الثاني: الكفر وهو مانع من أداء الحج ومن قبوله لمن تلبس بالكفر، وسبب في نزول البلاء الإلهي لإختيار خلاف الواجب والتكليف، وقد يكون الإنسان مستطيعاً في حال الكفر، وعندما إهتدى ودخل الإسلام غير مستطيع لأن أمواله أتى عليها الإنفاق في الباطل وسبب تلفها وضياعها، ولا تكون ذمته حينئذ مشغولة بالحج لأن الإسلام يجب ما قبله، وان فوت بالكفر عن نفسه نعمة أداء الحج.
وتفضل الله عز وجل بهذه الآية على الناس ليتدارك الكفار أنفسهم، ويتوبوا الى رشدهم ويمتنعوا عن صرف الأموال في التعدي على الإسلام والمسلمين ويكون هذا الإمتناع مقدمة للإبتعاد عن الكفر والضلالة، ومناسبة للتدبر في حقيقة الحياة الدنيا وكيف انها دار إمتحان وبلاء، وجاء المثل القرآني لإعانة الناس على تعلم ومعرفة مصاديق الإبتلاء فيها ومنها قانون محق الكفر للأموال الذي تتجلى بعض وجوهه بهذه المثل ومافيه من تقريب المعاني والمعقولات بالمثال والتشبيه بالمحسوسات المعروفة عنه الناس جميعاً البر والفاجر، والحضري والبدوي.
وليكون الانسان متعلماً من المثل القرآني ومعلماً لغيره بمضامين ومقاصد المثل القرآني، وقد يكون بعضهم معلماً في مثل، ومتعلماً في أخر سواء بالدور والتبادل بين فردين وجماعتين او بالتعدد، وليأخذ الابن من أبيه، والتلميذ من أستاذه ، والصغير من الكبير او العكس ، وهو من منافع ومفاهيم المثل القرآني ، فيكون بعض الناس مرشداً ومعلماً للآخرين في الإقتباس من المثل القرآني ، والتزود من مدرسته التي تتغشى ميادين الحياة والموضوعات المختلفة، في آية تعليمية فريدة من نوعها في تأريخ الإنسانية وشاهدة على أمور:
الأول: نزول القرآن من عندالله، فلايستطيع إنسان او جماعة او جهة ان تقوم بوضع مناهج المثل القرآني، وما له من الدلالات ، وما فيه من صيغ التعليم.
الثاني: المثل الإلهي رحمة بالناس جميعاً، لأنه وسيلة سماوية لتعليمهم وتفقههم في الدين.
الثالث: إتصاف صيغة المثل القرآني بالتسهيل والتيسير والتخفيف، وجذب الناس لمنازل الهداية والإيمان باللطف وهي أفضل طرق التعليم.
الرابع: إشتراك الناس بالتعلم من المثل القرآني سواء مع تباين مداركهم أو مشاربهم أو بلدانهم وأمصارهم.
ومنه ما ورد في هذه الآية سواء في طرف المشبه او المشبه به أو الصلة بينهما، ففي طرف المشبه يعلم الناس جميعاً من هم الكفار ، واما من طرف المشبه به فان هلاك المزروعات بالريح العاتية الباردة امر ظاهر للعيان، ومدرك بالحواس والوجدان.
وأما الصلة بينهما فان الكفر خلاف التكليف، وتعرض لسخط الجبار، وان الانفاق من منازله جحود بالنعيم، وحرب على الإيمان، ومحاولة لصد الناس عن الهداية والرشاد، وسوء تأديب وتعليم للأبناء والذرية، فيأتي العقاب الإلهي بمحق وتلف أموال الكفار كي تزول الغشاوة عن أبناء الكفار، وغيرهم، ويرى الأحداث والصبيان من صغرهم عاقبة الكفر والإنفاق فيه، ويساعدهم المثل القرآني على التبصر بأمور الحياة، ومعرفة الحاجة الى إختيار الإيمان ونبذ الكفر، وهو من سمى الغايات لأفضل مصاديق التعليم.
قانون المثل القرآني نظام للعولمة
جاءت أمثلة القرآن بمواضيع من الواقع الخارجي، والحياة اليومية، وأٍسباب المعيشة والكسب عند الناس عموماً فليس من مثل الا ويكون طرف المشبه به معروفاً عند الناس جميعاُ، وفيه درس متصل، وآية عقائدية وإجتماعية وأخلاقية ، وإذا أعطى الله فأنه يعطي بالأتم والأوفى، ومنه تغشي المثل القرآني للأجيال المتعاقبة من الناس، وعدم إنحصاره بفريق أو أمة مخصوصة، فمن التمام في نعمة الله عز وجل بالمثل القرآني عدم إستثناء أمة أو جماعة أو أحد من الناس منه.
فيأتي المثل القرآني بشارة لأهل الإيمان وإنذار للكافرين والفاسقين.
وسلاحاً لتثبيت الإيمان في الأرض ووسيلة سماوية لإتساع رقعة الإسلام ، إن مناسبة المثل القرآني موضوعاً وحكماُ للأجيال المتعاقبة من الناس مصداق وسبب للصلة للإلتقاء بينها ، إذ يلتقي المتقدم والمتوسط والمتأخر في الإعتبار والإتعاظ من المثل القرآني.
وكل طبقة وجيل من الناس يرون ان المثل القرآني جزء من واقعهم.
ويحسون بقربه منهم، ومن الأجيال الأخرى السابقة والمتأخرة عنهم، ليكون خيراً محضاً من وجوه:
الأول: انه دعوة لهم للإقتداء بالذين إتعظوا وإعتبروا من المثل القرآني من الأجيال السابقة.
الثاني: أخذ الحائطة والحذر من الإنذارات التي ترد بصيغة المثل في القرآن.
الثالث: السعي الحثيث للفوز بما جاء به المثل القرآني من البشارات.
الرابع: أخذ الدروس الفقهية والعقائدية والأخلاقية من المثل القرآني.
الخامس: إدراك حقيقة وهي ان الأجيال السابقة من المؤمنين إتخذت المثل القرآني ضياء ونوراً في دروب الحياة.
السادس: معرفة أحوال الكفار وسوء عاقبتهم لإعراضهم عن المثل القرآني وما فيه من معاني الحكمة.
السابع: إجراء دراسة مقارنة بين أهل الايمان واهل الكفر بلحاظ إقتباس وتعلم المؤمنين من المثل القرآني، وإصرار الكفار على الغفلة عنه.
الثامن: معرفة الإعجاز في المثل القرآني بلحاظ ترتب الأثر عليه في الأجيال السابقة منه، فمن تعلم منه نجا، ومن تركه وراء ظهره خسر وندم، وهل انتفعت الأجيال السابقة من المثل القرآني الوارد في هذه الآية الكريمة الجواب نعم.
فان هذا المثل أمام يدعو إلى الإيمان، وإنذار من الكفر والإنفاق فيه.
ولا تنحصر الصلة المترشحة عن المثل القرآني بالأجيال المتعاقبة من الناس بل تشمل الصلة بين البلدان والأمصار لتتغشى مضامين الصلة بالمثل القرآني البعد الزماني والمكاني.
فتلتقي أفراد الزمان الطولية، والأمصار المتعددة في عرض الأرض بالنهل والأخذ من عالم المثل القرآني وظهور معانيه على آفاق الزمان، وإصطباغ الارض به ليكون حاضراً في أذهان أهل الأمصار جميعاً من المسلمين وغيرهم ، وفيه شاهد على موضوعية إنتشار المسلمين في أرجاء المعمورة وتلاوتهم للقرآن، ووصول معانيه وتفسيره الى الأمم المختلفة. والمثل القرآني وجه متقدم لتغشي الأرض بحقائق علمية ثابتة، وإشتراك الناس جميعاً في الإقتباس والأخذ منه.
وهو نظام عقائدي للعولمة سابق لهذا الزمان ومتقدم عليه وعلى ما فيه من التقنية ووسائل الإتصال الحديثة، وتأديب سماوي يتغشى الناس جميعاً بمفاهيم كريمة وسنن حميدة ، ويقود الى الرشد والهداية وليس فيه آثار عرضية ضارة، بل هو خير محض سواء بالعنوان الأولي او العنوان الثانوي.
ويقتبس أفراد من أهل القرية او البلد مثلاً العلوم من المثل القرآني فيكنسب منهم الآخرون من أهليهم وأصحابهم ، ويتوجهون لأمثلة القرآن ومافيها من الكنوز والأسرار، ويتدبرون في معانيها، لتكون عنواناً للإلتقاء بين الشعوب والأمم المختلفة في المذاهب والمشارب.
والمثل القرآني إعجاز ودلالة على إلتقاء الناس في العبودية لله تعالى بالإنتفاع من الإفاضات التي تتجلى فيه، فهو ليس نظاماً للعولمة فحسب بل حجة على العالمين،ووسيلة لجذب الناس للإيمان،وسبب لحصول الأخوة الإيمانية بين المسلمين،ومن مقدمات ومصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
وهو شاهد على أن أخوة المسلمين تتم بفضل وعناية من عندالله ومن وجوهها المثل القرآني الذي يجمع المسلمين في إتحاد الموضوع والحكم والدليل وأفراد عالم التشبيه الواسع الذي تتضمنه آيات القرآن ، ومافيها من الأمثلة المباركة التي تدعو الناس الى الإلتقاء في الأخذ منها، وعدم الإعراض عما فيها من الحجج.
وبذا يكون من وجوه الإعجاز في المثل القرآني عالميته وربطه بين شعوب وأمم أهل الأرض، ونشره لمبادئ الفضيلة والعفة بين الناس جميعاً بما يساهم في تهذيب النفوس ، وإصلاح المجتمعات ، وجعل مادة مشتركة بين الناس هي النهل والتزود من المثل القرآني.
قانون المثل القرآني خزينة
تعتبر الآية القرآنية كنزاً وخزينة تترشح منها الدرر واللآلئ العقائدية والإجتماعية، وهي شاهد على أمور:
الأول: حاجة الإنسان للتنزيل.
الثاني: مصاحبة التأديب الإلهي للإنسان في الحياة الدنيا.
الثالث: إقامة الحجة على الإنسان في إنذاره وبشارته.
الرابع: منع الترديد واللبس عند الإنسان في تعيين السبل الصحيحة للهداية والرشاد.
الخامس: محاربة التنزيل للظلم والتعدي بصيغة الوعيد والتخويف ومنها المثل القرآني الوارد في هذه الآية الكريمة، وما فيها من الإخبار عن الآثار العاجلة للإنفاق في المعصية ومحاربة الإسلام بالشواهد الكونية التي يعرفها الناس جميعاً.
السادس: فضل الله عزوجل على الإنسان بقضاء حاجته في التعليم والتأديب.
فالآية القرآنية دليل على ان الله عزوجل لم يترك العباد وشأنهم بعد خلقهم بل تفضل عليهم بآيات التنزيل،وأسناها وأرفعها وأتمها القرآن الكريم.
السابع: كفاية الآية القرآنية لتعليم وإرشاد العبد الى سبل الخير والصلاح، ومن وجوه الكفاية في المقام المثل القرآني الذي يأتي متعدداً في موضوعاته وصيغه وأحكامه.
لقد أراد الله عزوجل للآية القرآنية ان تكون كنزاً وخزينة ينهل منها الناس وهي ملك للإنسانية جمعاء لم تحجب هي أو دررها ومافيها من العلوم عن جماعة أو فئة، ومن وجوه عدم الحجب هذا أمور:
الأول: أهلية كل إنسان لدخول الإسلام، وعدم وضع قيود أو شروط لدخوله.
الثاني: فتح باب التوبة للناس جميعاً، وهداية الناس لها، وإرشادهم الى طرقها ، ومن اللطف الإلهي ان التوبة أمر بسيط وليس مركباً، وهي خالية من التشديد والتعقيد، وجاء المثل القرآني في هذه الآية ليحث على التوبة في مفهومه ببيان اضرار الكفر وعواقب الإنفاق من منازله، كما يفيد الجمع بينه وبين الأمثلة التي وردت في إكرام المسلمين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الدعوة الى الإنتقال الى الإسلام وإنفاق الأموال بقصد القربة الى الله تعالى.
الثالث: مجئ الآيات القرآنية بالمثل المحسوس القريب من الناس جميعاً، والمعروف عندهم في الحياة اليومية العملية.
الرابع: قيام المسلمين بالجهاد بالسيف لإدخال الناس في الإسلام طوعاً وقهراً ، وجعلهم ينهلون من كنوز الآية القرآنية.
الخامس: دعوة الآية القرآنية الناس للإسلام، فهي حكمة وموعظة محضة.
ومن الآيات ان الآية القرآنية ليست خزينة تنتظر الذي يأخذ منها، بل أنها تصل الى الانسان بذاتها، وتدعوه للأخذ منها والإنتفاع مما فيها من العلوم، وتتقرب اليه بتودد.
ومن وجوه التقرب هذا مجئ المثل القرآني بلغة يفقهها كل إنسان، ويدرك معها وجه الصلة بين المشبه والمشبه به، والغايات الحميدة من التشبيه والمثل القرآني.
وتظهر الآية القرآنية حقيقة وهي إن الخزائن السماوية تختلف عن الخزائن الأرضية من وجوه:
الأول: يسعى الإنسان للخزائن الأرضية ، ويبذل الأموال ويهيئ المقدمات والوسائل للوصول اليها.
الثاني: قد لا ينال الإنسان من خزائن الأرض ، ونادراً ما يصل اليها ، وقد لا يجد فيها مايناسب العناء والتنقيب والأموال التي بذلها فيها، وإن وجد فقد تصاحبه الفتنة والإقتتال وزهوق الأنفس .
الثالث: نفاد الخزائن الأرضية الا ما جعل الله عزوجل فيها البركة والنماء والإتصال.
الرابع: إنحصار الإنتفاع من الخزائن الأرضية بنفر قليل من الناس بمقدار الخزينة وأثرها.
اما الآية القرآنية فمن خصائصها كخزينة أمور:
الأول: نيل الإنسان لها ، وإكتسابه المعارف منها من غير عناء وجهد ومشقة.
الثاني: لاينفق الإنسان الأموال من أجل التزود من الآية القرآنية، بل انها تكون وسيلة ومقدمة لكسب المال والنفع العظيم.
الثالث: قرب الآية القرآنية ، ومافيها من الكنوز من الإنسان في أي مكان كان من الأرض.
الرابع: إستدامة النفع من خزائن الآية القرآنية ، وعدم نفاد معانيها ودلالاتها ودررها.
الخامس: إنتفاع الناس جميعاً من الآية القرآنية ، وهم في خزائنها شرع سواء ليس بينهم وبين النهل منها الا دخول الإسلام والنطق بالشهادتين ، كما ينتفع منها غير المسلم ايضاً على نحو الموجبة الجزئية، سواء في إنذارتها او بشاراتها او بالإكتساب من العلوم والآداب التي تتضمنها، لذا جاءت الأمثال القرآنية متعددة وشاملة في موضوعاتها ، لتكون الفائدة من الآية القرآنية عامة وتتغشى الناس جميعاً.
السادس: عدم طرو التغيير او التبديل على الآية القرآنية ليبقى الإنتفاع منها متصلاً دائماً.
السابع: تضمن الآية القرآنية للعلوم والمعارف، وهو من أهم المنافع ومادة مباركة للمكاسب ، ففي الخزائن الأرضية المال والذهب والفضة، اما خزائن الآية القرآنية ففيها العلوم وغذاء النفس وأسباب كسب المال والحفاظ عليه وتعاهده ومنعه من الضياع والتلف ، وقد جاءت الأمثلة القرآنية بلغة الحكمة والموعظة الحسنة ليتسنى لكل إنسان الأخذ والإقتباس منها وان كان فقيراً.
الثامن: تزول وتندثر آثار خزائن الأرض، أما إفاضات ومنافع الآية القرآنية فباقية وفي إزدياد، فمن يعتبر بالآية القرآنية ويتخذها إماماً ويعلن إسلامه تتوارث منه ذريته الإسلام والإقتباس من الآية القرآنية ومافيها من العلوم، فهو بإسلامه يفتح الباب لذريته للتزود من خزائن القرآن ، ويكون قد ترك لهم أصلاً ومنهلاً دائماً للمال والعلم.
التاسع: قد يؤدي المال الى الفساد وسوء التصرف فيه، فجاءت الآية القرآنية لتعليم الناس كيفية الإنتفاع من خزائن الأرض ، وإجتناب إتخاذها للمعصية وركوب الفواحش، لتكون الآية القرآنية ومافيها من الأمثال حرزاً وواقية لما يناله الإنسان من خزائن الأرض والمال مطلقاً، وبذا تتجلى وظيفة قدسية سامية للآية القرآنية ، وقانون ثابت وهو أن الخزينة السماوية تحفظ الخزينة الأرضية.
العاشر: من خصائص الآية القرآنية ترتب الثواب على قراءتها والإستماع لها والتدبر في معانيها، ودراسة تفسيرها والعمل بأحكامها.
فكما هي خزينة سماوية فانها كنز للآخرة ، وزاد يحمله الإنسان معه من غير عناء أو مشقة بل يكون حمله نعمة تبعث الغبطة والسرور في نفس الإنسان، وتجعله يشتاق الى الآخرة ، ولايخشى الموت ومابعده من الأهوال، وجاء المثل القرآني ليؤكد هذه الحقيقة بلغة البيان والتفسير والتفصيل.
يتضمن المثل القرآني صيغة التخويف والإنذار، وقد يكون التشبيه بالفعل ، مع بيان الآية للصلة وجهة الشبه بين المشبه المحسوس والمشبه به الغيبي المعقول، كما في قوله تعالى في قوم عاد [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ] ( ).
فالمشبه به هو العذاب الدنيوي الذي نزل بقوم من الكفار ليكون حجة وآية وعبرة للناس جميعاً، ووعيداً للكفار، وهذا الوعيد مركب من العذاب في الدنيا والعذاب في الأخرة.
اما الأول فكل كافر في معرض العذاب ، والتعرض للبلاء والسخط الإلهي في الدنيا.
واما الثاني فان العذاب واقع بالكفار جميعاً بالخلود في النار، فيكون المشبه به معلوماً من جهات:
الأولى: إرسال ريح ذات صوت ودوي، وباردة تحرق وتهلك بشدة بردها.
الثانية: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار من الريح الشديدة، ويترشح عنه النفرة من علة هذه الريح وهو الكفر.
الثالثة: النحس في المصاديق الخارجية للعذاب ، وخلوها من البركات كما لو كانت ايام جدب وقحط وإبتلاء، وفي باب الإعتبار من المثل القرآني وإصابة الكفار بالفزع منه.
روي ان أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم آتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة ابن ربيعة : والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر ، وعلمت من ذلك علما لا يخفى علي إن كان كذلك . فقالوا : إيته فحدثه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا محمد أنت خير أم قصي بن كلاب ؟ أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ، وتسفه أحلامنا ، وتذم ديننا ؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك . والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ قال : ” قد فرغت يا أبا الوليد ” قال : نعم . ( قال فاسمع منى ) قال يا ابن أخى أسمع . قال [ حم *تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ] إلى قوله : [ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ] ( ) فوثب عتبة ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم ، وناشده الله والرحم ليسكتن ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فجاءه أبو جهل ، فقال : أصبوت إلى محمد ؟ أم أعجبك طعامه ؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : والله لقد تعلمون أني من أكثر قريش مالاً ، ولكني لما قصصت عليه القصة أجابني بشئ والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله : ” مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ” وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئا لم يكذب ، فوالله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب( ).
أي ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تلا عليه سورة فصلت الى قوله تعالى [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ]( ).
فعلم عتبة ان العذاب الشديد سيحل بقريش لإعراضهم عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إستجابتهم لدعوته الى الإسلام مع مجيئه بالآيات ، والبينات الدالة على صدق نبوته، فوصفت الآية العذاب بانه صاعقة نزلت بهم، والصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد، قال تعالى [وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ]( ).
فجاءت الآية بصيغة المضارع ،ويفيد الجمع بين الآيتين إحتمال نزول الصاعقة بقريش عقاباً لصدودهم عن دعوة الإسلام، ولاينحصر موضوع التشبيه بما أصاب الكافرين عموماً من الأمم السالفة، بل هو عام وشامل للكفار في جميع الأزمنة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الرابعة: تشبيه عذاب الآخرة بعذاب الدنيا الذي يتصف بالشدة.
الخامسة: لحوق الذين ينزل بساحتهم عذاب الصاعقة الخزي والذل والهوان.
قانون المثل القرآني وخلافة الأرض
من صفات الله تعالى (الرحمن) و(الرحيم) وهو الرؤوف بعباده،فينشر عليهم شآبيب الرحمة، ويتغشاهم بلطفه وجوده ، ولا تنحصر الرحمة الالهية بالمسلمين وأهل الإيمان، بل تشمل الناس جميعاً، وهو دليل على عظيم قدرة الله تعالى وكرمه وإحسانه، كما إن رحمته تعالى مصاحبة للإنسان في كافة الميادين ، وجميع آنات حياته.
وليس من حد لرحمة الله، ولاشرط او قيد بل هي ملازمة لنعمة الخلق، فلما نفخ الله عزوجل في الإنسان من روحه فانه جعله يمتاز عن المخلوقات بعدم التسخير للمخلوقات الأخرى، بل سخر الله عز وجل قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ] ( ).
وهذا التسخير سر من أسرار نفخ الروح في آدم، وأحكام الخلافة في الأرض ،لذا قالت الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
أي ان مثل هذا المخلوق الذي يفسد ويسفك الدماء كيف تسخر له الأشياء كلها، ولا يسخر هو لشئ من الأشياء ، فمثل هذه المسؤولية العظمى في الأرض يجب ان تكون عند من يكون مؤهلاً للخلافة ، فجاء الرد الإلهي عليهم بان الله يعلم ما لا يعلم الملائكة، وانه سبحانه يبعث الأنبياء وينزل الكتب السماوية لإصلاح الناس وان من مصاديق الخلافة في الأرض إستمرار الصلة بين الله عزوجل وبين الناس من وجوه عديدة منها النبوة والتنزيل والعقل.
وقد تفضل الله سبحانه بالقرآن ليكون الصلة الدائمة الجامعة الكافية المانعة، الجامعة للأحكام، والكافية للإنسان في جميع حاجاته ، والمانعة من الضلالة والكفر والشرك.
والمثل القرآني من خصائص الخلافة في الأرض، موضوعاً وحكماً وأثراً:
الأول: في المثل القرآني تأهيل للإنسان لوظائف الخلافة.
الثاني: يساعد المثل القرآني الإنسان في إصلاح نفسه ، والتبصر في أمور الدين والدنيا.
الثالث: بالمثل القرآني يعرف الإنسان مقامه وشأنه وانه خليفة الله في الأرض.
الرابع: يساهم المثل القرآني في معرفة الانسان لوظائفه العبادية ، ولزوم أدائه الفرائض.
الخامس: يبعث المثل القرآني الشوق في قلب الإنسان للقاء الله تعالى.
السادس: المثل القرآني تذكير بالله تعالى ، وعظيم سلطانه ، وقدرته المطلقة ، وبديع صنعه ، قال تعالى [مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ] ( )، وفيه دعوة للتدبر بالصفات الحسنى لله تعالى وما في القرآن من الإعجاز والأسرار القدسية التي تترشح عنها مسائل لا تحصى في كثرتها ومواضيعها.
السابع: المثل القرآني دعوة وحجة وبرهان ودليل على وجوب عبادة الله وخلع الأنداد، قال تعالى [وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
وجاء في آية أخرى [لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( )، فتلازم صفة السوء الكفار ، لإصرارهم على التلبس بالفعل القبيح، والله عز وجل هو القوي الغني الكريم الذي له الصفات الحسنى، ان مدرسة المثل القرآني آية في علم الكلام وتمجيد الله تعالى.
الثامن: المثل القرآني حرب على الظلم والعتو، ومنه هذه الآية التي تتضمن الإخبار عن خسارة الكفار لظلمهم بإنفاق أموالهم في المعاصي والصد عن سبيل الله تعالى.
وورد عن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم( )، فجاء المثل القرآني رحمة بالخلائق كافة بهداية الإنسان الى سبل الإيمان ونبذ الظلم والتعدي.
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل وجعله حجة باطنة، ومصاحباً ذاتياُ وجزء من خلق الإنسان، وهو من أهم مصاديق الخلافة في الأرض ، ورشحة من رشحات نفخ الروح في آدم، وبه يدرك الإنسان وظائفه العبادية.
وجاء المثل القرآني مخاطباً للعقل الإنساني، وعوناً له في إمامته للجوارح والأركان، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ]( )، وكان الملأ من قريش يسعون لمنع الناس من الإنصات للقرآن وتدبر معانيه القدسية وما فيه من الإعجاز، ويصدون الناس عن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون: ان دين محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويستخفون بالتنزيل وما فيه من الأمثلة فجاءت الآية أعلاه لتوكيد نسبة أمثلة القرآن جميعاُ الى الله تعالى.
وأنه سبحانه هو الذي أنزلها وانها طرق الى معرفة الله، تأتي لتكشف ألفاظه المعاني ، وتقربها الى الأذهان، وتمنع من الإبهام والجهالة والغرر، مع المدح والثناء للذين يتعظون بالأمثال القرآنية ويفقهون مضامينها وما لها من الدلالات ويتخذونها نوراًُ ونبراساً في العمل، وذكر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا الآية أعلاه فقال: العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته وأجتنب سخطه( ).
فيأتي المثل القرآني لبعث الإنسان على العمل وفق إدراك العقل للأمور والإقرار بوجوب عبادة الصانع، وإتخاذ المثل سبيلاً للهداية والصلاح، ومادة لإستدامة الخلافة في الأرض بإقامة شعائر الله وإجتناب نواهيه.
ومن الآيات في خلق الإنسان انه يدرك معاني الكناية والتعريض والإشارة كإدراكه معاني التصريح، وينتفع من المثل سواء كان متكلماً أو مستمعاً.
أما المتكلم فأنه يتخذ المثل وسيلة لبيان مقاصده وغاياته، وما يسعى الى تحقيقه ، ويوفر له المثل الجهد والعناء ويدفع عنه الحرج والمشقة ، والمثل صيغة كريمة لإصلاح الآخرين وتهذيب السلوك وهو وسيلة للذم واللوم من الأذى الى الأعلى ومن المساوي من غير ان يسبب الأذى والغضب والسخط، بل يصح ايضاً من الأعلى الى الأدنى ، وهو عنوان للنصيحة والإرشاد.
أما المستمع فانه يتلقى المثل وكأنه واسطة للعلم والمعرفة، ومادة للتفقه ووسيلة لمعرفة قصد المتكلم مدحاً أو لوماً، وهو لغة للتفاهم بين الناس جماعات وأفراداً، وهذا التفاهم من مصاديق الأهلية للخلافة في الأرض وإصلاح الذات وتنزيه المجتمعات من الأدران.
ويحافظ الإنسان على خلافته بمدرسة المثل القرآني فينهل منها العلوم، ويتزود بالمعارف ، وتكون واقية من أسباب الضلالة ، ومانعاً من تفشي الفساد في الأرض ، وتدل على حاجة الإنسان في خلافته في الأرض الى المدد والعون والتوفيق الإلهي، فيتصرف الإنسان بما أمره الله، ويتجنب نواهيه، ويحرص على سنن الخلافة بالعبادات ، والتقيد بما في المثل القرآني من المعارف والآداب.
قانون المثل القرآني تفضيل لخير أمة
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنعمة لم تنلها أمة من الأمم بان جعلهم خير أمة أخرجت للناس، ولم ترقَ أمة الى هذه المنزلة سواء من الأولين او الآخرين، فهم أفضل الأمم في أفراد الزمان الطولية مطلقاً، ويتجلى هذا الإطلاق بالقيد الوارد في الآية [أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فالخارج الى الناس هو الفاضل، والمخروج له هو المفضول.
فأخرج الله عز وجل المسلمين للناس جميعاً، ويفيد الألف واللام في “الناس” الإستغراق والشمول لجميع الأمم والأجيال المتعاقبة من الناس السابق منهم لنزول القرآن واللاحق له في آية في خلق الإنسان، وبديع الصنع في إصلاحه للعبادة، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
فتتعاهد خير أمة العبادة وتكون منقطعة الى طاعة الله، تتلو آيات التنزيل كل يوم ، وتؤمن بالأنبياء على نحو العموم المجموعي متجافية عن الشرك الظاهر والخفي، وجاء المثل القرآني ليكون من مقومات خير أمة وسلاحاً دائماً بيدها، والإنتفاع منه إذ أن المثل القرآني وسيلة لإصلاح الذات، فعندما يقرأ المسلم المثل القرآني أو يستمع له فأنه يدرك معانيه بلحاظ المشبه والمشبه به، فترسخ في ذهنه أمور:
الأول: المشبه وان كان عقلياً وبعيداً، إلا أنه يصبح حاضراً في الوجود الذهني عند عموم المسلمين.
وجاءت الآية بالتصريح في طرفي التشبيه لإنها إنذار وتخويف للكفار ، ودعوة لهم للكف عن بذل الأموال في محاربة الإسلام والمسلمين، والإمتناع عن إنفاق المال في الباطل واجب ذاتي ، ومقدمة غيرية للتبصر بقبح الكفر ، وإدراك حقيقة لزوم التخلي عنه، فقد ذكرت هذه الآيات بالتصريح أموراُ:
الأول: قصد الكفار الذين يجحدون بالآيات.
الثاني: ذكر طرف المشبه بنحو واضح وجلي، وهو المال الذي ينفقه الكفار.
الثالث: تعيين موضوع الإنفاق وهو الحياة الدنيا، وتضمنه الإشارة الى ماهية الغاية والقصد من الإنفاق وهو إرادة زينة الحياة الدنيا.
الرابع: ذكر المشبه به وهو الريح العاتية التي فيها برد شديد.
الخامس: جهة الشبه بين أموال الكفار والريح العاتية وهي الهلاك والتلف للمال ، وان الإنفاق ضرر ذاتي وغيري.
السادس: ذكر أداة التشبيه وهي لفظ (مثل) مع تكرارها.
الثاني: المشبه به الذي هو من المحسوس والواقع اليومي للناس، ليكون المشبه جلياً واضحاً عند الناس جميعاً، وفيه دلالة على تفضيل المسلمين بإكرام الله عزوجل لهم بإنزال المثل الذي يكون فيه طرف المشبه به معلوماً للناس جميعاً، وعوناً لهم على معرفة ماهية وكنه المشبه، ومافيه من الأضرار العاجلة والآجلة، وإدراك حقيقة علم الله تعالى بالأمور ، وعظيم قدرته وسلطانه.
الثالث: الصلة والوصف المشترك بين طرفي التشبيه.
وأكدت هذه الآية في طرف المشبه على أمرين:
الأول: قبح الكفر وذم الكافرين.
الثاني: سوء عاقبة الإنفاق من منازل الكفر والجحود ليتفقه المسلمون في أحوال الناس، ومذاهبهم وموضوعية إختيار العقيدة والمذهب في الأثر الحاصل من فعل الإنسان والجماعة، ويبعث ذكر المشبه في الآية بصيغة المثل والتشبيه الشوق في قلوب المسلمين لمعرفة موضوع وجهة التشبيه والمشبه به اذ أن إنفاق الكفار يحتمل وجوهاً:
الأول: عدم ترتب الأثر عليه، وكأنه لم يحصل بسبب الكفر والجحود.
الثاني: قبول الإنفاق الذي يتعلق بالإحسان الى الآخرين وإعانة الفقراء ولو من الكفار.
الثالث: لحوق الإثم بالكفار بسبب إنفاقهم الأموال.
الرابع: رجوع الإنفاق على الكفاربالخسارة والضرر الفادح.
والصحيح هو الثالث والرابع، وبه جاءت مضامين المثل الكريم في هذه الآية.
وجاءت محل البحث مصداقاً لكون المسلمين خير أمة من وجوه:
الأول: حمل المسلمين لواء الإنذار والتخويف للناس جميعاً.
الثاني: تلاوة المسلمين لآيات التنزيل.
الثالث: محاربة المسلمين للكفر والضلالة.
الرابع: إنفاق المسلمين في سبيل الله ، الأمر الذي يؤدي الى مواجهة الكفر والكفار ببذل الأموال في طاعة الله، وطرد مفاهيم الكفر والضلالة من النفوس والمجتمعات.
الخامس: يعطي المسلمون درساً ومثالاً واقعياً للناس جميعاً في إنفاقهم في سبيل الله، إذ يقومون بتأديب الناس في باب الإنفاق وتوكيد إطلاق حقيقة ومفهوم العبادة ،ومن مصاديق قوله تعالى [ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، الإنفاق في سبيل الله من وجوه عبادة الله تعالى، لذا فرض الله سبحانه الزكاة حقاً مالياً في الأموال، وهي واجب على كل إنسان يمتلك ما زاد على النصاب ، الا انه لايصح الا مع الإسلام لتقومه بقصد القربة الى الله تعالى.
السادس: حاجة الناس للمسلمين، فإخراج المسلمين للناس ليس عبثاً انما جاء رحمة من عندالله، وهو شاهد على حاجة الإنسان كممكن وهذا الإخراج حاجة للمسلمين والناس جميعاً.
اما المسلمون فان الإخراج مناسبة لنيل الثواب العظيم، وسبب لبقائهم على مرتبة التفضيل، واما غيرهم من أهل الملل والنحل فانهم يتلقون دعوة المسلمين على نحو متصل ومستمر.
وجاءت هذه الآية ليقوم المسلمون بالإنذار والتحذير من الكفر والإنفاق فيه، ومن خصائص خير أمة ان الله تعالى ينعم عليهم ليجعل الواقع العملي مصداقاً لما يتلونه من الآيات والأمثلة القرآنية.
ويظهر المثل الوارد في هذه الآية الوصف والإشتراك بين الأموال التي ينفقها الكفار في المعصية والتعدي وبين الريح الشديدة التي تأتي على الحرث والزرع وتسبب هلاكه، في إشارة الى زوال النعمة عن الكفار، وتعرضهم للفقر والفاقة والحاجة، ليكون هذا الفقر رحمة بهم بإعتباره مناسبة للتدبر في الخلق وحقيقة الدنيا، ووظيفة الإنسان فيها، ولزوم قهر النفس الشهوية وإجتناب إتباع الهدى.
ولاتطرأ على فكر الإنسان الصلة بين الإنفاق في الكفر وبين الريح الباردة التي تهلك الزرع لولا مجئ هذه الآية الكريمة بها موضوعاً وحكماً ودلالة، فمن خصائص المثل القرآني أنه حكم تستقرأ منه مسائل شرعية تشمل الأحكام التكليفية والوضعية.
الرابع: أداة التشبيه التي جاءت بلفظ (مثل) وهو من أبين وأظهر أدوات التشبيه، وورد ذكره في المثل الوارد في هذه الآية مرتين للبيان وتوكيد ربط الانفاق من منازل الكفر بالريح العاتية المهلكة للحرث والزرع، ولاينحصر موضوع أداة التشبيه في الآية الكريمة بل انها لفظ قرآني نازل من السماء، ممتنع عن التحريف والتغيير والإجمال والترديد.
لقد جعل الله عزوجل المثل القرآني آية مستديمة، ونعمة على المسلمين والناس جميعاً، وشاهداً على تفضيل المسلمين، وتوليهم لمسؤوليات من وجوه:
الأول: حفظ المثل القرآني كلغة في الإستدلال والإحتجاج.
الثاني: تعاهد المثل القرآني نصاً ولفظاً.
الثالث: العناية بمضامين المثل القرآني.
الرابع: الإقرار والتسليم بان المثل القرآني حكم وشهادة سماوية.
الخامس: الشكر لله تعالى على نعمة المثل القرآني التي خص الله تعالى المسلمين بها.
السادس: إدراك حقيقة تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الأخرين بالمثل القرآني ومافيه من الدلالات والمواعظ والعبر.
السابع: إنذار الناس بالمثل القرآني ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، فمن مصاديق هذا الخروج تحذير وإنذار الناس ودعوتهم للإسلام بالمثل القرآني.
الثامن: التفقه في الدين، والإرتقاء في المعارف القرآنية بالمثل القرآني.
التاسع: معرفة وجه الشبه والوصف المشترك بين المشبه والمشبه به.
العاشر: تنمية ملكة الربط بين المعقول والمحسوس بلحاظ جهة الإشتراك وإتخاذها وسيلة للثبات في منازل الإيمان والتقوى، ورد شبهات اهل الريب، ودفع المغالطات، وإقامة الحجة على الكفار.
الحادي عشر: التدبر في إعجاز المثل القرآني، وتحدي الكفار به وإتخاذه حجة عليهم، كما في هذه الآية الكريمة التي تخبر عن أمر قطعي مخالف لحسابات الكفار مع انها مستقرأة من الواقع، لان محق أموالهم يأتي وفق قوانين سماوية ثابتة منها ان الكفر مانع من النماء في المال، وان التعدي على المسلمين سبب لتلفها.
قانون المثل القرآني أمر بالمعروف ونهي عن المنكر
جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عبادياً، وخص المسلمين به، وهذا الإختصاص من مصاديق تفضيلهم على الناس جميعاً، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة، فرزقهم سلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي له منافع ذاتية وغيرية، ومن الذاتية إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق والتنزه من العادات المذمومة، وحب الخير للأخوة المؤمنين والناس جميعاً.
ومن الغيرية الدعوة إلى الله، وترغيب الناس بالإسلام، وجذبهم الى منازل الهداية والإيمان، ومحاربة الكفر والضلالة، والأمر والنهي لباس التقوى، وزاد العارفين، ووسيلة الإرتقاء في عالم الملكوت، وهو خير محض، ويأتي على وجوه:
الأول: الأمر باليد، وإستعمال السلاح للإصلاح وترك المحرمات.
الثاني: بذل الأموال في سبل الخير والانفاق في سبيل الله عزوجل .
الثالث: إتخاذ اللسان وسيلة مباركة للدعوة الى الله وذم الكفر والكافرين، وبيان قبح مفاهيم الكفر والضلالة وضرورة هجران الناس لها.
ومن الآيات ان وجوه ومواد وإستعمال سلاح اللسان في الأمر والنهي أكثر من ان تحصى في موضوعها وكيفيتها وأوانها كما أنها من الكلي المشكك الذي يكون على وجوه متفاوتة شدة وليناً، والحاحاً وتنبيهاً، وكناية وتصريحاً، ومنها لغة المثل وهو من أبلغ سبل البيان والتأثير ، ويتضمن في أفراده التصريح والكناية.
فيأتي المثل القرآني على وجوه:
الأول: التصريح والبيان في طرفي المشبه والمشبه به.
الثاني: التصريح في طرف المشبه، والكناية والإرسال في طرف المشبه به، كما في قوله تعالى [مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ] ( )، فجاء التصريح في طرف المشبه، بينما جاءت الكناية في طرف المشبه به في إشارة الى ضلالة الكفار وفقدانهم للبصيرة في أمور الدين والدنيا وإصرارهم على الامتناع عن الإستماع إلى الآيات، وتوكيد ما رزق الله عزوجل المسلمين من التدبر في الآيات ،والعمل بأحكامها ، والتصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنصاتهم لآيات القرآن وما تتضمنه من الحكمة والموعظة.
ومن مصاديق العمى في المقام ان الكافر يعرض عما في المثل الوارد في هذه الآية فينزل به البلاء بتلف أمواله، وخسارة رأس ماله لانه أصر على الإنفاق في الباطل والمعصية ليصدق عليه انه أعمى في أمور الدين والدنيا، اما بخصوص الدين فان الكافر إختار الجحود ، وزيادة الإثم بالإنفاق بالمعصية والتعدي، وأما بخصوص الدنيا فان ضياع الأموال بالإختيار من غير آفة خارجية وسبب قهري عمى وإنعدام للبصيرة ، وفقدان للحكمة وحرمان للنفس من قرينة وبهجة في الدنيا ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الثالث: الكناية والاجمال في طرفي المشبه والمشبه به، وفيه دعوة لإعمال الفكر ووسائط التدبر في المعاني والمقاصد السامية للآية القرآنية، ومنه قوله تعالى [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ]( ).
ليستحضر الإنسان وجوه الخبث ، ويدرك ان الكفر مصدر للاخلاق المذمومة وانه قبيح في ذاته وأثره، والجمع بين الآية أعلاه ، والآية محل البحث يدل على ضياع اموال الكافرين لانها توظف في الإضرار بالنفس والآخرين، فجاء وصف ما يترشح من الكفر من الكلام القبيح والمقاصد السيئة بالشجرة التي ليس لها ثمر ولا نفع بل فيها إضرار باصحابها وبالأرض.
فيكون استئصالها من الأرض حاجة كما انها لاتستطيع الإمتناع عن الاستئصال والزوال ، وكذا اموال الكافرين لأنها غير مستقرة في أيديهم.
وايهما ابلغ في مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمثلة الصريحة ام المرسلة ام الكامنة، الجواب هو كل مثل جاء في القرآن هو الأبلغ بصيغته ودلالته، فحينما يكون المثل صريحاً فهو الأبلغ في موضوعه وحكمه وعندما يكون مرسلاً في موضوع وآية أخرى فالإرسال هو الابلغ، وعندما يكون كامناً في آية أخرى فهو الأبلغ ، والأكثر تأثيراً وأثراً ودلالة.
والمثل القرآني حرب على الشيطان ،وبرزخ دون إستحواذ النفس الشهوية والغضبية، وهو وسيلة لجعل الصلاح سجية ثابتة عند المسلمين، وجزء من واقعهم اليومي المبارك ، وسلاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومانع من قسوة القلب والإستكبار، وزاجر عن الإعراض عن النصيحة .
وتبعث لغة المثل القرآني الحسية الرأفة ، وتزرع اللين في قلوب المسلمين، وتجذب الاسماع ، وفيه صيغة التودد واللطف لتجلي الصلة وجهة الربط بين المشبه والمشبه به للناس جميعاً.
ويمنع المثل القرآني المسلم من القعود عن واجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتقيد العام بموازين الحلال والحرام.
وهو وسيلة للعافية والسلامة من الامراض، وعلاج من الأدران النفسية والبدنية، ويتصف المثل القرآني بسهولة النهل منه واتخاذه سبباً للتعلم والمعرفة والدعوة الى الخير لانه بسيط ويصل الى القلوب، وتطمئن له النفوس.
ويغني المثل القرآني في مواضيع وحالات كثيرة عن الحاجة لاعتماد اليد وأسباب الغلطة في حمل الناس على فعل المعروف واجتناب المنكر، وحثهم على التفقه في الدين.
بل ان المثل القرآني هو تفقه وعلم يبعث على المعرفة، ودعوة محضة الى الله تعالى، وهو شاهد على تفضيل المسلمين على الامم الأخرى في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لانه سلاح سماوي وصيغة مباركة تجذب الناس الى الخير والمعروف وتحذرهم من المعاصي بلغة حسية معروفة وظاهرة عند الجميع.
ولما فيه من التخفيف عن الأمر والمأمور وتأهيل كل مسلم ومسلمة للأمر والنهي باتخاذ المثل القرآني وسيلة للبيان وحجة ظاهرة ، ووسيلة للتمييز بين الخير والشر بلغة قريبة من أذهان الناس، مدركة بالحواس، ليجد الإنسان لذة في تلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحس بالألم إذا تخلف عن غايات ومقاصد المثل القرآني ، لان المثل القرآني يؤدي الى إدراك الملائم والمنافي سواء كان إدراكهما بالفعل او بالحس.
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمثل القرآني من اللطف سواء في ذات الآية القرآنية، او في اتخاذ المسلم له وسيلة في الدعوة الى الخير ونبذ القبيح ليكون لطفاً الهياً بالآمر والمأمور في آن واحد.
ودعوة الناس جميعاً للنهل من كنوز اللطف الإلهي، والتقرب اليه سبحانه سواء بالأمر والنهي، او بالإمتثال للأمر، والإنزجار في النهي.
ومن خصائص المثل القرآني كثرة وتعدد مواضيعه، وهو آية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعون للمسلم في إستحضار المثل القرآني المناسب لموضوع الأمر والنهي.
وقد يحصل المقصود بالاتيان بالمثل وحده من غير ان تصل النوبة الى الأمر الصريح، او الزجر والتوبيخ، لقد جاء المثل القرآني حرزاً لاوامر ونواهي القرآن، ووسيلة لتثبيت مضامينها وإعانة المؤمنين للعمل باحكام الأوامر، وإجتناب النواهي ، وليكون كل مسلم قادراً على الدعوة الى الله، وبلوغ مرتبة من الفقاهة تكون حصانة وواقية له من ارتكاب الذنوب والفواحش.
قانون دلالات المثل القرآني
تلازم الحاجة الإنسان في جميع أحواله وأيام حياته، وهذه الحاجة مقدمة للتعلم وكسب المعارف والخبرات وأسباب النفع الدنيوي والأخروي، وهي مناسبة لإقراره بالعبودية لله تعالى، والحاجة الى رحمته ورزقه، إذ ان الحاجة تذكره بلزوم اللجوء الى الله تعالى والتوجه اليه بالدعاء والمسألة، ويرى الإنسان في أحيان كثيرة تهيء المقدمات والأسباب لإتمام أمر، ولكن يفاجئ بعدم حصوله وتحقيقه لشيء بسيط طارئ لم يكن بالحسبان ليدرك إنتفاء القدرة عنده حتى في شؤون ملكه وعمل الجوارح وما يخصه من الأشياء.
ويبقى المثل القرآني مدرسة في بيان ضعف الإنسان وإمكان تدارك ومواجهة هذا الضعف بالإيمان والتقوى، إذ أن الإيمان حرب على الضعف، والكفر وسبب ومادة لضعف ووهن إضافي يلحق الفرد والجماعة من الكفار.
وجاءت هذه الآية لبيان هذا القانون بلغة المثل التي هي رحمة بالناس جميعاً لما فيها تقريب المعقول الى الأذهان بصيغة المحسوس وجعله مصاحباً للإنسان غير بعيد عنه فقد ترد الحكمة بلغة لا يفهمها الا القليل من الناس بسبب التباين في المدارك والعقول، أو إنشغال الناس عنها، والتفاتهم الى الأمور الواقعية وأٍسباب الكسب والمعاش.
وورد المثل في هذه الآية لغة بليغة في أمور المعاش والكسب لترسخ مضامينه ومقاصده السامية في عقول الناس وتحصل الثمرة بالأثر المعاكس، فإذ يأتي المثل بالمدركات العقلية بصيغة المحسوس فأنه ينقل الإنسان من الحس والواقع الى الأمور العقلية، والإستنتاج والإستنباط، وهذا المثل بيان لسوء فعل وعمل الكفار بإنفاق أموالهم في المعصية والتعدي ، وما يؤدي اليه من تلف أموالهم والإضرار بممتلكاتهم ، لينتقل الإنسان الى إدراك حقيقة قبح الكفر الذاتي والغيري، فتنفر نفسه منه وان كان كافراً، لأن ملازمة الحاجة للإنسان تجعله يحرص على إختيار وفعل ما ينفعه، ويبتعد عما يضره.
لقد أراد الله عز وجل للإسلام البقاء والدوام، وللكفر الزوال والمحو فجاء المثل في هذه الآية عوناً للناس لإختيار الإسلام، ونبذ الكفر، والإبتعاد عن أسباب الهلكة بإجتناب الكفر، ومن الآيات مجئ المثل القرآني بذكر الريح وما تسببه من الضرر الفادح، ويعجز الإنسان متحداً ومتعدداً وما يسخره من الأشياء عن منع الريح من التأثير ، ولا تقدر الأمة على صيانة المزروعات منها، فان قلت قد توصل الإنسان الى الزراعة المغطاة ، ويستطيع معها حفظ مزروعاته، والجواب ان الآية قيدت الريح بأمرين:
الأول: فيها برد شديد.
الثاني: ترتب الأُثر على هذه الريح ، فأنها أهلكت حرث قوم، وهل يمكن إنعدام المصداق العملي لهذا المثل في الأزمنة اللاحقة وحصول الإرتقاء العلمي ، الجواب لا، وهذه الآية شاهد على بقاء مصداقها وهبوب الرياح العاتية التي فيها البرد الشديد، لينفرد المثل القرآني بخصوصية الدوام والإستمرار ، ومناسبته لكل زمان ومكان، وفيه مسائل:
الأولى: انه رحمة بالناس جميعاً.
الثانية: المثل القرآني عون للمسلمين لدعوة الناس للإيمان.
الثالثة: دعوة الكفار لنبذ الكفر وأسباب الضلالة.
الرابعة: في المثل القرآني حجة دائمة على صدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
الخامسة: إستحضار الناس للمثل القرآني عند حصول موضوعه ومصداقه، فمع هبوب الريح الباردة التي تأتي على الزرع يستحضر الناس أموراً:
الأول: غضب الله عز وجل على الكفار، والإنتقال من موضوع الريح الى عمومات العقاب العاجل للكفار، لأن ذكر الريح جاء على نحو المثال.
الثاني: يضر الكفر أهله ، وهو عقيدة فاسدة ، ولكن أثره عام يشمل الزرع والحرث، ويعود بالضرر على صاحبه وعياله وذريته ليدركوا جميعاً قبح الكفر وأضراره العامة.
الثالث: التوقي من الأضرار الطارئة بالإيمان ونبذ الكفر.
الرابع: إدراك الناس لأمور:
الأول: عجز الإنسان عن الإمتناع عن أمر الله عز وجل.
الثاني: اليقين بقانون ثابت وهو ان قدرة الله تعالى مطلقة.
الثالث: لا يستطيع مخلوق أن يرد أمر ومشيئة الله عز وجل.
السادسة: عالمية المثل القرآني، وتعلق مواضيعه بالأحوال الطبيعية والمناخية العامة.
السابعة: دعوة الإنسان لإصلاح نفسه للنجاة من الآفات وأسباب الهلكات والكوارث.
الثامنة: إنتظار نزول البلاء والضرر بالكفار بسبب إصرارهم على الكفر والجحود، وهو من أسباب عزة المسلمين لعلمهم بأن الأموال والغنى الظاهر عند الكفارإنما هو أمر متزلزل ليس بثابت، بينما يكون ما في أيدي المسلمين في نماء وبركة وزيادة متصلة، وما كان في نقصان متصل لا يستطيع محاكاة ومواجهة ما يكون في زيادة دائمة، وهو من وجوه المدد الإلهي للمسلمين وأسباب قوتهم، لذا جاءت الآية بصيغة الإخبار الذي يتضمن الخطاب للمسلمين، وبيان الضرر العاجل الذي يلحق بالكفار ليكون المثل القرآني مدرسة للأجيال المتعاقبة من الناس، يأخذ منه كل إنسان وأمة ما يجعلهم يدركون سوء إختيار الكفر، ولزوم التنزه منه والوقاية من آثاره وأضراره التي لا تختص بالآخرة، بل تشمل أمور الدنيا وأحوال الإنسان فيها ومكاسبه وأسباب رزقه ومعاشه وعياله.
قانون “المثل حفظ وتثبيت لآيات القرآن”
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يبقى دستوراً ثابتاً لأهل الأرض، وشريعة دائمة تكفل للناس العدل والمساواة والهداية والصلاح، ومدرسة جامعة للعلوم والسنن، وقانوناً متكاملاً في أحكام الحلال والحرام يكتفي به الناس ولا يحتاجون معه اللجوء الى غيره، فتفضل وحفظه من التحريف والتغيير وسوء التأويل، فحينما يعجز الذين في قلوبهم مرض عن تحريفه وتبديل كلماته، قد يلجأون الى التغيير والتحريف في تأويله وتفسيره، والأخذ بالمتشابه منه دون الرجوع الى المحكم بغية الفتنة وإثارة أسباب الشك.
فجاء المثل القرآني ليكون من بين الأسباب الكثيرة التي تحفظ القرآن في ألفاظه وموضوعاته وتساهم في تعاهد التأويل الصحيح لآياته، وتمنع من التفسير بالباطل، وساهم المثل القرآني في إِشتراك الناس جميعاً في تفسير شطر من كلمات القرآن، وما لها من المقاصد السامية إذ ان المثل القرآني خطاب موجه للناس جميعاُ على إختلاف مداركهم وإنتماءاتهم لتكون معانيه راسخة في جميع الأذهان، وهو شاهد على أمور:
الأول: القرآن خطاب للناس جميعاً.
الثاني: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالأجيال المتعاقبة من أهل الأرض.
الثالث: يتزود كل إنسان من القرآن طوعاً أو قهراً، ويأخذ من علومه وينتفع من أمثلته.
الرابع: إنفراد المثل القرآني بصفة العالمية، والتوجه الى أهل الأرض جميعاً وفي كل زمان.
الخامس: حث المسلمين على الدعوة الى الله بالمثل القرآني، وإتخاذه وسيلة للخطاب والإحتجاج مع أي إنسان.
السادس: المثل القرآني وسيلة مودة وتقرب الى الناس من المذاهب والملل المختلفة من جهات:
الأولى: يتناول المثل القرآني موضوعاً ابتلائياً عاماً.
الثانية: تعدد دلالة المثل القرآني، ليتمكن كل إنسان من الأخذ منه.
الثالثة: عموم الإنتفاع من المثل القرآني فما من إنسان ذكراً أو أنثى، مسلماً أو غير مسلم، براً أو فاجراً، الا ويأخذ من المثل القرآني ويعتبر منه، وبلحاظ المثل القرآني الوارد في هذه الآية، والجهات أعلاه فان موضوع المثل القرآني يتضمن موضوعاً يتعرض له كل بلد ومصر وقرية ومكان من الأرض، ولا ينحصر موضوعه بالمرة الواحدة بل ان هبوب الرياح الباردة المهلكة للزرع تتكرر عدة مرات في السنة أو مدة العمر، ليستحضر معها الإنسان أموراً:
الأول: المثل الوارد في هذه الآية القرآنية.
الثاني: الآيات القرآنية وتضمنها المواضيع والأمثلة التي تهم الناس جميعاً.
الثالث: إعجاز القرآن وإحاطته باللامحدود من الوقائع.
الرابع: القبح الذاتي للكفر، وما يتفرع عنه من الأضرار.
الخامس: الآثار السلبية والخسارة الفادحة التي تنتج عن إنفاق المال من منازل الكفر والضلالة.
السادس: بعث الخوف والفزع في نفس الكافر من وجوه:
الأول: الإقامة على الكفر.
الثاني: إنفاق المال من منازل الكفر والجحود.
الثالث: محاربة الإسلام والمسلمين ، وصرف الأموال في مواجهة الإسلام مطلقاً أي سواء في أمور الحرب والقتال أو الدعاية والإعلام او التحريض.
الرابع: الخوف من إحتمال حصول الريح الباردة ومجيئها على الزرع والحرث، فصحيح ان الآية جاءت بذكر الريح على نحو التمثيل الا ان هذا لا يمنع حصول حضور ذهني للمثل القرآني عند الناس جميعاً، وإعتبار الناس منه كل بحسبه، وأما المؤمن فيتسلح بالثبات على الإيمان ومواصلة الدعاء للوقاية منه، وأما الكافر فان نفسه تمتلأ فزعاً ورعباً عند هبوب الرياح الباردة، ويعلم انها جاء غضباً من الله عليه، وهي وسيلة سماوية قهرية لدعوته لترك منازل الكفر، والإنفاق في المعصية، وحث لكل كافر على الإمتناع عن الإنفاق في محاربة الإسلام والمسلمين.
السادس: تثبيت معاني ومفاهيم آيات القرآن في أذهان الناس والواقع العملي ولو على نحو الإجمال .
وأما بالنسبة للجهة الثانية وهي تعدد دلالة المثل القرآني ،فانه أي المثل القرآني يتصف بالحضور في المناسبات والوقائع وعند الشدة والسعة والضيق والحرج، لينهل الناس من مدارسه وعلومه، وتتجلى عندهم حقيقة الإعجاز في المثل القرآني.
وبالنسبة للمثل الوارد في هذه الآية فان الناس يستحضرونه في حال هبوب الرياح العاتية، وعند تلف المزروعات، وهو إنذار حاضر للكفار مجتمعين ومتفرقين، وفيه شفاء لصدور المسلمين، وانتظار نزول البلاء بالكفار وإصابتهم بالعجز عن محاربة الإسلام بسبب سوء إختيارهم، وفساد تدبيرهم، وتلف أموالهم.
أما بالنسبة للجهة الثالثة وهي عموم الإنتفاع من المثل القرآني ، فإنه رحمة ورأفة بالناس جميعاً، ودليل على ملازمة فضل الله تعالى للإنسان أيام الحياة الدنيا، وموضوعية المثل القرآني في إصلاح المجتمعات ودرء المفاسد والكدورات والحجب الجسمانية، ويحتمل أخذ الناس من المثل القرآني وجوهاً:
الأول: سعي الناس للأخذ من المثل القرآني.
الثاني: حضور المثل القرآني عند الناس في أحوالهم المختلفة.
الثالث: وقوع الحوادث التي يذكرها المثل القرآني، وإستحضار الناس للمثل القرآني من جهات:
الأولى: مجيء تلك الحوادث في المثل القرآني بصفة المشبه به.
الثانية: النسبة بينها وبين المشبه.
الثالثة: إستنتاج مضامين المشبه وما له من الدلالات فيخاف الكافر من هبوب الرياح الباردة، وينتظر المسلم هبوبها على مزروعات الكافر، ومن الكفار من ليس عنده مزروعات فيخاف عليها هبوب الريح الباردة التي تؤدي الى هلاكها ، فهل يخرج من مضامين الآية الكريمة، الجواب لا، لأن ذكر الريح الباردة جاء من باب المثال وليس الحصر الموضوعي، والغرض منه هو بيان قانون ثابت ، وهو تسبيب الإنفاق من منازل الكفر بتلف أموال الكافر، وصيرورته محتاجاً عاجزاً عن التعدي والظلم والإضرار بالمسلمين، وجاء المثل في هذه الآية لتوكيد هذا القانون، وإستنتاجاته من وجوه:
الأول: تلاوة هذه الآية الكريمة.
الثاني: سماع الآية والمثل القرآني المذكور فيها، وما فيه من مضامين الحكمة والدلالات والمواعظ.
الثالث: حصول المصداق للمشبه به، من هبوب الرياح الباردة التي تهلك المزروعات، ويأتي زمان العولمة ليعمل على توسعة وزيادة إطلاع الناس على الوجوه الثلاثة أعلاه لتعمل مجتمعة ومتفرقة في إصلاح النفوس، ومنع غلبة النفس الشهوية، وزجر الكفار عن الإنفاق في التعدي على ثغور المسلمين، وفيه حفظ لآيات القرآن مع إقرار الناس بنزولها من عند الله عز وجل ولزوم العمل بأحكامها والإعتبار مما فيها من الأمثلة التي تهدف الى إصلاح النفوس، والنجاة في النشأتين.
قانون المثل القرآني موضوع وحكم
من أسماء الله تعالى “الحكيم” وهو الذي اتقن كل شئ، ومن الآيات ان الشواهد التي تدل على الإتقان في صنع الله اكثر من ان تحصى، ولو سخر الانسان عمره كله لإحصاء الشواهد التي تدل على حكمة الله وإتقائه صنع المخلوقات والأشياء لما إستطاع ان يتم إحصاءها وان طال عمره وصدق عليه انه من المعمرين.
ومن وجوه الاتقان في صنع الله خلق السموات والأرض، وعظيم القدرة في كل جزء منها بالاضافة الى استدامتها ودقة انظمتها، ومنه نزول القرآن واحكام آياته والأعجاز في كل آية منها، وتتجلى معاني الاتقان في المثل القرآني متحداً ومتعدداً، وكل فرد منه آية من آيات الله، وسر مكنون إدخره الله عزوجل لخير أمة اخرجت للناس، وهو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة الى الله، وسبب للصلاح وتهذيب النفوس، وموضوع للهداية والرشاد.
ان المثل الوارد في هذه الآية الكريمة، ومافيه من البيان والتوكيد لقدرة الله عزوجل في هبوب الريح الباردة التي تهلك الزرع والحرث، وما تتضمنه من الأشارة الى ان هبوب الرياح بيد الله عزوجل زماناً ومكاناً، موعظة وحكمة بالغة ،والريح في المقام ليست موضوعاً فحسب، بل هي حكم ايضاً بلحاظ تعلقها بالكافر وامواله ، فالآية وان جاءت للتشبيه ولكنها لاتخلو من الدلالات الكلامية والعقائدية.
والأشارة الى العذاب الإلهي بالريح الباردة، ولزوم حذر المسلمين منها بالدعاء والتضرع الى الله تعالى، وهذا الدعاء لايتعارض مع الانتفاع من السبل العلمية التي تخفف من آثار الرياح الباردة التي تضر بالزرع، بل الريح مطلقاً وكل ما يضر بالمزروعات والحيوانات ويؤدي الى نقصها او تلفها ، ويحتاج الحكم الى اطراف ثلاثة:
الأول: الحاكم الذي يفصل ويحكم القضية .
الثاني: المحكوم له، وهو صاحب الحق والدعوى.
الثالث: المحكوم عليه، وهو الذي ينتزع منه الحق ويثبت عليه.
وجاء المثل القرآني بفرد رابع ، فادخل المثل القرآني ليكون طرفاً في القضية والحكم من وجوه:
الأول: المثل القرآني شاهد على الوقائع والأحداث.
الثاني: يفضح المثل القرآني الكافر، ويبين حقيقة ضلالته وجحوده، وبغض الضلالة وبيان أضرارها، فقد يظن الكافر احد أمرين:
الأول: انه ليس بكافر، وهذا الظن بسبب إتخاذه مرتكزاً خاطئاً وعدم التفاته الى ما في عقيدته وملته من الفساد ومعارضة الإسلام.
الثاني: عدم إدراك الكافر لحقيقة خطئه في الإنفاق في الباطل والتعدي على الإسلام .
فيأتي المثل القرآني في هذه الآية لتذكيره ببطلان هذين الظنين، وسوء الفهم عند الكافر ، وهذا التذكير من وجوه:
الأول: حال سماع هذه الآية القرآنية.
الثاني: عند التدبر بما فيها من المثل القرآني.
الثالث: ساعة حصول الريح الباردة التي تأتي على الزرع والحرث.
الرابع: خسارة الكافر أمواله من غير علة ظاهرة ، فقد تتعرض أموال الكافر للتلف من سبب او مقدمات واضحة لهذا التلف.
الثالث: مجئ الحكم في المثل القرآني واضحاً بيناً، وهذا الأمر تختص به أحكام الشريعة السماوية من بين الشرائع الأخرى ، وهو شاهد على تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم، وفيه زيادة في تفقهم في الدين والدنيا.
الرابع: إستحضار الناس المثل القرآني عند الوقائع والاحداث ، وهو أمور اضافية يختص به المثل القرآني وموضوعيته في الحكم منها:
الأول: عدم اختصاص معرفة موضوعية المثل القرآني في الحكم بولاة الأمور ورجال القضاء والحكم والفتوى بل يكون في وسع ومقدور كل انسان منفرداً او متحداً مع غيره افراداً وجماعات، فحينما يتلو او يستمع او يسمع الإنسان هذه الآية يدرك الحكم الخاص بالكافر الذي ينفق امواله في عداء الإسلام والمسلمين.
الثاني: لو قام منافق بانفاق امواله في المعاصي ، وإعانة الكفار على المسلمين فهل تشمله عمومات الآية، الجواب ان مثل هذا الفرد نادر ان لم يكن معدوماً، وعلى فرض وجوده فانه ينال ذات العاقبة التي يتعرض لها الكافر في تلف وخسارة امواله.
لذا جاء المشبه في أول الآية يحمل شائبة الاطلاق مع عطفه على الآية التي قبله، إذ إبتدأت الآية بقوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ] وصحيح ان الواو في ينفقون تعود الى الكفار بلحاظ الآية السابقة الا انها تبين موضوعية الانفاق في المعاصي والتعدي على المسلمين في علة الحكم، ونزول البلاء وأسباب الهلاك بالمال المنفق وصاحبه، لتتضمن الآية الإنذار والتخويف للمنافقين أيضاً ، وزجرهم ومنعهم من الركون الى الكفار وإعانتهم في السر والعلانية وتسخير الأموال في محاربة المسلمين ، ومحاولات صد الناس عن الإسلام.
ولو كان هناك مسلم عاص ينفق من أمواله في المعصية والفواحش كشرب الخمر والزنا والعياذ بالله فهل تشمله أحكام الآية الكريمة الجواب لا، لأن موضوعها خاص بالكفار وإتخاذ الأموال وسيلة للتعدي على الإسلام والمسلمين، ولكن هذا المسلم يؤثم ، وقد لا ينجو من البلاء والعقاب العاجل والآجل في ماله وبدنه.
لقد جاءت الآية بخصوص الكفار وإنفاقهم الأموال في المعاصي والتعدي بنية الكفر وإيذاء المسلمين، وصد الناس عن أسباب الهداية لتتجلى وتتضح في الآية أمور هي:
الأول: موضوع الآية وهو إنفاق الكفار أموالهم في التعدي والظلم.
الثاني: دلالة المثل القرآني في الآية على تعرض أموال الكفار للتلف بسبب إنفاقه في الباطل.
الثالث: الملازمة بين إنفاق الكافر وتلف أمواله، ليدرك الناس جميعاً لزوم الإمتناع عن الإعانة ، وبذل الأموال في التعدي على المسلمين، وان الله عز وجل ينتقم لهم من عدوهم الذي يكيد لهم ويجهز الجيوش للإضرار بهم، فكما ان الريح العاتية الباردة لا يقدر عليها الا الله في حصولها وإستدامتها وسكونها، فكذا العقاب النازل بالكافر فانه يأتي من عند الله بوجوه:
الأول: حصول أسباب ومقدمات وحوادث تؤدي الى تلف أموال الكفار.
الثاني: تسليط المسلمين على الكافرين ، ووقوع أموالهم غنائم في أيدي المسلمين كما في شواهد كثيرة في التأريخ خصوصاً في أيام نزول القرآن، ومنها فضل الله على المسلمين في تنزيه المدينة ومكة وما حولهما من أعداء الإسلام الذين ينفقون اموالهم في محاربة الإسلام والمسلمين، وتلك خصوصية تنفرد بها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين النبوات جميعها، وهي شاهد على تفضيله على الأنبياء الآخرين، ودليل على إعتبار المسلمين خيرأمة أخرجت للناس.
ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأرض الى الرفيق الأعلى الا وقد تغشت أحكام الشريعة السمحاء ، والإنتماء للإسلام أهل الجزيرة، لتكون نواة الدولة الإسلامية، وواقية لحفظ بيضة الإسلام، وينال الإسلام مرتبة العصمة من تحريف مبادئه، وهذه الآية المباركة من أسرار عدم حصول التحريف والتغيير في القرآن ألفاظاَ وكلمات وتفسيراً وتأويلاً .
ومن وجوه تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى مجيء المثل القرآني متقناً محكماً جامعاً للموضوع والحكم والنسبة بينهما ليكون مدرسة جامعة للأحكام، وضياء سماوياً ينير دروب المسلمين، فكما يهتدي الناس ليلاً بالنجوم في معرفة الجهة في الجملة، فان المسلمين يهتدون بالمثل القرآني في إختيار سبل العمل السليم، والنجاة في الدنيا والآخرة.
قانون الإرتباط الشرطي في المثل القرآني
يعتبر كل مثل في القرآن إشراقة علمية تطل على الناس من جهات متعددة، فمع ان المثل متحد فان احكامه وسننه متعددة وشاملة للمواضيع والأحكام من غير تعارض بينها، أو بين الجهات والمسائل المتفرعة عن كل مثل من الأمثلة القرآنية.
ومن الآيات في المثل القرآني ملائمته للنفس الإنسانية ومخاطبته للعقول، وأهليته لإمامة الإنسان في دروب الخير والصلاح والفلاح، وتتجلى نظرية الإرتباط الشرطي في المثل القرآني بصيغ متعددة تختلف عن المتعارف علماً من هذه النظرية المستحدثة التي تبتنى على طرف واحد، إذا حصل أستحضار الإنسان للطرف الآخر، كما لو أذن الأذان فان الأذهان تستحضر الصلاة بإعتبار ان الأذان مقدمة لها، وإعلان عن حلول وقتها وأدائها، أما المثل القرآني فانه يتصف بالتعدد وتذكير كل طرف منه بأطراف آخرى من وجوه:
الأول: عند تلاوة أو سماع الآية يستحضر الإنسان أموراً:
الأول: المشبه.
الثاني: المشبه به.
الثالث: النسبة بين المشبه والمشبه به.
الرابع: الصبغة السماوية للمثل القرآني.
فعندما يتلو المسلم هذه الآية الكريمة أو يسمعها الإنسان مطلقاً مسلماً أو غير مسلم يستحضر في ذهنه ما ينفقه الكفار في المعاصي وإعداد العدة ضد المسلمين، والريح العاتية الباردة وما شاهده منها في حياته وأثرها على المزروعات ، ويتدبر فيما إستحدثته هذه الآية من الصلة والنسبة بينهما، وهو إعجاز إضافي للآية ، وفيض ورحمة مزجاة للناس جميعاً.
الثاني: عند وقوع المشبه المذكور في هذه الآية وهو إنفاق الكفار لأموالهم في المعاصي والتعدي يستحضر المسلم وغيره أموراً وهي:
الأول: قبح الإنفاق في الباطل.
الثاني: سوء إختيار الكافر.
الثالث: إنتظار تلف أموال الكافر ولحوق الخسارة به.
الرابع: عدم تحقيق الكفار لأغراضهم من الإنفاق.
الخامس: هبوب الرياح الشديدة البرد الضارة بالإنسان وممتلكاته، ومن الآيات في هذا الزمان عند هبوب الرياح العاتية الباردة إستحضار الإنسان أموراً هي:
الأول: هلاك المزروعات وتلف الأموال التي تستطيع مقاومة الرياح الباردة عروضاً كانت أو جواهر، وقد تأتي العواصف والأعاصير ولكنها لا تتصف بالبرودة أو الحرارة، ومع هذا فانها تسبب الإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
الثاني: مبغوضية الإنفاق بالباطل، وبذل الأموال في الصد عن سبيل الله، فقد جعل الله عز وجل الأموال أمانة مالكية بيد الناس رحمة منه تعالى بهم ، ولتكون وسيلة للإبتلاء في الحياة الدنيا بكيفية تصرف الإنسان فيها، ولزوم إتخاذها وسيلة للعبادة الشخصية والغيرية، أما الشخصية فبالإستعانة بالأموال في أداء الواجبات والمستحبات وإخراج الحقوق الشرعية والإنفاق في سبيل الله وإجتناب المحرمات، وأما الغيرية فبإعانة الفقراء وجعل المال وسيلة لتعظيم شعائر الله، وإصلاح ذات البين، وإتخاذ الأموال واقية للإسلام والمسلمين.
ويأتي هذا المثل ليبين مخالفة الكافر للوظيفة الشرعية في باب الأموال التي جعلها الله عز وجل عنده وتحت تصرفه فينزل به البلاء بهلاك تلك الأموال من غير أن يكون لها بدل أو عوض ، ولو كانت أموال الكافر مزروعات وأستلم قيمتها سلفاً فان هلاكها يجعله مضطراً لإعادة المبالغ التي أستلمها الى أهلها لتكون مصيبته مركبة بآفة أرضية أو سماوية حلت به يعجز عن دفعها.
ومن خصائص مجيء الآية بصيغة الجمع إنعدام التكافل والتعاضد بين الكفار عند حصول التلف في أموالهم لأن الريح تأتي عامة شاملة مهلكة لأموالهم جميعاً فلا يستطيع بعضهم إنقاذ بعضهم الآخر، وفيه مصاديق دنيوية لإنعدام النصرة والشفاعة بينهم في الآخرة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ] ( ).
الرابع: عند تلف اموال الكفار فان الإنسان يستحضر في ذهنه ويجري على لسانه أموراً هي:
الأول: وقوع المصاديق الواقعية للمثل القرآني.
الثاني: تحقق الوعيد الوارد في القرآن للقوم الكافرين.
الثالث: حتمية خسارة الكفار.
الرابع: ثبوت إعجاز القرآن، وما ورد في الآيات السابقة من الإخبار عن عجز الكفار عن الإضرار بالمسلمين.
الخامس: إنزجار الكفار عن التعدي على المسلمين.
السادس:تثبيت المسلمين في منازل الإيمان، وإمتلاء نفوسهم بالبشرى والغبطة.
السابع: إستحضار هذه الآية القرآنية، والمثل الوارد فيها وما له من الدلالات.
الثامن: تلقي أمثلة القرآن بالقبول والإتعاظ منها، لأن صدق وصحة هذا المثل شاهد على صدق أمثلة القرآن الأخرى.
ان الإرتباط الشرطي في أمثلة القرآن ليس نظرية ذات بعد واحد بل هو قانون ثابت متعدد الوجوه والمنافع والدلالات، وهو آية من عند الله تساهم في تأديب المسلمين وتهذيبهم، والعمل باحكام الشريعة وإجتناب النواهي، وهو سلاح ذو حدين ويكون رحمة للناس جميعاً، ليأخذ منه المسلمون الدروس والعبر، وينزجر به الكفار عن التعدي والظلم، ويتدبروا في أمور الدين والدنيا، ولزوم إصلاح انفسهم وهجران منازل المعصية والرذيلة.
ولا ينحصر الإرتباط الشرطي في المقام بموضوع المثل الوارد في الآية بل يستحضر المسلم وغيره ضده الخاص، وما ورد بخصوص إنفاق المسلمين في سبيل الله، فمن بديع الخلق ان الضدين لا يجتمعان، ولكنهما يحضران في الوجود الذهني معاً، بل يكون أحدهما سبباً لإستحضار الآخر مع أدنى مناسبة أو قرينة لهذا الحضور المتعدد، فإذا جاءت ظلمة الليل إستحضر الإنسان ضياء النهار ، وإذ ذم البخل والشح ذكر الكرم وإستحقاق صاحبه للمدح ، وإذا رأى الناس الجبان ذكروا الشجاع وما عنده من صفات الحسن.
وكذا بالنسبة لموضوع المثل الوارد في هذه الآية ، وما فيه من تلف وهلاك أموال الكفار، فانه يذّكر الناس بالإنفاق الذي يكون سبباً لنماء الأموال ويستحضرون معه الوعد الإلهي الكريم بالثواب العظيم لمن أنفق في سبيل الله ، ومنه قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
ليكون الإرتباط الشرطي في القرآن متعدد الوجوه ويؤدي وظيفة ذم الكفر والفعل القبيح مطلقاً ، ومدح الإيمان والفعل الحسن المترشح عنه، فيأتي المثل القرآني في شيء ولكنه يؤدي وظائف متعددة وفي ميادين مختلفة، وفيه شاهد بان الله عز وجل لا يترك العبد متحيراً وان القرآن لا يقف عند ذم المنكر والقبيح، بل يدعو الى الخير والإيمان ، ويبين خصائصه وما له من الحسن الزائد على الذات.
قانون العجز عن إحصاء منافع المثل القرآني
من الآيات في خلق الإنسان قدرته على الحساب وإتخاذه وسيلة للتدبير، ومادة يستعين بها في أمور حياته، ومعاملاته وصلاته مع الناس، وهو خصوصية إنفرد بها الإنسان تدل على بديع صنع الله، وعظيم فضله تعالى عليه.
وشاهد على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض بتوظيف الحساب في طاعة الله، وطلب مرضاته وإجتناب سخطه، ولا ينحصر الحساب والإحصاء في القضايا الشخصية، بل يشمل الأمور النوعية العامة والآيات الكونية كعدد السنين ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] ( ).
والحساب وظيفة من وظائف العقل عند الإنسان الذي جعله الله عز وجل رسولاً باطنياً وحجة على الإنسان، ومادة للحساب والجزاء، فكما يستطيع العقل الحساب والترجيح والإختيار فانه موضوع للحساب يوم القيامة ، وجاء المثل القرآني ليكون عوناً للإنسان في تدبير أموره وحساب الربح والخسارة في كل قول وعمل يقدم عليه.
ولا ينحصر موضوع الربح والخسارة بالحياة الدنيا بل يشمل أمور الآخرة وهو الأهم، وتأتي آيات القرآن تعضيداًً للإنسان في الحساب بما ينفعه في النشأتين، وليس من حصر لوجوه الحساب في مضامين وغايات الآيات القرآنية، وهو من أبواب الإعجاز فيه، وكنز متجدد ينهل منه الناس جميعاً من غير أن يصيبه نقص بل تزداد وتتعدد المسائل التي تتفرع عنه ليبقى الحساب ذاته عاجزاً عن إحصاء منافع آيات القرآن لأنها من اللامنتهي، والأمر إنحلالي إذ تتشعب منه منافع كثيرة في المواضيع والأحكام المتعددة ومنها منافع المثل القرآني الذي جعله الله عز وجل خزينة سماوية تنهل منها الأمم والأجيال المتعاقبة، ويحتمل هذا النهل وجوهاً:
الأول: التساوي والتشابه فيما تأخذه الجماعات والأجيال.
الثاني: النسبة بين ما تأخذه الأجيال من المثل القرآني هي العموم والخصوص من وجه، بلحاظ مسائل الإبتلاء في كل زمان ومكان.
الثالث: التباين في النهل والأخذ من علوم المثل القرآني، فكل جيل يأخذ منه غير الذي تأخذه الأجيال الأخرى، وكل أمة تنتفع منه بكيفية وصيغة تختلف عن غيرها.
الرابع: يتلقى كل جيل ما أخذته الأجيال السابقة من المثل القرآني، ويضيف لها علوماً جديدة يستقرأها ويستنبطها من المثل القرآني تكون تراثاً وثروة باقية في متداول أيدي المسلمين والناس جميعاً، ويطل علينا المثل القرآني كل يوم حال تلاوته والإستماع له بآيات ومنافع أخلاقية وعقائدية وإجتماعية وسياسية عديدة، كما ترد المنافع من ذات الوقائع والأحداث إذ انها مناسبة لإستحضار المثل القرآني الملائم لها والذي يشير اليها والى إتخاذها عبرة وموعظة، ليبقى الإنسان عاجزاً عن إحصاء منافع المثل القرآني لوجوه:
الأول: كثرة وتعدد مواضيع المثل القرآني وشمولها للميادين المختلفة.
الثاني: تجدد مصاديق المثل القرآني العملية، وموضوعيتها في إختيار العبد في أمور الدين والدنيا، وبما يعود عليه بالنفع والصلاح وأسباب الإستقامة.
الثالث: حاجة الإنسان الى المثل القرآني خصوصاً وانه يتغشى المسائل الإبتلائية وحياة الإنسان مطلقاً.
الرابع: المثل القرآني أصل تتفرع عنه أحكام ومسائل عديدة ومتجددة.
الخامس: ملائمة المثل القرآني لواقع وأحوال الناس في الأحكام والمعاملات.
الرابع: موضوعية المثل القرآني في مستحدثات المسائل، حكماً ودلالة وأثراً.
الخامس: المثل القرآني من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فالمسلمون ينتفعون من المثل القرآني بالذات، وينفعون غيرهم بمضامينه القدسية، وبلحاظ المثل الوارد في هذه الآية وبخصوص الوجه الأول أعلاه فان مواضيعه متعددة تشمل المتحد والمتعدد من الكفار وإنفاقهم مطلقاً في التعدي على المسلمين ، وفي ملذات ومباهج الدنيا لذا جاءت الآية بصيغة العموم بقوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
وما يعنيه ذكر الدنيا من الإطلاق والعموم والإخبار بأن الكفار لا يجعلون إعتباراً لعالم الآخرة في إنفاقهم بل يحصرون غاياتهم بالدنيا وزينتها وهذا الحصر من فروع الكفر واسباب تلف الأموال ونزول البلاء، ويدل في مفهومه على لزوم موضوعية عالم الآخرة في الإنفاق وإختيار الصالحات والتسابق في الخيرات وأعمال البر وفيه نماء للأموال.
وملازمة المثل القرآني وما فيه من الوعيد للكفار في الحياة الدنيا وإنفاقهم فيها حجة ،وبرهان متجدد يبقى واعظاً وإنذاراً لهم، وزاجراً عن الأصل والفرع أي عن الكفر والإنفاق من منازله، وبيان لحصر سبيل النجاة منه بالإسلام وإختياره طريقاً لحفظ الأموال، والحيلولة دون تلفها بآفة قاهرة، ويشمل المثل الوارد في هذه الآية وجوه إنفاق الكفار المتعددة، فكل إنفاق من الكافر هو سبب في جعل أمواله عرضة للتلف والهلاك.
ومن خصائص الموضوع في المثل القرآني الإشارة بالمفهوم الى الضد، فما يكون مثلاً في الصالحات يفيد الزجر عن السيئات، وما يأتي بياناً عن قبح الفواحش والسيئات يتضمن في دلالته الندب الى الصالحات والإنفاق في البر والإحسان بقصد القربة الى الله وتعظيم شعائره، لتكون فروع المثل القرآني مستقرأة من جهتين:
الأولى: موضوع المثل القرآني.
الثانية: مفهوم المثل القرآني، وكل قسم يتفرع الى مسائل عديدة ومتجددة، وقد يحترز الكافر ويتدبر في إختيار مواضع ومواضيع إنفاقه، ولكن النتيجة لا تكون الا تلف أمواله أينما وضعها.
وأما بخصوص الوجه الثاني وهو تجدد مصاديق المثل القرآني فان الإنسان يعجز عن إحصائها من وجوه:
الأول: طرف المشبه.
الثاني: طرف المشبه به.
الثالث: النتائج والآثار الضارة بالكفار.
وكثرة إنفاق الكفار في المعاصي وعدم إنزجارهم ، ولموضوعية الكفر في تحقق مصاديق المشبه الوارد في الآية ومجيء الذم على الإنفاق من مواقع الكفر وسوء إختياره كعقيدة فاسدة وباطلة وفيها ظلم للذات والغير، وظهور حقيقة هذا الظلم بدلالة المثل الوارد في هذه الآية على تلف أموال الكافر بسبب كفره وإنفاقها في المعاصي فيلازم الوعيد كل فرد من أفراد إنفاق الكافر، ويكون تخويفاً وتحذيراً له إلى أن يحل به العذاب.
والأصل في الوعيد والتخويف ان يأتي للإخبار عن العقاب الذي يلقاه الكافر في الآخرة، ولكن المثل الوارد في هذه الآية يتضمن الوعيد لعذاب نازل بالكفار في الحياة الدنيا، وفيه آية إعجازية ورأفة إلهية بالناس جميعاً فالكفار لا يؤمنون بالآخرة ، وقد لا يلتفتون الى لغة الوعيد التي تتعلق بعالم ما بعد دخول القبر، فجاءت هذه الآية بالمثل الكريم الذي يتحداهم ويخبرهم عن العذاب في الدنيا بتلف الأموال، وهلاك المزروعات بسبب الكفر والظلم، ليكون هذا الوعيد ومصاديقه زاجراً عن الكفر والضلالة.
فمع كل إنفاق يقوم به الكافر يتجدد الوعيد بالعقاب ويقترب أوان العاصفة والإعصار الذي يأتي على أمواله التي أنفقها أو التي لم ينفقها فان قلت عرفنا ان ما ينفقه الكافر يتعرض للتلف بسبب جعله له في المعصية والتعدي على المسلمين، فما هو السبب والموضوع في تلف أمواله التي لم ينفقها ، والجواب من وجوه :
الأول: الكفر ماحق للمال.
الثاني: تلف أموال الكافر عقوبة عاجلة وإنذار
الثالث: هلاك ما تبقى بيد الكافر من الأموال مانع من إنفاقها في الباطل وفي ذات المعاصي التي أنفق فيها أمواله .
إن الإنفاق في الباطل ليس هو العلة التامة لتلف أموال الكافر بل الكفر والإصرار عليه هو السبب في ضياع الأموال لذا لم تقل الآية “مثل ما ينفقون في الصد عن سبيل الله” بل قالت [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] لإرادة العموم والشمول في الإنفاق وصرف الأموال وليس من حصر لأسباب وكيفيات تلف أموال الكفار والله واسع كريم وبيده مقاليد الأمور، فقد لا تقع أموال الكفارغنائم بأيدي المسلمين ولكنها تصاب بالتلف كنفق الحيوانات، وكساد التجارة، ووقوع الفتنة والقتال بين الكفار أنفسهم، الى جانب الحوادث والكوارث الطبيعية كالفيضانات ، والأوبئة ، والريح العاصفة.
فالريح وان جاءت مثلاً في الآية القرآنية الا انها من المصاديق الواقعية لأسباب تلف أموال الكفار، والشواهد التأريخية كثيرة، فكثيراً ما عصفت الريح العاتية بممتلكات ومزروعات الكفار وإضطرتهم الى هجران قراهم ومدنهم طلباً للقمة العيش في مكان آخر، أو البحث عن مأوى يلجأون اليه.
وجاء المثل القرآني على نحو متعدد ، ومن منافعه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور:
الأول: كثرة المواضيع التي يأتي فيها المثل القرآني وشموله لنواحي الحياة، ليكون حاضراً في الوجود الذهني للمسلم عند القول والفعل والإختيار ، وسلاحاً في الوعظ والإرشاد والأمر والنهي.
الثاني: مطابقة الوقائع والحوادث للمثل القرآني، فيرى الإنسان مسلماً أو غير مسلم الشواهد الواقعية للمثل الوارد في هذه الآية الكريمة، وما يتعرض له الكفار من خسارة الأموال عند إنفاقها في محاربة الإسلام، ومحاولة تثبيت مفاهيم الكفر والضلالة.
الثالث: تكرار إتيان المثل القرآني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن خصائص الآية القرآنية ان موضوعها متجدد وان اذن السامع لا تمل منها، وتشمل هذه الخصائص المثل القرآني، فيكون في إعادته إفادة للمتكلم والمستمع والسامع.
وفي المقام يستمع المسلم الى المثل الوارد في هذه الآية فيصبر على الأذى القادم من الكفار، وينتظر زواله بإنعدام أسبابه وهلاك أموال الكفار ليكون المثل القرآني من العلم التصديقي الذي يعني إنكشاف وحصول النسبة بين المشبه والمشبه به على نحو الثبوت والتحقق، فيزداد المسلم إيماناً ويدرك الكافر سوء إختياره وفعله، ومع هذا فان باب التوبة مفتوح له، وهو من أسباب إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم إنحصاره بالزجر والنهي عن الكفر والإنفاق فيه.
ويعتبر المثل القرآني دعوة الى التوبة مطلقاً عند فعل المعصية وبعدها ، قال تعالى [وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ] ( )،في إشارة الى الذين عبدوا العجل ثم تاب الله عليهم، فعادوا مرة أخرى ليسألوا عن الممتنع على الإنسان تلقيه وهو الرؤية، وفيه دلالة على تجدد باب التوبة، وان العمى والصمم جاء كناية عن الجهل والعناء، وفيه مثل للناس بلزوم التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجتناب الإصرار على طلب المعجزة.
وقد تكون هناك إمارات وقرائن على إرتكاب شخص ما معصية معينة كالسرقة، وانه يزاولها خلسة وعند غفلة الآخرين، ولكن ليس من بينة على إرتكابه للسرقة فيأتي الأمر بالمعروف بالمثل القرآني لإصلاحه وجعله يحترز من السرقة.
والمثل القرآني مانع من وقوع الخلاف والجدال والفتنة بين الآمر والمأمور، إذ ان لغة المثل القرآني تحمل صفة الكناية والتعريض وان كان ذات المثل صريحاً، فقد يخشى المؤمن الكافر الذي ينفق أمواله فيتلو الآية تعريضاً به، وتحذيراً له من غير أن يشعر أنه المقصود بالأمر، لأن التلاوة تقصد لذاتها، ولكنه يدرك مضمون المثل، ويصل اليه الإنذار الذي يتضمنه المثل الوارد في الآية القرآنية.
ومن الآيات الإعجازية في القرآن ووظائفه العقائدية الشاملة للناس جميعاً سماع الكافر عرضاً للمثل القرآني وإدراكه لمعانيه وإحتمال إتعاظه منه.
قانون هلاك أموال الكفار
للتشبيه طرفان، طرف المشبه ،وطرف المشبه به، مع ذكر الوصف المشترك بينهما بلحاظ جهة مخصوصة وان كان أحدهما عقلياً والآخر حسياً، أما المثل القرآني فانه يتصف بخصوصية ينفرد بها في عالم المثال والتشبيه، وهو “الوحي والتنزيل” إذ تتكون أمثال الشعوب بالتجربة والوجدان ويسقط كثير منها، ولكن القليل منها يجد قبولاً عند الناس لمناسبته للطبائع والواقع، ويكون هذا القبول محدوداً زماناً ومكاناً .
وفي العقود الأخيرة سعى بعض الكتاب لجمع وتوثيق أمثال شعوبهم مع شرحها وبيان مناسبتها، ولم يستطع هذا الجمع أن يجعل موضوعية لها في حياة الناس، أما المثال القرآني فأنه ذو صبغة عالمية في موضوعه ودلالته وحكمه، وهو يحفظ القيم والعادات ولا يحتاج الى من يحفظه ويتعاهده أو يخشى عليه من الضياع، لأنه جزء من القرآن وتشمله عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، فقد حفظ الله عز وجل المثل القرآني بلفظه ومضمونه، ومن وجوه حفظ المثل القرآني معرفة الناس كافة بالمشبه به، ومجيؤه بسيطاً واضحاً حتى مع تعدد أفراده كما في هذه الآية إذ جاء المشبه به على وجوه:
الأول: الريح العاتية.
الثاني: في الريح برد شديد، فمن إعجاز القرآن ان الآية لم تأتِ بوصف الريح بانها باردة أو حارة، وقد جاءت آية بوصف ذات الريح بصفة مخصوصة، كما في قوله تعالى [رِيحٌ عَاصِفٌ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ] ( ).
وذكرت هذه الآية الريح على نحو مركب منها ومما فيها من البرد الشديد لبيان الأذى المتعدد الذي يأتي من ذات الريح العاتية ومما فيها من البرد، فالمزروعات التي تقاوم البرد تهلك بالريح السريعة العاتية، والمزروعات التي تبقى حية مع الريح العاتية لذاتها أو بسبب الموانع والأسباب يأتي البرد المصاحب للريح عليها في آية إعجازية تبين السخط الإلهي على الكفار .
وقانون هلاك أموال الكفار التي تنفق في المعاصي بحيث لا يسلم جزء منها، يمكن أن ينتفع منه مرة أخرى في الباطل، وتحقيق الأغراض الخبيثة ليبقى الكفار عاجزين عن التعدي والهجوم على ثغور المسلمين، وان قاموا بالهجوم ونالوا نصراً في معركة فانهم لا يستطيعون المحافظة على هذا النصر، فسرعان ما يدب الضعف والفزع والخوف في نفوسهم ويدركون الحاجة الى الأموال الكثيرة وعجزهم عن توفير الأموال والأسباب الكافية للمحافظة على منازلهم ، وتتعاقب عليهم الخسائر ، ووجوه الإبتلاء بسبب الكفر قال تعالى [وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا] ( ).
فتلحق الخسارة الكفار في أموالهم وشأنهم ومقاماتهم ونقص أعدادهم وتخلي الأعوان عنهم وان قيل لماذا يرزق الله الكفار بما يجعلهم يعتدون ويتخذون أموالهم وسائل وأسباباً للمعصية قلت: ان الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ومن وجوه الإبتلاء فيها توالي النعم والرزق على الناس برهم وفاجرهم ليكون موضوعاً للشكر أو الجحود، والإبتلاء في مال الكافر مركب من وجوه:
الأول: فيه حجة على الكافر ، وشاهد على جحوده بالنعم الإلهية ، قال تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ] ( ).
الثاني: أنه دعوة للتوبة والإنابة، على وجوه:
الأول: من الناس من تكون كثرة أمواله سبباً في توبته وصلاحه.
الثاني: قد يعتبر الذي يبتلى بالفقر بعد الغنى من حاله وما صار إليه، فيتوب الى الله.
الثالث: حث الفقير الذي ليس عنده ما ينفقه في المعصية على الإيمان والتوبة الى الله عز وجل.
الرابع: حصول التلف والهلاك في أموال الكفار بسبب إنفاقهم في الباطل عبرة وموعظة لهم، وحث لهم على التدارك والنجاة بالنفس، بالإضافة الى قاعدة كلية وهي ان التوبة باب لعودة المال وغيره مثله فضلاً من عند الله ولوجود المقتضي وهو الإيمان والبركة ، وفقد المانع وهو الكفر والإنفاق فيه.
الثالث: في حيازة الكفار للأموال إمتحان وإختبار للمؤمنين، ودعوة لهم للصبر والتحمل ومواجهة المشاق في سبيل الله.
الرابع: وجود الأموال عند الكفار وإنفاقهم لها في المعاصي ومحاربة الإسلام حث للمسلمين للإنفاق في سبيل الله، والجهاد بالنفس والمال من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام خصوصاً وان الآية محل البحث بشارة لنيل المسلمين الظفر والنصر على الكفار، لأنها تجعل التكافئ معدوماً بين الطرفين، فيأتي لأسلحة ومؤونة وأموال الكفار ما يتلفها، وذكرت الريح الباردة فيها من باب المثال والموعظة ، أما المسلمون فانهم في سلامة وحفظ من عند الله عز وجل ليكون نصر المسلمين مركباً من وجوه:
الأول: صد تعدي الكفار.
الثاني: تحقيق الظفر والغلبة في المعركة.
الثالث: الإتحاد والإعتصام بحبل الله، وإجتناب الفرقة والشقاق.
الرابع: الفوز بثواب الجهاد في سبيل الله وتعظيم شعائر الله.
الخامس: نيل المراتب العالية في الجنة.
السادس: ترك أبناء المسلمين من بعدهم في منعة وقوة مقرونة بالإيمان والصلاح.
السابع: تعاهد أداء العبادات، ومواصلة الشكر لله تعالى.
الثامن: رؤية الآيات في الكفار وفي أنفسهم بما يجعلهم يزدادون إيماناً، أما في الكفار فهزيمتهم وخسارتهم وتلف أموالهم ، وأما في المؤمنين فكثيرة منها النصر والظفر والنماء والبركة في الأموال والعدة والعدد.
وفي قانون تلف أموال الكفار رحمة بالناس جميعاً، وواقية من أذى ومكر وكيد الكفار وفضح لأسباب الريب والشك، وحجة على الكفار وإنذار لهم، ودعوة لأبنائهم للتفكر في حالهم وضلالة آبائهم.
ان إبتلاء الكفار بأموالهم هو من أشد وجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا، ليؤخذوا بالشدة والأسباب التي تجعلهم يلتفتون الى ضلالتهم، وحاجتهم الى التوبة في الدنيا والآخرة.
أما الحاجة الى التوبة في الدنيا فلأن الإيمان واجب نفسي ومقدمة لحفظ المال ونزول البركة، والسلامة من الآفات والأدران ، مع الأجر والثواب للتائب توبة نصوحاً على ما يبتلى به.
وأما في الآخرة فان الإيمان سبيل للخلود في النعيم، فيأتي المثل القرآني ليجذب الإنسان الى سبل التوبة، ويهديه إلى ألسبيل الذي يحتفظ به بأمواله وثروته ويجعلها تركة مباركة من بعده.
قانون المرأة والمثل القرآني
من الآيات في خلق الإنسان ان جعل الله عز وجل المرأة قرينة للرجل وكأنها من حاجة الرجل في الدنيا والآخرة، ومن دلالات الحاجة الملازمة للمكن، وتتجلى هذه الحاجة بالتكاثر والتناسل بالمرأة، والإعانة على أمور الدين والدنيا، والمودة التي جعلها الله بين الزوجين قال تعالى [وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( ).
لتكون هذه المودة والرحمة سبيلاً للمعرفة الإلهية والإقرار بالعبودية لله تعالى، ومقدمة للعبادات والفرائض، ويكون الرجل عوناً للمرأة، والمرأة عضداً للرجل في نيل الثواب والفوز بالخلود في الجنة، والرجوع الى المقام الذي سعى الشيطان في إخراج آدم وحواء منه في الجنة، ومن بديع خلق الإنسان توجه الخطاب التكليفي الى المراة بعرض واحد مع الرجل من غير تباين بينهما الا ما خرج بالدليل في الكم والفارق الرتبي كما في سقوط الجهاد عن المرأة أو سقوط أداء الصلاة عنها أيام الحيض مع قضائها لما يفوت به من الصيام.
وإشتراك المرأة مع الرجل في التكليف على نحو الإستقلال برزخ من تهاون أحد الطرفين فيه، وتخليه عن إعانة الآخر، أو صيرورته سبباً في تخلفه عن الفرائض فلو كانت الصلاة واجباً على الرجل دون المرأة، لأدى الأمر الى عدم التفات المرأة لأداء الرجل لها ، وإنشغال الرجل عنها ولو على نحو السالبة الجزئية.
ولكن الفرائض جاءت بصيغة العموم وسور الموجبة الكلية الشامل للرجل والمرأة، فتتلو المرأة القرآن في الصلاة ، وتمر بالأمثلة القرآنية ومنها المثل الوارد في هذه الآية فتنزل عليها السكينة ولا تخشى على أبيها وزوجها وإبنها من الكفار وجيوشهم، وتعلم ان الهزيمة ستلحق بهم لأن مفهوم قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ]( )وعد للمسلمين والمسلمات بالنصر والظفر .
ومن الآيات ان تأتي هذه البشارة أحياناً في الصلاة وعند القراءة الواجبة من قبل الإمام والمنفرد، والرجل والمرأة فتجعلهم يسيحون في عالم الملكوت، ويواظبون على العبادة بإخلاص، وقد تشترك إمرأتان أو أكثر في دراسة المثل القرآني وفهم معانيه، مما يساعد على ثباتهن على الإيمان، وقيامهن بتربية الأبناء تربية إسلامية قائمة على حب الله والسعي في نيل رضاه، والمشاركة في تفقه معاشر النساء في أمور الدين والدنيا مع أهمية وموضوعية هذا التفقه.
خصوصاً وان النساء يتولين إدارة شؤون الأسرة عند خروج الرجال للغزو والجهاد والسعي في طلب الرزق، والكسب، وقد تقوم المرأة بنصح وإرشاد زوجها، ومن أفضل وسائل الإرشاد الإتيان بالمثل القرآني وما فيه من الحجة والدلالة والبينة، كما أنه لا يؤدي الى حصول النفرة عند الزوج عند تلقي النصيحة.
فتشترك الزوجة مع الزوج في المصلحة والمنفعة ،وقد يكون أحياناً غاضباً منفعلاً، متألماً من حال وفعل من الغير، أو تغلب عليه النفس الغضبية ولكن الأم أو الزوجة أو البنت تعالج الأمر من غير غضب أو نظر الى جزئيات عرضية وتهتدي بأنوار المثل القرآني وتبين له السبيل الصحيح والعمل المناسب وما فيه مصلحته وسلامة دينه، فليس بالضرورة أن يقوم المرشد او الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بتلاوة وذكر المثل القرآني ، بل يستنير بهداه، ويستدل بمضمونه، ويقتبس منه، لذا فان المثل القرآني ذخيرة وكنز دائم، تتعدد منافعه وفوائده ، ولا يزيده الأخذ منه الا تجدداً وحضوراً وموضوعية.
ومن الآيات ان يأتي المثل القرآني بذكر المرأة كما في قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا]( )، والمراد المرأة التي إنشغلت بإبرام الغزل حتى إذا أحكمته وأبرمته قامت بفتله ، وقيل هي ربطة بنت سعد بن تيم، وكانت خرقاء إتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة الى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن.
ومناسبة المثل هي لزوم تعاهد أيمان البيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد توكيدها باسم الله وانه سبحانه هو الشاهد والرقيب، في دعوة الى تعاهد الإيمان والإخبار بأنه من المحق والظلم للنفس نقض البيعة، وان الذي ينقضها يلقى الخزي في الدنيا والآخرة .
والمثل القرآني عون للمرأة في القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأديب لها ، ووسيلة لإظهار حسن السمت والتقيد بالوظائف الشرعية خصوصاً أيام الفتنة وأوان الإفتتان، وفي المثل الوارد في الآية محل البحث تحذير لنساء الكفار، وإنذار لهن، وإخبار بسوء العاقبة، وضياع الأموال وخروج الأولاد الى الدنيا على حال الحاجة والذل ونقص الأموال.
وفيه دعوة لهن لمنع الرجال من الكفار آباء وأزواجاً وأبناء من الإنفاق والإسراف في المعاصي والتعدي على المسلمين لأن النتيجة الحتمية هي الخسارة والهزيمة للكفار مع تلف أموالهم، ومن طبائع أكثر النساء حب المال وإقتناء الحلي، وتوفير المؤن والحاجات، فيأتي المثل في هذه الآية ليبين لنساء الكافرين ان السبيل الوحيد لحفظ الأموال والحلي والمؤن هو دخول الإسلام، والإنفاق في سبيل الله.
بحث بلاغي
للتشبيه أركان أربعة هي:
الأول: المشبه ، وهو الأمر المقصود ويلحق بغيره للبيان والتعريف.
الثاني: المشبه به، وهو الأمر الذي يؤتى به لتوضيح ، وبيان المشبه بإلحاقه به.
الثالث: وجه الشبه، وهو الوصف المشترك بين المشبه والمشبه به ويكون
أبين وأظهر في طرف المشبه به.
الرابع: أداة التشبيه: وهي اللفظ الذي يدل على التشبيه ، سواء كان إسماً أو فعلاً أو حرفاً، ويربط المشبه بالمشبه به.
ويسمى الركنان الأول والثاني بطرفي التشبيه، لما لهما من الموضوعية فيه، ولتعلق التشبيه بهما وعدم إمكان حذف أحدهما ، أما الثالث والرابع فيمكن حذفهما مع دلالة القرائن على إرادة التشبيه.
وجاء التشبيه في الآية الكريمة بالإركان الأربعة وهو شاهد إضافي على البيان والوضوح في الآية الكريمة والغايات السامية من المثل الوارد فيها، وقيام الحجة على الكفار ، لخلو المثل القرآني من اللبس والترديد والإجمال، وأركان التشبيه في الآية هي:
الأول: إنفاق الكفار لأموالهم وهو طرف المشبه.
الثاني: الريح العاتية الباردة ومثلها وهي طرف المشبه به.
الثالث: التلف والهلاك، وهو وجه الشبه في الآية الكريمة بين إنفاق الكفار أموالهم وبين الريح العاتية.
الرابع: ورود أداة التشبيه “مثل” و”الكاف” للدلالة على التشابه والتماثل بين طرفي التشبيه.
ويختص إثنان من أركان التشبيه بأن يكون كل واحد منهما طرفاً ركنياً في التشبيه، بينما يكون كل من وجه وأداة التشبيه ركناً غير طرف ويكون طرفا التشبيه على وجوه:
الأول: ان يكونا حسيين: أي مدركان بإحدى الحواس الخمسة، البصر والسمع والشم والذوق واللمس، سواء كان إدراكهما بحاسة واحدة منها، أو ان كل طرف يدرك بحاسة، وقد تجتمع حاستان أو أكثر في إدراك المشبه أو المشبه به، نحو قولك: ضياء المصباح كالشمس.
الثاني: أن يكونا عقليين: أي انه لا سبيل الى إدراكهما بالحواس بل يدركان بالعقل والتفكر سواء بالوسائط أو البديهية نحو “العلم نور”.
الثالث: التباين بين الطرفين، وهو على قسمين:
الأول: أن يكون المشبه حسياً ، والمشبه به عقلياً نحو تلاوة القرآن حياة للقلوب.
الثاني: أن يكون المشبه عقلياً والمشبه به حسياً ظاهراً للناس جميعاً، ليكون أكثر بياناَ ووضوحاً .
وفيه دعوة للناس لإنذار الكفار وتحذيرهم من بذل الأموال في محاربة الإسلام، وحجة في أن المثل القرآني سلاح في مواجهة الكفار، ومحاربتهم وصدهم عن تهيئة مقدمات التعدي على الإسلام والمسلمين.
لقد جاء الأنبياء السابقون بآيات حسية، أما معجزة القرآن فهي عقلية، وتتضمن الأمثلة الحسية آيات عقلية أيضاً ، وجاءت في المثل الوارد في هذه الآية على وجوه منها:
الأول: إبتلاء نفس الكافر بالحزن والأسى على الوعيد بتلف أمواله.
الثاني: رضا المسلمين بالإنذار الموجه الى الكافرين في هذه الآية وهذا الرضا يعني موافقة النفس للبلاء الذي يصيب الكفار، ويكون هذا الرضا بأحسن مراتبه إذ أنه يقترن بحب الله تعالى ، ورؤية تلف أموال الكفار التي تنفق في المعصية والتعدي.
الثالث: هلاك أموال الكافرين من مصاديق طردهم من رحمة الله، ومن وظائف العبد ذكراً كان أو أنثى أن يسعى لمرضاة الله، والفوز برحمته في الدنيا والآخرة .
الرابع: إنتظار نزول البلاء بالكافرين والفاسقين وأموالهم ، والذين يعتدون على المسلمين في أي وقت خصوصاً مع وجود الأسباب والمقدمات كما يتوقع الإنسان هبوب الرياح في أي وقت.
الخامس: شدة البطش الإلهي الذي ينزل بالكفار وأموالهم وعدم قدرتهم على الإحتراز منه.
علم المناسبة
ورد لفظ الريح بصيغة المفرد في القرآن ثمان عشرة مرة، وبصيغة الجمع عشر مرات ، وهذه هي أول آية في سياق آيات القرآن يأتي بها لفظ الريح، وجاء بلغة الإنذار والوعيد، وتأتي الريح بمعاني أخرى تتضمن اللطف والرحمة وتعقب العذاب لها ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ] ( ).
ويفيدالجمع بين الآيتين تحذير الكفار من الركون الى الدنيا مع التمادي في المعاصي ومحاربة الإسلام، فقد تقبل عليهم الدنيا وتخرج لهم الأرض كنوزها وتزدهر عندهم التجارات والصناعات ولكن الإبتلاء والعذاب متعقب لهذه النعم التي هي إستدراج وإمتحان ، ودعوة كريمة للتوبة والإنابة.
والريح الوارد في الآية عنوان ومثال للعذاب فقد يأتي بآفة سماوية أو أرضية، أو كساد تجارات أو عاهات تصيب الزراعات أو على يد الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيدي المسلمين، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين تحقيق النصر على بني قريظة إذ هدم دورهم وأحرق زروعهم وقطع أشجارهم ليكون بغيهم على أنفسهم وفيه مصداق لبغيهم وظلمهم لأنفسهم، لا تمكر ولاتعن ماكرا ، ولا تبغ ولا تعن باغيا ، ولا تنكث ولا تعن ناكثا ” وكان يتلوها”( ).
ومن أجمل وأبهى الأشياء في نظر الإنسان زرعه إذ انه يحرص على تعاهده والعناية به وسقيه والسهر عليه، ويتابع بشخصه مراحل نموه على نحو يومي متصل، ويدفع عنه الدواب وأسباب التلف والضرر، وقد يدخل في خصومة مع غيره بسببه.
وسخر الله عز وجل الريح لسليمان ، قال تعالى [فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ] ( )، والمراد من نعتها بانها رخاء أي طيبة ومطيعة له، وغير ممتنعة عليه، وعدم الإمتناع هذا مقيد بكونها رخاء طيبة لا تضر أحداً من الناس، لأنها نعمة ورحمة وجزء من أفراد الملك الذي سأله سليمان عليه السلام، كما ورد في التنزيل [وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي] ( )،وقد وصفت الريح في آية أخرى بانها عاصفة قال تعالى [وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا]( )، وليس من تعارض بين وصفها رخاء طيبة وبين عاصفة، لأن المراد من العصف في المقام سرعة جريانها.
وقيدت الآية العصف بانه سرعة الجريان الى الأرض المباركة لبيان عظيم فضل الله على نبي الله سليمان عليه السلام، كما جاء ذكر الريح رحمة بالمسلمين ومدداً لهم , قال تعالى [إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( )، والمراد يوم الأحزاب فحينما سمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم جيوش الكفر إذ أٌقبلت قريش في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة، وأهل تهامة، وجاءت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد لنصرتهم في ألف، وجمع من هوازن وأنضم لهم يهود من بني قريظة والنضير، فضرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خندقاً حول المدينة إذ أشار عليه به سلمان الفارسي، وظل الفريقان نحو مدة شهر يترامون بالنبل والحجارة، فأرسل الله على الأحزاب ريح الصبا لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور”( ).
فهبت على الأحزاب ريح باردة ليلة شاتية، وسفت التراب في وجوههم، وضربتهم بالسياط.
ويدل الجمع بين الآيات على ان الريح من جنود الله عز وجل وسلاح لنصرة المسلمين، وهزيمة الكفار وإلحاق الضرر بأموالهم لتكون درساً كونياً وآية تبين قبح الكفر والضلالة وتزجرهم عن محاربة الإسلام والمسلمين، وتدعوهم الى دخول الإسلام ، والفوز بما فيه من النعم الظاهرة والباطنة، والعاجلة والآجلة.
ومن الشواهد على كون الريح من جنود الله قوله تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ]( )،إذ بعث الله عز وجل ريحاً باردة، وعاصفة تصوت في هبوبها، وتحرق بشدة بردها، وفيه إنذار للكفار بان الله عز وجل يصيبهم بالعذاب الذي لا ينحصر بأموالهم بل يأتي عليهم في أجسامهم وأبدانهم ودوابهم خصوصاً وان الآية محل البحث جاءت بصيغة المثال [كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ].
والصر والبرد في ريح العذاب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في برودته وجمعه وقبضه ، وفي مدته وما يخلفه من الأضرار، وتبين الآية وما فيها من الإنذار حب الله تعالى للعباد، وتفضله بخلق الهدى في قلوب المؤمنين، وورود التنزيل وآيات الإنذار الواقعية لطرد أسباب الضلالة عن قلوب غير المسلمين كمقدمة لدخولهم الإسلام.
علم المناسبة
ورد لفظ (مثل) بصيغة الفرد في القرآن نحو مائة واثنين واربعين مرة، وبصيغة الجمع تسع عشرة مرة، وفيه دلالة على موضوعية المثل والأمثال في القرآن باعتبارها مدرسة للأجيال المتعاقبة من الناس، ولاتنحصر مسائلها بالمسلمين دون غيرهم، بل تشمل الناس جميعاً، وهي باب للهداية والصلاح، وكل فرد من هذه الاعداد والأمثلة فضل إلهي ، ونعمة مستقلة قائمة بذاتها، وذخيرة وكنز يدعو الناس للنهل منه، ويأتي لفظ المثل في الآيات القرآن بمعنى التشبيه والتسوية “وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: الا اني أوتيت الكتاب ومثله معه( ).
وهو شاهد على ان السنة القولية وحي وإخبار من عندالله تعالى وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ). لتكون السنة بياناً للقرآن في لزوم الأخذ من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يأمر به وما ينهى عنه ، قال تعالى [مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ). ويأتي المثل بمعنى العبرة والموعظة ، قال تعالى [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ] ( )، وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاعتماد لغة المثل وإتخاذها وسيلة لجذب الناس للإيمان وبيان قبح الكفر . وفيه دليل قرآني على صحة الحديث اعلاه الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع موضوعية سند الحديث ، لانه يأتي بالمثل على نحو التفصيل وذكر الوقائع، وإخبار الناس بقصص الأنبياء، وماكانوا يلاقونه واصحابهم وذكر قصة عجيبةمن وجوه الجهاد والعناء والاجتهاد في دعوة الناس وترغيبهم بالاسلام، والقرية هي انطاكية ، وقيل المراد من المرسلين هم رسل عيسى عليه السلام إذ ارسلهم الى اهلها لدعوتهم الى الايمان وترك عبادة الاوثان، إذ ارسل الى اهل البلدة اثنين من حوارييه، ولما وصلا الى مشارفها رأيا حبيب النجار وهو شيخ يرعى غنيمات له فسألهما فأخبراه، ولما وصل امرهما الى الملك قيل حبسهما، فارسل عيسى عليه السلام شمعون الذي إستطاع ان يصل الى الملك ويريه آيات تدل على صدق نبوة عيسى فآمن الملك ومعه جماعة من قومه. لقد أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ان يضرب مثلاً للناس ليكون وسيلة لدعوتهم للاسلام باعتبار ان المثل لطف وحسن تدبير ووسيلة للاقناع، واقامة للحجة، وشاهد تأريخي على ضرورة الايمان ونبذ الكفر والطغيان. ومن الآيات والمدد الإلهي ان القرآن لم يقف عند الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بضرب مثل القرية بل ذكرت الآيات مضامين القصة إجمالاً، قال تعالى [إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ] ( ). ومن الآيات في تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياءالآخرين ، وتفضيل المسلمين على غيرهم، ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أرسل الى الأطراف ، ويكتفي برسول ومبعوث واحد ويقابل بالتصديق في الغالب ، وفيه معجزة حسية من الواقع الخارجي. ودليل ظاهر على صدق نبوته، والتأييد والمدد الإلهي له لتبقى شريعته الى يوم القيامة، وهو من مصاديق ضرب المثل في هذه الآية الكريمة، فيـأتي المبعوث من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى القرية واهل البوادي ويقوم بتبليغهم ووعظهم وإنذارهم، وتلاوة آيات القرآن فيأتون الى المدينة، وتارة يأتي الرؤساء منهم فيرون آيات النبوة والمعجزات العقلية والحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيرجعون الى قومهم بلواء النصر، ليكون رجوعهم فتحاً، وهو أمر فريد في التأريخ، فلم تفتح تلك القرى والمدن بالسيف والسلاح ، بل بتجلي آيات النبوة والتنزيل لعامة الناس , بما يطرد التردد والشك . ومن صيغ الحجة في المثل القرآني قوله تعالى [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً] ( ) , وفيه حث ودعوة للمسلمين لاعتبار المثل في التبليغ والبيان والدعوة الى الله عزوجل، ومن المثل قصص الأمم السابقة، وما اصاب المكذبين بالرسل من البلاء والعذاب في الدنيا والأخرة، والتحذير من تعذيب وقتل المؤمنين والصديقين بالرسالة والرسل، وفي قوله تعالى [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ] ( )، انه حبيب بن اسرائيل النجار، وهو ممن آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبينهما ستمائة سنة. وذكر انه كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه واحتج على الكفرة، فقالوا: أو انت تخالف (ديننا) فوثبوا عليه فقتلوه، وقيل توطئوه بأرجلهم، حتى خرج قصبه من دبره وفي قول أخر أنهم رجموه ومع هذا فانه يدعو لقومه بالهداية وتصديق الرسل، فلما قتل غضب الله عليهم فاهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام، ( وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سباق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، علي بن أبي طالب وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون) ( ). لقد اراد الله عزوجل ان يكون بالمثل صلاح أمور الناس في دنياهم وآخرتهم، والمثل القرآني نصيحة وهداية ، ومدرسة جامعة في الأخلاق والسنن. بحث بلاغي من البديع وصيغ الكمال في البلاغة الإتيان بلفظة تكون بمنزلة الفريدة والجوهرة في العقد، التي ليس لها نظير، ومع تعدد الأشباه والنظائر في اللغة العربية، فانك تجد كلمات القرآن فرائد ودرراً ليس لها مثيل بلحاظ أمور: الأول: موضعها من الآية الكريمة. الثاني: دلالتها العقائدية والفقهية. الثالث: معناها ومضامينها القدسية. الرابع: الإعجاز في فصاحة القرآن ، وشهادة كل كلمة فيه على نزوله من عند الله عز وجل، ومنها قوله تعالى [رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ] لإفادة البيان والتشخيص والتفصيل البديع الخالي من الإجمال والذي هو حاجة للناس في باب الإنذار والوعيد والتخويف، فلم تقل الآية (ريح صر)، ولم تقل (ريح باردة)، بل جعلت العذاب مركباً من الريح ، وما فيها من البرد بلحاظ الظرفية بينهما. وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه اذا رأى الريح فزع وقال: “اللهم اني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة قام وقعد، وجاء وذهب وتغير لونه، فيقال له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إني أخاف ان يكون مثل قوم عاد حيث قالوا هذا عارض ممطرنا”( ). وفيه إشارة الى قوله تعالى [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، وهي الريح التي جاءت الى قوم هود في الأحقاف أي الرمال المستطيلة المرتفعة في إنحناء، وكانت عاد تسكن في مناطق رملية مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن ، وقيل بين عمان ومهرة. وروي ان الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجو حتى ترى كأنها جرادة، وقيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار، وحينما أدركوا ان الريح عذاب حل بساحتهم وشاهدوا كيف أن مواشيهم تأخذها الريح في الهواء بادروا الى دخول بيوتهم وأغلقوها عليهم طلباً للنجاة بأنفسهم وتركوا أموالهم، ولم يلتفتوا الى جمع ما كان تحت أيديهم منه، ولكن الريح قلعت الأبواب وهلكوا ومالت عليه الرمال. أما هود عليه السلام فانه لما أحس بنزول العذاب ومجيء الريح العاتية خط على نفسه وعلى أصحابه المؤمنين خطاً الى جنب عين تنبع، وعن ابن عباس: أعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح الا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. فالريح التي جاءت الى عاد فيها عذاب أليم في إشارة الى إهلاكها للكفار وما يملكون أما الآية محل البحث فجاءت بذكر الريح التي فيها برد شديد لأن وظيفتها تلف المزروعات وهلاك الأموال وجاءت من باب المثال في إشارة الى الآفات التي تحل بالكفار، فتهلك أموالهم دون أشخاصهم لأنها عقوبة على الإنفاق في الباطل، لتكون إنذاراً ووعيداً ومقدمة لما قد يحل بهم من العذاب الأليم. ومن الآيات ان الآية ذكرت “الصر” على نحو التنكير والكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وانه مصاحب للريح وليس ذات الريح فليست هي ريح باردة، فقد تكون درجة ونسبة متعارفة لبرودة الريح، ولكن الريح فيها برد شديد يصاحبها ، وليس له حد في شدته وبرودته، فتأتي الريح والبرودة مجتمعتين بحيث لا تستطيع النباتات والمزروعات البقاء قائمة حية، بل انها تهلك على نحو القطع، ومن الآيات ان مدة الريح لم تحدد أو تعين بوقت مخصوص، لأن المدار على تحقيق الغاية من الريح والبرودة وهي هلاك المزروعات. لقد تضمنت آيات القرآن الترغيب والترهيب، والإعذار والإنذار، والموعظة والتحذير بمفردات وكلمات تأخذ بمجامع القلوب، وتجذب الناس الى طاعة الله التي هي عصمة من كل فتنة وواقية من كل شبهة، وتبصرة في أمور الدين والدنيا. قوله تعالى [أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ] يأتي الحرث بوجوه عديدة أهمها: الأول: الزرع والغرس. الثاني: العمل في الأرض للزراعة. الثالث: قذف الحب في الأرض للزراعة. الرابع: الكسب. الخامس: العمل للدنيا وعمارتها، وإبقاء تركة للوارث. السادس: العمل للآخرة، وإقتناء الحسنات وحمل الزاد ليوم القيامة، وفي الحديث: “إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً وإعمل لآخرتك كأنك تعيش أبداً” السابع: كسب وجمع المال. الثامن: الإنجاب وإتخاذ النكاح مقدمة له، قال تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] ( ). التاسع: يأتي الحرث بمعنى الجماع الكثير. العاشر: حرث الرجل إمرأته وأنشد المبرد: إذا أكل الجراد حروث قوم فحرثي همّه أكل الجراد الحادي عشر: متاع الدنيا، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا] ( ). الثاني عشر: الثواب والنصيب. الثالث عشر: تفتيش الكتاب، وتدبر معانيه، وفي حديث عبد الله: “إحرثوا هذا القرآن”( )، أي فتشوه وإنهلوا من علومه، ونقبوا عن خزائنه، ومع كثرة معاني كلمة “الحرث” يتجلى الإعجاز القرآني في ذكرها في هذه الآية الكريمة، وورودها في المثل القرآني لتتعدد معه مفاهيم الآية والمثل المذكور فيها ، وتكون مدرسة شاملة تدعو للإعتبار والإتعاظ، وقد يقال ان قرينة وموضوع الريح الباردة يدل على إرادة الزرع والغرس، لأن الريح الباردة تهلكه وتعرضه للتلف وتمنع من بقائه حياً نامياً، وهذا صحيح ، لكن المثل يشمل المعاني الأخرى بالواسطة فتلف المزروعات خسارة مالية، وضياع للأموال والثروة، وبرزخ دون مجيء الرزق ، وسبب للعجز عن التوسعة على العيال ، وتوفير مؤونتهم، ومانع من الإحسان للآخرين والإنفاق مطلقاً. وجاء هذا المثل لبيان العقوبة العاجلة التي تلحق بالكفار ليصبحوا عاجزين عن تهيئة أسباب التعدي على المسلمين، وشراء الأسلحة لقتالهم. إن هلاك الزرع والغرس بالريح الباردة ضرر فادح يضر المالك وغيره لما يسببه نقص المحاصيل من غلاء الأسعار وقلة المعروض في الأسواق، وفيه إشارة الى إضرار الكفر والإنفاق فيه بعامة الناس، فينفق جماعة من الكفار المال في محاربة الإسلام، فيأتي الضرر للناس جميعاً في معاشاتهم وأسواقهم وقلة البيع والشراء والإنشغال بتوفير لقمة العيش، والإدخار للمؤونة في اليوم والليلة. وجاء المثل القرآني في هذه الآية للإخبار عن حال الكساد التي يسببها الإنفاق في الكفر والضلالة، ويدل في مفهومه على طلب الرزق والسعة فيه بالإيمان وإجتناب محاربة الإسلام والمسلمين، وجاءت صيغة الجمع “حرث قوم” للدلالة على نزول البلاء بالجماعة من الكفار بحيث يصبحون عاجزين عن نصرة بعضهم بعضاً ، فلم تقل الآية “أصابت حرث عبد” ولا “أصابت حرث” من غير تعيين للمالك ، وهل هو متحد أم متعدد، بل ذكرت الآية مع قلة كلماتها أموراً : الأول: المالك على نحو التعدد وما يفيد الكثرة . الثاني: ما جاءت عليه الريح ،وانه حرث يعود لقوم . الثالث: ظلم أهل الحرث لأنفسهم . ويحتمل ذكر القوم في الآية وجهين: الأول: انهم مشتركون في زرع مخصوص جاءت الريح عليه فأهلكته بلحاظ الإتحاد في لفظ “حرث”. الثاني: المراد التعدد في الملكية وكثرة الزرع، فكل فرد من القوم له زرعه وحرثه. والصحيح هو الثاني وهو المستقرأ من وجوه: الأول: موضوع الآية، وصيغة الجمع في قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ]. الثاني: قرينة هبوب الرياح ونعتها بالباردة إذ أنها تتغشى مساحات كبيرة من الأراضي، وزروع عديدة. الثالث: لغة الإنذار الواردة في الآية الكريمة ومعاني المثل القرآني. الرابع: نزول العقاب الإلهي بالكافرين في أموالهم وزروعهم. ومن الإعجاز في الآية أنها لم تذكر الريح الباردة وحدها، بل ذكرت موضوعها وأثرها لمنع القول أو الظن بان الرياح العاتية الباردة قد تأتي في أماكن من الأرض خالية من الزرع والحرث، أو أنها تأتي على مساكن وبناء متين متماسك، أو على زروع مغطاة ومهيأة لها أسباب السلامة من الرياح الباردة فجاءت الآية بان الريح الباردة جاءت على حرث وزرع. ومن الريح ما تصل سرعتها الى مائة وسبعين كيلو متراً أو أكثر ، وتكون من برودتها ثلاثة أمتار أو أكثر من الجليد، ومن الآيات ان المثل القرآني لم يذكر موضوع الريح بأنها هبت سريعة أو عاتية ، بل ذكرت الآية موضوع إصابة الريح للزرع في إشارة الى أن إنفاق الكفار للأموال في المعصية لن يفلت من غير عقاب، ولأن المثل جاءبصيغة الخبر عن حال وشاهد حصل في الماضي، وان العقاب فيه لا ينحصر بمقدار وحد أعلى منه دون حد أدنى. فصحيح ان إنفاق الكفار من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة الا ان العقوبة تأتي عامة شاملة وفي كل إفراده ومراتبه، مما يدل على القبح الذاتي للإنفاق من منازل الكفر وأضراره العامة وان كان قليلاً . وفي حين ذكرت الآية الموضوع الواقعي للآية وعلة التمثيل وهو قيام الكفار بالإنفاق وما يسمى في الإصطلاح البلاغي بالمشبه، لتحصر موضوعها به، وبما يفيد إرادة الإنذار والوعيد في الآية الكريمة، فإنها ذكرت ان الريح أصابت حرث قوم وعلى نحو التنكير في طرفيه المتضايفين أي الحرث والقوم، لإفادة العموم والإخبار عن عموم الضرر المترتب على الإنفاق في الكفر والضلالة. وفيه بيان بان البلاء ينزل عاماً وان كان السبب خاصاً ومحدوداً، فحينما تأتي الريح الباردة لا تميز بين زرع الكافر الذي أنفق في محاربة الإسلام وبين زرع الكافر الذي لم ينفق في التعدي على الإسلام كما أنها لا تفرق بين ما أنفق من المال في محاربة الإسلام ، وأصله الباقي ، لذا جاء لفظ “القوم” شاملاً وإشارة الى البلاء العام الذي يحيط بالناس بسبب تمادي الكفار في التعدي وأسباب الضلالة. ويدل نظم الآية على إرادة هلاك أموال الكافرين، ومنعهم من التعدي مرة أخرى على المسلمين، وفي حين جاءت آيات قرآنية أخرى في الإخبار بأن الله عز وجل يرسل الرياح ، جاءت هذه الآية بنسبة الفعل الى الريح وانها “أصابت” حرث قوم، مما يدل على ان الريح مرسلة بوظيفة وعمل مقصود وأنها تأتي للحرث بغية تلفه وهلاكه، لتؤدي تمام وظيفتها بهلاك الحرث فتتصف بأمور: الأول: شدة البرودة بما يضر بالزرع لدرجة التلف. الثاني: سرعة حركة الريح المقترنة بالبرودة، بحيث تمنع المزروعات من القيام وإستقامة الساق والإقتباس من ضياء الشمس. الثالث: إستمرار هبوب الرياح، وعدم إنقطاعها الى حين هلاك الزرع. إن جعل الفعل للريح بقوله تعالى “أصابت” يدل على الإنذار والوعيد في الآية، من وجوه: الأول: ان الريح لا تخطئ هدفها وموضوعها. الثاني: تتجدد معاني الآية مع الزمان وتعدد المكان، إذ ان تلف المزروعات الوارد في الآية مطلق من جهة الزمان والمكان، وشموله لأفرادهما كافة. الثالث: للريح الواردة في المثل فهم وإدراك في مقصودها ووظيفتها فهي تأتي لتصيب حرث قوم ظلموا أنفسهم ، أو أنها موجهة لغاية على نحو التعيين. ومع ان الآية جاءت بعنوان المثل الا ان ذكر الريح العاتية الباردة بصفة المشبه به يدل على وجود مثل هذه الريح التي تأتي خصيصاً لهلاك مزروعات وحرث القوم الظالمين، وفيه إنذار مستديم للكفار وإخبار بحلول الأذى والضرر بهم ، وان هذه الريح حاضرة وموجودة وتنذر الكافرين جميعاً، وانها سبق وان أصابت الكفار في زروعهم بدليل قرائن منها: الأول: ورود الآية بلفظ “أصابت” الذي جاء بصيغة الفعل الماضي. الثاني: ورود الريح بصفة المشبه به، الذي يكون أكثر شهرة عند الناس، ولم يرد فقط بصفة الريح الباردة بل بقيد إهلاكها لزروع القوم الظالمين، والشواهد التأريخية التي تؤكد هذه الحقيقة متعددة، وجاء زمان العولمة ليبين المصاديق الكثيرة التي تدل على إعجاز هذه الآية وما فيها من المثل الكريم الذي يتضمن الإنذار مثلما يتضمن الذكرى والإعتبار، والدعوة الى إستحضار ما أصاب أموال الكفار من التلف بسبب صرف شطر منها في معاداة الإسلام. وتأتي الريح الباردة فجأة فتهلك الزرع، وتقطع آمال أهله، ويذهب سدى ما بذلوه من جهة ومال في حرث الأرض وبذر الحبوب وزراعة النباتات والمواظبة على سقيه والعناية بجهود جماعية مشتركة ومتفرقة. والذي تدل عليه صيغة الجمع في الآية، فيبيت أصحاب الزرع وعوائلهم في حزن بالغ ويذرفون الدموع على ما أنفقوه ، والحرمان ما كانوا يرجونه من الزرع، ولكنهم يحاولن السعي من جديد والزراعة في الموسم القادم على أمل نيل الحاصل وجني الثمار، لبقاء الأرض ذاتها وهي مادة الزراعة وجريان الأنهار ونزول الماء من السماء بفضل الله، أما الذين كفروا فانهم لا يستطيعون إعادة الكرة والإنفاق من جديد لأن الريح الباردة والبلية تأتي على أموالهم كلها. وتتجلى حقيقة في المثل القرآني وهي ان موضوعه أعم وأكبر من المشبه به سواء في باب الإنذارات أو البشارات، أما الإنذارات فكما في هذه الآية إذ تدل مضامينها على نزول البلاء بالكفار بما يجعلهم عاجزين عن إعادة الكرة في الإنفاق بالباطل. وأما البشارات فان النعم الإلهية التي ترد بصيغة التشبيه أعم وأعظم من المشبه به ، كما في قوله تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( )،في بيان وصف خاص من مباهج الحسن والجمال التي تتصف بها الجنة والتي يعجز عالم التصور عن إدراك كنهها، وما فيها من النعم غير المتناهية، فيأتي المثل لتقريب المعنى بما يفيد حصول الغاية عند كل إنسان وهي لزوم الإيمان بالله، وترك الكفر والجحود. قانون الوعيد الدنيوي والأخروي لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان ، ولم يترك الإنسان يواجه فيها إختباراتها وما فيها من البلاء بمفرده بل أمده بأسباب العون والهداية والرشاد، ومن أهمها بعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية التي جاءت بالوعد والوعيد، والبشارة والإنذار لمنع النفس الشهوية من الإستحواذ على أفعال الإنسان. وجاءت هذه الآية بصيغة المثل الكريم وهي تتضمن الوعد والوعيد، الوعد للمسلمين بإضعاف عدوهم وإنزال أشد أنواع البلاء به بلغة المثل التي يفهم معناها ومضامينها كل إنسان للبيان والوضوح في طرفي المشبه والمشبه به فكأن الآية عهد إلهي للمسلمين بأن يواظبوا على العبادة وطاعة الله ، وانه سبحانه يعصمهم من الضرر القادم من العدو بضربه بالبلاء. وتتضمن الآية الوعيد للكفار وتحذيرهم من مواصلة التعدي على المسلمين وبذل الأموال في محاربة الإسلام ، ومحاولات صد الناس عن سبيل الله، ويحتمل هذا الوعيد وجوهاً ثلاثة: الأول: الإنذار والتخويف في الحياة الدنيا. الثاني: الوعيد والتخويف بالآخرة ، وما فيها من العذاب الشديد للكفار. الثالث: الوعيد من العقاب للكفار في الدنيا والآخرة. والصحيح هو الأخير، فالمثل الوارد في هذه الآية يبين حقيقة من الإرادة التكوينية والتشريعية، وهي ان نزول العقاب بالكافرين لا ينحصر بعالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا، وتلك آية في الخلق وشاهد على ان الله عز وجل لم يخلق الناس ويتركهم وشأنهم أو انه يؤجلهم الى يوم القيامة وساعة الحساب، بل انه سبحانه ينزل البلاء الشديد بالكفار، ويخفف عن المسلمين ليكون هذا التخفيف عوناً ومدداً مستمراً لهم، مما يستلزم أمرين: الأول: إنزجار الكفار، وإجتنابهم منازل الكفر والجحود. الثاني: ثبات المسلمين على الإيمان. وبين الوعيد الدنيوي والأخروي عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء أمور: الأول: مجئ الوعيد من عند الله عز وجل الثاني: تضمن الكتب السماوية كلها الوعيد والتخويف للكافرين. الثالث: موضوع الوعيد هو معصية الله، والتحذير منها. الرابع: إختصاص الوعيد بالكافرين والجاحدين. الخامس: التقاء العذاب الدنيوي والأخروي بموضوع ظلم النفس، فيظلم الكفار أنفسهم فيستحقون العذاب. أما مادة الإفتراق فهي على وجوه: الأول: إختصاص الوعيد الدنيوي بالحياة الدنيا وما فيها من صنوف البلاء والضرر الذي يلحق الكفار. الثاني: إختصاص الوعيد الأخروي بالآخرة إبتداء من عالم البرزخ، أما العقاب الدنيوي فهو في أيام الحياة الدنيا. الثالث: الوعيد الدنيوي عقوبة عاجلة، أما الوعيد الأخروي فانه عقاب آجل ويأتي بعد مغادرة الإنسان عالم الدنيا. الرابع: يتعلق الوعيد في الدنيا بعذاب أخف وطأة من العذاب الأخروي، إذ أن العذاب الدنيوي قصير بلحاظ قصر الدنيا، أما العذاب الأخروي فهو شديد ودائم. ويأتي العذاب في هذه الآية على إنفاق الكفار بصفة هلاك وتلف المال، أما العذاب الأخروي على ذات الفعل والمعصية فهوالخلود في النار. وإذ جاءت الآية السابقة بالإخبار عن عدم إغناء أموال وأولاد الكفار عنهم شيئاً، وانهم لا يستطيعون دفع العذاب الذي يستحقون، جاءت هذه الآية بلغة المثل للإخبار عن الإنذار والوعيد بنزول البلاء بهم بهلاك أموالهم ليفيد الجمع بين الآيتين أموراً: الأول: ان الأموال لا تغني عن الكفار لأنها لا تبقى عندهم، بل هي في معرض التلف ما داموا ينفقون منها في المعصية. الثاني: لا يستطيع الأولاد رد البلاء والكوارث النازلة بالأموال، بدليل المثل الوارد في هذه الآية إذ يعجز الناس مجتمعين عن إيقاف الريح السريعة الباردة ، ومنع ما يترتب عليها من الأثر. الثالث: تتجلى في المثل الوارد في هذه الآية نكتة عقائدية وهي ان الأموال التي ينفقها الكفار ذاتها تكون مادة للبلاء، وكأنها هي الريح التي تسبب هلاك الأموال الأخرى الباقية عند الكفار ، وهذا أمر فريد في الحياة الدنيا إذ يأتي المال المنفق والمصروف على المال الباقي، ويختص به الكفار دون غيرهم بسبب إنفاقهم الأموال في المعاصي والظلم والصد عن سبيل الله عز وجل. وعلى النقيض من هذا الأمر فان المسلمين يتصفون بزيادة ونماء أموالهم بسبب ما ينفقون منها في سبيل الله ، وهو من خصائص خير أمة وفي هذا التباين مصداق لخروجهم الى الناس، وإقامة الحجة عليهم ودعوتهم الى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، فلولا النماء الذي يحصل في أموال المسلمين لما أدرك الكفار حقيقة رميهم على نحو الخصوص بذهاب الأموال، وتلف المدخرات بآفات ظاهرة وغير ظاهرة، وإذا كانت النسبة بين الوعيد الدنيوي والأخروي هي العموم والخصوص من وجه ، ترى ما هي الصلة بينهما ، فيه وجوه: الأول: إمكان النجاة منهما معاً بالتوبة والإنابة لعمومات تغير الحكم لتبدل الموضوع. الثاني: الوعيد الدنيوي إنذار من العذاب الأخروي، فحينما يرى الكافر البلاء الذي يحل به في الدنيا يستحضر عذاب الآخرة، وشدته وطول مدته. الثالث: قد يصيب الإنسان شطراً من العذاب الدنيوي وينجو من العذاب الأخروي مع أنه الأشد والأمر حينما تدرك الإنسان الرحمة ويختار التوبة والصلاح. وجاءت هذه الآية لدعوة الكفار للكف عن التعدي والظلم وإجتناب الأصرار على الكفر، لأن تلف الأموال مانع من العناء والإصرار على البقاء في منازل الكفر وإنفاق الأموال في محاربة الإسلام والمسلمين. الرابع: الوعيد الدنيوي ومصاديقه العملية مقدمة ومدخل للعذاب الأخروي ، ومن الآيات أن تكون بعض أفراد العذاب الدنيوي بالمال والعاقبة لتكون مناسبة للتوبة والإنابة وتذكيراً بالموت والإنتقال الى عالم الحساب الخالي من العمل. الخامس: من خصائص الدنيا وزينتها وبهائها ان كل لحظة فيها فرصة للتوبة والتدارك، وجاءت هذه الآية الكريمة لوجوه: الأول: إنتفاع الكفار جماعات وأفراداً منها ، ومما فيها من لغة الإنذارات. الثاني: تذكير الكفار بان ما يصيبهم من البلاء وما يلحق أموالهم من الآفات معلول لعلة الكفر، ونتيجة لإنفاقهم الأموال في المعصية والتعدي على المسلمين. الثالث: عدم قدرة الكفار على منع إتساع رقعة الإسلام، فالوعيد الدنيوي برزخ دون بلوغ الكفار مراتب المنعة والقوة ، ومحافظتهم على منازلهم وأهليتهم للتعدي. ومن الآيات التداخل بين الوعيد الدنيوي والأخروي، إذ أنهما يسيران متلازمين من غير تعارض بينهما، ويأتي الوعيد أحياناً بما يشمل الحياة الدنيا والآخرة فهو وعيد دنيوي وأخروي، وكما يتضمن المثل الوارد في هذه الآية التخويف والوعيد الدنيوي فانه مقدمة لنزول العذاب يوم القيامة بالكافرين الذين ينفقون أموالهم في المعاصي والتعدي على الإسلام والمسلمين، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] ( ). ويدخل تلف أموال الكفار في مصاديق العذاب الشديد الذي تذكره الآية أعلاه، وتدعو الناس جميعاً الى الإعتبار والإتعاظ من حال الكفار، وإدراك حقيقة وهي نماء المال مع الإيمان والصلاح، وذهابها وتلفها مع الكفر والضلالة . وليس من إنسان الا ويحب المال ويحرص على بقاء ما يملكه في يده فتأتي هذه الآية لتخبر عن تلف أموال الكافر وعدم أهليته لحفظ أمواله، وعجزه عن إبقاء تركة لأولاده ، فمن يحب أولاده ويريد لهم الحياة الكريمة فعليه أن يختار لنفسه الإيمان ليكون ذخيرة لحفظ الأموال، وبقائها تركة لأولاده من بعده، وواقية من تلفها. قانون الملازمة بين إنفاق الكافر والكساد الدنيا دار إبتلاء وإمتحان ، وتكون الأموال الشخصية والعامة فيها بخصوص عواقبها على وجوه ثلاثة وهي: الأول: النماء والزيادة فيها. الثاني: بقاء الأموال على حالها من غير زيادة أو نقيصة. الثالث: إصابة الأموال بالتلف والهلاك. ومن مصاديق الرحمة الإلهية في المقام ورود هذه الآية وبصيغة المثل الذي يفقهه كل إنسان لما تعنيه في مفهومها من حفظ المال وتعاهده والمنع من ضربه بأٍسباب الهلاك التي لا يمكن للإنسان الإمتناع عنها، فقد يخفي أمواله في حرز وخزينة ، أو يوظفه في وجوه وأعمال ومواضع عديدة تحسباً للطوارئ ووقاية من أسباب التلف العام لها ، وإنحصار التلف ببعضها عند البلاء في صنف ونوع من أنواع التجارات او الصناعات دون الأنواع الأخرى. فجاءت هذه الآية لتخبر عن حقيقة وهي ان حفظ الأموال أو تلفها تتعلق بقاعدة كلية وهي موضوعية الإيمان في حفظها وحصول النماء فيها، ولا ينحصر هذا النماء بالزيادة المنفصلة فيها كتكاثر الأنعام بالتوالد، او الزيادة المتصلة كالصوف والسمن أو إرتفاع أسعار العقارات والأملاك وأسعار الثمار بل انها عامة ومتعددة لعمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( )، وقوله تعالى [وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ). وفيه شاهد على ان السعة في الرزق تأتي مع الإيمان وخشية الله بالغيب مع تهيئة أسباب النجاح والفلاح والسلامة من الآفات والأدران، بينما جاءت الآية محل البحث لتخبر عن نزول البلاء بالكفار لأنهم ينفقون أموالهم في المعاصي والتعدي على المسلمين، ولإختيارهم الكفر والجحود. لقد أراد الله عز وجل تثبيت سنن الإيمان في الأرض، ومحق الكفر وإزاحته عن منازل الرياسة، فجاءت هذه الآية لتجمع بين الأمرين بخصوص الأموال بإعتبارها مادة القوة والمنعة، وإنعدامها علة أو جزء علة للضعف والوهن، فتضمنت المثل الكريم الذي يفيد تلف وهلاك أموال الكفار مما يعني في نتيجته عز المسلمين وقوتهم، وإقامتهم على الإيمان وأدائهم المناسك بيسر لضعف ووهن عدوهم. ومن خصائص الإنسان انه يجتهد في جمع المال كل بحسبه في الجملة، فمن كان أجره قليلاً يحرص على توفير قسم منه، ومن كانت أرباحه كثيرة فانه يسعى لتوظيفها في أبواب تدر عليه ربحاً أكثر، وليس من حد لقناعة الإنسان، ورضاه في باب الأموال وجمعها في الغالب، فجاءت هذه الآية لإخبار الكفار عن وجود المانع من تحصيلهم الربح الوفير، ووجود تهديد مستمر لتلف أموالهم ، فكما انهم إختاروا الكفر فان الضرر والتلف يقف قريباً منهم ومن أموالهم، لتبعث الفزع والخوف في نفوسهم، وتجعلهم يدركون ضعفهم وعجزهم عن حفظ الأموال التي في أيديهم وان إحتاطوا وإحترزوا . ويفيد المثل الوارد في هذه الآية طرو أسباب قاهرة تأتي على المال في موضعه وحرزه لتتلفه وتميته، فقد يحترز الإنسان في حفظ الزراعات من الطير والحيوان مطلقاً، كما يقوم بتعاهده بالماء والسماد، ويستبشر حينما ينزل المطر، ولكن المطر رحمة تستلزم الشكر من العبد وإنفاق المال في مرضاة الله وحينما يقوم الكافر بجعل النعمة الإلهية في الحرب على الإسلام، والسعي لمنع شعائر الله ، تأتي الآفات التي تتلف ماله ، وتجعله منشغلاً بنفسه، ليصاب بضعف البدن، والعجز عن الجدال والإحتجاج فضلاً عن القتال إلى جانب ما هو عليه من العمى والصمم. ولا ينحصر أثر تلف أموال الكفار بفقده للقدرة على الهجوم والقتال، بل أنه يشمل رمي البدن والجوارح بضعف وقلة الفعل وقصر الهمة، وإنعدام الأمل ودبيب اليأس ، لأن الوعيد قريب منه ما دام ملازماً للكفر والجحود، ويؤكد المثل الكريم في هذه الآية ان إنفاق الكفار الأموال سبب لتلفها ، من وجوه: الأول: محق ما ينفقه الكافر ، وتعرضه للتلف. الثاني: عدم ترتب الأثر والنفع من إنفاق الكافر أمواله. الثالث: الوعيد الوارد في هذه الآية، والذي لا يتأخر مصداقه الواقعي عنه، فمع الكفر والإنفاق فيه يأتي البلاء وتلف الأموال للكفار، ومن الآيات في خلق الإنسان ان هذا التلف يسبب الإضرار بالكفار في معايشهم وارزاقهم ويجعلهم عاجزين عن توفير أقواتهم إلا بمشقة، وهو نوع تذكير لهم بقبح الكفر والإنفاق فيه، وتحذير من معاداة الإسلام ورحمة بهم وبالناس جميعاً فيحل الكساد بأسواق الكفار ليكون انذاراً لهم، ومناسبة لمعرفة الأسباب والنتائج . وتأتي هذه الآية لتمنع من إنحصار هم وظن الكفار بالأسباب المادية والعلل الظاهرة للعيان في أمور البيع والشراء، وتأخذ بأيديهم الى عالم التنزيل وتهديهم الى التدبر بآيات القرآن، وما فيها من الوعد والوعيد والهداية الى سبل النماء والزيادة في الكسب والمال، وتؤكد الآية قانوناً ثابتاً وهو ملازمة الكساد للكفر والجحود، فمن ورث الكفر وبقى عليه فان الكساد والخسارة تلازمه أو تكون قريبة منه، ويكون في كل يوم معرضاً للخسارة وتلف المال. ومن الآيات ان المثل القرآني جاء بخصوص الريح العاتية الشديدة البرودة التي تأتي على الزرع ، وهل فيه إشارة الى إحتمال بقاء شطر من أموال الكفار بأيديهم بإعتبار ان الزراعة لا تمثل كل الأموال التي يمتلكها الإنسان ليكون تلف شطر منها إنذاراً وتحذيراً ودعوة لنبذ الكفر وترك منازله، الجواب أن الريح جاءت مثلاً ورمزاً لما ينفقه الكفار مما يدل على أن الذي يلحقه الضرر من الريح أعم . ويطلب الرزق بالتوبة والإنابة والإستغفار وإتيان الواجبات وترك المحرمات، ويصر الكفار على الجحود والمعاصي ، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ). قانون عدم نسخ الوعيد يتضمن القرآن النسخ والتبديل في بعض الآيات ومضامينها ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( )،والأصل هو ثبات أحكام وسنن القرآن الى يوم القيامة، ومنه الوعد والوعيد الوارد في القرآن وعدم حصول النسخ فيما يتضمنه من الوعيد. ومن الآيات ان عدم النسخ لا يكون مجرداً بذاته، بل تأتي مصاديق متعددة لتوكيده ،وهذه المصاديق مصاحبة للإنسان في أيام الحياة الدنيا، ومنها في المقام أمور: الأول: مضامين هذه الآية الكريمة، وما فيها من التخويف والوعيد للكفار. الثاني: بيان الآية لقانون ثابت وهو ان إنفاق الكفار الأموال يؤدي الى فقرهم وضعفهم. الثالث: المثل الكريم الوارد في الآية الكريمة والذي يتضمن الوعيد بلغة التشبيه بالأمور الطبيعية والمناخية التي لا تقبل التغيير والنسخ والتبديل، وتلك آية إعجازية بان يلتقي عدم النسخ في أمور: الأول: المشبه وهو إنفاق الكفار الأموال في المعاصي. الثاني: موضوع المثل القرآني وهو تلف أموال الكفار. الثالث: المشبه به، وفيه شعبتان: الأولى: هبوب الرياح الباردة، فليس من موسم أو بلد لا يرى هذه الظاهرة المناخية. الثانية: مجيء الرياح الباردة على المزروعات والنباتات وأماتتها. الرابع: تهيئة أسباب إنتصار المسلمين في المعارك، ورمي عدوهم بالضعف والوهن. ويحتمل عدم نسخ الوعيد أموراً: الأول: النقمة والبطش الإلهي بالكافرين. الثاني: الرحمة بالناس جميعاً. الثالث: الرحمة بالمسلمين والغضب على الكافرين. الرابع: الغضب الإلهي على الكافرين، ولا صلة للسلمين بالأمر لأن الوعيد موجه لغيرهم. الخامس: الوعيد رحمة بالمسلمين، لبيان فضل الله عز وجل عليهم في خذلان عدوهم، ولاتعارض بين هذه الوجوه، وموضوع الوعيد يهم المسلمين ويزيدهم قوة، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسيلة لإنذار الكفار في حال الحرب والسلم فتكون وظيفة الوعيد مركبة من أمور: الأول: ما يخص المسلمين وهو على شعب: الأولى: الرحمة الإلهية بالمسلمين وأهل الكتاب والكفار، فليس من إنسان الا ويكون الوعيد رحمة به، مع التباين في موضوع الرحمة، فهي عون للمسلمين على الثبات على الإيمان وبعث للغبطة والسرور في نفوسهم، ودعوة للتطلع بنزول البلاء والبطش الإلهي بعدوهم. الثانية: ثبات المسلمين في منازل الإيمان وترسيخه في قلوبهم. الثالثة: أهلية المسلمين للإحتجاج على الكفار من وجوه: الأول: لغة الوعيد حجة على الكفار. الثاني: إنذار الكفار بما ينتظرهم من البلاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة. الثالث: إبطال حجة الكفار، وفضح مغالطاتهم. الرابعة: لجوء المسلمين الى الله تعالى في السراء والضراء. الخامسة: إستعاذة المسلمين من الغضب الإلهي. الثاني: ما يخص الكفار والفاسقين الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين ، وفيه وجوه: الأول: بعث الخوف والفزع في نفوسهم جماعات وأفراداً. الثاني: مصاحبة الإنذار السماوي لهم. الثالث: دعوتهم للإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبار ان الوعيد الوارد في القرآن حق وصدق، وان مصاديقه تتجلى هي ومقدماتها في الواقع العملي. الرابع: التحذير من الإقامة على الكفر، والإستمرار في الإنفاق في المعاصي والتعدي على المسلمين. الخامس: إستحضارهم لمضامين هذه الآية الكريمة عند نزول البلاء بهم، وإصابة أموالهم بالتلف. السادس: إمتلاء نفوسهم بالفزع والخوف عند هبوب الرياح لأنها إنذار بهلاك وتلف أموالهم ولو بأسباب أخرى مغايرة لها. السابع: النظر في إجتناب التعدي على المسلمين حرصاً على الأموال الخاصة والمحافظة عليها. الثامن: اليأس من إحتمال نماء أموالهم الخاصة والعامة وهم متلبسون بالتعدي على الإسلام والمسلمين، لأن الوعيد بتلفها أمر مستقر وثابت لا يخضع للمحو والتبديل الا عند إختيارهم الإسلام، فالوعيد لا ينسخ ولا يبدل ،ولكن منازل الناس تتبدل نحو الأحسن بحيث يستطيع الإنسان أن ينجو من الوعيد ولا يكون من الذين يتوجه اليهم الإنذار والتخويف والوعيد، وهذا المعنى من المقاصد السامية للوعيد القرآني. فالوعيد حق ، وإخبار صدق عما سيقع للكفار، ولكن لا ملازمة بين الإنسان والكفر ، خصوصاً وان الكفر عرض قبيح يطرأ على الجاهل الغافل ، خلافاً لعلة الخلق والفطرة وإدراك العقل. الثالث: ما يخص غير المسلمين مطلقاً، ومن الناس من يحسب انه حر طليق في الحياة الدنيا يختار ما يراه مناسباً وما فيه تحقيق شهواته ورغائبه، ولا يجعل موضوعية لعالم الحساب فيأتي الوعيد القرآني ليطرد الغفلة عنه، ويجعله يتدبر في ماهية الحياة الدنيا، وكيف انها دار مرور ومزرعة للآخرة، وانها وعاء زماني ومكاني للإمتحان والإختبار. وجاءت هذه الآية لتبين هذه الحقيقة وان إختيار الإيمان هو أهم وظائف الإنسان في الدنيا، وتنذر الكفار الذين ينفقون أموالهم في معصية الله، ولا ينحصر الإنذار وحصول مصاديقه بعالم الآخرة، بل يشمل الحياة الدنيا ويحتمل وجهين: الوجه الأول: إمهال الكفار في إنفاقهم الأموال في المعصية الى أجل معين بلحاظ أمور: الأول: إنفاق مقدار معين من المال. الثاني: التمادي في المعاصي والتعدي على المسلمين، فقد يكون المال الذي ينفقه الكفار قليلاً، ولكن الأثر والضرر المترتب عليه كبير وفادح. الثالث: إقامة الحجة على الكافر، وتبليغه بالإنذارات وصيغ الوعيد. الرابع: الإقامة على المعاصي والإنفاق في الكفر مدة معينة، وعند تمامها ينزل به البلاء. الوجه الثاني: عدم الإمهال، وان الوعيد الوارد في هذه الآية مطلق وشامل. والصحيح هو الوجه الثاني، فليس ثمة مدة بين الإنفاق في الكفر وبين نزول البلاء ومصداق الوعيد الإلهي بالقوم الكافرين الوارد في هذه الآية الكريمة والذي جاء بصفة الريح العاتية الباردة التي تهلك الزراعات، وما يسببه هلاك المزروعات من حال الجفاف ، وهزال الدواب ، وقلة حليبها والنقص في الأموال، والضعف في الأبدان. لقد جاءت الآية بذكر هلاك المزروعات لتتضمن الإشارة الى ما يتفرع عنه من الأضرار والخسائر المالية وظهور الكدورات والأمراض في الأبدان والأخلاق، وشيوع الجريمة والفسق، وقلة الطاعة في أمور السلطنة والأسرة لإنعدام الواعز العقائدي والإيمان الذي يجعل العبد يتحلى بالصبر، ويمتنع عن العقوق والسيئات وان كان في حال الفقر والجوع. ان لغة الوعيد الواردة في هذا المثل القرآني دعوة سماوية للكفار للتخلي عن الكفر والجحود والأخلاق الذميمة، وتحذير من نزول المصائب التي تتفرع عن نقص وتلف الأموال، وإنذار من تعرض الذرية لأشد أنواع الإبتلاء. لقد أراد الله عز وجل بهذا المثل نجاة الناس جميعاً من العوز والفقر، وتتجلى معالم النجاة والسلامة من الأدران والآفات بالإيمان بالله والملائكة والأنبياء والكتب السماوية المنزلة، والعمل بالقرآن وما فيه من أحكام الحلال والحرام ، لتأتي البشارات والوعد الإلهي بالرزق الكريم في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة. قانون “المثل القرآني والغيب” لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بخلقه والنفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض، ولكنه ظل قاصراً عن إدراك أسرار الغيب وهو من خصائص تقييد الخلافة بانها في الأرض، فلا يعلم الإنسان أسرار السماوات وما بينها بين الأرض وما تحت الثرى ، وما يضمر له الغد من الوقائع والأحداث، بل لا يدرك ما يجري في بدنه، وقد تدب في أوصاله مقدمات مرض عضال لو يعلم بها لأمكن التدارك والسلامة من المرض، ولكنه لا يعلم بالمرض الا بعد ان يشتد ، ويحيط به ويجعله عاجزاً عن العلاج المناسب. ومن مسائل الغيب الآفات والكوارث الطبيعية وما يحل بالإنسان متحداً ومتعدداُ من أسباب الهلكة والتلف، فجاء المثل في هذه الآية الكريمة بالإنذار والوعيد للكفار بلغة بالأمور الطبيعية التي تتصف بالشهود والغيب، أما طرف الشهود فهو من وجوه: الأول: طرف المشبه وهو إنفاق الكفار أموالهم في المعاصي والتعدي على المسلمين. الثاني: طرف المشبه به وهو هبوب الرياح العاتية الشديدة البرودة. الثالث: مقدار الضرر وهو الإتيان على أموال الكفار ومحقها. وأما طرف الغيب فيتعلق بما يحل بالكفار من البلاء والضرر في موضوعه وأوانه ومكانه مما يجعل الكفار في فزع وخوف مستمر، ومن معاني البهاء والحسن في الحياة الدنيا وإشراقات الفيض الإلهي على الناس فيها فتح باب النجاة والأمن من الكوارث ومن زوال النعم بدخول الإسلام، وأداء التكاليف العبادية . فحالما يدخل الإنسان الإسلام تتجلى له معاني أخرى مباينة من علوم الغيب، تتضمن البشارة وتملأ النفس بالغبطة والسعادة، وتجعله ينظر الى الغدِ بعين الأمل والرجاء، ويتطلع الى المستقبل بشوق ورغبة، ويكون أداؤه للعبادات والمناسك واقية من الكوارث وما يخفيه الدهر من النوازل والمصائب. ويعتبر المثل الوارد في هذه الآية رحمة بالناس في علوم الغيب من وجوه: الأول: الإخبار عن نزول البلاء بالكفار. الثاني: عدم تعيين وسيلة وسبب تلف أموال الكفار، ولكن القدر المتيقن انه من عندالله عزوجل. الثالث:نصرة الله تعالى للمسلمين بضعف ووهن عدوهم، ورميه بالفقر ونقص الأموال. الرابع: تعلق مضامين الإبتلاءات التي اصابت الكفار من الأمم السابقة، ومايصيب إخوانهم من الأمم الأخرى بإختيارهم الكفر والجحود. ويعتبر المثل الوارد فيها سيفاً سماوياً موجهاً لمن يعتدي على الإسلام والمسلمين، فمن علم الغيب ما سيلحق الكفار الذين يعتدون على المسلمين الا ان هذه الآية تجعله وكأنه من عالم الشهود ، قال تعالى [فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ). والغيب خلاف الشهود والحضور، ويراد منه ما غاب عن حواس ومدارك الانسان، وقد مدح الله عزوجل في أول سورة البقرة المسلمين الذين يؤمنون بالغيب ليكون هذا الايمان مفتاحاً للتفقه في علوم القرآن، وبلوغ مراتب الكمال بالأيمان باعتباره أصلاً وملكة تتجلى آثارها الحميدة على الأركان والجنان والجوانح والجوارح، فيكون قول وعمل الانسان فرعاً للايمان والإقرار بالغيب، وأسرار الخلق التي يعجز عن إدراكها الإنسان، ويقر معها بالربوبية المطلقة لله تعالى . وعالم الغيب من اللامنتاهي، وهو من الشواهد على بديع صنع الله وعظيم قدرته، وتخلف الانسان عن معرفة أسرار السماوات والأرض، لذا تفضل سبحانه بصيغة المثل في القرآن لتقريب دلالات واسرار الغيب الى أذهان الناس على نحو الإجمال والإشارة وبما يكفي لهدايته وصلاحه، ومع ان القرآن كتاب سماوي ظاهر بكلماته والفاظه الا ان علومه ومضامينه القدسية ودلالاته من كنوز علم الغيب ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ). وكذا بالنسبة للعبادات والفرائض فانها من عالم الشهود، الا ان معانيها ومنافعها وثوابها الدنيوي والأخروي من علم الغيب، وما يقوم به الكفار من القبائح وانفاق المال في التعدي ومحاربة الاسلام فانه من عالم الشهود، وظاهر للعيان الا أن اضراره عليهم في الدنيا والأخرة لايعلمها الا الله تعالى، ومنها ماتفضل به سبحانه في هذه الآية ليكون إشارة وشاهداً على علم الغيب وماكان ويكون منه مشهوداً وحاضراً عند وقوعه وحصوله، ليخلف الحسرة والندامة المركبة عند الكفار. فمن منافع الإخبار عن الغيب في هذه الآية إدراك الكفار لعلة تلف أموالهم وهو الكفر والجحود والتمادي في الغي بانفاق أموالهم في التعدي على المسلمين، لتكون تبصرة للإنسان مطلقاً، وعدم إنحصار همه بالماديات والأسباب الظاهرة من غير رجوع الى عللها فقد يكون لذات الأسباب الخارجية أسباب ذاتية تتعلق بفعل وعمل الانسان ، ومنها موضوع المثال الوارد في هذه الآية ، ومافيه من الدلالة على عظيم قدرة الله وقهره لاعدائه واعداء رسوله. ان الله تعالى هو عالم الشهادة والغيب، ولا يحيط بالغيب الا الله سبحانه، والمراد منه جميع ماسوى الله تعالى من الحقائق والأشياء والأمور وعالم الماديات والمجردات وماهيتها ذاتاً وعرضاً وإبتداء وإستدامة وغاية، وقد حث الله تعالى العباد على الايمان بالغيب ، وتفضل بشواهد كثيرة، وافراد عديدة منه في القرآن ليكون مدرسة وحجة ، ومنها المثل الوارد في هذه الآية الكريمة. قانون شيوع المثل القرآني ان الله عزوجل هو القوي القادر على كل شئ، وهو الذي يعطي بالاوفى والأتم، وتأتي النعم منه تعالى متكاملة تكفي الناس لكي ينهلوا منها وينتفعوا منها على الوجه الأحسن، وهو الذي انعم على المسلمين بكمال الدين وتمام النعمة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ). ومن تمام النعمة الإلهية ورود القرآن بالمثال القريب من الناس في موضوعه ودلالاته وأحكامه، لكي يدرك الناس جميعاً معانيه وما فيه من الغايات ووجوه التأديب والإرشاد، وهو شاهد على حاجة الإنسان للتعلم والتعليم. وتفضل الله عز وجل بكفاية الناس في هذا الباب قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ولكن شطراً من الناس يعرضون عن أسباب التعليم الإلهي، ويصرون على الصد عن سبيل الله فيأتي المثل القرآني زاجراً عن الصدود والصد، ومانعاً من الإقامة على الكفر والمعاصي، وليس من حد للمنافع الأخلاقية والتربوية للمثل القرآني، وكل مثل ورد فيه مدرسة جامعة مانعة، جامعة للفضائل، مانعة من الرذائل. ومن فضل الله تعالى على الإنسان ان النعم تترى عليه، وان الله سبحانه يجعل النعمة التي تأتي للإنسان تامة وافية، ومن تمام النعمة تحقيق الغايات السامية من المثل القرآني فجاء بتقريب المعقول وتشبيهه بالمحسوس، الذي يفقهه كل إنسان لكونه جزء من الواقع اليومي للناس، ومنها شيوع المثل القرآني بين الناس ، وهذا الشيوع يحتمل وجوهاً: الأول: شيوع المثل القرآني بين العلماء المسلمين. الثاني: إنحصار شيوع المثل القرآني في المساجد وأماكن العبادة والذكر. الثالث: يفقه المثلَ القرآني الرجال من المسلمين دون النساء. الرابع: يدرك المسلمون جميعاً ذكوراً وأناثاً مضامين المثل القرآني، وما له من الدلالات، وما فيه من المواعظ والعبر،لأن القرآن نزل خطاباً للمسلمين، وهم الذين آمنوا به قال تعالى [قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا] ( ). الخامس: يعرف مضامين المثل القرآني المسلمون وأهل الكتاب خاصة لأنه تنزيل من عند الله. السادس: الناس جميعاً شرعه سواء في المثل القرآني، ومرفة مضامينه، وشيوعه بينهم. والصحيح هو الأخير، فان المثل القرآني يمتلك الأهلية للحضورفي أذهان الناس عند الوقائع والأحداث، ويكون دليلاً وعيناً وحجة بالغة وسبباً للهداية والرشاد، ومعلماً للأجيال المتعاقبة من الناس على إختلاف مللها وأمصارها وأزمانها. ومن تمام النعمة الإلهية في المثل القرآني انه يقوم بنفسه بالشيوع بين الناس ولا يحتاج الى وسائط لنقله وبيان معانيه ومضامينه الى الناس، فمع سماع الناس للمثل القرآني فانهم يدركون مضامينه ويرسخ في أذهانهم وكأنه من المعلول الذي لا يتخلف عن علته لوجوه: الأول: ما يتضمنه من الحكمة والبيان. الثاني: المثل القرآني خير محض، ونفع عام للناس جميعاً. الثالث: خلو المثل القرآني من الفحش والجرح، فلا تنفر منه النفوس. الرابع: ترشح بركات التنزيل على المثل القرآني. الخامس: خلو المثل القرآني من الغريب والشاذ والنادر من الوقائع والأحداث. السادس: لقد جعل الله عز وجل المثل القرآني رحمة للناس جميعاً، فجاء بأحسن هيئة وأجمل صيغة وأقرب موضوع ليكون ليس محسوساً فقط، بل هو الذي يتقرب الى الإنسان وحواسه بما يتعذر معه ترك الإلتفات اليه والتدبر بمعانيه القدسية، فالمحسوس هو ما يحسه الإنسان بحواسه الخمسة أما المثل القرآني فهو أخص من المحسوس اذ ان المحسوس به وإدراكه لا يتوقف على إرادة الإنسان وحده، بل ان المثل القرآني يتودد الى الإنسان ويتقرب الى حواسه، ويجعلها تدركه طوعاً وقهراً وإنطباقاً، وقد جاء المثل في هذه الآية بما يجعل الإنسان يستحضره كل يوم. أما المسلم فانه يتذكره من وجوه: الأول: عندما يرى الكافر ينفق أمواله في المعاصي والتعدي على المسلمين، فقد يتباهى الكافر بما يشتريه من السلاح وما يهيئه من العدة والعدد لمحاربة المسلمين، أما المسلم فانه ينتظر نزول البلاء والضرر الشديد بالكافر، وتلف أمواله. الثاني: النماء والبركة التي تحصل في أموال المسلمين بلحاظ ان الضد سبب للتذكير بضده الآخر ، فحينما تزداد أموال المسلمين مع الإنفاق في سبيل الله، فانهم يستحضرون تلف أموال الكفار عند إنفاق شطر منهم في المعاصي والتعدي على المسلمين. الرابع: عند تلاوة هذه الآية الكريمة أو سماعها. الخامس: حينما يترك بعض الأفراد الكفر ويختارون الإسلام، وما يطرأ على حياتهم من السكينة والسعادة وأسباب البركة، ليكون إختيار الإسلام أثراً مباركاً للمثل القرآني الوارد في هذه الآية. وأما الكافر فانه يتذكر المثل القرآني من وجوه: الأول: عند الإنفاق في المعصية والتعدي ، وما يسببه المثل القرآني عنده من الملازمة الذهنية بين الإنفاق والتلف. الثاني: حال هبوب الرياح الباردة، صحيح ان بعض الكفار ليس عندهم مزروعات تتلف بالرياح الباردة، ولكن ذكرها في القرآن جاء من باب المثال والتشبيه ليكون درساً وموعظة. الثالث: حصول التلف في أموال الكافر، وتعرضه للخسارة بسبب ظاهر أو آفة قاهرة. الرابع: إدراك حقيقة قبح الكفر وما يترشح عنه من الضرر فمن أسرار خلق الإنسان ان نفس الكافر لا تعرف السكينة والإستقرار بل هي في حال لوم وصراع مستمر مع القوة الشهوية، وتحاول جاهدة التخلص من سلطان الهوى والعادات المذمومة، وهو من منافع نفخ الروح في آدم، وظهور آثاره في الأجيال المتعاقبة من أبنائه. الخامس: الخيبة والخسران وظهور النقص في الأموال من غير علة ظاهرة، فهو يحسب ويقدر ويجتهد في كسب الأموال وجمعها ولكنه يفاجئ في النتيجة بظهور النقص فيها والإبتلاء بأمور لم تكن في الحسبان، وان حصلت عنده زيادة فهي إستدراج الى حين، ودعوة للشكر لله تعالى بالإنابة والتوبة. السادس: رؤية المسلمين وهم يزدادون قوة، وتتسع دائرة حكمهم، وتكثر أموالهم، وتتحسن أسباب معيشتهم، وهذا الأمر ظاهر للعيان، إذ تشهد حياة المسلمين إرتقاء سريعاً في الملبس والمأكل والمسكن، وفيه دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام والإقرار بالعيودية لله تعالى ، والإعتبار من الأمثلة الواردة في القرآن. فمن غايات كل مثل وارد في القرآن الدعوة الى الإسلام وحسن الإيمان ونبذ الكفر والضلالة، وقد لا يكون شيوع المثل القرآني بالنص بل بالمعنى والمفهوم، وتلك آية أخرى من إعجاز القرآن وأسباب تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم إذ انهم يدركون المثل القرآني اما بالتلاوة والنص، وأما بالمعنى والدلالة، كما انهم يوصلون مضامينه الى الناس بذات المعنى وما يفيد تحقيق الغاية منه سواء على نحو الموجبة الكلية أو الموجبة الجزئية. ومن أسباب إنتشار معاني أمثال القرآني مجيؤه بلغة المحسوس الحاضر القريب من الناس، وتعلقه بمواضيع حاضرة عند الناس جميعاً كما في قوله تعالى [كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ] ( )، لتصف ما يفعله العنكبوت من الخيوط الرقيقة بيتاً بإعتباره عنواناً ومثالاً لملة الكافر وما أختاره من عبادة الأوثان، في مقابل بيت المؤمن بالله ونبيه الذي يكون بيته من الآجر والصخر والحديد. ومن وهن بيوت وملة الكفار حصول التلف في أموالهم، كما تحصل إزالة بيت العنكبوت بسهولة، واي دابة تأتي لتهاجم العنكبوت فان بيته لا يستطيع وقايته وحفظه، ومن الإعجاز في المثل القرآني ذكر جدل الكافر بصيغة المثل، قال تعالى [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ] ( ). ومما يدل على إتخاذ الكفار المثل سلاحاً في الباطل، والإصرار على العناد ، ذكر “ان جماعة من كفار قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل ، والوليد بن المغيرة تكلموا في نزول آيات القرآن بإحياء الموتى، فقال أبي بن خلف: الا ترون الى ما يقول محمد ان الله يبعث الأموات، ثم قال: واللات والعزى لأصيرن اليه ولأخصمنه، وأخذ عظماً بالياً فجعل يفته بيده وهو يقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم”( ). ومن الآيات ان يأتي إبطال مثل الكفار من عند الله بقوله تعالى [قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ] ( )، وفيه وجوه: الأول: دعوة للمسلمين للتصدي لأمثلة وحجج الكفار، وعدم تركها وشأنها. الثاني: منع أمثلة الكفار من الشيوع والإنتشار بين الناس بفضحها وإبطالها. الثالث: بيان موضوعية المثل وأثره عند الناس، فليس بين ذكر مثل الكفار اعلاه وبين إبطاله من آيات متعددة، بل جاء الرد وإقامة الحجة على الكفار في الحال. الرابع: إبطال مثل الكفار بمثل قرآني يتضمن الشواهد الواقعية، فحينما ذكروا أمراً يتعلق بعالم الغيب جاء رده بالذات، مع ذكر مثل وشاهد على بديع صنع الله ، قال سبحانه [أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ] ( ). الخامس: تنبيه وتحذير الكفار بلغة المثل وحثهم على الإلتفات الى المثل القرآني والتدبر في معانيه خصوصاً ، وانه يأتي بصيغة الحجة البالغة، والدليل القاطع. قانون المثل القرآني رسالة تفضل الله عز وجل على الناس ببعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وحاملين معهم رسالة السماء في التبليغ والوعد والوعيد، ومن الآيات ان الأنبياء أدوا وظائفهم العقائدية ولم يغادر أي نبي منهم الأرض الا وقد ترك من بعده أصحاباً وأتباعاً يقتدون بسيرته ويعملون بما جاء به من عند الله. ومع ان النبي أعم من الرسول وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس ، فان الأنبياء اخبروا قومهم بانهم بلغوا رسالات الله، وذكروا لفظ الرسالة بصيغة الجمع، وورد في القرآن على لسان كل من نبي الله نوح وهود عليهما السلام قوله تعالى [أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي] ( )، وفي شعيب ورد في التنزيل [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي]( ). وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة للناس جميعاً، ونزل عليه القرآن ليكون رسولاً دائماً يخاطب الناس على قدر عقولهم ومداركهم، ويعمل بسننه وأمثلته المسلمون ، ويدعون الناس الى الهداية والرشاد، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس. ويأتي المثل القرآني رسالة للمسلمين والناس جميعاً ، ومن الآيات انه لا يغادرهم ولا يعرض عنهم، فيأتي النبي ويدعو الى التوحيد ويبلغ الأحكام ثم ينتقل الى الرفيق الأعلى، ونزلت الكتب السماوية المتعددة، وتعرضت للتحريف والتبديل ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ليبقى رسولاً سماوياً دائماً للناس، معصوماً من التحريف والتبديل، لا يطرأ على أحكامه النسخ والتغيير، وكذا بالنسبة لأمثلته فهي ثابتة دائمة من وجوه: الأول: النص القرآني، وإمتناع المثل القرآني على التغيير في ألفاظه وكلماته، كما في الآية محل البحث، فانها مرسومة في القرآن ، كما أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شأنها شأن آيات القرآن الأخرى. الثاني: طرف المشبه الوارد في أمثلة القرآن، فهذه الآية تذكر إنفاق الكفار، وفي كل زمان يرى الناس ما يبذله الكفار من الأموال في المعاصي والصد عن سبيل الله، ليكون فعلهم حجة عليهم ، وسبباً للظن النوعي العام بنزول البلاء بهم، وجاءت الآية لتكون وعداً وعهداً إلهياً بحصول التلف في أموالهم على نحو القطع والحتم وليس الإحتمال، فهذه الآية ومضامينها القدسية من المحكمات وليس من المتشابهات. الثالث: طرف المشبه به وما يتضمنه من الدلالات الإعجازية وبديع القدرة الإلهية، فجاء في هذه الآية بالريح الباردة التي لا يقدر عليها الا الله عز وجل ولا يعلم أوانها وزمانها ومدتها الا هو سبحانه، ومع الإرتقاء العلمي والتقني في هذا الزمان في باب الإرصاد والفلك وحال المناخ والطقس فان أهل الإختصاص لا يعلمون أوان الرياح والأعاصير، ودرجة برودتها الا حين إبتدائها وظهور إماراتها، وفيه دعوة للإنسان للإقرار بضعفه وعجزه وقلة حيلته، وكذا بالنسبة لتلف أموال الكافر فانه لا يعلم أوانه ولا موضوعه ولا كيفيته ولا سرعته الا بعد حصول أو نزول البلية به. ومن الآيات ان الآية جاءت بصيغة الجمع من جهة ما ينفق الكفار، ومن جهة ملكية الحرث، فان الآية لم تقل حرث عبد، أو حرث جماعة، بل قالت بصيغة الجمع الكثير المتعدد بلفظ “حرث قوم” مما يدل على عظم البلاء الذي يحل بالكفار. وصحيح ان الآية جاءت بلغة التشبيه الا انها لا تمنع من إستنباط الدروس والعبر منها مثل أثر الريح الباردة وكونه أعم من أن ينحصر بالزرع والنبت وهو المستقرأ من معنى كلمة “حرث” وما تدل عليه من المعاني المتعددة. وللريح الباردة أضرار مباشرة وأخرى بالواسطة وذكرت الآية ضرراً مباشراً واحداً وهو هلاك الزرع والنبت ،أما الأضرار الأخرى فتتعلق بالأسرة والأموال والمقامات الإجتماعية والشأن والجاه وصحة البدن ، ومنها ما يأتي لاحقاً بعد إنتهاء زمان العاصفة، وهلاك الأموال بظهور الفتن بين الكفار وإنشغالهم عن الصد عن سبيل الله، إذ يدخل الناس الإسلام أفواجاً ويفقد الكفار القدرة على منعهم من دخوله، أو إثارة أٍسباب الشك والريب، لأن ضياع أموالهم حجة وإنذار لهم، وبرزخ دون مواصلتهم التعدي والإساءة للإسلام. وإذ ان المثل القرآني نعمة على الناس جميعاُ فقد جعله الله عز وجل رسالة سماوية متكاملة تبعث على الإيمان والصلاح، وتندب الناس لفعل الخيرات، وتحجبهم عن أسباب الضلالة والزيغ، وهو صاحب كريم ملازم للإنسان فقد تصل الرسائل الى جماعة وأفراد متحدين ومتفرقين ويطلعون عليها، ويولون مضامينها أهمية خاصة. الا ان تلك الأهمية محصورة بأوانها وموضوعها أما رسالة المثل القرآني فهي رسالة موجهة للناس جميعاً وفي الأجيال المتعاقبة، ليس فيها إستثناء لأفراد أو جماعات، وتتصف في كل زمان ومكان بذات البيان والوضوح في أطراف وأركان التشبيه، وفي موضوعها . ويستطيع كل إنسان إستنباط الدروس والعبر منها، وهذا العموم والوضوح من خصائص خير أمة أخرجت للناس، إذ ان المسلمين ينتفعون بالذات من المثل القرآني ويتخذونه درساً وعلماُ نافعاً، ويدعون به وبموضوعه الناس الى الإيمان، ويفضحون به الكفر والجحود والضلالة فهو رسالة موجهة للمسلمين ووديعة يحملها المسلمون لأهل الكتاب والناس جميعاً. ومن الآيات ان هذه الرسالة تؤتي ثمارها ونفعها على نحو متصل ودائم، لأنها رسالة سماوية نزلت من عند الله ، ونعمة تفضل الله تعالى بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته، لتفيض بركات الإسلام عليهم وعلى الناس جميعاً، وتدرك الأمم والملل المختلفة حاجة الناس الى القرآن والمثل القرآني ولزوم الرجوع اليه ، وإتخاذه إماماً ووسيلة للنجاة ويحمل صبغة الإنذار والتحذير المركب والمتعدد للكفار، وإذ جاء المثل في هذه الآية الكريمة بمجيء الريح على الزرع والحرث. وجاء المثل في آية أخرى بالريح الشديدة التي تأتي على الرماد قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ] ( ). وفيه إشعار للكفار بتغشي البلاء لهم في أموالهم وأعمالهم، فكل ما يريدون بناءه يذهب هباء، ولا يستطيعون من تحقيق الأماني والغايات التي يقصدون ، وفيه إخبار عن عدم ترتب الثواب على فعل الكافر في باب الإحسان الى الآخرين ، لإنحصار الثواب بالإيمان وقصد القربة الى الله تعالى. علم المناسبة يقال أصاب السهم القرطاس إذا لم يخطئ، وأصابه بكذا أي فجعه به، ويقال أصيب بأمواله أي فجع بها، والمصيبة: البلية والداهية، ومع ورود مادة “صاب”في القرآن ثمان وسبعين مرة فانه لم يرد لفظ “أصابت” الا في هذه الآية الكريمة مما يعني ان البلاء يحل بالكفار وانه يصيبهم كما يصيب السهم هدفه، مما يدل على انعدام احتمال بقاء أموالهم في سلامة ومأمن من المصيبة والبلاء. وورد لفظ “حرث” في القرآن عشر مرات وليس فيها لفظ (حرث قوم) الا في هذه الآية للدلالة على ان المصيبة التي تحل بالكفار انما هي بأمر ومشيئة الله تعالى، وقال سبحانه [وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] ( ). فهل يعني الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث بان عدم إنتفاع الكفار من أموالهم ينحصر بعالم الآخرة ، الجواب لا من وجوه: الأول: أنه مطلق في الدنيا والآخرة. الثاني: المراد من الحرث في الآية أعلاه أعم من الحرث الوارد في الآية محل البحث وما فيها من لغة التشبيه. الثالث: المثل الوارد في الآية الكريمة لم ينفِ تمتع الكفار بالحرث والزرع والمال بدليل إبتداء الآية بقوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ]أي ان عندهم أموالاً وعروضاً ، ويستطيعون الإنفاق والبذل والصرف، ولكنهم يجحدون النعم بإختيار الكفر والإنفاق في المعصية فتصرف عنهم النعم. وقد جاءت آيات القرآن بذكر الحرث ، وان الله تعالى هو الذي ينبته ويخرج الحب الكثير من الحبة الواحدة ، قال تعالى [ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ ] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت( )، والحطام هو الهشيم الذي لا يؤكل ولا ينتفع به، ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث ان نزول البلاء بأموال الكافرين هو من عند الله عز وجل ، كما انه الذي يرسل الرياح الباردة ، ولا يقدر عليه غيره سبحانه.
قوله تعالى [ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]
جاء هذا الشطر من الآية لتقييد الموضوع المشبه به في الآية بان الريح الباردة لم تصب الا زرع أناس ظلموا أنفسهم مع ان الريح الباردة بلاء يصيب البر والفاجر، ويأتي على الفزع مطلقاً، وفي هذا التقييد وجوه:
الأول: ان الأمر بيد الله تعالى، ومن الريح ما تأتي خصيصة لإبتلاء الكفار والظالمين ، ومنعهم من مواصلة التصدي.
الثاني: من الريح ما تكون كوارث يرسلها الله عزوجل لامتحان واختبار العباد ودعوتهم للصبر، ومنها ما تطلب الظالمين بالذات وأموالهم وحرثهم ، كما في الآية محل البحث ، ومن القرائن عليه قوله تعالى [أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ].
الثالث: يتجلى في هذه الريح الباردة غضب الله تعالى على القوم الكافرين، وظلمهم لأنفسهم.
الرابع: حصول الندامة والحسرة عند الكفار عند تلف أموالهم لأنهم ظلموا أنفسهم وتمادوا في الغي الغرور.
الخامس: بيان قانون ثابت وهو ان الذين يظلمون انفسهم ويعصون الله يبتليهم الله بنقص الأموال، ونزول المصائب وانعدام البركة.
السادس: بيان المائز بين المسلم والكافر حين نزول البلاء، فالرياح الباردة والكوارث تنزل بالبر والفاجر، والمسلم وغير المسلم، اما المسلم فانه يثاب على ما اصيب به، ويلجأ الى الله تعالى مستغفراً منيباً سائلاً الثواب والخلف، ويتحلى بالصبر، ويظهر القبول بأمر الله، اما الكافر فلا ثواب له على ما اصيب به، ويصيبه الجزع ويشعر بالخذلان، ويدرك قبح الكفر والجحود.
السابع: جاء القيد في الآية للإخبار عن إستحقاق الكفار تلف اموالهم، لانهم ظالمون لأنفسهم.
ويأتي ظلم النفس في المقام يمعنى انهم زرعوا في غير أوان الزرع او في مكان تهب عليه الريح الباردة وهو عرضة للتلف للتذكير بلغة التشبيه بان الكفار يضعون أموالهم وإنفاقهم في غير محله.
وفي الآية دعوة للناس جميعاً لإجتناب ظلم النفس، ومنعها من حقها في العبادة والصلاح، والظلم قبيح مطلقاً ، وجاءت الآية لتؤكد انه لاينحصر بالتعدي على الأخرين بل يشمل ظلم النفس والذات، وحينما يظلم الانسان غيره يأتي البلاء او العقاب، ولكن حينما يظلم نفسه هل يستحق العذاب ام انه امر خاص به، الجواب هو الأول وبه جاءت هذه الآية، فظلم النفس بالتعدي وفعل الباطل سبب لنزول البلاء والعقاب، وفي الآية وجوه:
الأول: التحذير من ظلم النفس.
الثاني: لزوم إجتناب الإساءة الى النفس والذات.
الثالث: الدعوة الى التعاون على البر والتقوى، ونبذ التعاضد والتعاون في افعال الكفر.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وصحيح ان هذه الصيغة تتعلق بالمشبه به، الا انها تتضمن الإشارة الى أمور:
الأول: ظلم الكفار لأنفسهم باختيارهم الكفر.
الثاني: انعدام النصح فيما بين الكفار ، فلا يحث بعضهم بعضاً على نبذ الكفر والإنفاق في المعاصي، بل بالعكس فانهم يتناجون بالمنكر ومعاداة الإسلام.
الثالث: البلاء معلول للكفر وتوظيف الكافر أمواله في المعصية والتعدي.
الرابع: قيام الكفار على نحو الإتحاد والتعدد بالانفاق في المعاصي والتعدي على المسلمين، فكل واحد منهم يظلم نفسه وجماعته، اما ظلمه لنفسه فبقائه على الكفر والانفاق فيه، واما ظلمه لجماعته فالإشتراك معهم في المعاصي وبذل الأموال في التعدي على الاسلام، ان بقاء الفرد على الكفر نوع مؤازرة وتعضيد للكفار الآخرين في تمسكهم بمفاهيم الكفر والضلالة.
الخامس: يضع الكفار اموالهم في غير الموضع والسبيل الذي يجب ان تنفق فيه، والأحكام التكليفية خمسة وهي الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، ويتصف الكفار بانهم ينفقون اموالهم فيما هو محرم وممنوع شرعاً.
فجاءت الآية بصيغة التشبيه للتذكير بظلمهم لانفسهم من وجوه:
الأول: مخالفتهم للوظيفة الشرعية.
الثاني: انفاق المال في المحرمات.
الثالث: التفريط بما جعل الله في ايديهم من المال، وهل هو من التبذير، الجواب انه اخس من التبذير ، وانه انفاق في الباطل والمعصية والإضرار بالإسلام والمسلمين.
الرابع: من ظلم الكفار لأنفسهم إختيارهم سوء العاقبة، ودخول النار يوم القيامة ، وهو اشد وجوه ظلم النفس، وجاء المثل في الآية للاخبار عن مقدمة هذا العذاب بهلاك الأموال ، وما يصاحبه من الاذى والحسرة والألم.
وجاءت الآية لتخبر عن علة هذا الهلاك وسبب تلف الاموال كي تنفر نفوس الكفار من الكفر والجحود والانفاق فيه، ويتخلوا عن ظلمهم لأنفسهم وتفريطهم بالأموال وتعرضهم للعقاب الدنيوي والأخروي، وظلم النفس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، واشدها واكثرها اختيار الكفر والانفاق فيه وفي التعدي على المسلمين فلذا جاء المثل في هذه الآية ليؤكد العذاب الاليم الذي ينزل بالكفار.
وتبين الآية حقيقة وهي قبح ظلم النفس ولزوم تجنبه، والتنزه عن الرذائل والاخلاق المذمومة، واجتناب العقائد الفاسدة والأعمال الضارة بالنفس والغير، اذ ان ظلم الغير هو ظلم للنفس ايضاً لما يترتب عليه من العواقب الوخيمة والإثم والذنب الذي يستوجب العذاب.
فيأتي البلاء ليكف الانسان عن ظلم نفسه وغيره، ومن العصمة امتناع المعصية، وفي الآية دعوة لكل انسان بلزوم وضع المال في موضوعه وعدم اتخاذه وسيلة للمعصية، ومادة للظلم والإضرار بالأخرين.
قانون “ظلموا أنفسهم”
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بان رزقه العقل ، وجعله قادراً على إختيار طريق الهداية والرشاد ، قال تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] ( )، أي سبيل الخير وسبيل الشر، وهو المروي عن الإمام علي وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وفيه شاهد على قيام الحجة على الإنسان بأهليته لمعرفة دروب الخير والصلاح، وطرق الضلالة والغواية، والقدرة على التمييز بينهما، وتحصيل ما فيه الرفعة والعز بإتباع سنن الخير وأداء الفرائض والمناسك، ومن الناس من يعرض عن حكم وإدراك العقل، ويتبع النفس الشهوية، ويجعل لسانه وجوارحه أسيرة بيد الهوى المحض الذي يؤدي في عاقبته الى الخسارة الدنيوية والأخروية.
وسبب هذه الخسارة أمر ذاتي، وفعل شخصي من الإنسان وليس من غيره وان كان تابعاً للغير منقاداً لأوامره كما في إتباع الظالم، لأن إتباعه نوع ظلم للنفس وعدم إكرام لها وإنحراف عما يجب ان يفعله الإنسان فلقد أكرمه الله عز وجل وجعله خليفة في الأرض ليقوم بأفعال الصلاح والعبادة ويؤدي المناسك، ويجتنب النواهي في دار الدنيا التي هي دار إختبار وإمتحان ومزرعة الى الآخرة.
فمن الناس من يزرع الخير فيها ليحصد الأجر والثواب ويجد أمامه في الآخرة ثمرة زرعه، وأجر عبادته، والأضعاف المضاعفة لإنفاقه في سبيل الله ومن الناس يزرع الشر وينفق أمواله في الباطل ليرى التلف وهلاك الأموال في الدنيا، فمن رحمة الله عز وجل في الدنيا انه لا يترك الكافر ينفق الأموال الكثيرة في المعاصي، ومحاربة الإسلام ثم يفاجئ يوم القيامة بالذنوب العظيمة التي تقوده الى النار، بل يتفضل عليه بالإنذار من وجوه:
الأول: بعثة الأنبياء والمرسلين.
الثاني: تنزيل الكتب السماوية.
الثالث: مجيء هذه الآية الكريمة بالوعيد والتخويف، ودعوة الكفار الذين يحبون أموالهم الى حفظها بإجتناب إنفاق شطر منها في المعصية والتعدي.
الرابع: لغة التشبيه التي يفهمها الناس جميعاً مع التباين في مداركهم، وكذا يدرك معانيها الذين يلهثون وراء الدنيا وزينتها، ولا يكلفون أنفسهم التدبر في عواقب الأمور، ومعاني الإنذارات وصيغ الوعيد السماوي، فيأتي المثل القرآني بصيغة المحسوس الذي يفهمه الناس حتى قليل الإكتراث بالمواعظ ومفاهيم الحكمة، وهذا الوجه من الإعجاز القرآني وإتصاف آياته بمخاطبة الناس جميعاً، ومجيء المثل الحسي الظاهر للناس جميعاً في آيات القرآن، ليكون حجة على الذين ظلموا أنفسهم، ووسيلة لنجاتهم من هذا الظلم والتعدي على النفس والغير.
ولا تنحصر وظائف هذه الآية بذم الذين ظلموا أنفسهم وإخبارهم عن تلف أموالهم بل انها تدعوهم للنجاة من ظلم النفس، والتنزه عن الكفر والضلالة.
لقد جاءت الآية بالتشبيه بخصوص الحرث والنبات وتلفه بالريح الباردة، وقيدته الآية بتعيين ملكية ألحرث ، وهو انه لقوم ظلموا أنفسهم في إشارة الى نزول البلاء والعذاب بالكفار لأنهم ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر، وبإنفاقهم الأموال في محاربة الإسلام.
وفي الآية تحذير للمسلمين من الركون للكفار الذين ينفقون أموالهم في المعاصي والتعدي على الإسلام ، وإجتناب البيع والشراء معهم بالآجل وما يحتمل معه عجزهم عن الوفاء بالديون وإنجاز الأعمال والنهي عن مخالطتهم ومصاحبتهم ومداهنتهم ولباس زيهم، وحضور مجالسهم والإنصات اليهم قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
ولم تقل الآية “حرث قوم ظالمين” بل قالت “حرث قوم ظلموا أنفسهم” لأن بين الظلم مطلقاً وظلم النفس عموماً وخصوصاً مطلقاً، والأول أعم من الثاني، فجاءت الآية لتوكيد تلبس الكفار بظلمهم لأنفسهم وتعديهم عليها، وإلحاق الضرر بها والقائها في العذاب، وحصر ظلم الكفار بأنفسهم في الآية لبيان حقيقة ، وهي ان إنفاقهم الأموال في محاربة الإسلام لن يضر المسلمين، ولن يكون علة تامة لمنع الناس من دخول الإسلام، فقوله تعالى “ظلموا أنفسهم” آية إعجازية في القرآن ، وشاهد على نزوله من عند الله، لما فيه من البشارة للمسلمين بالأمن والسلامة من الكفار وأموالهم وجيوشهم.
ومن نعم الله على الناس أنه سبحانه أراد للمسلمين العز والرفعة، ومنها دفع الشر والضرر عنهم.
ومن إخبار الآية عن إضرار الكفار بأنفسهم عند إنفاقهم في المعاصي نوع تخويف ووعيد وتذكير بما يلاقونه من العذاب الأخروي ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ] ( )، كما ان وصف الكفار والفاسقين الذين ينفقون أموالهم في محاربة الإسلام بالظالمين لأنفسهم دعوة لهم للتوبة والإنابة قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ]( ).
ولو إنتقل الكافر الى الإسلام فانه يكون في مأمن من الإنذارات والذم الوارد في هذه الآية الكريمة وما فيها من المثل الذي هو وعيد وتخويف جاء بصيغة المثل.
وهذا من خصوصيات المثل السماوي، فأمثال الشعوب والأمم تقتبس من وقائع وحوادث، أما المثل السماوي فهو مدرسة عقائدية وإنذار وتخويف كما يأتي إخباراً عن حال وأمر حادث عقوبة أو جزاء، وصحيح ان الآية جاءت بالإخبار بصيغة المثل عن تلف أموال الكفار الا انها أعم في موضوعها، اذ ان تلف الأموال مقدمة لنزول العذاب، وحصول الإستئصال إذا إستمر الكفار في المعاصي والتعدي ، قال تعالى [ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] ( ).
وتبين الآية حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لإصلاحهم ، وتخليصهم من ظلمهم لأنفسهم ، وتنزيه الأرض من الكفر والضلالة، ومنع سوء التصرف في الأموال، فاذا كان الإسلام ينهى عن الإسراف والتبذير فانه يحارب جعل المال في التعدي والمعاصي ومحاربة الإسلام.
علم المناسبة
وردت مادة “ظلم” في آيات كثيرة من القرآن، وجاءت كلمة “ظلموا” في ثلاثة وأربعين موضعاً من القرآن تتضمن الذم والوعيد للقوم الكافرين والظالمين ، منها ست آيات بلفظ “ظلموا أنفسهم” إثنتين منها في سورة آل عمران ، وواحدة في كل من سورة النساء، وهود، وإبراهيم، وسبأ.
وقد جاءت الآية الثانية من سورة آل عمران في مدح الذين يتداركون أنفسهم، ويهجرون منازل ظلم النفس بالإستغفار اذ يستحضر المسلم ذكر الله والخشية منه، ويتذكر عالم الآخرة وما فيها من الثواب والعقاب فيقلع عن الذنوب ويتوب الى الله، وجاءت الآية بصيغة الجمع سواء في ظلم النفس أو في الإستغفار ، ونيل مرتبة العفو والتوبة ، وفيه مسائل:
الأولى: التباين في درجة ظلم النفس، فالكافر يظلم نفسه بإختيار الكفر وهو سبب لدخوله النار، وينفق أمواله في المعصية فينزل البلاء به، وتصاب أمواله وثروته بالتلف، وقد يأتي المسلم الذنوب ، فيتوب الى الله تعالى، فيغفر له.
الثاني: فتح باب التوبة للمسلم، ولا توبة مع الكفر، إذ انه مانع من قبول التوبة من الذنوب، فلا سبيل الى قبول توبة الكافر الا بهجرانه للكفر.
الثالث: بيان قانون ثابت وهو إشتراط المغفرة بالتوبة من الكفر، والرجوع الى الإيمان والهداية.
أن أحب شيء الى الإنسان نفسه، ولها الأولوية في الإنفاق والسلامة ودفع الأذى لو تردد الأمر بينها وبين غيرها، ولكن الكافر يقدم على ظلم نفسه، ويعرضها لأشد العذاب، فتأتي آيات القرآن لتوبيخه على هذا الفعل وهذا التوبيخ بذاته نوع إصلاح ودعوة للتوبة والرشاد، وللنفس معان عديدة منها:
الأول: ذات الشيء.
الثاني: الروح.
الثالث: الجوهر المتعلق بالأجسام تعلق التدبير والتصرف.
الرابع: الشيء الباقي من الإنسان بعد الموت.
والمراد في المقام هو المعنى الأول، ولا تتعارض معه المعاني الأخرى أعلاه إذ ان عواقب وأضرار ظلم الكافر لنفسه تشمل الحياة الدنيا والآخرة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “الإدماج” وهو ان يدمج المتكلم في قصده وغايته من الكلام غرضاً في غرض، أو بديعاً في بديع، فيظهر من الكلام وجه واحد ولكنه يتضمن الوجه الثاني في معناه على نحو الإشارة والدلالة، ويأتي هذا المعنى في آيات القرآن على نحو التعدد والإنحلال اللا متناهي، والتي تدعو العلماء والباحثين الى إستقراء الدروس وإستنباط الأحكام والسنن منها، والإعتبار والإتعاظ مما فيها من القصص ، ولغة البشارة والإنذار، والوعد والوعيد.
ومنها لغة المثل في القرآن، فانها مدرسة جامعة للأحكام، لما فيه من الإرشاد وأسباب الهداية، وهي من مصاديق الحكمة والبلاغ العام في القرآن، وملاحقة الآيات القرآنية للكفار بلغة المثل الذي يتضمن التوبيخ والتبكيت والوعيد في آن واحد.
فالغرض الظاهر هو إنذار الكفار من إنفاق أموالهم في التعدي على المسلمين، ولكن الغرض المدمج معه من المتعدد وهو على وجوه منها:
الأول: بيان قبح الكفر، ولزوم نفرة النفوس منه.
الثاني: مخالفة الكفر والجحود لوظائف الإنسان العبادية.
الثالث: سوء عاقبة الكفار.
الرابع: رجوع الإنفاق في الكفر والتعدي على المسلمين على الكفار وأموالهم.
الخامس: يؤدي إنفاق الكفار في محاربة الإسلام الى فقرهم وذلهم، وهو مقدمة لهزيمتهم.
السادس: لا يعلم جنود الله عز وجل الا هو سبحانه، ومنها الريح الباردة والعاتية والتي تأتي على الزرع فتهلكه، وعلى الإنسان فتقتله.
السابع: إستحقاق الكفار للعقوبة والعذاب في الدنيا، ولا ينحصر الأمر بالإستحقاق وحده، بل يشمل نزوله بهم، وتلقيهم العذاب والبلاء، لأنهم ظلموا أنفسهم على نحو مركب ومتعدد بإختيارهم الكفر والإنفاق في المعاصي ومحاربة الإسلام.
الثامن: دعوة الكفار للتنزه من ظلم النفس، فقد رزقهم الله عز وجل العقل وجعله آلة للتمييز بين الخير والشر، وبين ما فيه النفع والضرر، وليس من شر وضرر أكبر وأكثر من الكفر، فيأتي البلاء للكفار لزجره عن الإقامة في منازل الكفر، وبذل الأموال في محاولات تثبيت مفاهيمه.
التاسع: حث المسلمين على إجتناب الركون للكفار لأنهم ظلموا أنفسهم، ومن يظلم نفسه يظلم غيره من باب الأولوية بإعتبار ان نفسه أعز عليه من غيره ، ومن ظلم الغير الإنفاق في محاربة الإسلام ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
قوله تعالى [فَأَهْلَكَتْهُ]
يتكون هذا اللفظ من اربع كلمات حرف وفعل وفاعل ومفعول به، وجاء حرف العطف الفاء لتعقب أثر الريح لها وعدم تخلفه عنها ، وكأنه من العلة والمعلول ، وبيان إنعدام الفترة بين هبوب الريح الباردة وبين هلاك الزرع، وفيه وجوه:
الأول: حالما هبت الريح الباردة هلك الزرع.
الثاني: لم تقف الريح الابعد هلاك الزرع والنبت.
الثالث: جاء هلاك الزرع بعد هدوء الريح وصلاح الطقس وظهور أثارها التدريجية.
ولاتعارض بين هذه الوجوه ولكنها من مصاديق الآية، وقد تتباين سرعة وبرودة الرياح، وقدرة النبات على تحمل ومقاومة الريح والبرد الا ان النهاية في جميع الحالات هي هلاك الزرع، وتلف الأموال، وضياع الآمال، وصيرورة الحساب والنفع سراباً.
ونسبت الآية إهلاك الزرع الى الريح لانها جاءت من باب المثال والتشبيه بما يبعثه الله عزوجل على أموال الكفار لتلفها، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وتبين الآية ضعف ووهن أموال الكفار سواء كانت من الزراعات او الجواهر أو العروض ، فاذا كانت الزراعات تهلك بالريح الباردة، فان ضروب أموال الكفار الأخرى يبعث عليها الله مايتلفها ويصيبها بالكساد.
لقد جاء المثل في الآية القرآنية لبيان تلف أموال الكفار لانفاق شطر منها في الإقامة على الكفر ، والتعدي على الإسلام ، وتحتمل الآية في مقدار تلف المزروعات وجوهاً:
الأول: التلف والهلاك التام ، وعدم بقاء نباتات حية بعد إنتهاء العاصفة ، وما يصاحبها من البرد الشديد.
الثاني: هلاك جزء من النباتات دون الشطر الآخر.
الثالث: هلاك نوع دون انواع أخرى ، تمتلك القدرة على مقاومة الريح الباردة.
والصحيح هو الأول لأصالة الاطلاق وسياق الآية موضوع المثل، ولعدم أهلية النباتات على مقاومة الرياح الشديدة الباردة ، ومن الآيات انه لم تذكر مدة الرياح وأيامها ولا شدة برودها، فورد ذكرها مجملاً، وجعل المدار على هلاك النبت والزرع أي انها تكون بمدة وبرودة كافية لهلاك جميع الزرع الذي يعود للظالمين وعدم بقاء شئ منه،في إشارة وإنذار بالبلاء الذي يحل بالكافرين فيأتي على أموالهم .
واذ جاءت الآية السابقة بالإخبار عن عدم إغناء وكفاية أموال وأولاد الكفار عنهم، فان هذه الآية جاءت بلغة الانذار والتخويف بان اموالهم يصيبها الهلاك والتلف، وانها ليست فقط لاتغني عنهم في الآخرة بل انها لا تبقى في الدنيا، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] أي ان تلف المال يحصل في الحياة الدنيا، ولا تمر الليالي والأيام الا ويرى الكفار بأنفسهم زوال وتلف أموالهم.
ومع ان هذا التلف هو نتيجة لظلم أنفسهم فانه وجه آخر من وجوه ظلم النفس أي ان رؤية الإنسان أمواله وقد تلفت وهلكت بسبب سوء فعله هي ظلم آخر للنفس، وتلك آية إعجازية في الإبتلاء في الحياة الدنيا تختص بالكفار دون المسلمين، فقد تتعرض أموال المسلم الى التلف، وتجارته الى الخسارة، ولكنه ليس ظلماً للنفس بل إمتحان ، ويتسلح بالصبر والإستغفار، والتضرع إلى الله تعالى للعوض والبدل.
فكأن الآية تقول للكفار ان إنفاقكم في مسالك الكفر يتلف جميع أموالكم ثم لا يأتي بديل عنها، وقد جاء الأنبياء بالنصح لقومهم ودعوتهم الى الهدى ،وفي التنزيل حكاية عن نبي الله شعيب[يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ] ( ).
وجاءت هذه الآية الكريمة نصحاُ وموعظة ، وهي شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، وتفضيل المسلمين على الأمم والملل الأخرى من وجوه:
الأول: جاءت الآية الواحدة في القرآن مدرسة في النصح والموعظة.
الثاني: تعدد النصح في القرآن.
الثالث: مجيء المثل القرآني نصيحة ودعوة للهداية.
الرابع: بقاء آيات القرآن وما فيها من النصح الى يوم القيامة.
الخامس: توجه النصح في القرآن للناس جميعاً ، وعدم إنحصاره باصحاب وأمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: مناسبة لغة النصح في القرآن لجميع الناس مع تباين مدارك أفهامهم.
السابع: تلاوة المسلمين لآيات القرآن التي تتضمن النصح والهداية للناس، ومنها هذه الآية التي تدعو الكفار في مفهومها الى حفظ أموالهم والعناية بأولادهم من بعدهم بإجتناب الإنفاق في الكفر والضلالة.
الثامن: تولي المسلمين وظيفة إعلان العقوبة الإلهية لمن ينفق أمواله في الكفر والضلالة، وبيان سوء عاقبته، وفيه رحمة متجددة.
علم المناسبة
وردت مادة “هلك” في القرآن سبعاً وستين مرة، وجاءت أكثرها في هلاك الظالمين والمسرفين ، وأهل القوة والبطش بما كسبت أيديهم، وإصرارهم على فعل السيئات وإقتراف الذنوب، وجاء ذكر إهلاك القرى الظالمة من غير ذكر كيفية الهلاك في أغلبها ، الا انه ورد هلاك عاد مثلاً، بالريح قال تعالى [ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ] ( ).
وقد ذكرت الآية مدة الريح التي أرسلها الله على عاد هي سبع ليال وثمانية أيام، وبين موضوع الآية أعلاه ، والآية محل البحث عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه هي:
الأول: هبوب الريح الباردة الشديدة العصوف.
الثاني: تحصيل الهلاك منها.
الثالث: التنزيل ،وكونه آية قرآنية وإخباراً سماوياً.
الرابع: الريح الباردة نوع من أنواع البلاء والعذاب، وفيه دعوة للمسلمين للإستعاذة منها.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: لغة المثل في الآية محل البحث، أما في الآية من سورة الحاقة فجاء الإخبار عن أمر حاصل في الواقع.
الثاني: تعلق الآية محل البحث بهلاك النبات والزرع، أما موضوع الآية أعلاه فهو خاص بقوم عاد وهلاكهم بسبب كفرهم وجحودهم.
الثالث: الريح التي جاءت الى عاد أشد برداً ، والظاهر انها أكثر مدة، لأنها موجهة لهلاك الكافرين أنفسهم، مما يحتاج برودة وشدة أكثر فيسبب هلاك النبات “لذا ورد عن الزهري عن قبيصة بن ذويب أنه قال: ما يخرج من الريح شيء الا عليها خزان يعلمون قدرها وعددها وكيلها حتى كانت التي أرسلت على عاد فاندفق منها فهم لا يعلمون قدر غضب الله فلذلك سميت عاتية” ( ).
ان الريح الباردة تهلك أموال الكافرين لقيامهم بالإنفاق في المعصية والتعدي، كما انها وسيلة لهلاك الكافرين أنفسهم عندما يتمادون في الغي، ويصرون على الكفر والتعدي، إذ ان وجوه الظلم والتعدي لا تنحصر بالإنفاق وبذل المال في الإضرار بالمسلمين، والصد عن سبيل الله، بل انها تأتي باللسان والفعل والتدبير الخبيث ، والمكر السيء الظاهر منه والخفي، فيستحق الكفار العذاب الذي يستأصلهم من الأرض، وكأن الريح التي تهلك النبات، وأسباب تلف أموال الكفار إنذار لهم.
قانون “التنافي بين الغنى والإنفاق في الباطل”
لقد جعل الله عز وجل الإنسان يمتاز عن الخلائق بالملكية للمال والجواهر والعروض، وتلك الخصوصية من سمات الخلافة في الأرض وإكرام الله عز وجل للإنسان، وإحاطته بالنعم الظاهرة، وتيسير حوائجه، وهي أيضاً نوع إبتلاء ، وإختبار من عند الله للإنسان لينظر ماذا يفعل بالأموال وكيف ينفقها، وهل يخرج زكاتها ويجعلها في مرضاة الله أم أنه يتخذها وسيلة للمعصية والظلم والجحود، وجاءت هذه الآية للإخبار عن أمور:
الأول: ان فريقاً من الناس يختارون الكفر، ويتبعون الهوى ويسلكون سبل الضلالة.
الثاني: قيام الكفار بالإنفاق في المعصية والظلم والعدوان.
الثالث: محاربة الكفار للإسلام والمسلمين.
الرابع: سعي الكفار لجعل المال الذي في أيديهم وسيلة للصد عن سبيل الله عز وجل.
الخامس: إنذار الكفار بلغة المثال، وفيه نوع كناية وتعريض، وقد تكون الكناية أبلغ من التصريح، مع ان القرآن يتضمن إنذار الكفار بصيغ التصريح والكناية ، ليأتي الخطاب القرآني عاماً وشاملاً ويتصف بالبيان المعلوم من الناس ، على إختلاف مللهم ومداركهم ، كي يكون حجة على الكفار، وفضحاً لسوء فعلهم ، وباب هداية وإرشاد للناس جميعاً، ومن وجوه الإنذار القرآني ما يتعلق بالمال جمعاً وإدخاراً وإنفاقاً، ومنه قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ) وجاءت الآية محل البحث للإخبار عن عدم إستدامة هذا الإكتناز وصيرورته هباء منثوراً بسبب الإنفاق في معصية الله ومحاربة الإسلام.
ويفيد الجمع بين الآيتين اللوم والتوبيخ على إدخار الأموال وعدم إخراج الزكاة ، والحقوق الشرعية منها، والإنذار بتلفها وزوالها اذا أنفق مقدار منها في المعصية والتعدي على المسلمين، وتلك آية اعجازية في علوم القرآن والجمع بين آياته ومضامينه القدسية، وقوس الصعود في سلم الأنذارات التي تلاحق الكفار في اعز ما يملكون من الأموال والمقتنيات، ليدركوا حقيقة وهي قبح الكفر والتلبس به، والحرب السماوية والأرضية على الكفر وأهله.
فيأتي البلاء على الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر وجمعهم الأموال , وانفاق شطر منها في المعاصي ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، مما لاينتج عنه صفة الغنى والثروة عن الكفار. فان قيل من الكفار من تكون عنده أموال طائلة ، قلت: ان الآية محل البحث انذار مستديم ووعيد بزوال هذه الأموال لذا جاء المثل الكريم في الآية بالريح الشديدة البرودة التي تأتي على الزرع، فليس كل موسم زراعة يصاب بريح تهلك المزروعات، ولا نوع من النباتات يعرض دائماً للتلف والهلاك بسبب البرد.
فمن فضل الله عز وجل ترى أرق الخضروات تنبت وتنمو في المناطق الشديدة البرودة، ولكن ذكر العواصف الباردة في الآية الكريمة عنوان لنزول الغضب الإلهي بالكفار ومحق أموالهم، وزوال ثروتهم بسبب توظيفهم اياها في معصية الله، ونشر الرذائل ومحاولة منع الناس من دخول الإسلام وإختيار سبل الهداية والرشاد.
واذا ما اصاب الكافر الفقر والفاقة فانه قد لاينقطع عن إيذاء المسلمين ومحاربة الاسلام، ولكنه يصبح عاجزاً عن تسخير الآلات والأسباب التي يجهز بها على المسلمين، ويعمل على اخراجهم من ديارهم ، او غزو ثغورهم وسلب أموالهم، والأستحواذ على ثرواتهم ، فالعدو الفقير اقل شراً واذى من العدو الغني، كما أن فقر الكافر بعد غناه مناسبة للإنابة والتوبة.
فجاءت هذه الآية لتخبر المسلمين بان اعداءهم لن يبقوا في منازل الغنى والثروة وانهم لابد وان يغادروها من غير عودة او رجوع الا بقيد الايمان وتبدل الموضوع وانتقالهم الى الاسلام حيث النماء والزيادة في المال بسبب الهداية والانفاق في سبيل الله.
لقد جعل الله عزوجل المال أمانة مالكية بيد الانسان، ومادة للأبتلاء والإمتحان والإفتتان، وتأتي هذه الآية لتخبر عن وجود مانع من استدامة المال والثروة بيد الإنسان والجماعة بقيد مركب من أمرين:
الأول: اختيار الكفر والضلالة.
الثاني: انفاق شطر من المال في المعصية والتعدي.
فان قلت اذا كان ما ينفق في المعصية والتعدي على الإسلام شطراً من المال، فلماذا يتعرض المال كله للتلف والضياع، فالجواب من وجوه:
الأول: ان تلف المال كله عقوبة إلهية على انفاق شطر منه في الباطل.
الثاني: الشطر الذي تم إنفاقه لم يبق عند صاحبه اصلاً، لذهابه بالانفاق، لذا تأتي العقوبة على الشطر الباقي، وكأن المال يأكل بعضه بعضاً بسبب سوء الفعل ، فالعقوبة تأتي من ذات الفعل.
الثالث: التلبس بإنفاق شطر من المال في الباطل أمارة على توظيف الشطر الآخر منه في ذات الموضوع مما يسبب مضاعفة الضرر والأذى للمسلمين ، وحصول المشقة والحرج في مواجهة الكفر والكافرين.
فيأتي تلف أموال الكفار تخفيفاً عن المسلمين ، وبرزخاً دون تعرضهم للخسارة ، وسبباً من أسباب هزيمة الكفار عند المواجهة ، ومانعاً من مواصلة إضرارهم بالمسلمين.
وتبين الآية التضاد والتنافر بين الغنى والكفر، وانهما لايجتمعان عند شخص او جماعة او أمة، وفيه مسائل:
الأولى: إستدامة الإنذار الموجه إلى الكفار.
الثانية: تعلق الإنذار بأهم موضوع يشغل الانسان وهو المال، ويكون على أقسام:
الأول: جمع المال.
الثاني: حفظ وتعاهد المال.
الثالث: زيادة ونماء المال.
فيأتي الإنذار والوعيد شاملاً للاقسام الثلاثة إذ يفيد المثل الوارد في الآية الكريمة مجئ التلف على جميع مال الكافر، وان قام بجمع المال وحرص على تعاهده ، فان انفق منه في موارد الكفر والضلالة فان النتيجة ذاتها وهي تلف المال تنتظره، ويكون الكفر والأنفاق فيه سبباً لتلف المال، ومع ان الآية الكريمة جاءت بمثال العاصفة الشديدة البرودة والتي تهلك النباتات، فان موضوع الآية أعم من وجهين:
الأول: تعدد آفة وسبب هلاك أموال الكفار فهي اعم مما ورد في المثال وهو العاصفة الباردة الشديدة، فيأتي البلاء متحداً ومتعدداً وبافة سماوية او أرضية او بفعل انسان يأتي عن عمد أو سهو او بأمر لم يطرأ على بال أحد سواء يأتي فجأة او تدريجياً.
الثاني: عدم إنحصار التلف بالمزروعات والنباتات من أموال الكفار، لان موضوع الآية اعم من المشبه به.
الثالثة: يظن الكافر بان بعضاً من أمواله في حرز من التلف والزوال كالعقارات والدور والأراضي الزراعية وانها غير قابلة للتلف والزوال، كما انه لاينوي إنفاقها بل يقصد جعلها مادة ورأس مال ومؤونة ولكن صنوف البلاء اعم واكبر من قدرته على مواجهتها وتحملها .
الرابعة: ممايتصف به الكافر من الأخلاق والسجايا الجزع وقلة الحيلة وانعدام ملكة الصبر، فيصبح بسبب ملازمته الكفر وإصراره على الجحود فقيراً بعد الغنى ، ومحتاجاً بعد السعة واليسر، ليكون فقره سبباً غيرياً لقوة المسلمين، ومقدمة للإجهاز على الكفار، وجذبهم للإسلام، ومن احكام اللباس مثلاً في الشريعة الإسلامية حرمة لبس الرجال للحرير، الا انه يجوز لبسه في الحرب كي يبدو المسلمون امام الاعداء في سعة وغنى، ويكون لباسهم دعوة للكفار لدخول الإسلام ومشاركة المسلمين في النعم التي يتنعمون بها، في الوقت الذي يخشى الكافر إرتداء الحسن وما غلا ثمنه من اللباس والذهب خشية تعرضه للسلب.
قانون التلف
لقد خلق الله عزوجل الإنسان لعبادته وشكره على نعمة الخلق والنشأة والرزق المستديم ، ومن مصاديق الشكر عكوف القلب والجوارح على الطاعة، والإعتراف بالنعم على وجه الإنقياد والخشوع، والثناء على الله عزوجل بذكر إحسانه والمواظبة على طاعته، واجتناب معصيته، والشكر ارقى من الرضا، فبعد الرضا يأتي الشكر، او هو المصادق الخارجي الذي يتجلى به الرضا.
وجاءت آيات كريمة بذكر منزلة الشكر بعد العبادة ، قال تعالى [وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ] ومن الناس من يظلم نفسه بمعصية أوامر الله ، ومن أشد وجوه ظلم الإنسان لنفسه جحوده بنعم الله، وإصراره على عدم شكر الله تعالى، وبدل ان يقر ويعترف الكافر بعجزه عن شكر الله على النعم اللامتناهية التي انعم الله عليه بها تراه يجعل أمواله التي هي من أعظم النعم الإلهية عليه مسخرة في المعصية والصد عن سبيل الله وإتباع الهوى، فتأتي العقوبة العاجلة في الدنيا بزوال هذه النعمة.
ويحتمل وجود المال عند الإنسان أموراً:
الأول: عدم وجوده، وبقاء الإنسان على حال الفقر والفاقة.
الثاني: السعة والغنى امر متزلل وغير ثابت، فمن كان غنياً قد يصبح فقيراً، وكذا العكس.
الثالث: الغنى امر ثابت ودائم، فمن يأتيه الغنى لايغادره.
الرابع: العنوان الجامع للوجوه الثلاثة ، فمن الناس من يولد فقيراً ويبقى على حال الفقر والفاقة إلى حين وفاته. ومن الناس من يكون غنياً من حين ولادته إلى أن يغادر الدنيا، ومنهم من يكون برزخاً ووسطاً بين الفريقين.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن تعرض الكفار كأفراد وجماعة وملة الى الفقر وزوال الأموال، وقد يبقى بعضهم في سعة ومندوحة، ولكنهم كملة وأمة يصبحون فقراء عاجزين عن الانفاق , وشراء السلاح اللازم لمواجهة المسلمين،وصد الناس عن سبيل الله عزوجل، ليكون تلف أموالهم رحمة بالمسلمين وبهم وبالناس جميعاً، وهو من اللطف الإلهي بالناس في الحياة الدنيا، والتخفيف عنهم واعانتهم وارشادهم الى سبل الهداية والرشاد.
وجاءت الآية ومافيها من المثل الكريم انذاراً للكفار، ومن خصائص الإنذار في القرآن، انه باب للتوبة والإنابة لانفراد الإنذار القرآني بصفة إعجازية وهي حصول مصداقه الواقعي سواء جاء صريحاً او كنابة او مثلاً وتشبيهاً، فقد انعم الله عزوجل على الناس بالمثل الوارد في هذه الآية، ليحذرهم من الكفر والجحود الإنفاق فيه، ويخبرهم عن تلف المال الشخصي والعام العائد للكفار عند توظيفه ، أو شطر منه في التعدي على الإسلام والمسلمين.
وهذا التلف خسارة للأجيال والناس جميعاً وليس للكفار وحدهم ، فصحيح ان ملكيته شخصية وعائدة للكفار، الا ان وجود المال وتداوله بين الناس من أسباب ازدهار الحياة الاقتصادية، وتحسين مستوى المعيشة والإعمار، وإنشاء الجسور وتبليط الشوارع ودور السكن والمؤسسات الصحية ، وكثرة البيع والشراء وعموم التجارات ، والزراعات والصناعات، اما تلف المال فيضر بالصالح العام وان كان حصوله عند جماعة أو ملة او أمة مخصوصة .
وحينما ينفق الكفار أموالهم في قتل المسلمين ومنعهم من إقامة شعائر الله، والتعدي على الحرمات تكون الأولوية لحفظ بيضة الإسلام، وسلامة المسلمين فتأتي آفات سماوية او ارضية على أموال الكفار لتلفها مع سعة فضل الله على الناس في تحصيل الخلف لها بما يعمر الأسواق ، ولكن ليس بواسطة الذين يبادرون الى التعدي حالما تكون الأموال بأيديهم ، وتحت تصرفهم.
فتلف الأموال الذي جاء به المثل الكريم في هذه الآية قانون ثابت ولكنه لايعني الحاق الضرر بعموم الناس، بل هو رحمة، وسلب لأسباب الضرر والإضرار، ومنع من شيوع التعدي والقتل على المسلمين وغيرهم، لان تسخير الكفار الأموال لشراء الأسلحة وإشعال الفتن والحرب يلحق الخسارة بالناس جميعاً، ويؤدي الى القتل والأجل المخترم، قال تعالى [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ] ( ).
فيصاب الكفار بنقص الأموال لمنعهم من الإستحواذ على السلطان والحكم، وسوق الناس والمستضعفين منهم الى الحروب والمعارك المتكررة التي يقصدون منها محاربة الاسلام ، وتحقيق مصالح دنيوية، وتوسعة رقعة الحكم والسلطان، فقد تحدث الحرب بين اهل ملتين من الكفار، وكل ملة تريد ان تزيح الأخرى فتذهب الأموال وتزهق النفوس، وهل يشملها موضوع الآية والمثل الوارد فيها، الجواب نعم، لأصالة الإطلاق، وإرادة إنفاق الكفار الأموال وذمهم عليه، وتحذيرهم منه، ودعوتهم الى نبذ الكفر وترك منازل الضلالة والجحود.
ان تلف أموال الكفار باب لزيادة الأموال وتحسين أحوال الناس، وسلامتهم من القتل والفتك، وعمارة للأرض، واقامة لشعائر الله، وجعل الأموال بيد من يحرص على توظيفها في مرضاة الله، والسلامة من الآفات والأضرار التي تحل بالناس عقوبة.
وتدعو الآية في مفهومها الى اقتناء الأموال والعروض، وجعلها وسيلة للتنعم والتمتع بالحياة الدنيا بالحلال والمباح والأمور النافعة، دون المحرم والأفعال المنكرة التي تضر البلاد والعباد.
وتبين الآية عدم اعتبار ما ينفقه الكفار، فهو كالحرث الذي تأتي الريح فتهلكه كله، ليكون المسلمون في حصانة من الخوف والفزع الذي يحاول الكفار نشره بالتباهي بعددهم وعدتهم واسلحتهم ولم تقل الآية (مثل ماينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا انفسهم فاصابته ريح فيها صر فاهلكته) وقيل خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهو تقديم ماهو أهم، لان الريح التي هي مثل العذاب ،وذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها ، واعتماداً على ان الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام الى اصله ، على ايسر وجه) ( ).
ولكن الآية خالية من مخالفة النظم، وجاء تقديم الريح لان إنفاق الكفار في الباطل هو السبب في تلف أموالهم التي انفقوها والتي بقيت في أيديهم، فالآية تحذر الكفار من البقاء على الكفر، ومن الانفاق فيه، وتخبرهم بان هذا الإنفاق المبغوض والمحرم يأتي على جميع أموالهم وتركتهم ، والأصل في الكلام العربي.
قانون فاهلكته
انفردت هذه الآية الكريمة من بين الآيات القرآن بذكر هذه الكلمة المباركة، ومن الآيات انها جاءت من وجوه:
الأول: سياق مثل قرآني.
الثاني: عنوان التشبيه.
الثالث: تعلقها بموضوع الزرع والحرث.
الرابع: إختصاصها بقوم ظلموا انفسهم.
الخامس: توكيد القبح الذاتي لما يقوم به الكفار من الأنفاق في المعاصي.
ويضفي هذا التعدد في مضامين الآية القدسية اسراراً ملكوتية على معانيها، ودلالاتها، ويدل على لزوم استنباط الاحكام منها، ومنع التفريط بما جاء فيها، ولايختص هذا المنع بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً ومنهم الكفار الذين هم موضوع الآية والمثل الوارد فيها.
وصحيح ان هذه الآية جاءت بلغة التشبيه والمثال، والذي يعني تقريب المعنى، الا انه لايمنع من تأسيس الآية لقانون ثابت في الحياة الدنيا، وهو هلاك وتلف الأموال التي يستعمل شطر منها في المعصية ومحاربة الاسلام، ليكون سلاحاً لتثبيت الاسلام، وبرزخاً دون استمرار التعدي والاخلاق المذمومة، ومانعاً من غلبة النفس الشهوية والغضبية ، وخضوع الجوارح والافعال لها.
فيختلف فعل واثر الانسان عند الشهوة والغضب من حال الى آخر، فعندما يكون الإنسان غنياً فانه يسخر المال لشهوته، ويتخذه وسيلة للخراب والهدم والحاق اشد انواع الضرر بخصمه ومن يعانده، وعندما يكون فقيراً فانه يحبس غيضه، ويتجرع الاذى على مضض، وتصيبه الغضاضة، وقد يستعمل لسانه وجوارحه وعلى نحو محدود من غير ان يترتب اثر معتبر على غضبه وميله للهوى والشهوة.
فجاءت الآية لرمي الكفار بالفقر وجعلهم عاجزين عن إلحاق الضرر بالمسلمين ، ولكن بعد اقامة الحجة عليهم بجعل الأموال في ايديهم، وتصرفهم فيها بالباطل، وتسخيرها للمنكر وفعل المعصية ، وامتناعهم عن اتخاذها وسيلة لنشر الإخلاق الحميدة والتدبر في الآيات والإنصات للحق والنبوة.
ولو كان الكفار فقراء من الأصل لقالوا لو جعلنا الله اغنياء لآمنا وعلمنا ان الرزق بيده تعالى، ولأنفقنا الأموال في سبيله، وهجرنا منازل الكفر فليس من المعقول ان نرزق الأموال ونجعلها في الباطل والمنكرات، فابتلاهم الله تعالى بكثرة الأموال ، واطلق ايديهم في التصرف بها واختيار موارد الانفاق، فغلبت عندهم الشهوة والغضب ولبسوا ثوب الاستكبار واظهروا العناد والإصرار على الجحود، وبذلوا الأموال في المعصية ومحاربة المسلمين، وتناجوا لقتالهم، فسخر الأغنياء من الكفار الأموال لشراء الأسلحة والمؤون وتجهيز الجيوش، وهي أمور تؤدي الى نزول البلاء والغضب الإلهي بهم [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
فيأتي هلاك أموال الكفار لنشر العدل والاحسان وإعانة الناس على دخول الاسلام، وتنزيه الأرض من الفساد والافساد ، ليرى ملائكة السماء غلبة الاسلام، وسيادة مفاهيم الصلاح والتقوى، وانفاق الأموال في سبيل الله، وحتى وان رأوا الكافرين يفسدون في الأرض وينفقون الأموال في معصية الله وقتل المسلمين، فانهم يدركون ان الهلاك يلاحق أموالهم، والتلف يزحف اليها، مع عجز الكافرين عن رده ، ومنع حصول التأكل في أموالهم، حتى يصبحوا منشغلين بانفسهم، عاجزين عن توفير قوت يومهم.
ومن اعجاز القرآن أن لفظ (فأهلكته) جاء بصيغة المثل والتشبيه الا انه مدرسة عقائدية تساهم في نشر مفاهيم الإيمان، وهي حرب على الكفر والإنفاق بالباطل وأسباب الضلالة من وجوه:
الأول: الوعيد للكفار بتلف أموالهم في الحياة الدنيا، فلا يغادرونها الا وقد تعرضت أموالهم للتلف والضياع، وان كانت هناك شواهد على تنزه الكفار وقوة دولتهم فان هذه الآية سهم ثاقب ، وسيف موجه لهم، وإنذار لقرب فقدانهم مراتب الغنى، وسلب القوة منهم.
الثاني: الآية تأديب للناس جميعاً، بترك الانفاق في الباطل.
الثالث: بيان حقيقة وهي ان الله عزوجل لن يترك الناس يتصرفون بالأموال كيفما شاءوا الى حين الحساب في الآخرة، بل ينتقم من الكفار في الحياة الدنيا بتلف اموالهم ، وهذا التلف لا يمنع من العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة.
الرابع: إعتبار الناس وعموم الكفار مما ورد في هذه الآية، وهو من المصاديق الواقعية لها، فليس كل الكفار والفاسقين من اهل الكتاب يعتدون على المسلمين ، وينفقون الأموال في إعداد الجيوش ضدهم، وفي محاربة الاسلام.
فجاءت الآية لزجر الكفار الآخرين عن نصرة الكفار الذين يعتدون على المسلمين، وهو من مصاديق [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ).
فهذه الآية تحذر أهل الكتاب والكفار من نصرة الذين يسعون في الإضرار بالمسلمين ، ويستعدون أو يقومون بقتالهم، ومن مقدمات القتال جمع الأموال والسلاح وإعداد الرجال، فجاءت الآية لوجوه:
الأول: منع هذه المقدمات ، والحيلولة دون قيام الكفار بتوفير مستلزمات التعدي على المسلمين وقتالهم.
الثاني: ملأ نفوس الكفار بالفزع والخوف سواء الذين يعتدون على المسلمين او الذين من ورائهم.
الثالث: إدراك الكفار لحقيقة عجزهم عن حفظ أموالهم، وسلامة مدخراتهم للتنافي بين الكفر والانفاق فيه من جهة ، وبين حفظ الأموال من جهة أخرى.
الرابع: الوعيد والتخويف من الإنفاق في محاربة الإسلام ، وفي التنزيل [يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا]( ).
أي أنفقت مالاً كثيراً في عداوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتفاخر الكافر بهذا الانفاق، فيأتي البلاء الإلهي تأديباً ، وعقوبة عاجلة له ( وذكر ان القائل هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد ، عن مقاتل، وقيل انه كان كاذباً لم ينفق ما قاله، عن الكلبي) ( ).
وتبين الآية قاعدة كلية وهي ان البلاء الإلهي اذا نزل بساحة قوم فانه يصيبهم بالهلاك والدمار، واذا نزل بما يملكون فانه يتلفهاولا يبق منه شيئاً، وتبين الآية ضعف الإنسان وعجزه عن دفع الأهوال ، قال تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
فمن مصاديق ضعفه عجزه عن رد البلاء الذي يحل بملكه وأمواله، وصيرورته فقيراً محتاجاً على حين غرة، سواء بلحاظ الأسباب، وكون الفقر سبباً لأمر ظاهر، او من غير سبب ظاهر، ولكن الآية تطرد الظن غير المعتبر، وتبين علة تلف الأموال وهو الكفر والضلالة، وانفاق الأموال في محاربة الاسلام.
وتدعو الآية في مفهومها الناس جميعاً الى الايمان بالله عزوجل والتصديق بالتنزيل، وهو حرز للاموال وحفظ للنفوس، وسلامة للمجتمعات من الكدورات والحجب الجسمانية، وأسباب الحسد وحب الجاه والرياسة الذي قد يجعل الانسان يتمسك بالباطل ويذب عنه حرصاً على المنافع التي يجنيها من اتباع الناس له على الهوى والضلالة.
لقد أنفق الكفار والفاسقين أموالهم في محاربة الرسول بقصد القضاء على الاسلام وبقائهم في منازلهم من رئاسة قريش والجاه والشأن في مكة والمدينة وهو من وجوه تشبيه المال بالحرث.
فجاءت الآية لتخبر عن ضياع اموالهم وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
ليدرك الكفار ان ضياع أموالهم ليس إتفاقاً وصدقة أو نتيجة لأمر عرضي ، بل هو عقوبة وسخط وغضب إلهي عليهم.
قانون المثل القرآني نعمة
عرفت الحكمة بانها فعل له هدف وغاية، وانها العمل بالعلم، ووضع كل شيء في موضعه، وقيل الحكمة عند الفقهاء هي ما يدل عليه الدليل الشرعي من حسن الفعل وقبحه، ولحاظه بحسب الأحكام التكليفية الخمسة، ولكنه مصداق من مصاديق الحكمة.
ومن الحكمة معرفة العبد لنعم الله تعالى، وتلمس آياته في خلقه ونشأته ورزقه، ولزوم عدم التفريط بالنعم الإلهية، ومنها بعث الأنبياء ، وإنزال الكتب السماوية ، وإدراك العلة الغائية لنزول الوحي، وكل فاعل بالقصد والإرادة فانه يفعل لغرض ويسعى لغاية والا فانه عابث، وينفق الناس أموالهم لغايات ومقاصد يبغون الوصول اليها، فمتى ما تصور الفاعل الغاية فانه يأتي بالفعل لحصول المراد.
ومن مصاديق العبادة والعلة الغائية لخلق الإنسان أن يجعل النعمة الإلهية مقدمة وعوناً ووسيلة في العبادة، ومن أهم مصاديق النعم الإلهية على الإنسان المال الذي يجعله عنده والرزق الكريم، ليبتليه فيه، ولم يخلِ الله بينه وبين التصرف في المال، بل دله على طرقه وحثه على الإنفاق في سبيل الله، وجعل لهذا الإنفاق المرتبة الأولى ، ورغبه بصلة الرحم مطلقاً ومنها إعانته بالمال، ومساعدة الفقراء والمحتاجين على نحو الوجوب والندب، والصدقات المستحبة، والإتيان بها بقصد القربة الذي لا يصلح الا من المسلم.
وجاءت هذه الآية نعمة على الناس جميعاً ببيان قبح الإنفاق في الباطل بصيغة المثل الذي يقرب المفاهيم الكلية بالموضوع المحسوس.
وكل مثل في القرآن نعمة على الناس جميعاً، من وجوه:
الأول: ينفع المثل الذي يرد في مدح المسلمين والثناء عليهم، المسلمين والكفار، أما المسلمون فانه بشارة وسكينة لهم، وموعظة ودرس يقتبسون منه الآداب، ويأخذون منه السنن وهو عون لهم في تعلم الأحكام الشرعية وأما الكفار، فيتضمن المثل في مفهومه ذمهم، والنهي عن البقاء على الكفر والضلالة، ويدعوهم للإسلام.
وترد الريح في مواضع عديدة بالبلاء والعذاب، وترد الرياح بالرحمة ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ]( )، وفيه دعوة للناس والمسلمين خاصة الى التطلع الى رحمة الله بالرياح كنعمة ومقدمة لنعم أخرى.
لقد أراد الله عز وجل للناس الإستقامة، ونيل مقامات التقوى والصلاح، بالإمتحان والإختبار والتمحيص بالبلاء، لتتجلى مكارم الأخلاق، وسخاء النفس، وسمو الرتبة ونقاء القلب وظهور آثار النعم الإلهية على الجوارح والجوانح بالشكر لله تعالى والإنفاق في سبيله، وجاء المثل القرآني في هذه الآية لفضح أعداء الله وإصابتهم بتلف الأموال، وجعلهم عاجزين عن مؤونتهم ومؤونة عيالهم.
ويطرد هذا المثل من أذهانهم موضوع الأسباب المادية ونسبة تلف أموالهم اليها بإعتباره أثراً ومعلولاً لم يتخلف عنها، وصحيح ان الريح من الأحوال الطبيعية والمناخ، ولكنها من جنود الله عز وجل، ببعثها تارة رحمة بالمؤمنين لتكون نعمة تامة، يظهرون معها الخشوع والخضوع لله تعالى.
وتترسخ ملكة الشكر في نفوسهم، وتارة تأتي عذاباً للكافرين كما في المقام فمع تلاوة أو سماع هذه الآية يدرك الكفار ان ما يحل بأموالهم من التلف والهلاك إنما هو عقاب عاجل بسبب بذلهم الأموال للصد عن سبيل الله، وعدم إعدادهم أنفسهم لقبول الإنذارات ولغة الوعيد السماوية.
والآيات والبراهين الحسية والعقلية التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل برهان وآية نعمة على الناس جميعاً، ويأتي المثل القرآني لتوكيد هذه النعمة، وتقريبها الى الأذهان وجعلها جزء من واقعهم اليومي.
ووصف الله كلمة التوحيد والذكر والتسبيح وكل كلمة طيبة بانها كالشجرة الطيبة بعروقها في الأرض، وتتدلى أغصانه عالية في بهاء وقال تعالى [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] ( )، وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذات يوم: ان الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً، فوقع في قلبي انها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان أقولها وأنا أصغر القوم، وروي فمنعني مكان عمر وأستحييت، فقال لي عمر: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب الي من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا انها النخلة( ).
ويبين الحديث تفسير السنة للمثل القرآني بما يساهم في ثبات المسلمين في مسالك الإيمان والإخبار عن رفعة وعلو المسلمين بين الأمم ومع ان الله عز وجل أخذ المواثيق على بني آدم وبعث لهم الأنبياء وأنزل الكتب السماوية عليهم في وجوب عبادته، والإرتقاء الى مراتب الكمال الإنساني فانه سبحانه تفضل بالمثل القرآني لزيادة الموعظة ، وتعدد أسباب الهداية ، وتمام الحجة عليهم ، وتوكيد قانون ظلم الكفار لأنفسهم عند الإعراض عن الآيات ، ولغة المثل القرآني.
ويدرك كل إنسان معاني المثل القرآني ، واذ ان القرآن معجزة عقلية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان المثل القرآني جامع للإعجاز العقلي والحسي ، تصل لغته الى شغاف القلوب ، وتدركها العقول وتحس بها الجوارح والجوانح.
بحث كلامي
من صفات الله تعالى الثبوتية انه صادق، والصدق من الله مطلق فيما يقول ويخبر ويعد ويأمر وينهى، فلا ينحصر موضوعه في القضية والخبر بل يشمل مصاديق الإنشاء ، وهو سبحانه منزه عن كل قبيح، والكذب قبيح ذاتاً وعرضاً وان صدر من الإنسان، إذ خلقه الله عز وجل ونفخ فيه من روحه، ورزقه العقل ، وجعله خليفة في الأرض.
وقد أخبر سبحانه عن ظلم الكفار لأنفسهم ، وفيه دعوة سماوية للناس جميعاً لمعرفة وجوه هذا الظلم، وفيه وجوه:
الأول: إختيار الكفار الكفر والجحود، إذ ان الله عز وجل خلق الإنسان لعبادته.
ولم يجعل العبادة علة خلق الإنسان وحده، بل جعلها علة خلق الجن أيضاً قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ] ( )، وخالف الكفار علة الخلق، وما يجب عليهم من الوظائف ، وركبوا جادة العناد والجحود والإصرار، وتفضل الله عليهم مرة أخرى ببعث الأنبياء وإنزال الكتب وإيمان شطر من الناس بدعوة الأنبياء.
إذ ان هذا الإيمان حجة على الكفار، وهو باب للثواب والأجر الإضافي للمؤمنين بالرسالات ، فمن الناس من يتردد في ركوب الجادة غير السالكة وان كانت معبدة ومضاءة، فحينما يرى فريقاً من الناس يبادرون الى الإيمان برضا ويواظبون على الطاعات ، فانه يطمئن لطريق الهداية، ويتدبر في المعجزات والبراهين ، ومن أصر على الجحود فان إثمه مركب ، ويصدق عليه أنه ظلم نفسه.
الثاني: إصرار الكفار على البقاء في منازل الجحود والضلالة، فمن اللطف الإلهي تعدد الآيات الكونية، وتجلي أسرار الخلق للإنسان في حواسه الخمسة، وكل آية تدعوه للإيمان، وتزجره عن الكفر والجحود، ولا تنحصر هذه الآيات بقوم أو أمة أو أهل بلد دون آخر، ولا تأتي تامة في بلد وناقصة في آخر، فترى الشمس تتغشى في طلوعها وغروبها أقطار الأرض كلها، ويطل القمر بذات الزيادة كل شهر على الأرض ليكون داعياً الى عبادة الله وسيلة لنبذ عبادة الأوثان.
الثالث: مجيء الآفات وأسباب البلاء في المعاشات والمكاسب، والأبدان، لتكون سبباً للتذكير بالله عز وجل ولزوم عبادته وطاعته، واللجوء الى الإستغفار والتوبة والإنابة، ومنها مضامين هذه الآية القدسية التي جاءت بصيغة المثل لتحكي الإنذار والوعيد العاجل للكفار.
الرابع: قوة وعز المسلمين، وإتساع رقعة الإسلام ورسوخ مبادئه، وثبات المسلمين وتعاهدهم لأداء المناسك والعبادات من غير تفريط بشطر منها، وفيه حجة على الكفار ودعوة لهم للرجوع عن الغي والغرور.
الخامس: بيان أحكام القرآن وما فيه من مسائل الحلال والحرام، وخلوه من النقص، وعصمته من الزيادة أو النقيصة، فإعراض الكفارعنه ظلم لأنفسهم وإصرار على الجحود والعناء.
السادس: حضور السنة النبوية بين المسلمين، وحسن إقتدائهم بها وتقيدهم بسننها، وفيه دعوة للكفار للإطلاع على أحكام الشريعة الإسلامية، والتدبر فيها، وتلمس الشواهد التي تدل على تكامل أحكامها، وخلوها من أسباب التعارض.
ومن اللطف الإلهي ان تجتمع الآيات الكونية وآيات النبوة والتنزيل لتكون حجة على الكافر، بإعتبار ان كل آية منها إنذار ووعيد له ، ولأن هذه الآيات من اللامنتهي فان إنذار ووعيد الكافر من اللامنتهي أيضاً، وما المثل الوارد في هذه الآية الكريمة الا واحداً من هذه الإنذارات، ودعوة للهداية والرشاد، وهذا إنذار من وجوه:
الأول: إنه إنذار قرآني لمجيء آية من القرآن به.
الثاني: إخبار عن آفة سماوية تحل بأموال الكفار.
الثالث: فيه إشارة الى إصابة الكفار بالفقر والفاقة.
الرابع: الآية شاهد على عدم إنحصار خطابات القرآن بالمسلمين، بل تشمل أهل الكتاب والناس جميعاً.
ومن الآيات ان الوعيد في هذه الآية سبب في هداية وصلاح شطر من الكفار ، وهو شاهد بان الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، وان القرآن إمام يدعو الناس الى الإسلام والتقيد بأحكامه وسننه.
بحث منطقي
جاءت الآية بإنذار الكفار بتلف أموالهم، وصحيح انها جاءت بلغة المثل والتشبيه الا ان هذا المثل للبيان والتيسير ، وجعل الناس جميعاً يدركون معاني ودلالات الإنذار، وانه قطع يفيد الجزم ، وثبوت الدليل وترتب الأثر على الكفر ، والإنفاق فيه بتلف أموال الكفار كقاعدة ثابتة وأمر كلي منطبق على جزئيات كثيرة في كل زمان ومكان ، إذ تلاحق الكفار في الأسواق والزراعات والتجارات وسوح المعارك ، ليصبحوا فاقدين للقوة، وعاجزين عن التمكن من مادة التعدي، والتصرف الذي يؤذي المسلمين.
وهل البلاء الذي يحل بالكفار على نحو القضية الحملية أم الشرطية، والقضية هي الخبر والمركب التام الذي يصح ان نصفه بالصدق أو الكذب ، وللخبر القرآني خصوصية في باب تعريف القضية والخبر لأنه لا يوصف الا بالصدق وكذا كلام المعصوم مما يرد في السنة القولية، فيخرج الكذب منه، وبذا تختلف القضية في الإصطلاح القرآني عن التعريف المنطقي العام للقضية، التي قد توصف الإخبار والروايات بالصدق أو الكذب او تنعت بالضعف في ذاتها او في دلالالتها الإلتزامية، أما الخبر والقضية القرآنية فهي صدق محض لا يقبل الضد وهو الكذب، وكذا بالنسبة لما فيه من الإنشاءات كالأوامر والنواهي والوعد، والوعيد، والثواب والعقاب.
والمراد من القضية الحملية هي التي لها طرفان ، وبينهما نسبة تفيد ثبوت الثاني للأول، والإتحاد بينهما، أو نفي الإتحاد والثبوت، كما في قولك “الصلاة واجبة” “الخمر محرم” ” زوج الخالة ليس من المحارم “وما يدل على الحكم بثبوت شيء لشيء ، أو نفيه عنه.
أما القضية الشرطية وهي التي تكون من طرفين، ولكن النسبة بينهما ليست الثبوت والإتحاد أو نفيهما كما في القضية الحملية، بل النسبة بينهما التصاحب والتعليق [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( )، فوجوب صوم شهر رمضان متعلق برؤية الهلال ، وكما في القول: إذا أشرقت الشمس فالنهار موجود.
وهل جاء الحكم في الآية بتلف أموال الكفار على نحو القضية الحملية وكفاية تلبسهم بالكفر والجحود ، ونزول البلاء والعقوبة بهم وتلف أموالهم أما انها من القضية الشرطية بحيث لا ينزل بهم العذاب ، وهلاك الأموال الا عندما ينفقونها في المعصية والتعدي ومحاربة الإسلام.
وتدل أسباب نزول هذه الآية على العموم ، ونزولها في الكفار والفاسقين الذي يحاربون الإسلام ، وفي موارد الإنفاق الأخرى للكفار، وان القضية حملية، ولا تنحصر بموضوع الإنفاق في محاربة الإسلام، بل تشمل موارد الإنفاق الأخرى للكفار.
وصحيح ان المدار على عموم اللفظ لا سبب النزول إلا أنه لا يعني عدم إعتبار أسباب النزول ومضامينها القدسية، فالطرف الأول في القضية هم الكفار ويسمى الموضوع والمحكوم عليه، أما الطرف الثاني وهو المحمول والمحكوم به فهو تلف أموال الكفار ، والنسبة أو الرابطة هي إنفاقها في المعصية ومن منازل الكفر والجحود، ليكون هذا التلف آية وعبرة وموعظة، وإنذاراً مستديماً ودائماً ، وحاضراً في المنتديات ، وأماكن الإحتجاج ، وسوح المعارك بإعتباره قضية حملية مستديمة ، غير متعلقة على شرط أو قيد.
قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ]
من القوانين الثابتة التي يعرفها الناس جميعاً ان الله سبحانه منزه عن الظلم، وانه سبحانه جعل الحياة الدنيا رحمة وخيراً محضاً، ومزرعة للآخرة ومناسبة للعبادة والصلاح ونشر الفضيلة والأخلاق الحميدة، ولكن شطراً من الناس يظلمون انفسهم فتأتي هذه الآيات شواهد سماوية تؤكد إستحقاقهم للعقوبة لتكون العقوبة الدنيوية وسيلة لزجرهم عن الكفر والباطل، ومانعاً من الإستمرار في الكفر والجحود.
ومن إعجاز القرآن ان يأتي بنفي الظلم عن الله مطلقاً قال تعالى [وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ] ( )، وان تأتي هذه الآية بنفي وقوع الظلم على قوم مخصوصين هم موضوع هذه الآية ، ليلتقي الخاص والعام في تنزيه مقام الربوبية، ويكون أحدهما توكيداً للآخر، فكما يحصل عطف العام على الخاص، فان هذه الآيات تأتي لتوكيد العام للخاص وبالعكس، وفي الضمير “هم” الوارد في قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ] وجوه:
الأول: أصحاب الحرث الذين ذكرتهم الآية بلغة المثل.
الثاني: الكفار الذين جحدوا بالربوبية والنبوة.
الثالث: الكفار الذين ينفقون أموالهم في المعاصي ، ومحاربة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.، فلا تقبل أعمالهم لأن الكفر حاجب ومانع من قبولها.
والصحيح هو الثاني، فان الكفار ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر، ولا تقبل منهم نفقاتهم مطلقاً، ويكون ما ينفقون في المعاصي ومحاربة الإسلام وبالاً عليهم وسبباً لتلف أموالهم في الدنيا، وشدة العذاب في الآخرة، ولا تتعارض الوجوه الأخرى مع الوجه الثاني، وكلها من مواضيع الوعيد الذي جاءت به الآية الكريمة بإعتباره وعيداً إنحلالياً يتجدد مع كل معصية ، وبقاء على الكفر ، وإنفاق بالباطل.
وجاءت الجملة بصيغة الجملة الخبرية ، وفيه وجوه:
الأول: بيان قاعدة كلية وهي ان ما يحل بالكفار من البلاء والعقوبة ليس عن ظلم من الله عز وجل، وتلك آية إعجازية في قوانين الحياة الدنيا، فينزل البلاء والعذاب من الله عز وجل بالكفار ولكنه ليس ظلماً لهم، بل هو رحمة بهم لأنه دعوة لتخلصهم من ظلمهم لأنفسهم، وإجتنابهم للعقاب الإلهي ومحق وتلف السبب والمادة التي يتخذونها وسيلة لهذا الظلم.
الثاني: القرآن خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خلالهم للمسلمين جميعاً، فجاءت هذه الآية خطاباً ورسالة من عند الله موجهة للمسلمين جميعاً ، وفيه مسائل:
الأولى: إستدامة الخطاب وتوجهه الى أجيال المسلمين المتعاقبة والى يوم القيامة.
الثانية: يتلقى المسلم عند سن البلوغ هذه الآية كبشارة، وتعضيد سماوي وبرزخ دون دبيب روح الخوف والفزع في نفسه من الكفار.
الثالثة: معرفة التباين بين ما يصيب الكفار من البلاء ، وما يصيب المسلمين، فهو وان إتحد في موضوعه وأثره المادي الظاهر كالآفات السماوية والأرضية، الا انه يحل بالكفار عقوبة وإنتقاماً لأنهم ظلموا أنفسهم، ويأتي للمسلمين امتحاناً وباباً للأجر والثواب.
الرابعة: جعل البلاء الذي يصيب الكفار مادة لإحتجاج المسلمين عليهم، وتذكيرهم بعالم الآخرة وما فيه من الثواب والعقاب.
الثالث: رمي الكفار بالفقر وما يجعلهم متخلفين عن أسباب الغرور والطغيان والإستكبار.
الرابع: إدراك الكفار لحقيقة وجود الصانع، وان البلاء والضرر الذي يلحق بهم لم يأتِ عن أسباب طبيعية او كما يقول بعضهم [وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ] ( )، بل انه عقاب نازل من عند الله.
الخامس: تأديب الكفار وإخبارهم بان الله عز وجل لا يظلم أحداً، وفيه دعوة لهم للإيمان، وجعلهم ينفرون من الكفر والجحود، ويميلون الى الإسلام، فمن الآيات ان يأتي العقاب والضرر إلى الكافر ، وتلازمه معرفة قانون العدل الإلهي، وان الله تعالى غني عن الغير مطلقاً، ويفتقر اليه العباد في كل شيء، وهو سبحانه صادق فيما يخبر عنه في التنزيل ، وينفرد سبحانه بالبقاء أبداً ، وهو قريب من العباد.
وما تحل من المصائب على الكفار بمشيئته تعالى من غير ان يكون فيه ظلم لهم بل هو عقوبة تتضمن إصلاح أهل الأرض عامة للعبادة ليشمل قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) تفضل الله تعالى بتهيئة مقدمات وأسباب العبادة للناس، ولا تنحصر هذه المقدمات بالقضية الشخصية، بل تشمل القضية النوعية العامة على نحو متداخل ومشترك بين الناس فيبتلى الكفار بانواع البلاء والضرر.
الرابع: الكفار الذين ينفقون من أموالهم في أعمال البر والإحسان ليكون النفع مما في الآية من الإخبار على وجوه:
الأول: منع إنتشار مفاهيم الكفر والجحود.
الثاني: زجر الكفار عن التعدي على المسلمين.
الثالث: جعل الكفار منشغلين بأنفسهم، عاجزين عن المناجاة والد\عوة لقتال المسلمين.
الرابع: دعوة الناس للإعتبار من الكفار والظالمين لأنفسهم بما يلحق بهم من البلاء الشديد ، وحثهم على إجتناب الإضرار بالمسلمين، فيأتي العقاب لجماعة أو فرقة، ولكنه يكون عوناً لغيرهم للهداية إلى سبل الرشاد من وجهين:
الأول: حجبهم ومنعهم عن اللحوق بالكفار وإعانتهم في الإضرار بالمسلمين.
الثاني: دعوة الناس للإسلام بالإتعاظ مما أصاب الكفار من العقاب والضرر، فمن خصائص الإنسان وأسرار تسميته انه يتأثر ويؤثر بغيره، ويعطي ويأخذ ويتقبس من الآخرين ، فيكون العقاب الذي يحل بالكفار دعوة للناس جميعاً لطلب الأمن والسلامة بالتنزه عن فعل القبائح والمنكرات، وإدراك وجود الصانع وانه سبحانه يبغض الكفر ولا يرضى لعباده الجحود واتخاذ ما رزقهم من الأموال وسيلة للتعدي على المؤمنين الذين صدقوا بما جاء به الأنبياء من عند الله تعالى.
وقال المعتزلة ان الله تعالى يفعل لغرض، ولا يفعل شيئاً الا وله فائدة، وقال الإشاعرة ان أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض والمقاصد ، والخلاف بينهم صغروي، للإجماع بان الله عز وجل لا يفعل لغرض ونفع له ، فهو غني غير محتاج وانه سبحانه منزه عن العبث وما فيه من القبح الذاتي، فيكون الغرض والنفع للعباد أنفسهم .
ويأتي العقاب والبلاء الذي يصيب الكفار خاصة بدلالة هذه الآية لنفعهم ونفع المسلمين ، والناس الآخرين، وهو من أسباب إصلاح الناس للعبادة، وتهذيب الأخلاق، ودعوة الناس للتدبر في الخلق والنشأة وإدراك حقيقةحاجتهم المستديمة الى رحمة الله ، ولزوم إجتناب غضبه وسخطه.
ولا يقف البلاء والعقوبة التي تصيب الكفار عند تلف الأموال سواء التي ينفقونها في التعدي على المسلمين ام أموالهم مطلقاً بل يشمل السبي والقتل، وهو أمر يقتبس ويستنبط من دلالة هذه الآية الكريمة، اذ ان تلف أموال العدو مناسبة للإجهاز عليه، وسبب للغلبة عليه لصيرورته فاقداً لعدة القتال ومقومات المرابطة والصبر في المواجهة والمسايفة ، ويشمل إخبار الآية عن نفي الظلم عن الله تعالى ما يلحق بالكفار من السبي والقتل والتشريد، وفيه بيان لعظيم قدرة الله تعالى ونصره للمسلمين، برمي عدوهم بالوهن والضعف والعجز لأنه ظالم لنفسه ومستحق للبلاء والعقوبة، ليدرك الكفار بان الدنيا دار إمتحان وإختبار وان الإنسان ليس له التمادي في التعدي فيها بما يضر بسنن العبادة في الأرض، وبقاء كلمة التوحيد فيها.
وجاء هذا الشطر من الآية بصيغة الماضي، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد تنزه الباري عز وجل عن ظلم العباد.
الثانية: ان قبح إختيار الكفار، وسوء فعلهم هو السبب والعلة للحوق العذاب بهم.
الثالثة: ان خلق الإنسان نعمة من عند الله، وكذا ما رزقه الله من الصحة والمال، والظلم نقيض النعمة فلا يجتمعان، وقد جاءت آيات قرآنية كثيرة بنفي الظلم عن الله عز وجل مطلقاً،سواء بلحاظ أفراد الزمان أو جنس الإنسان والخلائق كافة ، أو العوالم المختلفة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ] ( ).
وعن ابن عباس انه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة)، وجاء الوصف بأدق وأصغر ما يعرفه الناس وهو الذرة لتوكيد إنتفاء الظلم عن مقام الربوبية مطلقاً، وقال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
وهذا الشطر من الآية قانون ثابت، فقد خلق الله عز وجل الناس، وهذا الخلق رحمة ورأفة محضة، وإمتاز خلق الإنسان بالنفخ فيه من روح الله، وهو نعمة إضافية وشاهد على تفضيله على المخلوقات الأخرى، ثم تفضل الله سبحانه وبعث الأنبياء والمرسلين بالمعجزات، وأنزل الكتب السماوية لإنتظام أمور الناس في أمور الدنيا والآخرة، ولكن شطراً من الناس واجهوا الدعوة الى الله تعالى بالجحود والصدود، وهذا الجحود ظلم للنفس وللغير، وجاءت الآية بنفي ظلم الله تعالى لهم من وجوه:
الأول: ان الله تعالى لا يظلم أحداً، ومن أسمائه تعالى “العدل” وهو الذي يحكم بالحق والصدق، ومن الآيات ان الأنبياء لا يحكمون الا بالحق والتنزيل فهم مبشرون ومنذرون وحكام بالعدل والإنصاف، ودعوة الأنبياء شاهد على نفي الظلم عن الله عز وجل، وتوكيد لرحمته ورأفته بالناس وأنه يريد لهم الهداية والصلاح .
ومن آيات نفي الظلم عن الباري عز وجل صيغ الإبتلاء التي تصيب الناس، والتي تتضمن دروس الإعتبار والإتعاظ، ومنها هذه الآية الكريمة التي تؤكد ان نزول البلاء بالكافرين بسبب جحودهم وإنفاقهم الأموال بالباطل وانهم يستحقون العقوبة العاجلة التي تكون لها وظيفة إضافية أخرى وهي حجبهم عن الإضرار بالمسلمين، وصدهم عن الصد عن سبيل الله، ومنع طغيان وإستحواذ مفاهيم الكفر في المجتمعات والنفوس ، وجذبهم للتقيد بأحكام الحلال والحرام، وجعل القلوب مملوءة بالخشية من الله، والإستعداد ليوم الحساب وما فيه من الثواب والعقاب، ومن موارد تنزيه مقام الربوبية عن الظلم ان الله سبحانه أنذر الناس جميعاً وأخبرهم بحتمية يوم القيامة وخلق الجنة للمطيعين، والنار للكافرين.
ولم يرد قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] الا في هذه الآية ، وورد في سورة النحل قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] وبين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الالتقاء من وجوه:
الأول: إتحاد اللفظ والمعنى.
الثاني: تنزيه مقام الربوبية من الظلم.
الثالث: نسبة الظلم الى الكفار وانهم هم الذين يظلمون انفسهم.
الرابع: استحقاق الكفار العذاب.
الخامس: وحدة موضوع الايتين وهم الكفار.
اما مادة الافتراق فمن وجوه:
الأول: مجئ الآية محل البحث بصيغة المضارع [ماينفقون] اما الآية من سورة النحل فجاءت بصيغة الفعل الماضي بدليل قوله تعالى [كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
الثاني: تعلق موضوع هذه الآية بتلف الاموال اما الآية من سورة النحل فجاءت بهلاك القوم الظالمين انفسهم.
الثالث: جاءت الآية محل البحث بلغة المثل والتشبيه، اما الآية من سورة النحل فجاءت للإخبار عن وقوع العذاب المستأصل، وقد تفيد ال
اللإخبار عن يوم القيامة، ومافيه من العذاب المقيم للكفار.
الرابع: موضوع الآية محل البحث هو إنفاق الكفار المال بالباطل ومحاربة الاسلام ، اما الآية من سورة النحل فجاءت مطلقة ، وتخبر عن ظلم الكفار لانفسهم بالجحود والإصرار على الضلالة.
ويفيد الجمع بين الآيتين ان العذاب والابتلاء الذي يلحق الكفار الذين ينفقون اموالهم بمحاربة الاسلام وإسباب الكفر والضلالة، لاينحصر بموضوع المال بل انه انذار وعذاب عاجل يتعقبه عذاب الاستئصال للكفار واقامتهم في النار بسبب ظلمهم لانفسهم.
وجاءت نحو عشر آيات تؤكد ظلم الناس لانفسهم، والمراد ليس الناس مطلقاً، بل الكفار الذين اصروا على الاعراض عن دعوة الأنبياء، وقاموا بمحاربتهم واصحابهم وانصارهم واتباعهم.
قانون وما ظلمهم الله
لقد جعل الله الحياة الدنيا مصداقا لبديع صنعه وغناه المطلق وعظيم قدرته ، وسعة رحمته ، وجاءت آيات القرآن وثيقة سماوية وشاهداً وحجة دائمة تؤكد عدله ورأفته تعالى ، وتتضمن الآية نفيها الظلم مطلقاً عن الله تعالى في المقام من وجوه:
الأول: ضرب المثل في الآية الكريمة، فانه موعظة وإنذار فمن فضل الله تعالى على الناس انه لا يتركهم في غيهم وبغيهم وغرورهم بل يبعث لهم الأنبياء والآيات للإنذار والوعيد والتخويف، ومن الآيات هذه الآية الكريمة.
الثاني: المضامين القدسية للمثل القرآني.
الثالث: بعث الأنبياء والمرسلين.
الرابع: وجود الصالحين والمؤمنين بين الناس، ليكونوا حجة على الكفار في التصديق بالأنبياء والتنزيل.
الخامس: تلاوة المسلمين لآيات القرآن وجعلهم المثل القرآني حجة وبرهاناً على خسارة الكفار في الدنيا والآخرة.
السادس: إبتلاء الكفار بنقص وتلف الأموال لجعلهم عاجزين عن محاربة الإسلام.
السابع: جعل العقل عند الإنسان للتمييز بين الخير والشر، وإجتناب ما يضره ويؤذيه.
وتبين الآية موضوعاً واقعاً وهو “ظلم الكفار لأنفسهم” وهذا من إعجاز الآية إذ انها تتكون من ثلاثة أقسام:
الأول: جاءت بداية الآية بالإخبار عن قيام الكفار بإنفاق أموالهم في الحياة الدنيا وزينتها ومباهجها والتعدي على المسلمين.
الثاني: تضمن وسط الآية مثلاً قرآنياً عن الريح التي على الحرث والزرع التي يمتلكه الكفار، في إشارة الى تلف أموالهم مطلقاً.
الثالث: جاءت خاتمة الآية لبيان قانون ثابت، وهو تنزه الله عز وجل عن ظلم العباد، وان الكفار هم الذين يظلمون انفسهم بإختيارهم الكفر.
ويبعث قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ] السكينة والطمأنينة والرضا في قلب المسلم لأن الله سبحانه [لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ] وفيه حجة على الكفار أمام الناس والجن والملائكة بانهم السبب في تلف أموالهم وضياع ممتلكاتهم، فان قلت ان البلاء يأتي من عند الله، والريح العاتية الباردة لا تهب الا بأمر منه سبحانه قلت: جاءت الآية لبيان حقيقة وهي ان الكفار يستحقون هذه العقوبة، وإستحقاقهم لها ظلم منهم لأنفسهم، ويدل في مفهومه على مدح المسلمين والثناء عليهم بإختيارهم الإسلام الذي يعني التنزه عن ظلم النفس، والإبتعاد عن أسباب التعدي والإضرار بالآخرين، وهم رسل الأمن وحفظ الأموال الى الناس جميعاً بتلاوتهم لهذه الآية وتحذيرهم من الكفر والجحود، ومقاتلتهم الكفار.
فلم يقف المسلمون عند الوعظ والتلاوة وأداء الصلاة والصيام والحج ، ويقوم الكفار بإنفاق الأموال في تجهيز العساكر عليهم، بل أنهم يتقيدون بأحكام الجهاد في سبيل الله، والإنفاق من أموالهم دفاعاً عن الإسلام وثغور المسلمين، فتترجح كفة المسلمين، وينعدم التكافؤ بين الفريقين فينفق المسلمون والكفار الأموال كمقدمة للقتال ولإستدامته فيجعل الله البركة في أموال المسلمين، ويصيب أموال الكفار بالتلف والهلاك، لذا فان النصر حليف المسلمين ومصاحب للغزاة والمرابطين منهم، وهذا من مصاديق ظلم الكفار لأنفسهم، لأنهم ينفقون أموالهم في أمر لا يخرجون منه الا بالخسارة والذل.
ومن الآيات ان تأتي معارك أيام النبوة لتؤكد هذه الحقيقة، فمع كثرة عدد وعدة وأموال الكفار يومئذ بالنسبة لعدد المسلمين ، فان النصر مصاحب للمسلمين، ففي معركة بدر كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، وليس عند المسلمين من الخيل والسلاح ما يكفي للمواجهة ، ولكن المعركة إنتهت بنصر المسلمين بمدد من الملائكة بآيات النبوة وصبر وجهاد الصحابة، وأصبح المشركون من قريش ثلاثة أقسام أما قتيل في المعركة أو أسير بأيدي المسلمين أو هارب بنفسه ، أما القتيل فانه مات ظالماً لنفسه، وأما الأسير فانه يصبح ذليلاً فاقداً للمال عاجزاً عن الإختيار ويتعذر عليه الإضرار بالمسلمين.
وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي ” وَمَا ظَلَمَهُمْ” في توكيد إستمرار وإستدامة تنزه الله عز وجل عن ظلم العباد، وان الكفار هم الذين ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر وإصرارهم على البقاء عليه وركوب جادة الهوى وإتباع الشيطان وإنفاق الأموال للصد عن سبيل الله ليصبحوا مستحقين للعقوبة والبلاء قال تعالى [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ] ( ).
لذا جاءت هذه الآية لكي يتجنب الكفار ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم بالبقاء على الكفر والإنفاق فيه، وما فيهما أي الكفر والإنفاق من الفتنة والإفتتان وإغواء الآخرين، ومقاتلة المسلمين، إذ تتضمن الآية التحذير والوعيد\، ومن لم يتب من الكفار ويصر على الإنفاق في الباطل ينزل به العذاب الأليم الذي جاء بصيغة المثل والريح الباردة التي تهلك الحرث ولا تذر منه شيئا ً.
ومع ان الريح تأتي عامة وتضرب الزرع من غير إعتبار لعقيدة وشخص المالك فان الآية الكريمة قيدت ترتب الأثر والضرر على الريح بظلم النفس بقوله تعالى [أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] لتكون الآية بشارة للمسلمين بان أموالهم وزروعهم في أمن وسلامة من البلاء الذي يحل بأموال الكفار.
وورد في الآية أمران هما:
الأول: ظلم الكفار لأنفسهم.
الثاني: تنزيه مقام الربوبية عن ظلمهم، وان الله سبحانه لم يظلم الكفار.
ويفيد الجمع بينهما الإخبار بان ما يأتيهم ليس عن ظلم من الله ومن أنفسهم بل انه ظلم محض منهم لأنفسهم.
وجاء لفظ الأنفس بصيغة الجمع، وفيه وجوه:
الأول: يظلم الكافر نفسه بتلبسه بالكفر، وتحمله للذنوب والآثام، وإختياره معاداة الله ورسوله ، وكونه سبباً في تلف أمواله وهلاك حرثه، لسوء إختياره وإصراره على الباطل.
الثاني: ظلم الكافر لعياله، فبدل ان يترك لهم الإيمان عقيدة، والأموال ذخيرة للدنيا والآخرة، فانه يترك لهم الكفر ومعه الفقر والفاقة والذل ، بينما ينتفع المؤمنون من أموالهم العامة والخاصة بما فيه العز والرفعة في الدنيا والثواب في الآخرة.
الثالث: ظلم الكافر لأصحابه من الكفار سواء كانوا تابعين له، أو كان هو تابعاً لهم.
الرابع: خسارة الكفار لأعمال الإحسان التي فعلوها في حياتهم، لأن الكفر ماحق لها، ومانع من قبولها وترتب الأثر الحسن عليها.
الخامس: تجلي معاني الظلم المشترك والمتبادل بين الكفار يوم القيامة بحصول اللوم وحصول البراءة بينهم، فكل فريق يتبرأ من الثاني وهم في العذاب خالدون ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ).
السادس: إستحقاق الكفار للعقوبة ظلم منهم لأنفسهم.
بحث كلامي
إختلف المتكلمون في الإرادة في أفعال العباد على قولين:
الأول: ان الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن والكافر سواء وقعت تلك الطاعات وأتى بها المؤمن والكافر، أو أنها لم تقع، كما انه سبحانه يكره المعاصي بالذات سواء وقعت أو لم تقع.
الثاني: ان كل ما هو واقع فهو مراد لله سواء كان طاعة أو معصية لأن أفعال العباد لا تحصل في الواقع الخارجي الا بإرادة من الله، ومع هذا أجمع المتكلمون والعقلاء جميعاً، بان الله تعالى حكيم لا يفعل القبيح ولا يأمر به، مما يدل على ان الخلاف صغروي بينهم، ولا يستحق الوقوف كثيراً عنده وتقسيم المسلمين الى مذهبين في علم الكلام ، وما يسمى بالمعتزلة والأشاعرة ونحوه .
لقد بعث الله عز وجل الإنبياء وأنزل الكتب السماوية التي تتضمن الأوامر والنواهي ، الأوامر بالطاعات وإتيان ما هو حسن شرعاً، والنهي عن المعاصي وما هو قبيح شرعاً لتعاهد النظام الأحسن، ومقومات خلاقة الإنسان في الأرض بالعبادة والصلاح، ولم يحصر الله أوامره ونواهيه بالمسلمين من الأولين والآخرين بل جاءت خطاباً عاماً الى الناس جميعاً، فهو من اللطف والعناية الإلهية من الله عز وجل بخليفته في الأرض فمن فضل الله تعالى وإستدامة رحمته انه سبحانه لما نفخ من روحه في آدم، لم يتركه وذريته يكابدون العناء والشقاء بعد نزوله الى الأرض هو وحواء، بل جعل النبوة والكتاب برزخاً بينهم وبين الشيطان.
فصحيح ان الله عز وجل أخرج آدم وحواء وإبليس من الجنة، الا ان موضوع وكيفية وغاية الهبوط تختلف بينهم، فهبوط آدم وحواء إختبار وإمتحان وباب للتوبة، ومقدمة للرجوع الى الجنة والخلود فيها بالعمل الصالح وجعل الدنيا مزرعة للآخرة، أما هبوط إبليس فانه طرد من الجنة وعقوبة له، ومقدمة لخلوده في النار لجحوده وسعيه المستمر في إغواء بني آدم.
وجاءت هذه الآية واقية وحرزاً من إغواء ابليس، ودعوة سماوية للتدارك والإنابة، فهي خطاب وتوبيخ للكفار الذين ينفقون أموالهم في المعاصي ومحاربة الإسلام، وإخبار سماوي بان الله عز وجل يكره لهم تلف الأموال وسوء العاقبة بالبقاء على الكفر، ويحب لهم وللناس جميعاً الإيمان وإتباع النبوة والرسالة وتعاهد الوظيفة التي خلقوا لها والرجوع إليها ، وهي عبادته تعالى، وإطاعة أوامره وإجتناب ما نهى عنه، ولا تتعارض العبادة مع طلب الرزق ، والسعي فيه.
وحثت آيات عديدة الإنسان على طلب الرزق ، وإبتغاء فضل الله والإنفاق منه في مسالك الطاعة ، وجاءت الآيات بالأكل والإنفاق من الرزق الذي يتفضل به الله تعالى على الناس [وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا] ( ).
وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] ( )، فمن إعجاز القرآن أنه يتضمن في موضوع واحد وهو الإنفاق أمرين:
الأول: أمر المسلمين بالإنفاق.
الثاني: زجر ووعيد الكفار على ما يقومون به من الإنفاق.
ولا ينحصر التباين في الأمر والنهي، بل يشمل وجوهاً:
الأول: الوعد بالعوض والأجر والثواب للمسلمين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، قال تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ] ( ).
الثاني: العقاب للكفار في الدنيا والآخرة، لإنفاقهم الأموال في المعصية والتعدي ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ] ( ).
(قيل نزلت في المطعمين يوم بدر كان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزائر، وذكر انهم قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر).
الثالث: هزيمة الكفار، لأن تلف أموالهم سبب لعجزهم عن مواجهة المسلمين، أو إخراجهم من ديارهم وفقدهم للقدرة على القتال والإستمرار في المعركة.
ومن رحمة الله تعالى بالناس جميعاً في الحياة الدنيا بقاء باب التوبة مفتوحاً، وحثهم على المبادرة اليها ، وفيها خير الدنيا والآخرة ، قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( )، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: الإسلام يجبً ما قبله( ).
ومع الإيمان يتغير الحكم ويأتي العوض والبدل من عند الله على الإنفاق في سبيل الله وعلى الآلام التي تصيب المسلم كالمرض والداء وتفويت المنافع وحصول الغم والخوف في سبيل الله، دون الغم الذي يحدثه العبد نفسه ظناً منه بنزول بلاء محتمل، او فوات مصلحة فليس فيه عوض، وجعل الله تعالى الدعاء والتوسل اليه باباً لطلب الرزق، ونيل الثواب ودفع البلاء وهلاك الأموال، ولا يقبل الدعاء الا من الذي آمن بالله وملائكته ورسله وكتبه ، قال تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
قوله تعالى [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]
تأتي ” كن ” بلغتين إحداهما بتشديد النون مفتوحة، والثانية بإسكانها خفيفة حيث لا تعمل في اسم أو فعل، والذي يعمل في الاسم الذي بعده ما معه مما يرفعه أو ينصبه أو يجره، كما في هذه الآية الكريمة، فجاءت “لأنفسهم” مفعولاً به مقدماً ليظلمون ، وقال الزمخشري “وقرئ ولكن بالتشديد”( ).
ولم يذكر صاحب هذه القراءة والصحيح ما مرسوم في المصاحف، ومنه قوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
وأما قوله تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ]( )، فان رسولَ منصوب بإضمار كان بعد لكن، لقرينة “كان” السابقة، وتقدير الآية (ولكن كان هو رسول الله)، أو انه معطوف على أبا أحد وبعد ان نفت الآية ظلم الله عز وجل للكافرين وهو من عمومات نفي الظلم عنه تعالى مطلقاً، فان الأمر يحتمل وجوهاً:
الأول: عدم حصول الظلم على الكافرين ، فهم مع تعديهم وإنفاقهم الأموال بالباطل لم يحل بساحتهم ظلم من الذات أو الغير.
الثاني: ظلم المسلمين للكفار في الإنتقام منهم، وعقوبتهم بأشد مما يستحقون.
الثالث: ظلم الناس للكفار الذين يعتدون وينفقون أموالهم في محاربة المسلمين، بإعتبار انه ينشغلون في القتال مع المسلمين، فيأتي غيرهم من وراء ظهورهم ليغزوهم وينهب أموالهم.
الرابع: ظلم الكفار بعضهم لبعض، وإثارة أسباب الفتنة وحصول الإقتتال بينهم بالباطل وإتباعاً للهوى والعصبية، وحب السلطنة والرياسة الدنيوية.
الخامس: تلقي الكفار لأحكام منافية للحق والعدل والإنصاف.
السادس: ظلم الكفار لأنفسهم، وكونهم سبباً مباشراً للإضرار بالنفس والجماعة.
والصحيح هو الأخير، ولا يتعارض معه الرابع، لذلك جاءت “لكن” للعطف والإستدراك والإيجاب بعد النفي، فلم تقف الآية عند نفي ظلم الله تعالى للكفار، بل أثبتت قانوناً وهو ظلم الكفار لأنفسهم، وتعديهم عليها، وجلبهم الضرر والأذى لأنفسهم بسوء إختيارهم وما يفعلونه من الأفعال المذمومة شرعاً وعقلاً ومنها التعدي ومحاربة الإسلام، وهذا الإستدراك من إعجاز القرآن لما فيه من المعاني القدسية، والحجة الدامغة والبرهان السماوي عن ظلم الكفار لأنفسهم ، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد موضوع ظلم الكفار لأنفسهم، فقد يظلم الإنسان غيره ويعلم انه يظلمه أو يكون من اليسير بيان موضوع وكيفية ومقدار الظلم سواء في الإحتجاج أو الشكوى أو الدعوى والبينة أما معرفة الإنسان لظلمه لنفسه فهو أمر ليس بالهين، خصوصاً عند القوم الكافرين الذين إختاروا الجحود والعناد.
ويحتمل ظلم الكفار لأنفسهم وجوهاً:
الأول: ظلم الكفار لأنفسهم في الحياة الدنيا.
الثاني: ظلم الكفار لأنفسهم في الآخرة أي انهم يأتون الأفعال التي تسبب ظلمهم بنزول العذاب الأليم بهم في الآخرة، وفيه دلالة على ان دخول الكفار النار ظلم منهم لأنفسهم لأن عقابهم فرع العدل الإلهي.
الثالث: قيام الكفار بالفساد والإفساد في الأرض بالإنفاق في الباطل والظلم والتعدي.
الرابع: توكيد قانون ثابت وهو من ينفق الأموال في قتال المسلمين فهو ظالم لنفسه متحداً كان أو متعدداً.
فالفرقة أو الملة أو الأمة التي تجهز الجيوش على المسلمين، وتبذل الأموال لصد الناس عن الإسلام والسعي لإرتداد بعض المسلمين تظلم نفسها.
الخامس: إختيار الكفر ظلم للنفس.
السادس: تعريض الكفار أموالهم للتلف بإنفاق شطر وجزء منها في محاربة الإسلام ومبادئ الإيمان وسنن الشريعة السماوية الناسخة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق ظلم الكفار لأنفسهم وإقدامهم بإختيارهم على الإضرار بأنفسهم ، ولماذا جاءت الآية بهذا البيان والإخبار عن ظلم الكفار لأنفسهم فيه وجوه:
الأول: إقامة الحجة على الكفار ، وهذه الحجة متعددة ومركبة.
الثاني: إشعار الكفار بان الله عز وجل يعلم بسوء فعلهم، وتعديهم وانه سبحانه يجازي على الأعمال.
الثالث: اللطف الإلهي بإنذار الكفار بتلف أموالهم وفيه فرصة ومناسبة للتوبة والإنابة.
الرابع: بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار.
الخامس: لوم الكفار لأنفسهم سواء على نحو القضية الشخصية بان يلوم كل واحد منهم نفسه، او على نحو القضية النوعية بان يلوم بعضهم بعضاً.
السادس: توكيد تنزيه الباري عز وجل عن الظلم.
السابع: الإشارة الى شدة الضرر الذي يلحق بالكفار، إذ ان تلف الأموال بآفة وعلى نحو قهري على الإنسان يبعث في نفسه اليأس والإحباط والقنوط لتكون هذه الحال نتيجة للكفر والإنفاق فيه.
السابع: إنتفاع المسلمين من الإخبار الوارد في هذه الآية من وجوه:
الأول: معرفة حال الكفار وانهم ظالمون لأنفسهم.
الثاني: إجتناب الركون الى الكفار.
الثالث: الإحتراز من الكفار في البيع الآجل والسلف لأن أموال الكفار معرضة للتلف والزوال ونزول البلاء، وهذا الإحتراز مطلق أي لا ينحصر موضوعه بالكفار الذين ينفقون أموالهم في التعدي على الإسلام والمسلمين، بل يشمل الكفار الذين ينفقون أموالهم في المعاصي والفواحش والسيئات.
الرابع: زيادة التفقه في الدين، وإدراك قانون ثابت وهو ان الله عز وجل لا يظلم أحداً وان كان كافراً يسخر أمواله لمحاربة الله ورسوله والمؤمنين، وما ينزل به من العقاب انما عن إستحقاق ولظلمه نفسه.
الثامن: تفيد آيات القرآن ان ظلم الكفار لأنفسهم بتعديهم وفسقهم وإصرارهم على الكفر والجحود، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ] ( ).
التاسع: دعوة الكفار أفراداً وجماعات الى التوبة والإنابة.
العاشر: حث أولاد الكفار على دخول الإسلام ، ودعوتهم لتحذير آبائهم من الكفر والإنفاق في محاربة الإسلام، لأن هذه الآية تدل في مفهومها على إنذار أولاد الكفار بان أفعال آبائكم لن تبقي لكم تركة ومالاً، فاذا أردتم التركة وكثرة المال فعليكم بمنع آبائكم من الإنفاق في المعاصي والتعدي والظلم وكل ما هو قبيح ذاتاً وعرضاً.
قانون يظلم الكفار أنفسهم بالإقامة على الكفر
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان، وجعله قادراً على التمييز بين الأشياء والمتضادات، ومعرفة الأشباه والنظائر، ورزقه إختيار القول والفعل الذي يريده، ولكن هذا الإختيار ليس طلقاً ومطلقاً، بل وراءه عالم الحساب وفيه الثواب والعقاب.
ليكون لإستحضاره لعالم الحساب في ذهنه أثر فيما يقول ويفعل ويختار، ومن القواعد الفقهية الثابتة موضوعية الإختيار في ترتب الأثر الشرعي على الفعل بإعتباره من شرائط التكليف، لذا فان نعت الكفار بانهم ظالمون لأنفسهم لم يأتِ الا بعد ثبوت إختيارهم الكفر وهل يمكن ان يكون الإنسان كافراً بالقهر والقسوة والخوف ، الجواب لا ، لإمكان إخفاء الإيمان ، والله تعالى يعلم السر وما في باطن الصدور.
فكما فضح الله المنافقين فإنه سبحانه أكرم المسلمين والمسلمات الذين أخفوا إيمانهم تقية من الطاغوت والظالمين مطلقاً، قال تعالى [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ] ( ).
وذكر انه ابن عم فرعون، وآمن بموسى سراً، وقيل كان إسرائيلياً والأول أرجح، وإسمه سمعان أو حبيب وقد أراد نجاة موسى عليه السلام من بطش فرعون وملأه، فتودد اليهم بلغة المناصحة والمداراة ، وقال [فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا] ( ).
في إشارة الى عموم العذاب الإلهي اذا نزل بقوم كما في الآية محل البحث فانها شبهت وسيلة تلف أموال الكفار بانها ريح شديدة البرد، والتي تأتي على جميع الزرع، وان كان فيه زرع لمؤمن يخفي إيمانه من بين القوم الكافرين.
ولا ينحصر قوله بالمداراة والتورية وإظهار الإنتساب لهم وحده، وما يصيب المؤمن الذي يخفي إيمانه بين الكفار هو من ظلم الكفار لأنفسهم لما يلحقهم من الإثم والذنب العظيم لأنهم سبب في الإضرار بالمؤمن الذي يخفي إيمانه خوفاً وخشية منهم ومن بطشهم، فاذا حصل تلف لماله مع أموالهم فانه يؤجر ويثاب بخلاف الكفار.
لقد جاءت الآيات القرآنية والتنزيل مطلقاً بذم الظالمين، سواء الذين يظلمون أنفسهم، أم يظلمون غيرهم، وجاءت هذه الآية بالذم المركب للكفار على كفرهم وظلمهم لأنفسهم، ومما فيها من الأسرار والمضامين القدسية انها لم تذكر ظلم للكفار لأنفسهم على نحو الإجمال بل جاءت الآية بذكره بلحاظ تعيين موضوع الظلم وهو الكفر والإنفاق منه، كقضية حقيقية واقعية تنطبق على موضوعها قهراً عند تحققها في أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل ، لذا فان صفة ظلم النفس ملازمة للكفار في الحياة الدنيا والآخرة ، لا ينفكون عنها ، ما داموا متلبسين بالكفر والجحود.
وتدل الآية في مفهومها على ان الكفار يعانون من الأذى، ويتحملون المشاق والنصب بسبب ظلمهم لأنفسهم بالإضافة الى ما ينزل بهم من العذاب، أما خير أمة أخرجت للناس فانها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بلذة وشوق، وان كان فيهما ومشقة جهد فانه يندك بالغبطة والسعادة لما فيهما من الأجر والثواب.
وتتجلي منافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العاجلة بإصلاح النفوس والمجتمعات، ومن مصاديق كون المسلمين خير أمة أخرجت وظهرت للناس تلاوة هذه الآية وإشعار الكفار بانهم ظالمون لأنفسهم وإقامة الحجة عليهم، وجذبهم الى منازل الإيمان والتخلص من ظلم النفس، للملازمة بين الكفر وظلم النفس، والتنافي والتضاد بين الإيمان وظلم النفس.
لذا فان الآية خطاب عام وليس خاصاً، وقاعدة كلية وليس مسألة جزئية تخص أفراداً معينين والكفار والفاسقين الذين قاموا بالإنفاق لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة الإسلامية، بل هي حكم نوعي عام ، وقانون شامل للكفاربالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وفي الآية بيان لقبح الكفر واضراره الدنيوية والأخروية على صاحبه وعلى غيره من الناس ما دام في ظلمات الكفر، ومن ظلم الكفار لأنفسهم إنفاقهم في الدنيا وللدنيا ، كما ذكرته الآية الكريمة [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ولم يجعلوا الحياة الآخرة غاية ومقصوداً في إنفاقهم.
ومن وجوه إنتفاء ظلم الله تعالى للكافرين انه سبحانه رزقهم الأموال في الدنيا وهو يعلم انهم ينفقونها في الباطل، فلم يحرمهم إبتداء منها، وهو من مصاديق رحمة الله تعالى بالناس جميعاً في الحياة الدنيا، وموضوع للإختبار والإبتلاء.
فجاءت خاتمة الآية لتؤكد بان تفضل الله تعالى بالأموال على الكفار مع علمه بانهم ينفقونها في الباطل والتعدي ليس من الظلم بل هو من الرحمة والرأفة بالعباد، ولكن الكفار لم ينفقوا منها لأغراض الأجر والثواب وجلب المنفعة، ودفع المفسدة، فإستحقوا العذاب الإلهي العاجل بالريح التي فيها صر، والآجل بالخلود في الجحيم.
واخرج الطبراني عن سليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذنب لا يغفر وذنب لا يترك وذنب يغفر فاما الذى لا يغفر فالشرك بالله وأما الذى يغفر فذنب بينه وبين الله عزوجل وأما الذين لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا * ( ).
وجاءت خاتمة الآية بنعت الكفار بانهم ظالمون لأنفسهم ، والقدر المتيقن من ظلم الإنسان لنفسه هو بعض الهنات والصغائر من الزلات، خصوصاً وان الحديث ورد بصيغة المفرد “ظلم العبد لنفسه” أما الكفار فانهم ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر والشرك بالله عز وجل، ثم تمادوا في الظلم بالإنفاق في المعاصي والصد عن سبيل الله عز وجل، فهو من الظلم الذي لا يترك، وكأن الحديث تفسير وبيان لمضامين هذه الآية الكريمة وما فيها من الإخبار بصيغة المثل عن نزول البلاء بالكفار.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع “يظلمون” مما يدل على إستمرار ظلم الكفار لأنفسهم بلحاظ إتخاذهم الكفر ملة، والإنفاق في المعاصي ليترتب الإثم على البقاء في منازل الكفر ترتب المعلول على علته، وفيه نوع وعيد للكفار وتخويف لهم من الإستمرار في الكفر والجحود، وإنذار متصل ملازم لهم ما داموا في منازل الكفر والضلالة.
وتبعث الآيةالكريمة في النفس الإنسانية مطلقاً النظر الى ما وراء الحياة الدنيا في المقاصد والغايات، وتنهى عن التخلف والقصور الذي يتمثل بحصر غايات الإنسان بالدنيا ليست كوعاء زماني منتهي بل بقصد إتباع الهوى والغرور، وعدم الإلتفات الى الوظائف العبادية التي تجب على الإنسان كمكلف فيها .
وإذ جاءت الآية السابقة بعدم إغناء كفاية أموال وأولاد الكفار عن آبائهم فان هذه الآية تخبر عن تلف أموال الكفار وصيرورتها عدماً محضاً، لأن الآية السابقة ذكرت الأموال بما هي ملك وعروض وعدم إغنائها عن الكفار، أما هذه الآية فأخبرت عن قيام الكفار بإنفاق أموالهم في الباطل فذكرت معها العقوبة العاجلة والأثر الواقعي المترتب عليها وكأنه من قانون العلة والمعلول.
بحث بلاغي
من وجوه البديع والاطناب (حسن النسق) وهو الإتيان بكلمات يتعقب بعضها بعضاً ، وتتلاحم في الفاظها معانيها، من غير ان يتعارض هذا التداخل مع استقلال كل واحدة منها بمعنى خاص، ليزيد الكلام عذوبة، ويجذب الأسماع ، ويساعد في الفهم وفقه السامع للكلام، وطرد الضجر والملل منه وان جاءت كلماته متعددة وكثيرة، يتصل بعضها ببعض بحرف العطف الواو.
وقد جاءت الآية السابقة وهذه الآية في بيان حال الكفار بنسق بديع ينقل ذهن القارئ والسامع الى حال الذين كفروا وما هم فيه من البؤس والضلالة، فقد ذكرت الآية السابقة فقر الكفار وعزلتهم وانفرادهم وعدم وجود ناصر لهم في الدنيا والآخرة .
ويرى الناس أموالهم وكثرة أولادهم فتأتي هذه الآية لتؤكد انها كالسراب وانها عديمة الفائدة والنفع لهم حين نزول البلاء الإلهي بهم، ولم تقف الآية عند عدم كفاية واغناء أموال وأولاد الكفار لهم بل أخبرت عن حالهم يوم القيامة، واقامتهم في الجحيم، فقد يقول قائل أن عدم إغناء الاموال والأولاد عن الكفار لايعني نزول العذاب الأخروي بهم، فجاءت كلمات خاتمة الآية السابقة لتخبر عن كونهم اهل النار، وعن مكثهم الدائم فيها.
ومع مجئ هذه الآية على نحو مستقل ، وبعد فاصلة بينها وبين الآية السابقة الا ان هذا الفصل لم يمنع من ظهور التلاحم والتداخل بين مضامين الآيتين لوحدة الموضوع وتعلقه بالكفار وذمهم وإنذارهم والإخبار عن سوء عاقبتهم.
فابتدأت هذه الآية بقوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ] ومجئ واو الجماعة فاعلاً في الجملة شاهد على اتصال موضوع هذه الآية بالآية السابقة وانها تتعلق بالكافرين مما يدل على غضب الله عليهم وان البلاء الذي يحل بهم لاينحصر بعدم كفاية ومنعة اموالهم واولادهم هذا، بمعنى انها لاتغني عنهم ولن تبقى بايديهم، وجاءت الآية بصيغة الخبر الذي تدل عليه لغة المثل الواردة في الآية الكريمة ليجتمع الخبر مع المثل ويكون نوع كناية وانذار وتخويف.
قانون الإيمان كمال الخلق
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً لغيره ، وتحتمل حاجته أمرين:
الأول: الإطلاق والإستدامة.
الثاني: النسبية والحصر.
والصحيح هو الأول ، فحاجة الإنسان مطلقة ودائمة، وغير منحصرة بحال دون آخر، أو بموضوع دون غيره، ومن رحمة الله تعالى بالعباد انه سبحانه هيء لهم ما يحتاجون في وجودهم، وفتح لهم الأبواب لبلوغ الكمالات، ونيل المنافع وجلب المصالح وضمها للذات المنفردة والمتحدة سواء في باب حاجات البدن من المأكل والمشرب، أو المقامات الإجتماعية، أومراتب الفضيلة .
وجاء الأنبياء لإصلاح الناس وتنمية ملكة الأخلاق الحميدة والإخبار بصيغ القطع واليقين ، وشواهد المعجزات والتنزيل عن عالم الخلود بعد الموت، وما يحتاجه الإنسان في الدنيا لبلوغ درجة الخلود في النعيم المقيم، والأمن والسلامة من العذاب الأليم في الآخرة.
ولم تنحصر وظيفة الأنبياء بالإخبار عن عالم الآخرة والتضاد في منازل الناس فيها، وإنعدام الوسطية والبرزخية بينهم، بل جاءوا بالقيم والمفاهيم والأفعال التي تجعل الإنسان سعيداً في الدنيا والآخرة، وحذروا الناس من الخبائث والرذائل التي تجلب اليأس والشقاء في الدنيا، وتخلد صاحبها في النار، ليكون من يصر على إرتكابها ظالماً لنفسه، ويتوجه اليه اللوم من الناس جميعاً يوم القيامة حيث إنكشاف الحقائق وزوال الغشاوة ، وأثر حب الدنيا وإتباع الهوى.
ومن الآيات في خلق الإنسان ميله وحبه للأخلاق والسنن الحميدة، ونفرته من العادات الذميمة ، فالعفة والتقوى والحكمة والشجاعة أمور حسنة محمودة عند الناس جميعاً، فان قلت من الناس من يفعل ما يخالفها ويتجه الى جانب الإفراط أو التفريط، كما في ترك بعضهم الشجاعة وميله الى التهور أو الجبن، او تركه أو عجزه عن بلوغ مراتب الحكمة والإعتدال في القوة الفكرية والنطقية، وتفريطه وتلبسه بالبلادة، أو إفراطه وإختياره الجربزة.
قلت لقد أراد الله عز وجل للإنسان التحلي بملكة العدالة ورسوخها في نفسه لتكون واقية من غلبة الهوى على العقل، ومن إستحواذ الغضب على جوارحه وأفعاله، وغلبة الشرة أو الخمود على أفعاله، وتكون أي العدالة سوراً جامعاً للفضائل والأخلاق الحميدة، ومنبعاً للأفعال الحسنة وحرزاً من الرذائل والأفعال القبيحة.
ولا ينال الإنسان مراتب العدالة وسمو الأخلاق الا بالإيمان والإقرار بالربوبية، والتصديق بالأنبياء وما جاءوا به من الآيات والمعجزات، وتتجلى مكارم الأخلاق في القرآن وآياته، وكل آية منه مدرسة في الأخلاق وقانون دائم في السنن الحميدة، ومنه هذه الآية التي تنهى عن ظلم النفس، فالآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية، الا انها تتضمن الإنشاء والوعيد والذم للكفار لظلمهم أنفسهم، ومحاربتهم المسلمين .
وتبين آيات القرآن ان الحسن والقبح ليسا أمرين متغيرين بحسب إختلاف الأزمنة والأمكنة والمجتمعات والأعراف السائدة، بل هما قوانين ثابتة وهذا العنوان المركب من القاعدة الكلية وثبات مفاهيم كل فرد منهما من رحمة الله تعالى بالناس جميعاً.
وأصل الحسن هو الإيمان، وهو كالشجرة التي تتفرع أغصانها من التقوى وأداء العبادات والزهد والنصيحة وحسن الخلق والحلم والكرم والصبر والقناعة والرضا والعفة والمروءة، لتكون هذه الأغصان واقية من القبائح والرذائل التي يكون أصلها هو الكفر والضلالة، والإنفاق في المعاصي والفواحش .
فجاءت هذه الآية لجذب الناس الى شجرة الإيمان وما في كل غصن من أغصانها من الحسن الذاتي والذي تترشح عنه الفضائل ومحاسن الأخلاق.
ومن الآيات وجود المصداق الخارجي المتعدد والكثير لها في الخارج بالمسلمين الذين إتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله.
وهو من الشواهد اليومية الثابتة على تفضيل المسلمين وانهم خير أمة أخرجت للناس، خير أمة بإيمانهم وأفعالهم الحسنة، وخروجهم المبارك للناس بدعوتهم الى المساهمة في إستدامة ونماء شجرة الإيمان، والتفيء بظلالها والإقتطاف من ثمارها بما يكون غذاء للإنسان في الدنيا، وواقية له من العذاب في الآخرة.
لقد جاءت هذه الآية دعوة للكفار للرجوع الى الفطرة الإنسانية، والسجايا التي ينال معها الإنسان الكمال والسعادة، وتبين له ضرورة تقيده بقوانين وقواعد كلية في الحياة الدنيا تتجلى فيها معاني العبودية لله تعالى، وإجتناب الرذائل والفواحش والخبائث ومنها الظلم.
وتؤكد آيات القرآن ماهية الفضيلة وحسن الخلق، والخصال الحميدة التي يجب أن يتحلى بها كل إنسان ذكراً كان أو أنثى، والرذائل التي يجب ان يتجنبها كل إنسان وأصلها الكفر والإنفاق فيه.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن المصداق العملي الذي يدل على القبح الذاتي للإنفاق في المعاصي ومحاربة الإسلام برجوعه على صاحبه بالفقر والفاقة والحاجة، وهو نوع تأديب وزجر للكفار ، ودعوة لهم للإمتناع عن إتباع القوة الشهوية الذي هو ظلم للنفس.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب وضروب البديع “الإيغال” وهو ختم الكلام بتكلفة ومسألة يتم المعنى بدونه، “وقال السيوطي وزعم بعضهم انه خاص بالشعر، ورد بانه وقع في القرآن”( ).
ويمكن التمييز والفصل بين الإيغال في الشعر، والإيغال والإمعان في القرآن للتباين بينهما، إذ أن كل كلمة في القرآن لها معنى مستقل وتضيف معنى إضافياً الى ما قبلها، ومنه قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] فلما جاءت الآية بصيغة المثل وذكر قوله تعالى [حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] جزء من المثل والمشبه به في الآية الكريمة، جاءت خاتمة الآية متعلقة بالكفار الذين ينفقون أموالهم في المعاصي والتعدي.
فتكرر قوله تعالى [ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] في الآية مرتين:
الأولى: جزء من المثل القرآني وبصيغة المشبه به بإعتبار عائدية المال لهم في مورد التشبيه والمثل بقوله تعالى [حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] فالحرث والزرع يعود في المثل الى قوم ظلموا أنفسهم في بيان الى عدم ترتب الثواب والأجر والمغفرة والخلف على ما أصابهم من الضرر، إذ يبتلى المسلم ببلاء في الدنيا فيزرق الأجر والثواب.
أما الكافر فانه لا يؤجر على ما يلحق به من الأذى والبلاء، فلذا قيدت الآية الحرث بنسبته الى قوم ظالمين.
الثانية: وصف وذم الكافرين الذين ينفقون أموالهم في التعدي ومحاربة الإسلام، بقوله تعالى [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] في توكيد لوصف الكفار الذين يبذلون الأموال في المعاصي بانهم ظالمون لأنفسهم، ويجلبون لها الضرر، ويحجبون عنها النفع والفائدة.
فمن وجوه الإعجاز في بلاغة هذه الآية الكريمة إستقلال كل فرد من اللفظ المتكرر بمعنى قائم بذاته، من غير أن يتعارض هذا الإستقلال مع صبغة التداخل بينها في المضمون والدلالة، كما انها تشترك في الغايات الحميدة، ويبعث تكرار لفظ “ظلم النفس” الوارد في الآية النفرة من أصحابه وجاء حصراً في الآية بالكفار، ومتعلق هذه النفرة إختيار ظلم النفس وكون الإنسان سبباً لنزول البلاء به، وإضراره بنفسه وجماعته لإشتراكهم بمفاهيم الكفر والضلالة.
بحث فلسفي
تعتبر مسألة الإرادة من اهم المسائل الكلامية وكثرت فيها اختلافات المتكلمين وتعددت اتجاهاتهم واقوالهم والنزاع بينهم في اكثره نزاع صغروي ولفظي، فقد اختلفوا في الإرادة على وجوه:
1- انها صفة زائدة على الذات.
2- عين الذات.
3- انها فرع العلم بالأصلح والنظام الأحسن.
4- انها من عوارض الذات كما تبدو في الإرادة الإنسانية.
5- انها أول مخلوق لله، ومنها تفرعت وتشعبت المخلوقات الأخرى.
6- انها من صفات الفعل.
والإرادة لها معنيان الأول الحب، والثاني العزم على اتيان الفعل، والحب عند الإنسان كيفية نفسانية تتعدى قدراته، وهي عنوان رغباته وطموحاته وميله بحسب غلبة النفس الشهوية او الغضبية واثر العقيدة والهوى في توجيه الإرادة.
لكن معناها بالنسبة للباري يختلف عنه في الماديات والأرواح الحيوانية والإنسانية ذات الوجود الممكن التي تشعر بالحاجة الى الغير دائماًُ.
وواجب الوجود منزه عن الأعراض والكيفيات النفسانية وبلحاظ الأثر وتوجه الأمر ودلالتها على قدرته تعالى يمكن اعتبارها صفة فعلية واضافية كالخلق والرزق والتدبير خصوصاً مع موضوعية القيود الزمانية والمكانية والحدوث والكثرة، وهي ايضاً فرع الحب الإلهي ودلالة عليه لأنه سبحانه يحب الخير والكمال.
ويتجلى في المخلوقات بديع صنعه تعالى وصفة الكمال والحكمة والنظام الأحسن مع بقاء المخلوقية والإمكان، ومن الآيات في المخلوقات انها قابلة للتغيير والتبدل، ولا يخرج هذا التغيير عن إرادته تعالى، انما هو فرع منها، لأن قدرته تعالى تتغشى النظام الأحسن، وهو الذي أطلق عليه الفلاسفة إصطلاح “العناية” ولإثبات ان نظام الوجود هو الأحسن والأمثل هناك طريقان:
الأول: البرهان اللمي ، وهو الإستدلال بالعلة على المعلول وجوداً، بإعتبار ان المعلول لا يتخلف عن علته، وبعدم العلة على عدم المعلول ، فاذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، واذا لم تطلع الشمس فالنهار غير موجود.
ويحب الله سبحانه عباده، ويتفضل عليهم بمصاديق الخير والكمال، وجعل نظام الكون بأبهى وأجمل هيئة، وإدخر فيه كل جيل من الناس وكل أمة من الأمم ثروة وكنزاً، وهو أعلم بأوان وكيفية الإنتفاع منه، وهو الواسع الكريم الذي لا تنقص خزائنه، ولا يبخل بشيء فجاءت الأرزاق للناس ظاهرة وباطنة، وإجتمع في أيديهم الذهب والفضة ليكون موضوعاً للإبتلاء وسبباً للإمتحان.
ومن حبه تعالى للناس انه لم يتركهم يواجهون الإمتحان في كيفية الإنفاق بل هداهم الى السبيل القويم ببذل الأموال في سبيل الله، ودفع الزكاة لمستحقيها بقصد القربة الى الله تعالى، ولكن الكفار خارجون بالتخصص وبإختيارهم عن هذا الأمر لأنهم حجبوا عن أنفسهم قبول الأعمال بإصرارهم على الكفر والجحود.
والمراد من التخصص في الإصطلاح هو خروج شيء عن موضوع الحكم الشرعي خروجاً حقيقياً تكوينياً بلا رعاية وتعيين من طرف الشارع لأجل هذا الخروج، إذ ان الكفر مانع من قبول الأعمال.
فجاءت هذه الآية لطفاً وحباً إضافياً من عند الله بالعباد عامة، بالإنذار من الإنفاق في المعصية والصد عن سبيل الله، لأنه إنفاق فيما يكره الله، وحجب للخير عن العباد، والله تعالى هو القوي العزيز ، ومن قوته وعظيم قدرته وكرمه أنه يأبى ان يمنع أحد أو جماعة أو أهل ملة الخير النازل منه الى عباده.
ومن أهم مصاديق الخير الإسلام والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية لذا يحل البلاء بالكافرين بتلف أموالهم، ليكون واقية لأهل الإيمان وبرزخاً دون الإرتداد أو بعث الخوف والفزع في نفوسهم، ومانعاً من بقاء الكفار في منازل الكفر والجحود.
الثاني: البرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على العلة، ومن عدم المعلول على عدم العلة، فحينما تجد البخار يتصاعد كثيفاً من الإناء تدرك ان تحته ناراً، ومصدراً للحرارة،وقيل ان البرهان الإني يفيد علة الحكم ذهناً لا خارجاً.
والتفكر في المخلوقات والتدبر في النظام الكوني وما فيه من مصاديق الكمال والتمام، واللامتناهي من المنافع والذخائر والأسرار التي يقف العلم عاجزاً في كل زمان عن إحصائها، إذ يتباهى علماء كل زمان بإكتشاف أسرار من الكون، ويأتي غيرهم من بعدهم ليكتشفوا أسراراً أخرى وهكذا الى يوم القيامة، لتبقى أسرار الكون وبديع صنعه تتحدى الإنسان وتؤكد عجزه وضعفه وحاجته .
وإتصاف العالم والكون بانه مخلوق ، ومن عالم الإمكان يزيده بهاء وجمالاً، ويجعله أكثر إشراقاً وبهاء لأنه من صنع الله تعالى الذي هو خالق كل شيء،ومن بديع صنعه تعالى أن يقترن خلقه مطلقاً بالإتقان والكمال، فكل ما خلقه الله تعالى يتصف بالكمال.
وتدل جميع المخلوقات متحدة ومتفرقة على وجود الصانع ووجوب عبادته وطاعته، وعدم معصيته لأنها معلول للعلة الفاعلية، والقدرة الإلهية، ومن أقبح المعاصي إنفاق الماي في الصد عن سبيل الله، ومنع الناس من عبادة الله، لذا يأتي البلاء على الأموال التي توظف في المعصية لكي لا تكون برزخاّ بينه وبين عباده، وحاجباً عن بلوغ مصاديق حبه تعالى لعباده، وحبهم له بتقيدهم بالفرائض والمناسك والطاعات.
وقد ثبت ان ترتب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة للحكم، فجاءت الآية بذكر الكفار وجحودهم وشركهم، وقيامهم بالإنفاق بالباطل والمعصية كعلة لنزول البلاء والعذاب بهم.
بحث بلاغي
من وجوه البديع والبيان والتعليل وبيان السبب ومن منافعه التقرير والبلاغ والشهادة، ومن خصائص النفس الإنسانية انها تميل الى قبول الأمور ، والأحكام المعللة سواء يأتي تعليلها متصلاً بها أو منفصلاً عنها، وحروف التعليل كثيرة منها اللام، وان، وإذ، والباء، وكي، ومن، ولعل، وقد يأتي التعليل بكلمة ، وإستفهام، وبيان ، كما في قوله تعالى [حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ] ( ).
وجاءت خاتمة الآية لتؤكد حقيقة وهي ان علة نزول البلاء بالكفار ظلمهم لأنفسهم والصلة بين إنفاقهم في المعاصي وبين ظلم النفس في المقام على وجوه:
الأول: التساوي بين الأمرين فالمراد من ظلم الكفار لأنفسهم هو الإنفاق في المعاصي ومحاربة الإسلام.
الثاني: العموم والخصوص من وجه، ووجود مادة للإلتقاء بينهما، ومادة للإفتراق.
الثالث: العموم والخصوص المطلق ، فظلمهم لأنفسهم أعم من الإنفاق في الباطل.
والصحيح هو الثالث فظلم الكفار لأنفسهم أعم من الإنفاق في الباطل، وأشد وجوه ظلم النفس الكفر والشرك بالله عز وجل وفيه سوق للنفس الى الخلود في العذاب الأليم.
ومن الشواهد عليه مجيء الآية الكريمة بصيغة الفعل المضارع “يظلمون” أي انهم مستمرون في ظلم نفوسهم حتى مع تلف أموالهم وعدم بقاء ما يصلح للإنفاق، وهذا من إعجاز الآية ووعيد إضافي فيها، أي ان البلاء والعقاب الذي يصيب الكفار لا يقف عند تلف الأموال، بل يصيبهم في أبدانهم وقد يكلفهم حياتهم، سواء مثل قوم عاد الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية، أو بالقتل على أيدي المسلمين او غيرهم أو نزول المرض والوباء بهم، أو وقوعهم بالأسر والسبي، بينما جاء المثل في الآية الكريمة بصيغة الفعل الماضي في ظلمهم لأنفسهم بقوله تعالى [حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] أي ينزل بهم العقاب بسبب ما مضى من ظلمهم لأنفسهم وإقامة الحجة عليهم.
أما ما يأتي من ظلمهم لأنفسهم وهو الذي تدل عليه صيغة الفعل المضارع [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] لإفادة المعنى الأعم والجامع بلحاظ ما ورد في المثل ومجيء كان مع الفعل يظلمون اذ يفيد جمعهما في خاتمة الآية الإشارة على أنهم ظلموا أنفسهم في السابق ، ومستمرون في ظلمها بالكفر والجحود وفعل المنكرات ، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وفي خاتمة الآية حجة على الكفار ودعوة لهم للوم أنفسهم، ومانع من محاولات الإنتقام من المسلمين بسبب ما يلحق بهم من الأضرار، وحث على التنزه من ظلم النفس لأنه قبيح ذاتاً وعرضاً، ويدل حكم الشرع والعقل على لزوم إجتنابه والتخلص منه.
فمن إعجاز القرآن ان وظائف التعليل فيه أعم وأكثر أهمية من وظائفه في علم البلاغة ، لأنه تأديب وإرشاد ونصح وسبب للهداية وهو نفع وخير محض وتنزيل سماوي على سيد المرسلين وللأمة التي فضلها الله على الناس جميعاً، ووظيفته مركبة ومتعددة في جهتها إذ انها زجر للكفار، وتثبيت للمسلمين في منازل الإيمان ودعوة لهم للشكر لله تعالى لأنهم إجتنبوا ظلم النفس.
بحث عقائدي وبلاغي
من وجوه البديع والإطناب “الإدماج” بأن يدمج المتكلم غرضاً في غرض، وقصداً مع قصد بحيث يظهر أحدهما ليدل في مفهومه على الغرض الثاني.
وجاءت هذه الآية بأغراض عقائدية وبلاغية متعددة، تتجلى فيها مصاديق المعنى الأعم لإعجاز القرآن، وإنه لا ينحصر بالجانب البلاغي وحده، بل يشمل المواضيع المختلفة، ومنها تعدد المفاهيم للفظ والكلمة القرآنية مقابل المنطوق الواحد.
ويتعلق المنطوق في المقام بتنزيه الله عز وجل عن ظلم الكفار ولكن مفاهيمه متعددة، وهو مدرسة عقائدية وبلاغية تقتبس الدروس، وتستنبط الأحكام منها.
وجاءت خاتمة الآية الكريمة بثلاثة أمور:
الأول: نفي ظلم الله تعالى للكفار.
الثاني: وجود ظلم واقع على الكفار.
الثالث: يظلم الكفار أنفسهم.
ومع ان الآية خطاب وبيان للمسلمين، فانها لم تتضمن حالهم في موضوع ظلم الكفار، وفيه وجوه محتملة:
الأول: لا يظلم المسلمون الكفار.
الثاني: يظلم المسلمون الكفار.
الثالث: يرد المسلمون ظلم الكفار بظلم مثله، لعمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ).
الرابع: يتلقى المسلمون الأذى والظلم من الكفار ، ولا يردون الظلم بمثله،بل يصبرون ويتلقون الأذى من غير رد مع قدرتهم عليه ، رجاء الأجر والثواب الذي يترشح عن تحمل الأذى في جنب الله.
الخامس:يقوم المسلمون بالرد على ظلم الكفار بظلم أشد وأقسى منه والصحيح هو الأول ، فالمسلمون منزهون عن ظلم الكفار ، ومأمورون بالعدل والإنصاف،ويتلقون الأذى والضرر منهم على نحو مركب من وجوه:
الأول: هجوم الكفار على المسلمين لإختيارهم الإيمان بالله ورسوله.
الثاني: تعدي الكفار على المسلمين، أما الآية أعلاه فإنها لا تعني في معناها تعدي المسلمين ، بل المجازاة بالمثل ومقابلة الجور بالعدل، والتعدي بالقصاص، وجاء التماثل اللفظي بلحاظ الإتحاد في الجنس والمقدار، وفيه تأديب للمسلمين ومنعهم من التفريط أو الإفراط في الرد على الكفار، أما طرف التفريط فلا يسكتون عنهم ولا يردون بأدنى مما يساوي التعدي، وأما طرف الإفراط فلا يبالغ المسلمون في رد تعدي بأكثر منه وما فيه ضرر وأذى زائد، وفيه دليل على تنزه المسلمين من الظلم.
وهو من عمومات قوله تعالى [ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] من وجوه:
الأول: ان الله عز وجل يأمر المسلمين بعدم ظلم الكفار مع سوء إختيارهم وجحودهم، وقبح أفعالهم.
الثاني: إستحقاق الكفار للإبتلاء والعقاب.
الثالث: تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية ليس في باب العبادات وحدها بل في كيفية التصرف مع الكفار ومواجهتهم وعدم ظلمهم، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس.
ان إختتام الآية الكريمة بتوكيد ظلم الكفار لأنفسهم شاهد سماوي على إندحار الكفر، وخزي الكفار، وعجزهم عن الإرتقاء والسمو، لأن ظلم النفس سبب ذاتي لبعث الوهن والضعف في أوصال ومنتديات الكفار وان لم تظهر معالم هذا الضعف الا بعد حين.
فمن أغراض خاتمة الآية وما فيها من الإخبار عن ظلم الكفار لأنفسهم بان مآل الكفر والضلالة الى الزوال والإضمحلال وان الذين إختاروا الكفر يصاحبهم الوهن والضعف والفقر والفاقة بسبب ظلمهم لأنفسهم، وثبت في علم الأصول ان الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، فان الكفار إختاروا حجب السعة والغنى عن أنفسهم، وإختاروا الجور والتجافي عن العدل فيما بينهم، وفي أنفسهم، والحاق الضرر بذراريهم بالتبعية، الا من أفاق وأناب منهم وإعتبر مما يلاقيه الآباء الكفار، وهو من مضامين هذه الآية وما فيها من الحجة والبراهين على الكفار وظلمهم لأنفسهم.
ومن أكبر وجوه ظلم الكفار لأنفسهم إختيارهم الشرك وإصرارهم على الضلالة، وعدم الإستجابة لدعوة الأنبياء للتوحيد والإقرار بالعبودية لله تعالى، والتخلف عن دخول الإسلام والإنضمام إلى خير أمة التي تنطق بالشهادتين ،وتؤدي التكاليف برضا وغبطة وشكر لله تعالى ، وورد في التنزيل حكاية عن لقمان [يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( )، لذا جاءت الآية محل البحث بنعت الكفار بأنهم ظالمون لأنفسهم على نحو الإطلاق من غير تقييد برتبة ودرجة من الظلم ، في إشارة إلى عدم إنحصاره بالإنفاق في المعاصي والتعدي ، ليشمل الذم الأصل الذي يترشح عنه هذا الإنفاق وهو الشرك والكفر، وتحذير الكفار من الإقامة عليه.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية الكريمة باسم التشبيه( مثل ) للإشارة الى موضوع مساواة بين أمرين ، أحدهما يكون اكثر وضوحاً عند المخاطب والسامع ، وهو المشبه به .
وجاءت واو الجماعة في قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ] فاعلاً، وتتضمن الإشارة الى ما تقدم، وان المذكورين في الآية أشير اليهم بالواو لوجهين:
الأول: تقدم ذكرهم.
الثاني: انهم معروفون عند السامع على نحو القطع واليقين.
والصحيح هو الأول، إذ تقدم ذكر المقصودين في الآية السابقة، ولكن بلغة الذم.
وجاءت صيغة الجمع في الآية السابقة على وجوه:
الأول: الذين كفروا ، بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا].
الثاني: الضمير (هم) في [لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ].
الثالث: الضمير في [أَمْوَالَهُمْ].
الرابع: أولاد الكفار في قوله تعالى [أَوْلاَدُهُمْ].
الخامس: الضمير (هم) في قوله تعالى [أَوْلاَدُهُمْ].
السادس: اسم الإشارة [وَأُوْلَئِكَ].
السابع: أصحاب النار.
الثامن: الضمير (هم) في قوله تعالى [هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ].
التاسع: الكفار الذين يقيمون في النار ، بقوله تعالى [خَالِدُونَ].
وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه السبعة الباقية، كلها تتعلق بموضوع واحد هم الكفار، وجاءت واو الجماعة في قوله تعالى [يُنْفِقُونَ] فاعلاً يدل عليهم، لتتجلى معاني ومضامين السياق القدسية.
وجاءت الآية السابقة لبيان عدم إنتفاعهم من المال والولد، وماينتظرهم من العذاب الأليم، أما هذه الآية فجاءت لبيان قانون ثابت وهو قبح و سوء أثر إنفاقهم ، وانه يكون وبالاً عليهم، فهم محرومون مما عندهم ولا يترتب على عملهم من الأثر إلا مايكون ضرراً محضاًً عليهم .
وإذ وصفت الآية السابقة الكفار بانهم أصحاب النار، وخالدون فيها جاءت هذه الآية لبيان وجه من وجوه إستحقاقهم دخول النار واللبث الدائم فيها، وهو سوء إنفاقهم الأموال ، ورجوعه عليهم بالأذى والضرر لانه من مصاديق ظلم النفس.
فجاءت الآية السابقة وهذه الآية بخصوص الذين كفروا، بينما جاءت الآيات الثلاثة التي قبلهما بخصوص الذين آمنوا من أهل الكتاب، وتأتي الآيات الثلاثة التي بعدهما خطاباً للذين آمنوا يتضمن تحذيرهم من إتخاذ الكفار والمنافقين بطانة، ليتبين المائز بين المسلمين والكفار ولزوم إعتباره في عالم الأفعال، فان الكفار لاتغني عنهم أموالهم وأولادهم وهم ظالمون لأنفسهم كما تدل عليه الآية السابقة وهذه الآية.
أما المسلمون ففي حرز وواقية من عند الله، بان يهديهم الله تعالى إلى حسن الإختيار والرشاد والتوفيق، وبيان ما يصيب الكفار من الأذى عند نزول النعم على المسلمين، وفرحهم بما يلحق المسلمين من الأذى مع دعوة المسلمين الى الصبر.
ومن الإعجاز أن تبدأ هذه الآية بصيغة المثل والتشبيه، وأركان التشبيه أربعة وهي:
الأول : المشبه،والمراد منه في الآية إنفاق الكفار .
الثاني : المشبه به، والمقصود منه في الآية الريح .
الثالث : وجه الشبه في الآية ، وهو هلاك المال والحرث .
الرابع : أداة التشبيه ، وهو ( مثل ) و(الكاف) .
والمعروف في علم البلاغة أن أداة التشبيه، قد تذكر، وقد تحذف من الكلام نحو : كرمه كرم حاتم ) لذا يقسم التشبيه الى قسمين المرسل وهو الذي تذكر فيه أداة التشبيه، وسمي مرسلاً لإرساله عن التأكيد، والتشبيه المؤكد وهو الذي حذفت منه أداته.
وجاءت هذه الآية بثلاثة من أدوات التشبيه في موضوع واحد، وهي الاسم (مثل) الذي إبتدأت به الآية، والحرف الكاف مع الاسم في قوله تعالى (كمثل) ، فلم تكتف الآية بحرف واحد في التشبيه ولم تقل ( ماينفقون في هذه الحياة الدنيا كريح فيها صر) بل جاءت بأدوات التشبيه المتعددة ، وفيه مسائل:
الأولى: تزيد كثرة المباني من المعاني والدلالات.
الثانية: وظيفة المثل هو البيان والإيضاح، وجاء تعدد أدوات التشبيه للبيان.
الثالثة: إبتداء الآية بأداة التشبيه مادة لجذب الأسماع، وجعل الأذهان تتهيأ لمعرفة المشبه والمشبه به، وهو أمر يحتاج الى حضور ذهني، والجمع بين المتفرق بلحاظ وجه المماثلة.
الرابعة: توكيد إعجاز القرآن، وما فيه من الأسرار البلاغية.
الخامسة: تزيد البداية بأداة التشبيه الكلام عذوبة، وتضفي عليه صبغة الجملة الخبرية، ذات المعاني والمقاصد المتعددة.
السادسة: في الآية تحد للكفار، فلايستطيعون إنكار المثل الوارد في الآية مع وضوحه وبيانه.
السابعة: مجئ أداة التمثيل في أول الآية تأكيد لمضامينها، وهذا التأكيد وسيلة للإعتبار والإتعاظ، فقد جاء القرآن لهداية وإصلاح الناس، وفيه مدارس البشارة والإنذار.
الثامنة: إرادة إستدامة التشبيه، وسوء أثر إنفاق الكفار عليهم، ففي كل مرة، وفي كل موضوع ينفقون فيه المال يكون كالريح الشديدة البرودة التي تأتي على الزرع فتهلكه.
وهذه الآية من آيات الإنذار والإخبار عن قانون ثابت يتعلق بما يبذله الكفار من الأموال، وفي أحكام الفقه قاعدة تسمى قاعدة (نفي الجهالة والغرر) بأن لا تكون في المعاملة والعقد جهالة أو تغرير بأحد الطرفين، ومن رحمة الله تعالى بالناس أنه خلقهم لعبادته، وبعث لهم الأنبياء وأنزل الكتب من السماء.
وجاءت هذه الآية حجة وطرداً للغفلة والجهالة،، ودعوة للإيمان وإجتناب الكفر والإنفاق من منازله، فجاء المثل القرآني ليكون بياناً إضافياً يدل على قبح الكفر الذاتي والعرضي، والضرر العظيم الذي يترشح عن الإنفاق فيه.
وهل تكرار لفظ (مثل) في الآية من الوجوه والنظائر، أي أن تكرار لفظ (مثل) يسمى نظائر، وتعدد معناه بلحاظ مواضعه يسمى الوجوه، الجواب لا، فان معنى كلمة (مثل) في الموضعين واحد، وهو إرادة التشبيه، والبيان بلغة البيان والتكرار الذي يفيد زيادة المعارف.
ويقسم التشبيه بلحاظ الإتحاد، والتعدد في طرفيه المشبه والمشبه به الى ثلاثة أقسام هي:
الأول: مفردان، بان يكون كل من المشبه والمشبه به مفرداً، وهو على وجهين:
الأول: مطلقان من غير تقييد نحو: وجهه كالقمر.
الثاني: المشبه والمشبه به مقيدان، بان تكون موضوعية للقيد في موضوع الشبه، سواء كان القيد وصفاً أو حالاً او ظرفاً.
الثاني: مفردان مختلفان نحو: الآية القرآنية فرائد ولآلئ، فالآية القرآنية مفردة، والفرائد جمع فريدة، وهي الدرة والشذرة من فضة (وفرائد الدر: كبارها) ( ).
الثالث: أن يكون طرفا التشبيه مركبين تركيباً لايمكن فصل أجزائهما، لإتحاد هيئة كل فرد منهما كما في قول الشاعر:
كأن سهيلاً والنجوم وراءه
صفوف صلاة قام فيها إمامها.
وجاءت الآية بذكر المشبه وهو (ماينفقون) وما اسم موصول بمعنى الذي ، وهو لفظ مفرد وكذا المشبه به وهو الريح، ولكن الإنفاق اسم جنس له مصاديق متعددة في الخارج، فلذا جاء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على التجدد والكثرة مع الإتحاد والإلتقاء في التشبيه، فكل فرد من إنفاق الكفار تكون له ذات النتيجة والأثر الضار.
وقيدت الآية الإنفاق بالظرفية المطلقة وهي الحياة الدنيا ، إذ قالت [فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] وفيه وجوه:
الأول: تعلق المثل بأيام الحياة الدنيا.
الثاني: ليس في الآخرة زرع لقوم تأتي عليه الريح.
الثالث: بيان حقيقة وهي ثبوت الحكم الوارد في الآية الى يوم القيامة، فحتى لوكانت الدولة للكفار فان مصيرهم الى الهلاك والزوال، لأن مايبذلونه من المال للسلاح وغيره تكون عاقبته التلف والهلاك.
الرابع: الإستغراق المكاني لأحكام الآية، فلاينحصر حكمها في بلد دون آخر، بل هو ملازم للكفر والكفار في كل مكان وزمان لأن التعدد المكاني والزماني من أفراد هذه الحياة الدنيا.
الخامس: جاء اسم الإشارة (هذه) لبيان القلة وقصر مدة الحياة الدنيا بالمقارنة بعالم الآخرة، فاذا كان الوعاء والظرف للإنفاق ليس بالكثير أو الطويل فمن باب الأولوية يكون موضوع إنفاق الكفار ليس ذا شأن أو أثر بل هو إلى زوال.
السادس: في الآية تذكير بعالم الآخرة، وهو على قسمين:
الأول: إنذار الكفار، وبعث الخوف والفزع في نفوسهم من الآخرة، ومافيها من الحساب، ليقترن هذا الخوف بأوان وفعل الإنفاق، فكلما أنفقوا مالاً فانهم يستحضرون حقيقة زوال الدنيا، والحساب في الآخرة.
الثاني: البشارة للمؤمنين بالأجر والثواب على فعل الصالحات، والصبر في مرضاة الله تعالى، وبعث السكينة في نفوسهم من أهوال يوم القيامة، قال تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، ولكنها خطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جميعاً والى يوم القيامة، وهي مدد سماوي لهم في حال السلم والحرب من وجوه:
الأول: إخبار المسلمين عن سوء عاقبة إنفاق عدوهم يجعلهم اكثر ثقة وشوقاً للنصر والغلبة.
الثاني: هذه الآية سلاح دائم بوجه الكفار، بمنعهم من الإفراط في بذل الأموال في الضرر والإضرار وفي ميادين الكفر المختلفة، ويدعوهم الى الإيمان، والآية شاهد بان الإسلام لم ينتشر بالسيف، فكل آية من القرآن هي سلاح سواء كانت آية بشارة أو إنذار.
الثالث: إدراك الكافر لحقيقة وهي عدم ترتب النفع على إنفاقه، وفيه تنمية لملكة النفس اللوامة عنده، إذ انه يقول ما دام إنفاقي لاينفع فلماذا أنفقه، ويتساءل كيف السبيل إلى الإنتفاع من ماله، ويكون الجواب هو دخول الإسلام ، ليكون الإنفاق بقصد القربة إلى الله، وخال من الضرر والإضرار.
لقد حصرت الآية موضوع المثل والتشبيه بما ينفقه الكفار من الأموال، وفيه بيان إضافي وجذب للإسماع، ودعوة للناس للتدبر في مضامين الآية، فمن منافع الحصر الموضوعي في الكلام تحصيل إدراك السامع لمضامين الموضوع، ودعوته للتأمل والتدبر في معانيه وغاياته، وهو من إعجاز القرآن ومافيه من البيان.
وإذ جاءت الآية السابقة بعدم إنتفاع الكفار مما في حوزتهم من الأموال جاءت هذه الآية لبيان الضرر الذي يلحق بهم مما ينفقون ويبذلون من المال، ويفيد الجمع بين الآيتين ان الضرر الذي يلحق الكفار مما ينفقونه من المال أكثر من الضرر الذي يلحقهم مما عندهم من المال، وتلك آية اعجازية في مضامين الآيات القرآنية، لان المال المنفق يوظف في الظلم والتعدي، والسعي لتثبيت الكفر والجحود، ومحاربة الإسلام، اما المال الذي يبقى في حوزة الكفار.
فقد جاءت الآية السابقة بالإخبار عن كونه لن يغني عنهم ولن ينفعهم، بينما جاءت هذه الآية بالإخبار عن صيرورة المال الذي ينفقه الكافر كالريح العاتية الشديدة البرودة التي تأتي على المال الذي يملكون ويرجون فيه النماء، فلا يحصل النماء ولايبقى على حاله بل يلحقه الهلاك بسبب ماينفق منه في المعصية.
فجاء المثل في الآية لبيان حقيقة وهي ان المال الذي ينفقه الكافر يذهب هباء ويأتي الى ما تبقى من أصل المال فيهلكه، وهو أمر لايمكن أن يحصل إلا بمشيئة وقدرة الله تعالى لذا جاء المثل بالريح العاتية شديدة البرودة فكما لايقدر على بعث الريح العاتية إلا الله تعالى، فكذا بالنسبة لهلاك أصل المال بسبب ما ينفق منه لايقدر عليه إلا الله تعالى.
لذا فان المثل الوارد في الآية وعيد وتخويف للكفار، وفيه إشارة الى عجز الكفار عن الدفع والذب عن أموالهم التي في حوزتهم، كما لايستطيع صاحب الزرع دفع الريح الباردة عن زرعه.
وكان الكفار يعيّرون المسلمين بالفقر وقلة المال، وكانوا يقولون: لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ، فجاءت الآية لتبين أن الغنى الذي عليه الكفار متزلزل ويتعرض للتلف والهلاك عند إتفاقهم الأموال في التعدي على المسلمين، لبيان حقيقة أن غنى الكفار ليس سبباً في رجحان كفتهم في الواجهة، وبلحاظ المعنى الأعم للإنفاق، وانه يشمل إنفاق الكفار مطلقاً فان الآية إنذار للكفار بان الغنى الذي هم عليه الى زوال، وان الفقر قادم عليهم بآفة أرضية أو سماوية.
وجاء قيد وصفة القوم الذين تهلك الريح أموالهم بانهم ظالمون لأنفسهم لبيان حقيقة وهي إنحصار التلف والهلاك بأموال الكفار، اما المسلمون فقد جاءت الآيات بأمرهم بالزكاة الذي يدل على تحقق النصاب في أموالهم، وذات الزكاة تطهير ونماء للأموال.
فمن إعجاز الآية تقييد دلالات المثل القرآني، وتحصيل النفع بالتمييز بين مضامين المشبه والمشبه به بالتخصيص والتقييد، ولأن الريح الباردة إذا جاءت يكون ضررها عاماً ، ولاتفصل أو تفرق بين حرث المؤمنين وحرث الكفار .
وجاءت الآية في باب المشبه به بحصر الهلاك بانه لن يصيب إلا حرث وزرع [قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] وفيه إشارة الى سلامة المسلمين وأموالهم مما ينفقه الكفار للإضرار بهم، وبيان أن الريح مسخرة في كل زمان ومكان بأمر الله، وهي مستجيبة لمشيئته ، قال تعالى [وفي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ] ( ).
وجاءت الآية التالية بتحذيرهم من مخالفة الكفار وإتخاذهم بطانة وفيه بشارة نيل المسلمين المنازل الرفيعة والسيادة والشأن، فجاءت لتكون واقية وحرزاً من إتخاذ الكفار بطانة ، وهي عقوبة أخرى تلحق الكفار بأن يحرمون من الجاه مع الحرمان من المال بسبب إختيارهم الكفر، وسوء إنفاقهم المال.
ومن مفاهيم المثل القرآني بعث النفرة في النفوس من الكفر والظلم، وجعلها تميل الى الإيمان وتدرك الحاجة له قال تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( ).
وذكرت الآية مادة ( ظلم) ثلاث مرات، وهو إعجاز خاص بهذه الآية، وما للمثل القرآني من الدلالات، وما فيه من لغة الإنذار والتخويف والوعيد، والدعوة الى نبذ الظلم وبيان ضرره على الذات وجاء ذكر الظلم في هذه الآية على وجوه:
الأول:قوله تعالى [ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] وفيه بيان لإنحصار البلاء والضرر بالظالمين، ويدل في مفهومه على ان الإيمان واقية للمال، وسبب في دفع الآفات والمهالك، وصرف البلاء، وان الإنسان او الجماعة يظلمون أنفسهم فتأتي الريح على أموالهم لتهلكها ليكون ظلم النفس سبباً لتلف الأموال.
الثاني: إذا كان الظلم من الكلي المشكك فان أشد وجوه ظلم النفس هو الكفر، لذا تكون عاقبته تلف الأموال، وإسقاط ما في اليد، ليصبح الكافر لايملك شيئاً من الدنيا، وينتظره العذاب الأليم في الآخرة.
الثالث: تنزيه مقام الربوبية من الظلم، ومن صفات الله تعالى انه (عدل) وهو الذي يحكم بالحق، ولايجير في الحكم.
الرابع: توكيد ظلم الكفار لأنفسهم ، وإذ جاء ذكر ظلمهم لأنفسهم في المثل بصيغة الفعل الماضي، جاءت خاتمة الآية بذكر ظلمهم لأنفسهم بصيغة المضارع [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
فابتدأت الآية بصيغة المضارع ، ثم الماضي ، وأختتمت بصيغة المضارع، وجاءت البداية بخصوص إنفاق الكفار، والخاتمة بظلمهم لأنفسهم لتوكيد حقيقة وهي أن إنفاق الكفار للمال ظلم لأنفسهم، وفيه تثبيط لهم، وبعث لليأس في نفوسهم، وتحد يتجلى بعدم إنتفاعهم مما يبذلون من الأموال، ويتضمن في مفهومه دعوة لهم للتوبة والإنابة ، وفيه شاهد سماوي بان المسلمين لم ولن يظلموا الكفار.
ومن إعجاز القرآن ان الآية إبتدأت بصيغة المثل ليكون سياحة في عالم الملكوت، ومدرسة في الإعجاز، ولكن خاتمة الآية جاءت بقانون ثابت على نحو الحقيقة والكلام الصريح وهو ان الكفار ظالمون لأنفسهم لتكون الخاتمة بياناً للبداية، ومنعاً من التفريط بالمثل القرآني ، وما فيه من الدروس والعبر والمواعظ.
وجاءت الآيات التي تأمر المسلمين بالدفاع عن الإسلام، وقتال الكفار لتدل في مفهومها على جهاد المسلمين لإصلاح الكفار، وحملهم على نفعهم في النشأتين ، وهو خصائص خير أمة أخرجت للناس بان تقاتل الذين كفروا لجذبهم الى الإيمان وجعلهم يشاركونهم في بلوغ مراتب التشريف والرفعة بدخول الإسلام ، فليس من أمة تجاهد وتقاتل وتتحمل الأذى من أجل منفعة غيرها الا المسلمين.
فان قيل لماذا يقاتل المسلمون الكفار الجواب لظلم الكفار لأنفسهم وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية، فصحيح ان أولها جاء بصيغة المثل، ولكن خاتمتها جاءت بقانون ثابت ويفيد الإطلاق لأن الكفر ظلم للنفس بالذات، ويترشح عنه ظلم إضافي للذات والغير وفي الميادين المختلفة، فيظهر ظلم الكفار لأنفسهم بما ينفقون في الباطل وبما يدخرون من أموال تكون في معرض الإنفاق في الباطل ويمتنعون عن إخراج مما للفقراء فيها من الزكاة، فهم لا يرجون الآخرة في قولهم وفعلهم.
وقد يقال إن إثبات شئ لشئ لايدل على نفيه عن غيره، وان إخبار الآية بظلم الكفار لأنفسهم لايعني عدم تعرضهم للظلم من غيرهم، والجواب قد يأتي الظلم للكافر من غيره سواء من أصحابه او من أهل ملة مشركة أخرى، ولكن المسلمين لايظلمون أحداً لأنهم يمتثلون للأوامر والنواهي الإلهية، وهي خير محض يتصف بالشمول والعموم.
ويصاحب الظلم الذاتي الكفار، لإختيارهم الجحود بالآيات، والصدود عن النبوة، وإعراضهم عن البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة، وإمتناعهم عن التدبر في المعجزات التي جاء بها والتي تشهد بصدق نبوته وإنفاقهم للأموال في المعصية والظلم للنفس والغير.
ويأتي هلاك الأموال لمنع الكفار من ظلم الغير والتعدي، والإفراط في ظلم النفس، ومن أسرار إختتام الآية بصيغة الفعل المضارع والأمر الدائم بقاء وإستدامة ظلم الكفار لأنفسهم حتى في حال تلف أموالهم ، لأن أصل الظلم هو إختيار الكفر والجحود، فماداموا في منازل الكفر فهم ظالمون لأنفسهم.
ويتنزه المسلمون عن التعدي والظلم للغير ، وهو من الشواهد على كونهم “خير أمة أخرجت للناس” وخروجهم لنشر العدل وإفشاء أعمال البر والصلاح، وتلاوتهم لآيات القرآن الكريم التي تتضمن التوبيخ والإنذار للكفار.
فهذه التلاوة من مصاديق الآية أعلاه من سورة آل عمران ، فخير أمة هي التي تعمل بمضامين البشارة والإنذار وتنقلهما إلى الناس للإعتبار والإتعاظ ويأتي هذا النقل ضمن الدعوة الى التوبة والإنابة، والحث على دخول الإسلام.