بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي جعل القرآن حرزاً وواقية للمسلمين، وسلاحاً في النشأتين أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون ضياء دائماً ينير لأهل الأرض مسالك الأرض وطرق الهداية، وينفي اللبس والشك والترديد، ويطرد عن القلوب أسباب الغواية ونزغ الشيطان، ويبعث في النفوس السكينة والأمن ويهدي إلى العمل الصالح، ويمنع من الخطأ والزلل الذي يؤدي إلى التهلكة والضلالة.
فجاءت هذه الآية لتنهى عن مقدمة غيرية للأذى، وسبب للضرر الشخصي والنوعي، وتجعل المسلمين في مأمن من الكيد في باب الخاصة والبطانة، إذ بدأت الآية بإكرام المسلمين بصيغة النداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه عون على التوفيق للإمتثال الحسن لمضامين الآية الكريمة، وجاءت الآية السابقة بذم الذين كفروا وأخبرت عن ظلمهم لأنفسهم، بإنفاقهم أموالهم في غير مرضاة الله، وصيرورة هذا الإنفاق وبالاً عليهم.
وقد جاء الجزء الرابع والسبعون من هذا السفر الخالد خاصاً بتفسير الآية السابقة،وهي قوله تعالى في ذم الكفار[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ]…الآية.
أما الآية الكريمة التي إختص بتفسيرها هذا الجزء فجاءت خطاباً تشريفياً للمسلمين، يتضمن تحذيرهم من الكفار في موضوع البطانة والخاصة ليدل بالدلالة التضمنية على أهمية موضوع البطانة، ولزوم الإحتراز فيه بحسن الإختيار، وهذه الآية مدرسة جامعة في كل من:
الأول: علم الكلام، وبيان أسرار تثبيت معالم التوحيد في نفوس المسلمين، وجعل الإيمان هو الفيصل والملاك في إختيار البطانة.
الثاني: علم الفقه وأحكام الحلال والحرام، لأن النهي الوارد في الآية يفيد الحرمة في إتخاذ بطانة ووليجة من غير المسلمين، وموضوع علم الفقه هو فعل المكلف حسب مضامين الأحكام التكليفية الخمسة.
الثالث: علم الأصول، لأن الآية الكريمة دليل وحجة تستنبط منها الأحكام الشرعية الكلية، وتساهم في تعيين عمل المكلفين.
الرابع: هذه الآية المباركة مدرسة في علم الأخلاق الذي يبحث في السجايا وأصل مزاج الإنسان، وما يحركه نحو الفعل، وجاءت دعوة للمسلمين لتهذيب الذات والنفس وسلامة السلوك، وصلاح عالم الأفعال بصيغة النهي والتحذير والتخويف.
وتتضمن هذه الدعوة في مفهومها ترغيب الناس كافة بالصلاح والأمانة والإقرار بنزول القرآن من عند الله، والتسليم بان النصر مصاحب للإسلام لأن المدد يأتي للمسلمين من الله تعالى، وكل آية قرآنية هي مدد سماوي متجدد ينتفع منه المسلمون مجتمعين ومتفرقين.
الخامس : تؤسس الآية علماً مستقلاً في علم المنطق، إذ يقسم أرباب الميزان اليقينيات إلى خمسة أقسام أعلاها البديهيات، وتأتي الآية القرآنية لتبين للناس وجود ما هو أسمى من البديهيات أو أنه أعلى مصاديقها، ومما تخبر عنه هذه الآية الكريمة أسباب الزجر عن إستبطان الذين كفروا.
وكما تبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين فانها تبعث الفزع واليأس في قلوب الكفار، لتكون حجة عليهم، وشاهداً على سوء إختيارهم وإقامتهم على الكفر، وفيها دعوة لهم لدخول الإسلام والإنتقال إلى منازل التشريف والإكرام الإلهي، والتخلص من البؤس والحزن الذي يلازم الإعراض عنهم، وإبعادهم عن منازل البطانة والخاصة لخير أمة أخرجت للناس، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”( )، وهذه الآية حرب على الأخلاق المذمومة، ودعوة للتحلي بالأخلاق الحميدة والتسابق فيها.
السادس: تؤسس الآية قواعد كلية في علم الإجتماع تتعلق بموضوع البطانة والخاصة، وما يؤهل الإنسان ذكراً أو أنثى لبلوغ مراتبها، وموضوعية العقيدة والإنتماء في الصلات الإجتماعية، والقرب من المسلمين، والإطلاع على أسرارهم.
وهذه الآية سور يحيط بأسرار المسلمين، وقلعة لا يستطيع أعداء الإسلام إختراقها والنفاذ اليها، وتتخذ القبائل والجيوش والأمصار القلاع للحصانة والدفاع والأمن والسلامة من الأعداء، وفي القرآن قلاع كثيرة لأمة واحدة وهم المسلمون، ولا يستطيع العدو إختراق أي قلعة منها، وجاءت هذه الآية حرزاً وواقية في باب البطانة وتتضمن البيان وذكر أفراد العلة التي تجعل غير المسلم يتخلف عن مراتب الخاصة والوليجة للمسلمين، وفيه تأديب للمسلمين والناس جميعاً وتخفيف ورأفة بالمسلمين، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
إنه فيض ولطف من الله عز وجل لم يشهد له التأريخ مثيلاً والحمد لله بأن يأتي جزءان متتاليان كل واحد منهما في تفسير وتأويل آية واحدة من القرآن، جاء كل من هذا الجزء والجزء السابق في تفسير وتأويل آية واحدة من سورة آل عمران.
وفيه بيان للدرر والذخائر العلمية التي تتضمنها كل آية من القرآن، ودعوة
للعلماء لإستقراء العلوم والمسائل المتجددة من الآية القرآنية، وليكونا شاهدين
على تضمن القرآن للامتناهي من العلوم والإسرار والخزائن التي تجذب
أرباب العقول، وتدعو الناس جميعاً للنهل منه والإنتفاع مما فيه بالذات والعرض، لأن العناية بآيات القرآن والصدور عنه، والرجوع إليه وفيه نفع عظيم من وجوه:
الأول: إقتباس العلوم منه باب للرزق.
الثاني: إنه مادة للكسب والتحصيل.
الثالث: نزول البركات من السماء.
الرابع: إنه مناسبة لإظهار الأرض لخيراتها.
الخامس: بصيرة بأمور الدين والدنيا.
السادس: إنه حجة في إختصاص المسلمين بنعم ظاهرة وباطنة، تتجلى بآيات القرآن، وما فيها من البيان.
وحينما قال الملائكة ساعة خلق آدم، وإخبار الله تعالى بجعل خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، جاءت الآية محل البحث من سورة آل عمران لبيان ان الله تعالى جعل المسلمين ورثة الأنبياء وأمرهم بإجتناب أسباب الخبال والفساد التي تأتي اليهم من غيرهم، وصيانة وحصانة المسلمين من الفساد من مصاديق الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وليكون إحتراز المسلمين من البطانة السيئة من الرد العملي الذي يدل على أهلية المؤمنين لخلافة الأرض.
ومن فضل الله وبركات القرآن أني أقوم بكتابة ومراجعة وتصحيح أجزاء
هذا السفر الخالد والإشراف على طبعها بمفردي من غير إعانة من أحد إلا بمدد
ورأفة من الله عز وجل، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] الآية 118.
الإعراب واللغة
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
يا: حرف نداء، أي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب، الهاء: للتنبيه، الذين: بدل من أيها.
آمنوا: فعل ماض، والواو: فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول.
لا: ناهية، تتخذوا: فعل مضارع مجزوم بلا.
الواو: فاعل، بطانة: مفعول به.
من دونكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبطانة، والضمير الكاف مضاف اليه، والتقدير: من غيركم ممن هو أدنى منكم.
[لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]
لا: نافية، يألونكم فعل مضارع مرفوع بثبوت النون.
الواو: فاعل، الكاف: مفعول به أول، خبالاً: مفعول به ثان.
وقيل خبالاً تمييز أو أنه منصوب بنزع الخافض والتقدير: في الخبال.
[وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ]
ودوا: فعل ماض، الواو: فاعل، ما: مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر مفعول به، والتقدير: ودوا عنتكم، وقيل الجملة صفة ثالثة لبطانة.
[قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ]
قد: حرف تحقيق، بدت: فعل ماض مبني على الفتح بالفتحة المقدرة على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين.
البغضاء: فاعل مرفوع بالضمة، من أفواههم: جار ومجرور متعلقان ببدت.
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ
الواو: للإستئناف، وقيل انها حالية، ما: اسم موصول مبتدأ، تخفي : فعل مضارع.
صدورهم: فاعل مرفوع بالضمة، والضمير هم: مضاف اليه.
أكبر: خبر “ما”
[قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]
قد: حرف تحقيق، بينا: فعل ماض وفاعل، لكم، جار ومجرور متعلقان ببينا.
الآيات: مفول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة.
ان: شرطية، كنتم: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط.
التاء: اسم كنتم، تعقلون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية خبر كنتم.
وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا تتخذونهم أولياء وخواص لكم.
وفي البطانة معانِ متقاربة هي:
الأول: الخاصة، يقال بطنت بفلان أي صرت من خواصه.
الثاني: الوليجة، “وفي الصحاح: بطانة الرجل وليجته”( ).
الثالث: صاحب السر، وداخلة الأمر، ويقال ان فلاناً ذو بطانة بفلان أي ذو علم ودراية بأموره.
الرابع: الذي يجعله الإنسان مشاوراً له في أموره.
الخامس: الذي يبين له الإنسان أحواله، ويكشف له ما عنده ونواياه.
السادس: الخارج من المدينة “وفي حديث الإستسقاء: وجاء أهل البطانة يضجون”( ).
السابع: الذي يأنس به الإنسان، وفي الآية قال الزجاج: البطانة الدخلاء الذي ينبسط اليهم، ويستبطنون.
الثامن: الذي تفضي اليه أسرارك، ويكون أخبر ببطانك.
التاسع: البطانة: السريرة.
“وفي الحديث: ما بعث الله من نبي ولا إستخلف من خليفة إلا كانت به بطانتان”( ).
وفيه “ما من والِ إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً”
أما كلمة “دون” فلها معان عديدة هي:
الأول: نقيض فوق.
الثاني: تقصير عن بلوغ الغاية.
الثالث: تأتي دون ظرفاً.
الرابع: الحقير الذليل وقال الشاعر:
إذا ما علا المرء دام العلاء ويقنع بالدون من كان دوناَ( )
وأختلف في إشتقاق فعل من دون على قولين:
الأول: عدم إشتقاق فعل منه.
الثاني: يشتق منه الفعل ويقال: دان يدون دوناً وأدين إدانة.
الرابع: يأتي دون إسماً فيدخل عليه حرف الجر.
قال تعالى [وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
ونسب ابن منظور” إلى بعض النحويين: انه لدون تسعة معان: تكون بمعنى قبل وبمعنى أمام وبمعنى وراء وبمعنى تحت وبمعنى فوق، وبمعنى الساقط من الناس وغيرهم، وبمعنى الشريف، وبمعنى الأمر، وبمعنى الوعيد، وبمعنى الإغراء”( ).
ويقال إلا يألوا ألواً: قصر وأبطأ.
والخبل والخبال: الفساد، قال الشاعر:
فدافع قوماً مغضبين عليكم فعلتم بهم خبلاً من الشر خابلاً
ويأتي الخبل والخبال بمعنى الجنون وبمعنى النقصان وذهاب الشيء والهلاك”، وفي الحديث: من شرب الخمر سقاه الله من طينة الخبال يوم القيامة)(2) وقيل ان الخبال عصارة أهل النار.
وفي الحديث: بين يدي الساعة خَبَل، أي فساد الفتنة والهرج والقتل.
والعنت:المشقة والشدة يقال:أعنت المالك الفلاح: إذا أدخل عليه عنتاً أي مشقة، وفي التنزيل [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ] ( ).
وللعنت معان أخرى متقاربة هي:
1- الفساد.
2- الهلاك.
3- التكليف بما يفوق الطاقة.
4- الزنا.
5- الفجور.
6- قيد العنت في كلام العرب الجور والإثم والأذى( ).
والبغض:الكره والنفرة،ونقيض الحب، والبغضاء والبغاضة شدة البغض.
وفي الدعاء: نعم الله بك عينا وأبغض بعدوك عينا وأهل اليمن يقولون : بغض جدك كما يقولون عثر جدك( ).
بحث نحوي
إختلف علماء النحو والبيان في إعراب الجمل الواقعة بعد بطانة، وفيه وجوه ثلاثة:
الأول: هذه الجمل مستأنفات.
الثاني: جاءت لتعليل النهي عن إتخاذ بطانة من دون المسلمين.
الثالث: الجمع بين الوجهين الإستئناف والتعليل.
ومنع الواحدي كونها صفات متعاقبة، وزعم انه لا يقال: لا تتخذ صاحباً يؤذيك أحب مفارقتكم.
ولكنه قياس مع الفارق للتباين في صيغة الخطاب وحصول الإلتفات والإنتقال في المثل الذي ذكره، أما في الآية الكريمة فقد جاءت الجمل للتعليل وإرادة تنبيه وتحذير للمسلمين، وتوكيد النهي.
ومنهم من ردّ على الواحدي بجواز تعدد الصفة بغير عاطف كما يتعدد الخبر، ومنه قوله تعالى [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ).
ولكنه أيضاً من القياس مع الفارق للتباين بين الأمرين، وقال ابن هشام: وحصل للإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية سهو، فانه سأل: ما الحكمة في تقديم “من دونكم” على “بطانة” وأجاب بان محط النفي هو “من دونكم” لا بطانة فلذلك قدم الأهم، وليست التلاوة كما ذكر.
وقد يكون حصل تصحيف من النساخ، وعبارة الرازي هي: قال سيبويه: أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود إتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله: لا تتخذوا بطانة أقوى في إفادة المقصود( ).
والا فان الرازي ذكر في السطر الذي يلي هذه العبارة: قيل “من” زائدة، وقيل “للتبيين” لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم( ).
وتفيد ( من ) أيضاً التبعيض، والإشارة إلى تعدد أهل الملل الأخرى، وان التباين بينها وقرب أهل الكتاب من المسلمين بخصوص التنزيل لا يمنع من عموم الإجتناب في باب البطانة.
في سياق الآيات
في نظم الآيات، وصلة هذه الآية مع الآيات القرآنية المجاورة طرفان:
الطرف الأول: صلة هذه الآية مع الآيات السابقة لها، وفيه وجوه:
الأول: جاءت آية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )، وثيقة سماوية ثابتة تؤكد المنزلة الرفيعة التي ينفرد بها المسلمون بين الأمم والملل المختلفة إذ وصفت المسلمين بخمس صفات كريمة هي:
الأول: مدح المسلمين بأحسن مدح وثناء توصف به أمة من الأمم من الأولين والآخرين وهي أنهم خير الأمم.
الثاني: خروج المسلمين إلى الناس جميعاً، ومن الآيات ان الآية لم تقل (كنتم خير أمة أرسلت للناس) أو (بعثت للناس) بل قالت أخرجت وفيه وجوه:
الأول: بيان رفعة وعلو مرتبة النبوة، وان الأنبياء هم الذين بعثوا إلى الأمم.
الثاني: إستقلال المسلمين بلفظ (الخروج).
الثالث: يبعث النبي على نحو القضية الشخصية، ويقوم بالتبليغ في أمته، وحينما ينتقل إلى الرفيق الأعلى تبقى سنته وآثاره الحميدة بين أصحابه وأتباعه، أما المسلمون فانهم مستمرون في الخروج إلى الناس ليس لخروجهم إنقطاع، وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين من وجوه:
الأول: بقاء سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية حية غضة طرية.
الثاني: قيام المسلمين بتعاهد السنة النبوية، مع إدراكهم لحاجتهم لها باعتبارها بياناً للقرآن، والمصدر الثاني للتشريع.
الثالث: دعوة الناس إلى الإسلام بواسطة السنة النبوية الشريفة.
الرابع: ليس من أمة أخرجت إلى الناس لها وظائف عقائدية وعبادية مثل المسلمين.
الخامس: ليس للناس حجب تأثير المسلمين عليهم، لان الله عز وجل هو الذي أخرج المسلمين لجميع الناس بدلالة الألف واللام في الناس، التي تفيد الجنس والإستغراق النوعي.
السادس: السنة النبوية سلاح بيد المسلمين في خروجهم إلى الناس، فهم محتاجون لها، ولا يستطيعون الإستغناء عنها، مثلما أنهم محتاجون لكل آية من آيات القرآن.
السابع: جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة الصحابة والتابعين ومن بعدهم للإسلام، وقيامه باصلاح خير أمة لتولي وظيفة إمامة الأمم بما أنعم الله عزوجل به من الوحي والتنزيل والمدد الملكوتي.
الثامن: عصمة خير أمة من الخبال الذي يأتي من البطانة غير المسلمة.
التاسع: تنزيه المسلمين من الفساد والذي يأتي بواسطة البطانة.
العاشر: تفضل الله عزوجل باخبار خير أمة عن الأضرار التي يسببها إتخاذ وليجة من غيرهم ممن يريد لهم المشقة والعناء.
الحادي عشر: إعانة خير أمة بوصف ما تضمره صدور الآخرين ممن قد يهم المسلمون بإتخاذهم وليجة وبطانة.
الثاني عشر: نعمة الله عزوجل على المسلمين ببيان الآيات لهم، وتوضيح الأحكام في موضوع البطانة وأشخاص الخاصة وصفات الأشخاص وأهل الضلالة الذين يجب ان يحذر المسلمون من إتخاذهم وليجة وخاصة.
الثالث: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف، وما هو حسن شرعاً وفيه بيان لموضوع خروجهم للناس، وانه رحمة للناس، وباب لنيل المسلمين الأجر والثواب ولا تستقيم أمور الحياة إلا بالأمر بالمعروف، تلك الوظيفة التي ينهض باعبائها المسلمون.
الرابع: تولي المسلمين لمسؤولية الزجر والمنع عن الفواحش والسيئات على نحو مستديم وإلى يوم القيامة، ويحتمل نهي المسلمين للناس عن المنكر وجهين:
الأول: المنكر من عالم الامكان، ولايشترط في النهي عنه وقوعه واقعاً،بل يأتي النهي للوقاية والإحتراز منه.
الثاني: وقوع المنكر فعلاً، وتلبس أفراد أو جماعة أو أمة به، فيكون النهي عنه حاجة يقوم المسلمون بها، ويحتمل هذا الوجه وجوهاً:
الأول: يأتي النهي حالما يصدر الفعل المنكر.
الثاني: لايحصل النهي وجوباً او استحباباً إلا بعد طول التلبس بالمنكر وصيرورته عادة وفعلاً متصلاً.
الثالث: حصر النهي بحال التجاهر بالمنكر والإصرار عليه، وعدم الإقرار بقبحه، كما لو رأى الإنسان الظلم امراً حسناً عن جهل وغواية، او انه يعتبر السرقة شيئاً غير قبيح، أو يقول إباحة الربا والفائدة القرضية،كما ورد في التنزيل [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا] ( )، وقد حرم الله عزوجل الربا، وحث على البيع الشراء والتجارة.
وكل هذه الوجوه من مصاديق النهي عن المنكر لذا جاءت الآية مطلقة غير مقيدة بفعل مخصوص من أفعال المنكر، وهذا الإطلاق من مصاديق تفضيل المسلمين وكونهم خير أمة من الأولين والآخرين لأن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لم ينحصر بموضوع أو زمان دون آخر، وتدعوهم الآية إلى التوجه إلى الناس جميعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: إيمان المسلمين بالله عز وجل، والإقرار بالعبودية له سبحانه، وعدم إتخاذهم شريكاً له، في آية تبين للناس جميعاً لزوم إقتباس مفاهيم الإيمان من المسلمين، والتعلم منهم، والإقتداء بهم وإتباعهم في سنن الإيمان.
والجميع بين الآية محل البحث وآية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] بلحاظ الوجوه الخمسة التي تتضمنها من جهات:
الأولى: اما بالنسبة للوجه الاول ففيه مسائل:
الأولى: لاتتخذ خير أمة بطانة ممن هم دونها في الرتبة.
الثانية: تتلقى خير أمة التأديب والإرشاد والتعليم من السماء، فتأتي هذه الآية لتخبرهم عن لزوم إجتناب إعتماد غير المسلمين خاصة وبطانة لهم.
الثالثة: يصلح الله عز وجل المسلمين لمرتبة خير أمة بان يهديهم إلى خاصتهم وحملة أسرارهم، وما يتصفون به من الخصائص والشرائط.
الرابعة: بعث اليأس والقنوط في نفوس غير المسلمين من الحصول على مرتبة الخاصة والبطانة لهم.
الخامسة: تشريف وإكرام المسلمين بمخاطبتهم في أول هذه الآية بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
السادسة: العناية الإلهية بالمسلمين بان يذكر الله موضوع بطانتهم وخاصتهم في القرآن، ويتفضل بإرشادهم إلى ما يصلح شأنهم بخصوص البطانة والخاصة.
السابعة: منع أعداء المسلمين من النفاذ إلى قلوبهم، والإشتراك بقراراتهم، وتوجيه أمورهم بالمشورة والبطانة والوليجة.
الثامنة: من خصائص خير أمة انها مؤمنة بالله تعالى إيماناً محضاً، لايستطيع الكفار والمنافقون التأثير عليهم او إدخال الشك والريب إلى نفوسهم.
التاسعة: ليس من برزخية ووسط بين الإيمان وبين الكفر والجحود، فأما ان يكون الإنسان مؤمناً، وإلا فلا يستطيع ان يكون وليجة وبطانة للمؤمنين.
وهناك مسائل إضافية تتعلق بالصلة بين هذه الآية وآية [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] بلحاظ المضامين الآخرى للآيتين:
الأولى: مع ان المسلمين خير أمة أخرجت للناس فمن الناس من يظهر البغضاء لهم، ويضمر لهم الحسد ويريد بهم السوء.
الثانية: دعوة خير أمة للجهاد في سبيل الله بصيغ الدفاع عن بيضة الإسلام، ودفع أسباب الضرر التي ترد من غير المسلمين.
الثالثة: إستغناء وكفاية المسلمين عن إتخاذ وليجة من غيرهم ممن هو أدنى منهم.
الرابعة: دعوة المسلمين إلى التشاور بينهم، وعدم اللجوء إلى غيرهم في المشورة، وبث الأسرار.
الخامسة: من خصائص خير أمة الرجوع إلى القرآن في أمورهم وأعمالهم كلها، ومنها إتصاف من يتخذونه خاصة ووليجة بالصدق والصلاح.
السادسة: تدل الآية على المسؤوليات والوظائف العظيمة التي يقوم بها المسلمون أيام التنزيل وما بعدها إلى يوم القيامة، ممايستلزم إتخاذ خاصة وبطانة، فجاءت هذه الآية للهداية وتأديب المسلمين.
السابعة: عدم إنحصار مضامين الآية الكريمة والتحذير من البطانة السيئة بأولي الأمر من المسلمين، ولا الصحابة وأيام التنزيل، بل ان أحكامها عامة تشمل المسلمين إلى يوم القيامة.
الثامنة: التنبيه والتحذير الوارد في الآية يشمل المسلمات بعرض واحد مع الذكور من المسلمين لعموم الحكم، ووحدة الموضوع في تنقيح المناط، وهو من خصائص خير أمة بان تتلقى نساء المسلمين التحذير من السماء فيما يتعلق بخصوصياتها وأسرارها.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] ( )، وفيه وجوه:
الأول: يفيد الجمع بين الآيتين تحذير المسلمين ممن يسعون للإضرار بهم، وعدم إتخاذهم خاصة وحملة لإسرارهم.
الثاني: تطلع البطانة على الخصوصيات وبعض الأسرار، ولايصح جعل من يسعى للإضرار بك بطانة وخاصة، لأنه يتخذ مما يطلع عليه من أسرارك وسيلة ومحاولة للإضرار بك والإجهاز عليك.
الثالث: إجتماع التحذير مع البشارة، فحتى لو إتخذ المسلمون من دونهم بطانة فانهم لن يستطيعوا الإضرار بالمسلمين إلا على نحو الأذى والضرر القليل، لإطلاق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى].
الرابع: بيان رحمة ورأفة الله تعالى بالمسلمين، بتحذيرهم من جلب اسباب الأذى على أنفسهم باتخاذ بطانة من دونهم خاصة، وحاجتهم معه إلى الإلتفات دائماً إلى ضرورة إجتناب ما يأتي بسببه الضرر والأذ ى.
الخامس: إنذار الناس من السعي في إضرار المسلمين بالاطلاع على أسرارهم، والتزلف إليهم لمعرفة الثغرات التي عندهم، ومحاولة بث الفرقة بينهم.
الثالث: الصلة والجمع بين هذه الآية وآية [بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] ( )، وفيه وجوه:
الأول: بيان عدم أهلية من ضربت عليه الذلة، لأن يكون بطانة لخير أمة أخرجت للناس.
الثاني: حث المسلمين على إجتناب إختيار خاصتهم من الذين غضب الله عليهم وحلت بهم المسكنة.
الثالث: لزوم العناية باختيار الخاصة وحملة الأسرار ممن تجتمع عنده ملكة الإيمان والهداية والأخلاق الحسنة.
الرابع:الحث على الأخلاق الحميدة، ومنها الوسطية في الأمور كما في إختيار الشجاعة، والإبتعاد عن طرفي الإفراط والتفريط، والجزبرة والجبن، ومن ضربت عليه الذلة والمسكنة لا يصلح للنصيحة والمشورة ولا يكون عوناً في الملمات.
الخامس:إستثنت آية [بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] فريقاً من أهل الكتاب من نزول الذلة بهم،فهل يشمل التحذير الذين تم إستثناؤهم،الجواب نعم، لأن التحذير جاء مطلقاً،وإلاستثناء جاء على نحو الموجبة الجزئية وبخصوص العهود والمواثيق،فلا صلة له بموضوع الخاصة والبطانة وما تستلزمه من الشرائط.
السادس: الإيمان الذي يتحلى به المسلمون برزخ وحاجب دون إتخاذهم للذين يكفرون بآيات الله بطانة وخاصة.
الرابع: الصلة والجمع بين هذه الآية وآية [لَنْ تُغْنِيَ] ( )، وفيه مسائل:
الأولى: لزوم إجتناب الكفار وإتخاذهم خاصة وبطانة.
الثانية: تأديب المسلمين بلزوم أخذ الحائطة للدين بإجتناب إستشارة الكفار، وإطلاعهم على الأسرار.
الثالثة: عدم إمكان إنتفاع المسلمين من أموال الكفار إذا إتخذوهم بطانة لأنها إلى تلف.
الرابعة: نفرة و إعراض المسلمين عن الكفار، وإجتناب مخالطتهم لأن آية [لن تغنيَ] نعتتهم بأنهم أصحاب النار.
الخامس: الجمع والصلة بين هذه الآية والآية السابقة، وفيه وجوه:
الأول: قبح فعل الكفار، وإنفاقهم في مباهج الدنيا، وإنشغالهم في التمتع بزينتها، ومن كان هذا شأنه فلا يصلح ان يكون بطانة وخاصة لأحد، فمن باب الأولوية القطعية ان يتجنب المسلمون وهم خير أمة إتخاذ الكافرين وليجة وخاصة.
الثاني: ينفق الكفار أموالهم في التعدي على المسلمين، لذا جاءت هذه الآية حاجة عقائدية للمسلمين، ووجه من وجوه الحيطة والحذر من الأعداء.
الثالث: ينفق أعداء الإسلام أموالهم في الكيد بالمسلمين والمكر بهم، وإذا كانوا وليجة وخاصة فانهم يستطيعون التأثير بها على المسلمين والإضرار بهم.
الرابع: تؤكد الآية السابقة ظلم الكفار لأنفسهم، وقد حذر الله عز وجل المسلمين من الميل إلى القوم الظالمين قال سبحانه [وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( )، وإتخاذ الإنسان والجماعة وليجة من أفراد ومراتب الركون.
لذا يفيد الجمع بين هذه الآية والآية السابقة التحذير من إتخاذ الكفار وليجة، فان قلت إن الآيات السابقة جاءت بخصوص الكفار وهذه الآية تمنع من إتخاذ المسلمين خاصة من هم دونهم، والدون هنا أعم من الكفار والجواب ان الآية تحذر المسلمين من إتخاذ وليجة وخاصة من غيرهم وممن هو أدنى منهم، وأبعد الناس عن المسلمين هم الكفار وتدل الآيات التالية على إرادة الكفار من مضامين التحذير الوارد في هذه الآية.
ومن إعجاز القرآن نظم هذه الآية، وتقدم الآيات التي تذم الكفار على هذه الآية التي تتضمن تأديب وإرشاد المسلمين بخصوص الخاصة وشرائط إختيارها سواء على نحو القضية الشخصية او النوعية، وفيه توكيد للإحتراز من الكفار والإمتناع عن كشف الأسرار لهم لأنهم أعداء المسلمين.
ويساهم نظم هذه الآيات في طرد الغفلة عن المسلمين، ويدعوهم إلى عدم التهاون في لزوم إجتناب الكفار وان أظهروا الرغبة في القرب من المسلمين، وإذ تحذر هذه الآية المسلمين من إتخاذ وليجة من عموم الذين هم من دونهم فمن باب الأولوية القطعية شمول الآية للكفار والفاسقين الذين يعتدون على المسلمين، ويسعون في الإضرار والمكر بهم.
وذكرت الآيات السابقة ما يلحق الكفار من الخسارة في الدنيا والآخرة، مما يدل على تخلفهم عن النصرة وإبداء النصيحة، فجاءت هذه الآية لترك الكفار يواجهون الخسارة بمفردهم، ولا يتحمل المسلمون أعباءً إضافية منها، لان الخاصة لا تنفع في قربها، وهي تحتاج إلى العون أحياناً لذا فان التحذير الوارد للمسلمين بخصوص الكفار مركب ومتعدد.
الطرف الثاني: الصلة والجمع بين هذه الآية والآيات التالية، وهو على وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية، وفيه وجوه: جاءت هذه الآية بالتحذير من إتخاذ الكفار والفاسقين خاصة ووليجة، وبينت بعض الأمارات الدالة على عدم أهليتهم لأن يكون خاصة ووليجة، وجاءت الآية التالية في بيان أمارات وصفات أخرى تؤكد ظلم الكفار لأنفسهم، ولزوم حذر المسلمين من الكفار مطلقاً، ومن إتخاذهم خاصة.
الثاني: توكيد التحذير وبيان علامة ظاهرة، وفضح محاولة الكفار والفاسقين خداع المسلمين بإدعائهم الإيمان عند لقاء المسلمين كما في قوله تعالى في الآية التالية [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا].
الثالث: يؤكد قوله تعالى في الآية التالية[هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] حاجة المسلمين إلى التحذير من إتخاذ الكفار وليجة وخاصة.
الرابع: يفيد الجمع بين الآيتين تحذير المسلمين من حبهم للكفار والفاسقين، خصوصاً وانه لم يقابل من الطرف الآخر بمثله، بل بالعكس يقابل بالضد أي بالعداوة والحسد.
الخامس: ينفي الجمع بين الآيتين إحتمال وجود إستئناء أفراد من الكفار وإتخاذهم وليجة وخاصة لعموم ذم الكفار الوارد في الآية التالية.
السادس: يؤكد الجمع بين الآيتين الإعجاز القرآني في إعانة المسلمين للإمتثال لأحكام الآيات القرآنية، وبما يفيد نفعهم وصلاح أمورهم.
السابع: ذكرت هذه الآية ظهور البغضاء من أفواه الكفار والفاسقين والمنافقين، اما الآية التالية فانها قالت [إِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] وليس من تعارض بينهما، وفيه شاهد على حال النفاق التي يكون عليها الذين تحذر الآية الكريمة المسلمين من إتخاذهم بطانة كما في قوله تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ].
الثامن: أثر التباين في الايمان بالكتب السماوية المنزلة، وذكرت الآية التالية إيمان المسلمين بالكتاب، ولم تذكر حال غيرهم بخصوص الإيمان بالكتاب.
وفيه إعجاز يؤكد عموم قوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] الوارد في هذه الآية وانه يشمل الذين يؤمنون بشطر من الكتب السماوية دون الشطر الآخر [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ] ( ).
التاسع: أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] وهذا الخطاب، وإن كان موجهاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه عام يشمل المسلمين جميعاً، وهو أشد في موضوعه من التحذير من إتخاذهم بطانة لما فيه من توجيه اللوم والذم للكفار والفاسقين.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [إِنْ تَمْسَسْكُمْ]( )، وفيه وجوه:
الأول: جاءت آية ان تمسسكهم ببيان إضافي عن عدم أهلية الكفار والمنافقين لأن يكونوا بطانة ووليجة للمسلمين من جهتين:
الأولى: إصابة الكفار والمنافقين بالحزن عند حصول نعمة عند المسلمين، ومن شرائط الخاصة والبطانة انه ناصح أمين، وتتغشاه الغبطة إذا أصاب صاحبه الخير.
الثانية: حزن الكفار والمنافقين عندما تصيب المسلمين سيئة وأذى، مما يدل على عدم أهليتهم لإتخاذهم بطانة.
الثاني: زيادة إيمان المسلمين لما يفيده الجمع بين الآيتين من الأمور وهي:
الأول: علم الله تعالى بما في صدور الكفار والمنافقين من الغيظ والغل والحسد.
الثاني: نزول القرآن من عند الله، لما فيه من الأسرار التي لايحيط بها علماً إلا هو سبحانه.
الثالث: بيان عدم أهلية الكفار لإتخاذهم خاصة وبطانة حتى في المستقبل لمجئ هذه الآية وما فيها من بيان عدم أهليتهم لأن يكونوا خاصة للمسلمين، بصيغة الفعل المضارع [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ].
الرابع: بشارة المسلمين بان كيد الكفار والفاسقين لن يضرهم.
الثالث: دعوة المسلمين في الآية التالية للصبر، ومن وجوه الصبر الإستغناء عن إتخاذ الذين من دونهم خاصة ووليجة، وإن أظهروا الإيمان عند لقائهم المسلمين.
الرابع: تتضمن خاتمة الآية التالية [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] إنذار الكفار والفاسقين الذين يتمنون إدخال المشقة عليكم، ويريدون الأذى والعناء لكم ليبين الجمع بين الآيتين مسألة كلامية وهي أن الكفار والمنافقين يؤثمون وإن لم يتخذهم المسلمون بطانة ووليجة.
الثالث: الصلة بين هذه الآية، وآية [وَإِذْ غَدَوْتَ] وفيه وجوه:
الأول: تتضمن آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] الإخبار عن إستعداد المسلمين للقتال، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعيين مواضع الأفراد والجماعات كمقدمة لدخول المعركة، الأمر الذي يستلزم السرية والكتمان والإحتراز وعدم إطلاع العدو على خطط وتدبير المسلمين والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على إجتناب اتخاذ من يضمر العداء للمسلمين بطانة ووليجة، لإنه لا يتورع عن إفشاء أسرار المسلمين، وتعرضهم للضرر الفادح.
الثاني: لقد جاءت هذه الآية بالتحذير من الذين يريدون المشقة والعناء للمسلمين، ووقوع القتال أشد واكثر الحالات التي تتعرض فيها الجماعة والفرقة والأمة للمشقة والعنت إذا تركت التدبير، أو إنكشفت أسرارها وبانت خدعتها قبل أوانها، فيكون إجتناب إتخاذ غير المسلمين وليجة في ساعات القتال والمواجهة حاجة وضرورة.
الثالث: الذين يعضون أطراف الأصابع من الغيط والحنق على المسلمين لايريدون لهم أي للمسلمين النصر والغلبة، فيظهر غيظهم وحنقهم، عند مقدمات القتال وساحة المعركة، فيكشفون أسرار المسلمين، وينصحون بما لاينفع المسلمين، خاصة وان الأمور تتداخل ساعة المعركة، ويحتاج القائد وأعوانه إلى إتخاذ قرارات سريعة، وتقدير المبادرة ومباغتة العدو أو التمهل والتريث وإستعمال الخدعة والمكر، وإذا كانت الوليجة غير صالحة، ولا تريد النصيحة، فانها تضر المسلمين عن قصد أو من غير قصد.
الرابع: من شرائط القتال طاعة الجند، وإنقيادهم للأوامر، وجاءت آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] لتبين ما يتحلى به المسلمون من مراتب الكمال في الإنقياد لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتثال في تعيين المواضع للمواجهة مع الأعداء سواء في معركة بدر أو احد أو الخندق، ولكن الوليجة التي لا تريد الخير والنصر والغلبة للمسلمين تعمل على بث روح الشك والريب بين صفوف المسلمين.
ويفيد الجمع بين الآيتين إصلاح المسلمين لمقدمات القتال، ودخول المعارك، وتحقيق والغلبة النصر بإجتناب البطانة والخاصة الضارة وغير النافعة.
وذكرت الآيات السابقة غير المسلمين على وجوه:
الأول: مدح أمة وفريق من أهل الكتاب لقيامهم بذكر الله وتلاوتهم للتوراة والإنجيل وإيمانهم بالله واليوم الآخر، وفيه شاهد على الثناء والمدح للذين يقرون بالتوحيد والبعث والنشور، مع التخصيص في الخطاب الذي يفيد الذم على التخلف عن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوارد بقوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]( ).
إلا أن يراد من المدح الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب وهو المشهور وذكر سبب النزول بخصوصهم، وعلى هذا يشملهم الحذرمن إستبطانهم في هذه الآية ومفهومها.
وذكرت الآيات الذين كفروا وجاءت بذمهم ، والإخبار عن تخلف ما عندهم من الأموال والأولاد عن نصرتهم وإعانتهم ووقايتهم من عذاب الله تعالى، وضياع وتلف تلك الأموال ويكون ما ينفقون وبالاً عليهم وسبباً لنزول البلاء بهم.
وجاءت هذه الآية خطاباً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة بعدم إتخاذ بطانة من الكفار لأنهم في ضلالة وخسران، ويؤكد الجمع بين هذه الآية والآيات السابقة على أمور:
الأول: التحذير من الكفار، إذ تبعث خسارتهم الحسد في نفوسهم للمسلمين، فيظهر على مشورتهم وقولهم والطمع بما في أيدي المسلمين وتمني زوال النعمة عنهم، وقد أراد الله تعالى للمسلمين دوام النعم، فجاءت هذه الآية للوقاية من أسباب الحسد وما يترشح عنه من الظلم والكيد.
الثاني: البيان والحجة في عدم أهلية غير المسلمين لمناصب البطانة والخاصة للمسلمين، ولا ينحصر هذا البيان بالجمع بين هذه الآية والآيات السابقة بل يشمل الجمع بين هذه الآية والآيات التالية أيضاً وجاء في الآية التالية [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ) في تحدِ للكفار وإخبار عن عجزهم عن الإضرار بالمسلمين، ومن مقدمات وأسباب هذا العجز ورود هذه الآية بالتحذير والنهي عن إتخاذهم بطانة وخاصة.
إعجاز الآية:
هذه الآية مدرسة عقائدية وكلامية وفيها مسائل:
الأولى: تأسيس قواعد وسنن في إدارة شؤون الحكم.
الثانية: بيان موضوعية الإستشارة، ووجود الخاصة والوليجة.
الثالثة: لزوم إجتماع شرائط معينة في الخاصة والبطانة.
الرابعة: دعوة المسلمين إلى إختيار الخاصة، بما يرضي الله عزوجل ويؤدي إلى نفعهم وفائدتهم.
الخامسة: الوقاية من الضرر الذي يأتي من الخاصة والبطانة التي يتم إختيارها من غير المسلمين.
السادسة: تدل الآية على تغشي رحمة الله تعالى للمسلمين، بحيث تنزل الآيات من عند الله بخصوص نوع وماهية وصبغة الخاصة والوليجة التي يتخذونها.
السابعة: ان تحذير المسلمين من إرتقاء من هم أدنى إلى مرتبة الوليجة والخاصة يبين عظيم منزلة المسلمين عند الله عز وجل، والوظائف العقائدية التي يقومون بها، وخلافتهم للأنبياء وهو من النعم السماوية لإعدادهم لمقامات التفضيل، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثامنة: بيان ضرر البطانة غير الصالحة، بما يفيد تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا.
التاسعة: تنبيه المسلمين إلى معاني البغضاء والكراهية التي تظهر في فحوى كلام وأقوال الكفار والفاسقين، بما يؤكد عدم أهليتهم لإتخاذهم بطانة وخاصة للمسلمين.
العاشرة: بيان النسبة والصلة بين ما يقوله الكفار الذين يؤكد بغضهم وعداوتهم للمسلمين، وبين ماتخفيه صدورهم بإعتبار أن ما يخفونه من البغضاء والعداوة أشد.
الحادي عشر: فضل الله تعالى على المسلمين ببيان الآيات والبراهين التي تدل على تفضيلهم على الأمم الآخرى، والعناية الإلهية التي تتغشاهم مع حث المسلمين على التدبر بالآيات والبراهين.
ومن إعجاز الآية أنها لم تشر إلى موضوع البطانة على نحو الإجمال، والكناية، بل جاءت صريحة وحجة في تعيين الخاصة والوليجة، والتحذير ممن هم دون المسلمين الذين يريدون الضرر بهم.
وتتضمن الآية تحدي غير المسلمين ممن تحذر من إتخاذهم وليجة بإخبارها بان الذي تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة للمسلمين أكثر وأكبر مما يظهر على ألسنتهم، مما يحول دون إعتذارهم عن فلتات اللسان بانه مزاح أو ان غايته الإعانة والنصح بصيغة اللوم أو التشديد، فتأتي هذه الآية إبطالاً متقدماً لمثل هذا الإعتذار، وفضحاً لما تخفيه صدورهم والذي لا يعلمه إلا الله تعالى، مما يدل على أمور:
الأول: نزول القرآن من عند الله.
الثاني: صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: فضل الله عز وجل على المسلمين بإخبارهم عما تخفيه صدور أعدائهم.
وتضمنت الآية أموراً:
الأول: النهي والزجر عن فعل مخصوص، وهو إتخاذ بطانة من غير المسلمين، وهذا النهي لم ينحصر بالترك على نحو القضية الشخصية، كما في إمتناع المكلف عن شرب الخمر لأنه مسكر مثلاً، بل تعلق النهي في الآية بأمر يهم الفرد والجماعة والأمة ومبادئ الإسلام.
لقد أراد الله عز وجل بالنهي الوارد في الآية حفظ مبادئ الإسلام وأجيال المسلمين وصيانة أموالهم وما يملكون، وتعاهد الأخوة الإسلامية، وجذب الناس للإيمان، فيحرص المسلمون على إجتناب شخص ما بطانة فيكون هذا الإجتناب سبباً لدخوله الإسلام وإيمانه من وجوه:
الأول: حبه لبلوغ مرتبة البطانة والوليجة للمسلمين، لأن الإسلام شرط لبلوغها.
الثاني: مشاركة المسلمين فيما عندهم من النعم والخيرات.
الثالث: تكامل أحكام الشريعة الإسلامية، وتضمنها لقوانين سد الذرائع التي قد ينفذ منها العدو.
الرابع: بقاء الإسلام نقياً والمسلمين في أمن وسلام لعدم إتخاذه بطانة، فلو تم إتخاذه بطانة لأدى هذا الإتخاذ إلى فتنة وفساد، فتحصل عنده النفرة ولا يميل لدخول الإسلام، مع انه سبب أو جزء علة في تلك الفتنة والفساد.
الثاني: بيان موضوع النهي وخلوه من الشك والوهم.
الثالث: عجز الكفار عن الجدل والمغالطة في باب البطانة وأحكام الآية فيها، لأنها ظاهرة وواضحة وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة الآية [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ].
الرابع: حصر النهي بموضوع البطانة، بما يفيد إعانة المسلمين على الإمتثال، وعدم حصول الخلط والإرباك فيه، فجاءت الآية كاملة في موضوع “البطانة” وتجعل الناس فيه على قسمين متضادين، ولم تذكر إلا قسماً واحداً وهم غير المسلمين الذي لا يصلحون لمنازل البطانة بسبب سعيهم الخبيث في إشاعة الفساد،لتدل الآية في مفهومها على ان المسلمين مؤهلون للبطانة والخاصة.
الخامس: التعليل، فلم يـأتِ النهي مجرداً خالياً من العلة، ولم يترك للسنة النبوية وحدها بيان علة النهي ولا للعلماء، والشواهد الواقعية والأضرار التي تنجم عن تلك البطانة، بل جاء التعليل في القرآن وفي ذات الآية، ولم يأتِ في آية أخرى مما يقتضي الجمع بينها وبين الآية محل البحث، بل جاءت نفس الآية بالنهي مع بيان علته، وهو لطف إضافي بالمسلمين، ودعوة متجددة لهم للعمل بأحكام الآية، وحرمة التهاون أو التفريط بها.
السادس: تضمن الآية لمسائل من علم الغيب، وكشف الحقائق والآثار التي تترتب على ترك المسلمين يختارون بطانتهم من غير تعليم من الله تعالى، وفيه توكيد لحقيقة وهي ان الله تعالى لم يخلق الناس ويتركهم وشأنهم بل انه تفضل بالعناية بهم، وتعاهدهم بالنبوة والتنزيل.
السابع: تتضمن الآية التحدي بلحاظ الوقائع والأحداث، فلا يستطيع الكفار إثبات خلاف مضامين الآية الكريمة، بل ان الواقع والوجدان يأتيان بما يوافق مضامين الآية الكريمة، لتكون الآية شاهداً على الموافقة بين عالم الغيب والشهادة ومصداقاً متجدداً بان الله تعالى وحده هو عالم الغيب والشهادة.
ويمكن ان نسمي هذه الآية (آية البطانة) ولم يرد لفظ بطانة في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
بدأت الآية بخطاب موجه إلى المسلمين جميعاً ذكوراً وأناثاً لتكون حرزاً سماوياً لهم إلى يوم القيامة، وواقية من الأضرار والخسائر التي تأتي للفرد والجماعة والأمة من سوء المشورة والبطانة السيئة، وصحيح ان لفظ وموضوع البطانة لم يرد إلا في هذه الآية الكريمة إلا أنها لا تعني حرمة إتخاذ البطانة لعدم وجود آية أخرى تدل على جوازه أو وجوبه، أو ذكر صفات البطانة الصالحة، ولا تصل النوبة إلى قاعدة النهي عن الشئ يدل على الأمر بضده لعدم ثبوت عموماتها.
بل ان الآية جاءت بخصوص البطانة التي من غير المسلمين والتي تعمل على الإضرار بهم، وقد جاءت الآيات القرآنية بالحث على المشورة والتعاون بين المسلمين في البر والصلاح، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] والمراد مشاورة المسلمين.
وفيه بيان لمفهوم الآية محل البحث باجتناب مشاورة غير المسلمين،وحاجة الإنسان والجماعة إلى المشاورة، فاذا كان سيد المرسلين الذي [َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى] ( )، مأموراً من عند الله بمشاورة أصحابه، فعلى غيره من قادة المسلمين وولاة أمورهم ان يجعلوا موضوعية للمشورة ويفيد الجمع بين الآيتين تقييد المشورة بأهل الإيمان والنصحية والعقل الذين تكون مشورتهم نفعاً ومصلحة وخيراً محضاً.
لقد أراد الله عز وجل لخير أمة أخرجت للناس ان لاتجعل خاصتها وبطانتها من غيرها، فقد أخرجها الله لهذا الغير كتابياً كان او كافراً وثنياً، فكيف تتخذه بطانة وخاصة يطلع على أسرارها، وهي تسعى لدعوته للإسلام، وتخشى وثوبه عليها والنيل من مبادئ الشريعة السمحاء.
ومن إعجاز الآية في المقام أنها أعم من موضوعها ولا ينحصر إنتفاع المسلمين بمسألة البطانة بل يشمل بيان صفات أهل الملل الأخرى، والجماعات والفرق التي تسعى لإفساد أمور المسلمين، وتريد لهم المشقة الشديدة، ليكون المسلمون أمة تتوقى من الذين يضمرون لها الكراهية والبغضاء ويحسدونها على ما رزقها الله عز وجل من المنزلة الرفيعة والشأن بين الأمم وأهل الملل.
والآية واقية للمسلمين أفراداً وجماعات من الذين يريدون إفساد أمورهم والإضرار بهم، ودعوة لإتخاذ الحيطة والحذر منهم، وهي صاحب كريم تلازم المسلمين في شؤونهم العقائدية والسياسية والإجتماعية، وتكون حاضرة عند العزم على الفعل وإتخاذ القرارات الخاصة والعامة، والتأكد من خلوها من أصابع الكيد والمكر الذي يأتيهم من غيرهم.
وقد يبدو غير المسلم بهيئة الناصح والأمين مما يجعل المسلمين يميلون اليه فجاءت هذه الآية للتحذير منه، والدعوة إلى إستحضار مايجري على لسانه من صيغ العداوة والبغضاء.
وتبين الآية مراتب الناس في صلاتهم مع المسلمين، ووجوهاً من العداوة الخفية التي لا تظهر معالمها بالعدوان والقتال بل بالنفاذ إلى داخل المجتمع الإسلامي، والإشتراك في الرأي وتوجيه القرار، بغية حصول الإرباك في صفوفهم، وبعث الوهن والضعف بينهم، فجاءت الآية للتحذير من أهل العداوة والبغضاء، ومن المشورة الفاسدة مطلقاً، وتلك آية اعجازية في القرآن بان يأتي التحذير من الخاص فيشمل العام لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ويأتي بالتحذير من العام فيشمل الخاص لجزئيته من العام.
وتضمنت الآية نوع التعليل، وبيان لزوم إجتناب المسلمين إتخاذ بطانة من غيرهم وجاء التعليل بصيغة الوصف لإعانة أجيال المسلمين المتعاقبة على التقيد بأحكام الآية، وعدم التفريط بها.
كأن الآية ناظرة إلى زمان العولمة والتداخل بين الأمم، والتقارب بين الدول والحضارات، فجاءت بالبيان والتعليل لإستدامة الحيطة والحذر عند المسلمين في كل الأحوال.
الآية عون للمسلمين في حال ظهور نتائج تؤكد صدق مضامينها، سواء في حال الوقاية أو العلاج، فقد يتخذ أفراد أو جماعة من المسلمين بطانة من دونهم، فتظهر لهم الآثار السلبية لهذا الإختيار، وتكون وظيفة هذه الآية على وجوه:
الأول: بعث الحذر في نفوس المسلمين الذين إتخذوا من دونهم بطانة.
الثاني: إلتفات المسلمين إلى إحتمال تلقي الضرر والمشقة بسبب تلك البطانة.
الثالث: حيطة المسلمين من تسليم شؤونهم وكشف كل أسرارهم لتلك البطانة لبقاء مضامين هذه الآية الكريمة حاضرة في أذهانهم.
الرابع: إمكان الإنابة والرجوع والتدارك عند رؤية المصاديق العملية لهذه الآية حال إتخاذ بطانة السوء.
الخامس: تجلي الإعجاز في هذه الآية الكريمة لدى عموم المسلمين عند قيام جماعة منهم بإتخاذ الكفار وليجة، وخاصة وحصول الأضرار والآثار السلبية لمثل هذه الخاصة.
السادس: تجدد عمل المسلمين بأحكام هذه الآية لأنها تتضمن البيان والتعليل وفيها لغة التحذير والإنذار والتخويف.
السابع: بعث الخوف والفزع في نفس الكتابي والكافر الذي يتخذه المسلمون وليجة من إظهار ما في صدره من المكر والكره للمسلمين في قبح المشورة، أو كشف الأسرار، وبذا تكون هذه الآية عوناً وسلاحاً غيبياً ملازماً للمسلمين من وجوه:
الأول: إحتراز المسلمين من إتخاذ بطانة من دونهم.
الثاني: معرفة المسلمين لموضوعية إختيار البطانة والصفات التي يجب ان تتحلى بها بان تتمثل بالإيمان والصلاح والتقوى.
الثالث: يأس الكفار من الإضرار بالمسلمين بواسطة المشورة الفاسدة.
الرابع: حصانة المسلمين من جهة الخاصة والبطانة.
مفهوم الآية
في الآية مسائل:
الأولى: إختصاص الآية بالمسلمين لتوجه الخطاب لهم حصراً دون غيرهم من أهل الملل والنحل،وفيه وجوه:
الأول: هذا الإختصاص عنوان تفضيل وتشريف للمسلمين.
الثاني: فيه دعوة للناس لدخول الإسلام.
الثالث: زجر الكفار والفاسقين عن الطمع بان يكونوا وليجة للمسلمين.
الثانية: بيان موضوع ومضمون الآية، وهو عدم إتخاذ بطانة من غير المسلمين، ويدل في مفهومه على العناية الإلهية بالمسلمين في موضوع تعيين البطانة والوليجة.
الثالثة: بيان وظيفة الخاصة وأصحاب السر، وهي النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة: يدل النهي عن إتخاذ الخاصة التي تسبب في الضرر وحدوث الفساد، على أحد وجهين:
الأول: عدم إختيار المسلمين خاصة وبطانة سواء على نحو القضية الشخصية او النوعية، وفي الأمور الخاصة والعامة.
الثاني: إختيار بطانة صالحة.
والصحيح هو الثاني، فان الآية لا تنهى عن إتخاذ الخاصة والبطانة، بل تدعوا لتكون البطانة من أهل المعرفة والصلاح.
الخامسة: تحذير المسلمين من المقدمات والأسباب التي تؤدي إلى الإضرار بهم، وإفساد أمورهم، وما يؤدي إلى المشقة الزائدة، الأمر الذي يدل في مفهومه على تفضل الله تعالى بالتخفيف عن المسلمين.
السادسة: مفهوم قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] أعم من مسألة البطانة والخاصة، لما فيه من إخبار سماوي عن سوء سريرة القوم الكافرين وما يضمرونه من العداء للمسلمين، وبيان لحقيقة وهي سعيهم للإضرار بالمسلمين، فاتخاذهم بطانة مناسبة ووسيلة لإظهار عداوتهم وتحقيق مآربهم الخبيثة لإرباك المسلمين، ومنعهم من بلوغ غاياتهم الحميدة، ومراتب الرفعة والشأن، والسلامة من الأضرار والآفات، فجاءت الآية لتحذير المسلمين تحذيراً مطلقاً من الكفار والفاسقين، وبما هو أهم من موضوع البطانة والخاصة.
السابعة: من مصاديق العموم في المقام قوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] ومجيؤه بصيغة الفعل الماضي أي أنهم تمنوا إدخال المشقة عليكم، فمن يكون هكذا كيف يتخذ وليجة وبطانة، ومن مفاهيم الآية أمور:
الأول: فضح الكفار والفاسقين.
الثاني: الإخبار عن إحاطة الله عزوجل علماً بسرائرهم، وما تخفيه صدورهم من الرغائب والنوايا السيئة أزاء المسلمين.
الثالث: دعوة الكفار والفاسقين إلى الإسلام، لما في الإخبار السماوي عما يضمرونه من العداء للمسلمين من حجة وبرهان على نزول القرآن من عندالله عز وجل.
الثامنة: الآية دعوة لتهذيب الأخلاق، وإصلاح النفوس، وتوكيد بان الله عزوجل يعلم مايدور في بال الإنسان وما يطرأ على قلبه من الأماني الحسنة والقبيحة، ومتى ما علم الإنسان أن الله عز وجل يعلم بما يخفيه وما يدور في خلده فانه يستحي من الله عز وجل.
التاسعة: إخبار المسلمين بوجود أعداء حاسدين لهم، يريدون لهم الضلالة والمشقة والعناء، وفيه دعوة للمسلمين للحيطة والتوقي وإجتناب أسباب ومقدمات الضلالة والمشقة.
العاشرة: مضامين هذه الآية الكريمة حجة ودلالة واضحة متعددة المنافع، تفضل الله تعالى بها على المسلمين لقوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] مما يدل على لزوم شكره تعالى على النعمة العظيمة بنزول هذه الآية، والتحذير من البطانة السيئة، ويتجلى الشكر في المقام على وجوه منها ما هو قولي ومنها ما هو فعلي، ولاينحصر موضوعه بهذا التحذير، بل يشمل المنافع العظيمة التي تترتب على التوفيق للعمل به.
الحادي عشرة: تبين الآية إصلاح الله عزوجل المسلمين لمنازل الرئاسة وشؤون الحكم، وإعدادهم لتولي المصالح العامة مما يستلزم الحاجة إلى البطانة واهل الرأي وأصحاب المشورة، فجاءت الآية للعصمة والسلامة في هذا الباب، ومنع أهل الضلالة من النفاذ إلى المسلمين، والإضرار بهم في موضوع المشورة والرأي، وما يبعث على التردد والتهاون والتفريط في الأعمال.
الثانية عشر: لاينحصر موضوع وأمر البطانة في المشورة والرأي، فقد يكون لها مدخلية وشأن حتى في الأمور الشخصية وبما يؤثر في الأحوال العامة، كما لو كان تأثيرها بالأمور الخاصة للملك أو الوزير أو القائد أو العالم لذا جاءت الآية بالتحذير ذي الدلالة الواضحة وبصيغة الجمع لافادة العموم وتحذير المسلمين جميعاً من البطانة السيئة.
ولو أتخذ أحدهم مثل هذه البطانة فهل يجب على المسلمين الآخرين تحذيره وتنبيههفيه وجوه:
الأول: التنبيه فيما إذا كان إتخاذ البطانة السيئة في الأمور الخاصة.
الثاني: التحذير فيما إذا كانت البطانة السيئة في الأمور العامة ومصالح العباد.
الثالث: التحذير من البطانة عند إجتماع الأمرين معاً، أي في الأمور الخاصة والعامة دون أحدهما، والجواب هو الثالث، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أفراد الخطاب الوارد في هذه الآية الذي يكون إنحلالياً بان لايتخذ أي مسلم بطانة وأولياء من غير المسلمين ممن يريد بهم سوء، وان يقوم المسلمون الآخرون بأسباب الإحتراز والحصانة خصوصاً وأن إتخاذ بعضهم البطانة السيئة قد يضر بالجماعة والأمة.
وتنهى الآية في منطوقها المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم، وما تدل عليه في مفهومها، فيه وجوه:
الأول: التوجه إلى المسلمين لإتخاذ بطانة منهم.
الثاني: الإستغناء عن البطانة والخاصة، وعدم الحاجة اليها.
الثالث: إتخاذ بطانة مشتركة من المسلم وغير المسلم.
والصحيح هو الأول، فان الآية لم تمنع عن البطانة ولكنها تنهى عن فرد منها يتعلق بجنس مكروه من البطانة لما فيه من الأضرار، فالآية لا تنهى عن إتخاذ المسلم للبطانة والخاصة من المسلمين، ويتباين حكم البطانة والحاجة اليها على وجوه:
الأول: وجوب إتخاذ البطانة كما في الموضوع الذي يستلزم إستشارة أو إدارة متعددة ومتشعبة.
الثاني: إستحباب إتخاذ البطانة للإنتفاع من الآخرين في الصالحات، وأسباب النصح.
الثالث: إباحة البطانة في الصداقة والصلات الإجتماعية، والأمور المباحة.
الرابع: كراهة البطانة في الأسرار الشخصية التي يستحب كتمانها وعدم إطلاع أحد عليها إلا الله تعالى أو عدم زيادة عدد الذين يطلعون عليها ويبدون فيها الرأي، لأولوية كتمانها، أو لوضوح حكمها الشرعي.
ومن منافع إختيار البطانة من بين المسلمين أمور:
الأول: نشر مفاهيم الأخوة بين المسلمين، وتعدد أسباب المودة بينهم.
الثاني: تنمية الملكات العلمية، والمدارك العقلية عند المسلمين بلغة التشاور والحوار والمعونة بالحكمة والنصح والقول السديد.
الثالث: تجلي معاني الوحدة والقوة والعز عند المسلمين.
الرابع: سلامة المسلمين من الكيد والمكر الذي يأتي من الداخل إذ تحرص البطانة الصالحة على ذات المصالح وتسعى إلى نفس الغايات التي يجتهد من إستبطنها لبلوغها والوصول اليها.
الخامس: تثبيت سنن الشريعة، بالرجوع اليها من الطرفين، وتكون هي الفيصل في فك الخصومة واللبس.
السادس: منع الفتنة والخلاف بين المسلمين، لأن المسلم أما أن يكون من أصحاب الشأن أو بطانة وخاصة، أو قريباً منها، والبطانة من أسباب القضاء على البطالة والعزلة والغبن.
السابع: انها مناسبة لوصول حاجات الناس والمسائل الإبتلائية إلى صاحب السلطان والشأن، إذ تستقرأ البطانة أحوال الناس بصيغة لطيفة تتضمن الرؤية السليمة، ومقدمات إيجاد الحلول المناسبة.
الثامن: تساهم البطانة الصالحة في التدارك والإصلاح والوقاية والعلاج في المواضيع الإجتماعية والأخلاقية والسياسية.
التاسع: تساعد البطانة المؤمنة على منع مقدمات الضلالة والإنحراف والتقصير والتخلف عن الوظائف العقائدية.
العاشر: تظهر إستعانة المسلم بإخوانه المؤمنين في المشورة وإتخاذهم خاصة قوة المسلمين أمام الأمم الأخرى، وأهل الملل المتعددة، ويؤكد للناس جميعاً أفضلية المسلمين وحاجة الناس لهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
العاشر: يدل منطوق الآية على حث المسلمين وأولي الشأن منهم خاصة على إتخاذ البطانة من المسلمين، وفيه إهتمام وعناية خاصة بعموم المسلمين ذاتاً وعرضاً، لما فيه من الشأن والمنزلة لأولي المعرفة منهم، وإتخاذهم وسائط مع غيرهم من المسلمين من مختلف الشرائح والفئات بينما تكون البطانة من غير المسلمين كالحاجز والبرزخ بين المسلمين.
ومع قلة كلمات هذه الآية فقد وردت فيها كلمات لم ترد في غيرها وهي:
الأولى: بطانة.
الثانية: دونكم.
الثالثة: يألونكم.
الرابعة: ودوا ما عنتم.
الخامسة: بدت البغضاء.
السادسة: تخفي صدورهم.
وتحتمل الآية في مفهومها وجوهاً:
الأول: عدم إتخاذ المسلمين لبطانة وخاصة.
الثاني: التحذير من البطانة مطلقاً.
الثالث: إنحصار النهي عن بطانة مخصوصة بقيدين:
الأول: إنهم دون المسلمين رتبة ودرجة.
الثاني: يريدون السوء والشر بالمسلمين، وماعداهم من الناس فيجوز إتخاذهم بطانة، والصحيح هو الثالث وهل يكفي أحد هذين القيدين في النهي والزجر، فيه وجوه:
الأول: لابد من إجتماع القيدين كي يتحقق موضوع النهي لقاعدة إنعدام المشروط بإنعدام شرطه، ويتجلى الشرط في المقام بالوصف.
الثاني: يكفي شرط الأقل رتبة، ليكون إنتماء الشخص إلى ملة أخرى برزخاً دون إتخاذه بطانة من قبل المسلمين.
الثالث: موضوعية إرادة الغير المشقة والعناء للمسلمين في لزوم إجتناب إتخاذه خاصة وموضعاً للأسرار، فالذين لايريدون المشقة والأذى للمسلمين، ولاتظهر البغضاء على السنتهم، ولا يكون مايخفونه في صدورهم أكبر وأشد يجوز للمسلمين إتخاذهم بطانة وان كانوا من أهل ملة أخرى.
والصحيح هو الثاني، فتفيد الآية الإطلاق في تعيين موضوع النهي عن الذي ينتمي إلى ملة أخرى، والمنع من إتخاذ المسلمين له بطانة ثم بينت الآية صفات الذين هم دون المسلمين التي جاءت في المقام كبيان ونوع علة لهذا النهي.
ولماذا لم تكتف الآية بقوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] خصوصاً وانه يتضمن الإطلاق والتعيين الجواب ان الآية من اللطف الالهي بالمسلمين، فمن كان من غير المسلمين لا يصح ان يتخذوه خاصة ويستنبطن أمورهم، ويطلع على عوراتهم وأسرارهم،، ويفيد ما فيها من البيان والتعليل وجوهاً:
الأول: تثبيت مضامين وأحكام الآية الكريمة.
الثاني: منع اللبس في تفسير المراد من لفظ (دونكم).
الثالث: بعث المسلمين إلى التقيد باحكام وسنن هذه الآية، وعدم التفريط بما فيها من النواهي.
الرابع: من القوانين الكلية في الحياة الدنيا بقاء أحكام الآية القرآنية إلى يوم القيامة.
الآية لطف
بدأت الآية بصيغة الخطاب التشريفي، وهو نوع لطف بالمسلمين وشاهد على تفضيلهم على الأمم الأخرى، ودعوة للناس جميعاً للإيمان، والإشتراك في تلقي هذا الخطاب من عند الله، وجاءت الآية بصيغة النهي [لَا تَتَّخِذُوا] وفيه مسائل:
الأولى: يتضمن هذا النهي في دلالته ومفهومه على الأمر الكريم بإتخاذ البطانة الصالحة.
الثاني: عدم التفريط في موضوع البطانة، وإختيار أي إنسان لها أو ترك الأمر للناس بأن يصلوا إلى مراتب الخاصة والبطانة للمسلمين على نحو خاص أو عام وفي القضايا الشخصية والنوعية بل تتضمن الآية الأمر للمسلمين بأن يتولوا بأنفسهم إختيار البطانة ولا يتركوا لغيرهم إختيارها، وهو آية وشاهد على تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم اللطف الإلهي، فإذا أراد شخص أو جهة ما دسّ أناس إلى داخل مجتمعات المسلمين على هيئة الخاصة وأهل المشورة فان هذه الآية تحذير للمسلمين، ومانع من نفاذ العدو في هذا الباب.
فيفيد قوله تعالى [لَا تَتَّخِذُوا] في مفهومه لزوم عدم ترك موضوع خاصة وبطانة المسلمين لغيرهم، وتتضمن الآية العناية الإلهية بالمسلمين بمنع أسباب الخبال والمفسدة عنهم، ووقايتهم مما يفسد أمورهم.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الإرتقاء في الميادين كافة، وجاءت هذه الآية للإحتراز من الأسباب التي تسبب لهم العناء والمشقة في جهادهم في دروب الإرتقاء، وسعيهم لنيل المراتب العالية في الآخرة، لأن البطانة الفاسدة تنظر إلى الدنيا، وتجعلها غاية بذاتها فجاءت هذه الآية للتنبيه إلى وظائف المسلمين الأساسية في لزوم تعاهد أحكام الشريعة بما يجعلهم يفوزون بالجنة العالية، والخلود في النعيم الدائم، الذي يأتي بالتقيد التام بأحكام الحلال والحرام، والصدور عن القرآن، وعدم وجود واسطة غير إسلامية لها سلطان وتأثير في إتخاذ المسلمين للفعل المناسب.
ومن اللطف الإلهي في هذه الآية مجيء التحذير بصيغة المدح والثناء على المسلمين ووصف الذي يحب إجتناب مشورتهم بانه أدنى رتبة منهم بقوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] لتؤسس الآية قاعدة كلية خاصة بالمسلمين بعدم صلاح غيرهم لمرتبة الخاصة والبطانة عندهم.
والمشورة باب مفتوح وما يأتي منه على وجوه:
الأول: الخير المحض، بان تكون الخاصة من أهل العلم والصلاح وأرباب الحكمة.
الثاني: الشر والأذى حينما تكون الخاصة والبطانة من أهل السوء والشر، ويضمرون الكراهية للذي يشاورهم ويقربهم، ويودون وقوعه في المشقة والعنت.
الثالث: الأمر الجامع للخير والشر بان تكون البطانة خليطاً من أهل الخير والشر، أو انها ذاتها تأتي بالفعل الحسن والسيء، وتشير مرة بالصلاح وأخرى بعكسه.
وجاءت الآية بالتحذير من الوجهين الثاني والثالث أعلاه، وتأخذ بأيدي المسلمين نحو سبل السلامة بخصوص المشورة، وفيه شاهد على بلوغ المسلمين مرتبة لم تبلغها أمة من أتباع الأنبياء السابقين، بتفضل الله تعالى بتعيين خاصتهم وبطانتهم على نحو البيان الموضوعي، والوصف الإجمالي والتخفيف عنهن، وغلق باب من الأبواب التي تأتي منها المشقة والعناء، وهو باب المشورة.
وإذا تتبعت آيات القرآن تجد شواهد كثيرة على هذا التخفيف بما يجعل المسلمين منقطعين إلى العبادة والذكر، وفي واقية وحرز من الأضرار التي تأتيهم من أعدائهم.
ومن الآيات موضوع هذه الآية وما فيها من التحذير الذي لا ينحصر بأوقات الحرب وسوح المعارك بل يشمل حال المسلم والرخاء والأمور الإجتماعية والأحوال الشخصية وإنشاء المصانع والمشاريع، والتخطيط والتعليم وسن القوانين وترشحها عن القرآن والسنة.
وهل يقتصر اللطف الوارد في الآية على المسلمين أم يشمل غيرهم من الناس، الجواب هو الثاني، وفيه شاهد على ان آيات القرآن رحمة بالناس جميعاً، فجاءت هذه الآية تحذيراً للمسلمين لتتضمن اللطف بغيرهم بصيغة الإنذار والتحذير من وجوه:
الأول: إجتناب السعي لنيل مرتبة المشورة عند المسلمين.
الثاني: يدرك من يتخذه المسلمون خاصة ان عليه النصيحة، وعدم الإضرار وانه لم يستمر في مقام الخاصة، لأن هذه الآية دعوة متجددة للمسلمين للإستغناء عنه، وحث على الإلتفات إلى المقاصد الخبيثة التي تكمن في مشورته.
الثالث: دعوة الناس للإسلام لنيل مرتبة الخاصة والوليجة عند المسلمين أشخاصاً وجماعات وأولي أمر.
الرابع: إنقاذ الناس من ظلم إضافي يأتي من إتخاذهم خاصة للمسلمين وعدم قيامهم بوظائف البطانة وفق القواعد إذ ان التسبيب بالعناء والمشقة الزائدة للمسلمين باب للإثم والضرر لمن يقوم به، فجاءت الآية للتخفيف عن الناس وان كان الخطاب فيها موجهاً للمسلمين بالذات لما فيه من منع لوقوع مثل هذا العناء وقطع لأسبابه.
ومن إعجاز القرآن تضمن الآية للطف المركب بالمسلمين لتتفرع أغصان منه على الآخرين بواسطتهم فليس من حدود للطف الإلهي الخاص بالمسلمين والوارد في هذه الآية الكريمة، وهو على وجوه:
الأول: مع ان موضوع الآية هو النهي والزجر عن فعل الا ان النهي جاء مسبقاً بخطاب الإكرام والتفضيل والفضل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ] ليكون النهي عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين رشحة من رشحات الإيمان، فمع التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي تأديب المسلمين بخصوص البطانة، وصفة البطانة التي يجب أن يتخذها المسلمون.
الثاني: يتضمن إفتتاح الآية بخطاب الإكرام ونعت الإيمان إعانة المسلمين على الإمتثال لما فيها من النهي والزجر عن بطانة السوء.
الثالث: بيان قانون وقاعدة كلية وهي ان الذي يختار الإيمان ينزل عليه اللطف الإلهي بتعيين نوع الخاصة والبطانة التي يتخذها ليكون هذا التعيين مدداً وعوناً لرسوخ الإيمان في قلبه، وبقائه في منازل الإيمان.
الرابع: تأتي مع الإيمان السلامة من اليأس والقنوط الذي يتفرع عن العناء والمشقة التي تسببها الإستعانة بغير المسلمين خاصة ووليجة، فهذه الآية مدخل للوقاية من اليأس والضجر.
الخامس: تؤكد الآية حقيقة في الإرادة التكوينية وهي ان الله عز وجل أنعم على المسلمين، وأرشدهم إلى أسباب الوقاية من الخسارة وسوء التدبير، لأن المشورة الفاسدة تؤدي إلى الضرر والإبتعاد عن الصواب في الإختيار، وما يسببه من الخلل والضرر.
السادس: تتضمن الآية فضح الكفار والفاسقين، وتبين ما يضمرونه للمسلمين من العداوة والرغبة بنزول الضرر والبلاء بالمسلمين، ليكون هذا البيان وسيلة للمعرفة بأحوال الناس وكيفية التعامل معهم، فصحيح انه جاء تعليلاً لتخلف الكفار والفاسقين عن مراتب البطانة للمسلمين الا انه مدرسة عقائدية تؤكد ما يلاقيه المسلمون من الأذى والعناء من غيرهم.
ومن اللطف الإلهي في هذه الآية إخبارها عن الإعجاز الذي تتضمنه ببيانها وكشفها للحقائق ووصفها لما فيه من الإخبار بانه آيات قد بينها الله في هذه الآية الكريمة.
إفاضات الآية
يبعث أول الآية الغبطة في نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، ذكوراً وإناثاً لما في الخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من معاني ودلالات قدسية منها:
الأول: دلالته على تفضل الله عز وجل بالرضا على المسلمين لمبادرتهم إلى الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء به من المعجزات من عند الله عز وجل.
الثاني: جعل المسلمين قادرين على مواجهة أسباب التعدي والأذى من الكفار لإختيار المسلمين الإسلام، لأن هذا الخطاب مدد وعون للمسلمين.
الثالث: التخفيف عن المسلمين في أداء العبادات والتكاليف.
الرابع: البشارة والأمل بحسن الجزاء يوم القيامة لما في هذا الخطاب من المدح والثناء على المسلمين.
الخامس: دعوة المنافقين إلى نبذ النفاق، وإلى إظهار حسن الإيمان، لأن الخطاب في الآية عام وشامل للمسلمين، ولا تعارض بين توجه الخطاب العام بالإيمان للمنافق أيضاً وبين دعوة المسلمين للحذر والحيطة منه في باب البطانة، لأن هذه الآية تدعوه إلى إخلاص الإيمان وترك النفاق،ويوجه التحذير بخصوصه من جهتين :
الأولى : إجتناب المسلمين إتخاذه بطانة.
الثانية : لزوم إمتثاله لأحكام هذه الآية وما فيها من النهي من إتخاذ الكفار بطانة.
السادس: إعانة المسلمين على التقيد بأحكام هذه الآية، والإمتثال الأحسن لما فيها من النهي.
وتبين الآية الإفاضات الكثيرة التي أنعم الله عز وجل على المسلمين بها في القرآن، ومنها هذه الآية وما فيها من الأحكام ، فقد يميل المسلم إلى أحد الكفار لسبب أو صلة أو واقعة فجاءت هذه الآية لنجاة المسلمين بتأديبه وإرشاده إلى التمييز بين الميل والفعل، وتعلق الأفعال بالمصالح والمفاسد، وليس الهوى والميل الشخصي.
وتفضل الله عز وجل بإخبار المسلم بان أثر فعله يعود على الإسلام والمسلمين جميعاً في الحياة الدنيا، وعليه وعلى غيره أيضاً في الدنيا والآخرة، فإن إمتثل للنهي فانه يكون أسوة حسنة لغيره من المسلمين، ليصبح هذا الإمتثال تركة لمن بعده، ويكون فيه جهاد له ومقاومة للنفس الشهوية، وغلبة على الميل والهوى.
ومن فيوضات الآية مجيؤها بصيغة الجمع في الخطاب وفي موضوع النهي، وفيه دلالة على ان المسلمين أمة واحدة، وإن الفعل الشخصي من أحد أفرادها يكون أثره عاماً، وكأن إتخاذ أحدهم بطانة وخاصة لنفسه إتخاذ لها من قبل المسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة لتتجلى في هذا المعنى أهمية الفعل الشخصي في تأريخ الأمة.
وهذه الآية رحمة وصيانة وحرز للمسلمين ومبادئ الإسلام، وآية إعجازية في بعث الفزع والخوف في نفوس الذين كفروا، وهي سر من أسرار إنتشار الإسلام في الأمصار، وظهوره قوياً منيعاً في كل الأزمنة والأحوال المتباينة.
وتبعث الآية العز في نفوس المسلمين فلم تقل الآية “لا تتخذوا بطانة من غيركم” وقد جاء لفظ “غيركم” في باب الشهادة والوصية عند الموت [اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ]( ).
والمراد شهادة إثنين من غير المسلمين، ومن أهل الملل الأخرى وقيل من أهل الذمة، وقال الزمخشري ” وقيل هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم وانما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في السفر”( ).
ولكن الآية جاءت للشهادة للمسلم وحفظه في ماله ووصيته ومنع الفتنة، وحال السفر أمر مختلف عن الحضر ولا ينحصر بأول الإسلام كما تبدو فيه موضوعية مثل هذه الشهادة وتقرير الوصية في بلدان أهل الكتاب والكفار والمحاكم الوضعية هذا الزمان لضنط الوصية وعقود النكاح والإيقاعات ونحوها بعد تداخل البلدان وكثرة الأسفار.
والشهادة على الوصية قضية في واقعة مخصوصة، إذ يتحمل الشاهد الشهادة ثم أدائها، وقد قيدت الآية الأداء بإيقاف الشاهدين وأمرهما باليمين والحلف في ساعة خضوع وخشوع لله تعالى من بعد الصلاة للتغليظ والتأديب ومنع الكذب والإفتراء، أما البطانة فانها ليست في مسألة مخصوصة أو تخص حالة الموت والوصية بالمال ونحوه، بل هي حال مستديمة وجزء من الواقع اليومي للمسلمين، ولها آثار عامة وخاصة.
والإتيان بلفظ “من دونكم” في موضوع البطانة سبب لنفرة المسلمين من غيرهم بخصوص البطانة والخاصة والوليجة، ودعوة للمسلمين لمعرفة عظيم شأنهم، وعلو منزلتهم، وتعدد وكثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقهم والتي تستلزم قيامهم بوظائف الفعل والإستشارة بأنفسهم من غير إستعانة بغيرهم ممن يسعى في نشر الفساد بينهم.
لقد أراد الله تعالى تهذيب أفعال المسلمين وإصلاح نفوسهم وإعانتهم في أمور الدين والدنيا، وجاءت الآية بعلوم من الغيب وجمعت بينها وبين عالم الشهادة في موضوع واحد وهو بغض الكفار للمسلمين، والإخبار عن إمتلاء صدورهم حسداً وبغضاً للمسلمين، فأراد الله عز وجل تنزيه أسماع المسلمين عن تلك البغضاء، ومنع ظهور وأثر ما مستور منها،بالإعراض عن الكفار وعدم تعيينهم أو إستشارتهم في باب البطانة والخاصة، لأن الإستبطان علة وسبب للقاء والصلة الدائمة بين طرفيه.
وفي الآية بيان للناس جميعاً بعظيم فضل الله عز وجل على المسلمين ببيان الآيات لهم، وطرد اللبس والترديد عنهم، ومنع أهل الشك والحسد النفاذ اليهم بالمغالطة والجدل وإثارة الحسد، لأن البيان حجة ويفيد القطع والجزم ويحول دون الوهم.
ومن الآيات تفضل الله عز وجل بجعل بيان الآيات قريباً من كل مسلم ومسلمة فليس من حاجب أو برزخ بين المسلمين والمسلمات وبين تلاوة الآيات، بل التلاوة واجبة عليهم على نحو يومي متكرر وفيها كفاية لحصول التبليغ بمضامين الآية والتوكيد عليها، وهو من مفاهيم البيان بأن يدرك المسلم والإنسان مطلقاً معنى الآية حال الإستماع لها.
لقد ورد في الحديث ان “قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن”( ).
فجاءت هذه الآية لتعاهد المؤمنين وإصلاح نفوسهم، ومنع وسوسة الشيطان من الدنو والنفاذ اليهم من باب البطانة والخاصة.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية الكريمة بالخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي يبين إنتقال نظم الآيات إلى خطاب المسلمين بعد إن جاءت الآيات السابقة في ذم الكفار، وهذا لا يعني إنحصار مضمون الآية بالمسلمين والثناء عليهم، إذ تدل الآية في مفهومها على ذم الكفار وإخبارهم بعدم أهليتهم لمرتبة البطانة للمسلمين.
وبينما يسعى الكفار في محاربة المسلمين، وتجهيز الجيوش عليهم ومحاولة بث روح الشك والريب بالقرآن ونزوله من عند الله تعالى، والإسلام في بداياته في المدينة المنورة، ويحيط به أهل الشرك والكفر، وتقوم قريش بتحريض القبائل ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من المهاجرين والأنصار، ويجتهد المسلمون في دفع الضرر وصد الهجمات عليهم، إذ يهاجمهم العدو في عقر دارهم كما في معركة أحد والخندق، وليس للمسلمين فئة أو بلدة أخرى يلجأون إلى أهلها لتأويهم وتذب عنهم،وإذا الملك جبرئيل ينزل بهذه الآية التي تنهى المسلمين عن إتخاذ غير المسلمين وليجة وخاصة، وهم في حال عداوة وخصومة مع الكفار والمشركين، وحتى مع اليهود في المدينة، وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن الصلح مع المشركين والكفار.
الثاني: إرادة الزمن المستقبل.
الثالث: بعث الحذر واليقظة في نفوس المسلمين من الكفار والركون اليهم.
الرابع: بشارة المسلمين بالنصر والظفر وبناء دولة الإسلام.
وما عدا الوجه الأول، فان الوجوه الثلاثة الأخرى صحيحة، وهو من مصاديق الإعجاز الغيري للقرآن بأن يبعث في نفوس المسلمين الأمل والعزم، ويبشرهم بالنصر والغلبة بلحاظ كيفية العمل العام من منازل الحكم والإمامة، ويؤكد للكفار والمنافقين إبعادهم عن مراتب الخاصة والبطانة للمسلمين، مما يدل بالأولوية القطعية على منعهم من الوصول إلى منازل القرار والحكم والسلطنة، وتدل هذه الآية على إبتداء عصر جديد يظهر فيه الإسلام ويسود الإيمان والعدل في الأرض.
فمن منافع حجب منازل البطانة عن غير المسلمين الصدور عن القرآن في الحكم والقضاء والفتوى ولم تأتِ الآية الكريمة بصيغة الجملة الخبرية مثل “لا يتخذ المؤمنون من دونهم بطانة” بل جاءت بلغة الخطاب والنهي الجلي والمطلق الذي لا ترديد ولا لبس ولا تخصيص فيه، مما يدل على أهمية الأمر، وحاجة المسلمين للعمل بأحكام الآية، ولزوم إحترازهم من الخلاف والإجتهاد فيه، لذا ترى المسلمين يتلقون هذه الآية بالتسليم والقبول من غير رجوع إلى العلماء في تفسيرها وتأويلها، وتلك آية من آيات القرآن ان الآية القرآنية تفسر نفسها، وتدعو المسلمين إلى العمل بأحكامها، ليس من واسطة بينها وبين أي مسلم أو مسلمة.
ومن إعجاز القرآن ان ترجمة الآية القرآنية لم تمنع من هذه الحقيقة وتجلي معاني الآية القرآنية وما فيها من الأحكام والعلل لعامة المسلمين وكل واحد منهم بلغته ولسانه فقد لا يكون في بعض مناطق المسلمين علماء على صلة بالناس وأولي الشأن من المسلمين، فتأتي هذه الآية لتكون هي العالم المصاحب للمسلم والمسلمة في العمل والسوق والمسجد والمنتدى والبيت، وهي الحجة التي تكون بيده عند الإحتجاج وإقامة البرهان والنصح لأخيه المسلم.
فلا يستطيع الحاكم من المسلمين أن يقول للعامي منهم ليس لك أن تعلمني أو لست بعالم كي تأمرني وتنهاني، إنما هي الآية الكريمة التي تأمر وتنهى المسلمين، وهي التي تدعو العامي والأدنى في الرتبة والوظيفة أن يأمر وينهى الحاكم والأعلى منهم، وهو من إعجاز القرآن، وإمامته للمسلمين والناس جميعاً، وشاهد على حفظ الله تعالى له، وسلامته من التحريف لأن كل آية منه إمام يهدي المسلمين إلى سبل الفلاح وأسباب الظفر والخير، مما يدل على نزولها من عند الله تعالى.
لقد إبتدأت الآية ببعث الثقة في نفوس المسلمين، وجاء موضوعها لتأديبهم وتعليمهم المسائل التي تؤهلهم لشؤون الحكم وهذه الآية من أسرار إنتصار الإسلام، ونجاح المسلمين في إدارة شؤون الحكم فلقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أرض جرداء، يتقاتل العرب فيما بينهم يغزو بعضهم بعضاً للنهب والتعدي، يقومون بالرعي وتربية الإبل والشاء، ليدخل الإيمان في نفوسهم، ويجاهدوا في سبيل الله، ويصبحوا في سنوات قليلة حكاماً في الأمصار وأئمة للناس يقيمون الحق ويدفعون الباطل، ويحاربون الظلم والتعدي العام والذي يكون على نحو القضية الشخصية، وتجبى لهم الأموال من الغنائم والجزية والخراج فيجعلونها في سبيل الله.
ان قوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] مدح وثناء على المسلمين وإخبار عن إرتقائهم في مراتب الفضل والشأن والحكم والجاه، ودعوة لهم لتعاهد منازل السيادة والرئاسة، وعدم التفريط بها، ومن وجوه التفريط إتخاذ وليجة وخاصة ممن هم أدنى منهم شأناً ورتبة.
وهل تدل الآية في مفهومها على جواز إتخاذ المسلمين بطانة من الذين هم أعلى منهم رتبة، الجواب ليس هناك من هم اعلى رتبة من المسلمين، وتدل عليه هذه الآية نفسها من وجوه:
الأول: صيغة الخطاب التشريفية، وإكرام الله تعالى بتوجيه النهي للمسلمين عن البطانة من غيرهم.
الثاني: الملازمة بين الإيمان وعلو المرتبة، فليس هناك من هو أعلى رتبة من المؤمنين، وقد فاز المسلمون بها، قال تعالى في مدح المسلمين [وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً]( )، وفيه بيان لمفهوم الوليجة والبطانة وأنها أعم من القضية الشخصية وإختيار أشخاص لمقام البطانة، فمن مصاديق البطانة الرجوع إلى القرآن الكريم والتقيد بأحكامه والعمل بالسنة النبوية الشريفة ومن يكن معه القرآن فانه لا يحتاج إستبطان الناس لأن القرآن خير بطانة وهو أمام وقائد في ميادين الخير يقود من يتبعه إلى الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة.
الثالث: صيرورة المسلمين بحال من الرفعة والشأن بحيث يجعلون لهم بطانة وخاصة، وقدرتهم على إختيار تلك البطانة من أنفسهم ومن غير إكراه او قهر لهم في تعيين جهة أو أهل ملة تكون البطانة منهم وفي الآية الكريمة بحسب ترتيب كلماتها ومضامينها القدسية وجوه:
الأول: إبتداء الآية بإكرام المسلمين، ودعوتهم للإلتفات وجذبهم لمضامين الآية القدسية ودعوتهم للعمل بأحكامها بمدحهم والثناء عليهم بخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وكأن الآية تقول لهم ما دمتم آمنتم بالله ورسوله، فأخذوا هذه النعمة العظيمة بنهيكم عن إتخاذ بطانة من دونكم.
الثاني: تعيين موضوع الآية وهو الخاصة والبطانة.
الثالث: لم تذكر الآية إتخاذ غير المسلمين المسلم بطانة لهم لأن الآية تأديب وتعليم للمسلمين في منازل الزعامة وتصريف الأمور.
الرابع: تقسم الآية الناس إلى قسمين:
الأول: المسلمون.
الثاني: من هم دون المسلمين، وليس فيه ذم لغير المسلمين لتعدد معاني دون وإرادة الغير منه نعم فيه ترغيب بالإسلام.
الخامس: بيان موضوعية الملة في الإختيار لعمل البطانة والخاصة فيجوز إختيار الكتابي مثلاُ للعمل والشركة ولكن لا يكون بطانة وخاصة.
السادس: تعقب علة النهي له، وعدم تخلفها عنه، فالأصل ان المعلول لا يتخلف عن علته، وهذه الآية جاءت بذكر العلة أثر ذكر موضوع النهي وفيه تخفيف عن المسلمين ودعوة لهم للمبادرة بالعمل بأحكام الآية، وعدم ترك الأمر للوجدان والتجربة وظهور الأمارات والدلالات التي تؤكد لزوم العمل بما فيها.
ومن الإعجاز في الآية الكريمة مجيء علة النهي على نحو التفصيل والتعدد، مما يدل على الأضرار الجسيمة في إتخاذ وليجة من غير المسلمين وهي على أقسام:
القسم الأول: سعي غير المسلمين في إشاعة الخبال والنقصان في أفعال المسلمين، ورجاؤهم الفساد في عملهم، فجاءت الآية لمنع المصداق الخارجي لهذا الرجاء.
ومن الآيات ان الآية جاءت بصيغة الجمع في أطرافها الثلاثة:
الأول: إرادة غير المسلمين وظهور الفساد في عمل المسلمين.
الثاني: عدم إنحصار قصد الإضرار بطائفة من المسلمين دون غيرهم، بل يريد الكفار الإضرار بالإسلام والمسلمين على نحو العموم المجموعي، وفيه تحذير للمسلمين من إتخاذ وليجة وأهل شورى من غيرهم لمواجهة إخوانهم من المسلمين لخلاف او خصومة بينهم، فان تلك البطانة تزيد الخلاف بين المسلمين، وتجعله يرتقي إلى مرتبة الخصومة والفتنة.
الثالث: موضوع الخبال إذ ورد بصيغة الجنس ويفيد التعدد والإستمرار وتدل عليه صيغة الإطلاق في قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] وهي إنحلالية تتوجه إلى كل فرد من المسلمين والمسلمات وتقدير الآية للفرد الواحد من المسلمين “لا يألونك خبالاً”.
ومن إعجاز الآية انها جاءت للبيان وذكر علة النهي إلا انها تبعث في نفس كل مسلم ومسلمة الحيطة والحذر ويحتمل هذا الحذر وجوهاً:
الأول: الحذر من إتخاذ غير المسلم بطانة وخاصة، وهو القدر المتيقن والذي جاءت الآية الكريمة بخصوصه.
الثاني: الحيطة والحذر من غير المسلمين في جميع الأحوال، فمع عدم إتخاذهم بطانة فان الحذر منهم موجود.
الثالث: تعلق مو ضوع الحذر من الذين يسعون ليكونوا بطانة وخاصة للمسلمين لما في سعيهم من الريب ولأنه مصداق للآية الكريمة، ومقدمة للنفاذ إلى المسلمين والإضرار بهم من داخلهم فبعد العجز عن القضاء على الإسلام بالمحاربة والقتال، توجهوا لنيل مراتب البطانة ودسّ سمومهم وكيدهم بالمشورة والإطلاع على أسرار المسلمين، فان قلت هناك من يرغب ان يكون بطانة للمسلمين ولا يريد الإضرار بهم وان كان من ملة أخرى، والجواب ان الآية جاءت مطلقة، فمن يكذب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعلى المسلمين عدم جعله بطانة لهم.
الرابع: المؤهل من غير المسلمين لنيل مرتبة البطانة والخاصة عند المسلمين، لأن غير المؤهل لمرتبة الخاصة والبطانة لا يشمله موضوع النهي قهراً وإنطباقاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية بلحاظ المعنى الأعم لها، لذا جاءت خطاباً للمسلمين، وفيه دليل عى التكليف في هذا الباب بالنهي والمنع من إتخاذ غيرهم وليجة وبطانة.
القسم الثاني: مودة غير المسلمين للحوق الضرر والمشقة بالمسلمين، لقد واجه الكفار والمشركون الإسلام والمسلمين بالعداء وتجهيز الجيوش وإخراج المسلمين من ديارهم بغير حق، ولكنهم عجزوا عن إلحاق الهزيمة بالمسلمين وتبوأ المسلمون مقامات الحكم وصار لهم شأن عظيم في السياسة والتجارات والزراعات، ونزلت آيات القرآن في حثهم على الأخوة الإيمانية [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ودعوتهم إلى التمسك بالقرآن والصدور عنه [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، ويترتب على تعدد وظائف المسلمين والسعة في أعمالهم، والكثرة في مسؤولياتهم الحاجة إلى البطانة والخاصة، أو أدنى من الحاجة ولكن يكون للبطانة شأن وأثر في أفعال المسلمين، فجاءت هذه الآية لحصانة المسلمين وجعلهم يتعاهدون العمل بآيات القرآن بالحرص على غلق الباب الذي تنفذ منه أسباب الخبال والفساد، وحجب منازل البطانة عن غيرهم.
ان منزلة ووظيفة البطانة نعمة ترشحت عن إنتصار المسلمين في سوح المعارك، وبذل الشهداء دماءهم، وأرباب الأموال أموالهم في سبيل الله، فأراد الله تعالى ان لا يقطف غير المسلمين ثمار جهادهم، وان لا يحصل عندهم تراخِ وتفريط وينفذ غيرهم إلى منابع القرار والفعل عند أئمة المسلمين.
ولولا هذه الآية الكريمة لوجدت ملكاً أو والياً من المسلمين يتخذ بطانة من غير المسلمين، ويكثر من الحجاب الذي يمنعون وصول عامة المسلمين له، فلا يطلع على حوائجهم ولا يسمع منهم ما ينفعه وإياهم في أمور الدين والدنيا، فجاءت هذه الآية ليبقى المسلمون أخوة ويبذلوا الوسع في مرضاة الله، ويكونوا يداً واحدة على عدوهم، فمع وجود البطانة من غيرهم، وحجب العامة والفقراء والأمراء والقادة منهم يعجزون عن مواجهة العدو إذا داهمهم وإعتدى عليهم للهوة والعزل بين الحاكم والمحكومين، وسعي البطانة من غير المسلمين في تعميق وإستدامة هذه الهوة وظهور إضرارها على عامة المسلمين خصوصاً الذين إتخذوهم بطانة.
فجاءت الآية رحمة بالمسلمين، وزجراً لغيرهم من التعدي عليهم، ومن السعي في الإضرار بهم ، وجاء قوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] وتعود الواو فيه إلى غير المسلمين ورغبتهم في لحوق الأذى والضرر بالمسلمين، أما الميم في “عنتّم” فيعود للمسلمين بما هم مسلمين، إذ يرغب غيرهم بالمشقة عند المسلمين لإختيارهم الإسلام وتقيدهم التام بالفرائض والعبادات، وتبين الآية ان الود والرغبة بلحوق الضرر بالمسلمين جزء علة لمنع المسلمين من إتخاذ هؤلاء وليجة وخاصة.
القسم الثالث: بيان علة للنهي التي تتصف بالظهور والوضوح، فقد ذكرت علتّان قد يحتاج ثبوتهما وسائط في الإستدلال وهما:
الأول: إرادة غير المسلمين الخبال والقصور عند المسلمين وفي أعمالهم.
الثاني: رغبة ورجاء غير المسلمين إصابة المسلمين بالضرر والأذى الشديد، وجاء قوله تعالى [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] بياناً لجزء علة ظاهر وحسي ملموس، يدركه ويسمعه المسلمون ويدركون أنه من مصاديقه وآثاره، وفيه توكيد على لزوم إجتناب المسلمين لإتخاذ بطانة من غيرهم، ونوع ملازمة بين هذا النهي وبين معاني الكره والعداوة التي تظهر على ألسنة غير المسلمين.
ومع مجيء الآية في موضوع البطانة فانها تبين مسائل وحقائق أعم في موضوعها وأحكامها، ويفيد الجمع بين أول الآية وبين قوله تعالى [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] بأن دخول العبد الإسلام وإختياره الإيمان يسبب له عداوة شطر من أهل الملل الأخرى، وانهم ينالون منه ومن الإسلام بألسنتهم ويحاولون إثارة الشكوك في الإسلام والتنزيل، فجاءت هذه الآية للتحذير منهم مطلقاً وليس في موضوع البطانة وحده، بل بما هو أعم وأوسع، فمن لا يتردد في إبداء البغض والكراهية والعداوة للمسلمين على لسانه فانه لا يأمن جانبه، ويجب على المسلمين والمسلمات الحذر منه، وعدم الإطمئنان اليه.
وجاء أول الآية بصيغة الجمع في توجهه للمسلمين جميعاً، وجاء هذا الشطر بذات الصيغة أيضاً مما يدل على كثرة الذين يعادون الإسلام، وحاجة المسلمين للجهاد دفاعاً عن الإسلام وذباً عن انفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإستدامة حال الدفاع، والأمة التي تكون في حال دفاع دائم عليها البقاء على حال الحذر والحيطة من جميع الذين تبدو العداوة على أفواههم، ومن يصغي اليهم.
وجاءت هذه الآية لتؤسس علماً جديداً في الحيطة والحذر لم تنله أمة أو أهل ملة من الملل، فاز به المسلمون وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وفيه دليل على تعاهدهم لمنازل العز والقوة التي تستلزم إتخاذ البطانة والخاصة، فجاءت هذه الآية عوناً لهم في منازلهم هذه، ومدداً للإرتقاء فيها ويفيد الجمع بين أول الآية وهذا القسم من علة النهي “يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم قد بدت البغضاء من أفواههم”.
القسم الرابع: الإخبار الإلهي عن إخفاء صدور ممن جاء النهي عن إتخاذهم بطانة عداوة للمسلمين أشد وأكبر من الذي يبرز على ألسنتهم وأفواههم، وهذا القسم من علة النهي إعجاز إضافي للآية، ولا يعلم ما تخفي الصدور إلا الله تعالى.
وجاء كشف الغل والحسد والعداوة التي تملأ صدور هؤلاء في موضوع البطانة مما يدل على أهميته، وأثره، وكيف ان إختيار غير المسلم بطانة وخاصة مناسبة لظهور عداوته، وإضراره بالمسلمين عن قصد أو بغير قصد، فقد لا ينوي الغدر بالمسلمين ولكن العداوة التي في صدره تبرز في فعله وتستحوذ على مشورته، وتجعله يميل إلى فضح وإظهار عورات المسلمين، وبيان الثغرات التي يمكن أن ينفذ العدو من خلالها، فتكون تلك البطانة واسطة للإضرار بالمسلمين وتقدير الجمع بين أول الآية وهذا الجزء من علة النهي “يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ما تخفي صدورهم من البغضاء لكم أكبر مما بدا على أفواههم”.
السابع: بيان هذه الآية للآيات والأحكام ومن إعجاز القرآن ان تأتي الآية القرآنية بآيات متعددة، وتبين للمسلمين سبل الهداية والرشاد، فجاءت هذه الآية بالنهي عن البطانة من غير المسلمين، مع بين علة هذا النهي والإخبار عن أسباب عدم أهلية هؤلاء لنيل مرتبة البطانة عند المسلمين، والإخبار عن عداوتهم للمسلمين، إذ تدعو الآية للبقاء على حال الحذر والحيطة منهم، وبعد ذكر النهي وأجزاء علته على نحو التفصيل إستمرت الآية في صيغة الخطاب للمسلمين بقوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ] وفيه إكرام إضافي للمسلمين بان الله عز وجل شرّفهم ببيان الآيات، وذكر العلامات التي تؤكد لزوم الأولوية في عمل المسلم لثبات مبادئ الإسلام والدفاع عنها، وفي بيان الآيات للمسلمين بعث للفزع والخوف في نفوس أعدائهم منهم، فالأمة التي يتفضل الله تعالى ببيان الآيات لها، ويهديها إلى سبل الإحتراز من الضرر وأسباب الكيد والمكر لا يخشى عليها ولا يلحقها الضرر.
ان بيان الآيات مدد إلهي للمسلمين وعون لهم على مواجهة الأعداء، وشاهد على رجحان كفتهم على كفة عدوهم، فالأمة التي تنفرد بأن يبين لها الله عز وجل الآيات هي الأمة التي تقهر اعداءها، وجاءت هذه الآية مقدمة لتحقيق النصر والغلبة للمسلمين وتعاهد أسباب النصر والإحتراز من الخسارة اللاحقة فقد يكون النصر في معركة ولكن هذه الآية تجعل نصر المسلمين دائماً ومتصلاً وتخبر عن خزي عدوهم وإنحساره وعدم نفاذه إليهم.
الثامن: أختتمت الآية الكريمة بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] وفيه دعوة للمسلمين للأخذ بمضامين الآية بقوة وعدم التفريط بها، وحث لهم على التدبر في مضامينها وتوظيف العقل للإستنباط وإستقراء الدروس والعبر من هذه الآية الكريمة، ومن الإمتثال لما فيها من النهي وإستحضار المواعظ والعبر، والإضرار التي تنجم عن مخالفة ما فيها، وذكر المنافع التي تأتي من التقيد بما فيها، وهو أمر يستلزم الشكر والثناء منهم لله تعالى على النعمة العظيمة بنزول هذه الآية الكريمة.
وكما إبتدأت الآية بالخطاب التشريفي للمسلمين فانها أختتمت بدعوتهم إلى جعل العقل النوعي العام وسيلة للإمتثال الأحسن لمضامين هذه الآية، وإدراك حقيقة وهي انها نزلت لنفعهم وسلامتهم كخير أمة أخرجت للناس، وانها خير محض يعود بالنفع والفائدة على الناس جميعاً بإحتراز المسلمين من الكيد والمكر، الذي يأتي من البطانة السيئة، بإجتنابها من الأصل بفضل وبركة هذه الآية الكريمة التي تتحبب اليهم، وتدعوهم لجعلها صاحباً وملازماً وسلاحاً وعوناً سماوياً لا يفارقهم في حياتهم العامة والخاصة ويكون مادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ومع الناس جميعاً.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تأهيل المسلمين لإمامة الناس في سبل الخير بالحصانة السماوية في نوع البطانة التي يتخذونها.
الثانية: توكيد تغشي رحمة الله للمسلمين ببيان أسباب عدم جواز إتخاذهم خاصة ووليجة من دونهم.
الثالثة: بيان موضوعية البطانة وما يجب أن تتصف به فلا يستطيع الإنسان متحداً او متعدداً الإحتراز الدائم والمستمر في موضوع الخاصة والمشورة، فتراه مع حذره يكتشف أحياناً خطأه في إختيار البطانة، وإطلاع الناس على أسراره وما يسببه له هذا الإختيار من الأذى والإحراج، وقد لا يستطيع التدارك وينوي الحذر والوقاية ولكنه يقع مرة أخرى بذات الإبتلاء ويلاقي العناء والمشقة من البطانة السيئة التي تنفذ اليه بالخديعة والتودد الظاهري.
فجاءت هذه الآية لتكون واقية دائمة وحرزاً متصلاً لعموم المسلمين في باب الخاصة والوليجة.
الرابعة: دعوة المسلمين للإستعداد للمسؤوليات العظيمة التي تنتظرهم في ميادين الحكم والإصلاح وبناء الدولة والمجتمع والإخبار عن الضرر الفادح الذي يأتي من المشورة الفاسدة لأن الآية لم تأتِ بخصوص القضايا الشخصية وحدها، بل ان الفرد الأهم فيها هو إدارة المسلمين لشؤون الحكم.
الخامسة: حث المسلمين على عدم إطلاع أهل الملل الأخرى على أسرارهم وما يسعون اليه من الغايات والمقاصد الحميدة، ولا يصح كشفها لمن يضمن البغضاء والعداوة للمسلمين.
السادسة: دعوة المسلمين للتشاور بينهم، وإختيار البطانة من بينهم وبما يساعد على إختيار أفضل في العمل والبناء والسعي الحثيث لخير الدنيا والآخرة.
السابعة: تحذير المسلمين من التفريط بمضامين وأحكام هذه الآية، لأنها بينات وآيات أنعم الله تعالى عليهم بها، ومن المصاديق التي تدل على ان مضامين هذه الآية آيات بينات انها نعمة متصلة دائمة ينهل منها المسلمون في كل زمان ومكان، وفي مختلف الميادين، وتتجلى في كل زمان أسرار من كنوزها تدفع عن المسلمين الضرر والعناء، وتجعلهم في مأمن من الخسارة والمشقة القادمة من جهة المشورة والخاصة..
الثامنة: إحاطة المسلمين علماً بأحوال الملل الأخرى، وحثهم على الإلتفات إلى لحن القول، والبغضاء التي تجري على الألسن.
التاسعة: بيان حقيقة وهي ان البغضاء التي تظهر على ألسن أهل الملل الأخرى أزاء المسلمين تخفي وراءها حسداً وعداوة، ورغبة بالإضرار بالمسلمين.
العاشرة: الإنتفاع الأعم من مضامين الآية، فهي وان جاءت بخصوص البطانة المنهي عنها إلا أن منافعها أعم من وجوه:
الأول: إرشاد المسلمين إلى الإختيار الأحسن والأمثل في أمور الحياة.
الثاني: معرفة التباين بين الناس بلحاظ مللهم في حبهم وبغضهم لإصابة المسلمين للخير والبركة.
الثالث: موضوعية الحب والكراهية في ماهية ونوع المشورة، والحفاظ على الأسرار أو فضحها.
ومن الإعجاز في الآية تعلق موضوع الحب والكراهية بالملة والعقيدة وترشحه على الأمور الشخصية.
الرابع: تنمية ملكة اليقظة والحذر عند المسلمين من غيرهم في باب المعاملات والصلات، وليس فيه إضرار بالآخرين، بل هو واقية ذاتية، ودعوة للمسلمين للتوثيق والتثبت فيما يعقدون مع غيرهم من العقود والمواثيق ونحوها.
الخامس: دعوة المسلمين لعدم وضع الأمانة عند غير المؤتمن، والذي تظهر منه أمارات تدل على الرغبة بحصول المشقة للمسلمين، ولحوق الضرر بهم.
السادس: دعوة المسلمين إلى تنمية الثقة، ونشر معاني المودة والمحبة بينهم، وإتخاذ بعضهم لبعض أولياء وأمناء للسر لأن أمرهم مشترك، فلا يسعى أحدهم للإيقاع بالآخر، وبما يؤدي إلى الإضرار بالأمة والإسلام، إذ يحرص كل مسلم على مصلحة ورفعة الإسلام في عمله وعمل إخوانه المسلمين، وتلك خصوصية يتصف بها المسلمون، وهي من خصائص خير أمة أخرجت للناس.
فليس من غايات الآية غلق باب المشورة والوليجة على المسلمين، بل إعانتهم على إختيار الوليجة الصالحة التي تسعى في سبل الخير والصلاح، وتمتنع عن إفشاء أسرار المسلمين وجلب المضرة والمشقة لهم.
الحادية عشرة: وصف الآية لغير المسلمين بوصف الأدنى [مِنْ دُونِكُمْ] حث للمسلمين للسعي لإكتسابهم لما ناله الآخرون، وبشارة بلوغ المسلمين أسمى الدرجات في العلوم الدنيوية والمعارف والصناعات، وفيه طرد للتردد من ولوج ميادين العلم وشؤون الحكم والزعامة، وتحد للذين يحاولون أن يجعلوها حكراً عليهم.
أسباب النزول
ذكرت أسباب ومواضيع لنزول الآية هي:
الأول: نزول الآية في اليهود لأن نفراً من المسلمين كانوا يخالطونهم ويتحدثون اليهم ويشاورونهم في أمورهم، خصوصاً وانه كانت تربطهم معهم صلات مثل الرضاع والحلف والجوار، والتجارة، بالإضافة إلى كونهم أهل كتاب يعلمون أخبار النبوة، فظن فريق من المسلمين أنهم يريدون لهم النصيحة، والذي ذهب إلى هذا القول إستدل بان هذه الآيات جاءت خطاباً لليهود، فكأنه يجري أصل الإستصحاب في نظم الآيات.
الثاني: موضوع النهي والتحذير في الآية هم المنافقون، لأن المؤمنين يكتفون منهم بظاهر القول، ويتسامحون فيما يصدر منهم من لحن القول، ولا يعلمون ما تخفي صدورهم من الحسد للمؤمنين والإسلام، ويبثون لهم الأسرار، ويخبرونهم عن أحوال المسلمين وإستعدادهم للقتال أو عدمه، فجاءت الآية لتحذير المسلمين من إطلاع المنافقين على نواياهم وأمورهم الخفية.
الثالث: إرادة جميع أهل الكتاب والكفار، وتحذير المسلمين منهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق هذه الآية الكريمة ومضامين إستدامة حكمها إلى يوم القيامة بما يجعل المسلمين يولون عناية خاصة للبطانة والخاصة ولزوم ان تكون من بينهم، وتأهيل أنفسهم لتلك المنزلة وتحصيل العلوم الكسبية التي تجعل أفراداً من المسلمين قادرين على تولي الوظائف الخاصة بالوليجة والبطانة إذا كانت تستلزم إختصاصاً في علم او فن معين.
التفسير
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
جاء قبل ثمان آيات وصف المسلمين بانهم خير أمة، ومن الآيات ان الثناء والمدح الإلهي للمسلمين لا يقف عند الإخبار عن تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، إذ أن المسلمين أخرجوا للناس جميعاً.
ويحمل هذا الإخراج على الإطلاق في مواضيعه ومضامينه وميادينه، مما يدل على عظيم مسؤوليات المسلمين أزاء أنفسهم وأزاء الناس في نشر مبادئ الإسلام ومفاهيم الإصلاح.
وجاءت الآيات بعدها لتبين أحوال أهل الكتاب وقسمتهم إلى مؤمنين وفاسقين، وبيان عدم إنتفاع الكفار من أموالهم وأولادهم في عواقب الأمور، وظلمهم لأنفسهم في إنفاقهم الأموال في الباطل والتعدي على المسلمين، لتبدأ هذه الآية بالخطاب التشريفي للمسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ولا يعني هذا إلتفاتاً موضوعياً في آيات القرآن، وانها إنتقلت إلى موضوع خاص بالمسلمين دون غيرهم، بل ان الآيات السابقة تتضمن في مفهومها البيان والخطاب للمسلمين بذكر صفات غيرهم من أهل الكتاب والكفار، وهو من عمومات إخراج المسلمين للناس بمعرفة المسلمين لأحوالهم، وما ينتظرهم من البلاء والضرر بسب تخلفهم عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإصرارهم على التعدي على المسلمين، والسعي في جلب الضرر والأذى لهم.
ومن خصائص خير أمة أخرجت للناس معرفة أحوال الأمم بما يساعد على جذبها للإيمان والتوقي من أذاها، ومعرفة أفضل السبل في التصرف والتعامل معها، والإحتراز من مكرها، ومتى ما أدرك الطرف الآخر انك تعرف كيده، وترقب فعله، وتأخذ الحائطة منه فانه يخشاك ويتجنب السعي في الإضرار بك، مع فيض عقائدي في المقام من وجوه :
الأول : ان معرفة المسلمين بأحوال غيرهم انما هي بمدد وكشف من عند الله عز وجل،مما يدل على إتصافها بالصدق والحق .
الثاني : القرآن وآياته نصير ووزير دائم للمسلمين.
الثالث : تفضل الله عز وجل على المسلمين بالإخبار عما عند غيرهم من الحسد والبغض لهم عون للمسلمين والناس جميعاً.
الرابع : يتصف حذر المسلمين من البغضاء والمكر الظاهر والخفي بأنه سلاح عام عند المسلمين جميعاً، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس.
لقد جاء هذا الخطاب ( يا أيها الذين آمنوا ) تشريفاً وإكراماً للمسلمين، وهو إنحلالي موجه لكل مسلم ومسلمة وفي كل زمان ومكان، وليس من خطاب أعم وأوسع وأهم من الخطاب القرآني سواء الموجه للناس جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] أو الموجه للمسلمين على نحو الخصوص، مع التداخل والإشتراك بينهما في الدعوة إلى الله، وإرادة عموم الناس والنفع الأعم منه.
وينفرد الخطاب القرآني بان المقصود منه الإنسان مطلقاً وصلاح أحواله في الدنيا والآخرة، مع التشابه اللفظي في الخطاب القرآني الا انه يتباين بلحاظ موضوعه وحكمه، ومن إعجاز القرآن ان الآية لم تأتِ بصيغة الجملة الخبرية وبيان أضرار البطانة السيئة او التي تتخذ ممن هم دون مرتبة المستشير، بل جاءت بصيغة الإنشاء وخاصة بالمسلمين، بتقديم قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه مصداق من مصاديق التمسك بالقرآن والسنة والعمل بمضامين قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، وقوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
فمن معاني الخطاب العام للمسلمين ووصفهم بالإيمان مسائل:
الأولى: بيان سمو درجة الإيمان، وعلو شأن المسلمين بالنطق بالشهادتين.
الثانية: إختصاص المسلمين بخطاب خاص في القرآن يتضمن التعليم والتأديب الإلهي لهم جميعاً.
الثالثة: الثناء على المسلمين لإختيارهم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارها شرطاً لنيل مرتبة الإيمان، والأهلية لتلقي خطابات التكريم والتشريف السماوية.
الرابعة: إنفراد المسلمين وإلى يوم القيامة بخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وليس من أمة تلقت من عند الله هذا الخطاب المتكرر في القرآن، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم.
وذكر ورود خطاب “يا ايها المساكين” في التوراة في مقابل هذا الخطاب التشريفي للمسلمين
الخامسة: يتضمن خطاب المسلمين بـ[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة لهم للإتحاد والتعاون والتعاضد، وإدراك حقيقة وهي إشتراكهم في المنزلة الرفيعة والشأن، والفوز بتلقي الخطاب السماوي بمدحهم والثناء عليهم، ووصفهم بالإيمان وليكون هذا الخطاب مقدمة ووسيلة لإشتراكهم وإلتقائهم في أداء الفرائض والعبادات بعرض واحد من غير فوارق بينهم، فيقف الحاكم والمحكوم والسيد والعبد بين يدي الله خمس مرات في الصلاة اليومية، ويشترك الجميع بلبس إحرام الحج الذي هو كالكفن ليكون عنواناً لزوال الفوارق بينهم في الجاه والمال والرتبة، وكذا هذا الخطاب فانه عام للمسلمين، ويتوجه اليهم بعرض واحد، بلحاظ ما يتصفون به من خصائص الإيمان.
السادسة: بيان المسؤوليات العظيمة التي تترشح عن الإيمان، فانه مدخل كريم لأداء الوظائف العبادية والتقيد بالسنن والأحكام الشرعية، والعناية بمقدمات التفضيل على الأمم ومستلزمات الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها إختيار الخاصة والبطانة، والإلتفات إلى الشرائط التي يجب أن تتوفر فيها.
وبلحاظ موضوع الآية تتجلى من قوله تعالى في هذه الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مسائل عديدة منها:
الأولى: إختيار البطانة الصالحة مسؤولية المسلمين جميعاً، وليس هي حصراً على السلاطين وأصحاب الحل والعقد منهم.
الثانية: الآية الكريمة من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، فلابد ان يقوم كل مسلم ومسلمة بوظيفتهما في موضوع البطانة وإختيار الخاصة المناسبة، وإذا إتخذ الحاكم بطانة سوء من الذين يضمرون العداء للمسلمين، فمن واجب كل مسلم التنبيه والتحذير وبيان سوء الإختيار هذا وما يؤدي اليه من الأضرار بالمرتبة المناسبة من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأمن والسلامة وإحتمال الإنصات للنصيحة.
ومن الآيات الإعجازية في وظائف القرآن ان تلاوة هذه الآية مدرسة جامعة في موضوعها، فهي تبعث اليقظة والحذر في نفوس المسلمين من غيرهم، وتدعو بلغة صريحة بينة إلى عدم إتخاذ بطانة وخاصة من غير المسلمين.
وتلاحق هذه الآية من يخالف ما فيها من الأحكام في ليله ونهاره وقد لا يتلوها أو لا يسمعها خلال شهور، ولكنها تبقى حاضرة في ذهنه وتجعله مدركاً لأضرار إتخاذ الخاصة والوليجة من غير المسلمين وإباحة وكشف الأسرار لهم، وتستبق إلى المقدمة وتكون لها موضوعية في الإصلاح والتدارك عند ثبوت الخطأ في إختيار البطانة لأنها نوع تذكير لمن لم يتقيد باحكامها وسننها.
وتلك آية إعجازية في الأوامر والنواهي القرآنية، فمن لا يعمل بما ورد في الآية من النهي، ويقوم بإختيار وليجة وخاصة من الكفار والفاسقين، ويبتلى بكشف أسراره، وإشارتهم عليه بما هو ضار وخالِ من الفائدة، أو سكوتهم عند الحاجة إلى النصيحة والمشورة الحسنة فانه يتذكر هذه الآية، ويدرك لزوم تقيده بما فيها من النهي، فيبادر إلى التدارك وإبعاد من لا يستحق مقام البطانة والخاصة منه، لأن الآية القرآنية نزلت لتبقى وتكون قريبة من أذهان المسلمين حاضرة في وجدانهم وميادين العمل لا تغادر موضوعها كما ان الحياة اليومية، وعالم الأقوال والأفعال يؤكد صدق الآية، والحاجة العامة اليها ولما فيها من الأوامر والنواهي، ليكون إنتفاع المسلمين من هذه الآية على وجوه:
الأول: التقيد بأحكام الآية، وما فيها من النهي من إتخاذ البطانة والوليجة السيئة.
الثاني: توجه المسلمين بالشكر لله تعالى على نعمة الخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثالث: معرفة حقيقة عقائدية وهي تعقب الأوامر والنواهي والأحكام لهذا الخطاب.
الرابع: عدم وقوع الضرر الفادح على المسلمين عند الإبطاء في الإمتثال للآية، وقد جاء قبل آيات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ومن مصاديقه هذه الآية، فحتى لو قام نفر من المسلمين بجعل خاصتهم من دونهم فانهم سرعان ما يتداركون أمرهم، ويكتشفون لزوم التقيد بأحكام هذه الآية، فيتقيدون بما فيها من النهي قبل فوات الأوان وحصول الخسارة الكبيرة.
قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]
من إعجاز القرآن انه نزل في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صدره، وهو يواجه الكفار في جهاد متصل سواء في مكة أو المدينة، ومع هذا تنزل الآيات التي تدل وتتضمن الإخبار عن علو منزلة المسلمين وانهم خير أمة متجانسة متآخية تتحمل المسؤوليات الجسام، ويتجلى هذا الأمر بما في هذه الآية من النهي المقرون بالبيان والوصف، مع إعتبار موضوعه وما له من الدلالات.
وهذه الآية واقية في موضوع الخاصة والوليجة التي يتخذها المسلمون، ولو لم يكن للمسلمين شأن عظيم ووظائف عقائدية متعددة لما إحتاجوا إلى البطانة والخاصة، ولزوم إنتقائها من بين الناس وفق شرائط عقائدية دقيقة تدل على التعيين وإستدامة التعين.
ومن إعجاز القرآن إقتران النهي بالبشارة العظيمة، إذ ان النهي في هذه الآية يدل بالدلالة الإلتزامية على تبوء المسلمين المنزلة الرفيعة، وقيامهم بالأعمال التي تحتاج إلى الخاصة والإستشارة والنصيحة التي تعود بالنفع عليهم وعلى الناس جميعاً، كما ان المشورة الفاسدة تضر بالمسلمين وبالغايات السامية التي يسعون اليها في إصلاح الناس ودرء المفاسد، ومنع الكفر ومفاهيم الضلالة من الإستحواذ على النفوس والمجتمعات.
لقد جاءت آيات القرآن بنهي المسلمين عن إتخاذ الكفار أولياء، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وجاءت هذه الآية خاصة بموضوع البطانة والخاصة، ونهي المسلمين عن إتخاذ الكفار خاصة ووليجة، ويحتمل النهي سعة وضيقاً أموراً:
الأول: تعلق النهي بالأمور العامة للمسلمين، وشؤون إدارة الحكم والسياسة والإقتصاد.
الثاني: إختصاص النهي بالأمور الشخصية وميل المسلم لغير المسلم، وإتخاذه صديقاً وخاصة.
الثالث: المعنى الجامع للأمور العامة والخاصة.
والصحيح هو الثالث، لأصالة الإطلاق، وإنحلال الخطاب التشريفي في الآية إلى عموم المسلمين وشؤونهم المختلفة، وعدم إنحصاره بشأن دون آخر خصوصاً وان الأمور العامة تؤثر على الأشخاص منهم، وكذا العكس فان الأحوال الشخصية تؤثر على الواقع العام للمسلمين، فكما تخاطب الآية في منطوقها المسلمين على نحو الإتحاد والإشتراك فانها تخاطب كل مسلم على نحو شخصي وتقول له “يا أيها المسلم لا تتخذ بطانة من دون المسلمين” وهذا الخطاب الشخصي على أقسام:
الأول: التقيد بأحكام النهي في الأمور الخاصة والأسرية، والرغائب والنية والعمل.
الثاني: العمل الشخصي بأحكام النهي الوارد في هذه الآية في الأمور العامة بلحاظ مسؤوليات الشخص وتوليته لبعض أمور أو شؤون العامة.
الثالث: تنبيه المسلمين الآخرين إلى وظائفهم بخصوص هذه الآية والعمل بأحكامها، إذ انها تدعو كل مسلم ومسلمة إلى حث إخوانهما من المؤمنين على لزوم العمل بسنن وأحكام هذه الآية الكريمة وما فيها من النهي عن إتخاذ الوليجة والخاصة من دون المسلمين لجهات:
الأولى: تأثير المخالفة الشخصية لأحكام هذه الآية على المسلمين عموماً.
الثانية: عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الثالثة :مجيء الضرر الشخصي على ذات المسلم الذي يتخذ وليجة من غير المسلمين، وتقتضي الأخوة الإيمانية النصح والبيان، والدعوة للعمل بأحكام الآية القرآنية، ولولا هذه الآية ومضامينها لما إستطاع المسلم نصح أخيه المسلم في تعيين البطانة والخاصة، وإجتناب إتخاذ غير المسلم بطانة ووليجة إلا في حالات:
الأولى: حصول الضرر بسبب تلك الوليجة.
الثانية: إقامة البينة الشرعية بإرادة الوليجة والخاصة الإضرار بالمسلمين.
الثالثة: إدراك المسلم المستشير والذي إتخذ وليجة من غير المسلمين المقاصد الخبيثة للوليجة، فجاءت هذه الآية الكريمة للوقاية المركبة، من وجوه:
الأول : يحذر كل مسلم ومسلمة على نحو مستقل من إتخاذ وليجة من دون المسلمين.
الثاني : يقوم المسلمون الآخرون بتحذيره إبتداء وإستدامة، أي قبل أن يتخذ تلك الوليجة وأثناء إتخاذها.
الثالث: الإطلاق في أحكام الآية موضوعاً وزماناً ومكاناً.
الرابع: مجي النهي في الآية بسيطاً خالياً من الترديد.
الرابعة: قيام المسلم بنهي أخيه عن الوليجة من غير المسلمين في المسائل الإبتلائية المهمة، والأمور ذات الشأن العظيم دون الأمور الشخصية والصغائر.
الخامسة: تعاون المسلمين والمسلمات في الإمتثال لأحكام الآيات القرآنية، وإعانة بعضهم بعضاً في التفقه في الدين.
السادسة: منع حصول الضرر العام الذ ي يترتب على الفعل الشخصي، فإذا إتخذ المسلم وليجة من غير المسلمين تأتيه النصيحة والإرشاد من المسلمين الآخرين، لأن النهي وعدم السكوت في المقام برزخ دون حصول الضرر النوعي العام، ولحوق الأذى بالمسلمين.
فمن مفاهيم الآية الكريمة دعوة المسلمين إلى نصح بعضهم بعضاً والمناجاة لعدم إتخاذ وليجة وخاصة من غيرهم، وتتضمن الآية في مفهومها القيام بالنهي عن البطانة الفاسدة، والأمر بالإنتهاء من إتخاذ هذه البطانة لأنها لم تتوجه إلى المسلم في فعله الشخصي وحده بل تتوجه إلى المسلم في فعله وفعل المسلمين الآخرين، ليكون متحصناً ذاتاً، وعوناً لإخوانه المسلمين للعمل بمضامين هذه الآية والإحتراز من البطانة التي تجلب معها الشر والمشقة والعناء الزائد.
فمن فضل الله تعالى على المسلمين تحذيرهم من الوليجة والخاصة من غيرهم، ليكون هذا التحذير والإمتثال له سبباً للتخفيف عنهم، ودفع كثير من وجوه المشقة والعناء، والأذى والضرر الزائد عن المسلمين أمة وأفراداً.
لقد جاءت آيات القرآن بنهي المسلمين عن إتخاذ أولياء لهم من أهل الكتاب، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ] ( )، وفيه دلالة على عدم إتخاذ المسلمين أولياء من الكفار الوثنيين من باب الأولوية القطعية، أما الآية محل البحث فجاءت بخصوص البطانة والخاصة وتحتمل النسبة بين الولاية والبطانة وجوهاً:
الأول: التساوي بينهما، فالبطانة هي ذاتها الولاية لذا جاءت آيات القرآن بالتحذير منهما بعرض واحد.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، فالبطانة جزء من الولاية، وليس العكس.
الثالث: العموم والخصوص من وجه وبينهما مادة للتلاقي، ومادة للإفتراق.
الرابع: التباين بين الولاية والبطانة.
والصحيح هو الثاني فإتخاذ البطانة جزء وفرع من الولاية وإرادة النصرة والمودة والقرب، ومن إعجاز القرآن مجئ آية خاصة بذكر أحكام البطانة والنهي عن إتخاذ غير المسلمين خاصة ووليجة، مع بيان علة الحكم، والأضرار التي يسببها إتخاذهم خاصة ومحلاً للإسرار، ومرجعاً في الشورى والإنصات لرأيهم جماعات وأفراداً، إذ ان النهي لا ينحصر بالأفراد من غير المسلمين، ولزوم عدم إتخاذهم وليجة وخاصة، بل يشمل الجماعات والفرق منهم.
وإذا ما إتخذت فرقة أو دولة من المسلمين بطانة من غيرهم، فقد تكون سبباً لحصول أو زيادة الفرقة والإنشقاق بين المسلمين، وبروز أسس وقواعد للمعاملة والصلات غير معاني الأخوة الإيمانية ومفاهيم الود والمحبة بين المسلمين، فجاءت هذه الآية الكريمة كيلا يبتعد المسلمون عن أحكام الشريعة الإسلامية في فعل الخصومة بينهم، ومعالجتها من الأصل بإزاحة سبب من أسباب الفتنة والمشقة وهو البطانة الفاسدة، والخاصة ذات المقاصد الخبيثة.
وتلك آية إعجازية في القرآن وشاهد على نزوله من عند الله، فلا يستطيع الفرد والجماعة وسط الفتنة الإلتفات إلى إصلاح ذاته والإقرار بما عنده من الخلل والخطأ، ومعرفة مدى موضوعية هذا الخطأ في حدوث الفتنة إبتداء وإستدامة، فجاءت هذه الآية للتنبيه إلى موضوع البطانة والخاصة، وما لها من شأن في مقدمات الفتنة وإستدامتها اذا كانت بطانة فاسدة كما انها تدعو إلى الحذر واليقظة.
وهل يحتاج الفرد او الجماعة خاصة وبطانة الجواب ان مضامين الآية لا تنحصر بالحاجة ولا تدل عليها، ولكنها جاءت لبيان صفة البطانة والخاصة عندما يريد المسلمون إتخاذها ولزوم لحاظ أمور:
الأول: ميل الإنسان بطبعه إلى غيره، وإستئناسه بالغير، وتارة يكون الغير صالحاً يهديه إلى سواء السبيل، وأخرى ينمي عنده ملكة الطمع والتعدي، ويجعل الشهوة والهوى يتغلبان على طباعه ويستحوذان على إختياره ليصاب بالخيبة والخسران.
فجاءت الآية الكريمة للتحذير من البطانة التي لا تنظر إلى مصلحة الفرد والجماعة وما يؤدي إلى إجتناب الخسارة.
الثاني: تقع على المسلمين أعظم مسؤولية تنهض بها أمة من الأمم، وهو من أسباب ومصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم واهل الملل فهم أئمة الناس في مسالك الهداية، وسبل النجاة في النشأتين، ومن تكون وظيفته هذه يجب أن لا يتخذ بطانة وخاصة ممن هو دونه لأنه لا يستطيع الإرتقاء الى مراتب المسؤولية الملقاة على عاتق المسلمين، وتظهر على لسانه وفي أفعاله أمارات الحسد لهم ومن يكون حاسداً لا يصلح لمنزلة البطانة والخاصة لأنه لا يرجو الخير والفلاح للذي يحسده.
الثالث: تخلف غير المسلمين عن الوظيفة العقائدية العبادية للمسلمين وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فجاءت الآية دعوة للمسلمين لإتخاذ بطانة من أنفسهم وبما يجعل موضوعية للأمر من أنفسهم بالمعروف والنهي عن المنكر في المشورة وقول وأثر الخاصة والوليجة.
الرابع: يتحلى المسلمون بأخلاق فاضلة إذ جاءت آيات القرآن بالحث على الصبر والأمانة وإجتناب الغيبة والنميمة والخيانة، وإذا أتخذ المسلم بطانته من إخوانه المسلمين فانهم يحرصون على مصلحته لما مرتكز في أذهانهم من القيم الإسلامية، ومبادئ الفضيلة.
الخامس: قد يحتاج المسلم أو السلطان او القائد بطانة وخاصة يفشي لهم أسراره، ويطلعهم على نواياه وما هو عازم عليه، ويستشيرهم في أموره الخاصة والعامة خصوصاً عند الإلتباس وتداخل المواضيع، وتدافع الخيارات وتسارع الأحداث وظهور المشتبهات فجاءت الآية الكريمة لدعوته ومن معه لإختيار البطانة والخاصة الصالحة من بين المسلمين التي تساعده في إختيار أفضل السبل للنجاة والسلامة والأمن.
ومن إعجاز الآية مجيء صيغة الخطاب فيها بلغة الجمع [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في حين جاء لفظ “بطانة” بصيغة المفرد وفيه دلالة على المسؤولية العامة المشتركة للمسلمين، فاذا إتخذ أحدهم بطانة فكأنهم إتخذوا تلك البطانة خصوصاً وان أضرار بطانة السوء لا تنحصر بمن يتخذها ويدنيها منه، بل تعم المسلمين، وفيه تأسيس لمنهج خاطئ وسنة غير سليمة تضر الأمة، وتؤدي إلى الخلاف والخصومة والفرقة، فيدخل الضرر والأذى كل بيت من بيوت المسلمين.
فجاءت الآية الكريمة ليقوم المسلمون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنع من البطانة السيئة ذات المقاصد الخبيثة وان كانت خاصة بشخص له شأن غير كبير، وجاءت هذه الآية لتضع سنة ثابتة عند المسلمين وهي عدم إرتقاء غير المسلم إلى مرتبة البطانة والخاصة للمسلمين ولو حدث وإتخذ بعض قادة المسلمين بطانة من دونهم فهل تظهر مصاديق هذه الآية، الجواب نعم، ولو بعد حين لتكون عبرة لكل المسلمين ودعوة لليقظة وأخذ الحائطة في باب الخاصة والوليجة.
وتدل الآية في مفهومها على أمور:
الأول: قدرة المسلمين على تعيين البطانة والخاصة، وان مناصب الإستشارة لا تفرض عليهم فرضاً، بل هم الذين يختارون من تجتمع فيه شرائط البطانة والخاصة ، والتي لا تتقوم إلا بدخول الإسلام ، والنطق بالشهادتين.
الثاني: التذكير بنعمة الله عز وجل على المسلمين بجعلهم يختارون بإرادتهم خاصتهم وبطانتهم.
الثالث: بيان صفات البطانة الصالحة.
الرابع: ذكر مصاديق الضرر التي ترد من البطانة الفاسدة، بحصول فرض لبطانة على المسلمين من دونهم، فالجواب من وجوه:
الأول: حصول مثل هذه البطانة بالإكراه، وهو خارج التكليف الذي يشترط فيه الإختيار.
الثاني: عدم إستمرار مثل هذا الفرض والإكراه، وتتضمن هذه الآية في دلالتها التضمنية بشارة عدم حصول مثل هذا الغرض، وان حصل فانه إلى زوال، لأنها جاءت بلغة التكليف والنهي عن فرد مخصوص في البطانة، مما يدل على إرادتهم المطلقة في إختبار البطانة وتعيينها.
الثالث: مصاحبة الحذر والحيطة للمسلمين لما تقوله وتفعله تلك البطانة والخاصة ودفع ما يمكن دفعه من مقاصدها الخبيثة إلى حين التخلص منها.
الرابع: إن فرض بطانة على المسلمين لا تكون على نحو السالبة الكلية، بل تكون جزئية وعلى نفر وعدد من المسلمين لأسباب طارئة متزلزلة غير مستقرة، وبذا فان مضامين وأحكام هذه الآية لا تنقطع في يوم ما من أيام الدنيا بل هي مستمرة، ففي كل زمان ومكان يكون بمقدور المسلمين إختيار البطانة الصالحة، وهو من إعجاز هذه الآية، وإنفراد المسلمين بالتفضيل بين الأمم وأهل الملل، وأفضلية القرآن على الكتب السماوية الأخرى لعدم وجود فترة ينقطع فيها العمل بأحكامه حتى يوم القيامة.
الخامس: فضح النوايا السيئة للبطانة المفروضة على جماعة من المسلمين وهذا الفضح وسيلة للوقاية والإحتراز العام منها.
و”البطانة” مصدر يقع على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.
ويتضمن هذا اللفظ ووروده في موضوع الآية على نحو الخصوص آية إعجازية لما فيه من تحذير وإنذار للمسلمين من إتخاذ خاصة من غيرهم، وتوكيد الأضرار التي يجلبها هذا الفعل بالإشارة إلى إطلاع الخاصة على الأسرار، فقد يظن بعضهم انه يستطيع إتخاذ خاصة من غير المسلمين، ويكون منها على حذر ولا يطلعها على ما عنده من الأسرار والنوايا والعزائم من وجوه:
الأول: جاءت الآية بلفظ “البطانة” الذي يفيد معنى القرب، وهو مأخوذ من بطانة الثوب الذي يلي البدن ويلتصق به، نقيض الظهارة، في إشارة إلى ان الخاصة ترقب الحال، وتطلع على الأسرار سواء بإخبارها أو بالإنطباق وحصول الوقائع قريبة منها.
الثاني: مسألة البطانة أعم من الخاصة، وتشمل المشورة والنصيحة، وكشف الأسرار، وأخذ رأيها فيما يعزم عليه من الأمور خصوصاً التي تحتاج إلى إشتراك الآخرين بآرائهم وخبراتهم، فالإنسان كائن ومخلوق تلازمه الحاجة، ومن وجوه الحاجة اللجوء إلى غيره عند المهمات للإستماع إلى قوله ورأيه، كما يحتاج قول الغير عند إنتهاء العمل وبلوغ الغاية لسماع النصيحة والإعتبار، فالبطانة الصالحة تبين له المنافع والأضرار بمنظار إيماني ووفق قواعد وأحكام الشريعة، أما البطانة السيئة فانها تزين له الظلم وتحثه على التمادي في التعدي، وتبين له المنافع العاجلة، وتحجب أو تخفف عنه الأضرار العاجلة أو الآجلة إلى أن يواجهها وربما يتعذر عليه معها التدارك والإصلاح.
وتبين الآية مسؤولية المسلمين جميعاً في مسألة البطانة وان كانت شخصية وفردية، وتتضمن التحذير من غلبة غير المسلمين على المسلمين في أمورهم وخياراتهم من خلال جعلهم خاصة وبطانة وما فيه من الأضرار العامة.
ومن الآيات الإعجازية في المقام مجيء النهي مقيداً بقوله تعالى [مِنْ دُونِكُمَْ] وتحتمل “من” في الآية وجوهاً:
الأول: التبعيض، فتكون بمعنى بعض، والتقدير: لا تتخذوا بعض الذين هم من دونكم.
الثاني: بيان الجنس، وهي الجارة للتمييز نحو قولك “”كم من حجة أديت” وأكثر ما تكون في المبهمات نحو “ما” و”مهما”.
الثالث: حرف جر زائد، وتفيد إرادة العموم أو توكيده إذا كانت في الكلام قرينة عليه نحو “ما أكلت من طعام” إذ لو قلت: ما أكلت طعاماً، لكان العموم معلوماً من كلمة طعام، ولا تأتي “من” زائدة إلا في حالات، وبشروط مخصوصة هي:
الأول: زيادتها في الفاعل والمبتدأ والمفعول به.
الثاني: مجيؤها بعد إستفهام أو نهي أو نفي.
الثالث: أن يكون مجرورها نكرة.
والصحيح هو الأول والثاني، فان “من” تفيد التبعيض، وبيان الجنس والصفة، ولا تعارض بينهما، كما ان الجمع بينهما يفيد نكتة وهي إرادة العموم والخصوص معاً، فليس من أهل ملة أو أفراد من غير المسلمين يخرجون بالتخصص أو التخصيص من هذا الحكم الذي يفيد الشمول والإطلاق، وفيه وجوه:
الأول: انه نوع تخفيف عن المسلمين في معرفة مضامين الحكم وشموله لغير المسلمين من غير إستثناء.
ومن إعجاز الآية انها تضمنت الحصر والإطلاق في آن واحد، والحصر في موضوع النهي.
لقد قيدت الآية البطانة المنهي عنها بانها “من دون المسلمين” وفيه منع للبس والترديد والإجمال، ويحتمل النهي أمرين:
الأول: المراد من غير المسلمين من أهل الملل الآخرى.
الثاني: المقصود من هم أدنى مرتبة ومنزلة من المسلمين سواء في العقيدة أو الولاء أو في المعارف والعلوم والحسب.
ولا تعارض بين الوجهين، وهو من إعجاز اللفظ القرآني ومناسبته للموضوع والحكم، فالآية وان جاءت بخصوص البطانة والخاصة إلا أنها تتضمن مسائل:
الأولى: علو ورفعة المسلمين وعدم بلوغ أهل الملل الآخرى منزلتهم ودرجتهم، وهو من أسباب تخلف الآخرين عن نيل مرتبة البطانة للمسلمين.
الثانية: بيان مراتب الناس، وتمنع الآية من إدعاء غير المسلمين التفضيل.
الثالثة: في الآية دلالة على ان تفضيل بني إسرائيل خاص بأهل زمانهم دون الأزمنة اللاحقة، لشمول النهي فيها إتخاذ المسلمين لليهود وليجة وبطانة، أما اليهود الذين أسلموا فانهم من الأمة التي فضلها الله على الناس جميعاً، وفازوا وأبناؤهم بمراتب التفضيل.
الرابعة: الآية من مصاديق تفضيل المسلمين على الأمم الآخرى إذ وصفت غيرهم بانهم أدنى منهم، وأقل رتبة وشأناً.
الخامسة: في الآية بشارة سيادة الإسلام، وإنتشار مبادئه وإتساع رقعة حكمه، ومن الشواهد ورود حكم دفع أهل الكتاب للجزية ليكونوا في ذمة الإسلام والمسلمين.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الإنسان محباُ لنيل المراتب العالية في الجاه والمال والشأن، ويبذل وسعه للإرتقاء في منازل الحياة الدنيا، فجاءت هذه الأية لتخبر المسلمين بأنكم الأعلى في الرتبة والشأن، قال تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ] ( )، وفيه إشارة إلى لزوم إجتناب بطانة السوء التي تبعث على الضعف والهوان، وتدعو الغزاة إلى القعود.
والآية رحمة للناس جميعاً بفتح سلم الإرتقاء وبلوغ المنازل العالية بالإنتماء للإسلام ونبذ الكفر والجحود.
السادس: دعوة المؤمنين إلى نبذ الفرقة والتباين بينهم، فالعلو والرفعة سور جامع لهم جميعاً، ومما عداهم دونهم رتبة.
وإذ أختتمت الآية السابقة بذكر ظلم الكفار لأنفسهم وعدم كفاية أموالهم عنهم، أفتتحت هذه الآية بتحذير المسلمين من إتخاذ الكفار وليجة وخاصة، ليتصف المسلمون بخصوصية وهي عدم ظلمهم لأنفسهم بتوفيق من الله عز وجل وإجتنابهم البطانة من غيرهم، وفيه شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الآخرى.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إمامة الناس نحو سبل الهداية والرشاد، فجاءت هذه الآية بعصمتهم من ظلم النفس في باب البطانة والخاصة والمشورة قال تعالى في مدح المسلمين [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ).
ومن الإعجاز ان لفظ “شورى” لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية، ومع هذا سميت السورة بكاملها بها، وفيه دلالة على موضوعية الشورى في حياة المسلمين، وأهمية تقيدهم بآدابها وقواعدها لذا وردت الآية بقيد “بينهم” أي ان التشاور في الأمور العامة لا يكون إلا بين المؤمنين لتكون الشورى وسيلة لجلب المنافع ودفع المفاسد والسلامة من ظلم الذات والغير، وإذ نعتت الآية السابقة الذين كفروا بأنهم ظالمون لأنفسهم، فإن الظالم لا يصلح أن يكون وليجة وبطانة.
الرابع: لقد جعل الله عز وجل المسلمين أغنياء بالتوحيد والإقرار بالعبودية المحضة له سبحانه، قال تعالى [ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] فجاءت الكفاية الإلهية في المقام بنهي المسلمين عن إتخاذ خاصة وبطانة من غيرهم مع بيان علة النهي والأضرار الجسيمة التي تسببها تلك البطانة، وتلك الأضرار غير منحصرة باتخاذها بطانة بل هي تسعى للإضرار بالمسلمين في كل الأحوال، فاذا إتخذها المسلمون بطانة ووليجة فانها ستقوم بالإضرار بهم من الداخل، وهذا الإضرار أكبر بكثير من مجيء الضرر من الخارج والعدو المكشوف، لذا فان الآية رحمة إضافية بالمسلمين بإنذارهم من قيام عدوهم بمحاربتهم بسيوفهم، وإشعال نار الفتنة والخصومة بين المسلمين، ومحاولة تعطيل بعض الأحكام والسنن بذرائع واهية.
وهل يشمل النهي المنافقين ولزوم عدم إتخاذ المؤمنين لهم وليجة وبطانة، الجواب نعم، وهو من أسرار ورود لفظ(من دونكم) ولابد من تعيين المراد بقوله تعالى في أول الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه وجهان:
الأول: إرادة المسلمين والمسلمات جميعاً الذين نطقوا بالشهادتين وأعلنوا التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، فالمراد جميع الناطقين بالشهادتين ممن آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المؤمنون الذين آمنوا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقلوبهم وجوانحهم، وبين المسلمين وبينهم عموم وخصوص مطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس.
والصحيح هو الأول، فالخطاب عام للمسلمين والمسلمات جميعاً بتحذيرهم من البطانة السيئة والوليجة من غير المسلمين، لذا يشمل التحذير والنهي المنافقين بان لا يتخذوا بطانة من غير المسلمين، فتشملهم أحكام الآية الكريمة لنطقهم بالشهادتين، وفيها إعانة لهم، وحاجب دون تماديهم في النفاق عند إتخاذ بطانة السوء، لأن إتخاذ المنافق بطانة من أهل الكفر يزيده نفاقاً، بينما لو عمل بأحكام النهي الوارد في هذه الآية فانه يختار البطانة الصالحة من المؤمنين التي تساعده على التخلص من النفاق.
فان قلت لو قام المنافق بإتخاذ منافقاً آخر بطانة له، قلتُ: ان الآية جاءت لعامة المسلمين ، ومنهم أولوا الحل والعقد والحكام والرؤساء والعلماء ، ومسألة المنافق مسألة محصورة وشخصية لا تضر بالنفع العام لتقيد المسلمين وقادتهم بأحكام هذه الآية وجاءت الآية للنهي من إتخاذ المنافق لمثله بطانة لدلالة الآية في مفهومها على خصائص البطانة الصالحة والتي يخرج منها المنافق بالتخصيص.
ومن الإعجاز ان الآية بينت علة النهي وان بطانة السوء لا تقصر في فساد أمر من يدنيها ويجعلها قريبة منه، فلو إتخذ المنافق منافقاً آخر وليجة له فانه يدرك الضرر بسعي الوليجة لإفساد أمره، وقد جاءت آيات القرآن بالتحذير من المنافقين مطلقاً.
وهل يمكن القول بجواز إتخاذ المنافقين بطانة، وأن النهي خاص بالكفار، الجواب لا،فلايجوز إتخاذ المنافق بطانة وخاصة وإن إظهر الإسلام.
ولقد إستشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبدالله بن أبي سلول وهو رأس المنافقين قبل الخروج إلى أحد، فأشار عليه مثل مشورة الأنصار ، إذ قالوا له”يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا”( ).
ولكن ابن أبي سلول إنهزم بأصحاب يوم أحد عند لقاء الكفار بغضاً وإضعافاً لجيش المسلمين، ولقد جاءت الآيات القرآنية بالتحذير من المنافقين ولزوم جهادهم وعدم طاعتهم ، قال الله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، وقال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
ومن تكون هذه سجاياه فلا تجوز إستشارته وإتخاذه بطانة، نعم تمنع الآية المنافقين من إتخاذ بعضهم أو الكفار بطانة، فعلى المنافق أن يتخذ المؤمن بطانة لأن فيه صلاحه وهدايته، وهو وسيلة لنجاته وتخلصه من النفاق على نحو دفعي أو تدريجي، وهو من إعجاز الآية ، وأسرار الأوامر والنواهي القرآنية، وما فيها من المنافع العامة، وأسباب الصلاح والهداية للناس جميعاً، لتكون شاهداً على حاجتهم للقرآن ، وأن آية البطانة رحمة متصلة ومتجددة بهم، ومدرسة للإعتبار والإتعاظ.
ولم تقل الآية “لا تتخذوا من دونكم بطانة” بل قدمت البطانة على من دونكم “وقال سيبويه: أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، فجاء النهي بخصوص البطانة وحصر النهي فيها عن الكفار والمنافقين، ولكن للتقديم معان عديدة.
ومن وجوه تقديم بطانة على قوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] وجوه:
الأول: تأكيد موضوع البطانة والحاجة اليه أو الإبتلاء فيه.
الثاني: عدم ورود النهي عن البطانة مطلقاً بل جاء بخصوص فرد مخصوص متعلق بالغير.
الثالث: بيان الذين يجب الحذر منهم في البطانة وفي غيرها.
الرابع: الأهم هو البطانة وجاءت الآية لبيان صفة البطانة بذكر الذين لايجوز إتخاذهم بطانة.
الخامس: تدل الآية في مفهومها على جواز إتخاذ بطانة من غير الذين ذكرتهم الآية.
السادس: من إعجاز الآية تقديم لفظ بطانة لأنه موضوع الآية.
السابع: تنبيه المسلمين إلى أحكام البطانة، وفي تقديم لفظ بطانة دعوة لهم للإلتفات إلى موضوعها.
الثامن: جاءت الآية بالتقييد بعد الإطلاق، في دلالة على عدم حرمة إتخاذ البطانة إلا بخصوص فرد منها وهو البطانة من غير المسلمين.
التاسع: مناسبة الآية لقواعد البلاغة والفصاحة، وهو من إعجاز القرآن.
العاشر: المنع من التعدد في تأويل الآية، مما يدل على حاجة المسلمين للعمل بأحكامها، وعدم التفريط بسننها.
الحادي عشر: بعث اليأس في نفوس الكفار من الوصول إلى منزلة البطانة للمسلمين.
فجاءت الآية صريحة في تعيين الفرد المنهي عنه في باب البطانة مع تعدد وكثرة مصاديقه الخارجية من وجوه:
الأول: كثرة أهل الكتاب والكفار عموماً.
الثاني: تعدد المواضيع التي يحصل فيها إتخاذ البطانة.
الثالث: كثرة المسلمين، وتوليهم لمسؤوليات عظيمة في إدارة شؤون الحكم والمجتمع والتجارة وغيرها مما تتفرع معه الحاجة إلى البطانة والمشورة والإستعانة.
الرابع: إنتشار المسلمين في عموم الأرض، وشعورهم بلزوم الإستعانة بأهل البلد الأصليين في المعاملات ونحوها، فجاءت هذه الآية لتؤكد موضوعية الإنتماء للإسلام في المقام، وإجتناب غير المسلم في موضوع الوليجة والخاصة.
الخامس: نظم الآية وإتصال هذا الشطر منها بما بعده والذي جاء بصيغة الجمع “لا يألونكم خبالاً”.
السادس: بيان إرادة الجنس والجمع من لفظ البطانة.
وقد ورد قوله تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ]( )، فهل من تعارض بين الآيتين بخصوص الذين لم يقاتلوا المسلمين الجواب لا، للتباين الموضوعي بينهما، فهو ليس من تقديم الخاص على العام، بل ان البر والإحسان أعم، وجاءت آية البطانة بالنهي في موضوع مخصوص عما في إستبطان غير المسلم من الضرر والأذى على المسلمين.
ان عدم إستبطان غير المسلم بر به، ودعوة له للصلاح، وبرزخ دون زيادة إثمه وإتخاذه مقام البطانة للإضرار بالمسلمين.
قانون إستدامة العمل بالقرآن
لقد أراد الله تعالى للقرآن البقاء والإستدامة، وملازمة الناس في الحياة الدنيا من غير تحريف أو تغيير أو تبديل، وتلك نعمة عظيمة على الناس، وآية في الإرادة التكوينية والتشريعية، وشاهد على تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم، بإعتبار انهم جنود لحفظ وتعاهد القرآن، ومن وجوه تعاهد القرآن:
الأول: تلاوة آيات القرآن، ومن الآيات في منافع القرآن عدم إنحصار التلاوة مكاناً وزماناً خصوصاً، وانها تشمل أقساماً:
الأول: التلاوة الواجبة وهي التي تكون جزء من الصلاة سواء كانت الصلاة واجبة أو مستحبة، ومن الآيات في حفظ آيات القرآن تعدد وجوب قراءة المسلم لآياته في كل يوم.
الثاني: التلاوة المستحبة، وليس من حصر لهذه التلاوة ومواضيعها، وهي نهر جارِ لإغتراف الحسنات، وإعداد النفس والجماعة في سبل الخير والصلاح، وواقية من المهالك.
الثالُث: تلاوة المسلمين القرآن لحفظه عن ظهر قلب كلاً أو جزء، وما فيه من الأجر، مع جعل موضوعية لكل من:
الأول: حث وترغيب الناشئة ذكوراً وإناثاً وعامة المسلمين على حفظه.
الثاني: إنشاء المدارس الخاصة بوظيفة حفظ آيات القرآن، وعدم الوقوف عند المبادرات الأسرية والفردية والحوافز الخاصة.
الثالث: إعتبار حفظ وتفسير القرآن في الإمامة والوظائف الشرعية، والتلاوة بلحاظ القراءة في المصحف على شعبتين:
الأولى: التلاوة عن ظهر قلب، ومن غير مطالعة في المصحف.
الثانية: التلاوة والقراءة بالمطالعة والقراءة في المصحف الشريف.
وكل شعبة رديف للأخرى، ومقدمة وظهير لها، فمن الآيات في القرآن عدم وجود تعارض بين قراءة آياته عن ظهر قلب وقراءتها في المصحف لذا وردت الأحاديث بإستحباب كل فرد منهما، مع ما في القراءة في المصحف من الأجر والثواب الإضافي بالنظر الى المصحف، ومطالعة الحروف والكلمات التي نزلت من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويحتاج المسلمون كلاً من التلاوتين، وتساهمان متحدتين ومتفرقتين في حفظ وتعاهد القرآن في ألفاظه وكلماته ومعانيه ومضامينه القدسية، ومن الآيات ان تجد نسخ المصحف تطبع بأعداد يصعب إحصاؤها أو تتبع عددها وأماكن إستنساخها، وتتخذ من وسائل الطباعة الحديثة وسيلة لمضاعفة نسخ القرآن ووصوله الى كل مسلم ومسلمة في حجة على المسلمين في لزوم حفظه وتلاوته.
ومن صيغ حفظ القرآن العمل بأحكامه، وينفرد القرآن من بين الكتب السماوية بحرص المسلمين على العمل بما في آياته من الأحكام والسنن وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس وتعاهدها لكتاب الله.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة في النشأتين فهداهم الى العمل بالقرآن كوسيلة لحفظه وبقائه حياً غضاً كيوم تنزيله فمع العمل المتصل بالحكم القرآني فانه باقِ ولا يطرأ عليه تغيير أو تبديل سواء في النص أو المضمون.
ومن الآيات ان عمل المسلمين بالقرآن لا ينحصر بآيات الأحكام وحدها، بل بكل آيات القرآن، وما فيها من المضامين القدسية، فهم يعتبرون من أخبار الأمم السالفة، ويتعظون من قصص الأنبياء السابقين، ويأخذون الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة من آيات القرآن.
أن أصل حفظ القرآن هو بفضل من الله تعالى قال سبحانه [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، ويأتي حفظ المسلمين لآيات القرآن حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ونعمة من نعم الله عليهم، لأن القرآن أمانة السماء في الأرض، ولواء عقائدي نزل من عند الله عز وجل بواسطة جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتلاه وعمل بأحكامه، وسلمّه لأهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار، لينقلوه بأمانة الى التابعين، ثم يقوم كل جيل من المسلمين بتسليمه الى الجيل اللاحق، مع التداخل بين الأجيال في تعاهده وحمله والعناية به وحفظه، ويدرك كل مسلم ومسلمة ان حمل وحفظ القرآن لا ينحصر بتلاوة آياته عن ظهر قلب بل يشمل العمل بأحكامه، والتقيد بسننه، ويقرون بحاجتهم العامة والخاصة لهذا العمل المبارك.
ومن الآيات ان القرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا التفسير الذاتي عون للمسلمين في حفظ القرآن، والرجوع لآيات عديدة في العمل بآية من آياته لما فيها من البيان والتفسير وأسباب طرد الشك والوهم.
ومن خصائص المسلمين وتفضيلهم على الأمم الأخرى بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] رجوعهم الى القرآن في السراء والضراء، وعند السلم والحرب وإقتباس الدروس والعبر منه وإتخاذه إماماً وقائداً وفيه حفظ للقرآن وآياته، وهو مناسبة كريمة للعمل بأحكام هذه الآية.
فحينما جاءت هذه الآية بنهي المسلمين عن البطانة من غيرهم فانها لم تترك المسلمين بلا بطانة أو خاصة.
فالقرآن بطانة سماوية لكل مسلم، وهو مستشار أمين للمسلمين في أحوالهم المختلفة إذ ان أحكام آياته تحيط بالميادين المختلفة، والمواضيع المتعددة وفيه تبيان لكل شيء لتكون بطانة المسلمين على أقسام ثلاثة هي:
الأول: البطانة التي تتخذ من عامة المسلمين، ومن أهل الدراية والخبرة وأرباب الحكمة.
الثاني: أسرة وأهل المسلم الذين يشاركونه في النفع والخسارة، ويحرصون على سلامته من الآفات وإجتنابه للأضرار.
الثالث: آيات القرآن التي تكون بطانة وخاصة، وتكون إماماً ومرشداً للمسلم في حياته العملية، الخاصة والعامة.
ومن الآيات ان القسمين الأول والثاني أعلاه يرجعان الى القسم الثالث، ولا يرجع القسم الثالث لهما، ليبقى القرآن بطانة وخاصة مباشرة وبالواسطة ويلجأ إليه صاحب الأمر وصاحب المشورة، والخاص والعام وفيه السلامة والأمن والغنى والإستغناء والكفاية، فيتجدد شكر المسلمين لله تعالى على نعمة القرآن، ويحرصون على حفظ آياته لأنه حرز وواقية، ومانع من الضلالة والغي.
ومن أسرار حفظ المسلمين للقرآن وأسباب الرغبة العامة في حفظه وتعاهده ورود آيات منه بصيغة المثل مع تعلق المثل القرآني بأحكام وأمور الدين والدنيا، وملائمة المثل القرآني لواقع وأحوال الناس في العبادات والمعاملات، وموضوعية المثل القرآني في مستحدثات المسائل، ومنافعه في باب الإعتبار والإتعاظ وإتخاذه دليلاً وهادياً ومعلماً وبما يغني عن الخاصة والبطانة من غير المسلمين، ويساعد في صدور المسلمين عن القرآن في شؤونهم العامة والخاصة، ومن منافع هذا الصدور وجوه :
الأول: إنه وسيلة مباركة لحفظ آيات القرآن
الثاني: الرجوع إلى القرآن برزخ دون تحريف معاني آياته وما لها من الدلالات.
الثالث: الصدور عن القرآن مناسبة لتلاوة آيات القرآن وإستحضارها في الأذهان والواقع العملي.
الرابع: إنه مانع من نفاذ أعداء الإسلام الى قلوب المسلمين والإطلاع على أسرارهم.
الخامس : إنه شاهد على إستدامة العمل بالقرآن، وكون هذه الإستدامة وسيلة لحفظ آيات القرآن من الضياع.
السادس : فيه مادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان لموضوع كل فرد منهما.
السابع: إنه سنة ثابتة عند المسلمين في أجيالهم المتعاقبة يترشح منها الخير والبركة والسلامة من الآفات.
قانون البطانة والفتنة
تأتي الفتنة بمعنى الإختبار والإمتحان، يقال فتنت الذهب في النار، إذا إختبرته لتعلم هل هو خالص أم مخلوط بغيره من المعادن، وتأتي الفتنة في الإصطلاح بمعنى أخص، ويراد منها البلاء والخصومة التي يترشح منها الضرر والعام والتي ليس له سبب معتبر، ويدخل الفرد والجماعة الفتنة مع المناجاة والولاء لجهة أو رأي أو طائفة، وتتلقى هي والخصم خسائر عديدة من غير مسوغ شرعي في الغالب.
ولا يخرج أحد الطرفين من الفتنة منتصراً، لذا جاءت الآيات القرآنية من التحذير من الفتنة وأسبابها، وفضحت الذين يريدون إفتتان المؤمنين، وهو وجه من وجوه إعجاز القرآن، وحصانة عقائدية وعسكرية للمسلمين قال تعالى [وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ] ( ).
وجاءت هذه الآية لتحذير المسلمين من الفتنة والإفتتان من جهة الخاصة والبطانة، إذ تتضمن لزوم الحذر من الكفار ودعوة المسلمين لعدم إتخاذهم خاصة وبطانة ووليجة، فقد تحصل الفتنة بين فرقتين أو قبيلتين من المسلمين، ولا يلتفت كل طرف إلى خطأه في بداية وإستدامة الفتنة، وموضوعيته في إشعال فتيلها، ولا يرجع إلى أصل هذا الخطأ لأنه لا يقر أو يعترف بخطأه، ويظن كل طرف أنه على حق إبتداء وإستدامة، وانه في حال إنتزاع الحق أو الدفاع، فتضمنت هذه الآية الكريمة ذكر موضوع البطانة الفاسدة، والدعوة إلى الإلتفات إلى موضوعيتها في الخطأ الذاتي في إشعال نار الفتنة.
ومن الآيات ان موضوع هذه الآية لا ينحصر بمراجعة كل طرف لبطانته وما لها من الشأن في الفتنة، بل انها تدعوه وتدعو كل المسلمين إلى معرفة حال الخصم والطرف الآخر وما لبطانته من السعي الخبيث في الفتنة وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( ).
ومن صيغ الصلح تغليب الحكمة والعقل على الهوى والغضب، وبيان مبغوضية الفساد، وذم المفسدين، والدعوة إلى الأخوة والود، ونبذ الخصومة، وطرد الكدورة، وفضح المشورة الفاسدة، والبطانة التي تريد الضلالة والغواية، ويعجز الإنسان عن إدراك وظائف الآية محل البحث في منع الفتنة والقضاء عليها، لكثرة وعظم تلك الوظائف ومنها:
الأولى: الآية واقية من مقدمات الفتنة ومانع من المناجاة بالباطل، فتلجأ البطانة السيئة إلى التغني بأمجاد الجاهلية، وتؤكد على الطمع والشره والسعة على حساب الآخرين وتزيين الباطل، ذي المنفعة القريبة الظاهرة.
الثانية: تدعو البطانة الفاسدة إلى الإستهزاء بالطرف الآخر وان كان قريباً وصديقاَ مما يسبب نفرته، ويحول دون الإنتفاع منه، فتأتي هذه الآية لتدعو المسلم حاكماً كان أو ذا شأن ومال وجاه إلى الإنتفاع من الغير، وزيادة أواصر القرب مع الآخرين، والحرص على دوام صلة الرحم عند المسلمين.
الثالثة: إذا كانت البطانة من غير المسلمين فانها تبني مقامها وشأنها مع الشخص والجهة التي إتخذتها بطانة من غير إعتبار لقواعد وسنن الشريعة الإسلامية، ومن الأمور المهمة في الإسلام الحفاظ على مبادئ الإسلام، وسنن الشريعة.
الرابعة: بينت الآية بوضوح غايات البطانة الفاسدة وإرادتها الخبال والفساد والمشقة للمسلمين عموماً، فقد يتخذ سلطان تلك البطانة فيعود الضرر على المسلمين جميعاً، فجاءت الآية لتنبيهه والمسلمين جميعاً من هذه البطانة وتدعوه إلى التمحيص في قولها ورأيها، والإعراض عنها، وإجتناب العمل بأقوال الخاصة التي تؤدي إلى الفساد وإستدامة الفتنة.
الخامسة: الآية عون للمؤمنين الذي يسعون في إصلاح البين بين المتخاصمين والمتقاتلين من المسلمين بتعطيل قول وأثر البطانة السيئة، وفضح نواياها ومقاصدها الخبيثة.
انها مدرسة القرآن الجامعة التي تتضمن الوقاية والعلاج في موضع واحد من القرآن، فمن إعجاز القرآن ورود الآية الواحدة لتكون وقاية وعلاجاً لأكثر من موضوع من غير تعارض بين المنافع والأغراض الحميدة لها، فلا غرابة ان ترى كلمة “بطانة” وكلمة “من دونكم” لم ترد في القرآن إلا في هذه الآية، وكأن فيه أمارة على إكتفاء المسلمين بهذه الآية للإحتراز من البطانة السيئة، ومعالجة الأضرار الناجمة من إتخاذها، وسبل النجاة والسلامة منها.
ومن خصائص الآية القرآنية أنها تغلق باب الفتنة والضرر، وتبقي باب التدارك وجني الثمار والمنفعة مفتوحاً ومتصلاً، وجاءت هذه الآية لمنع الكفار من التأثير على المسلمين بالتحريض للفتنة وتهيئة مقدماتها، وبذل الأموال والقروض والإعارة من أجل وقوعها ولحوق الضرر بالمسلمين بالخصومة فيما بينهم أو بالخصومة والقتال مع غيرهم، وتقديم السيف على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وتسعى البطانة الفاسدة لمنع حل المنازعات بالرجوع إلى القرآن والسنة، والقواعد الشرعية العامة، وتحاول تنمية الحرص والشره والإصرار والعناد.
فجاءت هذه الآية الكريمة لتخفف عن المسلمين ، وتطرد عنهم أسباب المشقة والعنت التي تترشح من أقوال وآراء البطانة السيئة، وتهديهم إلى أمور:
الأول: موضوعية البطانة وأثرها في الوقائع والأحداث، وعلى النفوس، إذ تستطيع ان تسبب المشقة والضرر او التخفيف والغبطة والسعادة.
الثاني: لزوم إلتفات المسلمين عند مقدمات الفتنة ووقوعها إلى نوع البطانة والخاصة، وهل تسعى لغايات حميدة أو تضمر البغضاء والحسد.
الثالث: إختيار البطانة من بين أهل الإيمان لسور الموجبة الكلية الذي يتغشى الجميع وهو الحرص على مبادئ الإسلام، وسلامة دولته، وعز المؤمنين.
الرابع: تكشف الآية حقيقة إعجازية في حياة المسلمين العقائدية والسياسية والإجتماعية، وهي محاصرة الفتنة لو وقعت بينهم، لأنها تكشف عن علة وسبب من أسبابها وتهاجمه وتدعو للتخلص منه وهو البطانة السيئة، وفيه طرد للغفلة عن المسلمين ودعوة للنظر إلى الأمور بلحاظ قانون السببية، والعلة والمعلول ليأتي الحل كاملاً، وبرزخاً دون تكرار الفتنة وعودة الإفتتان من جديد، وليظهر الإسلام والمسلمين من الفتنة أكثر قوة ويقظة.
قانون البطانة
جاءت هذه الآية القرآنية خاصة في موضوع “البطانة” لتبقى وثيقة سماوية ثابتة في الأرض أبداً، تبعث إشراقات عقائدية في موضوعها وما له من الأحكام التي لا تقبل النسخ والتغيير، ولا تجد آية أخرى في القرآن تتزاحم أو تتعارض معها في موضوعها، كما انه ليس في السنة النبوية ما يفيد خلافها، فهي مدرسة جامعة تتضمن بيان نوع البطانة والوليجة التي يتخذها المسلمون، وتحذر من البطانة غير المسلمة التي لا تريد الخير والإرتقاء للمسلمين.
ومع ان الآية جاءت بالنهي الصريح عن نوع مخصوص من البطانة فانها تأديب وإرشاد للمسلمين إلى يوم القيامة، ودعوة لترسيخ معاني النبوة الإيمانية، وطرد أسباب النفرة والشك والريب بينهم وباعث على الأخلاق الحميدة، وأداء وظائف الوليجة والبطانة وفق أحكام الشريعة.
وقيل في علم الأصول بقاعدة هي النهي عن الشيء أمر بضده، والنهي عن إتخاذ بطانة عن الكفار أمر بجعل المسلم بطانته من المسلمين مع بيان وظائف المسلم الذي يتخذ بطانة لتكون معلومة عند الجميع، إذ جاءت الآية بذكر علة حجب مقام البطانة عن الكفار لأنهم يسعون في إفساد أمور المسلمين، ويرجون مشقتهم وعناءهم، فلابد أن يكون المسلم الذي يتخذ وليجة وبطانة عارفاً ومتصفاً بالحكمة، عالماُ بأحكام الشريعة، ولو على نحو الإجمال بحيث يستطيع الفصل والتمييز بين الحق والباطل، والنافع والضار، ويحب لمن إستأمنه وإستبطنه في أموره ما يحب لنفسه من الخير والفلاح.
وتبين الآية حقيقة وهي ان موضوع البطانة ليس قضية شخصية وموضوعاً محصوراً بالمنافع الخاصة، بل هي موضوع عام يهم المسلمين جميعاً من وجوه:
الأول: ما يخص المسلم من الأمور يؤثر على غيره من المسلمين.
الثاني: جاءت الآية بصيغة الجمع في الخطاب مما يدل على موضوعية الإختيار في البطانة التي يتخذها أولياء أمور المسلمين، وأرباب الشؤون العامة.
الثالث: ان إختيار البطانة الصالحة من مصاديق العز في الدنيا، لما فيها من الإرشاد إلى القول السديد، والفعل الصحيح، وإجتناب العثرات والزلات، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] فأنعم الله عز وجل على المسلمين بالهداية إلى البطانة الصالحة لكي يبقوا في منازل العز والرفعة إلى يوم القيامة.
ومن خصائص خير أمة أخرجت للناس تتعاهد أسباب ومقدمات العز بفضل من الله تعالى، ومنها نزول القرآن بتعيين البطانة والخاصة التي تلائم المسلمين في صلاحهم، وما عليهم من المسؤوليات العقائدية العظيمة في أنفسهم وأهليهم وتجاه الناس جميعاً لتترشح منافع البطانة الصالحة على المسلمين وغير المسلمين، ومنهم الذين جاءت الآية بالنهي عن إتخاذهم بطانة وخاصة.
فمن منافع البطانة الصالحة هدايتهم إلى الإسلام، ومنعهم من الإضرار بالمسلمين، ودعوتهم لرؤية الآيات والبينات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في مضامينها ومعانيها القدسية.
الرابع: تساهم البطانة الصالحة في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتمنع من غلبة النفس الشهوية والغضبية، وتنظر إلى الأمور بميزان العدل والإنصاف، وتسعى لمنع الظلم والتعدي وتحارب بلطف دور الغرور والزهو والكبرياء، وتعمل جاهدة لإيجاد آذان صاغية للحكمة.
لقد جاءت هذه الآية الكريمة لتأسيس القواعد والقوانين الخاصة بموضوع وأحكام البطانة إلى يوم القيامة، وفيه دعوة للناس جميعاُ إلى معرفة المنزلة الرفيعة للمسلمين عند الله عز وجل بأن خصهم بنعمة عظيمة وهي هدايتهم إلى البطانة الصالحة، ولزوم العناية والإهتمام بشأنها وسنن إختيارها بصيغة الأمر والنهي.
فمن الآيات ان أحكام البطانة لم ترد بصيغة الجملة الخبرية وما يتضمن إحتمال التأويل المتعدد، وحمل النهي في الآية على الكراهة التي هي من أفراد الجواز، بل جاءت بالنهي الذي يتضمن المنع، والحرمة التكليفية والتشريعية، ليبقى موضوع البطانة الصالحة أمانة شرعية بيد المسلمين، وعهداً عهده الله عز وجل اليهم طبقة بعد طبقة، وجيلاً بعد جيل، ومدرسة ينهل منها العلماء والرؤساء والقادة في الفتوى، وقضايا الحكم، وفنون الإدارة وميادين الحرب والسلم.
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تنه عن البطانة مطلقاً ولا تدع الذي يتخذ بطانة سيئة ويرى أضرارها يعرض عن موضوع البطانة ويستغني عنها تماماً، بل انها تبين له علة الخطأ، وتحثه على التدارك، وتهديه إلى سواء السبيل بالرجوع إلى القرآن، والصدور عن هذه الآية وما فيها من النهي الذي يدل في مفهومه على جعل موضوعية للتعيين في فرد وجنس البطانة.
فمن إعجاز الأوامر والنواهي القرآنية النفع العام المتصل إبتداء وإستدامة وتداركاً، بأحكام ثابتة لا تهجر أو تعرض عمن يبتعد عنها ولا يمتثل لها، بل انها تستمر في دعوته وإصلاحه وتأهيله للعمل بها، وتساعدها الوقائع والأحداث إذ أنها شاهد عملي على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل لما فيها من المصداق العملي لمضامين الآية.
لقد جعلت هذه الآية موضوع البطانة قانوناً ثابتاً في حياة المسلمين وحددت فيه معالم وصفات البطانة التي يجب أن يحرصوا عليها، وصفات القبح التي تجعلهم يجتنبون إرتقاء صاحبها لمرتبة بطانة المسلمين، وفي الآية بيان للمنزلة الرفيعة التي ينالها من يتخذه المسلمون وليجة وبطانة، والوظيفة والمقام الذي تجعل له شرائط من السماء، وتكون باقية إلى يوم القيامة وذات شأن عظيم، على الناس الإجتهاد لبلوغه، ونيله بإعتباره مرتبة مباركة فيها خير الدنيا والآخرة، وجاءت هذه الآية بذكر الموانع التي تحول دون بلوغ شطر من الناس لمرتبة البطانة الصالحة للمسلمين، وهذه الموانع ليست قهرية بل إنها ذاتية، إختارها الإنسان بنفسه، وأهمها الكفر بالله والنبوة فإنه حاجز دون نيل مرتبة البطانة للمسلمين، ويترشح عن الكفر البغض والعداوة للمسلمين.
فجاءت الآية حرباً على الكفر بالترغيب بمنزلة البطانة للمسلمين لمن يتخلص منه ويتجه إلى الله، ويدخل الإسلام مؤمناً بالله ورسوله، لتكون الآية تأديباً وإرشاداً للناس ودعوة للصلاح والهداية، فمع انها خطاب للمسلمين إلا أنها دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام وبدل ان يكونوا متخلفين عن مرتبة الوليجة يصبحون بالنطق بالشهادتين أهلاً لمرتبة الوليجة وما فيها من الشرف العظيم، ومخاطبين بالآية الكريمة لإختيار الوليجة الصالحة، وكم من شخص أسلم وأحسن إسلامه فبلغ المراتب العالية في الإسلام في باب الحكم والقضاء والقيادة والوزارة وهو من الشواهد العملية على أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، يستطيع كل فرد منها أن يبلغ المراتب العالية بالتقوى والصلاح.
فهذه الآية تدعو الفرد لدخول الإسلام كي يستطيع الإقتراب من المقامات السامية ويكون له قول ورأي مسموع، وما تمر الأيام إلا ويجد نفسه في مقام ومرتبة عالية يرغب معها إخوانه من المسلمين أن يكونوا له وليجة وبطانة صالحة وعوناً في أمور الدين والدنيا.
وفي إجتناب إختيار البطانة من غير المسلمين تخفيف عن المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، وباب لصلاح الناس جميعاً بحفظ وصيانة مبادئ الإسلام.
قانون الإصلاح لمراتب الخاصة
جاءت آيات القرآن جامعة عقائدية وأخلاقية، وفي كل آية تأديب للمسلمين ، وهو على أقسام:
الأول: التأديب في موضوع الآية.
الثاني: تهذيب نفس المسلم.
الثالث: تقويم السلوك وعالم الأفعال.
الرابع: ثبات المسلمين على الإيمان.
وجاءت هذه الآية تأديباً وإرشاداً للمسلمين في باب البطانة، وإصلاحهم لوظائف الخاصة وما تستلزمه من السنن والقواعد والأعراف، ومنها ما يكون بالفطرة ومنها يكون بالإكتساب.
فتأتي الآية القرآنية لتثبيت الفطري منها وتحصيل المسلم للعلوم المكتسبة في باب الخاصة، وتكون ذخيرة لإقتباس العلوم منها في المواضيع والأحكام المستحدثة والطارئة في باب البطانة والخاصة، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي بآية تكون مدرسة وصرحاً علمياً ثابتاً يلجأ اليه المسلم لينهل منه، ويقوم بعرض قوله وعمله على ألفاظ وكلمات الآية والقواعد المستقرأة منها.
لقد أراد الله تعالى للإسلام أن يكون الديانة الباقية الى يوم القيامة قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )، فجاءت آيات القرآن لحفظ مبادئ الإسلام، ومنع التعدي عليه، وان حصل هذا التعدي فانه سرعان ما يزول موضوعاً وأثراً ليخرج الإسلام أقوى مما كان، وتضمنت آياته الأسباب والوسائل التي تصلح المسلمين للوظائف العبادية، وتعاهد أحكام الشريعة الإسلامية، وما فيها من الأوامر والنواهي، لأن إتيان ما أمر الله تعالى به يستلزم تهيئة مقدماته ويقتضي إجتناب ما نهى الله عز وجل الإحتراز من مقدماته والإبتعاد من الشبهات وأسباب الريب.
وجاءت هذه الآية مدرسة في النهي لتكون في مفهومها أمراً للمسلمين لإصلاح أنفسهم لمراتب البطانة، وفيه تخفيف عنهم، فيصبح كل مسلم مؤهلاً لوظائف البطانة بذاتها وموضوعها المجرد، فيكتسب المسلم المعارف التي تساعده على القيام بمسؤوليات البطانة والنجاح فيها.
فإختيار المسلم للبطانة يتحقق بقيود هي:
الأول: الأهلية للوظائف العامة للبطانة، ومعرفة قواعدها وآدابها.
الثاني: الإنتماء للإسلام والنطق بالشهادتين.
الثالث: تعاهد الأوامر والنواهي الإسلامية، فمن يكون مقصراً في واجباته ، ويصر على الصغائر لا يصلح لمراتب البطانة.
الرابع: التحلي بالأخلاق والآداب الإسلامية.
لقد جعل الله الحياة الدنيا كلها مدرسة لإكتساب العلوم والمعارف والخيرات، وداراً للموعظة والإعتبار، ويتباين الناس تبايناً كبيراً في النهل من علومها كثرة وقلة، وجاء القرآن ليفوز المسلمون بالتزود من الدنيا بالعلوم، ويتخذوها دار عبرة وموعظة، وكأنها بطانة لهم، تقدم لهم المشورة والخبرة والنصح، وتحذرهم من الإغترار بها وبزينتها.
وجاءت القصص القرآنية لتكون كل قصة منها خاصة وبطانة للمسلم المتحد والمسلمين جميعاً، وهي ضياء ينير لهم دروب الحكمة والمعرفة، ويبين لهم أحوال الناس المختلفة، ومنافع الهداية في النشأتين، والأضرار العاجلة والآجلة للضلالة والغواية.
وتنفع قصص القرآن المسلمين في باب البطانة، فمثلا إتخذ فرعون هامان وزيراً، فلم يأمره أو ينصحه بإتباع موسى عليه السلام، ولو إتبع فرعون موسى عليه السلام لما حل به وقومه البلاء ، والهلاك بالغرق ، وفي التنزيل [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابن لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ *أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ] ( )، وقيل ان المزين اما الشيطان بوسوسته أو الله تعالى على وجه التسبيب، لأنه مكن الشيطان وأمهله( ).
ولكن هناك موضوعية في المقام للبطانة والخاصة، فقد تكون البطانة هي التي زينت لفرعون سوء عمله، وأكرهت العامة على إتخاذ فرعون إلهاً، وحشد الجيوش للحاق بموسى وبني إسرائيل مع أنهم خرجوا هاربين، طالبين السلامة لدينهم وأنفسهم بالفرار الى الله من فرعون وجنوده، كما يظهر أثر الملأ من آل فرعون في آيات من القرآن ، منها قوله تعالى[قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ]( ).
وتبين قصص الأنبياء ما كان يلاقيه الأنبياء من قومهم من التكذيب والأذى، والمناجاة بينهم بالباطل لإيذاء النبي ومن إتبعه، ليدرك المسلمون نعمة الله تعالى عليهم بهداية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة من المهاجرين في الهجرة المباركة الى المدينة المنورة، ونصره على المشركين والكفار، ودخوله مكة المكرمة فاتحاً ليسودها وما حولها الإسلام.
وجاءت هذه الآية الكريمة لتنقيح النفوس من الكدورات، ولتأهيل المسلمين لمراتب الإمامة والقضاء والحكم وسياسة الرعية، خصوصاً وان الأمصار الإسلامية، يقطنها الى جانب المسلمين أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس.
ان فرض الجزية على أهل الكتاب لبقائهم في ذمة الإسلام وليكونوا في مأمن من التعدي عليهم ، ومن الإساءة لهم في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وفي مناسك الشريعة التي يؤمنون بها وأحكام الكتاب المنزل الذي يعملون به.
ومن الإعجاز في الآية الكريمة ان النهي الوارد فيها عن إتخاذ بطانة من غيرهم هو لمنفعة الغير أنفسهم، لأن الغاية منه إصلاح المسلمين للحكم وفق القرآن والسنة وبما يؤدي الى تثبيت سنن العدل في الأرض، وفيه نفع للمسلمين والناس جميعاً ودفع لأسباب الشك والريب التي يثيرها أهل الحسد والبغضاء للمسلمين.
وذكرت الآية الكريمة خروج البغضاء للمسلمين من أفواه الذين كفروا، فجاءت هذه الآية لتكون رداً على ما يقولونه ضد الإسلام، فهم يتخذون من البطانة موضوعاً ووسيلة لبث ونشر البغضاء ضد الإسلام بتوجيه سهام اللوم الى المسلمين، والتوكيد على هفوات شخصية ليجعلوا منها مادة وحجة لذم المسلمين.
فتأتي هذه الآية لتقطع عليهم هذا الطريق، وتجعل تلك البغضاء مقيدة ومحصورة، ويسهل التصدي لها، وتدعو الآية المسلمين الى تأهيل طائفة منهم لتولي مناصب البطانة والخاصة، وشؤون المشورة نعم هي لا ترقى في الأهمية والموضوعية إلى مستوى الطائفة التي تتفقه في الدين قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] ( )ولكن ذكر الطائفة التي تتفقه في الدين لا يعني حصر الإختصاص بها.
فجاءت الآية محل البحث لتكون هناك مدرسة وقواعد كلية لتعليم فن البطانة، وما يستلزمه من صيغ العلم والمعرفة والتحلي بالحكمة والخلق الحميد ولغة الخطاب المناسبة التي تكون بلغة للأغراض المحمودة من غير أن تكون فيها نفرة، أو تسبب كدورة وأذى للمستبطِن أو لغيره، لقد توجه الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالدعوة الى الله بالحجة والبرهان ولغة الحكمة ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ]( ).
وجاءت هذه الآية لإعانة المسلمين على إتباع نهج النبي من غير غضب أو إتباع للشهوة والهوى، مما يستلزم تضافر جهود المسلمين وتعاونهم في سبل الجهاد في ميادين العلم ومصاديق الحكمة، وتتضمن هذه الآية إصلاح المسلمين أمة وجماعات وأفراداً لنشر مفاهيم الحكمة، والتعاون لنبذ التعدي والظلم.
ويأتي قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً( )، تفسيراً لهذه الآية فيكون للبطانة موضوعية في النصرة بطرفيها، فهي تنصر المسلم بنهيه عن الظلم، ودعوته للعدل، ومنعه من التعدي والجور، وتنصره بدفع الظلم عنه، وتشد أزره، وتقوم بزجر الذي يظلمه وتساهم في الهداية الى سبل النجاة من الظلم بالحكمة والموعظة، وإحقاق الحق والإنصاف ليكون الإسلام سبباً لنشر العدل في الأرض، وتكون البطانة الصالحة رحمة من عند الله تعالى للناس جميعاً مترشحة من المضامين القدسية لهذه الآية الكريمة.
قانون “من دونكم”
جاءت الآية الكريمة بقانون يقسم الناس إلى قسمين:
الأول: المسلمون وهو المخاطبون في الآية الكريمة بلفظ الإكرام والتشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لبيان موضوعية الإيمان في هذا التقسيم.
الثاني: غير المسلمين، الذين وصفتهم الآية بأنهم دون المسلمين.
ومن الآيات عدم وجود قسيم ثالث لهما، فالإنسان أما أن يكون مسلماً ويتوجه الخطاب والنهي في هذه الآية له بعدم إتخاذ بطانة ووليجة من غير المسلمين، أو يكون غير مسلم وعلى المسلمين إجتناب إختياره وليجة وخاصة، وتلك آية إعجازية تدل على قانون في المضامين القدسية للآية القرآنية، وهو انها تأتي في موضوع لتكون ذات معنى ودلالة أعم من موضوعها من وجوه:
الأول: تضمن الآية تحذير المسلمين من غير المسلمين في ميادين العمل.
الثاني: إذا ماصدر ذم من غير المسلمين لأمر قام به المسلمون، تكون مضامين هذه الآية واقية من قبول هذا الذم، ومانعاً من بعثه للندم أو الشك في نفوس المسلمين على ما قاموا به، ويستحضر المسلمون منطوق هذه الآية الكريمة وما فيها من النهي ليترشح عنها مسائل:
الأولى: إدراك المسلمين للزوم التقيد بأحكام هذه الآية الكريمة.
الثانية: الرجوع إلى القرآن وآياته عند الأمور الإبتلائية لإقتباس الحكم وإستقراء الحقيقة وإختيار الفعل المناسب.
الثالثة: تعدد الإنتفاع من الآية القرآنية، فتأتي الآية بالنهي لتتضمن في مفهومها الأمر بالضد.
الرابعة: بعث اليأس في قلوب الكفار من المسلمين.
الخامسة: الآية القرآنية حرز من الشك الذي قد يتعقب الفعل.
الثالث: تعدد وجوه التفسير الموضوعي، وتجدد المصاديق العملية للآية القرآنية، ففي كل حادثة تبرز الحاجة للرجوع إلى القرآن.
الرابع: لايصدر المسلمون من القرآن عند الرجوع اليه إلا بالحل والجواب الشافي والدليل القاطع.
وجاءت هذه الآية وما فيها من التقسيم عوناً للمسلمين في معرفة الناس على مختلف مللهم.
الخامس: بيان حقيقة وهي إستقلال المسلمين بالقول والعمل، وإستغناؤهم عن غيرهم من أهل الملل الآخرى، ويتجلى هذا الإستغناء بالإكتفاء بالقرآن والسنة النبوية الشريفة، فما دام القرآن جاء من عند الله عز وجل بالنهي عن إستبطان غير المسلمين فان الله عز وجل يكفي المسلمين ويرزقهم ما يجعلهم لا يحتاجون إلى الوليجة من غيرهم.
وهذه الآية شاهد سماوي على إنعدام هذه الحاجة، ويحتمل إنعدام الحاجة إلى تلك البطانة بخصوص مناسبة الموضوع وجوهاً:
الأول: ميادين القتال وساحات المعارك، إذ لا يحتاج المسلمون اللجوء إلى غيرهم في المشورة والرأي.
الثاني: وجوه العبادات والفرائض، والأحكام التكليفية الخمسة، إذ ان المصدر لها هو القرآن والسنة، ولا موضوعية فيها للمشورة والرأي والإجتهاد في مقابل النص.
الثالث: الصلات الأخوية بين المسلمين ودرء أسباب الفتنة، ومنع الخلاف والشقاق وتعدد المذاهب والفرق عند المسلمين.
الرابع: إصلاح ذات البين، والتدارك وفك الخصومة والنزاع الذي يحدث بين المسلمين.
الخامس: بناء الدولة الإسلامية، وترسيخ أحكام الدين ونشر مضامين الحلال والحرام بين الناس.
السادس: جذب الناس للإسلام، ودعوتهم للإيمان، لأن هذه الدعوة تتعلق بغير المسلمين فيتخذ المسلمون خاصة وبطانة لهم من غير المسلمين لإعانتهم في الوصول إلى الأمم الآخرى من أهل الأرض.
السابع: إبرام العقود والمواثيق فيما بين المسلمين، والتي يعقدونها مع غيرهم من الأمم، فيلجأ المسلمون إلى أناس من الملل الآخرى ليكونوا خاصة ووليجة لهم في عقد المواثيق ومعرفة الشرائط المناسبة للهدنة والصلح.
الثامن: إدارة شؤون الحكم، وإنفاق الأموال في المصالح العامة، وإقامة المؤسسات والمشاريع الخيرية.
التاسع: ميادين الصناعة والعلم والإختصاص النادر كالطب والهندسة ونحوهما.
العاشر: كتابة القوانين الوضعية خصوصاً ما يتعلق بأحكام أهل الذمة ودور عبادتهم وحل الخلافات بينهم سواء كانت شخصية بين أفراد منهم وما يتعلق بالميراث والقسمة، أو عامة تشمل المسائل المذهبية.
الحادي عشر: الأمور المستحدثة التي يواجهها المسلمون، كما في زمان الثورة الصناعية والتقنية ومفاهيم وآثار العولمة في هذا الزمان.
والصحيح هو الإطلاق في موضوع إنعدام حاجة المسلمين إلى إستبطان غيرهم، فكل الوجوه المتقدمة لا يحتاج فيها المسلمون غيرهم بطانة ووليجة من دون المسلمين وتلك آية إعجازية، وقد مرّ على نزول القرآن أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وأنوار آية البطانة تشع على قلوب المسلمين عموماً، وتتجلى في أقوالهم وأفعالهم، ولم يطرأ ما يكون سبباً للتخلف عن العمل بأحكامها، ولا يرد إستثناء وتخصيص في قادم الأيام لأحكام الآية الكريمة.
وقد شاع في الفلسفة أنه ما من عام إلا وقد خصّ، ولكن الإطلاقات القرآنية خارجة بالتخصص من هذه القاعدة التي إبتكرها الإنسان نفسه بعقله القاصر عن الإحاطة بالعلوم والوقائع والأحداث، بينما جاء القرآن من عند الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً.
ومن علم الله تعالى إطلاق النهي الوارد في هذه الآية ليشمل إستغناء المسلمين عن إستبطان غيرهم في كل الميادين والمواضيع والأحكام وهو من شواهد تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، وإخراجهم للناس جميعاً بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فالمسلمون هم الأمة الأحسن والأكمل وهي التي أخرجت للناس بفضل الله تعالى وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنزال القرآن لتكون حاجة الناس للمسلمين وعدم حاجة المسلمين لغيرهم في موضوع البطانة قانوناً ثابتاً ودليلاً وعيناً ومنهاجاً في أمور الدين والدنيا.
وقد يقال أن أحكام الضرورة والتقية من التخصيص في المقام ، والجواب إنها أمور غير ثابتة ولا مستديمة ، وتطرأ في بعض الأحيان ، وتقدر بقدرها .
وهل يجوز ان يتخذ غير المسلمين المسلمين وليجة وبطانة، وان أتخذوهم وليجة فهل يجوز للمسلم ان يقوم بعمل البطانة والوليجة لغير المسلم أم ان النهي شامل للمقام، الجواب يجوز للمسلم ان يكون بطانة ووليجة لغير المسلم بشرط ان لا يكون فيه ذلة أو ضرر على المسلم في دينه ونفسه وماله وعرضه، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومناسبة للدعوة إلى الخير، وفي نبي الله يوسف عليه السلام وخطابه مع ملك مصر ورد في التنزيل [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( )، وكان إتخاذ يوسف عليه السلام وزيراً سبباً لحسن التدبير وحصول البركة، ومنع المجاعة والهلاك عن كثير من الناس وحجة ظاهرة في صدق النبوة ودعوة الناس للإسلام، لذا ذكر ان الملك الذي إستوزر يوسف عليه السلام صار مسلماً.
ويبعث التقسيم الوارد في الآية معاني الأخوة والوحدة بين المسلمين ويدعوهم إلى التمسك بالقرآن والسنة وأحكام الشريعة الإسلامية بإعتبارها علة تامة لتفضيلهم على الأمم وتثبيت هذا التقسيم، وما فيه من المنزلة الرفيعة للمسلمين بين الناس بجعل غيرهم دونهم في الرتبة والشأن وترشح أحكام تشريعية ووضعية على هذا التقسيم بحجب مرتبة بطانة خير أمة عن غير المسلم، ومن يكون قاصراً عن بلوغ رتبة البطانة والخاصة لخير أمة، يكون بالأولوية القطعية دونها في الشأن والرتبة، لذا فان إختيار لفظ “دونكم” في المقام وعدم وروده في القرآن إلا في هذه الآية يبين تعدد معاني التقسيم الوارد في الآية وترتب أحكام عديدة عنه.
وعن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله : إن أناسا من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال : أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود، قال الحسن : متحيرون مترددون ” أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية ” وفي رواية أخرى قال عند ذلك : ” إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى، وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة وعشيا والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني( ).
وفي أيام خلافته قيل لعمر بن الخطاب هنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطاً منه، فان رأيت ان نتخذه كاتباً، فأمتنع عمر من ذلك وقال: إذن أتخذت بطانة من غير المؤمنين( ).
فمع ان الوظيفة كانت الكتابة والنسخ وان الكاتب ذو خط جميل يساعد في بهاء المكتوب، وبيان رسم الحروف، وسهولة قراءة أهل الأمصار لها، فان الخليفة عمر بن الخطاب أبى أن يدنيه، وإعتبر إتخاذ الكتابي كاتباً من البطانة المنهي عنها.
إن إستبطان المسلم مناسبة لإرتقائه في عمله، وتنمية ملكته، ونقله الحرفة والفن والعلم إلى إخوانه وأبنائه من المسلمين، فكأن الآية من وجوه تفضيل المسلمين في فرص العمل الرفيعة،وفيه بيان للمراد من معنى من دونكم وانه أعم من المنافقين ويتعلق بالملة والدين، وإجتناب وصول غير المسلم إلى رتبة الخاصة ومن يطلع على الديوان وأسرار المسلمين وان كان حاذقاً في فنه وصنعته.
وفيه شاهد على ان أهل الكتاب كانوا موجودين في المدينة ويعلم المسلمون بما عندهم من المهارات وإمكان الإنتفاع منها، ولا تفيد الآية النهي عن صحبة أهل الكتاب ومعرفة أحوالهم وما عندهم من المزايا الشخصية مطلقاً، وإعانتهم ومد يد العون لهم والإنتفاع منهم بل تنهى عن إتخاذهم بطانة وخاصة من دون المسلمين، قال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ]( ).
ويبعث إتخاذ بطانة وخاصة من غير المسلمين الحسرة في نفوس المسلمين خصوصاً ممن تكون عنده ذات الصفات والمزايا التي تؤهل غير المسلم لبلوغ تلك المرتبة وكذا من يحتاج إلى السؤال والتوسل من البطانة لقضاء حوائجه في أمور الدين والدنيا، وما يهمه كمسلم.
والشواهد كثيرة على موضوعية البطانة والخاصة في الوصول إلى السلطان والحاكم والقائد، فأراد الله عز وجل منع الوسائط غير المناسبة بين الحاكم والمحكوم والآمر والمأمور والغني والفقير من المسلمين، ومواساة القلوب المنكسرة وإعانة المسلمين على إصلاح شؤونهم بأنفسهم من غير موانع ذاتية تسبب النفرة والكدورة فيما بينهم.
ولو كانت الصفات التي يتحلى بها المسلم أقل رتبة ودرجة من تلك التي عند غير المسلم فهل يكفي هذا الفارق النسبي للإستثناء والخروج عن حكم النهي الوارد في الآية بالتخصيص، الجواب لا، لموضوعية الإعتقاد والإيمان في الإختيار والأضرار التي تتفرع عن الكفر في المقام وهي عديدة وجسيمة وتكون أكبر بكثير من النفع القليل في الفارق النسبي بين البطانة والخاصة غير المسلمة والبطانة والخاصة المسلمة.
وفي الآية دعوة للمسلمين للإرتقاء في العلوم وتعدد الإختصاص ليكونوا أهلاً لنيل مرتبة البطانة والخاصة.
قانون آيات القرآن مدد وعون للإمتثال للآية منه
لم تذكر آيات وسور القرآن الأخرى موضوع البطانة، ولكن هذا لا يعني إنحصار موضوع البطانة بهذه الآية، فمن إعجاز القرآن أن تختص آية قرآنية منه بموضوع معين، ولكن آيات عديدة أخرى تشير اليه في منطوقها ومفهومها وتساعد على الإمتثال الأمثل فيه من وجوه:
الأول: إتحاد الموضوع في تنقيح المناط، فليس بالضرورة أن يأتي لفظ
البطانة بالخصوص، إذ تأتي آيات القرآن بلفظ الولاية، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثاني: مجيء الآيات بلغة الإنذار والتخويف للذين لا يمتثلون لأحكام هذه الآية وما فيها من النهي، قال سبحانه [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ]( ).
الثالث: مجيء الآيات القرآنية بحث المسلمين على طاعة الله ورسوله، والعمل بأحكام القرآن والسنة.
الرابع: حصول العداوة والبغضاء بين المسلمين وغيرهم ممن يعتدون على الإسلام ويقاتلون المسلمين ويسعون في الإضرار بهم وإخراجهم من ديارهم مما ينمي ملكة الحذر والحيطة عند المسلمين.
الخامس: مجيء الآيات القرآنية بتعاون المسلمين في مضامين الصلاح والهداية قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( )، ومن وجوه التعاون في البر وعمل الصالحات إتخاذ المسلم للبطانة الصالحة ليكون عمل كل طرف منهما مصداقاً للتعاون في البر والتقوى.
فمن الإعجاز في القرآن ان يتوجه الأمر أو النهي لطرف من المسلمين ولكن التكليف يشمل غيره، فجاءت الآية لتنهى المسلم عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين، لتلقي على المسلم الذي يتم إتخاذه بطانة وخاصة مسؤوليات عقائدية وأخلاقية وأدبية تتمثل بلزوم قيامه بوظائفه أحسن قيام، وبذله الوسع في النصح لأخيه الذي إختاره بطانة ولغيره من المسلمين وللإسلام مطلقاً، لينال كل طرف منهما متحداً أو متعدداً الثواب والأجر، ويساهم في بناء دولة الإسلام، وتثبيت أحكامه وسننه.
وهل يجوز للمسلم ان يعرض نفسه لأخيه المسلم ليكون وليجة وخاصة له، الجواب نعم، فمن كان يرى في نفسه الأهلية لهذا المقام، ويتصف بالحكمة والرأي السديد، والأخلاق الحميدة، والقدرة على كتمان السر، وإجتناب الرذائل من الغيبة والنميمة ونحوها فيجوز ان يقدم نفسه لأخيه المسلم كوليجة وخاصة لينفعه في أمور دينه ودنياه ويجنبه المهالك والزلل، واللجوء إلى غير المسلم في المشورة والسعي وراء النصيحة خصوصاً عند الحاجة الملحة لها.
وقد ورد في يوسف عليه السلام قوله للملك [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )،ولم يكن الملك مسلماً.
وتبين هذه الآية رحمة الله عز وجل بالمسلمين، وتفضله بهدايتهم إلى سبل الرشاد والحكمة والصلاح، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ] ( )، لتكون العناية الإلهية مصاحبة للمسلمين في الحياة الدنيا، وفيها غنى عن البطانة من غير المسلمين، فمع النهي عن الوليجة والبطانة من غير المسلمين تأتي الآيات القرآنية التي تتضمن الإخبار عن كفاية الله عز وجل للمسلمين، فالبطانة السيئة تسعى لإيقاع المسلم في الحرج والتيه والظلمات، ويريد الله عز وجل للمسلمين الإقامة في النور والإيمان، فجاءت الآيات بإجتناب المسلمين لمقدمات وأسباب الغواية والضلالة وما هو ضد الرشاد.
لقد أبى الله عز وجل إلا أن ينال المسلمون العزة والرفعة فجاءت الآيات الكريمة بالوعد لإعانتهم والأخذ بأيديهم باللطف الإلهي إلى سبل النجاة والنجاح، وجاءت هذه الآية في أمر مخصوص لتتضمن اللطف الإلهي من وجوه:
الأول: الآية مصداق وشاهد بان الله عز وجل ولي المسلمين ويهديهم للتي هي أقوم ويمنعهم عما فيه ضرر لهم.
الثاني: مع النهي تأتي الكفاية الإلهية، فما من شيء حرمه الله تعالى على المسلمين إلا وكان فيه مسائل:
الأولى: أنه ضرر محض للمسلمين.
الثانية: إدراك المسلمين لأضراره بالحواس والوجدان، ومن أسرار خلق الإنسان إشتراك الناس على تباين مراتبهم فيما تدركه الحواس، فلا تحتاج معرفة أضرار ما حرمه الله عز وجل إلى وسائط ومعارف عقلية، بل تكون بينة بالشواهد الظاهرة للمسلم وغير المسلم.
الثالثة: سوء عاقبة الحرام في النشأتين.
ومن الآيات ان يأتي العلم الحديث بإثبات أضرار كثير مما حرمه الله تعالى كالخمر ولحم الخنزير والزنا.
الثالث: إعانة المسلمين في إجتناب ما حرم عليهم، بالآيات الظاهرة والباطنة، ففي موضوع البطانة يرى المسلمون الأضرار التي تصيب من يتخذ بطانة من غير المسلمين ويحجب الله تعالى عنهم تلك البطانة وأثرها، ويهيء لهم مقومات البطانة من بينهم، ليكون الإيمان هو الجامع المشترك بينهم، ويجعلون للتقوى وخشية الله موضوعية في أقوالهم وأفعالهم.
وكل مسألة من المسائل أعلاه شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، وإعانتهم للعمل بأحكام الأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم، ومنها هذه الآية التي جاءت هي الأخرى لإعانة للمسلمين في هذا الباب لأن البطانة السيئة تسعى إلى جعل مقام الخاصة والوليجة وسيلة لمحاربة الإسلام، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
وبين نهي الله للمسلمين من إتخاذ الكفار أولياء، وبين نهيهم عن البطانة من غيرهم عموم وخصوص مطلق لأن البطانة جزء وفرع من الولاية لما فيها من الإصغاء والمشورة وكشف الأسرار، ومعرفة بواطن أمور المسلمين، لذا فان الآيات التي تنهى المسلمين عن تولي الكفار تدل بالدلالة التضمنية على منع المسلمين من إتخاذهم بطانة.
ومن فضل الله تعالى ان تأتي آية في القرآن خاصة بموضوع البطانة وتحذر المسلمين من البطانة من غيرهم، ليكون موضوعها أمراً مستقلاً له أحكامه الخاصة وتتضمن الأوامر والنواهي، والوقاية والتدارك، ويحصل التدارك على وجوه:
الأول: تلاوة هذه الآية القرآنية، لأن في تلاوتها والإستماع اليها ذكرى وموعظة، فلو إتخذ صاحب شأن من المسلمين بطانة من غيرهم، وخشي الآخرون زجره وتحذيره، فقد يكفي تلاوة هذه الآية في حضرته، وسماعه لها ليتدبر في معانيها، وليستحضر أفعال تلك البطانة وما تدل عليه من المقاصد والنوايا.
الثاني: قد يهم المسلم بإتخاذ بطانة من غير المسلمين، فيستحضر هذه الآية فيمتنع عن الفعل لينال الثواب والأجر بتقيده بأحكام الآية القرآنية.
الثالث: من يخالف أحكام هذه الآية ويتخذ بطانة من دون المسلمين يبقى في حذر ووجل منها، ويخشى على نفسه ودينه ومصلحته مما تفعله، وهذا الحذر من إعجاز الآية، وإنتفاع كل مسلم منها ولو على نحو الموجبة الجزئية وبما يبعث الفزع والخوف في نفس البطانة من قول أو فعل ما تظهر معه معاني عداوته للمسلمين، لذا قد لا ترى من البطانة غير المسلمة أمارات ظاهرة في فعلها تدل على عداوتها، ولكنه من آثار هذه الآية الكريمة وما فيها من فضح للكفار ونواياهم.
الرابع: هذه الآية دعوة للمسلمين والمسلمات جميعاً للمساهمة في التدارك والإصلاح على نحو القضية الشخصية والنوعية، وكل بحسب قدرته ومنزلته.
فمن وجوه تفضيل المسلمين على الأمم إشتراك المسلمة مع المسلم في التدارك وتهذيب النفوس، وقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعرض واحد مع الرجل، وقد تتهيء لها أسباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر من بعض الرجال، وتقوم بوظيفتها بطريقة مناسبة من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتجعل المسلم والمسلمة يرجعان إلى أحكام هذه الآية، وما فيها من النهي عن إستبطان غير المسلم، وتكون سبباً في الإصلاح، والصدور عن آيات القرآن، وما فيها من مضامين الأمر والنهي، وكما تكون الآيات القرآنية مدداً وعوناً للإمتثال للآية القرآنية فان الآية القرآنية الواحدة تكون عوناً للمسلم والمسلمة للعمل بأحكام آيات القرآن الأخرى، وتلك آية إعجازية في القرآن.
فالإحتراز من إتخاذ غير المسلم بطانة وخاصة واقية للميل له وإتخاذه ولياً ووسيلة لإجتناب الإعتماد على الغير، والظن باللجوء اليه عند الحاجة، ومناسبة لحسن التوكل على الله والحرص على الأخوة الإيمانية مع عموم المسلمين ونبذ الفرقة والتشتت.
بحث بلاغي
جاء إستعمال لفظ “بطانة” في الآية من الإستعارة التصريحية لأنها في الأصل بطانة الثوب المعروفة بإعتبار انها إستعيرت لخصوص الرجل وصفيه الذي يسره بما في صدره من الهموم والنوايا والهواجس، والإستعارة التصريحية هي التي يصرح بها بلفظ المشبه به.
وكل مجاز يبنى على التشبيه يسمى إستعارة، من غير ذكر وجه الشبه، ولا أداة التشبيه، مع الإعراض عن موضوع التشبيه من غير الغفلة عن لحاظ وجوه الشبه بين المشبه والمشبه به.
ويمكن تقسيم الإستعارة إلى قسمين:
الأول: الإستعارة في الكلمة واللفظ الواحد.
الثاني: الإستعارة في الجملة والموضوع.
وجاء لفظ البطانة من القسم الأول ليكون من المجاز والمنقول.
وتزيد الإستعارة الكلام حسناً وبهاء، وتبعث على التأمل والتدبر فجاء لفظ بطانة لبيان الآثار الكبيرة المترتبة على إختيار الخاصة، فأما أن تكون صالحة وتكون عوناً ومؤازراً وعضداً، وأما أن تكون سيئة فتكون شراً وضرراً محضاً.
ويأتي لفظ بطانة للمفرد والجمع، قال الشاعر:
وهم خلصائي كلهم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريبِ
وفي مناسبة اللفظ للمتحد والمتعدد آية إعجازية وإشارة إلى وجوه ومعاني البطانة المتعددة بحسب الموضوع والجهة.
بحث كلامي
لقد تفضل الله تعالى وخلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض، وسخر له ما في الأرض وأنزل عليه الرزق والماء من السماء، وجعل عنده القدرة على الملك والمحافظة عليه، ومع هذا فان الإنسان لا يستطيع الإستغناء بذاته عن غيره، فهو من أفراد عالم الإمكان، تلازمه الحاجة في وجوده وحياته وأموره الخاصة وصلاته مع الناس، ومن الآيات في المقام ان الخلائق لا تستطيع قضاء حوائج أي فرد من الناس، ولا يقضيها إلا الله تعالى، وهو الرؤوف الرحيم بالناس جميعاً.
وحاجات الإنسان متعددة، ومنها ما هو خاص ومنها ما هو عام يخص الأمة والجماعة، وجاءت هذه الآية لتقضي حوائج المسلمين في باب البطانة، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بأن يقضي الله حوائجها في المسائل الإبتلائية والأحكام والمعاملات وينعم عليها بما تدرك حاجته وما لا تلتفت الى الحاجة إليه.
فمن ضعف الإنسان ان كثيراً من حوائجه لا ينتبه اليها ، ولا يسعى لإنجازها إلا عندما تبرز الحاجة لها، وقد يأتي بها حينئذ ناقصة أو تكلفه مشقة وعناء وأموالاَ، أو أنه لا يوفق إليها لتغير الأحوال وتبدل الأسباب ومنها موضوع البطانة فقد يتخذ المسلمون بطانة من غيرهم تؤدي إلى لحوق الضرر بهم، ولا ينفعهم حينئذ الندم، وإن ندموا فانهم ينسون تلك المسألة ويعودون لإتخاذ البطانة من غيرها، أو ان فريقاً منهم لا يعتبر البطانة من الكفار سبباً في حذرهم.
فجاءت هذه الآية خطاباً للمسلمين جميعاً في كل زمان، وفيها بيان لحاجة المسلمين الى اللطف الإلهي بتأديبهم وإرشادهم وهدايتهم في باب البطانة لتؤكد حقيقة وهي حاجة الناس جميعاً للبيان من عند الله لذا جاءت الآية بصيغة الجمع، وهذه الحقيقة دعوة للناس للإسلام، ولو أسلم الناس جميعاً ففي الآية وجوه:
الأول: بقاء موضوعية الآية موضوعاً وحكماً.
الثاني: تظل الآية شاهداً على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأجيال المتعاقبة من المسلمين في الإعراض عن الكفار في باب البطانة، وهذا الجهاد من أسباب إسلام الناس جميعاً لأنه نوع إعراض عن الكفار، ودعوة لهم للإسلام.
الثالث: إنتفاء العمل بأحكام الآية لأنها سالبة بإنتفاء الموضوع.
الرابع: تبدل المعنى والتأويل فالمراد من قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] والمراد من دونكم أي من غيركم، ليكون المعنى التباين في مراتب العلم بين المسلمين ويكون المراد (من دونكم) أي من هو أدنى منكم في المرتبة والعلم على نحو القضية الشخصية ولكن هذا التبديل في معاني الآيات لا يحصل أبداً بل ان أحكام الآية القرآنية ثابتة الى يوم القيامة.
وتدل الآية على بقاء أحكامها وتدعو المسلمين الى الحذر من الكفار، وهو لا يتعارض مع دعوتهم للإسلام ورجاء دخول الناس جميعاً فيه بصدق نية وطلب لمرضاة الله.
لقد جاءت الآية بياناً للآيات، وفيها إشارة إلى حاجة الإنسان الى بيان الآيات، وقد فاز المسلمون من بين الأمم بالظفر بهذه الحاجة وقضائها، وتبين الآية الكريمة ان حاجات الإنسان لا تنحصر بالزاد وما فيه قوام البدن وإستدامة الحياة، بل تشمل ميادين العقيدة وأسباب الهداية، والحصانة من الغواية ووسوسة الشيطان.
وجاءت الآية لتؤكد ان موضوع البطانة من مصاديق الإمتحان والإبتلاء في الحياة الدنيا، وان الله تعالى ينعم على المسلمين بهدايتهم لما فيه سلامتهم في هذا الباب الإبتلائي، ويدعو الناس جميعاً لدخول الإسلام ففيه بلوغ الغايات الحميدة في الدنيا والآخرة، ولا يستطيع أحد بيان الآيات إلا الله تعالى، وفيه دعوة للمسلمين للإنقطاع اليه سبحانه وإلى ما انزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما أمر به من العبادات والفرائض فهي وان كانت تكاليف وفي أدائها تعب ومشقة الا انها حاجة للإنسان وواقية من أدران المعصية، وشاهد على صدق العبودية، وبلغة لنيل أسباب الغبطة والسعادة في النشأتين.
قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]
تتجلى معاني الإعجاز في هذه الآية بمصاديق عديدة، منها مجيء التعليل بعد النهي، فبعد ان جاءت الآية الكريمة بالنهي عن إتخاذ بطانة وخاصة من غير المسلمين وعلى نحو الإطلاق ومن غير تقييد بحال مخصوص أو ملة معينة، جاء هذا الشطر من الآية الكريمة ببيان علة هذا النهي، ومن الآيات في المقام تعقب التعليل للنهي من غير فاصلة بينهما، فلم يأتِ تعليل النهي عن البطانة السيئة في آية أخرى من آل عمران نفسها، أو سورة أخرى من سور القرآن بل جاء في هذه الآية نفسها ومتعقباً للنهي ليجتمع الحكم وعلته في الآية، ويكون هذا الإجتماع عوناً لكل مسلم ومسلمة على الإحتراز من إستبطان الكفار وغير المسلمين مطلقاً وجاءت الآية بصيغة الجمع في طرفيها.
الطرف الأول: المسلمون فلم تأتِ الآية بصيغة المفرد مع انها تدل عليه أيضاً، ولا يعني مجيء أول الآية بصيغة الجمع ومخاطبة المسلمين إنحصار الأمر بنظم الآية، وفي إتحاد لغة الخطاب مسائل:
الأولى: توجه لغة الإنذار للمسلمين جميعاً.
الثانية: حث المسلمين والمسلمات على العمل بأحكام هذه الآية.
الثالثة: بيان الضرر العام من إتخاذ الفرد أو الجماعة من المسلمين البطانة من دونهم وهو على وجوه:
الأول: إتخاذ الجماعة بطانة شخصية.
الثاني: إختيار الفرد من المسلمين بطانة وخاصة متعددة من غير المسلمين.
الثالث: إختيار الجماعة من المسلمين جماعة بطانة من غير المسلمين، وهذا الإختيار على شعب:
الأولى: البطانة من ملة واحدة من أهل الكتاب.
الثانية: تعدد مذهب البطانة مع الإتحاد في كونهم من أهل الكتاب، كما في اليهود والنصارى.
الثالثة: تعدد البطانة من أهل الكتاب والكفار مع إتحاد الذي يستنبطهم ويتخذهم خاصة.
الرابعة: إتخاذ المسلم بطانة من الكفار الوثنيين، سواء للإختصاص أو لصلات العمل أو الجوار والصداقة.
المسألة الرابعة: دعوة المسلمين والمسلمات للتفقه في الدين، ومعرفة سجابا الناس، وموضوعية الملة والعقيدة في قول وفعل الإنسان متحداً ومتعدداً، إذ يتعدد الضرر الصادر من البطانة غير المسلمة على وجوه:
الأول: إتخاذ شخص واحد من غير المسلمين بطانة.
الثاني: إتخاذ المسلم البطانة متعددة.
الثالث: إتخاذ المسلمين لشخص واحد من غير المسلمين بطانة.
الرابع: إتخاذ المسلمين لجماعة من غير المسلمين بطانة.
وأي هذه الوجوه أكثر ضرراً على الإسلام والمسلمين.
الجواب صحيح ان الوجه الرابع أعلاه هو الأكثر من جهة الكم لحصول التعدد من الطرفين إلا ان هذا لا يعني إنحصار الضرر به، أو انه الأكثر ضرراً على المسلمين على نحو الدوام، فقد يكون إتخاذ الشخص الواحد من المسلمين بطانة فردية فما دونهم متحدة أكثر ضرراً على الإسلام والمسلمين، كما لو كان المسلم ذا سلطان وملك، والبطانة ماكراً حسوداً.
لذا جاءت الآية بصيغة الإطلاق في النهي وعدم تقييده بالمتعدد في اي من طرفي موضوع البطانة، فهو شامل للمفرد والمتعدد من الطرفين وسواء كان كل واحد منهما ذا شأن أو ليس بذي شأن.
وتلك آية إعجازية في آيات القرآن تدل عليها المصاديق الخارجية، لما يتغشاها من حكم واحد مع التباين فيها كثرة وقلة، وإتحاداً وتعدداً وفيه حجة دائمة على الناس جميعاً، ومانعاً من التفريط في الحكم، وإيجاد الأعذار بخصوص أفراد أو أهل ملة مخصوصة، خصوصاً وان الآية خالية من الدعوة إلى معاداة أو محاربة غير المسلمين، ولا تشمل المعاملات التجارية مطلقاً، ولكنها تدعو المسلمين إلى أخذ الحائطة في موضوع البطانة والخاصة وحصرها بالمسلمين أنفسهم، فلو كان عند المسلم رحم من ملة أخرى ذو إختصاص في صنعة أو فن معين، فعليه ان لا يتخذه بطانة بل يتخذ فرداً من المسلمين وان لم تكن عنده ذات المهارة والإختصاص بل أدنى منها قليلاً، ولا تربطه مع الذي يستبطنه صلة قربى، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، لأن ما يجمع المسلم وغيره أمران:
الأول: الأخوة، وهي من أقوى صلات القربى.
الثاني: صبغة الإيمان لهذه الأخوة.
ويفيد الجمع بين الأمرين إتصاف المسلمين بصلات خاصة لم تبلغ مراتبها اي أمة من الأمم، وهو من مصاديق تفضيلهم على الأمم الأخرى، وسر من أسرار خروجهم للناس لما في صلة الأخوة الإيمانية التي ينفردون بها من الموعظة والعبرة وأسباب القوة وترغيب الناس بدخول الإسلام، وبعث الفزع واليأس في نفس الذي يسعى للإضرار بالمسلمين بواسطة البطانة موضوعاً وفعلاً وأشخاصاً إذ أن المسلمين يقفون صفاً واحداً في وجهه، وحاجزاً دون إضراره بالإسلام ومن إتخذه بطانة وهو من إعجاز مجيء الآية بطرفها الأول وهم المسلمون بصيغة الجمع وقوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً].
يفيد التعدد والإنحلال إلى خطابات متعددة وكثيرة، والمراد منه وجوه:
الأول: أيها المسلمون لا تتخذوا جماعة من الكفار بطانة من غيركم.
الثاني: أيها المسلم لا تتخذ بطانة من غير إخوانك من المسلمين.
الثالث: أيها المسلمون قوموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولينهى بعضكم بعضاً عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين بالصيغة والمرتبة المناسبة من مراتب الأمر والنهي.
الثاني: الطرف الثاني وهو البطانة إذ جاء بصيغة المصدر والعنوان الجامع للأفراد من جنس واحد، إذ يجمعها في النهي انها من غير المسلمين، فكل فرد من دون المسلمين، ومن غيرهم لا يجوز أن يتخذه المسلمون بطانة ووليجة لتتضمن الآية صفة العموم وتمنع من الإجتهاد في التخصيص والتوسعة فيه حسب الحاجة والمزاج والميل النفسي.
فمن إعجاز الآية انها أغلقت باب الإستثناء أو التخصيص في المقام، وهذا الغلق ليس من التشديد، بل هو تخفيف ورحمة، لذكر علة النهي، والسور الجامع الذي يلتقي عنده غير المسلمين في المقام وهو السعي في عناء المسلمين، وتشمل صيغة الجمع الأفراد والجماعات والمؤسسات التي تسعى في الإضرار بالمسلمين سواء على نحو القضية الشخصية أو النوعية العامة، وتدل صيغة الجمع في المقام على وجود أعداء للمسلمين، وأناس يضمرون لهم الحسد والبغضاء بلحاظ الإنتماء العقائدي.
فما يأتي للمسلمين من الأذى لم يقصد منه الأشخاص ولكن يراد منه الإسلام والإنتماء اليه، ومنع نيل المراتب العالية فيه وبه وله، ويأتي الضرر لأشخاص المسلمين بالعرض والتبعية، فجاءت الآية رحمة بهم ودفعاً للضرر العام والخاص في آن واحد، ليتوجه المسلمون لأداء العبادات وترسيخ أحكام الشريعة، والإبتعاد عن مقدمات الإضرار بهم وبغيرهم.
وهذه الآية من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، لما فيها من التخفيف عن الناس جميعاً فان عدم جعل غير المسلم بطانة للمسلمين رحمة به، وبرزخ دون إضراره بالمسلمين، وما يلحقه من سعيه الإضرار بالمسلمين من الآثار الدنيوية والآخروية، إذ يرجع الضرر عليه قال تعالى [وَمَا يُضِلُّونَ إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )، وهذه الآية من أسباب رجوع الضرر على الكفار لما فيها من تنبيه وتحذير المسلمين من الكيد والمكر الخفي.
وهي من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] من وجوه:
الأول: إجتناب المسلمين إتخاذ بطانة من غيرهم تسعى في الإضرار بهم.
الثاني: ترتب هذا الإجتناب على النهي الإلهي لهم.
الثالث: إيصال رسالة إلى الناس جميعاً بان المسلمين متمسكون بمبادئ الإسلام، ومن وجوه هذا التمسك الإحتراز من إتخاذ وليجة خاصة من غيرهم.
الرابع: الآية من مصاديق نصر الله للمسلمين، فالله عز وجل يريد للمسلمين العز والسلامة من المهلكات والآفات، ومن وجوه العز والسلامة الإكتفاء الذاتي في موضوع الخاصة والبطانة.
الخامس: إشعار الناس جميعاً بأن أفعال المسلمين في الواقع اليومي والمعاملات ليس عن إجتهاد وخبرة وتجربة بل عن أوامر ونواهي إلهية تلقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السماء لتبقى دستوراً وإماماً لكل مسلم ومسلمة.
السادس: الآية عون للناس جميعاً للإطلاع عن قرب عن مبادئ وأحكام الإسلام، فمع يقظة وحيطة المسلمين من البطانة والوليجة من غيرهم، تبقى مبادئ الإسلام نقية سالمة من التغيير والتحريف، ويحرص المسلمون على التقيد بها في العبادات والمعاملات والأحكام.
السابع: لم تحجب الآية الناس عن منزلة البطانة والخاصة بسبب أمور شخصية، بل لفقد شرط الإيمان، وفيه دعوة لهم للتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومعرفة أحكام الإسلام والدخول فيه.
الثامن: ليس في هذه الآية إضرار بغير المسلمين وهي خالية من التعدي على اي ملة أو أمة أو مذهب، وهي لطف بالمسلمين وغيرهم، وحاجب دون حصول التعدي والضرر من خلال موضوع البطانة.
لقد جاء قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ] بصيغة الجمع من طرفيه، في صيغة الخطاب للمسلمين، وفي غيرهم من أهل الملل الآخرى الذين يريدون الإضرار بهم، وفيه وجوه:
الأول: إختصاص موضوع الآية بفريق من أهل الكتاب أو من الكفار ممن يبتغي إفساد أمور المسلمين، وليس جميع الناس، لذا ذكرت الآية علة النهي لجعل المسلمين يميزون بين من يصلح للبطانة ومن لا يصلح لها من غير المسلمين، فليس كل من كان غير مسلم لا يصلح للبطانة، بل فقط الذي يتصف بأفراد العلة التي تذكرها الآية.
الثاني: عموم أحكام الآية مع خصوص المورد، فهي عامة لغير المسلمين، ولكن أحكامها تنحصر بموضوع البطانة والخاصة، فهم لا يسعون في إفساد أمور المسلمين والحاق الضرر بهم إلا عند الإستحواذ على مرتبة البطانة والخاصة، أما في غيرها فانهم لا يتعرضون للمسلمين بسوء أو مكروه.
الثالث: لغة الإطلاق في الآية وعدم إنحصار إرادة غير المسلمين الإضرار بهم في موضوع البطانة بل هو شامل لكل المواضيع والأحوال، سواء إتخذهم المسلمون بطانة أو أدنى رتبة من بطانة.
الرابع: عدم التعارض بين الإطلاق في النهي والتقييد في العلة، لحملها على الفرد الغالب أو فريق من غير المسلمين، لا يقصرون في إفساد أمور المسلمين مما يصلح ان يكون سبباً في النهي عن البطانة والوليجة من غير المسلمين مطلقاً فقد أظهر فريق من أهل الكتاب البغضاء والعداوة للمسلمين، بأقوالهم وإثارة أسباب الشك والريب، وسعى المنافقون في عناء وتعب المسلمين.
فجاءت الآية الكريمة في التحذير من غير المسلمين مطلقاً، في موضوع البطانة والخاصة، وهذا الوجه من إعجاز أحكام القرآن، والدقة في تعيين الجهة المنهي عنها وموضوعها، فلم يأتِ النهي مطلقاً عن غير المسلمين فيشمل المعاملات والصلات والجوار والصداقة، بل إنحصر في موضوع البطانة مع عمومه لجميع غير المسلمين.
وكأن البطانة برزخ يعرف به المسلم من غير المسلم، فمن كان غير مسلم فلا يجوز للمسلمين إتخاذه بطانة وخاصة لأنه أو أهل ملته أو نفر منهم لم يقصدوا الإضرار بالمسلمين ومحاربتهم.
والصحيح هو الثالث والرابع، فجاء النهي مطلقاً ليشمل غير المسلمين جميعاً في آية إعجازية لتحصين ووقاية الإسلام والمسلمين من الضرر الذي يأتي من بينهم بسبب سوء الإختيار، إذ ان البطانة تقوم بوظائف ولها شأن وتأثير ذاتي من الأخذ بمشورتها، أو إطلاعها على الأسرار الخاصة والعامة للمسلمين.
وفي قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] أمور:
الأول: لا يقصرون في إفساد أموركم، وفيه وجوه:
الأول: موضوع الآية خاص بأوان ومزاولة تلبس غير المسلمين بوظيفة البطانة دون ما عداها، فهم لا يسعون في إفساد أمور المسلمين إلا عندما يكونون بطانة لهم.
الثاني: غير المسلمين مستمرون في السعي لإفساد أمور المسلمين سواء كانوا بطانة للمسلمين أو لم يكونوا بطانة لهم، فجاءت الآية للتحذير من إتخاذهم بطانة لأن من يقوم بإفساد أمورك لا يصح لك أن تأتمنه وتدنيه منك وتلك قاعدة عقلية جاء القرآن لبيانها وموضوعيتها في باب العقائد والحكم.
الثالث: توقف غير المسلمين عن إفساد أمور المسلمين عند إتخاذهم بطانة، فيبذل غير المسلم الجهد والوقت والمال للإضرار بالمسلمين، ولكن عندما يجعله المسلمون وليجة وخاصة يمتنع عن الإضرار بالمسلمين، ويحرص على مصالحهم وجلب المنافع لهم، وان بقي على ملته وولائه لغير الإسلام.
الرابع: التباين النسبي في سعي غير المسلم للإضرار بالمسلمين بلحاظ منزلته وشأنه، فحينما لا يكون وليجة فان سعيه يكون أقل وكذا مقدار الضرر الذي يحدث عند المسلمين بسبب هذا السعي، أما إذا كان بطانة للمسلمين فان سعيه للإضرار بهم يكون أكثر، ومقدار أثر وضرر هذا السعي يكون أكبر.
جاءت الآية للتحذير من هذا السعي مطلقاً، اي سواء صدر من غير المسلم وهو بطانة للمسلم أو صدر منه وهو ليس ببطانة لهم، وفيه درس قرآني، وتأديب للمسلمين وبيان موضوعية وإعتبار تقسيم الناس إلى مسلمين وغير مسلمين بما يمنع نزول الضرر بالمسلمين بإختيارهم البطانة من غيرهم.ليس في الآية تعدِ أو ظلم لغير المسلمين إنما هي تحفظ ما عند المسلمين، وتصون المبادئ والأحكام الشرعية، وتنهى عن الإفراط في التسامح والصلات والثقة بالآخرين بخصوص موضوع البطانة وللإخبار بان إختيار وتعيين البطانة جزء من الأمانة التي يتحملها المسلمون في أجيالهم المتعاقبة لما يترتب عليها من الآثار والنتائج.
وتبين الآية الأضرار والخسائر التي تلحق بالمسلمين بسبب المشورة الفاسدة، التي تأتي ممن يكون قريباً منهم، وتسكن النفس اليه خصوصاً عند الشدائد وإلتباس الأمور وتداخل الوقائع والأحداث، وجاءت الآية لتمنع من الطمأنينة التامة لمشورة غير المسلم، ولزوم عدم بيان الأحوال الخاصة والعامة وكشف النوايا والمقاصد له كيلا يؤدي هذا الكشف إلى حصول النقصان والخسارة عند المسلمين، وحصول الفتنة أو مقدمتها.
ويأتي الخبال بمعنى الجنون وهو المتبادر من اللفظ بخصوص عامة أهل العناد، ولكن معناه في المقام لحوق الأذى بالمسلمين بالذات والعرض، فقد يكون الأذى نتيجة وأثراً لنقص أو خسارة تلحق بالمسلمين، أو فوات منفعة، وما يترشح عن هذا النقص والخسارة من الأذى واللوم الذاتي والحسرة بسبب سوء الإختيار وما يترتب عليه من الضرر.
لتكون الآية واقية من الضرر المركب من الخسارة الفعلية، ومن الحسرة النفسية، ولتوفر على المسلمين مشقة التدارك وما يستلزمه من المدة والفترة والجهد والتدبر.
فجاءت الآية واقية وحصناً للمسلمين في ميادين العمل وآثاره العامة والخاصة، بإخبارها بان الطرف الآخر لا يقصر ولا يبطأ في خسارتهم ومحاولة إثارة الفتنة لهم، ولم يأتِ هذا الإخبار بمفرده بل جاء ضمن النهي عن إتخاذ غير المسلم بطانة لتجتمع في الآية صبغة الإنشاء والخبر في آن واحد من غير تعارض بينهما.
ويتجلى هذا الإجتماع بصيغة النهي وذكر علته في حكم تكليفي، ودرس فقهي يساعد المسلمين على التوفيق في أمور الدين والدنيا، ويحول دون لحوق الخسارة والنقص بهم بسبب موضوع البطانة والخاصة من غيرهم.
ولم يطرأ في بال أحد ان المسلمين يحترزون من إستبطان غيرهم على نحو الإطلاق، فجاءت هذه الآية لتدعو الناس للإسلام، وتجعلهم في مأمن من الضرر في النشأتين بالنجاة من الضرر والإثم الذي يترتب على السعي بإيذاء المسلمين وحسدهم وبغضهم، مع انهم لم يفعلوا إلا ما يرضي الله والقيام بإتباع رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمر الله سبحانه بالتصديق به وإتباعه ونصرته.
وجاءت هذه الآية لإستدامة هذه النصرة وصلاح أحوال المسلمين، وسلامتهم من الكدورة، والحجب التي تضعها البطانة الكارهة لإرتقائهم وسعادتهم.
ويحتمل قصدهم الإضرار بالمسلمين وجوهاً:
الأول: عند إتخاذهم بطانة، أما قبل البطانة أو بعدها، فلا يسعون للإضرار بهم، إنما ينحصر سعيهم للإضرار بالمسلمين من منازل البطانة والخاصة.
الثاني: قبل إتخاذهم بطانة فاذا إتخذ المسلمون بطانة ووليجة كفوا عن إيذاء المسلمين والإضرار بهم، إخلاصاً لهم، وأداء لوظائف البطانة.
الثالث: يأتي الضرر والأذى بعد إنقضاء مدة إستبطانهم لأنهم يطلعون خلالها على عورات المسلمين، فيقومون بأفشائها.
الرابع: متعلق الإضرار قبل وإثناء إتخاذهم بطانة دون ما بعده.
الخامس: السعي الدائم للإضرار بالمسلمين قبل وإثناء وبعد البطانة.
السادس: الإطلاق في قصدهم الإضرار بالمسلمين سواء إتخذهم المسلمون بطانة أم لم يتخذوهم.
والصحيح هو الخامس والسادس أعلاه، فقد جاءت الآية للتحذير من أعداء الإسلام، ومن الذين كذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجحدوا بنزول القرآن، والإخبار بانهم لا يدعون جهدهم في الإضرار بالمسلمين ومحاولة نشر الفساد والتعطيل في أعمالهم، لتبعث هذه الآية الحسرة والندامة والفزع في قلوب الكفار والذين يحسدون المسلمين على ما آتاهم الله، لما فيها من التنبيه والتحذير والتعليم للمسلمين وهي دعوة لغير المسلمين للإقرار بصدق نزول القرآن من عند الله تعالى والكف عن قتال المسلمين.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: البطانة المتعددة هي التي تسبب إيذاء المسلمين.
الثاني: كفاية بطانة السوء للحاكم والملك والقائد ليأتي الضرر على الأمة.
الثالث: لا تضر البطانة السيئة إلا من يتخذها لسوء مشورتها، وعدم أهليتها للنصيحة وكتمان الأسرار وفي الحديث “الدين النصيحة”( ).
الرابع: النهي في الآية مطلق وموجه لكل مسلم فيشمل أمور الحكم والقضاء والمال وتصريف الأعمال والمهن وشؤون الأسرة.
والصحيح هو الرابع فالآية إنحلالية تشمل جميع المسلمين والمسلمات وتتعلق بكل ميدان من ميادين الحياة، وهذا الإطلاق والعموم من خصائص الآية القرآنية وتعدد منافعها.
الخامس: جاءت الآية بصيغة الجمع سواء في الخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أو في موضوع الإنذار وهو البطانة، ويدل على لغة الجمع قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ولا يعني هذا حصر الضرر بتحقق صيغة الجمع في الطرفين بان يتخذ المسلمون جماعات متعددة من دونهم بطانة بل الآية انحلالية تشمل الأفراد أيضاً.
قانون “لا يألونكم إلا خبالاً”
من خصائص القرآن، ودلائل نزوله من عند الله، وأسرار بقائه إماماً في مسالك الهدى ان كل آية منه قانون ثابت، ومنهاج عمل ينير الطريق للمسلمين خاصة والناس جميعاً، وتنبثق من كل آية من آياته قوانين وأحكام تشريعية تهدي الناس إلى سواء السبيل، وإذ ان عدد آيات القرآن من المنتهي والمعدود الكثير فان القوانين التي تترشح وتتفرع عنها من اللامنتهي واللامعدود بالإضافة إلى إمتلاك القرآن لسر إعجازي خالد وهو تجدد تفرع وإقتباس القوانين والعلوم من آياته.
فلو إجتهد العلماء في إستخراج القوانين من القرآن، وبذلوا وسعهم مجتمعين ومتفرقين في بيان تلك القوانين فانهم لا يستطيعون الإحاطة بمعشارها، وسيأتي من بعدهم من يجد أمامه قوانين أخرى لم يذكرها السلف المسلمين من العلماء، وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن، وفيها دليل على تفضيلهم على غيرهم من الأمم.
والقرآن نهر جارِ بالقوانين السماوية والعلوم الملكوتية التي لا تنقطع إلى يوم القيامة، وفي كل يوم تطل علينا منها درر من الكنوز التي إدخرها الله عز وجل في القرآن لتكون ثروة ممتنعة عن النضوب والنقص والقلة، فلا تطرأ الخسارة والنقص والخبال على المسلمين لأنهم يمتلكون الذخائر القرآنية التي هي أهم وأعظم سلاح عقائدي عرفه التأريخ، فان عزم غير المسلمين على إلحاق الضرر بالمسلمين جاء القرآن بالواقية والسبيل إلى السلامة من هذا الضرر، كما في المقام، إذ تحذر الآية من تسلل أهل الكيد والشر والنفاق إلى منزلة بطانة وخاصة المسلمين وتبطل سعيهم للشأن الخاص في القرار والإطلاع على أسرار المسلمين عن قرب.
ومن الناس من لم تكن عنده نوايا سوء وشر ضد المسلمين ولكن عندما يطمئنون له، ويتخذونه بطانة فانه يجلب معه الشر ويسعى للإضرار بالمسلمين لوجوه منها:
الأول: الإضرار بالمسلمين أمر مستأصل فيه، ويظهر عندما يكون له شأن ومقام يبث منه سمومه ويظهر حسده.
الثاني: إغراء أعداء الإسلام من أبناء ملته له، وطلبهم إعانته لهم في كشف أسرار المسلمين، والسعي في إفساد وإرباك عزائمهم.
الثالث: ظهور آفة الحسد على لسانه وفي فعله، وعدم قدرته على الإحتراز منها عندما يرى الإرتقاء والسلامة في أفعال المسلمين وما يظهرون عليه من الإتحاد والتقيد بأحكام الأخوة الإيمانية.
الرابع: مجيء الفتنة من غير المسلمين، وتسربها اليه، وإقتباسه منها واقعاً وإنطباقاً.
الخامس: التباين والتضاد بين الإسلام وأحكامه وقوانينه وآدابه وما فيه من العبادات والمناسك وقواعد المعاملات، وبين ما يحمله غير المسلم وما يدين به من الملة وعدم التقيد بالقواعد الشرعية التي جاء بها الإسلام، الأمر الذي ينعكس سلباً على قوله وفعله كبطانة وخاصة، وكمطلع على أسرار المسلمين فيصبح مصدر أذى لهم من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم.
السادس: من الخصائص التي يجب أن تتصف بها البطانة الحكمة والعقل والصلاح، ومن يتخلف عن دخول الإسلام والإيمان بمبادئه والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعجز أن يكون بطانة للمسلمين.
السابع: إنعكاس حال الضلالة عند الشخص على قوله وفعله مما يسبب الضرر للإسلام والمسلمين عند توليه مقام البطانة لهم وان لم يقصد أويتعمد الإضرار بهم، وتتغشى أحكام هذه الآية التعدد في الأسباب والوجوه، وتدعو الآية المسلمين إلى الحذر التام من بطانة غير المسلمين خصوصاً وان الوجوه أعلاه لا تأتي دائماً على سبيل الإنفراد والإستقلال، فقد يجتمع أكثر من وجه عند شخص واحد أو جماعة متحدين في العمل وصفة البطانة، فجاءت الآية بصفة الإطلاق والنهي العام عن غير المسلمين في مسألة البطانة والخاصة.
وجاء تعليل النهي في الآية متعدداً ، وإبتدأ بهذا الشطر لبيان أهميته وموضوعيته، وفيه دعوة إضافية للمسلمين للحذر من غيرهم، وكشف لسر مصاحب للناس في الواقع اليومي، ويحتمل التعليل وإرادة غير المسلمين زيادة العناء والمشقة للمسلمين وجوهاً:
الأول: إنحصار الأمر بأيام التنزيل، وحث المسلمين على العناية بالقرآن، وكتابة وحفظ آياته، ومنعهم من الإلتفات إلى ما يقوله أهل الشك والريب والتحريف والإنصات لهم.
الثاني: إختصاص الآية بشؤون الحرب والقتال وعدم أخذ مشورة غير المسلمين فيه أو إطلاعهم على الخطط القتالية والجهادية للمسلمين لأن الحرب خدعة، وهؤلاء يفشون الأسرار فيفسدون على المسلمين مناهجهم، مما يمنع من مباغتة العدو الذي يكون في حال دفاع وتأهب ساعة الهجوم، الأمر الذي يؤخر النصر ويسبب خسائر إضافية عند المسلمين.
الثالث: سبب النهي الخاص في الآية الكريمة هم اليهود الذين كانوا في المدينة من بني النضير وبني قريظة وبني المصطلق، لا سيما وانهم أهل كتاب وعندهم أخبار النبوة بالإضافة إلى كونهم أصحاب أموال وتجارة، فجاءت الآية لتحذر المسلمين من اللجوء اليهم في المشورة وكشف الأسرار، وان كان موضوع الآية أعم.
الرابع: توجه الخطاب الوارد في الآية إلى الصحابة، لمنع نفاذ غير المسلمين إلى بطانة وخاصة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تصبح بطانة ثانوية ويظهر أثرها في أقوال وأفعال الصحابة خصوصاً وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من مشورة أصحابه والإنصات لهم، ويخبرهم عن الوقائع والأحداث.
ومن الآيات في المقام انه حينما ينزل عليه القرآن يتلوه عليهم، ويقوم بتفسير بعض آياته بما يمنع من اللبس.
الخامس: تشمل الآية أيام النبوة والخلافة الراشدة لموضوعيتها في تثبيت الأحكام وبيان السنن، وتعاهد آيات القرآن، وإمتناعه عن التحريف والتغيير في الأيام اللاحقة.
السادس: إطلاق أحكام الآية زماناً ومكاناً وموضوعاً.
والصحيح هو الأخير، فلا تنحصر أحكام الآية بأيام النبوة والصحابة، أو المدينة المنورة ولا المنع بأهل ملة مخصوصة من أهل الكتاب أو غيرهم، ويبين هذا الإطلاق التباين بين أهداف الإسلام وأهواء غير المسلمين، إذ يسعى المسلمون لنشر أحكام التوحيد وبناء دولة الحق والعدل والحكم بما أنزل الله تعالى، وهو أمر يتعارض مع الأهواء والرغائب الخاصة لأهل الملل الأخرى، ويعكس إتخاذهم وليجة وبطانة هذا التعارض على عمل المسلمين اليومي وغاياتهم السامية، ويسبب لهم الأذى والمشقة، والإبطاء في تحقيق الأهداف الحميدة التي يسعون اليها، وحصول خسائر جسيمة بسبب البطانة غير المناسبة.
فجاءت الآية مانعة وكافة، لتبقى مصاحبة للمسلمين إماماً وسبيل هدى في أيام الحياة الدنيا، وشاهداً على حاجتهم للقرآن وإنتفاعهم المتصل منه، مع تعدد ميادين هذا الإنتفاع، وعدم إنحصاره بميدان أو موضوع دون غيره، ووردت الآية بصيغة الجمع في الخطاب وفيه آية إعجازية، فمع ان القرآن نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه يخاطب المسلمين والمسلمات جميعاً من حين نزوله وإلى يوم القيامة، ليكون حرزاً، وواقية لهم متحدين ومتفرقين.
قانون النداء للمؤمنين
ورد لفظ “يا ايها الذين آمنوا” تسعاً وثمانين مرة في القرآن، وفيه مسائل:
الأولى: انه تشريف وإكرام للمسلمين.
الثانية: فيه شهادة على ان المسلمين بلغوا مراتب الكمال في الإيمان وتدل عليه آيات عديدة منها قوله تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
الثالثة: من إعجاز القرآن ان كل مرة يرد فيها هذا الخطاب المبارك يكون مدرسة وموعظة وعبرة، إذ يأتي في موضوع يتضمن لغة الأمر أو النهي للمسلمين وبصيغة المدح للمسلمين والثناء عليهم لتلقي الخطاب القرآني بالقبول والرضا والإمتثال.
وليس من فترة أو مدة بين نزول الخطاب وما فيه من الأوامر والنواهي وبين إمتثال المسلمين له، فحينما نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )في السنة الثانية للهجرة صام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون شهر رمضان ولم يؤجلوا الصيام الى سنة أخرى، ولم تتخلف أجيال المسلمين عن صيام شهر رمضان من سنة التنزيل والى يومنا هذا والحكم باقِ والإمتثال متصل الى يوم القيامة.
وهو شاهد على تفضيل المسلمين وانهم “خير أمة أخرجت للناس” لما في الصيام من الخضوع والخشوع لله عز وجل وإصلاح الذات والغير وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة الذاتية الى الله عز وجل أي الدعوة بالعبادة وحسن السمت وتجلي معاني الطاعة والإنقياد للأوامر الإلهية بالفعل الذاتي.
ونزل قوله تعالى في صلاة الجمعة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( )فسارع المسلمون الى أداء صلاة الجمعة وتعاهدوها برغبة وإقترن تعاهدها بتجدد الشوق اليها في كل مرة، وحرصوا على التقيد بأحكامها، وعدم التفريط بسننها وآدابها، فكانت ظاهرة عقائدية وأخلاقية إسبوعية متجددة تجذب النفوس اليها، وتبعث الخوف والفزع في قلوب أعداء الإسلام، وكما تضمن النداء والخطاب بالإيمان الأوامر فانه جاء بلغة النهي منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ]( )، ليكون من خصائص الإيمان إجتناب ما نهى الله عز وجل عنه.
وقد جاءت الآية محل البحث بصيغة النهي عن إتخاذ بطانة من دون المسلمين، ومن منافعها الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية فمثلاً يفيد الجمع بين آية المناجاة أعلاه وبين الآية محل البحث، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ] ( ).
ان أحكام البطانة شاملة لغير المسلمين جميعاً، وان كانوا من الأرحام وذوي القربى، ان البطانة السيئة تسعى لتثبيط عزائم المسلمين، وتحاول بعث الفتور في النفوس عن أداء الصلاة والصيام، وحضور الجمعات، فجاءت الأوامر الإلهية لتكون حرزاً للمسلمين، وشاهداً على حسن إمتثالهم وطاعتهم لله عز وجل، وجاءت النواهي القرآنية لتكون ظهيراً للأوامر القرآنية ومانعاً من إغواء شياطين الإنس والجن، وقد جاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] سبع مرات في سورة آل عمران وحدها، إحداها في هذه الآية، وعند التدبر بين الآيات الستة التي جاءت فيها وبين هذه الآية يتجلى الإعجاز والترابط والتداخل بين آيات القرآن وهي:
الأول: قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( )، وجاءت الآية محل البحث لمنع باب ومقدمة من مقدمات الطاعة لأهل الكتاب وهو البطانة بتقريب ان البطانة تبدي الرأي والمشورة فإذا أطاع المسلم بطانته من أهل الكتاب فقد يلحقه الضرر والأذى.
الثاني: جاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، ومن تقوى الله عز وجل في المقام أمور:
الأول: إجتناب إتخاذ بطانة من دون المسلمين، لأن التقيد بأحكام النواهي القرآنية من أسمى مصاديق التقوى.
الثاني: إجتناب البطانة السيئة، عون ومقدمة لتعاهد مضامين التقوى.
الثالث: تسعى البطانة السيئة للفصل بين المسلم وبين بعض مصاديق وأفراد التقوى.
الوجه الثالث: ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، وتأتي الآية محل البحث لتكون زاجراً إضافياً عن الربا، خصوصاً وان الكفار يقولون [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( )، ويساعد إجتناب البطانة من الكفار على إستدام النفرة من الربا القرضي والمعاملاتي.
الرابع: قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( )، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أنه لم يخل بينهم وبين الذين كفروا، فجاءت هذه الآية للتحذير من المقدمة التي تكون سبباً لقصور المسلمين عن أداء وظائفهم بالنهي عن إتخاذ الكفار بطانة.
وفي الجمع بين الآية محل البحث والآيات أعلاه يتجلى قانون في الإرادة التكوينية وهو حينما يأتي الأمر الإلهي للمسلمين في القرآن تأتي معه مقدماته وأسباب إجتنابه، وكذا بالنسبة للنهي فان مقدمات الإحتراز من المعصية تأتي في القرآن، لذا فان النهي عن إتخاذ البطانة من غير المسلمين عون للإمتثال للأوامر والنواهي الواردة في سورة آل عمران، وفي سور أخرى من القرآن، وكذا فان التقيد بتلك الأوامر والنواهي مدد وعون ومقدمة لإجتناب البطانة من غير المسلمين.
الخامس: ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( )، وذكر ان هذه الآية نزلت في عبدالله بن أبي سلول وأصحابه من المنافقين إذ ينهى بعضهم بعضاً عن الغزو والجهاد في سبيل الله، بان الذين ضربوا في الأرض منهم للتجارة والكسب وماتوا، والذين خرجوا للغزو وقتلوا في سبيل الله انهم لو لم يخرجوا لما قتلوا، أما إذا جاءوا منتصرين، وعادوا بالغنائم فانها تكون حسرة في قلوبهم، فجاءت الآية محل البحث للزجر عن الإلتفات لأقوال الذين كفروا والمنافقين في الصد عن سبيل الله، وللإخبار بان إتخاذ هؤلاء بطانة يبعث على التخاذل والتهاون.
ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: بيان رحمة الله عز وجل بالمسلمين بنهيهم عن إتخاذ البطانة من الكفار والمنافقين.
الثاني: مجيء الآية بصيغة النهي [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] والتي تفيد لزوم الترك، وحرمة إتخاذ مثل هذه البطانة.
الثالث: تقيد المسلمين بأحكام النهي الوارد في هذه الآية عن علم وتفقه في الدين، لأنهم يدركون الأضرار التي تلحق بهم في دينهم وأنفسهم من إتخاذ بطانة من الكفار.
السادس: جاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( )، هي آخر آية من سورة آل عمران، وفي إختتام السورة بهذا الخطاب التشريفي شاهد بان ما في الآية من الأحكام والمواعظ والحكم جاءت رحمة ولطفاً وفضلاً من عند الله عز وجل للمسلمين، وهم الذين يقومون بأعباء وراثة الأنبياء والصالحين من الأمم الأخرى، بحسن الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بأحكام القرآن ومنها موضوع البطانة والحرص على جعلها مقدمة ووسيلة للصبر والمرابطة في الثغور من غير جزع أو ترجيح للذات وزينة الدنيا رجاء الفوز برضا الله عز وجل، والخلود في النعيم الدائم.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يواظبوا على الطاعات وأداء الصلوات وإنتظار صلاة بعد أخرى، والصبر والتحمل في العبادات وميادين الجهاد في سبيل الله عز وجل، مما يستلزم البطانة والخاصة الصالحة التي تحبب الى المسلمين الصبر والجهاد، أما البطانة من غير المسلمين فانها تدعو الى التهاون وتبث أسباب الضعف وتمنع من المرابطة والصبر وتبين ما فيهما من المشقة والعسر لتبتعد النفوس عنها فجاءت آية البطانة ليهتدي المسلمون الى الإمتثال لآية المرابطة ويفوزون بالنصر والغلبة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة.
قانون إجتماع البشارة والإنذار في الأمر أو النهي
أربعة علوم جديدة
تختلف أحكام الأوامر والنواهي عن البشارة والإنذار، إذ ان الأمر الإلهي خطاب تكليفي يتضمن وجوب الفعل وعدم جواز الترك أما النهي فيعني وجوب الترك، أما البشارة فهي إخبار عما يكون فيه الخير والبركة والظفر، والإنذار تحذير وتنبيه ودعوة للحيطة واليقظة والعبرة، ومن إعجاز القرآن إجتماع الأمور الأربعة أعلاه في لفظ وجملة وآية واحدة في القرآن من وجوه:
الأول: يدل الأمر القرآني في دلالته الإلتزامية على النهي والبشارة والإنذار ويكون متعلق النهي هو الضد العام للمأمور به، والبشارة بالإمتثال للأمر الإلهي، والإنذار من مخالفةالأمر.
الثاني: دلالة النهي في القرآن على لزوم ترك الفعل المنهي عنه، ومعرفة ضده المأمور به، والبشارة بإجتناب ما نهى الله عنه، وما في هذا الإجتناب من المنافع الخاصة والعامة، وما يلحق المسلم من خيرالدنيا والآخرة، والإنذار بالأضرار التي تترتب على الغفلة وعدم التقيد بأحكام النهي.
الثالث: مجيء البشارة القرآنية بالوعد الكريم، وتدل في دلالتها الإلتزامية على التقيد بما في القرآن من أحكام الحلال والحرام، والأوامر والنواهي لأنه سبيل مبارك لنيل وتحقيق البشارات القرآنية كما تدل على الإلتفات إلى إنذارات القرآن، وأخذ الحائطة للدين والدنيا.
الرابع: دلالة الإنذار القرآني على ترتب الضرر الفادح عند مخالفة الأوامر الإلهية، والإصرار على المعصية وعدم التقيد بأحكام النواهي، وفيه بشارة العز والظفر ونيل البشارات عند العمل بالإنذارات التي جاءت في القرآن.
ويمكن تأليف مجلدات في كل من:
الأول: علم الأوامر في القرآن مع إحصائها وبيان مواضيعها، خصوصاً وانها لا تنحصر بآيات الأحكام ومسائل الحلال والحرام والنفع العظيم في الإمتثال لها، والحسن الذاتي والعرضي لكل فرد من الأفراد المأمور بها.
الثاني: علم النواهي في القرآن، وعددها، وآياتها، ومواضيعها، وبيان ضرورة التقيد بها، والأضرار التي تتفرع عن الإقامة على المعصية، والقبح الذاتي والعرضي للمنهي عنه، مع إعتبار العلم الحديث في توكيد النفع في المأمور به والضرر في المنهي عنه في القرآن.
ومن خصائص هذا الإعتبار أمور:
الأول: توكيد إعجاز القرآن، إذ يأتي العلم الحديث موافقاً لما فيه من الأحكام.
الثاني: حث المسلمين على التقيد بما في القرآن من الأوامر والنواهي لما في العلم من حجة عقلية تجذب الناس للأخذ بها وعدم التفريط في المستقرأ من الآية القرآنية.
الثالث: توكيد العلم للمنافع العظيمة في الأمر القرآني، والإضرا ر فيما نهى الله عنه، شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله، ومن التكاليف ما يؤتى تعبداً ورجاء الأجر والثواب، فيأتي العلم بعد ألف وأربعمائة سنة أو أكثر على نزول القرآن ليؤكد ان الأوامر القرآنية نفع محض وهي سر من أسرار إرتقاء المسلمين وسلامتهم من الأدران.
الرابع: دعوة الناس لدخول الإسلام لما في موافقة العلم للأوامر والنواهي القرآنية من برهان وترغيب للناس بالإسلام.
الخامس: منع الناس من التعدي على الإسلام والمسلمين، ولا يجد من يحاول الإساءة إلى الإسلام آذاناً صاغية له، لأنه يعمل بخلاف العلم وموازين العقل.
السادس: بطلان الشبهات التي يثيرها بعضهم على الإسلام، ومن الإعجاز عدم وجود شبهات على القرآن، واذا ما جاءت شبهة فسرعان ما تفند وتموت في مهدها، ويأتي العلم عوناً للمسلمين لدفعها، ومانعاً من ترتب الأثر عليها.
السابع: يرسخ العلم المبادئ والأحكام الإسلامية في الوجود الذهني العام للمسلمين ولغير المسلمين، لأنه مصداق خارجي على صدق آيات القرآن خصوصاً وانه نزل في زمان الجاهلية، وفي الجزيرة العربية إذ كان أهلها منشغلين بالغزو والإقتتال فيما بينهم.
الثامن: منع التفريط بأحكام القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي.
التاسع: تعاهد أجيال المسلمين لأحكام القرآن.
العاشر: تأهيل المسلمين للإحتجاج والجدال ودعوة الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
الثالث: علم جمع وإحصاء ما في القرآن من البشارات، وهي على قسمين:
الأول: البشارات الدنيوية، وهي على ثلاث شعب:
الأولى: البشارات العاجلة مثل الوعد بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الكفار، قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ).
الثانية: البشارات الآجلة التي تتعلق بنصر المسلمين، وإنهزام الكفار ومفاهيم الضلالة في آخر الزمان قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثالثة: البشارات المستديمة وهي التي تصاحب المسلمين في الحياة الدنيا، وتتكرر مصاديقها عند الأجيال المتعاقبة من المسلمين بفضل ورحمة من عند الله.
الثاني: البشارات الأخروية وهي الوعد الإلهي الكريم بإقامة المسلمين في الجنة على نحو الدوام، وآيات النعيم التي يتنعمون بها في عالم الخلود والبقاء الأبدي، وصفات الجنان التي يقيمون بها جزاء وإحساناً من عند الله عز وجل، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
ان بشارات القرآن مدرسة عقائدية تبعث الشوق في النفوس لأداء العبادات وتجعل الجوارح تقبل عليها من غير ملل أو كلل، ويتجلى هذا الأمر مثلاً بإستقبال المسلمين رجالاً ونساء لشهر رمضان، وإستبشار وفد الحاج بأداء مناسك الحج بآيات الثناء والشكر لله تعالى على نعمة التوفيق لأداء العبادات والمناسك.
ان جمع بشارات القرآن سياحة ملكوتية في عالم الغيب، ومناسبة لبيان العناية الإلهية بالمسلمين، وشاهد على أنهم خير أمة أخرجت للناس بما رزقها الله من البشارات والنعم، وباعث للتطلع العام لنيل مصاديق البشارات، ودليل على ان القوة جميعاً لله تعالى وبيده مقاليد الأمور، وان الأشياء جميعها مستجيبة له، وانه سبحانه صادق الوعد.
الرابع: علم إحصاء ما في القرآن من التحذير والإنذار، وما فيه من لغة التخويف والوعيد وهو على أقسام:
الأول: الإنذار الدنيوي: وهو الخاص بالحياة الدنيا، ويأتي على وجوه:
الأول: تحذير المسلمين، ومنه هذه الآية الكريمة، بلزوم إجتناب إتخاذ غير المسلمين بطانة وخاصة، ومنه قوله تعالى [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ] ( ).
الثاني: تحذير وإنذار أهل الكتاب كما في الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه قال تعالى [فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ]( ).
الثالث: تحذير وإنذار المنافقين، لصدهم عن الإضرار بالمسلمين، وبعث الخوف والفزع في نفوسهم، قال تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
ومن الآيات ان تحذير وإنذار الكفار والمنافقين يتضمن في دلالته التضمنية تحذير المسلمين منهم ومن الكفار قال تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإلى اللَّهِ الْمَصِيرُ]( ).
الرابع: إنذار الكفار والإخبار عما ينتظرهم من العذاب في الدنيا، وهذا الوجه من الإنذار آية تدل على الغضب الإلهي على الكفار لسوء إختيارهم وإقامتهم على الضلالة والجحود.
الثاني: التحذير والإنذار الأخروي، وهو خاص بالكفار والمنافقين، وفيه حجة عليهم في الدنيا والآخرة، ومن وجوه تفضيل المسلمين عدم توجه الإنذار الأخروي لهم، كما انهم يقومون بتبليغ الإنذار إلى الناس جميعاً، وهذا العموم من مصاديق عالمية الرسالة الإسلامية والحاجة إلى بقاء القرآن منزهاً من التحريف والتغيير، ليتدبر الناس في آياته وما لها من الدلالات، وما فيها من المواعظ والعبر، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا]( ).
الثالث: الإنذار الجامع للحياة الدنيا والآخرة، وهو أيضاً خاص بالكفار والمنافقين ويكون على قسمين:
الأول: الجمع بين الآيات التي تدل على الإنذار الدنيوي، والآيات التي تدل على الإنذار الأخروي في ذات الموضوع كما في الجمع بين قوله تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( )، وقوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
الثاني: مجيء آية واحدة بالإنذار والإخبار عن البطش الإلهي بالكفار في الدنيا والآخرة قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخرةِ] ( ).
ويستطيع العلماء تأسيس أربعة علوم جديدة كل واحد منها في باب من الأبواب الأربعة أعلاه، ليكون مدرسة عقائدية وإجتماعية وأخلاقية وطبية وإقتصادية، ووسيلة للعمل بأحكام القرآن بشوق ورغبة، وجامعة للتفقه في الدين وبيان الأحكام ومتعلقاتها من المواضيع، وشاهداً على إحاطة القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث.
ومن خلال علم الأوامر يتم إحصاء ما أمر الله به على نحو الوجوب أو على نحو الندب والإستحباب، وبعلم النواهي يعلم الناس الآيات التي تضمنت نهياً أو أكثر والمواضيع التي جاءت فيها النواهي، وكيفية التقيد بأحكام النهي وإستدامته، والأضرار الخاصة بكل موضوع نهى عنه الله تعالى في القرآن، أو ورد به النهي في السنة النبوية الشريفة بإعتبار ان السنة جزء من الوحي وفيها بيان وتفسير للقرآن.
ومن الآيات ان مواضيع الأوامر والنواهي من المتجدد والملامنتهي لأنه يتضمن مستحدثات المسائل، والأمور الإبتلائية التي تترشح عن زمن العولمة والتداخل بين أهل الملل والنحل المختلفة، وحاجة الناس لمعرفة مبادئ الإسلام بعيداً عن التشويه، إن الذين قاموا بتحريف وتغيير صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في التوراة والإنجيل يظهرون في آخر الزمان بذات الرداء وصيغ الزيف والباطل مع إستغلال وسائل الإعلام ونحوها لبث سمومهم، فيكون العلم وبيان أحكام آيات القرآن وما فيها من الإعجاز العلمي والعقلي سلاحاً عالمياً لدفع الشبهات ودرء الأضرار والتخفيف عن الناس، وجعلهم قادرين على التمييز بين الحق والباطل، ونصرة الحق وعدم النفرة من الإسلام وما فيه من الأوامر والنواهي.
ان كلاً من الأمر والنهي، والبشارة والإنذار في القرآن علم مستقل قائم بذاته يدعو العلماء والباحثين إلى إستقراء الدروس وإستنباط العلوم منه، بجمع وإحصاء كل واحد منها على نحو خاص ومنفرد ثم دراسته والإتعاظ مما فيه من المسائل والأحكام.
علم الأوامر الإلهية
من إعجاز القرآن ان علومه إنحلالية وإنشطارية، وكل علم تتفرع عنه عدة علوم، وليس من نهاية لهذا التفرع بلحاظ أمور:
الأول: تعدد وكثرة المواضيع، وتبعية الحكم للموضوع.
الثاني: كل آية كنز قرآني يفيض بالعلوم والبراهين والدلالات القاطعات.
الثالث: إحاطة القرآن بالوقائع، وملائمته لكل الأزمنة والأمكنة.
الرابع: القرآن تبيان لكل شيء، ويأخذ منه العلماء كل حسب إختصاصه ويستنير به المتعلمون على سبيل النجاة.
وجاء القانون السابق بتأسيس علوم أربعة، وكل علم منها مدرسة جامعة، وأصل تتفرع منه علوم متعددة سواء بالذات او بالإجتماع مع العلوم الثلاثة الأخرى لتكون العلوم التي تتفرع عنها على وجوه متعددة منها ويأتي هذا الباب خاصاً بعلم الأوامر الإلهية، وفيه وجوه منها:
الأول: النواهي والزجر الذي تدل عليه الأوامر الإلهية في مفهومها ودلالتها الإلتزامية كما في الأمر بصلة القربى فانه يتضمن النهي عن قطع الرحم وعن منع المعروف في القربى، قال تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى] ( )، ويمكن أخذ كل أمر في القرآن على نحو مستقل، وبيان ما يدل عليه من النهي في ضده الخاص والعام.
الثامن: إستقراء مقدمات الإمتثال لكل أمر من الأوامر القرآنية، ولزوم إتيانها لوجوب المقدمة لوجوب ذيها سواء كانت المقدمة شرعية أم عقلية، فالحج واجب على كل مكلف مستطيع، ومن مقدماته العقلية قطع المسافة للوصول إلى الحرم المكي.
الثالث: المنافع الخاصة والعامة التي تترشح عن الإمتثال للأوامر الإلهية، بأخذ كل أمر على حدة، وإستقراء المنافع التي تصاحبه والتي تأتي لاحقة به ومتفرعة عنه.
الرابع: البشارات التي جاءت بخصوص إمتثال كل أمر إلهي والواردة في الكتاب أو السنة ولا يشترط تعلق تلك البشارات بأحد الأوامر على نحو الحصر والتعيين، فتكفي الدلالة عليه، ووجود صلة بينهما، فقد تكون البشارة الواحدة مناسبة لعدة أوامر، كما في قوله تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، فانه بشارة للصبر على الأذى في جنب الله، وعند المصيبة، والصبر في طاعة الله، والصبر عن المعصية لتكون الآية أعلاه بشارة للإمتثال لأوامر إلهية عديدة.
الخامس: ما يدل عليه الأمر الإلهي من التحذير عن ضده الخاص والعام، والمنع من ترك الإمتثال للأمر الإلهي، والأضرار التي تترشح عن هذا الترك ولزوم التعاون بين المسلمين للإتيان بما أمر الله تعالى به.
السادس: ذكر النواهي القرآنية التي تساعد على الإمتثال للأمر الإلهي ولحاظ التعدد في الطرفين إذ تجد أمراُ إلهياً مخصوصاً جاءت نواهي عديدة في ضده وبما يساعد في الإمتثال لذات الأمر، كما يصلح النهي الواحد لأن يكون طرفاً في تثبيت العمل بأحكام أمر معين في القرآن، وقد جاءت الآية محل البحث بنهي المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم وهذا النهي مقدمة ووسيلة للعمل بأوامر إلهية عديدة منها:
الأول: التمسك بالقرآن والسنة، والعمل بمضمون قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثاني: تعاهد الأخوة الإيمانية بين المسلمين وإستدامة الحرص على التعاون بين المسلمين بسنن الهداية والتقوى، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، وإجتناب البطانة من غير المسلمين وسيلة للتعاون بين المسلمين وإتخاذ بعضهم بعضاً بطانة.
الثالث: تثبيت قواعد الصلح بين المسلمين، واللجوء اليه عند حصول الفتنة لأن البطانة المسلمة تدعو وتسعى اليه، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] ( ).
الرابع: التقيد بأحكام التحذير القرآني من المنافقين والكفار بإعتبار ان إجتناب إتخاذهم بطانة من مصاديق التقيد بهذا التحذير سواء جاء التحذير بصيغة الخبر والإشارة، أو الإنشاء والتصريح كما في التحذير من المنافقين قال تعالى [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ]( ).
الخامس: الإستدلال على الأمر القرآني بأمر آخر مثله يساعد في الإمتثال له، أو يكون مقدمة أو رديفاً له، سواء كانا في باب العبادات أو المعاملات، أو كانا مختلفين في الموضوع، بحيث يكون أحدهما في العبادات، والآخر في المعاملات.
السادس: الأجر والثواب الذي يأتي من العمل بالأمر القرآني، فمثلاً جاء القرآن بالأمر بالصلاة قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( )، وأكدت السنة النبوية على موضوعيتها في العبادة، وفي الحديث “الصلاة عمود الدين”( ).
ويبين هذا العلم الآيات والأحاديث النبوية التي جاءت في ثواب إقامة الصلاة كما يبين إستدامة الأوامر القرآنية وانها دائمية ولا تتعلق بدوام أو زوال أمر عرضي سواء كان حسناً أو قبيحاً، وهذه الإستدامة من وجوه تفضيل القرآن على الكتب السماوية السابقة ، وتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، والمسلمين على أهل الملل الآخرى وحاجة الناس اليهم، وإلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
ان حسن الجزاء على إتيان ما أمر الله تعالى به باعث على تلقي الأمر الإلهي بالقبول والرضا، ووسيلة سماوية مباركة لإمتلاء النفوس بالشوق للعمل والسعي في دروب الخير والصلاح والتقيد بأحكام العبادات والمعاملات والحرص على عدم التقصير أو التفريط فيها، وشاهد على إجتياز المسلمين لمسائل الإختبار والإمتحان في الحياة الدنيا.
السابع: تقسيم الأوامر القرآنية تقسيمات متعددة بحسب الموضوع والحكم منها:
الأول: تقسيم الأوامر الإلهية إلى قسمين:
الأول: العبادات وما فيها من الأوامر والأحكام.
الثاني: المعاملات، ولزوم التقيد بمسائل الحلال والحرام، والصدق بالكيل والميزان، وتعاهد العقود والمواثيق قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ( ).
الثاني: تقسيم الأوامر بلحاظ مراتب الأمر إلى قسمين:
الأول: الواجب الذي يجب إتيانه ولا يجوز تركه.
الثاني: المندوب الذي يستحب إتيانه ويكره تركه.
وهذا التقسيم مبحث أصولي يبتنى على تعيين الأوامر الإلهية وحصرها وبيان المنهجية في التقسيم والأسس التي يستند اليها لإختلاف الأصوليين في دلالة الأمر على وجوه:
الأول: الوجوب، فالأمر يدل على الوجوب لأصالة الإطلاق والتبادر، ومفهوم صيغة الأمر، ولأن الإستحباب يحتاج إلى مؤونة زائدة لما فيه من حصة إضافية وهي الإذن في الترك.
الثاني: الإستحباب، بإعتبار انه الأصل والمراد من طلب الفعل، ولأن الوجوب مركب من لزوم الفعل وشدة الطلب فيه، مع حرمة الترك.
الثالث: المعنى الأعم للوجوب والإستحباب، لإشتراكهما في طلب الفعل والتركيب في كل منهما، فمع الوجوب يأتي المنع من الترك، ومع الإستحباب يأتي الإذن فيه، وكل فرد منهما يحتاج إلى مؤونة زائدة، والأصح ان معنى الأمر يدل على الوجوب إلا مع القرينة الدالة على الإستحباب، ويصبح هذا النزاع لفظياً عند إستعراض وإحصاء وبحث كل أمر قرآني على نحو مستقل إذ يمكن تعيين المراد من الأمر وماهيته، وهل يدل على الوجوب وحرمة الترك أم على الإستحباب.
ومن الآيات إنتفاء القسيم الثالث وهو المعنى الأعم إذ لا يكونا بعرض واحد في أمر واحد في الأمر المشترك للتعارض بينهما في ذات الموضوع، وفيه آية إعجازية تدل على إمامة القرآن للناس، وكونه سبباً للقضاء على الخلافات وتعدد الأقوال في علم الأصول والفقه والكلام وقد يأتي الأمر بعد النهي كما في قوله تعالى [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا] ( )، لبيان فضل الله عز وجل والتخفيف عن المؤمنين بعدم إستدامة النهي في بعض الموضوعات والأحكام.
الثالث: تقسيم الأوامر القرآنية بلحاظ جهة الخطاب إلى أقسام:
الأول: الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهو على أقسام:
الأول: الأمر الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [قُمْ اللَّيْلَ إلا قَلِيلاً] ( )، وما يخص تعدد زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم ونحوه من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الأمر الموجه للمسلمين جميعاً بواسطة صيغة الخطاب الموجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ] ( ).
الثالث: صيغة الجمع في الأمر الموجه للمسلمين، وإنحلاله بعدد المكلفين من المسلمين والمسلمات يوم القيامة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني: الأوامر الموجهة إلى الكفار، وفيها شاهد على ان القرآن كتاب سماوي نازل للناس جميعاً وما من إنسان إلا وتشمله خطاباته وأوامره ونواهيه سواء على القول بان الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، أو على القول بتكليفهم بالأصول دون الفروع، فتأتي الأوامر الإلهية للكفار ودعوتهم إلى الإسلام والتصديق بالبشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية، والمعجزات الباهرات التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الأوامر الموجهة إلى أهل الكتاب خاصة، وحثهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب التحريف والتغيير في صفاته التي وردت في التوراة والإنجيل.
ولأهل الكتاب خصوصية وهي إقرارهم بالله عز وجل والتصديق بشطر من إنبيائه، فجاءت آيات القرآن لحثهم على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتحاد سنخية النبوة وآياتها، وإتصال البشارة والتصديق بها، فقد بشر الأنبياء السابقون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بالتصديق بنبوة الأنبياء السابقين جميعاً ومنهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
الرابع: الخطابات والأوامر الإلهية الموجهة للناس جميعاً، والتي تتضمن الدعوة إلى الإيمان والتحلي بالتقوى والصلاح، وأداء العبادات والفرائض كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، فجاء التكليف فيها بصيغة العموم وشموله للناس جميعاً، فكل إنسان مستطيع للحج يجب ان يؤديه في سنته ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة بإختيارهم الكفر، مما يدل على ان الآية أعلاه تدل في دلالتها التضمنية على نهي الناس عن الكفر، وزجرها للكفار بسبب تخلفهم عن اللحوق بالمسلمين في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء العبادات والمناسك.
وكأن الإيمان مقدمة واجبة لأداء الواجب العبادي الذي لا يتم إلا بقصد القربة مع انه رشحة من رشحات الإيمان ووسيلة للفوز في النشأتين بالتوفيق في الإستجابة لعلة خلقهم وهي عبادة الله عز وجل.
ومن وجوه الهداية التشريعية تقريب وجذب العباد إلى الطاعات، وتهيئة أسبابها، وإعانتهم على أدائها، واللطف بهم، وإزاحتهم عن المعصية وطرقها ومقدماتها.
علم النواهي الإلهية
من فضل الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة مجيء النواهي القرآنية مصاحبة وملازمة للأوامر من حيث المواضيع مع التباين والتضاد في الفعل والإتحاد في النتيجة، فتجد في كل موضوع من مواضيع الحياة النواهي والزجر عن فعل القبيح والمنكر فيه، والأمر بالواجب والمستحب فيه كما في المعاملات قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( )، ففي ذات المعاملة جاء الحكم بحلية وإستحباب البيع والندب اليه، مع التوكيد على حرمة الربا والتي تستقرأ من المنطوق الذي يفيد النهي القاطع، وعدم جواز الترك مطلقاً، ليكون النهي من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة من الحرمة والمنع سواء كان الربا قرضياً أو عينياً، وكثيراً أو قليلاً، ويأتي النهي أحياناً في ذات الفعل المأمور به، ليكون النهي جهتياً، ومن الآيات في علوم القرآن إشارة النهي في مفهومه على الأمر بالضد، ودلالة الأمر في مفهومه على النهي عن الضد إلا ما دل الدليل خاص على خلافه كما اذا لم يكن هناك ضد الخاص للأمر او النهي، وتأتي النواهي القرآنية على أقسام:
الأول: أن يكون المنهي عنه بذاته، بحيث يأتي الزجر عنه كموضوع مستقل وليس معلولاً لغيره كما في النهي عن الكفر والجحود.
الثاني: مجيء النهي عن فعل يكون معلولاً لغيره ومترشحاً عنه، ليشمل النهي الأصل والفرع، كما في نهي الكفار عن تسخير أموالهم في المعصية والإعانة على قتال المسلمين، وفيه آية إعجازية تدل على رأفة الله تعالى بالعباد، وتغشي اللطف الإلهي للناس جميعاً، بإنذار ونهي الناس عن الفعل القبيح مطلقاً، سواء كان أصلاً أو فرعاً، وفيه وجوه:
الأول: تأديب وإصلاح الناس وإعانتهم للتخلص مما فيه الإثم وظلم النفس والغير.
الثاني: قد يجتنب الإنسان الفرع المنهي عنه فيكون هذا الإجتناب مدخلاً للإمتناع عن الأصل، أو يبدأ في إجتناب الأصل، فيقلع عما يتفرع عنه مما نهى الله عز وجل عنه، ويكون القرآن إماماً له، ووسيلة سماوية مباركة لهدايته.
الثالث: النواهي القرآنية مناسبة للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام، وتعيين موضوعات كل واحد منهما.
الرابع: من فضل الله انه جعل القرآن بياناً للأحكام التكليفية الخمسة وجاءت النواهي للمنع مما هو محرم أو مكروه في الشريعة، ومن الآيات أن ما وردت حرمته في القرآن باقِ على حرمته إلى يوم القيامة ليس من تغيير في حكمه وان طرأت وحدثت مواضيع إضافية متعددة في بابه مع إمتناع الحكم القرآني عن اللبس والترديد، فقد تأتي المعاملة الربوية بطرق مستحدثة ووسائط متعددة، ولكن حكمها يبقى واضحاً جلياً لإستدامة الفصل بين البيع والربا.
الخامس: النهي القرآني باب للتوبة والإنابة، ودعوة لمحو الذنوب، والفوز بالمغفرة، لذا فان الخطاب القرآني بالنهي عما حرم الله تعالى دعوة لنيل رحمة الله بإجتناب ما نهى عنه، والتوجه الصادق إلى العمل بما أمر الله تعالى به، وليس من برزخ في عالم الفعل بينهما، فلا يجوز ان يقف الإنسان عند الإقلاع عن المعاصي بل لابد له أن يمتثل لما أمر الله تعالى به سواء في ذات الموضوع الذي جاءت الحرمة فيه، أو في غيره من المواضيع.
السادس: التقيد بأحكام النهي القرآني مدخل للتقيد بغيره من النواهي، فما ان يبدأ الإنسان بإجتناب فعل طاعة لله تعالى، حتى يصبح حريصاً على إجتناب أمور منكرة أخرى جاء النهي عنها في القرآن أو السنة النبوية، وتلك آية في خلق الإنسان، ومصداق لكون العبادة هي علة خلقه وشاهد على إعانة الله تعالى للعبد بان يبدأ الخطوة الأولى في طريق التوبة فيهديه الله تعالى لمعالم الطريق.
وفي كلام للإمام علي عليه السلام “إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا ، ونهاهم تحذيرا ، وكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها” ( ).
فالتكليف لطف ورحمة بالعباد، إذ ان الله عز وجل أنعم على الإنسان بالعقل قبل ان يتوجه اليه الخطاب التكليفي ويبين له طريق الهدى وطريق الضلالة، ثم تفضل وأمره ونهاه، وبشره بالثواب على الطاعة، وأنذره من العقاب المهين على المعصية، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وكانوا أئمة الأمم في الصالحات ليكونوا عوناً للناس في سبل الهداية وفي دعوتهم وسننهم وأعمالهم فتجتمع النبوة والتنزيل والعقل على الهدى، فينهزم الكفر أمامهم ليتلاشى ويكون كالسراب ولا تسمع له صوتاً ولا ترى له أثراً خارجياً في أقوال وأفعال الذين هداهم الله للإيمان الذين يصبحون جنوداً لله تعالى، ودعاة للحق والهدى، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ] ( ).
فيتلقى المسلمون في كل جيل وزمان ومنذ أيام أبينا آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة الأوامر والنواهي بالرضا والقبول، ومن الأسرار في خلق الإنسان ما أنعم الله تعالى به عليه بعدم سلب الإختيار منه، ولكن لم يتركه الله وشأنه، بل أنزل سبحانه الأوامر والنواهي ليكون كل طرف منهما عوناً للإمتثال في الطرف الثاني، فالعمل بالأوامر الإلهية واقية مما نهى الله تعالى عنه، والإحتراز من فعل مانهى الله عز وجل مقدمة للإمتثال للأوامر الإلهية.
الثالث: يأتي النهي عن شيء بإعتباره مقدمة لأمر محرم آخر أشد وأكثر إثماً منه لحرمة المقدمة لحرمة ذيها، فاذا كان ذو المقدمة حراماً، فمقدمته الموصلة اليه حرام ايضاً سواء جاء النص القرآني بحرمتها، أو أنها تستقرأ من حرمة ذيها وما تؤدي اليه.
الرابع: إستدامة وتجدد النهي في ذات الفعل المحرم، فمن الآيات ان النهي عن الفعل لا ينقطع بإتيانه معصية مرة أو مرات، بل يلاحق النهي ذات الفعل والفاعل في كل مرة في دعوة للإنابة والتوبة والكف عن المعصية. ومن الأسرار والإعجاز في النظام المتكامل في الشريعة الإسلامية تجدد النواهي القرآنية بمناسبة الفعل ومن غير مناسبة لأن النهي يتعلق بالطبيعة السارية، وأفرادها ووجودها كما في حرمة الربا فانها شاملة لحال الإختيار والإضطرار، من وجوه:
الأول: تلاوة آيات القرآن، وبيانها لأحكام الحلال والحرام، كما في الآيات التي تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقاً، أو تنهى عن فعل قبيح مخصوص كما في شرب الخمر أو أكل الربا ونحوه، والقرآن وتلاوته حاضرة بين المسلمين في صلاتهم، ومنتدياتهم وبيوتهم ومجالسهم.
الثاني: نفرة المسلمين رجالاً ونساء من فعل الحرام، وصاحبه وظهور هذه النفرة على الألسن، وفي عالم الأفعال عن قصد أو من غير قصد.
الثالث: إستحضار المسلمين للسنة النبوية الشريفة، وما فيها من النواهي التي هي ترجمان وبيان للقرآن مع إدراكهم جميعاً لزوم العمل بالسنة، وعدم التفريط بها، وليس من أمة أو أهل ملة يقرون ويتعاهدون وجوب العمل بما قاله نبيهم إلا المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: تلك خصوصية لخير أمة أخرجت للناس بأن تتقيد بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعمل بسنته بإعتبارها فرع التنزيل، وهي بذاتها وحي من عند الله.
الثانية: تضمن السنة النبوية للنواهي مثلما تضمنت الأوامر.
الثالثة: النواهي النبوية في طول النواهي القرآنية، فليس من تعارض بينهما، وفيها بيان وتوكيد وتفصيل للنواهي القرآنية.
الرابعة: تمنع النواهي النبوية من الترديد والخطأ في تأويل النواهي القرآنية، وتلك آية إعجازية في الإسلام ودعوة للناس لدخوله.
الرابع: تفقه المسلمين في أحكام وأوامر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن خصائص خير أمة مواظبتهم على النهي عما حرمه الله تعالى وقد ورد في أصحاب القرية من بني إسرائيل وصيدهم الحيتان يوم السبت مع أنهم نهوا عنه، إنقسامهم إلى ثلاثة فرق وهي:
الأولى: فرقة تعتدي بالصيد يوم السبت بحفر حياض عند البحر، وفتح جداول لها فتدخل الحيتان فيحبسونها يوم السبت ليصطادوها يوم الأحد، قال تعالى [وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ] ( ).
الثانية: أمة من بني إسرائيل تنهى عن هذا الفعل، إذ مشوا إلى المعتدين منهم، ونهوهم وحذروهم بطش الجبار وذكروهم بالعقوبات التي حلت بالعاصين منهم فردوا عليهم نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً، فقيل لهم لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك فأصبح القوم قردة خاسئين فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا، عن ابن عباس( ).
الثالث: جماعة سكتوا عن التعدي والصيد يوم السبت، ولم ينهوا عنه، وان لم يقوموا بالصيد وورد في التنزيل حكاية عنهم في خطاب الفرقة الثانية أعلاه التي تنهى عن المنكر [لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا]( ).
وقد أنعم الله تعالى على المسلمين بقيامهم بالنهي عن المنكر، بما يحول دون وجود أمة وفرقة منهم مقيمة على التعدي والمعصية، وإذا ما حصلت معصية شخصية أو جماعية، فان النهي عن المنكر يصاحبها من داخل الجماعة ومن خارجها.
ويحاصرها إلى أن يأتي عليها، ويقضي عليها، وتعود الجماعة إلى الأمة فلا عبرة بأسباب التعدي وصدور المنكر من جماعة وإن إستمر مدة من الزمان فان عاقبته إلى الزوال، لتلتحق تلك الجماعة بالأمة، وتلبس رداء التوبة والإنابة، ويتلقاهم المؤمنون بالقبول وأسباب الإعانة على إصلاح الذات والفعل.
وقد تضمنت السنة النبوية التحذير من إتخاذ غير المسلمين بطانة ومن الرجوع إلى كتبهم وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال”إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فان كان حقاً لم تكذبوهم وان كان باطلاً لم تصدقوهم”( ).
فمن الآيات والفضل الإلهي على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجيء السنة بأحكام الحلال والحرام وسنن الشريعة، وتأديب المسلمين في العبادات والمعاملات.
ويحتمل النهي عن البطانة في الآية وجوهاً:
الأول: النهي عن البطانة من دون المسلمين في العبادات.
الثاني: الزجر عن البطانة من غير المسلمين في المعاملات.
الثالث: موضوع الأحكام والسنن، ولزوم عدم إتخاذ بطانة من غير المسلمين لأنها تدعو إلى أحكام مخالفة لحكم القرآن والسنة جهلاً وغفلة أو عن عمد.
الرابع: العنوان الجامع للأفراد الثلاثة أعلاه.
والصحيح هو الرابع، لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق، ومجيء الآية بالنهي عن البطانة من الأدنى مطلقاً.
الثاني: موضوعية الإستشارة في الفتوى والفعل والحكم.
الرابع: التداخل في موضوعات العبادات والمعاملات والعبادات، وأثر بعضها في بعضها الآخر، مما يستلزم إجتناب البطانة السيئة في كل واحدة منها.
الخامس: تعلق التكاليف بأمور الدين والدنيا، وشمول النهي عن البطانة لها جميعاً مجتمعة ومتفرقة.
بحث أصولي
يكون متعلق النهي هو الترك، بخلاف متعلق الأمر وهو إيجاد الطبيعة، ومن الأصوليين من فرق بين الترك والكف بإعتبار ان الترك أمر عدمي، ولا يتعلق التكليف بالعدم لأنه خارج الإختيار إلا ان تعاهد العدم والإمتناع عن إيجاده هو أمر إختياري، ويتحقق العصيان بإيجاد الطبيعة المنهي عنها، والترك والكف من المترادف اللفظي.
ولكن ذات النهي لا يسقط بل يتجدد مع كل طبيعة لأن المطلوب النهي العام الإستغراقي الإنحلالي أي الشامل لكل أفراد الطبيعة المنهي عنها والذي ينحل بعدد أفراد الزمان الطولية ولزوم إجتناب المعصية فيها.
فمن أسرار التكليف مصاحبة الأوامر والنواهي للمكلف في حياته، بحيث يستحضر الحكم الشرعي للفعل قبل إتيانه وإرتكابه فيفعله ان كان واجباً ويكف عنه ان كان محرماً، فإذا أراد ان يتكلم ويخبر عن واقعة يستحضر وجوب الصدق وحرمة الكذب، فيجتنب الكذب بمجموع أفراده إلا ان يكون هناك دليل راجح كما في الحفاظ على النفس ودفع الظلم والمفسدة في تفصيل مبين في أحكام الفقه وهو هنا ليس من الكذب على ان موضوعه يتغير، وإذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
ويأتي النهي عن الطبيعة فيسري إلى جميع أفرادها كما في النهي عن شرب الخمر، فهو إنحلالي وعام إستغراقي لكل ما يصدق عليه موضوعاً أنه خمر.
وصحيح أنه بين الأمر والنهي تضاد فهما لا يجتمعان، ولكن الأمر لا يتعلق بالحكم بل بالمتعلق، فما يتعلق به الوجوب لا يتعلق به النهي، وكذا العكس.
وهناك باب في علم الأصول وهو إجتماع الأمر والنهي، والأولى ان يكون عنوانه إجتماع متعلق الأمر والنهي، كما لو جاء الأمر بالصلاة وكان المكان مغصوباً، فما تعلق به الأمر وهو الصلاة غير ما تعلق به النهي وهو أداؤها في المكان المغصوب، ويحصل التعارض في المتعلق وعند الجمع بينهما فيه، والا لو كان بمقدور المكلف مغادرة المكان المغصوب وأداء الصلاة في مكان مباح، فلا إشكال في لزومه لترتفع غائلة التزاحم والتعارض بين الأمر والنهي.
وجاءت الآية محل البحث بالنهي عن البطانة سواء في الواجبات أو المستحبات أو المباحات أو المكروهات أو المحرمات، إذ يمكن إتيانها من غير مشورة وإستبطان من هو أدنى من المسلمين.
وهل يكون عند المسلم والمسلمين عامة القدرة على التخلي والإستغناء عن تلك البطانة، الجواب نعم، وهو من إعجاز هذه الآية، ودلالات مفهومها، فحينما أمر الله تعالى المسلمين بترك إتخاذ بطانة من غيرهم، فانه سبحانه ضمن لهم المصلحة والنفع بالبطانة والخاصة منهم، وفيه بعث للألفة والرحمة بين المسلمين، وهو من عمومات [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) إذ ان بعضهم يدعو بعضهم الآخر إلى التمسك بالقرآن والسنة، فاذا جاءت نصيحة البطانة والخاصة موافقة للكتاب والسنة، فان البطانة لا تخشى اللوم، ولا يرد الضرر على من يأخذ بنصيحته، فلا غرابة ان تأتي هذه الآية وما فيها من النهي عن البطانة السيئة، بعد الآيات التي أثنت على المسلمين ودعتهم إلى إجتناب الفرقة والتشتت، وأخبرت بانهم خير أمة أخرجت للناس.
علم البشارات القرآنية
لقد جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة، ومنها مصاحبة البشارة له في حياته الدنيا، فهي لا تفارقه أبداً، وتكون حاضرة في كل فعل من أفعاله سواء إلتفت اليها أو لم يلتفت.
ومن الآيات ان البشارة قد تأتي بالذات، والمنطوق، وقد تأتي بالعرض والمفهوم فتترشح عن الفعل ومقدماته، أو تكون مفهوماً لإجتناب ما نهى الله تعالى عنه، كما في المقام إذ نهت هذه الآية المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم، ليكون التقيد بأحكامها موضوعاً للبشارة من وجوه:
الأول: السلامة والأمن من مشورة السوء.
الثاني: الإحتراز من كشف الأسرار، وإظهار العورات.
الثالث: التوجه لإختيار المؤمنين بطانة وخاصة، وفيه تنمية لملكاتهم، وبعث للثقة في نفوسهم.
الرابع: تجلي معاني الإنتفاع من إتخاذ المسلمين بطانة، وفيه بشارة للنصر وتحقيق الغايات الحميدة، والمقاصد السامية.
الخامس: عدم لحوق الضرر بالمسلمين الذي يأتي من إتخاذ البطانة السيئة من دونهم، وليس من حصر للبشارات التي تترشح عن إجتناب البطانة السيئة بإعتبار انها بشارات توليدية يتفرع عن كل واحدة منها عدد من أسباب الغبطة والسعادة.
ولا يتعلق موضوع البطانة بقضية أو زمان مخصوص، بل هو أمر متصل إذ تكون البطانة والخاصة حاضرة خصوصاً في المهمات، وعند إلتباس الأمور، وتداخل الأوراق وتسارع الحوادث.
وجاءت هذه الآية للإحتراز من دس بطانة السوء الخبث والمكر، وسعيها لتغليب النفس الشهوية والغضبية وفيه بشارة للمسلمين بالسلامة من الكيد والظلم والتعدي.
فقد تجعل البطانة السيئة الإنسان ظالماً وقد تجعله مظلوماً، وهو في غنى عن الأمرين لذا جاءت الآية لإجتنابهما معاً بترك سببهما ومقدمتهما وهي إتخاذ بطانة السوء، أما البطانة الصالحة فهي بالعكس فاذ همّ الإنسان بالظلم فانها تزجره وتمنعه، وإذا أوشك أن يكون مظلوماً مقهوراً فانها تهديه إلى سبل الأمن والسلامة.
فمن فضل الله تعالى على الإنسان ان لا يكون ظالماً ولا مظلوماً، وبه جاءت هذه الآية الكريمة بإجتناب الظلم بشقيه، والتخلص من أوزاره وأعبائه الدنيوية والأخروية، وفيه بشارة السعادة في الآخرة، إذ يأتي الإنسان يوم القيامة وهو نقي من الظلم وأدرانه.
السادس: جاءت هذه الآية بالإخبار عن تفضل الله تعالى ببيان الآيات للمسلمين [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] فبيان الآيات بذاته بشارة ورحمة وضياء ينير دروب السالكين، ويمنع من الغواية والجهالة والضلالة.
ومع ان مجموع آيات القرآن هي “6236” آية فان بشاراته من اللامنتهي، وهي أكثر من أن تحصى وفي كل آية عدد من البشارات تستقرأ من الآية على وجوه:
الأول: منطوق الآية الكريمة، وما تدل عليه ألفاظها.
الثاني: المقاصد السامية في الآية الكريمة.
الثالث: حال الإمتثال لأحكام الآية الكريمة أمراً أو نهياً، وما يترشح من التقيد بمضامين الآية.
الرابع: الوعد الكريم بالثواب الجزيل على الإمتثال للأوامر الإلهية.
الخامس: الأمن والسلامة من العقوبة والعذاب الأليم الذي يترتب على المعصية.
السادس: توارث نعمة الإيمان وفعل الصالحات، وهو نفع محض يشمل المورث والوارث، ويترشح على غيرهما بالمجاورة والمماثلة والمحاكاة.
ومن الأسرار في بشارة القرآن تلقيها من الله تعالى، فهو الذي يبشر رسوله الكريم والمسلمين مما يدل على القطع واليقين بتحقيق البشارة لأن الله سبحانه هو القادر على كل شيء وهو الرؤوف الرحيم، وليس من مسألة تستعصي عليه، وليس من عوض وثمن وجعل لهذه البشارات يقدمه المسلم عند تلقيها، إذ انها رحمة ونعمة تأتي من عند الله سبحانه وهو الغني عن العالمين.
وتأتي البشارة من عند الله جزاء وثواباً، قال سبحانه [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( )، ولا تنحصر البشرى بالحياة الدنيا وتقدمها زماناً على وقوع موضوعها، بل تكون مصاحبة للجزاء وتنجزها بالفعل، قال تعالى [بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
علم الإنذارات القرآنية
جاء القرآن تبياناً لكل شيء وفيه دليل على نزوله من عند الله تعالى، فلا يقدر على جعل اللامتناهي من الأحداث في المتناهي من الكلمات إلا الله تعالى، لذا فان كلمات وآيات القرآن تتصف بخصوصية قدسية ليس لها مثيل في الكتب السماوية.
ويتصل النهل من كنوزه وخزائنه إلى يوم القيامة، ولا تستطيع فرقة أو طائفة أو أمة الإحاطة بعلومه، وكما انه لا يستطيع الجن والإنس ولو إجتمعوا بأجيالهم المتعاقبة عن الإتيان بسورة من سوره كما في قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ]( )، فكذا بالنسبة لتفسير وتأويل آيات القرآن.
فلو فرضنا إجتماع علماء الأجيال المتعاقبة لظلوا متخلفين عن إستخراج كنوز القرآن، وذخائره العلمية، ولأقروا بتخلفهم عن درك أسراره الملكوتية، وتتعدد العلوم القرآنية في كل آية وسورة من سوره، لتكون ضياء مباركاً في مختلف ميادين الحياة، وطريقاً سالكاً لنيل الخلود في النعيم.
ومن هذه العلوم الإنذارات التي جاءت في القرآن، وتضمنت التخويف والوعيد على إرتكاب المعاصي والسيئات، ومن الآيات في القرآن البيان والتفصيل وإنتفاء الإجمال والإبهام والترديد، وجاءت إنذارات القرآن بينّة جلية من وجوه:
الأول: موضوع الإنذار، إذ أخبرت آيات القرآن عن المواضيع التي جاء
الإنذار والتخويف فيها، وهي المعاصي وإرتكاب السيئات، والإمتناع عن الواجبات العبادية.
الثاني: التحذير والإنذار من البطانة السيئة.
الثالث: القبح الذاتي للأمور التي يأتي القرآن بالإنذار والتحذير منها.
الرابع: مضامين الإنذار وأحكامه والتي تتضمن أمرين:
الأول: الإنذار بالإبتلاء في الدنيا، وحلول العذاب العاجل.
الثاني: ما ينتظر الذين يصرون على المعاصي، ولا يلتفتون إلى إنذارات القرآن من الإقامة في النار، والخلود في العذاب.
ولا ينحصر موضوع الإنذار بالكفار والفاسقين والظالمين بل هو عام، ويشمل المؤمنين في مفهومه بالبشارة والأمن من الإنذارات، لأنهم حرصوا على الإيمان، وتلقوا الإنذار بالرضا والقبول وهم في حذر وخشية منه، ويفزعون من عواقبه، لذا أخبر القرآن بأن جزاءهم هو [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وتصاحب إنذارات القرآن كل مسلم ومسلمة، والأصل ان تصاحب الكفار والمنافقين، وتكون لهم زاجراً مستديماً عن الإقامة على الذنوب والمعاصي، ولكنهم أعرضوا عنها، فجعلها المسلمون حرزاً وواقية وصاحباً كريماً، ولكن إعراض الكفار منها لا يكون على نحو السالبة الكلية والعموم الإستغراقي.
أما عدم السالبة الكلية فان إنذارات القرآن تصل إلى أسماعهم، وتملي عليهم التدبر في معانيها ودلالاتها ولو على نحو الموجبة الجزئية، وهو من منافع تلاوة المسلمين لآيات القرآن على نحو الوجوب، فيتلو الإمام أو المنفرد في صلاته آيات القرآن، وهو لا يعلم بحال الكافر الذي يسمعها، وما تتركه من أثر وما تبعثه في نفسه من الفزع أو الخوف، ثم يتلو الآيات التي تتضمن التوبة وقبولها، والبشارات فينقدح الأمل عنده، وينشغل بتوجيه اللوم إلى نفسه، لتخلفه عن البشارات.
وهل يثاب المسلم الذي يتلو هذه الآيات بخصوص ما يتركه في نفس الذي يسمعها من الكفار الجواب نعم، إذ يأتي من يتلو الآيات القرآنية سواء في الصلاة أو في غيرها من الثواب والأجر، وإذا تلى الإمام الآيات فهل يلحقه وحده الثواب من سماع الكافر لها، أم يلحق المأمومين معه، الجواب هو الثاني لوجوه:
الأول: يتحمل الإمام عن المأمومين القراءة، فكأن كل واحد منهم قرأ تلك الآيات.
الثاني: تبعث صلاة الجماعة الفزع والخشية من الله في قلب الكافر.
الثالث: صلاة الجماعة حجة على الكافر، إذ يرى المسلمين يسعون بخطى يومية ثابتة نحو السعادة الدائمة بالحرص على أداء الصلاة، وهو يتخلف بالمنازل التي تؤدي به إلى النار.
وجاءت الآية محل البحث بالإنذار للمسلمين من إتخاذ بطانة من غيرهم، مع ان إتخاذ البطانة لم يضرهم في إيمانهم وإكرام الله عز وجل لهم، بدليل إبتداء الآية الكريمة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه مدح للمسلمين، وبشارة لهم بأن البطانة السيئة لن تضرهم في إيمانهم وإعتقادهم.
وأراد الله عز وجل لهم الإرتقاء في منازل الإيمان بالسلامة والأمن من الإختيار الخاطئ الذي له آثار عرضية ضارة، فمن الإعجاز في الآية انها تنذر المسلمين عن إتخاذ البطانة من دونهم مع بيان الأضرار التي قد تأتي للمسلمين منهم كما في قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]، وما يهمون به من دفع المسلمين إلى الغضب والشهوة.
فجاءت الآية لحث المسلمين للصدور عن القرآن والسنة في الأحكام والأفعال والأقوال، والإحتراز من أسباب الطيش والحمق، ويتوجه الإنذار القرآني إلى الناس جميعاً للإتحاد في الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا، والإشتراك في خطابات التكليف، ولكن هناك تباين في مضامين الإنذار، إذ يتوجه الإنذار والوعيد إلى الكفار لتركهم وظائف العبودية أما الإنذار المتوجه إلى المسلمين.
فيتجلى في هذه الآية بالتحذير من جعل شأن في أمورهم الخاصة لغيرهم من أهل الملل والنحل، ومن حق الحاكم والسلطان وذي الشأن أن يختار بطانته وخاصته وفق صفات وشرائط خاصة، أو بلحاظ إعتبار شخصي، ورضا شخص معين لفعله أو كلامه أو مقامه.
وجاءت الآية القرآنية لتخبر عن إمتياز المسلمين عامة بخصوصية وهي ان تعيين بطانتهم من عند الله تعالى، بالنهي الوارد في هذه الآية من المنع من البطانة من غيرهم،وفيه آية في الخلق واللطف الإلهي بالناس جميعاً،من وجوه:
الأول: عموم الأمر الإلهي بدخول الإسلام، فلم يرد إستثناء لأحد من دخول الإسلام وان كان من كبراء أهل الملل الأخرى.
الثاني: منع لحوق الأذى بالمسلمين بسبب موضوع البطانة، فإجتناب المسلمين لجعل الخاصة من غيرهم ينقذهم من الإرباك وسوء الفعل.
الثالث: الرحمة والرأفة بالناس جميعاً وكون تعلمهم مرآة لما أمر الله تعالى به، وقد جاء قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ومن الخروج الحسن للناس عدم إتخاذ بطانة من غير خير أمة.
الرابع: تأديب الناس وحثهم على إختيار البطانة التي تتصف بالحكمة، إذ تدعو الآية في مفهومها الناس لإتخاذ بطانة وخاصة من المسلمين، فتقربهم هذه البطانة إلى منازل الصلاح، وتمنع من الظلم والتعدي والجور.
ومن أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النذير فهو الذي ينذر أهله كما في قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، وينذر الصحابة والمسلمين والأجيال المتعاقبة من المسلمين، قال تعالى [إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ] ( )، وهو منذر للناس جميعاً، يحذرهم من الكفر والجحود ويخوفهم من العذاب يوم القيامة، قال تعالى [إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
ومع التباين بين الناس في المنزلة والعاقبة إذ تكون عاقبة المؤمنين الذين يعملون الصالحات الجنة، وتكون عاقبة الكفار النار، فان هذه الآية من مصاديق الإنذار للمسلمين وغير المسلمين، إذ انها تدعو المسلمين إلى الحيطة والحذر من الكفار، ومن البطانة من غيرهم، وتحذر غير المسلمين من السعي لبلوغ مراتب البطانة ومنازل الإستشارة للمسلمين، وتخبرهم عن تخلفهم وعدم أهليتهم لتلك المنازل من وجوه:
الأول: قبح التلبس بالكفر.
الثاني: ظهور الكفر على اللسان، وفي الرأي والمشورة.
الثالث: الإسلام خير محض، يجب أن يكون الأمر فيه بالصلاح والهداية والتقوى، وإجتناب ما فيه الفساد والإفساد.
وتبين الآية الكريمة وما فيها من النهي عن البطانة التي قد تدعو إلى الظلم والفساد أحد مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في الرد على الملائكة الذين قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
إذ انها تمنع من مقدمات الفساد، التي تأتي بإتخاذ المسلمين بطانة من الأدنى منهم رتبة، ومن يجهل أحكام الشريعة وما فيها من الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الظلم والفساد، لا يتورع من المشورة بالقبيح ويعين أعداء الإسلام بما أطلع عليه من عوراتهم وأسرار حياتهم وقدراتهم.
فالآية حصن من غلبة أهل الفساد والداعين إلى الظلم والجور، ووسيلة سماوية لتنحية أهل الغواية عن منازل البطانة والخاصة وبرزخ دون إشاعة الفساد في الأرض، ودعوة لإستدامة الصلاح والإصلاح فيها.
وتتجلى مصاديق علم الإنذارات القرآنية في هذه الآية وكل آية من آيات القرآن بما يفيد التحذير من الفعل السيء ومقدماته وما يترتب عليه من الآثار والعقوبات في الدنيا والآخرة.
ومن الرحمة الإلهية بالناس جميعاً ان لا يسعى غير المسلم لمنازل البطانة عند المسلمين وبعث الفساد فيما بينهم، وتمكين العدو منهم بفضح أسرارهم، وحثهم على إختيار ما فيه الضرر والأذى، وبذل البطانة السيئة الوسع في إرباك المسلمين، ودفعهم إلى الضرر بأنفسهم وبالدين.
فجاءت هذه الآية الكريمة لوقاية المسلمين من الضرر والأذى والإرباك وقد جاءت الآيات بإجتماع صفتي البشير والنذير للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( )، (وكافة) سور الموجبة الكلية، ولم يأتِ خطاباً وبياناً لرسالة نبي إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شاهد على عظيم منزلته، وتفضيله على الأنبياء الآخرين، فمع ان نوحاً عليه السلام رسول من الرسل الخمسة أولي العزم ، فقد ورد ذكره بانه نذير إلى قومه، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
وجاءت بعثة النبي بالبشارة والإنذار إلى الناس جميعاً، وليس بالإنذار وحده، وإلى قومه على نحو الخصوص، وتتجلى معاني العموم في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفضل الله تعالى بجعل الإسلام الديانة والشريعة المتكاملة والباقية إلى يوم القيامة، وثبات أحكام القرآن وخلوه من التحريف وحرص المسلمين على العمل بمضامينه في كل زمان.
وبلحاظ مضامين الآية أعلاه وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس كافة تكون معاني الآية محل البحث والنهي عن البطانة على وجوه:
الأول: بشارة المسلمين بالسلامة من البطانة السيئة.
الثاني: بشارة المسلمين بما يأتيهم من البطانة الصالحة التي تدعو اليها هذه الآية في مفهومها.
الثالث: بشارة فعل المسلمين الصالحات والتنزه من السيئات والفساد، لأن إجتناب البطانة السيئة واقية من السوء والوقوع في المهالك.
الرابع: نيل المسلمين المراتب العالية في الجنة ثواباً لعملهم الصالحات، وكفهم عن إختيار البطانة السيئة، ومكرها وخبثها.
الخامس: إنذار المسلمين عن إستبطان غيرهم في شؤونهم الخاصة والعامة.
السادس: تحذير وتخويف الكفار من الرأي والمشورة الفاسدة، لأنها تكون مفضوحة عند المسلمين كما انهم لا يعلمون بها.
فمن إعجاز هذه الآية إجتماع أمور:
الأول: نهي المسلمين عن إتخاذ بطانة من دونهم.
الثاني: الإحتراز من مشورة غيرهم، فقد لا يتخذ المسلمون بطانة من غيرهم، ولكن الغير يسعى في إبداء المشورة، ويتقرب إلى المسلمين وأحياناً يكون التقرب بالأمر الحسن، والذي لا يتعارض مع أحكام الشريعة، ولكن إستدامة الإنصات له يجعله يقوم ببث سمومه عن قصد أو جهل، فجاءت هذه الآية لتنمية ملكة الحذر والحيطة عند المسلمين من رأي ومشورة غيرهم وإطلاعه على أسرارهم وخفايا أمورهم.
الثالث: إنذار أعداء الإسلام من النفاذ إلى مجتمعات ومنتديات المسلمين، والإطلاع على أسرارهم.
الرابع: دعوة من يرغب بالتقرب من المسلمين، وتولي منازل الإستشارة عندهم لدخول الإسلام، لأنه شرط يتقوم به إختيار البطانة، وقبول قولها وإيلاؤها الثقة والإطمئنان اليها.
بحث أخلاقي
يبحث علم الأخلاق في السجايا والطبائع والمزاج، وما يحرك الإنسان نحو الغضب والإنفعال، أو التروي والتأني، ومصاديق الملكات التي تظهر على اللسان، وتبرز على الجوارح، وأسباب الشجاعة والإقدام أو الجبن والفزع، أو المنزلة بين المنزلتين، والوسط بينهما، وللبطانة موضوعية فيها، وتؤثر في إختيار الوسط أو الإفراط أو التفريط، فجاءت هذه الآية القرآنية لوجوه:
الأول: تحلي المسلمين بالأخلاق الحميدة، وعدم طرو الأخلاق المذمومة عليهم.
الثاني: تعاهد المسلمين لمنزلة خير أمة بالحصانة والوقاية من بطانة السوء.
الثالث: النفرة من أعداء الإسلام والحذر من الإطمئنان اليهم.
الرابع: عدم صدور المنافيات من المسلمين، في شؤونهم الخاصة والعامة، وفي صلاتهم مع أهل الكتاب والناس جميعاً.
لقد أخرج الله عز وجل المسلمين للناس جميعاً، وتقع على عاتقهم مسؤوليات أخلاقية وعقائدية في كل زمان، ولا يجوز أن تقوم بطانة من أشخاص معدودين بإفساد عمل المسلمين، والإضرار بالأخلاق العامة، وما هو متعارف الصدور من المسلمين أفراداً وجماعات من الخلق الحسن، والسنن الحميدة.
لقد جاءت هذه الآية بأمور:
الأول: تهذيب الذات والنفوس بإجتناب مقدمات الضرر في ميدان الأخلاق وترك البطانة السيئة.
الثاني: تقويم سلوك المسلمين وأفعالهم.
الثالث: إصلاح ذراري المسلمين وسلامتهم من أدران وآثار المشورة السيئة،إذ أن أضرارها كثيرة ومتشعبة، ومنها ما تبقى آثاره مستمرة إلى الأبناء فجاءت الآية الكريمة ليبدأ الأبناء حياتهم العبادية والعملية خالية من تبعات البطانة السيئة، مع الحرص على المواظبة على فعل الآباء في إجتنابها ليس محاكاة لهم فقط، بل للإمتثال لأحكام هذه الآية الكريمة التي يتوجه فيها الخطاب التكليفي للأبناء كما يتوجه للآباء، بتباين أو تداخل في أفراد الزمان الطولية، فقد يتوجه لهم جميعاً في زمان واحد بالحذر والحيطة من البطانة من الغير، وتدل عليه عمومات الخطاب في أول الآية الكريمة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الشامل لكل المسلمين والمسلمات.
وهذه الآية حصن وحرب على الإفتراء والغيبة والحسد، فقد لا تتقيد البطانة بأحكام النهي عن الغيبة والإفتراء، لأنها خاصة بالشريعة الإسلامية، ويخالفها في أمور:
الأول: خصوص ذكر المسلمين وغيرهم عند من يتخذه بطانة.
الثاني: فضح أسرار الذي إستبطنه وذكر ما يضره عند الناس.
الثالث: عدم الإحتراز من الكذب على الله تعالى وعلى الناس.
ويمتاز المسلم بالإحتراز من مضامين الغيبة في طيات اللسان وظهورها على السلوك وفي عالم الأفعال، فجاءت هذه الآية حرباً على الغيبة والإفتراء ودعوة لتنقيح مجتمعات المسلمين من الغيبة وأضرارها.
وتبين الآية إعجازاً وآية في وظائف القرآن، فمع ان الغيبة لم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] ( )، إلا ان آيات كثيرة تنهي عن الغيبة وتدعو إلى الإحتراز منها، وتمنع من مقدماتها، ومنها هذه الآية الكريمة، إذ انها تدعو إلى إصلاح النفوس والمجتمعات، وتمنع من غلبة أهل الحسد.
وقد يأتي الذي لا يتقيد بحرمة الغيبة بعيوب غيره بصيغة اللهو وملأ الفراغ، ويحاكيه في مشيته أو قيامه فعلاً بما يفيد الإستخفاف والإستهزاء بالناس، ويطلق العنان للسانه في إظهار العيوب وكشف الأسرار، فجاءت هذه الآية لدعوة المسلمين لتعاهد القيم الإسلامية، والإمتناع من جريان القبيح على اللسان وفي عالم الأفعال، وفيها تأديب للمسلمين وحث على الإحتراز من الإستخفاف بالحرمات وإستباحة الأعراض وهي لطف بالمسلمين لم تنله ملة أو أهل ملة من الملل، وقد تنمي البطانة غير المؤمنة الحسد في النفس وحب زوال نعمة الغير وإنتقالها اليه، أو إلى الذي إستبطنه، خصوصاً وان الحسد آفة أخلاقية ضاربة في جذور التأريخ فمن أسباب إمتناع إبليس عن السجود لآدم طاعة لله تعالى حسده لآدم، وحدثت أول معصية وقتل في الأرض بسبب الحسد، إذ قتل ابن آدم قابيل أخاه هابيل حسداً.
والحسد من الشرور المركبة، وتكون بطانة السوء سبباً له لما عندها من الحسد وعدم الورع منه، وما تبعثه في نفس الذي ينصت اليها من الحسد والإضرار بالغير طمعاً ورغبة بحرمانه مما عنده من النعمة (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ( ).
ويمنع قرب البطانة والصلة اليومية معها من تعيين أسباب ومصاديق الحسد في الأحاديث الخاصة، وتبادل الآراء خصوصاً مع غلبة الطمع والحرص وتزيين البطانة لأفراد الشر والشره، فجاءت هذه الآية لتحصين المسلمين من إتخاذ الحسد وسيلة للهث وراء زينة الدنيا وسبباً للإضرار بالمسلمين الآخرين، وجمع الأموال وبلوغ الرياسات بأسباب الحسد والحرص والتعدي لتكون واقية من الحساب يوم القيامة، فلما جاء قوله [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] بشارة للمسلمين يوم القيامة، جاء نهيهم عن البطانة من دونهم لنيل مرتبة الأمن والسلامة يوم القيامة.
فمن إعجاز الآية الكريمة وما فيها من النواهي الإحتراز من الفزع والخوف يوم القيامة، ومما في الحسد من القبح العرضي، وتأتي آثاره وأضراره وآثامه على قسمين:
الأول: الأضرار المصاحبة له.
الثاني: الأضرار التي تلحق به، وتأتي فيما بعد.
وكل قسم من القسمين أعلاه ينشطر إلى شعب:
الأولى: الأضرار التي تلحق من يتخذ بطانة من دون المسلمين متحداً كان أو متعدداً، أو بالتباين بينهما في طرف المستبطِن-بكسر الطاء_ أو المستبطَن- بفتح الطاء.
الثانية: ما يلحق البطانة التي تأمر بالسوء وتخون من إستبطنها من الآثام والأضرار الدنيوية والأخروية.
الثالثة: ما يترشح من سوء فعل البطانة من الأضرار والآثار السلبية.
فجاءت هذه الآية الكريمة رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، ومدرسة أخلاقية لإصلاح النفوس والمجتمعات، ويتلقى أهل الكتاب والناس جميعاً دروس الحكمة من القرآن بواسطة أفعال المسلمين وحسن إختيارهم، وإحترازهم من مقدمات المعصية والذنب والإضرار بالناس.
وتمنع الآية من غلبة النفس الشهوانية، وما تدعو اليه بطانة السوء من اللذات غير المقيدة بالتقوى، وهي آلة ووسيلة سماوية لتحكم المسلم بلسانه وجوارحه، وصدوره عن القرآن والسنة، وفيها دعوة للناس جميعاً للتحلي بالأخلاق الفاضلة في المعاملات ونشر لواء المحبة ونبذ العداوات والخصومة لذا ورد ان إفشاء السلام من أسباب طرد الحسد.
وتعمل البطانة السيئة على بعث الكبرياء والتعالي في النفس، وتسعى لعزل وحجب من إستبطنها عن الناس، فجاءت هذه الآية لإستدامة الخلق الرفيع عند المسلمين، وتعاهدهم للتواضع، وفيها تحذير من الإحتجاب والإمتناع عن الناس وإجتناب سماع ما عندهم من الرأي والحاجة والمشورة، ودعوة لترك مقدمات هذا الإمتناع، ومنها إختيار البطانة السيئة التي تحاول الإستحواذ على المنافع وإشاعة روح الطمع والبطش والتعدي.
فجاءت الآية رحمة ولطفاً ودعوة لنشر مفاهيم الرأفة وندب المسلمين لإختيار البطانة الصالحة التي تساهم في تثبيت موازين الحق بين الناس، والزجر عن الأخلاق المذمومة، وقد لا تلائم هذه البطانة أهواء الذي يتخذها بطانة لأنه يطمع بالإستحواذ على حقوق وأموال وممتلكات غيره، وكسب الدنيا.
فجاءت هذه الآية لمنعه من التخلي عن هذه البطانة أو البطش بها أو إبعادها عنه، كما انها سلاح بيد البطانة الصالحة وآية سماوية تدعوها للثبات على مناهج الحق، والإستمرار بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، “وبالإسناد ورد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد وضع رجله في الغرز( )، أي الجهاد أفضل قال كلمة حق عند سلطان جائر ” ( ).
بتقريب ان كلمة الحق هذه من أفراد البطانة وإن كانت قهرية، أي يستمع لها الظالم قهراً عليه لأنه لم يختر صاحبها لمرتبة البطانة، وفي الحديث دعوة إلى الحكام والأمراء وذوي الشأن من المسلمين وغيرهم بالإنصات إلى كلمة الحق والنصيحة وقبولها والتدبر في معانيها، وان جاءت من غير الخاصة والبطانة.
فمن مفاهيم الآية الكريمة الحيطة والحذر من بطانة السوء، وتأتي كلمة الحق عوناً للحاكم وان كان جائراً بالإستماع إلى غير البطانة، وقد تصدر هذه الكلمة من البطانة الصالحة، وهو من مصاديق وأحكام هذه الآية التي أمرت في مفهومها بالخاصة والبطانة الصالحة، ومن صلاحها قول كلمة الحق عند الحاكم وان كان ظالماً جائراً، لأنها ترى هذا القول من وظائفها الأخلاقية والعبادية، وتكون هذه الآية واقية لها، وعوناً للحاكم نفسه بالإنصات لها، وعدم ترتب العقوبة على قولها، لذا ترى شواهد كثيرة في التأريخ الإسلامي تظهر رضا وتصاغر الحاكم والسلطان أمام النصيحة والرأي السديد الذي يقتبس من القرآن والسنة، وما فيهما من معاني الرحمة والرأفة.
قانون البطانة والأمر والنهي
من الواجبات العقائدية والأخلاقية للمسلمين مجتمعين ومتفرقين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاءت هذه الآية بالتحذير والمنع من البطانة من غير المسلمين، وهذا المنع مدرسة في الأمر بالمعروف، وواقية من المنكر وأسباب الغواية والتعدي والظلم.
ومن إعجاز القرآن انه يأمر المسلمين بالأمر بالمعروف ويحثهم على النهي عن المنكر، وتتصف هذه الآية بوجوه:
الأول: تنهى الآية عن المنكر، لأن إتخاذ البطانة السيئة فعل قبيح، وتدل هذه الآية على قبحه الذاتي، وجاءت بالمنع منه.
الثاني: تمنع الآية من تفشي الفساد بين المسلمين.
الثالث: تمنع الآية من مقدمات المنكر، وتحول دون طروها، إذ ان إتخاذ بطانة من دون المسلمين ومن هم أدنى وأقل منهم في منازل الصلاح والشأن يؤدي إلى الإضرار العام بهم.
الرابع: تدعو الآية إلى الإعراض عن الكفار، والمنع من جعل منزلة لهم بين المسلمين، وفيه واقية وحرز منهم، قال تعالى [وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا] ( ).
والخطاب بالإعراض عن الكفار في الآية أعلاه متوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد حكام وعلماء وأئمة المسلمين، كما يشمل الأمر جميع المسلمين والمسلمات، وإجتناب البطانة من الكفار من عمومات الإعراض عنهم وتركهم، وعدم تقريبهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخلاق الأنبياء، وسبيل الصالحين، وهو واقية من التعدي والظلم، وحرز من الكدورات الظلمانية، والأخلاق المذمومة.
وهذه الآية من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو مركب ومتعدد، إذ ان المسلم مأمور بزجر أخيه عن إتخاذ بطانة من دون المسلمين، ومدعو لبيان مساوئ تلك البطانة، والأضرار التي تتفرع عن إتخاذها، وهي سلاح في الأمر بالمعروف، وبرزخ دون الإنصات له، فقد يرى المسلم صحة إتخاذ خاصة من غير المسلمين، ويظن وجود منافع فيها، فتأتي هذه الآية لتدعو المسلمين للإجتهاد في بيان مساوئ تلك الخاصة والأضرار العامة والخاصة التي تنجم عن إستبطانها.
ومن الإعجاز ان هذه الآية حجة في المقام، وتمنع من الجدال والرد والجفاء والإصرار على إتخاذ مثل تلك البطانة، كما انها تعطي للموضوع صفة العموم، وتجعل كل مسلم ومسلمة يهتمان بالأمر ويلتفتان اليه، ويحتجان على إتخاذ تلك البطانة، ولا يرضيان إلا بعزلها، إذ تجعل هذه الآية موضوع البطانة مسألة عقائدية، ومن الكلي الطبيعي الذي تكون لكل مسلم حصة فيه، وتقع على عاتقه مسؤولية التصدي للأمر وفق الميسور، ومن غير جلب الضرر والأذى لنفسه ولعياله، لأن من شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السلامة من الضرر، إلا في موارد في المقام مثل:
الأول: ترتب الأثر على إتخاذ البطانة المنهي عنها، بينما يكون الضرر الشخصي من الأمر بالمعروف أمراً محتملاً.
الثاني: تعدد وسعة الضرر المتفرع عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين.
الثالث: رجاء الثواب، ودرأ المفسدة عن المسلمين، وتعظيم شعائر الله بالأمر بالمعروف مع إحتمال الضرر.
لقد جاء الخطاب والأمر الإلهي إلى المسلمين بإجتناب البطانة من غيرهم، وحثهم على نهي من يتخذ بطانة من غير المسلمين عن فعله، وأمره بان يكف عن إتخاذها، ويختار بطانة صالحة من المسلمين تساعده في النجاة في الدنيا والآخرة، وتساهم في طرد الكدورات النفسية، وتمنع من غلبة النفس الشهوية والغضبية، والمعروف أمر جامع للخيرات وفعل الصالحات، ومنه المشورة الحسنة، والحث على تنمية ملكة التقوى، والترغيب في الصالحات.
ومن مصاديقه أيضاً ترك المحرم إلى المكروه للتباين بينهما في الرتبة والموضوع، وقد بينت الآية الكريمة الضرر الناتج عن إتخاذ الكفار وليجة وخاصة بقوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ] إذ يبذلون جهدهم لإحداث الإرباك والفساد عند المسلمين ويعملون على مشقتهم، وهذا البيان عون للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ودعوة لهم خاصة وللمسلمين عامة بأن يلحظوا الأضرار القادمة من جهة غير المسلمين، وإتخاذ صيغ النصيحة والبيان سبيلاً وطريقاً للإحتراز منهم، ومن إتخاذهم بطانة وقربهم ومشورتهم.
ويجب أن لا ينتهي الأمر والنهي إلى حدوث الفساد، وإثارة الفتنة بين المسلمين لأن الآية جاءت لمنعهما بلحاظ التنبيه عن سبب وعلة ومقدمة للفساد، وهو إتخاذ البطانة من غير المسلمين.
فيجب أن لا يؤدي النهي عن شيء مذموم إلى الوقوع بذات النتيجة والأثر، مما يستلزم درجة من العلم والمعرفة عند الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وأن يكونوا حريصين على حصر موضوع الأمر والنهي بما يدفع الفساد وأسبابه، ويعملوا على جعل هذه الآية هي الفيصل والحجة الدامغة، فهي واقية من حصول الفتنة والخلاف بين المسلمين في باب الخاصة والبطانة لما فيها من البيان والوضوح وتعيين البطانة المنهي عنها بما يمنع الإصرار والعناد على إتخاذها، ويكون عوناً للآمرين بالمعروف، والساعين في الإصلاح ودرء الفتن.
إن إمتناع المسلم عن إتخاذ البطانة من غير المسلمين أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتلك آية في الإمتثال للأوامر الإلهية وترتب الأجر والثواب على الأفعال، فيتقيد المسلم بأحكام هذه الآية، ليكون تقيده بها مرآة ودعوة عملية لغيره من المسلمين ليهتدي به.
قانون أهلية إختيار البطانة
لقد نزل القرآن أول مرة على النبي محمد صلى الله عليه في مكة والمسلمون في حال من القلة والضعف والخوف من المشركين، وكفار قريش، وإستمر نزول الآيات والسور في ثلاث وعشرين سنة في مكة ثم المدينة المنورة، وظهرت دولة الإسلام.
وجاءت الآيات التي تهدي المسلمين إلى كيفية بناء دولتهم وترشدهم إلى سبل السلامة في الميادين المختلفة، ومنها هذه الآية التي تتصف بالأهلية لمصاحبة المسلمين عامة حكاماً وعلماء وتجاراً ومزارعين وعمالاً، وأرباب أسر، وتشمل الآية الأبناء والبنات، إذ يحتاج الولد ذكراًًًًً او أنثى النصح والإستشارة في عباداته ومعاملاته، وإصلاحه للبر بالوالدين، وتعاهد صلات الرحم وإكتساب الأخلاق الحميدة فتشملهم أحكام هذه الآية، وهي دعوة لهم ولأوليائهم في إعانتهم على إيجاد البطانة الصالحة، وتأديب وحث لهم على إختيار الصديق المؤمن، والجليس الناصح وإجتناب أصدقاء السوء.
ومن خصائص الصديق والصاحب المؤمن الإعانة على أداء الصلاة في أوقاتها أما صديق السوء فانه يعمل على الفساد، ويبعث على التكاسل عن الصلاة والعبادات الأخرى فجاءت هذه الآية في موضوع البطانة ولكنها أعم إذ تشمل الصداقة والولاية وصاحب السر، فالكافر يفضح السر، نعم قد لا يفضح بعض الكفارالسر ولا يخون الأمانة، وهذا لا يمنع من الدعوة للإستغناء عنه في البطانة، فليس في الآية من تعدِ وظلم له، ولكنها واقية للمسلمين في حياتهم العقائدية والعبادية وفي معاملاتهم وأحكامهم، بإجتناب الضرر ومقدماته.
وتبين الآية في سعتها وشمولها إحاطة الأحكام الشرعية لجميع نواحي حياة المسلمين وهو من مصاديق تفضيلهم وكونهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وإجتناب إتخاذ الكافر بطانة نفع له، ومنع من إضافة أوزار ثقيلة له بسبب المشورة الفاسدة، والسعي في المكر والخبث من منازل البطانة والخاصة ودعوة له للإسلام.
إذ ان وظيفة الخاصة والبطانة من أفضل المراتب الإجتماعية، وهي شاهد على رجحان العقل، وعلى القدرة على التأثير في الطرف الآخر وان كان ذا سلطان وملك وشأن عظيم، وتتخذ صفة البطانة والخاصة عناوين متعددة منها:
الأول: التعيين والتصريح بإتخاذ الشخص أو الجماعة بطانة.
الثاني: القرب والدنو من الحاكم أو ذي الشأن من المسلمين، فهو لم يقصد إتخاذ الكافر وليجة خاصة، ولكن الكافر يتودد إلى المسلم ويتصاغر أمامه، ويقدم له الهدايا، ويظهر له الحرص على النصح له.
الثالث: وجود أسباب ومقدمات في العمل والجوار والدراسة وغيرها.
الرابع: حاجة المسلم إلى المشورة والمعونة والنصيحة.
الخامس: لقد خلق الله تعالى الإنسان بطبعه مائلاً للإنس بالآخرين ويكون موضوع البطانة من الإنس بالناس وسماع أقوالهم.
السادس: إتصاف الكافر بالخبرة والإختصاص في العلم أو العمل وأمور الحياة الدنيا.
السابع: إظهار الكافر الود، وحرصه على بذل النصيحة لبعث النفوس للإطمئنان والسكينة اليه.
الثامن: وجود ثغرة ينفذ منها الكافر لمراتب البطانة، كما لو تخلف المسلمون المؤهلون لها عن بلوغها أو أنهم بلغوها ولكنهم لم يتعاهدوها.
التاسع: وجود فتور وقلة ضبط في موازين إختيار البطانة.
وجاءت هذه الآية الكريمة لمنع مقدمات إتخاذ البطانة من غير المسلمين ومحاربة إتخاذها، ولا يكون معها إستقرار للمسلم الذي يتخذ بطانة من دون المسلمين، ولو حصل وإختارالمسلم خاصة له من غير المسلمين فتكون لهذه الآية الكريمة وظائف عقائدية متعددة منها:
الأول: إنها صاحب كريم يدعو المسلم للإنابة والصدور عن القرآن والإمتناع عن المعصية التي تتمثل بإتخاذ بطانة من غير المسلمين.
الثاني: الآية زاجر عن إستدامة البطانة السيئة، والإستعانة بغير المسلم من دون حاجة.
الثالث: تبعث الآية الحيطة والحذر في قلب المسلم الذي يتخذ بطانة من غير المسلمين من تلك البطانة، ويتدبر في أقوالها وأفعالها، وغاياتها وما يحتمل من الأضرار القريبة أو البعيدة فيها، فقد لا يلتفت المسلم إلا للآثار القريبة لقول أو فعل أو مشورة البطانة فجاءت هذه الآية تنبيهاً وتحذيراً له.
فجاءت هذه الآية لتحثه على التدبر في الآثار البعيدة والنتائج العقائدية على قول أو مشورة البطانة من غير المسلمين، فقد تكون لها منافع قريبة ولكنها تبعث النفرة في النفوس، وتؤدي إلى الضرر العام والكساد في التجارات، وتخلف المسلمين عن نصرة المستبطن-بالكسر- في الشدائد، وحال حاجته لهم، فيرجع إلى الكافر فلا يجد عنده إلا السراب.
ومن منافع هذه الآية:
الأول: تساهم الآية في بناء الدولة الإسلامية وإستدامة الصلات الأخوية بين المسلمين.
الثاني: تمنع الآية من تسلل أعداء الإسلام إلى مصادر القرار والتأثير.
الثالث: تحول الآية دون تفشي الكدورات والغل والغلظة بين المسلمين.
الرابع: تدعو الآية المسلمين إلى التسابق لبلوغ مرتبة البطانة والخاصة.
الخامس: مد يد العون وأسباب النصح إلى المسلم حاكماً كان أو كان إماماً أو غيرهما.
وقد يحتاج الأدنى من المسلمين بطانة الأعلى منه في المقام والشأن، وهو من عمومات الآية الكريمة وأسرار مجيئها بالخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فليس من قيد في البين يشترط إختصاص النهي في الآية بمراتب مخصوصة من المسلمين وحكامهم، ولا دليل على بقاء أحكامها وخطابها معلقاً في توجهه إلى المسلم والمسلمة ريثما ينالا مرتبة وشأناًً رفيعاً، فالآية عامة لكل المسلمين، وبمختلف مراتبهم وشأنهم.
وهل تدعو الآية إلى إتخاذ البطانة الخاصة من الأعلى أي أنها إنحلالية تتوجه إلى كل مسلم بأن يتخذ بطانة وخاصة ممن هم أعلى منه شأناً ومقاماً في عمله وشأنه، فمن كان وزيراً فانه يتخذ الملك والسلطان بطانة ومن كان رئيس فخذ يتخذ رئيس القبيلة بطانة دون الأقل منه، ويتخذ الأخ الأصغر أخاه الأكبر بطانة، وهكذا.
الجواب لا، لأن المراد من قوله تعالى [لاتَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] أي من دون المسلمين والمسلم كفؤ المسلم، ويتساوى المسلمون بدخول الإسلام والنطق بالشهادتين بالحقوق والواجبات والأهلية لمراتب البطانة، ولكن هذا لا يمنع من إتخاذ المسلم لمن هو أعلى منه شأناً ورتبة وأكثر علماً وخبرة وبطانة.
وجاء النهي في الآية بسيطاً خالياً من اللبس والترديد، إذ تمنع الآية المسلمين من إتخاذ بطانة وخاصة من غيرهم، ومن هم دونهم، وتتضمن في مفهومها الإطلاق في إتخاذ المسلمين بعضهم لبعض بطانة من غير حصر، ويكون المعنى على وجوه:
الأول: إتخاذ الأعلى شأناً من المسلمين من هو أقل منه بطانة.
الثاني: التساوي والتشابه في الرتبة والمنزلة بين المستبطن-بالكسر- والمستبطن-بالفتح.
الثالث: يتخذ الأقل رتبة وسناً ومالاً وجاهاً من هو أعلى منه بطانة وخاصة، وهذا من إعجاز الآية إذ تمنع الآية المسلمين من إتخاذ البطانة من غيرهم على نحو الإطلاق مع بيان العلة والأضرار التي تترتب على إستبطانهم، لتكون إذناً عاماً لكل مسلم بأن يتخذ بطانة من عموم المسلمين وهناك مسائل:
الأولى: لو فرض أن إستبطان أحد المسلمين يؤدي إلى الفساد والإفساد، فلا يجوز إستبطانه أيضاً لأن الغاية هي تحصين المسلمين من الفساد، ومنع ظهور الخبال في أعمالهم وأفعالهم ولقاعدة لا ضرر ولا ضرار، ومنع الفساد، ولكن مثل هذا الفرد نادر الحصول وفي معرض التوبة ويكون أذاه على نحو القصفية الشخصية وليس إرادة الضرر العام بالمسلمين.
بينما يؤدي إستبطان غير المسلم إلى الفساد لأنه لا ينظر إلى المصالح العامة للمسلمين، ويملأ صدره الحسد لهم.
الثانية: لو كانت بطانة وخاصة غير مسلمة ولكنها لا تبغي الفساد عند المسلمين، وليس من بغضاء تصدر على أفواههم فهل يصح إستبطانهم، الجواب لا، لوجوه:
الأول: إطلاق النهي عن إستبطان غير المسلمين.
الثاني: جاء بيان علة النهي عاماً بلحاظ الجنس والملة،و غير محصور بشخص الذي يستبطن من غير المسلمين، فقد لا يصدر من المستبطن ما يفيد البغض والكراهية للمسلمين، ولكنه يصدر من أهل ملته وقومه، فيشمله النهي وقاية وإحترازاً وتأديباً.
الثالث: لقد جعل الله عز وجل المسلمين أمة واحدة متحدة، متمسكة بالقرآن والسنة، ومن مصاديقه الإتحاد والعمل بأحكام القرآن والتقيد بما فيه من الأوامر والنواهي.
قانون بطانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
يعتبر هذا القانون سياحة في عالم التنزيل والسنة النبوية، ومدرسة عقائدية وأخلاقية ذات معاني قدسية مقتبسة من ذات آية (البطانة) ومافيها من الدلالات، وبرهاناً يؤكد أن أخلاق وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت مصداقاً للقرآن، وترجمة عملية لأحكامه ومافيه من السنن.
وهذا القانون وحده يصلح أن يكون مجلداً مستقلاً بلحاظ مواضيع متعددة منها:
الأول: تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية البطانة.
الثاني: البطانة والخاصة في السنة النبوية.
الثالث: منزلة الصحابة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المشورة والخاصة والوليجة.
الرابع: مرتبة كبار الصحابة عند النبي في موضوع البطانة.
الخامس: الشأن العظيم لأهل البيت في مشورة وحمل أسرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس: البطانة والوحي والتنزيل.
السابع: بطانة النبي في بداية البعثة النبوية، وأيام الدعوة الأولى في مكة المكرمة.
الثامن: بطانة هذه الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها واقية ومنار هدىّ في باب البطانة والخاصة قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم”أدبني ربي فأحسن تأديب”( ).
التاسع: بطانة النبي عند مغادرته مكة المكرمة في طريقه إلى المدينة المنورة عندما بات الإمام علي بن أبي طالب في فراشه وأراد الكفار قتله ونزول قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( )، إذ نزلت الآية بين مكة والمدينة، ومصاحبة أبي بكر الصديق له في الطريق الى المدينة ومبيتهما في الغار قال تعالى [إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( )، وفيه أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الناصح والبطانة للصحابة وهو عون للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، وقيل طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ما ظنك بإثنين الله ثالثهما، وفيه وجوه:
الأول: أن الله عز وجل مع النبي في الغار دون غيره من الأماكن.
الثاني: يحرس الله عز وجل النبي محمداً في الشدائد والمحن كما في المعارك، وإرادة بعض الكفار قتله.
الثالث: إن الله عز وجل هو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ومن مصاديق الآية أعلاه واسم التفضيل فيها (خير) أنه تعالى يحفظ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في كل أحواله، في حضره وسفره، ويقظته ومنامه، وفي بيته وبين أصحابه، والصحيح هو الثالث لأن الله سبحانه أرحم الراحمين.
التاسع: بطانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الملائكة كما في إستشارته لجبرئيل أحياناً، وتأييد ونصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] أي الملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين، لتجتمع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب البطانة أمور:
الأول: نزول آيات القرآن، وما فيها من أسباب النزول التي هي مدرسة في هداية النبي محمد مع المسلمين إلى سبل الرشاد والأمن والنجاة في النشأتين.
الثاني: موضوعية الوحي في السنة النبوية القولية والفعلية والتدوينية والتقريرية، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، فالوحي وان جاء بخصوص القول إلا أنه عام وشاهد على العموم وتؤيده آيات أخرى.
الثالث: نزول الملائكة لصحبة ومحاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان جبرئيل عليه السلام ينزل أحياناً بهيئة دحية الكلبي( ).
الرابع: آيات القرآن خير بطانة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان صلى الله عليه وآله وسلم مواظباً على تلاوة آيات القرآن والإتيان بها شاهداً ودليلاً ومرشداً.
الخامس: الرؤيا الصادقة التي كان يراها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تأتي كفلق الصبح، فعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلى أحد، ومع كثرة جيش المشركين ومجيئهم للإنتقام والثأر” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين : إني قد رأيت والله خيرا ، رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة”( ).
فكانت الرؤيا بشارة عودة النبي محمد سالماً الى المدينة، وحصول خسارة وقتلى في أصحابة، وجراحات أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يختصر الأمر على الرؤيا التي يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل كان يلتفت الى المسلمين بعد صلاة الصبح ليسألهم من منكم رأى رؤيا الليلة، فيقص عليه من رأى رؤيا ليستقرأ منها الدروس والعبر.
السادسة: مشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في حال السلم والحرب، والحضر والسفر، فان قلت ما دام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، ولايتكلم إلا عن الوحي فلماذا يستشير أصحابه، فالجواب من وجوه:
الأول: تأتي الإستشارة مقدمة للوحي.
الثاني: توافق المشورة الوحي في أحيان كثيرة، وله شواهد في أسباب نزول بعض آيات القرآن، وفي السنة النبوية.
الثالث: تنمية ملكة المشورة والبطانة الصالحة عند الصحابة والمسلمين عموماً.
الرابع: دعوة ملوك وقادة المسلمين للجوء الى المشورة والإنصات للرأي، وفي قول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : خذ العلم من أفواه الرجال( ).
الخامس: مشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
السادس: أنه من عمومات [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ].
السابع: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإستشارة أصحابه من الوحي لعمومات قوله تعالى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، .
والإستشارة نطق وكلام فلايأتي عن الوحي، وهو آية في تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم بأن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإستشارتهم بأمر من الله عز وجل.
وفي واقعة بدر ماسبقها من الأحدا إتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الشورى سلاحاً وحجة، مع أن خرج بأمر من الله عز وجل قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( )، إذ أقبلت عبر قريش من الشام ” تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عير كم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا ، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إني رأيت عجبا . رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة ، فحدث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبأوا حتى تتنبأ نساؤهم ؟ فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير “( )، فجاءت الرؤيا إنذاراً وموعظة ولكن رؤساء الضلالة أصروا على الكفر والعناد.
وحينما خرجت قريش جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار وقال ” أشيروا على أيها الناس ، وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا ، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم “( ).
فمن الإعجاز في مشورة النبي في المقام أمور:
الأول: مجئ المشورة بطول الوحي وليس من تعارض بينها وبين الوحي.
الثاني: وقوع الإنذارات للكفار في الواقع والرؤيا والطيرة، وحصول البشارات للمسلمين.
الثالث: مجئ البشارات على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: نزول الآيات التي تدل على صحة إختيار المسلمين للجهاد.
الخامس: حصول النصر والظفر بالأعداء، وإذ كان فريق من الصحابة يطمعون بعير قريش فما مرت الأيام والسنين إلا وقد فتح الله عز وجل للمسلمين كنوز قيصر وكسرى، بل كانت الغنائم تترى في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه إكرام الله عز وجل للحصابة وفتح خزائن الدنيا والأخرة لهم.
وعندما جاء خبر نزول الكفار في أحد طالبين القتال جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه واستشارهم في البقاء لملاقاة العدو ليرى عندهم العزم على مواجهة الكفار، فقال: أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها ، وكان رأى عبد الله ابن أبي بن سلول مع رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى رأيه في ذلك وألا يخرج إليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج( ).
ولكن عندما ألح عليه رجال من المسلمين بالخروج خصوصاً من فاته القتال في بدر وذكروا السبب: أخرج بنا إلى أعدائنا، لايرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فإختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى أ حد.
وكذا في معركة الخندق، فعندما جاء المشركون بجيوشهم، إذا قبلت قريش بعشرة الآف ممن تبعهم من كنانة وأهل تهامة، وغظفان ومن تبعهم من أهل نجد، وأحابيش قريش، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف فأشار سلمان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحفر خندقاً حول المدينة، فأخذ النبي بمشورته، لينال يومها لقب سلمان المحمدي ( إذ قال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منها أهل البيت( ).
وعندما جاءت قريش وأطلت خيلها على الخندق، قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها) وهو من منافع تعدد الأعراف والأنساب في المسلمين وآية من آيات بناء صرح الإسلام وإتساع رفعة حكمه والعمل بأحكامه ومبادئه في العبادات والمعاملات.
وحاصر المشركون المدينة مايقرب الشهر، مع الرمي بالنبال، ونقض بنو قريظة العهد مع النبي وظهر النفاق، وإشتد البلاء والخوف بين المسلمين فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى قائدي غطفان التي كانت مع قريش، فعرض عليها أن يعطيها ثلث ثمار المدينة ليرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وكتبوا الكتاب.
وقبل أن تقع الشهادة عليه أو تجري عزيمة الصلح، بعث النبي إلى سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فذكر لهم الأمر واستشارهما فيه.
فقالا له : يا رسول الله ، أمراً تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به ، لابد لنا من العمل به ، أم شيئاً تصنعه لنا ؟ قال : بل شئ أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى( ).
أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا والله مالنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنت وذاك . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا”( ) .
الثامن: المدار في الفعل الذي يقول به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الوحي، وليس على المشورة وحدها وتلك خصوصية ينفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه يستشير، ولكن الدار على الوحي فأذا جاءت الإستشارة موافقة للوحي، وأذن الله في المشورة أخذ بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: مشورة النبي لأهل بيته وأزواجه، وفيه بيان لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته، وإصغائه لأزواجه، وماعندهم من الرأي السديد.
ان تعدد بطانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضل ولطف من الله عز وجل به وبالمسلمين، وشاهد على تفضيله على الأنبياء السابقين.
فلم يرزق نبي آية البطانة مثل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاءت سنته القولية والفعلية لتدل على تقيده بأحكام هذه الآية ومافيها من المضامين القدسية.
البطانة الذاتية غنى
يمكن تقسيم البطانة بلحاظ مضامين الآية الكريمة إلى أقسام:
الأول: البطانة الذاتية، وهي التي تعني إتخاذ المسلم للبطانة والخاصة من بين المسلمين، سواء كانوا ذوي قربى أو لا، فالجامع هو الإنتماء إلى الإسلام.
الثاني: البطانة الكتابية، بأن يتخذ المسلم والجماعة والطائفة من المسلمين خاصة ووليجة من أهل الكتاب.
الثالث: الخاصة والبطانة من الكفار والمشركين.
وجاءت الآية للتحذير والنهي عن القسمين الثاني والثالث، لتؤكد في مفهومها على صحة إختيار الوليجة والبطانة من القسم الأول، وفيه آية من وجوه:
الأول: العناية الإلهية بالمسلمين بخصوص تنظيم شؤونهم وإصلاح أحوالهم.
الثاني: تثبيت أركان الدولة الإسلامية، وفق قواعد صحيحة تمنع من إنبعاث الضعف والوهن من الداخل.
الثالث: حصانة المسلمين وحفظ أسرارهم، وعدم فضح نواياهم وعزائمهم، وهو من مصاديق الإستعانة على الأعمال بالكتمان.
ومن صيغ الكتمان عدم إطلاع غير المسلم على ما ينويه المسلمون من المقاصد والأفعال.
ومن خصائص البطانة والخاصة الإطلاع على الأمور، بالذات والمباشرة وعلى نحو عرضي بأن يعلم بها من خلال حضوره وقربه من المسلمين ومنبع الأمر فقد يكون عند الحاكم وذي الشأن المسلم بطانة من غير المسلمين، ويحرص على عدم إطلاعها على الأمور التي تستلزم الكتمان والسرية والإخفاء عنها،ولكنها تطلع عليها على نحو الكلية أو الجزئية بالشواهد والأمارات وفحوى الكلام، والفعل الذي يدل على القصد والغاية، فجاءت هذه الآية للوقاية من هذا الأمر من الأصل، ودفع الحرج عن المسلمين عامة والحكام والأمراء منهم خاصة، إذ انها تنهى عن إتخاذ مثل هذه البطانة إبتداء وإستدامة.
الرابع: يبعث جعل المسلم خاصة في نفسه الغبطة والرضا، ويشعر معها بالشأن والعز، ويدرك أنها مسؤولية ومشورة وفتوى وموضوع يستلزم التقيد بالآداب الحميدة والسنن الرشيدة، والأعراف الحسنة فاذا إتخذ المسلم أو العامة منهم بطانة من بينهم متحدة أو مجتمعة فإنها مناسبة كريمة للبطانة لإصلاح شأنها وتقويم سلوكها، وضبط أقوالها وأفعالها.
الخامس: لم تختص أحكام الآية بزمان دون آخر أو بلد دون غيره، ولم تتعلق بأيام النبوة والخلافة الراشدة، ومجاورة اليهود في المدينة وحداثة بناء الدولة الإسلامية ولجوء المسلمين إلى أهل الكتاب وما عندهم من الخبرة والأموال بل هي دائمة ومستديمة وشاملة لأفراد الزمان الطولية.
السادس: تجعل الآية الكريمة المسلمين في حال من الغنى عن غيرهم في باب الخاصة والوليجة، وأبواب عديدة أخرى، بخلاف ما لو إتخذ المسلمون غيرهم بطانة لهم، فانهم يبقون أسارى لهم في المشورة والرأي.
فجاءت هذه الآية لتبعث في نفوس المسلمين السكينة، والثقة بأهليتهم لإتخاذ القرار المناسب، والقيام بالفعل الصحيح وتجعلهم في مأمن من كشف نواياهم وأسرارهم، ومعرفة الآخرين بما عندهم من الثغرات ونفاذه من خلالها، ومن معاني الضعف وأسباب الوهن الحاجة إلى الغير مطلقاً والأعداء خاصة في المشورة والرأي، فجاءت هذه الآية لمنع الوهن والضعف عن المسلمين.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين إتخاذ البطانة الذاتية وهو سبحانه أعلم بالمصالح والمفاسد، فجاءت هذه الآية لدرء المفسدة عن المسلمين وجعلهم يرتقون في كافة الميادين، فهي واقية وحصن وتأديب وتعليم للمسلمين، ومن حق المسلمين ان يفتخروا بهذه الآية الكريمة وما فيها من النهي وبيان علته وأسبابه.
ولم تذكر لنزول الآية أسباب، لأن مضامينها تتغشى أعمال المسلمين في الميادين المختلفة، وفي عدم ذكر أسباب لنزول الآية إشارة الى حاجة أجيال المسلمين المتعاقبة للبطانة، وبشارة بلوغ المسلمين لمنازل الحكم وتولي شؤون السلطنة لكي تأتي أفعالهم موافقة للقرآن والسنة.
قانون البطانة أمانة
الأمانة هي الحفظ وصيانة الوديعة والسر، وهي ضد الخيانة، والأمين هو المؤتمن الذي يأتمنه غيره على شأن خاص (وعن ابن السكيت: انه يرد بمعنى المؤتمِن-بالكسر- والمؤتمَن بالفتح من الأضداد)( )، والأمين اسم فاعل أي أنه يتحمل الأمانة وهو المتبادر عند إطلاق هذا اللفظ،ولكن يقال”رجل أمنة إذا كان يطمئن إلى كل واحد، ويثق بكل أحد”( ).
والأمانة من الأخلاق الحميدة، وجاءت الآيات القرآنية بالحث والندب إليها والترغيب فيها، قال تعالى [فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ]( ).
ولا ينحصر موضوعها بعلم الأخلاق، بل تترتب عليها أحكام شرعية، فمع الأمانة يكون الثواب والأجر، وتتعدد مصاديق الأمانة فتشمل العبادات وهي أهم أمانة يتحملها الإنسان وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم أمناء الفرائض والعبادات وتعاهدوها وحرصوا على أدائها، وهو من مصاديق نيلهم مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( )، ورد عن ابن عباس وسعيد بن جبير انهما قالا: الأمانة ههنا الفرائض التي إفترضها الله تعالى على عباده.
ويأتي لفظ “المؤمن” بمعنى المؤتمن والأمين، وفي الحديث: النجوم أمنة السماء فاذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فاذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد( ).
هناك نوع ملازمة بين الأمانة والإيمان، وكل واحد منهما يهدي إلى الآخر ويساعد على تثبيت معانيه في النفس وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا إيمان لمن لا أمانة له، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده( ).
ويدل الحديث على أن إتخاذ المسلم بطانة يبعث على الأمن، ويكون واقية من الضرر، فلا يقدم المسلم الذي يكون بطانة على إلحاق الأذى بمن إستبطنه ولا بغيره، فقد تكون البطانة مخلصة للحاكم الذي إستبطنها مثلاً ولكنها تعمل على الإنتقام من غيره، أو تتخذ مقامها ومنزلتها لمحاربة أعداءها أو تحقيق المنافع على حساب الناس والصالح العام من غير الإضرار بمن إستبطنها، وهو من عمومات قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] بمعنى ان الفساد والخبال يحصل مع غير المستبطن من المسلمين، فتلك البطانة من غير المسلمين تظهر الإخلاص لمن إستبطنها، ولكنها تكون شديدة على غيره، بما يبعث على السأم العام، وأسباب الفتنة والإفتتان، وهذا المعنى من إعجاز الآية ومدخل للإمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه دعوة للحكام والأمراء وأهل الحل والعقد من المسلمين أن لا يتركوا للخاصة أن تصبح حاجباً وبرزخاً بينهم وبين العامة، ومن الأمانة في المقام عدم الإضرار بالناس والعامة، فالأمين يحرص على أداء وظائفه بإخلاص، وعدم إلحاق الضرر بغيره، ويكون ناصحاً لمن إئتمنه.
لذا فان مضامين الأمانة في البطانة متعددة وتشمل:
الأول: بطانة قادرة على الإضرار بمن إستبطنها، وإذا كانت تتصف بالأمانة فانه لا يخشى جانبها، ولا يتخوف من غوائلها، فلذا جاءت هذه الآية للإحتراز من غدر البطانة، بالإعراض عن الفرقة والطائفة التي تفتقر إلى الأمانة بالذات أو بالعرض، كما لو جعلتها العداوة والبغضاء تميل إلى الخيانة.
الثاني: بطانة غير قادرة على الإضرار بالذي أدناها، ومع هذا لا يؤمن من خيانتها وغدرها، فجاءت هذه الآية لتجعل المسلمين في مأمن من تلك الخيانة المحتملة وليتوجهوا إلى أداء الوظائف العبادية والجهاد في سبيل الله، والسعي في موارد الكسب والمعيشة من غير خشية من الخيانة من الداخل.
الثالث: الأمانة والصدق، و تقويم السلوك الشخصي، وضبط اللسان والمنطق، والحرص على حسن الصيت والسمعة، وتحرير النفس من غلبة الشهوة والغضب.
الرابع: الأمانة مع الوظيفة والشأن الذي تم إختيار البطانة لها إذ ان البطانة أمانة محضة، فيجب تعاهدها بالصدق وإجتناب الغدر والخيانة والتفريط والإهمال.
لقد جعل الله تعالى المسلمين يتحملون بعز وفخر أكبر أمانة تحملتها أمة من الأمم، إذ انهم ورثة الأنبياء، فأراد الله تعالى لهم التوفيق والنجاح والقيام بأعباء هذه الأمانة كاملة، فتفضل بهذه الآية التي هي عون لهم في تعاهد أحكام الشريعة وآداب التنزيل إلى يوم القيامة، بأن حذرهم من إتخاذ بطانة من غيرهم ممن تخلف بإختياره عن اللحوق بالأمة التي تحملت أعباء الأمانة، ويمكن أن نسمي المسلمين “الأمة الأمينة” لأنها مؤتمنة على التنزيل والشريعة، وهذا الإئتمان إنحلالي، فكل مسلم أمين على أحكام الشريعة وهذه هي الكبرى، أما الصغرى فهي في المقام على قسمين:
الأول: الأمانة في إختيار البطانة بأن تكون من المسلمين.
الثاني: الأمانة في أداء وظائف البطانة والخاصة.
الخامس: الأمانة مع الناس والعامة، ومن تتعلق بهم أمور الإستبطان والوليجة، وتتجلى معاني الأمانة في هذا الوجه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع المفسدة، والزجر عن غلبة النفس الغضبية والطمع والشره والتعدي على الآخرين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإتخاذ منصب البطانة لإيذاء الناس والإضرار بهم، وفي الفقه قاعدة تسمى “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام” وهي مستقرأة من الحديث الشريف.
ويدل في مضمونه في المقام على أن لا تكون البطانة سبباً للإضرار بالناس، وأن لا يكون إختيارها مقدمة لضرر عام وخاص وكأن الحديث تفسيراً للآية وما فيها من النهي وعلته، فجاءت هذه الآية رحمة بمن يستبطن غيره بأن لا يبوء بالإثم بسبب إختيار من يسعى في الإضرار بالناس فيتحمل وزراً من سوء فعله لقاعدة التسبيب في المعصية، وخيانة الأمانة إذ جعلت هذه الآية إختيار البطانة أمانة يجب حفظها وتعاهدها، وتحتمل هذه الأمانة وجوهاً:
الأول: الأمانة الشخصية، لما في عمل البطانة من الأثر على ذات الشخص والمقام الذي إختارها لمنزلة البطانة.
الثاني: الأمانة الشرعية، لما في عمل البطانة من الوظائف الشرعية والأخلاقية.
الثالث: الأمانة العامة مع الناس، في جعل وظيفة البطانة خالية من الأذى والمكر والكيد.
الرابع: الأمانة مع الخاصة والوليجة، فلا تكون البطانة سبباً للفتنة الخاصة مع الذي إستبطنها، وبعث أسباب الشك والريبة في نفسه من الآل والخاصة، أو جعلهم يخافون جانبه ويخشون غوائله.
ولا تعارض بين هذه الوجوه،وكلها من مصاديق الأمانة في موضوع البطانة، لذا جاءت الآية تثبيتاً لمفاهيم الأمانة في الإسلام، ودعوة للناس لدخوله والنطق بالشهادتين لأن النفوس تميل بالفطرة إلى الأمانة والصدق، وإتصاف البطانة والخاصة بالأمانة سلاح بوجه أهل الشك والريب والإفتراء،وسيف مشهورعلى نحو مستديم ضد أعداء الإسلام،وواقية متجددة من الفتنة والمكر، ووسيلة لنشر مفاهيم العدل والإنصاف والأمانة بين الناس.
وقد جاء على لسان عدد من الأنبياء في دعوة قومهم إلى الإيمان [إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ]( )، وورد في سورة الشعراء وحدها خمس مرات، مما يدل على موضوعية الأمانة في التصديق بالأنبياء وإتباعهم، وإذا أُستبطن الأمين فانه يحرص على أن يكون واسطة في الخير بين من إستبطنه وبين غيره من الناس، وينقل الوقائع والأقوال والرسائل بأمانة وصدق، ويكون سفيراً مزدوجاً عند الناس، وعند من إستبطنه لما فيه نفع صاحبه، ودفع الضرر ومنع صدور الفعل القبيح ممن إختصه بأسراره أو لحوق الإثم به، وفي الحديث “المستشار مؤتمن”( ).
وجاءت هذه الآية لتوكيد قانون أهلية المسلم لتحمل الأمانة الشخصية والعامة في موضوع البطانة، كما تحمل الأمانة في أداء العبادات.
وفي الحديث “الأمانة غنى”( )، أي انها سبب للغنى والرزق الكريم، وإذا كان الرجل أميناً فان النفوس تطمئن اليه ويثق به الناس، ويكثر من يتعامل معه، ومن أهم خصائص البطانة الإتصاف بالأمانة، مما يدل على ان الأمانة عون للإنسان لبلوغ مراتب البطانة، فاذا كان المسلم أميناً فان النفوس تسكن اليه ويتخذه الناس خاصة ووليجة، ويكون هذا الإتخاذ سبباً للغنى، وفي الأمانة سلامة من المنكر وإرتكابه والدعوة اليه، لأن الأمين غني في نفسه قانع بما عنده، راضِ بما رزقه الله تعالى.
وفي حديث أشراط الساعة: والأمانة مغنماً( )، أي يرى الشخص الأمانة التي في يده غنيمة له ان يخون فيها فجاءت هذه الآية الكريمة لسلامة المسلمين من الخيانة، ومن الغدر منهم في باب البطانة، وإتخاذها وسيلة للمكر وسلب أموالهم وما عندهم من الرزق الكريم في الجاه والشأن والمال، وحصانة دائمة لأجيال المسلمين، وحرز من الخيانة في آخر الزمان لأن الإمتناع عن إستبطان غير المسلم ملازم للمسلمين لن يفارقهم، إذ تطل عليهم هذه الآية كل يوم تدعوهم للعمل بأحكامها، وتحذرهم من الأعداء وأهل الخيانة.
قانون البطانة والتقوى
لقد حرص المسلمون على الفناء في طاعة الله عز وجل، وأظهروا التسليم والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات أن هذا التصديق لا يقبل الرياء لأنه عبارة عن إعتقاد وفعل عبادي يومي متجدد، وعمل بالأركان والجوارح، وتقيد بأحكام الشريعة في المعاملات والأحكام والسنن.
لذا نعت القرآن المسلمين بانهم متقون قال تعالى [الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )، وهو من وجوه نيلهم لمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] وجاءت هذه الآية هداية للمسلمين وتثبيتاً لهم في منازل الهداية والتقوى ووسيلة لبناء دولة الإسلام، وإشاعة مفاهيم الصلاح بين المسلمين، وبرزخاً من ظهور النفرة والخصومة وأسباب العداوة بينهم وآثارها عليهم وعلى دولة الإسلام.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين أن يكونوا دعاة إلى الإسلام، وإختيار البطانة الصالحة من بينهم من مصاديق الدعوة اليومية إلى الله تعالى، وهي عنوان للتقوى والخشية من الله تعالى، وعون لهم في تعاهد منازل التقوى وعدم الخروج عنها إلى ما هو خلافها وضدها.
وتتجلى التقوى في إختيار البطانة الصالحة من وجوه:
الأول: خشية الله تعالى، والإمتثال لأوامره ونواهيه، ومنها ما جاء في هذه الآية الكريمة.
الثاني: التفقه في الدين بمعرفة أضرار بطانة السوء وكيدها ومكرها فقد ذكرت هذه الآية أن البطانة من دون المسلمين تسعى في بعث الفساد والخبال عند المسلمين، وهو أمر تأباه كل جماعة وأمة لنفسها وتنفر منه ومن أسبابه، وذكر قبح نية وفعل البطانة من دون المسلمين، وفي إجتناب المسلمين للبطانة السيئة إستدامة للحياة الإنسانية في الأرض، لأنه تعاهد لمعاني الصلاح عند خير أمة، وبرزخ دون إنتشار الفساد والإفساد، لتعاهد عبادة الله والخشية منه في السر والعلانية قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ] ( ).
لقد جاء الأنبياء والكتب السماوية السابقة بالوعد والوعيد، والبشارة والإنذار لندب الناس إلى منازل التقوى.
وإمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء، والقرآن من بين الكتب السماوية السابقة بالمجيء بإسمى معاني التقوى وأسباب الهداية وإنبساطها على عالم الأقوال والأفعال، وفي البيت والسوق والمسجد والمحلة ومكان العمل ومختلف المعاملات من البيع والشراء والعقود والإيقاعات.
فجاءت هذه الآية لتتغشاها جميعاً، ولتؤكد هذا الإمتياز وسمو مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والمسلمين، فصحيح ان مضامين هذه الآية جاءت بخصوص البطانة والخاصة إلا أنها تتغشى مختلف الميادين العبادية والأخلاقية والإجتماعية بما ينشر مبادئ التقوى، ويصلح النفوس، ويمنع من تفشي أسباب الضلالة والغواية.
ومن مصاديق التقوى المجاهدة في الله، والإحتراز من التمادي في الظلم والتعدي، وإجتناب سلطان الهوى، وهذه الآية حصن من الغواية والضلالة وزجر عن إتباع الهوى في إختيار البطانة والخاصة، ومنع لها من الإساءة للذات والغير، إذ يجب على المسلم أن يتحلى بالتقوى في المباشرة والتسبيب بأن لا يكون سبباً في مخالفة أحكام التقوى.
وجاء في وصف القرآن وفي بدايته بأنه [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )، وجاءت هذه الآية هدى ودعوة للصلاح في المجتمعات للمسلمين والناس جميعاً، وتدل في مفهومها على أنها من مصاديق التقوى في ذاتها وما تدعو إليه. وتنفي الآية الشك والريب عن القرآن، وفيها دلالة على خلوه من التحريف والتغيير والتبديل، إذ جاءت صريحة بالزجر عن البطانة من دون المسلمين من غير تعد على الذين هم دون المسلمين، ولكن بخصوص وظائف المسلمين وما ملقى على عاتقهم من المسؤوليات فليس لهم أن يفوضوها إلى غيرهم أو يجعلون القرار والأسرار بيد غيرهم.
وفي الآية ترغيب بدخول الإسلام للذين تمنع الآية من إتخاذهم بطانة وخاصة، وهو من إعجاز القرآن بتحذيره المسلمين من جعلهم بطانة، فيشعر بلزوم دخول الإسلام من وجوه:
الأول: انه الدين الحق، ودخوله واجب على كل مكلف ومكلفة.
الثاني: إعجاز القرآن، وما فيه من الأدلة على نزوله من عند الله تعالى.
الثالث: تحذير هذه الآية المسلمين من البطانة من غيرهم، وما تدل عليه من الصلة بين الله عز وجل وبينهم.
الرابع: حرمان غير المسلم من منازل الشأن والجاه في البطانة للمسلمين.
الخامس: إحتراز المسلمين من نفاذ أعدائهم بينهم.
السادس: لما جاءت الآيات القرآنية بأمر المسلمين بالتمسك بالقرآن قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ] ( )، جاءت هذه الآية لتمنع الفرقة بين المسلمين وحصول سبب لها وهو دخول أهل الحسد والعداوة بينهم.
السابع: يبعث تقيد المسلمين بأحكام هذه الآية الشوق في نفوس الناس لدخول الإسلام، لما في هذا التقيد من معاني الطاعة لله تعالى، ومفاهيم العز والقوة عند المسلمين، وبيان إعجاز ذاتي في عالم الأفعال، يدل على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذا كان صلى الله عليه وآله وسلم [ َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى]( ) فان المسلمين يعملون بهدي القرآن والسنة، ولا ينحصر هذا العمل بالعبادات بل يشمل المعاملات والأحكام وتنظيم شؤون الحكم والإقتصاد والأحوال الشخصية والإجتماعية.
فمن خصائص المسلمين وأسرار تفضيلهم على غيرهم صيرورة التقوى سور الموجبة الكلية لأقوالهم وأفعالهم.
قانون المرأة والبطانة
لقد انعم الله على المسلمين والناس جميعاً بنزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية،والتي تشمل أمور الدين والدنيا، وتختلف أحوال الإنسان في ليله ونهاره، وحضره وسفره.
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية توجه الخطابات التكليفية إلى النساء بعرض واحد مع الرجال، فمع ان القرآن نزل بالجزيرة العربية وقبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولم يكن حينئذ للمرأة شأن وإعتبار في ميادين العمل والسياسة والمجتمع، فقد أولاها القرآن أهمية عقائدية خاصة، وجعل لها منزلة عظيمة بفرض العبادات عليها، ووقوفها مع الرجل في الصلاة وصيامها شهر رمضان، ومع ان الحج هو الجهاد الأصغر، وفي قصد المسجد الحرام عناء ومشقة، ومخاطر وأهوال السفر من الأمصار تدرك بالحواس في كل زمان فان المرأة تلقت خطاب التكليف بالحج بعرض واحد مع الرجل.
ومن الآيات ان فريضة الحج نزلت في المدينة، لتقطع النساء أيام النبوة أكثر من تسعمائة كيلو متراً ذهاباً وإياباً من المدينة إلى مكة ثم العودة منها، وجاءت بعض أحكام الحائض عند الإحرام من أخبار حج نساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية عقائدية وجهادية تؤكد مشاركة المرأة للرجل في العبادات، وأداءها للمناسك بمثل تأدية الرجل لها، وثبوت أحكام الحج ومقدماتها إلى يوم القيامة.
وكما جاء فرض الصيام على المسلمين والمسلمات بالخطاب التكليفي بصيغة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )، فكذا إبتدأت الآية محل البحث بذات الخطاب التكليفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مما يدل على إرادة الذكور والإناث من المسلمين وهو من إعجاز القرآن ولغة الخطاب فيه، إذ جاءت لغة التذكير في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لتغليب المذكر على المؤنث، ويتوجه الخطاب التكليفي للمرأة في الآية من وجوه:
الأول: نهي المرأة عن إتخاذ بطانة وخاصة لها من دون المسلمين، في الأمور العامة، وعند تولي المرأة لبعض المناصب، وفي الآية إعجاز من جهة الإخبار عن مستقبل الأيام وإرتقاء المرأة في المناصب والشأن والوظيفة، كما هو ظاهر في هذا الزمان وفي كثير من البلدان، فتملي الآية على المرأة العمل بأحكامها، وتمنع من تفريطها بالنواهي الواردة في الآية.
الثاني: يتوجه النهي للمرأة المسلمة من إتخاذ وليجة من دون المسلمين سواء من الرجال او النساء، فليس من حصر لموضوع الوليجة المنهي عنها بالنسبة للمرأة بخصوص النساء، بل تأمر الآية الكريمة المرأة المسلمة بعدم إتخاذ وليجة من غير المسلمين من الرجال، وبخصوص الوظيفة والمنصب لو كان الذي يتولى المشورة والبطانة موظفاً من غير المسلمين فهل يجب تبديله وتغييره.
الجواب جاءت الآية بخصوص إختيار وتعيين المسلمين للبطانة والخاصة وفيما يتعلق بأحوال المسلمين وأحكام الإسلام والأمور الخاصة، ومع هذا فان عمومات الآية تشمل البطانة حتى في الوظيفة التي تتعلق بمبادئ وأحكام الإسلام، الإمر الذي ليس فيه أذى لغير المسلم بل هو خير محض ونفع عام.
الثالث: في الآية دعوة للمرأة المسلمة لكي تنهى غيرها من الرجال عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين وهي على شعب:
الأولى: منع الأم إبنها من إتخاذ بطانة ووليجة من غير المسلمين.
الثانية: تنبيه الزوجة لزوجها بلزوم جعل خاصته وبطانته من المسلمين.
الثالثة: نصح البنت المسلمة لأبيها وأمها في موضوع البطانة، وحثهما على إتخاذ الوليجة والبطانة المسلمة الصالحة.
الرابعة: ترغيب الأخت لأخيها بوجوب إتخاذ وليجة من المسلمين.
الخامسة: قيام المرأة بالتحذير في باب البطانة وفق عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للقريب والبعيد، بلحاظ شرائط الأمر والنهي وعدم ترتب الأذى على تحذيرها ودعوتها لغيرها من المسلمين بالطاعة وعدم المعصية في خصوص البطانة والوليجة.
وجاءت الآية بصيغة النهي لإتخاذ البطانة من غير المسلمين ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات بحث بعضهم بعضاً على التقيد بأحكام هذه الآية، وهو من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
ومن وجوه التخفيف في الشريعة الإسلامية جذب المسلمة والمسلم إلى تلاوة الآية الكريمة لبيان أحكامها والتنبيه إلى لزوم العمل بها، وهل تكفي تلاوة الآية في تحقيق مصداق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجواب نعم‘ مع الإنحصار به أو مع حصول الغرض منه أو مع الخشية من الضرر فيما زاد على التلاوة.
الرابع: قد تتخذ البنت المسلمة صداقة ووليجة في الدراسة، فجاءت هذه الآية لتحذر من الوليجة التي لا تأمر وفق أحكام الشريعة الإسلامية، والتي قد تقوم بهتك العرض وفضح الأسرار.
وإذا ما إتخذت الطالبة خاصة وبطانة تتحلى بالإيمان والتقوى والصلاح فانها تكون مرآة لها وتبعث في نفسها حب التقيد بالأحكام الشرعية، وتزجرها عن إتباع الهوى والغواية.
ومن طبائع المرأة انها تحرص على أبيها وزوجها وإبنها وأخيها فجاءت هذه الآية لهدايتها إلى كيفية المحافظة عليهم وأمنهم وسلامتهم في الدنيا والآخرة، ولتكون المرأة عضداً للرجل وعوناً له في بلوغ المراتب العالية في الجنة بمنعه من مقدمات التعدي والظلم،هذه المقدمات التي تتمثل بإتخاذ بطانة تأمره بالمنكر،وتنهاه عن المعروف كما في ذم الله تعالى للمنافقين، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
فذكرت الآية المنافقات وفيه تحذير للمؤمنات منهن ومن الكافرات من باب الأولوية، وقد جاءت الآيات بالأمر بالجهاد والتصدي للكفار والمنافقين قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( )، وإتخاذ الشخص والجماعة بطانة وخاصة ود وصلة نعم ذكرت آيات القرآن النصارى ومودتهم للذين آمنوا بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى]( ).
ولكن هذه المودة لا ترقى إلى مقامات البطانة لورود النهي فيها بصيغة الإطلاق مما يدل على موضوعيتها في القرار وعالم الأفعال، وترتب الآثار العقائدية والسياسية والإجتماعية والأخلاقية عليها، وفيه بيان وتنبيه للمسلمة بلزوم الإلتفات إلى أهمية موضوع البطانة والخاصة، وعدم الغفلة عنه سواء تعلق بها وبأعمالها الوظيفية أو المنزلية والعائلية، أو بمن يخصها من الأرحام.
وتشترك المرأة مع الرجل في المصالح العامة للمسلمين، فتدعوها الآية للعناية والإلتفات والسعي لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وقد تتولى المرأة شؤون الأسرة وتربية الأبناء على نحو الموجبة الكلية عند فقدان الزوجة، او الموجبة الجزئية عند سفره أو ذهابه إلى الغزو أو المرابطة.
فجاءت هذه الآية بتحذير المرأة من اختيار بطانة سيئة، أو خاصة من غير المسلمين والمسلمات وفيها حصانة وحرز لها، ومنع من هجوم أسباب اللبس والخلط والوهم عليها.
ومن ثمرات التقيد بأحكام هذه الآية المباركة حفظ أموال المسلمين والمسلمات وعدم تفريط المرأة بأموالها الخاصة ومدخراتها، وما تكون قيمّة عليه، لأن البطانة الصالحة تدعو إلى التدبير والإقتصاد، وتمنع من الإسراف والتفريط.
وتدعو هذه الآية المرأة المسلمة في المدرسة والجامعة والعمل والوظيفة وفي المنزل إلى صيانة النفس والعرض، وسلامة الإختيار، وعدم اللهث وراء المال وزينة الحياة الدنيا، لأن الفرد الأهم هو التقوى، والثبات في منازل الإيمان.
وتأتي البطانة الصالحة لتبعث في نفس المسلمة حب الفرائض وتزيين تربية الأولاد على الصلاح ومفاهيم الهدى والرشاد، ولا تنحصر وظائف المرأة المسلمة في المقام بإتخاذ البطانة الصالحة، بل هي نفسها مؤهلة لمنزلة البطانة من وجوه:
الأول: أهلية المرأة أن تكون بطانة لغيرها من النساء دون الرجال.
الثاني: المرأة بطانة للنساء والصبيان كأولادها وإخوانها الصغار مثلاً.
الثالث: إنحصار وظيفة المرأة بأن تستبطن غيرها، و تكون هي بطانة.
الرابع: أهلية المسلمة للبطانة مطلقاً سواء للرجال أو للنساء أو للصبيان، وفي الأمور العامة أو الخاصة.
الخامس: خصوص إستبطان المرأة في أمور الأسرة وشؤون المنزل.
والصحيح هو الرابع، فمن فضل الله تعالى على المسلمين عامة والمسلمات خاصة بلوغ المرأة المسلمة مراتب البطانة بعرض واحد مع الرجل، وإذا كان هناك تباين فبلحاظ الخبرة والتحصيل والصلاح ورجحان العقل، قال تعالى [يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ]( )، فقد أشارت إبنة شعيب على أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام، وكلاهما نبي.
وفي تلك الإجارة النفع العظيم للمسلمين وهو مقدمة لإستدامة أحكام التوحيد في الأرض، وقد أخذ شعيب بمشورتها ونصيحتها، وزوجّها من موسى عليه السلام لبيان منافع المشورة الحسنة والصلاح في البطانة والرأي السديد.
قانون البطانة تشريف
لقد إختصت الآية الكريمة بموضوع وأحكام البطانة، فجاءت بالنهي الصريح عن إستبطان غير المسلم متحداً كان أو متعدداً، في شأن من شؤون الحكم أو التجارة أو أحوال الأسرة، أو فيما يتعلق بالعقائد والسنن، لتبين إكرام الله تعالى للمسلمين، وتشريفهم في مسألة البطانة، بأن يتفضل الله تعالى ويحذرهم من البطانة من غيرهم، ويدعوهم لإتخاذ الخاصة والوليجة من أنفسهم وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
وقيل أن الآية أعلاه جاءت في مدح الأنصار لأنهم كانوا قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة إذا كان بهم أمر إجتمعوا وتشاوروا.
ولكن معاني الآية أعم بلحاظ صيغة المضارع والأمر في الآية، وفيها دعوة للمسلمين للتشاور في الأمور العامة وأسباب جلب المصلحة ودفع المفسدة، وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم( ).
وبين البطانة والشورى عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الإستماع إلى قول الغير.
الثاني: عدم الإنفراد بالرأي.
الثالث: جعل كل من البطانة والشورى مقدمة للفعل.
الرابع: كل من الشورى والبطانة تشريف للشخص والجماعة
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: تأتي الشورى على نحو التساوي أو ما يقرب التساوي بين المتشاورين، أما البطانة فانها تكون بين المستبطِن-بالكسر- والمستبطَن-بالفتح.
الثاني: يحصل التشاور في الأمور التي تهم المتشاورين بعرض واحد في الغالب، أما موضوع البطانة فانه إستماع للرأي والمشورة.
الثالث: البطانة أعم في موضوعها من الشورى، فقد تكون الشورى في المهمات ولكن وجود البطانة مستمر، وتستطيع إبداء الرأي وكشف الأسرار.
الرابع: يأتي القرار في الشورى بعد إبداء الآراء، وذكر الوجوه المحتملة والراجحة، أما في البطانة فان الإنسان له أن لا يأخذ بقول البطانة، وجاءت هذه الآية للتحذير من الإنصات لقول البطانة إن أرادت المكر والكيد والسوء لأن إختيار البطانة أعم من العمل بقولها والإصغاء لها.
الخامس: جاءت الآية أعلاه في مدح الشورى بين المسلمين مطلقا، وفي الحديث ” ما خاب من استخار وما ندم من استشار ولا عال من اقتصد”( ).
السادس: توفر أسباب الأهلية الشخصية للشورى، أما بالنسبة للبطانة فتأتي بإختيار المستبطن لمن يجعله خاصة ووليجة له، لذا فان الآية تدل بالدلالة التضمنية على حق المسلم منفرداً ومجتمعاً مع أخيه المسلم وجماعته بإختيار البطانة، فليس للبطانة أن تفرض نفسها على الفرد والجماعة سواء كانت صالحة أو طالحة،ويدل عليه قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] بلحاظ الإختيار على وجوه:
الأول: المسلمون قادرون على إختيار البطانة.
الثاني: أهلية المسلمين للفصل والتمييز بين الناس، ومعرفة الصالح للبطانة من غيره، ومن الآيات أن الآية تقسم الناس إلى قسمين وهما:
الأول: المسلمون.
الثاني: غير المسلمين، فذكرت المسلمين بالخطاب والنهي عن البطانة من غيرهم وأشارت إلى أن غير المسلمين لا يمتلكون الأهلية لإختيارهم لمراتب الخاصة للمسلمين، مما يدل على حقيقة وهي أن إختيار البطانة تشريف وإكرام لها، ويحتمل وجهين:
الأول: نيل درجة البطانة تشريف وعلو مرتبة وتزكية.
الثاني: إختصاص التشريف والإكرام لمن يتم إختيار المسلمين له بطانة وفق أحكام هنه الآية.
الثالث: إنحصار التشريف بالإستبطان للأمور ذات الشأن العظيم.
والصحيح هو الثاني، فكل من يدنيه المسلمون، ويجعلونه خاصة ووليجة فهو تشريف له، فأراد الله تعالى أن ينال المسلمون أنفسهم هذا الشرف العظيم ويكون منهم من يتخذونه خاصة وتسكن نفوسهم اليه، وينصتون له وهو الذي يتخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهاجاً وميزاناً في مشورته ورأيه ويتحلى بالتقيد بالفرائض والعبادات، ويتنزه عن الأخلاق المذمومة، ويحث على إجتناب رذائل الأفعال.
أن وظيفة البطانة مرتبة ومنزلة وشأن، وهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً بحسب حال المستبطن، وما يرجع فيه إلى البطانة من المشورة، أو الإخبار عن الأسرار والنوايا والعزائم ومصاعب العمل.
وجاءت هذه الآية بلزوم التقيد بما فيها من قوانين وأحكام في باب البطانة مطلقاً من وجوه:
الأول: البطانة في موضوع مخصوص، وقضية في واقعة، فقد يتخذ شخص شخصاً أو جماعة بطانة لمرة واحدة، وفي موضوع معين، ثم لا يتخذهم بعدها وليجة.
الثاني: إتخاذ البطانة في شؤون الحكم والسلطان، وهو من أهم مصاديق الآية، ولزوم التقيد بما فيها من النواهي والأحكام.
الثالث: الود والقرب والصداقة وكشف الستر.
الرابع: التعيين في منصب المستشار.
الخامس: المؤتمن على المال والعرض والسر.
وفي الآية دعوة لكل مسلم ان لا يترفع عن منازل البطانة، ولا يمتنع عن مقام الإستشارة ولا يعتذر عن إبداء المشورة والرأي السديد، فلما أبطلت الآية إستبطان غير المسلم، فانه يقع على عاتق المسلم القيام بوظائف البطانة الصالحة، وتوكيد مصاديق الآية وما فيها من إعجاز وتهيئة الأسباب لبناء وإستدامة الدولة الإسلامية.
وفي الآية ترغيب ودعوة للإرتقاء في منازلها وتعاهد القرب مع المستبطن بإظهار أسمى معاني الصدق والود، والثبات على الإيمان وإتيان الصالحات.
وهل في الآية دعوة للشورى في تعيين البطانة والخاصة، وهل يفيد الجمع بين آية البطانة وآية الشورى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ) الشورى بين المسلمين في إختيار البطانة الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن، وسر من أسراره ، خصوصاً وان للبطانة والخاصة في الأمور العامة والشؤون السياسية أثراً بليغاً، وموضوعية في ماهية القرار، لتكون الشورى مركبة من وجهين:
الأول: الشورى في إختيار البطانة الصالحة، بلحاظ التعدد والكثرة في أفراد المسلمين المؤهلين لمنزلة البطانة والخاصة.
الثاني: التشاور مع البطانة بما ينفع المسلمين ويمنع من الضرر والأذى.
وتتجلى منافع الشورى في البطانة بلحاظ مرتبة ودرجة المستبطن، ووظائف البطانة لاسيما في هذا الزمان وتعدد الإختصاصات وتشعب الأعمال وإتساع رقعة العمل والإتصال بين الأفراد والجماعات والبلدان، وكلما كانت وظائف البطانة كثيرة، وفي أمور ذات أهمية وشأن وأثر عام يكون النفع من الشورى في تعيين البطانة أكثر وأعم.
قانون البطانة الصالحة خير محض
لقد أنعم الله تعالى على المسلمين والمسلمات بتخصيص آية للبطانة والخاصة، لتكون قانوناً ثابتاً، ودستوراً دائماً ينير الطريق للمسلمين في ميادين العمل المختلفة، وليس من حصر لوظائف هذه الآية الكريمة في منطوقها ومفهومها.
ومن إعجاز القرآن أن الآية جاءت بصيغة النهي لتدل على السعة في المفهوم من وجوه:
الأول: إتخاذ البطانة والخاصة من المسلمين.
الثاني: الإستغناء عن البطانة في بعض الموارد والحالات، كما في كتمان السر، وفي الحديث: “إستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان” ( ).
فمن إعجاز الآية أنها لم تأتِ بالأمر بإتخاذ بطانة من المسلمين مع أنها تدل عليه في مفهومها، وفيه مسائل:
الأولى: لو جاءت الآية بصيغة الأمر بإتخاذ بطانة مسلمة لحمل بعضهم الأمر على الندب والأولوية، وإذا إتخذ أحدهم بطانة من غير المسلمين لقالوا بأنه ترك الأولى، وأن الأمر تنزيهي وليس تحريمياً، خصوصاً إذا كان متخذ البطانة من ذوي السلطان والجاه، أو أن البطانة غير المسلمة ذات سطوة ودهاء.
الثانية: جاءت الآية لإصلاح أحوال المسلمين بالنهي عن الفعل المكروه والقبيح، وما يترشح عنه الأذى والضرر الخاص والعام.
الثالثة: تبين الآية موضوعية النواهي في الشريعة الإسلامية، ولزوم تقيد المسلمين بها.
الرابعة: دلالة النهي على الأمر بالضد إلا ما دل الدليل على عدم وجود مثل هذه الملازمة.
الثالث: تسالم المسلمين على صحة إتخاذ البطانة من المسلمين، فليس من حرج أو إشكال في إتخاذ المسلم لأخيه المسلم بطانة وخاصة.
الرابع: في الآية تنبيه وتحذير من الأضرار الجسيمة التي تنتج عن إتخاذ خاصة من غير المسلمين في الأمور العقائدية وشؤون القتال والدفاع ونوع العدة والسلاح والمؤن الضرورية وغيرها، وليس من حصر لموارد البطانة والخاصة من وجوه:
الأول: الحاجة إلى البطانة، إستشارة وإستعانة، وإستئماناً.
الثاني: تعدد وكثرة المواضيع التي يكون فيها للبطانة موضوعية وإعتبار.
الثالث: من خصائص الإنسان الحاجة إلى الغير لأنه من عالم الإمكان وكل ممكن محتاج، فتأتي البطانة والخاصة لسد هذه الحاجة، ومنع بقاء الإنسان في حال الترديد أو الخشية من حصول المكروه، وتعقب الحسرة والندامة للفعل، فالبطانة والخاصة رحمة وعون على إجتناب المكاره وأسباب الضرر، إذا ما تم إختيارها بنحو صحيح.
فجاءت الآية الكريمة لإعانة المسلمين على هذا الإختيار، وبصيغة النهي عما فيه الأذى والضرر، والبطانة من فروع الولاية ومعاني الود والرضا والقبول.
وقد جاءت الآيات بالنهي عن إتخاذ أهل الكتاب والكفار أولياء، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( )، وليس في إجتناب إستبطانهم ضرر عليهم، ولكن إتخاذ البطانة أمر راجع للمسلمين، ومن حقهم أن يختاروا ما يعود عليهم بالنفع ويدرأ عنهم المفسدة.
وتبين الآية محل البحث، وما فيها من النهي عن الوليجة من غير المسلمين والأضرار التي تنتج عن تلك الوليجة في حال إتخاذها أن المسلمين في حال جهاد ودفاع دائم، وأن الدفاع ليس فقط في سوح المعارك والقتال والمرابطة في الثغور، بل يأتي في الحصانة الذاتية، والإحتراز من أسباب الضرر التي تأتي من الإختيار الخاطئ الذي تتفرع عنه أضرار جسيمة ومنها ما لا يمكن تداركه.
فلو أشارت البطانة السيئة بفعل وعمل ذي عاقبة وخيمة، فقد لا يمكن التدارك ولا ينفع الندم حينئذ على إتخاذ تلك البطانة، فجاءت هذه الآية الكريمة للوقاية من تلك الأضرار المحتملة، ولمنع طرو الندم وأسبابه ولتكون هذه الآية والعمل بما فيها مناسبة لتوجه المسلمين بالشكر إلى الله تعالى على نعمةالهدايةوالرشاد إلى الإحتراز من الضرر في موضوع البطانة الخاصة والعامة.
وفيه دعوة للمسلمين كأمة واحدة للعمل على تنقيح مجتمعاتهم ومنتدياتهم وريحهم ودولتهم من الضرر في باب البطانة والوليجة.
وهذه الآية من مصاديق وتفسير قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، فالبطانة الصالحة من الأقوم والأنفع والأصلح ، فجاءت الآية الكريمة للهداية إلى البطانة الصالحة التي هي خير محض، ونفع دائم وقانون يعصم الله المؤمنين من الزلل والخطأ ومشورة السوء، وينزههم من التعدي والظلم.
والهداية في إختيار البطانة الصالحة متعددة:
الأول: النفع والهداية للمسلم الذي يختار البطانة الصالحة إذ تكون له مبعثاً للسرور والسكينة لما فيها من أسباب التوفيق والرشاد والسلامة من الضرر العرضي وإستحواذ الطمع على النفس.
الثاني: من يتخذه المسلمون خاصة ووليجة، فإن إختياره تزكية له ودعوة له للصلاح، وإجتناب الزلل والشطط، وهل هو بمنزلة الحاكم وصاحب القرار، الجواب لا، ولكن لقوله وفعله أثر في الحكم والقرار والفعل الصادر من المستبطِن.
الثالث: بعث معاني الصلاح في النفوس ونشر الكلمة الصادقة، وإشاعة مفاهيم العفو والتسامح والأخلاق الحميدة بين الناس، فيختار أهل الحل والعقد بطانة صالحة فتصلح الأمة وتعمر المساجد، ويتقوم القضاء بالعدل وتزدهر التجارات، وتزول المظالم وتجود السماء بالمطر والأرض بالخصب.
الرابع: النفع للبطانة ذاتها بحسن المنزلة والشأن.
الخامس: دعوة الناس لدخول الإسلام لتجلي معاني الصدق والعدل والإنصاف في عملهم ومعاملاتهم، ولخلو أفعالهم من التعدي والظلم.
لقد جاءت الآية الكريمة رأفة بالناس، ودعوة لهم لدخول الإسلام وإجتناب محاربة المسلمين، وإخبار عن عدم إمكان الكيد للمسلمين من داخلهم، وهو الذي يسمى في هذا الزمان بالطابور الخامس، وإذ تمنع الآية من وجود الجواسيس للأعداء وتأثيرهم في قرار المسلمين، ومحاولاتهم بعث الخوف واليأس في نفوسهم.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين القوة والمنعة والتي تترشح في عالم الأقوال والأفعال، ومنها إتخاذ البطانة الصالحة،وهوسلاح وبرزخ دون الضعف والوهن وواقية من المكر السيئ، وعز لهم سواء للذي يختار البطانة الصالحة أم الذي يفوز بالبطانة، لأنها خير محض تترشح منافعه على عموم المسلمين في حاضرهم ومستقبل أيامهم، وطوبى لمن إختاره المسلمون لمرتبة البطانة من بينهم، ونال شرفها، وإطمئنت له النفوس، وعليه الإجتهاد في طاعة الله ونيل مرضاته، ولو تعارض رضا المستبطِن مع طاعة الله، فان طاعة الله هي المقدمة والأولى لعمومات قاعدة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فليس من معارض أو مزاحم لطاعة الله، وقد تختار البطانة من غير المسلمين رضا المستبطِن للظن بأنه ولي النعمة، فجاءت هذه الآية الكريمة لمنع الإفتتان بصاحب السلطان والحكم والمال، لتحث المسلمين على جعل الخاصة والبطانة ممن يخشى الله في السر والعلانية، فيمنع بقوله ورأيه وزهده الحاكم من الغرور والإستكبار، ويساعده في أمور دينه ودنياه، وتكون البطانة سبباً في إستدامة النعمة على السلطان وصاحب الشأن والمال، لأن الكبرياء آفة تؤدي إلى زوال النعمة والجاه، وبذا فأن هذه الآية الكريمة وما فيها من النهي عن إستبطان غير المسلم، والذي يسعى في نشر الفساد والغواية بين المسلمين سبب لدوام النعم الإلهية على الذي يتقيد بأحكامها.
قانون البطانة جهاد
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار جهاد إذ تواجه الإنسان المسائل الإبتلائية في ليله ونهاره، وحياته الخاصة، وفي عمله، وهو يفعل أمراَ شخصياً ولكن تكون له آثار عامة فيعرف الناس من خلال الفعل الشخصي صدقه ونزاهته وصلاحه وأمانته أو عدمها ويقيمون صلته، معه ويجعلون له شأناً وفق ما يترشح عنه من الأفعال ومن وظائف الإنسان الحرص على الصيت الحسن، والسمعة الطيبة، وقد أنعم الله تعالى على المسلمين وحرّم عليهم الغيبة، ومنع من فضح المسلم في معصيته، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( )، ليكون الستر مناسبة للتوبة ومقدمة لها ولترتب الآثار الحميدة عليها، والجهاد في الحياة الدنيا أعم من معناه الإصطلاحي الذي يعني القتال والدفاع بالسيف عن الإسلام، بل يشمل مجاهدة النفس ومنعها من إتباع الهوى.
ويتجلى تكامل الشريعة الإسلامية بما فيها من مضامين الجهاد وشمولها لميادين الحياة المختلفة، ومنها موضوع البطانة إذ تدعو الآية المسلمين للجهاد فيه من وجوه:
الأول: ترك إتباع الهوى في إختيار البطانة، فقد يميل المسلم إلى غير المسلم وينجذب اليه، ويودعه أسراره، ويرجع إليه في المهمات من غير أن يلتفت للأضرار المحتملة عليه وعلى الملة فيما بعد، فجاءت هذه الآية لمنع هذا الميل بلغة الحجة والبرهان، وأن غير المسلم قد يدعوه إلى ما يضره.
الثاني: بيان علة النهي عن البطانة الغيرية أي من غير المسلمين، وتلك آية إعجازية وشاهد على ما في القرآن من لغة التأديب والتعليم وأسباب العون على الإمتثال لأحكام الآية.
الثالث: حث المسلمين على التمسك بالقرآن في مختلف أبواب العمل، والرجوع إليه في الصلات الإجتماعية، وفي موضوع إبداء المشورة والرأي، فمن الجهاد السعي لجعل المسلمين الآخرين يتقيدون بما في آيات القرآن من الأوامر والنواهي، ومنها هذه الآية وما فيها من النهي عن إتخاذ البطانة والخاصة من غير المسلمين.
الرابع: التفقه في الدين، ومعرفة مضامين الآية الكريمة، وتفسيرها، والأحكام الشرعية التي تتضمنها، وهذه الآية لا تقبل التأويل المتعدد والمتباين، وتمنع من التقليد فيها، لأن مضامينها جلية واضحة، والخطاب فيها إنحلالي يدعو كل مسلم إلى التقيد بأحكامها، وبالجمع بينها وبين مفاهيم الجهاد بالمعنى الأعم فانها دعوة للصبر على البطانة من المسلمين وعدم الزيغ وإتباع الهوى واللجوء إلى غيرهم في هذا الباب.
الخامس: من مصاديق الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو شاهد على مصاحبة الجهاد للمسلم في أيام حياته كلها، لا ينفك عنه.
وإنفرد المسلمون بهذه الملازمة رحمة من الله تعالى،وهي من مصاديق تفضيلهم وكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )،لأن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وسيلة لتثبيت معالم الدين في الأرض، وهي وظيفة الأنبياء رزق الله تعالى المسلمين وراثتها وتعاهدها، ويتجلى الجهاد في موضوع البطانة على وجوه:
الأول: حمل النفس على العمل بأحكام هذه الآية.
الثاني: الحرص على عدم التفريط بما فيها من الأوامر والنواهي.
الثالث: دعوة المسلمين إلى العمل بأحكام هذه الآية، وهذه الدعوة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متباينة، وكل بحسبه بخصوص كيفية الأمر والنهي في المقام.
الرابع: عدم حصر الجهاد في موضوع البطانة في الإبتداء والإختيار، فاذا قام الشخص بإتخاذ بطانة من غير المسلمين، فان هذه الآية تبعث في نفسه أسباب اللوم على ما فعل، وتدعوه بكرة وعشياً إلى الرجوع اليها، والصدور عنها، وإجتناب مخالفتها، ليبقى في حال جهاد دائم مع النفس، فينظر إلى إخوانه من المسلمين وقد لا يجد فيهم من ينهاه عن الإستمرار بإتخاذ البطانة، كما لو قاموا بنصحه وتحذيره ولكنه أصر على الميل اليها فتركوه وأعرضوا عنه، أو أنهم يخافون بطشه، أو يخشون من ذات البطانة، ولكن اللوم الذاتي من نفسه لا يفارقه ولا يغادره وهو من الآثار المباركة للآية القرآنية، فلا يستطيع أحد أن يكون برزخاً وحاجباً بينها وبين نفس المسلم، بل أنها تستقر فيها وتكون لها موضوعية في قوله وفعله وإختياره، وإستدامة هذا الإختيار.
الخامس: من وجوه الجهاد في الحياة الدنيا ولوج باب التوبة، والمبادرة إلى التدارك والإنابة، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين لما أنعم الله تعالى به عليهم من فتحه لكل فرد منهم إلى حين حلول الأجل، ولإنحصار قبول التوبة بالإنتماء للإسلام بإعتباره قيداً وشرطاً لها، وتتجلى معاني التوبة في باب البطانة من وجوه:
الأول:إظهار الندم على إتخاذ بطانة من غير المسلمين،والرجوع عن مخالفة أحكام هذه الآية الكريمة.
الثاني: الإستغفار والتوبة من حث المسلم الآخر والجماعة على إتخاذ بطانة من غيرهم.
الثالث: إظهار الندم والتوبة من جعل غير المسلم خاصة وبطانة.
الرابع: الإستغفار إلى الله تعالى من الآثار التي ترتبت على جعل غير المسلم بطانة، وسعيه للإضرار بالمسلمين.
الخامس: طلب العفو والمغفرة من الذين لحقهم الضرر من إتخاذ بطانة سيئة.
السادس: تلاوة هذه الآية الكريمة في الصلاة وغيرها والتدبر في معانيها ودلالاتها، وإذا كان المسلم متقيداً بأحكام هذه الآية، أو ليس عنده ما يستلزم البطانة أو أن البطانة من غير المسلمين سالبة بإنتفاء الموضوع، فليس ممن حوله من هو غير مسلم ، فهل يستغني عن تلاوة هذه الآية والتدبر في معانيها، الجواب لا، من وجوه:
الأول: تلاوة الآية الكريمة جهاد مع النفس، وتثبيت لها في سبل الصلاح والتقوى.
الثاني: في تلاوة الآية الأجر والثواب.
الثالث: تلاوة الآية تعاهد لأحكامها، وهذا من إعجاز القرآن وأسرار آياته، فالتلاوة قول وقراءة لما بين الدفتين، ولكن آثارها تترشح في ميادين العمل بفعل الذي يتلوها والذي ينصت لها، والذي يستمع إلى من يعيها ويتدبر في معانيها.
الرابع: من وظائف المسلم تعاهد أحكام الآية، لأن التلاوة والعزم على الإمتثال بأحكام آيات القرآن أعم من الفعل وإيجاد موضوعه.
الخامس: ترسخ التلاوة أحكام ومضامين الآية في النفس وعند المستمع والسامع، وتدعوهم للوقاية والحذر مما نهت الآية الكريمة عنه، وفيه تجديد للنية للعمل بأحكامها فيأتي الثواب للمسلم وان لم يفعل المصداق الخارجي للآية، لأن الثواب يأتيه فضلاً من عند الله على سلامة نيته، وثباته على الكف والترك لما نهى الله تعالى عنه وان لم يكن له موضوع في القضية الشخصية.
السادس: من وجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا أن الإنسان يمر بمراحل مختلفة ومتباينة، وإذا كان في يوم وحال ما غير محتاج للبطانة فانه يحتاج اليها في يوم وحال أخرى، فجاءت الآية الكريمة لتكون له واقية وحرزاً، وسبيلاً للتوفيق والرشاد، ومانعاً من طرو الضرر عند دخوله في حال جديدة غير الحال التي إعتاد عليها.
وتقدير الآية بحسب تبدل الأحوال “يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم إن أصبحتم في حال تستلزم البطانة”
لتكون الآية ذخيرة، ووسيلة للهداية والعمل الصالح في الأحوال المختلفة، فيتولى المسلم مسؤوليات كبيرة ويرتقي إلى منصب رفيع ويظن شطر من الناس أنه عديم الخبرة، ويستطيعون التأثير عليه في القرار والفعل بالبطانة والخاصة، ولكنهم يصابون بالإحباط واليأس منه لحصانته من البطانة السيئة ببركة هذه الآية.
وكأن هذه الحصانة بالفطرة لأن الآية الكريمة جعلت عنده إجتناب بطانة السوء، والبطانة من غير المسلمين سجية ثابتة، فهو لا يدخل في حال إختبار للشخص والجماعة والمؤسسة التي يتخذها بطانة وجهة إستشارية، بل في غنى عن هذا الإختبار ، وعلى علم بنتائجه وأضراره، وأنعم الله تعالى عليه بهذه الآية ليكون في أمن وسلامة في موضوع البطانة، وهي عون له للتوفيق في عمله ومنصبه، ودعوة لأهل الحسد لليأس منه، والكف عن إيذائه، ويبعث إحتراز المسلم في موضوع البطانة الفزع والخوف في نفوس أعداء الإسلام وأعدائه ويجعلهم في حيرة من أمرهم، ولا يستطيعون درك ومعرفة نواياه ومقاصده والجهة والغاية التي يبتغيها إلا أنهم يعلمون أنه على الهدى.
السابع: من وجوه الجهاد في المقام الإعراض عن غير المسلم في باب البطانة، خصوصاً إذا كانت عنده أسباب وصيغ تدعو إلى تقريب مجلسه لوجوه:
الأول: أن هذه الأسباب ظاهرية مخالفة للوقائع والنتائج.
الثاني: لقد بعث الله تعالى النبي محمداًََ صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً، ومن مصاديق الرحمة توقي وإحتراز المسلمين من البطانة من غير المسلمين، فيجاهد المسلمون من أجل إستدامة النعم الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين والناس جميعاً، ومنع طرو الأضرار الخاصة والعامة التي تنتج عن تولي غير المسلمين لأمور البطانة والخاصة.
الثامن: لقد جعل الله عز وجل الجهاد طريقاً للتحلي بالأخلاق الحميدة، ووسيلة طوعية وقهرية لحمل الناس على دخول الإسلام ، ومنع الظلم والتعدي.
وجاءت هذه الآية لمجاهدة النفس ومحاربة الظلم بإجتناب أسبابه وقهر النفس على الإمتناع عن مقدماته، وفيها ترغيب بالعمل بأحكام الشريعة الإسلامية لأنها جاءت بصيغة النهي الخالي من الضرر والبيان في علة النهي وحصر موضوعه، إذ ان الآية جعلت المسلم في سعة ومندوحة بإتخاذ البطانة من بين المسلمين.
وفي الآية بشارة كثرة المسلمين، وأهليتهم لمنازله الخاصة، والبطانة، ونيلهم المراتب العلمية العالية التي تجعلهم قادرين على إبداء المشورة والنصيحة، ومنفردين عن غيرهم في سنخية المشورة وحسنها، إذ تصدر مشورة ورأي المسلم عن إجتماع أمرين التقوى والخبرة وهو من أسرار هذه الآية، وما لها من المقاصد الحميدة.
وهل يمكن القول بان الجهاد لا ينحصر بالسيف وسوح المعارك بل يشمل مجاهدة غير المسلمين عموماً من أهل الكتاب والمشركين بموضوع البطانة والإعراض عنهم فيها من غير أن يكون في هذا الإعراض تعدِ أو ظلم لهم، الجواب لا ، إلا بإرادة المعنى الأعم ، ومقدمات الجهاد لأن آيات القرآن والسنة جاءتا بذكر جهاد الأعداء بمعنى محاربتهم، وقال ابن منظور “وجاهد العدو مجاهدة وجهاداً: قاتله وجاهد في سبيل الله، وقال: الجهاد: المبالغة وإستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء”( ).
وجاءت الآية لمجاهدة النفس ومنع إستحواذ الهوى عليها، وآية البطانة مقدمة للجهاد وحرز من الهزيمة في القتال، وسبب لمنع تعدي وهجوم غير المسلمين على المسلمين وبلدانهم وثغورهم، وهي رحمة بالناس جميعاً لما فيها من الصلاح والإصلاح والسلامة من التعدي على المسلمين، وتدعو الآية المسلمين للتعاون في مجاهدة النفس، ومنع غلبة النفس الشهوية والغضبية.
لقد جمع النبي الأنصار والمهاجرين للشورى، قبل معركة بدر وقال لهم ” أشيروا على فلما راى سعد بن معاذ كثرة استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيشيرون فيرجع إلى المشورة ظن سعد انه يستنطق الانصار شفقا ان لا يستحوذوا معه على ما يريد من أمره فقال سعد بن معاذ لعلك يا رسول الله تخشى ان لا تكون الانصار يريدون مواساتك ولا يرونها حقا عليهم الا بان يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم وانى أقول عن الانصار وأجيب عنهم يا رسول الله فاظعن حيث شئت وخذ من أموالنا ما شئت ثم أعطنا ما شئت وما أخذته منا أحب الينا مما تركت وما ائتمرت من أمر فأمرنا بامرك فيه تبع فوالله لو سرت حتى تبلغ البركة من ذى يمن لسرنا معك فلما قال ذلك سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيروا على اسم الله فانى قد رأيت مصارع القوم”( ).
وجمعهم مرة أخرى صباح يوم الجمعة عند الخروج إلى أحد وسألهم الخروج أم البقاء لأنهم عاهدوه أن يكون في ذمامهم فاراد منهم الأذن والرضا بالخروج لقتال العدو.
قانون البطانة الصالحة دعوة إلى الله
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا داراً ومحلاً للدعوة إليه تعالى، وإلى عبادته وإطاعة أوامره، وتفضل سبحانه وملأها بالآيات الكونية، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، وتفضل وأنزل الكتب السماوية، وختمها بالقرآن ليكون مهيمناً عليها وجامعاً للأحكام الشرعية.
ومن الدلائل على هذا الجمع والإحاطة بأمور الدين آية البطانة، وهي دعوة إلى الله ووسيلة لتثبيت دعائم الدين في الأرض وآلة لبناء الدولة الإسلامية وتقوية أركانها، وتأهيل المسلمين لإدارة دفة الحكم وعصمتهم من الزلل والخطأ الفادح عند مداهمة الفتن والآفات والآية من عمومات قوله تعالى [ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، من وجوه:
الأول: آية البطانة وتلاوتها دعوة إلى الله تعالى.
الثاني: العمل بأحكام هذه الآية مقدمة للدعوة إلى الله، ومانع من وضع الحواجز دونها.
الثالث: تحث الآية الكريمة المسلمين على التدبر في موضوع البطانة وتدل بالدلالة التضمنية على أنه موضوع عقائدي له أثر في الواقع السياسي والإجتماعي.
وجاءت الآية بصيغة النهي والتوكيد عليه، ويتجلى هذا التوكيد ببيان الآثار الضارة لإتخاذ البطانة من غير المسلمين، مما يدل على ان الغرض ليس هو محاربة أو إيذاء غير المسلمين بحرمانهم من مراتب بطانة المسلمين بل لدفع الأذى والضرر عن المسلمين، وكل فرد وجماعة وأمة تسعى لدفع الضرر عنها، وتحترز مما يجلب لها الأذى وأسباب المفسدة، وقد تتهاون أو تفاجئ بمباغتة العدو لها.
وينفرد المسلمون بان الله عز وجل هو الذي يهديهم إلى سبل دفع الضرر، وتعيين موضوعاته وسبل الوقاية منه، وبيان العلة من الفعل المنهي عنه، وهذه النعم لطف من الله تعالى، و من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وفيه منع للفساد في الأرض فلما إحتج الملائكة عند خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، بما ورد عنهم في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) وجاءت هذه الآية لتؤكد أن الله عز وجل يحصن المسلمين من تسرب الفساد اليهم، ويمنع أهل الضلالة من بث سمومهم، ليكون فيه دعوة للصلاح والهداية والرشاد و حرب على الفساد والإفساد، وهذه الحرب مستمرة ومتصلة لسيادة أحكام الإسلام في الأرض، وتقيد المسلمين وإلى يوم القيامة بمضامين هذه الآية وسعيهم لدرء الفساد والحصانة منه ومن أسبابه، وفي درأ الفساد دعوة إلى الصلاح والإستقامة وإزاحة للحواجز التي تحول دون عبادة الله تعالى.
ومن منافع الآية الكريمة طرد أسباب الخوف والخشية من الكيد والمكر، وما يرد من الكفار والفاسقين، وما يطلقونه من الوعيد والإنذار، ليكون مناسبة للإنقطاع إلى الله تعالى والخوف منه وحده، وتحدِ ومواجهة الكفار طاعة لله تعالى.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين السمو في مراتب التفضيل، وكثرة العدد، وبقاء باب الدخول إلى الإسلام مفتوحاً للناس جميعاً، ليس من حاجب يمنعهم من الإيمان والهداية إلى سبل النجاة.
وجاءت هذه الآية لإزاحة الحواجز التي تضعها بطانة السوء، ليس بالتحذير منها ومراقبة فعلها، بل بمنعها من الوصول إلى منازل البطانة، ليكون هذا المنع وقاية، وليس علاجاً وغلقاً للباب الذي قد ينفذ منه الأعداء إلى التأثير الضار بالمسلمين في العبادات والمعاملات والتجارات والزراعات.
لقد خلق الله تعالى الناس وهيء لهم أسباب الرزق الكريم من السماء والأرض ليعبدوه، ويطيعوا أوامره ويجتنبوا ما نهى عنه من ذمائم الأخلاق، وأنواع الفواحش، وجاءت هذه الآية لتثبيت عبادة الله في الأرض وإلى يوم القيامة، والتقيد بأحكام هذه الآية وما فيها من النواهي عبادة، ومقدمة للعبادة، ومناسبة كريمة للوحدة والتآخي بين المسلمين وقيامهم بوظائفهم العقائدية والعبادية في الأرض.
ومن خصائص المسلمين التصدي للفسق والفساد في الأرض، فجاءت هذه الآية لمنع تسرب الفساد إلى أفعال المسلمين بسوء الإختيار ولا ينحصر موضوع البطانة في باب المخالطة فقد تأتي المخالطة مع غير المسلمين في موارد الجوار والعمل والتجارة، وتمنع هذه الآية إتخاذ المخالطة والإشتراك في العمل سبباً لجعلهم بطانة وخاصة ووليجة.
فمن إعجاز الآية تعيين مراتب ودرجات صلات المسلمين مع غيرهم، بما يدفع الضرر والخسارة عنهم، ويمنع من التفريط في الأحكام الشرعية.
ولقد جاءت الآيات بفرض الجزية على أهل الكتاب بقوله تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
وإتخاذ الإنسان أو الجهة بطانة إكرام وعز له، ومناسبة للإصغاء لقوله ورأيه، وإطلاعه على الأسرار والنوايا وما في اليد، وجاءت هذه الآية ليس لحجب هذا الإكرام بل لسلامة المسلمين من الضرر وتحصينهم من الظلم والفساد والإفساد.
أما حجب الإكرام في المقام فجاء بإختيار الذي منع نفسه من الإرتقاء إلى منازل البطانة، بإصراره على التكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا فان الآية تدعوه وتحبب له دخول الإسلام لأنه شرط تتقوم به البطانة والوليجة، ويترشح عنه العز والشأن، وبدخول الإسلام يصبح غير مشمول بالنهي الوارد في هذه الآية، لعمومات إذا تغير الموضوع تبدل الحكم، فلا يخشى منه الفساد وإتخاذ إختياره بطانة، وسبباً للإضرار بالمسلمين لأنه حينئذ لا يسعى للإضرار بنفسه وأمته.
فهذه الآية دعوة إلى الله تعالى وعبادته، وحث للناس على دخول الإسلام، والإرتقاء في مقامات الشأن فيه، فبدخول الإسلام يكون الفرد مؤهلاً لمنازل البطانة، وإستبطان غيره لنفسه، أو لغيره من المسلمين بالشورى، والتآزر بين المسلمين.
وتلك آية في إستدامة عبادة الله في الأرض، بأن يأتي النهي للمسلمين من إتخاذ غيرهم خاصة لهم، فيكون هذا النهي ترغيباً لغير المسلم بدخول الإسلام، وبلوغ مرتبة البطانة لهم وعندما يدخل الإسلام يكون هو منزلة من يتخذ بطانة ومأموراً بان لا يختارها من غير المسلمين، خصوصاً مع ما في هذه الآية من الإشارة إلى نيل المسلمين لمراتب السمو والرفعة والشأن والجاه والسلطان، بحيث يستطيعون إختيار البطانة والخاصة، وإجتناب تقريب غيرهم منهم في القرار والرأي والعزائم فأن قلت فإنه يتودد إليهم بلسانه لينفذ إلى منازل البطانة والخاصة للمسلمين ويبث سمومه بواسطتها، قلت هذا منافق، وقد جاءت الآيات بما يفيد كشف المنافقين والصدود عنهم.
وتبين الآية الكريمة سعة وتعدد موارد الدعوة إلى الله تعالى، وأنها لا تأتي بالفعل الذاتي، بل بالأوامر والنواهي، والتقيد بأحكامهما، فيحرص المسلمون والمسلمات على العمل بمضامين هذه الآية فيكون حرصهم هذا دعوة إلى الله ومناسبة لترسيخ قيم الإيمان ، ونشر أسباب الصلاح في الأرض ، وتتصف هذه الدعوة باللطف والترغيب وتجلي المنافع العظيمة لدخول الإسلام.
والآية شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل بالترغيب والموعظة والندب إلى الصلاح ونبذ الفساد والإفساد ليدخل الناس في الإسلام أفواجاً فيكون فيه تخفيف عن المسلمين في أحكام البطانة بكثرة المؤهلين منهم لمنازل البطانة، وعدم الحاجة إلى الغير في هذا الباب خصوصاً مع إتساع رقعة الإسلام، وإزدياد وظائف المسلمين العقائدية والسياسية وجهادهم في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
قانون البطانة الصالحة من الإيمان
بعد مجيء الآيات السابقة بذم الذين كفروا، وبيان خسارتهم وضلالتهم وظلمهم لأنفسهم، وأختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، جاءت هذه الآية خطاباً للمسلمين، وإبتدأت بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ويحتمل الخطاب في متعلقه وجوهاً:
الأول: إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان جاء الخطاب بصيغة الجمع، إذ أنه من وجوه إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: يتوجه الخطاب في الآية إلى الصحابة لأنهم يبنون دولة الإسلام وينشرون مبادئه، ويثبتون أحكام الشريعة بالعمل، ويكتبون المصاحف، فجاءت الآية لنهيهم من أن يتخذوا بطانة وكتاباً من غير المسلمين.
الثالث: المقصود الرجال من المسلمين لأنهم أولوا الشأن وأرباب العمل.
الرابع: عموم المسلمين ذكوراً وإناثاً في أجيالهم المتعاقبة وإلى يوم القيامة.
الخامس: خصوص ذوي المناصب والحكم، وأهل الحل والعقد من المسلمين.
والصحيح هو الرابع، فالآية عامة تشمل المسلمين جميعاً، وهو من أسرار الآية وعظيم النفع فيها، وفي مضامينها وغاياتها الحميدة، فما أن يدخل الإنسان الإسلام وينطق بالشهادتين حتى تتوجه إليه هذه الآية بالأمر الإلهي الكريم الذي يتضمن صيغة العهد والوصية، ويدل في دلالته الإلتزامية على الثناء والمدح للمسلمين لأهليتهم للعمل بالعهد الإلهي في باب البطانة، وقد توجهت الأوامر الإلهية إلى أهل الملل السابقة في الكتب السماوية السابقة، وجاء الأنبياء بحث أصحابهم وأتباعهم على تقوى الله، وإمتاز المسلمون بالتقيد والعمل بالأحكام العبادية والعهود والمواثيق التي جاء بها القرآن، وهي في هذه الآية على وجوه:
الأول: الأمر الإلهي للمسلمين بعدم إتخاذ وليجة من غيرهم.
الثاني: العناية بموضوع البطانة وإنتقاء الفرد والجماعة المناسبة له.
الثالث: تعيين شرط تتصف به البطانة وهو الإسلام.
الرابع: مجيء الآية بصيغة التنكير “بطانة” في سياق النفي، الأمر الذي يفيد العموم إلا أن يقال أن الآية مقيدة وأن البطانة المنهي عنها لايراد منها غير المسلمين مطلقاًًًًَ، بل أن النهي خاص بالبطانة التي تتصف بعدة صفات بينتها الآية وهي:
الأولى: من دون المسلمين، أي أدنى منهم رتبة وشأناَ بلحاظ القضية الشخصية والموضوع.
الثانية: البطانة التي لا تقصر في نشر الفساد والخبال بين المسلمين، وعند من إستبطنها.
الثالث: البطانة التي تحب الضرر والمشقة للمسلمين، فلو كانت بطانة من غير المسلمين، ولكنها لا تحب الضرر للمسلمين أو لمن إستبطنها خاصة، وتحرص على العمل بإختصاصها، وتنصح في عملها، فان النهي لا يشملها.
الرابع: البطانة التي تظهر أسباب الكره للمسلمين وإن إستبطنها على الود الذي يظهر على لسانها.
الخامس: الذين يخفون الخصومة والعداوة للمسلمين ويحاولون التستر عليها.
ومعه تكون الآية غير شاملة لكل الملل والنحل الأخرى، بل خاصة بأعداء الإسلام، والذين يحسدون المسلمين منهم، ويظهرون النفاق والمودة للمسلمين ولكنهم يكرهون لهم التوفيق وإستدامة العز والإكثار من الخير.
ومع هذا التقييد لابد من التدبر ومعرفة منازل الناس ودراسة كل شخص أو طائفة وأهليتهم للبطانة أو عدمها بلحاظ الصفات المتقدمة أعلاه، وقد يحصل الخطأ والإشتباه والظن المخالف للحكم الواقعي، إذ يحكم على الإنسان بالحكم الظاهري الذي قد يكون خلاف الحكم الواقعي، ولكن يترتب على الخطأ في إختيار البطانة الضرر البليغ على الفرد والجماعة، وقد لا يمكن التدارك.
لذا فان الآية مطلقة وشاملة وجاءت صفات البطانة لبيان حال الذين يتولون شؤون ومسؤوليات البطانة والوليجة للمسلمين من غيرهم،وان لفظ “البطانة” مصدر يقع على المفرد والجمع،و التعليل الوارد في الآية يدل على صيغة الإطلاق، فلم تقل الآية “لا تتخذوا بطانة من دونكم لا تألوكم خبالاً” بنسبة إرادة الخبال إلى البطانة نفسها التي هي جزء وبعض من العموم في قوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] فالمراد هو الملة والأمة والجماعة من غير المسلمين الذين يتم إختيار البطانة من بينهم، وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: الآية فيصل بين الإيمان والكفر في باب البطانة والخاصة.
الثانية: وجوب إختيار البطانة المسلمة التي تعمل على الصلاح، وتكون عوناً لنشر مبادئ الإسلام وتثبيت أحكامه.
الثالثة: بيان حقيقة وهي وقوع الضرر الفادح بالمسلمين بواسطة البطانة السيئة.
الرابعة: وقاية المسلمين من بطانة السوء بكلمات معدودات وآية، واحدة من القرآن.
الخامسة: جعل الإيمان هو الملاك في الإختيار والتعيين.
السادسة: جاءت الآية بخصوص البطانة ولزوم إتصافها بالإيمان، وفيه دلالة على جعل موضوعية للإيمان في القول والفعل وميادين العمل المختلفة، فمثلاً ليس من الواجب أن يكون الشريك في العمل مؤمناً، ولكن هذه الآية جاءت لتحذر من شركة غير المسلم، وتنبه إلى إحتمال سعيه للإضرار بالشريك المسلم حسداً وبغضاًَ، ليبقى المسلمون في حذر من غيرهم في الميادين التي لا يحرم فيها العمل والإشتراك معهم، ولكن مع قيد عدم إتخاذهم بطانة.
وهل تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على النهي من الشركة والإتحاد في العمل والوظيفة مع غير المسلمين، الجواب لا، للتباين الموضوعي ولأن الآية وردت خاصة بالبطانة، وهي إستشارة وإختيار لشخص أو جماعة ليطلع على الأمور الخاصة، ويكون له صوت ورأي وشأن بسبب إختيار المسلم له بطانة وليس بسبب أهليته للشركة والعمل على نحو مستقل، نعم تبعث الآية على الحذر واليقظة والحيطة وهو نوع إرتقاء للمسلمين في ميادين العمل وأمور المجتمع وتفقه في أحوال أهل الملل والنحل ومذاهب الناس، والمشارب المختلفة لتتجلى لهم حقيقة وهي رفعة الإسلام، وعز المسلمين، وسلامة إختيار البطانة المؤمنة، ودفع كثير من المفاسد والأضرار بها، ولولا الإيمان لما توجه الخطاب في هذه الآية إلى المسلمين، فهذه الآية تشريف وإكرام وجزاء حسن من عند الله تعالى لهم في الدنيا، ويترشح عنه جزاء مضاعف من وجوه:
الأول: تلاوة هذه الآية، وما فيها من التسليم بنزولها من عند الله عز وجل.
الثاني: الحرص على التقيد بما في الآية الكريمة من الأوامر والنواهي.
الثالث: تعاهد الآية الكريمة، وحفظها من التحريف والتبديل والتغيير.
الرابع: توارث المسلمين العمل بأحكام هذه الآية.
الخامس: دعوة الناس للإسلام بإختيار البطانة الصالحة، وإجتناب البطانة السيئة.
السادس: موضوعية البطانة الصالحة في منع الظلم والتعدي، وقيامها بالحجب عن المعاصي فهي كالبرزخ بين المستبطِن وبين الذنوب، وتلك آية إعجازية في الإمتثال لأحكام هذه الآية.
السابع: التقيد بأحكام البطانة سبب ومناسبة للعمل بأحكام الآيات القرآنية الأخرى لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، ولتداخل وجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا.
لقد تفضل الله تعالى وأهبط آدم وحواء إلى الأرض وجعلها مستقراًَ لهما ولذريتهما من بعدهما، وتتعاقب أجيال الناس على عمارة الأرض وجاء القرآن لتنقيح أفعال الناس، وفاز المسلمون بالعمل بأحكامه ليكون عملهم وإمتثالهم لما فيه من الأوامر سبباً لبقاء الحياة على الأرض، لأن إختيار البطانة الصالحة شاهد على الإيمان المركب والمتعدد من وجوه:
الأول: إيمان من إتخذ بطانة لنفسه أو بلحاظ منصبه.
الثاني: الذي يُتخذ بطانة وخاصة، إذ أن الآية تدعو في مفهومها لإتخاذ المؤمن بطانة.
الثالث: إتصاف الفعل الذي يترشح عن عمل البطانة بصيغة الإيمان، لتكون في الأرض دائماً أمة صالحة في عملها وسرها وعلانيتها، وهم المسلمون يعمرون الأرض بذكر الله وعبادته، ويعضد ويساعد أحدهم الآخر في إجتناب الظلم والتعدي والفساد.
والآية حصانة للمسلمين من الهلاك والخسارة وزوال الحكم، لأنها تعاهد للإيمان، ووقاية من الفساد والظلم الذي يترشح عنه الهلاك والحلول بغضب الله تعالى، فقد أراد الله تعالى للمسلمين العز والبقاء قادة للأمم في سبل الخير والصلاح، فتغشاهم برحمته بأن نهاهم ومنعهم من البطانة عن غيرهم، ليظهروا للناس جميعاً وفي كل زمان التقيد التام بأحكام هذه الآية مما يبعث الفزع واليأس في قلوب أعدائهم، ويكون مناسبة لدعوتهم للإيمان، لأن وجود الكفر في النفوس متزلزل.
وتأتي هذه الآية لتداهمه في النفوس، وتسعى لطرده منها، وتدعو غير المسلمين إلى التدبر في أسرار هذه الآية والإنتفاع منها بدخول الإسلام ونبذ الكفر والجحود والتكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من الخسران في الدنيا والآخرة، ولأن هذه الآية شاهد على صدق نبوته ونزول القرآن عليه من عند الله عز وجل.
قانون النهي لطف
من إعجاز القرآن أن النواهي فيه نوع إكرام للمسلمين فكما أن الأوامر الإلهية للمسلمين إكرام لهم، وطريق إلى الجنة، فكذا النواهي فإنها سبيل إلى الرفعة والعز والسلامة من الأدران والتنزه من الذنوب، وجاء النهي في هذه الآية عن البطانة من غير المسلمين، ليبين عظيم منزلة المسلمين عند الله عز وجل، وتفضله باللطف والعناية بهم بنهيهم عما يؤدي إلى الإضرار بهم، ويكون سبباً في حدوث الآلام والحسرة في نفوسهم، فلو إتخذ المسلمون بطانة وخاصة من غيرهم ثم قامت هذه البطانة بخيانتهم، والإضرار بهم، فان الندم يملأ نفوس المسلمين على الإختيار الخاطئ، وما ينتج عنه من الأضرار المادية والعقائدية، فجاءت هذه الآية لنجاتهم من أسباب الحسرة والندامة وما تسببه من حال اليأس والقنوط والإرباك وحصول اللوم بينهم، وغلبة النفس الغضبية.
لقد تضمنت الآيات القرآنية الأوامر والنواهي، وكل فرد منها مدرسة عقائدية وإجتماعية وأخلاقية وتساهم في تثبيت دعائم الإسلام، ويأتي النهي للزجر عن فعل بالذات، ليكون النهي مقدمة لمنافع عرضية كثيرة تترشح عن الإمتثال له، ويكون حصناً وواقية من أضرار عديدة تنجم عن المعصية وإتيان الفعل المنهي عنه، لذا فان النهي القرآني خير محض، وفضل من عند الله على المسلمين أمة وأفراداً، ومن الآيات إنحلال النهي القرآني بعدد المسلمين والمسلمات ليكون صاحباً كريماً يدعوهم للكف والإمتناع عن فعل مذموم.
لقد خلق الله تعالى الناس ليعبدوه، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ]( )، ومع أن آدم عليه السلام هو الذي خلقه الله هو وحواء من غير رحم، وتكاثرت ذريتهما منهما، فقد أخبرت الآية أعلاه بان الله عز وجل قد خلق الناس جميعاً، وان كل إنسان وان ولد بالوطئ والحمل ثم الوضع فانه مخلوق لله تعالى، ولم يوجد إلا بمشيئة الله سبحانه، وتفضل الله تعالى مرة أخرى على الناس فأمرهم ونهاهم بواسطة الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية ومتضمناً للحلال والحرام ليكون دستوراً للناس يستغنون به عن غيره.
وقد جاء القرآن بالنهي عن المحرمات والفواحش والمعاصي رحمة ورأفة بالناس وليكون الإمتثال للنهي القرآني طريقاً إلى الثواب العظيم ومصداقاً من مصاديق عبادة الله تعالى، وجاءت هذه الآية بالنهي عن فرد مخصوص وهو إتخاذ بطانة من غير المسلمين.
وهذا النهي لطف إلهي إختص الله تعالى به المسلمون، ولا ينحصر اللطف بذات النهي، فمن أفراد اللطف في المقام تلاوة المسلمين لهذه الآية، وإستحضارها في موضوع البطانة إبتداء وإستدامة، من وجوه:
الأول: عند الشعور بالحاجة إلى البطانة أو إدراك منافع تعيين بطانة وخاصة.
الثاني: إختيار بطانة وخاصة، والحرص على التقيد بأحكام النهي الوارد في هذه الآية.
الثالث: إجتناب إتخاذ غير الله الذي يخشى جانبه أميناً في الأمور الخاصة ومستشاراً في الأحوال الشخصية والشؤون العامة.
الرابع: حصانة المسلمين من الأضرار التي تترشح عن البطانة السيئة.
الخامس: تقيد المسلمين بأحكام الأوامر والنواهي الواردة في القرآن إذ يقود التقيد بهذا النهي المسلم والمسلمة إلى التقيد بالنواهي الأخرى الواردة في القرآن لأن فيه تنمية ملكة الطاعة والإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية، والنواهي القرآنية فضل من الله تعالى على المسلمين والناس جميعاً، والله سبحانه غني عن العالمين غير محتاج لطاعتهم وعبادتهم وتقيدهم بالأوامر والنواهي، ولكن هم الذين ينتفعون منها، وهذا الإنتفاع متعدد في ماهيته وجنسه، ويتغشى أفراد الزمان الطولية.
ومن الآيات أن المنافع العاجلة للتقيد بالنهي الوارد في هذه الآية أكثر من أن تحصى، ومع هذا فهي كالقطرة من البحر بالقياس إلى المنافع الأخروية له، وأثر هذا التقيد الشخصي والنوعي وما له من الثواب العظيم، والجزاء الجزيل فضلاً من الله تعالى.
لقد نهى الله تعالى المسلمين عن إتخاذ بطانة من دونهم لينال المسلمون الثواب العظيم وتلك آية في فلسفة النواهي القرآنية فيأتي النهي رحمة ورأفة من عند الله ليكون عوناً على التقيد بالأوامر الإلهية، وحصناً من المعاصي وواقية من الشبهات ومقدمات السيئات والفواحش، ومناسبة للتفقه في الدين، ومعرفة علة خلق الإنسان، ونعمة الله تعالى عليه بنزول الأوامر والنواهي من السماء.
فكل نهي قرآني مدرسة فقهية ودرس بليغ ودعوة للتفقه في الدين، ولم يكن النهي الوارد في هذه الآية مختصاً بذات المكلف وإمتناعه عن إرتكاب المعصية الشخصية كالنهي عن شرب الخمر، بل يتعلق النهي بالأمور العامة وشؤون الحكم، ويشمل غير المسلمين بإجتناب توليهم لوظائف البطانة والخاصة للمسلمين، ليكون هذا النهي دعوة للأخوة الإسلامية، والتعاون بين المسلمين، ونشر الأخلاق الحميدة ومفاهيم النصيحة والصدق وفيه تأديب للناس وبيان عملي لقوة المسلمين وإتحادهم وتمسكهم بالقرآن والسنة.
ويستلزم النهي القرآني التحلي بالصبر، والإستعانة به للتغلب على النفس الشهو ية وإتباع الهوى، فهذه الآية قيد للحكام وأهل الحل والعقد من المسلمين بأن يجتنبوا البطانة والخاصة من غير المسلمين وأن بدا لهم أن غير المسلم يصلح للبطانة والإستشارة والرأي، وقد يكون عنده رأي صائب وناصح، إلا أن متعلق الآية ليس القضية الشخصية، والموضوع المتحد، بل هو عام وشامل فهي برزخ دون جعل إختيار غير المسلم لأمور البطانة منهجاً وفعلاً متصلاً.
وجاء النهي لمنعه من الأصل، لأن إتخاذ المسلم لأخيه بطانة باب للنصيحة وهو خير محض إبتداء وإستدامة، وهو الذي تدل عليه الآية بمفهوم المخالفة أي غير المذكور في الآية ولكنه مخالف للنهي الوارد فيها في مقابل مفهوم الموافقة، وهو المعنى غير المذكور في الآية، ولكنه موافق للمنطوق سلباً وإيجاباً، كما في النهي عن البطانة من دون المسلمين وان لم تجتمع عندها أجزاء علة النهي والصفات التي ذكرتها الآية الكريمة، وهل يمكن القول أن النهي الوارد في هذه الآية ليس له مفهوم مخالفة وأنه لا يدعو إلى إتخاذ البطانة المسلمة، كما في الجملة الشرطية التي تأتي مسوقة لبيان موضوع الحكم وقول الأصوليين بإنتفاء المفهوم لتلك الجملة الشرطية وإستدلوا عليه بآية النبأ [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ).
فإذا لم يأتِ فاسق بنبأ فلا تصل النوبة للتبين، الجواب لا، فان النهي الوارد في الآية محل البحث يدل وفق مفهوم المخالفة على إتخاذ البطانة المسلمة في مواطنها، بدليل ورود علة النهي وعلى نحو التعدد في وجوهها، ويحتمل إتخاذ البطانة من غير المسلمين ممن يضمرون العداوة للمسلمين بلحاظ كبائر وصغائر الذنوب وجوهاً:
الأول: انه من الكبائر التي ذكرها الله تعالى بقوله [نْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] ( ).
الثاني: من الكلي المشكك فمنه ما يكون كبيرة ومنه ما دون ذلك بحسب موضوع وأثر البطانة، قال تعالى [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللَّمَمَ]( ).
الثالث: من صغائر الذنوب،وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما تعدون الكبائر، فقالوا: الله ورسوله أعلم فقال: الإشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات.
وعن ابن عباس أنها سبعة، ثم قال: هي إلى السبعين أقرب( ). ونسب إلى الأكثر أن الله تعالى لم يميز جملة الكبائر عن الصغائر لكي لا يتهاون الناس في الصغائر، وعدم التمييز بينهما يشبه إخفاء الصلاة الوسطى بين الصلوات وليلة القدر بين ليالي شهر رمضان، وعلى هذا المبنى يكون البيان الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من باب ذكر الأفراد الأهم والأصول التي من الكبائر.
وعن سعيد بن جبير “ان رجلاً قال لابن عباس كم الكبائر؟ سبع هي؟ قال هي الى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير إنه لا كبيرة مع إستغفار ولا صغيرة مع إصرار”( ).
وعن الطبرسي: فقيل كل ما أوعد الله تعالى عليه في الآخرة عقاباً وأوجب عليه في الدنيا حداً فهو كبيرة. وهو المروي عن سعيد بن جبير ومجاهد، وقيل كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة عن ابن عباس وإلى هذا ذهب أصحابنا( ).
والأرجح من الوجوه أعلاه هو الوجه الثاني، فإذا كان الفرد في منازل السلطنة والحكم وإتخذ بطانة من غير المسلمين تقوم بالإضرار بالمسلمين ودولتهم وتجلب لهم العنت والمشقة.
أما إذا كانت البطانة في مسائل شخصية قليلة، وليس لها من أثر، والمسلم يقدر على التمييز في أقوال البطانة ويحترز منها فإنه من الصغائر.
وكلا الأمرين يستلزم التوبة والإنابة وترك تلك البطانة لمجيء النهي في هذه الآية على نحو الإطلاق، ليكون الخلاف في تعيين مصاديق الكبائر أو الصغائر صغروياً في المقام لأن النهي يشملها جميعاً وهو من وجوه التخفيف في أحكام الشريعة الإسلامية، واللطف الإلهي في موضوع النواهي القرآنية بمجيئها بسيطة واضحة خالية من اللبس والترديد، فليس لهم إلا الإتفاق والإجماع على أن إتخاذ البطانة من غير المسلمين أمر منهي عنه خصوصاً وأن المعصية فيه لا تنحصر بالقضية الشخصية بل تشمل الأمور العامة، ومصالح الأمة والدولة والأفراد.
فجاءت هذه الآية بصيغتها وألفاظها ومضامينها القدسية رحمة بالمسلمين عموماً، وبرزخاً من لغة الجدل عند بعض العلماء، لكي يعمل بأحكامها المسلمون جميعاً وتكون ضياء ينير لهم دروب الحياة وميزاناً لتعيين كيفية الصلات والمعاملة مع غير المسلمين بالحيطة والحذر منهم في باب البطانة والخاصة.
قانون تعدد بطانة المسلمين
إنفردت هذه الآية الكريمة بذكر “البطانة” من بين آيات القرآن، ولم تذكر إلا لغة النهي عن إتخاذ المسلمين للبطانة من غيرهم، ولم تتضمن الأمر بإتخاذ بطانة من بينهم، ولم تخبر عن الإستغناء عن البطانة، وعدم الحاجة اليها، وهو من إعجاز القرآن لما في الأمر من السعة والتعدد والتباين في أمور الحياة وأحوال الناس المختلفة.
ولو جاء الأمر بإتخاذ بطانة من المسلمين لأصبح كل مسلم يسعى في إختيار البطانة، وتلازمه تلك البطانة في شؤونه الخاصة والعامة وقد يصبح متردداً في إتخاذ قرار وفعل الشيء من دون الرجوع إلى البطانة، مع ان الشريعة الإسلامية بينت أحكام الحلال والحرام، وندبت إلى فعل الصالحات وعمل الخيرات وإشاعة المعروف، وإجتناب الفواحش والذنوب، نعم جاء القرآن بالحث على الشورى،قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ).
وقيد “أمرهم” في الآية أعلاه يفيد تعلق الشورى في الأمور التي تخص المسلمين ومصالحهم، أما البطانة فهي أعم، وجاءت هذه الآية للنهي عن البطانة من غير المسلمين مطلقاً في الأمور العامة والخاصة،وحينما نهى الله تعالى عن البطانة من دون المسلمين فانه سبحانه لم يترك المسلمين من غير بطانة سواء كانوا محتاجين لها أم أنها من الوسائط وأسباب الكمال في الفعل، لقد أنعم الله تعالى على المسلمين بما يجعلهم أغنياء عن البطانة من غيرهم، من وجوه:
الأول: جعل الله تعالى القرآن صاحباً كريماً للمسلمين جميعاً، ولكل مسلم ومسلمة على نحو الإنفراد فهو الإمام الذي يهدي إلى سواء السبيل تفضل الله تعالى وجعله تبياناً لكل شيء ومما فيه من البيان النهي عن البطانة السيئة، واللجوء إلى القرآن في المشورة والرأي وإقتباس الحكم ونوع الفعل، ومن معه القرآن يستغني عن رأي غيره لأن القرآن لا يأمر إلا بما فيه خير محض، وينهى عن السوء والفحشاء.
الثاني: السنة النبوية الشريفة عون ونور يهتدي به المسلم في ميادين الحياة المختلفة، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وفي كل حديث نبوي مدرسة في البطانة، ودرس وكذا بالنسبة للسنة الفعلية الشريفة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنها موعظة وعبرة وتتجلى منها الحكمة، وتكون هدى للمسلم، وأصلاً يقتبس منه البطانة قوله وفعله ورأيه ليتعاون المسلمون في الأخذ من القرآن والسنة، ويكون هذا الأخذ وسيلة للنجاة ومادة للنصر وإستدامة العز وبرزخاً دون الأذى والضرر.
الثالث: سيرة الصحابة وأهل البيت عليهم السلام، والدروس المستنبطة من نهجهم وسمتهم.
الرابع: التأريخ الإسلامي، والوقائع والحوادث التي تبين حسن إختيارهم، وصحة فعلهم.
الخامس: البطانة من داخل أسرة المسلم والتي تتقوم بالصدور عن القرآن والسنة، وإدراك المصلحة، والحذر والإبتعاد عن المفسدة، فقد ينظر المسلم لموضوع من جهة واحدة وتأخذه الرغبة والشوق له، ويغفل عن الآثار والأضرار العرضية فتأتي مشورة الأسرة لبيان الضرر والأذى لأنها تنظر للأمر من جوانب متعددة وبعيداً عن الحجب والغشاوة التي تضعها الرغبة الزائدة، وقد لا ترى البطانة من غير المسلمين تلك الأضرار، أو أنها تراها ولكنها تعرض عن ذكرها إرضاء للرغبة عند المستبطن، أو من أجل إغرائه بالفعل وإصابته بما يترشح عنها من الأضرار العرضية.
السادس: البطانة من بين المؤمنين، والأصحاب في المسجد وصلاة الجماعة، لما يترشح من المواظبة عليها من معاني العدالة والصدق والأخوة الإيمانية، نعم تتباين أهلية المصلين في منازل البطانة وأن إتحدوا بالصلاح وسلامة السريرة.
السابع: عموم المسلمين إذ تحث الآية في مفهومها على إتخاذ البطانة منهم وإستشارتهم والإنصات لهم.
ولا تنحصر البطانة بالرجال دون النساء بل تشمل المسلمين والمسلمات جميعاً، وهو من السعة و المندوحة في باب البطانة، فجاء النهي عن البطانة من غير المسلمين لما فيها من الضرر والمشقة على المسلمين لينعم الله تعالى على المسلمين بالبطانة الكثيرة المتعددة من بينهم لتكون البطانة الصالحة قربية منه، وحاضرة عنده وإن إمتنع عن إستبطان غيره في أمر خاص فإن القرآن معه وقريب منه، يدعوه لإستبطانه وهو خير جليس وصاحب كريم، لا يأمره إلا بالصلاح وأسباب النجاة في الدنيا والآخرة، ليس في الإستخارة فحسب وان كانت هي من مصاديق البطانة، ولكن بما في القرآن من الأوامر والنواهي والأحكام التي تحيط بالوقائع والأحداث.
وكل آية في القرآن تصلح أن تكون بطانة، ومدرسة تقتبس منها المواعظ والعبر، وتدعو المسلمين للرجوع اليها، والإنتفاع مما فيها من الدرر واللآلئ العملية،والسنن التي تهدي إلى مكارم الأخلاق، وتنهى عن السيئات والفواحش.
أن نهي المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم، وتفضل الله بتعدد البطانة الصالحة للمسلم من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، إذ أنعم الله عز وجل على المسلمين ببيان مناهج الإستقامة وسبل الهدى والحق، وعصم المسلمين من الغفلة والجهالة وآفة الحسد، فجعلهم مؤهلين لمنازل البطانة، وليكون هذا التعدد حجة للمسلمين ودعوة للناس لدخول الإسلام، وسبباً لبعث اليأس والقنوط في نفوس أعداء الإسلام من النيل منه، والإطلاع على خصوصيات المسلمين من باب المشورة والبطانة، والتظاهر بالحرص على ذات الشخص بينما تتعلق مصلحة المسلم بالنفع العام للإسلام والمسلمين، وما يأتي من النفع المادي الشخصي للفرد منهم ويسبب ضرراً لعامة المسلمين فهو من وجوه الضرر لتقديم النفع العام على الخاص.
والمشورة والبطانة في المقام على وجوه:
الأول: النفع الخاص والضرر العام.
الثاني: النفع الخاص والعام.
الثالث: الضرر الخاص والعام.
الرابع: الضرر الخاص والنفع العام.
الخامس: عدم حصول الضرر أو النفع الخاص مع حصول النفع العام، وهذا الفرد متعذر لأن النفع العام إنحلالي يؤدي إلى النفع الخاص لكل مسلم ومسلمة.
السادس: حصول النفع الخاص، وعدم حصول النفع العام، ولكن النفع الخاص للمسلمين يعني بالنتيجة النفع للمسلمين.
وجاءت هذه الآية لتمنع من مجيء الغدر من البطانة وتدعو إلى النفع الخاص والعام من البطانة بإتخاذ القرآن والسنة سبيل هدى، وصالح المسلمين بطانة وخاصة، ومن نعم الله عز وجل على المسلمين في هذا الباب عدم بقاء المسلم أو المسلمة متحيرين مترددين في إختيار البطانة، أو في الإستماع للبطانة.
فقد يحصل تعارض بين قول البطانة الصالحة والبطانة السيئة، ولا تكون نتيجة التعارض هي التساقط، وجاءت الآية صريحة بالأخذ بقول ورأي البطانة الصالحة، وترك قول البطانة السيئة، وتأمر الآية بترك قول ورأي البطانة السيئة حتى في حال عدم وجود قول ورأي للبطانة الصالحة، وتدعو المسلم للعمل وفق أحكام الشريعة،و اللجوء إلى البطانة الصالحة.
ومما ينفرد به المسلمون هو مطابقة قول البطانة الصالحة لما يرتكز في ذهن المسلم من النية والعزم والإختيار فكأن قول البطانة توكيد وإمضاء وحث على ما ينوي فعله، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
علم المناسبة
وردت كلمات في قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( )، لم تذكر في القرآن إلا في هذه الآية وهي:
الأولى: بطانة.
الثانية: دونكم.
الثالثة: يألونكم.
ولم ترد مادة “خبل” في القرآن إلا مرتين وبلفظ “خبالاً” إذ جاء في سورة التوبة قوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلا خَبَالاً]( )، وفيه تحذير من المنافقين وإخبار بان خروجهم مع المسلمين في الجهاد ليس فيه نفع بل هو شر وسبب للفساد وإشاعة أسباب الفتنة والفرقة بين المسلمين ويسعى المنافقون في النميمة بين المسلمين وإثارة الفتنة، وبعث الجبن والفزع في قلوب المسلمين مما يعني بالأولوية إضرارهم بالمسلمين في باب البطانة.
وجاء في الآية أعلاه [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ]( )، أي ينصتون للمنافقين ومن معانيه أن من المسلمين من يستمع لقول المنافقين وما يبثونه من الفزع بين المسلمين في سوح القتال، وما يظهرونه من العجز والمكر، فجاءت الآية محل البحث لمنع الركون في باب البطانة ليس للمنافقين وحدهم، بل لهم ولأهل الملل الأخرى لأن مواضيع البطانة لا تنحصر بسوح المعارك وحال القتال والدفاع، بل تشمل حال الحرب والسلم وشؤون الحكم، والتجارات والزراعات والأمور العامة والخاصة، وحيث يختلط المسلمون مع غيرهم من أهل الملل والنحل في ميادين العمل والسكن والجوار.
فجاء النهي عن إتخاذ البطانة من غير المسلمين مطلقاً في أفراده ومواضيعه والأحوال المختلفة للمسلمين والمسلمات، وهذا الإطلاق من إعجاز الآية الكريمة.
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث بلحاظ موضوع الخبال أن ضرر المنافقين في الحرب والقتال لا يتعارض مع ضررهم في السلم والرخاء والحضر، ولكن التقييد بلحاظ موضوع الآية، وغير المسلمين لا يخرجون مع المسلمين في القتال، أما في حال السلم فان التحذير في باب البطانة عام من المنافقين وأهل الكتاب والكفار.
وقد يحذر المسلمون من المنافقين في سوح المعارك ولا يخرجونهم معهم، وان خرجوا فهم تحت أعين المسلمين، ولكن إتخاذهم أو الكفار بطانة في الحضر والسلم، يضر المسلمين في سوح المعارك، ويكون سبباً لكشف أسرارهم وإطلاع العدو على ما عندهم من الثغرات وما يستطيع أن ينفذ من خلاله، فجاء النهي عن إستبطان غير المسلمين لتحقيق المسلمين النصر في سوح المعارك، ولينجو المسلمون من الخبال والفساد وهو من أسرار عدم ذكره إلا في هاتين الآيتين وبلحاظ دفعه عن المسلمين وسلامة أجيالهم المتعاقبة منه.
أن عدم ورود لفظ “البطانة” في القرآن إلا في هذه الآية، من إعجاز القرآن وله دلالات منها:
الأولى: توكيد أهمية موضوع البطانة ولزوم عدم الغفلة عنه.
الثانية: موضوعية الإختيار في تعيين جنس البطانة بلحاظ الملة والدين، إذ جاء النهي عاماً لكل غير مسلم متحداً كان أو متعدداً، وعلى نحو الإطلاق في مواضيع البطانة.
الثالثة: بيان عز المسلمين وظهور دولتهم وإتساع وظائفهم، وأيهما أكبر شأناً المستبطن-بالكسر- أم المستبطَن- بالفتح الجواب هو الأول، فالذي يتخذ بطانة وخاصة للمشورة وإبداء الرأي هو الأكبر شأناً ومقاماً إلا أن يدل دليل أو أمارة على خلافه، كما لو كان المستشار والبطانة هو الأعلى والأكثر خبرة، وجاءت الآية لمنع الإفتتان بغير المسلم الذي يكون ذا شأن.
الرابع: إختصاص هذه الآية بذكر لفظ وموضوع “البطانة” حث على التدبر في مضامينها، وزجر عن ترك العمل بها، ومن البيان في الآية ان النهي فيها جاء بسيطاً وكأنه يقول: “إتركوا إستبطان غير المسلم” ثم إختاروا من شئتم من صلح من المسلمين لمراتب البطانة، وقد ترى أنت فرداً من المسلمين غير مؤهل للبطانة والخاصة، ولكن غيرك يراه أهلاً لها وقد يكون أخاه أو إبنه او بنته أو زوجته.
وكذا بالنسبة للمرأة فهناك من النساء من لا تغادر بيتها إلا في القليل النادر، ولا يعرفها الناس ولكن هذه الآية جاءت لتخبر أباها وأخاها وزوجها وإبنها بأنها أهل لمنزلة البطانة والخاصة، وانها أفضل من المنافق والحاسد من غير المسلمين الذي يريد بهم الأذى والضرر، ويتخذ موضوع البطانة للمكر والغدر بهم،لتكون هذه الآية حصانة للمسلمين وأسرّهم من الغدر وأسباب الفتنة.
وورد لفظ “الخبال” في القرآن تحذيراً للمسلمين من طرو الفساد عليهم من غيرهم، وتلك آية في إكرام المسلمين، فلم تأت الآيات القرآنية بذم المسلمين وحصول الخبال والفساد عنهم، بل وردت بتحذيرهم من مجيء الفساد لهم من البطانة من غيرهم، ومن خروج المنافقين معهم في القتال، وبين مضامين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: تحذير المسلمين من مجيء الفساد من غيرهم.
الثاني: دعوة المسلمين للإحتراز من جعل موضوعية وشأن لغيرهم في أمورهم الخاصة والعامة.
الثالث: بيان الفساد والإفساد والذي يأتي للمسلمين من غيرهم.
الرابع: إنفراد الآيتين بذكر لفظ “الخبال” وإخبارهما عن سلامة المسلمين بالذات منه، إنما هو يأتي بالعرض ومن غيرهم فجاءت الآيتان لمنعه، وتنزيه وعصمة المسلمين من الخبال والفساد.
أما وجوه الإفتراق فهي:
الأول: عموم النهي في موضوع البطانة وشمولها للموارد والأمور المختلفة، بينما تختص الآية من سورة التوبة بحال الحرب والقتال.
الثاني: أخبرت الآية محل البحث عن ود غير المسلمين لبعث الفساد بين المسلمين، أما الآية من سورة التوبة فتبين ان المنافقين يسعون لنشر الفساد بين المسلمين.
الثالث: أحكام النهي في البطانة عامة بلزوم إجتناب غير المسلمين فيها، أما الآية من سورة التوبة فجاءت خاصة بالمنافقين لأنهم ينطقون بالشهادتين ويظهرون الإسلام، ولكنهم يخفون الكفر، فيظهر ما خفي عنهم في حال القتال وفيه مسائل:
الأولى: حال الحرب والقتال إبتلاء وتمحيص.
الثانية: في حال الحرب والقتال يظهر ما خفي في النفوس.
الثالثة: سعي المنافقين للإضرار بالمسلمين ولحوق الهزيمة بالمسلمين.
الرابعة: جاءت الآية من سورة التوبة بقوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ] ( )، أي أنهم لم يخرجوا مع المسلمين وأن الخبال والفساد لم يحصل بين المسلمين لا في سوح المعارك ولا فيما بعد إنتهاء المعركة، اما آية البطانة فجاءت للوقاية من غير المسلمين بلحاظ إختيار المسلمين أنفسهم للبطانة.
بحث منطقي
اليقين هو الإعتقاد الجازم المطابق للواقع، ونقيضه الجهل المركب والذي يعني الجزم غير المطابق للواقع، وقيل بالتفصيل، وان التعريف أعلاه هو اليقين بالمعنى الأخص، واليقين بالمعنى الأعم فهو مطلق ويشمل إعتقاد الشي بأنه كذا.
ومن خصائص اليقين ثبوت هذا الإعتقاد وعدم زواله لوجود علته الموجبة له، فهو كالمعلول الذي لا يتخلف عن علته، وتنقسم القضية اليقينية الى أقسام بلحاظ فتكون بديهية يصدق بها الفعل لذ اتها،وتصور طرفيها المحكوم عليه والمحكوم به، ونظرية كسبية.
وقسمت اليقينيات تقسيماً إٍستقرائياً الى ستة أقسام:
الأول: الأوليات، وهي التي يصدق بها العقل لذاتها، من غير قصور لسبب وعلة خارجيين.
الثاني: المحسوسات، وهي التي يدركها العقل بواسطة أحد الحواس الخمسة البصر والسمع والذوق والشم واللمس، وأضيفت لها الوجدانيات التي تدرك بالحس الباطن كالشعور بالألم واللذة والجوع والعطش.
الثالث: التجريبيات، وهي التي يدركها العقل بالتجربة وتكرار المشاهدة بحيث تتجلى فيها قوانين العلة والمعلول والسبب والمسبب، فحينما تشب النار يبادر الى الماء لإطفائها نتيجة تجربة التي قد تكون شخصية أو جماعية أو متوارثة، يرثها الصغير من الكبير، والابن من الأب.
الرابع: المتواترات وهي التي تطمئن لها النفس ويترتب عليها القطع والجزم بواسطة نقل جماعة للخبر لا يتواطئون على الكذب فنحن لم نعلم عن كسرى أو قيصر أو الإسكندر وأيامهم، ولكن ترد الأخبار المتواترة عنهم فتسكن النفس اليها في الجملة.
الخامس: الحدسيات، وهي التي ينقدح في النفس إدراكها، ويزول معه ومع القرائن الدالة عليه الشك والوهم، ليحصل اليقين والفرق بينه وبين المشاهدات ان العقل لا يحتاج لليقين والقطع به الى تكرار المشاهدة والتجربة، ويختلف عن الحسيات ان الواسطة فيه ليس الحواس الخمسة بل الحدس وإنتقال الذهن من المبادئ الى المطالب، ويقابل الحدس الفكر والتدبر.
وجاءت الآية الكريمة بنهي المسلمين عن إتخاذ وليجة وخاصة من غيرهم، وذكرت علة النهي الذاتية عند الذين لا يرقون الى منازل البطانة، ترى من أي قسم هي من أقسام اليقينيات، الجواب انها من قسم من أقسام اليقينات أعلى وأوثق من البديهيات لأنها نازلة من عند الله، ولابد من تأسيس قسيم آخر لليقينيات خاص بالتنزيل يكون أسمى وأوثق من البديهيات والأوليات، لأن القرآن حق وصدق [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ) قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
ومن الآيات ان اليقين في مضامين الآية متعدد ومتجدد ومتصل، وتتداخل فيه أقسام اليقين كلها فهو من البديهيات التي يصدق بها العقل لذاته، ومن المحسوسات إذ تظهر الحواس البغضاء والعداوة من الكفار أزاء المسلمين، فيسمع المسلمون السب والشتم من الكفار، ويحسون بما تضمره لهم صدورهم من الحسد والغل والبغضاء ويدركونها بالوجدان.
وأجزاء العلة التي ذكرتها الآية من التجريبيات ، ويدركها المسلمون بمضامين الآية لتأتي التجربة لتوكيدها وتزيد المسلمين إيماناً ، إذ تدل الشواهد المتكررة على إرادة الكفار شيوع الفساد والفتنة بين المسلمين وهي من الحدسيات لأن النفس بحسها الباطني تدرك عداوة وحسد الكفار للمسلمين وانهم يظهرون تلك العداوة عندما يتولون وظيفة الخاصة والبطانة للمسلمين.
ومن الآيات ان تأتي العلوم المنطقية لتوكيد مضامين الآية القرآنية، كما تكون الآية مدرسة في علم المنطق وكل آية آلة تعصم أذهان المسلمين من الزلل ، وتدرأ عنهم الخطأ في الواقع العملي.
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة والإطناب “التعليل” بذكر علة الشيء مع المرتكز الثابت في الأذهان بالفطرة والوجدان ، وهو عدم تخلف المعلول عن علته، وفائدة العلة التقرير والبيان والإيضاح، وتقريب الحكم ويميل الإنسان منفرداً ومجتمعاً مع غيره الى قبول الأحكام التي تكون علتها بينة ظاهرة، وحروف التعليل عديدة منها اللام، وإن ولعل، وكي وغيرها، وقد يرد بذكر الغاية أو السبب، وجاءت هذه الآية بذكر علة النهي عل نحو متعدد في المنطوق والمفهوم من وجوه:
الأول: التناقض بين الإيمان والخبال، فمن إختار الإسلام صار بالضد من الخبال والفساد.
الثاني: مجيء الآية بصيغة الجمع، وإذا أصاب الفساد الجماعة والأمة فانه أكثر ضرراً عليها وعلى أفرادها وعلى غيرها من الناس، فلم تقل الآية [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] بل ذكرت عموم المسلمين مما يدل على الضرر النوعي العام الذي يلحق المسلمين بسبب تلك البطانة، فلم تذكر الآية سوء نية الكفار وحدها، إذ ان النية قد لا تترجل الى الخارج وعالم الأفعال، وقد تتغير وتتبدل الى غيرها وحتى الى ضدها، ولكنها ذكرت ما يسببونه من الأثر الفعلي عند المسلمين.
فان قلت من الكفار من عمل مع المسلمين ، فصار هذا العمل سبباً لإسلامه والجواب ان هذا فرد نادر، والأحكام لا تؤخذ على القليل النادر، خصوصاً وان الخطاب التكليفي بدخول الإسلام موجه له من غير أن تصل النوبة الى البطانة، وإجتناب جعل بطانة من غير المسلمين سبب لإسلام الكثير من الناس ، لأنهم يرون حينئذ الحكمة وصحة أعمال المسلمين، ومعاني الإعجاز في عباداتهم ومعاملاتهم ، وإنقيادهم للأوامر الإلهية.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين ان يكونوا الأمة التي تدعو الناس الى عبادة الله تعالى والى الإستعداد والسعي ليوم القيامة، وان تأتي هذه الدعوة بالحكمة والحجة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ…]( ).
والخبال الذي يأتي من البطانة يضر هذه الدعوة، ويجعل المسلمين ينشغلون بأنفسهم، وقد تحدث الفتن والخصومة بينهم، وأراد الله تعالى لهم الصلاح والإصلاح ودرء الفتن وأسباب الخصومة، فجاءت هذه الآية للنهي عن إتخاذ البطانة من غيرهم مع ذكر علة هذا النهي، ليكون المسلمون على دراية من فعلهم، مع نفرة وإجتناب للخبال والفساد بترك سببه وهو إختيار البطانة السيئة.
ومن إعجاز الآية تعدد وكثرة أفراد علة النهي، ولو جاءت الآية من غير ذكر العلة لكانت كافية للنهي لأن الله سبحانه أعلم بالمصالح والمفاسد، [ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
ولكن الله تعالى ذكر العلة على نحو الأفراد المتعددة التي يكفي كل واحد منها لبعث المسلمين على التقيد بأحكام النهي، وإدراك موضوعية البطانة ولزوم كونها مسلمة صالحة وقيد “الصالحة” مستقرأ من ذكر علة النهي وما تسببه البطانة السيئة من الفساد والضرر العام.
ولم تأتِ الآية الكريمة بأداة من أدوات التعليل فلم تقل الآية “انهم لا يألونكم خبالاَ” أو “إذ ودوا لو عنتم” بل جاءت من غير ذكر أداة للتعليل، وفيه نكتة عقائدية وهي عموم العلة وعدم إنحصارها بموضوع الآية، كما في قولك الخمر حرام لأنه مسكر فيدل على السعة في العلة وشمولها لكل مسكر، مع مبغوضية المسكر وضرره ، ولزوم الوقاية والحذر منه.
فجاءت الآية لتبين حرمة إتخاذ الكفار بطانة لأن الكفار يظهرون ويضمرون العداوة للمسلمين، ولا يتورعون من إظهار هذه العداوة عند إتخاذهم بطانة، فمن الإحسان لهم إتخاذهم بطانة، والأصل ان يقابلوا هذا الإحسان بإحسان مثله، بالتحلي بأحكام البطانة وما تحتاج اليه من الأمانة والصدق الإخلاص والنصيحة، وكتمان الأسرار وعدم كشف العورة.
ولا ينحصر موضوع النهي عن إتخاذ الكافرين بطانة بخشية إضرارهم بالمسلمين، بل يشمل عدم أهليتهم لمنازل البطانة لضلالتهم وخسارتهم ، فلم تأتِ أعمالهم على الوجه المأمور به لأنهم كرهوا نزول القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي.
قوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ]
بيان صفة ثانية مذمومة للذين تحذر الآية المسلمين من إتخاذهم بطانة، فبعد الإخبار عن بذلهم الجهد للإضرار بالمسلمين سواء إتخذوهم بطانة أو لم يتخذوهم جاء هذا الشطر من الآية لبيان صفة ثانية عند الذين تنهى الآية الكريمة عن إتخاذهم بطانة وهي: حبهم المشقة للمسلمين، ولحوق الضرر بهم، فكيف تجعل لك بطانة تكره لك الخير، وتحب لك الشر والفساد والضرر.
والود كيفية نفسانية، ورغبة في ذات الإنسان لتحصيل منفعة أو وقوع مفسدة، ولكنه ينعكس على اللسان والجوارح ويظهر في القول والفعل، ويحتمل حبهم لحوق الضرر بالمسلمين في أوانه وجوهاً:
الأول: قبل وبعد إختيارهم لمراتب البطانة.
الثاني: عند إختيارهم للبطانة والخاصة.
الثالث: في حال عدم إختيارهم للبطانة والخاصة، أما عند توليهم وظيفة البطانة فان الموضوع يختلف ويصبحون يحبون للمسلمين الخير، ويحرصون على عدم نزول المشقة والضرر بهم.
الرابع: الإطلاق في إرادتهم الضرر بالمسلمين سواء صاروا بطانة ، أم لم يصيروا بطانة.
والصحيح هو الرابع، إذ ان بغضهم للمسلمين أمر راسخ في نفوسهم ويرغبون في لحوق الأذى بالمسلمين جماعات وأفراداً وملة، لذا فان قوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] جملة مستأنفة وليس صفة لبطانة فلم يدخل حرف العطف بينها وبين قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ، وجاءت بصيغة الفعل الماضي “ودوا” بينما جاءت [لاَ يَأْلُونَكُمْ]بصيغة المضارع، ومعنى الإستدامة والإستمرار.
لقد أراد الله تعالى إخبار المسلمين بأن هؤلاء الكفار مقيمون على الرغبة في الإضرار بالمسلمين وأن التودد لهم وإكرامهم بجعلهم بطانة وخاصة لن يغيّر أو يبدل تلك الرغبة إلى ضدها، ويجعلها تصبح رغبة في نفع المسلمين، وحرصاً على دفع الأذى والمشقة عنهم.
وفي الجمع بين هذا الشطر من الآية والشطر الذي سبقه وجوه:
الأول: إستدامة حب الكفار الإضرار بالمسلمين.
الثاني: عند عجزهم عن الإضرار بالمسلمين لا يزول بغضهم وعداوتهم للمسلمين.
الثالث: الشماتة بالمسلمين لو لحق بهم أذى وضرر.
الرابع: عدم المواساة للمسلمين عند إصابتهم بالضرر، بل يستمرون في بث روح الفتنة والخصومة بين المسلمين، ويحولون دون التدارك ومعالجة الجروح.
الخامس: من وجوه حب العنت رغبتهم بتخلف المسلمين عن إتخاذ بطانة تكون عوناً وعضداً لهم، فجاءت الآية الكريمة لنصرة وتعضيد المسلمين بهدايتهم إلى البطانة الصالحة وتحذيرهم من أهل البغضاء والعداوة.
السادس: رغبة هؤلاء بقصور المسلمين عن مراتب البطانة، فلا يكون عند المسلمين من هو مؤهل لمرتبة البطانة، ويكون مستشاراً وعضداً وحافظاً لسر أخيه المسلم بتقريب وهو أن البطانة الصالحة تساهم في دفع المشقة والضرر عمن إستبطنها، وهؤلاء يريدون لحوق الضرر بالمسلمين عامة.
ولم تقل الآية “ودوا عنتكم” بل جاءت بصيغة “ما” المصدرية [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] وأن كانت تفيد ذات المعنى، ولكنها تدل على إتصال رغبتهم وحبهم لمشقة المسلمين أي أنهم يرغبون بوقوعكم في المشقة، وإختياركم ما يؤدي إلى الإضرار بكم كي يطعنوا في دينكم، ويقولوا إنه يسبب المشقة والبلاء والأذى لمن يدخل فيه، ويريدون الضلالة للمسلمين ، قال تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً]( ).
فجاءت هذه الآية لتمنع المسلمين من إتخاذهم بطانة، وتجعل المسلمين حريصين على إجتناب أسباب ومقدمات الضرر.
ويحتمل العنت الذي يودونه وجوهاً:
الأول: العنت على نحو القضية الشخصية بأن يواجه الفرد المسلم المشاق والأذى.
الثاني: الضرر العام الذي يلحق بالمسلمين كأفراد وجماعات.
الثالث: الضرر بالمسلمين كأمة وملة.
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة، لأن رغبة الكفار والمنافقين بلحوق الضرر بالمسلمين جاءت على نحو الإطلاق من غير تقييد، ولأن موضوعها هو حسدهم للمسلمين، الذين هم حفظة مبادئ التوحيد جاءت هذه الآية لسلامتهم، وحصانتهم من الفتنة والبلاء والضرر الذي يأتي من البطانة من غير المسلمين سواء بالمنع من الذين يودون المشقة والأذى للمسلمين من أهل الكتاب والكفار ، وليس مطلق أهل الكتاب وغير المسلمين، أو على المعنى الأعم وإرادة غير المسلمين مطلقاً، فليس كل كتابي وغير مسلم يرجو للمسلمين العنت والمشقة، قال تعالى [َلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىَ ]( )، وجاءت الآية مطلقة بلحاظ وجوه:
الأول: إعتبار الود بالضرر والمشقة للمسلمين الصادر من طائفة من أهل ملة أخرى صادراً من الملة كلها.
الثاني: عدم ترتب العقوبة والأثر على هذا الود والرغبة الضارة، ولكنه مناسبة للإحتراز العام سواء على العموم عند المسلمين، أو العموم من أهل تلك الملة.
الثالث: صعوبة الفصل والتمييز بين الذي يريد المشقة للمسلمين من هؤلاء، وبين الذي لا يريدها للمسلمين، فجاء النهي والإجتناب عنهم عاماً.
الرابع: إقتباس وتأثر بعض الكفار ببعضهم الآخر في الكيفية النفسانية والود والبغض، فمن لم يرد للمسلمين الشر والسوء قد يستمع لأصحابه ويحاكيهم في إرادة الإضرار بالمسلمين.
الخامس: دبيب البغض والكراهية للمسلمين إلى الذي يتخذونه بطانة من هؤلاء بلحاظ صلته مع أهل ملته وأرحامه، وسماعه لتعديهم وطعنهم بالإسلام والمسلمين.
السادس: للمسلمين وظائف جهادية عديدة، وهم يجاهدون بأنفسهم وأموالهم وقد تكون البطانة في حال لا تنوي ولا تود الضرر للمسلمين، ولكن عند ما تتعرض مصالح قومها وأهل ملتها للضرر، فانها تتخذ مقام البطانة للضرر والمشقة للمسلمين.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته وكان الناس على مشارب ومذاهب شتى منهم اليهودي ومنهم النصراني ومنهم المجوسي ومنهم المشرك والوثني وسرعان ما بادرت أفواج من الناس لدخول الإسلام وإتسعت رقعة الإسلام، وحمل المسلمون السيف جهاداً في سبيل الله ودفاعاًَ عن الاسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنفسهم، والذين أنعم الله عليهم بدخول الإسلام وقاتلوا دفاعاً عنه وعن مبادئه، ونصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تلك المذاهب، مما يزيد في حسد وسخط أرباب تلك المذاهب، ويجعلهم يسعون في الإيقاع بالمسلمين والإضرار بهم، ولكن فضل الله عز وجل على المسلمين عظيم، إذ أبطل كيد هؤلاء الكفار وتفضل مرة أخرى ورزق المسلمين العلم بأحوال الناس، وما تخفيه صدورهم من الحسد والبغض للمسلمين كما في هذه الآية.
فمن إعجاز الآية أنها لم تكتفِ بنهي المسلمين عن إتخاذهم بطانة، بل بينت علة النهي، وتعلقها بهؤلاء الذي تخلفوا بإختيارهم وحسدهم وبغضهم للمسلمين عن مراتب البطانة.
ومن الآيات تعدد أفراد علة النهي فإذا قال أحد المسلمين أنه يدني البطانة من غير المسلمين في أمور خاصة لا وجه فيها لحدوث الخبال والفساد أو زيادته، يأتيه هذا الشطر من الآية ليخبره بان البغض والحسد للمسلمين يملأ نفوسهم، مما يقتضي الحذر والحيطة منهم، وإتخاذ البطانة ود وميل لتلك البطانة، فاذا كان هؤلاء لا يودون المسلمين، ويرجون مضرتهم وأذاهم فكيف يودهم المسلمون.
وهذه الآية شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل بحصانة المسلمين ووقايتهم من الفساد وأسباب الهلاك، وبإحترازهم من المكر والكيد
ولم تقل الآية “يودون عنتكم” بل جاءت بصيغة الماضي في دلالة على ثبوت وإستقرار هذا الود في نفوسهم، وإنهم يرجون أذى المسلمين، سواء جاء هذا الأذى منهم أو من غيرهم، وإتخاذ المسلمين بطانة من غير المسلمين، وباب ينفذ منه هؤلاء ووسيلة لبث السموم وروح الشك والريب في مبادئ الإسلام، وقد ورد عن ابن عباس في الآية “تمنوا أن يعنتوكم في دينكم أي يحملونكم على المشقة فيه”( ).
لقد أراد الله عز وجل شكر المسلمين على حسن إختيارهم الإسلام، فأنعم عليهم بهذه الآية الكريمة لتكون واقية من المشقة والأذى، وحرزاً من الفتنة والمكر السيء، وبرزخاً دون أسباب الإنشغال عما يضر المسلمين في عباداتهم.
وفيه حجة ودعوة للمسلمين للتفقه في الدين، وهو شاهد على نزول القرآن من عند الله تعالى لما فيه من إظهار للنوايا والعزائم، وبيان للرغائب والأماني المتباينة، ورحمة الله بالمسلمين في إجتناب إستبطان من يتمنى إلحاق الضرر بهم أفراداً وجماعات وأمة.
وهل في الآية دعوة لغير المسلمين بالكف عن تمني لحوق الضرر بالمسلمين، الجواب نعم، وهذه الدعوة مركبة من وجوه:
الأول: فضح النوايا السيئة.
الثاني: دلالة الآية على إضرار هذا الود بأهله، فاذا كانت طائفة من أهل الكتاب والكفار يودون لحوق الضرر بالمسلمين، فقد جاءت هذه الآية لتلحق الضرر بهم بفضحهم، ومنعهم من بلوغ مرتبة البطانة للمسلمين.
الثالث: في الآية توبيخ وتبكيت للذين يودون أن تأتي المشقة والغدر للمسلمين، ودعوة للرجوع إلى النفس ولومها على هذا الود القبيح.
الرابع: تمنع الآية من إستمرار النفاق بفضح مخادعتهم والحيلولة دون تأثيرها قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
فالآية محل البحث من مصاديق الآية أعلاه، لما فيها من كشف لخفايا النفوس ولوم وإخبار بأن الرغبةبلحوق الضرربالمسلمين لن يضر إلا أصحابها
الخامس: دعوة الناس لدخول الإسلام لوجوه:
الأول: ما في هذه الآية من الإعجاز بمجيئها بخطاب التشريف للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مع النهي عن إتخاذ البطانة من غيرهم.
الثاني: ما في الآية من الإشارة إلى علو شأن المسلمين، وحاجتهم إلى إتخاذ الوليجة والخاصة، وأثر وموضوعية الوليجة في القرار والفعل الذي يقوم به المسلمون، وفيه إشارة إلى تعدد وظائف المسلمين، فجاءت الآية لحجب مقدمات المشقة والأذى.
الثالث: دلالة الآية على نزولها من عند الله، لأن الكتابي والكافر يدرك أن الآية تخبر عما في نفسه، وإن لم يكن هو نفسه يود الضرر والأذى بالمسلمين فانه يعرف من أصحابه من يضمر ويعلن البغض والحسد للمسلمين، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ).
ومن يستهزأ بالمسلمين كيف يكون بطانة ووليجة لهم، فجاءت الآية للزجر عن الإستهزاء بالمسلمين والإخبار عن خيبة وخسارة من يستهزء بالمسلمين ويريد بهم السوء والشر.
والآية دليل على أن الدنيا دار جهاد وصبر يتوجه فيها الأذى إلى المؤمنين من الناس حسداً وعداوة، ولكن المؤمنين ليسوا وحدهم في مواجهة الأعداء وأذاهم، فالله عز وجل ناصرهم، ومن يكون الله تعالى ناصره فلن يغلبه غيره.
وهذه الآية من مصاديق نصرة الله تعالى للمسلمين بفضح عدوهم وجعلهم يحذرون منه، وفيها دعوة للمسلمين للإستعانة بالله تعالى والإستجارة بالقرآن وأحكامه.
الرابع: في الآية دعوة للناس لدخول الإسلام سواء الذين يودون العنت والمشقة للمسلمين أو غيرهم، وترغيب بنيل منازل التشريف والإكرام بدخول الإسلام وتلقي آيات الإرشاد والتعليم.
وهذا من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية لتوبيخ وذم قوم من غير المسلمين فتكون دعوة لهم ليس فقط للكف عن المسلمين، بل تكون هي وموضوعها مناسبة وترغيباً لهم بدخول الإسلام وحجة عليهم، و تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، ليعم الصلاح الأرض، وتتخلص النفوس من الكدورات الظلمانية وتجتنب الأخلاق المذمومة التي تؤدي بها إلى الحرمان من الجاه والشأن في الدنيا، وتكون سبباً لعذابهم في الآخرة.
فهذه الآية وما فيها من النهي والتوبيخ غير منفصلة عما في القرآن من الوعد والوعيد، الوعد للمسلمين بالثواب لتقيدهم بأحكام النهي في الآية، والوعيد بالعذاب للذين يودون المشقة والضرر بالمسلمين.
ومن شرائط البطانة ان تحب للمستبطِن الخير والعز والظفر، ويكون إستبطانها سبباً لنزول البركة والرحمة ومقدمة للصلاح والهداية والفلاح، والكفار لا يحبون المسلمين، فجاءت الآية لحجب الذين يبغضون المسلمين عن منازل البطانة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في طرفيها، فالذين كفروا يودون المشقة للمسلمين في أمورهم العامة والخاصة، وفي ساحة القتال، وفي التجارات والزراعات، وشيوع أسباب الفرقة والطائفية بينهم، وتعدد الولاءات وتشعبها لأن فيه ضعف للمسلمين، وإتخاذهم بطانة مناسبة لبث أسباب الفتنة بين المسلمين، فجاءت الآية عامة في خطابها لكل مسلم ومسلمة لدرء أسباب المشقة والعناء وتبين الآية لزوم إختيار البطانة الصالحة.
قانون ودّوا ما عنتم
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداًَ صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، وبعد طرو التحريف على الكتب السابقة، والتهاون والتفريط في الأحكام، فأنعم الله تعالى على الناس بالقرآن معجزة عقلية متجددة ممتنعة عن التحريف، وفيها بيان لأحكام الحلال والحرام، فآمن به أهل بيته والصحابة من المهاجرين والأنصار، وهم قليل بلحاظ مواجهة أهل الملل الأخرى للإسلام والمسلمين، ولكن الله تعالى نصر المسلمين وأظهر دولة الإسلام بآية إعجازية فالمتتبع للتأريخ يجد الإعجاز جلياً بنصرة الإسلام، وعلى فرض وجود موضوعية للسيف في إنتشاره ففيه وجوه:
الأول: لم تكن للسيف موضوعية في بداية الإسلام ودخول كبار الصحابة له في مكة والمدينة.
الثاني: كان السيف موجهاً للمسلمين في بداية الإسلام، إذ كانوا مستضعفين يتلقون الأذى من صناديد قريش ويعانون مشقة التعذيب من مشركي مكة، وقد أبدلهم الله تعالى بنعمة التحذير من الذين يودون مشقتهم، أي بعد أن كان المسلمون الأوائل يتلقون التعذيب والمشقة وهم صابرون، أصبحوا في منازل العز والحكم بحيث تحذرهم هذه الآية من إتخاذ بطانة من دونهم.
وهل في الآية تذكير بالتعدي والظلم الذي كان يزاوله ضدهم كبار المشركين، الجواب نعم، لكي يشكر المسلمون الله تعالى على نعمة العز والسلامة من العذاب ويكونوا على حذر من القوم الكافرين.
الثالث: إحاطة دول كبرى آنذاك ذات قوى ومنعة بالمسلمين، فكان المسلمون إذا دخلوا معركة يستأجروا أو يستعيروا السيوف والعدة، وتلك الدول في عدة وجيوش كبيرة مثل الدولة الرومانية والفارسية، واللتين تحيطان المسلمين من الغرب والشرق، وكل واحدة منهما لا تريد للإسلام الظهور والإنتشار، وهما مع العداوة بينهما يمكن أن يتحدا لإجهاض ووأد دولة الإسلام، لولا الفضل والعناية الإلهية بالمسلمين.
الرابع: مجيء هذه الآية مدداً وعوناً للمسلمين في حال الحرب والسلم، وفيها توفير للمؤونة والجهد وطرد للمشقة عن المسلمين بأمر سهل ويسير، وهو إجتناب إتخاذ غيرهم بطانة لهم.
وفي الآية بيان لقانون ثابت وهو ود طائفة من غير المسلمين لحوق الضرر والمشقة بالمسلمين، ولا ينحصر موضوع الآية بأيام التنزيل، ولا مسألة البطانة، بل هو كيفية نفسانية مستقرة في قلوب هؤلاء يتوارثونها جيلاً بعد جيل تظهر على أفواههم وفي أعمالهم كما يدل عليه الشطر التالي من الآية [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ].
وهذه الإستدامة في الماهيات وأحوال الناس من الإعجاز في الأوامر والنواهي القرآنية، وما في القرآن من المواعظ ولغة التوبيخ والتبكيت، إذ يطارد التوبيخ القرآني أعداء الإسلام بصيغة اللوم والتحذير والزجر عن الإقامة على المعصية والتعدي على المسلمين.
ومن إعجاز الآية بقاء المسلمين في حال يقظة وحيطة وحذر من غيرهم، وحال الحذر هذه من أهم أسباب دوام الدولة، وبقائها قوية منيعة، إذ أن التفريط والتهاون وإيكال إدارة الأمور إلى الغير، والإنصات لرأيه سبب لبعث الضعف والوهن في الدولة، ومناسبة لنفاذ الآخرين إلى منازل صنع القرار، فاذا كانوا يودون المشقة والضرر لمن إستبطنهم فانهم يجلبون له الشر والأذى ويعملون على إضعاف الدولة، والإسلام ليس دولة فحسب بل هو عقيدة وأحكام شرعية تتغشى ميادين الحياة كلها، وأفعال المكلفين رجالاً ونساء، ومقدمات هذه الأفعال وإختيار البطانة من تلك الأفعال.
فجاء إكرام المسلمين بتحذير نازل من السماء وحكم يفيد القطع والنص الجلي والبيان الخالي من اللبس والترديد سواء في موضوعه أو جهته، ويتصف هذا الحكم بالوضوح الذي يعيه ويفقهه كل مسلم ومسلمة بمجرد سماعه بلغة القرآن أو بترجمته إلى لغة المكلف من غير المسلمين خصوصاً وان حاجة المسلمين لهذه الآية في البلاد التي يكثر فيها أهل املل والنحل أكثر من حاجة المسلمين لها في بلاد المسلمين.
فالإبتلاء في هذه المسألة شامل لبلدان المسلمين وغيرها، وفيه دعوة للحذر ودفع الأذى عن المسلمين والإسلام بإجتناب البطانة من غيرهم، ومن الآيات عدم ترتيب المسلمين الأثر والعقوبة على ود الكافرين الإضرار بهم، مع إدراكهم وقطعهم بان مضامين هذه الآية قانون ثابت، وان الآية تخبر عن جزء علة يمنع من بلوغ الذين كفروا مراتب البطانة للمسلمين، لأن المسلمين منزهون عن التعدي ولا يؤاخذون الناس بما في نفوسهم من البغض والكراهية فمدار الجزاء على الأفعال.
ولكن الآية تحذر المسلمين من تقريب هؤلاء وودهم، وهو نوع عقوبة على أختيار الكفر وإعراض عنهم وتوكيد عملي لقبح حب الضرر بالمسلمين وليس من أمة تعلم وتستطيع عدم تعيين الذين يودون لها الضرر والمشقة إلا المسلمين، بما أخبرهم الله تعالى به في هذه الآية وهو من وجوه تفضيل المسلمين وتأهليهم للخروج للناس ودعوتهم إلى الإيمان بالحكمة والموعظة الحسنة.
وتبعث هذه الآية المسلمين على إستحضار العلوم النظرية والعملية المكتسبة من العلوم الضرورية التي جاءت في القرآن بإعتباره حقاًَ وصدقاًًَ وفيه شاهد على الحاجة النوعية العامة إلى علوم القرآن لإدراك المعقولات الأولية وهي البديهية والضرورية، والمعقولات الثانية أي المكتسبة، فيأتي شطر من آية قرآنية بقانون ثابت يكون حصناً للمسلمين يقتبسون منه الدروس، ويستنبطون منه الأحكام، ويتخذونه سلاحاً وواقية وأصلاً للتمييز في المعاملات والصلات، لتلحق هذه الآية الضرر بمن يريد السوء بالمسلمين بحجب النفع عنه، وعزله عن شؤون المسلمين وحرمانه من البركات في العمل معهم.
وهل يصاب المسلمون بالعنت والمشقة من وجوه:
الأول: ود طائفة من أهل الكفار المشقة وأذى المسلمين.
الثاني: إتخاذ المسلمين بطانة وخاصة من غيرهم، الذين حذرت منهم الآية، أو يقعون تحت تأثيرهم فيأتي الأذى والضرر للمسلمين بالواسطة وعند إتخاذ المسلمين لإخوانهم وأبناء ملتهم بطانة وخاصة.
الثالث: مجيء الضرر للمسلمين من دون أن يوده ويرغب به هؤلاء، خصوصاً مع كون الضرر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الرابع: مجيء الضرر للمسلمين من إستبطان هؤلاء، ومن موارد أخرى عدا البطانة والخاصة لأن حبهم للإضرار بالمسلمين لا ينحصر بموضوع البطانة على نحو الخصوص بل هو أمر قائم بذاته، والجواب أن الود وحده لا يترتب عليه أثر مادي، ولا يجلب نفعاً لأهله ولا ضرراًَ على المسلمين، وهو سبب لحصول الإثم والضرر بأهله لما فيه من سوء السريرة، ومقابلة التنزيل والنبوة وأتباع خاتم النبيين بالجفاء والبغضاء ورجاء الإضرار بهم وبالإسلام.
وجاءت هذه الآية لوقاية المسلمين من أسباب النفرة والكراهية، والسلامة من المكر والكيد، فمن يرد ضررك لا يتوانى في إيذائك عندما تأتي الفرصة المؤاتية له.
والآية شاهد على منعة المسلمين وعدم صيرورة الود بضررهم حقيقة وفعلاً خارجياً، ليتحول هذا الود إلى حسرة وندامة في نفوس أصحابه حينما يرون المسلمين في إرتقاء متصل، وفي حذر دائم بمدد سماوي، وليس من أمة تستطيع أن تغلب من يكون مدده من عند الله وأنعم عليه بعلوم من الغيب، وكشف ما في الصدور لتنمية ملكة الفطنة عند المسلمين.
وإعانتهم في الثبات على الإيمان والإنقطاع إلى عبادة الله تعالى وإستحضار آياته في نصرهم وعزهم ووقايتهم من الكيد والمكر.
علم المناسبة
ورد لفظ “ودوا” أربع مرات في القرآن، وكلها تعود لغير المسلمين والكفار وتتعلق بحبهم للحوق الأذى والضرر بالمسلمين،وهذا التعدد في ذات اللفظ مع حصر موضوعه ومتعلقه آية إعجازية في موضوعات آيات القرآن والترابط والإتصال بين سوره وهذه هي أول آية في ترتيب القرآن يذكر فيها لفظ “ودّوا” وورد لفظ “ود” مرتين في القرآن وإحداهما في فريق من أهل الكتاب والأخرى في الذين كفروا تذكران ودهما إصابة المسلمين بالغفلة والصدودقال تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا]( ).
لقد جاءت الآية محل البحث بذكر حب الكفارالمشقة والعناء للمسلمين، أما الآيات الثلاث الأخرى التي ورد فيها لفظ “ودّوا” فهي الأولى : قوله تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] ( ).
وفيها بيان لما يتمناه الكفار والمنافقون من إرتداد بعض المسلمين ليكونوا مثلهم متخلفين ومحرومين من الوظائف العبادية ومفاهيم الإيمان.
الثانية: قوله تعالى [وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ]( )، وجاءت الآية في تحذير المسلمين ومنعهم من مودة ومناصحة الذين كفروا، [تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ]( )، فأخبرت بأنهم يسعون في قتال وشتم المسلمين، ويحبون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ويكفروا بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
الثالثة: قوله تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ *وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ]( ).
لقد أراد الكفار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يلين لهم ويصانعهم، ومنه ما تبينه سورة الكافرون وكيف أنهم أرادوه أن يعبد الله مدة ويعبد آلهتهم مدة أخرى.
فاذا كان هؤلاء يريدون من المسلمين المداهنة والمصنعة والتهاون في الإمتثال للأوامر الشرعية، ويتمنون كفر وإرتداد المسلمين، فكيف يصح إتخاذ المسلمين لهم بطانة وخاصة، ومن شرائط البطانة النصيحة وحب الخير للمستبطِن، وهي معدومة عند الذين كفروا، وفي بدايات الإسلام شواهد عديدة مما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين والكفار، وسعيهم للإضرار بالمسلمين لولا تفضل الله تعالى بإنزال آيات قرآنية تفضح فعلهم وتفوت عليهم فرصة المكر والكيد.
وقد ينزل جبرئيل بإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي بنوايا المنافقين والكفار مما كان سبباً في زيادة إيمان المسلمين، وإصابة الكفار بالفزع والخيبة والخسران.
وكما ورد لفظ “ودوّا” في القرآن أربع مرات، فقد وردت مادة “عنت” خمس مرات، منها ثلاثة بلفظ “عنتم” واحدة منها الآية محل البحث “ودوّا ما عنتم” أما الإثنتان الأخريان فهما:
الأولى: قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ]( )، أي يشق على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يصيب المسلمين من الأذى وما يلاقونه من المكروه لأنه منهم، وهو يخشى على المسلمين من المشقة ولحوق الأذى بهم، فجاءت الآية محل البحث رأفة من الله تعالى بنبيه وبالمسلمين، ولتبعث السكينة في قلوبهم، وتحذرهم من سوء العاقبة والضرر الذي ينتج من إتخاذ الكفار بطانة ووليجة.
الثانية: قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ]( )، وفيه بيان لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للوحي والتنزيل، وعدم أخذه بالأقوال والآراء التي تصدر عن الهوى أو التي تؤدي إلى المشقة والعنت والهلاك، ليكون عدم إتباعه لهم تأديباً لهم، وشاهداً على وجوب إتباعه لهم، ودليلاً على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يحكم بالحق، ولا يرضى بلحوق الأذى بأحد من غير حق، لذا جاءت الآية محل البحث بمنع إصابة المسلمين بالضرر والأذى بإحترازهم من أسبابه ومقدماته.
وفي الجمع بين الآيتين شاهد على موضوعية السنة النبوية الشريفة في دفع العنت والضرر عن المسلمين.
لقد بعث الله تعالى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، وهذه الآية من مصاديق الرحمة الإلهية في إنقاذ المسلمين من العنت والمشقة والهلاك بالتحذير من تهيئة السبب الذي يكون فيه حب ومودة الذين كفروا مادة وموضوعاً للإضرار بالمسلمين.
قانون البطانة والصبر
أصل الصبر هو الحبس، وفي إصطلاح الكلام هو مقاومة النفس للهوى ومنعها من الإنقياد للذات، وجاءت هذه الآية لتنقيح مجتمعات وأفعال المسلمين من الأضرار التي تنتج عن إختيار بطانة لهم من غيرهم، ويأتي هذا الإختيار أحياناً عن مودة وميل من المسلمين لهؤلاء، ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن أن تأتي الآية التالية بقوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ]( ).
لبيان أن المسلمين على حق، و أن الكفار يبغضون المسلمين، لأن المسلمين يؤمنون بكل الكتب السماوية المنزلة، ويقرون بالأنبياء جميعاً، فجاءت هذه الآية لتدعو المسلمين إلى الصبر وحبس النفس عن الهوى في المعاملة والود مع الناس، وأن يكون الود والحب في الله وللّه وبالله.
والصبر من مقامات الصالحين، ويحتاج معارف وعلوماً كسبية، وحالاً من الورع والتقوى، ولا ينحصر موضوعه بالصبر عند المصيبة بل يشمل التقيد بالأوامر والنواهي القرآنية، والتي يكون كل فرد منها تنمية لملكة الصبر وبرزخاً دون غلبة الهوى على النفس.
ومن الآيات أن الإسلام مدرسة الصبر، وتأتي الآية القرآنية لتكون موضوعاً للصبر الشخصي والنوعي، إذ انها إمام ومعلم وناصح لكل مسلم ومسلمة، ولهم جميعاً متحدين ومتفرقين، وليس من مدرسة تتسع وتستطيع شمول العدد اللامتناهي من المسلمين لإصلاحهم وإرشادهم إلى سنن الصبر إلا الإسلام وأحكام القرآن، فآية واحدة منه تؤسس قانوناً ثابتاً إلى يوم القيامة، يبعث على الصبر والرضا بالصبر، والإمتناع عن الهوى، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “الصبر ثلاثة فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية”( ).
وجاءت هذه الآية لتشمل الوجوه الثلاثة أعلاه، فهي على وجوه:
الأول: تدفع الآية وقوع المصيبة عند المسلمين، ونزول الضرر والعذاب بهم بسبب البطانة السيئة الماكرة، لذا جاءت هذه الآية بالإنذار من المشقة بقوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ].
الثاني: التقيد بأحكام هذه الآية من الصبر على طاعة الله تعالى وإجتناب ما نهى عنه وإختيار البطانة والخاصة من الذين كفروا.
الثالث: لقد أراد الله تعالى للمسلمين في هذه الآية الصبر عن المعصية التي يدعو لها الذين كفروا من منازل البطانة أو من خارجها، فقد تكون البطانة الكافرة واسطة لنقل وفعل ما يريده كبراء أهل الكفر والضلالة، فجاءت هذه الآية لتنقيح أفعال المسلمين من أدران المعصية، والصبر عن إتباع الهوى وإختيار بطانة السوء من مصاديق التقوى والصلاح، والإمتناع عن المعاصي والسيئات.
ومن نعم الله تعالى على المسلمين في باب الصبر أن تأتي هذه الآية لتكون مانعاً من فقدانهم ملكة الصبر، وطرو الإغراء بالمعاصي عليهم من البطانة السيئة، فقد جعل الله تعالى الإنسان متأثراً ومنفعلاً بغيره وما حوله، وقد يصبر المسلم أزاء البطانة السيئة ويمتنع عن الإنصياع لها، ولما تأتي به من الميل إلى الهوى، والتفريط بالأحكام والواجبات لكن هذا الصبر لا يستمر ولا يدوم أمام إلحاح ومكر تلك البطانة، وتبدل وسائلها وإختيارها لما يلائم المزاج والهوى.
فجاءت هذه الآية لمنع مداهمة الهوى للنفس ومعارضته للصبر، بأن قطعت المعارضة من الأصل، ومنعت من وصول الكفار إلى مقامات مداعبة النفس الشهوية والغضبية.
والآية شاهد على ان ما عند المسلمين من الصبر هو بفضل ولطف من الله تعالى، لذا فهو مصاحب لهم، لا ينفك عنهم، وما دامت الأمة تتحلى بمفاهيم الصبر وتحرص على ملازمته لها في أفعالها فانها لن تُقهر ولن تُغلب وليس من باب من أبواب الحياة إلا ويهدي القرآن فيه المسلمين إلى الصبر وقد نجح المسلمون في تعاهد منازل الصبر في ميادين القتال وإتخذوه سلاحاً، وميادين القتال هي أشق وأصعب المنازل، مما يسّر للمسلمين التوفيق في التحلي بالصبر في الميادين الأخرى وحال المسلم، ومنها موضوع البطانة، خصوصاً وأن موضوعها يتعلق بمقدمات البطانة وإختيارها وإجتناب إختيار بطانة السوء.
وفي الآية شاهد على موضوعية الصبر في الخيار والتعيين ومنازل الأفراد والجماعات، وجعل الموضوعية فيها للإيمان والصلاح من مصاديق الصبر والتغلب على الهوى.
ومنافع الصبر في المقام أكثر من ان تحصى، ففيه دفع للفتنة والعذاب، وتخفيف عن المسلمين في باب الجهاد والقتال، بإجتناب البطانة السيئة وإستدراجها للمسلمين في مسالك الضرر والأذى، وقيل ان النفس بطبعها تشتهي التقهر والكبرياء فتأتي البطانة الصالحة لتنمي هذا الطبع، وتجعل الإنسان يتعالى على الآخرين بغير حق.
فجاءت هذه الآية لتقذف في نفس المسلم نوراً وضياء يرى من خلاله مكر أهل الضلالة فيجتنبه ويكون عوناً له لرؤية الأشياء على حقيقتها بعين البصر من غير تفريط ولا تهويل ولا مبالغة ويحرص على أن يدني من يدعوه إلى فعل الواجب، ويذكره بلزوم طاعة الله، ويصرفه عن السوء والمنكر، وقد جعل الله تعالى فريضة الصيام مدرسة في الصبر تتجدد كل سنة وتشمل المكلفين من المسلمين ذكوراً وإناثاً، فان قيل عند المسلمين ملكة الصبر وهي وحدها كافية لإجتناب البطانة السيئة فلماذا هذه الآية والجواب من وجوه:
الأول: ان ملكة الصبر من الأمور الكسبية وجاءت بفضل الله تعالى بحث المسلمين على الصبر، والإعتصام بالقرآن والسنة وإعانتهم على مواجهة المشاق والضرر.
الثاني: ان ملكة الصبر لا تكفي وحدها لتعيين الموضوعات التي يستلزم فيها الصبر، بل تكون حاضرة ولها موضوعية في تلك المواضيع.
الثالث: جاءت هذه الآية لطفاً وفضلاً من عند الله للتنبيه على موضوع يستلزم الصبر.
الرابع: أحكام هذه الآية وما فيها من النهي عن البطانة السيئة أعم من الصبر، من وجوه:
الأول: إنه جهاد مع النفس، ومنع من غلبة الهوى، أو إتباع من يريد لها الإنقياد إلى الهوى والشهوة.
الثاني: في الآية دعوة للإعراض عن الكفار في باب البطانة ونحوها مما يكون فيه تأُثير لهم على المسلمين.
الثالث: في النهي الوارد في الآية مقدمة لتعاهد أحكام الشريعة الإسلامية.
الرابع: الآية عون للمسلمين في منازل الصبر وتنمية لملكة الصبر، ومنع من الجزع والندامة، وتتضمن الآية بالدلالة الإلتزامية البشارة للمسلمين بالعز والشأن العظيم الذي يجعلون معه بطانة لهم مع موضوعية تلك البطانة وأثرها بلحاظ المسؤوليات العظيمة للمسلمين.
فجاءت هذه الآية لإعداد المسلمين لتلك المسؤوليات ومنع الكفار والمنافقين من منع المسلمين من التنعم بفضل الله وقطف ثمار النصر وأسباب الظفر.
لقد جاهد المسلمون الأوائل وقدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، لكي تؤدي الأجيال اللاحقة من المسلمين مناسك العبادة بأمن وسلام ومن غير تعدِ عليهم وعلى الإسلام.
ومن معاني هذه الآية التخفيف عن المسلمين في باب المشورة والبطانة بالتحلي بالصبر والتقوى عند إختيار البطانة، وقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن عدم حب الله تعالى للكفار والظالمين، قال سبحانه [فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( )، [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ) وقال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]( ).
فجاءت هذه الآية لمنع إستحواذ الكفار على منازل البطانة والمشورة والإطلاع على أسرار المسلمين، وهي حرب على الفساد والخبال، وتنزيه للمسلمين من الكدورات الظلمانية التي تتعقب الإختيار الخاطئ.
بحث عقائدي
جاءت الآية بوصف حال غير المسلمين الذين نهت عن إتخاذهم بطانة وإبتدأت ببيان عدم تقصيرهم في إلحاق الفساد والنقص بالمسلمين فلم تقدم الآية حبهم إصابة المسلمين بالعنت والمشقة، او إظهارهم الكره والعداوة للمسلمين، او بإخفاء صدورهم الحسد والعداوة للمسلمين، بل إبتدأت بقوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] لأنه الفرد الأهم من بين أفراد علة النهي لتعلقه بأقوال وأفعال المسلمين، فقوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] كيفية نفسانية ورغبة بلحوق الأذى والمشقة بالمسلمين، يترجل إلى الخارج وعالم الأفعال عند حصول الفرصة المؤاتية لهم، ومنها إتخاذهم بطانة وخاصة، أما قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] فيدل على إقامتهم ومواصلتهم السعي لإفساد أحوال المسلمين سواء من منازل البطانة أو بدونها مما يستلزم الحذر الزائد، وتلك آية إعجازية في القرآن بأن يبين الفرد الأهم في العلة قبل المهم، لأن الغرض هو تأديب المسلمين وإعانتهم على التفقه في أحكام الشريعة وتعاهدها، ومنع نفاذ أعداء الإسلام إلى منازل الإطلاع، على ما يكون سبباً للفتنة والأذى، ومقدمة لإلحاق الضرر بالمسلمين.
ومن معاني الآية وتقديم قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] دعوة المسلمين إلى إجتناب الفساد والنقص عندهم، وإخبارهم بان الخبال أمر مذموم يريده الأعداء لهم، ويجب أن لا يشمتوا الأعداء بهم، ويحولوا دون تفشي الفساد بينهم.
فجاءت الآية في موضوع البطانة ولكنها واقية من الفساد، وبرزخ دون حصوله حتى في حال عدم إتخاذ الذين كفروا بطانة وهو من إعجاز الآية بان تأتي في أمر خاص ولكنها دعوة للصلاح والوقاية مما هو أعم.
كما تبين الآية سلامة ونزاهة المسلمين من الفساد فلو كان الفساد منتشراً وشائعاً عندهم لما سعى الكفار لإحداثه عند المسلمين وبذلوا الوسع في إيجاده، فالآية الكريمة دعوة للمسلمين لتعاهد منازل الصلاح والتقوى وهذا التعاهد باب لجذب غير المسلمين للإسلام، فمنهم من يرجو الفساد عند المسلمين، ولكنه حينما يرى حال المسلمين وما هم عليه من الصلاح وإمتناعهم عن الفساد، وثباتهم على الهداية والرشاد، فانه يميل اليهم، ويدرك انهم خير أمة أخرجت للناس.
خصوصاً وان هذا الثبات بعناية وعطف من الله تعالى ومنه هذه الآية الكريمة التي جاءت بخصوص البطانة لتنزه المسلمين من الفساد وتبين لهم قبحه الذاتي والعرضي، وان الأعداء لا يكتفون بمهاجمة المسلمين بالسيف، بل يواصلون الهجوم بنشر الفساد بين المسلمين، وقد يكون هذا السلاح أمضى وأكثر ضرراَ، فجاءت هذه الآية حرزاً منه، ووسيلة مباركة لنجوى المسلمين بدفع الفساد ومنع وقوعه بينهم، وجعلهم يتوقون من الفساد، ولا تكون الوقاية منه الا بالتقيد التام بأحكام الحلال والحرام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
لقد أراد الكفار للمسلمين الفساد فانعم الله تعالى عليهم بالإحتراز منه ليس في باب البطانة وحدها بل بمنع مقدماته وأسبابه وبالتفقه في الدين، ومعرفة مصاديق الصلاح وتعاهدها، ومصاديق الفساد وإجتنابها، ويفيد الجمع بين قوله تعالى في أول الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وبين قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] النفاذ والتنافي بين الإيمان والخبال، فهما ضدان لا يصح إجتماعهما معاً في موضوع ووقت واحد، ولما نال المسلمون مرتبة الإيمان، وجاءت الآية الكريمة بمدحهم والثناء عليهم.
بحث بلاغي
من ضروب البديع “الإدماج” وهو قيام المتكلم بإدماج غرض في غرض أو بديع في بديع، فإبتدأت هذه الآية بنهي المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم، وجاءت بأغراض أخرى منها:
الأولى: تخلف الذين كفروا عن منازل البطانة وما تستلزمه من الأخلاق الحميدة والنصح والأمانة والصدق، وحب الخير للمستبطِن.
الثاني: الحذر واليقظة من حصول الفساد في أفعال المسلمين وشيوع الخبال والنقص عندهم.
الثالث: حب الذين كفروا نزول الضرر بالمسلمين.
الرابع: أن الذين كفروا يكرهون المسلمين لإسلامهم، وليس لأمور شخصية، أو أسباب تجارية أو قبلية، وفيه دعوة للمسلمين للتآخي والإتحاد والتمسك بالقرآن، ومنع نفاذ الأعداء إلى صفوفهم، وإطلاعهم على عورات المسلمين.
الخامس: حث المسلمين على الإلتفات لما يصدر من الكفار من أقوال يقصدون بها الإساءة إلى الإسلام والمسلمين والتصدي لها وفضحها ، وإن جاءت بصيغة الكناية والتلميح،.
السادس: إخبار المسلمين عما تضمره صدور الكفار من الغيض والحسد للمسلمين.
السابع: تبعث خاتمة الآية المسلمين على توظيف العقل والنظر بعين جلب المصالح، ودرأ المفاسد، ومن مصاديقها إجتناب إختيار خاصة ووليجة من غير المسلمين.
وقبل أن يهّم الكفار بالسعي للإضرار بالمسلمين في باب البطانة جاءت هذه الآية واقية للمسلمين مع بيان عداوتهم للمسلمين، بما يجعل المسلمين في يقظة وحذر ودائم من الكفار، لذا أختتمت الآية الكريمة بقوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] فمن أغراض هذه الآية عدم إكتفاء المسلمين بإجتناب الكفار في باب البطانة بل إنهم يكونون في حذر دائم منهم، وعلة هذا الحذر الخشية على الإسلام، ودفع الضرر عن المسلمين عامة، ليكون هذا الحذر فعلاً عبادياً ينال به المسلمون الثواب والأجر.
بحث بلاغي عقائدي
من وجوه البديع “الإئتلاف اللفظي” بأن تلائم الألفاظ الذي يأتي بها المتكلم بعضها بعضاً بلحاظ الموضوع والمناسبة والجوار، وأنفردت هذه الآية من بين آيات القرآن بذكر لفظ “الخبال” وفيه زيادة في تحذير المسلمين من الكفار في موضوع البطانة خاصة، إذ تنفر النفوس حينما تسمع بالخبال، ويسعى الإنسان لإجتنابه بالقول والفعل وتوكيد التنزه منه، ومن ظهوره على الجوارح أو في اللسان.
فجاءت الآية لتبين للمسلمين عدم تحصيل إجتنابه إلا بالإبتعاد التام عن إستبطان غير المسلمين من الذين يرومون إيذاء المسلمين وإلحاق الضرر بهم، ويأتي الإئتلاف من وجوه:
• الوجه الأول: إبتداء الآية بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] للدلالة على ان البطانة من المسلمين غير منهي عنها ، ولا تشملها مضامين الآية الكريمة، فيتخذ المسلم بطانة من المسلمين وقد تقصّر تلك البطانة في وظائفها فجاءت صيغة العموم في الخطاب التكليفي والنهي الوارد فيها للدلالة على عدم شمول البطانة المسلمة بالنهي، فمن إعجاز الآية أن يأتي الخطاب فيها ليكون إكراماً مركباً من وجوه:
الأول: وصف المسلمين بالإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني: إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوصف الذين صدّقوا بنبوته وإتبعوه هم المؤمنون، وهذا لا يتعارض مع شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب.
الثالث: إنحلال الخطاب بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة وهو تشريف وإكرام إضافي إذ يلتقي المتأخر من المسلمين مع المتقدم منهم في تلقي التكليف والمبادرة إلى الإمتثال له، ونيل الثواب عليه وفيه وجوه:
الأول: ثواب المتقدم من المسلمين من إمتثاله.
الثاني: ثواب المتأخر من المسلمين من إمتثاله.
الثالث: لحوق الثواب للمتقدم بفعل وإمتثال المتأخر لمحاكاته له وتلقي ماهية الإمتثال للنهي القرآني وراثة، ولأن الآباء يثابون بأداء الأبناء للعبادات.
الرابع: مجيء الأجر للمتأخر بدعاء المتقدم له.
الرابع: تعيين الجهة التي ينهى الله تعالى عن إتخاذها بطانة وخاصة بقيد “من دونكم” وفيه تشريف إضافي للمسلمين، بان من هو أدنى وأقل منكم لا يصلح لتولي وظائف الخاصة والبطانة.
الخامس: جاء النهي عن البطانة من غير المسلمين، ليفيد النهي من باب الأولوية القطعية عن كل من:
الأول: إتخاذ المسلمين الكفار أولياء ، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثاني: إجتناب الركون للكفار والظالمين ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
السادس: في الخطاب الإلهي للمسلمين بصفة الإيمان ندب لهم للإمتثال الأحسن لمضامين الآية، وتلقي أحكامها كأمانة عقائدية بأن لا يجعلوا لهم بطانة من غيرهم، وتلك آية تدل على أهلية المسلمين للمدح وإتخاذهم له وسيلة للثبات في مقامات العبودية ، وإخلاص الطاعة لله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الوجه الثاني: تعقب العلة للنهي، ومجيؤها بصيغة النفي [لاَ يَأْلُونَكُمْ] بعد ان جاء النهي بلفظ [لاَ تَتَّخِذُوا] فيأتلف لفظ “لا” في المقام وان كانت في الأولى ناهية، وفي الثانية نافية، ويقابل النهي النفي فيمحقه، أي انهم لا يقصرون في إفساد أمر المسلمين فيأتي النهي عن إتخاذهم بطانة ليحول دون إضرارهم بالمسلمين.
ومن الآيات مجيء الآية بصيغة الجمع من الطرفين، فهم جميعاً يشتركون ويسعون في إفساد حال المسلمين مجتمعين ومتفرقين، الأمر الذي يستلزم حذر وحيطة المسلمين جميعاً.
الوجه الثالث: تعدد وجوه علة النهي وتعلقها بالقوم الكافرين للتوكيد على جهلهم وإصرارهم على الإضرار بالمسلمين، ويدل مجيء النهي من الله تعالى عن إتخاذهم بطانة على عدم إمكان إضرارهم بالمسلمين.
لذا فان الآية تبعث في قلوب الكفار اليأس من التعدي على المسلمين في باب البطانة، فما ان نزلت الآية حتى أصيب الكفار بالقنوط والحسرة، وأدركوا خسارتهم وعدم إمكان النفاذ إلى المسلمين من جهة البطانة والخاصة، لأن الآية نزلت كي يعمل بها المسلمون ويتعاهدوها بالتلاوة والتدبر والإمتثال العملي لمضامينها طاعة لله تعالى، وتسليماً وتصديقاً لما فيها من الثواب العظيم.
الوجه الخامس: مجيء الآية بلغة الخطاب للمسلمين إبتداء وإستدامة وخاتمة وهو فضل إلهي على المسلمين أن يكرمهم الله بالخطاب وبيان الآيات والأحكام، ويذكرهم بلزوم إستحضار العقل في معرفة منافع هذه الآية ، وما فيها من النهي وعلته ، وإدراك الأضرار التي تترشح عن إتخاذ الكفار بطانة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “التنكيت” وهو ذكر المتكلم الأمر دون غيره مما يشبهه لوجود راجح في المذكور، وجاءت الآية الكريمة بالتحذير من إتخاذ غير المسلمين بطانة مع ان مواضيع النهي من الدنو والركون لهم أعم وأكثر، ولكن إختصاص الآية بذكر البطانة دون غيرها فيه وجوه:
الأول: موضوعية مسألة البطانة والوليجة.
الثاني: لو لم تذكر البطانة في هذه الآية في القرآن لغفل شطر من المسلمين عن أهميتها، وتسامح بعضهم في إختيار البطانة من غير المسلمين.
الثالث: دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب البطانة والوليجة.
الرابع: حث المسلمين على الإنصات في باب الوليجة والخاصة وإتخاذ البطانة الصالحة في تعيين وإختيار البطانة والوليجة، فبعد نزول هذه الآية أصبح المسلمون يحرصون على عدم إختيار البطانة إلا بعد الإستشارة والتدقيق وإتخاذ سبيل الحكمة والرشاد في إختيار البطانة، فاذا قيل اذن لماذا البطانة في هذه الحال، ولماذا لا يكون هذا الطريق بديلاً عن البطانة، والجواب ان وظيفة وعمل البطانة والخاصة متعددة، وقد تكون يومية وفي البطانة الصالحة نوع تعضيد للمسلم في عمله، فهو يبذل الوسع في حسن إختيارها لتكون عوناً له.
الخامس: دعوة المسلمين للتوقي والحذر في المعاملات والعهود والعقود مع غيرهم بما يمنع من الجهالة والغرر، ويحول دون الغبن والضرر للمسلمين.
السادس: إجتناب المسلمين لتعيين غيرهم بطانة لهم برزخ دون طمعهم بما في أيدي المسلمين، ونفاذهم لمنابع القرار ، والإطلاع على أسرار المسلمين.
السابع: تبعث هذه الآية الفزع في قلوب الكفار والمشركين، وتبين لهم ان المسلمين ذوو منزلة رفيعة وشكيمة عالية ، وأنهم غير محتاجين لهم في باب البطانة والخاصة.
الثامن: تدل الآية على نهي المسلمين عن إتخاذ الكفار أولياء، وتمنع من تفويض المسلمين لأمورهم وشؤونهم الخاصة لوكلاء من غيرهم.
التاسع: تصاحب مضامين الآية المسلمين والمسلمات في حال الحضر والسفر، وحال السلم والرخاء والشدة وتملي عليهم التعاون بينهم، فهي من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، إذ انها تدل في مفهومها على إتخاذ البطانة والوليجة من الأخوة المؤمنين.
العاشر: تبعث الآية المسلمين على درء الفتن وأسباب الخصومة التي تحدث بينهم، وإتخاذ بطانة منهم يحتمل في المقام وجوهاً:
الأول: إثارة الفتنة وإيقاد الخلاف بين المسلمين.
الثاني: حجب المسلمين عن الصلح بوضع الشروط والقيود وتغذية روح الإستكبار والطمع والشح.
الثالث: قراءة العهود والمواثيق قراءة تؤدي إلى إستمرار الفتنة.
الرابع: المنع من اللقاء والإتصال بين الأطراف المتخاصمة، والحيلولة دون تجلي مفاهيم الأخوة والمودة في حل الخصومة.
أما البطانة الصالحة من المسلمين فانها تسعى لمنع الفتنة من أصلها، وتبذل الوسع لمنع غلبة النفس الغضبية والشهوية، وتجتهد في بيان حرمة القتال بين المسلمين وأضرار الحروب والنزاعات وتستحضر الآيات القرآنية التي تدعو إلى الصلح والوئام، وتنهى عن الظلم والجور، ويكون لهذا الإستحضار أثر ووقع عظيم عند الذي يستبطنها.
أما البطانة غير المسلمة فلا تستحضر آيات القرآن لأنها تكذب بالتنزيل، وكأن هذه الآية عقوبة تأديبية عاجلة للكفار بحرمانهم من مقامات البطانة بسبب تكذيبهم بالتنزيل ، وهي رحمة بالمسلمين لأنهم آمنوا بالتنزيل فأنعم الله تعالى عليهم بالهداية في موضوع البطانة وما شابهها من الأمور التي تستلزم الحذر والحيطة من غيرهم، من دون أن يكون في هذا الحذر ظلم لغير المسلمين لأنه نوع وقاية، وتصرف في الأمور الذاتية، والملك الخاص وجزء من قواعد السلطنة ، ودفع الأذى والضرر عن النفس والعرض والمال.
وهو من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، ببيان أمر وهو ان عدم مجيء الضرر من الكفار انما بسبب الواقية السماوية التي يتغشى الله تعالى بها المسلمين، ومنها هذه الآية الكريمة التي تدعو في مفهومها وعموماتها إلى توخي الحذر في مخالطة غير المسلمين.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “التعديد” وهو جعل الألفاظ والمواضيع المتعددة في نظم واحد، ويكون غالباً في الألفاظ المفردة كما في قوله تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ]( ).
وجاءت هذه الآية في بيان صفات غير المسلمين فيما يخص موضوع البطانة ، ومن الإعجاز في الآية انها لم تتعرض لأهل الكتاب والكفار بالذم، والتبكيت، بل ذكرت صفاتهم المذمومة فيما يخص موضوع البطانة والموانع الذاتية التي تحجبهم عن الإرتقاء لهذه المنزلة.
ومن وظائف الآية إحداث النفرة في نفوس المسلمين من موالاة الكفار، ومع هذا فانها لم تذكرهم بما عندهم من القبائح الذاتية، ولم تذمهم على كفرهم وجحودهم بالتنزيل، وتكذيبهم بالقرآن والذي جاء بآيات أخرى بل ذكرت الآية ما عند غير المسلمين من الخصال التي تؤدي إلى الإضرار بالمسلمين عند إتخاذهم الكفار وليجة وخاصة.
فجاءت الآية بالخطاب الصريح إلى المسلمين ثم بيان موضوعية الموضوع الذي نزلت فيه، وجاءت بصيغة النهي، فلم تقل الآية “يا ايها الذين آمنوا إتخذوا بطانة من بينكم” لتدل في مفهومها على المنع عن إتخاذ البطانة والوليجة من غيرهم فقد يأتي من يقول بعدم حجية مفهوم المخالفة، وان الأمر بالشيء لا يدل على النهي عن ضده، بمعنى أن الأمر بالبطانة من بين المسلمين لا يعني النهي عن البطانة من غيرهم.
فجاءت الآية صريحة بالمنع من البطانة من غير المسلمين لتمنع من التردد واللبس والتأويل المتعدد والمتباين، بالإضافة إلى أثر صيغة النهي في بعث النفرة من الأمر المنهي عنه على نحو التعيين، فهناك أمور أكبر تستدعي النفرة والحذر من الذين كفروا مثل الولاية والركون، وجاءت بها آيات ومنها ما ذكرها على نحو النهي مع بيان العلة ، لما فيها من البيان والدلالة قال الله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
كما جاءت بعض الآيات التي تنهى عن الولاية بالتقييد كما في قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( )، فجاءت الولاية في الآية مقيدة بقيد عدم الحاجة إلى التقية والخشية من الكفار وأسباب دفع شرهم وضررهم.
أما آية البطانة فجاء النهي فيها مطلقاً وغير مقيد بشيء، كما انها بينت علة النهي وأسبابه التي تخص الكفار أنفسهم وبصيغة الذم لهم بإعتبار ان البطانة نوع إكرام ، ومن يسعى في الإضرار بالمسلمين ودولتهم فلن يكرموه ويجازوه بجعله بطانة، خصوصاً مع التبادر الذهني بأنه يتخذ مقامات البطانة للتمادي في الإضرار بالمسلمين.
وذكرت الآية على نحو التعديد والبيان التفصيلي صفات غير المسلمين الذي لا يصلحون لمراتب البطانة، وفيه حث للمسلمين على التقيد بأحكام الآية، وتنبيه للكفار بان المسلمين أصبحوا في حال اليقظة والفطنة ببركة القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي.
قوله تعالى [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ]
بعد ان ذكرت الآية خصلة مذمومة عند غير المسلمين الذين لا يصلحون لمراتب البطانة وهي حبهم لمشقة المسلمين وهو كيفية نفسانية، جاء هذا الشطر من الآية الكريمة لبيان صفة أخرى تتصف بالظهور والوضوح، ويستطيع المسلم وغير المسلم إدراكها ومعرفتها ورؤيتها، ليؤكد هذا الشطر من الآية الشطر الذي سبقه ، وتحتمل البغضاء وجوهاً:
الأول: إنها فرع سعيهم لإفساد أمور المسلمين.
الثاني: ظهور العداوة على ألسنة الكفار مبرز خارجي لمودتهم مشقة المسلمين.
الثالث: ظهور البغضاء على ألسنة الكفار أمر مستقل عن إرادتهم الفساد وحبهم مشقة المسلمين.
الرابع: انه إنعكاس وأثر لما يضمره الكفار في نفوسهم من العداوة والبغضاء للمسلمين كما يدل عليه الشطر التالي من الآية الكريمة [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ].
الخامس: مجيء أجزاء العلة المذكورة بعرض واحد فهي متداخلة، وبعضها فرع بعضها الآخر.
فكما ان صدور العداوة على ألسنتهم وفي فلتات ألسنتهم فرع للوجوه الأخرى، فانه أصل لغيره فصدور العداوة على ألسنتهم سبب لرغبتهم بمشقة المسلمين وحصول الفساد في أعمالهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وهو من وجوه الإعجاز فيها، ومن منافعه وجوه:
الأول: بيان عداوة الكفار للمسلمين.
الثاني: حث المسلمين على البقاء في حال اليقظة والفطنة.
الثالث: بيان معاني للجهاد تتمثل بالصبر، ومواجهة التعدي بالإحتراز، فقد يواجه التعدي بمثله كما في قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ).
وجاءت هذه الآية لإرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، فظهور العداوة على اللسان ليست مثل التعدي بالسيف، ولا تستلزم الرد بالسيف، بل جاءت الآية بالرد بالإحتراز الذاتي والحصانة من إتخاذ الكفار وليجة وخاصة، وفيه آية إعجازية وبيان للحلم الذي يتحلى به المسلمون بفضل الله، وترفعهم عن الرد بالعداوة والخصومة على اللسان ومقابلة الشتم والسب بمثله، بل إنهم يقابلون الشتم بالتآزر بينهم، وإظهار معاني الوحدة الإيمانية ليكون إختيار البطانة الصالحة فرعاَ منها، ووسيلة لتثبيتها في نفوس المسلمين، وظهورها بعالم الأقوال والأفعال مما يزيد الكفار حنقاً، ولكنه يسقط ما في أيديهم، ويجعلهم يشعرون بعجزهم عن إلحاق الضرر بالمسلمين، والبغضاء ضد المحبة والود.
ففي الآية إخبار بان غير المسلمين لا يحبون المسلمين، وما يظهر على ألسنتهم يحكي ما في صدورهم من الغل والحسد للمسلمين، ومن إعجاز الآية انها جاءت بالفعل “بدت” يقال بدا الشيء يبدو بدواً أي ظهر، وأبداه هو أي أظهره ، مما يدل على ظهور البغضاء واضحة لا تقبل التأويل بمحمل حسن ، لتكون حجة عليهم ، وشاهداً على الغضب والغل والعداوة التي يخفونها للمسلمين ، وقال الأخطل:
ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
ويحتمل ظهور البغضاء والعداوة على ألسنة الكفار وجوهاً:
الأول: تلقي الكفار الأذى والضرر من المسلمين.
الثاني: إستيلاء المسلمين على مقامات الكفار.
الثالث: بغض المسلمين للكفار، ومقابلة الكفار للبغضاء بالمثل.
الرابع: وسوسة الشيطان للكفار وإستحواذه عليهم.
الخامس: الملازمة بين الكفر والبغضاء للمسلمين.
السادس: حسد الكفار للمسلمين.
السابع: حب الكفار لأذى ومشقة المسلمين.
والصحيح هو الرابع والخامس والسادس والسابع، فقد إتبع المسلمون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لأنه جاء بالآيات من عند الله عز وجل، وقاموا بوظائفهم العبادية كمكلفين ولم تأتٍ دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بالمسلمين بل هي شاملة للناس جميعاً، وتخلف أهل الكتاب والكفار عن التصديق بنبوته ونصرته، وجاءت هذه الآية لبعث الحيطة عند المسلمين ببيان ما يضمره غيرهم ممن تحذر الآية من إستبطانهم من العداوة والبغضاء لهم، ولا تستلزم معرفة هذه البغضاء إستحضار الوسائط،بل هي ظاهرة على ألسنة غير المسلمين يعرفونها بظاهر القول والسب وإثارة أسباب الشك والريب بالنبوة والإسلام، وتحتمل البغضاء التي تظهر على ألسنتهم وجوهاً:
الأول: البغضاء للمسلمين كأمة.
الثاني: الكره والبغض للمسلمين كأفراد وجماعات منتمين للإسلام.
الثالث: أسباب البغضاء شخصية، وأمور خاصة تتعلق بالمكاسب والتجارات والزراعات مثلاً، وليس لأمور عقائدية وإنتماء للإسلام.
والصحيح هو الأول والثاني، فمن أسباب البغض الإنتماء للإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء الآخرين، لذا جاءت هذه الآية الكريمة عوناً للمسلمين، وهي شاهد على نصرة الله تعالى لهم، وانه تعالى هو وليهم في الدنيا والآخرة ومن وجوه ولايته سبحانه انه لا يرضى للمسلمين إتخاذ المسلمين الكفار أولياء وأنعم عليهم بهذه الآية التي تتضمن النهي عن إتخاذ الكفار بطانة لتدعوهم في مفهومها إلى الرجوع إلى القرآن وإتخاذه بطانة ودليلاً وعيناً والذي جعله الله تعالى تبياناً لكل شيء، ومنها موضوع البطانة والإستشارة والخاصة.
ومن يفزع ويلجأ إلى القرآن في المهمات ومشكلات الأمور يجد إعجازاً في القرآن يتجلى بظهور الحل المناسب لحاله في آيات القرآن سواء تلا الكثير أو القليل من الآيات، إذ يرى الآية وكأنها تحدثه عن موضوعه وتخبره بسبل النجاة ومنها التوكيد على الصبر والرضا بما قسمه الله تعالى، و يتلو المسلم آية تأمره بالعزم والتوكل على الله والمبادرة إلى الفعل وعدم تضييع الفرصة، فتهديه إلى الصواب ، وهو من مصاديق تبيان القرآن لكل شيء مع ان ما في نفس الإنسان من الهموم أو النوايا من الأمور الطارئة غير المتزلزلة، مما يدل على عمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ليشمل الأشياء غير المستقرة والتي هي أمور شخصية تتباين من إنسان إلى آخر، وتختلف عند ذات الإنسان من يوم إلى آخر، ومن حال إلى غيرها، وهو من إعجاز القرآن وأهليته لمنازل البطانة وإنفراده بحلول نوعية وشخصية تضيء دروب السالكين، وفيه دعوة للبطانة الصالحة باللجوء إلى القرآن والنهل من كنوزه والإستدلال بآياته لتكون بطانة للبطانة.
فمن يتخذه أخوه المسلم بطانة يرجع إلى القرآن ويتخذه بطانة ودليلاً وضياء ليكون واقية له ولمن إستبطنه من الغواية والضلالة وهذا الرجوع إلى القرآن من أسرار حث الآية في مفهومها على إستبطان المسلمين والمنع من اللجوء إلى غيرهم في هذا الباب.
ويحتمل ظهور البغضاء على أفواه الذين كفروا وجوهاً:
الأول: بغضهم للإسلام ومبادئه.
الثاني: كرههم لأحكام الشريعة الإسلامية، وما فيها من الأوامر والنواهي.
الثالث: إثارة الشك والريب بنبوة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: البغض والعداوة للمسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لذا قد يرى المسلم من غيره وداً شخصياً له، ولكنه ما أن يستمر معه بالكلام والصلة حتى يدرك ظهور البغضاء على لسانه للإسلام والمسلمين، فجاءت الآية الكريمة لتحذير المسلم وإخباره عن حقيقة وهي ان موضوع البغضاء أعم من القضية الشخصية وان بغض الكافر للإسلام يعني بغضه للمسلم مما يستلزم ليس الإنتقام والبطش بل إجتناب إستبطان الكافر وإختياره لمراتب الخاصة والمنع من حمله أمانة السر.
وتحتمل البغضاء في كيفية صدورها من الكفار وجوهاً:
الأول: تأتي البغضاء على نحو القضية الشخصية بأن تجري على اللسان.
الثاني: صيغ الجدال والمغالطة وإثارة أسباب الشك.
الثالث: ظهور البغضاء بالقصة والشعر والأدب وصيغ الهجاء والذم.
الرابع: إتخاذ المنبر ووسائل الإعلام لذم المسلمين والتعدي عليهم.
الخامس: أسباب الشك وإنكار المعجزات، وإظهار عدم التصديق بالنبوة.
السادس: إعتماد لغة الكناية والإشارة في جرح المسلمين.
السابع: صيغ السب والشتم والتعدي على المسلمين باللسان.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها مما تخبر عنه الآية وتحذر منه، وتدعو المسلمين إلى أخذ الحائطة من الذين كفروا، فان قلت قد تصدر البغضاء من المسلم إلى أخيه المسلم، او من جماعة من المسلمين إلى جماعة أخرى من المسلمين فهل يعني هذا الحذر والوقاية من إتخاذهم بطانة أيضاً، والجواب لا،وهناك تباين بين الأمرين موضوعاً وحكماً، من وجوه:
الأول: يبغض الكفار المسلمين لإنتمائهم للإسلام أما الخلاف الذي يحصل بين المسلمين فهو على أمور خاصة.
الثاني: إستدامة البغضاء في نفوس الكفار للمسلمين، بينما تكون الخصومة بين بعض المسلمين مؤقتة وسرعان ما تزول.
الثالث: يزداد الخلاف والبغضاء عند الكفار على المسلمين مع ثبات المسلمين في منازل الإيمان، بينما يفتخر المسلم بإيمان أخيه المسلم، ويكون الإيمان سبباً لتخفيف الخصومة وتركها.
الرابع: يتناجى الكفار فيما بينهم بعداوة المسلمين، ويزداد كرههم للمسلمين ويؤدي ظهور البغضاء على ألسنتهم إلى الإصرار على الكفر والتمادي في إيذاء المسلمين ، أما الخصومة بين أفراد وجماعات من المسلمين فانها لابد وان تميل إلى التخفيف ، ويفزع المسلمون لدرء الصدع، وإصلاح ذات البين.
الخامس: لا يرقب الكفار عهداً وذمة مع المسلمين ، أما الخلاف بين المسلمين فتقيده الأوامر والنواهي الإلهية وأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تدعو المتخاصمين إلى الرجوع إلى القرآن والسنة النبوية لحل الخلاف والخصومة.
ولو إختار المسلمون بطانة من غيرهم فانها تزيد من ظهور البغضاء على ألسنة الكفار للمسلمين، وتلك آية إعجازية في مضامين ودلالات هذه الآية الكريمة فمن منافعها انها تمنع أزدياد حدة ودرجة البغضاء للمسلمين بان تغلق الفتنة من باب البطانة ، وما فيه من أسباب الحسد للمسلمين، إذ ان البطانة تطلع على الخصوصيات وترى العز والبركة التي تتغشى المسلمون، فتنقم عليهم، وتبحث عن أسباب لذمهم والتعدي عليهم.
وقد لا تقوم البطانة بهذا الذم ولكنها تلتقي بإطلاع الكفار على النعم التي عند المسلمين فيزدادون بغضاً لهم، ويحملون على الإسلام والمسلمين، فترى البطانة لم تصدر منها البغضاء مباشرة ولكن تصير سبباً وواسطة للبغضاء والكره للمسلمين وإطلاع الأعداء على ما يكون مادة لحسدهم وتعديهم على المسلمين، وهو من مصاديق وأسباب النهي عن البطانة من غير المسلمين وفيه إعجاز للآية الكريمة وما فيها من النهي، إذ يأتي النهي عن البطانة السيئة بالذات والعرض والآثار.
فتمنع الآية من البطانة من الغير، لأنها تكون سبباً لإضرار الكفار بالمسلمين لأن البطانة تنقل لهم عن عمد أو غير عمد تفاصيل أحوال المسلمين، فيزداد الكفار عداوة للمسلمين ويدركون منعة وعز الإسلام وما رزق الله تعالى المسلمين من النعم فيزدادون كرهاً وعداوة لهم، والأصل هو ان تكون النعم الإلهية عند المسلمين سبباً لدخول الكفار الإسلام والإشتراك بالنهل من تلك النعم والفوز بمرضاة الله تعالى.
وجاءت الآية بصيغة الماضي “قد بدت البغضاء” وفيه تحدِ وإعجاز، فليس للكفار أن ينكروا جريان البغض والكره للمسلمين على ألسنتهم ، وقد حاربت قريش المسلمين وسيرت الجيوش لقتالهم، مما يدل بالأولوية القطعية على صدور السب والشتم للمسلمين والتشكيك بالإسلام على ألسنتهم.
وإتخاذ بطانة من يهود المدينة مثلاً عون لهم على التعدي على الإسلام، فجاءت الآية لتحذر من البطانة من غير المسلمين كي لا يتخذها الكفار واسطة وطريقاً للإطلاع على أسرار المسلمين وزيادة التعدي عليهم،لتنتقل البغضاء إلى البطانة ذاتها بلحاظ العداوة والبغضاء التي تظهر على ألسنة الكفار للمسلمين، وتأثر وإنصات البطانة لها، فتكشف البطانة أسرار المسلمين للكفار.
ليكون هذا الكشف سبباً لإظهار الكفار بغضهم للمسلمين، وتأثر البطانة بأسباب البغض والعداوة، فينعكس على قول وفعل البطانة نفسها، فتراها في بداية عملها في منازل الخاصة والبطانة تعمل من غير بغضاء ظاهرة، ولكن مع تقادم الأيام تظهر البغضاء على لسان البطانة نفسها،فجاءت الآية للتحذير منها، والدعوة إلى إجتنابها وقاية للمسلمين، وفبه طرد للغفلة عن المسلمين.
وتحتمل البغضاء في مراتبها وجوهاً:
الأول: بقاء البغضاء على الألسن، وعدم إنتقالها إلى حال الفعل.
الثاني: زيادة حدة البغضاء، وظهورها في عالم الأفعال سواء الأفعال التي تصدر من البطانة أو من غيرها من الكفار في التعدي على المسلمين.
الثالث: زوال وإضمحلال البغضاء عند عمل الكافر بطانة للمسلمين خصوصاً وان الآية جاءت بصيغة الماضي [قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ].
والصحيح هو الثاني إذ أخبرت الآية عن ظهور البغضاء بأفواه الكفار، ويدل على رسوخها في النفوس وإحتمال صدور أسباب العداوة في عالم الأفعال بعد الأقوال، وجاء التحذير في الآية من البطانة السيئة ولكن مضامين الآية أعم إذ تشمل ما تكون تلك البطانة سبباً له من وجوه العداوة والبغضاء إبتداءً وإستدامة، ومحاولة الكفار إيجاد وسيلة لمنع الناس من دخول الإسلام، فيتخذون ما تخبر به البطانة ذريعة ومادة لتشويه المسلمين، وإيجاد المغالطات وإثارة الشكوك في الإسلام.
ومن الإعجاز في الآية الكريمة انها بينت الجهة التي يود الكفار العنت والمشقة فيها وهم المسلمون بقوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] بإضافة العنت للمسلمين، أما ظهور البغضاء على أفواههم فلم تذكر الجهة فيه ويحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة المسلمين ، للإستصحاب ونظم الآية، وتقدير الآية: قد بدت البغضاء لكن من أفواههم.
الثاني: المقصود بغض مبادئ الإسلام، وكرههم للفرائض وأحكام الشريعة الإسلامية.
الثالث: المعنى الأعم وإرادة البغض لمبادئ الإسلام والمسلمين الذين تلقوا جميعاً دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها بالتصديق.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة بالإضافة إلى الشواهد الحسية لتلك البغضاء وعموماتها ، وتعدد صيغها.
قانون “قد بدت البغضاء”
جاء هذا الشطر من الآية بصيغة الماضي التي تدل على الإمضاء والثبات، وفيه توثيق سماوي لبغضاء غير المسلمين للمسلمين سواء بخصوص تلك الطائفة والأشخاص الذين تحذر الآية من إتخاذهم بطانة او عموم أهل الكتاب والكفار، خصوصاً وان البغضاء اللسانية أدنى رتبة من الخصومة والعداوة، فقد لا يكون الآخر في خصومة معك، وتراه يجالسك وينصت اليك ويكون جاراً في السوق والدراسة والعمل وليس من عداوة بينك وبينه، ولكنه مبغض لك بسبب إيمانك ، فجاءت الآية للتحذير وهو على وجوه:
الأول: التحذير من أدنى مراتب العداوة وهي البغضاء اللسانية.
الثاني: إجتناب إزدياد حدة البغضاء اللسانية، فبدل التعريض بالمسلمين بالكناية والإشارة، يقوم الكفار بذم المسلمين جهراً وعلانية، ويبثون أسباب الشك في الآيات والدلالات الواضحات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقون.
الثالث: منع تحول البغضاء اللسانية إلى عداوة بالفعل واليد بسبب سوء الإختيار في باب البطانة والخاصة، وفي الآية دعوة للمسلمين للحيطة والحذر من أسباب العداوة والبغضاء، والتصدي لها في بداياتها، والمنع من إزدياد عداوة الكفار للمسلمين والتعدي عليهم بما يكون سبباً لزيادة إثم الكفار وخلودهم في النار.
لقد جعل الله تعالى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضياء يهدي الناس إلى سبل الإيمان، فتتصدى آيات القرآن للبغضاء اللسانية لمنع الناس من التمادي في الكفر، والشعور بصعوبة الرجوع عنه ، وان كان طريق التوبة قريباً من الناس جميعاً، ولا تكون الذنوب والمعاصي برزخاً بين الإنسان وبين التوبة والإنابة، وتلك آية في رأفة الله تعالى بالناس، وجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوبة والإنابة.
وتمنع هذه الآية من التمادي في السيئات والذنوب، وإقامة الكفار عليها، وإصرارهم على الإضرار بالمسلمين، ومع ان الآية جاءت خطاباً للمسلمين، وخاصة في موضوع البطانة والخاصة فانها تتضمن تحذير الكفار من عداوتهم للمسلمين، وزجرهم عن غيبة المسلمين والإفتراء عليهم ومحاولات النيل والإنتقاص منهم، وتلك آية في إعجاز القرآن أن تأتي هذه الآية بنهي المسلمين عن إتخاذ بطانة وفيه وجوه:
الأول: هذا النهي شاهد على حب الله تعالى للمسلمين، والقرآن هو مرآة هذا الحب، وتتجلى في القرآن الفيوضات الربانية التي تأخذ بأيدي المسلمين إلى سبل الأمن والسلامة في النشأتين ، ومنها لزوم الإلتفات إلى موضوع البطانة والخاصة وإصلاح المسلمين أنفسهم لمنازلها.
الثالث: حجب الكفار من التعدي على المسلمين، وكشف ما يصدر على أفواههم من البغضاء ليكون هذا الكشف مانعاً من تمادي الكفار في الإضرار بالمسلمين.
الرابع: تحذير المسلمين من عداوة الكفار، ويترشح عن هذا التحذير لزوم أخذ المسلمين الحائطة لهم من الكفار، والتصدي لأسباب البغضاء التي تجري على ألسنتهم ، وإبطال شبهاتهم وفضح كذبهم، ورد مغالطاتهم.
الخامس: في الآية إشارة إلى عدم تلقي المسلمين النصيحة من الكفار، لأن النصيحة من رشحات المودة، وهي تتنافى مع البغضاء ومن تملأ قلبه البغضاء لشخص أو جماعة فانه يمتنع عن نصحها، وان همّ بنصحها حالت أسباب وموانع خاصة دون إبداء النصيحة مما يدل على ان إتخاذ الكافر وليجة أذى محض، ليس فيه فائدة ونفع.
فجاءت الآية لنصرة المسلمين، وطرد الأذى عنهم، وللإخبار عن كره الكفار للمسلمين من غير أن يتم إختيارهم بطانة ، ومن دون أن يكون عدم إختيارهم بطانة سبباً في تلك البغضاء ولو على نحو السالبة الجزئية، ولو قال الكفار ان إختيارنا بطانة للمسلمين يزيل تلك العداوة والبغضاء من صدورنا ولا يصدر عنا الا ما هو خير محض، وما ليس فيه أذى على المسلمين، فهل يقبل قولهم.
الجواب لا، لأن النهي عن إتخاذهم بطانة ورد مطلقاً وفي كل الأحوال، وما ذكر من أجزاء العلة للبيان والتفصيل وليس الحصر، لأنه تعلق بالزجر عن إتخاذ الكفار بطانة إبتداء وإستدامة، ومع هذا فان في تعيينهم في منازل البطانة تظهر أضرار أخرى تدل على سوء الخلق وخيانة الأمانة، ومحاولة الإنتقاص من المسلمين والغدر بهم.
وكأن الآية تقول هذه عيوب الكفار ووجوه عداوتهم لكم من غير أن تتخذوهم بطانة، ولو إتخذتموهم بطانة فانها تظهر على أفعالهم، كما تظهر عليها أدران وأمراض أخرى تأتي عليكم بالضرر الفادح، وقد جاء القرآن بآيات تبين وجوهاً من تلك البغضاء منها قول المنافقين بعد معركة أحد [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، وقال تعالى [وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ]( ).
لقد جعل الله تعالى اللسان حجة على الإنسان وسبباً لنيل الثواب والجزاء الحسن، او العقاب والعذاب الأليم بحسب توظيف الإنسان له، ويحكي اللسان ما في الجوانح والنفس من المفاهيم والسجايا والطبائع، ومن إعجاز هذه الآية انها جاءت بلفظ [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ] أي ظهرت وبانت على ألسنتهم لتكون إنذاراً للمسلمين من الكفار في باب البطانة والخاصة، لدعوة المسلمين الى النفرة والحذر من الكفار، وعدم الركون اليهم، وتخبر الآية بان البغضاء التي تجري على الألسن يكمن وراءها حسد ، وعداوة أشد.
إذ ان أحكام هذه الآية باقية الى يوم القيامة ولا تنحصر بأيام التنزيل فانها دعوة لأجيال المسلمين لأخذ الحائطة للدين والنفوس والأعراض والأموال من غيرهم خصوصاً مع كثرة الإختلاط والتداخل بين الأمم وأهل الملل، وتشعب الأعمال، وتقارب البلدان، وهذا الحذر ليس برزخاً دون العمل المشترك ولكنه واقية للمسلمين، ودعوة لغيرهم للدخول في الإسلام.
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] إستمرار العمل بأحكام هذه الآية من قبل أجيال المسلمين وعدم حصول التهاون فيها حال التداخل والتقارب بين أهل الملل المختلفة، وفيها دعوة للتمسك بالعبادات والفرائض بالحصانة من البطانة التي تبث السموم بينهم، وتحاول نشوء ودبيب أسباب الشك والريب.
علم المناسبة
ورد لفظ البغضاء في القرآن خمس مرات، ولم ترد مادة “بغض” في القرآن بصيغة الفعل ولا بلفظ آخر غير البغضاء وجاءت في ذم الكفار وكيف انهم متلبسون بالبغضاء والكره بعضهم لبعضهم الآخر، فليس من مودة ومحبة فيما بينهم ، قال تعالى [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] ( )، وجاء في أصحاب إبراهيم كيف انهم واجهوا قومهم بالثبات على الإيمان وتحديهم والإعراض عنهم الا أن يؤمنوا بالله تعالى كما ورد في التنزيل [وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ]( ).
وتخبر الآيات عن حصول البغضاء بين الذين لا يؤمنون بالله، ويجحدون بالنبوة ويفيد الجمع بينها وبين الآية محل البحث إجتناب إتخاذهم بطانة لما فيه من نشر لأسباب العداوة والبغضاء، ومن الناس من تكون البغضاء ملكة وسجية نفسانية ثابتة عنده، يميل الى البغض والكراهية، فلا يصلح أن يكون بطانة لأنه يتخلف عن الأمر بالصلاح والرأفة والرحمة، ولا يقدر على طرد النفس الغضبية والشهوية من نفسه، وعند الغير.
وجاء لفظ البغضاء في القرآن مرة واحدة في خطاب للمسلمين لتحذيرهم من الشيطان، ومما يبثه من أسباب العداوة بإرتكاب المعاصي والسيئات ، قال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ] ( ).
وجاءت الآية محل البحث لتخبر ان الكفار يضمرون البغضاء والعداوة للمسلمين، وتظهر تلك البغضاء على ألسنتهم وفي لحن القول، أما ما يكتبه الكفار في ذم المسلمين فيحتمل وجوهاً:
الأول: انه من مصاديق الآية الكريمة، لأن الكتابة كالقول.
الثاني: الكتابة أمر مستقل ومنفصل والقدر المتيقن من الآية هو خصوص ما يجري على لسان الكفار من أسباب البغضاء والعداوة للمسلمين.
الثالث: التفصيل، فمن الكتابة ما يكون من مصاديق الآية بلحاظ الموضوع والتصريح والكناية، وكيفية وموضوع الكناية.
والصحيح هو الأول، فان ما يكتبه الكفار عن المسلمين بلغة الذم والجرح والسب والتعريض هو من مصاديق الآية الكريمة وقد يكون أوضح في الحجة عليهم، والدلالة على عداوتهم.
وإذا كان الشيطان ينفذ من الخمر والميسر بين المسلمين ويفشي بينهم أسباب البغضاء والعداوة فان البطانة السيئة قد تتخذ الخمر والميسر وإرتكاب المعاصي وسيلة للإضرار بالمسلمين، وهو من إعجاز الجمع بين الآيات بلحاظ لفظ مخصوص فيها، فالبغضاء وان كانت في الآية محل البحث ظاهرة في كلام الذين كفروا الا أنها تدل على سعيهم لإيذاء المسلمين في إتخاذ البطانة السيئة سبيلاً للإغواء والتجرأ على المعاصي.
وجاءت هذه الآية لمنع زيغ الشيطان من الوصول الى المسلمين، وليبقى المسلمون حريصين على مفاهيم الأخوة الإيمانية بينهم إذ ورد لفظ “البغضاء” خمس مرات في القرآن، وقد ورد لفظ “أفواههم” عشر مرات في القرآن، تتضمن الذم مما يصدر من الكفار من الكلام الذي يدل على صدودهم عن التنزيل ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ).
فجاءت الآية محل البحث لدرء ضرر البغضاء التي تصدر من الكفار أزاء الإسلام والمسلمين بفضحها والتحذير منها، وجعلها برزخاً وعلة لإجتناب إتخاذهم خاصة وبطانة، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] فأراد الله عز وجل للإسلام البقاء والثبات في الأرض الى يوم القيامة، فجاء بهذه الآية لسلامة وأمن المسلمين، ومنع حصول الفرقة والبغضاء بينهم.
وجاء قوله تعالى [يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ]( )، وفيه تحذير من الكفار والمنافقين، فقد يحرصون في أحيان معينة على عدم إظهار البغضاء للمسلمين، ويبدون ما يتقربون به للمسلمين، ويحاولون الثناء على المسلمين، فجاءت الآية محل البحث لتوكيد التحذير منهم ، وضرورة عدم الركون اليهم.
وجاء قوله تعالى [وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] ( )، لبيان صيغة البغضاء التي تبدو على ألسنتهم وما فيها من القبح والتعدي وإرادة ذم وسب المسلمين، مع بيان غايتها وان البغضاء التي تصدر منهم إنما يريدون منها منع المسلمين من البقاء في منازل الإيمان، وقصد إرتدادهم.
قانون الفصل والتمايز
لقد جعل الله تعالى القرآن مدرسة متكاملة في مواضيع العلوم المختلفة، وكل آية منه كنز تستقرأ وتستنبط منها العلوم والأحكام، وتكون ضياء للناس، وبتلاوة الآية والتدبر في معانيها يرتقي المسلم في سلم المعرفة والكسب والتحصيل، وهل ينحصر هذا الإرتقاء بالتدبر والتفسير كشرط قائم بذاته أو أنه متمم للتلاوة الجواب، إنه تكفي تلاوة آيات القرآن في إكتساب المعارف الإلهية، وهو من خصائص القرآن، ونفاذ معانيه الى شغاف القلوب بالتلاوة والقراءة، ويأتي التدبر مع التلاوة قهراً وإنطباقاً بفضل من الله تعالى، وكأن من يتلو الآيات ينعم الله عز وجل عليه بالتدبر فيها من وجوه:
الأول: حصول التدبر في الآية القرآنية أثناء تلاوتها.
الثاني: يأتي التدبر في معاني الآية بعد الفراغ من التلاوة.
الثالث: العنوان الجامع إذ يحصل ألتدبر أثناء التلاوة وبعدها، وتلك آية وفيض مبارك من فيوضات القرآن، لذا تفضل الله تعالى على المسلمين وجعل تلاوة الآيات واجبة في الصلاة اليومية كي تكون التلاوة مناسبة للتدبر فيها، وهي مع التدبر وسيلة للصلاح وأسباب الهداية، وبذا يمتاز المسلم عن غيره بأنه يغترف من مناهل القرآن وذخائر علومه كل يوم بالتلاوة والتدبر.
ويأتي التفسير ليكشف عن درر غير ظاهرة تزيد التلاوة بهجة، وتبعث في نفس المسلم الغبطة وتجعله يتوجه إلى الله تعالى بالشكر والثناء على نعمة الهداية إلى الإسلام والتوفيق لتلاوة الآيات وتؤكد مضامين هذه الآية الكريمة صدق إطلاق اسم الآية عليها وعلى كل آية من آيات القرآن، إذ يصاحب الإعجاز كلماتها وألفاظها وموضوعها وغاياتها، ومجيئها بصيغة النهي وليس الأمر، وهي فيصل ومائز في موضوع البطانة الى يوم القيامة.
وتؤسس الآية قاعدة كلية في التمييز بين الناس بلحاظ الإيمان والكفر وفيه وجوه:
الأول: أحكام الأولوية القطعية، فإذا كان التمييز بين المسلم والكافر ضرورة في باب البطانة بإختيار الأول وإجتناب الثاني، فمن باب الأولوية القطعية إعتبار هذه القسمة الثنائية في المواضيع الأكثر أهمية وموضوعية، مثل الولاية والنصرة، فالذي تنهى الآية عن إستبطانه لا تصح ولايته بالأولوية ويسمى في علم الأصول أيضاً بفحوى الخطاب لشرط فهمه من فحوى الخطاب والموافقة في ثبوت الأولوية، كما في قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه]( )، فيدل بالأولوية على الجزاء على فعل الصالحات ونشر البر.
الثاني: ورود العلة وعمومها وعدم حصرها بالمعلل، وهو المسمى بمنصوص العلة والذي يكون كالأصل في القياس، فيشمل الحكم ما يلتقي مع المعلول في موضوعه وحكمه، وما يكون فرعاً له كما في القول: الخمر حرام لأنه مسكر فيدل على ان كل مسكر هو حرام، فيكون المدار على العلة في التوسعة، ليصبح المعلل قاعدة كلية ذكرت للإمتنان والتخفيف والبيان.
وذكر موضوع البطانة في المقام لتوكيد النهي في موضوع البطانة، فموضوعية العلة في توسعة الحكم وتعدد مواضيعه لا تعني التقليل من أهمية الأصل، بل أن النهي من البطانة من غير المسلمين أمر ثابت ودائم، وهو مستقل عن مبحث العلة والتوسعة بسببها، وأصل ثابت تلحق به الفروع، ولا يتأثر بها، كما في الذي يصلي منفرداً وجاء مكلف آخر صلى خلفه بنية المأموم له، فالمصلي الأول على صلاته لم يغير منها شيئاً، ولكن تضاف له في صلاته صفة إكرام وهي صيرورته إماماً في الصلاة، فالنهي في باب البطانة فان أحكامه خاصة بالبطانة وحرمة إتخاذها من الكفار ولكن تترشح عن أحكام الآية قواعد كلية، وتستقرأ منها الأوامر والنواهي في الأبواب المشابهة لها.
ومن رحمة الله عز وجل بالمسلمين وفضله عليهم في المقام ان النوبة في أحكام لم تصل إلى الظن أو الإستحسان وهو في بعض تعريفاته ما يستحسنه المجتهد بعقله، والعمل بأقوى الدليلين، وعن الإمام الشافعي: (من إستحسن فقد شرّع ) أو العمل بالمصالح المرسلة والمعتبرة التي قام الدليل على رعايتها وقيل في تعريفها بأنها الوصف المناسب لتشريع الحكم الذي يترتب على ربط الحكم به جلب منفعة أو دفع ضرر، أو سد الذرائع وهي الوسائل التي تفضي إلى المفاسد، وفي تعريف الشاطبي: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.
وجاءت الآية بالنص الجلي، والحكم القطعي الذي لا يقبل التبديل أو التعدد والإختلاف في التأويل، وتلك حجة للمسلمين في هذا الباب وتخفيف عنهم في إختيار البطانة، وإجتناب الأفراد التي نهت عنها الآية الكريمة.
الثالث: عدم وجود برزخ وقسيم ثالث لما في الآية من القسمة الثنائية، إذ انها جعلت الناس على قسمين:
الأول: مايصح إستبطانه وهو المسلم حصراً، الذي لا يعمل على فساد أحوال المسلمين ولا يرغب بالمشقة لهم لأن الرغبة بالمشقة لهم إضرار له وللأمة، وهو أمر تنفر منه نفسه جملة وتفصيلاً.
الثاني: الذين تمنع الآية عن إستبطانهم، وهم غير المسلمين على نحو الإطلاق.
وإنتفاء البرزخ والقسيم الثالث واقية للمسلمين من الفتنة في باب البطانة، وحصول الخلاف في تأويل الآية، ومصاديقها العملية، ومانع من جعل موضوعية وإعتبار للهوى والميل لما يخالف أحكام الآية.
ومن إعجاز الآية أنها تغني عن الإجتهاد في المقام، ويكون من الإجتهاد في مقابل النص، وجاء فيها النهي بسيطاً غير مركب ولا يستلزم الوسائط في التأويل والعمل والإمتثال.
ومن الآيات ان غير المسلم يفقه ويعرف هذا النهي كما يعرفه ويدرك مضامينه المسلم، لتبعث الآية اليأس في قلب الكافر من إستبطان المسلم له، فقد يحاول الكافر التودد إلى المسلم وإظهار حرصه عليه، والطمع بالوصول إلى قلبه والتأثير في قرارته، فجاءت هذه الآية لتكون فاصلاً وبرزخاً بين الكافر وبين ما يرجوه، وتخلف في نفسه الندامة والحسرة، الندامة على الإصرار على الكفر والجحود بالنبوة، وتكذيب التنزيل، والحسرة على الحرمان من منازل البطانة للأمة التي ترتقي في ميادين السياسة والشأن وتزداد الخيرات والبركات فيها، إن تجلي بركات الآية في إكتساب المسلمين للمعارف الإلهية، ونهلهم من كنوز القرآن وما في آياته من الدرر واللآلي يجعلهم في غنى عن إستبطان غيرهم، ليأتي هذا النهي وقد إستعد المسلمون له ولقبوله، ويتخلف الكافر يوماً بعد يوم عن بلوغ مراتب الأهلية للبطانة، فيكون إجتناب إتخاذه خاصة ووليجة نتيجة مترشحة عن قصوره وتقصيره.
وتلك آية في خلق الإنسان وبديع صنع الله تعالى، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
إذ يبين الجمع بين الآيتين قانوناً ثابتاً وهو ان الذي يتخلف عن عبادة الله تعالى، ويصر على المعاصي يصبح فقيراً في باب العلم، متخلفاً عن نيل المراتب السامية محروماً من الأجر والثواب وكأن الآية تقول للمسلمين من لا يعبد الله حق عبادته لا تتخذوه بطانة، وإحرصوا على إجتناب الضرر والشؤم في هذا الباب، وإجعلوا موضوعية في إختيار البطانة لطاعة الله تعالى وإمتثال للأوامر الإلهية، فمن لا ينتهي عما نهى الله عنه، إمتنعوا عن إستبطانه وتقريب مجلسه، وعليكم بالنفرة منه لأنه يسعى في الإضرار بكم ولا يرجو لكم الخير.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التمييز والفصل بينهم وبين غيرهم في الوظائف ذات المسؤوليات العامة التي تؤثر سلباً وإيجاباً عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم، فجاءت أحكام البطانة والخاصة دعوة لإكرام المسلمين من جهة كل من:
الأول: العناية بالمستبطِن-بالكسر، فلا يتخذ خاصة ووليجة إلا التي تنفعه في دينه ودنياه.
الثاني: البطانة بان تكون مؤمنة صالحة، وفيه ترغيب بالإيمان وبيان منافعه وما يترشح عنه من الأمانة والصدق والنصيحة.
الثالث: عامة الناس، الذي تلحقهم منافع البطانة الصالحة، وينتفعون منها، وجاءت هذه الآية لجلب المصالح العامة والخاصة، ودرأ المفاسد العامة والخاصة، فهي نعمة عظيمة على المسلمين تبين لهم حسن إختيار الإسلام، وتؤكد الأخوة الإيمانية وتثبيت ما لها من المصاديق الواقعية المتجددة ومن إعجاز القرآن انه يأتي بالأمر القرآني ثم يأتي بالأوامر والنواهي التي تكون تفسيراًً ومصداقاً وإمتثالاً له.
فقد جاء قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، أمراً إلهياً بالتمسك بالقرآن، وجاء قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، في بيان أخوة المسلمين في مرضاة الله، وجاءت هذه الآية بالأمر بالبطانة والخاصة من المسلمين ليكون في التقيد بها إمتثال لأحكام وأوامر ما جاء في الآيتين أعلاه، فيعمل المسلم بأحكام آية البطانة فيكتب له الله تعالى ثواب العمل والإمتثال لأوامر إلهية عديدة تحمل صفة الوجوب، وتكون ذات موضوعية في تثبيت دعائم الإسلام في الأرض ومادة لترسيخ مفاهيم الإيمان في النفوس، ووسيلة وموضوعاً لمضاعفة الأجر والثواب.
وفي البغضاء وجوه:
الأول: إثارة الكفار الشك والريب في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآيات القرآن وفي التنزيل [وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ]( ).
الثاني: الحسد للمسلمين.
الثالث: عدم الإقرار بما حققه المسلمون من الظفر بأعدائهم.
الرابع: الجدال والخصومة في أحكام الشريعة الإسلامية.
الخامس: صيغة الشك والسؤال الإستنكاري بخصوص آيات القرآن.
السادس: نسبة المسلمين إلى الجهل والحمق وأنهم صبوا عن دين آبائهم.
السابع: معاني العداوة والكره للمسلمين.
الثامن: التشكيك في نوايا وعزائم المسلمين.
التاسع: محاولة بث الخوف والفزع في نفوس المسلمين.
وتستبين تلك العداوة والبغضاء بإدراك المسلمين لسوء نية وقصد هؤلاء في إثارة الشك والريب وأسباب الفزع والخوف عند المسلمين ومن غير حق أو أصل.
قوله تعالى [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ]
إبتدأ هذا الشطر من الآية بحرف العطف “الواو” وهو حرف العطف الوحيد في الآية، مع تعدد أجزاء علة النهي عن إتخاذ المسلمين لبطانة من غيرهم، فلم تقل الآية “وودوا ما عنتم” أو “وقد بدت البغضاء من أفواههم ” بل جاء حرف العطف فقط في هذا الشطر من الآية وفيه مسائل:
الأولى: الإشارة إلى الملازمة بين المعطوف والمعطوف عليه.
الثانية: إفادة حرف العطف للمغايرة والتعدد، فما تخفيه صدورهم غير الذي يظهر على ألسنتهم وفيه وجوه:
الأول: الإتحاد في الماهية وهي البغضاء، والتغاير والتباين بين ما يظهر على ألسنتهم وما تخفيه صدورهم في الكم والمقدار.
الثاني: إرادة ظهور معاني ما يخفونه في صدورهم بالبغضاء التي تبدو في فلتات اللسان ولحن القول.
الثالث: حرف العطف شاهد على أن متعلق “أكبر” هو البغضاء التي تصدر من الكفار.
الرابع: إفادة التعدد في الماهية والكيفية، فما يخفونه ليس البغضاء وحدها وكأن بين مايظهر على ألسنتهم وما يخفون عموماً وخصوصاً مطلقاً.
ولا تعارض بين الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة ويمكن شمول مضامين العطف لما يوده الكفار من العنت للمسلمين بأن ما يخفونه ليس إرادة المشقة للمسلمين وحدها، بل يشمل إرادة الفتنة والفرقة بين المسلمين، ولحوق الخسارة بهم، من غير تعارض مع المعنى الأصلي للآية، وتعلق الكبر لما يخفونه في صدورهم بالبغضاء التي تخرج من أفواههم.
الثالثة: ما يصدر على ألسنة الكفار من الحسد والعداوة للمسلمين إنما هو بمرتبة أدنى ومن جنس البغضاء، أما ما يضمرونه في صدورهم فهو متعدد وأعم ويشمل وجوهاً أخرى من العداوة لذا جاء لفظ “أكبر” لإرادة الكم والكيف.
وذكرت الآية ما يخفيه الكفار في صدورهم أزاء المسلمين بوصف وهو أنه أكبر من البغضاء التي تبدو على ألسنتهم، وجاءت الآية بلفظ “ما” وهو اسم موصول يشترك فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ولا تنحصر “ما” في المقام بمعنى واحد منها، لذا يكون معنى هذا الشطر من الآية على وجوه:
الأول: ما تخفيه صدور الكفار من البغضاء للمسلمين أكبر مما يظهر على ألسنتهم.
الثاني: ما تخفيه صدورهم أكبر من البغضاء والكراهية.
الثالث: الذي يضمره الكفار للمسلمين أكبر في مقداره وكيفيته، فالبغضاء تصدر على ألسنتهم في أحيان قليلة، و أوقات ومناسبات مخصوصة، أما الذي يخفونه في صدورهم فهو مصاحب لهم.
وهذا الشطر من الآية من علم الغيب فلا يعلم ما تخفيه الصدور إلا الله تعالى، ولا يستطيع أحد الإطلاع عليه، فجاءت الآية لتحدي الكفار وتوكيد نزول القرآن من عند الله بشواهد غيبية لا يعلمها إلا الله تعالى كأفراد وجماعات، إذ تداهم الآية كل واحد منهم وتخبره بان الله تعالى مطلع على ما في قلبه، وليس من حاجز بين الله عز وجل وبين عباده وانه يحب لعباده أن تكون صدورهم بساتين عامرة بالإيمان، ويكون ثمرها التقوى والصلاح وأداء الفرائض والعبادات.
فمن إعجاز الآية أنها زجر عن الكفر، ونهي عن الضلالة، وذم لإمتلاء الصدور بالبغضاء لأهل الإيمان، وإنذار من عداوة المسلمين، وإخبار بأن الله تعالى يطلع على الصدور ويحصي الأعمال قال تعالى [وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ]( ).
ولم تخبر الآية عما يجري في منتديات الكفار من الأحاديث الخاصة التي تتضمن العداوة للمسلمين، بل جاءت بخصوص خفايا الصدور وما لم يعلن حتى فيما بين الكفار أنفسهم، وجاء على نحو التعيين من طرف الكثرة بلحاظ ذكر الفرد الأقل منه وهو ما يظهرونه على ألسنتهم والإخبار عنه إعجاز آخر أيضاً لما فيه من الإشارة إلى لحن القول، وفلتات اللسان وما يجري فيما بين الكفار أنفسهم، ومن تكون هذه صفاتهم فانهم لا يصلحون لمراتب البطانة والخاصة للمسلمين، ومن إعجاز القرآن الغيري المتعدد أن تأتي فيه علوم الغيب.
وبين إنتفاع المسلمين وغيرهم من الآية عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الآية عبرة وموعظة.
الثاني: تحكي الآية حال تخفى على الناس لا يعرفها إلا صاحبها.
الثالث: الآية من علم الغيب الذي يتعظ وينتفع منه الناس جميعاً، أما وجوه الإفتراق فمن وجوه:
الأول: الآية حجة للمسلمين، وحجة على الكافرين.
الثاني: تزيد الآية المسلمين هدىً، وتجعل الكفار في فزع وخوف.
الثالث: تبعث الآية الحيطة والحذر في نفوس المسلمين، وتفضح الكفار وتسقط ما في أيديهم.
الرابع: الآية مدرسة يقتبس منها المسلمون الدروس والعبر، وتكون عوناً لهم في معرفة أحوال عدوهم، وهي سلاح في أيديهم في باب البطانة وغيرها، وإخبار للكفار بإمتلاك المسلمين أسباب الوقاية من البغضاء والعداوة بعلم الغيب الذي تفضل الله عز وجل وجعله في القرآن ليكون ملكاً وكنزاً ينهل منه المسلمون، قال تعالى[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ]( ).
لقد جاءت آيات القرآن تتحدى الكفار، وتخبر عن علم الله عز وجل بما يضمرون من الحسد والحقد والعداوة قال تعالى [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ] ( )، وجاءت الآية محل البحث لتبين مصداقاً لهذا التحدي والبيان بالإخبار عن إخفاء الكفار لحال من العداوة للمسلمين أكبر وأشد من البغضاء التي تظهر على ألسنتهم.
وجاءت الآية بالاسم الموصول “ما” [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] من غير تعيين لموضوع ومقدار هذا الذي يخفونه إلا أنه أكبر من البغضاء التي تصدر على أفواههم، لتكون تلك البغضاء قاعدة وأصلاً يبتنى عليها هذا الشطر موضوعاً وكماً وماهية، وفيه وجوه:
الأول: ما يخفيه الكفار في صدورهم من البغضاء أشد من ألسنتهم.
الثاني: إنه العداوة للمسلمين، وبين البغضاء والعداوة عموم وخصوص مطلق، فكل عداوة هي بغضاء وليس العكس، فقد لا تصل البغضاء الى مرتبة العداوة.
الثالث: تربص الكفار بالمسلمين للإضرار بهم والفتك بهم، لذا جاءت الآية تحذيراً من إتاحة الفرصة لهم بإتخاذ بعضهم بطانة وخاصة تطّلع على الأسرار، وتبدي المشورة، وإخباراً للكفار بانهم لا يستطيعون التربص بالمسلمين، إذ جعلت آيات القرآن المسلمين في حال حذر وإحترازدائم.
الرابع: يضمر الكفار الحسد للمسلمين، وتمتلأ نفوسهم بالعداوة والخصومة للمسلمين.
الخامس: تصدر البغضاء على ألسنة الكفار أحياناً، وجاء القرآن لتوثيقها ولا تستحوذ على كلامهم وخطابهم مع المسلمين على نحو السالبة الكلية، بل أحياناً يتوددون للمسلمين قال تعالى [يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ]( )، أما البغضاء التي يخفونها في صدورهم فهي تستحوذ على قلوبهم،كما تمتلأ نفوسهم غيظاً وحنقاً على المسلمين.
ويحتمل ما يخفيه الكفار من البغضاء والعداوة للمسلمين بالقياس إلى ما يظهرونه في أقوالهم وجوهاً:
الأول: التساوي بين الذي يظهرون من البغضاء والعداوة وبين ما يخفون.
الثاني: الذي يخفونه أقل مما يظهر على ألسنتهم.
الثالث: ما يظهر على ألسنتهم أقل بكثير مما يضمرون في صدورهم من الغل والغيظ للمسلمين.
والصحيح هو الثالث، وبه جاءت الآية القرآنية، إذ انها تبين بجلاء شدة حنق وبغض الكفار للمسلمين، وفيه منع للمسلمين من حسن الظن بالكفار أو التهاون والتسامح في باب البطانة والخاصة، ترى لماذا يخفي الكفار الحسد والعداوة للمسلمين فيه وجوه:
الأول: خشية وخوف الكفار من المسلمين فتدل الآية على ما صار اليه المسلمون من القوة والعز والمنعة بحيث يخافهم الأعداء.
الثاني: صحة إختيار المسلمين وسلامة تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعجز الكفار عن إظهار جحودهم وتكذيبهم بالرسالة لتواتر الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي الآيات والمعجزات على يديه.
الثالث: إخفاء الأكثر والأشد من البغضاء نوع من الكيد والمكر بالمسلمين.
الرابع: من خصائص الحسد الإستحواذ على القلب والرغبة بلحوق الأذى بالغير.
الخامس: ما يبدو على ألسنة الكفار من مفاهيم البغض والحسد مرآة وإنعكاس لما في صدورهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية وما فيها من الأسرار، وهي شاهد على قبح نواياهم، وسوء سريرتهم، قال تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ] وفيه وجوه:
الأول: إرادة المشاكلة مع ما تقدم من الكلام، وقوله تعالى [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ].
الثاني: المقصود مجموع ما تخفيه صدور الكفار من البغضاء والحسد للمسلمين أكبر مما يجري على مسامعكم منها، فقد يكون فريق من الكفار لا يخفي للمسلمين الضغائن والحقد والكراهية مع جريان البغضاء للمسلمين على لسانه، ولكن فريقاً آخر يضمر لهم كل العداوة فيكون المجموع ان ما يخفونه ككفار أكبر من البغضاء التي تصدر منهم.
الثالث: الآية إنحلالية والمقصود ان كل واحد منهم تصدر البغضاء منه فانه يضمر للمسلمين عداوة أكبر، ومنهم من لم تصدر البغضاء على لسانه، ولكنه يخفي في صدره الغل والحسد والبغض للمسلمين.
والصحيح هو الثالث، ليكون المراد من لفظ “أكبر” وهو أفعل تفضيل كثرة وشدة البغضاء التي يخفونها للمسلمين لذا جاءت الآية الكريمة بالتحذير والنهي عن إستبطانهم على نحو العموم الإستغراقي.
وفي هذا النهي وإمتثال المسلمين له منع لظهور ما خفي في صدور الكفار من البغضاء إلى الخارج وليس فقط على ألسنتهم بل في أفعالهم بصيغ المكر والدهاء والكيد، ولو إتخذهم المسلمون بطانة لربما صار ما يجري على ألسنتهم من البغضاء أكبر مما يخفون لأنهم يجدون منفذاً وطريقاً لإظهار تلك البغضاء، فجاءت هذه الآية لمنع ظهور الأخلاق المذمومة والعداوة الضارة بالمسلمين والناس جميعاً.
ولم تذكر الآية الأفعال التي يأتي بها الكفار مما تكون فيها عداوة للمسلمين، ومنهم من يقاتل المسلمين، ويعتدي عليهم، والجواب من وجوه:
الأول: شمول النهي الوارد في الآية للذين يحاربون المسلمين، ويظهرون لهم العداوة بالأولوية القطعية.
الثاني: لايتخذ المسلمون عدوهم بطانة وخاصة، والنفوس تنفر من الأعداء وتحذرهم.
الثالث: يتضمن معنى “من دونكم” في قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] القرب وأسباب الإختلاط، والعدو بعيد في مسكنه وعمله.
الرابع: تتضمن هذه الآية التحذير من عداوة غير المسلمين فمنهم من لا يظهر العداوة للمسلمين، ولا يناصر أعداء الإسلام، ولكن مع تقادم الأيام قد يكون عدواً للمسلمين، فيتخذ من خبرته في بطانة المسلمين وسيلة للإضرار بهم، فجاءت الآية الكريمة للإحتراز والوقاية من العداوة.
ولما جاءت هذه الآية بفضح الكفار، وكشف ما تخفيه صدورهم، فهل ينتهون من العداوة والبغضاء للمسلمين أو هل يتخلصون مما تخفيه صدورهم من الكيد والحسد للمسلمين، الجواب لا، لبغضهم للإسلام، وهو من إعجاز الآية إذ أنها تخبر عن حال مستديمة وأمر مستقر في نفوس الكفار لن ينجو منه إلا من إختار الإسلام وأحسن علانيته.
لقد أخبرت الآية عن إخفاء الكفار لبغض وحسد شديد للمسلمين، وهذا الإخفاء في مجالسهم ومنتدياتهم وفي النفوس قال تعالى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}( ) ، تفضل الله تعالى وأطلع عليه المسلمين، وفيه وجوه:
الأول: في هذا الإخفاء ضرر بالمسلمين.
الثاني: فيه ضرر على الكفار أنفسهم.
الثالث: فيه أذى وضرر على المسلمين، وعلى الكفار.
والصحيح هو الثاني، فبإخفاء البغض للمسلمين لا يضر إلا أهله ليس لأن كل إخفاء للبغض يضر أهله وحدهم، فلا دليل على ثبوت الإطلاق في المقام ولكن بغض الكفار للمسلمين يضر بالكفار أنفسهم من وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى بإخبار المسلمين عن عداوة الكفار لهم، وإخفائهم البغضاء الشديدة للمسلمين.
الثاني: إحتراز المسلمين من الكفار وإجتنابهم حتى في موضوع البطانة.
الثالث: إزدياد قوة ومنعة المسلمين مع تقادم الأيام.
الرابع: إتخاذ المسلمين لأحكام هذه الآية قواعد كلية في الحيطة والحذر من الكفار.
ويتأذى الكفار مما يخفون في أنفسهم من الغيظ للمسلمين لأن إمتلاء النفس بالبغضاء والحسد أمر يؤذي الإنسان، ويؤدي إلى حدوث الأعراض العضوية والنفسية الضارة عنده، ويجعله مضطرباً بائساً، يغلب اليأس والقنوط عليه، خصوصاً وأن هذه الآية الكريمة تجعل المسلمين في حال يقظة وفطنة دائمة.
ومن منافع فضح هذه الآية للكفار أنها تجعلهم يحسون بما يملأ نفوسهم من الحسد والبغض للمسلمين، وقبح هذا البغض ومقدماته وغاياته، ليكون هذا الحسد سبباً في توبة وإسلام بعضهم، وظهور اللوم عندهم لبغضهم المسلمين، كما انه حجة عليهم، ودعوة للإنصاف، فكيف يتخذ المسلمون بطانة وخاصة ممن يضمر لهم العداوة، والبغضاء الشديدة.
وجاءت الآية التالية لتؤكد أضرار هذا الغيظ على النفس بقوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]، وجاءت الآيات لتخبر عن علم الله تعالى بما تخفيه صدور الكفار قال تعالى [وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ] ( ).
ومن مصاديق هذا العلم ما تضمنته الآية بالإخبار عن صدور معاني البغض والحسد للمسلمين على ألسنة الكفار الى جانب إخفائهم لعداوة المسلمين، وفي الآية حذف والتقدير: “وما تخفي صدورهم من البغضاء أكبر مما بدى على أفواههم”.
ويدل عليه نظم الآية، والتبادر، وفيه إعجاز بلاغي وإشارة الى ما يضمرون من معاني البغض والعداوة للمسلمين والإسلام، ليكون الإضمار سبباً لنفرة وإحتراز المسلمين منهم في موضوع البطانة وغيره.
لقد ذكرت الآية حد القلة لما تخفيه صدور الكفار من الحقد والبغض للمسلمين بلحاظ ما يظهر على ألسنتهم من أسباب العداوة والبغضاء ولم تذكر حد الكثرة له، إذ قالت الآية [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] فجعلت كبره وكثرته أمراً مفتوحاً غير مقيد بحد معلوم وفيه زيادة في إنذار إضافي للمسلمين، وإعجاز للآية القرآنية لأن ما تخفيه الصدور من الحسد والبغض من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ويزداد في أحوال وعند أهل ملل من الكفار والمشركين، ولكنه في كل الأحوال أكثر مما يظهر على ألسنة الكفار من البغضاء والكره ومفاهيم العداوة، ويحتمل كبر ما تخفيه الصدور بالنسبة للبغضاء المعلنة وجوهاً:
الأول: كل أهل ملة يخفون في صدورهم من البغضاء والعداوة للمسلمين أكثر مما يظهرون على ألسنتهم.
الثاني: مجموع ما يخفي الكفار من البغضاء أكبر مما يعلنون من غير حصر بأهل ملة مخصوصة.
الثالث: كل فرد من الكفار يخفي في صدره من العداوة للمسلمين أكبر مما يعلنه من البغضاء لهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية وهو من أسرار الإطلاق في لفظ “أكبر” ومجيئه بصيغة أفعل تفضيل.
ونسبت الآية الإخفاء إلى الصدور بقوله تعالى [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ] وفيه وجوه:
الأول: قدرة الصدور على إخفاء العداوة والبغضاء.
الثاني: إرادة الحال في الصدور من العداوة.
الثالث: الإشارة إلى نكتة، وهي أن الكافر يبغض الإسلام في نفسه وصدره وجوانحه.
وجاء هذا الشطر من الآية لوجوه:
الأول: إخبار المسلمين عن حال الكفار وما يضمرونه من العداء الشديد للمسلمين.
الثاني: قد لا ينتبه فريق من المسلمين للبغضاء التي تجري على ألسنة هؤلاء، فجاءت هذه الآية لتوكيدها.
الثالث: قد يظن جماعة من المسلمين أن البغضاء التي تبدو على ألسنة هؤلاء أمر يسير لا يعدو اللسان، خصوصاً وان بعضهم يختم كلامه بانه يمزح ويداعب المسلمين، فجاءت هذه الآية لتؤكد ان تلك البغضاء وأسباب الشك والريب مترشحة عن عداوة أكبر تضمرها نفوسهم.
الرابع: تحصيل إقتران وإرتباط شرطي بين البغضاء الظاهرة على ألسنة الكفار وبين ما تخفي صدورهم، فما ان تبدو أمارات الحسد والبغضاء على ألسنة الكفار حتى يتبادر الى أذهان المسلمين العداوة التي يخفيها هؤلاء في صدورهم.
الخامس: طرد الغفلة عن المسلمين، وجعلهم يأخذون كلام الكفار والحاسدين على محمل الجد، ويلتفتون إلى ما ورائه من المكر والكيد، مما يستلزم النفرة وعدم الركون إليهم في موضوع البطانة والخاصة.
علم المناسبة
ورد لفظ “الصدور” بصيغة الجمع في القرآن أربعاً وثلاثين مرة، منها خمسة في سورة آل عمران وحدها، وهو أكثر عدد منها في سور القرآن، وجاءت أربعة من المجموع بصيغة الخطاب “صدوركم” وعشرة بصيغة الغائب “صدورهم” ومنها هذه الآية وهي أول آية في القرآن بحسب الترتيب يرد فيها لفظ “صدورهم”.
إذ انها جاءت خطاباً للمسلمين، وبيان لحال غير المسلمين ممن يضمرون العداوة والبغضاء للمسلمين، وأخبرت الآيات عن جهل وغفلة الكفار وجحودهم وخشيتهم من المسلمين قال تعالى [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ] ( )، ليجتمع الجهل والرهبة والعداوة في صدور الكفار، بينما تبعث هذه الآيات السكينة في نفوس المسلمين، وتبين لهم ضعف ووهن عدوهم، وتحذرهم من تهيئة مقدمات تساعده على التخلص من ضعفه ومنها إتخاذه بطانة ووليجة، لقد أرادت الآية محل البحث بقاء الكفار في حزن وكآبة بسبب سوء إختيار الكفر وعداوتهم للمسلمين.
وجاءت الآيات في مدح المسلمين وبشارة سلامتهم وصفاء قلوبهم في الآخرة، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ]( ).
وقد ذم الله تعالى الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ]( )، أي ان نفوسهم تمتلأ بالتكبر والتعظم وحب الرياسة والجاه والإستحواذ على المال، فعادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه متبوع وغيره يجب أن يكون تابعاً له، سواء كان الغير ملكاً أو سلطاناً، ونسب الزمخشري الى القيل”كانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود ، يريدون الدجال ، ويبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا الملك) فسمى الله تمنيهم ذلك كبرا ، ونفى أن يبلغوا متمناهم” ( ).
وهذا الكبر والغرور من أسباب العداوة للمسلمين لأن المسلمين لبسوا رداء الخشوع والخضوع لله تعالى، وهم دعاة إلى طاعة الله والإنقياد لأوامره فأصر الكفار على التكبر والتجبر، فجاءت هذه الآية الكريمة لتبين منافع الإيمان وان الله تعالى يرفع الذين يؤمنون به ويخشونه ويفضح الذين يناصبونهم العداوة، فيكشف أسرارهم.
قانون ما تخفي صدورهم أكبر
لقد جاءت آيات القرآن شفاء لصدور المسلمين، وتضمنت أيضاً كشفاً لما في صدور الكفار من الحسد والبغض والعداوة للمسلمين، فتفضل الله تعالى بتحذير المسلمين من إتخاذهم بطانة وخاصة، وقد يتهاون شطر من المسلمين في موضوع البطانة من وجوه:
الأول: إتخاذ بطانة من غير المسلمين، ممن يظهر الرياء والود للمسلمين.
الثاني: ترك أهل الحسد النهي عن البطانة والخاصة من غير المسلمين.
الثالث: عدم إعطاء أولوية لموضوع البطانة، لأن القرار والأمر بيد المستبطِن المسلم.
الرابع: إخفاء البطانة غير المسلمة العداوة والبغضاء للمسلمين.
فجاءت هذه الآية ببيان قانون ثابت يتعلق بموضوع البطانة وغيرها، وهو ان قلوب الكفار ممتلئة غيظاً وحسداً وكرهاً للمسلمين، وعلى المسلمين التوقي والحذر في باب البطانة، فتتوجه الآية بأحكامها إلى كل من:
الأول: الفرد المسلم بنهيه عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين.
الثاني: دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب البطانة وإعطائها أولوية لما لها من الموضوعية في جلب المصلحة ودرأ المفسدة، وهذه الدعوة خاصة وعامة، فهي تتوجه لكل فرد منهم بحسب الحال والمقدرة وشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تتوجه إلى المسلمين جميعاً علماً بان تلاوة الآية وحدها من الأمر بالمعروف، وإن جاءت بقصد القرآنية لأن البيان مصاحب للقرآنية ولا يتعارض الأمر بالمعروف مع التلاوة بل يتداخلان وتكون التلاوة سبباً مباركاً وعوناً في الإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتظهر الآية الكريمة حب الله تعالى للمسلمين والعناية الإلهية بهم بحيث تأتي الآية بنهيهم عن البطانة من غيرهم، ثم تبين لهم قانوناً ثابتاً يكون حرزاً لهم في أمور الحياة المختلفة، إذ تجعل الآية المسلم ملتفتاً ويقظاً من الكفار الذين يضمرون له وللإسلام العداوة.
وتدعو الآية المسلمين الى التمسك بآداب الأخوة الإيمانية، والتقيد بأحكام القرآن، وإجتناب الفرقة والفتنة التي ينفذ منها العدو أو يبث من خلالها سمومه.
وتمنع الآية الكريمة القنوط واليأس والفزع من النفاذ إلى قلوب المسلمين، إذ أنها بيّنت حال الكفار، وما يعلنون وما يخفون من العداوة للمسلمين، كي لا يركن ويميل إليهم المسلمون ثم يفاجئون بعداوتهم فيحصل الإرباك في صفوفهم.
فجاءت الآية الكريمة لجعل المسلمين علماء يعرفون عدوهم، ويتوقعون منه العداوة، ويستعدون لها ولدفعها، وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين بهذه الآية الكريمة فزادهم إحترازاً وبعث في قلوب الكفار الأسى والحسرة لإفتضاح أمرهم.
ومن المنافع العظيمة لهذه الآية انها تصاحب المسلمين في أجيالهم المتعاقبة، وتكون لهم حارساً أميناً، وواقية من الضرر والخيانة، وتؤكد رحمة الله تعالى بهم، وتكون موضوعاً للشكر لله تعالى على نعمة التحذير من العدو وبيان خصاله التي تضره.
إذ تبين الآية الكريمة ان عداوة المسلمين تجلب لصاحبها الأذى سواء كانت تلك العداوة ظاهرة أو خفية، وتخبر عن علم الله تعالى بها مما يعني انها سبب لعذاب الكفار في الآخرة، لذا فان الآية إنذار دنيوي وأخروي للكفار، أما الدنيوي فهو على وجوه:
الأول: كشف ما تخفي صدور الكفار من العداوة للمسلمين.
الثاني: جعل الكفار يتدبرون أمرهم، ويلوم بعضهم بعضاً على أمور:
الأول: خسارة منازل البطانة والخاصة للمسلمين.
الثاني: ظهور البغضاء والكره للمسلمين على ألسنتهم.
الثالث: فضح القرآن لما تخفيه صدورهم من الحقد والعداوة للمسلمين.
الرابع: إسقاط ما في أيديهم وعجزهم عن إلحاق الضرر بالمسلمين.
الخامس: مجي القرآن بما فيه ذمهم إلى يوم القيامة.
السادس: الظلم للنفس بعداوتهم للمسلمين، لذا جاءت خاتمة الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ولا تجد أحداً من الكفار يحتج على فضح هذه الآية لهم، وإخبارها عما في صدورهم من الغل والحقد، لأنهم يدركون أن الله تعالى لم يظلمهم في كل من:
الأول: كشف ما تخفي صدورهم من العداوة للمسلمين، لأن هذه العداوة قبيحة ذاتاً وعرضاً، وعلتها تلبسهم بالكفر والجحود وبغضهم للإيمان وأحكام التوحيد، ومخالفتهم لوظائف العبودية.
الثاني: ذم الآية لما يظهره الكفار من البغضاء للمسلمين.
الثالث: تحذير الآية المسلمين من الكفار في موضوع البطانة وغيرها.
الرابع: دلالة الآية في مفهومها على دعوة المسلمين لإتخاذ بطانة من بينهم.
الخامس: غلق الأبواب التي قد ينفذ منها الكفار للمسلمين.
السادس: الإقرار بحقيقة وهي من يعادي المسلمين لن يحصد إلا الإضرار بنفسه لأن الله تعالى هو ولي المسلمين وناصرهم.
السابع: صيرورة عداوة الكفار للمسلمين سبباً في تنمية ملكة الحيطة والحذر عند المسلمين وإنقطاعهم إلى عبادة الله تعالى.
الثامن: حرمان الكفار من تقريب المسلمين لهم، وفقدان المنافع التي تأتي من هذا التقريب، وإختصاص المسلمين بها ليس حرصاً وطمعاً، بل لأمر عقائدي وهو سلامة دينهم بإجتناب البطانة التي تضرهم، فيترشح عن هذا الإختصاص النفع الدنيوي إلى جانب النفع الأخروي.
التاسع: بعث الفزع والخوف في نفوس الكفار من عذاب الآخرة، فان الله عز وجل الذي يخبر عما في صدورهم من الغل والبغضاء قادر على أن يبعثهم يوم القيامة، ويحاسبهم على ما صدر منهم من أسباب العداوة. وعلى ما في صدورهم من البغضاء والحسد للمسلمين.
العاشر: إظهار الأسرار للمسلمين تخفيفاً عنهم، وزيادة في إيمانهم.
الحادي عشر: بيان قبح النفاق، وذم المنافقين ودعوتهم للتوبة والإنابة، وتبين هذه الآية للكفار ظلمهم لأنفسهم وتكون حجة عليهم في الدنيا والآخرة، وحصناً للمسلمين ودليلاً على ضلالة وخيبة الكفار وإشِعاراً برجوع كيدهم إلى نحورهم، وصيرورة ما في صدورهم من العداوة حسرة عليهم في النشأتين،وما في الآية من الإخبار شفاء لصدور المسلمين.
ويكون هناك قسمان:
الأول: الذين تملأ نفوسهم البغضاء والعداوة للمسلمين وهم الكفار لتكون هذه العداوة غشاوة تحول دون إدراك الآيات العقلية والحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الذين تمتلأ نفوسهم بالإيمان وهم المسلمون، فتكون حال الكفار سبباً لشفاء صدورهم، وحجة لهم على أعدائهم، وآلة في الجدال وحجة في الدعوة الى الله تعالى، فتأتي البطانة الصالحة لتوظيف هذه المسألة أحسن توظيف، وتحول دون التفريط بها، أما البطانة السيئة فانها تحرف الحقائق، وتعتمد المغالطة والغرور.
وفي موضوع تعلق هذا الشطر من الآية وجوه:
الأول: يتعلق البيان بموضوع البطانة والخاصة والتحذير منها، وفيه مسائل:
الأولى: لو تولى الكفار وظيفة البطانة أخرجوا ما يضمرون من العداوة للمسلمين.
الثانية: تكون وظائف البطانة مناسبة لإظهار الكفار حسدهم وبغضهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام.
الثالثة: يبقى ما يخفيه الكفار من الحقد والحسد الزائد على المسلمين في نفوسهم حتى وإن تولوا مسؤوليات البطانة.
الثاني: الآية أعم في موضوعها فمسألة البطانة موضوع للآية، أما وصف الكفار والإخبار عما في صدورهم فهو بيان لحالهم.
الثالث: تتضمن الآية التحذير من الكفار في موضوع البطانة وغيرهم، فهذه الآية أنهت موضوع البطانة بإعراض المسلمين عنهم، وإمتناعهم عن إختيار الكفار لمراتب البطانة، ولكن بيان حال الكفار إنذار دائم منهم، ودعوة للمسلمين للحيطة والحذر مما تخفيه نفوس أعداءهم، وما يمكن أن ينعكس في عالم الأقوال والأفعال.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة، فتكون وثيقة تأريخية وعوناً للمسلمين في الحياة العامة.
قوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ]
هذا الشطر من الآية شاهد على إكرام الله تعالى للمسلمين من وجوه:
الأول: الخطاب الإلهي الى المسلمين [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] وما فيه من التشريف.
الثاني: دعوة المسلمين للتقيد بمضامين الآية الكريمة بيان الآيات لهم.
الثالث: من مصاديق إكرام المسلمين في الآية أنها لم تقل “قد بينا الآيات” بل قيدت البيان بانه للمسلمين بقوله تعالى [بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] وفيه حث للمسلمين للعمل بأحكام الآيات وبيانها، وما لها من الدلالات.
الرابع: مع ان القرآن نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاءت الآية خطاباً للمسلمين، وبياناً للأحكام لهم كي تكون قريبة منهم.
الخامس: في الآية دعوة للمسلمين لتوظيف الحواس في إدراك المعقولات، لأن البيان جاء بصيغة المحسوس والمعقول، أما المحسوس فما يظهر من البغضاء على ألسنة الكفار، وأما المعقول فهو ما تخفيه صدورهم وكيف انه أكبر وأكثر ضرراً مما يجري على ألسنتهم.
السادس: جاء البيان بصيغة الماضي ” قَدْ بَيَّنَّا” مما يدل على تفضل الله تعالى بالإخبار عن الآيات من غير قيد أو شرط ليكون بيانها سلاحاً بيد المسلمين، وهذا البيان من وجوه إنتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وعلو راية الإسلام وتعدد أمصار المسلمين، وهو سيف إنتشر به الإسلام، فليس السيف دائماً هو آلة القتال، بل يشمل لغة البيان والتدبير وما يكون ضياء ينير للمسلمين دروب العمل.
السابع: مجيء البيان من عند الله عز وجل للمسلمين جميعاً ويحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة الصحابة من المهاجرين والأنصار.
الثاني: أهل الحل والعقد من المسلمين.
الثالث: الذين يستلزم شأنهم وعملهم إتخاذ بطانة وخاصة.
الرابع: الرجال من المسلمين خاصة دون النساء لأن المرأة وظيفتها في البيت.
الخامس: المقصود عموم المسلمين رجالاً ونساء وفي أجيالهم المتعاقبة، والصحيح هو الأخير، فالخطاب في الآية وما فيها من البيان أمران إنحلاليان متوجهان للمسلمين جميعاً وفي كل زمان، وهو من إعجاز الآية الكريمة وجاءت الآية بصيغة حرف التحقيق “قد” لإمضاء مضامين البيان وتوكيد ما فيه من الوضوح والكشف، وإنتفاء اللبس والترديد في الآيات، ويحتمل البيان وجوهاً:
الأول: ما جاء في الآية من النهي عن إتخاذ وليجة من غير المسلمين.
الثاني: لغة الإنذار والتحذير من الكفار وما يضمرونه من العداوة للمسلمين.
الثالث: توكيد صدور البغضاء والجرح والسب من الكفار للمسلمين، فقد ينكر الكفار مثل هذا التعدي والإساءة، أو أنهم يقولون بأنه لم يصدر الا من الجهال منا، ولا يمثلون الا أنفسهم، وان البطانة تتصف بالنزاهة والأهلية والمعرفة، فجاءت الآية لتبين للمسلمين بان البغضاء تصدر منهم جميعاً لأنها تأتي حسداً وكرهاً للمسلمين ولما في الإسلام من التكاليف والعبادات.
وتكون مضامين هذه الآية سبباً في إظهار الكفار لبغضهم للمسلمين وتزيد مما يخفون في صدورهم من العداوة لهم لأنها تفضح الكفار، وتحجبهم عن الإضرار بالمسلمين في باب البطانة والخاصة، وتغلق عليهم الإنتفاع الخاص منه، لأن توظيف الكفار في منازل الكفار يعود عليهم بالمنافع الخاصة والعامة، ويجعل لهم شأناً ووداً الى جانب إتخاذه منبراً ومناسبة للإضرار بالمسلمين، فجاءت هذه الآية لتكون الغايات منها على وجوه:
الأول: حجب النفع عن الكفار في باب البطانة للمسلمين، بمنعهم منها.
الثاني: إبعاد الكفار عن منازل التأثير على المسلمين وحرمانهم من إتخاذ منازل البطانة سلاحاً ضد المسلمين.
الثالث: دفع المفسدة عن المسلمين في باب البطانة بتحذيرهم، وإنذارهم من إتخاذ الكفار وليجة وخاصة.
الرابع: جلب المصلحة والنفع للمسلمين بإتخاذهم بطانة من بينهم، وباللجوء الى القرآن والسنة في إستنباط الأحكام الشرعية.
وذكرت الآية فضل الله تعالى على المسلمين في بيان الآيات لهم، وفيه دعوة للمسلمين جميعاً لأمور:
الأول: التوجه بالشكر لله تعالى على نعمة بيان الآيات.
الثاني: معرفة المسلمين لمنزلتهم وحسن مقامهم عند الله تعالى، وهو فضل آخر منه سبحانه.
الثالث: حاجة المسلمين لبيان الآيات.
وتفضل الله تعالى ببيان الآيات وفيه شاهد على خضوعهم وعبوديتهم لله تعالى، وحث للمسلمين على اللجوء الى الله تعالى لأخذ الأحكام وقضاء الحوائج وما يصلون به إلى الغايات الحميدة، والسلامة والأمن في الآخرة.
وفي بيان الآيات مسألة وهي إنتفاء الإجمال والإبهام واللبس والتعارض في القرآن للتنافي بين الإيمان من جهة وبين الإجمال ونحوه من جهة أخرى، وقد ذكرت الآية الآيات بصيغة الجمع [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ]، وفيه وجوه:
الأول: بيان كل آية على نحو مستقل.
الثاني: بيان الآيات على نحو الإجمال.
الثالث: تفصيل شطر من الآيات، وذكر العام وإرادة الخاص منه.
والصحيح هو الأول، وهو مقتضى البيان وصيغة الجمع الواردة في الآية الكريمة، ولأن الله تعالى إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
ويحتمل بيان الآيات وجوهاً:
الأول: إرادة الآيات المذكورة في هذه الآية على نحو الخصوص وهي:
الأول: الخطاب الإلهي للمسلمين بصفة الإيمان، وفيه مدح وثناء من الله تعالى على المسلمين، فهذا الخطاب وما فيه من معاني الرضا عن المسلمين دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وحث للمسلمين على تعاهد سنن الإيمان وأحكام الفرائض.
وفيه بشارة بقاء المسلمين وتعاهد الإيمان الى يوم القيامة وهو الذي يدرك بالحواس والوجدان في هذا الزمان وكل زمان، فقول الله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بيان لآية في الخلق وبديع الصنع واللطف الإلهي بالمسلمين وبلوغهم مراتب الإيمان، وقد جعل الله تعالى الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ويجتهد الإنسان في السعي فيها وهو لا يعلم هل الله تعالى راضَ عنه وأين يكون منزله يوم القيامة.
فجاءت هذه الآية لتخبر المسلمين جميعاُ بإكرام الله تعالى لهم ورضاه على إيمانهم وتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله عز وجل، وهذا الإكرام بيان لآية من عند الله وعظيم فضله على المسلمين.
الثاني: توجه الخطاب الإلهي الى المسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي فالخطاب إنحلالي يشمل كل فرد من المسلمين على وجهين:
الأول: النهي العيني عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين، فليس للمسلم أن يتخذ بطانة من غير المسلمين.
الثاني: النهي عن المنكر على نحو الوجوب الكفائي، بأن ينهى المسلم عن إتخاذ غيره من المسلمين بطانة له من دون المسلمين.
الثالث: الوجوب الكفائي على المسلمين للأمر بإتخاذ بطانة من المسلمين عند إرادة تعيين وإختيار البطانة، فقد يستغني المسلم عن البطانة، ولكنه ان أراد إتخاذ بطانة وخاصة فلابد أن تكون بطانة مؤمنة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
الرابع: بيان موضوع البطانة وأحكامها وآدابها، والأفراد المنهي عنه منها، والإشارة الى حقيقة في الإرادة التكوينية وهي ان البيان يشمل النواهي كما يشمل الأوامر، فيجب على المسلمين إجتناب ما نهى الله عنه مثلما يجب عليهم العمل بما أمر به سبحانه، ليبقى المسلمون منقطعين إلى الله تعالى في أعمالهم فإذا همّ أو نوى أحدهم أو الجماعة منهم عملاً تتبادر إلى ذهنه منزلة العقل في عالم الأمر والنهي، وما يشمله من الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.
الثالث: توكيد حقيقة وهي ان موضوع البطانة من الأحكام التي تستلزم الرجوع الى القرآن وأحكام الشريعة لتعيينها بالصفة ، للملازمة بين البغضاء التي تجري على ألسنة الكفار، وما يخفون في صدورهم من وجوه:
الأول: الملازمة الواقعية المستديمة.
الثاني: الملازمة بينهما في الوجود الذهني عند المسلمين، فكلما سمعوا من الكفار ما يدل على البغضاء والكره للمسلمين يتبادر الى أذهانهم ما هو أكبر منها من العداوة التي يخفيها الكفار في صدورهم.
الثالث: تلك الملازمة علة لإجتناب المسلمين جعل الكفار بطانة وخاصة لهم، وهذه الملازمة من الآيات التي تكشفها هذه الآية الكريمة، وفيه شاهد على أن الآية القرآنية الواحدة تتضمن آيات عديدة، وكل واحدة منها مدرسة جامعة للأحكام والفضائل والسنن الحميدة، ومانع من الأخلاق المذمومة.
وجاء هذ الشطر من الآية بصيغة الجمع في طرفيه:
الأول: الآيات التي تفضل الله عز وجل ببيانها.
الثاني: الذين تفضل الله عز وجل ببيان الآيات لهم وهم المسلمون جميعاً ذكوراً وإناثاً بأجيالهم المتعاقبة وذراريهم المتكثرة، وأمصارهم المتعددة، ويدل عليه قوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] وصيغة الجمع في “لكم” الذي يدل عليه حرف الميم وبصيغة الخطاب للإخبار عن نعمة وآية أخرى، وهي ان بيان الآيات تشريف وإكرام للمسلمين، وانه كنز ينهل منه المسلمون ويأخذون ما يسد مؤونتهم في موضوع البطانة وغيرها.
وفي الآية بشارة للمسلمين وهي ان ما يبديه الكفار على ألسنتهم من العداوة للمسلمين، وما يخفونه في صدورهم لن يضر المسلمين لأن بيان الآيات حرز وواقية للمسلمين، ودعوة لهم لأخذ الحيطة والحذر، وبذل الوسع في تعاهد مبادئ الإسلام وأحكام الشريعة.
وفي الآية وبيان الآيات إنذار ووعيد ، ويحتمل قسمين:
الأول: الإنذار والوعيد للمسلمين.
الثاني: الوعيد لأهل الكتاب والكفار من العمل بطانة وخاصة للمسلمين، ونشر الفساد من منازل البطانة.
والجواب هو لا وعيد على المسلمين في الآية، إنما جاءت للنهي والإرشاد والهداية إلى سبل الصلاح، وإجتناب مقدمات الفساد، ومن الإعجاز أن القرآن لم يأتِ بالتحذير من البطانة المسلمة التي تنشر الفساد مما يدل على ان الإسلام برزخ دون الفساد، والمراد من البطانة المسلمة هي التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وكما يتوجه النهي الى المسلم بعدم إستبطان غير المسلم، فكذا يتوجه الخطاب الإلهي في الآية الكريمة الى البطانة المسلمة بأن لا تكون سبباً للفساد وإشاعة الخبال، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
نعم قد يقال ان ذكر الوصف مشعر بأنه علة للحكم، وان بيان وجوه القبح في البطانة من غير المسلمين تلك التي لا تزيد المسلمين إلا خبالاً، وانها تود العنت والمشقة للمسلمين، يفيد التحذير ممن تنطبق عليه هذه الصفات مطلقاً وان كان مسلماً، والجواب من وجوه:
الأول: النقاش في الكبرى وهي ان المسلم منزه عن هذه الصفات.
الثاني: لا ينحصر البيان في موضوع البطانة بآية البطانة وحدها، بل تتضمن آيات القرآن الدروس والمواعظ والعبر في لزوم إختيار البطانة الصالحة وعدم الركون للقوم الذين ظلموا أنفسهم بمعاداة الإسلام، وإضمارهم البغض والكره.
الثالث: جاء النهي في موضوع البطانة بخصوص غير المسلمين.
وجاءت الآية التالية بياناً وتفسيراً للزوم الإمتناع عن ود وإستبطان الكفار وان إدعوا التصديق بالنبوة أمام المسلمين ممن يظهر غيظه وحنقه على الإسلام والمسلمين عندما ينفرد بأصحابه ورهطه من الكفار، ويؤكد رغبته في الإنتقام من المسلمين.
فجاءت هذه الآية لمنع جعل البطانة وسيلة للتعدي على المسلمين وإظهار هذا الغيظ، لذا أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] في دعوة إلى التدبر في الأمور وملاحظة الوسائط والأسباب والنتائج.
علم المناسبة
ورد لفظ “بيّنا” في القرآن ثلاث مرات، كلها خطاب للمسلمين، وبهذا المعنى وإرادة إظهار الحجة والبرهان، وإكرام المسلمين وإطلاعهم على أمور من علم الغيب فضلاً من الله تعالى، قال تعالى [قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] ( ).
ومن الآيات ان هذا الشطر ورد في سورة البقرة خاتمة للآية الثامنة عشرة بعد المائة، أي أنها تحاكي الآية محل البحث من سورة آل عمران بذات الترتيب في نظم الآيات، وجاءت خاتمة الآية من سورة البقرة أعلاه بصيغة الغائب وليس الخطاب لأن موضوع الآية ذم الذين كفروا، ولكن المقصود بالقوم الموقنين هم المسلمون لأن قصص الأمم السالفة جاءت عبرة وموعظة لهم.
وجاءت الآية الثالثة في خطاب للمسلمين [اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، مما يدل على بيان القرآن لأمور الدنيا والآخرة، وأسباب هداية المسلمين بما يزيدهم إيماناً، ويمنع من وصول الضرر اليهم، فمع زيادة الإيمان والإنقطاع إلى العبادة قد يطمع الأعداء بالمسلمين وديارهم وأموالهم، فيأتي بيان الآيات ليكون حرزاً وواقية لهم، وجاء قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ] ( ) كما ورد فيها قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ] ( ).
لتوكيد أن البيان نعمة من عند الله، وهو الذي يكشف مضامين وأسرار الآيات بصيغ الوضوح التام الذي يمنع من اللبس، وفيه آية أخرى وإعجاز قرآني، فالبيان من عند الله آية إعجازية ولطف إلهي مصاحب للتنزيل، لوجود الإنسان في الأرض، وتعضيد للنبوة والتنزيل، وجاء في الآية ليكون حجة إضافية، وسبيل هداية، وعوناً للمسلمين السابق منهم واللاحق، ولا ينحصر في الحياة الدنيا، بل يشمل الدار الآخرة ومواطن الحساب، قال تعالى [وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ]( ).
قانون منافع البيان
البيان: ما بيّن به الشيء من الدلالة والوصف والنعت وغيره، وبان الشيء بياناً: إتضح، ويقال: إستبان الشيء: وتبين: ظهر، وإستبنته أنا: عرفته، والتبيان مصدر وهو شاذ، لأن المصادر إنما تجيء على التفعال، بفتح التاء، مثال التذكار والتكرار، ولم يجيء بالكسر إلا حرفان وهما التبيان والتلقاء( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مدرسة للعلوم وإستقراء العبر والمواعظ ولم يترك الله عز وجل الإنسان فيها يواجه الأمور وحده، والتمييز بين الخير والشر بالحس والوجدان لأن هذا يفوت عليه الفرص الكثيرة، ويمنعه من الإنتفاع من الدنيا وما فيها من الآيات، فتفضل الله عز وجل وأنعم عليه بالبيان والكشف، وأظهر له حقائق الأمور، وبين أسرار الحياة وكيفية مواجهة المشاق، وإقتباس الدروس والعبر من الأمم السالفة.
لقد جعل الله عز وجل القرآن تبياناً لكل شيء، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، و صاحب البيان الإنسان منذ أول وجوده في الأرض بواسطة النبوة والكتاب، وكان وجود آدم عليه السلام وحواء في الجنة، وتلك آية في خلق الإنسان وحجة عليه في الدنيا والآخرة.
ومنه حديث آدم وموسى على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام: أعطاك الله التوراة فيها تبيان كل شي أي كشفه وإيضاحه( ).
ويتصف البيان في القرآن عن الكتب السماوية الأخرى بوجوه:
الأول: شمول البيان في القرآن للأحكام الشرعية ومسائل الحلال والحرام، وخلوه من اللبس والترديد فيها.
الثاني: ذكر قصص الأنبياء والأمم السالفة في القرآن، وتلقي المسلمين لها بالقبول وإتخاذها موعظة وعبرة، فلو نزلت هذه القصص على أمم سابقة لتعرضت للتحريف، أو كان الإهتمام بها قليلاً وذكر الأمم اللاحقة يستلزم ذكرها في كتاب لاحق، فجاء القرآن ليكون آخر الكتب السماوية نزولاً، مهيمنا عليها، وهو الكتاب الباقي إلى يوم القيامة، وتعاهده المسلمون.
ومن خصائص المسلمين وكونهم خير أمة أخرجت للناس حفظ قصص الأمم السابقة وسنن الأنبياء والعناية بها والإنتفاع منها، وجاءت في القرآن بصيغ البيان والوضوح وإستدامته شاهد على سلامة القرآن من التحريف وهو حصانة من طرو التبديل والتغيير عليه لفظاً ومعنى وتأويلاً لأن تأويل القصة القرآنية ظاهر وواضح ولا يقبل التعدد في التأويل وهو من مصاديق البيان في القرآن الكريم.
الثالث: مجيء السنة النبوية بياناً للقرآن، ودليلاً عليه، فمن فضل الله تعالى على المسلمين أن السنة النبوية من مصاديق الوحي ليكون بيان الآيات القرآنية متعدداً من ذات الآية، ومن السنة النبوية.
الرابع: حفظ المسلمين لآيات القرآن، وهذا الحفظ وسيلة للبيان وحضور الآية القرآنية في الوجود الذهني على نحو الدوام، ولحضورها عند الوقائع والأحداث فإذا حصلت فرقة وخصومة بين المسلمين حضرت الآيات التي تدعو المسلمين للسعي للصلح بين المتخاصمين، ولزوم التمسك بالقرآن والسنة، وإذا أصابتهم مصيبة قالوا [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
ومن معاني البيان في القرآن تعاهد المسلمين للآية القرآنية وتفسيرها ليكون بياناً للناس جميعاً، ومنه هذه الآية الكريمة، فقد ينفذ الكفار والمنافقون لمنع البيان في الآية الكريمة من وجوه:
الأول: القيام بسوء التأويل.
الثاني: الحث على عدم تلاوة الآية.
الثالث: حصر مضامين الآية بأيام التنزيل.
الرابع: بذل الأموال وإستعمال لغة الترهيب والتخويف لمنع العمل بأحكام الآية.
الخامس: السعي في بيان ما يخالف منطوق وأحكام الآية، والإتيان بشواهد تدل في ظاهرها على إنتفاء الضرر من البطانة غير المسلمة، وشواهد تبين سوء عمل بطانة من المسلمين، وإذا ما تبينت بتلك الشواهد لوجدت الإستدلال بها باطلاً بالذات والأثر.
السادس: إغراء المسلمين على مخالفة منطوق الآية ومحاربة الذين يحرصون على التقيد بأحكامها.
فجاء البيان في الآية الكريمة لمنع الوجوه أعلاه في أفراد الزمان الطولية والى يوم القيامة، وفيه دلالة على ان بيان الآيات حاجة للمسلمين وللناس جميعاً، وهو آية وسر من أسرار القرآن وكيف انه المعلم الأول للإنسانية جمعاء وللمسلمين خاصة، وتدل الآية على ان من وجوه البيان:
الأول: حصر الخطاب والنهي بالمسلمين في موضوع البطانة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني: مجيء الحكم بسيطاً خالياً من التركيب، وتسمية الموضوع وهو البطانة من دون المسلمين.
الثالث: ذكر علة النهي، والجهة والأفراد الذين تمنع الآية من إتخاذهم بطانة.
الرابع: التعدد في علة النهي بما يدل على إنطباقه كلاً أو جزءً على الجماعات والأفراد الذين نهت الآية عن إتخاذهم خاصة، وبما يجعل الآية غضة طرية إلى يوم القيامة، وملائمة للأزمنة المتعاقبة، ويستطيع المسلمون رؤية مصاديقها الخارجية، وتكون لهم عوناً في تعيين تلك المصاديق بما يدفع اللبس والترديد ويطرد التحريف والتبديل.
الخامس: بيان الآيات في القرآن وفي السنة وفي الواقع العملي ليتعظ المسلمون، ويمتثلوا للنواهي القرآنية في عدم الركون إلى الكفار او إتخاذهم أولياء.
وفي بيان الآية تخفيف عن المسلمين وعون لهم للتقيد بأحكام الشريعة، وتعاهد سنن التنزيل، وهل في البيان تخفيف ورحمة عن غير المسلمين الجواب نعم، من وجوه:
الأول: إحتراز المسلمين من غيرهم في باب البطانة درس وتحذير للغير.
الثاني: زجر الكفار عن التعدي على المسلمين.
الثالث: التخفيف عن غير المسلمين بعدم إتخاذهم مقامات البطانة لإيذاء المسلمين، وتحمل الوزر والإثم بسببه.
الرابع: إقامة الحجة على الكفار في الحصانة السماوية للمسلمين بخصوص البطانة.
الخامس: ترغيب الناس بالإسلام لأنه الدين الحق.
السادس: هذه الآية من الشواهد على إستدامة منعة الإسلام، وعز المسلمين والإنسان كائن محتاج فيدرك حاجته لدخول الإسلام، والتماس أسباب القوة والأمن والسلام في الإسلام وأخوة المسلمين وإتخاذهم بطانة وخاصة.
السابع: يغلق البيان باب الجدل والشك في القرآن.
لقد جاء البيان في القرآن لتوكيد ما في الآية القرآنية من الحجة والبرهان، وهو شاهد على إعجاز القرآن الذاتي والغيري، ومن مصاديق الإعجاز الغيري للبيان القرآني زجر أهل الكتاب والكفار عن التعدي على المسلمين، ودعوتهم للإقرار بحقيقة وهي تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي القرآنية، وإدراكهم بالفطرة والعقل والحس والوجدان أن النفع والصلاح بالتقيد بها.
وجاء البيان ليكون عوناً للمسلمين في الإمتثال الأحسن والمستديم لأحكام القرآن، وتوظيف العقل والحواس للعمل بما جاء في القرآن، فيتلو المسلم آية البطانة ويسمعه غيره، فيستحضر كل واحد منهما عمله بخصوص البطانة من وجوه:
الأول: إختيار المسلم للبطانة وتقيده بأحكام الآية الكريمة بخصوصها بإجتناب إستبطان من نهت الآية الكريمة عن إستبطانهم.
الثاني: عمل وفعل المسلم كبطانة لغيره من المسلمين، وتقيده بوظائف البطانة من النصح والصدق والأمانة وحب الخير والنفع للمستبطن، ومنعه من الظلم والتعدي.
الثالث: القيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب البطانة، ويتفرع عنه إستحضار مصاديق البطانة فيما حوله وتعاهد أحكام الآية الكريمة بخصوص المصاديق الواقعية لها ولأحكامها.
ومن خصائص البيان عدم الحاجة الى التقليد والمحاكاة في الإمتثال لأحكام الآية، أو الرجوع الى العلماء خاصة في معرفة مضامين الآية والإطلاق والتقييد فيها، بل جاء البيان حجة لكل مسلم ومسلمة وشاهداً بان الخطاب التكليفي فيها يتوجه إلى عموم المسلمين بعرض واحد.
ويستطيع كل مسلم ومسلمة إدراك مضامين الآية من غير واسطة بينه وبين الآية الكريمة، فلا تصل النوبة للرجوع إلى العلماء في معرفة مضامين الآية، بل تكفي تلاوة المسلم للآية لمعرفة موضوع النهي وعلته، والحاجة إليه، ولزوم التقيد بما فيه، وهو آية في البيان القرآني وعظيم منافعه، وقرب آياته من كل مسلم وغنى المسلمين بالقرآن وآياته.
قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]
كما إبتدأت الآية بالخطاب للمسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أختتمت بالخطاب للمسلمين أيضاً وبين الخطابين جاء النهي من إتخاذ بطانة من غير المسلمين مع بيان علة النهي والأضرار المترتبة على إتخاذ خاصة ووليجة تتصف بالسعي لإفشاء الفساد والخبال بين المسلمين.
ومن الإعجاز في الآية مجيء خاتمة الآية بالحث على توظيف العقل في العصمة من الفساد والخبال وسببهما للتنافي بين العقل والخبال، فليس من إنسان إلا ويرغب بالسلامة من الخبال، ولا تأتي هذه السلامة إلا بتوظيف العقل في الأمور.
وجاءت الآية لتؤكد على نعمة العقل عند الناس، وإنتفاع المسلمين من نعمة العقل من وجوه:
الأول: ينتفع المسلمون من العقل كأمة على نحو العموم المجموعي.
الثاني: من خصائص المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما أمران يتقومان بالعقل وتوظيف مرضاة الله، ومعرفة الأحكام الشرعية وموارد الأمر وموارد النهي.
الثالث: من الآيات في الشريعة الإسلامية أن العقل وتسخيره لمنفعة الأمة والأفراد ليس مستقلاً بذاته، بل هو مقيد بأحكام الشريعة الإسلامية، فليس للعقل أن يتصرف بمفرده وبمعزل عن أحكام الشريعة، فجاءت آيات القرآن لتجعل العقل تابعاً ومنقاداً لها، وعوناً على العمل بما فيها من الأوامر والنواهي.
ومن الشواهد عليه هذه الآية القرآنية، فهي لم تدعُ إلى إستعمال العقل إبتداء وعلى نحو قائم بذاته في أحكام الحلال والحرام بل جاء خاتمة للآية وبعد ذكر النهي عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين، التي تجعلهم متخلفين عن منازل البطانة والخاصة للمسلمين.
الرابع: في الآية حث للمسلمين لإعانة بعضهم بعضاً على إستعمال العقل في الإمتثال للأوامر والنواهي، والبصيرة في الدين، ومعرفة مصاديق الحلال وإتيانها، ومعرفة مصاديق الحرام وإجتنابها.
الخامس: لم يأتِ الحث على توظيف العقل إلا بعد أمور هي:
الأول: إكرام المسلمين بلغة الخطاب.
الثاني: نهي المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم.
الثالث: بيان علة هذا النهي، وذكر أجزائها على نحو متعدد.
الرابع: بيان فضل الله تعالى على المسلمين بتجلي الآيات وكشف الحقائق، والإخبار عن المغيبات بما فيه نفع ومصلحة المسلمين، ودرأ المفاسد عنهم.
السادس: تهيئة مقدمات الإنتفاع من العقل ببيان الآيات، والإشارة الى الأضرار النوعية العامة التي تلحق المسلمين من إتخاذ الكفار وليجة وخاصة.
السابع: دعوة المسلمين إلى شكر الله تعالى على نعمة العقل، وتوظيف المسلمين للعقل في حياتهم وعباداتهم ومعاملاتهم سبب لإستدامة الحياة على الأرض، ونزول الرحمة الإلهية على الناس، لأنه آية وعون للمسلمين على العبادة وأداء الفرائض والطاعات، فيرحم الله تعالى أهل الأرض ويدفع عنهم المهالك والآفات السماوية والأرضية ببركة المسلمين وحسن إستعمالهم للعقل وتوظيفه في مرضاة الله والإمتثال لأوامره.
وفي خاتمة الآية حذف لمتعلق “تعقلون” وفيه وجوه:
الأول: تعقلون إكرام الله عز وجل لكم أنتم المسلمون، ونعتكم من بين أهل الأرض بالمؤمنين فكل فرقة من أهل الكتاب تطلق على نفسها اسم المؤمنين، وجاء هذا الوصف في القرآن خاصاً بالمسلمين، ليعقل المسلمون معانيه القدسية، ويتدبرون في دلالاته ويستنبطون منه المسائل والأحكام، وما يزيدهم عزاً وفخراً، وفيه شاهد على أن دخول الإسلام شرط لبلوغ مراتب الإيمان.
الثاني: إن كنتم تعقلون الأضرار التي تتفرع عن إتخاذ الكفار وليجة وبطانة، وتكون الآية بهذا المعنى دعوة للمسلمين للتحقيق في آثار وأضرار تلك البطانة، والتوجه إلى الله تعالى بالشكر والحمد على نعمة النجاة والسلامة منها.
ان الوقاية من بطانة السوء وأضرارها لا يمنع من قصور تلك الآثار وذكرها بلحاظ ما يحصل عند الذين يتخذونها وليجة وبطانة، ومن الآثار العلة التي ذكرتها الآية كما في قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] بالإضافة إلى مفهوم الآية الكريمة.
الثالث: ان كنتم تعقلون كونكم خير أمة أخرجت للناس فقد جعل الله تعالى المسلمين رحمة لأهل الأرض وسبباً لهدايتهم ومنعهم من التمادي في الظلم والكفر والإصرار على الجحود والشرك، ومن أجل أن يستمر النفع العام من المسلمين بين أهل الأرض لابد لهم من إجتناب إستبطان الكفار، وفيه نفع ورحمة بالكفار أنفسهم وبأهل الكتاب، وتلك آية في مبادئ الإسلام وحاجة الناس اليه.
الرابع: ان كنتم تعقلون موضوعية موضوع وأحكام البطانة والخاصة للأمة المؤمنة.
وبينما كان المهاجرون والأنصار يجاهدون من أجل الدفاع عن بيضة الإسلام، والحفاظ على أنفسهم من الكفار والمشركين، ويسعون جاهدين لصد هجماتهم على المدينة المنورة، ودرأ شرور المنافقين الذين ترتفع أصواتهم مع كل هجوم وتعدِ من الكفار نزلت هذه الآية لتخبر المسلمين في دلالاتها على عظيم شأنهم، وتتضمن البشارة على إتخاذهم وليجة وبطانة ولزوم تقيدهم بأحكام البطانة الصالحة في يومهم وغدهم أي انهم حتى في بدايات الإسلام محتاجون للعناية الإلهية والإرشاد الى السبل الصحيحة والكيفية الصالحة في إختيار البطانة من بينهم، والإعراض عن الكفار والمنافقين في موضوع المشورة وكشف السر وبيان الهموم والهواجس والنوايا.
الخامس: إن كنتم تعقلون ان غيركم لا يرجو لكم توظيف العقل في الأعمال ويريد لكم الخبال وهو ضد العقل والتعقل، و أمر ظاهر للعيان، ويدرك بالوجدان مما يستلزم إجتناب إستبطان الغير، وعدم التسبيب بالإضرار بالنفس.
إذ ان الجناية على قسمين إما ان تكون بالمباشرة أي بمباشرة الجاني وإرتكابه الجناية، وإما ان تكون بالتسبيب أو بهما معاً، ولا يعني إستبطان الكافر سبباً لسعيه للفساد بين المسلمين لأن المسلم لا يقصد الإضرار بنفسه، ولكن الكافر يسيء إستعمال النعمة ويجحد بها، ويسعى في الإضرار بالمسلمين في وقت يجب عليه توظيف العقل الذي رزقه الله في المقام وتقديم النصح، وإظهار الإخلاص والصدق مع المسلمين شكراً لهم على إيلائه الثقة وحسن الظن به.
السادس: ان كنتم تعقلون أن الخبال يتنافى ويتناقض مع مقامات العبودية التي بوأكم الله، وأحكام الإمامة للناس التي شرفكم الله عز وجل بها بالتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأحكام القرآن.
السابع: تعقلون فضل الله تعالى عليكم بدفع الضرر ومقدماته وأسبابه، وتحذيركم من نفاذ عدوكم إلى منتدياتكم ومواطن أسراركم ومصادر الرأي والمشورة بينكم فبآية واحدة من القرآن عصم الله عز وجل المسلمين في باب البطانة والخاصة إلى يوم القيامة.
الثامن: تعقلون أسباب بغض الكفار لكم، وسعيهم للإضرار بكم، ولزوم أخذكم الحيطة والحذر.
التاسع: تعقلون كيف أن الكفار أصبحوا عاجزين عن الإضرار بكم بالمواجهة والأسباب الظاهرة، والقتال بالسيف، فأصبحوا يسعون للضرر الخفي والطرق الخبيثة، فأجهزت هذه الآية الكريمة على مقاصدهم الخبيثة وسعيهم وحسدهم للمسلمين، وإتخاذ وصولهم إلى منازل البطانة لإظهار غيظهم وكراهيتهم للمسلمين بالعداوة وسوء الفعل والغيبة والنميمة وكشف السر ونحوه من الأخلاق المذمومة ذات المقاصد الرذيلة.
العاشر: تعقلون أسباب وشدة البغض والكره الذي يحمله الكفار ضدكم، ولزوم عدم تركه والغفلة عنه، وإجتناب إستبطانهم من وجوه الإلتفات له وأسباب دفعه.
الحادي عشر: تعقلون فضل الله عليكم بالإخبار بان ما يخفيه الكفار
من البغضاء والحقد عليكم أشد وأكبر مما يظهر على ألسنتهم بمضامين السب والشك والريب والإستهزاء بالمسلمين.
الثاني عشر: تعقلون ما تبعثه هذه الآية من اليأس والقنوط في قلوب الكفار، وما تسببه لهم من الفزع، وهي سلاح وسيف لإستئصال وتشتيت ما تخفيه صدور الكفار من البغضاء والحسد للمسلمين.
فمن أسرار آيات القرآن أنها نزلت لبعث الضعف والوهن في نفوس الكفار، ولا تترك الكافر وشأنه فحينما أخبرت الآية عن كون ما تخفيه صدور الكفار من البغضاء للمسلمين أكبر مما يظهر على أفواههم، فانها بهذا الإخبار السماوي تلجم ما خفي من البغضاء في صدورهم، وتمنعه من الظهور، وتجعله عديم أو قليل الأثر في عالم الأفعال، ويبقى وبالاً على أصحابه.
الثالث عشر: تعقلون بيان الآيات في القرآن، وعظيم نعمة البيان، ولزوم التوجه الى الله تعالى بالشكر والحمد على نعمة البيان والتي لا تنحصر بفريق من المسلمين دون فريق آخر، ولا بجيل دون غيره، بل جاء البيان للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي الشامل لهم جميعاً، في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، إذ ينبسط البيان على عامة المسلمين ليأخذ بأيديهم إلى منازل الرفعة والإرتقاءالعلمي، ويجعلهم بعيدين عن الغفلة والجهل والأمية.
الرابع عشر: تعقلون أن آيات القرآن تثوير للعقل، وتجعله يؤدي وظائفه أحسن أداء.
الخامس عشر:تعقلون الملازمة بين الإيمان والعقل وعدم التعارض والتنافي بينهما، فبالإيمان ينتفع من العقل،ويقود العقل صاحبه إلى منازل الإيمان.
السادس عشر: من العقل وتوظيفه الإمتثال لأحكام الآيات القرآنية، والتقيد بما في القرآن من الأوامر والنواهي، ولا يصح العزم والنية وحدها في تحقيق الإمتثال بل لابد من الإنصياع والإنقياد الفعلي للأوامر والنواهي
القرآنية.