معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 90

المقدمة
الحمد لله الذي جعل آياته تترى متصلة، ظاهرة وباطنة، وتصل إلى كل إنسان لتكون حجةوبرهاناً ودعوة للإيمان وصلى الله على صاحب الكمالات الإنسانية محمد وآله الطاهرين.
وكما تشرق الشمس على الأرض وينتفع من ضيائها كل إنسان فكذا آيات الله عز وجل مع الفارق وهو أن الشمس ذاتها آية من عند الله عز وجل وأن الآيات والدلالات الباهرات على الوحدانية ووجوب عبادة الله عز وجل لا تنحصر بميدان أو موضوع أو أوان دون آخر قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
ومن تلك الآيات أسباب الهداية وإصلاح النفوس بالبراهين الكونية وسبل النصرالسماوي بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذي تبينه هذه الآية بصيغ الإشراق المبارك،والنور الذي ينفذ إلى شغاف القلوب ويثبت الأقدام في منازل الإيمان.
لقد جاء هذا الجزء من التفسير خاصاً بآية واحدة وهي السادسة والعشرون بعد المائة من سورة آل عمران ويتجلى فيه بوضوح الفيض الإلهي وكما تتعلق هذه الآية بالمدد الملكوتي فإن هذه الجزء والأجزاء الأخرى تم بتوفيق وعناية من عند الله ليكون إكليلاً يعلو في بإطراد عالم التأليف والتحقيق وشاهداً على التقصير والتخلف في ميدان التفسير والتأويل مع الجهود المبذولة من العلماء السابقين في هذا الباب.
وما تفسيرنا هذا إلا كقطرة في بحر علم التأويل وملامسة لبعض درره وذخائره القريبة من الأذهان، ودعوة للإنطلاق والسوم في كنوز القرآن، والسعي النوعي ومن مختلف الإختصاصات متحدة ومتفرقة في ميدان التفسير، وتأسيس جامعات خاصة لهذا العلم ليكون علم التفسير واسطة الفيض القرآني على المسلمين والناس جميعاً، ودعوة لأرباب الحقيقة، وجذبة إلى مقامات التقريب من لطف وإحسان الله تعالى.
وبعد أن جاء الجزء السابق من التفسير بآية واحدة من سورة آل عمران، أردت أن أجمع آيتين في هذا الجزء للسياحة في خزائن الآيات، ولأن الحل والترحال في آيات القرآن إرتقاء وسعادة وغبطة، وسعي للإرتقاء في منازل الكمالات الإنسانية، ولأني شرعت ومنذ سنتين بإضافات كثيرة وأبواب متعددة للأجزاء الأولى من التفسير بما رزقني الله عز وجل من العلوم، وفي منهجية مستحدثة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً في الكيف والمضمون والكم
فجاءت الكلمات والقوانين رحمة ونعمة ومدداً من عند الله عز وجل، وتم هذا الجزء بكامله بآية واحدة ليكون وثيقة علمية وآية حاضرة ودعوة للعلماء في هذا الزمان وأفراد الزمان الطولية اللاحقة لإتمام رحلة العلم هذه والإبداع والزيادة فيها، فليس من حد أو حصر لفضل ونعم الله عز وجل.
والإرتقاء في علم التفسير والتأويل من وجوه حفظ وتعاهد القرآن ودعوة علمية لإكرامه والعناية به، والحرص على تلاوته والتدبر في معانيه ومضامينه القدسية والإقرار بأنه نازل من عند الله، وهوعون لحضور القرآن في الوجود الذهني عند المسلم وغير المسلم ، ومانع من سيطرة النفس الشهوانية والحيوانية على الجوارح.
وعلم التفسير واجب كفائي إلا أن تعاهده ونشره وتيسير طبعه وتوزيعه من الواجبات العامة للمسلمين، وهذا التفسير أحسن كتاب في تأريخ الإسلام بفيض من الله وبركة القرآن ، والمساهمة في تنضيده وطبعه ونشره من أفضل موارد الخمس والزكاة وفيها البركة والنماء، ولو كانت هناك حقوق تصل إليه مع أولويته لتضاعفت الأجزاء والنسخ التي تصدر منه.
وأقوم بالكتابة والمراجعة والتصحيح لأجزاء التفسير بمفردي مع العناء في التنضيد والطبع بجهود شخصية مع إزدياد الكلفة ومن غير مساعدة أحد، ولكن [ِإنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( )، فقد أنعم عليّ بإصدار هذه الأجزاء، وهي مدرسة جديدة في العلم والحمد لله رب العالمين.
لقد نزل الملائكة يوم بدر وأحد لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المجاهدين بالذات وبواسطتهم عموم المسلمين، فكل مسلم ومسلمة مشمول بنعمة نزول الملائكة ناصرين، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب لذا يجب على كل مسلم ومسلمة الشكر لله عز وجل على هذه النعمة والعناية بآيات (المدد) هذه وتلاوتها والتدبر في معانيها والرجوع إلى علم التفسير والمغازي في معرفة الأحوال التي أحاطت بالمهاجرين والأنصار.
لتتجلى واضحة المعجزات الباهرات في إعانتهم ونصرهم، لتكون معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات صبغة نوعية.
وإذ أنعم الله عز وجل على الأنبياء السابقين بمعجزات مثل معجزة السفينة لنوح والناقة لصالح، والعصا لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى عليهم السلام فان الله عز وجل تفضل بإظهار الإسلام ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمدد من السماء، ملائكة [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ومن اللطف الإلهي أن المدد لم يأت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده على نحو التعيين والحصر.
فجاء أيضاً لأصحابه الذين قاتلوا للذب عنه وحفظ بيضة الإسلام، ومن إعجاز هذه الآيات مجئ المدد والخطاب ليس بصفة الصحبة، ولا اسم المهاجرين والأنصار مع ذكرهم في القرآن بلغة المدح والثناء قال تعالى [السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
وجاءت الآيات والخطاب بصفة الإيمان، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ]( )، وكأن الخطاب في الآية يتجدد في كل زمان، ويتوجه للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله وصبروا [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ] ( )، ليبقى المدد الإلهي قريباً منهم، سواء بالملائكة أو بما يعادل قوة الملائكة وهي أمر خارق لقدرات البشر وإن كان المدد بمقدار قوة ملك واحد، ليكون المدد الإلهي قريباً من المسلمين في كل زمان، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين لبس رداء التقوى والخشية منه إلى يوم القيامة، وكما أن هذا اللباس شرط ومقدمة لنزول الملائكة، فانه نتيجة وأثر مبارك لنزولها من غير أن يستلزم الدور بينهما، وهو من خصائص المدد الإلهي على المسلمين، والنعمة المتصلة والنهر الجاري بالعز والرفعة وأسباب تنمية ورسوخ ملكة التقوى عند عموم المسلمين والمسلمات.
وإذ يتجدد المدد الإلهي الظاهر بالأسباب والأعيان وعالم الفعل والأثر فهل تتجدد البشرى المذكورة في هذه الآية الجواب نعم، وهذا التجدد من وجوه:
الأول: ذات البشارة الواردة في هذه الآية وبقاؤها غضة طرية، وضياء يشع في مساجد وبيوت ومنتديات المسلمين.
الثاني: البشارات المتجددة من الوقائع والأحداث التي يتجلى فيها المدد الملكوتي لنصرة وإعانة المسلمين وتقوية قلوبهم.
الثالث: الخزي والضرر الذي يلحق الكفار، فيبذل الكفار الوسع للإضرار بالمسلمين ولكن الله عز وجل يجعل برزخاً وواقية دون وصول هذا الضرر للمسلمين، وإن وصل شئ منه فلا يصل إلا المكر القليل والأذى قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وينتقم الله من الكفار بالحاق الضرر بهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، ليشفي صدور المسلمين.
وتكون الدنيا للمسلمين (دار البشرى) المتعددة التي تأتيهم بالذات والقصد، وبالواسطة من خلال ما يلحق عدوهم من الضرر والأذى، وتكون تلك البشارات علة وسبباً لبعث الطمأنينة والسكينة في نفوس المسلمين والمسلمات، وتلك الطمأنينة مقدمة ووسيلة للإرتقاءفي ميادين العلوم، والإنقطاع إلى ذكر الله والحرص على أداء الوظائف العبادية، والفوز بالتوفيق للإمتثال في باب علة خلق الناس قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ليكون المسلمون سبباً لإستدامة الحياة في الأرض، ونزول الرزق الكريم من عندالله، وإمهال الناس مع توجه الحجة والبشارات والإنذارات إليهم بواسطة المسلمين الذين هم ورثة الأنبياء، وحملة لواء التوحيد إلى يوم القيامة برداء الصبر والتقوى.

قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]الآية126.

الإعراب واللغة
الواو: للإستئناف، ما: نافية، جعله: فعل ماض، والضمير الهاء : مفعول به مقدم.
اسم الجلالة: فاعل مؤخر، إلا: أداة حصر، بشرى: منصوب على الإستثناء , وعلى القول بأن جعل بمعنى التصيير يكون مفعولاً ثانياً.
لكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبشرى.
ولتطمئن: الواو : حرف عطف، اللام: للتعليل، تطمئن: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، قلوبكم: فاعل مرفوع بالضمة، والضمير الكاف مضاف إليه، به: جار ومجرور متعلقان بتطمئن.
وما: الواو إستئنافية وعاطفة، ما: نافية، النصر: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
إلا: أداة حصر، من عند: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، اسم الجلالة: مضاف إليه مجرور بالكسرة.
العزيز الحكيم: صفتان لله عز وجل.
يقال جعل الشيء: يجعله جعلاً ومجعلاً ، وإجتعله، وضعه، ويأتي جعل بمعنى خلق، وبمعنى صيّر، وجعل: يفعل كذا ، أقبل وأخذ، أنشد سيبويه:
وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة
لضغمهماها يقرع العظم نابها ( ).
كما يأتي بمعنى ظن ، يقال : جعل البصرة بغداد أي ظنها، وقال سيبويه: جعلت متاعك بعضه فوق بعض: ألقيته.
وقال الزجاج: جعلت زيداً أخاك: نسبته إليك، وجعل: هيأ وأعد، وفي قوله تعالى [وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا]( ).
قال الزجاج: الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء، كما تقول قد جعلت زيداً أعلم الناس أي قد وصفته بذلك وحكمت به( ).
ولكن القول يحكي الحكم والإعتقاد، ويحتمل الجعل في الآيتين وجهين:
الأول: الخلق.
الثاني: التصيير.
ويظهر الفرق بينهما في المعنى، وفي الإعراب، فعلى الأول يتعدى الفعل “جعل” لمفعول واحد، أما على معنى التصيير فانه يتعدى لمفعولين، فيكون بشرى مفعولاً ثانياً.
والبشرى مصدر كرؤيا من بشره يبشره بشراً وبشوراً، وتأتي البشرى على وجهين:
الأول: لغة الإطلاق، وتدل على البشارة بالخير كما في قوله تعالى [يَابُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ] ( )، ويقال بشرته فأبشر وإستبشر وبشر: فرح.
الثاني: البشارة المقيدة، وتكون بلحاظ الموضوع والقرائن على قسمين:
الأول: البشارة بالخير، قال تعالى [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ]( ).
الثاني: البشارة بالشر، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
وفي البشارة في الدنيا الواردة في قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( )، وجوه منها:
الأول: البشارة بالثواب العظيم في الآخرة.
الثاني: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن في منامه.
الثالث: بشراهم في الدنيا أن المؤمن لا تخرج روحه من جسده حتى يرى موضعه من الجنة قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ]( ).
الرابع: النصر والغلبة على الكفار.
الخامس: إعلاء كلمة التوحيد.
السادس: إقامة الصلاة والفرائض الأخرى.
السابع: الغبطة التي تملأ نفس المؤمن عند التوفيق لأداء المناسك والفرائض.
الثامن: الآية محل البحث من وجوه البشارة، وهي من إعجاز القرآن كبشارة في موضوعها ودلالاتها إذ أنها تتضمن الأمن والسلامة للمؤمنين من كيد الكفار وعزمهم على التعدي على المؤمنين.
وتدل هذه الآية على إنعدام الحصر في وجوه البشرى في الحياة الدنيا، ويحتمل موضوع البشرى في الدنيا وجوهاً:
الأول: الإنحصار بالمؤمنين بدليل هذه الآية ، وقوله تعالى[بُشْرَى لَكُمْ].
الثاني: البشرى للناس جميعاً ، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ] ( ).
الثالث: البشرى الخاصة التي تأتي للمؤمن والكافر، والبر والفاجر في الأموال والأولاد والمنافع الخاصة.
وتكون البشرى رحمة للمؤمنين، وجزاء ولطفاً من عند الله ، وسبباً للثواب، أما بالنسبة للكفار فإنها شاهد وحجة عليهم وباب للإفتتان والإمتحان.
ويقال: إطمأن الرجل إطمئناناً وطمأنينة أي سكن قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ]( )، أي إذا ذكر الله تسكن قلوبهم بإقرارهم بالوحدانية، وإنقيادهم لمقام الربوبية.
في سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية وما جاورها من الآيات على شعبتين:
الأولى: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة لها، وهي على وجوه:
الأول: الصلة بين آية “لن تغني”( ) وهذه الآية ، وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد سنخية البشارة في الآيتين مع التباين في موضوعها، إذ تتضمن آية “لن تغني” البشارة بضياع وتلف أموال الكفار وعدم إنتفاعهم من أولادهم ، ويتعلق موضوع البشارة في هذه الآية بالمدد الذي ينزل من السماء لنصرة المسلمين.
الثانية: من أسباب ضياع وتلف أموال الكفار، وعجزهم عن الإستفادة من أولادهم مجيء المدد الملكوتي للمسلمين، لما فيه من أسباب القوة والمنعة للإسلام والمسلمين.
الثالثة: لا تستطيع أموال وأولاد الكفار أن يمنعوا نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الرابعة: تعجز أموال وأولاد الكفار أن يكونوا واقية من غلبة المسلمين وإعانة الملائكة لهم.
الخامسة: من يأتي الملائكة لمحاربته وقتاله وصده يكون مصيره إلى النار خالداً فيها، ولا ينزل الملائكة إلا لمحاربة الكفار، ومنعهم من التعدي على حرمات الإسلام.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن البشارة للمؤمنين تجعل الكفار عاجزين عن الإنتفاع من أموالهم وأولادهم، وفي الوقت الذي تبعث فيه البشارة السكينة في نفوس المؤمنين فانها تجعل الخوف والفزع يستوليان على قلوب الكفار والمنافقين.
السابعة: ينصر الله عز وجل المسلمين، ويظهر الإسلام، ويثبت مبادئه في النفوس والأرض، ولا يستطيع الكفار منع نصر الله وإن سخّروا أموالهم وأولادهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا]( ).
الثاني: الصلة بين آية “كمثل ريح”( ) وهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: ما يفعله الكفار لمواجهة الملائكة يذهب أدراج الرياح.
الثانية: يعجز أولاد الكفار عن دفع الضرر الذي يلحق بهم من المؤمنين ومددهم من الملائكة.
الثالثة: نزول الملائكة مدداً للمؤمنين من المصاديق العملية لتلف أموال الكفار، وكأن أثر هذا المدد كالريح العاصف التي تأتي الأعيان والأموال فتؤدي إلى تلفها.
الرابعة: يأتي الملائكة مدداً للمؤمنين لمحاربة الذين ظلموا أنفسهم.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن صد وقتل الملائكة للكفار ليس ظلماً لهم، فالكفار هم الذين ظلموا أنفسهم بإختيارهم الكفر والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم.
السادسة: يأتي المدد الملكوتي من عند الله لنصرة المسلمين ومع نزول الملائكة تأتي الآيات القرآنية لتوبيخ وذم الكفار والإخبار عن ظلمهم لأنفسهم حتى في حال قتل الملائكة لهم، قال تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ]( ).
الثالث: الصلة بين آية “البطانة”( ) وهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تجتهد بطانة السوء في منع إدراك معاني البشارة السماوية، وتحاول حجب ما فيها من المضامين القدسية.
الثانية: تسعى بطانة السوء إلى عدم الإلتفات إلى بشارات القرآن وإقتباس الدروس والمواعظ منها.
ومن اللطف الإلهي والإعجاز القرآني أن بشارات القرآن تتغشى الميادين المختلفة، ولا تنحصر في موضوع دون آخر، وجعلها الله عز وجل صاحباً كريماً للمؤمنين مجتمعين ومتفرقين.
وهو من أسرار هذه الآية، لأن نزول الملائكة مدداً قضية في واقعة ، ولكن البشارة المترشحة عنها باقية إلى يوم القيامة عوناً وعزاً للمسلمين، وموضوعاص ينهلون منه الدروس والعبر.
وهي ضياء مركب لهم، بمعنى أنها تنير لهم دروب الهداية، وتكون نوراً يستقرأ ويستبين في وجوههم ، ويتجلى في أقوالهم وأفعالهم، لذا إقترنت الطمأنينة بالبشرى في هذه الآية.
وتريد بطانة السوء أن تكون برزخاً بين المؤمنين وهذا الصاحب الكريم، فجاءت الآيات للتحذير منهم ومنعهم من تضييع جزء من منافع وبركات البشارة الواردة في هذه الآية، وبشارات القرآن مطلقاً .
لقد أراد الله عز وجل للبشارة الواردة في هذه الآية أن تكون مدرسة يقتبس منها المسلمون المواعظ والعبر ، ويتزودون منها للدنيا والآخرة وحال الحرب والسلم ، ولتمام النعمة عليهم حذرهم الله من ولاية الكفار والركون إليهم [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( )
الثالثة: تظهر علامات البغضاء والحسد على الكفار إذا سمعوا بالبشارات التي تنزل من السماء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، لذا يجب إجتناب إتخاذهم بطانة.
الرابعة: البشارة بنزول الملائكة مدداً للمؤمنين خير محض، وفضل من الله على المسلمين، فلا يصح معها إستشارة وإتخاذ الكفار بطانة.
الخامسة: البشارة بنزول الملائكة مدداً من الآيات التي بينّها الله عز وجل للمسلمين، وقد ورد في آية البطانة [ُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ].
ولا تنحصر البراهين والدلالات على بديع صنع الله وعظيم قدرته بنزول الملائكة، بل تشمل البشارة بنزول الملائكة ، لأن هذه البشارة بذاتها آية ومعجزة ونعمة خالصة للمؤمنين.
السادسة: نزول الملائكة مدد للمؤمنين حرب على الكفار ومفاهيم الشرك والضلالة، فلابد من إجتناب الكفار، والإحتراز منهم ومن كيدهم.
السابعة: هجوم الكفار على المسلمين هو السبب في نزول الملائكة لنصرة المسلمين، ودفع الأذى عنهم، فكيف يتخذهم المؤمنون بطانة وخاصة.
الثامنة: من وجوه الخبال الذي ذكرته آية البطانة التشكيك في البشارة، ويفيد الجمع بين الآيتين لزوم إجتناب الكفار والمشركين، وعدم إستشارتهم والإنصات لهم، كي يتلقى المؤمنون البشارات بالتصديق والقبول والرضا.
الرابع: الصلة بين آية “ها أنتم أولاء”( ) وبين هذه الآية ، وفيها مسائل:
الأولى: إن الذين تنزل الملائكة لصدهم وقتلهم لا يستحقون ود وحب المؤمنين.
الثانية: جاءت بشارة نزول الملائكة لجعل المسلمين ينفرون من الكفار.
الثالثة: ورد في آية “ها أنتم أولاء” قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] في خطاب ومدح للمسلمين، وهذا الإيمان من أسباب نزول الملائكة لنصرتهم وإعانتهم، وهو شاهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، تؤمن بجميع الأنبياء والكتب السماوية وينزل الملائكة لنصرتها.
الرابعة: إطمئنان القلوب مناسبة كريمة لمعرفة سنخية الكفار، وضرورة الإبتعاد عنهم.
الخامسة: بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين في تلقيهم البشارة بالنصرة والظفر بالذين يعضون الأنامل عليهم غيظاً وحسداً.
الخامس: الصلة بين آية [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: البشارة بنزول الملائكة لنصرة المؤمنين حسنة تتغشى المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
الثانية: تبعث هذه الآية الحزن في نفوس الكفار إلى يوم القيامة ، لما فيها من النصرة والعون السماوي للمسلمين.
الثالثة: نزول الملائكة لنصرة المسلمين نعمة عظيمة عليهم.
الرابعة: هذه الآية حصانة للمسلمين من الخسارة في الحرب، مما يجعل الكفار في حزن وكآبة متصلتين.
الخامسة: تغلق الآية باب الفرح عن الكفار في ميادين القتال والحرب لأن الهزيمة لا تصل إلى المسلمين الذين يقاتل معهم الملائكة ، قال تعالى [وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا] ( ).
والهزيمة سيئة ومصيبة، فجاءت الآية محل البحث لتبعث الغبطة والسكينة في قلوب المسلمين.
السادسة: جاء في آية “وان تمسسكم” الحث على الصبر والتقوى وجعلهما شرطاً في دفع كيد ومكر الكفار، كما جعل الله عز وجل الصبر والتقوى شرطاً لنزول الملائكة مدداً وعوناً، مما يدل على بلوغ المسلمين مراتب الصبر والتقوى.
السابعة: تتضمن هذه الآية تفسيراً لقوله تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ] بأن الحسنة تأتي من عند الله، وهو سبحانه الذي يتفضل على المسلمين بالنعم العظيمة.
السادس: الصلة بين آية [وَإِذْ غَدَوْتَ]( )، وهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة للقتال ومعه أصحابه لتتلقاهم البشارة بنزول الملائكة لنصرتهم، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فليس من أمة أو طائفة أو جيش خرج لقتال أعدائه وتأتيه البشارة بنزول الملائكة مدداً إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والذي آمنوا بنبوته.
الثانية: في الآية دعوة للمؤمنين للخروج لصد الكفار المعتدين، لأن النصر من عند الله وهو الذي يتفضل ويهبه للمؤمنين.
الثالثة: تجلي الملازمة بين تهيئة وتعبئة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه للقتال، وبين نزول الملائكة مدداً ونصرة لهم.
الرابعة: جاءت آية[إِذْ غَدَوْتَ] خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الخطاب في هذه الآية للمؤمنين مع إتحاد الموضوع، وهو قتال الكفار يوم أحد، وما تبعه من الوقائع، وفيه أمور :
الأول: حث المؤمنين على طاعة الله ورسوله.
الثاني: الدعوة للإمتثال لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية التعبئة، وتعيين مواضع القتال.
الثالث: تحديد أوان وصيغ إستدامة القتال.
الرابع: لزوم تقيد المؤمنين بتلك الأوامر عند إبتداء وإستدامة القتال، ولو تقيد الرماة يوم أحد بما أمرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما تعرض المسلمون للخسارة الفادحة يومئذ.
وجعل عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أميراً، وكان معه خمسون من الرماة وقال النبي له ( إنضح( )الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك)( ).
الخامسة: التهيء للقتال وخوض المعارك من أشد الأحوال على الإنسان والتي يمتلأ فيها قلبه خوفاً ورعباً، وتأتي هذه الآية لتبعث السكينة في قلوب المؤمنين في تلك الحال ، لقوله تعالى[وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ].
السادسة: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ] مجيء البشارة لها بالمدد والنصر قلة وذوي عدة قليلة وهم يواجهون فئة كثيرة من الكفار ذات سلاح وعدة كثيرة فإن قلت إن قوله تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( )، يدل في ظاهره على حصول مصاديق لنصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وفيه شاهد على عدم إنفراد المسلمين بهذه النعمة .
والجواب إن إنفراد المسلمين يتجلى بحصول النصر مع قلة عددهم، وإقتراب النصر بالبشارة بالمدد الملكوتي من عند الله، فقد تنصر الفئة القليلة بأمور:
الأول: الصبر ، وطول مزاولة القتال.
الثاني: الخدعة ومفاجئة العدو ، والحرب خدعة.
الثالث: أسباب غيبية بفضل الله.
ونزول الملائكة لنصر المؤمنين على قلتهم أمر إختص الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، ومن آمن به.
السابعة: أختتمت آية[إِذْ غَدَوْتَ] بقوله تعالى[وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]، ولقد سمع الله عز وجل دعاء ومناجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وعلم إخلاصهم في الدفاع عن الإسلام، فجاء المدد من السماء في طرفة عين.
السابع: الصلة بين آية[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ] ( )، وبين هذه الآية وفيه مسائل:
الأولى: البشارة بنزول الملائكة مدداً واقية من الفشل والجبن والخور.
الثانية: لما همت طائفتان من المؤمنين بالفشل جاءت البشارة بنزول الملائكة مدداً لتطرد هذا الهم، وتمنع من إستمراره أو ترتب الأثر الواقعي عليه.
الثالثة: قال تعالى في الآية أعلاه[وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ومن ولاية الله عز وجل للمؤمنين نزول الملائكة مدداً ونصرة وعوناً.
الرابع: إن الله عز وجل هو الذي ينصر المؤمنين ويمدهم بالملائكة ناصرين، لذا يجب عليهم أن يتوكلوا عليه سبحانه.
الخامس: بيان الفضل الإلهي العظيم على المؤمنين، إذ تأتيهم البشارة لتكون حرزاً وواقية من الفشل والخور والجبن.
السادسة: لا تستطيع الخلائق وإن إجتمعت أن تنزل الملائكة مدداً، وحتى الملائكة لا يستطيعون النزول من غير تلقي الأمر من عند الله.
ومن العقل والحكمة أن يختار المؤمنون التوكل على الله سبحانه لأن فيه خير الدنيا والآخرة.
الثامن:الصلة بين آية (بدر) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في تحقيق النصر والغلبة على الكفار.
الثانية: لقد أنزل الله عز وجل الملائكة يوم بدر لنصر المؤمنين، وهل الملائكة الذين نزلوا يوم أحد هم أنفسهم الذين نزلوا يوم بدر، أم غيرهم الجواب على وجوه محتملة:
الأول: التباين والإختلاف في أشخاص الملائكة الذين نزلوا مدداً خصوصاً مع كثرة عدد ملائكة السماء وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : ” أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد( ).
الثاني: كبراء الملائكة الذين نزلوا هم أنفسهم يوم بدر وأحد، مثل جبرئيل عليه السلام ، دون باقي الملائكة.
الثالث: شطر من الملائكة تكرر نزولهم يوم بدر وأحد، وآخرون نزلوا في أحد لأول مرة لنصرة المسلمين ، خصوصاً وأن عددهم يوم أحد أكثر منه يوم بدر ، والله واسع كريم.
الثالثة: جاء في آية(بدر) الأمر بتقوى الله، ليكون مقدمة للنصر والغلبة يوم أحد، وحرزاً من أسباب الفشل والخور.
الثالثة: إجتمع النصر يوم بدر والبشارة يوم أحد ليشكر المسلــمون الله عز وجل على عظيم النعمة.
الرابعة: كما نصر الله عز وجل المؤمنين يوم بدر فإنه سبحانه ينصرهم يوم أحد، ويخرجهم من المعركة في سلامة في الدين والأبدان.
الخامسة: كان نصر الله للمؤمنين يوم بدر طمأنينة وسكينة لهم، وكذا البشارة يوم أحد.
السادسة: توكيد الآيتين على حقيقــة وهـي أن النصــر من عنـــــــد الله عز وجل، وفي هذا التوكيد دعوة للمسلمين للتوكل على الله، وتثبيت للسكينة القرآنية في قلوبهم.
السابعة: حث المسلمين على اللجوء إلى الدعاء رجاء الفوز بالنصر من عند الله عز وجل.
التاسع: الصلة بين آية[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] ( )، وهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالمدد من عند الله بشارة بالنصر.
الثانية: خرج المؤمنون للقتال فجاءتهم البشارة بالنصر والغلبة بفضل الله عز وجل.
الثالثة: كفاية المدد الملكوتي للمؤمنين وتحقيق مرتبة النصر وإن تباين عدد الملائكة النازلين مدداً، إذ يستطيع الملك الواحد أن يهزم جيش الكفار وإن كان كثيراً.
الرابعة: تعلقت البشرى في هذه الآية بالمدد الملكوتي ومنافعه، وتتضمن الآيتان السابقتان البشارة بالمدد.
الرابعة: المدد الملكوتي بشارة وكذا قول النبي للمؤمنين(ألن يكفيكم) فإنه بشارة وسكينة للمؤمنين.
الخامسة: مع كفاية ثلاثة آلاف من الملائكة، فإن الله عز وجل تفضل وأنزل البشارة بخمسة آلاف، مما يدل على أنه تعالى يتفضل بأكثر من الحاجة وفوق ما يتوقع المؤمنون، وهو من الشواهد على عظيم قدرة الله، وسعة كرمه سبحانه.
العاشر: الصلة بين الآية[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا]، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تأتي البشارة السماوية متعقبة للصبر والتقوى.
الثانية: تفضل الله عز وجل بالثواب العاجل على الصبر والتقوى.
الثالثة: عدم ترتب الخوف والفزع على عودة الكفار للقتال، فقد جعلت هذه الآية المؤمنين يدركون أنهم في مأمن وسلامة، وأن الملائكة ينصرونهم ويدفعون عنهم الكفار.
الرابعة: سواء رجع الكفــار للقتال أو لــم يرجعوا فإن النصـــر بيد الله عز وجل، وهو سبحانه يجعله ملازماًَ للإيمان لعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الخامسة: بيان منافع وغايات الوعد الكريم بنزول الملائكة وهي بشارة المؤمنين، وبعث السكينة في قلوبهم.
السادسة: نزول الملائكة مدداً للمؤمنين من مصاديق النصر الإلهي.
السابعة: توكيد حقيقة أن النصر من عند الله عز وجل مع تعدد الأسباب والكيفيات سواء بنزول الملائكة مدداً أو بوسائل أخرى سماوية أو أرضية.
الرابعة: البشارة السماوية توليدية، بحيث تتفرع عنها بشارات أخرى، فيترشح عن البشارة بنزول الملائكة بشارة خيبة وهلاك القوم الكافرين.
الخامسة: بيان علة طمأنينة وسكينة قلوب المؤمنين وأنها مركبة من البشارة السماوية، ومن خزي وهلاك الكافرين، أو أن هذا الهلاك يتعقب البشارة والطمأنينة.
السادسة: تتضمن البشارة التي تأتي للمؤمنين الإضرار بالكافرين.
وذكرت الآية الأهم والفرد الحاضر والقريب من النعم، والذي يخص المؤمنين بلحاظ لغة الخطاب فيه، لذا جاءت الآية التالية بذكر أثر الوعد الإلهي للمؤمنين على الكفار ، بقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُواٍ]( ).
وفيه دلالة على أن نعمة البشارة وطمأنينة القلوب توليدية، وتبعث القوة في صفوف المؤمنين، والضعف والوهن والذل عند الكفار، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( )، وتجعل نعمة الوعد الإلهي للمؤمنين بالمدد الملكوتي الكفار في حال من الحسرة والحسد، وتسبب بينهم الإرباك وتجعلهم في فزع وخوف وخيبة ويأس.
والبشارة دخول الفرح والسرور على الإنسان، مأخوذة من البشرة وهي ظاهر الجلد في الوجه والجسد من الإنسان (وفي الحديث: لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم) ( ).
وفيه شاهد على أن الأحكام الشرعية وأخذ الزكاة يجري بصيغ الرحمة والتخفيف، وليس الأذى والتشديد، لما يدخل عليها من التغيير الطارئ، وآثار السعادة والغبطة التي تظهر عليها.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان أثر وموضوعية البشارة النازلة من عند الله عز وجل.
الثانية: الأثر العظيم المترتب على نزول الملائكة بهلاك القوم الكافرين.
الثالثة: من أسباب وسبل نيل المؤمنين الرحمة الإلهية خروجهم لقتال الكفار، والدفاع عن بيضة الإسلام.
الرابعة: الذين يطيعون الله ورسوله ويخرجون لقتال الكفار يتلقون البشارات بالنصر والظفر بالإعداء.
الخامسة: من وجوه رحمة الله عز وجل للذين يطيعون الله ورسوله تلقي البشارات بالنصروالغلبة على الكفار.
السادسة:البشارة السماوية توليدية، بحيث تتفرع عنها منطوقاً ومفهوماً بشارات أخرى، فيترشح عن البشارة بنزول الملائكة بشارة خيبة وهلاك القوم الكافرين.
السابعة: بيان علة طمأنينة وسكينة قلوب المؤمنين وأنها مركبة من البشارة السماوية، ومن خزي وهلاك الكافرين، أو أن هذا الهلاك يتعقب البشارة والطمأنينة.
الثامنة: تتضمن البشارة التي تأتي للمؤمنين الإضرار بالكافرين.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [لَيْسَ لَكَ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: النفع العام للمؤمنين من البشارة السماوية.
الثانية:تتضمن البشارة السماوية في مفهومها الإنذار للكفاروالمشركين.
الثالثة: أختتمت هذه الآية بذكر صفتين لله عز وجل (العزيزالحكيم) وهو سبحانه لاغالب له،والذي يهب النصر للمؤمنين ويخزي الكافرين.
الرابعة: كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الخامسة: تفتح الآية باب التوبة أمام الناس بما فيهم الكفار الذين قاتلوا المسلمين يوم بدر وأحد، لقوله تعالى [أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ] ( ).
السادسة: في الآيةدعوة للمؤمنين لمواصلة لغة الإنذار والتحذير للكفاروتذكيرهم بوظائفهم العبادية وما ينتظرهم من العذاب، ووجوب النجاة منه بدخول الإسلام والكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
السابعة: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للصبر والتحمل في جنب الله.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: يبشر الله المؤمنين بنزول الملائكة مدداً لهم، لأن السماوات والأرض ملك له والملائكة من سكان السماوات.
الثانية:بيان عظيم قدرة الله عز وجل وسلطانه الواسع.
الثالثة: ليس من إنفصال تام بين السموات والأرض، فتدل هذه الآية على إمكان الإتصال بينهما.
الرابعة: بيان موضوع الصلة بين السموات والأرض وهي تثبيت دعائم الدين في الأرض، والإذن لسكان السماوات لنصرة المؤمنين من أهل الأرض.
الخامسة:توكيد مضامين العز التي يتفضل بها الله عز وجل على المؤمنين.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين توكيد البشارة بنصر المؤمنين، والغلبة على الكفار.
السابعة: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] وجاءت الآية أعلاه مصداقاً لعزته وحكمته وأنه سبحانه يغفر ويعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: بعد البشارة بالنصر تأتي الأحكام الشرعية، وتعليم المسلمين الحلال والحرام.
الثانية: بيان منافع التقوى التي هي شرط لنزول الملائكة مدداً، بأن يجتنب المسلمون الربا ، وأكل المال بالباطل.
الثالثة: يدل الجمع بين الآيتين على حصول ملكة التقوى عند المسلمين، وموضوعيتها في المعاملات، وفي الأسواق وعدم إنحصارها على أوان الحرب والقتال.
الرابعة: بشارة بقاء الإسلام وأحكامه في الأرض إذ يدل النهي عن الربا على ان المسلمين أمة تتعامل بأحكام القرآن، ولا تخضع لسنن غيرها.
الخامسة: بين المؤمنين الذين تخاطبهم هذه الآية، وبين الذين آمنوا الذين تخاطبهم آية [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] عموم وخصوص مطلق، فالمؤمنون من الذين آمنوا وليس العكس، وآية النهي عن أكل الربا عامة تشمل المسلمين ذكوراً وأناثاً وفي جميع الأزمنة.
السادسة: حث المسلمين على بلوغ مراتب الفلاح بالتقيد بأحكام وسنن التقوى في حال الحرب والسلم، وفي ميادين القتال والمعاملات.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية [وَاتَّقُوا النَّارَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية محل البحث بالحث على تقوى الله، وجاءت الاية أعلاه بالأمر بإتقاء النار، ولاتعارض بين الأمرين، فبتقوى الله عز وجل تكون النجاة والسلامة من النار.
الثانية: إنذار الكفار بالعذاب الأليم يوم القيامة، فمع نصر الله عز وجل للمؤمنين في ميادين القتال، فان السعير والعذاب ينتظر الكفار الذين يحاربون الإسلام والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالثة: خروج المؤمنين للقتال دفاعاً عن الإسلام أمن وسلامة من النار.
الرابعة: إخبار القرآن عن إعداد النار للكافرين بشارة أمن وسلامة المسلمين منها.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: طاعة الله ورسوله مقدمة ووسيلة لتلقي البشارات السماوية.
الثانية: التحلي بالصبر والتقوى في ميادين القتال من مصاديق طاعة الله ورسوله.
الثالثة: لقد أثبت المؤمنون بخروجهم إلى بدر وأحد طاعتهم لله ورسوله.
الرابعة: جاءت البشارة في هذه الآية لأهل التقوى، وأخبرت آية وسارعوا بأن الجنة (أعدت للمتقين) ليتلقى المتقون البشارة في الدنيا، وينعمون بالخلود في الجنة في الآخرة.
السابع : الصلة بين هذه الآية وآية [وَسَارِعُوا] ( )،وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين الحث على التقيد بالصبر والتقوى لأنهما سبيل للفوز بمغفرة الذنوب.
الثانية: ترغيب المسلمين بالصبر والتقوى.
الثالثة: مواجهة الكفار دفاعاً عن الإسلام طريق لدخول الجنة، ونيل المراتب العالية في الجنة.
إعجاز الآية
تتضمن الآية قانوناً في الإرادة التكوينية وهو أن البشارة نعمة من عند الله عز وجل ذات أثر كبير على المسلمين في أفعالهم وأقوالهم وهي باعث للسكينة في نفوسهم.
وتبين الآية الإعجاز في مدرسة البشارة القرآنية، وليس في التأريخ بشارة ذات أثر عظيم مثل بشارات القرآن، وهذه من أهمها ومن الآيات فيها أن القرآن سماها بشارة لتقتبس الدروس والمسائل منها ومما يترتب عليها من المنافع والفوائد، ولتوكيد موضوعية البشارة وحاجة المؤمنين العامة لها.
ومن خصائص البشارة القرآنية أن الناس يعجزون عن تحريفها او التقليل من موضوعيتها وأهميتها، إذ أن الآية توكيد وتثبيت لها وهو من عمومات سلامة القرآن من التحريف، قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
ومن إعجاز الآية حصر أسباب النصر بالله عز وجل، فلا أحد غيره يعطي ويهب النصر، وفيه بشارة إضافية للمسلمين لأن الله سبحانه لا ينصر الكفار والمشركين.
ومن إعجازها عطف إطمئنان القلوب على البشارة مع إجتماعهما وإلتقائهما بالترشح عن موضوع واحد ومبارك وهو المدد الذي يبعثه الله لنصرة المؤمنين.
ولم تكتفِ الآية بنسبة النصر لله عز وجل بل أختتمت بذكر إسمين من أسماء الله الحسنى وهما “العزيز” و”الحكيم” لتوكيد حقيقة وهي ان الله سبحانه لا ينصر الكفار والمشركين، إنما يجعل النصر ملازماً للإيمان.
وتبين الآية سنخية وعظمة البشارة القرآنية، فليس من بشارة أعظم من نزول الملائكة مدداً ونصرة وعوناً.
لقد أراد الله عز وجل في هذه الآية قدرته المطلقة، وخضوع الأشياء والحوادث جميعاً لمشيئته وإرادته، فلا غالب له، ولا يراد لأمره سبحانه.
ومن إعجاز خاتمة الآية بإسمين من الأسماء الحسنى هما العزيز الحليم أمور:
الأول: توكيد البشارة للمؤمنين، وإستقرار الطمأنينة في نفوسهم، فقد تكون الطمأنينة أمراً مؤقتاً، وعرضاً زائلاً، وحالاً تزلزلة أو غير مستقرة، فجاءت خاتمة الآية توكيداً لتحقيق النصر والغلبة للمؤمنين وجعل الطمأنينة ملكة راسخة في نفوس المؤمنين.
الثاني: جعل بيان منافع إنقطاع المسلمين للعبادة والذكر.
الثالث: تجلي المنافع العاجلة لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وأحد، ليكون مدرسة في الدعاء والمسألة واللجوء إلى الله عز وجل عند الشدائد، وقد ينشغل الإنسان عند نزول البلاء، في ساعة الضيق، فلا يلتفت إلى الدعاء فجاءت هذه الآية وخاتمتها للتذكير بالدعاء وموضوعيته في حال الضيق والعسرة.
الرابع: جاءت قريش بجيش عرمرم لا قبل للمؤمنين به، فجاءت خاتمة هذه الآية واقية منه، وتلك آية من عند الله وشاهد على أن المدد السماوي للمسلمين متعدد، وليس له حد في عدده ونوعه وماهيته.
ترى ما هو الإعجاز في إجتماع صفة العزيز والحكيم، الجواب من وجوه:
الأول: لما أخبرت الآية بأن النصر من عند الله، جاءت الخاتمة بتوكيد هذا الإخبار وأن نصر المؤمنين لا بد وأن يتحقق.
الثاني: إن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر وأحد من الحكمة والتدبير الإلهي، وبديع تدبير الله عز وجل.
الثالث: إن الله عز وجل هو القوي القاهر لعباده، وهو سبحانه لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.
الرابع: بيان حقيقة وهي أن نصر المؤمنين يأتي على نحو التمام والإتقان، إذ أن النصر من الكلي المشكك، وله مراتب متفاوتة، فجاءت خاتمة الآية تخبر بأن النصر رشحة من رشحات حكمة الله وإتقانه للأمور.
الخامس: لم تقل الآية(أن الله الحليم الرحيم) لأن الله عز وجل يريد الغلبة للمسلمين، وجعلهم في عز ورفعة دائمة، ولا تأتي العز إلا بالنصر وبالبطش بالكفار المعتدين.
ويمكن أن نسمى هذه الآية آية “بشرى لكم” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تبين الآية تعدد الأسلحة والمدد الذي يتفضل به الله عز وجل على المؤمنين، فليس من حصر لأفراد وأنواع هذه الأسلحة، ومصاديق كل نوع منها، وهو من نعم الله عز وجل على المسلمين في النشأتين، إذ أنهم ينتفعون من فضل الله في دنياهم وفي آخرتهم، وجاءت هذه الآية للإخبار عن النفع العام للمسلمين من آية المدد الملكوتي كسلاح من وجوه:
الأول: طرد أسباب الفشل والجبن والخور عن المؤمنين.
الثاني: ترشح البركات والمنافع عن المدد الملكوتي.
الثالث: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية بإدراك موضوعية وأثر البشارة القرآنية.
الرابع: إزدياد قوة ومنعة المسلمين قال تعالى [وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ]( ).
الخامس: رجاء النصر والظفر من عند الله، والسعي لتحقيق المقاصد الحميدة، وبذل الوسع في سبيل الله.
لقد أراد الله عز وجل للبشارة ان تكون سلاحاً وواقية بيد المسلمين، وبرزخاً دون إستيلاء الفزع والخوف من الأعداء على نفوسهم.
ويتقوم دخول المعركة بالسلاح والمؤونة ، ويحتاج المقاتلون فيها السلاح إبتداء وإستدامة ومن الشواهد الإعجازية لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه وأصحابه خرجوا للقتال بسلاح وعدة وخيل قليلة لايستطيعون معها مواجهة العدو ذي العدة والعدد، فتحقق النصر والغلبة للمسلمين كما في معركة بدر.
ولو خرج المسلمون بسلاح كثير وخيل وعدة لقيل أن النصر جاء من جهة السلاح، ولكن الله عز وجل أراد للناس الإتعاظ والهداية بمعرفة الفارق الكبير بين الفريقين في معارك الإسلام الأولى، وكيف أن كفة العدو والسلاح إلى جانب الكفار وهي مستقرأة من كثرة عددهم، ومجيئهم زاحفين قاصدين المدينة المنورة فلا يخرج الجيش للهجوم إلا وهو مستعد للقتال.
وأرادت قريش أخذ المؤمنين على حين غرة، فلم تجن إلا الخيبة والخسران لأنها لم تلتفت إلى قرب السلاح السماوي من المسلمين.
ولقد أنزل الله عز وجل على عيسى وأصحابه مائدة من السماء بعد أن سأله عيسى عليه السلام إستجابة لسؤالهم، قال تعالى [إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ]( ).
وقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى سوح القتال إيماناً بالله وتصديقاً بالنبوة، وعشقاً للشهادة في سبيل الله، فأنزل الله عز وجل عليهم ملائكة لنصرتهم.
وهل يحتاج الملائكة السلاح، وإذا كانوا يحتاجون اليه فهل يأخذون أسلحة المسلمين، الجواب إن قدرات الملائكة غير مقيدة أو متعلقة بالسلاح، وأن إحتاجوا السلاح فإنهم ينزلون به معهم من السماء، ليكون أمضى وأشد فتكاً بالكفارالذين[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ] ( ).
فيبقى هذان السلاحان ملازمين للمسلمين متحدين ومتفرقين إلى يوم القيامة، وتدل على هذه الملازمة الآية الكريمة لتكون بذاتها سلاحاً بيد المسلمين وعوناً لهم في المهمات، ووسيلة لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار والظالمين.
مفهوم الآية
تبين الآية الأغراض الحميدة من المدد الإلهي، وأنه جاء لمنفعة المؤمنين، وخيرهم في الدنيا والآخرة، فالله عز وجل غني عن العالمين فإن قلت إن الملائكة ينزلون لتثبيت دعائم الدين في الأرض، فالجواب نعم، وهذا التثبيت رحمة بالناس جميعاً، أما المؤمنون فانهم يزدادون قوة وإيماناً، ويصبحون في واقية وحرز سماوي فضلاً من الله.
واما الكفار فان المدد الملكوتي برزخ دون تماديهم في التعدي على المسلمين، وحجة عليهم في النشأتين، ودعوة سماوية كريمة لهم لدخول الإسلام، ونبذ الكفر والضلالة.
وتدل الآية على حبط عمل إبليس وإنعدام سلطانه، وعجزه عن التأثير في ميدان المعركة، وإذ ينزل الملائكة لنصرة المؤمنين، فان الكفار لا ناصر لهم.
ومن الآيات عدم مجئ مدد لطرفي القتال إلا المدد الملكوتي وهو خاص بالمؤمنين، ولو جاء مدد إلى الكفار فهل يتلقاه الملائكة ويقاتلونه قبل وصوله إلى ميدان المعركة أم ينتظرون وصوله إلى ميدان المعركة، الجواب هو الثاني، فقد تدركه التوبة، أو ينكص على عقبيه، ولا يشترك أفراده في القتال، ولعمومات قوله تعالى في هذه الآية [] وذكرت الآية أثر الإخبار الإلهي عن نزول الملائكة وهو البشارة للمؤمنين ، وبعث السكينة في قلوبهم، ومن مفاهيم البشارة في المقام وجوهاً:
الأول: منع حصول الغش والجبن والخور عند المؤمنين جماعات وأفراداً.
الثاني: إنقطاع المؤمنين إلى العبادة وذكر الله.
الثالث: إخلاص المؤمنين في طاعة الله ورسوله.
الرابع: إزدياد إيمان المؤمنين.
الخامس: جعل المؤمنين يستهزءون بالمنافقين الذين رجعوا في الطريق إلى أحد.
السادس: إعانة جرحى المؤمنين على الشفاء، وتوجه إخوانهم للعناية بهم.
السابع: لقد جاء قبل آيات الإخبار عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتهيئة وإعداد المؤمنين للقتال عند الخروج إلى معركة أحد بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، وجاءت هذه الآية نعمة إضافية، وشاهداً على صحة فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن إختياره، ودليلاً على أنه لا يفعل إلا ما يوحى اليه، بالإضافة إلى مجئ المدد من السماء لنصرته ومن يتبعه ويطيعه في ساعة الشدة والرخاء، وتبكيت الكفار وخزيهم في النشأتين.
الثامن: بعث السكينة والألفة في معسكر المؤمنين.
التاسع: تطلع المؤمنين للمدد السماوي، فما من جيش وفئة قليلة تحب عودة الفئة الكبيرة من الأعداء للقتال، إلا أهل أحد وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، للبشارة السماوية بنزول الملائكة للإنتقام من الكفار، فلو رجع الكفار للقتال لإنهزموا شر هزيمة، وصاروا عبرة وموعظة لمن خلفهم من الكفار.
العاشر: ذكرت هذ الآية ان من منافع الإخبار السماوي عند نزول الملائكة مدداً للمؤمنين بعث الطمأنينة في نفوسهم، ويحتمل وجوهاً:
الأول: كان المؤمنون في حال قلق وخوف وإرباك وهم بحاجة إلى ما يجعلهم في حال سكينة.
الثاني: لم يكن المؤمنون في حال قلق وخوف، ولكن هذه الحالة تحدث عندهم بعدئذ وفي ذات الموضع، وهي على جهات:
الأولى: عندما يصل الكفار ويعودون للقتال.
الثانية: حال إزدياد الأخبار عن مجئ الكفار للقتال.
الثالثة: حصول القلق من غير أن تأتي أخبار جديدة عن قرب عودة كفار قريش للقتال.
الثالث: نفاد المؤون التي عند المؤمنين.
الرابع: لايحصل قلق وخوف عند المؤمنين.
والصحيح هو الرابع من وجوه:
الأول: من فضل الله عز وجل على المؤمنين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان بين ظهرانيهم.
الثاني: آيات القرآن تترى في نزولها على المسلمين.
الثالث: تضمن التنزيل البشارة والسكينة كما في الآية محل البحث.
الرابع: المسلمون متوكلون على الله عز وجل ولايخافون في الله لومة لائم.
لقد وطن المسملون أنفسهم لنيل إحدى الحسنيين، أما الشهادة وأما النصر، فجاءتهم البشارة للثبات على الإيمان وليزدادوا سكينة، ويكونوا في حرز من الخوف والقلق والحزن، ويبلغوا مرتبة إطمئنان القلوب .
الحادي عشر: لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين إستدامة أخوة الإيمان، والبقاء على طاعة الله ورسوله وإجتناب أسباب الفرقة والخلاف، وجاءت هذه الآية بوصف المقاتلين يوم أحد بالمؤمنين ، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
إن البشارة السماوية عيد مبارك وغبطة تعم المؤمنين، وتنفذ إلى شغاف قلوبهم، وكما ينزل الله عز وجل المطر من السماء لينتفع منه الناس جميعاً، فان المدد الملكوتي نعمة وغيث نازل على المؤمنين جميعاً، فليس منهم من لم ينتفع منه بل جاءت البشارة رحمة ورأفة بأهل أحد جميعاً،وهذا العموم الإستغراقي من خصائص البشارة الإلهية.
وتدعو خاتمة الآية في مفهومها المسلمين إلى الإنقطاع إلى الله ورجاء نائلته وفضله، وتحثهم على التوجه إلى الله بالدعاء لسؤال النصر والغلبة على الكفار، وهي قانون ثابت يحكم سوح المعارك، ويجعل المسلمين يدركون أنهم محتاجون إلى رحمة الله عز وجل في ميادين القتال، وتطرد الآية اليأس والقنوط عن نفوس المسلمين.
ومن القواعد الكلية في ميدان المعركة أن الخوف يصاحب الفئة القليلة ذات العدة والمؤونة غير الكافية لعدم التكافيء في القتال وأسبابه، ولكن هذه الآية خلاف هذه القاعدة، بإنتفاء الخوف والفزع عن المسلمين، مع أنهم الأقل عدداً وعدة يوم بدر وأحد، وفيه وجوه:
الأول: إنه من إعجاز القرآن الذاتي والغيري، بأن تكون فيه أسباب تغيير القواعد المتعارفة بين الناس، وبما فيه النفع الخاص والعام، النفع الخاص للمسلمين، والعام للناس جميعاً، ففي زوال الخوف من قلوب المسلمين مسائل:
الأولى: إنه سبب للنفير والخروج للدفاع عن الإسلام.
الثانية: فيه دعوة حسية ظاهرة للناس لدخول الإسلام.
الثالثة: بعث الحيرة والإرباك في صفوف الكفار.
الثاني: إنه من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيه من أسباب المنعة والقوة.
الثالث : ترشح أسباب الرفعة والعز، وإنتفاء الخوف من ثمرات التحلي برداء الإيمان، ونزول المدد الإلهي.
الرابع : فيه زيادة لحزن الكفار، ومرض قلوبهم قال تعالى[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( ).
فهم يأتون لقتال المسلمين، وقلوبهم مملوءة غيظاً وحسرة، فيرون معاني السكينة ظاهرة على المسلمين مع قلتهم، فيزدادون غيظاً وحسداً ، ويدب اليأس بينهم.
الخامس : إمتلاء نفوس المؤمنين بالسكينة من مصاديق صرف الضرر عنهم، وعمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
السادس : إنه ليس من تغيير تلك القاعدة ، لأن المدد الملكوتي يجعل المؤمنين هم الأكثر عدداً .
وتتجلى معاني قدسية للآية أعلاه بأن من أسباب قلة الضرر والأذى الذي يأتي للمسلمين الوقاية والمنعة الذاتية التي يجعلها الله عز وجل عندهم، بما يبعثه في قلوبهم من الطمأنينة بالبشرى والمدد الملكوتي.
وذكرت الآية النصر وأنه بيد الله، وضد النصر الهزيمة، وحينما يكون طرف منتصراً وأن الطرف الآخر وهو العدو خاسر، فأن قلت: إن كثيراً من المعارك تحدث وكلا الفريقين يقول أنه هو المنتصر والغالب وفيه وجوه:
الأول: أحد الفريقين صادق،والآخر كاذب.
الثاني: حصول وهم عند الناس بتغليب الطرف المرجوع وجعله راجحاً.
الثالث:كل فريق ينظر من جهة وحيثية غير الجهة التي ينظر منها الفريق الخصم فمثلاً يكتفي أحد الطرفين بالخروج من المعركة من غير هزيمة ماحقة أو الإستيلاء على محل إقامته.
وكما أن النصر بيد الله فأن الهزيمة أيضاً بيد الله، سواء تلك التي تترشح عن نصر الله عز وجل للمؤمنين إذ أن هذا النصر يعني في مفهومه هزيمة الكفار، أو التي تحصل بالذات، وتكون موضوعاً للإرادة فقد تأتي الهزيمة من غير أن تكون فرعاً وأثراً مباشراً لنصر المؤمنين، كما في وقوع الهلاك في جيش إبرهة بقوله تعالى[وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَر ْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ]( ).
وكما في إنسحاب وهزيمة الكفار يوم الخندق بعد أن دب اليأس في نفوسهم، وقد تأتي الهزيمة بآفة سماوية أو أرصفية قال تعالى[وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ]( ).
ويدل حصر النصر بالله عز وجل على عجز الناس على جلب النصر والغلبة على غيرهم إلا بمشيئة وإذن الله، ثم أختتمت الآية بثناء الله على نفسه وأنه سبحانه القوي الذي يجعل الأمور تجري بأحسن نظام، وبما ينفع الناس في النشأتين، مما يدل على أن النصر لا يكون إلا حليف المسلمين لأن في علو راية الإسلام إستدامة لمبادئ التوحيد، وسنن النبوة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إتصال مضامين هذه الآية بموضوع الآية السابقة، بقرينة حرف العطف(الواو) الذي إبتدأت به هذه الآية.
الثانية: بيان حقيقة وهي أن المدد الملكوتي بذاته نعمة وخير محض، وله منافع عرضية تترشح عنه.
الثالثة: للمدد الملكوتي غايات حميدة وآثار مباركة.
الرابعة: جاءت الآية السابقة بالخطاب للمؤمنين، ووصفت هذه الآية المدد بأنه[بُشْرَى لَكُمْ]أي بشرى وغبطة وسعادة للمسلمين والمسلمات جميعاً .
فلغة الخطاب في هذه الآية أعم وأوسع من الخطاب في الآية السابقة مع إتحاد السنخية والموضوع، وفي العموم شهادة وإقرار بالفضل للذين نزلت فيهم هذه الآية، وصاروا سبباً لمجيء البشرى والطمأنينة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
الخامسة: من القوانين الثابتة في الإرادة التكوينية أن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم، فجاء الإخبار عن المدد الملكوتي بأمور:
الأول: البشرى والسعادة والسرور للمؤمنين.
الثاني: بعث السكينة في قلوبهم، وزوال الخوف من الكفار يوم أحد وما بعده.
الثالث: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ومعرفة أن النصر بيد الله.
الرابع: خزي وخيبة كفار قريش، وهلاك طائفة ، وأسر عدد آخر منهم.
الخامس: يدل إجتماع البشرى والطمأنينة على إطلاق النفع من المدد الملكوتي، فيظهر على الوجوه والجوارح وينفذ إلى النفوس فيكسوها بصبغة السكينة والطمأنينة.
السادس: ليس من مؤمن إلا ويستبشر ويفرح بالمدد الملكوتي ، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وصحيح أن الجمع في الآية أعلاه يتعلق بالمال والذهب والفضة إلا أن الآية محل البحث تؤكد أن المدد الملكوتي من السماء هو خير من الأموال التي يجمعها الكفار في ذاته، وفي كونه وسيلة وسبباً لجمع الأموال، وكثرة الغنائم التي تأتي المسلمين.
السابع: الطمأنينة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، ومنها ما تنفذ منها أسباب القلق والخوف أحياناً وبدرجات متفاوتة، ومنها ما تكون ممتنعة عن تلك الأسباب ، لذا جعلها الله عز وجل بين أمور:
الأول: التقيد بآداب الصبر كما في الآية السابقة.
الثاني: الإلتزام بأحكام وسنن الخشية من الله، والمبادرة إلى أداء الفرائض والعبادات.
الثالث: الإخبار الإلهي عن المدد الملكوتي من السماء.
الرابع: البشرى والسرور والغبطة للمؤمنين.
الخامس: تحقق النصر والغلبة على الأعداء.
السادس: إن النصر دائماً بيد الله، وهو القوي القهار.
السابع: ضعف ووهن الكفار بعد هذه الآية لذا جاءت الآية التالية بقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )
ولو تخلف المؤمنون عما جاء في الآية السابقة من شرط الصبر والتقوى فهل ينتفي موضوع البشارة والطمأنينة ، فيه وجوه:
الأول:تعلق الموضوع بعودة الكفار للقتال، وينتفي بإنتفائها.
الثاني: يشمل المقام خيار الشرط والإشتراط لتخلف المؤمنين عن الشروط الواردة في الآية.
الثالث: تفضل الله عز وجل بنزول المدد الملكوتي، وتحقق البشارة والطمأنينة نعمة ولطفاً من عند الله عز وجل.
الرابع: إن الله عز وجل يصلح المؤمنين لمراتب الصبر والتقوى، والتي تتحقق بطاعة الله ورسوله.
والصحيح هو الرابع فلا موضوعية في المقام لخيار الإشتراط لأن موضوعه هو البيع والمعاملات، وجاء الشرط في الآية من عند الله عز وجل بإعتباره فضلاً من الله، أي أن الشرط والمشروط كليهما نعمة ولطف من عند الله عز وجل.
الآية لطف
هذه الآية شاهد على الفضل الإلهي العظيم على المؤمنين، وتوالي النعم الظاهرة والباطنة عليهم، إذ ان المدد أمر حسي عقلي، وما يبعثه من الغبطة في النفوس والسكينة في القلوب أمر ذاتي تظهرآثاره ومنافعه في الفعل العام للمؤمنين وإنتفاء اليأس والنفرة والشقاق عندهم وفيما بينهم.
والآية لطف خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مدد سماوي له بجعل أصحابه ينقادون اليه، ويزدادون إيماناً بنبوته، وهذا الإزدياد مقدمة للإخلاص في طاعة الله والعمل بأحكام التنزيل، وسبب للتفاني والتضحية في سبيل الله.
لقد جاءت الآية بصيغة الجمع لبيان سعة فضل الله ، وأنه يتغشى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه من المجاهدين، وهل الآية ونزول الملائكة من عمومات قوله تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً] الجواب نعم تتضمن الآية الإخبار بالبينة على إكرام المجاهدين .
وتدل الآية على الملازمة بين الإيمان والبشارة، فمع الإيمان تأتي البشارات بالمدد والمعونة والنصر الإلهي، وتفتح أبواب الرزق الواسع على المسلمين، وفيه ترغيب للناس بالإسلام، ودعوة لنبذ الكفر والضلالة، وزجر للكفار من التعدي على المسلمين.
ويدل على هذا الزجر مفهوم الآية وما فيها من معاني اللطف الخاص بالمؤمنين لتكون وظائف الآية عامة وشاملة للمسلمين وغيرهم، وتتضمن التأديب والإصلاح.
ومن اللطف والرأفة بالعباد أن يكون النصر بيد الله يهبه لمن يشاء، ليسعى الناس لطلب النصر والظفر والذي لايأتي إلا بإتخاذ الإيمان بلغة وطريقاً على نحو الحصر والتعيين، ومن اللطف الإلهي الحث على الإيمان، وجذب الناس لسبل الهداية، بأسباب المدد والعون الإلهي.
إن جعل النصر بيد الله شاهد بأن الله عز وجل حينما نفخ في آدم من روحه تعاهده وذريته، ولم يترك الناس وشأنهم يظلم القوي الضعيف، ويشيع الظالمون الفساد في الأرض ويسفكون الدماء بغير حق، فالنصر الإلهي مانع من إستحواذ الكفر وأسبابه على الأرض، وبرزخ دون إستعباد الناس لغير الله عز وجل وستبقى هذه الآية ضياء سماوياً مباركاً يقرب الناس من منازل الطاعة، ويدعوهم إلى الإيمان وحسن التوكل عليه، ومع نزول الملائكة للنصرة يصبح المؤمن ضمن إشعاع أنوارالحضرة الإلهية، ويتفانى في طاعته ويخلص في عبادته.
لقد أراد الله عز وجل إظهارالإسلام ونصرالمؤمنين بالعلة الفاعلية الخارجة عن القدرة ، والعون من السماء ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ومن اللطف الإلهي في المقام أن آية نزول الملائكة للنصرة آية عقلية إلا أنها ذات وجوه حسية تدرك بالحواس فيرى ويسمع الطرفان حركة وفعل الملائكة ويدركون الآثار المترتبة على نزولها، ليكون سبباً للهداية والإيمان وبداية مرحلة جديدة في تأريخ الإنسانية، تتصف بثبات سنن الإيمان في الأرض ، وتردد الكفار في نية التعدي على الإسلام والمسلمين.
إفاضات الآية
لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين أن يصاحبهم العز في الدنيا والآخرة، وتلك آية في الخلق وبديع الصنع، وشاهد على أن الله عز وجل يتعاهد الإيمان وأهله بما يجعل العبادة مستديمة في الأرض، وهو من أ سرار نفخ الله من روحه في آدم وجعله خليفة في الأرض، والأمر إلى الملائكة بالسجود له، ويتجلى العز في هذه الآية بأمرين:
الأول:البشارة في ساحة المعركة وساعة الشدة.
الثاني: بعث السكينة في نفوس المؤمنين.
وتترشح عن كل أمر منهما آيات وآثار ومنافع عديدة تكون متوارثة ومتجددة في أجيال المسلمين ببركة هذه الآية الكريمة،، وهذا من إعجاز القرآن، والشواهد على أنه آية وحجة عقلية وحسية ، لا تنقطع عجائب آياته، ودلالاتها، ومن هذه الآثار والمنافع وجوه:
الأول: إزالة الضغائن بين المؤمنين.
الثاني: منع حصول الكدورات والفتن بينهم.
الثالث: زيادة قوة المؤمنين، وإستمرار تعاونهم في البر والتقوى.
الرابع: تعاهد المسلمين للعبادات، فعندما يزول الخطر والشر وأسباب الضرر يتوجه المسلمون للعبادة والفرائض والتفقه في الدين.
الخامس: زيادة إيمان المسلمين، وتثبيت أقدامهم في مسالك الهداية.
السادس: البشارة مدد وعون، فمن إعجاز القرآن تعدد وجوه ومصاديق المدد الإلهي في الموضوع الواحد، ومجئ مدد على نحو البشارة ليكون مقدمة للمدد الحسي الذي يحسم المعركة بالنصر للإسلام، وسلامة المؤمنين مما جاء الكفار من أجله من الغرض القبيح وهو إستئصال وقتل المؤمنين.
ومن منافع هذه البشارة أنها تتضمن الإنذار والوعيد للكفار، ولا ينحصر موضوع هذا الإنذار بكفار قريش الذين جاءوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بل هو متجدد ومتصل يبعث الفزع والخوف في نفوس الكفار من المؤمنين في كل زمان ومكان، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا].
فمتى ما أدرك الفرد والجماعة أن عدوهم منصور ومؤيد بمدد قوي فانهم يكفون عن التعدي عليه، وفي المقام حصة زائدة وهي علم الناس جميعاً بنصرة الملائكة للمؤمنين، وأنهم المدد الذي يكون حاضراً لإعانتهم ووقايتهم من الكفار ليكون دعوة للهداية والإيمان، وباباً للتوبة والإنابة، ومدرسة للناس جميعاً في الإعتبار والإتعاظ، وكما يصاحب العز المؤمنين فان البشارة تصاحبهم في الحضر والسفر، والسلم والحرب، ومنها البشارة الواردة في هذه الآية إذ أنها كالسدرة التي يتفيأ بظلالها المسلمون والمسلمات.
ويبعث ذكر النصر الغبطة والسرور عند الإنسان متحداً ومتعدداً، وجاءت الآية بذكر وحصر وقوعه بمشيئة وأمر الله، وفيه دعوة للإيمان والتوجه إلى الله سبحانه بالدعاء وسؤال النصر على الأعداء، وإنتهاج السبل التي تحقق النصر والغلبة.
والتسليم بأن الله عز وجل هو القوي والحكيم القادر على تولي تدبير شؤون الخلائق، ليكون هذا التدبير شاهداً على ربوبيته وبرهاناً على وجوب عبادته، وحجة للمؤمنين في خروجهم للقتال يوم بدر وأحد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنصرة الإسلام، وتثبيت كلمة التوحيد في الأرض، ومحاربة الكفار ومنعهم من إشاعة الفواحش والمنكرات والصد عن سبيل الله.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بوصف كريم لمضامين الآية السابقة، فأخبرت بأن المدد الملكوتي بشارة للذين خرجوا للقتال في أحد، وصبروا في ساحة المعركة ولاقى أهلهم والذين خلفهم من المسلمين والمسلمات في المدينة الأذى والكيد.
ويعود الضمير (الهاء) في (جعله الله) إلى أمور:
الأول: الإمداد بالملائكة.
الثاني: الوعد الكريم به.
الثالث: المعنى الجامع من المدد والوعد به.
الرابع: نصر المؤمنين المترشح من نزول الملائكة، وكأنه من إتيان السبب وأرادة المسبب.
وفيه بيان للنفع العظيم للوعد الإلهي والغايات الحسنة له وما يترتب عليه النفع.
وهوشاهد على تصديق المسلمين به، فلو لم يصدق المسلمون بآيات القرآن لما حصلت عندهم البشارة والسكينة عند نزول هذه الآية، وهذا الوجه من مصاديق إعجاز القرآن، وهو دليل على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
إذ تتلقى التنزيل بالتصديق، والموعدة الإلهية العظيمة بالرضا والغبطة والفرح، فليس من السهل أن تصدق الجماعة في ساعة الضيق والشدة بنزول ملائكة لنصرتها، وهي يائسة من مجئ المدد القليل من الناس، وما للمؤمنين يوم أحد من فئة تمدهم، إذ أصبحوا مكشوفين خارج المدينة، وهو أمر يغري الكفار بهم خصوصاً مع قلة عدد وعدة المؤمنين، وكثرة عدد وعدة ومؤن الكفار.
ومع هذا فان المؤمنين تلقوا الوعد بنزول الملائكة بالتصديق، فجاءت هذه الآية لتملأ نفوس المسلمين بالسكينة، ومن الآيات أن الكفار لم يبقوا على إصرارهم على الرجوع إلى القتال، بل إختاروا العودة إلى مكة والكف عن مقاتلة المؤمنين لتكون البشارة في المقام ذات دلالات ومعان متعددة.
وعلى فرض إرادة الوعد وحده في الآية دون الإمداد أو الإمداد والوعد ولكن بلحاظ عدم حصول موضوع الإمداد ونزول الملائكة وهو رجوع الكفار للقتال إذ أنهم لم يرجعوا، فان موضوع الآية يتجلى بالبشارة للمؤمنين وسكينة قلوبهم وعدم خشية المؤمنين من العدو وكثرته وعدته، والنسبة بين البشارة وطمأنينة القلوب عموم وخصوص من وجه.
فمادة الإلتقاء هي نزول النعمة على المؤمنين وإنتفاعهم من مضامين الآية من وجوه عديدة،ومنع حصول الفشل عندهم ، ومادة الإفتراق هي أن البشارة موضوع يبعث الغبطة والسرور في نفوس المسلمين، ويجعلهم يتوقون إلى النصر ورسوخ مفاهيم الإسلام بثقة ورضا، وأما الطمأنينة فتتجلى بتقوية القلوب، وزيادة الإيمان.
وتأتي البشارة والغبطة مصاحبة للمدد والوعد به، أما السكينة في القلب فهي كيفية نفسانية حميدة تترشح عن الوعد الإلهي بالمدد الكريم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في طرفي الأثر للمدد والوعد به، لبيان العموم الإستغراقي للفضل الإلهي على المسلمين وشموله لهم جميعاً من غير إستثناء، وفيه دلالة على نفي الهم بالفشل والخوف والحزن في نفوسهم، ودعوة إلى عدم التنابز والتعيير والقدح ببعضهم ممن إنهزم في معركة أحد أثناء المعركة، إذ أن المؤمنين كانوا يومئذ على ثلاثة أقسام:
الأول: من بقي يقاتل مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ولم يغادر أبداً.
الثاني: من إنهزم من ساحة المعركة، ثم رجع إليها عندما سمع بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حي ويقاتل وسط الميدان.
الثالث: من لم يرجع إلى الميدان إلا بعد إنتهاء المعركة.
وذكر قبل أربع آيات الذين هموا بالفشل من المؤمنين بصيغة الجمع والتعدد بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ).
فان الذين بقوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة أقل من عدد أصابع اليدين، ولكن البشارة والسكينة جاءت لأهل أحد على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، وهو نوع جزاء عاجل لهم على خروجهم لأحد، ودعوة للمسلمين لإكرامهم جميعاً لصبرهم وجهادهم، ونزول البشارة والسكينة عليهم.
أي أن هذه الآية وما تدل عليه في دلالتها التضمنية والمفهوم على إكرام أهل أحد من حث للمسلمين على الإقتداء بهم، وإقتباس الدروس والمواعظ من سيرتهم والإعتبار من عظيم المنزلة التي نالوها بتلقي الوعد الإلهي المقرون بالبشارة والسكينة وإنتفاء الخوف على نحو دفعي، إذ أن زوال الخوف من الفرد والجماعة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وفيما تستوعبه من أفراد الزمان كثرة وقلة.
ومع شدة الخوف الذي يحيط بالمؤمنين من إحتمال رجوع الكفار للقتال.
جاءت هذه الآية لتمحوه وتزيحه مرة واحدة، بالإضافة إلى خصوصية في المقام ببركة القرآن وهي إستبدال الأمن والسكينة محل الخوف والفزع وبعد أن ملأت البشارة نفوس المؤمنين وزال الخوف من صدورهم.
جاءت خاتمة الآية بالإخبار بأن النصر من عند الله، ويفيد الجمع بين كلمات الآية أن النصر حليف المؤمنين لأنهم خالية قلوبهم من الخوف والوجل من العدو، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ويأتيهم المدد السماوي الذي يكفيهم شر الكفار.
فصحيح أن الآية جاءت بقانون عام من الإرادة التكوينية بأن النصر بيد الله عز وجل إلا أن مضامين الآية القدسية وما فيها من الدلالات تدل على الإخبار بأن الله عز وجل أراد للمؤمنين النصر بعد معركة أحد، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص معركة أحد ، وما لحق المسلمين فيها من الخسارة (قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: لا يُصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا) ( ).
وأختتمت الآية بوصف الله بإسمين من الأسماء الحسنى وانه سبحانه (العزيز الحكيم) فمن عزته تعالى قدرته على جعل المسلمين أعزة أقوياء، وينزه قلوبهم من الخوف من الكفار وهو أمر لايقدر عليه إلا الله عز وجل، فإذا السلاطين والملوك مدداً لجنودهم وحلفائهم فان الخوف يبقى في نفوسهم من العدو ومباغتته وما يأتيه من المدد، ولكن المدد الإلهي والوعد به أزال الخوف ومنع الجبن والفشل عن المؤمنين متحدين ومتفرقين، وهو من معاني ختم الآية بقوله تعالى [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ].
وتكرر في الآية لفظ (ما) وتععدد معانيها، ولكنها وردت في الآية مرتين، وكلاهما لإرادة النفي مع مجئ التحقيق بعدها في الأولى ذكرت الآية منافع المدد الملكوتي وأنه سبب البشرى والطمأنينة.
وفي الثانية حصرت النصر وتحقيقه بالله عز وجل، وفيه شاهد على أن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه رؤوف بالمؤمنين، يجزيهم بالسعادة العاجلة في الدنيا والثواب في الآخرة.
التفسير الذاتي
لقد إختار الله عز وجل لرسوله وأنصاره وأتباعه العز والهيبة في الدنيا قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، لأن الدنيا دار عبادة وطاعة لله عز وجل، وقد تولى المسلمون القيام بهذه الوظيفة من بين الناس، فرزقهم الله من عزته، لتكون رحمة عاجلة لهم، وعوناً على أداء الفرائض، وإخلاص العبادة لله عز وجل، وتترشح العزة على المؤمنين في هذه الآيات من وجوه:
الأول: السلامة من الهزيمة والفرار أمام المشركين.
الثاني: منع حصول الفشل والجبن بين صفوف المجاهدين، خصوصاً وان طائفتين منهم همتا به [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ).
الثالث: تحلي المسلمين بالصبر، وصيروته ملكة عند كل واحد منهم، ليكون واقية من الذنوب، وسلاحاً لمواجهة الكفار والمشركين، ومن الصبر الذي ذكرته الآية السابقة خروجهم خلف العدو في اليوم الثاني من معركة أحد بأمر ونداء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما بلغهم نية العدو العودة للقتال.
وتتجلى معاني إضافية للصبر في المقام من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد جيش المشركين، ومن يقف خلفهم من أصحابهم وكثرة الخسائر والجراحات التي أصابت المسلمين، وكل هذه المشاق لم تمنع المسلمين من المبادرة إلى الخروج في أثر العدو.
الرابع: من مصاديق العز البشرى التي تلقاها المسلمون في هذه الآية لأنها نصر عاجل، وذخيرة دائمة من كيد الأعداء، فبعد المدد الملكوتي لا يخشى على الإسلام ورجاله، لذا جاءت الآية السابقة بإشتراط تقيدهم بآداب الصبر والتقوى لنزول الملائكة.
الخامس: من العز والوقار الطمأنينة والسكينة التي جاءت بها هذه الآية لأنها مناسبة للبصيرة، وتوظيف للعقل في القول والفعل، والصدور عن أحكام وسنن القرآن في المعاملات.
لقد أخبرت آيات القرآن بان المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وفي الآية محل البحث وجوه:
الأول: إنها مصداق لهذا الإخبار من وجوه كثيرة يتجلى جزء يسير منها في ثنايا تفسيرنا لهذه الآية وكتب التفسير الأخرى.
الثاني: الآية تأهيل للمسلمين لنيل مرتبة خير أمة.
الثالث: وعد الله عز وجل خير أمة بالبشرى والطمأنينة كي تكون صفة ملازمة لها ولأفرادها.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تبعث الآية المسلمين على التفقه في أمور الدين والدنيا.
الثانية: تؤكد الآية الكريمة منافع نزول الملائكة والوعد به، وهذا من إعجاز القرآن بأن تأتي آية في موضوع ثم تأتي آية أخرى بعدها تؤكده ببيان آثاره المباركة، الظاهرة منها والباطنة خصوصاً في الوعد بنزول ملائكة في الحال لنصرة المؤمنين.
الثالثة: عدم إنحصار مضامين هذه الآية بتوكيد النزول، بل أظهرت منافع وبركات الوعد بنزول الملائكة ، وذكرت أمرين:
الأول: الوعد بنزول الملائكة بشارة للمؤمنين.
الثاني: بعث السكينة في نفوس المؤمنين.
الرابعة: بيان حقيقة وهي ترشح البركات والمنافع عن الوعد الإلهي ويأتي الوعد والأمر الإلهي في واقعة مخصوصة، ولكن فوائده تترى وتستمر وتتسع لتشمل الأمكنة والأزمنة المتعددة وقد يقول بعض المسلمين من الأجيال اللاحقة لنزول الآية “ياليتنا كنا معهم فنفوز ببركات الوعد” وهو أمر حسن ولكن الآية شاملة في منافعها لكل المسلمين للغة الجمع في خطابها.
وما أن يولد المسلم إلا وتكون بركات ومنافع هذه الآية واقية وحرزاً له من كيد الكفار وتعديهم عليه ، وعلى البلد والمصر الذي هو فيه.
ومن وجوه ورشحات الطمأنينة إتصال وتعدد أسباب الرزق من غير حصار وذلة من قبل الكفار.
الخامسة: بيان الأجر والثواب العاجل للمؤمنين على جهادهم ، قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).
السادسة: شهادة القرآن للمسلمين بالتصديق بما ينطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي في أشد الأحوال، والمسائل الإبتلائية.
ويتجلى هذا التصديق بالإستبشار والرضا بالوعد الإلهي وهو أمر يفزع الكفار والمنافقين ويسقط ما في أيديهم، ويجعلهم يصابون باليأس من إرتداد نفر من المسلمين، فالأمة التي تصدق بنزول الملائكة لنصرتها لا تعود إلى مواطن الضلالة، فإن قيل لم يكن هذا التصديق إبتدائياً، إذ رأى المؤمنون نزول الملائكة في معركة بدر وإعانتهم لهم في هزيمة المشركين الذين كانوا نحو ثلاثة أضعاف المؤمنين، والجواب على وجوه:
الأول: إن هذه السابقة من اللطف الإلهي.
الثاني: إنه من فضل الله عز وجل.
الثالث: فيه إعانة إضافية لهم.
الرابع: إنه مقدمة سماوية للتصديق بالوعد بنزول الملائكة.
السابعة: حصرت الآية موضوع البشارة بالمؤمنين بقوله تعالى(لكم) وفيه حث للمسلمين على الشكر لله عز وجل، وتعاهد مقامات الشكر من مواطن الضيق والخوف وحالات الغبطة والسعادة، وليس بينهما إلا مجيء الوعد الإلهي بنزول الملائكة، وكان المسلمون يوم أحد في فزع ووجل من عودة الكفار للقتال، وما أن نزلت هذه الآية حتى تغير الأمر وعلت الوجوه البهجة والفرح.
وظهرت السعادة والسرور على كل واحد منهم، وتلك آية لم ينلها إلا المسلمون، وهي من الشواهد على كونهم[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامنة: تتضمن الآية نشر معاني البشارة والسعادة بين المؤمنين لتعم وتسود معاني المودة في الصلات والمعاملات فيما بينهم، وتتجلى مفاهيم الرحمة والرأفة في مجتمعاتهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وأن الله عز وجل يهيء للمسلمين أسباب ومقدمات هذه الأخوة، ويثبت قواعد هذه الأخوة بالبشارة القرآنية التي تتضمن الأمن والسلامة من الكفار وكيدهم.
التاسعة: لقد أراد الله عز وجل أن تكون الحياة الدنيا دار سعادة وسكينة وطمأنينة للذين آمنوا وتلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام والتنعم بالغبطة والسكينة في الحياة الدنيا، وإتخاذها مناسبة ومزرعة لنيل السعادة الدائمة، واللبث الدائم في الجنة.
العاشرة: علم الله عز وجل بحال القلوب، ومن رحمته تعالى بالمؤمنين بعث السكينة في قلوبهم في أشد منازل الخوف، والآية من مصاديق الحديث(إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) ( )، مع بيان حقيقة ورحمة وهي أن الله عز وجل يجعل قلوب المؤمنين في طمأنينة، وسكينة دائمة.
الحادية عشرة: توكيد الوعد الإلهي بنزول الملائكة.
الثانية عشرة: بيان الآثار المباركة للوعد الإلهي في نفوس المؤمنين ومجتمعاتهم، وفيه دعوة لهم للمواظبة على أداء الفرائض والعبادات.
الثالثة عشرة: تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على شكر الله عز وجل المسلمين على إيمانهم ومبادرتهم للخروج إلى ميادين القتال دفاعاً عن الإسلام وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع عشرة: بيان قانون كلي وهو أن النصر بيد الله عز وجل على نحو الإطلاق، سواء في ميادين القتال أو غيرها، وفيه مسائل :
الأول : الإشارة إلى تبدل أحوال القتال وعدم تعلق النصر بعدد المقاتلين وكثرة عدتهم وخليهم.
الثاني : دعوة المسلمين للجوء إلى الله بالدعاء والمسألة.
الثالث : تثبيت مضامين هذه الآية الكريمة من البشارة وأسباب السكينة.
التفسير
قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ]
لقد جاءت الآية السابقة بشرط ومشروط وأمر إلهي للمؤمنين بمقدمة وإستعداد لتلقي المدد السماوي، وإستقبال الملائكة الذين ينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالتحلي العام بالصبر والخشية من الله لقوله تعالى في أول الآية السابقة بلغة الشرط [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ).
جاءت هذه الآية بوصف كريم وإخبار عن الأثر والنفع المترشح عن المدد الملكوتي، وقد نسبت الآية السابقة المدد لله عز وجل وأنه سبحانه هو الذي يمد المؤمنين بالملائكة لتكون الآية شاهداً على أن الملائكة يمتثلون لأوامر الله على نحو الموجبة الكلية، وفيه تفسير لقوله تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
ثم جاءت هذه الآية لتبين حقيقة وقانوناً سماوياً ثابتاً وهو أن النعمة الإلهية توليدية، تترشح عنها نعم كثيرة يعجز الناس عن إحصائها وسبر أغوارها والإحاطة بدررها، ومنها في المقام ما يتفرع ويترشح عن نعمة الوعد بنزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
فجاءت هذه الآية بذكر فردين منها هما أنها بشارة لعامة المؤمنين، وسكينة تتغشاهم، وتمنع من دبيب الخوف والفزع إلى نفوسهم، لتكون شاهداً على أن الإيمان واقية وشفاء من الأمراض النفسية والكدورات الظلمانية على نحو التعدد في الموضوع والأثر، أي أن الوقاية موضوع، والشفاء موضوع آخر، والأثر المبارك يأتي على نحو متعدد وشامل في نفعه للمؤمنين جميعاً.
ويدل مجئ هذه الآية بالبشارة والسكينة كرشحة من رشحات الوعد الذي جاءت به الآية السابقة على تعدد وجوه وصيغ المدد والنصر الإلهي للمؤمنين، وأنه يتضمن إصلاح المؤمنين للنصر ذاته، ولإمامة الناس في مسالك الخير الصلاح.
ويحتمل الضمير (الهاء) الوارد في قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ] وجوهاً:
الأول: إرادة المدد الذي ينزل من السماء، وقد بينته الآية السابقة على نحو التفصيل وبما يرفع اللبس والترديد بأن المدد من جنس الملائكة الذين هم عقل محض ولهم قدرة التصور والتلبس بأي هيئة من هيئات الصلاح وأسباب القوة والبطش بأذن الله.
وفي هذا البيان نوع طمأنينة للمؤمنين ومنع للخلاف والجدال والخصومة بينهم بخصوص نوع وماهية المدد.
الثاني: عدد الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين وهم خمسة آلاف ملك.
الثالث: كثرة عدد الملائكة، وتعددهم وكونهم آلافاً وليس أفراداً، مع قدرة الملك الواحد على تحقيق النصر والغلبة على الجيش الكبير من الكفار.
الرابع: الإقتران بين عودة الكفار للقتال ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين، فقد يخشى ويخاف المؤمنون من رجوع الكفار إلى المعركة، خصوصاً وأن المؤمنين تعرضوا يوم أحد إلى خسائر كبيرة في الأرواح، وأصابت الجراحات عدداً ليس قليل منهم، وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشج في وجهه.
الخامس: يفوق جيش الملائكة في عدده عدد جيش الكفار، فمن الآيات أن عدد الملائكة خمسة آلاف ملك، بينما لا يتجاوز عدد الكفار ثلاثة آلاف بما فيهم العبيد والخدم.
السادس: نزول المدد الملكوتي من السماء حال عودة الكفار للقتال لقوله تعالى[مِنْ فَوْرِهِمْ] ( )، فحالما يرجع ويصل الكفار إلى ميدان المعركة يكون الملائكة قد نزلوا من السماء.
ومن وجوه البشارة في المقام أنه ليس ثمة مسافة بين السماء والأرض، وهو من مصاديق ومعاني الملكية المطلقة لله تعالى للسموات والأرض ومن المائز بينها وبين ملكية الأشخاص والملوك والدول.
فقد يكون عند الإنسان أملاك متناثرة ولا يستطيع الحضور عندها جميعاً في آن واحد، ولايستطيع ضم غير المنقول منها بعضه إلى بعض، أما المنقول فيحتاج ضمه إلى الوسائل والأسباب.
أما ملك الله عز وجل فانه جميعاً في قبضته حاضراً عنده، مستجيباً لأمره، فالملائكة وان كان سكنهم في السماء إلا أنهم يكونون في الأرض حالما يأمرهم الله عز وجل.
إن نزول الملائكة يوم أحد من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وشاهد بأن أمر الله وصيرورته واقعاً لا ينحصر بالأمر الإبتدائي بل يشمل أمره إلى الخلائق، ويحتمل الأمر وجهين:
الأول: يأتي الأمر الإلهي إلى الملائكة بالتهيء والتوثب، فحتى لو رجع الكفار لغرض القتال ، وإجتمعت شرائط الصبر والتقوى عند المؤمنين ينزل الملائكة.
الثاني: مجيء أمر إبتدائي للملائكة بالتهيء والإستعداد للنزول والقتال، فإذا إجتمعت شرائط النزول الثلاثة الصبر، والتقوى، ورجوع الكفار، يأتي أمر آخر من الله إلى الملائكة للنزول للقتال.
الثالث: إذا إجتمعت الشرئط ينزل الملائكة لنصرة المؤمنين.
والصحيح هو الثالث، فليس هناك تعدد في الأمر الإلهي بل هو أمر واحد ولا يحتاج إلى إستعداد ومقدمات عقلية ومنها قطع المسافة بين السماء والأرض كتلك التي يحتاجها الحاج للوصول إلى البيت الحرام لأداء مناسك الحج مثلاً ، فيأتي الأمر الإلهي إلى الملائكة وهم في السماء بالنزول إلى الأرض ونصرة المؤمنين، فيحضرون في الميدان ، ويباشرون القتال في نفس اللحظة التي صدر فيها الأمر الإلهي من غير فترة ووقت بينهما.
وقد ورد في صورة القدر قوله تعالى [تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا]( )، وينزل المدد الذي ذكرته الآية محل البحث بطرفة عين، ويمكن إستقراء حقيقة من هذه الآية وهي أن نزول الملائكة ليلة القدر يتم من غير وقت يعتد به في النزول، وفي سرعة نزول الملائكة آية تجعلها تفنى في مرضاة الله عز وجل، وتدرك هي والخلائق جميعاً أنه ليس من ثمة تباين ومسافات بين السماوات والأرض وأجزاء وطبقات وأقسام كل منها.
فان قيل إن الملائكة في أعلى مراتب الإيمان واليقين وإن لم يروا هذه الآيات، والجواب أن هذه الآيات لطف وفضل من عند الله على المؤمنين والملائكة والمسلمين خاصة، والناس عامة إلى يوم القيامة، فتترى الآيات من عند الله في حال الإيمان والكفر، واليقين والشك، وفي السماء والأرض، وهو من معاني إتصال الفضل الإلهي.
السابع: الوعد الإلهي بالمدد الملكوتي بلحاظ أن الكفار لم يرجعوا للقتال بعد إنصرافهم من معركة أحد، فجاءت هذه الآية بشارة وسكينة للمؤمنين بما فيها من الوعد الكريم.
الثامن: يعود الضمير(الهاء) لكل ملك من الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين بلحاظ أن الواحد من الملائكة يكفي المؤمنين في الغلبة على الكفار.
التاسع: المعنى الأعم من نزول الملائكة والوعد به إذ تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ودفاعه عنهم.
العاشر: المراد الشرط الوارد في بداية الآية من الصبر والتقوى بإعتبار أن كل طرف من طرفيه بشارة للنصر وبلوغ المسلمين المراتب العالية في الصلاح والخشية من الله عز وجل.
وباستثناء الوجه التاسع والعاشر أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة، لتدل في تعددها على عظيم الفضل الإلهي على المؤمنين.
وفي الآية تذكير بالله عز وجل من وجوه:
الوجه الأول: ما يخص المؤمنين الذين إشتركوا في القتال ودفع العدو يوم أحد، وفيه مسائل:
الأولى: دعوتهم إلى ذكر الله عز وجل، وإستحضار قانون كلي ثابت وهو أن النصر بيد الله عز وجل.
الثانية: التطلع إلى نزول المدد الإلهي لإعانة المؤمنين في أشد ساعات الحرج والضيق.
الثالثة: إدراك حقيقة وهي أن الله عز وجل مع رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولن يتركه، قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
الرابعة: إجتهاد المؤمنين بالدعاء والمسألة لنزول المدد وتحقيق الوعد الإلهي بنزول الملائكة ناصرين لهم.
وهل في الدعاء تدارك لما قد يكون من نقص في التقوى والصبر، الجواب نعم من وجوه:
الأول: الدعاء من مصاديق الصبر في طاعة الله عز وجل.
الثاني: من أفراد الإيمان والتقوى الصبر ( وأخرج البيهقي عن علي عليه السلام قال: الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له( ).
الثالث: ورد في الآية السابقة شرط الصبر والتقوى لنزول الملائكة، والدعاء من مصاديق الإمتثال لهذا الشرط.
الرابع: في الدعاء تقريب لأوان نزول المدد ، وإزاحة للحواجز ومحو للموانع التي تحول دونه.
الخامس: لله عز وجل فضل كبير، بالإضافة إلى الرزق الذي كتبه للعباد، وينال المؤمنون من هذا الفضل ، والزائد على المكتوب بالدعاء والمسألة.
السادس: الدعاء مقدمة وعون لبلوغ مراتب الصبر والتقوى.
السابع: إنقطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء في معركة بدر حتى سقط رداءه.
لقد جاء في معركة بدر بيان لمقدمات نزول الملائكة، فلما رأى المسلمون كثرة جيش الكفار فزعوا وإستغاثوا بالله، وضجوا بالدعاء والمسألة (و قيل إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه)( ).
وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين لسبل الدعاء وإتخاذه طريقاً ووسيلة لتحقيق النصر والظفر بالأعداء.
الثامن: الدعاء سلاح الأنبياء، وهو بلغة لنيل الغايات الحميدة وتقريب البعيد وتخفيف المؤونة.
التاسع: في قوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) .
(قيل: هو رفع الصوت بالدعاء، والصياح في الدعاء مكروه وبدعه) ( )، ولكن لا دليل على إرادة الصياح في الدعاء من لفظ الإعتداء الوارد في الآية الكريمة، والدعاء أمر حسن بذاته، والصياح أمر عرضي لا يغير هذا الأصل، ولا يصح أن يكون عنواناً ثانوياً لتغييره وتبدل الحكم، والإعتداء نوع مفاعلة يستلزم وجود طرف يتلقى ويقع عليه الإعتداء ، وقد ذم الله عز وجل المعتدين، وأخبر عن شطر من قبيح فعلهم، قال تعالى[لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ]( ).
ومجيء لفظ الإعتداء في الآية أعلاه من سورة الأعراف لا يعني أنه متعلق بالصياح في الدعاء، فقد يأتي أول الآية في شيء وآخرها في شيء، وقد يكون المعنى: إدعو ربكم تضرعاً وخفية على المعتدين فإن الله عز وجل لا يحبهم، وفيه بشارة الإستجابة للمؤمنين بالإنتقام من الكفار، وقد كان مجيء قريش لقتال المؤمنين يوم أحد مثالاً واضحاً للتعدي والظلم للنفس والغير.
الخامسة: إدراك المؤمنين لحقيقة حاجتهم إلى الله عز وجل على نحو الإستدامة ، وفي حال الشدة والرخاء.
السادسة: من الناس من يريد أن يرى المعجزة الحسية التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء نزول الملائكة آية حسية وحجة للمؤمنين الذين صدّقوا بنبوته، وخرجوا للقتال والدفاع عن بيضة الإسلام، ففوجئوا بالفضل الإلهي العظيم على المسلمين وهو أن الله عز وجل يدافع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام وعن المؤمنين أنفسهم .
لقد خرج المؤمنون من المدينة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرّضوا أنفسهم للموت والقتل، ولم يعلموا أن الله عز وجل ينزل عليهم جنوداً من السماء مدداً لهم، إنها مصداق لسنة الله في نصرة وإعانة أهل الإيمان [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
ولو علم المنافقون الذين إنخزلوا في الطريق إلى أحد بنزول الملائكة مدداً لهم، فهل يحضرون إلى المعركة لوجوه:
الأول: القتال والدفاع عن الإسلام.
الثاني: رؤية نزول الملائكة.
الثالث: الإشتراك في الغنيمة.
الرابع: الجامع المشترك بين الوجوه الثلاثة أعلاه.
والجواب أن النفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، والكبرى في المقام هي الشك عند المنافقين في الطريق إلى المعركة بان المدد الإلهي يأتي للمؤمنين بملائكة ينزلون من السماء، إذ ينعدم الظن المعتبر به عندهم، وعلى فرض حصوله عندهم فان عدداً كثيراً منهم يتجنب الرجوع إلى المدينة، ويأتي للمعركة مع التباين في الغايات والأغراض بلحاظ الوجوه الأربعة أعلاه.
ولكن الأمر حينئذ لا ينحصر بإختيار المنافقين وحده، إذ أن الإقامة والرياسة بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والآيات القرآنية تترى بالأوامر والنواهي قال تعالى[سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ]( )، وبخصوص الذين تخلفوا عن الحديبية وحرمانهم من غنائم خيبر، لأن الله عز وجل وعد الذين خرجوا إلى الحديبية أن يعوضهم من غنائم مكة.
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة النفاق في إنحسار، وعدد المنافقين في نقصان مع تقادم الأيام وتوالي نزول آيات القرآن، وتعاقب معجزات النبوة، وحصول النصر والظفر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في المعارك، ومنه معركة أحد ورجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بسلام وأمن إلى المدينة المنورة، إذ أظهر عامة المسلمين النفرة والإزدراء من رأس النفاق عبد الله بن أبي، وأعلنوا كراهيتهم لقوله وللنفاق مطلقاً.
السابعة: نزول الملائكة مدداً، والوعد به مناسبة للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر له سبحانه، والشكر من أهم مصاديق ذكر الله عز وجل، وهو باب لنيل المزيد من فضله سبحانه.
الثامنة: التفقه في الدين، ومعرفة أن البشارة والسكينة من النعم الإلهية على المؤمنين، وأن الرزق من الله سبحانه متعدد الوجوه والمواضيع والمصاديق ويتصف بأنه من اللامتناهي وليس له حدود.
التاسعة: التقيد بآداب وسنن طاعة الله ورسوله، وإجتناب المعصية والذنوب، وهذا التقيد والإجتناب من مصاديق الصبر والتقوى اللذين ذكرتهما الآية السابقة كشرط لنزول المدد السماوي.
الوجه الثاني: ما يشمل المسلمين والمسلمات من أهل المدينة المنورة، وفيه مسائل:
الأولى: إدراك حقيقة وهي أن سلامة المؤمنين بفضل من الله عز وجل فلو قدر للكفار أن يدخلوا المدينة لعاثوا فيها فساداً.
الثانية: الفرح والإستبشار بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والإقرار بأن هذه النجاة بفضل من الله عز وجل قال تعالى[اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الثالثة: التطلع إلى المدد الإلهي في كل معركة لاحقة يخوضها المسلمون، وعدم الخشية من الكفار والظالمين.
الرابعة: الطمع في الغنائم التي يكسبها المؤمنون في المعارك، خصوصاً وان المدينة شهدت زيادة كبيرة ومفاجئة في السكان بسبب الذين هاجروا اليها من مكة والقرى والقبائل العربية.
الخامسة: ضعف وإنحسار أثر النفاق بين أهل المدينة، لأن نزول الملائكة مدداً والوعد به آية حسية وحجة على المنافقين.
السادسة: إحتراز المسلمين من المنافقين ، وتوالي مجئ الآيات التي تذمهم وتحذر منهم ، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ).
السابعة: إزدياد إيمان المسلمين والمسلمات، فكل آية عقلية أو حسية تزيد إيمان المسلمين، ونزول الملائكة آية تترشح عنها منافع عظيمة في ميادين القتال وفي حال السلم.
الثامنة: حرص المسلمين والمسلمات على أداء الوظائف العبادية وإتيان الفرائض في أوقاتها، فقد نزلت فريضة الزكاة والصيام في السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة، وحدثت وقائع معركة أحد في النصف من شوال من السنة الثالثة.
إن خوض المعارك ووقوع قتلى وجرحى في صفوف المؤمنين من أسباب الحرص على أداء العبادات والفرائض، وجاءت آية المدد الإلهي للمؤمنين وقطعية النصر والظفر على الكفار عوناً ووسيلة للتقيد بالفرائض، وهذا التقيد من وجوه الشرط الوارد في الآية السابقة[إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ).
التاسعة: كل من هذه الآية والآية السابقة بشارة للمسلمين والمسلمات بالأمن والأمان.
العاشرة: من المعروف أن المدينة التي يخرج أبناؤها ورجالها للقتال تكون في فزع وخوف خشية عليهم، وتكثر وتتناقض الأخبار التي تأتي من جبهات القتال، خصوصاً في الأزمنة السابقة فليس هناك وسائل للإتصال إلا ما يأتي به الركبان والرسل.
وجاءت هذه الآية برزخاً دون حصول الفزع والخوف على المؤمنين الذين يخرجون لميادين القتال، لأن الله عز وجل معهم وهو ناصرهم وممدهم بآلاف من الملائكة، وفيه دعوة لذكر الله عز وجل وعظيم فضله، وبديع صنعه وسعة قدرته وأنه سبحانه له ملك السماوات والأرض لينتفع المؤمنون والناس جميعاً من هذه الملكية المطلقة .
الحادية عشر: يحتاج أهل المدينة رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الى المدينة سالمين من كيد وتعدي كفار قريش، وتأتي هذه الآية لتدعوهم للتوجه إلى الله تعالى بالدعاء والمسألة لنزول الملائكة مدداً لنصرتهم في معركة أحد، وكل معركة يخوضونها .
وتلك آية من بديع صنع الله عز وجل بأن يكون من منافع هذه الآية إرشاد المؤمنين إلى مسالك الدعاء والمسألة لنزول المدد الملكوتي قبل وأثناء كل معركة يخوضها المؤمنون في سبيل الله، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن يفزعوا إلى الدعاء والمسألة عند الشدائد، ويطمعوا بفضل الله والمدد الذي يأتي من عنده سبحانه.
الوجه الثالث: المنافقون الذين في المدينة فقد أظهرت معركة أحد أن عدد المنافقين ليس بالقليل، إذ إنسحب ثلاثمائة منهم في الطريق إلى معركة أحد، وأبوا المضي والسير إلى ميدان المعركة.
وهذا العدد هو ثلث عدد ومجموع الذين خرجوا للقتال يوم أحد مع النبي تقريباً، في وقت يحتاج فيه المؤمنون إلى النصرة والمدد ولو بشخص واحد حتى على سبيل إكثار السواد والعدد ، والظهور أمام العدو بأن عدد المسلمين ليس بالقليل.
فجاءت هذه الآية حاجة وعوناً لهم للتدارك والإستغفار والتنزه من درن النفاق وآثاره على الفرد والجماعة والأمة، إذ يتلوا المنافقون القرآن لأنهم مسلمون على الظاهر، ويحضرون صلاة الجماعة وينصتون لقراءة القرآن ومنه هذه الآية وما فيها من المضامين القدسية والبشارات الكريمة، والوعد بنصر وغلبة المؤمنين على الأعداء المشركين.
وهل تشمل البشارة الواردة في هذه الآية المنافقين لأصالة الإطلاق ونطقهم بالشهادتين، الجواب لا، من وجوه:
الأول: التقييد في لغة الخطاب وأنه خاص بالمؤمنين، بدليل قوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]( ).
الثاني: تعدد مضامين ومواضيع البشارة الإلهية، ودلالة الوحي بالمدد الملكوتي على تحقيق المسلمين النصر والظفر على الكفار بفضل وعون من الله عز وجل، وفيه تشريف وإكرام للمسلمين بأن يأتي نصرهم من عند الله وبمدد من السماء خاص بهم، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
والمنافقون لايريدون ظهور المؤمنين على عدوهم ، ورسوخ عقائد التوحيد في النفوس والمجتمعات ، والتقيد التام بأحكام وسنن العبادات والفرائض.
الثالث: يأتي المدد للمؤمنين بعد خوضهم غمار القتال، ووقوع عدد منهم بين شهيد وجريح، ولا يريد المنافقون القتال وتعريض أنفسهم للموت فالأصل في المدد هو الإعانة وليس النيابة في القتال.
ومع أن البشارة لا تشمل المنافقين إلا أن الآية تدعوهم إلى ذكر الله وإستحضار آياته، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإقلاع عن النفاق الذي ليس له مقتض كما أن الموانع دونه عديدة.
وهو من إعجاز هذه الآية بأن تأتي خطاباً للمؤمنين، وخيراً محضاً لهم وللناس جميعاً، إلا أن منافعها تترشح على غيرهم بمراتب متفاوتة وكل ينتفع منها، ولكن بدرجات أدنى من درجة إنتفاع المؤمنين بها، ويتخلص عدد من المنافقين من داء وكدورات النفاق، لتشمله حينئذ مضامين البشارة الواردة في الآية.
فمن إعجاز هذه الآية أنها سبب ووسيلة إصلاح لتلقي مضامينها والإنخراط في صفوف المؤمنين المخاطبين بها، لتكون آثار البشارة بلحاظ المتلقي على وجوه:
الأول: البشارة والسكينة للمؤمنين الذين خرجوا إلى معركة أحد.
الثاني: إنذار الذين في قلوبهم مرض، وحث المنافقين على نبذ النفاق، وعلى ترك إخفاء الكفر والضلالة، وهو من إعجاز الآية الكريمة إذ أنها تنفذ إلى شغاف القلوب، لتطرد منها النفاق، وتمنع من إستحواذ الشك عليها.
وتبين الآية المنافع العاجلة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت الآيات بإنذار المنافقين بالخزي والجلاء والإرتحال عن المدينة، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ]( ).
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن نصرة الملائكة له ولأصحابه شاهد على صدق دعوته، ولزوم العمل بما جاء به من عند الله.
الوجه الرابع: اليهود الموجودون في المدينة، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة لنصرته.
الثانية: بعث اليأس في نفوس اليهود من إحتمال غلبة الكفار والمشركين على المسلمين، فقد كان عدد من كبراء يهود المدينة يحرضون قريشاً على قتال النبي ويمدونهم بالمال ويعيرونهم السلاح فجاء نزول الملائكة مدداً لجعل اليهود يدركون أن النصر والظفر حليف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ] ( ).
الثالثة: دعوة اليهود للتدبر في وجوه الإلتقاء بين نبوة موسى ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقرار بلزوم التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بالأحكام والسنن التي جاء بها.
الرابعة: قال بعض يهود المدينة أن صفات نبي آخر الزمان لا تنطبق على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاءت هذه الآية لتوكيد حقيقة نبوته بمعجزة لم ينلها نبي الله موسى عليه السلام مع عظيم منزلته عند الله وكونه كليمه.
والمعجزة في المقام نزول الملائكة لنصرته والذين آمنوا به وخرجوا للقتال تحت لوائه وهذه النصرة بشارة المنزلة العظيمة التي يختصه الله عز وجل بها يوم القيامة ، ( وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة)( ).
الخامسة: دعوة اليهود لدخول الإسلام، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، والكف عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتدبير المكائد لهم.
السادسة: فضح مايفتريه أهل الشك والريب على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعل العرب لا ينصتون لأقوالهم، وهو من الشواهد على تعدد مواضيع ومنافع المدد الملكوتي، وأنه لا ينحصر بحال السلم، ولا بالمؤمنين دون غيرهم من الناس، وهو واقية من الإفتراء والتعدي على مقام النبوة.
فالمدد الملكوتي في بدر وأحد نصرة عقائدية، ومعجزة تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخفيف عنه وعن أهل بيته وأصحابه الذين صدّقوا بنبوته وخرجوا للقتال تحت لوائه وفخر وثناء على الذين قتلوا في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام.
فالذين ينصرهم الملائكة في السماء يتلقونهم عند الممات بأبهى وجوه البشارة وأسباب الغبطة والسعادة،ولايشمت الكفار واليهود والمنافقون بهم وبأهليهم وذراريهم الذين تركوهم من خلفهم لأن العز والسعادة تترشح على ذرية وأهل الشهيد في سبيل الله، ويكونون في مرتبة من الشرف والكرامة بين الناس، وعليه شواهد كثيرة منها :
الأول : توثيق وترجمة الشهداء .
الثاني : إفتخار عموم المسلمين والمسلمات بشهداء بدر وأحد ومعارك الإسلام الأولى.
الثالث : الإحتفاظ بأسمائهم وإحصائهم وبيان حال وكيفية شهادة كل واحد منهم .
الرابع : السعي للإقتداء بهم وبسيرتهم وإعتبار عملهم وشهادتهم من الكلي الطبيعي الذي يكون المسلمون فيه شرعاً سواء.
وهذا التعدد من مصاديق ووجوه البشارة الواردة في هذه الآية الكريمة وكثرة النعم الإلهية على أجيال المسلمين ، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الوجه الخامس: الكفار من قريش الذين زحفوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فصحيح أن هؤلاء قوم مشركون ضالون إلا أنهم يرون ويسمعون آيات نزول المدد الملكوتي من السماء، وما فعله الملائكة وأثر فعلهم ، فمنهم من يتعظ ويعتبر من هذه الآيات ويتوب إلى الله عز وجل، أو يكون المدد مقدمة وطريقاً لتوبته ورشاده.
وقد أسلم عدد من كبار المشركين، ومن قادة جيوش الكفار ضد المسلمين، فمثلاً كان خالد بن الوليد قائد الفرقة التي هجمت على المسلمين من الخلف يوم بدر، والسبب في لحوق الخسارة بهم، ولكنه سرعان ما أعلن إسلامه ليصبح من أكبر قواد جيوش المسلمين، لما رآى من الآيات ومنها صلاة الخوف التي صلاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لتفويت الفرصة على العدو .
وهناك من الكفار من إجتنب إلاندفاع والإستبسال في قتال المسلمين، وإختار الإعراض والبقاء على التل متفرجاً، ومنهم من إمتنع عن الخروج للقتال في المعارك اللاحقة مع كثرة إلحاح وإغراءات وضغوط أقطاب قريش، وإعتمادهم صيغ إثارة الحمية ، حمية الجاهلية الأولى، وإلقاء الأشعار، وبذل الأموال، والوعود بالمنافع.
لقد إمتلأت قلوب الكفار بالخوف والفزع لوجوه:
الأول: نزول هذه الآية الكريمة.
الثاني: مجيء الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين صدّقوه وإتبعوه إلى ميادين القتال.
الثالث: وجود أمة مسلمة تجاهد في سبيل الله، وتدافع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنفس والمال والولد.
لقد كان الكفار يبثون الأراجيف لصد الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام، ففوجئوا بطائفة تخرج للقتال بعدة ومؤونة قليلة لمواجهة أقوى الجيوش في الجزيرة.
لقد أدت معركة أحد إلى دخول فريق منهم في الإسلام، وهل لها موضوعية في فتح مكة بعد نزولها بخمس سنوات بلحاظ أن الفتح تم في السنة الثامنة للهجرة الجواب نعم، إذ أدرك الناس ومنهم الكفار أن النصر حليف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالمدد الملكوتي، وبما يصيب الكفار من الخسارة والبلاء.
فدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون مكة بغير قتال ومواجهة، ليس هذا فقط، بل دخل المشركون الإسلام يومئذ وتوجهوا إلى أداء الفرائض في ذات اليوم، وكأنهم كانوا في لهفة، وإشتياق لإقامة الصلاة، وإعلان التسليم بنبوة الذي نزلت الملائكة لنصرته وإعانته، ليكونوا موعظة وعدة لغيرهم ، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الوجه السادس: عموم الناس، فهذه الآية دعوة سماوية للناس جميعاً لدخول الإسلام، والتدبر في أحكام وسنن القرآن، وتكامل الشريعة الإسلامية، ولم يعهد الناس في تأريخ الأمم والنبوات السابقة أن تنزل الملائكة لنصرة أحد الأنبياء.
فجاءت هذه الآية لتخبر بخصوصية إنعدام المسافات وإنتفاء التعدد في السنخية بين السموات والأرض، ليشتركا معاً في تثبيت دعائم الدين، وتعضيد الذين برسالة محمد مؤمنين، وترغيب الناس جميعاً بإتباع خاتم الأنبياء والمرسلين.
ومن الإعجاز والآيات الباهرات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الوقائع والأحداث التي صاحبت وأعقبت نبوته دعوة لدخول الإسلام وإتباعه فيما جاء به من الأوامر والأحكام والسنن، ومنها واقعة أحد ونزول الملائكة لنصرته وصيرورتهم ظهيراً له ولأصحابه عند عودة الكفار للقتال، وقد لايفقه الناس الآثار الحميدة التي ترتبت على الوعد الإلهي الكريم بنزول الملائكة.
فجاءت هذه الآية لتبين المنافع العظيمة التي جاءت دفعة واحدة للمؤمنين حالما نزل الوحي بحضور المدد السماوي عند مداهمة المؤمنين الخطر، وظهور معاني الضرر والكيد والمقاصد الخبيثة للكفار، ويطّلع الناس جميعاً على ما يأتي للمؤمنين من الفضل الإلهي الذي يتضمن الوقاية والسلامة من كيد الكفار.
والإشارة إلى تولي النبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين برسالته شؤون الإمامة العامة، ومقاليد الحكم وإدارة الأمصار بأحكام القرآن والسنة قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ].
إن نزول الملائكة لنصرة المؤمنين وتوثيقه في القرآن شاهد على رضا أهل السماء لما يفعله وسيفعله المؤمنون وإلى يوم القيامة من تعظيم شعائر الله، وإقامة الفرائض، وتثبيت دعائم التوحيد في الأرض، وبلائهم في الجهاد في سبيل الله.
ليكون المدد السماوي يوم بدر وأحد عوناً لأجيال المسلمين المتعاقبة في نشر لواء التوحيد، والدفاع عن مبادئ الإسلام، وإجتناب الركون للقوم الظالمين.
لقد ذكرت هذه الآية اسم الجلالة بقوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ] بينما وردت الآية السابقة بذكره تعالى بعنوان الربوبية [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ] مع إتحاد الموضوع، وفيه ترسيخ لمفاهيم العبودية لله في أذهان المسلمين، وإصلاح لهم في مسالك التوحيد وإظهار أرقى معاني التوكل على الله عز وجل خصوصاً عند الشدائد وساعة المحنة، فقد يتعاهد العبد الفرائض والعبادات، ويحسن اللجوء إلى الله عز وجل، ويواظب على ذكره ولكنه عند المحنة ينشغل بالأسباب المادية، والعلة الظاهرية ومعلولها.
فجاء ذكر الله في المقام باسم الجلالة والربوبية دعوة للإستعانة به تعالى في حال الشدة والرخاء، وإدراك حقيقة أنه تعالى إله الناس والخلائق جميعاً إلا أنه سبحانه يمد المؤمنين بالملائكة رأفة بهم، ولأنهم جنوده الذين يؤدون الفرائض ويمتثلون لما أمر به، ويجتنبون ما نهى عنه قال تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ] ( ).
وفي الآية توكيد لأمور :
الأول : مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل.
الثاني : إن الله سبحانه يفعل لغايات حميدة.
الثالث : إن نزول الملائكة لنصرة المؤمنين ليس لحاجة منه تعالى لذات النزول أو لأطرافه المتعددة وهي:
الأول: الملائكة النازلون من السماء.
الثاني: المؤمنون الذين قاتلوا في معركة أحد دفاعاً عن الإسلام.
الثالث: المسلمون بأجيالهم المتعاقبة.
الرابع: كفار قريش الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الخامس: الناس جميعاً بلحاظ أن منافع نزول الملائكة عامة لا تنحصر بزمان أو مكان أو أمة مخصوصة.
والله عز وجل هو الغني عن العالمين، وهو القادر على كل شئ، وأنعم على المؤمنين وجعل نزول الملائكة رحمة وهبة خاصة بهم، من غير أن تنحصر منافع هذه الهبة بهم، بل هي شاملة للناس جميعاً على نحو متباين في مواضيعها ومراتبها ودرجاتها، وتلك آية في الخلق والنشأة، ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من وجوه:
الأول: تأتي الرحمة الإلهية خاصة للمسلمين، ولكنها تشمل غيرهم بالتبعية والإقتباس.
الثاني: صيرورة المسلمين سبباً لإنتفاع الناس جميعاً من الرحمة الإلهية والإتعاظ والإعتبار منها في الدنيا.
الثالث: مجيء الثواب لمن يلتحق بالمسلمين في منازل الإيمان والتقوى والصلاح، إذ أن المشيئة المطلقة لله تعالى وتترشح عن فعله منافع خاصة وعامة، خاصة للمؤمنين وعامة للناس.
وفيه شاهد بأن الله عز وجل جعل الدنيا دار رحمة ورأفة بالناس جميعاً، فتنزل الملائكة لنصرة المؤمنين، ليكون هذا النزول مشاركة من أهل السماء على وجوه:
الأول: نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: توكيد نزول القرآن من عند الله.
الثالث: إتصاف المدد والنصرة السماوية للمؤمنين بأنها من اللامتناهي في القدرة.
وان كان عدد الملائكة معلوماً، إلا أن كثرته تدل على قوته وإحاطته بالأعداء، وهي رشحة من رشحات بديع الصنع الإلهي، لذا ذكرت الآية السابقة خمسة آلاف ملك لوظيفة المدد ، والآية التي قبلها ثلاثة آلاف ملك والجميع لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى.
ومن إعجاز القرآن أن تأتي آيتان متعاقبتان بذكر هذا العدد من الملائكة وليس في مجموع آيات القرآن الأخرى التي هي (6235)آية تذكر المدد بالملائكة إلا آية واحدة قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وهذه الكثرة في عدد الملائكة وإتحاد موضوع هذه الآية والآية السابقة وإنفرادها بالسعة والإطلاق في المدد الملكوتي أمور تشير إلى بقاء الإسلام عقيدة للناس إلى يوم القيامة، وأن الله عز وجل يمد المسلمين بأسباب التأييد والنصرة من السماء والأرض.
وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( )، قال الزمخشري ( روي أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله فولوا يوم أحد فعيرهم، وقيل لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا:لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا،ففرّوا يوم أحد ولم يفوا، وقيل كان الرجل يقول قتلت ولم يقتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر، وهذا التأويل بعيد .
وقيل كان قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبيّ عليه الصلاة والسلام أنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ورسوله، فقال عمر: يارسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى، قال: نعم فنزلت في المنتحل( ).وهذا التأويل
ولكن ماورد عن الحسن البصري أنها أنها نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم هذا.
هو الصحيح إلا أن نداءهم بالإيمان بلحاظ الإيمان بالله والإقرار الظاهري بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأدائهم الصلاة وحضورهم الجماعة.
لقد جاءت آيات القرآن بمدح المسلمين والثناء عليهم،ووصفت هذه الآيات الذين خرجوا للقتال يوم بالمؤمنين كما في قوله تعالى [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، وقوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
قوله تعالى[إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]
ذكر هذا الشطر من الآية وجهاً من منافع وغايات المدد الملكوتي والوعد به، فحتى لو لم يرجع الكفار، ولم ينزل الملائكة للنصرة فان الوعد الإلهي الكريم نعمة وشجرة سماوية مباركة في الأرض يتفيأ بظلالها المؤمنون، ويقطفون منها الثمار اليانعة على نحو الإستدامة بما يزيد إيمانهم، ويجعلهم يشتاقون للقاء العدو من غير خوف أو وجل من كثرته وخيله وعدته، ويفيد حرف الإستثناء (إلا) ثلاثة وجوه:
الأول: الإستثناء المتصل وهو ما كان المستثنى والمستثنى منه من جنس واحد، كما في قولك : أديت مناسك الحج إلا السعي.
الثاني: الإستثناء المنقطع، وهو الذي يكون فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه نحو: قبض الفقير الزكاة إلا الهبة ، وكما في قوله تعالى [فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ] ( ) على القول بأن إبليس من غير الملائكة، ولا يعني هذا الإستثناء الإنقطاع التام بين طرفي الإستثناء، بل تنتفي جزئية المستثنى من المستثنى منه، ولابد من دلالة التزامية بينهما في الموضوع أو الحكم.
الثالث: الإستثناء المفرغ: وهو الذي يكون خالياً من المستثنى منه، ويدل عليه بالمفهوم المستثنى والفعل والموضوع نحو (ما صليت إلا الظهر)وهو من وجوه التوكيد والحصر.
وجاء حرف (إلا) في المقام من الإستثناء المفرغ، موضوع الحصر فيه ليس غايات ومنافع المدد الملكوتي والوعد به، بل بيان إنتفاء القيد الخاص للبشارة والسكينة، بمعنى أن الوعد الإلهي بالمدد أزاح الخوف والحزن والقلق من نفوس المؤمنين، وأدخل عليهم السعادة والغبطة في ساعة الضيق والشدة، فليس من حصر أو إحصاء للنعم الإلهية المترشحة عن نعمة الوعد بالملائكة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، والله واسع كريم، فهو سبحانه إشترط على المؤمنين لنزول الملائكة التحلي بالصبر والتقوى إلا أن هذا لا يمنع من المدد وتقربهم إلى منازل الشرط وبلوغهم إياها بلطف وعناية منه تعالى، والحياة الدنيا كلها دار لطف منه سبحانه ويدل عليه بالدلالة التضمنية قوله تعالى[مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب أن الله يلطف بالناس ليصعدوا إلى مقامات العبادة والخشية منه، لتكون هذه العبادة سبباً لإستدامة الحياة والتي تقترن بنزول الفضل والرزق الإلهي الكريم.
وهل يمكن التفكيك بين نزول الملائكة وبين البشرى، إذ تتعلق البشرى بالوعد بنزول الملائكة .
وهذا الوعد كاف لزجر الكفار ومنعهم من الرجوع إلى ميدان المعركة للقتال من جديد خصوصاً وأن الضمير(الهاء) في جعله يحتمل عائديته إلى الوعد الإلهي أو أن الله عز وجل يمنعهم من الرجوع وأن لم يبلغهم الوعد الإلهي بنزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
وبين نزول الملائكة والوعد الإلهي بنزولها عموم وخصوص مطلق، فقد يأتي الوعد ولا يتحقق النزول ليس لوجود المانع بل لعدم وجود المقتضي إذ أن النزول مقيد برجوع الكفار الفوري للقتال لقوله تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا].
والجواب أن الوعد بنزول الملائكة نعمة عظيمة يمنّ الله عز وجل بها على المؤمنين، وتبعث بذاتها الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين والمسلمات، إلا أنه لا يمكن التفكيك بين نزول الملائكة وبين البشرى التي تكون أثراً ونتيجة للوعد الإلهي إلا بلحاظ كثرة المنافع والفوائد، والوعد الإلهي مقدمة وإخبار عن نزول الملائكة، فهناك ملازمة وتداخل بين الأمور التالية:
الأول: نزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
الثاني: الوعد بنزول الملائكة.
الثالث: البشرى للمؤمنين.
الرابع: إطمئنان قلوب المؤمنين.
وهذه الملازمة من فضل الله وبديع صنعه ولطفه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين،ونزول الملائكة هوالمتبادر إلى الأذهان من الوعد الإلهي، فليس من مراتب وبرزخ بين الوعد وبين تحقيقه واقعاً إلا حصول أسبابه التي ذكرتها الآية، وكأنه من العلة المطلقة التي لا يتخلف عنها معلولها وهو من عمومات قوله تعالى[إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
لذا ترتبت البشارة على الوعد حال نزول الآية بلحاظ قانون وهو أن وعد الله حق، وأنه حال وليس آجلاً.
وهل يمكن القول أن الوعد بالنصر يتعلق بالآية أعلاه، وحدها الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاء الضمير للمفرد المذكر وهو الهاء في(جعله).
الثاني: نزلت آيات كثيرة يوم أحد قبل وأثناء وبعد الواقعة، وقد خص الله عز وجل آية نزول الملائكة بأنها بشرى وسكينة وسعادة للمؤمنين، وهو تشريف وإكرام إضافي لهم.
ولا يعني هذا أن الآيات الأخرى ليست بشارة، بل كل آية من آيات القرآن بشرى للمؤمنين،ولكن هذه الآية إتصفت بموضوع يتغشى في بركاته الآيات الأخرى ويكون نعمة حاضرة، وواقية بسلامة كلمات وآيات القرآن من التحريف في مواضيعها وأحكامها وحفظها في الصدور لدفع شر الكفار.
الثالث: جاءت هذه الآية للإخبار عن الغايات والآثار الحميدة للوعد الإلهي بأنه بشرى للمؤمنين.
وهل من صلة بين البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل وبين البشرى الواردة في هذه الآية، الجواب نعم، فنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداق عملي لتلك البشارات وشاهد على صدق نبوته، وانه النبي الذي بشر به الأنبياء السابقون.
وذكر انه وجدت صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكتوبة في التوراة (أكحل اَعين ربعة حسن الوجه) ( )، فمحوه من التوراة حسداً وبغياً، فأتاهم نفر من قريش فقالوا لليهود: أتجدون في التوراة نبياً منا؟ قالوا: نعم نجده طويلاً أزرق سبط الشعر، عن عكرمة عن ابن عباس “.
فجاء نزول الملائكة مدداً ليعتبر الناس بالآية الحاضرة، والمعجزة السماوية الباهرة، ليسقط في أيدي أرباب التحريف وأصحاب الأهواء، وقد جاء القرآن بذم أهل التحريف ووعيدهم بالعذاب الأليم بقوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
وهذا المدد والبشارة من الدلائل على تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة التي أخبرت عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء المدد الملكوتي والبشرى به ليؤكد صدق هذه البشارة وان تلك الكتب من عند الله، قال تعالى مخاطباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
إذ انها أخبرت عن الأصل وهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن إعجاز القرآن تصديق البشارات بالبشارة الحاضرة، والنفع الحال الذي يأتي للمؤمنين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
ومن بديع لغة النبوة ان يؤكد الأنبياء السابقون على لزوم إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لزجر الناس عن محاربته والمناجاة لقتاله وأصحابه.
وتتجلى فيه معاني رأفة الأنبياء بأتباعهم والناس جميعاً وكأنهم يقولون لهم من يخرج لقتاله من الكفار فان الملائكة ستنزل للإنتقام منه والبطش به، فبشارات الأنبياء رحمة بالناس ودعوة لهم للمبادرة بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب قتاله والتعدي على حرمات الإسلام، وجاءت هذه الآية لتؤكد أخبار النبوة وأنها حق من عند الله

قانون البشرى مقدمة
من إعجاز القرآن أن تأتي الآية للإخبار عن تحقيق غاية حميدة ونفع مترشح عنها، وتلك الغاية تكون مقدمة وبلغة لمقامات حميدة يعجز الناس عن إحصائها وإستقرائها، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
فمن الإعجاز في النعمة الإلهية ان تكون نفعاً وخير محضاً، ويترشح عنها الخير والبركة إلى قيام يوم الدين، وكأنها من عمومات قوله تعالى في ثمار الجنة [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( ).
فالمسلمون شرع سواء في نعمة نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يتفرع عنها من البركات وأسباب الخير والنماء ليشمل النماء عدد المسلمين، وقوتهم ومنعتهم.
وهل يشمل مراتب الصبر والتقوى عندهم الجواب نعم، فان هذه الآيات حث دائم للمسلمين للتقيد بآداب الصبر والخشية من الله عز وجل خصوصاً في حالات الحرج وشدة البأس، واللجوء إليه سبحانه في المهمات.
لقد أراد الله عز وجل للبشرى بنزول الملائكة أن تكون مقدمة لأمور:
الأول: تهذيب نفوس المسلمين.
الثاني: تنزه المسلمين عن المعاصي والسيئات لأنهم يعلمون أن الله عز وجل أحاط بهم وبما يفعلون علماً.
الثالث: إدراك حقيقة وهي أن الله عزوجل مع المؤمنين في مواجهة الكفار.
الرابع: بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية، وهو جعل الغلبة للمؤمنين في ميادين القتال مع الكفار،وإن كان الكفار هم الأكثر عدداً وعدة، ولا يعني تعطل لغة الأسباب، وعدم وجوب سعي المؤمنين للنصر والغلبة، بل إن الشواهد تدل على بذل المسلمين الوسع لتحقيق النصر من جهات:
الأولى: إستجابة المؤمنين لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لقتال الكفار.
الثاني: عدم قعود الصحابة في بيوتهم عند ورود الأخبار بزحف قريش لقتالهم، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الثالث: بسالة المؤمنين يوم بدر، والتنافس في قتال الأعداء، كما يظهر في أول مبارزة بين المؤمنين والكفار، فحينما برز من معسكر الكفار عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وإبنه الوليد نادى عتبة: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.
فبادر ثلاثة من الأنصار وخرجوا لقتالهم، وهذه المبادرة آية في صدق الإيمان،وحسن وفاء الأنصار وإخلاصهم في طاعة الله ورسوله،وأنهم كانوا يذبون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويبذلون أنفسهم دون عموم المهاجرين الذين جاءوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وغيرها.
ولم يقف التأريخ عند هذه المسألة كثيراً بل يذكرها المفسرون وكتاب السيرة على نحو نقل الواقعة،ولكنها مدرسة في التفاني في سبيل الله، وعبرة وموعظة في الإيثار في مواطن الجهاد وهو أشق المواطن، وأقلها في باب التضحية والإيثار، لذا نجد الذي يقدم على التضحية فيها يسجل له التأريخ فعله بفخر.
وكثير من كتب التفسير لم تذكر أسماء هؤلاء الثلاثة وتكتفي بالإشارة الى أنهم من الأنصار وفيه دلالة على ان فعلهم هذا منقبة لعموم الأنصار، وفيه تحذير لمشركي قريش، ورسالة تتضمن فضل الله عز وجل على المهاجرين وكيف أنه عز وجل أبدلهم عشيرة خيراً من قريش،وأخوة يقاتلون دونهم، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
وقام النبي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وجعل لكل مهاجر أخاً من الأنصار، وهذه المؤاخاة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن الشواهد على أن المسلمين أهل لنيل هذه المرتبة السامية تعاهد الصحابة لهذه الأخوة وآدابها حتى بعد إزدياد قوة الإسلام، ومغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالأنصار لم يكتفوا بالخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم القول له [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ] ( )، ولم ينتظروا إلى أن تأتي النوبة إليهم في القتال، أو صيرورته مواجهة وإشتباكاً عاماً بين الجيشين بل خرجوا للمبارزة مع أن الدعوة موجهة لغيرهم.
وفيه إنذار للكفار وهو من أسباب بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين، وشاهد في ميدان القتال يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخلاص وتضحية أصحابه وشوقهم لطلب النصر أو الشهادة في سبيل الله، وكأن الأنصار قد تلقوا البشرى بنزول الملائكة لنصرتهم وإعانتهم، أو أنهم إستقرأوا لسانها من البشارات والأخبار والمغيبات.
لقد فاجئ هؤلاء النفر من الأنصار قريشاً وبعثوا الرعب في قلوب عتبة وأخيه وإبنه، وبينوا أن المسلمين أمة تقف خلف المهاجرين ومن يبرز إلى قتال الكفار وان الذي يقتل من المهاجرين يتسابق المؤمنون من المهاجرين والأنصار وأبنائهم للقتال من بعده، وهذا التعاقب في القتال من أسباب النصر والظفر.
وعندما خرجوا عرّفوا أنفسهم وبينوا نسبهم وقبيلتهم وأنهم من الأنصار، وفيه إثارة لروح الحمية بين المؤمنين، وتوكيد على أنهم ليسوا من المهاجرين ولكنهم أخوة لهم ليس بينهم من فرق في موضوع التضحية والقتال، ولكن عتبة وشيبة والوليد طلبوا منهم الرجوع، وقالوا: ( إنما نريد الأكفاء من قريش)( ).
ترى لماذا لم يقاتلوهم وطلبوا مرة أخرى الأكفاء من قريش فيه مسائل:
الأولى: طلب قريش الكفوء في القتال بقرينة قولهم(أكفاءنا).
الثانية: إرادة الإنتقام من المهاجرين الذين غادروا مكة حباً لله عز وجل وعز ونصرة لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: بعث الفزع والخوف في نفوس المسلمين.
الرابعة: نشر أسباب الحزن والأسى في بيوت المهاجرين، وقلوب أفراد عوائلهم.
الخامسة: إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أهل بيته وأبناء عمومته الذين جاءوا معه.
السادسة: كان شطر من الشباب في مكة ينوون الهجرة واللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة، فأرادت قريش بعث الخوف في نفوسهم وجعلهم يكفون عن الفزع على الهجرة بورود أخبار عن قتل الفرط السابق لهم.
السابعة: إظهار الإستخفاف بالإنصار.
الثامنة: توكيد ما لقريش من شأن بين القبائل، وهيبة في النفوس.
التاسعة: للهجرة ومغادرة الأوطان أثر على الأفراد قال تعالى[لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ] ( ) وظنت قريش أنه سبب لضعف ووهن المهاجرين، ولم تعلم أن الإيمان قوة إضافية، ومدد للنفس يبعث بالثقة والصبر لذا جاءت هذه الآية بجعل الصبر والتقوى شرطاً لنزول الملائكة للنصرة.
لقد جاء الكفار إلى معركة بدر وأحد للقضاء على الإسلام، وإتخذهما المؤمنون مناسبة لتثبيت الإسلام، ومقدمة لفتح مكة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وهو ابن عمه ويبلغ عمره يومئذ سبعين سنة، أن يخرج لهم، ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عم، ثم نظر الى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: قم يا علي، وكان أصغر القوم، وقال: إطلبوا حقكم الذي جعله الله لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد ان تطفئ نور الله،[ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( )، فلما رآهم النفر من قريش (قالوا: أكفاء كرام)( ).
ويلاحظ أن الأنصار بادروا إلى الخروج للمبارزة بينما لم يخرج أحد من المهاجرين إلى أن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة نفر من أهل البيت.
وليس من تعارض بين الأمرين وليس فيه قرينة على خشية وخوف المهاجرين من قريش بدليل نتيجة المعركة، فيُقتل عتبة وشيبة والوليد في المبارزة، إذ ان الأنصار بادروا للخروج مع أن الدعوة غير موجهة لهم للدلالة على الإيثار والتضحية والفداء، أما المهاجرون فإنتظروا أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رفض المشركون مبارزة الأنصار للدلالة على الأدب والإستعداد للإمتثال لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل هذا التعدد والتباين على بذل الصحابة الوسع في سبيل الله، وإخلاص المسلمين عموماً في ميادين القتال، وأنهم لم يقصدوا التريث حتى يأتي المدد من الملائكة، بل قاتلوا وجاهدوا وصبروا طاعة لله عز وجل فجاءهم المدد السماوي ليكون على وجوه:
الأول: نتيجة وجزاء حسن لعملهم.
الثاني: بشرى ومقدمة للفتح والغلبة.
الثالث: إستدامة العز لأهل الإيمان والتقوى.
وتأتي البشرى من السماء لتجعل المسلمين يستمرون في طريق البذل والفداء بشوق ورغبة وتعاهد لمعاني الأخوة الإيمانية بينهم، وصار نزول الملائكة لنصرة المؤمنين والوعد به بلغة لتحقيق غايات عالمية يحتاج إليها المسلمون والناس جميعاً تتمثل بأمور:
الأول: نشر مبادئ التوحيد.
الثاني: تثبيت سنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: إستمرار الحرب على الضلالة ونبذ الفساد.
الرابع: نشر مفاهيم الصلاح والإصلاح، ولما قال الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء جهاد المسلمين في بدر وأحد وغاياته وما يبعثه على نحو دائم من الضياء في ربوع الأرض شاهداً على أهلية المؤمنين لخلافة الأرض.
قانون” الصلة بين البشرى والطمأنينة”
جاءت الآية بذكر نعمتين هما البشرى والطمأنينة، وبينهما في المقام عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء على وجوه:
الأول: كل واحدة من النعمتين رشحة من رشحات نزول الملائكة لنصرة المؤمنين والوعد به.
الثاني: انهما فضل من الله عز وجل وخير محض.
الثالث: إتخاذ المسلمين كلاً من من النعمتين سلاحاً وواقية في أمور حياتهم، وما يلاقونه من الأذى، وهما من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، بتقريب أن الكفار يريدون الإضرار بالمسلمين، ولكن حضور البشرى عند المسلمين وما فيها من الرجاء، ومضامين الإستغاثة بالله، وما هم عليه من سكينة القلوب يجعل الضرر الذي يصل إليهم من الكفار قليلاً.
الرابع: العموم الإستغراقي لكل من النعمتين، إذ تتغشى كل واحدة منهما المسلمين جميعاً.
الخامس: كل من الآيتين عون للمسلمين للقيام بوظائف الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
السادس: كل من البشارة والطمأنينة طريق للنصر الذي هو بيد الله عز وجل كما تدل عليه خاتمة الآية.
السابع: تحلي المسلمين بكل من البشرى والطمأنينة دعوة للإسلام، وحرز من أسباب الفرقة والخصومة والشقاق، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وأما مادة الإفتراق فهي على وجوه:
الأول: مجيء البشرى للمسلمين بالذات، أما الطمأنينة فهي سكينة يقذفها الله في قلوبهم، لتنعكس آثارها على أقوالهم وأفعالهم، ليجتمعا معاً، ويظهرا في حسن سمت المسلمين.
الثاني: تبعث البشرى على السرور والغبطة، وتنشر الفرح بين عامة المؤمنين، أما الطمأنينة فانها سكينة للنفوس، وبرزخ دون الجبن والفشل.
الثالث: لقد أراد الكفار نشر الخوف والفزع في صفوف المؤمنين، فجاءت البشرى لتكون واقية منهما، ولحقتها الطمأنينة لتبعث الحزن واليأس في نفوس الكفار.
فمن إعجاز الآية أنها لم تذكر البشرى وحدها لأنها قد تؤدي إلى الكسل وعدم أخذ الحائطة من العدو وجيوشه، فجاءت الطمأنينة مقارنة ومتممة للبشرى، ومانعاً من الكسل والخلود إلى الراحة، ودعوة للمؤمنين لمواصلة الجهاد.
فلو كانت البشرى وحدها لربما إنشغل المسلمون حين عودتهم الى المدينة يوم أحد بالفرح بالبشارة وبإنصراف كفار قريش، ولكن جاءت مع البشرى الطمأنينة ليكونا مجتمعين وسيلة لتلقي المؤمنين أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي بالخروج في أثر العدو بالرضا والقبول والإستجابة لأن الطمأنينة مانع من التردد والفزع، وحائل دون الفزع والجزع، كما في إبراهيم عليه السلام، وقول الله تعالى [يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا]( ).
فلو كانت النار برداً وحده لجمد إبراهيم من شدة البرد، فكذا بالنسبة للمؤمنين إذ أراد الله عز وجل لهم مواصلة الجهاد في سبيل الله، وتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدل عليه إختتام الآية بأن النصر من عند الله عز وجل، مع ان موضوع النصر أمر آخر غير البشارة والطمأنينة، ولكن إختتام الآية به كقانون ثابت يدل على لزوم إتخاذ البشارة والطمأنينة مجتمعين ومتفرقين عوناً وطريقاً للنصر والغلبة على العدو.
وتبين الآية التعدد في المنافع والآثار المباركة التي تتفرع عن نعمة نزول الملائكة والوعد به، فيأتي الوعد من عند الله ليكون أصلاً للنعم، وباباً للفضل الإلهي، وتترشح عن كل من البشرى والطمأنينة نعم عديدة، وهي على أقسام:
الأول: النعم التي تتفرع عن البشرى.
الثاني: ما يترشح عن الطمأنينة من النعم.
الثالث: النعم التي تترشح عن البشرى والطمأنينة مجتمعين.
وهل من تداخل بين القسم الأول والثاني أعلاه الجواب نعم، وهو من أسرار إجتماعهما في هذه الآية، وما فيه من الإشارة إلى الملازمة بينهما إلى يوم القيامة، وهذه الملازمة رحمة بالمؤمنين، والناس جميعاً أما بالنسبة للمؤمنين فانها تثبيت للإيمان وترسيخ لمفاهيم الهدى.
وأما بالنسبة للناس فانها حرز لهم من الضلالة والغواية، وواقية من التمادي في التعدي على المسلمين، خصوصاً وأن الآية تبعث في نفوس أعداء الدين الفزع والخوف، فمتى ما أدرك الأعداء أن الأمة عامة والمجاهدين خاصة في حال غبطة وطمأنينة بفضل الله، فإنهم يتجنبون غزوهم والهجوم عليهم.
وهل حال الغبطة والطمأنينة هذه من عمومات قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( )، الجواب لا، إنما هي من مقدمات وأسباب القوة، وهي فضل من عند الله عز وجل.
فكان جيش الإسلام محتاجاً إلى الإتحاد والإمتناع عن الفشل وعن معصية الله ورسوله وأسباب الشك التي تعتبر من وجوه الإختلاف والفرقة وإذ توقى المسلمون من الخوف في ميدان المعركة، فمن باب الأولوية أن يسلموا منه، ويتخلصوا من آثاره في حال السلم والحضر، لذا تفضل الله عز وجل بسلامتهم من شعب وأفراد الخوف في حال تتصف بأمور:
الأول: الفراغ للتو من معركة قاسية أصابت المؤمنين فيها جراحات كثيرة.
الثاني: كثرة عدد وعدة جيش العدو.
الثالث: إصرار الكفار على الإنتقام من المؤمنين.
الرابع: الخوف على حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: طلب الكفار له.
الثاني: تعرضه للإصابة وكسر رباعيته يوم أحد (وذكر عمر مولى غُفوة: أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعداً من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قُعودا) ( ).
الثالث: قلة من ثبت في موضعه في القتال ودافع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، إذ تفرق عنه أكثر أصحابه.
وهل في الجمع بين قوله تعالى[إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )، وعدم ثبات أكثر المؤمنين تعريض بهم الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاءت الآية في مدح المؤمنين والثناء عليهم، من جهات:
الأولى: نعتهم بصفة الإيمان.
الثانية: إطلاق صيغة الإيمان عليهم جميعاً، فظاهر الآية(تبوء للمؤمنين) العموم إلا أن يرد دليل على التخصيص والإستثناء، كما في إنسحاب المنافقين في الطريق.
الثالثة: موضوع الآية وهو تهيئة مقاعد القتال وما فيه من المبادرة للقتال في سبيل الله.
الثاني: لقد قاتل المؤمنون يوم بدر ولم يأت التراجع إلا بعد مباغتة العدو لهم من الخلف.
الثالث: رجوع المؤمنين إلى ميدان المعركة، بعدما بلغهم النداء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: التباين الموضوعي والزماني بين التهيء للقتال وبين ساعة حدوث المعركة وإشتداد القتال.
الخامس: إعتبار قانون كلي وهو أن القرآن نزل لإكرام المسلمين والثناء عليهم .
السادس: الخوف على الإسلام في بدايات تأسيس دولته.
السابع: الخشية على آيات القرآن من جهات:
الأولى: الآيات التي نزلت من القرآن قبل يوم أحد، ومحاولة تعريضها للتحريف، والإنشغال عن حفظها.
الثانية: الآيات والسور القرآنية التي لم تنزل بعد، والتي نزلت تباعاً بعد معركة أحد وإلى حين إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى.
الثالثة: تفسير وتأويل الآيات حسب القواعد.
الرابعة: ما يتطلع إليه المسلمون من نزول آيات الأحكام وأكثرها نزل بعد معركة أحد، مما يدل على الحاجة لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت إن نزول القرآن أمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبار أنه لا ينزل على غيره من البشر، وهو خاتم النبيين، فما هو شأن المؤمنين في المقام، والجواب أنهم جند لله عز وجل وحفظة للقرآن ويتلون آياته ليتركوها تركة لأبنائهم.
ومن وجوه الصلة بين البشرى والطمأنينة قوة ومنعة المدد الملكوتي الذي جاء من السماء، ويتجلى بكثرة عدد الملائكة، والقوة الخارقة لكل واحد منهم( فمن قوّة جبرئيل أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند ( ).
لذا ورد قوله تعالى [عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى] ( )، لبيان قوة جبرئيل ونزوله بالوحي وهو عنوان اللطف والرفق والخشوع لله عز وجل من الملك والنبي معاً،وكان جبرئيل ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصورة دحية الكلبي.
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب أن يرى جبرئيل عليه السلام في صورته الحقيقة فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق.
لغة الجمع في البشارة
جاءت الآية بصيغة الجمع التي تفيد العموم الإستغراقي لجميع المؤمنين، وعدم وجود إستثناء فيه لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: وحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث: ماهية مضامين البشارة.
الرابع: إن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأعم والأتم.
وفيه مسائل:
الأولى: شمول البشارة لعموم المؤمنين.
الثانية: إنتفاء الشك عند المؤمنين في إمكان تحقق الوعد الإلهي، ونزول الملائكة، فما أن أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة بصفة المدد، وجاءت هذه الآية بالوعد الكريم بنزولها، حتى تلقاها المسلمون بالتصديق.
الثالثة: تحقق البشارة فرع التصديق بها، فلغة العموم في البشارة تدل على أن المؤمنين جميعاً تلقوا الوعد الكريم بنزول الملائكة بالتصديق على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، فهم كأمة، وكأفراد متعددين صدقوا بالوعد، وهذا من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فلم يتسرب الشك إلى نفوسهم، ولم يسأل أي واحد منهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن البرهان الحسي لآية النصرة الملكوتية خصوصاً وأنها جاءت على نحو الوعد المقيد بشروط ذاتية، وخارجية.
أما الذاتية فشرط الصبر والتقوى.
وأما الخارجية فهي عودة الكفار للقتال من فورهم، فتلقى المؤمنون الوعد بالإستبشار والسكينة، وهما عنوان الرضا والقبول.
الرابعة: تدل الآية على درجة الإرتقاء في المعارف التي بلغها المسلمون لإستقبالهم الوعد القرآني بالإستبشار.
الخامسة: حصل الإستبشار بساعة ضيق وشدة، وخشية من عودة جيوش الكفار التي تتصف بالكثرة في العدد والعدة، فالفرد والجماعة لا يفرحون كثيراً بالوعد في ساعة الضيق والشدة عند رؤية مصداقه العملي وآثاره في الواقع الخارجي، وبما يدفع عنهم شبح وأهوال المخاطر وأسباب الضيق.
لقد إستقبل المسلمون الآية الكريمة والوعد الإلهي بالإستبشار والسكينة، وهو من مصاديق تسميتهم في هذه الآيات بالمؤمنين، وكأن فيه درساً للمسلمين بأن من شرائط الإيمان التصديق بالوعد الإلهي على نحو الإطلاق، وهذا الإطلاق من وجوه:
الأول: مجيء الوعد الإلهي بآية من القرآن.
الثاني: إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الوعد الإلهي، كما في الآية السابقة[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث: تعلق الوعد الإلهي بأسباب النصرة والمعونة.
الرابع: مجيء المدد من الأرض أو من السماء، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الخامس: تحقق مجيء المدد عند إجتماع شرائطه ومنها عودة الكفار للقتال.
السادس: سرعة مجيء الوعد أو تأخره، وقد جاءت الآية بالإخبار عن سرعة مجيء المدد الإلهي.
السابع: إخبار الآية القرآنية عن حصول معجزة بنزول الملائكة.
الثامن : بيان وتعيين موضوع نزول الملائكة، وهو النصرة والمدد للمؤمنين.
التاسع: ذكر الآية لعدد الملائكة وأنه خمسة آلاف ملك ليملأوا أرض المعركة، ويحجبوا ضياء الشمس عن الكفار، ويضيقوا عليهم الخناق، ويجعلوهم يندمون على رجوعهم وإصرارهم على قتال المؤمنين.
قانون”النبي مبشر’’
جاءت الآيات القرآنية بالإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي وظيفة البشارة والإنذار قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، إذ تقترن البشارة بالإنذار للتداخل والملازمة بينهما، لعموم الوظيفة النبوية في دعوة الناس جميعاً للصلاح والإصلاح.
الأول: الإنذار الذي هو إخبار مع تخويف.
الثاني: تثبيت الذين آمنوا في منازلهم بالبشرى.
الثالث: الإخبار عما ينتظر المؤمنين من الثواب العظيم.
ومن إعجاز القرآن بيان أن البشارة والإنذار يتصفان بأمور:
الأول: إنهما من رشحات الرسالة.
الثاني: الدلالة على أن كلاً منهما حق وصدق.
الثالث: إنهما حاجة للناس جميعاً.
الرابع: هما وظيفة سماوية لكل نبي من الأنبياء لأن النبوة رحمة للناس، وسبيل للهداية.
فما من نبي يبعثه الله عز وجل إلا ويكون مبشراً بالجنة والخير، ومنذراً من النار ومقدماتها من الذنوب والمعاصي، قال تعالى[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
ومن إعجاز هذه الآية أنها تتضمن حقيقة مركبة من أمرين:
الأول: أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبشر بنزول الملائكة، لتلاوته للآية التي لاتحتاج إلى تفسير وتأويل لكي يدرك المؤمنون من أهل أُحد معانيها ومضامينها، خصوصاً وأنها جاءت بذكر عدد الملائكة وفيه بيان إضافي، وهو وجه من وجوه التكامل في البشارة السماوية، بما يبعث الطمأنينة والغبطة في نفوس المؤمنين، ويمنع من الفرقة والخلاف بينهم، ويقطع أسباب الشك والريب من قبل الكفار.
لقد إستهزئ الكفار بالتنزيل والنبوة، ونعتوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه شاعر، وأنه ساحر[قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ]( )، وهذا الترديد منهم بين السحر والجنون دلالة على حيرتهم وإفترائهم لأن الأصل في الترديد أن يكون بين طرفين أو أكثر بأن تكون بينهما وحدة موضوع أو تشابه وتقارب، بينما هناك تضاد وتناقض بين السحر والجنون، لأن السحر يدل على الخفة والظن والخدعة وتوظيف للذكاء ولكن بالباطل، أما الجنون فهو فقدان العقل، والعجز عن الخدعة ونحوها.
فجاءت هذه الآية بالبيان والشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، والإخبار الذي لا يقبل التعدد في التأويل من وجوه:
الأول: مجئ المدد للمسلمين، فانهم لن يتركوا وحدهم يواجهون الكفار.
الثاني: بيان ماهية هذا المدد، وأنه ليس من أهل الأرض، من جهة جنسه، ومصدره بل هم ملائكة نازلون من السماء، لخصوص نصرة المسلمين.
الثالث: ذكر عدد الملائكة الذين ينزلون لنصرة المؤمنين.
الرابع: كثرة عدد الملائكة، فهم خمسة آلاف ملك، (وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما من شى ء أكثر من الملائكة( )، وفي كل وجه من الوجوه أعلاه بشارة وإنذار بشارة للمسلمين، وإنذار وتحذير للكفار.
الثاني: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبشر، أي أنه يتلقى البشارة، فكما أنه يقوم بالإخبار عن البشرى التي تأتي من عند الله فانه يتلقى البشارة، بعرض واحد مع المؤمنين، إذ أن المدد يأتي له ولأصحابه، وفضل الله عليه في البشارة الواردة في هذه الآية عظيم من وجوه:
الأول: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قرب النصر الإلهي، والغلبة على الكفار، وقهر مفاهيم الضلالة.
الثالث: إتصال اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الخامس: شفاء صدور المؤمنين والمؤمنات لما في المدد من الخزي للكفار والمشركين.
السادس: الحصانة من شماتة المنافقين واليهود في المدينة.
وفي الطريق إلى أحد قال عبد الله بن أبي سلول (ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب)( )، وكان عددهم ثلاثمائة، أي نحو ثلث جيش المسلمين، فجاءت البشرى للتخفيف عن المؤمنين، وتوبيخ المنافقين ودعوتهم للتوبة والإقلاع عن إخفاء الكفر والشقاق.
لقد ضعف أثر المنافقين بعد معركة أحد، لأن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات ونزول الآيات التي تتضمن الشفاء والوقاية من النفاق، فكل آية من القرآن تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للتنزه والإحتراز من أمراض النفاق.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقف العدوى بالنفاق، ومنع إنتشاره وكان عدد المسلمين ذكوراً وأناثاً يزداد بإطراد، ففي كل يوم وجمعة يدخل عدد من الناس الإسلام، ويحتمل عدد المنافقين معه وجوهاً:
الأول: التناسب الطردي يزيادة عدد المنافقين مع إزدياد عدد المسلمين.
الثاني: بقاء عدد المنافقين ثابتاً مع كثرة المسلمين، وفيه أمور ثلاثة:
الأول: توبة وصلاح شطر من المنافقين، وإن جاء عدد جديد منهم.
الثاني: ليس في الداخلين الجدد في الإسلام منافق، بل يبقى المنافقون على حالهم من جهة العدد.
الثالث: ما أن يدخل شخص في النفاق حتى يغادره آخر.
الرابع:نقصان عدد المنافقين.
والصحيح هو الأخير من وجوه:
الأول:كثرة دخول الناس في الإسلام لتنزيه مجتمعات المسلمين من النفاق.
الثاني: تعاقب وكثرة الآيات التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: مجئ الآيات القرآنية بذم النفاق، والإخبار عن العذاب الأليم للمنافقين، وقد وردت مادة (نافق) سبعاً وثلاثين مرة في القرآن، منها سبع وعشرون مرة بصيغة جمع المذكر السالم بالرفع والنصب والجر.
الرابع: كسب المؤمنين لغنائم الحرب، وتحسن حالتهم المعيشية وفيه ترغيب لعامة المسلمين بالجهاد.
الخامس: بقاء المنافقين على حال الفقر والعوز لحرمانهم أنفسهم من المغانم والمكاسب، وعموم التحذير منهم حتى في المعاملات والتجارات.
ومن إعجاز القرآن ذكر المنافقات في القرآن خمس مرات بلغة الوعيد والتخويف والتهديد بالإقتران بذكر المنافقين قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ]( ).
إن ذكر المنافقات خمس مرات في القرآن وبلغة الإنذار شاهد على كثرتهن والضرر المترتب على سوء فعلهن سواء ما يأتي مباشرة أو بالواسطة والتأثير على الرجال في القول والفعل، ولا ينحصر تأثير المنافقات على المنافقين وحدهم، بل أن سمومهن تصل إلى المؤمنين وإلى الكفار، إذ يقمن بتثبيط عزائم المؤمنين، وتحريض الكفار على المسلمين، وصدهم عن دخول الإسلام.
ويدل على حصول النقص في عدد المنافقين أنه لم يحصل إنسحاب لشطر من المسلمين في الطريق إلى المعركة بعد معركة أحد، كما حصل فيها، إذ إنخذل ثلاثمائة منهم في ساعة واحدة، مع محاولة عدد من المؤمنين ساعتها لصرفهم عن الإنخذال والإنخزال ( )، مثل عبدالله بن عمرو بن حرام، إذ أنه (إتبعهم وهو يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال(2) .
أي أن المنافقين فيما بينهم يقولون: علام نقتل أنفسنا، وقاموا بالرجوع، وعندما سألهم المؤمنون الرجوع عن الخذلان تظاهروا بخلاف مايبيتون من سوء القصد.
ولم تتكرر هذه الحادثة في معارك المسلمين، ولم ترد الأخبار بإنخذال نصف أو ربع هذا العدد من جيوش المسلمين، بل كان المتخلف من القتال من المسلمين يظهر الحسرة والأسف لأنه لم يخرج للقتال وحتى المنافقين أدركوا أن تخلفهم وقعودهم يفّوت عليهم فرصة نيل الغنائم، وصار المؤمنون في حال من السعة والغنى، والمنافقون على فقرهم وفاقتهم.
الرابع: نزول الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمحاربة المنافقين، وعدم التسامح أو التهاون معهم، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على بلوغ المسلمين مرتبة تؤهلهم لمواجهة الكفار والمنافقين في وقت واحد، مع أن الكفار أعداء للإسلام في الظاهر والعلن، والمنافقين أعداء في الخفاء،وموجودون بين صفوف المسلمين.
وفي الأمر الإلهي بجهاد الكفار والمنافقين بشارة الغلبة عليهم، لأن الله عز وجل حينما يأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فانه يعينه ويمده والمسلمين بأسباب النصر والغلبة.
قانون “البشرى في مفهومها إنذار’’
للمفهوم معانِ عديدة هي:
الأول: هو مدلول اللفظ سواء كان حقيقياً أو مجازياً.
الثاني: يكون المفهوم مقابلاً للمصداق أي ما يفهم من اللفظ وان لم يدل الدليل على إرادته من اللفظ.
الثالث: وفي إصطلاح علم المنطق هو الصورة الذهنية المنتزعة من حقيقة الشيء التي تمثل المصداق، وقد يكون المفهوم جزئياً، أو يكون مفهوماً كلياً كالإنسان.
الرابع: ما يقابل منطوق اللفظ، فلا يحمل اللفظ معنى المفهوم، إذ أن اللفظ يدل على المنطوق بالمطابقة والدلالة الذاتية والنسبة بين اللفظ والمعنى بحسب المتبادر ولغة التخاطب، ولكن المفهوم ما يترشح من مفاد الجملة

بإعتباره لازماً لها كما في مفهوم قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، فالمفهوم هو إذا لم تروا الهلال فلا تصوموا بنية شهر رمضان.
وينقسم المفهوم إلى قسمين:
الأول: مفهوم الموافقة، وهو الذي يتحد في السنخية مع المنطوق، وما يتضمنه من الحكم كما في باب الأولوية، مثل الأمر بصلة الرحم، فأنه يدل بالأولوية على البر بالوالدين.
الثاني: مفهوم المخالفة وهو ما كان الحكم فيه مخالفاً في السنخية لما في المنطوق، وله وجوه عديدة، منها مفهوم الشرط ومفهوم الوصف وغيرها.
فالمفهوم حكم مستقرأ من معنى اللفظ وإن لم يكن مقصوداً وظاهراً في ذات اللفظ ودلالته، لذا وقع النزاع في حجيته ولكن معناه وغاياته في القرآن أعم من الحجة والبرهان.
والمفهوم مدرسة في سعة معاني اللفظ القرآني ودلالاته الظاهرة وغير الظاهرة، ومنه البشارة الواردة في هذه الآية، إذ أن مفهومها على وجوه:
الأول: شكر الله عز وجل للمؤمنين على خروجهم للقتال يوم بدر.
الثاني: الثناء على المؤمنين لصبرهم في معركة أحد.
الثالث: إن الله عز وجل يتفضل على المسلمين بالبشارات لتكون وسيلة لتثبيت إيمانهم.
الرابع: الآية سياحة في عالم الملكوت، فصحيح أنها جاءت بخصوص نصر الله عز وجل للمؤمنين في معركة مخصوصة، إلا أنها تجعل ذهن المسلم ينصرف إلى السماء وقربها ونصرتها للمسلمين، فبعد هذه الآية لم تعد مسافة بينها وبين الأرض بخصوص النصرة والمدد.ذ
الخامس: الآية دعوة للتدبر في خلق السماء ووظائف سكانها.
السادس: تتضمن الآية دعوة الناس للإسلام والترغيب بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من الشواهد على أن الإسلام إنتصر بالقرآن وآيات السماء، فليس من وسيلة في الترغيب بدخول الإسلام أفضل من المدد الملكوتي، وقد أنعم به الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وهذه الوسيلة المباركة من الشواهد على تفضيل المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومنافع البشارة في المقام على وجوه:
الأول: دعوة الناس لدخول الإسلام لثبوت صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته بالآيات الحسية، والنفع الحاضر والحجة الباهرة، والنصرة القاهرة.
الثاني: بلوغ المسلمين مراتب الإيمان، وعدم الوقوف عند النطق بالشهادتين، وهو من وجوه مجئ البشارة بقيد تحلي المسلمين بالصبر والتقوى في الآية السابقة [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( ).
الثالث: سعي المسلمين للحوق بالمجاهدين، وعدم التخلف عن مواطن القتال، فمن يتلقى البشارة بنصرة الملائكة لا يتوانى في الخروج للقتال، والفوز بتلك النصرة والمدد الإلهي الكريم.
ومن الآيات في دعوة القرآن هذه صبغة العموم فيها فهي لم تتوجه إلى العرب وحدهم، أو إلى بني إسرائيل وأهل الكتاب بل جاءت في مضمونها ومفهومها دعوة للناس جميعاً.
لقد جاءت آيات القرآن بالأمر بالأخوة الإيمانية بين المسلمين، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، وتضمنت هذه الآية نوعاً آخر من الصلة بين الملائكة والمؤمنين تتقوم بنصرة الملائكة للمسلمين.
وهل ينصر المسلمون الملائكة الجواب لا يحتاج الملائكة النصرة وليس من خصومة وخلاف بين أهل السماء، والكل منقطع إلى التسبيح والذكر لذا ورد عن الملائكة في الإستفهام عن جعل الإنسان خليفة في الأرض قولهم [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
ولكن نصرة المسلمين لهم هي الثبات على الإيمان، وتعظيم شعائر الله، وأداء الفرائض، والبشارة في المقام من عمومات قوله تعالى [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
ومن الوظائف الملازمة للنبوة وظيفة البشارة فكل نبي من الأنبياء يقوم ببشارة المؤمنين بالله عز وجل والنبوة بالجنة، قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ).
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارات وهو من الشواهد على صدق نبوته، وإنفرد ببشارة نزول الملائكة لنصرته وأصحابه في ساحة المعركة ساعة عزم الكفار على الرجوع إلى المعركة بعد أن أغرتهم قلة عدد المسلمين والخسائر والجراحات التي أصابتهم مع النقص في مؤونهم، وإنعدام المدد من الناس إليهم، وإن لم يكن رجوع المنافقين في الطريق إلى المعركة سبباً في بعث الوهن والتثبيط في نفوس من بقوا في المدينة من المسلمين.
وجاءت هذه الآية نصاً صريحاً بالبشارة مع بيان موضوعها ومن خصوصياتها وما فيها من الإعجاز أنها أشرف وأعظم بشارة في الأرض، فلا غرابة أن تأتي إلى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، لتكون شاهداً على تفضيلهم.
ومن مصاديق التفضيل لغة الخطاب في الآية أنها موجهة للمؤمنين في معركة أحد،ولكن المسلمين جميعاً ينالون منها، لأنها كشجرة السدر التي تدخل بيوتهم جميعاً، ويتفيؤون بضلالها، ويأكلون من ثمرها إلى يوم القيامة، ببركة القرآن وخلود كلماته، وسلامته من التحريف والتغيير.
ومن مفاهيم البشارة في هذه الآية إزالة الغم والحزن عن نفوس المؤمنين، وجعلهم ينظرون بعين الأمل والرجاء إلى الغد، وكأن الآية ضمان وواقية من إنهزام وإنكسار المسلمين في معارك القتال.
وتؤكد وقائع التأريخ نيل المسلمين مراتب المنعة والعز بعد نزول هذه الآيات، ومن مفاهيم البشارة في هذه الآية الإنذار.
والبشارة والإنذار من المتضادين الذين لا يجتمعان في موضوع واحد، والبشارة خاصة بالمؤمنين،وهي في مفهومها إنذار للكفار وأهل الكتاب.
وهذا الإنذار من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الأثر والتأثير، فتأتي مفاهيم الإنذار إلى كفار قريش على نحو دفعي ومن غير واسطة، إذ يرون آيات نزول الملائكة، وأثر نزول هذه الآية على المؤمنين في ثباتهم، وإستبسالهم وقوة إندفاعهم، وزوال الخوف والفزع من نفوسهم، والسلامة من الجبن والخور بلطف من الله كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
ومن مصاديق ولاية الله عز وجل للمؤمنين نزول الملائكة لنصرتهم، والبشارة بالنزول، فالبشارة السماوية من مضامين ولاية ولطف الله عز وجل بالمؤمنين في ساحة المعركة وساعة الشدة.
ومن إعجاز القرآن أن يعمل المتضادان من موضوع واحد في المعركة وسير القتال وإصابة الكفار بحال الفزع والخوف، بأن يكون أحد المتضادين منطوقاً وهو البشارة، والثاني مفهوماً وهو الإنذار والزجر عن محاربة الذين تنزل الملائكة لنصرتهم وإعانتهم.
وهذا المفهوم من عمومات الإنذار قال تعالى [هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى]( )، أي القرآن إنذار من جنس وصبغة الإنذارات التي جاء بها الأنبياء السابقون.
وكانت المعجزات مصاحبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأيام الأولى للبعثة النبوية المباركة، وهي من الأسباب التي جعلت عدداً كبيراً من الصحابة يؤمنون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في مكة مع شدة محاربة قريش له ولمن آمن بنبوته.
فمثلاً إنشق القمر كمعجزة له حين سأله الكفار آية، قال ابن عباس: إنفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت، وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر)( ).
ولكن قريشاً إستمرت في جحودها وغيها، وزحفت على المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
فجاءت آية من السماء هي كالصاعقة التي نزلت على قريش، وورد في ثمود قوله تعالى [فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ]( )، إذ أنهم إستكبروا وأصروا عن الجحود فصعقتهم الصاعقة، وجاءتهم نهاراً وهم ينظرون إليها، وقيل إن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم، ولم يصبهم منها ضرر.
والصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد، أما قريش فجاءهم الإنذار في مفهوم هذه الآية وهو من الإنذارات الكثيرة التي جاءت لهم، وبدل أن تنزل قطعة نار من السماء، أو برق أو صيحة من السماء، فقد نزل ملائكة لنصرة المؤمنين، وهزيمة الكفار.
وقد إنفلق البحر مرة ليعبر موسى عليه السلام وبنو إسرائيل، ولم تخرج اليابسة بعده ليكون فيه هلاك فرعون وجنوده، وأنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بنزول الملائكة في الأرض الصحراء القاحلة لينهزم الكفار ويبقى الملائكة قريبين من ساحة المعركة بإنتظار عودة الكفار إلى القتال، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة، وهو من وجوه الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: منح مناسبة للتوبة والإنابة لقريش ومن جاءمعها من القبائل والأحابيش، إذ أن بقاء الفرد والجماعة أحياء مع توالي الآيات ندب للتوبة.
الثاني: إنه واقية من التعدي على الإسلام والمسلمين، فاذا أدرك الأعداء أن المدد السماوي للمؤمنين حاضر وقريب فانهم يجتنبون التعدي عليهم.
الثالث: دعوة الناس للإسلام، لما في نصرة الملائكة من البرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تثبيت الإيمان في قلوب المسلمين على نحو يومي متجدد، وكان المسلمون حديثي عهد بالصلاة ووجوبها خمس مرات في اليوم، فجاءت نعمة نصرة الملائكة قريبة وحاضرة ليتجدد معها الحرص على أداء الفرائض من غير ملل أو جزع أو خوف من الكفار، الذين يكثرون من الوعيد ورسائل التهديد بالهجوم على المسلمين.
وكما لبشارة نصر الملائكة مفاهيم بالإنذار فان لها مفاهيم بالبشارة ولكن البشارة خاصة بالمسلمين إذ كانوا في ضائقة مالية ونقص في المؤون خصوصاً مع كثرة المهاجرين والقادمين إلى المدينة، وإستمرار توافدهم على المدينة.
فجاءت هذه الآية لتبعث الأمل في نفوسهم بدفع عدوهم، وفتح البلدان وإنتصار الإسلام، وفعلاً لم تمر الأيام والأشهر إلا وأخذت جحافل المجاهدين والسرايا شمالاً وجنوباً، فتأتي بشارات الفتح، ثم تدخل الغنائم إلى المدينة.
قانون “آيات الآفاق’’
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى الناس كافة، وأنزل عليه القرآن آية عقلية وبرهاناً على صدق نبوته، لتبقى دعوته وخطاب التكليف بالتصديق بنبوته متوجهاً إلى الأجيال المتعاقبة قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ).
وجاءت هذه الآية الكريمة وثيقة تأريخية لبيان الإتصال والقرب بين أهل السماء والأرض، وإنعدام المسافات بينهما حال إغاثة المسلمين، ويتجلى الإعجاز في الآية إلى جانب بلاغتها بالتباين والبون الشاسع في القوة والعدد بين جيش الكفار وجيش المسلمين يوم أحد، وكانت كل الأسباب المادية تشير إلى ترجيح كفة الكفار، وأعدت قريش العدة للمعركة، وحاولت الإستفادة من تجربة معركة بدر، وزحفت على المدينة المنورة، والمسلمون مشغولون بتلقي الوحي، وإصلاح النفوس لأداء الفرائض، والإستبشار بفضل الله، ونعمة النبوة.
فخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه نحو ألف من المسلمين للقاء العدو الذي يبلغ جيشه ثلاثة آلاف من المشركين الذين جاءوا طلباً للثأر والإنتقام وتأمين طريق قوافل التجارة القادمة من الشام إلى مكة المكرمة، فإنخزل ثلاثمائة من المنافقين من جيش المسلمين في الطريق ليبقى مع النبي نحو سبعمائة مقاتل أكثرهم راجلاً يمشي على قدميه لعدم وجود خيول أو رواحل كافية.
وحالما بدأت المعركة أظهر الله المسلمين على الكفار، وبدأ الزحف المقدس ومطاردة الكفار،وإرغامهم على التراجع والتقهقر، ولكن ثغرة الرماة أضرت بالمسلمين إذ إستغلها الكفار، وتسللوا منها لتكون للكفر جولة أثناء المعركة، وتهب ريح مظلمة آنا ما على المسلمين، فتهم طائفتان منهم بالخور والجبن، فيأتي نصر الله قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: معرفة المسلمين لموضوعية النصر الإلهي.
الثانية: حصول اليقين عند المسلمين بالمدد السماوي.
الثالثة: بيان حاجة المسلمين لرحمة الله.
الرابعة: قرب المدد الإلهي من المسلمين.
الخامسة: عدم إنحصار المدد الإلهي بجنس أو نوع مخصوص.
السادسة: طرد الفشل واليأس من نفوس المسلمين، فمتى ما أدركوا أن المدد السماوي قريب منهم فانهم لايخشون العدو وكثرة جيوشه وعدته.
السابعة: إنتقال المسلمين من حال الدفاع إلى حال الهجوم والغزو، فقد يؤاخذ بعضهم المسلمين على كثرة الغزو جهلاً منه بالآيات الباهرات التي تتضمن الندب إلى الهجوم والفتح ومباغتة العدو، من وجوه:
الأول: قيام الحجة على الكفار في تعديهم وزحفهم المتكرر على المدينة المنورة.
الثاني: نشر مبادئ الإسلام.
الثالث: جذب الناس للإيمان، وتخليصهم من الضلالة والشرك.
الرابع: إنقاذ المستضعفين والعامة من الناس الذين يقعون تحت سلطان أرباب الدنيا، وطلاب الجاه والسلطان بالباطل، ولو نظرت إلى الذين وقفوا في وجه دعوة الحق لرأيتهم على قسمين:
الأول: الأقطاب والرؤوس وهم القلة.
الثاني: العامة منهم، وهو الكثرة الذين ليس لهم رأي ولا قول، وترى أكثرهم يساق إلى ساحة المعركة وإلى القتل وهو لايفقه من موضوع وأسباب القتال شيئاً، لأنه ليس من أٍسباب عقلائية للإقامة على الكفر، والتعدي على المسلمين، فتأتي رايات الإسلام لإنقاذه، وفتح الباب أمامه للتوبة وليتبوء منازل كريمة بدخول الإسلام.
لقد كانت آية المدد الملكوتي توليدية تتفرع عنها آيات كثيرة في ساحة المعركة وفي النفوس والمجتمعات، وهي دعوة للإسلام قائمة بذاتها لا تحتاج إلى واسطة لتقريب المعنى والمفهوم.
وقد يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( )، إرادة التفصيل وحده وأن من الآيات ما يكون في الآفاق، ومنها ما يكون في النفوس على نحو الإستقلال في كل واحد منهما وهو صحيح إلا أن الآية أعم، إذ تشمل الآيات الجامعة والتي تكون متحدة في الموضوع ومتعددة الأثر في الآفاق وفي النفوس، ليكون المراد من الآيات أعلاه على وجوه:
الأول:آيات الله عز وجل في الآفاق، ومنها الآيات الكونية، والفضل الإلهي في إنتصار الإسلام، في بلدان الشرق والغرب.
الثاني: الآيات التي تكون في النفوس من تجلي معاني الإيمان، وتوجه المسلمين لصلاة الجماعة خمس مرات في اليوم، وتلاوة القرآن، وتكرار مفاجئة الكفار بدخول الناس من بينهم في الإسلام.
الثالث: الآيات التي تكون عامة وجامعة في الآفاق، وفي النفوس في آن واحد، ومنها آية نزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
فهي من آيات الآفاق، وآيات النفوس لتفيد (الواو) في (وأنفسهم) العطف والجمع، لأن المسلمين بلغوا مراتب الصبر والتقوى التي تؤهلهم لتلقي المدد السماوي.
وكأن هذا المدد مدخر للأمة التي تتقيد بأحكام الصبر والتقوى، وتوطن النفوس في ميادين القتال مع قلة العدد في مواجهة أشد وأقوى جيوش الأرض التي جاءت للفتك بهم، وهم يذبون مع قلة عددهم وعدتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، أن تكون موضوعاً لنزول الملائكة.
وهذا النزول سبب في إيمان شطر من الناس، وكف فريق منهم عن نصرة الكفار ومؤازرتهم، لذا ما أن تم صلح الحديبية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد قريش، حتى دخلت بعض القبائل في عقد وعهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مثل قبيلة خزاعة( ).
وجاء عدد من الشباب المؤمن من قريش هاربين من مكة ساعة عقد الصلح، ومنهم أبو جندل وأبوه هو سهيل بن عمرو الذي مثّل قريشاً في الصلح مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون مجيء أبي جندل وهو (يَرسف في الحديد) ( )، شاهداً على جور قريش على الشباب المسلم في مكة، وخلو قلوبها من الرحمة حتى على أبنائها، إذ أن أبا جندل هو ابن سهيل بن عمرو، وبدل أن يرأف بإبنه ويتركه يذهب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قام إليه وضربه على وجهه وأخذ بتلبيبه فقال أبو جندل (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي، فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ) ( ).
وفيه شاهد على قبح الغدر مطلقاً، وإخبار بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالأخلاق الحميدة، وتعاهد السنن الرشيدة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ( ).
وهل من صلة بين البشارة الواردة في الآية محل البحث [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ] وبين صلح الحديبية الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثاني: إعراض القبائل عن نصر وإعانة قريش، مع أن رجالاتها كانوا يطوفون على القبائل لتحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وكان بعض اليهود يأتي من المدينة ليلقي الشعر في ذم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لصد الناس عن الإسلام، وحثهم على الخروج لقتاله.
الثالث: تقوية قلوب المؤمنين، وزيادة إيمانهم.
الرابع: كثرة عدد المسلمين، وتناقص عدد الكفار، فشهدت المدينة قدوم أفراد وجماعات إليها لدخول الإسلام ونبذ الكفر، وهجران القرى والقبائل التي تقيم على الكفر والضلالة، وكل واحد منهم رسول إلى قومه وأن بقي في المدينة ولم يرجع إلى قبيلته وقومه أي أن رسالته لهم تكون بالمعنى السلبي والمفهوم إذ تفتقده القبيلة فيقال أنه دخل الإسلام وهاجر إلى المدينة لتكون هجرته صرخة ودعوة صامتة للهداية ووسيلة لحث الناس على الإقتداء به، الأمر الذي جعل قريشاً في حالة من الضعف وقلة العدد.
وتبين الوقائع ومعارك الإسلام الأولى أن قريشاً كانت على درجة من القوة والسطوة، وأن هيبتها ليست بالصيت وحده، بل بالإقدام والبسالة وكانت على صلات وثيقة مع القبائل التي تحيط بمكة وتستطيع تحريكها، وتوجيهها وتجعلها كالمنقادة لها.
وتلك البسالة وهذا الإنقياد بالباطل، وبنزول الملائكة كسرت شوكة قريش، وتغيرت موازين القوى، ودّب الوهن والضعف في صفوف الكفار، وأمست قريش عاجزة عن حشد القبائل لنصرتها، ولم تستطع جمع الجيوش لمواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الذين أصبحوا على مشارف مكة في السنة السادسة للهجرة أي بعد معركة أحد بثلاث سنوات فأرسلوا له وفداً للصلح، ورجاء رجوعه في تلك السنة وفيه غاية الهزيمة لقريش.
وهل يعتبر صلح الحديبية بداية الهزيمة للكفار في الجزيرة، أم أن نزول الملائكة هو البداية، الجواب هو الثاني.
فما أن أظهر المسلمون الصبر والتقوى حتى نزل الملائكة لينهزم الكفار من ساحة المعركة.
ومن الآيات في معجزة نزول الملائكة أن هزيمة الكفار لم تكن في معركة أحد وحدها، بل كانت بداية الهزيمة النهائية، ومحق الكفر وزواله في الجزيرة وإلى يوم القيامة، فمع إزدياد السكان، وعمارة أمصار كثيرة في الجزيرة فانها ستبقى خالية من الشرك والكفر لأن الملائكة نزلت في تلك المواطن، وشع نورها على ربوع الجزيرة، وهو من الآيات المستمرة في الآفاق.
ومن خصائص معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاءت معجزات الأنبياء حسية وتتعلق بأوانها ومكانها، كما في عصا موسى وناقة صالح، أما معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة فان أنوارها باقية في الأرض بصيانتها من الكفر والشرك، ولتكون خاصة بأهل الإيمان، وتشع منها أنوار الهداية إلى يوم القيامة، فيطل على الناس منها بين الحين والآخر شواهد تساهم في تثبيت الإيمان.

قانون”الصلة بين سجود الملائكة لآدم ونزولهم’’
لقد بدأت الصلة بين الملائكة والإنسان بكيفية يعجز العقل عن تصور مضامينها ودلالاتها، ولم يطرأ في ذهن أي إنسان لاحقاً أن الملائكة تسجد لآدم عند خلقه لولا تفضل الله عز وجل بهذه النعمة والإخبار عنها في القرآن الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
ليحكي لنا المنزلة الرفيعة التي نالها الإنسان من بين الخلائق، ولا تنحصر تلك المنزلة بمرتبة الخلافة في الأرض التي خص الله عز وجل بها آدم عليه السلام، بل تشمل دعوة الملائكة، لإظهار الخضوع لآدم والتسليم له بالمقام السامي بين الخلائق بعد أن قام آدم بتعليمهم الأسماء، وبيّن لهم أبواباً من المعرفة لم يبلغوها إلى بواسطته.
فكان سجود الملائكة لآدم مناسبة كريمة لتعيين وظائف آدم في الأرض بإحيائها بالصلاح والتقوى، وبما يؤكد تعاهد المعاني القدسية لسجود الملائكة لآدم عليه السلام في ذريته.
وقد بدأ هذا التعاهد بلطف من عند الله عندما أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها إذ نسب الله سبحانه الفعل إلى السبب وإغواء الشيطان بقوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا] ( ).
وفيه مقدمة لمدرسة التوبة، وإرشاد إليها، وتغشت الرحمة الإلهية الناس بما في الحياة من الرزق الكريم وإظهار الأرض لخيراتها، والأكل من مختلف الثمار والأشجار، وبعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية لتكون بعثتهم غذاءً روحياً مستمراً، وضياء ينير لهم دروب العبادة التي تتقوم بها الحياة الدنيا،وتستمر الخيرات والطيبات فيها، ولكن شطراً من الناس أغواهم الشيطان، وأظهروا الكفر والجحود.
فلم يترك الله عز وجل الناس وشأنهم بل تفضل بتعاقب الأنبياء، ومن رحمته تعالى أن كل نبي يأتي بمعجزة وحجة تدل على صدق نبوته، وهذا الصدق فرع الكبرى الكلية وهي الإقرار بالتوحيد والعبودية لله عز وجل والإستعداد للآخرة، قال تعالى في توبيخ الكفار يوم القيامة [أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا] ( ).
لذا فان المعجزة على وجوه:
الأول: مدرسة الهداية إلى التوحيد.
الثاني: إنها واقية من الشرك والضلالة.
الثالث: المعجزة دعوة لنبذ الكفر، وبين الإيمان بالله والتصديق بالنبي عموم وخصوص مطلق.
فالتصديق بالنبي يدل على الإيمان بالله والإقرار بالوحدانية.
أما الأيمان بالله فهو أعم من التصديق بالنبي، لذاجاءت الآيات بالملازمة بين الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من تكامل أحكام الشريعة لأن الإيمان بالله لابد وأن يؤدي إلى التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
ووحدة مضامين العبادة والإمتثال لأمر الله عز وجل بإتباعه ونصرته، وتمنع المعجزة من التردد بالإيمان وتكون واقية من الإجهاز على النبي في دعوته، ولكن الكفار لم يلتفتوا إلى المعجزات لوجود المانع الذاتي من العناد والإصرار على الجحود، قال تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( ).
فكان أن خرجوا وهم آلوف لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة أحد، وقد يجد الإنسان صعوبة في تصور إجتماع آلاف من الناس في تلك الأرض الجرداء التي يكثر الغزو والنهب بين أهلها والزحف مسيرة شهر لبلوغ المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وليس عندهم مال أو أنعام وذهب وفضة يستحوذ عليها هؤلاء.
لقد كانت قريش من أهل الحنكة والزعامة، ويتولون التجارة والرياسة بين القبائل، فأرادت بمسيرها هذا أموراً:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الناس ومنعهم من الإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إظهار قوتهم وسطوتهم على الجزيرة.
الثالث: ندب الناس لنصرتهم.
الرابع: منع القبائل من التعدي على تجارتهم القادمة من الشام وما لهم من الأبل والأموال في مكة وحولها، بعد أن إنكسرت شوكتهم في معركة بدر.
لقد كانت غايات قريش إلى معركة أحد كثيرة ولا تنحصر بالقتال وحده، فلا غرابة أن ينحروا النوق، وينفقوا الأموال الكثيرة، ويخلدوا خروجهم بالشعر والزجر،وقد ألقى جماعة من جيش قريش قصائد منهم هبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعري وأبو سفيان وعمرو بن العاص.
ورد حسان بن ثابت وكعب بن مالك على شعرهم، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تدخل بنفسه لتوجيه بعض الأبيات وبيان موضوعية الشعر في شحذ الهمم والإعانة في الجهاد في سبيل الله، فقد قال كعب بن مالك في قصيدة طويلة يرد بها على هبيرة:
مجالدنا عن جذمنا كل فخمة
مذربــــــة فيها القوانس تلمــــــــــــــــع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيصلح أن تقول مجالدنا عن ديننا، فقال كعب نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحسن فقال كعب مجالدنا عن ديننا( ).
وجاءت قريش بالنساء والقن والعبيد ومعهم الدفوف وقابلهم المسلمون بإظهار الخضوع والخشوع لله عز وجل وحسن التوكل عليه الذي يتجلى بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والعزم على مواجهة الحتوف.
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل أحد أصحابه على رأس الجيش، ويبقى هو في المدينة طلباً للسلامة، وحفاظاً على النبوة، ومن أجل إستدامة نزول الوحي، بل خرج إماماً وقائداً للجيش، ولم يخرج إلى ميدان المعركة إلا بالوحي.
ترى ماذا يحصل لو لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وبقى في المدينة، الجواب من وجوه:
الأول: لقد همت طائفتان من المؤمنين بالفشل، وإنهزم أغلب المؤمنين من وسط المعركة ولم يرجعوا إلا لثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة، لذا كان وجوده وسط الميدان ضرورة وحاجة لنصرة الإسلام، ودوام التوحيد إلى يوم القيامة.
وتلك آية من آيات النبوة بأن يأتي فعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة وحادثة فتبقى منافعه وآثاره ثابتة ومتجددة إلى يوم القيامة، وهو من خصائص تفضيله على الأنبياء الآخرين، وتشريف المسلمين بمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعداد الجيش للقتال، بالإنتفاع الأمثل من الوحي والذي يدل عليه قوله تعالى [تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثالث: نزول آيات من القرآن في يوم أحد وإتخاذ المسلمين لها دستوراً ومنهجاً، فليس من مدة أو زمن بين تلقي النبي لها وتلاوتها على المؤمنين، ولا يجتمع مثل هذا العدد من المؤمنين في كثير من أيام السلم في المدينة وأوان نزول الآيات، فجاء خروجهم لأحد مناسبة للتلقي العام للآيات.
الرابع: البشارة يوم أحد بنزول الملائكة لنصرة وغلبة المسلمين، وما لها من المنافع المصاحبة لها.
فحالما ينزل الملك ويقوم بالإيحاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزيل وينفصل عنه حتى يتلوه للمسلمين، فتتجلى معاني البشارة على المسلمين بتقوية قلوبهم، وعزمهم على مواجهة الكفار، والطمأنينة للنصر والغلبة على العدو بفضل الله.
لقد جعل الله عز وجل بهذه الآية يوم أحد عيداً عقائدياً وتلك آية من آيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع ما تعرض له المسلمون من الخسائر وكثرة الجرحى، وما ترد عليهم من الأخبار بعزم قريش على الرجوع إلى ميدان المعركة فإنهم عاشوا أبهى أيام الإسلام ببركة القرآن وتجلي النص الصريح بنزول الملائكة لنصرتهم.
ترى ما هي الصلة بين سجود الملائكة لآدم ونزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد، فيه وجوه:
الأول: هذا النزول إمتداد لسجود الملائكة لآدم.
الثاني: سجود الملائكة لآدم مقدمة لنصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ليس من صلة بين السجود لآدم ونصرة المؤمنين يوم أحد.
الرابع: إتحاد السنخية بين السجود والنصرة بلحاظ الخلافة في الأرض، فسجد الملائكة لآدم لأنه خليفة الله في الأرض، ونصرت الملائكة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خليفة الله في الأرض.
الخامس: لما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض بقولها[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) جاءت مناسبة معركة أحد برهاناً عملياً، ومصداقاً لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وتوكيداً لبديع صنع الله، وحكمته في جعل خليفة في الأرض، يبذل نفسه من أجل تثبيت حكمة التوحيد في الأرض.
وبإستثناء الوجه الثالـــث أعلاه فإنه لا تعارض بين الوجوه الأخرى، وهل كانت الملائكة يوم خلق الله آدم تعلم أنها ستنزل لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن هــذه النصرة من الأسماء التي علمهـــــــا الله عز وجل آدم وأخبر بها الملائكة،[ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ] ( ).
قانون”البشارة كنز’’
من خصائص الحياة الدنيا أنها مملوءة بالأمل والتطلع إلى المستقبل على نحو القضية الشخصية والنوعية، لتبقى زاهية بهيجة، تبعث على العمل والكسب والسعي، وتبتسم لأهلها، إلا أن هذا الأمل متناقضة موضوعاته، وهو على قسمين:
الأول:ما يخص زينة الحياة الدنيا، والتمتع فيها، وجمع الأموال، وإتباع الهوى والآمال الطويلة في عرض الدنيا.
الثاني: ما يتعلق بالعمل الصالح، وإكتناز الحسنات، ونشر مفاهيم الإيمان والإستعداد للآخرة، قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ]( ).
ويأتي القرآن بالبشارة والإنذار لينفذا معاً إلى شغاف القلوب، أحدهما يقود نحو الصالحات وهو البشارة، والآخر يمنع من السيئات وهو الإنذار، فيكون كل واحد منها مدداً إلهياً للعبد في الحياة الدنيا، وعوناً في الإمتثال للأوامر والنواهي.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالمدد السماوي، والملائكة ينزلون لنصرتهم، مؤازرين للبشارات والإنذارات، وبرزخاً دون تعطيل وظيفة أي واحد منهما، فلقد أراد الكفار حجب ومنع المسلمين من العبادة، وصد الناس عن دخول الإسلام.
وكان زحف قريش يوم أحد مكيدة ومكراً، لاحظ فيه أقطابها وبما عندهم من الخبرة وأمور الرئاسة بين القبائل أن كفة الإسلام تزداد قوة يوماً بعد يوم، وأن الوهن والنقص يدب في صفوف المشركين، ويبصرون مغادرة أبنائهم متوجهين إلى المدينة مهاجرين، أو مناجاتهم بالمغادرة، وتناقلت القبائل أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعجزات التي جاء بها، ومنها البشارات القرآنية، والبشارات التي تأتي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كانت دعوة مستقلة إلى الله ووسيلة مباركة لجذب الناس للإسلام، ونسيماً سماوياً يتصف بالعذوبة يلامس القلوب المنكسرة، ليبعث على التدبر في أسرار الحياة وكيف أنها مزرعة للآخرة.
لقد كان عيسى عليه السلام يخرج إلى القرى،ويتصل بأهلها ويسير على قدميه المسافات الطويلة ويبرئ الأكمه والأبرص، مما أثار حفيظة السلطان، وتآلب عليه أهل الحسد، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنه بقي في المدينة يدعو الناس للإسلام،ويخبر عن الله الآيات،وتناقلت القبائل معجزاته، فكانوا على أقسام:
الأول: من وفد إلى المدينة ودخل الإسلام.
الثاني: الذين أسلموا هم وقبائلهم وقراهم لما وصلهم من الأخبار التي تدل على صدق نبوته.
الثالث: الذين في معرض دخول الإسلام.
الرابع: أقطاب الكفر والضلالة الذين يقابلون الآيات بالشك والريب.
الخامس: أتباع رؤساء الكفر والضلالة.
وجاءت بشارات القرآن للناس جميعاً، وقد يتردد إنسان في دخول الإسلام، ويهم كل يوم للنطق بالشهادتين لمدة طويلة، بينما ينتقل آخر من منازل رئاسة الكفر إلى مقامات الإيمان والإخلاص في طاعة الله ورسوله دفعة واحدة عشقاً للبشارة القرآنية، ورغبة في الفوز الأخروي، قال تعالى[وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى]( ).
لتكون البشارة سبباً وغاية للإيمان، فهي تجذب الناس للإسلام، وتكون طريقاً وغاية مصاحبة للمسلم في يومه وليله، وعمله في البيت والسوق والمسجد، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ) أن تصاحبهم البشارة، والتي تكون لها منافع عديدة منها:
الأول: إمتلاء حياة المسلمين سعادة وغبطة.
الثاني: جعل الحياة أكثر بهجة بالبشارة.
الثالث: صيرورة الدنيا داراً للعمل، وبلغة لنيل البشارات.
الرابع: تلقي البشارة القرآنية بالقبول شاهد على الإيمان والتصديق بالتنزيل.
الخامس: السعي نحو البشارات وسيلة لتعاهد الأخوة الإيمانية للإتحاد في النهج والعمل والغاية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
والبشارة القرآنية من مصاديق علم الغيب، والأسرار التي أودعها الله عز وجل القرآن، وهي من العلوم التي تتصف بالخلود ومصاحبة الأجيال المتعاقبة من الناس، وحرز سماوي لحفظ القرآن، وإستنباط المسائل والأحكام منه.
لقد جعل الله عز وجل آيات القرآن خزائن كلما فتحت خزينة تدافعت أمامك الدرر العلمية والعقائدية والأخلاقية، وهي تشير إليك بوجود غيرها من العلوم والأسرار في مضامين ومفاهيم الآية القرآنية، وفي البشارة القرآنية:
الأول: إنها كنز قائم بذاته.
الثاني: البشارة في القرآن علم مستقل يفتح آفاقاً من المعارف للناس جميعاً.
الثالث: تأخذ البشارة بأيدي المسلمين ويأخذ في مراتب الرفعة والسمو.
الرابع: تجعل البشارة المسلمين يبذلون الوسع في الكسب الدنيوي والأخروي.
ومنه البشارة الواردة في هذه الآية الكريمة موضوعاً ومناسبة وأثراً.
أما الموضوع فإن البشارة تتضمن نزول الملائكة مدداً ونصرة للمؤمنين.
أما المناسبة فإن البشارة ومصداقها جاءا في أشد حالات الضيق والحرج عند المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ).
إذ أنها تبين عدم إنحصار نفي الحرج عن المسلمين في باب العبادات وأدائها، والشروع بالجهاد والأمر بالمعروف، بل يشمل ساحة المعركة وإستدامة القتال.
وأما الأثر فإن منافع هذه البشارة أكثر من أن تحصى، وهي آية في العالمين ودليل على بقاء الإسلام قوياً منيعاً إلى يوم القيامة، فما نزل الملائكة لنصرة المسلمين على نحو متصل في أيام أو سنوات معدودات، بل نزلوا في ساعات قليلة لتساهم السماء في تثبيت دعائم التوحيد في الأرض يوم القيامة، وهو من أسرار ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من نبي بعده.
لقد بشّر الأنبياء السابقون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوا الناس إلى نصرته عند بعثته كما في عيسى عليه السلام إذ ورد عنه في التنزيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
لتكون بشارة الأنبياء موازرة لمن إتبعهم وصدقهم في بشاراتهم، فطوى لمن إتفق عمله مع عمل الملائكة، وكانت الملائكة مدداً وناصرين له.
قانون”أقسام البشرى’’
البشارة عالم رحب واسع يتعلق بالحاضر والمستقبل ويربط بينهما بنسيج من البهجة التي تترشح عن أمور:
الأول: ما تتضمنه البشرى من أسباب الفرح والرضا.
الثاني: الحسن الذاتي للبشرى لذا فهي مأخوذة مما يطرأ على بشرة الإنسان من التغيير الدال على الغبطة والسعادة.
الثالث:موضوع البشارة وما فيه من الأمل والرجاء.
الرابع: البهاء الذي تضفيه البشرى على القادم من الأيام كوعاء لموضوع البشارة.
وهي التي تخص أمور الدنيا،وما تأتي فيها من النعم والمباهج وأسباب السعادات، كما في البشارة التي تلقاها زكريا عليه السلام بقوله تعالى[أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ]( )، ولا يفعل الملائكة إلا الخير، ونزولهم مدداً للمسلمين شاهد بأن المسلمين على الحق، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منصور بالملائكة وفيه آية في الأمر الإلهي للناس بإتباعه ونصرته تتجلى بالأمن والسلامة لأتباعه والمجاهدين معه، فقد يخشى فريق من الناس دخول الإسلام خوفاً من بطش قريش ومكر يهود المدينة، وخبث المنافقين، فجاءت البشارة في هذه الآية، وهي من مصاديق الآيات التالية:
الأولى: قوله تعالى[ألاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ] ( )وصحيح أن الآية جاءت بخصوص الغار ومعه أبو بكر، وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:اللهم أعم أبصارهم، فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون، قد أخذ بأبصارهم عنه) ( ).
إلا أن النصرة أعم من جعل غشاوة على أبصار كفار قريش، لذا جاء في ذات الآية أعلاه قوله تعالى[وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] وذكر أن الجنود هم الملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين.
وتقدير الآية نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة وغير الملائكة،ووصف الملائكة في الآية بأنهم جنود إشارة إلى تعدد مصاديق وأفراد النصرة، ومنها أسباب سلامته في الغار، فبعد أن كان مستضعفاً من قبل كفار قريش في مكة أصبح طردياً يلاحقونه وليس معه إلا واحداً من أصحابه.
ثم جاءت جيوشهم زاحفة على المدينة المنورة ليخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر من أهل بيته وأصحابه يذبون عنه وعن الإسلام، ورجع الكفار في السنة التالية بثلاثة أضعاف عددهم الذي جاءوا به يوم بدر، فكانت واقعة أحد ليتعرض المسلمون إلى خسارة ونكسة دفع الله عز وجل شرّها بنزول الملائكة ناصرين، والبشارة الواردة في هذه الآية، ويحتمل هذا الدفع بلحاظ أفراد الزمان الطولية وجوهاً:
الأول: إنحصار موضوعه وأثره بواقعة أحد.
الثاني: إختصاصه بأيام التنزيل وإلى حين إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الثالث: إستمرار وإستدامة منافع نزول الملائكة يوم أحد إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير، فقد دفع الله عز وجل شر وكيد كفار قريش ومن خلفهم بنزول الملائكة، والبشارة الواردة في هذه الآية، فإن قلت: قد زحفت قريش في معركة الخندق، والجواب من وجوه:
الأول: بينما جاءت معركة أحد بعد معركة بدر بنحو سنة، وبعد أن منيت قريش بالهزيمة والخسارة يوم بدر، جاءت معركة الخندق بعد معركة أحد بنحو سنتين مع أن المشركين لم يلقوا ذات الخسارة يومئذ (وقال موسى بن عقبة أنها في السنة الرابعة للهجرة).
الثاني: جاءت معركة الخندق بعد تحريف من بعض كبراء يهود المدينة منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحُيي بن أخطب النضري، ونفر من بني وائل منهم هَوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي إذ قاموا بالطواف على قريش وحثهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(وقالوا: أنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعِلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديِنُنا خير أم دينه؟ قالوا، بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق) ( ).
ثم إتجه هؤلاء النفر إلى غطفان فأجابوهم في الخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: لم يحدث قتال في معركة الخندق بل هي للحصار أقرب، نعم حصار بالنبل وقتال على نحو القضية الشخصية كما في مبارزة على بن أبي طالب لعمرو بن ود العامري وقتله لعمرو وإنهزام أصحابه (قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ
وَنَصَرْتُ رَبّ مُحَمّدٍ بِصَوَابِي
فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدّلًا
كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكادِكٍ وَرَوَافِي
وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنّنِي
كُنْتُ الْمُقـــــــَطّرَ بَزّنِى أَثْوَابِي
لَا تَحْسَبــــــَن اللّهَ خَاذِلَ دِينِهِ
وَنَبِيّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْــــــــــزَابِ( ).
الرابع: لم تزحف قريش بعدها على المدينة، وتغيرت الحال، وخرجت جيوش المسلمين ورايات الإسلام صوب مكة وغيرها ببركة المدد السماوي.
ويمكن تقسيم البشرى إلى أقسام:
الأول: البشارة الشخصية وهي التي تتعلق بالنفع الخاص ومنها بشارات الأنبياء في أنفسهم وأولادهم كما في زكريا وقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا]( ).
الثاني: البشارة كوظيفة ورسالة وأمانة كما في بعثة الأنبياء، وقيامهم بنقل البشارات مطلقاً إلى الناس، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ).
الثالث: ما يأتي إلى الأولياء والصالحين من البشارات ذات النفع الخاص الذي يترشح منه نفع عام كما في بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بولادة عيسى[إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ]( ).
وفيه آية وهي أن البشارة من عند الله تأتي بالأسباب الظاهرية، وتأتي بالمعجزة كما في حمل مريم بعيسى بآية من عند الله، قال تعالى[وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( ).
وفيه شاهد بأن البشارة الإلهية لابد وأن تتحقق، لأن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة، ولا يضر بها صدود أهل الجحود عنها ومع أن الآية السابقة جاءت بشرط لنزول الملائكة ، وهو لزوم تقيد المسلمين بآداب الصبر والخشية من الله عز وجل فأن هذه الآية أخبرت عن كونه بشارة للمؤمنين لبيان قرب المدد الإلهي وقدرة المسلمين على التحلي بآداب الصبر وأحكام التقوى والخشية من الله عز وجل.
لذا جاءت الآية قبل السابقة بتوجيه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عن نيل المسلمين صفة الإيمان والتلبس بها، ووصف القرآن للمسلمين بالمؤمنين هو ذاته بشارة دنيوية أخروية لما تدل عليه بالدلالة التضمنية مما ينتظرهم من الثواب العظيم يوم القيامة.
الرابع: البشارات العامة التي تأتي بالخطاب الشامل للطائفة والأمة والناس جميعاً، ومنه هذه البشارات التي جاءت خاصة بأهل أحد إلا أنها شاملة في منافعها للمسلمين جميعاً، ومن معاني العموم فيها أن الآية قبل السابقة جاءت بصيغة الجملة الخبرية[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ] بينما جاءت هذه الآية بصيغة الخطاب[بُشْرَى لَكُمْ] لينقلوها لأجيال المسلمين وهم يدركون أنها هبة سماوية لهم جميعاً، ونعمة خص الله عز وجل بها المسلمين من بين أهل الملل والنحل.
الخامس: البشارات الأخروية وهي التي تأتي بأخبار الآخرة، وما أعد الله عز وجل فيها من الثواب العظيم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ] ( )، وتأتي البشارة أحياناَ بالإخبار عن الدرجة الرفيعة التي أعدها الله عز وجل للمؤمنين كما في الشهداء قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ] ( ).
وفيه بشارة للأحياء أيضاً من المؤمنين، إذ يدرك الزمن أنه لو قتل في سبيل الله فإن الحياة والنعيم الأبدي ينتظره، كما أن من فقد شهيداً هو حي عند الله، والصلة بين الآية أعلاه والآية على البحث أن البشارة لا تنحصر بالقتل في سبيل الله، بل تأتي بعنوان الأمن والسلامة من القتل.
إذ أن بعث الملائكة مدداً للمؤمنين عنوان سلامتهم من قتل الكفار الذين زحفوا من مكة للإجهاز على الإسلام، ومنع التنزيل.
لقد أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن لاينزل إلا عليه،[ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( )، وتنقسم البشارات الأخروية إلى قسمين:
الأول: ما يأتي منها في الحياة الدنيا،ويكون إخباراً عما يناله المؤمنون يوم الحساب، قال تعالى في وصف القرآن وبيان عظيم منزلته وما له من الأثر والتأثير[لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ]( ).
وتحتمل الصلة بين الآية أعلاه والآية محل البحث وجوهاً:
الأول: إن المؤمنين هم المحسنون ، والنسبة بينهما التساوي.
الثاني: نسبة العموم المخصوص المطلق، فالمؤمنون جزء وشطر من المحسنين.
وهل يقال بأن المحسنين شطر من المؤمنين الذين توجهت لهم البشرى في هذه الآية الجواب لا، من جهات:
الأولى: بشارات القرآن متعددة، وهي أعم من أن تحصر بواقعة معركة أحد وأهلها.
الثانية: جاءت بشارة يوم أحد على نحو العموم المجموعي لأهل أحد.
الثالث:جاء القرآن بشرى للمحسنين الذين ينشرون الإحسان ويعملون الصالحات، وجاءت هذه الآية بخصوص أهل أحد، وإن كانت في دلالاتها بشارة للمسلمين عامة.
الرابع: الخروج دفاعاً عن الإسلام من مصاديق الإحسان، وكذا التحلي بالصبر والتقوى.
الثاني: البشارات التي يتلقاها المؤمنون في الآخرة، ويوم الجزاء، وما يستقبلهم به الملائكة يومئذ من البشارة وأسباب السكينة والرضا ، قال تعالى[يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ]( ).
إذ يتغشى النور المؤمنين والمؤمنات يوم القيامة، ويكون علامة لهم، ودليلاً على غبطتهم بحسناتهم، وسعادتهم بصحائفهم البيض، وفرصهم ببلوغهم مراتب الفلاح، وتلقي الملائكة لهم بالبشارة وهو من عمومات قوله تعالى [َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
السادس: ما يرد من البشارات على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما فيها من الحجة التي تترشح من قوله تعالى في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ويمكن أن يخصص باب مستقل لهذا الوجه من البشارة ونسميه(البشارة في السنة النبوية) وفيه إحياء للسنة وإقتباس من دررها، وإظهار لما تتضمنه من العلوم والأسرار الغيبية التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(وذكر أنه دخل على أهل الصفّة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال : أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة، قالوا نحن يومئذ خير قال بل أنتم اليوم خير) ( ).
بحث منطقي
لكل علم مبادئ ومفاهيم تقتبس من مضامينه وموضوعاته وهي على أقسام:
القسم الأول: المبادئ التصورية، وهي التي يتوقف عليها تصور الموضوع وأجزائه وجزئياته، وإستحضار المحمول، وماهية المسائل حين طروها والخوض فيها.
وجاءت الآية بذكرموضوع المدد الإلهي للمسلمين في أرض جرداء، وبين جبال وتضاريس وعرة، مع قلة في العدد والمؤونة واليقين بعدم إمكان وصول مدد للمسلمين، لأنهم خرجوا جميعاً من المدينة للقتال، وليس من بلدة أخرى مسلمة غير يثرب وكان المسلمون يتوقعون عودة الكفار للقرائن المقالية والحالية منها:
الأولى: عدم تعرض جيش الكفار للخسارة الكبيرة في أحد كتلك التي نزلت بهم يوم بدر.
الثانية: كثرة الأخبار التي تصل بقرب عودتهم، لذا جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [مِنْ فَوْرِهِمْ] أي وإن أطلوا عليكم ساعة نزول هذه الآية المباركة، فليس من فاصلة ووقت بين الوحي بالبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين نزول الملائكة للنصرة.
ولو تأخر النبي في تلاوة هذه الآية على المسلمين، فهل تتأخر الملائكة في النزول فيه وجوه:
الأول: المدار على عودة الكفار فحالما يعودون ينزل الملائكة للنصرة.
الثاني: لابد من إجتماع تلاوة الآية وسماع المؤمنين لها، وفقههم لمضامينها وفيه مسائل:
الأولى: إنه موضوع لنزول الملائكة.
الثانية: يعلم المسلمون آية النزول وتتحقق البشارة.
الثالثة: يكون نزول الملائكة عيداً لأجيال المسلمين.
الثالث: المدار على نزول الآية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الأول والثالث، فالنزول على النبي إعلان سماوي لتحقق البشارة،وتنجز الوعد بالمدد الملكوتي حالما يعود الكفار للقتال.
الثالثة: إظهار الكفار الرغبة في الثأر والإنتقام من المسلمين.
الرابعة: طمع الكفار في تحقيق النصر بعد أن رأوا إنهزام أكثر المسلمين، في بدايات المعركة.
الخامسة: إدراك رؤساء قريش ويهود المدينة أنهم فشلوا في تحقيق الغايات التي جمعوا لها لها هذه الجيوش، وقطعوا المسافات الطويلة، وأنفقوا الأموال الطائلة من أجلها.
لقد أراد الله عز وجل من هذه الآية تصور المسلمين لكيفية المدد الإلهي، وإدراك قرب السماء منهم، وزوال المسافات بين السماء والأرض بالصبر والتقوى اللذين ذكرتهما الآية السابقة على نحو الشرط في النصرة، وبعث السكينة في نفوسهم بتصور حضور الملائكة في المعركة.
أي أن عالم التصور له موضوعية في طمأنينة القلوب التي ذكرتها هذه الآية، ليكون عالم التصور مناسبة ومقدمة لبعث القوة والعزيمة في نفوس المؤمنين، وإزاحة غبار الجزع والعناء الذي ترشح عن خوض المعركة بعدد وعدة قليلين.
وهل يساهم نزول الملائكة في إرتقاء المسلمين في فنون القتال، وإقتباس الدروس من الملائكة في المطاردة والهجوم، الجواب نعم، فان منافع النعمة الإلهية لاتنحصر في موضوع واحد،بل هي متعددة في أوانها، وفي أفراد الزمان اللاحقة ليكون النفع منها متعدداً بلحاظ وجوه:
الوجه الأول: ساعة نزول النعمة لينتفع منها الذين يحضرون نزولها.
الوجه الثاني: الذين يسمعون بالنعمة وموضوعها في زمانها وأوان وقوعها، وهؤلاء على قسمين:
القسم الأول: المسلمون، فيزدادون إيماناً.
القسم الثاني: الكفار الذين تصل إلى أسماعهم أخبار النعمة التي تفضل الله بها على المسلمين، وهم على شعب:
الأولى: الذين يتعظون منها وتدركهم التوبة، لتكون النعمة وسيلة لجذبهم إلى منازل الإيمان.
الثانية: الذين تمتلأ قلوبهم فزعاً وخوفاً من المنزلة والرفعة التي بلغها المسلمون.
الثالثة: من يظهر الكره والغيظ للمسلمين حسداً، قال تعالى [عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( ).
الوجه الثالث: الأجيال المتعاقبة التي يبلغها خبر وموضوع النعمة.
ومن إعجاز القرآن والشواهد على أنه معجزة عقلية، توثيق النعم الإلهية على المسلمين بكتاب سماوي لا يطرأ عليه التغيير، ولا تصل إليه يد التحريف، ولا يمكن أن يضيع أو تنسى آياته، وكيف يضيع والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتلونه خمس مرات في اليوم، وما تمر دقيقة على الأرض إلا وهناك أعداد من المسلمين يؤدون الصلاة أثناءها جماعات وفراداً بلحاظ أمرين:
الأول: التباين في ساعات الليل والنهار بين أقطار الأرض.
الثاني: سعة وقت كل فرد من الصلاة اليومية، فصلاة الصبح مثلاً يستمر وقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والذي يستمر نحو ساعة ونصف.
وإذا أجرينا حساب للساعات التي يستغرقها هذا الوقت خلال أربع وعشرين ساعة متحدة، بلحاظ التعدد في هذا الوقت في مجموع أقطار الأرض يكون نحو أربع عشرة ساعة ، فمثلاً يكون وقت صلاة الصبح في مكة في بعض الأيام من ساعة الخامسة إلى السادسة والنصف صباحاً.
فترى شطراً من المسلمين في بلدان المشرق يصلون صلاة الصبح والوقت في مكة العاشرة من مساء اليوم السابق وبعضهم يؤديها في بلاد المغرب والساعة في مكة المكرمة هي الثانية عشرة ظهراً، والكل يؤديها لنفس اليوم والتأريخ.
وهكذا بالنسبة للفرائض اليومية الأخرى، مما يدل على التداخل الزماني في أداء الصلاة من غير أن يتعارض مع لزوم تقيد كل بلد بأوان الصلاة أداءً وليس قضاء، ويتجلى هذا الأمر في هذا الزمان بأن يصلي المسلم في بلده صلاة المغرب ويفطر من صيامه، ويسافر إلى بلد آخر بالطائرة فيجد الشمس لم تغب بعد.
وقد بينت في رسالتي العملية (الحجة) صحة صيامه يومه ذاك، ويستحب له الإمساك لحين الغروب( ).
إن البشارة القرآنية عالم رحب فيه أمور:
الأول: بالبشارة يسيح المسلم في عالم الملكوت.
الثاني: يرجو المؤمن المدد والنصرة في ساحة المعركة.
الثالث: يتطلع المسلم إلى البشرى ومصاديقها في حالات الحرج والضيق وفي الرخاء والسعة، وطول اللأمل.
ومنهم من جعل الإنشاء من التصور لأن الصورة الحاصلة من الشئ في الذهن للإنشاء بلا نسبة خبرية يذعن لها العقل، ليكون عالم التصور أكثر سعة، وتتضاءل المسافات من الإعجاز القرآني بين عالم التصور وعالم التصديق، وهو من الشواهد على عظيم فضل الله عز وجل، وأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، يدركون ويرون مالا يرى الناس من مصاديق الخير والصلاح والفلاح، وأسباب الظفر والفوز في النشأتين.
القسم الثاني: المبادئ التصديقية: وهي التي توجب التصديق بثبوت ما يتعلق بالموضوع ليحصل معها الإقرار بنسبة المحمول إلى الموضوع.
وهذه الآية القرآنية بذاتها بشرى،وتتضمن بشرى ذات موضوع مخصوص، فمن إعجاز القرآن أن تكون الآية موضوعاً ووعاء لموضوع آخر مشابه له أو مباين.
وتدعو هذه الآية إلى التصديق بأمر خارق للعادة، لم يكن في حسبان المؤمنين حصوله يوم صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوم خرجوا للقاء الكفار، ولكنهم كانوا يرجون النصر، ويتطلعون إلى رحمة الله عز وجل في دحر الكفر وخزي رجالاته.
لقد صار المسلمون في حال ضيق شديد، فجاءهم الفرج من حيث لم يحتسبوا بالبشرى في هذه الآية الكريمة، ولا تحتاج تلك المعجزة إلى مؤونة في تصديقها.
ولم تستلزم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيان التفصيلي وإقناع المسلمين بأن معجزة نزول الملائكة حق، بل أن تلاوة الآية وحدها سببل للتصديق من وجوه:
الأول: تسليم المسلمين بأن القرآن حق وصدق.
الثاني:القرآن كله بشرى للمؤمنين في كل من:
الأول: نزول القرآن وأسباب النزول الخاصة بالآيات.
الثاني: كلمات القرآن تخترق شغاف القلوب.
الثالث: طراوة وعذوبة ألفاظه.
الرابع: ما تبعثه تلاوته في النفس من سكينة وطمأنينة.
الخامس: تقسيم القرآن إلى آيات، وكل آية مدرسة في موضوعها.
السادس: الأحكام التي تستنبط من آياته في الفقه والأخلاق والقانون وغيرها.
السابع: ما في القرآن من قصص الأنبياء والأمم السابقة، وما يقتبس منها من المواعظ والعبر.
الثامن: إعجاز القرآن ودخول الناس الإسلام بالإنصات له.
التاسع: مجئ القرآن بالبشارات بالمقام الرفيع والخلود الدائم للمؤمنين في الجنة، والحث على السعي إليها، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ).
العاشر: بشارات النصر والظفر بالكفار، وهزيمتهم أمام المسلمين، ففي القرآن الوعد للمسلمين بالغلبة والنصر، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الحادي عشر: الإخبار عما يلحق الكفار من الخزي والخلود في العذاب، وبما يطرد عن المسلمين الإنشغال بما عندهم من النعم الدنيوية الزائلة، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
الثاني عشر: لقد جاء القرآن بوصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بشير، ومن الآيات إقتران صفة الإنذار مع البشارة في صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
قانون “البشرى أرضية وسماوية’’
لقد أنعم الله عز وجل على آدم عليه السلام بالنفخ فيه من روحه، وجعله خليفة له في الأرض ليعمرها وذريته ويتجلى للناس بديع الصنع في خلقهم وتكاثرهم وعمارتهم للأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( )، على نحو الإشتراك والتداخل أي تتعلق ذات الآية بالآفاق والناس جميعاً بأن يروا أنفسهم كيف تكاثروا من آدم وحواء لينتشروا في الأرض ويسعوا للبحث عن منازل جديدة ويقوموا بتجفيف الأهوار، ودفن البحار وإصلاح البور من الأرض للتوسعة والسكن والإعمار والزراعة والصناعة.
وفي الإتحاد في الأصل، وكثرة النعم ، وتسخير الأرض لهم مسائل:
الأولى: لزوم عبادة الله، لأنها عنوان الشكر له سبحانه على هذه النعم العظيمة.
الثانية: الإقرار بالربوبية في خلق الإنسان وبديع هيئته، وفي هذا التكاثر والإزدياد المطرد للناس، آية في عظيم قدرة الله، وسعة رحمته وفضله على الناس.
الثالثة: في إتحاد الأصل وسعة الأرض، وإستقبالها للحرث والبذر بالخير والبركة والثمار دعوة للناس لإجتناب الحرب وأسباب القتال، ويجب أن يبتنى هذا الإجتناب على الإلتقاء في عبادة الله وفض الخصومات وفق أحكام الشريعة.
الرابعة: إن إنتشار الإنسان في الأرض من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فالله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، ومنه عدم تقييد إنتفاع الأنسان من الأرض وخيراتها، وكنوزها، وهل من صلة بين الخلافة في الأرض وبين نزول الملائكة لنصرة المسلمين، الجواب نعم.
فمن مصاديق الخلافة في الأرض حفظ الله لخليفته من وجوه:
الأول: تعاهد الإنسان بالرزق الكريم.
الثاني: منع السماء أن تقع على الأرض.
الثالث: خلق الأرض بكيفية وماهية تيسر للناس السعي فيها، والإنتفاع الأمثل من خيراتها.
الرابع: تقريب الإنسان من منازل العبادة وإعانته عليها، إذ تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء مبشرين ومنذرين، لترغيب الناس بالإيمان، وإدراكهم لوظائفهم العبادية وتقيدهم بالتكاليف.
لـقد جـاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقول للناس إن الله عز وجل خلقكم لتشكروه وتؤدوا الفرائض [فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا] ( )، فزحفت قريش بخيلها وخيلائها على المدينة للإجهاز على الإسلام والمسلمين.
وحمل لهم النبي البشرى بخير الدنيا والآخرة، فآمن وصدق به عدد قليل من الناس من المهاجرين والأنصار وجحد بنبوته أكثر الناس.
ولم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذين آمنوا به وإن كانوا في إزدياد، وكذا لم يكتف الكفار بالجحود والصدود عن نبوته الأمر الذي يؤدي إلى التضاد والنزاع، أما النبي فانه يواظب على الدعوة إلى الله لوجوه منها:
الأول: إنه يؤدي رسالة السماء.
الثاني: من وظائف النبوة جذب الناس للإيمان.
الثالث: تتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها للناس جميعاً قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الرابع: مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة للناس جميعاً كما تدل عليه الآية أعلاه.
الخامس:دعوةالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداق عملي لقوله تعالى [مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، لما فيها من الدعوة إلى عبادة الله، وتعاهد أفراد العبادة.
السادس: من خصائص النبوة وأتباع الأنبياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتجلى كل فرد منهما بمصاديق كثيرة منها:
الأول: الندب إلى الإسلام.
الثاني: نبذ الكفر والضلالة.
الثالث: الجهاد في سبيل الله.
الرابع: الدعوة إلى الخير والصلاح.
الخامس: جذب الناس إلى منازل الإيمان.
السادس: الحث على الأخلاق الحميدة بالحكمة والموعظة الحسنة.
السابع: جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن كتاباً سماوياً، تترى فيه الأوامر بدعوة الناس جميعاً إلى الإسلام.
الثامن: يتوكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون على الله عز وجل، ولايلتفتون إلى أهل العداوة والخصومة، قال تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
التاسع:كل ما يقوم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة هو بأمر من الله عز وجل قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وقد أمره الله عز وجل بتبليغ الرسالة وإنذار الناس، والقتال في سبيل الله.
وليس من حصر لأسباب عدم توقف النبي في الدعوة إلى الله لذا كانت حياته كلها وسنته الفعلية والقولية دعوة متصلة إلى الله.
العاشر: الإسلام والناس بحاجة إلى كثرة عدد المسلمين وإتقان أحكام الصلاة والفرائض الأخرى، وتعاهد أدائها والمواظبة عليها، الأمر الذي إنفرد به المسلمون من بين أهل الملل، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتتوارث أجيال المسلمين الفرائض والعبادات من غير تحريف ولا تغيير، ويؤدونها في كل زمان ومكان بذات الكيفية التي أداها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر: لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس، ولا تبلغ غاياتها إلا بظهور الإسلام، وتثبيت أحكام الشريعة التي تتضمن إنصاف الناس، ورفع الظلم والجور.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها جاءت بأمور:
الأول: أحكام الحلال والحرام.
الثاني: شؤون تنظيم الأسرة.
الثالث: إكرام المرأة ومنع الوأد.
الرابع: الندب إلى النكاح.
الخامس: الحث على الكسب وطلب الرزق الحلال.
السادس: سنن الأخلاق الحميدة.
السابع: العدل والإنصاف، ومنع الظلم.
الثامن: الهداية إلى طرق النجاة في الآخرة.
أما الكفار فانهم لم يكفوا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لوجوه:
الأول: إصرار الكفار على الجحود والعناد.
الثاني: الميل للدنيا وزينتها، وإختيارهم إتباع الهوى الذي يؤدي إلى الإمتناع عن أداء الوظائف العبادية، والإنقياد للأوامر الإلهية.
الثالث: حب الرياسات ولو بالظلم، وجمع الأموال بالباطل.
الرابع: كراهية القتال في سبيل الله، وقد سأل نفر من اليهود النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي يأتيه بالوحي فقال لهم: إنه جبرئيل فامتنعوا عن دخول الإسلام لأن جبرئيل يأمر بالقتال مع أن جبرئيل لايأتي بأمر من عنده بل هو رسول أمين، قال تعالى [مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ] ( ).
الخامس: لقد جعل الله عز وجل غشاوة على قلوب وأبصار الكفار، بسبب عنادهم وإصرارهم على الجحود فلا يتدبرون المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( ).
السادس: الجحود بالآخرة وعالم الحساب.
السابع: الإعراض عن البشارات والإنذارات التي جاء بها الأنبياء.
الثامن: إعتبار التحريف الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة، ومنه ما يتعلق بالبشارات الواردة في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته، ولزوم إتباعه ونصرته.
ويمكن تقسيم البشارة بلحاظ موضع صدورها إلى قسمين:
الأول: البشارة الأرضية، وهي على أقسام:
الأول: البشارة التي تأتي بالكتاب السماوي الذي يتلوه النبي.
الثاني: ما يرد على لسان النبي من البشارات وأسباب السعادة والغبطة والأمل.
الثالث: الرؤيا الصالحة، وفي قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة] ( )، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وعنه عليه الصلاة والسلام: ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات( ).
وعن أبي ذر: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن( ).
وليس من حصر للجهات والمواضيع التي تأتي منها البشارة وما يبعث السرور في نفس المسلم، ويزيده إيماناً.
الثاني: البشارة السماوية: وهي التي يأتي موضوعها من السماء، فبشارة الكتاب والنبي هي أيضاً من السماء لأنها تنزيل ووحي، ولكن المراد هنا البشارة التي يأتي موضوعها ومادتها من السماء كما في نزول الملائكة من السماء لنصرة المؤمنين تلك البشارة التي فاز بها المسلمون من بين أهل الملل السماوية.
وقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن مجئ الملائكة بالبشرى للأنبياء، كما في إبراهيم عليه السلام [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى]( )، فان قلت لماذا خص الله عز وجل بعض الأنبياء بالبشارة بالوعد، فالجواب في هذه البشرى حفظ لكلمة التوحيد ولمقام النبي المبشر والمبشر به المتحد والمتعدد، إذ أن إسحاق نبي وإبنه يعقوب نبي أيضاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ] ( ).
وجاءت الآية محل البحث لتخبر بأن الملائكة لم ينزلوا بالبشرى ولكنهم نزلوا مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، في ساعة الضيق والشدة، ويوم من أيام بناء دولة الإسلام، وتثبيت سنن التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة وكان نزولهم والإخبار به بشرى وسعادة للمسلمين.
وفيه شاهد على منزلة المسلمين الرفيعة، وعلو شأنهم بين الأمم بأن خصهم الله عز وجل بالإخبار عن نزول الملائكة لنصرتهم وهومن الدلائل على أنهم[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فقد تأتي النصرة الإلهية بالأسباب الظاهرة، وقوانين العلة والمعلول، ولكن في المقام جاءت بآية إعجازية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
قانون”تعدد البشرى’’
لقد جاءت هذه الآية بالإخبار عن أن البشرى عرض مترشح عن نزول الملائكة للنصرة، فهي ليست موضوعاً مستقلاً ولكنها محمول لموضوع مبارك وأصل لبشارات متعددة تتفرع عنها، وتلك آية في الفضل الإلهي على المسلمين.
لقد صار يوم أحد وما فيه من الشدة والضيق مناسبة لفتح أبواب غير متناهية من البشارات والسعادات التي هي رشحة من رشحات نزول الملائكة مدداً، وفيه شاهد على أن النعم الإلهية تبقى في الأرض وتتولد عنها نعم كثيرة، لذا جاءت الآية السابقة بقيد الصبر والتقوى كشرط لتلقي نعمة مجئ المدد الملكوتي للإشارة إلى لزوم إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية في أداء الفرائض والعبادات، والخشية من الله عز وجل لوجوه:
الأول: بقاء نعمة نزول الملائكة مدداً طرية وحاضرة عند أجيال المسلمين.
الثاني: نزول الملائكة أعم من أن يكون مدداً، فقد ينزلون بالبشارة والسكينة والبركة، والآيات الباهرات، وهناك أخبار كثيرة في السنة عن نزول الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء جبريل فقال لي : يا محمد إن ربك يقرئك السلام، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئاً إلا بأمرك، فقال له ملك الجبال: إن الله أمرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك، إن شئت دمدمت عليهم الجبال، وإن شئت رميتهم بالحصباء، وإن شئت خسفت بهم الأرض، قال: يا ملك الجبال فإني آتي بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون: لا إله إلا الله، فقال ملك الجبال عليه السلام: أنت كما سمَّاك ربك رؤوف رحيم( ).
الثالث: دوام وإتصال نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسلامته من الكيد والقتل.
الرابع:تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بآيات القرآن التي تنزل عليه، وحفظهم وتدوينهم لها، وقيامهم بتدارسها والعمل بمضامينها.
فقد أراد كفار قريش وغطفان بزحفهم على المدينة إستئصال المسلمين، ومنع وصول الآيات إلى الأجيال اللاحقة، فلم يكن هدف الكفار ومن قام بتحريضهم فقط أولئك المؤمنين الذين خرجوا إلى معركة أحد وكأنهم مكشوفون للعدو، بل أرادوا منع بقاء الإسلام وتوارثه في الأجيال اللاحقة.
ويمكن تصور هذا الأمر لو إنهزم المسلمون في معركة بدر وأحد وتعقبهم الكفار وأعادوا المهاجرين إلى أمصارهم وقراهم وأخذوا العهود على قبائلهم بخصوصهم، لذا جاء نزول الملائكة رحمة بالأجيال المتعاقبة من الناس، ليبقى المسلمون أمة تهدي إلى الإيمان، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
وفي الآية أعلاه بشارة دوام الإسلام وقوة المسلمين، وأهليتهم للإمامة وإصلاح الناس، والمواظبة على الدعوة إلى الله عز وجل بوجهين:
الأول: بالذات، وقيام المسلمين بأداء الوظائف العبادية، وهذا الأداء دعوة عملية للإيمان، من أسرارها أنها متكررة ومتعددة، إذ يؤدي المسلمون الصلاة خمس مرات في اليوم بمرأى ومسمع من الناس جميعاً، ويقومون بصيام شهر رمضان، ويؤدون الحج متجهين صوب البيت الحرام، الذي يستقبلونه في الصلاة كل يوم ومن جميع أمصارهم، حتى إذا جاء اليوم العاشر من شهر ذي الحجة طاف شطر منهم به، وهم يهتفون بصوت واحد (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لبيك).
ومن معاني الرحمة والتخفيف في الشريعة الإسلامية، إنحصار التكليف بالحج بالمستطيع ولمرة واحدة في العمر قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، ومجئ لفظ (الناس) وما فيه من العموم والإستغراق دعوة للناس جميعاً للإقتداء بالمسلمين، واللحاق بهم في أداء الوظائف العبادية، وترغيبهم بالإسلام بإعتباره واجباً عقائدياً على كل مكلف ومكلفة.
لقد أراد الله عز وجل بنزول الملائكة يوم بدر وأحد إستمرار فريضة الحج على وجوه:
الأول: إتخاذها سبيلاً للهداية والرشاد.
الثاني: إنها وسيلة للدعوة إلى الإسلام.
الثالث: إنها واقية من حر النار.
الرابع: مناسبة لإحراز المسلمين الثواب يوم القيامة ،من أدى الحج، ومن أعان وساعد في الوصول إلى البيت الحرام وأداء المناسك.
وسعى الكفار لصد الناس عن سبيل الله، ومنع المسلمين من تعظيم شعائر الله، لأن هذا التعظيم دعوة للناس جميعاً للهداية والإسلام.
الثاني: بشارة دوام الإسلام بالعرض والأثر المترشح عن بشرى نزول الملائكة مدداً، بأن تمتلأ قلوب الكفار رعباً وفزعاً فيكفون عن التعدي على الإسلام، ويشعر الناس بالسعة والمندوحة في دخول الإسلام لوجود المقتضي وإزالة المانع.
أما المقتضي فالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها نزول الملائكة لنصرته.
وأما زوال المانع فان نزول الملائكة سبب لجعل الكفار في حال من الضعف والوهن يعجزون معها عن صد الناس عن دخول الإسلام بعد أن كانوا يحرضونهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمر التأريخ بحالات تجد فيها الناس يتغيرون على نحو العموم الإستغراقي في ميولهم ومذاهبهم فلا يستطيع السلطان والكبراء إبقاءهم في ذات المنازل من الإنقياد والتبعية لهم، وهو عنوان إنقضاء أيام الممالك والدول إذ يكون الناس مستعدين للإستجابة للدعوة بالتغيير والتطلع إلى قيادة تأخذ بأيديهم نحو التغيير.
ومن الآيات أن الإسلام دين سماوي، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله عز وجل نبياً وإماماً للناس جميعاً، وتلك رحمة فاز بها أهل زمانه من بين أهل الأرض فلا غرابة أن تجد قولاً بأن المراد من لغة الخطاب في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أنهم المهاجرون خاصة، ونسب هذا القول إلى عبد الله بن عباس، وعن عكرمة أنها نزلت في عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة( )، والمختار إرادة المسلمين جميعاً في الخطاب في الآية، من غير تعارض مع التخصيص الذي تدل عليه أسباب النزول.
وجاء نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، ليتعاهد المسلمون تلك المرتبة، ويسيحوا في الأرض ويقوموا بتأدية العبادات والدعوة إلى الله، ويكون موضوع نزول الملائكة لنصرتهم شهادة سماوية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباع الناس له.
لقد بدأت الآثار المباركة لنزول الملائكة من حين المعركة إذ تكّونت جحافل المجاهدين والسرايا وأخذت تخرج شمالاً وجنوباً للفتح وتأمين أطراف المدينة المنورة وما حولها، كي لا يستطيع العدو الوصول إلى المدينة ومهبط التنزيل، فكان هذا الخروج حاجة للإسلام، وليس مع المجاهدين إلا سلاح التوكل على الله، واليقين بأن الله عز وجل لن يتركهم، وأن رحمته ونصره لن يغيب عنهم.
وهو من الشواهد والمعاني القدسية لمجئ الإخبار عن نزول المدد الملكوتي بلغة الخطاب للمؤمنين، بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ]( ).
فلم تنحصر النصرة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده وهو المنصور المؤيد، بل جاءت لأصحابه المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، وكأن البشرى تدعوهم للخروج للغزو بعد معركة أحد.
ومن مصاديق هذا الخروج، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر مؤذنه أن ينادي في اليوم التالي لمعركة أحد بالخروج في أثر العدو لأن ذات البشرى مدد وعون وسلاح سماوي مصاحب، وهو من الشواهد على الحاجة لحفظ القرآن من التحريف، وعلى لزوم تلاوته في الصلاة اليومية لما فيها من التذكير المتصل بفضل الله عز وجل على المسلمين، والدعوة للمناجاة بتحدي الكفار، ومواجهتهم في الأسواق والمنتديات وميادين القتال.
إن منافع البشرى بنزول الملائكة لا تنحصر بيوم أحد، أو بساحة المعركة وحدها بل هي مدد معنوي يساهم في تقوية قلوب المؤمنين، ويكون مقدمة لطلب المبارزة، والخروج للقتال،لتعدد البشرى الواردة في هذه الآيات بتعدد المسلمين وصيرورتها مدداً مصاحباً لهم في حياتهم العامة، وفي المساجد والأسواق لما تبعثه من مضامين العز والسكينة، لذا قالت الآية [وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ].
فطمأنينة القلوب مستديمة ودائمة وتنبسط على آنات الليل والنهار، وتصاحب المسلمين والمسلمات حتى في بيوتهم، فتمنع من الكدورات الظلمانية، وأسباب النفرة داخل الأسرة.
قانون”البشرى معجزة’’
تتصف المعجزة بأمور ثلاثة هي:
الأول: أنها أمر خارق للعادة، لم يألفه الناس، ويأتيهم دفعة واحدة، يجذب الأبصار والأسماع، ويبهر العقول ولم تشهد الأرض نزول الملائكة للنصرة من قبل.
وأصبح المسلمون دفعة واحدة أقوى جيوش الأرض، وأكثرها منعة،وصار معصوماً من الهزيمة والخسارة ببركة المدد السماوي.
الثاني: تتضمن المعجزة التحدي للناس جميعاً، وتظهر عجزهم وقلة حيلتهم، وتخلفهم عن الإتيان بمثلها، ولو إجتمعوا.
وقد ألقى موسى عصاه فسجد السحرة إقراراً منهم بالمعجزة، قال تعالى [فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ] ( )، فتكررت مادة (ألقى) في الآيتين، بأن كان رد فعل وأثر إلقاء موسى لعصاه أن القى السحرة بوجوههم ورموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين لله عز وجل من غير فترة بين الإلقائين أو تشاور بينهم عن صدق معجزة موسى (روي أنهم قالوا : إن يك ما جاء به موسى سحراً فلن يغلب ، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا)( ).
ومن الآيات ترتب الأثر والنفع العظيم على التحدي الذي تأتي به المعجزة ومنه في المقام وجوه:
الأول: مبادرة السحرة إلى السجود، وفيه مسائل:
الأولى: إنه طاعة لله عز وجل.
الثانية: إظهار السحرة إعترافهم بنبوة موسى عليه السلام.
الثالثة: هذا السجود رسالة إلى فرعون وجميع من حضر يوم ميقات التحدي والذي كان يوم عيد عند آل فرعون، كما في قوله تعالى [مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى]( ).
الرابعة: عدم إكتفاء السحرة بالإقرار بالقول بصحة نبوة موسى عليه السلام، خشية تحريف أقوالهم من قبل آل فرعون، والتأثير والضغط عليهم بالإغراء والتخويف خصوصاً وأنهم سألوا الأجر قبل التحدي، ووعدهم فرعون به وبالقربى والزلفى عنده[قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] ( )، فجاء التحدي ليقطع هذا الرجاء والإغراء ببرهان وبينة، ويجعل أبصار وقلوب السحرة متوجهة لله عز وجل رجاء وخوفاً، وكذا بالنسبة لآية نزول الملائكة فانها جاءت لتحدي رؤساء الكفر والضلالة وجعل الناس يميلون إلى الإسلام بدل الميل عليه، وهي سبب لبعث القوة والمنعة عند المؤمنين.
وميدان المعركة هو أهم منازل التحدي، ويتجلى فيه التحدي بأبهى وأوضح معانيه،لذا ترى الفرسان يخرجون طلباً للمبارزة بلحاظ أنها عنوان التحدي على نحو القضية الشخصية.
وجاء التحدي يوم أحد من السماء قولاً وفعلاً، فلم ينحصر الأمر بآيات الإنذار والوعيد والتخويف للكفار، بل جاء الملائكة موضوعاً للتحدي، وهم جاهزون للقتال ومطاردة الكفار، وإرجاعهم إلى مكة بلباس الخزي والهزيمة والإنكسار.
وقد أدرك الكفار هذه الحقيقة لما رأوه يوم بدرمن قتال الملائكة فعجّلوا بالإنسحاب ليصاحبهم الخزي بسبب عجزهم عن تحقيق أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها بجيوشهم ومعهم النساء والغلمان، وهل تجمع البشرى بنزول الملائكة شرائط المعجزة الجواب نعم، من وجوه:
الأول:تستقرأ حال المعركة، ونتيجة القتال بلحاظ الأسباب من عدد الجنود والعتاد والمؤون مع أخذ عنصر المباغتة والتضاريس وحال الدفاع أو الهجوم في الإعتبار.
وجاء كفار قريش بجيش يبلغ عدده نحو ثلاثة آلاف وهم يعلمون أن عدد المسلمين أقل بكثير من هذا العدد، ويكادون يعدونهم بأسمائهم من غير حاجة للإستعانة بشبكة عيون وفرق إستطلاع.
فقد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علنية، وأمراً ظاهراً، وليست هي دعوة باطنية خفية، لما في العلانية من موضوعية لإظهار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجذب الناس للإيمان بها،وهذه العلانية نوع تحد للكفار، وشاهد على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يخش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الكفار أن يمكروا بهم بسبب إسلامهم.
ولم يأت التحدي من طرف واحد أي من المسلمين، فقريش تأتي بأسباب العناد بصيغة التحدي والوعيد، على نحو القضية الشخصية والنوعية مع الفارق في ذات التحدي موضوعاً وأثراً (وروي أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً) ( ).
ومن النوعية ما كان يرسله أبو سفيان وأصحابه من الوعيد والتخويف للمسلمين.
فيأتي الرد بتحد مثله ولكنه تحد سماوي، ذو لغة لم يسمع بها العرب، وهي آيات من القرآن تتضمن البشارة والإنذار إلى أن جاء موعد اللقاء ليتحقق المصداق العملي للتحدي السماوي بنزول جنود لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ليتجلى معنى التحدي، وثبوته كصفة ملازمة للمعجزة ، وفضح العناد والإصرار الذي يخترعه الكفار في مواجهة المعجزة، ومحاولاتهم إبطال ما لها من الأثر، وما لمضامين التحدي فيها من الموضوعية في جذب الناس للهداية وسبل الإيمان .
لقد أدرك الكفار أن التحدي وجه من وجوه المعجزة، وسبب من أسباب تصديق الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقاموا بمقابلته على نحو العناد والإستكبار، إذ أنهم لم يأتوا بالتحدي القولي وحده، بل ساروا بالجيوش الكبيرة للقضاء على الإسلام، مما يدل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف.
وليس من آية في القرآن تتضمن لفظ (السيف) ولكن إحتاج المسلمون الدفاع عن أنفسهم، وكانوا غير قادرين على مواجهة الأعداء الذين هجموا عليهم، فأمرهم الله عز وجل بسلاح الصبر والتقوى كما في الآية السابقة ، وبشرّهم بالنصر والغلبة.
لقد جاءت هذه الآية بتحد يعجز الكفار عن الإتيان بمثله، وصاروا بين أمرين:
الأول: مواجهة هذا التحدي والعودة للقتال.
الثاني: الهرب والإنسحاب إلى مكة، والإكتفاء بما حققوا يوم أحد من السلامة من الخسارة التي لاقوها يوم بدر.
وإختاروا الثاني مما يدل على الإقرار الضمني بصدق التحدي في هذه الآية، وما يدل عليه من الوعيد والتخويف.
ولقد بدأت بهذه الآية رحلة جديدة في لغة المعاملة بين المسلمين والكفار، إذ صارت موضوعية للغة التحدي في رجحان كفة الإسلام، وأصبح الكفار عاجزين عن مواجهة التحدي، وأخذ الناس يدركون معاني صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحرصون على متابعة أخباره، وما يأتي به من الآيات.
الثالث: سلامة المعجزة من المعارض الذي يزاحمها، ويكون بعرض واحد معها، فإذا جاء الناس بمثل المعجزة فانها تفقد موضوعها ولا تحقق غاياتها، لذا فان المعجزة تنفرد بإنعدام المثل والشبيه لها في قدرات الناس وإن إجتمعوا، قال تعالى [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ] ( ).
فلم يكن لآيات القرآن معارض في فصاحتها وأسرار نظمها، وما فيها من لطائف المعاني، وتعدد الغايات الحميدة، والعلوم المتعددة التي جاء بها القرآن ، وتأسيسه لنظام إجتماعي وأخلاقي دقيق يجذب النفوس المنكسرة، ويبعث على الطمأنينة والغبطة لما فيه من سيادة أحكام العدل والإنصاف، وإخبار عن عالم الثواب والعقاب على نحو التفصيل والبيان، وبما يمنع من الشك والترديد والخلط.
ولما سار الكفار لقتال المسلمين خرج المسلمون لقتالهم وتقابل الفريقان في بدر ثم في أحد، ولكن عندما نزل الملائكة لنصرة المؤمنين عجز الكفار عن المعارض ، ولم يستطيعوا جلب المدد والعون، ومواجهة الملائكة، ليكون نزول الملائكة معجزة سالمة من المعارضة، وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوة للناس لدخول الإسلام.
فان قلت جاءت هذه الآية على نحو البشرى فهل هي معجزة سالمة من المعارض أيضاً، الجواب نعم، إذ يعجز الكفار عن الإتيان بمثلها، فلا يستطيع رؤساء جيش قريش زفّ بشارة مثلها إلى جنودهم، وكما أنهم عجزوا عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، فإنهم عجزوا أيضاً عن القول بذات البشرى وموضوعها ومضامينها.
وتلك آية أخرى في بشارات القرآن وبيان لموضوع التحدي في قوله تعالى [قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ]( )، بأن التحدي لا ينحصر بألفاظ السورة، بل يشمل موضوعها ومضامينها القدسية، فحينما تأتي آية بالبشارة بالنصر عند تقابل الجيشين، فان الكفار يعجزون عن الإتيان بمثلها فقد إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون في الدعاء والإستغاثة بالله عز وجل صبيحة يوم بدر.
(وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين إستقبل القبلة و قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه) ( ).
جاءت البشارة بنزول الملائكة [أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، فاسقط في أيدي الكفار وأدركوا أنهم يعجزون عن الإتيان بمثل هذه البشارة والوعد الكريم الذي لم يتخلف عنه مصداقه بل تحقق في ذات الوقت،وهو من عمومات وتفسير قوله تعالى [مُرْدِفِينَ].
وكان أبو جهل يحث جيش الكفار على القتال وتصغير حال وقدرة المسلمين ويقول (ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد) ( )، فجعل الله عز وجل المدد من الملائكة بشرى وسكينة للمؤمنين، ولايستطيع رؤساء جيش الكفار أن يبعثوا معشار تلك البشرى والسكينة في قلوب جنودهم، بل بالعكس فان إستخفافهم بالمسلمين جعل جيشهم يختار فزعاً الهزيمة والفرار في أول ساعات القتال.
وتلك مسألة فطنت لها قيادات الجيوش في هذا الزمان فاخذت تبالغ في قدرات العدو قبل المعركة، كي يستعد الجيش لقتاله، ولكن القرآن سابق لهم وبما هو أدق وأعم بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، أي لايكون إستعدادهم للقتال بلحاظ قدرات وعدد جيش العدو، بل يكون ببذل الوسع وتسخير القدرات والطاقات، وإنفاق الأموال والقيام بالتدريب وجمع السلاح، وان كان العدو ضعيفاً أو قليل المقدرة.
قانون “الإعجاز الموضوعي للآية’’
القرآن هوكلام الله المعجز الذي لاترقى إليه صيغ البلاغة والفصاحة، ليبقى إماماً للناس جميعاً في أمور العبادات والمعاملات والأحكام، والإعجاز في القرآن حاجة لكل إنسان لأنه وسيلة لجذب الناس للإيمان، وحجة وبرهان، ودعوة لنبذ الكفر والشرك، وقد إنتشر الإسلام في الأعم الغالب بالقرآن وآياته لما له من سلطان على القلوب.
لقد نفخ الله عز وجل في آدم من روحه وأنزله للأرض بعنوان الخليفة، لتنتشر ذريته في الأرض، ويقومون بعمارتها، وبعث الأنبياء من بينهم ومعهم الكتاب هادياً للصلاح، ومانعاً من الفساد، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن كتاباً جامعاً للأحكام، وناسخاً لما قبله، وغير منسوخ، وعصمته من النسخ من وجوه بشارة الأنبياء والكتب السماوية السابقة به.
فقد أخبرت عنه التوراة والإنجيل، وجاء ليصدق ما قبله من الكتب ويحمل بذاته تصديق نفسه، والشهادة على نزوله من عند الله، فان طالت يد التحريف الكتب السابقة وما فيها من البشارات، وقام أرباب المصالح الدنيوية بتبديل ما ورد فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالمعجزات الحسية التي تصدق نبوته، إلى جانب معجزة القرآن العقلية التي تتجدد مع الزمان وإرتقاء العلوم.
فمن إعجاز القرآن أن آياته الباهرات لا تتخلف عن العلوم المستحدثة، بل تحافظ على مقامات الإمامة في كل علم، وتكون لها الزعامة في كل ميدان من ميادين الخير والفلاح، وفيه شاهد على حاجة الناس للقرآن، وزجر عن الإعراض عنه، وعما فيه من القوانين والقواعد الكلية التي تكون نبراساً وضياء ينير دروب الهداية والرشاد للسالكين نحو الخلود في النعيم.
وإعجاز القرآن من أسباب ترغيب الناس للرجوع إليه، وهو من اللطف الإلهي بأن يحبب الله الواجب لقلوب الناس، ويجعلهم ينفرون من الحرام والمنكر.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الصدور عن القرآن في أمور الدين والدنيا، فجعله جامعاً مانعاً، جامعاً للأحكام والسنن والآداب،ومانعاً من الضلالة والقبيح، ومتضمناً للدرر العلمية والكنوز العقائدية والأخلاقية وهي على أقسام:
الأول: ما يكون ظاهراً من اللفظ ولا يحتاج إلى وسائط لإستنباطه.
الثاني: ما يحتاج إلى تدبر وتأمل.
الثالث: العلوم التي تستلزم الإستنباط والإقتباس، وبذل الوسع لإستخراجها من خزائن كلمات وآيات القرآن.
أما الأول فهو في متناول الناس جميعاً، وبامكانهم النهل والأخذ منه، ويكفي موضوعاً وحكماً للحجة والبرهان على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
وأما الثاني فهو قريب من الناس وينتفع منه المسلمون، ويدركونه بتلاوة الآيات في الصلاة، وجعل الله عز وجل الترتيب عوناً للتدبر في معاني الآيات، قال الله سبحانه [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
وأما الثالث فهو باب فتحه الله عز وجل للعلماء، وفيه دعوة لأرباب العقول بالسياحة والغوص في بحار الآية القرآنية، وإستخراج اللآلئ التي ينتفع الناس جميعاً منها، ولا يعني التقسيم أعلاه التباين بين كل قسيم و غيره بل جاءت قسمة إستقرائية للبيان وشرائط القسمة أن تكون الأقسام غير متداخلة، وموضوعاتها متباينة.
فما يصدق على أحدها لا يصدق على الآخر، ولكن علوم القرآن متداخلة والإنتفاع من الآيات متعدد وليس له حد من جهة الكثرة، فهو من الامنتهي الذي لا يعرف الإنقطاع والتوقف، وهو من أسرار تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية، لما في التلاوة من إستظهار لعلوم وكنوز القرآن، وإستحضار لدلالاته، وهي سبب في تهذيب النفوس، الآيات وإصلاحها للنفس (وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبى صلى الله عليه و سلم فأخبره فأنزل الله تعالى وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات، فقال الرجل إلي هذا، فقال بل لجميع أمتي) ( ).
وقد تقدم تقسيم إعجاز القرآن إلى:
الأول: الإعجاز الذاتي وإثبات القرآن بذاته صدق تنزيله من عند الله من غير الإستعانة بالدلائل والوسائط الخارجية التي تؤكد نزوله، وإن كانت أكثر من أن تحصى.
الثاني: الإعجاز الغيري الذي يتعلق بمصاديق القرآن، والشواهد التي تدل على مضامينه القدسية الخارقة، وليس من حصر لهذه المصاديق وميادينها لأن القرآن يتغشى كل العلوم وأحوال الناس، والسجايا والعقائد.
الثالث: الإعجاز الجامع للذاتي والغيري وبما يفيد الجمع والتداخل والإشتراك وهو لايتعارض مع شرائط القسمة بأن تكون الأقسام متباينة غير متداخلة كما هو المستفاد من عنوان وموضوع القسمة، ويستقرأ عدم التعارض بلحاظ إجتماع الإعجاز الذاتي والغيري، وتجلي معاني قدسية إضافية من هذا الإجتماع تكون حجة وشاهداً على صدق نزول القرآن من عند الله، فمثلاً يتصدى القرآن لأهل الشك والريب والكفار الذين نعتوه بأنه شعر، وفيه مسائل:
الأولى: يتضمن القرآن الدفاع عن نفسه بنفسه، وهو من الإعجاز الذاتي.
الثانية: دفع الإفتراء والريب عن القرآن، وهو من الإعجاز الغيري.
الثالثة: إصلاح المجتمعات وتهذيب لغة الجدال والإحتجاج، وجعل الناس يرجعون إلى القرآن ذاته لمعرفة كنه وأسرار آياته، وهو من الجامع للإعجاز الذاتي والغيري.
وتشترك الأقسام الثلاثة في بيان معاني الإعجاز الموضوعي للقرآن، ودعوة الناس للإنتفاع الأمثل منه في العبادات والمعاملات.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ولكنه سبحانه لم يترك الإنسان يواجه الإفتتان بذاته، بل رزقه العقل الذي هو رسول باطني ليكون آلة ترجيح الصحيح والنافع، وإجتناب الفاسد والضار، وتفضل ببعث الأنبياء والكتب السماوية.
وإذ تزاحمت وكثرت الفتن على الناس، وطرأ التحريف على الكتب السماوية، وسادت قيم وأفكار الضلالة والشرك جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبعث الحياة من جديد بملأ القلوب بالإيمان والصلاح، وطرد أسباب البلاء والعقاب الإلهي العام، ومع أن نبوته رحمة ونجاة للناس جميعاً فان الكفار وشطراً من أهل الكتاب قابلوها بالشك والريب.
وجهّزت قريش الجيوش الكبيرة لقتل النبي ووأد الإسلام، فكان القرآن المؤازر والناصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا بنبوته، والإمام الهادي إلى الرشاد والسداد، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، وهو الحجة العظمى التي تصاحب المسلمين فتزيدهم إيماناً، وتكون واقية لهم من الشك والتردد، وتهاجم الكفار فتبعث في نفوسهم الخوف والفزع.
فمن الآيات أن الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصاحبه الخوف والفزع، ومن أهم علله آيات القرآن ودلالات صدق نزولها من عند الله، وما فيها من لغة البشارة والإنذار وإعجازها البلاغي والموضوعي، إذ أنها تجعل الجنة قريبة من المحسنين، والنار مطلة على الكافرين تحثهم على الهروب منها وطلب النجاة، والسلامة والأمن بدخول الإسلام وأداء العبادات والكف عن المعاصي والذنوب.
ومن إعجاز القرآن الموضوعي وجوه:
الأول: أسباب النزول من الإعجاز الموضوعي للقرآن لأنها رحمة وحضور سماوي في قضية عين وواقعة شخصية، وفي علم الأصول إن قضايا العين لايقاس عليها، ولكنه قياس مع الفارق في المقام، إذ أن أسباب النزول كاشف موضوعي عن معاني الآية، وعون في تأويلها والإتعاظ منها، وتستقرأ من أسباب النزول موعظة وسنة وحكم.
الثاني: عدم تخلف القرآن عن الإكتشافات العلمية الجديدة، لقد كان الناس ولآلاف السنين على حياة متشابهة في وسائظ النقل والإتصال وفجأة حصلت الثورة الصناعية الثانية التي شملت الميادين المختلفة إلى جانب السياحة في الفضاء الخارجي لتكون الحضارات والمبادئ أمام تحد كبير، ولكن القرآن حافظ على إمامته من جهات:
الأولى: الإعجاز البلاغي للقرآن.
الثانية: إحاطة القرآن باللا محدود من الوقائع والأحداث.
الثالثة:حاجة الناس للقرآن أمس واليوم وغداً.
الرابعة:تضمن القرآن معاني العلوم الحديثة على نحو الإجمال، قال تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
الخامسة: جاءت آية الإسراء لبيان عظيم قدرة الله عز وجل، وسبق الأنبياء والمرسلين في طي الأرض، والسياحة في عالم السماء قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
وكان إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى بيت المقدس وعودته في ذات الليلة آية وإخباراً متقدماً زماناً على العلوم الحديثة في عالم النقل الجوي، ودعوة لعدم الإفتتان بما يحدث من علوم في هذا الباب، لأنها من رحمة الله.
وقد ذكرنا في باب إعجاز القرآن أنه سلاح للدخول في نظام العولمة والتصدي للمفاسد العرضية التي تأتي معها( ).
السادسة: حث القرآن على الشكر عند النعم لدوامها، وزيادتها، والمنع من الجحود والكفر بها.
السابعة: القرآن معجزة عقلية، تخاطب الألباب وتهدي إلى الرشاد، وتفتح أبواب العلم والكسب للناس، وتجعل النفوس تسيم سائحة في منازل الآخرة، وتظن أنها تقارب الإستقرار في النعيم الدائم.
الثامنة: تبرز بين الحين والآخر، وفي هذا العصر أو ذاك ظواهر إجتماعية وإقتصادية وسياسية، وتستحوذ على إهتمام الناس، ولكن القرآن لا يفتر في دعوتهم إليه، والصدور عنه، والنظر إلى تلك الظواهر ببصيرة وعين إيمانية، وهو الحرز من الضلالة والتيه.
التاسعة: تأتي آية قرآنية من بضع كلمات لتؤسس نظاماً ثابتاً يحكم الصلات بين المسلمين والناس، وفيما بين المسلمين أنفسهم، كما في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
العاشرة:وجود أسباب تربط كل جيل من الناس بالأجيال السابقة وفق قواعد إيمانية، مع بقاء هذه الأسباب بذاتها إرثاً للأجيال اللاحقة من غير أن يطرأ عليها تغيير أو تحريف.
وكما أنعم الله عز وجل على الأجيال المتعاقبة من الناس بالشمس والقمر والنجوم وجريانها في نظام دقيق ثابت، فإنه سبحانه أنعم على المسلمين بالصلاة اليومية التي جاء بها القرآن لتكون مرآة للنظام الملكوتي، وسبباً لحفظه وتعاهده، ومنع الكواكب من الإصطدام بعضها ببعض، لأن الحياة الدنيا لا تتقوم إلا بالعبادة، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الحادية عشرة: تنظيم الأحوال العامة للناس، ومنع الخلاف الذي يؤدي إلى الفتنة والإرتباك فمثلاً جاء ضبط الشهور في القرآن وتحديد عددها بلحاظ الهلال إعجازاً غيرياً للقرآن لجعل الحياة المعاشية والإجتماعية مستقرة بواسطة العبادات كالصيام والحج، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
الثانية عشرة: منع الظلم والحيف في المعاملات والنظم التشريعية، فتجد أحكام القرآن في باب الميراث دقيقة وشاملة، ومانعة من الخصومة والنفرة، لتبقى صلة الرحم هي الأهم في المقام، وتكون عوناً على تعاهد العبادات والإعتبار من الموت، وإتخاذه موعظة وعبرة.
الثالثة عشرة: القرآن مدرسة التذكير بالآخرة، وطريق النجاة فيها، ومن إعجازه وصف الجنة والنار بحيث يشعر التالي للقرآن أو المستمع له بأنهما قريبان منه مع الفارق بينهما في ذات الآيات، بان الجنة تدعوه لها، وترغبه بالسعي إليها، ويدله القرآن على البلغة إلى النعيم الخالد فيها، أما تلاوة الآيات التي تذكر النار فانها تجعله ينفر منها، ويشعر بحرها ويحس بلهيبها وهو يهرب منها ليدرك أن سبيل النجاة بالقرآن والإمتثال لما فيه من الأوامر، وإجتناب ما نهى عنه.
الرابعة عشرة: تعدد صيغة النداء والخطاب في القرآن، مع التباين الموضوعي في هذا التعدد، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ( )، خطاباً للناس جميعاً، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]( )، خطاباً للمسلمين وفيه حث لهم على التقيد بأحكام الشريعة، ومبادئ الإسلام، وبين الخطابين عموم وخصوص مطلق، إلا أن يكون هناك نداء خاص موجه إلى الكفار بلفظ (ياأيها الناس) فتكون النسبة بخصوصه العموم والخصوص من وجه.
إن هذا التعدد في النداء إكرام إضافي للمسلمين، إذ ينتفعون من الندائين، ويتعاهدون كل واحد منهما، وهو من الإعجاز الموضوعي للقرآن في تقسيم الناس بلحاظ الإيمان، وقيام المسلمين بحفظ معاني النداء القرآني مطلقاً.
الخامسة عشرة: لقد جعل الله عز وجل مدرسة النبوة ضياء ينير دروب الهداية للسالكين، وآية تدل على العناية الإلهية بالناس، وبرهاناً على إتصال رحمة الله تعالى بأهل الأرض، وحجة تدعو إلى الإيمان وتمنع من الضلالة والكفر، فجاء القرآن بتوثيق قصص الأنبياء، وبيان ما جاءوا به، ليمنع وإلى يوم القيامة التحريف والإفتراء على الأنبياء.
وتتضمن الآية محل البحث إعجازاً موضوعياً من وجوه:
الأول: يتضمن القرآن البشارات.
الثاني: تأتي البشارة في هذه الآية في ساعة الضيق والشدة.
وتكون ذخيرة لمثلها عند الأجيال المتعاقبة للمسلمين، ومجئ البشارة عند الضيق يزيدها حلاوة، ويجعل النفوس تستقبلها بفرح شديد، وهو أمر ظاهر للوجدان في كل زمان، فعندما تكون الجماعة والطائفة في حرج وشدة وتتقطع بهم الأسباب، وتأتيهم البشارة بالسلامة والظفر والفوز فان السعادة تغمرهم ويصعب عليهم السيطرة على جوارحهم وألسنتهم، لذا جاءت الآيات بالحث على شكر الله.
وجاءت الآية السابقة بالأمر بالصبر والخشية من الله بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( )، كي يتلقى المسلمون البشرى بالشكر لله عز وجل، ويجتنبوا الغرور والبطش والفتك.
إنما هلكت الأمم السابقة بالغرور والطغيان والإبتعاد عن ذكر الله، وترك سنن الإنصاف، فمن إعجاز هذه الآيات أنها تدعو المسلمين إلى الصبر والتقوى على نحو الإطلاق، أي عند الخوف والأمن، والحزن والفرح.
فــحينما يأتي الوعد بنزول الملائكة، والبشرى بالنصر والظفر للمسلمين فانهم يقابلونها بالذكر والشكر لله عز وجل، والإجتهاد في طــاعة الله عز وجل.
الثالث: مجئ البشارة لعموم المؤمنين في ميدان المعركة بدليل قوله تعالى[بُشْرَى لَكُمْ] من غير إستثناء لبعضهم، إذ إنخذل المنافقون في الطريق قبل الوصول إلى ميدان المعركة يوم أحد، ليكون الخروج للقتال مناسبة للتمييز والكشف.
الرابع: في الآية إصلاح لأحوال المسلمين، وهي مناسبة لتوثيق الأخوة الإيمانية بينهم، وحسن التوكل على الله ، وقد جاء الأمر الإلهي بالتمسك بالقرآن بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وجاءت هذه الآية مقدمة وعوناً لتحصيل هذا الإعتصام، وفيه آية من اللطف الإلهي بأن يأمر الله سبحانه ثم يتفضل بالمدد والعون للإمتثال العام من المسلمين لما أمر به سبحانه، فهو سبحانه لم يأمرهم بالإعتصام بحبله مع إستمرار حال الخوف والفزع وهجوم الجيوش الكبيرة من الكفار عليهم، بل يتفضل الله سبحانه بالبشارة وأسباب السعادة على جميع المسلمين ليتأهلوا لأمور مباركة منها:
الأول: التمسك بالقرآن والسنة النبوية.
الثاني: طاعة الله ورسوله.
الثالث: التقيد بسنن العبادة.
الرابع: إجتناب المعصية.
الخامس: هذه الآية وثيقة سماوية تدل على تلقي المسلمين البشارة بنزول الملائكة لنصرتهم بالتصديق والقبول، فان قلت ليس فيها ما يدل على هذا التصديق إنما هي إخبار عن ترشح البشرى عن الإخبار السماوي، والجواب أن وصف المدد بأنه بشرى شاهد على تصديق المسلمين بالمدد ونزوله من عند الله.
فمن معاني البشرى إنعكاسها وظهورها على المسلمين مجتمعين ومتفرقين، وبعد أن همت طائفتان منهم بالفشل والخور والجبن يوم معركة
أحد كما جاء في قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( )، وترك
أكثر المؤمنين مواقعهم في ميدان المعركة لولا ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة الكفار، فانهم خرجوا في اليوم الثاني من المدينة في أثر العدو، وتلك آية لم تحصل عند أي جيش من الجيوش قديماً وحديثاً، فالعدو أكثر عدداً وعدة ويتوعد بالرجوع للقتال.
والخسائر والجراحات شديدة عند المسلمين، فيعودون لبيوتهم وأهليهم وأسباب الراحة والعيش مع العيال ليخرجوا في اليوم التالي متعقبين العدو وهو من مصاديق بشرى المدد وما ترتب عليها من الأثر المبارك بين صفوف المؤمنين.
قانون”البشرى بالنصر’’
هذه الآية من آيات الميدان، أي نزلت في ميدان المعركة، وفي مسمى النزول ذاته في المعركة مسائل:
الأولى: إنه مدد وعون للمسلمين.
الثانية: فيه حث سماوي على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: تجديد روح الإيمان عند المسلمين.
الرابعة: دعوة المجاهدين لطاعة الله ورسوله.
الخامسة: إنتظار الفرج والنصر من عند الله، فحتى لو لم يأت المدد السماوي، فان الآية نفسها بشارة النصر لأنها شاهد ودليل على أن الله عز وجل مع المؤمنين، ويعلم حالهم، ولم يخل بينهم وبين الكفار في مواطن القتال قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ).
السادسة: دعوة المسلمين للصبر والخشية من الله عز وجل.

فمن اللطف الإلهي أن تأتي آية بالأمر بالصبر والخشية من الله، وتأتي آية أخرى بجذب المسلمين إلى منازل الصبر والتقوى، فقد يصعب على بعضهم عليه الصبر والتقيد التام بآداب التقوى في حال الخوف الشديد، فجاءت هذه الآية لطرد الخوف من العدو من نفوس المسلمين.
السابعة: توكيد حقيقة وهي أن الله عز وجل ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين برسالته في ساحة القتال، وهو معهم أينما كانوا.
الثامنة: جاءت البشارة مقدمة للخروج في سبيل الله لأن أمن وسلامة المؤمنين يوم أحد أمارة وشاهد على سلامتهم في مواطن القتال مطلقاً.
التاسعة: يشعر المسلمون بالحاجة إلى الوحي والتنزيل، وكان بعضهم يسأل بعضهم الآخر وهم في المدينة: هل نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قرآن هذا اليوم.
العاشرة: الحصانة والمنعة من وعيد وتهديد أقطاب قريش وذكر ابن هشام أنه( مرّ بجيش قريش بعد إنسحابهم من أحد ركب من عبد القيس، فقال أبو سفيان: أين تريدون قالوا: نريد المدينة،قال ولم، قالوا: نريد الميرة قال فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها، قالوا نعم، قال: فاذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأٍسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل) ( ).
وكانت رسائل قريش تأتي للمسلمين بالتخويف والوعيد بالإستئصال والقتل، فيكون الجواب عليها بتنزيل من السماء، وكون الرد يحمل صفة التنزيل، كان فيه إبطال أثر تخويف الكفار، وإرجاع كيدهم إلى نحورهم وفيه مسائل:
الأولى: نزول الرد من السماء على تهديد وتخويف الكفار آية عظمى إختص الله عز وجل بها المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية: دخل مع بعثة النبي طرف ثالث في القتال بين المسلمين والكفار، يتجلى بأمرين:
الأول: نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثاني: توالي نزول آيات القرآن عوناً ومدداً وإماماً للمسلمين في القتال.
الثالثة: البشارة بالنصر حرز وواقية من تهديد الكفار، فلم يتوعدون المسلمين، ولم يعلموا أن المسلمين ينزل عليهم سلاح من السماء يتجلى بالبشارة بالنصر،ومن فضل الله عز وجل أن هذا السلاح مقدمة لمدد من الملائكة يكون فيه حسم المعركة بهزيمة الكفار، وليس من حصر لمتعلق هذا الفضل فهو على وجوه:
الأول: الفضل الإلهي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ).
ولو إنهزم المسلمون فان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلية ظاهرة بآيات القرآن، والدلالات الباهرات التي تؤكد نبوته وهي أكثر من أن تحصى، ولكن فضل الله عز وجل على النبي محمد ليس له حد من جهة الكثرة وتعدد المصاديق والمواضيع.
فأراد الله عز وجل توكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجذب الناس لإتباعه ونصرته، فليس هناك فعل أفضل من محاكاة الملائكة، ومن مصاديق محاكاتهم العبادة والتسبيح، ومنها نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما نصرته الملائكة يوم بدر وأحد والخندق.
إن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بهذا النزول وسيلة مباركة لنشر الإسلام، وإعلاء كلمة التوحيد، وهزيمة الكفر والضلالة، وهو من أسباب الناس دخول في الإسلام، وشاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالغزو والقتال، بل بالفضل والمدد الإلهي، ولغة البشارة والإنذار السماوية.
الثاني: فضل الله عز وجل على المؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد، وتلقوا الأذى من الكفار، وبلغهم تخويفه ووعيده في حال الرجوع إلى المعركة.
لقد كانت معركة أحد أكثر معارك المسلمين في عدد الآيات التي نزلت فيها، (وعن ابن إسحاق فكان مما أنزل الله تبارك وتعالى في يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران( ).
وهذا العدد من الآيات مدرسة عقائدية متكاملة، ومناسبة لإقتباس الدروس والمواعظ من معركة أحد.
ومن الإعجاز أن كل آية منها فضل على المسلمين من عند الله، وخير محض، ووسيلة لزيادة الإيمان ودعوة الناس للهداية والإيمان، وبعد أن كان المسلمون على حذر من الكفار وعودتهم للقتال، وهمت طائفتان من المسلمين بالجبن والخور( )، جاء المدد الإلهي ليكون من مصاديق الولاية والنصرة لعموم المسلمين في النشأتين.
الثالث: فضل الله عز وجل على المسلمين أيام البعثة النبوية وأهل البيت، ولقد كانت الجزيرة موطناً للغزو والنهب والسبي.
فجاءت البشارة بالنصر في هذه الآية لتبعث السكينة في نفوس المجاهدين، وتجعلهم يتقيدون بآداب طاعة الله ورسوله، ولا ينشغلون بأحوال أسرهم وأهليهم لأنهم في مأمن، ويترشح أمنهم وسلامتهم من بشارة النصر.
فإذا رجع الكفار للقتال فان الملائكة سينزلون ليكونوا برزخاً بينهم وبين المدينة المنورة فلا يستطيعون الوصول إليها والتعدي على أهلها من المسلمين وغيرهم، وهو من مصاديق أن المدينة المنورة حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد بينت الآية أثر المدد، وأخبرت عن كون نزول المدد الملكوتي بأنه بشرى وهذه البشرى بذاتها موضوع وحكم، وهي مقدمة وإخبار عن موضوع متعقب لها ومترتب عليها، وكأنه من ترتب المعلول على علته، لأن البشرى السماوية حق وصدق، ولا يتخلف عنها موضوعها، فما أن تلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآيات على المؤمنين حتى أيقنوا بقرب النصر، ودنو الملائكة منهم.
وهل تلقى الكفار هذه البشارة بالحزن والخيبة الجواب نعم، فمن بركات المعجزة والآية عموم آثارها مع التباين في سنخية الأثر فالمؤمن يتلقى البشارة بالغبطة والسكينة والكافر بالحزن والأسى قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ]( )، وظهرت هذه الخيبة بإنصرافهم إلى مكة، وإجتناب الرجوع إلى ميدان المعركة، وصيرورة الوعيد والتهديد بالرجوع لغواً.
لتجعل هذه الآية النصر بشارة ومصداقاً للبشارة، وتلك آية في إعجاز القرآن بأن يخبر عن مقدمة الشئ الحسن فيتحقق واقعاً بالإخبار عن مقدمته، ويخبر عن الأمر السئ فينصرف ويضمحل بمجرد الإخبار عنه.
مما يدل على أن الآية القرآنية سيف وسلاح سماوي له تأثير في عالم الواقع والوجود الخارجي، فتأتي آية من القرآن ليحصل معها تغيير ورجحان لأهل الإيمان وهذا لا يمنع من تحقيق نزول الملائكة للنصرة وكأن الآية تتضمن بياناً وجواباً للشرط في الآية السابقة [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا] بان الكفار سيصابون بالخوف والفزع عند سماعهم بتلقي المؤمنين هذه البشارة، وعلى فرض رجوعهم للقتال فان الملائكة سينزلون لنصرة المؤمنين ومع أن الكفار أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستئصال المسلمين، ومحو معالم الإيمان فان الملائكة حينما قاتلوا في بدر لم يستأصلوا الكفار، بل طاردوهم وقاتلوا عدداً قليلاً منهم.
لذا أختلف في الملائكة هل قاتلوا يوم بدر أم لم يقاتلوا، وعن الجبائي: أن الملائكة ما قاتلت يوم بدر ولكن شجعت وكثرت سواد المسلمين وبشرت بالنصر.
(وورد عن ابن عباس أن الملائكة قاتلت يوم بدر وقتلت) ( ) وهو الصحيح.
ورغبة قريش بالإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله ليست بالجديدة، وهي من أهم أسباب هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من مكة (و روى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إجتمعوا عليه و قالوا جئناك بفتى قريش جمالاً و جوداً و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا و سفه أحلامنا فنقتله، فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني إبنكم فاغذوه و أعطيكم إبني فتقتلونه بل فليأت كل إمرىء منكم بولده فأقتله) ( )،
فبالبشارة جاءت بهذه الآية القرآنية، ونزول الملائكة مبشر به،نعم من وظائف الملائكة عند النزول بشارة المؤمنين بالنصر إلا أن وظيفتهم الأساسية هي المدد، وبه جاءت الآية السابقة [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ] وينصرف إلى النصرة والقتال خصوصاً مع قلة عدد المسلمين وكثرة جيوش وعدة الكفار، (وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً قال هو من الملائكة فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم( ).
لقد أراد الله عز وجل مواساة المسلمين يوم أحد والتخفيف عنهم لما أصابهم من الجراحات وعدد القتلى فأمدهم بسلاح البشارة قبل المدد الملكوتي، وهذا السلاح مواساة لجميع أجيال المسلمين، إذ أن الحسرة والأسى تعتصر قلوبهم بسبب الثغرة التي فتحت من جهة الرماة بعد أن كان النصر قريباً وتجلت بشائره بهزيمة الكفار من أول ساعات المعركة.
ومن الآيات في تفضيل المسلمين وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إنهم رجالاً ونساء يعرفون واقعة أحد وما تعرض له المؤمنون يومئذ بسبب خطأ جماعة الرماة، ويتألمون لتلك الواقعة وكأنها حية حاضرة في زمانهم، لتأتي البشارة فيها سكينة للمسلمين مطلقاً، وإخباراً بإن الله عز وجل مع المؤمنين وهو الذي أظهر الإسلام ونصر المسلمين.
بحث أصولي
يجمع اللفظ القرآني المتفرق، ويفرق المتحد من غير تعارض بينهما، ومنه إجتماع الحقيقة والمجاز بذات اللفظ، بمعنى أنه لا يكون لفظ حقيقة وآخر يراد منه المعنى المجازي، بل ذات اللفظ قد يفيد معنى الحقيقة والمجاز من غير تعارض بينهما مع إجتماع شرائط هذا الإجتماع بإرادة الأصل وهو الحقيقة، مع وجود القرينة الصارخة للمجاز خصوصاً وأنهما ليسا من المتضادين بهذا الخصوص بل المجاز في طول الحقيقة، ومنهم من قال بعدم وجود المجاز في القرآن منهم أبو داود الظاهري وابن القاص وأبو مسلم الأصبهاني، وقالوا بأن المتكلم لايعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، والله عز وجل لاتستعصي عليه مسألة( ).
ولكن المجاز علم من علوم اللغة والبلاغة، ووسيلة للبيان ومن خصائصه تعدد المعنى والدلالة للفظ،وهو من أسرار اللغة العربية التي جاء بها القرآن.
وقد ورد في الحديث عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد ولكل حد مطلع( )، ليأتي اللفظ القرآني جامعاً للمعاني، وكافياً للمسلمين، وتعدد معاني اللفظ القرآني من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
والحقيقة كل لفظ وضع أزاء معنى مخصوص في أصل اللغة، أما المجاز فهو المعنى المنقول للفظ مع وجود علاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي الجديد الذي نقل له وتسمى هذه العلاقة (المناسبة) مع وجود قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي كما في قوله تعالى [وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ]( ).
فقد أسند الجري إلى الأنهار مع أنها أوعية أرضية يجري فيها الماء على نحو متصل ليلاً ونهاراً، وتذكر كتب البلاغة هذه الآية بإعتبار أن معنى الجريان من المجاز، والمختار أنه على المعنى الجامع للحقيقة والمجاز، أي يحمل الكلام أحياناً على ثلاثة وجوه:
الأول: المعنى الحقيقي وهو إرادة جريان الأنهار حقيقة من تحت قصور المؤمنين في الجنة، فمن خصائص أهل الجنة أنهم إذا سألوا شيئاً وجدوه حاضراً عندهم، فربما سألوا جريان الأنهار ذاتها، أو حضور أنهار مخصوصة ونقلها في الجنان والله عز وجل واسع عليم.
الثاني: المراد المعنى المجازي أيضاً بان يذكر المحل وهو النهر والمراد الحال وهو الماء، فالذي يجري هو الماء وليس الأنهار وهو المتبادر.
الثالث: إرادة المعنى الأعم والجامع للحقيقة والمجاز.
فيجري الماء في الأنهار، وكذا تجري ذات الأنهار في آية من بديع صنع الله عز وجل ومختصات الجنان، وأسباب الغبطة والسعادة لأهلها فيها، وعلى فرض حصول هذا المعنى الجامع فهو يحتمل وجوهاً:
الأول: الترتيب الزماني بأن يجري الماء في الأنهار، ثم تجري ذات الأنهار.
الثاني: تجري الأنهار وبعد أن تستقر في مكانها كأوعية يجري فيها الماء.
الثالث: التداخل والفعل المشترك بأن يكون جريان الماء والنهر في آن واحد.
الرابع: الأصل هو جريان الماء في الأنهار، ولكن قد تجري ذات الأنهار وتنتقل من جنة الفردوس.
والأرجح هو الرابع، إذ أن إنتقال ذات الأنهار من عمومات قوله تعالى [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ] لإرادة عموم أهل الجنة بالضمير (هم) الوارد في الآية ويمكن أن يقال أنه من عمومات القرآن يفسر بعضه بعضاً.
وقد ورد في ذم الأمم السابقة من الكفار وبيان جحودهم للنعم العظيمة التي رزقهم الله [وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ]( ).
والمراد من الأنهار في الآية أعلاه هو ماء الأنهار كالنيل ودجلة، فلم ينفعهم سلطانهم وأموالهم وزراعاتهم شيئاً حينما جاءهم العذاب، لتكون تلك الأنهار خالصة يوم القيامة لأهل الإيمان، ولكن ما يرزقه الله عز وجل لأهل الجنة أعم، وهو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وورد قوله تعالى [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ] ( ) أربع مرات في القرآن ثلاثة منها خاصة بأهل الجنة( ).
ويحتمل نزول الملائكة في المقام وجوهاً:
الأول: إنه حقيقة وواقع بأن تهبط الملائكة من السماء لنصرة المسلمين.
الثاني: إنه من المجاز والإستعارة، وليس المراد نزول الملائكة بالذات، بل المقصود بعث السكينة في قلوب المؤمنين، وجعلهم يثبتون في ميدان القتال، وصرف الكفار عن عزمهم في الرجوع إلى ميدان المعركة.
الثالث: المقصود التفخيم بأن يذكر صيغة الجمع من الملائكة، والمراد نزول جبرئيل بالوحي، ونزوله هذا مدد للمؤمنين، وعون لهم في القتال، والصبر في المعركة.
الرابع: المراد نزول الملائكة للإخبار عن بشرى للمؤمنين، وجعل قلوبهم تطمئن للنصر والسلامة من شر الكفار.
الرابع: الإتيان بذكر الكل وتمام الشئ وإرادة الجزء والفرد منه كما في قوله تعالى [السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، واليد عنوان جامع يشمل:
الأول:الأصابع.
الثاني: الكف.
الثالث: الذراع، وهو من المرفق إلى أطراف الأصابع، فيدخل الكف فيه ويسمى ساعداً لمساعدته الكف إذا بطش شيئاً أو تناولته.
الرابع: المرفق وهو أعلى الذراع وأسفل العضد، والعضد هو (مابين المرفق إلى الكتف) ومنهم من أطلق الساعد على كل من الذراع والعضد، وقال ابن منظور: الساعدُ وهو ما بين المرفق إِلى الكتف ( )، وقال (مُلْتَقى الزَّنْدَين من لدن المِرْفَق إِلى الرُّسْغ) ( )، ونقل عن الأزهري والساعد ساعد الذراع، وهو ما بين الزندين والمرفق سمي ساعداً لمساعدته الكف إِذا بَطَشَت شيئاً أَو تناولته وجمع الساعد سَواعد ( ).
والمراد من ذكر الملائكة بصيغة الجمع في الآية الكريمة بعض هؤلاء الملائكة لما ورد بأن جبرئيل دمّر قوم لوط بمفرده، ولكن هذا الإحتمال مغاير لنص الآية الكريمة إذ تذكر عدد الملائكة الذين جاءوا مدداً للمسلمين وإنه خمسة آلاف ملك، أما الوجه الثاني أعلاه فهو خلاف من وجوه:
الأول: الأصل في الكلام هو الحقيقة، ولا ينتقل إلى المجاز إلا مع القرينة الصارفة، وهي معدومة في المقام، وقد وردت الأخبار بإفادة نزول الملائكة في معركة بدر، أما النزاع بأنها هل قاتلت يومئذ أو لا، فهو نزاع صغروي يدل على حقيقة نزولها، إذ أنه كالإجماع المركب في علم الأصول فاذا قال الفقهاء بحصول إجماع على حكمين في مسألة واحدة فانه يدل بالدلالة التضمنية على عدم وجود قول ثالث خارج عنهما.
وروي عن ابن مسعود أنه سأله أبو جهل من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص، قال: من قبل الملائكة فقال هم غلبونا لا أنتم( ).
لقد كان نزول الملائكة لنصرة المؤمنين يوم بدر وأحد والخندق حقيقة وصدقاً، وأمراً واقعاً، أدركه المسلمون بالحواس، وحتى الكفار علموا تلك الحقيقة.
روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا، ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر( ).
وكانت نصرة الملائكة للمسلمين سبباً لإسلام كثير من الكفار، وبرزخاً دون مواصلة شطر منهم التعدي على الإسلام والمسلمين، ومن منافع البشارة والإنذار النبوي قيام الحجة على الناس، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]( ).
قانون “مقدمات البشرى’’
تتعدد وجوه وصيغ الفضل الإلهي، وليس من حصر لها موضوعاً وحكماً وزماناً ومكاناً، كما أنها في إنشطار متصل ودائم، ومن الإعجاز في الفضل الإلهي أن كل فرد منها تتعقبه أفراد كثيرة ومتعددة في ذات الموضوع، وفي غيره ويكون ذات الفضل والنعمة الإلهية مقدمة لنعم أخرى كثيرة، كما في المقام إذ صار نزول الملائكة لنصرة المسلمين والبشرى بهذا النزول مقدمة لفتح مكة من غير قتال.
وتلك آية في إكرام الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين،وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )،بأن يتفضل الله عز وجل عليهم بنعمة فتكون طريقاً ومقدمة لنعم كثيرة، ومن منافعه وجوه:
الأول:التخفيف والتيسير في ميادين الفعل.
الثاني: بلوغ الغايات الحميدة من غير مشقة أو عناء كثير.
الثالث: أسباب الإمتثال للأوامر الإلهية.
الرابع: تجلي الفضل الإلهي بالشواهد الواقعية، والبراهين الظاهرة، والمدركة بالحواس لتكون حجة وبرهاناً على الناس، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ويأتي الفضل والنعمة من عند الله على وجوه:
الأول: النعمة الشخصية والتي تخص العين على نحو التعيين.
الثاني: النعمة الخاصة التي تأتي للجماعة والطائفة والفرقة.
الثالث: النعمة العامة التي تتغشى الناس جميعاً، برهم وفاجرهم مثل نزول الغيث، وصرف الكوارث،والآيات الكونية التي ينتفع منها الناس، وهذا التقسيم إستقرائي غير مقيد بحدود ثابتة، إذ أن مسألة النعمة سيالة بين هذه الوجوه.
وكل فرد منها يتداخل مع الفردين الآخرين لتكون متحدة ومتفرقة خيراً محضاً، وبركة دائمة، ومناسبة للشكر الخاص والعام لله عز وجل على النعم.
وهو من اللطف الإلهي، وإعانة الناس على العبادة وجذبهم إلى أحكام الشريعة والتقيد بما جاء به الأنبياء والرسل، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فتأتي النعم لتقريب الناس من وظائفهم التي خلقوا من أجلها.
وهل الصلة بين النعمة والعبادة من قانون العلة والمعلول، وعدم تخلف المعلول عن علته، الجواب لا، لأن الله عز وجل جعل الدنيا دار إمتحان وبلاء وإختبار، فتأتي النعمة لإعانة الناس على إجتياز مراتب الإمتحان والإختيار، وللثبات في منازل الإيمان، ومنه نعمة نزول الملائكة، إذ أنها خير محض، وفضل من الله عز وجل جاءت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد، وأراد الكفار البطش بهم وإسئصالهم.
وتأتي النعمة الإلهية على وجوه:
الأول: بعد مقدمات وأسباب وإستعداد لها.
الثاني: تأتي النعمة دفعة ومن غير مقدمات.
الثالث: تقييد النعمة بشروط وقيود، وهذه الشروط على وجوه:
الأول: ماكان مقدمة وسابقاً للنعمة.
الثاني: الشرط الملازم والمصاحب للنعمة.
الثالث:ما تخلف عن النعمة من الشروط والأسباب.
وتضمنت الآية السابقة شرطين لنزول الملائكة [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، وبلحاظ الوجوه أعلاه يحتمل هذا الشرط وجوهاً:
الأول: أن يكون من الوجه الأول أعلاه بأن يكون الصبر والتقوى مقدمة لنزول الملائكة فقط، وان لم يتقيد المسلمون بأحكامها ساعة النزول.
الثاني: يكون الشرط من الوجهين أعلاه، أي يجب على المسلمين التحلي بالصبر والخشية من الله عز وجل قبل نزول الملائكة وعند نزولها لإستدامة الشرط أثناء فترة المشروط، كما في وجوب المحافظة على الوضوء إلى حين إكمال الصلاة وإختتامها بالتسليم.
الثالث: إستدامة الشرط حتى مع إنقضاء مدة المشروط لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق، وعدم وجود تقييد في البين.
الثاني: إستدامة وإتصال حاجة المسلمين للمدد والنصر الإلهي، خصوصاً مع إصرار الكفار على قتال المسلمين.
الثالث: الصبر والتقوى باب للأجر والثواب.
الرابع: ورود آيات كثيرة تأمر المسلمين بالتقيد بأحكام الصبر والخشية من الله عز وجل وهي على ثلاث شعب:
الأولى: مجئ الآيات بالأمر بالصبر، والحث عليه قال تعالى [وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الثانية: مجئ آيات القرآن بالأمر بالتقوى والخشية من الله، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الثالثة: مجئ الآيات القرآنية بالأمر الجامع للصبر والتقوى، كما في الآية السابقة، وهذا الأمر يأتي على وجوه:
الأول: إبتداء ومن غير أن يكون شرطاً بل هو وظيفة عبادية للناس جميعاً، وللمسلمين على نحو الخصوص، لذا جاءت الآيات بالأمر بالتقوى لخصوص المسلمين، وآيات أخرى بأمر الناس جميعاً بالتقوى، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
وجاء العموم والخصوص في التقوى لوجوه:
الأول: إقامة الحجة والبرهان على الناس وإنتفاء العذر في موضوع التبليغ، فلا يستطيع الكافر الإدعاء بأنه لم يعلم بوجوب عبادة الله، ولزوم الخشية منه سبحانه.
الثاني: إجتماع الأمر الخاص والعام بالتقوى للمسلمين، إذ يشتركون مع عموم الناس بالأمر العام، وينفردون بالأمرالخاص الموجه لهم، وهو من مصاديق اللطف الإلهي وأسباب العناية بهم.
الثالث: جاء الأمر للمسلمين بالتقوى بصفة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ]( )، وفيه شاهد على إكرام المسلمين، والشهادة من الله على إيمانهم وحسن إسلامهم.
وفي التعدد في لغة الخطاب مع الإتحاد في الموضوع وصيغة الأمر أمور:
الأولى: الأمر بتقوى الله من رحمة الله بالناس جميعاً.
الثانية: فيه دليل على أن الدنيا دار إمتحان، وأن الله عز وجل يمد الناس بالأسباب التي تقهر النفس الشهوية والغضبية.
الثالثة: الأمر بتقوى الله خطاب تكليفي عام للناس جميعاً وإن تباينت مذاهبهم ومشاربهم، ولايستثنى منه أحد.
الرابعة: كل إنسان محتاج لتقوى الله والخشية منه.
الخامسة: بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية، وهو أن المؤمن وإن إجتهد في طاعة الله فان عليه بذل الوسع والإرتقاء في مراتب الخشية من الله عز وجل، وهي خيرمحض.
السادسة: تقوى المؤمن لله باب للثواب العظيم.
السابعة: الدعوة لإتخاذ التقوى بلغة لتقوى الله ذاتها، وإستدامتها، فمع دخول الإسلام لاينقطع الأمر بالتقوى، وتضمن الخطاب القرآني[يَاأَيُّهَا النَّاسُ] الإنذار والوعيد للكفار.
وجاءت الخطابات العامة والخاصة لبيان أن الدنيا مزرعة للآخرة وأنها مناسبة كريمة للخوف من الله في السر والعلانية.
الثامنة:دلالة النداء [يَاأَيُّهَا] على التأكيد وتضمنه معاني المبالغة، فالنداء (يا) يدل على التأكيد والإشارة والتنبيه، ومن معاني الوحي الإشارة و(ها) للتنبيه ودعوة للإلتفات سواء في الخطاب الخاص أو العام، وفيه شاهد على العناية الإلهية بالعباد، ولزوم التقيد بالأوامر والنواهي القرآنية.
التاسعة: الحسن الذاتي والعرضي للتقوى، وترشح المنافع منها على الشخص ذاته في نفسه وقوله وفعله، وإنتفاع الناس من تقواه فيكون عياله وأهله والجيران والناس في أمن منه، وكما أمر الله تعالى بإفشاء السلام وجعله علامة للود والمحبة ونزع البغضاء بين الناس، فانه سبحانه أمر بالتقوى لتكون واقية من التعدي على الآخرين، وسبباً لبعث الأمن والسلامة من حامل التقوى الذي يعمل بسننها.
العاشرة: المتقي داعية إلى الله والتقوى منه، فالتحلي بآداب التقوى ترغيب للناس بها، وحجة عليهم بأنها أمر ممكن ويسير، وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل إنذار كفار قريش بتوجيه الخطابات لهم بتقوى الله في مكة عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم في بدايات الدعوة الإسلامية، وقبل الهجرة إلى المدينة، وتوجيه الأمر بالتقوى للمسلمين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم

وجعلها شرطاً لنزول الملائكة بحسب الإستطاعة والقدرة، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( ).
وفيه شاهد على قرب الوعد الإلهي بنزول الملائكة، وأن المراد من التقوى والخشية من الله عز وجل ليس مرتبة الكمال والموجبة الكلية، بل يكفي منه ما يجتهد المسلمون في تحصيله والتقيد بأحكامه وسننه وكذا بالنسبة للصبر فقد أراده الله عز وجل أن يكون مقدمة للبشرى ومصاحباً لها ومتفرعاً عنها، وليكون سلاحاَ بيد المسلمين لمواجهة الكفار، والمرابطة في سوح المعارك وفي الثغور.
فما مرّ إلا سنتين حتى زحفت قريش مرة أخرى، ولكن بعشرة آلاف مقاتل نحو المدينة لإستئصال الإسلام والمسلمين، ولا طاقة للمسلمين بهذا الجيش وما عنده من العدة، ويبقى جمع هذا العدد من الرجال في الحجاز آنذاك أمراً محيراً، ولا أحد يظن وجود مثل هذا العدد في مكة وما حولها وحيث الجدب والفقر والغزو والقتل ووأد البنات (قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان، ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى( )إلى جانب أحد) ( ).
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثلاثة آلاف من المسلمين ليكون الخندق بين الفريقين، وإحتاج المسلمون يومئذ الصبر والتقوى من وجوه:
الأول: الصبر على الحصار، ونقض المؤون والغذاء الذي إستمر (قريباً من شهر) ( ).
الثاني:حصول الرمي بالنبل والسهام بين الفريقين مدة الحصار.
الثالث: الصبر على البلاء وتحمل الأذى والفزع والخوف من إقتحام خيل المشركين الخندق، وإيجاد أو طمع ثغرة منه، وحينما همّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلح مع غطفان التي كانت مع قريش، وسأله سعد بن معاذ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ فَقَالَا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْرًا نُحِبّهُ فَنَصْنَعُهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَك اللّهُ بِهِ لَا بُدّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا ؟ قَالَ بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ ، وَاَللّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلّا لِأَنّنِي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلّ جَانِبٍ فَأَرَدْت أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا( ).
الرابع: الصبر في طاعة الله ورسوله.
الخامس: التقيد بأداء الوظائف العبادية، وإقامة الصلاة من غير جزع أو ملل، وبالصبر على التقوى يأتي الفرج، فالعبادة صبر في طاعة الله، ويحتاج الإنسان التقيد بالصبر عند شدة البلاء لذا ورد في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
فالصبر مطلوب بذاته، وهو مقدمة للتقوى والخشية من الله عز وجل، وهو والتقوى مجتمعين ومتفرقين مقدمة لنزول الملائكة، وتلقي البشرى من عندالله بالنصر والغلبة على الكفار وإرجاع كيدهم إلى نحورهم.
قانون موضوع البشارة
جاءت الآية الكريمة بوصف المدد الملكوتي والوعد به بأنهما بشارة للمؤمنين، وتتضمن البشارة في جهتها وجوهاً:
الأول: الوعد ذاته بشارة، وكل وعد كريم من عند الله هو بشارة للمؤمنين، ومن الوعد اللبث الدائم في الجنة، قال تعالى[جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ] ( ).
الثاني: تترشح البشارة عن الوعد، وهي فرع له.
الثالث: البشارة نعمة من الله عز وجل جاءت مصاحبة وملازمة للآية الكريمة، وما تتضمنه من نزول الملائكة ناصرين.
الرابع: البشارة مدد إضافي مع نزول الملائكة.
الخامس: إنارة دروب الهداية والرشاد للمسلمين، وإعانتهم للإرتقاء في مراتب الإيمان، قال تعالى[الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]( ).
السادس: البشارة سلاح بيد المؤمنين لمواجهة وقتال الكفار، والصبر في ميدان المعركة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، فالوعد ذاته بشارة، وتترشح عنه البشارة.
وتحتمل البشارة من جهة الإتحاد والتعدد وجوهاً:
الأول: المراد القضية الشخصية، والفرد الواحد من البشارة.
الثاني: إرادة البشارة المتعددة، وكلها مقيدة بأمور ثلاثة:
الأول: نزول الملائكة.
الثاني: موضوع نزول الملائكة وهو إعانة ونصرة المؤمنين.
الثالث: تلقي المسلمين للبشارة.
الثالث:التعدد والعموم في البشارة موضوعاً وأثراً.
والصحيح هو الأخير، من وجوه:
الأول: إرادة العموم والشمول في الفضل الإلهي.
الثاني: وحدة الموضوع في تنقيح المناط، إذ يتلقى المؤمنون الوعد الإلهي الكريم بالغبطة والسعادة.
الثالث: تعدد المصاديق الخارجية للبشارة وموضوعها.
الرابع: إن الله إذا أعطى أهل الإيمان والتقوى فإنه يعطيهم بالأوفى والأتم وما فيه النفع لهم ولذراريهم.
لقد أراد الله عز وجل إنتفاع المسلمين ذكوراً وأناثاً في أجيالهم المتعاقبة من البشارة الواردة في هذه الآية، فجاء الأمن والسلامة يوم أحد نعمة ورحمة بالمقاتلين منهم، وبأجيالهم المتعاقبة عامة، وأصحاب يوم أحد منهم خاصة.
لقد أصبحت النبوة في خطر، وأصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الجراحات، وضعف عن النهوض، وهمت طائفتان من المؤمنين بالفشل والخور، ولم يكتف الكفار بما أصابوه من المسلمين، وقتل عدد من المهاجرين والأنصار، بل تناجوا بالإثم والعدوان.
وبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عزمهم على العودة إلى ميدان المعركة للقتال ومواصلة الإنتقام من المؤمنين لإستئصالهم، فتطّلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون إلى السماء رجاء للفضل الإلهي، كما في نظره إلى السماء وإنتظاره الوحي في موضوع القبلة بقوله تعالى[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا] ( ).
لقد فزع النبي محمد والمؤمنون إلى الله عز وجل، وإنتظروا نزول الوحي والذي يأتي في ساعة الرخاء والشدة، وفي باب الأحكام والمعاملات وكان معهم منذ أول خروجهم للقتال لقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
وبعد أن أدى المؤمنون وظائفهم الجهادية بالقتال ومحاربة الكفار، والتصدي للضلالة والعدوان، وأثبتوا أنهم أمة متحدة متآخية في مرضاة الله جاء الوحي هذه المرة بالمدد والبشارة لتكون الآية القرآنية سلاحاً في الميدان وما بعد المعركة، وواقية من الفزع والخوف والجبن، إذ تضمنت البشارة بالنصر والغلبة دحض الباطل، وصد العدوان وتفريق جمع الكفار، وخزيهم في الدنيا والآخرة.
ولم يرجع الكفار للقتال ولكن منافع الآية ظلت متجددة ينهل منها المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة، وبقى موضوع البشارة وسام عز وفخر للمسلمين جميعاً بأسلافهم وآبائهم من الصحابة الذين جاهدوا في سبيل الله، وصبروا على قلتهم في مواجهة أكبر جيوش الكفر والضلالة، تلك الجيوش التي جاءت للإنتقام وإستئصال الإسلام، والقضاء على النبوة، فإن قتلت أمم سابقة عدداً من الأنبياء، فإن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر آخر مختلف عن النبوات السابقة، فهو خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وليس بعده نبي، وأمته آخر الأمم، فأراد الله عز وجل له النصر والظفر بالأعداء، وجعل برزخاً بينهم وبينه فلم يستطيعوا الوصول إليه، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بأن يكون نبيها في مأمن من القتل في ميادين القتال، وإن كانت كفة الكفار هي الراجحة في العدة والعدد وحداثة عهد الناس بالإسلام.
وموضوع البشارة الواردة في قوله تعالى [يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ]على وجوه:
الوجه الأول: نزول خمسة آلاف من الملائكة من السماء على نحو الدفعة الواحدة، ليملأوا الخافقين ويحيطوا بالكافرين.
الوجه الثاني: الوعد الإلهي بنزول الملائكة للنصرة والإعانة ضد الكفار المعتدين.
لقد أسلم المسلمون، وآمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم يحبون للناس جميعاً محاكاتهم في الإيمان، والفوز بخير الدنيا والآخرة.
لقد أراد الله عز وجل إمتحان المؤمنين بالتصديق بوعده وفيه دعوة للمؤمنين لحسن التوكل عليه سبحانه في ساعة العسرة والشدة.
مما يدل على لزوم التوكل عليه عز وجل في ساعة الرخاء من باب الأولوية وأداء المسلمين للعبادات والفرائض وهو الذي جاء شرطاً لنزول الملائكة في أول الآية السابقة[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ).
الوجه الثالث: الوحي بآية المدد الملكوتي، ونزول هذه الآية والآية السابقة، فان نزول هذه الآية نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين والمسلمين والمسلمات جميعاً، وهو معجزة وبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها جاءت في موضوع حال وفي ميدان الحرب والقتال.
فبينما تجري الحسابات في نتيجة المعركة على أعداد وعدة الجيوش ورجحان كفة الكفار في هذه الباب بصورة ظاهرة وفارق كبير بينها وبين جيش وعدة المؤمنين القليلة، جاءت هذه الآية بطرف جديد، وهو ملائكة من السماء ينزلون لنصرة المؤمنين على نحو التعيين، لمجيء الآية بلغة الخطاب من عند الله عز وجل للمؤمنين.
الوجه الرابع: لا يفعل الملائكة إلا ما يأمرهم الله سبحانه، قال تعالى[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( )، والآية أعلاه وإن جاءت بخصوص خزنة النار، إلا أنها تدل على قانون سماوي ثابت يؤكد الطاعة التامة للملائكة لله عز وجل، فلا يدخل إلى قلوب المؤمنين شك في نصرة الملائكة لهم قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، ومن مصاديق التقوى التسليم بأن الملائكة يقومون بوظائف المدد والنصرة خير قيام.
ومن مواضيع البشارة بيان إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية بالقطع واليقين بأن الملائكة يطيعون الله ولا يعصون أوامره، وأنهم ينزلون إلى الأرض لنصرة المؤمنين وتأديبهم وهدايتهم إلى سبل طاعة الله .
وأن لا يتركوا ساحة المعركة إلا وقد إتخذوا من الصبر والتقوى ملكة ثابتة وجعلوا الملائكة أسوة حسنة لهم، بالإضافة إلى إقتدائهم بالسنة النبوية الشريفة.
الوجه الخامس:ملازمة النصر للمؤمنين، وقرب المدد الملكوتي منهم، لأمور:
الأول: وحدة الموضوع في تنقيح المناط بخصوص المعارك التي يخوضها المسلمون في سبيل الله.
الثاني: وجود المقتضي وفقد المانع، فإن تقيد المسلمين بالصبر والتقوى، وقيام الكفار بالتعدي على حرمات الإسلام علة لنزول الملائكة لنصرة المؤمنين بفضل الله عز وجل.
الثالث: أصل الإستصحاب في الفضل الإلهي، وحضور المدد الملكوتي في ساعة الشدة لنصرة المؤمنين.
الرابع: عمومات دوام النعمة الإلهية، وعدم مغادرتها الأرض، فإذا أنعم الله عز وجل على أهل الأرض، فإن النعمة لا تغادر الأرض.
الوجه السادس: البشارة بخلافة المؤمنين الأرض، وسيادة أحكام الشريعة، والنصر والغلبة على الكفار.
الوجه السابع: البشارة بالأجر والثواب للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ونيلهم المراتب العالية في النعيم، قال تعالى[بَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ]( ).
وأثناء ما كانت الأخبار تأتي عن عزم كفار قريش ومن معهم على العودة للقتال مرة أخرى بعد معركة أحد، كانت البشارات تترى على المسلمين على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه مسائل:
الأول: إنه من بركات وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم.
الثانية: إنه من أسباب تقوية عزائم المؤمنين.
الثالثة: إنتفاء الخوف والفزع من نفوسهم، (فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ حِينَ بَلَغَهُ أَنّهُمْ هَمّوا بِالرّجْعَةِ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبّحُوا بِهَا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذّاهِبِ)( ).
الرابعة: فيه حجة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: إنه من أنباء الغيب التي يوحيها الله عز وجل لنبيه، قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، ويمكن أن يؤلف كتاب مستقل عن بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وبخصوص القتال.
وإلى جانب البشارات فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان إماماً وقائداً في ميدان المعركة، إذ بعث من يحذر أبا سفيان وأصحابه من مغبة الرجوع إلى القتال، ويخوّفهم من قوة المسلمين وإستعدادهم للمعركة، ومع أن هذا البعث من الخديعة في المعركة، والحرب النفسية إلا أنه في المقام يحمل مضامين إضافية مقتسبة من عمومات قول الله عز وجل[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان رحيماً بالمسلمين والناس جميعاً.
الثانية: كأنه يدفع الكفار عن القتال والموت على الكفر ودخول النار ليتدبروا أمرهم.
الثالثة: دعوة الناس لدخول الإسلام عند فتح مكة، ومنهم من أسلم قبل الفتح وأحسن إسلامه.
قانون”البشارة رزق”
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إقامة للناس غير دائمة، يعيشون ويرزقون ويتنعمون فيها، وليس من حد لمصاديق وأفراد النعم، وكل نعمة في الأرض توكيدية تتفرع إلى نعم متعددة من ذات الماهية أو من غيرها، وتأتي النعم على وجوه:
الأول: ما تكون مادية يدركها الإنسان بحواسه.
الثاني: النعم التي تكون عقلية.
الثالث: ما تدرك بتوسط إستنباط أو تقديم تصور.
ويمكن تقسيم النعم بلحاظ العلم بها إلى قسمين:
الأول: نعم ظاهرة يعلم بها الإنسان بالعقل أو الحس.
الثاني : نعم غير ظاهرة لايعلم بها الإنسان، وتكون من علم الغيب وهو من وجوه تفسير قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) فعدم الأحصاء لا ينحصر بطرف الكثرة وكونها من اللامتناهي، بل يشمل عجز الناس عن إدراك ومعرفة شطر منها، وهو من النعم الإلهية على الإنسان ومن بديع صنع الله وعظيم قدرته.
ترى أيهما أكثر عدداً النعم الظاهرة أم الباطنة التي هي خافية على الإنسان، الجواب هو الثاني، لأن الآية ذكرت العجز عن إحصائها، وليس العلم بها، مما يدل على أنها لو كانت ظاهرة وعدها الناس مجتمعين ومتفرقين فإنهم يعجزون عن عدّها وإحصائها، ومن النعم ما يترشح عن البشرى الواردة في هذه الآية من وجوه:
الأول: النعم التي تترشح على الكتائب والمجاهدين والمرابطين في سبيل الله.
الثاني: ما يتغشى المسلمين والمسلمات وهو على جهات منها:
الأولى: النعم في المساجد والمنتديات.
الثانية: في ميدان العمل والأسواق.
الثالثة: في المجتمعات وعالم الإقتصاد والنجاة وإدارة الحكم.
الرابعة: في الجدال والإحتجاج مع الملل الأخرى.
الخامسة: السكينة وحسن المعاشرة في البيوت وعموم العاملة.
السادسة: حال العز والرفعة التي إرتقى إليها المسلمون بالبشارات السماوية.
والمراد من النعم بلحاظ أفراد العوالم الطولية على وجوه:
الأول: النعم الدنيوية.
الثاني: النعم في عالم البرزخ.
الثالث: النعم في عالم النشور والحساب.
الرابع: النعم في عالم الجزاء.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق النعم التي تفضل الله عز وجل بها على الناس عامة، والمؤمنين خاصة.
ومن الآيات في باب النعم الإلهية أن تأتي نعمة في واقعة معينة لتكون رزقاً خاصاً لأهل الواقعة، وعاماً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة من غير أن ينقص هذا التعدد من عظمة وأثر النعمة على كل فرد من المسلمين والمسلمات، ومنه نعمة نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم أحد، والتي تتجلى في كل حين، وتطل على المسلمين كل يوم بصفة البشارة والأمل الحاضر، والحرز المستديم.
وإن قيل في تأريخ المسلمين وقائع وحوادث لاقوا فيها أشد الأذى وتعرضوا للضرر من أعدائهم، ولم ينزل الملائكة لنصرتهم.
والجواب لقد جاءت خاتمة الآية لتؤكد نسبة النصر إلى عز وجل على نحو الإطلاق الزماني والمكاني مما يدل على تعدد صيغ وأسباب نصر الله للمؤمنين قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( )، وهذا النصر رزق كريم من عند الله جعله مصاحباً للإيمان، لذا جاءت الآية بشرط الصبر والتقوى لنزول الملائكة للنصرة.
ونعمة نزول الملائكة في المعركة من النعم المادية الظاهرة تدرك الحواس، كما أنها نعمة عقلية تبين عظمة قدرة الله عزوجل بالصلة والتقارب بين أهل السماء وأهل الأرض بما يثبت كلمة التوحيد في الأرض، وهي نعمة تنفع المؤمنين في العوالم الطولية الثلاثة.
أما في الدنيا فانها بشرى وسعادة وعز وهيبة وأمل.
وأما في عالم البرزخ ويوم القيامة فانها أمان من العذاب، لأن الملائكة الذين نزلوا الى الأرض لنصرة المؤمنين، لا يقومون بتعذيبهم في الآخرة، فهم شهود على إيمانهم وتقواهم وصبرهم في مرضاة الله وهو من مصاديق الرزق الكريم الذين ينعم به الله عز وجل على المؤمنين، لبيان أحكام خاصة تتعلق بالحياة الدنيا تتجلى بآية الرزق الإضافي الكريم للمؤمنين من بين الناس.
وهذا الرزق أعظم وأكثر من المأكل والمشرب والملبس، وهو طريق وسبيل مبارك لجلب النعم الدنيوية المتعددة، وفَتَحَ نزول الملائكة في معارك الإسلام الأولى على المسلمين أبواب الرزق، وجعلهم يخرجون للغزو شرقاً وغرباً لتتوسع دائرة الإسلام وتكثر أمصاره خلال سنوات معدودات.
ومن الآيات في المقام أن التوسع تم بقهر دول عظمى وحكومات مستقرة ومقاتلة جيوش كبيرة لها في أرضها وقلاعها.
ولم تنل أمة من المليين هذا الرزق الكريم، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يكون نزول الملائكة رزقاً لأفرادها جميعاً يتخذونه سلاحاً في الدفاع عن بيضة الإسلام، وفي الدفاع وإتساع رقعة الإسلام بما يؤدي إلى هداية الناس، ونجاتهم في النشأتين، ولا يعني هذا أن الملائكة مع المجاهدين في كل معركة يضربون أدبار الكفار، بل أن المدد بالملائكة أعم من حضورهم.
فيكفي الوثوق من نصرة الله للمؤمنين، وان النصر بيده سبحانه بالإضافة إلى أن نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم بدر وأحد بالملائكة كان مادة ووسيلة لسلامتهم من كيد الكفار، وفرصة لدخول الناس في الإسلام وكثرة عدد المسلمين، ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين والوعد به له منافع متعددة منها:
الأول: ما تظهر بالحال.
الثاني: ما تكون واسطة لجذب الناس للإسلام.
الثالث: إنه سبب لقوة شوكة المسلمين وضعف معسكر الكفر والكافرين خصوصاً وأنها آية ومعجزة تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحجة على الناس تجعلهم ينفرون من الضلالة، ويسعون للتنزه عن الإقامة عليها، ويرغبون في النهل من الرزق السماوي الكريم ونعمة نزول الملائكة للنصرة والإعانة والإغاثة.
لقد وأراد الله عز وجل من نزول الملائكة مناسبة ليتخلص الناس بالحجة والبينة من براثن الكفر.
وجاء هذا النزول مدداً للمؤمنين في معركة أحد، ولكنه في معناه ومنافعه يفيد العموم، فهو مدد للناس جميعاً بإعانتهم لدخول الإسلام، وطرد مفاهيم الكفر والجحود من الأذهان والمجتمعات، وهو من عمومات قوله تعالى [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى] ( ).
وينزل الله الغيث والمطر من السماء فيكون رزقاً مباركاً للناس تنمو به الزراعات والدواب، ويكون سبباً للعيش الكريم والإدخار لأيام أو أشهر.
أما نزول الملائكة فانه رزق كريم ينتفع منه المؤمنون إلى يوم القيامة، وهو باب فتحه الله عز وجل لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينغلق حتى قيام الساعة، وإذ تتعرض بعض البلدان للجفاف والتصحر وقلة الأمطار، فإن البشارة بنزول الملائكة وإعانة المؤمنين رزق دائم لا يمكن حجبه عن المؤمنين.
وجاءت هذه الآية للتذكير به والدعوة للإنتفاع منه، وتحدي الكفار بما في أيدي المسلمين من الرزق السماوي الذي هو مؤونة وعدة في حال السلم والحرب، وفيه إنذار للكفار فبعد أن كانوا يتبخترون بكثرة خيلهم ورجالهم وعدتهم أصبحوا عاجزين عن مواجهة جند السماء، فالملك الواحد يهزم جيوش الكفر كلها سواء إجتمعت في موضع واحد أو كانت متفرقة ومتحصنة.
ومن خصائص الرزق الإلهي للمؤمنين السعة والكثرة فيه لذا جاءت الآيتان السابقتان بالإخبار عن المدد بثمانية آلاف من الملائكة، وفيه إشارة الى إستمرار وإستدامة نصر الله عز وجل للمؤمنين في معارك الإسلام القادم، وهو رزق كريم، وخير محض ونفع دائم ومن مصاديق نيل المسلمين للسعة والمندوحة في الرزق.
فلما قال الله تعالى [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، جاء هذا الرزق غير المحدد للمسلمين على نحو التعيين ومن باب الأولوية لأن الله عز وجل شرّفهم بمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
قانون”بشارة لكم’’
جاءت الآية بتقييد مبارك للبشارة بأنها خاصة بالمؤمنين لتكون شاهداً على إكرام الله عز وجل لهم، وعنايته بهم، وأنه سبحانه لن يترك نبيه وأصحابه في مواجهة الجيوش الكثيرة من الكفار التي زحفت بعصبية الجاهلية الأولى للقضاء على الإسلام والنبوة فتفضل الله بالوعد الذي يحمل صفة البشارة، وأسباب السعادة والغبطة للمؤمنين، وتفيد اللام في الآية الإختصاص والتعيين، وأن نزول الملائكة والوعد به بشارة وخير وسبب لفرح وغبطة المخاطبين.
وفي المراد من لغة وجهة الخطاب في الآية وجوه:
الأول: إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالآية وأن جاءت بصيغة الجمع إلا أنها تتضمن إكرامه وبيان عظيم منزلته عند الله، كما في قوله تعالى[[ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ).
الثاني: المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون الذين قاتلوا في معركة أحد، والذين ينفعهم نزول الملائكة على نحو شخصي ومباشر لأن فيه نجاتهم من كيد وبطش الكفار، والنصر والغلبة عليهم، وفيه تجديد ليوم بدر وهزيمة الكفار فيه، ووقوع فريق منهم بين قتيل وأسير، والإستيلاء على مؤونهم ورواحلهم غنائم.
الثالث: المقصود من لفظ(لكم) في الآية جميع الذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ساعة نزول الآية، سواء الذين خرجوا للقتال، أو الذين تخلفوا عنه إلا لضرر، وعموم الرجال والنساء.
الرابع: المقصود أهل البيت ونساء النبي، وما في نزول الملائكة من الغبطة المركبة لهم بسلامةالنبي والمؤمنين وقوة ومنعة الإسلام.
الخامس: لقد سأم المسلمون لغة التهديد والوعيد التي يطلقها الكفار، ويروج لها المنافقون واليهود في المدينة المنورة، فجاءت البشارة لتصنع حداً لآثار هذه اللغة، وتبعث الغيظ والحنق في نفوس أعداء الإسلام.
السادس: المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون جميعاً في أجيالهم المتعاقبة وإلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير، إذ تشمل البشارة عموم المسلمين بالتبعية والإلحاق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنين الذين ينزل الملائكة لنصرتهم وإعانتهم، لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق ولغة العموم في الخطاب إلا مع القرينة الدالة على التعيين والحصر.
الثاني: نزول الملائكة لنصرة المؤمنين نعمة من عند الله، ونعمه سبحانه باقية بالذات وبالأثر المترتب عليها، فيغترف منها المسلمون في كل زمان ومكان.
الثالث: حاجة المسلمين جميعاً لنعمة نزول الملائكة للنصرة، خصوصاً مع إستمرار التحدي والتعدي من الكفار وجيوشهم.
لقد أراد الله عز وجل لهذه الآية أن تكون وعاء قرآنياً للبشارة، وهي بذاتها بشارة سماوية، فما أن نزلت الآية حتى دخل الفرح والسرور إلى قلوب المؤمنين، فليس ثمة مسافة ووقت بين كل من:
الأول: نزول الآية والوحي بها، فنزول جبرئيل عليه السلام بهذه الآية بشارة للمؤمنين.
الثاني: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية، وهي ساعة غبطة وعهد للمؤمنين المرابطين في ميدان المعركة، فقد نال الصحابة المقاتلون يوم أحد شرف القتال في سبيل الله، والمرابطة بعد المعركة للتصدي للكفار إذا رجعوا ومنعهم من النيل من شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوصول إلى المدينة.
الثالث: تلقي المؤمنين هذه الآية، وسماع كلماتها وما فيها من المضامين، ومن وجوه البشارة فيها أنها نص لا يقبل التعدد في تأويله، ولا يحتمل ظاهراً وما هو خلاف الظاهر.
وتلك آية في الفضل الإلهي، إذ يأتي نص جلي يشترك الجميع في فهم معناه المتحد، إن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد علم سبحانه ما داهم المؤمنين من أسباب الخوف والحزن بسبب عزم الكفار على العودة إلى ساحة المعركة، مع قلة عدد المؤمنين وما عندهم من المؤون، وهم لم يخرجوا إلا جهاداً في سبيله[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
وجاءت هذه الآية وما فيها من البشارة من المصاديق التي تدل على رفعة الإسلام ونصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنع الكفر من الإستحواذ على القلوب والبلدان.
فمن وجوه البشارة في هذه الآية أن عصراً جديداً أطل على الأرض، إذ أخذت شمس الإيمان تبزغ على ربوع الأرض، وتزيح الكفر والضلالة من أمصارها على نحو التدرج.

لقد بدأ الزحف المقدس لمبادئ الإسلام بالقرآن والسنة وجنود الإسلام ومعهم الملائكة عضداً وناصراً ومدداً وظهيراً، قال تعالى[وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] ( ).
لقد جاء الأنبياء السابقون بالبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان صفاته وعلاماته لإعانة الناس على إتباعه، وإجتناب التردد والعناد، وتوارث أتباعهم هذه البشارة وجاءت هذه الآية لتكون مصداقاً لهذه البشارة، وتوكيداً وبياناً لها، وأن النبي الذي بشّر به الأنبياء إنما تنزل الملائكة لنصرته وإعانته، وتوكيد قانون من شعبتين:
الأولى: إن إتباع الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب عيني على المكلفين رجالاً ونساءً.
الثانية: إن الخزي والهزيمة تلحقان من يعاديه ويحاربه.
ومن الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص البشارة أمور:
الأول: تقدم البشارة به على زمانه بأن تأتي الكتب السماوية بالإخبار عن رسالته، وملازمة النصر للوائه.
الثاني: دعوة الأنبياء السابقين أصحابهم للتصديق بنبوته.
الثالث: توارث أتباع الأنبياء البشارة بإشراقة بعثته على الأرض، وما فيها من ظهور الدين، وإنحسار الكفر والضلالة.
الرابع: تبعث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفزع والخوف في قلوب الكفار، وهي حجة عليهم وعلى عموم الذين يصرون على الإعراض عنها.
الخامس: إن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البشارات على نصره وغلبته على أعدائه، ودليل على صدقها وصحتها، وشاهد على تحقق مضامينها.
ومن الآيات أن النصر في معركة بدر سبق البشارة بنزول الملائكة يوم أحد، وحال المسلمين بالنسبة لكثرة الكفار وعدتهم مشابه لحالهم يوم أحد، لتأتي البشارة وتكون مدداً إضافياً للمؤمنين، وتخفيفاً عنهم بعد الجهد والمشقة في معركة بدر وأحد.
لقد صبر وقاتل المسلمون يوم بدر ثم يوم أحد مع قلتهم ونقص مؤونتهم، فجاءت البشارة شكراً من الله عز وجل لهم، وهو الشاكر العليم، وتعضيداً لهم، وإعانة لهم في مواصلة الصبر في ميادين القتال، وبعث الإستعداد في نفوسهم للمعارك القادمة والجهاد في سبيل الله، ولتبقى البشرى الواردة في هذه الآية على وجوه:
الأول: إنها مائدة سماوية ينهل منها المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثاني: تؤكد البشرى قانوناً سماوياً ثابتاً.
الثالث: إنها مصداق متجدد لبشارات الأنبياء السابقين وجهادهم وصبرهم في الدعــوة إلى الله عز وجل.
الرابع: تكون هذه البشارة مادة وموضوعاً لتعاهد المسلمين للفرائض وتقيدهم بأحكام الحلال والحرام.
الخامس: دعوة الناس جميعاً إلى دخول الإسلام، وإجتناب الإقامة على الكفر، وهذه الدعوة على وجوه وأفراد زمانية طولية متعددة من جهات الأولى:
الأولى: أوان نزول البشارة.
الثانية: عند إنقضاء معركة أحد بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمتناع المسلمين على الهزيمة والذل.
الثالثة: عند رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى المدينة المنورة.
الرابعة: حال السلم وعدم وجود قتال أو مقدماته، فهو مناسبة لعلو راية الحق، وشيوع أخبار النبوة، وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات، وتدبر الناس في مضامين البشارة بالمدد الملكوتي وآثارها ومنافعها ومصاديقها الواقعية.
الخامسة: صيرورة البشارة حرزاً من التعدي على حرمات المسلمين، ومناهج الإسلام.
لقد أراد الله عز وجل للإسلام أن يكون الديانة الباقية إلى يوم القيامة، فجاءت البشارة بنزول الملائكة مدداً للمسلمين لمواجهة الأهواء وأسباب الغواية والضلالة، وهي حرب على الشيطان وأعوانه، ومانع من الإستكبار والجحود وأن بشارة نزول الملائكة لنصرة المؤمنين مقدمة وشاهد صدق على بشارتهم بدخول الجنة والخلود في النعيم قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[بَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين عموم البشارة والنفع من نزول الملائكة للمسلمين والمسلمات للذين إتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة.
وفي مفهوم بشارة نزول الملائكة للنصرة وإختصاصها بالمؤمنين لقوله تعالى في الآية(بشارة لكم) دلالة على أمور:
الأول: إنها بشارة العذاب الأليم للكفار.
الثاني: الخزي في النشأتين للمنافقين الذين إنخزلوا في الطريق إلى معركة أحد، قال تعالى[بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
الثالث: البرهان العملي بأن المسلمين على الحق وأن الله ناصرهم، وقد حاول أقطاب قريش إيهام الناس واللبس عليهم، فمثلاً قال أبو جهل يوم بدر حين إلتقى الجمعان(اللهم أقطعنا للرحم و أتانا بما لا نعرف فانصر عليه عن الحسن و مجاهد و الزهري و الضحاك و السدي و في حديث أبي حمزة قال أبو جهل اللهم ربنا ديننا القديم و دين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك و أرضى عندك فانصر أهله اليوم) ( )، فجاءت البشارة بالمدد الملكوتي فضحاً لرؤساء الشرك.
الرابع: دعوة الناس جميعاً لدخول الإسلام، إذ أن البشارة الواردة في الآية دعوة سماوية وتتصف بأمرين كل فرد منهما عضد عملي لها وهما:
الأول: المصداق الأرضي لمضامينها القدسية.
الثاني: تجلي الشاهد الحسي لها.
قوله تعالى [وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]
بعد ذكر القرآن لرشحة ونعمة متفرعة عن المدد الإلهي بالملائكة وهي الإستبشار والغبطة التي تتغشى عموم المؤمنين، جاء هذا الشطر من الآية لبيان نعمة أخرى مترشحة عن المدد الملكوتي للمؤمنين وتتجلى ببعث السكينة في قلوب المؤمنين لتتعدد النعم على المؤمنين ذاتهم، وتلك آية إعجازية بأن يأتي الفضل الإلهي المتحد فتتفرع عنه نعم كثيرة.
ويحتمل ذكر الآية نعمة البشرى والطمأنينة أموراً:
الأول: إنحصار الأثر المبارك المترتب على المدد الملكوتي بهما خصوصاً مع مجيء أداة الحصر “إلا” في قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى].
الثاني: جاء ذكر النعمتين من باب الفرد الغالب والأهم.
الثالث: ذكر البشرى والطمأنينة بلحاظ أوان المعركة وحاجة المؤمنين لكل منهما ومنافع المدد أعم وأكثر.
الرابع: كل فرد من النعمتين تتفرع عنه نعم كثيرة.
الخامس: جاءت خاتمة الآية لبيان نعمة أخرى وهي أن النصر من عند الله، ومن أبهى وأحسن صيغه المدد بالملائكة من السماء.
وبإستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة، وذكرت الآية طمأنينة القلوب كنتيجة للمدد الملكوتي، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: تنزل الطمأنينة مصاحبة للوحي بالمدد من غير تخلف عنه، فالطمأنينة موضوع نازل من السماء مع الوحي.
الثاني: طمأنينة القلوب أثر للإخبار عن المدد الملكوتي.
الثالث: متى ما نزل الملائكة لنصرة المؤمنين فان قلوبهم تسكن، وروعهم يهدأ، وخوفهم يزول.
الرابع: لقد أراد الله عز وجل أن تطمئن قلوب المؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد، ولا يخشون عودة الكفار للقتال فوعد الله نبيه الكريم والمؤمنين بالمدد الملكوتي ليزول عن قلوبهم الخوف والفزع من كثرة الكفار، ورجوعهم مرة أخرى للقتال.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالطمأنينة تبدأ مع نزول الآية الكريمة وعندما ينزل الملائكة للنصرة تتجدد وتستقر هذه الطمأنينة في القلوب وتكون كالملكة عند المسلمين،وتساهم هذه الآية الكريمة في تعاهده وإستدامته عند المسلمين.
لقد تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن خصائص خير أمة إمتلاء نفوس أفرادها بالسكينة والطمأنينة، وكما أكرم الله عز وجل آدم عليه السلام وأمر الملائكة أن يسجدوا له بعد أن أنبأهم بأسماء الأشياء التي سألهم الله عز وجل عنها بقوله تعالى [يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] ( )، فان الله عز وجل أكرم المسلمين بالطمأنينة بعدة أمور:
الأول: التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الخروج معه للقتال.
الثالث: القتال يوم بدر وأحد بصبر وتفان وإخلاص.
الرابع: الصبر في ميدان القتال عند سماع الأخبار بعزم الكفار على العودة للقتال من جديد في معركة أحد.
فمن مصاديق الصبر الذي ذكرته الآية السابقة كشرط لنزول المدد من الملائكة بقوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( )، أن يمكثوا في ميدان المعركة مستعدين للقتال، مظهرين معاني الطاعة لله ورسوله، فجاءت هذه الآية لمنع دبيب الخوف إلى قلوبهم وهم في ميدان المعركة، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
فكان جيش الإسلام محتاجاً إلى الإتحاد والإمتناع عن الفشل وعن معصية الله ورسوله، وأسباب الشك التي تعتبر من وجوه الإختلاف والفرقة، وإذ توّقى المسلمون من الخوف في ميدان المعركة، فمن باب الأولوية أن يسلموا منه، ويتخلصوا من آثاره في حال السلم والحضر.
لذا تفضل الله عز وجل بسلامتهم من شعب وأفراد الخوف في حال تتصف بأمور:
الأول: الفراغ للتو من معركة قاسية، أصابت المؤمنين فيها جراحات كثيرة.
الثاني: كثرة عدد وعدة جيش العدو.
الثالث: إصرار الكفار على الإنتقام من المؤمنين.
الرابع: الخوف على حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: طلب الكفار له.
الثاني: تعرضه للإصابة وإشتراك أكثر من واحد من المشركين في جرحه(وعن أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته)( ).
الثالث: قلة من دافع عنه يوم أحد إذ تفرق عنه أكثر أصحابه.
الخامس: الخوف على الإسلام في بدايات تأسيس دولته.
السادس: الخشية على آيات القرآن من جهات:
الأولى: الآيات التي نزلت من القرآن قبل يوم أحد، ومحاولة تعريضها للتحريف، والإنشغال عن حفظها.
الثانية: الآيات والسور القرآنية التي لم تنزل بعد، والتي نزلت تباعاً بعد معركة أحد وإلى حين إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الثالثة: تفسير وتأويل الآيات حسب القواعد.
الرابعة: ما يتطلع إليه المسلمون من نزول آيات الأحكام وأكثرها نزل بعد معركة أحد، مما يدل على الحاجة لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
فإن قلت إن نزول القرآن أمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبار أنه لا ينزل على غيره من البشر، وهو خاتم النبيين فما هو شأن المؤمنين في المقام.
والجواب من وجوه:
الأول: إنهم جند لله عز وجل.
الثاني: المؤمنون حفظة للقرآن ويتلون آياته ليتركوها تركة لأبنائهم وذراريهم من بعدهم.
الثالث: أنهم دعاة للإسلام يقتدي بهم الناس في أفعالهم العبادية.
الرابع: إنهم شهود على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإنقيادهم إليه، وتلقيهم التنزيل والأحكام منه بالقبول والتصديق.
الخامس: المؤمنون يذبون عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه كان معرّضاً للضرر والقتل في كل يوم من أيام حياته لكثرة أعداء الإسلام وخبث مكائدهم فجعل الله عز وجل المؤمنين واقية له من الشرور، وحجة على الكافرين ثم نزل قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
السادس: إن نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لايعني أنه خاص به، قال تعالى[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] ( ).
وهل كانت الطمأنينة حاجة للمؤمنين أم أنها نافلة تفضل الله عز وجل بها عليه، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول: حصول الهم بالفشل والجبن عند فريق من المؤمنين كما جاء قبل خمس آيات [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ).
الثاني: شدة ضراوة القتال يوم أحد.
الثالث: قلة عدد المؤمنين في مقابل كثرة العدو.
الرابع: إستشهاد عدد من المؤمنين وإصابة الجروح لعدد غير قليل منهم.
الخامس: كثرة أعداء الإسلام، والذين يكيدون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وقيامهم بعقد عهود ومواثيق بينهم لمحاربة المسلمين.
السادس: نقص المؤون عند المؤمنين، وضيق المدينة المنورة بالمهاجرين لكثرتهم وإزدياد عددهم بإطراد، والخشية من إستدامة الفقر وحصول أسباب للنفرة والخلاف في المدينة.
السابع: إظهار الكفار عزمهم على الإنتقام من المؤمنين، خصوصاً بعد واقعة بدر وقيام المؤمنين بالسعي للتعرض لقوافل قريش.
الثامن: حاجة المؤمنين لأداء الفرائض والعبادات في حال السكينة والأمن.
التاسع: كثرة المكائد التي يتعرض لها المسلمون متحدين ومتفرقين.
لقد فاز المسلمون بنيل الطمأنينة بصبر عدد منهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال وإنتظار العدو، لتكون الطمأنينة على وجوه:
الأول: حرز من الفشل والجبن والخور.
الثاني: أمن من الخوف والخشية من الكفار، وجيوشهم الكبيرة.
الثالث: واقية من الشك والريب، فصحيح أن الآية نزلت في ساحة المعركة إلا أنها تتضمن مسائل:
الأولى: تتغشى مصاديق الطمأنينة حياة المسلمين في حال السلم والحرب، والحضر والسفر.
الثانية: الطمأنينة في المعركة واقية من الجزع واليأس.
الثالثة: تجلي معاني الطمأنينة على هيئة وحال المسلمين في أشد الأحوال حرجاً وشدة، ورجحان كفة الكفار في ميدان المعركة دعوة للناس لدخول الإسلام.
الرابعة: الطمأنينة والسكينة عند المسلمين برزخ دون طمع قريش بإصابتهم بالوهن والضعف، وما يبعث اليأس في نفوسهم من الإرتداد.
الخامسة: بيان الأثر والنفع العظيم على النفس والجوارح والسلوك للإيمان، فقد كانت العرب تمدح السجايا الحسنة مثل الحلم والشجاعة والكرم والعفو.
وقد جعل الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبيلاً للكمال الإنساني، والمسلمين رواد وأئمة الأخلاق الحميدة.
ويحتمل أمر الطمأنينة عند المؤمنين قبل نزول هذه الآية وجوهاً:
الأول: لم تكن الطمأنينة والسكينة موجودة عند المسلمين قبل نزول هذه الآية، وكانوا في فزع وخوف متصل.
الثاني: إرادة حال معركة أحد، فان الفزع والخوف لم يطرأ على المسلمين إلا يوم أحد.
الثالث: كان المؤمنون على مرتبة من الطمأنينة وجاءت البشارة بالمدد الملكوتي لزيادتها ورسوخها في النفوس.
والصحيح هو الأخير، لوجود ملازمة بين الإيمان والسكينة قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بإستدامة الذكر، وتكراره يومياً على نحو الوجوب في الصلاة وما فيها من التلاوة والتسبيح.
لقد ذكرت الآية موضوع وأثر المدد الملكوتي المبارك على المؤمنين، وأنه بشارة ومناسبة للغبطة وإمتلاء نفوسهم بالسرور والفرح به وسط الخوف الشديد وأنباء رجوع الكفار للقتال والتعدي على حرمات الإسلام.
لقد بدأ الإسلام بأفراد قلائل، ولما أظهروا صدق الإيمان، وعزموا على ملاقاة الحتوف بصبر ورضا، وإنعدام المدد من أهل الأرض خصوصاً بعد أن إنسلخ المنافقون وهم ثلث الجيش في الطريق إلى أحد، ووقوع الخسائر الكثيرة في صفوف المؤمنين، وهذه الخسارة فرصة للمنافقين لبث سمومهم ونشر الأخبار السيئة التي تثبط وتبعث الخوف في نفوس الذين تخلفوا من المسلمين ونساء النبي وأسر وعوائل المؤمنين.
فلم يبق إلا باب السماء فلجأ النبي وأصحابه إلى الدعاء كما في معركة بدر[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ) فإنفتح عن آلاف من الملائكة يأتون دفعة واحدة لنصرة وإعانة المؤمنين والبطش بالكفار لتكون إنعطافة في تأريخ الأرض نحو بناء دولة الإسلام، ومنع إستحواذ الكفر والظلم على قلوب الناس.
وهو من مصاديق البشارة وطمأنينة القلوب المذكورين في هذه الآية الكريمة لأن البشارة والسكينة أعم من أن ينحصران بالأمن في ساحة المعركة وبزوال الخوف من جيوش الكفار.
ليشمل طمأنينة النفوس في أمور:
الأول: سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الكفار، خصوصاً وأنهم أصبحوا على بعد أمتار قليلة منه في ساحة المعركة وإستطاعوا أن يصيبوه بجراحات، (وسال الدم على وجهه . فأنزل الله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]( )، بأخذكم الفداء) ( ).
لقد ندم المشركون على إنسحابهم من غير قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع ظنهم بأن هذا الأمر أصبح سهل المنال من خلال رجحان كفتهم على كفة المؤمنين الذين ظهر الفشل والخوف والجبن عند فريق منهم، وترك أكثرهم ميدان المعركة هرباً من شدة القتال.
وستبقى نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد معجزة من معجزاته، وشاهداً على صدق نبوته بلحاظ وعزم الكفار على الإنتقام منه لخسارتهم وقتل كبرائهم يوم بدر.
ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثناء المعركة يوم بدر في خطر مباشروقريب من الأعداء، بل هجم المسلمون عليهم هجمة رجل واحد بعد المبارزة التأريخية بين ثلاثة من أهل البيت وثلاثة من فرسان المشركين إنتهت بمعجزة أيضاً بغلبة أهل البيت وإندحار الكفار، أما في أحد فقد إلتحمت خيول المقاتلين، ودارت الدائرة على الكفار في بداية المعركة، وإستعدوا للفرار لولا خطأ بعض الرماة، فإشتد الوطيس وتدافع الكفار.
على كثرتهم لميادين القتال فاصبحت حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطر شديد، قال تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]( ).
الثاني : مما يمتاز به القرآن أن آياته نزلت نجوماً وعلى مراحل وفي ثلاث وعشرين سنة.
وجاءت معركة أحد ولم يكتمل نزول آيات الأحكام لاسيما وأن الكثير منها جاءت في سورة المائدة وهي آخر سور القرآن نزولاً.
وطلب الكفار لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني أنهم يريدون عدم إكتمال نزول القرآن فليس من نبي من بعده والقرآن لاينزل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الحصر والتعيين.
هل إنحصر نصر النبي والمؤمنين وسبيل إستدامة نزول القرآن بالمدد الملكوتي من السماء, الجواب إن الله عز وجل واسع كريم وهو القادر على نصرة المؤمنين بوجوه منها:
الأول: الريح والسحاب والغيث.
الثاني: الملائكة كما في معركة بدر.
الثالث: إلقاء بأس الكفار بينهم.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الخامس:مبادرة فريق منهم لدخول الإسلام.
السادس: تثبيت المؤمنين في مواضعهم وخذلان الكفار.
ليس من حصر لصيغ نصر الله للمؤمنين , وما تحيط بها عقول وقدرات البشر أقل مما يجهلونه ويعجزون عن الإحاطة والعلم به.
وتفضل الله عز وجل بالوعد الكريم لبيان عظيم قدرته , والصلة المباركة بين أهل السماوات والأرض بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ بدأت أحكام نزول الملائكة لنصرة المؤمنين في دلالة على وجود أسباب النصرة الأخرى من الأرض والسماء من باب الأولوية القطعية.
فإذا جاء النصر من السماء بنزول الملائكة فان النصر يأتي من أهل الأرض أيضاَ، وهذا النزول مقدمة وباب لنصرة أهل الارض لأنه معجزة تدعو الناس للإيمان ودخولهم أفواجاً في الإسلام فبعد هذه النصرة تغيرت كيفية دخول الناس الإسلام فبدل أن يدخلوه أفراداً أصبح دخولهم على نحو الجماعات والقبائل والأفواج , قال تعالى [ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )
ونسبت الآية نزول الملائكة لله لأن الملائكة لا ينزلون إلا بأذن منه عز وجل فليس بعده هزيمة للمؤمنين أو نصر للكافرين.
لقد أصبح الكفار في حال هزيمة وخوف دائم وهو من أسباب بعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين أي أن الطمأنينة تترشح عن البشارة ونزول الملائكة من وجوه:
الأول: ذات البشارة وموضوعيتها في بعث الطمأنينة في النفوس.
الثاني: نزول الملائكة ناصرين للمؤمنين.
الثالث: إمتلاء قلوب الكفار بالرعب والفزع.
الرابع: رؤية المؤمنين لما يحل بالكفار من أسباب الهزيمة والخوف والذعر الشديد.
فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بآيتين متداخلتين هن من أمهات النعم :
الأولى: حفظ القرآن وعدم وصول يد التحريف إليه، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثانية: سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الكفار وأعداء الإسلام، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وما أن يدخل الفرد والجماعة الإسلام حتى تمتلأ نفوسهم بالسكينه والطمأنينة ليأتي أداؤهم الصلاة سكينة إضافية لهم.
لذا فإن أفراد القبائل يأتون إلى المدينة للقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنطق بالشهادتين وأداء وإتقان الصلاة وأخذ الأحكام الشرعية ويرجعون إلى قبائلهم فلا يلبثون إلا أياماً معدودات فيأتون بالأفواج من أبناء عمومتهم ويخبرون عن دخول قبائلهم رجالاً ونساءًُ الإسلام وأدائهم الصلاة جماعة ويسألون حاجاتهم ولم تكن تلك الحاجات شخصية ودنيوية بل إنهم يريدون التفقه في الدين , والإذن لهم بالخروج للجهاد والقتال في سبيل الله والفوز بنصرة الملائكة لهم وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يتوالى دخول الناس الإسلام على نحو الجماعات والمتعدد ويبادرون إلى الجهاد في سبيل الله بصدق وإخلاص ، وفيهم من إشترك مع الكفار في قتال المؤمنين ولكن أدركته التوبة.
وتلك آية فبعد أن كانوا يقصدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ويتناجون لملاقاته بالسيوف والرماح , جاءوا للتشرف بلقائه والنطق بالشهادتين ورؤية حاله ساعة نزول الوحي للنبي وإنفصاله عنه وتلاوته للآيات الجديدة التي جاء بها جبريل، ويشكرون الله على توبتهم وسلامتهم من القتل على أيدي الملائكة ودخولهم النار , وصيرورتهم جنوداً لله ورسوله يتطلعون إلى نصرة ذات الملائكة لهم وهو من مصاديق رد الله على الملائكة يوم جعل أدم خليفة في الأرض ورد إحتجاجهم بأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وهو من عمومات تعليم آدم الأسماء كلها[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )، بأن جعل الإنسان قادراً على التمييز بين الحق والباطل والتدبر في الآيات والمبارزة إلى التوبة والإنابة.
أي ان الله سبحانه يعلم بأن من الذين ينزل الملائكة لقتالهم ودفعهم عن خاتم النبيين وسيد المرسلين سيكونون جنوداَ لله ورسوله ويقاتلون دونه ويكفون الملائكة النزول إلى الأرض مدداَ للمؤمنين.
فجاءت هذه الآية وعداّ كريما بنزول الملائكة، وفيه مسائل:
الأولى: كثرة عدد المسلمين بعد نزول هذه الآية.
الثانية: إزدياد المسلمين إيماناً وقوة.
الثالثة: قلة عدد الكفار وضعف شوكتهم.
الرابعة: دبيب الخلاف والوهن بينهم.
فلا تبقى ضرورة لنزول الملائكة للنصرة بل تقوم الملائكة بتدوين الصالحات للمؤمنين وتدعو لهم بالنصر والظفر.
ويكون من خصائص المسلمين مباهاة الملائكة بهم وتغييرهم لحال وفعل الإنسان في الأرض، بإزاحة الكفر والظلم عن مراكز الزعامة والإمامة في الأرض، ومواصلة الجهاد لتنزيه الأرض منه، فكما نزل القرآن نجوماً فإن المسلمين مواظبون على محو أسباب الكفر والشرك من الأرض.
لتتغشى الطمأنينة المذكورة في هذه الآية الذين دخلوا الإسلام بعد معركة أحد، وتكون هذه الآية في صلاتهم وفي المصاحف، وتصير تلاوتها شكراً لله عز وجل على نعمة الوعد الإلهي الذي ترشحت منه الطمأنينة والسكينة على نفوسهم.
وكما أنه ليس من حد لصيغ نصر الله للمؤمنين،فإنه ليس من حد للمصاديق والأفراد الذين أصابتهم السكينة ببركة هذه الآية الكريمة، ولا غرابة في إحتجاج الكفار مع نزول القرآن على نحو التبعيض والتفريق وإنبساطه على الأيام والأشهر والسنين، وحال الحضر والسفر[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً]( ).
لقد أرادوا السطو على آيات القرآن، والسعي في تحريفه قبل أن يرسخ في الوجود الذهني ويكون حاضراً عند كل المؤمنين، وقبل تلاوتهم له في صلاتهم، وتفقههم في آياته وما فيها من الأحكام والسنن، وحاولوا حجب البشارات التي ترد للمؤمنين في ساعة الإمتحان والشدة، والتي يشهد فيها أهل السماوات لهم بصدق الإيمان فيتدافعون لنصرتهم، وتنعدم المسافات بين السماء والأرض، كما في الآية محل البحث ونزول آيات من القرآن في ساحة المعركة وحال القتال مع الكفار.
وفي تأخر نزول آية البشارة والسكينة هذه لحين تجلي معاني الصبر والتقوى في صفوف المؤمنين فضح للمنافقين الذين ظنوا خسارة المؤمنين وعجزهم عن مواجهة الجيش العرمرم الذي زحف من مكة إنتقاماً وثاراً وعزماً على البطش، فقد قاتل المؤمنون في سبيل الله بصبر وإحتساب ولم يعلموا وهم في الطريق إلى أحد أن الملائكة ستنزل لنصرتهم، ودفع العدو وكيده عنهم، لذا إنخزل المنافقون عنهم وكانوا نحو ثلث الجيش.
وعندما قال نفر من الأنصار يوم أحد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(يارسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ قال: لا حاجة لنا فيهم)( ).
وفيه أمارة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأن الله عز وجل سينصره على الكافرين، ويجعله والمؤمنين في غنى عن المدد من اليهود، وهل هو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ]( ) وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بآية البشارة والمدد الملكوتي قبل الخروج إلى أحد، الجواب لا دليل في الآية عليه مع الإقرار بعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر، وهو أعم من أن ينحصر بالعلم بهذه الآية قبل نزولها.
الثالث: لقد جاء القرآن مهيمناً على الكتاب، ومبيناً لأحكام الشريعة الباقية في الأرض إلى يوم القيامة، وليس من إنسان إلا وهو بحاجة إلى القرآن وإن نزلت كتب سماوية قبل القرآن وعلة هذه الحاجة على وجوه:
الأول: كمال أحكام الشريعة منحصر بالقرآن.
الثاني: تعرضت الكتب السماوية السابقة للتحريف والتغيير.
الثالث: القرآن كلام الله عز وجل المعجز المقرون بالتحدي والسالم من المعارضة.
الرابع: في القرآن تبيان لكل شيء.
الخامس: في تلاوة كل حرف من حروف القرآن البالغة(321188) عشر حسنات، لتكون تلاوته وسيلة لإكتناز الحسنات إلى جانب أنها مقدمة لفعل الصالحات، وسلاح وواقية من السيئات لما تبعثه في النفس من التقوى والخشية من الله، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
السادس: تبعث تلاوة القرآن في النفوس الطمأنينة والسكينة، ومنه الآية محل البحث والتي هي بشارة وسكينة للمسلمين الذين يتلونها.
السابع: كل آية من آيات القرآن مدرسة في البشارة والإنذار والوعد والوعيد، وهو مناسبة للذكرى، وإستحضار الوقائع، وإقتباس الدروس منها، قال تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا] ( ).
الثامن: في القرآن أحسن القصص التي تستقرأ منها الحكمة، وتنهل منها الأمم العبر، وتحكي كل قصة فيه سجايا إنسانية، وتدعو لإصلاحها وتهذيبها سواء قصص الأنبياء والصالحين أو قصص غيرهم، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
الثامن: مجيء القرآن بأمهات الأمثال والمواعظ التي تكون كافية للناس في إستنباط المسائل والعبر منها، وتؤكد أمثال القرآن على وحدة سنخية البشر وعالم الأفعال، وإمكان إصلاحهم، وتهذيب ألسنتهم وأفعالهم، والإنتفاع من الأمثلة القرآنية، قال تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
و(كل) الوارد في الآية أعلاه سور الموجبة الكلية، وفيه شاهد على أن القرآن جامع للأصول والفروع التي تقتبس منها المسائل.
التاسع: مجيء القرآن لبعث السعادة والسرور في نفوس المؤمنين، وهذا البعث أمر حال، ومغاير للوعد إذ قد يتخلف الأمر الموعود به عن الوعد، والمبشر به عن البشارة، ولكن السعادة والغبطة يأتيان مع نزول وتلاوة القرآن، قال تعالى [طهمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى] ( ). نعم الوعد القرآني من مواضيع وأسباب هذه السعادة والغبطة سواء تعلق الوعد بأمور الدنيا أو حسن المقام في الآخرة، أو كان جامعاً لهما معاً، كما في الوعد الوارد في هذه الآية الكريمة فإنه أمر حال وحاضر وآية معجزة إلى جانب أنه باب للأجر والفوز بالثواب العظيم يوم القيامة. العاشر: بعد أن تجرأت يد التحريف على الكتب السابقة، وكان الناس متباعدين في مساكنهم وأمصارهم، مما يتعذر معه الإحاطة العامة بآيات الأنبياء الحسية كناقة صالح وعصا موسى، وإبراء عيسى عليه السلام للزمنى كما جاء حكاية عن لسانه [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ]( )، جاء القرآن معجزة عقلية ومصداقاً لمعجزات الأنبياء الحسية ومثبتاً لها، فهو حرب على الذين كذّبوا موسى وعيسى من الأموات والأحياء. والتصديق بالكتب السابقة مقدمة للتصديق بالقرآن لوحدة سنخيتها ونزولها جميعاً من عند الله عز وجل. الحادي عشر: في نزول القرآن توثيق لمضامين ونصوص التوراة والإنجيل ودعوة سماوية لكشف ما فيها من التحريف بعرضها على القرآن، وواقية من حدوث تحريف جديد فيها. ومن أسباب التحريف إنحصار التنزيل بها وطمع الرؤساء والكبراء، وحرصهم على الرئاسة بالباطل. فجاء القرآن بياناً وتبياناً لكل شيء، ومعصوماً من آثار النفس الشهوية والغضبية والغايات الخبيثة، فقانون التصديق شامل ومتبادل بين الكتب السماوية السابقة القرآن، ليقف في قبالها فهو يصدقها، وهي تصدقه وتشير إليه. ومن وجوه هذا التصديق البشارة به ومجيء تلك الكتب بصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيهما أكثر أهمية ونفعاً: الأول: تصديق الكتب السماوية السابقة للقرآن . الثاني: تصديق القرآن للكتب السابقة. الجواب هو الثاني وهو من وجوه تفضيل القرآن إذ أن القرآن يحمل معاني التصديق الذاتي لما في آياته من الإعجاز الذاتي والغيري. فكل آية تصدق نفسها بأنها نازلة من عند الله، وتكون تصديقاً لغيرها أيضاً، وهناك نفر من أهل الكتاب كتبوا الكتاب بأيديهم ويقولون هو من عند الله، وجاءهم الإنذار في القرآن[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ]( ). فجاء نزول القرآن فضحاً لهم، وبرزخاً دون تماديهم في التعدي على التنزيل ومانع من ترتيب الأثر على التحريف والإختراع في الكلم، ولتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من الثواب العاجل الذي ذكرته الآية أعلاه. ولما أرادت قوى الضلالة إستئصال المؤمنين في يوم أحد، وجعل التحريف يتصل ويكون في مأمن جاء نزول الملائكة ليكون واقية وسلاحاً ضد التحريف، وكتابة الكتاب إفتراءً وزوراً، وفيه وجوه: الأول: إنه من مصاديق البشارة الواردة في هذه الآية. الثاني: من أفراد البشارة سلامة التنزيل من التحريف. الثالث: إنه من مصاديق الطمأنينة في المقام، الطمأنينة على القرآن إنه سيبقى إلى يوم القيامة في مأمن من التحريف والتشويه والتغيير، وأن أيدي الإفتراء لن تصل إليه ولن تستطيع جماعة أو أمة أن تبتدع كلاماً وتقول أنه من عند الله عز وجل. الثاني عشر: لم تنحصر الحرب التي شنهــــــا أقطاب الكفر والضلالة على الأنبياء بالتعدي والقتل، بل شملت الكتب الســماوية المنزلة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وإتخــــاذ النبوة والــــــكتاب في الــدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث الناس على نبذ الضلالة والنفرة من السيئات، والإعراض عن الظالمين. وشملت هذه لحرب كتمان وتحريف التنزيل، ومحاولة تعطيل أحكامه طمعاً بمتاع قليل زائد، قال تعالى[الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى] ( )، فجاء القرآن لبيان الآيات بكيفية سماوية معجزة تترشح عنها العلوم والأسرار الغيبية إلى يوم القيامة. الثاني عشر: لقد جاء نزول الملائكة والوعد به لتوالي نزول آيات الأحكام، وبيان الحلال والحرام من عند الله، وإنتفاء الفرقة والخلاف بين المسلمين، ولولا الوعد بنزول الملائكة لحصل ما لا يعلم أثره وضرره إلا الله عز وجل. فمن النعم الإلهية ما يتعلق بحجب الأذى وسوء العاقبة وحال الفزع والخوف والخسائر في الأرواح. قانون طمأنينة القلوب الحياة الدنيا نعمة ورحمة من عند الله، تتجلى بخلق الإنسان في أحسن تقويم وتسخير كل شيء له، ومضامين العبادة والقنوت لله عز وجل، واللطف الإلهي في إعانة الناس على الإنتفاع من النعم في الدنيا، وجعلها طريقاً للآخرة، لتكون الدنيا مناسبة لإستدامة النعم في الآخرة، وجاء في التنزيل في وصف حال أهل الجنة [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ] ( ). وليس من حد للنعم الإلهية على الإنسان مطلقاً في الدنيا، وموضوعات تلك النعم، ومن النعم ما تكون خاصة بالمؤمنين، ومنها ما تكون للناس كافة، فالنعم التي تأتي للمؤمنين أكثر في الموضوع والسنخية والكم والكيف لوجوه: الأول: إنه من باب شكر الله عز وجل العاجل للمؤمنين في الدنيا. الثاني: النعم الإضافية للمؤمنين مقدمة لمقاماتهم في الآخرة، ولبثهم الدائم في الجنة. الثالث: بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل واسع كريم. الرابع: ترغيب الناس جميعاً باللحاق بالمسلمين في الإيمان وعمل الصالحات. الخامس: توكيد حب الله عز وجل للمؤمنين. السادس: إنه من نصر الله عز وجل للمؤمنين في الدنيا. السابع: تثبيت معالم الإيمان في الأرض. الثامن: النعم الإضافية مدد للمؤمنين في الحياة الدنيا. التاسع: إعانة المسلمين على سبل الطاعة، وزيادة إيمانهم، وإصلاحهم لإتيان العبادات. وجاءت هذه الآية لبيان نعم متعددة إختص الله عز وجل بها المسلمين، وهو من الشواهد على تفضيلهم وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن هذه النعم نزول الملائكة مدداً وعوناً لنصرتهم في معركة أحد والقتال ضد الكفار الذين زحفوا للإجهاز على الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر وتعذيب المؤمنين برسالته من غير سبب وعلة تدفعهم لهذه الجناية والتعدي. فجاءت معجزة النبوة ظاهرة جلية بحفظ النبي محمد والمؤمنين بآية من السماء وفيها مسائل: الأولى: توكيد صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الثانية: دعوة الناس للإيمان بها. الثالثة:طرد الفزع والخوف من قلوب المؤمنين. لقد بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته بأهل بيته وعدد قليل من الأصحاب وليس معه من أهل السماء إلا الوحي، ولا من أمصار أخرى أو فرق من أتباع الأنبياء السابقين ولاقى أشد أنواع الأذى من قريش فهاجر إلى الطائف ولم يجد أعواناً وأنصاراً يذبون عنه لاسيما وان الطائف قريبة من مكة إذ أنها تبعد نحو ثمانين كيلو متراً عنها. فهاجر إلى يثرب وهي أبعد كثيراً وفيها له أنصار، ولكن قريشاً لم تكف عن التعدي على النبوة والإيمان بل زحفت بخيلائها وزهوها، والإسلام في بدايات الدعوة والنشأة ، فجاء المدد اللامتناهي للمؤمنين. فصحيح ان عدد الملائكة محدود بثلاثة آلاف، وخمسة آلاف كما في الآيتين السابقتين إلا أن فعل وأثر الملائكة غير محدود في ساحة المعركة وفيما بعد، وأما بالنسبة لفعلها فلو إجتمعت جيوش الكفر من أصقاع الأرض لما إستطاعت أن تقف بوجه جيش الملائكة الذي نزل لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. أما بالنسبة للأثر فان منافع كثيرة ترشحت عن هذا المدد ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين، منها هذه الآية الكريمة التي تخبر عن بعث السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، لتكون الطمأنينة ملكة مصاحبة للمؤمنين في نهارهم وليلهم فلا يصيبهم الهلع والحزن والخوف. لقد أظهرت الدراسات العسكرية والنفسية الحديثة أن لحال القلوب موضوعية في سير المعركة، وأعطيت أهمية خاصة للإعلام والحرب النفسية وبث الإشاعات قبل وأثناء وبعد المعركة. وجاءت هذه الآية متقدمة زماناً بنحو ألف وأربعمائة سنة على هذه الدراسات، وبسنخية وماهية تختلف عن الكيفية التي تعمل بها الجيوش ومن يساندها، إذ أن آية واحدة من بضع كلمات غيّرت مجرى التأريخ وبعثت السكينة في قلوب الأجيال المتعاقبة من المؤمنين، فقد تسعى الجيوش ووسائل إعلامها لبث الطمأنينة في نفوس أفرادها، أو بعث الفزع والخوف في صفوف العدو، ولكن هذا السعي يذهب أدراج الرياح لأسباب مختلفة منها: الأول: مقابلة العدو لها بدعاية مشابهة. الثاني: كثرة جنود العدو. الثالث:مجئ الوقائع والأحداث على خلاف تلك الأخبار والأقوال. الرابع: فضح رئاسة الجيش في كثير مما تدل عليه. الخامس: ضعف إيمان أفراد الجيش بالقتال. السادس: إنعدام الأسباب العقائدية والعقلائية له. السابع: طول مدة الحرب. الثامن: بُعد الجنود عن ذويهم، ووجود ترغيب في ترك القتال. التاسع: إدراك الجنود المبالغة وكذب الأخبار التي يراد منها تقوية عزائمهم. وغيرها من الأسباب التي تأتي متداخلة ومتفرقة. أما هذه الآية فقد جاءت بالطمأنينة للمسلمين على نحو القطع والجزم، بحيث تتخلف عن معارضتها الأسباب المادية والعسكرية، ويعجز العدو عن مواجهتها، وإحداث حالة مخالفة لها. فقد بث أبو سفيان وأصحابه الأخبار بعودتهم وعزموا فعلاً على الرجوع للقتال، وعدم الذهاب إلى مكة حتى إستئصال المؤمنين، فخبر عودتهم الذي ذكرته الآية السابقة [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا]( )،لم يكن إشاعة يراد منها بث الخوف في صفوف المسلمين، بل كان عزماً وهماً بالرجوع، ومناجاة بالغايات الخبيثة منه. فكانت الطمأنينة التي نزلت على المؤمنين واقية من هذه المناجاة وصارت سلاحاً لبعث الفزع والخوف في قلوب كفار قريش من العودة إلى القتال، لتنفرد هذه الآية بخصوصية وأثر عظيم، وهو على وجوه: الأول: إزاحة الخوف وطرد الفزع من نفوس المؤمنين في معركة أحد مع قلة عددهم. الثاني: إستقرار الطمأنينة في نفوس المؤمنين. الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار. لقد أصبح كفار قريش يخافون من مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين خلفهم، وتلك آية في فنون القتال ونعمة إلهية فاز بها المسلمون وإستحقوا بها صفة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه شاهد على أن نعم الله على المسلمين في حال الحرب والسلم على وجوه: الأول: النعم الإلهية على المسلمين في حال القتال وساحة المعركة. الثاني: ما يتفضل الله عز وجل به على المسلمين في الرخاء والسلم. الثالث: النعمة التي يتفضل بها الله عز وجل على المسلمين في حال القتال، وتكون حاضرة في حال السلم أيضاً. الرابع: النعمة التي تأتي للمسلمين في حال السلم والرخاء، فتكون سلاحاً ومدداً لهم في القتال. وجاءت نعمة طمأنينة القلوب من الوجه الثالث أعلاه، وكأنها غنيمة عقائدية ونفسية غنمها المسلمون، فمن الآيات في النعمة الإلهية تعدد وجوه النفع منها، وعدم إنحصاره في باب أو جهة مخصوصة. لقد جاءت نعمة الطمأنينة رشحة من رشحات نزول الملائكة مدداً، فهي نعمة عرضية لتتفرع عنها نعم أخرى على المؤمنين، وأسباب للبلاء والشدة على الكفار. ومن مصاديق إستقرار السكينة في قلوب المؤمنين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رجع إلى المدينة يوم أحد ثم خرج في اليوم التالي وهو يوم الأحد السادس عشر من شهر شوال للسنة الثالثة للهجرة في طلب العدو. وأذّن مؤذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس)( ). وفيه مسائل: الأولى: لقد كان المؤمنون بحاجة إلى الرجال يوم أحد، وفي اليوم الثاني تغير الموضوع وأظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكفاية بالمؤمنين الذين معه، وإن قلت كان عدد المؤمنين قليلاً، والعدو ذو عدد وعدة، قلت إن هذا القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أسرار النبوة وشاهد على الإعجاز في نبوته، وأنه ومن معه من المؤمنين إطمأنوا إلى نزول الملائكة مدداً ونصرة. الثانية: منع المنافقين من الخروج ثم النكوص إذ أنهم خرجوا يوم أحد، ثم إنخزلوا في الطريق اليه. الثالثة: إظهار مصاديق الطمأنينة التي جاءت بها هذه الآية الكريمة. الرابعة: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول ولا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل وما ينزل به الوحي قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وكان أمر الخروج في أثر العدو على وجوه:
الأول: حصول اللقاء والقتال، فينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
فان قلت: إن الآية السابقة قيدت المدد والنصرة الملكوتية بما لو رجع الكفار للقتال في الحال، والجواب إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يلحقهم إلى حيث وصلوا، بل خرج إلى حمراء الأسد، وتبعد عن المدينة ثمانية أميال، أي إذا أراد الكفار القتال فلابد أن يرجعوا من وجههم فيصدق عليهم قوله تعالى [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا] ( )، لذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عندما وصل حمراء الأسد (أقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة)( ).
ليتحقق أمر خروجه خلف العدو، وأنه لا يحصل قتال بين الفريقين إلا إذا رجع الكفار من فورهم ووجههم، وقبل وصولهم الى مكة، لأن ذهابهم إلى مكة راجعين ثم عودتهم منها يستلزم أياماً معدودات، ووقتاً أكثر من الأيام الثلاثة التي أقام فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حمراء الأسد.
الثاني: البيان العملي لقدرة المسلمين على القتال، وإن الإصابات التي تعرضوا لها في معركة أحد لم تضعفهم عن القتال.
الثالث: تأكيد إنتفاء الوهن والفشل عن المؤمنين، ولما جاء قبل آيات قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( )، جاء خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طلب العدو مصداقاً لأمور:
الأول: إن الله عز وجل ولي المؤمنين وهو ناصرهم.
الثاني: إنتفاء الفشل بين صفوف المؤمنين.
الثالث: تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للجهاد، وعدم وجود فترة فيه.
الثاني: لقاء العدو من غير حصول قتال، وحينئذ هل ينزل الملائكة للقتال أم لا، فيه وجوه، والأقرب أنهم ينزلون لبعث الرعب والفزع في قلوب الكفار.
الثالث: إنسحاب كفار قريش إلى مكة المكرمة، وعدم رجوعهم إلى ميدان القتال.

بحث فلسفي
إتخذ بعض الفلاسفة الإدراك وماهيته مقسماً للأشياء، وجعلها على قسمين:
الأول: الكيفيات الأولية، وهي التي لا تدرك إلا بالواسطة والآلة، ومن المفاهيم غير المادية واجب الوجود، والنفس والروح، والمادية مثل الشكل والروح.
الثاني: الكيفيات الثانوية، وهي التي تدرك بالحواس مباشرة مثل اللون والطعم والرائحة.
ولكن هذا التقسيم لا يحيط بالأشياء المادية أو غيرها، لوجوه:
الأول: وجود برزخ بينها.
الثاني: التداخل بين القسمين الآخرين، في الأثر وإن تغايرا في الكيفية.
الثالث: صيرورة أحدهما مقدمة وطريقاً للآخر.
الرابع: بديع صنع الله في الإنسان إذ جعل العقل والحواس يعملان مجتمعين ومتفرقين على إدراك المفاهيم، ويكون بلغة للإقرار بالعبودية لله عز وجل وإنتهاج ما هو نافع ومفيد.
وجاءت هذه الآية بذكر طمأنينة القلوب وهي كيفية نفسانية لا تدرك بالحواس، ولكن تظهر آثارها للناس بعالم الأقوال والأفعال، ومنها مرابطة المؤمنين وخروجهم في اليوم الثاني من معركة أحد خلف العدو مع ان الأصل وأسباب الإحتراز بخلافه من وجوه:
الأول: كثرة جيش الكفار.
الثاني: عدم تعرض الكفار لخسائر كبيرة في الأرواح والمؤون، إذ جاء الكفار بنحو ثلاثة آلاف رجل، (قال ابن إسحاق: فجميع من قتل الله تبارك وتعالى يوم أحد من المشركين إثنان وعشرون رجلاً( ).
وهو عدد قليل بالنسبة لمجموع عددهم وجيشهم بينما كان المشركون يوم بدر نحو ثلث عددهم يوم أحد، وقتل منهم يوم بدر أكثر من ثلاثة أضعاف من قتل يوم أحد، وأسر منهم سبعون.
الثالث: كثرة الجراحات التي أصابت المؤمنين.
الرابع: رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الى المدينة، والوصول إلى الأهل والأولاد، وفيه نوع من الميل إلى الراحة والسكينة.
وهو من مصاديق الطمأنينة التي ذكرتها الآية ليشمل موضوع الطمأنينة يوم المعركة وما بعده، فهذه الآية أزاحت عن صدور المؤمنين الخوف من فراق الأهل والأحبة، وتدل البشارة بالدلالة الإلتزامية على الوعد بالرجوع إليهم والإلتقاء بهم، كما أن الطمأنينة تصاحب المؤمنين وهم في عيالهم ووسط أبناءهم بأن الكفار لن يغزوهم بغتة، وأن جاء الكفار فأن المؤمنين قادرون على صدهم ودفعهم وإرجاعهم إلى مكة منهزمين، وفي قوله تعالى[وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا] ( )، ورد عن ابن عباس في الآية أنه قد كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكاً.
الخامس: قلة المؤون والأسلحة والخيل التي عند المؤمنين.
السادس: وجود المنافقين واليهود في المدينة، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين خرجوا لقتال العدو لتتجلى الطمأنينة في القلوب بأثرها، من وجوه:
الأول: يدرك كل واحد من المؤمنين ما هو عليه من السكينة والرضا.
الثاني: إمتناع المؤمنين عن الإحتجاج أو التردد في الخروج خلف العدو، وقد خرج جماعة من المؤمنين في اليوم التالي ليوم أحد، وهم مصابون بجراحات بالغة.
الثالث: الرضا والقبول على نحو العموم المجموعي والإستغراقي من المؤمنين، بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو.
وفي بداية معركة أحد ومع أن الكفار هم الذين زحفوا على المدينة للقتال فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الخروج لقتالهم، ولكن ألحّ عليه بعض المؤمنين فلبس لأمته وخرج، أما بعد معركة أحد ومع ما أصاب المؤمنين من الخسائر والجراحات فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالخروج خلف القوم، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد حصول الطمأنينة في قلوب المؤمنين حال نزول هذه الآية الكريمة.
الثانية: إزدياد قوة ومنعة المؤمنين بالسكينة والطمأنينة.
الثالثة: إذا كان نزول الملائكة مدداً خارجياً، وآية عقلية، في واقعة أحد وبدر، فان الطمأنينة مدد داخلي عند المؤمنين، تترشح عنه منافع عظيمة تبقى صاحباً كريماً مع أجيال المسلمين.
قانون “آية الطمأنينة’’
لقد جعل الله عز وجل القرآن تبياناً لكل شيء، وفيه أسباب الهداية والرشاد إذ أن التبيان نوع طريق للهداية وباب للتفقه وإكتساب العلوم، وسلاح في أمور الدين والدنيا، يصدر عنه المسلمون في أفعالهم ويتزودون من كنوزه وخزائنه لحوائجهم، ويتخذون آياته إماماً وبلغة لنيل المقاصد الحميدة، وقد خرجوا يوم بدر وأحد وهم عدد قليل وفي مواجهة أشد جيوش الأرض ضلالة، إذ كان قيصر في الروم على دين النصارى، وكسرى في فارس على دين المجوسية.
أما كفار قريش فكانوا عبدة للأوثان مع انهم يسكنون في أشرف بقعة في الأرض، وبجوار بيت الله الحرام، وتأتيهم قبائل العرب، والأصل أن يكون هذا الجوار سبباً للهداية والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله عز وجل منهم ومن بينهم بدعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
ولكنهم واجهوه بالتكذيب والإستهزاء والأذى له ولأهل البيت، ولاقى الذين آمنوا به شتى صنوف الأذى فهاجر إلى يثرب تلك الهجرة المباركة التي غيّرت مجرى التأريخ الإنساني، ورسخّت مفاهيم الإيمان إلى يوم القيامة، وأعادت لمكة المكرمة نضارتها ومنزلتها الرفيعة، وتلك آية من آيات النبوة أن يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة خائفاً طريداً هارباً من أهلها ليدخلها بعد ثمان سنوات فاتحاً باسم الله ومحرراً لها، ولأهلها من الأوثان والأصنام.
ومن مفاهيم وأسباب هذه النعمة الطمأنينة التي حلت وإستقرت في نفوس المؤمنين برسالته، والتي جاءت هذه الآية بذكرها وتوكيدها، وجعلها وثيقة بيد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة من وجوه:
الأول: يلتفت كل مسلم إلى ما عنده من السكينة والطمأنينة.
الثاني: معرفة المسلمين لبركات هذه الآية القرآنية، وإدراك قانون ثابت وهو لكل آية بركات مخصوصة.
الثالث: قيام المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة الطمأنينة.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين بلحاظ ان السكينة قوة إضافية عند المسلمين.
الخامس: بيان المائز بين المسلمين وغيرهم.
السادس: توجه المسلمين لذكر الله، وعدم وجود مانع نفسي يشغلهم عنه.
السابع: ذكر سبب من أسباب إنتصار المسلمين في معركة أحد وما بعدها وهو إختصاصهم بملكة الطمأنينة التي هي فرع نزول الملائكة لنصرتهم والله عز وجل قادر أن ينزل الطمأنينة بالذات على المسلمين من غير علة المدد الملكوتي كما في قوله تعالى [ِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قصد مكة المكرمة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة معتمراً لا يريد حرباً، ومعه برواية جابر بن عبد الله الأنصاري (ألف وأربعمائة من الصحابة( )، أرسلت قريش سهيل بن عمرو وجماعة فجاؤوا إليه حينما نزل في الحديبية وهي على مقربة من مكة، وعرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع من عامه ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام.
وكتب علي بن أبي طالب فيه كتاباً بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: إكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم.
ثم قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة.
فقالوا: لو كنا نعلم إنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكتب ما يريدون فاني أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله.
فهّم المسلمون أن يرفضوا هذا القول وأنكروا على وفد قريش سوء فعلهم، فأنزل الله عز وجل على رسوله السكينة فتوقرّوا وحلموا( ).
ومن الآيات أن الطمأنينة نزلت على المؤمنين حينما جاءت قريش لقتالهم، ثم نزلت السكينة والوقار عليهم في الصلح عند التوجه إلى مكة لأداء مناسك العمرة، لتجتمع الطمأنينة مع السكينة عند المؤمنين.
وجاءت الآية محل البحث للإخبار عن تغشي الطمأنينة للمؤمنين، ومصاحبتها لهم، والله عز وجل إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض فإنه سبحانه أكرم من أن يرفعها، لتأتي الطمأنينة لعامة المؤمنين في حال الفزع والخوف والدفاع عن المدينة، والسكينة في حال القوة والعز والزحف نحو مكة، ومن غير تعارض بينهما.
وفي التعدد هنا وجوه:
الأول: إنه من فضل الله على المؤمنين.
الثاني: إنه شاهد على إرتقائهم في منازل الإيمان والتقوى.
الثالث: فيه واقية من شر الأعداء في الأنفس والمبادئ.
الرابع: بيان قانون ثابت وهو مصاحبة النعم الكثيرة للمؤمنين في الحل والترحال .
وهذه الآية هي آية الطمأنينة، كما أن الطمأنينة ذاتها آية من عند الله، وبلحاظ إعتبارها رزقاً من عند الله ورشحة من رشحات فضله في نزول الملائكة مدداً فان الكفار يعجزون عن بلوغ مراتبها لتكون آية وسلاحاً ينفرد به المؤمنون من بين الناس ومجيء هذه الآيات بصفة الإيمان دعوة للمسلمين جميعاً لبلوغ مراتب الإيمان.
وبين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
والخروج للقتال دفاعاًً عن الإسلام من أسمى وأصدق مفاهيم الإيمان لذا نزلت الطمأنينة على جيش الإسلام على نحو العموم الإستغراقي الشامل لكل فرد منهم، وعلى نحو العموم المجموعي بأن ظهرت معاني الطمأنينة على عامة الجيش بالسكينة والتخلص من الخوف والحزن، والسلامة من الفشل والهم به مع الإستعداد للقتال في اليوم التالي بالخروج خلف العدو، وتتبع أثره وبعث رسالة عملية إلى قريش وعموم قبائل الجزيرة بأن المسلمين في قوة ومنعة، وأنهم لم يهزموا في أحد.
إن تسرب وإنتشار الأخبار بهزيمتهم وإنكسارهم يألب مرضى القلوب والمنافقين عليهم، ويشجع قريشاً في حشد القبائل ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ويجعل يهود المدينة وغيرهم يظهرون إستهزاءهم بالنبي والمؤمنين، ويقولون لو كان نبياً ما هزمته قريش، وإن هذه الهزيمة بداية النهاية.
وفي خروج المؤمنين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أثر العدو في اليوم التالي من غير أن يتخلف بعضهم عن الخروج مسائل :
الأولى: إنه دليل على إمتلاء نفوس المؤمنين بالطمأنينة.
الثانية: ظهور أثر الطمأنينة في عالم الفعل والقول وأنهم لم يهزموا في أحد.
الثالثة: فيه بعث للخوف في نفوس أعداء الإسلام.
الرابعة: إنه زاجر للقبائل عن نصرة قريش.
الثاني: نزول هذه الآية بالبشارة وسيلة مباركة لجعل الأسماع تصغى للقرآن، والنفوس تميل إلى آياته بشوق ورغبة.
الثالث: البشارة عون على حفظ الآية القرآنية وموضوعها وأسباب نزولها، والواقعة التي نزلت بخصوصها.
قانون” ذكر المهم والدلالة على الأهم’’
يتضمن القرآن ذخائر العلم، وأًصول المعارف، وكنوز الشرائع، وفيه تأسيس لقوانين كثيرة في الفقه والأصول والأخلاق والحياة الإجتماعية وميادين العلم المختلفة.
وكل آية تطل علينا هي خزينة متجددة من العلوم، وكلما نهل منها العلماء فان درراً كثيرة تظل تتجلى منها، تدعوهم من جديد،.
وإذا رجع ذات العالم أو العلماء إلى نفس الآية فهل يستطيع أن يستنبط منها مسائل جديدة يستقرأ ويستخرج من كنوزها الجواب نعم حتى أنه يستغرب كيف فاته هذا الكم والكيف من العلوم في المرة الأولى، ويستحي من الله لأنه ظن أنه قد بذل وسعه في تفسير وتأويل الآية، ويدرك أنه يستخرج منها العلوم بفيض ومدد من عند الله، وذات الآية نفسها تكون ضياء ذاتياً كاشفاً عن علومها وما فيها من الأسرار.
وهو من النعم الإلهية على المسلمين والناس جميعاً ومن عمومات قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وتنكشف للعالم بالتدبر والتأن في دراسة الآيات آفاق من العلوم، وهو من أسرار الأمر الإلهي بتوثيق وتلاوة القرآن لما فيها أسباب الكشف والإتعاظ من مضامين وكلمات الآية القرآنية، وذكرت الآية النفع العظيم من المدد الملكوتي بالبشارة من المدد الملكوتي للمؤمنين من وجهين:
الأول: البشرى بالنصر والغلبة على الأعداء.
الثاني: إمتلاء نفوس المؤمنين بالطمأنينة والسكينة.
وتحتمل منافع المدد الملكوتي سعة وضيقاً وجهين:
الأول: تعدد وجوه ومصاديق هذه المنافع وعدم إنحصارها بالوجهين أعلاه.
الثاني: إنحصار النفع من المدد بالبشرى والطمأنينة.
والصحيح هو الأول، فإن الآية ذكرت البشرى والطمأنينة ولكن المنافع أكثر وأعظم وتلك آية في علوم القرآن، وكنوز آياته، وشاهد على عظيم الفضل والمنّ الإلهي، بأن يأتي ذكر نعمة في موضوع مع أن النعم التي تترشح عنه كثيرة، ومنها في المقام:
الأول: إمتلاء نفوس الكفار بالفزع والخوف ، قال تعالى [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ] ( ).
الثاني: مواساة المؤمنين لما أصابهم يوم أحد.
الثالث: طرد الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: توكيد قانون ثابت وهو حضور التنزيل في حال الشدة والرخاء.
الخامس: نصر وغلبة المسلمين في حال قلتهم، وكثرة الكفار، مما يدل بالأولوية على مصاحبة النصر للمسلمين على نحو الدوام بلحاظ أن عدد المسلمين في إزدياد وإطراد.
السادس: زيادة إيمان المسلمين، وترسيخ أقدامهم في منازل الإيمان، وتنمية ملكة التقوى عندهم.
السابع: حرص المسلمين على أداء وإتقان العبادات والفرائض.
الثامن: بعث الأمل في نفوس المسلمين.
التاسع: خروج الإسلام قوياً ، والمؤمنين سالمين من معركة أحد.
وتتجلى السلامة بقلة الخسائر بلحاظ الفارق الكبير بين الفريقين، وإنسحاب الكفار خائبين.
العاشر: إلقاء الحسرة والندامة في قلوب المنافقين، والمرجفين في المدينة المنورة.
الحادي عشر: بعث الإستعداد في نفوس المسلمين للخروج للقتال مرة أخرى، والإمتناع من التردد والنية بالفشل والخيبة.
الثاني عشر: بقاء نعمة البشرى والطمأنينة عند المسلمين إلى يوم القيامة.
الثالث عشر: البشرى والطمأنينة وسيلة مباركة لتقيد المسلمين بأحكام الحلال والحرام، لأنهم يدركون أن الله عز وجل معهم.
الرابع عشر:لقد أخبرت آيات القرآن عن صلات الأخوة بين المسلمين قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وجاءت هذه الآيات خطاباً للمؤمنين، وهي عون لهم لتعاهد مضامين الأخوة الإيمانية.
الخامس عشر: إستقراء مسائل كلامية، وإستنباط قوانين وعلوم متعددة مننزول الملائكة إلى الأرض من وجوه:
الأول: كثرة عدد الملائكة النازلين في موضع ومناسبة واحدة.
الثاني:موضوع نزول الملائكة وهو نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المؤمنين.
الثالث: قرب وحضور آية نزول الملائكة لنصرة المؤمنين في كل زمان .
الرابع: حسم الصراع بين الإيمان والكفر بالنصر والغلبة لأهل الإيمان.
لقد أراد الله عز وجل للنعم والمنافع التي ترشحت وتترشح من نزول الملائكة أن تكون متصلة ومتجددة ، وتصير مدداً وعوناً للمؤمنين في أمور الدين والدنيا .
وتتجلى أهمية الآية ومنافعها في موضوعهاوآثارها وكمها وكيفيتها ومدتها وتعدد أفرادها الطولية والعرضية، وفي ذات البشرى والطمأنينة إذ ذكرتهما الآية على نحو الإجمال ولكن مصاديقهما أكثر من أن تحصى، وكل فرد منهما سلاح مصاحب للمسلمين في الحضر والسفر، والسلم والحرب.
قانون “تجلي الطمأنينة’’
جاءت الآية الكريمة بالإخبار عن حصول الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالوعد الكريم بنزول الملائكة مدداً وعوناً لهم، ولقد جاء القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار الأنبياء السابقين وهي أحسن القصص، وتضمنت تلك الأخبار ما تعرض له الأنبياء، وهو متباين ومتغاير على وجوه:
الأول: من الأنبياء من نصره الله وأظهره على عدوه.
الثاني: النبي الذي لاقى الأذى والضرر.
الثالث: من قتل في سبيل الله من الأنبياء، وكل هذه الوجوه مع تباينها من جهاد الأنبياء، وتدل على بذلهم الوسع في سبيل الله، ولا تدل على الملازمة بين النبوة والنصر وحتى النبي الذي أظهره الله على عدوه كما في الوجه الأول أعلاه فأنه عانى وتحمل الأذى قبل أن يظهر وبعده.
فحينما خرج المؤمنون للقتال لم يكونوا مطمئنين من النصر وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يتفضل الله عز وجل عليهم.
ومن الآيات أن قصص الأنبياء ليس فيها نزول الملائكة مدداً لهم، فجاءت هذه الآية لتدل على بداية مرحلة جديدة من تأريخ النبوة، وصلتها بأهل السماء بنزول الملائكة مدداً.
ومن وجوه تفضيل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أن المدد الملكوتي جاء للمؤمنين الذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخرجوا للقتال تحت لواء الإسلام للدفاع عنه والشريعة التي جاء بها من عند الله، أي أن الملائكة ينزلون للنصرة، وهذه النصرة ليست للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده، بل له وللمؤمنين برسالته من المجاهدين، في دلالة على بقائها كنعمة مستديمة لأجيال المؤمنين، وتتضمن التحذير والإنذار للكفار وتخويفهم من التعدي على الإسلام والمسلمين.
لقد كان نزول الملائكة ربيعاً للإيمان، وبداية لتجليات الغبطة والسكينة عند أهل الإيمان وملازمتها لهم وإلى يوم القيامة، وهو من الإفاضات التي أطلت على أهل الأرض برسالة خاتم النبيين وسيد المرسلين، فلم تكن نبوته كباقي النبوات ولم يكن أمرها مردداً دائماً بين النصر والهزيمة، والأمن والفزع، بل إتخذت سبيل النصر والعز بالمدد الملكوتي الذي صاحبته وترشحت عنه السكينة لتترسخ في قلوب المؤمنين.
لقد علم الله عز وجل حاجة المسلمين إلى الطمأنينة فأنزلها وأسبابها عليهم آية من السماء لتكون حاضرة عندهم في حال الشدة والرخاء، ومع أنها نتيجة لنزول المدد الملكوتي من السماء كما تدل عليه هذه الآية فانها تكون مقدمة وسبيلاًً لأداء الصلاة وتعاهد الفرائض، والتقيد بأحكام الشريعة، قال تعالى [فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( )، لتتداخل الأسباب لأداء العبادات.
فصحيح أن المدد الملكوتي جاء لبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين إلا أنه موضوع ومادة لبعثهم لإتيان الواجبات والفرائض شكراً لله عز وجل لإزالة البرزخ من الخوف والقهر والضرر من العدو، فيجتمع السبب وسبب السبب في أداء العبادات، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من اللطف الإلهي بالمسلمين.
الثانية: إنه سبيل لإعانتهم في أمور الدين والدنيا.
الثالثة: فيه إزاحة للعوائق والموانع التي تحول دون إنشغالهم عن ذكر الله وفعل المناسك.
وكأنه من القضية الشرطية المتصلة المركبة كما في علم المنطق، فمع نزول المدد من السماء بدأ عهد العبادات وثبوتها في الأرض إلى يوم القيامة، فقد جاءت قريش لمنع أداء المؤمنين في يثرب الصلاة والصيام.
فنزل الملائكة لتعم وتنتشر الصلاة في جميع أمصار الأرض، من غير أن تستطيع قوة منعها، ومن أسرار الصلاة أنها تؤدى بكيفية شخصية، وفي أي بقعة وبيت في الأرض.
وفي الحديث: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ( )، وحتى موضوع القبلة فمع تقييده وتعيينه على نحو الحصر بالبيت الحرام فان في الشريعة سعة ومندوحة لمن لا يعلم سمتها وجهتها، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
واليوم إذ إرتقت علوم الطب وأخذت ترصد الحالات النفسية والمتغيرات البسيطة في سلوك الفرد والجماعة فان الطمأنينة الواردة في هذه الآية تتجلى في أقوال وسيرة عموم المسلمين وتظهر للناس الآثار المباركة لمبادئ الإسلام ورسوخها في النفس، وإنعكاسها على أفعال المؤمنين، ولا عبرة بالشاد النادر من الأفراد والجماعات القليلة العدد.
إذ أن مبادئ الإسلام والتقييد بها يحكي إستقرار مجتمعات المسلمين، وسرعة تغلبهم على أسباب الخلاف والفرقة، وتساعد في تهذيب النفوس وإصلاح السرائر، ونشر معاني الود والمحبة بين الناس، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إن الطمأنينة سبب لطرد النفرة ومقدماتها، وباب للسخاء والكرم وإصلاح ذات البين، فمن يكون مطمئناً يهتدي إلى باب الدعاء لا يخشى الفقر والفاقة، والذين تنزل الملائكة لنصرتهم، يتوجهون إلى الله تعالى لنزول أسباب الرزق من عنده سبحانه.
فقد أرادت الآية الإخبار عن فتح أبواب السماء للمؤمنين جزاء عاجلاً لهم على التمسك بمبادئ الإيمان، والمبادرة لنصرة الدين في مواجهة أكثر قوى الأرض قسوة وغلظة وبطشاً لتتجلى الطمأنينة في حال الرخاء وفي الحضر والسفر، والسلم والحرب، وتكون رحمة ولطفاً إلهياً، ونعمة متجددة على المسلمين ودعوة للناس لدخول الإسلام، فمن أسباب الترغيب بالدين الإسلامي الإتصاف بالطمأنينة ونيل مرتبة السكينة بأداء الفرائض والعبادات.
لقد جعل الله عز وجل المسلمين ورثة الأنبياء فرزقهم الطمأنينة ، وفيه مسائل:
الأولى: كي يكونوا مؤهلين لوظائف الأمامة.
الثانية: ليجتهدوا في نشر مفاهيم الصلاح في الأرض.
الثالثة: محاربة الفساد بالحكمة والموعظة الحسنة.
الرابعة: التحلي بالصبر والتقوى.
وإذ إشترطت الآية السابقة على المؤمنين بلوغ مرتبة الصبر والتقوى لنزول الملائكة مدداً، جاءت هذه الآية ببيان ما في نزول الملائكة من المنافع، وأنه طريق مبارك لبلوغ تلك المرتبة بتقريب أن نزول الملائكة طمأنينة للقلوب، والطمأنينة مناسبة لنيل وبلوغ درجات الصبر والخشية من الله عز وجل.
ومن الإعجاز في الآية تقييد الطمأنينة من جهة السبب والموضوع بنزول الملائكة والوعد به لقوله تعالى [وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]، فلم تكتفِ الآية الكريمة بذكر الطمأنينة بل إنها بينت سببها بحرف الجر “الباء” في “به”.
إذ ان الطمأنينة مطلقة وتتعدد أسبابها وموضوعاتها، فجاءت هذه الآية لتؤكد أموراً:
الأول:طمأنينة المؤمنين من الله وفي الله، ولله عز وجل.
الثاني: أنها طريق للثبات على الإيمان.
الثالث: إنها عون لرسوخ ملكة الصبر والتقوى.
وقد جاءت آيات القرآن بذم الذين أعرضوا عن ذكر الله وإنقطعوا إلى اللذات وتخويفهم بالنار [إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا]( )، لتكون الطمأنينة الى الدنيا والركون إلى زينتها وبالاً وخزياً، أما طمأنينة المؤمنين بنزول الملائكة فتكون على وجوه:
الأول: تتجلى في كل آن وزمان برحمة تتغشى المؤمنين.
الثاني: صيرورته ضياء مباركاً ينير لهم دروب الجهاد.
الثالث: تكون حرزاً لهم من أسباب الشك والريب والشرك الخفي.
الرابع: إنها واقية من الكفار ووعيدهم وتخويفهم.
فبعد الطمأنينة التي نزلت يوم أحد لم يعد المؤمنون يخشون الكفار، مع ان المؤمنين بقوا فترة من الزمان على حال من الفقر والحاجة والفاقة، لكن الطمأنينة تجلت بالفتوحات وأسباب الغنى وبسط لواء الإسلام وإنقياد الناس لأحكامه.
لقد جعل الله عز وجل أيام الإنسان في الحياة الدنيا مناسبة للمعرفة والإقرار بالعبودية لله وأداء الوظائف الشرعية وفعل الصالحات قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وجاءت الآية محل البحث لإعانة الناس على الهداية والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزيادة إيمان المسلمين إذ انها حسن محض، وخير متصل ومائدة أنزلها الله عز وجل لتستقر فيوضاتها في نفوس المسلمين، وتكون واقية من الفزع والحزن، وقد وردت البشارات للمؤمنين في القرآن بأنهم [ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، في وعد كريم لما ينالونه في الآخرة، وأسباب الوقاية من أهوال الحساب والعذاب الأليم.
وجاءت هذه الآية لتبين مصداقاً في الدنيا لحال المسلمين في الآخرة لذا إشترطت الآيات لنزول الملائكة التحلي بالصبر والخشية من الله في ميدان المعركة، ليكونا وعاء مباركاً ومناسبة لتلقي الفضل الإلهي، ودفع شر العدو، وإرجاع كيده في نحره، والحسن في الطمأنينة على أقسام:
الأول: حسن السبب: إذ تترشح الطمأنينة في المقام عن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وتتجلى موضوعية وأهمية السبب بأنه سماوي لا يقبل الترديد ولا تصل إليه يد التحريف، وهو بعيد عن معاني الشك والريب.
فلا يستطيع الذين في قلوبهم مرض أن يلبسوا على المؤمنين ولا يقدر رؤساء الضلالة أن يخففوا عن أتباعهم وأنصارهم آثار هذه الآية التي رزقها الله المسلمين، إذ انها ظاهرة تتجلى بحال المسلمين وإنتقالهم من حال الضعف والوهم إلى حال القوة والعز مع بقاء ذات الموضوع من حيث العدد والعدة القليلة، ودبيب الوهن في صفوف عدوهم على كثرة عدده وخيلائه.
والأصل ان يخرج المسلمون من معركة بدر بحال من الخوف والفزع والجزع لما أصابهم من خسائر وجراحات ولعدم التكافئ بينهم وبين العدو ذي الشوكة والقوة، ولكن جاءت هذه الآية ليخرج المسلمون من معركة أحد وهم أقوى وأشد بأساً وأكثر أخوة وعزماً على بلوغ المقاصد الحميدة والأهداف النبيلة في نشر راية الإسلام وتعظيم شعائر الله.
وتتجلى في الآية معان ومضامين قدسية لآيات كثيرة منها على سبيل المثال وليس الحصر قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، وان كان خروج المسلمين يومئذ دفاعاً عن النفس والعرض والدين، إذ أن قريشاً قصدتهم الى بلدهم ولم تكتفِ بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بلده وموطنه وجواره للبيت الحرام، وهو أحق به، ولكن بأن الله يتفضل على المسلمين.
فجاء المدد الإلهي ليكون إنتقاماً عاجلاً من الكفار، وواقية للمؤمنين من الشر والضرر، وهو من إطلاقات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وكأن حال الأذى يوم أحد بلغت أقصاها لكثرة الخسائر التي لحقت بالمؤمنين، فجاء المدد الملكوتي والوعد به لدفع الضرر الذي وعدت الآية أعلاه بعدم تعرض المؤمنين له.
فمن عظيم قدرة الله وإعجاز القرآن ان الوعد الإلهي ينجز بوعد آخر من الله عز وجل، وان لم يكن مطلقاً، فقد يفي الله عز وجل بالوعد بمصداق عملي، في دفع ضرر وكيد الكفار بهزيمتهم والقاء بأسهم بينهم، وتلف مؤونهم، ورميهم بآفات أرضية وسماوية [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثاني: الحسن الذاتي: لقد جعل الله عز وجل الإنسان مركباً من روح وجسد، وإبتلاه بأسباب التأثير الخارجية المتعددة والمتباينة ومنها ما يجلب السعادة ومنها وما يجلب الحزن والكآبة، كما ان الإنسان بذاته عالم خاص في التفكير والأمل والسعي لنيل المطالب وتحقيق الغايات الشخصية والنوعية.
ومن الناس من يسعى لغايات حميدة ويعمل الصالحات بقصد القربة، ومنهم من يعمل غيرها، ويمكر لغايات خبيثة وتكون نفسه في ضيق وحرج لأنه يعمل لغير ما خلق له، ولأن الله عز وجل جعل عنده العقل رسولاً باطنياً.
فجاءت الطمأنينة في هذه الآية رحمة بالمؤمنين والناس جميعاً لتكون مائدة ينهلون منها وهي كالشجرة المثمرة التي تدخل أغصانها كل بيت، والضياء الذي يشع على القلوب وكل إنسان يستطيع أن ينهل ويأخذ من هذه الشجرة، ويتنعم بالضياء ويتخذه مادة لتنقيح البصيرة والبصر، ومعرفة ما يجب عليه فعله، وما يلزم تركه وإجتنابه، وهذا الإطلاق في الإنتفاع من نعمة الطمأنينة شاهد على ان المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إذ ينتفعون من النعمة السماوية خير إنتفاع، ويكونون سبباً لترغيب غيرهم بهذه النعمة التي تفضل الله عز وجل على المسلمين بها لصبرهم وخشيتهم من الله بالغيب وتضحيتهم في سبيل الله.
الثالث: الحسن العرضي: من خصائص الطمأنينة انها تصاحب العقل وتزجر الإنسان عن طرفي التهور والجبن وتجعله يختار ما يناسبه من القول والفعل من غير إنفعال.
ومتى ما خضعت الجوارح والأركان للعقل فان الإنسان يكون في مأمن من الأفعال التي تجلب الندامة، وتخلف عنده تركة من الندم والحسرة، لذا أراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة للمؤمنين السعادة في النشأتين بما تجلبه لهم الطمأنينة من السعادة والغبطة بتوظيف العقل في أمور الدين والدنيا، بفضل من الله عز وجل وصيرورة الطمأنينة طريقاً وسلاحاً للوقار وحسن الإختيار.
وهي مانع من إستحواذ النفس الغضبية والشهوية على الفرد والجماعة وتلك آية في نعمة الوعد الإلهي بنزول الملائكة من وجوه:
الأول: إصلاح النفوس وتنمية الأخلاق الحميدة.
الثاني: إجتناب الغلظة والقسوة والبطش بغير حق.
الثالث:إنها مناسبة كريمة للرجوع الى القرآن، والصدور عما فيه من أحكام الحلال والحرام.
وتدل نعمة الطمأنينة وإخبار هذه الآية عنها على أن النعمة قضية في واقعة تترشح عنها نعم أخرى تكون من اللامتناهي، بمعنى ان نعمة نزول الملائكة التي أخبرت عنها هذه الآية تتعلق بنزول الملائكة يوم أحد، والوعد به في حال دعوة كفار قريش للقتال، ولم يرجع الكفار للقتال يومئذ وإنتهت المعركة بظفر المسلمين بآية وغنيمة عظيمة هي البشرى والطمأنينة لتصاحب كل واحدة منهما المسلمين إلى يوم القيامة، مما يدل على أن المسلمين لم يخسروا معركة أحد بل فازوا وكسبوا بها.
الرابع: الحسن الموضوعي: تمتلأ الدنيا بالمواضيع المتقاربة والمتباينة، وهو من وجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا وآثار فعل الناس في الميادين المختلفة.
والطمأنينة من الموضوعات الصرفة التي تحتاج إلى توسط البرهان لكشفها وتحديدها سعة وضيقاً، بل هي جلية واضحة للناس، وتدرك بالحواس لأن قياساتها معها، وهي ليست من الموضوعات والأحكام المستنبطة التي تحتاج إلى نوع إستدلال وبرهان.
فموضوع الطمأنينة ظاهر وبّين وتتجلى موضوعيته كسكينة مستقرة في ذات النفس، ويمكن إستقراؤه في عالم الأفعال ليكون صفة مباركة يختص بها المسلمون، وشاهداً على صدق آيات القرآن ونزولها بالوعد الكريم الذي يصبغ السلوك بصبغة سماوية، وكأن الطمأنينة النازلة من سجايا أهل السماوات قال تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً]( ).
وفي الجمع بين الآيتين إشارة إلى حاجة المسلمين إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى مع الطمأنينة التي نزلت عليهم يوم أحد، والمصاحبة لهم في حياتهم لضرورة النبوة للناس في أمور الدين والدنيا،
إنما تكون الطمأنينة وعاء كريماً لتلقي أحكام الحلال والحرام والتقيد بها.
علم المناسبة
وردت مادة “طمأن” أربع عشرة مرة في القرآن، وهو عدد كثير في موضوعه له دلالات ومعانِ متعددة، والأغلب منه في الطمأنينة كنعمة وخير محض ويصلح بلحاظ مواضيعه وأحكامه مدرسة كلامية، من وجوه:
الأول: مجيء مفهوم الطمأنينة على قسمين:
الأول: الطمأنينة النافعة لصاحبها ولغيره، كما في المقام.
الثاني: الطمأنينة التي تجلب الضرر، وتأتي متعدية ومتعلقة بأمر آخر تتضمن الآيات القرآنية التحذير منه، كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا]( )، فذكرت الآية الطمأنينة المتعلقة بالدنيا وزخرفها، بينما قد يأتي ذكر الطمأنينة في القسم الأول بذاتها كملكة وصفة للنفس من غير تعلقها بأمر آخر، قال تعالى [يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً] ( ).
وجاءت هذه الطمأنينة فرداً آخر من أفراد ثلاثة إجتمعت لتكون وبالاً على أهلها، وتدل في مفهومها على أن رجاء لقاء الله عز وجل ينفي الإطمئنان والركون التام إلى الدنيا وفيه تحذير وذم للذين سكنوا إليها، وإتسعت آمالهم، ولم يلتفتوا إلى الموت ولم يطرأ ذكره على بالهم، ولم يستعدوا لآخرتهم، والإطمئنان للدنيا لا يعني إنكار حقيقة مغادرتها بالموت، والوقوف بين يدي الله للحساب في اليوم الآخر، ولكنه يدل على الإنقطاع إليها وإلى زينتها، وعدم إتخاذ الزاد والمتاع إلى الآخرة من أداء الفرائض والعمل الصالح.
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن البشارة التي جاءت مع نزول الملائكة والوعد بع تتضمن وجوهاً:
الأول: إنها واقية من نسيان ذكر الله.
الثاني: هي علة للشوق للقاء الله سبحانه.
الثالث: فيها رجاء فضله وإحسان الله.
الرابع: الملازمة بين البشارة والطمأنينة النافعة.
الخامس: عدم الإنقطاع إلى الدنيا وزينتها.
السادس: الرضا بقسم الله، والتدبر في بديع صنعه وعظيم فضله ونعمه على الناس عامة، وعلى المؤمنين خاصة.
لقد جاءت الطمأنينة في هذه الآية كيلا يركن المؤمنون إلى الدنيا ومباهجها، لأنهم في حال جهاد ضد مفاهيم الضلالة، وأقطاب الكفر الذين يحيطون بالمدينة المنورة، وتظهر شدة الحرج الذي هم فيه بوجود المنافقين وأهل الكيد في المدينة نفسها مع قلة المؤون والموارد وعدة القتال، فجاءت هذه الآية لطرد الخوف والحزن من نفوسهم، وجعلهم يحبون لقاء الله، ويشكرونه على نعمة الهداية إلى الإيمان.
وجاء ذكر الطمأنينة مصاحباً للصلاة في قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وهذه الآية هي الآية الوحيدة التي يذكر فيها لفظ “الصلاة” ثلاث مرات، وتلك آية من آيات القرآن وعنايته بالصلاة والتوكيد عليها خصوصاً وان كل لفظ منها لها موضوع خاص به، وجاء معها في الآية ذكر الله عز وجل في حال القيام والقعود والإضطجاع لنيل النصر ويكون الذكر متصلاً ومتمماً لصلاة القصر التي جاءت حال مقابلة العدو، والمراد من الطمأنينة في الآية أعلاه وجهان:
الأول: إذا ذهب خوفكم فأتموا حدود الصلاة.
الثاني: إذا وصلتم إستقررتم في أوطانكم، وأقمتم في أمصاركم، فاتموا الصلاة التي أذن لكم في قصرها، عن مجاهد وقتادة( ).
وأختتمت الآية أعلاه بقانون ثابت من الإرادة التكوينية بان الصلاة واجب وفرض على المسلمين، في أوقات مخصوصة لا يجوز الخروج عنها في حال الأمن أو الخوف، وفي الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث وجوه:
الأول: بلوغ مرتبة الطمأنينة في الآية أعلاه عند إنتهاء المعركة، بينما في معركة أحد جاءت بنزول الملائكة والوعد به.
الثاني: تحلي المسلمين بالصبر في الآيتين، وهو طريق لنيل حال الطمأنينة.
الثالث: أولوية الصلاة ووجوب أدائها، وان الطمأنينة التي تأتي للمسلمين بنزول الملائكة مدخل وطريق لتعاهد الصلاة، والحرص على أدائها في أوقاتها.
الرابع: إن البشرى والطمأنينة بنزول الملائكة لا تعطل فرضاً، ولا تكون سبباً للتكاسل بل هما سلاح لتعاهد الفرائض وطرد الغفلة.
الخامس: إذا كان نزول الملائكة في معارك الإسلام الأولى، فان الله عز وجل جعل سلاحاً دائماً عند المسلمين للنصر ونيل المراتب التي ترشحت عن نزول الملائكة وهو أداء الصلاة على كل حال، وتعاهدها في حال القتال وعند الإصابة بالجراح فيؤدي المؤمنون صلاة الخوف بأن يكون المؤمنون طائفتين، تصلي إحداهما قصراً مع الإمام، والأخرى واقفة بإزاء العدو، فإذا أتمت الأولى الصلاة ووقفت في مواضعها في مقابل العدو تأتي الطائفة الأخرى لتصلي خلف الإمام، وهناك صيغ أخرى لصلاة الخوف تقدم ذكرها ( ).
وكانت صلاة الخوف هذه آية في أوان تشريعها وحجة في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه الوحي ونصرته بالغيب، فقد كان النبي وأصحابه بعسفان في مواجهة المشركين وهم بضجنان، فصلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات، بركوع وسجود، وهّم المشركون أن يغيروا عليهم وهم منشغلون بالصلاة، فقال بعضهم أن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه، يريدون صلاة العصر، أي ان المشركين إستعدوا للإغارة على المسلمين عند صلاة العصر غيلة وغدراً، فأنزل الله على نبيه هذه الآية، فصلى بهم العصر صلاة الخوف، وهو سبب إسلام خالد بن الوليد، لتكون الآية القرآنية حرزاً وسلاحاً، ووسيلة لنيل الطمأنينة، وعدم الفزع من العدو، والسلامة من غدره.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يحبوا الصلاة، ويشتاقوا لذكره ولقائه، فلو هجم الكفار فجأة على المسلمين عند الصلاة لصارت عند بعضهم نفرة من الصلاة عند لقاء العدو وفي ميدان المعركة فجاء التخفيف ليكون من أسباب إستدامة الطمأنينة عند المسلمين وفيه نكتة عقائدية وهي أن النعمة الإلهية إذا جاءت فإنها تمنع من الآثار العرضية الضارة، وتحول دون إنتفاع العدو منها لأغراض خبيثة.
لتبقى دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإخباراً بأن الله عز وجل إذا فعل شيئاً أتقنه، وإذا أنعم على الناس بنعمة فانها تصل إليهم بكمالها وتمامها، قال تعالى [فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ]( ).
وذكر إطمئنان القلوب في سبع آيات من القرآن كلها من القسم الذي تقدم في أول بحث علم المناسبة وتبين المنافع العظيمة بذكر الله، وما له من الآثار الحميدة في تهذيب النفس، وعصمتها من الغفلة والنسيان القبيح الخاص بترك الواجبات والفرائض.
لقد جعل الله الطمأنينة قريبة من المسلمين، وفي متداول أيديهم، ويستطيعون التنعم بها باللجوء إلى ذكر الله عز وجل قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وفيه حث على أداء الصلاة وتلاوة القرآن وإستحضار ذكر الله عند الشدائد والمهمات، وإتخاذ التوكل على الله مقدمة وسلاحاً في الأعمال.
ان ذكر الله مطلق إذ يمكن الإتيان به في كل وقت وحال، وليس من مانع دونه، كما انه عام شامل للمسلمين والمسلمات وفي أوقات الرخاء والشدة، والحرب والسلم، وهو واقية من الوسوسة والأعراض النفسية التي تصيب الفرد والجماعة، ولو كانت هناك دراسات إحصائية لتبين أن نسبة هذه الأمراض قليلة جداً عند المسلمين الذين يواظبون على أداء الفرائض بالنسبة إلى غيرهم من أهل الملل والنحل.
ومن أسرار الطمأنينة بذكر الله أنها تستوعب الأحوال المستحدثة والتوسعة في حياة الشخص والمتغيرات والقفزات في المجتمعات، فلو أصاب المؤمن غنى وسعة في الرزق، أو حال من الضيق والشدة فإنه يبقى على حال الطمأنينة التي تترشح عن ذكر الله، لأنها ملكة وسجية ثابتة عنده، يتعاهدها بأداء الفرائض والعبادات، وهو من العلم المكنون في جعل الصلاة في أوقات مخصوصة من اليوم والليلة، لا يصح تفويتها وتضييع شرط الوقت فيها، وقد جاء نص الآية محل البحث مرة أخرى في القرآن في سورة الأنفال( ).
مع فرق بسيط في ترتيب الحروف فيها على وجوه:
الأول: وجود جار ومجرور متعلقين بالبشرى [بشرى لكم]، جاءت هذه الآية بذكر البشرى بذاتها من غير تعلقها بأمر آخر وفي الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول: إنه من المطلق والمقيد، إذ أن البشرى الواردة في هذه الآية تقيدها الآية الأخرى في سورة الأنفال فيكون المعنى في هذه الآية أن البشارة للمسلمين.
الثاني: لكل آية دلالتها ومعناها، وتحمل البشرى في هذه الآية على لغة الإطلاق فتشمل البشرى للمسلمين والمسلمات وللملائكة، إذ أن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجعلهم يشعرون بالغبطة والسعادة، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في الرد الذي تفضل الله عز وجل به على الملائكة حينما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا].
الثاني: تقديم الجار والمجرور في موضوع طمأنينة القلوب بقوله تعالى [وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ].
الثالث: مجيء الحرف المشبه بالفعل “ان” في خاتمة الآية [أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]، كما يختلف موضوع الآيتين من حيث زمانه إذ جاءت الآية أعلاه من سورة الأنفال بأمور:
الأمر الأول: ذكر إستغاثة المؤمنين بالله عز وجل، (و قيل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين إستقبل القبلة و قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض )( ).
الأمر الثاني: مجيء الآية أعلاه بخصوص معركة بدر وليس أحد.
الأمر الثالث: ذكرت الآية أن عدد الملائكة ألف ملك لقوله تعالى [أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الأمر الرابع: نزل الملائكة في معركة بدر للنصر والمدد، مع الإختلاف في كيفية وماهية الفعل على قولين:
الأول: تشجيع المؤمنين، وكثرة سوادهم، والبشارة بالنصر، عن الجبائي.
الثاني: إن الملائكة قاتلت وقتلت، عن ابن عباس.
والأصح هو الثاني لوجوه:
الأول: ورود الخبر بقتال الملائكة.
الثاني: أصالة الظاهر.
الثالث: المراد من نزول المدد هو للقتال.
الرابع: النصر الحاسم لجيش المسلمين مع قلتهم وكثرة جيش الكفار.
الخامس: إبتداء الآية بذكر إستجابة الله عز وجل لإستغاثة ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ويدل في مفهومه على ما هو فيه من الحرج والعسر، ومجيء الفضل الإلهي وإزاحة الكرب بالمدد الملكوتي والنصر.
الأمر الخامس: ما ورد في الآية محل البحث هو البشارة والوعد الكريم.
والجمع بين الآيتين يفيد أن البشارة والطمأنينة ملازمة لنزول الملائكة والوعد به، وان الله عز وجل أراد للمؤمنين الغبطة والسكينة والسلامة من الوسوسة والخوف من الكفار، لأن قلوب المؤمنين إمتلأت بالخوف من الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل السكينة والطمأنينة بالذات والسبب السماوي والأرضي، بإعتبار أنها نعمة من عند الله، وتفضل الله سبحانه على المسلمين بإتمام النعمة، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
وقد سأل إبراهيم عليه السلام الطمأنينة من عند الله بأن يرى آية إحياء الموتى وهو نبي من الرسل الخمسة أولي العزم [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
وجاءت الطمأنينة للمؤمنين على وجوه:
الأول: إنها هبة من عند الله عز وجل بمدد من الملائكة لنصرتهم وإعانتهم.
الثاني: لم تأت الطمأنينة بالذات بل أنها رشحة من رشحات الآية العظمى والمحجة البيضاء بنزول الملائكة مدداً ونصرة.
الثالث: فيه شاهد على بقاء نعمة الطمأنينة عند المؤمنين.
الرابع: إنه من مصاديق عدم رفع النعمة التي يمّن بها الله عز وجل على العباد.
ويفيد الجمع بين الآية محل البحث وقوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً]( ).
إن الطمأنينة لا تنفي الحاجة إلى الرسول، فهي مستديمة ومطلقة لكل من يسكن الأرض ويستقر فيها، وفي النبوة والرسالة مسائل:
الأولى: بيان للأحكام.
الثانية: جلب للمصالح.
الثالثة: دفع للمفاسد.
الرابعة: نيل خير الدنيا والآخرة.
ويلتقي المسلمون مع الملائكة في حال نزولهم بصفة الطمأنينة، فلو نزل الملائكة إلى الأرض فانهم لا يخشون من أهلها وأسلحتهم، وقد أهلك جبرئيل عليه السلام قوم لوط بجناحه، وقيل بريشة واحدة منه.
وفي نعت الملائكة في الآية أعلاه بصفة “مطمئنين” شاهد على عظيم نعمة الطمأنينة التي رزقها الله عز وجل للمسلمين، وانها لم تأتِ عن قدرات شخصية بل هي هبة عظيمة من السماء، فلا يمكن أن تبلغ أمة من الأرض مراتب الطمأنينة التي بلغها المسلمون، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وحتى لو ظهر للأعيان التشابه بين المسلمين وإحدى أمم الأرض في فترة وحقبة من الزمان كما لو كان أهل تلك الملة أو الدولة أقوياء وأغنياء وفي منعة، فإن التشابه ظاهري فقط، للتباين في الماهية ولنزول طمأنينة المسلمين من السماء، وصيرورتها ملكة راسخة، وليست آتية ومتعلقة بحال مخصوصة تزول بزوالها.
وقد جاءت آيات قرآنية تتضمن الإخبار عن وظائف النبوة وانها البشارة والإنذار قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )، مع ان رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم وتتضمن الإصلاح والهداية وأداء الواجبات الشرعية وجذب الناس الى منازل الإيمان والتقوى، ولكن ذكرت البشارة والإنذار بإعتبار ان لكل واحدة منهما موضوعية في الدعوة.
زمان ومكان النزول
ويحتمل موضوع البشارة في زمانه أموراً:
الأول: الإنحصار في واقعة أحد والميدان الذي وقعت فيه المعركة.
الثاني: المصاحبة المكانية بين رجوع الكفار ونزول الآية من غير إعتبار لمكان النزول، فإذا رجع الكفار فأينما يلتقون مع المؤمنين يأتي الملائكة مدداً ونصرة.
الثالث: الإطلاق المكاني والزماني، فمتى ما جاء الكفار للقتال ينزل الملائكة الذين ذكرتهم الآية السابقة وعددهم خمسة آلاف ملك.
والصحيح هو الثاني لأن الآية لم تقيد نزول الملائكة بموضوع وساحة معركة أحد، وذكرت رجوعهم مطلقاً، مما يدل على السعة والرحمة الإلهية في الآية الكريمة وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وقرب رحمة الله من المؤمنين.
وتأذن الآية الكريمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأمور:
الأول: الرجوع إلى المدينة في الحال.
الثاني: التريث والإبطاء في الرجوع إلى المدينة.
الثالث: التقدم للقاء العدو.
الرابع: الإقامة في موضوع المعركة وميدان القتال، ومن الآيات أن النبي محمداً رجع وأصحابه للمدينة ثم خرجوا في اليوم التالي للقاء العدو.
ومن الآيات والشواهد على تصديق المؤمنين بنزول الملائكة للنصرة وتلقي الوحي بالتصديق إستجابتهم لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج في اليوم التالي لأحد، في أثر العدو، وبعث الخوف والفزع في نفوس الكفار ويهود المدينة فخرجوا يوم الأحد لست عشرة ليلة مضيت من شوال في السنة الثالثة للهجرة وإنتهوا إلى حمراء الأسد التي تبعد ثمانية أميال من المدينة، على يسار الطريق بإتجاه ذي الحليفة وهو من مواقيت الإحرام في الحج، وأقاموا فيها ثلاثة أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء.
ومن بين الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة الذين أصابتهم الجراحات في معركة أحد، فمدحهم الله بقول[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
وكأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون خرجوا مرة أخرى للقاء العدو، ويشمل الوعد الإلهي الكريم هذا الخروج أيضاً، وهو جزء علة في مبادرة المؤمنين للخروج والإمتثال التلقائي السريع لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أن أذّن مؤذنه بالخروج حتى تسابقوا للخروج وكأنهم قد تهيأوا له منذ زمن.
لقد صاحبت البشارة المؤمنين في ميدان المعركة ومن حين نزول الآية وعند عودتهم إلى المدينة بالبشارة بنزول الملائكة مدداً.
وهذه البشارة خير مواساة لهم ولعوائل المؤمنين مما لحقهم من الخسارة، وسبب لزوال الخوف والقلق عن نفوس هذه العوائل، فلم تخف النساء على أزواجهن في خروجهم، ولم تطلب الأمهات من أبنائهن البقاء والإكتفاء بالخروج إلى المعركة، بل إن أصحاب الجراحات حرصوا على الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد.
وفيه دلالة على أنهم خرجوا وتركوا البشارة خلفهم عند أهليهم لتكون عوناً ومؤنساً لهم، ونوع ضمان بعودة المجاهدين سالمين وفيه بعث للأسى والحزن في نفوس المنافقين الذين إمتنعوا عن القتال ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
لقد نزلت هذه الآية في ميدان معركة أحد من بعد إنقضاء المعركة لتدخل السعادة والغبطة كل بيت من بيوت المسلمين.
قانون”الفرق بين المدد الملكوتي وغيره’’
المتعارف أن المدد يأتي من أحد الجهات الأربعة ويجتهد بأن يدخل المعركة من جانب الذين يريد نصرهم لتنسيق الخطط والإتفاق على صيغ وكيفية القتال.
أما المدد الملكوتي يوم أحد فإنه جاء من السماء ومن فوق رؤوس الكفار وتلك آية في تفضيل المسلمين وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ، بأن يأتيهم المدد من السماء، فإن قلت قد يأتي المدد للجيوش في هذا الزمان من السماء بواسطة نزول الجنود والمعدات بالطائرات والمظلات، والجواب من وجوه:
الأول: نزول المدد الملكوتي بآية إعجازية، ومن غير وسائط بشرية.
أما نزول المدد من الطائرات فهو بوسائط من صنع الإنسان.
الثاني:إحتمال تعرض المدد من الطائرات للتلف والهلاك سواء بتصدي العدو له، أو بآفات وأسباب مادية، أما المدد من الملائكة فينزل سالماً، ويعجز العدو عن المساس به.
الثالث: قلة الأثر المترتب على المدد الذي تأتي به الطائرات، بخلاف المدد من الملائكة فإن أثره غير متناه.
الرابع: سرعة وصول المدد الملكوتي، وإحتمال إبطاء المدد من أهل الأرض وإن جاء بالطائرات.
الخامس: حاجة المدد الذي يأتي بالطائرات إلى المؤون والمعدات كي يستطيع الإنتقال والهبوط.
السادس: يخشى المدد الذي ينزل بالمظلات الإصابة والتلف بواسطة نيران العدو أو نتيجة خلل أو خطأ أو أمر عارض، أما المدد من الملائكة فإنه لا يخشى أحداً من الناس.
السابع: ليس من شروط مادية ومنافع دنيوية يسعى إليها المدد الملكوتي،على عكس المدد من أهل الدنيا.
الثامن: قد يأتي مدد لكل من طرفي القتال، وأن يتعدد المدد لكل منهما أو لأحدهما فيحصل نوع تكافؤ، ولكن المدد الملكوتي الذي جاء للمؤمنين ليس هناك مدد يقابله يأتي للكفار.
التاسع: قد يُدفع المدد الذي يأتي من أهل الدنيا، ويعجز عن تحقيق النصر، وتلحقه الهزيمة، أما المدد الملكوتي فإنه لا يندفع ولا يتعرض للخسائر، ولا يصعد إلى السماء إلا بتحقيق النصر على الكفار.
العاشر: المدد الملكوتي عز للمؤمنين وذل للكفار وهو من مصاديق وبيان وتفسير قوله تعالى [تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ] ( ).
الحادي عشر: يبين المدد الملكوتي عظيم سلطان الله، وقدرته على كل شيء.
الثاني عشر: قد يتعذر على المدد الذي ينزل من الطائرات الرجوع إلى معسكره، وتعجز الطائرات عن نقله مطلقاً أو في أيام القتال أو تحول أسباب مناخية وطبيعية دون إنسحابه أو أنها تكون سبباً في تأخره، أما المدد الملكوتي فليس بينه وبين محل سكناه في السماء من حجاب، فإن الملائكة يصعدون إلى السماء حيث يأذن لهم الله عز وجل.
الثالث عشر: الوعد بالمدد الملكوتي بشارة وسكينة، أما الوعد بالمدد من الناس فإنه قد لا يصل، أو يصل، ولكنه لا يقدر على تحقيق النصر والغلبة على العدو.
الرابع عشر: المدد الملكوتي آية ووسيلة إعجازية لإيمان الناس، وجعل أفراد العدو يدخلون الإسلام ويؤمنون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشواهد والبراهين التي تدل على صدق نبوته ونصرة أهل السماء له.
أما المدد من أهل الأرض فإنه يزيد العدو إستماتة ودفاعاً عن النفس.
الخامس عشر: تستطيع أطراف القتال صنع وإستخدام أسلحة تواجه الطائرات التي تأتي بالمدد وهي في السماء، وقبل أن يهبط منها المدد.
أما المدد الملكوتي فلا تقدر أمة على منعه من الوصول إلى ميدان المعركة.
أن نزول الملائكة بأمر من الله عز وجل معجزة عظيمة يشهدها أهل السماء والأرض، وكما أن المدد الملكوتي بذاته دعوة إلى الله، فإنه مقدمة ووسيلة سماوية لتعاهد دعوة المؤمنين من أهل الأرض إلى الله عز وجل، وجاءت متقدمة زماناً على المدد من الجو والطائرات الذي تقوم به جيوش هذا الزمان، وفيه شاهد على تفضيل المسلمين على الناس.
ومهما بلغ الإرتقاء العلمي عند الأمم الأخرى، فإن المسلمين سابقون في هذا الميدان وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهل إقتبست الجيوش والعساكر في هذا الزمان فكرة هبوط الجنود بالمظلات من هذه الآية وما فيها من المدد السماوي الجواب لابد من دليل أو أمارة في المقام ، والمسلمون يحرزون النصر والظفر بالأعداء لأن مددهم سماوي بشرط تعاهدهم للصبر والخشية من الله عز وجل في الأقوال والأفعال.

قانون”مدرسة الوعد’’
لقد خلق الله عز وجل الإنسان في أحسن تقويم، وجعله خليفته في الأرض، ليعيش بأفراد الزمان الطولية الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، وتكون حاضرة عنده في الوجود الذهني ولو على نحو الإجمال، ومن مصاديق الفضل الإلهي في موضوع الخليفة نعمـــــــة الوعـــــــد من عنــــد الله عز وجل، وهذا الوعد على وجوه منها:
الأول: الوعد على نحو القضية الشخصية، كما في الوعد لآدم بالتوبة والمغفرة، قال تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ] ( ).
الثاني: الوعد للمؤمنين وأتباع الأنبياء بالنصر والغلبة.
الثالث: الوعد للناس كافة بالرزق من الله سبحانه.
الرابع: الوعد للأنبياء بظهور الدين وإعلاه كلمة التوحيد، وفي التنزيل[رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ]( ).
الخامس: الوعد بالمغفرة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
السادس: الوعد بخلافة المؤمنين في الأرض، ونزول الملائكة للنصرة شاهد على نصر الله للمؤمنين، ومقدمة لظهورهم، وتثبيت لمفاهيم الهدى والتقوى.
السابع: الوعد بمغانم ومكاسب ينالها المؤمنون من الكفار، قال تعالى[وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا] ( ).
الثامن: الفوز بالجنة، والخلود في النعيم، قال تعالى[جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ] ( ).
التاسع: الوعد بنزول الملائكة للنصرة، وهو الذي فاز به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالوعود في معارك الإسلام الأولى، وليس من حد للوعود الإلهية سواء التي للناس عامة، أو للمؤمنين خاصة.
لذا يمكن إعتبار الدنيا(دار الوعد) فالوعد مصاحب للإنسان طيلة أيامه فيها، وهو يعيش مع هذا الوعد، ويسعى لبلوغ مضامينه ويجتهد للوصول إلى مقاصده، ويفرح بالإقتراب منها أو تحقيق مقدماتها أو شطر من الوعد، وبلحاظ الماهية المشروطة أو عدمها جاءت الوعود على أقسام:
الأول: مايكون مقيداً بشرط.
الثاني: ما يأتي مطلقاً من غير تقييد، كما في الرزق ونزول الغيث من السماء.
الثالث: الوعد الذي يأتي بفضل من الله عز وجل دفعة أو تدريجياً.
وجاءت هذه الآيات لتخبر عن شرط الصبر والتقوى في وعد كريم لم تشهد له الأرض مثيلاً، لقد إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، وهي المنقطعة إلى الله بالتسبيح والذكر, وإن تقادمت الأيام، وتوالت بعثة الرسل، وينزل الملائكة بالوحي عليهم، ويرون كيف يُقتل أفراد من الناس بغير حق، حتى جاء الأمر الإلهي للملائكة لنصرة الخليفة في الأرض، وأصحابه لتعلم الملائكة ببداية عهد جديد يطل على الأرض وتكون للملائكة فيه موضوعية وأثر مبارك يتجلى بنصرتها للمؤمنين الذين خرجوا للجهاد في سبيل الله، وواجهوا الفتنة الكبيرة من الكفار دفاعاً عن الإسلام.
لقد إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض يفسد فيها [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليروا عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمة من المؤمنين تدافع عن شخص النبي ومبادئ التوحيد بسيوفها ودمائها في معركة غير متكافئة في العدد والعدة، لتستحق هذه الأمة الشفقة والرأفة من أهل السماء لأنها تسعى لتنزيه الأرض من الفساد.
فيتناجى الملائكة لنصرتها وإعانتها في تحقيق الهدف السامي بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي مضامين ضرورية لتوالي نزول آيات الكتاب السماوي الجامع لأحكام الشريعة وإلى يوم القيامة.
ولا تستطيع الأجيال المتعاقبة إلى يوم القيامة الإستغناء عن آية من آيات القرآن سواء تلك التي نزلت قبل معركة أحد أو التي نزلت بعدها، خصوصاً وأن التي نزلت بعدها تتعلق في غالبيتها بأحكام الحلال والحرام، وبيان سنن الشريعة، بالإضافة إلى الحاجة إلى وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحال من الأمن والإستقرار لتوثيق آيات القرآن وحفظها في القلوب، وتدوينها في المصاحف فجاء الوعد الإلهي للمؤمنين بنزول الملائكة لنصرتهم عن طريقين:
الأول: إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين، ومنه قوله تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( )، وفيه شاهد على أن السنة النبوية القولية حجة وبرهان.
الثاني: مجيء الوحي بالبشارة والوعد بنزول الملائكة للنصرة والإعانة.
وهذا التعدد في الطريق الموثوق والقطعي دليل على إكرام الله عز وجل للمؤمنين، والعناية والرأفة بهم وأن موضوع نصرتهم لا يتعلق بأشخاصهم فحسب، بل نصرة الملائكة لهم عنوان وشاهد على إنتفاع أهل الأرض وأجيالهم المتعاقبة من هذه النصرة.
وهو من خصائص الوعد الإلهي فإنه نعمة ينهل منها الناس جميعاً, سواء كان الوعد شخصياً، أو يأتي لطائفة وأمة مخصوصة.
وهل ينتفع الكفار من الوعد الإلهي الوارد في هذه الآية، الجواب نعم، لما فيه من الزجر عن الإصرار على التعدي على الإسلام والمسلمين، ومنع الناس من اللحاق بالكفار في هذا التعدي والتناجي بالباطل والإعانة على الإثم والعدوان، إذ أن العقل يحكم بإجتناب مواجهة الملائكة في القتال دون الباطل والضلالة، ويحكم بلزوم ترك الكفر وإختيار الإيمان، واللحاق بالذين ينزل الملائكة مدداً لهم.
ليكون الوعد الوارد في هذه الآية مقدمة لسيادة الأمن والسلام في الأرض والمقترن بالإيمان.
لقد صاحب الوعد الإلهي الإنسان منذ خلقه وقبل وبعد هبوطه إلى الأرض, ففي الجنة أنعم الله عز وجل على آدم وزوجه بالأكل من ثمار الجنة والسكن فيها رغداً ونهاهما عن الأكل من الشجرة قال تعالى[اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ]( ).
وجاء الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ساعة الشدة والضيق بالنصرة والغلبة من غير نهي عن شيء ما، بل جاء الوعد
مقترناً بشرط الصبر والتقوى ، ليكون هذا الشرط حجة على الكفار، وتفسيراً لنصرة الملائكة للمؤمنين، وشاهداً على أهليتهم لتلقي النصرة السماوية، وموضوعه أعم من الأكل من الشجرة وفعل مخصوص ، وفي الآية مسائل:
الأولى: إن كلاً من الصبر والتقوى ملكة تتغشى أعمال وأقوال المسلمين.
الثانية: إنهما واقية من المعاصي والفواحش والذنوب.
الثالثة: فيه تشريف وتفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: الآية دليل على تأسيس مدرسة من الوعد الإلهي تتصف بالعموم والشمول والدقة والضبط وصنع بديع لمناهج عبادية وسجايا أخلاقية حميدة تتغشى المسلمين.
الخامسة: تكون وسيلة للناس جميعاً للنهل من مدرسة الوعد الإلهي والتقيد بشرائطه وسننه، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بأن يتحلى المسلمون بما يجعل الوعد الإلهي حقيقة وواقعاً، ليكونوا سبباً في جذب الناس إلى مسالك الهداية والإيمان.
وفي الوعد الإلهي أمور:
الأول:الترغيب بالعمل بشرائطه.
الثاني: السعي النوعي العام لتهيئة مقدماته، والإمتناع عن الحواجز والأسباب التي تحول دون تحقيقه.
الثالث: بعث الشوق في النفوس لبلوغ مراتبه وتلقي مصاديقه، إذ يتطلع العباد متحدين ومتفرقين لنيل الوعد، والإنتفاع الشخصي والنوعي منه.
الرابع: الوعد الإلهي للمسلمين دليل على بلوغهم مراتب عالية من الإيمان واليقين بحيث يتلقون الوعد بالتصديق حال سماعه، ويبادرون إلى العمل بما يقربه ويسهل تحقيقه.
الخامس: يأتي الوعد الإلهي إلى طائفة وفرقة من المؤمنين، ولكن منافعه عامة للمسلمين، وهو نهر جار إلى يوم القيامة يقصده المسلمون للإغتراف منه لأمور الدين والدنيا.
السادس: في الوعد الإلهي تنمية وتوجيه لملكة الأمل عند الإنسان، فتكون متعلقة بفضل الله وما ينعم به على المؤمنين.
السابع: الوعد الإلهي طريق للنصر، وعلو راية الإسلام والأمن والسلامة للمسلمين وذراريهم، وترسيخ مفاهيم الإيمان في الأرض قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]( )
الثامن: لقد أراد الله عز وجل لباب الدعاء أن يبقى مفتوحاً، وأن يكون صلة دائمة بينه وبين الناس.
وهو قوس الصعود الذي يدل على حسن الإستجابة للأوامر الإلهية وأحكام التنزيل، فيأتي الوعد الإلهي فضلاً من الله عز وجل على وجوه:
الأول: حث المسلمين على الدعاء.
الثاني: الدعوة للإجتهاد في المسألة ورجاء تحقيق الوعد الإلهي.
الثالث: اللجوء إلى الله بالدعاء والإنابة، والتوكل على الله في المقام من مصاديق الصبر والتقوى اللذين ذكرتهما الآية السابقة كشرط لنزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
ويفتح الدعاء على المؤمنين أبواباً من الفضل الإلهي في موضوع الوعد وغيره والله واسع كريم، وهو القائل[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وما في هذه الآيات من مصاديق وعمومات قوله تعالى[قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ]( ) إذ أن الله عز وجل وعد المؤمنين بنزول الملائكة لنصرتهم كما في الآية السابقة، والنبي محمد أخبرهم بالمدد بثلاثة آلاف من الملائكة كما في الآية قبل السابقة، ليكون الوعد الإلهي في الدنيا مقدمة وبشارة لتحقيق الوعد الإلهي في عالم الغيب، ودار الخلود.
الوحي بشارة
من بديع صنع الله، وأسرار جعل الإنسان خليفة في الأرض إستمرار الصلة بين الله عز وجل وعبادة، وتجلت هذه الصلة بأمور منها:
الأول: بالوحي إلى الإنبياء.
الثاني: قوس الصعود بالدعاء وأداء الفرائض والعبادات التي جاء بها الوحي.
والوحي هو تعليم وإلقاء الله عز وجل للأنبياء ما يتعلق بأمور الدين بواسطة الملائكة من غير واسطة بشر، وهو معجزة مصاحبة للنبوة، فكل نبي من الأنبياء يوحى إليه من عند الله، وهو من الكلي المشكك في كثرته وقلته ومواضيعه.
وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصيب الأوفر من الوحي، وكانت معجزته وحي أوحاه الله عز وجل له ليكون أكثر الأنبياء أنصاراً وأتباعاً، وهو من الشواهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
والقرآن من الوحي، وهو أسمى مصاديق الوحي والتنزيل قال تعالى[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]( )، ومن الآيات أن المسلمين تلقوا ما يخبر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي بالتصديق والقبول، وتلك مكرمة لهم، تفضل الله عز وجل بجزائهم عليها في العاجل بالبشارة بنزول الملائكة لنصرتهم، فبعد أن سجد الملائكة لآدم عليه السلام عندما خلقه الله وبعث فيه من روحه، وأهبطه إلى الأرض، وتعاقبت أجيال بني آدم جاء يوم بدر وأحد ليقوم الملائكة بوظيفة قتالية غير السجود ومناسك العبادة، وفيه تأديب للمسلمين من وجوه:
الأول: الإقتداء بالملائكة عليهم السلام في الجمع بين المناسك والعمل والحرث في الدنيا.
الثاني: بذل الوسع في الجهاد في سبيل الله.
الثالث: توكيد حقيقة وهي بالإيمان تزول المسافات بين السماء والأرض.
الرابع: كأن سجود الملائكة لآدم عهد منهم للمؤمنين من ذريته بالنصر والإعانة.
والبشارة بنزول الملائكة ثمرة من ثمرات جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: قيامه بإبلاغ الوحي إلى المسلمين.
الثاني: عدم إخفائه بعضاً منه حياء أو خوفاً من الكفار قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ) .
الثالث: إنها رد سماوي على قيام فريق من أهل الكتاب والمشركين بتكذيبه.
الرابع: فيها ترغيب ودعوة للمسلمين لتلقي وقبول الوحي خصوصاً وأن السنوات التالية لمعركة أحد شهدت نزول آيات الأحكام، وما فيه تفقه المسلمين في أمور الحلال والحرام.
الخامس: هذه البشارة دعوة لحفظ آيات القرآن.
السادس: توثيق الوقائع والأحداث التي شهدها زمن الرسالة، وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل من الأذى في جنب الله لأن نزول الملائكة للنصرة حاجة وضرورة لحفظ الإسلام والمسلمين.
وكان الوحي يوم أحد مدداً إضافياً للمؤمنين، وحثاً لهم للجوء إلى الله ورسوله، والصدور عن الوحي وما ينزل من الآيات القرآنية في بيان وظائفهم وما يجب عليهم فعله.
لقد جاءت البشارة في هذه الآية شاهداً وحجة من وجوه:
الأول: إنها شاهد على تصديق المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتجلى هذا التصديق بإنتفاء الفزع والخوف من قلوب المؤمنين عند نزول هذه الآية.
الثاني: تجلي عدم حصول العزم والنية بالفشل، وهو من مصاديق الولاية والنصرة بقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )، وقاموا بالمبادرة للخروج لتلقي العدو إن رجع للقتال، ليكون الوحي بالبشارة سبب لبعث الرهبة والفزع والخوف في قلوب الذين يهمون بالتعدي على المسلمين.
الثالث: لا يعلم منافع الوحي بالبشارة بنزول الملائكة في هذه الآية إلا الله عز وجل، وكم من أفراد وقبيلة وطائفة إمتنعت عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وإجتنبت المشاركة في التعدي على الإسلام.
الرابع: ملازمة النصر للمسلمين، لأن المدد الملكوتي وسيلة لموضوع وشاهد على قانون وهو نصر الله عز وجل للمسلمين في مواطن القتال، ومن الشواهد والإعجاز عدم تعرض المسلمين بعد أحد لخسارة فادحة.
وكل مرة ينزل فيها جبرئيل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن وفيها مسائل:
الأولى: إنها بشارة له وللمؤمنين بالنصر والفتح.
الثانية: تثبيت سنن ومبادئ الإسلام في الأرض.
الثالثة: إنها دليل على العناية الإلهية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه، وأنه سبحانه لن يتركه من غير إلهام ووحي وتنزيل، وفي قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ) وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي قال: إحتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حتى حزن وإشتد عليه، فشكا إلى خديجة فقالت خديجة: لعل ربك قد ودّعك أو قلاك، فنزل جبريل بهذه الآية [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] قال: يا جبريل، إحتبست عني حتى ساء ظني ، فقال جبريل [وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ] ( ).
وتحتمل الصلة في الوحي وجوهاً:
الأول: إنه صلة بين الله عز وجل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إنه لطف من الله بأهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار.
الثالث: إنه صلة ولطف بالمسلمين جميعاً.
الرابع: إنه صلة بالناس جميعاً.
الخامس: المعنى الأعم والعنوان الجامع للوجوه أعلاه.
والصحيح هو الخامس، فالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ولطف وفضل من الله عز وجل به وبالمؤمنين والناس جميعاً، ليأخذوا منه لأمور الدين والدنيا، وليكون دليلاً على العنايـــة الإلهية بالناس كعبـيد لله عز وجل.
وقال بعض الفلاسفة بأن الله خلق الكون ثم تركه وحاله وفق نظام خاص، ويأتي الوحي لينفي ويكذب هذا القول، ويؤكد على أن الله عز وجل يتعاهد الخلائق بجعل الناس يواظبون على عبادته، وينهلون مما سخّر لهم من الطيبات وأسباب السعادة والغبطة في الدنيا، ويستبشرون بما ينزل على الأنبياء من السماء من الوحي والتنزيل، والذي ختمه الله بآيات القرآن.
وليس بعد القرآن كتاب نازل من السماء لذا حفظه الله عز وجل من التحريف والتبديل، وجعله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ومنه عالم البشارة وأسباب الفرح والسرور للمؤمنين والناس جميعاً، فإن الذي يتتبع مدرسة البشارة في القرآن يجدها أعم من أن تنحصر بالمؤمنين، وأن أفراداً منها شاملة للناس جميعاً من وجوه:
الأول: بقاء باب التوبة مفتوحاً.
الثاني: الندب إلى التوبة والإنابة والترغيب بها.
الثالث: بشارات الرزق الكريم المتصل من السماء والأرض للناس وذراريهم.
الرابع: دفع الفتن وأسباب القتل والهلاك العام عن الناس.
وهو من أسرار خلق الله الناس من نفس واحدة، فإن هذا الإتحاد في الأصل والأبوة من أسباب قرب الهداية من الناس، ومنع إستدامة الفرقة بينهم.
فجاءت هذه الآية ليكون شطر من هذا الدفع بالملائكة ونصرتهم للمؤمنين كي تكون الأولوية لبقاء مبادئ الإسلام وسلامة المؤمنين، ورجوع الناس إليهم.
وقد رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا عندما سمع هو والمسلمون بأن الكفار نزلوا قريباً من المدينة للقتال مع أخبار عن كثرتهم وكثرة مؤونتهم ، وقبح الغايات الشريرة التي جاءوا من أجلها فأخبر المسلمين برؤياه.
وقال: ( إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة) ( ).
ليكون في الرؤيا بشارة متقدمة بسلامته والمدينة وأهلها من كيد الكفار وكثرة جيوشهم، والرؤيا الصالحة للأنبياء من مصاديق الوحي، وأول ما بدأ الوحي عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الرؤيا الصادقة، فلا يرى رؤيا إلا جاءت في الواقع كفلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، ليتحنث في غار حراء.
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عن رؤياه، وفيه مسائل:
الأولى: بشارة للمؤمنين بالأمن والسلامة من جيوش الكفار.
الثانية: فيها نوع مواساة وتهيئة للأذهان لما يلحقهم من الخسائر يوم أحد في الأرواح.
الثالثة: تفقه المسلمين في مدرسة الرؤيا.
الرابعة: إعتبار الرؤيا الصادقة.
الخامس: رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدد إضافي من السماء.
السادس: إستقراء البشارات من وجوه وطرق مباركة متعددة.
ولم يقتصر الأمر على الرؤيا الصالحة للنبي بل نزلت آيات عديدة من القرآن يوم أحد تجمع بين أمور:
الأول: الوعد الكريم بالنصر والظفر.
الثاني: حسن المواساة.
الثالث: تقوية القلوب وتثبيت الأقدام.
الرابع: إكرام المؤمنين والثناء عليهم.
الخامس: البشارة بالنصر والفتح.
(وعن محمد بن إسحاق: كان مما أنزل الله تبارك وتعالى في يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران، فيها صفة ما كان في يومهم ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم) ( ).
علم المناسبة
وردت مادة(بشّر) في مواضع عديدة من القرآن وفي مواضيع مختلفة تشمل أمور الحياة الدنيا والآخرة، وجاءت آيات منها بلغة الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(بشر) في إشارة إلى مقامه في نقل الأحكام وأخبار السماء وما ينتظر الناس في عالم الجزاء، وما أعــــــد الله عز وجل للمحسنين من الثواب، وما يناله الكفار والظالمون من العقاب الأليم.
وفيه شاهد على عظيم قدرة الله عز وجل إذ أن البشارة نوع وعد ووعيد وأن الله عز وجل قادر على أن يفعل ما يشاء ولا راد لحكمه، مما يبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، ويحثهم على التوبة والإنابة، ويجعل المؤمنين في أمن وسلامة وغبطة وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وفيه شاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأنهم يتلقون البشارات من عند الله، ويحملونها إلى الناس جميعاً وهي لغة ترغيب وإنذار سماوي يجري على أيديهم، ليكونوا واسطة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس، كما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسطة بين الله وبينهم.
وفي حفظ القرآن من التحريف مسائل:
الأولى: فيه بشارة للمسلمين والناس جميعاً.
الثانية: إنه مقدمة لبقاء بشارات القرآن سالمة من التغيير والتبديل.
الثالثة: سلامة القرآن من التحريف برزخ دون إعراض الناس عنه.
الرابعة: من وجوه ومصاديق قوله تعالى[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] ( ) (قيل يريد بالنعمة القرآن عن الكلبي قال: وكان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به فأمره أن يقرأه) ( ).
ورد لفظ(بشرى) أربع عشرة مرة في القرآن، وعلى نحو متعدد في موضوعه وحكمه ليكون مدرسة وآية سماوية أنعم الله عز وجل بها على المسلمين خاصة والناس عامة ببركة القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه موعظة وعبرة، وهذا التعدد مناسبة لإقتباس الدروس والمضامين القدسية من كل آية وموضوع منها، وما تترتب عليه من الأحكام والآثار.
ومن آيات البشارة في القرآن:
الأول: أن القرآن ذاته بشارة للمؤمنين قال تعالى في وصف القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه بشارة بذاته، ووعاء للبشارات من غير تعارض بين الحال والمحل لوجوه:
الأول: إنه من تعدد وجوه الفضل الإلهي.
الثاني: هذا التعدد من الشواهد على أن القرآن جامع للأحكام وبيان لكل شيء.
الثالث: إتصاف هذا البيان بأنه رحمة ورأفة بالناس جميعاً.
الرابع: ما في القرآن من التبيان فيض ولطف من عند الله، وحاجة للناس جميعاً.
الثاني: البشارة بالوعد الإلهي بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وكما في الآية محل البحث.
الثالث: إن الله عز وجل له الملك والسلطان المطلق في الدنيا والآخرة قال سبحانه[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ).
وجاءت آيات القرآن بالإخبار عن أن البشارة للمؤمنين الذي يتصفون بالتقوى والخشية من الله مطلقة في أفراد الزمان الطولية، وتشمل النشأتين قال تعالى [ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
الرابع : البشارة للأنبياء السابقين باعتبار أن البشارة من مصاديق رحمة الله وإكرامه للأنبياء كما في إبراهيم إذ جاءته البشرى قال تعالى[وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ]( ).
وعن ابن عباس جاء جبريل عليه السلام وملك معه وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل (ونسب الزمخشري إلى القيل كانوا تسعة)، ومضمون بشارة إبراهيم هي الولد وقيل بهلاك قوم لوط( ) .
ويفيد الجمع والمقارنة بين البشارتين تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين بالأولوية وهذا التفضيل من وجوه
الاول: جاءت البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول خمسة آلاف من الملائكة، وبشارة إبراهيم بعدد قليل من الملائكة
الثاني : توالي البشارات بنزول الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاءت الآية قبل السابقة بالبشارة بنزول ثلاثة آلاف منهم
الثالث : مجئ البشارة لإبراهيم في قضية شخصية ,وموضوع الولد وجاءت الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والقتال لدحر الكفار .
الرابع : إختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة لنصرته وإعانته في ميدان القتال ,وفيه نصر للنبوة والأنبياء جميعاً, وهو من مصاديق دعوة إبراهيم في قوله تعالى[وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( )
الخامس : لقد أراد الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت نبوة إبراهيم ونزول الملائكة له بالبشرى والولد الصالح وبقاء النبوة في ذريته لأن الملائكة قاتلت من أجل إستمرار نزول القرآن وحفظه من قبل المسلمين وتعاهدهم لتلاوة آيات القرآن , ومنها الآيات التي تؤكد نبوة إبراهيم وتلقيه البشارة من السماء وهو من وجوه إكرام آل ابراهيم وفضل الله عز وجل بجعل النبوة والامامة في ذريته من بعده، بقوله تعالى[إِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي] ( )
فلم يكن سؤال إبراهيم لحفظ الذات والنفس بل أراد حفظ الآيات التي جاء بها و المعجزات التي رزقه الله عز وجل بأبنائه من الأنبياء وان يكون إرثه نبوة وعلماً سماوياَ , نعم حرص على أن يكون أولاده وأحفاده من أهل التقوى
السادس: جاءت نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون أتباعه بآلاف الملايين من البشر إذ جاء بمعجزة عقلية وهو القرآن , وكان الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والقرآن وآياته.
فمن بديع صنع الله عز وجل أن الملائكة ينزلون لإستدامة نزول آيات القرآن، ويحفظ القرآن البشارة الواردة في هذه الآية ومضامينها القدسية، وفيه مسائل:
الأولى: مصاحبة البشرى للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثانية: تبعث البشرى العز والفخر في نفوسهم وتقوي صفوفهم.
الثالثة: تزيدهم البشرى ثباتاً في دروب الإيمان.
الرابعة: يتلو المسلمون آيات القرآن بشوق ورغبة مع حب للملائكة لفضلهم في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
وهذا الحب من الشواهد على إيمان المسلمين على نحو العموم الإستغراقي بالملائكة الذي هو من شرائط الإيمان.
السادس: جاءت بشارة إبراهيم له خاصة بخصوص الوعد.
أما بشارة نزول الملائكة فإنها جاءت للمؤمنين في ساحة المعركة، وهو في حال قتال مع الكفار، مع أن إبراهيم عليه السلام واجه الطاغوت بكلمة التوحيد.
الخامس: مجيء البشرى بإيجاد يوسف في البئر من قبل السيارة الذين أرسلوا رجلاً منهم قيل إسمه(مالك بن ذعر الخزاعي) ( )، الذي أرسل دلوه في الجب طلباً للماء فتعلق يوسف بالحبل، فلما أخرجه وجده غلاماً بأبهى هيئة فقال[يَابُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ] ( ).
السادس: إن القرآن بشرى لمن يتصف بالصلاح والإحسان في ذات الوقت الذي يكون فيه إنذاراً للظالمين، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ]( ).
ومن مصاديق وتفسير الآية أعلاه ما تتضمنه الآية محل البحث من بشارة للمؤمنين في منطوقها، وإنذار للظالمين في مفهومها والذي لا ينحصر بزمان نزول الآية وواقعة أحد، فالآية إنذار للظالمين مطلقاً في الأزمنة المختلفة، وزاجر لهم عن التعدي على المسلمين ومبادئ الإسلام.
السادس: البشارات التي تأتي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله عز وجل، وآيات القرآن في هذا الباب شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم[مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ومنه ما جاء قبل آيتين[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ] في دلالة على أن نبأ نزول الملائكة مدداً بشارة من عند الله جاءت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان منزلته الرفيعة عند الله عز وجل وأنه خليفة الله في الأرض يمده بأسباب النصرة من السماء.
فمن مصاديق الخليفة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عن الله عز وجل بالمعجزة والبشارة التي خص الله عز وجل بها المؤمنين بنزول الملائكة الذين إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المؤمنين.
وفيه شاهد على تفضيله على آدم عليه السلام، ودليل على إقرار الملائكة بأهليته للخلافة، وأن شؤون الخلافة في الأرض أخذت منحى جديداً يتصف بأمور:
الأول: نشر لواء الإسلام وتثبيت كلمة التوحيد.
الثاني: جذب الناس إلى الهدى والإيمان بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل.
الثالث: ترشيح العمل بأحكام الشريعة الإسلامية.
الرابع: أداء المسلمين في عموم أرجاء الأرض للفرائض والعبادات بشوق ورغبة.
بحث كلامي
في التنزيل [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ]( )،وقال الزمخشري في تفسير الآية أعلاه ( ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاوس: أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام ، فقام الرجل ، فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه ، قال رب بما أغويتني، وهذا يقول: أنا أغوي نفسي، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين)( ).
وعبارته الأخيرة أعلاه وما ظنك بقصد بها المجبرة، ورد عليه بشدة في هامش تفسيره(القدرية هم الذين لايتهالكون حتى هم يشركون ويحرفون الكلم عن مواضعه) ( ).
ويجب أن تتنزه مباحث وكتب وعلوم التفسير عن طعن المسلمين بعضهم ببعض من غير سبب، وفيه مسائل:
الأولى: لابد أن يحرص الجميع على إجتناب تأويل الآية بذم إخوانهم والله يقول [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثانية: إن الآية أعلاه جاءت بخصوص ذم إبليس، والمسلمون مجتمعين ومتفرقين أعداء لإبليس،
وعداوتهم له مستديمة ومتصلة ومطلقة.
الثالثة: مع أن طاوس( )، عالم من علماء المسلمين إلا أن قوله ليس بحجة في ذم طوائف من المسلمين وليس من دليل على أنه طرد أحد الفقهاء من مجلسه لوجوه:
الأول: أن الموضع هو المسجد الحرام، وهو مفتوح للمسلمين جميعاً، بل يأمن فيه الجاني.
الثاني: باب التوبة مفتوح، وعلى فرض أن هذا الفقيه قال قولاً خطأ فقد يكون تاب إلى الله منه أو أنه جاء طلباً للتوبة.
الثالث: ليس من مناسبة للإستدلال بالآية أعلاه،وأن إبليس أفقه منه، وهو من القياس مع الفارق لأن المسلم نطق بالشهادتين، وإبليس عصا أمر الله في سجود لآدم.
ولابد من إعتبار الكبرى الكلية وهي ذم إبليس وفعله، وإكرام المسلمين عامة، والعلماء منهم خاصة إلا مع القرينة على الخلاف.
الرابع: هذا الفقيه كان صامتاً، ولم يتكلم ساعتها.
الرابعة: علم التفسير ملك للمسلمين جميعاً، فيجب إكرامهم فيه، وفي مضامينه القدسية، وهو مرآة الأخوة الإيمانية، ومن الشواهد على أن المسلمين[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وتتجلى معاني الخير والتفضيل بإجتناب القذف والطعن بين المسلمين.
الخامسة: العلماء قادة المسلمين، الأمر الذي تترتب عليه مسؤوليات إضافية من التنزه عن الأخلاق المذمومة، وصيغ الطعن بينهم بالتصريح أو التعريض، وهذا لا يمنع من فضح المقالات الباطلة ومنع الإفتتان بها، ولكن يتوجه الذم إلى ذات المقولة وليس إلى أشخاص وطوائف ومذاهب مخصوصة، ولاينحصر لزوم التنزه عن الطعن الذاتي بين المسلمين بالقدرية والجبرية بل هو عام وشامل في عموم المذاهب الكلامية والفقهية، والأصل عدمها وإنتفاء تعددها على نحو الفرق والطوائف.
ومن الدلائل على أن المسلمين فعلاً [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، في المقام أمور:
الأول: إنك ترى زوال كثير من المذاهب التي تكون سبباً للفتنة بين المسلمين فيكون لها شأن وأتباع ثم لا تلبث أن تضمحل وتزول.
الثاني: هذه المذاهب أمر مبتدع ومتأخر في زمانه عن أيام التنزيل والصحابة والتابعين، ومنها فتنة القدرية والمجبرة ، نعم ترى كل فريق منهم يستدل بآيات من القرآن وأقوال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل البيت، ولكن تلك الآيات والأحاديث أعم من موضوع الشاهد، وقد يستدل الفريقان المختلفان والمتخاصمان بذات الآية وفي نفس الموضوع مع أن قولهما من المتعارضين والمتضادين.
الثالث: بلوغ المسلمين لمراتب التوفيق للتغلب على تلك الخلافات وأسباب الخصومة، وتعاهدهم لأحكام القرآن والسنة، فقد تجد خليفة من الخلفاء يتبع مذهباً كلامياً ويتحمس له، ويحارب المذهب المضاد له، ويعقبه من الخلفاء من يكون على النقيض منه.
وما تمر الأيام حتى يمحى ويزول ذلك الخلاف وموضوعه، وفي هذا الزوال حجة للمسلمين، ونصر إلهي وهو حجة عليهم، وقد تكون للخلاف الأولوية في حلقات الدرس والبحث، ثم لا يلبث أن يتضاءل ويضمحل فلماذا يبقى شطر من الباحثين يؤكدون عليه ويعطون له أهمية خاصة وكأنهم إكتشفوا كنزاً في التراث والعلم.
ومنهم من يخصص له دراسات جامعية إسماً ومسمى، ويرجع فيه إلى أقوال المستشرقين، والأصل هو البحث في وجوه الإلتقاء بين المسلمين وفق الكتاب والسنة.
إن تعاهد وحدة المسلمين والعناية بعلوم القرآن من الكلي الطبيعي الذي يتغشى المسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي أي ينبسط التكليف به عليهم جميعاً كأفراد وكأنه من الواجب العيني وعلى نحو العموم المجموعي أي كأمة متحدة متآخية، وعلى نحو العموم البدلي أي على كل فرد يقوم بوظيفته الشرعية والأخلاقية والعقائدية في التمسك بالقرآن والسنة.
فهو ليس من الواجب الكفائي الذي إذا قام به فرد يسقط عن الآخرين، بل كل مسلم مأمور بهذا التمسك وتعاهد وحدة المسلمين وإجتناب إعطاء أولوية للخلافات وجعل لها موضوعية في علم التفسير والكلام والفقه ، ويجب أن يكون الإجتهاد في تفسير الآية ببيان ما فيها من الذخائر والدرر العلمية التي تنفع المسلمين والناس جميعاً.
ومن الآيات أن نفوس عامة المسلمين تميل بالفطرة إلى الوحدة ومعاني الأخوة الإيمانية فيما بينهم، وتبتعد عن أسباب الفرقة والخصومة وهو ركيزة نوعية عامة في القضاء على الكدورات الظلمانية وتفخيم أسباب الخلاف، وتنفر من التحزب بغير حق، وهذه النفرة من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وشاهد على أن عامة المسلمين ليسوا جهلة أو غافلين، ودليل على أن أداء الصلاة اليومية، وتلاوة آيات القرآن في الصلاة وغيرها والعناية الفردية والعامة بأحكام الحلال والحرام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير محض، وفيها مسائل:
الأولى: إنها أسباب لطرد الجهالة والوقاية من الغفلة.
الثانية: إنها برزخ دون غلبة أسباب الخلاف.
الثالثة: فيها مانع من سيادة وإستدامة سلطنة أرباب الفتنة، سواء كانوا في منازل الأمرة والسلطنة أو منازل العلم والشأن الإجتماعي.
وفيه شاهد بإن الله عز وجل حينما أخبر عن إعتبار المسلمين خير أمة فإنه سبحانه أمدهم بأسباب التفضيل، وأعانهم على تعاهد تلك المنزلة، والقرآن من أهم مصاديق تلك الإعانة.
ومن إعجاز القرآن الغيري أنه يحارب أفكار الضلالة، ويقطع أسباب الخلاف ويأتي عليها ويمنع من سلطانها على القلوب والإفئدة، ولكن هذا لا يمنع من لزوم قيام كل مسلم ومسلمة والعلماء خاصة بوظيفة الإحتراز من الفتن العقائدية، والتشتت والإنقسام الذي نهى الله عز وجل عنه، قال سبحانه[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
فجاء النهي عن الفرقة بعد الأمر بالتمسك بالقرآن والسنة لبيان موضوع الوحدة ومفاهيم الإتحاد.
ومع أن موضوع هذه الآية والآية السابقة هو المدد الملكوتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم أحد فضلاً من عند الله إلا أنها جاءت بأحكام كل فرد منها واقية من الفرقة والخلاف المذهبي بين المسلمين وهي:
الأول: الأمر الإلهي بالصبر وما فيه من كبح جماح النفس الشهوية والغضبية، وأسباب الفزع والخوف.
والصبر أمر وجودي يفيد كفّ النفس عما تحب، ومنعها من الإنجرار وراء الهوى والنزاع، كما أنه من مقامات الصالحين فانه ملزم للعلم والتحصيل لأنه من الشواهد على بلوغ مراتب الكمالات الإنسانية.
لقد أراد الله عز وجل بقوله تعالى [إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( )،أن يكون الصبر ملكة عند المسلمين، وعوناً على التلبس بحال الورع وبذل الوسع في طلب المعارف الإلهية، وتعاهد الأخوة الإيمانية وليس من حصر لوجوه الصبر في المقام، والأمر بالصبر في الآية المتقدمة وفق أفراد الزمان الطولية على وجوه:
الأول: صبر المؤمنين في ميدان المعركة يوم أحد.
الثاني: الصبر في معارك الإسلام.
الثالث: الصبر في طاعة الله وطاعة رسوله، ومنه أداء الوظائف العبادية.
الرابع: جعل الصبر ملكة ملازمة للمسلمين في حياتهم مطلقاًً، وفي أمور الدين والدنيا لتتجلى في وجوه:
الأول: الصبر على الأخوة الإيمانية، وترويض النفس في المجاهدات.
الثاني: الإحتراز من الآفات النفسية كالغضب والتكبر، والعناد وحب الرياسة وغيرها من الهلكات.
الثالث: جعل الصبر حارساً على القلب ورقيباً على النفس، وعريفاًَ على الجوارح.
الرابع: العصمة من الإنقياد للشهوات.
الخامس: الصبر في طاعة الله، وتحمل الأذى من جهتين:
الأولى: التقيد بعمومات قوله تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( ).
الثانية: الصبر في المهم، تعاهد للأهم وهو وحدة المسلمين وإجتناب الخلاف والفرقة التي هي من أسباب وأفراد الضعف والوهن، فاذا ساد الخلاف بدت معاني الضعف في الطائفة والأمة، فجاءت آيات القرآن لمنع مقدمات الضعف والوهن.
قوله تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]
في الآية بيان لنتائج المعركة والتي تكون على أحد وجوه ثلاثة:
الأول: تحقيق النصر والغلبة.
الثاني: الخسارة والهزيمة.
الثالث: التعادل والتكافئ، والخروج من غير نصر أو هزيمة.
والنصر هو أبهى وأجمل غاية يسعى لها المقاتلون سواء كانوا مهاجمين أو مدافعين، ولكنه لا يتحقق بالرغبة والأمنية وقد يبذل الجيش وسعه، ويدبر المكائد، ويقدم الضحايا، وتتهيء له مقدمات النصر، ولكن فجأة يمكر به العدو بخدعة أو بخطة محكمة وقد تتغير كيفية ونتائج القتال، فجاءت هذه الآية لبيان حقيقة وهي أن النصر بيد الله عز وجل يهبه لمن يشاء، ويحتمل موضوع الآية وجوهاً:
الأول: إنحصار الأمر بواقعة أحد.
الثاني: المراد معارك الإسلام الأولى.
الثالث: المقصود المعارك التي تكون بأمر النبي أو الإمام.
الرابع: إرادة المعارك والقتال مطلقاً.
والصحيح هو الأخير، لوجوه:
الأول: مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل.
الثاني: الأشياء جميعاً مستجيبة لله، حاضرة عنده.
الثالث: عدم وجود حد لقدرة الله عز وجل قال سبحانه[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الرابع: أصالة الإطلاق، وعدم وجود مقيد في البين.
لقد أراد الله عز وجل لهذه الآية أن تكون: بشارة لإجيال المسلمين، وقانوناً مصاحباً لهم في حال السلم والحرب، وإذ جاءت بداية الآية بالبشارة بخصوص معركة أحد، فإن خاتمة الآية جاءت بشارة مطلقة لمعارك المسلمين وإلى يوم القيامة، وهو من إعجاز الآية بأن يأتي أولها بشارة في واقعة حاضرة، ويكون آخرها بشارة مطلقة في ذات الموضوع ليكون بين أول وآخر الآية عموم وخصوص مطلق.
وفي الصلة بينهما وجوه:
الأول: البشارة التي في أول الآية جزء من البشارة التي في آخرها.
الثاني: مضمون أول الآية مقدمة لما في آخرها.
الثالث: البشارة الخاصة في أول الآية شاهد حسي حاضر على صدق البشارة المطلقة في آخر الآية ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وكل من أول وآخر الآية رحمة بالمسلمين، وموضوع للغبطة والسعادة، وترغيب للناس بدخول الإسلام.
وقد يظن بعضهم حصول النصر مع تحقق مقدماته وأسبابه المادية من كثرة العدد والعدة ورجحان الكفة على العدو، فجاء النصر في واقعة أحد مع قلة عدد وعدة المؤمنين.
تأتي (إلا) تحقيقاً بعد نفي وتتضمن الآية نفي القدرة على النصر من الناس والخلائق أجمعين، وتبين إنحصار النصر بالله عز وجل فهو وحده سبحانه القادر على تحقيق النصر، وجلب المنفعة وطرد الهزيمة وأفراد الضرر.
لقد كان المسلمون في بداية عهد بالإيمان، وسنن التوحيد وهم يرون الملائكة تنزل وتشارك في المعركة بقدراتها الهائلة، فيتنجز النصر والغلبة للمسلمين.
فجاءت هذه الآية للإخبار بأن الملائكة سبب للنصر وليس علة تامة، وهم عبيد لله عز وجل وهو سبحانه الذي أمرهم بالنزول وعيّن لهم وظيفتهم عند النزول وهي المدد والنصرة والإعانة للمؤمنين ولم يأت في هذه الآيات ذكر النصر والغلبة، إذ إبتدأت قصة أحد بالإخبار عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتهيئة وتعبئة المؤمنين للقتال.
فجاءت هذه الآية لدفع وهم، ومنع إنقطاع المؤمنين إلى الأسباب، وحثهم على التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة، فان قلت إن الله عز وجل هو الذي يحث على تهيئة أسباب القتال بآيات منها قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( )، والجواب من وجوه:
الأول: عدم وجود تعارض بين الدعاء وتهيئة الأسباب.
الثاني: الإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية، فقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعبئة أصحابه للقتال، وقاتل بنفسه من غير أن ينقطع عن الدعاء، بل إنه أعطى موضوعية وعناية خاصة للدعاء وسط المعركة، كما تقدم في ذكر واقعة بدر، وكيف أنه صلى الله عليه وآله وسلم إجتهد في الدعاء حتى سقط رداؤه.
الثالث: الدعاء سبب ومصداق من مصاديق القوة، ومن إعجاز الآية أعلاه أنها جاءت بذكر رباط الخيل مع ذكر القوة، لبيان إرادة المعنى الأعم للقوة، ومنه القوة في القلوب والأبدان، والتي يترشح بعض أفرادها من الدعاء.
الرابع: ليس من حصر لمنافع الدعاء، والمواضيع التي تكون له فيها موضوعية وإعتبار.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الدنيا موطن عز وأمن وطمأنينة للمؤمنين مع إختلاف وتعدد وتباين الأسباب وجاءت معركة بدر وأحد لتفتح صفحة مشرقة جديدة بنزول أسباب العز والفخر من السماء وتبدأ مرحلة جديدة في الصراع بين الإيمان والكفر، تتجلى بعدم وقوع الهزيمة للمؤمنين وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بمعنى أن المسلمين خير أمة لأنهم لن يتعرضوا للهزيمة، والإنكسار والخذلان، وقد يرد إشكالان:
الأول: يتبين بإستعراض التأريخ أن المسلمين تعرضوا لخسائر وهزائم في بعض المعارك.
الثاني: وقعت معارك بين فرق وطوائف من المسلمين إنتصرت بعض الأطراف فيها، فهل يمكن إستقراء قاعدة كلية منها، وهي أن الطرف الغالب هو الذي يصدق عليه[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
والجواب على الإشكال الأول إن قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] لا يعني ملازمة النصر للمسلمين في كل المعارك التي يخوضونها، إذ أن الحرب سجال، ولكن الخاتمة وحسن العاقبة في النشأتين تكون للمسلمين، فالمدار على خواتيم الأمور، وليس الغلبة والنصر في معركة، لأن القتال كر وفر، والشواهد التأريخية والوجدانية والحسية التي تدل على نصر المسلمين ظاهرة وجلية، وهي من مصاديق قوله تعالى في هذه الآية[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ].
وأما بالنسبة للإشكال الثاني فقد جاءت الآيات القرآنية بالأمر بالإصلاح بين المحاربين المسلمين، قال تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( )، ليكون هذا الصلح من مصاديق[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من جوه:
الأول: سعي عموم المسلمين للإصلاح بين المتقاتلين منهم، خصوصاً وأن الآية ذكرت الإقتتال بين القليل من المسلمين بدليل ما ورد قبل أربع آيات بقوله تعالى[هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ) ، وذكر أن الطائفتين هما بنو سلمة بن جشم، وبنو حارثة بن النبيت من الأوس.
الثاني: أن الله عز وجل ولي المؤمنين وهو الذي ينزع ما في صدورهم من الكدورات الظلمانية، ويصلح بينهم.
الثالث: إمتثال المتقاتلين من المؤمنين لأحكام الصلح، وإستجابتهم للمساعي الحميدة التي تستهدف الصلح، قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
الرابع: وجود أمة من المؤمنين تسعى للإصلاح بين المؤمنين، ومن الآيات أن الذين يسعون ويرغبون في الإصلاح ونبذ الإقتتال بين المسلمين أكثر من الذين يتقاتلون، وتلك قاعدة كلية منبسطة على كل أجيال المسلمين.
وليس فيها إستثناء، وحتى لو حصل القتال بين دولتين من المسلمين فإنه لا يعني أن أهلهما يؤيدون القتال ويشاركون فيه.
الخامس: الإقتتال بين المسلمين قبيح ذاتاً وعرضاً،وله أضرار كثيرة.
السادس: جاءت آية(خير أمة) دعوة للمسلمين لنبذ الإقتتال بينهم، وترغيب لدعاة الصلح لبذل الوسع فيه.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل.
الثانية: إن الله على كل شيء قدير، وتأتي الوقائع ونتائج المعارك على ما يريد الله عز وجل وليس على الأسباب المادية، فالله عز وجل قادر على كل شيء، وقدرته أمر فاعل ومؤثر في الكائنات، فهو لم يترك الخلائق وشأنها فتأتي خواتيم الأمور حسب المشيئة والقدرة الإلهية.
الثالثة: الآية دعوة للناس جميعاً لعدم خوض قتال إلا جهاداً في سبيل الله عز وجل، لأن النتيجة لا تكون إلا بنصر المؤمنين.
الرابعة: تخلف الأسباب المادية عن جلب النصر والظفر وفيه دعوة للناس للتدبر في قدرة الله عز وجل، والإرادة التكوينية.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يعيشوا أسباب النصر والظفر ويدركون أنه قريب منهم، وهو من مصاديق البشرى والطمأنينة المذكورتين في هذه الآية، فحتى إذا لم يرجع الكفار للقتال، ولم ينزل الملائكـــة للنصرة فأن نفوس المؤمنين تمتلأ بالسعادة والغبطة، وتشع في جنباتها مضــامين الطمأنينة بما ورد في خاتمة هذه الآية، وإخبارها بأن النصــــر من عند الله عز وجل لأنه سبحانه يهب النصر للمؤمنين على نحو التعيين والحصر، وهو من فضله عليهم ، والجزاء العاجل على حسن إيمانهم [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
قانون”النصر من عند الله’’
جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس لسبل الإيمان، ولو شاء الله عز وجل لآمن الناس جميعاً وتلقوا النبوة والتنزيل بالتصديق، ولكنه موضوع للإختبار والإبتلاء، فمن الناس من آمن بالأنبياء وإستعانوا بالمعجزات التي جاءوا بها كشواهد على صدق دعوتهم ونبوتهم.
ومن الناس من أصر على الكفر والجحود، وقام بقتل الأنبياء، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعصمه من القتل، وجعل برزخاً بينه وبين الكفار، ومنع وصول أيديهم إليه، وليس من حصر لصيغ هذا المنع وأفراده وكيفيته، ومن صيغه أن الله عز وجل أنزل ملائكة من السماء لحفظ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين يقاتلون معه، فإذا كان الكفار يقتلون بعض الأنبياء فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حفظه الله هو وأصحابه من القتل والبطش وتلك آية تدل على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بما أنعم الله عز وجل عليهم من أسباب الحفظ والسلامة من الأرض والسماء ليتعظ الكفار، ويكفوا عن المسلمين، ويدركوا أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق.
لقد أراد الله عز وجل إظهار دين الإسلام، ورسوخ العمل بمبادئه في الأرض، فجعل نزول الملائكة مقدمة وسبباً لنصر المسلمين، فإن قيل حصل نزول الملائكة في بعض معارك المسلمين الأولى، فكيف بالمسلمين بعدها، وبعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وتعطيل المدد الملكوتي، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت خاتمة هذه الآية لتوكيد الكبرى الكلية وهي أن النصر في المعارك من أمر ومشيئة الله وهذه الكبرى تتغشى أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل.
وإن قيل هل هي خاصة بالمؤمنين الجواب لا، لأصالة الإطلاق وعمومات قوله تعالى[لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وغيرها من الآيات التي تدل على أن المشيئة المطلقة لله عز وجل.
ترى هل ختم الآية بقوله تعالى[الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] أمارة وشاهد على أن الآية مختصة بالمؤمنين في حكمته تعالى أن يترك طرفين من غير المؤمنين يتقاتلان بينهما من غير أن يجعل النصر لأحدهما، الجواب لا دليل على هذا التقييد في الخاتمة، وحتى القتال الذي يجرى بين غير المؤمنين فأن نصر أحد الطرفين لا يكون إلا بمشيئته وإرادة من الله تعالى، وهو سبحانه العالم بالمصالح والمفاسد والذي يتفضل بتقريب الناس من منازل الطاعة، ويبعدهم عن أسباب ومقدمات المعصية، ويحول دون وقوعهم في التهلكة أفراداً وجماعات، وهو الأعلم بمن تدركه التوبة من الكفار ومن يكون أكثر ضرراً على الإيمان وأهله، وإطلاق المشيئة الإلهية في القتال من أسباب النصر من حكمة الله عز وجل وربوبيته للخلائق جميعاً.
وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما تفضل الله عز وجل بالرد على الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ، إذ جعل الله عز وجل النصر بيده في كل المعارك ليكون سبباً لمنع إستمرار الإفساد في الأرض، وبرزخاً دون التمادي في القتل والظلم والتعدي.
لقد أراد الله عز وجل أن يكون النصر مقدمة لنصر آخر، وطريقاً لسيادة الإيمان في الأرض، ومانعاً من إستحواذ الكفار على مقاليد الحكم وإستمرارهم في شؤون السلطنة.
وكما جاءت مقدمة الآية بشارة للمؤمنين الذين قاتلوا يوم أحد ومن وراءهم من المسلمين، فإن خاتمتها جاءت بشارة مطلقة لكل أهل الإيمان، ودعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وهي سبب لمصاحبة الطمأنينة للنفوس، ومصداق لقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، بلحاظ أنها مانع من من الخوف والحزن في الدنيا من إستحواذ الكفار على أمور الرئاسة والسلطنة، وهو من مصاديق ولاية الله للمؤمنين وعدم التخلية بينهم وبين الكفار، ولما قال الله تعالى[مامِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ] ( )، جاءت هذه الآية للإخبار بأنه سبحانه يسمع ويرى حال الناس والمتحاربين منهم، ويمنع بفضله وقوته طغيان الكفر وإنتشار مفاهيم الضلالة.
ولا تتعارض نسبة النصر لله عز وجل مع قانون السببية ولزوم سعي المسلمين دروب الجهاد، وبذل الوسع في الإعداد لمواجهة الأعداء والمرابطة في الثغور.
علم المناسبة
جاء لفظ(النصر) إحدى عشرة مرة في القرآن، تتضمن نسبة النصر إلى الله عز وجل، وهو القادر على منحه، قال تعالى[يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّحِكيمُ]( )، ويلاحظ تكرار قوله تعالى[الْعَزِيزُ الحكِيمُ]في الآية أعلاه، وفي الآية محل البحث، وقال تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، مما يدل على أن تعيين المنتصر والغالب يأتي بالحكمة ومعاني الإتقان.
وتبين آيات القرآن أن المؤمنين كانوا يعلمون بأن النصر من عند الله وأنه حليفهم قال تعالى[حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) لبيان أن الرسول والمؤمنين يدركون أن النصر بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي ينصرهم على القوم الكافرين، وهو منجز وعده، ويفيد الجمع بين قوله تعالى[أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] وبين الآية محل البحث وجوهاً:
الأول: إن النصر الإلهي من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثاني: النصر الإلهي من إستجابة الدعاء للمؤمنين.
الثالث: عدم وجود مسافات تذكر بين السماء والأرض تذكر في موضوع الإستجابة لأمر الله عز وجل.
الرابع: يحول النصر الإلهي دون تكبد المؤمنين الخسائر في الأرواح والمعدات، فمتى ما جاء النصر الإلهي فأن المؤمنين يكونون في مأمن من العدو وكيده.
الخامس: قرب النصر الإلهي من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، إذ أن الله عز وجل يمنع لحوق الأضرار الفادحة بالمؤمنين في ميادين القتال، أو تعرضهم للهزيمة.
السادس: إتصاف النصر الإلهي بالقرب والدنو من المؤمنين.
السابع: يفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: النصر بيد الله عز وجل وحده.
الثاني: يهب الله النصر لعباده الصالحين.
الثالث: قرب النصر الإلهي من المؤمنين.
وهل من فرق بين قوله تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] وبين قوله تعالى[نَصْرِ اللَّهِ] الجواب ليس من فرق في المقام والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فنصر الله عز وجل خاص بالمؤمنين، والنصر مطلقاً بيده سبحانه وكون النصر بيد الله عز وجل لا يعني قعود المؤمنين، أو خروجهم لميدان المعركة من غير بذل الوسع في القتال، بل جاءت الآيات بالحث على الجهاد والقتال في سبيل الله قال تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ] ( )، وإنفاق الأموال في سبيل الله، وإستعمال السيوف والسلاح مطلقاً في مجاهدة الكفار.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإلتفات) وهو الإنتقال في الكلام من لغة وإسلوب إلى آخر فينقل من لغة المتكلم إلى الخطاب ومن الخطاب إلى لغة الغائب، ومن الجملة الإنشائية إلى الخبرية أو بالعكس، وفيه منافع عديدة تقدم ذكرها، منها:
الأول: جذب الأسماع.
الثاني:تطرية الكلام.
الثالث: جعل الإنسان قارئاً أو مستمعاً يلتفت إلى الكلام.
الرابع: الدلالة على أن المتكلم ملتفت إلى موضوعه وإختيار عبارته.
الخامس: طرد الملل والسأم الذي قد ينتج من الإستمرار على صيغة واحدة.
السادس: إستدامة الإنتباه، والحرص على إجتناب الغفلة.
السابع: بيان موضوعية كل جملة وموضوع من الكلام، بلحاظ الإنتقال بصيغة وإسلوب الحديث، وإلى جانب القواعد والمنافع العامة للإلتفات هناك منافع خاصة في كل فرد ومصداق من مصاديقه بحسب الموضوع والحال.
ومن إعجاز القرآن إنفراده بإجتماع الإلتفات وإتحاد الإسلوب في ذات اللفظ القرآني من غير تعارض بينهما، كما في هذه الآية إذ إبتدأت بذات الصيغة والإسلوب التي جاءت بها الآية السابقة وهي لغة الخطاب لذا إبتدأت بحرف العطف الواو في قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ] ثم إنتقلت الآية إلى مايجمع الإتحاد في ذات الإسلوب، والإلتفات إلى إسلوب وصيغة أخرى بقوله تعالى [وَمَا النَّصْرُ] إذ أن الواو تحتمل وجهين:
الأول: إنها عاطفة والجملة معطوفة على ما تقدم بذات لغة الخطاب الواردة في بداية الآية بتقدير: وأعلموا ما النصر إلا من عند الله.
الثاني: جاء (الواو) للإستئناف، والمقصود بيان قانون ثابت في الإرادة التكوينية ليتعظ الناس جميعاً.
ولا تعارض بين الوجهين، وكلاهما من مصاديق ومعاني الآية الكريمة( )، وتقسيم الواو إلى حرف عطف وإستئناف تقسيم إستقرائي وفق الصناعة النحوية، واللفظ القرآني أعم منه موضوعاً ودلالة وبلحاظ الوجه الأول أعلاه فان الآية سبب إضافي، وفضل آخر من عند الله لبعث الطمأنينة والسكينة في نفوس المسلمين، وإخبار عن العلة الغائية في نزول الملائكة وهي تحقيق النصر للمسلمين.
وأما على المعنى الثاني فالآية بيان وتفسير لنزول الملائكة للنصرة، وأنه فرع القاعدة الكلية بأن النصر من عند الله، وحينما إحتاج المؤمنون المدد والنصرة من أجل ظهور الإسلام، وإجتمع الناس على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس معه إلا نفر من المؤمنين جاء المدد من السماء.
ويتجلى في الآية نوع من البديع هو من فرائد ومختصات القرآن بأن لا يكون النظر للآية بذات الإسلوب والصيغة مانعاً من معنى الإلتفات وما له من الدلالات البلاغية، والأثر على السامع في جذب الأسماع، وإستدامة الإنتباه وطرد السأم، بل يكون كل من العطف والإسئناف سبباً في بيان معاني الآخر، والتوكيد عليه.
ولم تقل الآية (وما نصركم إلا من عندالله) لأن المراد منها أعم، ويتضمن بيان قانون ثابت لتكون الطمأنينة التي أخبرت عنها هذه الآية مستقرة في قلوب المؤمنين، وحرزاً لهم، فهي إن جاءت في هذه الآية كنتيجة وأثر مترتب على البشارة بنزول الملائكة،فستكون أصلاً وسجية راسخة في نفوس المسلمين وعوناًً لهم في الإندفاع والتزاحم للخروج للنفير والخروج والقتال في سبيل الله.
لقد أرادت الآية تأسيس جيوش من المسلمين تتصف بسلامة القلوب من الخوف والفزع وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).

بحث لغوي
ينقسم الاسم الى قسمين:
الأول: اسم العلم، وهو الذي يدل على فرد مخصوص على نحو التعيين، ولم يوضع لإثنين أو أكثر في وقت واحد، ولا يخل بهذا التعريف الإتفاق والصدفة والإلتقاء في الإختيار أو حصول المحاكاة في ذات الاسم كما في اسم محمد، الذين يمكن إعتباره أكثر الأسماء إنتشاراً، وإختياراً لإرادة التبرك والمحاكاة باسم سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وينقسم اسم العلم إلى عدة أقسام( ):
الثاني: اسم الجنس، وهو اللفظ يشمل أفراد جنسه على نحو العموم الإستغراقي، ولا يختص بفرد دون آخر من جنسه مثل: رجل، قلم، بلغة التنكير وإرادة الكلي في المعين، وينقسم إلى قسمين:
الأول: اسم الجنس الجمعي وهو الذي يتضمن معنى الجمع ليدل على الجنس كله مثل، تفاح، دار، ويؤتى بمفرده بإضافة التاء أو ياء النسبة فيقال: تفاحة،، دارنا.
الثاني: اسم الجنس الإفرادي، والذي يدل على الجنس، مما ليس معه فرد لا بإضافة تاء ولا ياء النسبة، وجاءت الآية بلفظ النصر وهو اسم علم جنس يطلق على أفراد جنسه كلها لبيان إنحصار النصر وأسبابه بالله عز وجل فهو سبحانه الذي يجعل أحد الطرفين أو أحد الأطراف منتصراً، ولا ينحصر النصر الإلهي بحال بداية وإستدامة المعركة، بل يكون النصر والفضل الإلهي في المقام على وجوه:
الأول: تهيئة مقدمات وأسباب النصر.
الثاني: جمع الأعوان والأنصار لتحقيق النصر.
الثالث: دفع الذي يريد الله نصره إلى مواطن القتال، ومنازل الإمامة.
الرابع: لا ينحصر النصر الإلهي بميادين المعارك، بل يشمل حال السلم والحرب.
الخامس: بعث العز ومعاني الرفعة في نفوس المسلمين.
لما جاءت الآية السابقة بالحث على الصبر والتقوى والإخبار عن كونهما مقدمة لنزول الملائكة مدداً ونصرة للمؤمنين، إذا رجع الكفار، جاءت هذه الآية للإخبار عن إنحصار النصر بيد الله، ولايستطيع غيره سبحانه جلب النصر للمقاتلين.
ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: الحث على التقيد بأحكام الصبر والتقوى، الصبر في ميادين القتال وعند الشدائد وفي حال الرخاء، والحرص على أداء العبادات.
الثاني: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وتفقههم في الدين، وإدراك نيل النصر على الأعداء بطاعة الله ورسوله.
الثالث: سواء رجع الكفار إلى المعركة او لم يرجعوا فان النصر حليف المؤمنين، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيرجعون سالمين غانمين إلى المدينة المنورة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: يتعلق موضوع هذه الآية بالآية السابقة، لذا جاءت بالضمير الهاء (وماجعله الله) في إشارة إلى المدد الملكوتي الذي يبعثه الله لنصرة المؤمنين.
الثانية: بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين بالمدد الملكوتي.
الثالثة: الإخبار عن منافع البشارة الملكوتية، فهي بذاتها خير محض، ونفع دائم، وحتى إذا لم يرجع الكفار للقتال، ولم ينزل الملائكة للنصرة فان هذه الآية بذاتها البشارة، ومن الآيات أن تكون كلتا البشارتين من السماء، مع إتصاف البشارة القرآنية بالبقاء في الأرض إلى يوم القيامة، لتحكي حال المؤمنين يوم أحد وفضل الله عز وجل عليهم بالنصر والغلبة بالمدد الملكوتي.
الرابعة: شمول البشارة لعموم المؤمنين.
الخامسة: إنتفاء الخوف والحزن من المؤمنين.
السادسة: مع شدة أهوال القتال، ومجئ أنباء عن عودة الكفار للقتال، فان الله عز وجل لم يترك النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بل أنزل عليهم البشارات ومايبعث السكينة في نفوسهم.
السابعة: مما تتصف به البشارة في هذه الآية إنها مصاحبة لأوان المبشر به، فحالما يرجع الكفار ينزل الملائكة مدداً ونصرة للمؤمنين، وكأن البشارة إخبار عن نعمة حاضرة.
الثامنة: العناية الإلهية بالمؤمنين في إصلاحهم للقتال، وسلامة قلوبهم، ومنع طرو الأمراض النفسية عليهم، فمع الطمأنينة تكون الصحة والعافية.
التاسعة: حاجة المؤمنين لسكينة القلوب، وفيه إشارة إلى إصلاحهم لإمامة الناس في أمور الدين والدنيا، ومن لم يكن مطمأن القلب ثبت الجنان لايستطيع قيادة الأمة وإدارة شؤون الناس.
العاشرة: بيان المائز والفارق الكبير بين جيش المؤمنين وجيش الكفار، إذ أن المؤمنين في حال طمأنينة وسكينة وغبطة، أما الكفار فان الفزع والخوف يملأ قلوبهم وهذا الفارق من أسباب إنتصار المؤمنين في المعركة مع أنهم فئة قليلة، والكفار فئة كثيرة، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الحادية عشرة: جعل السكينة ملكة ثابتة عند المسلمين بتوكيد قانون في الأرادة التكوينية وهو أن النصر بيد الله عز وجل وينعم به على المؤمنين ، قال تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة: البشارة السماوية توليدية، بحيث تتفرع عنها بشارات أخرى، فيترشح عن البشارة بنزول الملائكة بشارة خيبة وهلاك القوم الكافرين.
الخامسة: بيان علة طمأنينة وسكينة قلوب المؤمنين وأنها مركبة من البشارة السماوية، ومن خزي وهلاك الكافرين، أو أن هذا الهلاك يتعقب البشارة والطمأنينة.
السادسة: تتضمن البشارة التي تأتي للمؤمنين الإضرار بالكافرين.
بحث منطقي
كل ما يؤدي إلى وجود غيره أو يؤثر فيه يسمى علة والعلة على أقسام هي:
الأول:العلة الفاعلية: وهي مبدأ الحركة وتسمى(مامنه الوجود) فهو المنشأ والمصور والسبب وإذا كان الفاعل سبباً للوجود يسمى(مابه الوجود) بإعتبار أن ماسوى الله ليس فيضاً للوجود أو علة للخلق.
الثاني: العلة المادية: وهي مادة وجود الشئ، وأسباب وقد تكون متحدة كالسقي بالماء، أو متعددة كما في القلم والقرطاس في الكتابة.
الثالث: العلة الغائية: وهي الغاية والمقصود من الأمر والثمرة التي لأجلها وجد الشئ، وتسمى (ماله الوجود) فالصلة الغائية لقطع المسافة وتحمل وعثاء السفر في الحج لأداء المناسك، ولحراثة الأرض الزراعة، والشهادة على العقد توثيق ومنع الخصومة.
الرابع: العلة الصورية: وهي الصورة، والحال الذي يكون سبباً لقوام المحل في الوجود، كمافي طريقة وأقسام الدار.
ومن الآيات أن العلل الأربعة أعلاه تجتمع كلها في هذه الآية وتكون جميعاً من عند الله، وفيه دليل على أن الله عز وجل أحاط بكل شئ علماً، وأن مقاليد الأمور بيده تعالى، فالنصر لايأتي إلا من عند الله، وكذا العلة المادية التي تتجلى بنزول الملائكة مدداً وناصرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
والعلة الغائية هي إعلاء الدين وتثبيت معالم الإيمان في الأرض، وهزيمة الكفار والمشركين قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ]( )، ومن قوة وحكمة الله عز وجل أنه عيّن الغاية من وجود الناس في الأرض قبل أن ينفخ الروح في آدم بالإخبار عن وظيفة الخلافة، وعن علة الخلق وهي العبادة قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وجاء نصر الله عزوجل للمؤمنين ظاهراً جلياً، إذ إنهزم الكفار في معركة بدر وكذا في بدايات معركة أحد، ودّب الخوف في نفوس ومجتمعات الكفار وأخذت القبائل تتناقل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرص الناس على الإستماع إلى تلاوة آيات القرآن والتدبر في معانيها.
فمن حكمة الله عز وجل أن تأتي الآثار للنصر الإلهي بما يريد الله عز وجل، ولاتنحصر تلك الآثار بميدان المعركة بل هي عامة ومتصلة، وتتصف بالبركة، وكأنها تعاهد للنصر، وحفظ له، مما يدل على أن أقسام العلة في المشيئة الإلهية أعم وأكثر من الأقسام الأربعة المتقدمة، والتي هي تقسيم إستقرائي،ويمكن إضافة وجوه أخرى للعلة في المقام وهي:
الأول: العلة المستديمة: وهي التي تنبسط على آنات الزمان المتجددة، وتظهر آثارها بأفراد الزمان، فلا تمحى أو تزول، كما في الأهلة، وتعيين أوان العبادات بواسطتها قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
الثاني: العلة التوليدية: وهي التي تتجدد كعلة وسبب لوجود معلولها والذي لايتخلف عنها، ففي كل آن تطل علينا آثارها، ومنه الآيات القرآنية في إصلاح النفوس والمجتمعات، والقضاء على أسباب الكفر والضلالة، كما في هذه الآية التي تبعث البشرى والسكينة في قلوب المسلمين، والخوف والفزع في نفوس الكافرين.
الثالث: العلة المتجددة: والتي تتجدد في أفراد الزمان الطولية، وهي على شعبتين:
الأولى: العلة الراتبة: وهي التي تطل في أوقات أو أماكن مخصوصة على نحو راتب ومتجدد من غير تباين في أوقاتها وأن إختلفت آثارها في الحكم والكيفية، ومنها طلوع الشمس كل يوم، وغروبها بوقت معين عند الغروب.
الثانية: العلة غير الراتبة: والتي تأتي بلحاظ تجدد السبب أو الأثر، ومنه المدد الملكوتي فانه لايأتي في كل معركة من معارك المسلمين، ولكن آثار مجيئه في معارك الإسلام من العلة المستديمة والتوليدية التي تتجدد آثارها، لذا جاءت هذه الآية توثيقاً سماوياً لهذا المدد وأختتمت بالإخبار بأن النصر من عندالله، سواء بواسطة الملائكة أو بجنود وقد تكون من الأرض، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
قوله تعالى [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]
جاءت خاتمة الآية بذكر أسمين من أسماء الله وسبل بشارة أخرى للمؤمنين لما فيها من الدلائل على تحقيق النصر والغلبة للمؤمنين، والخزي والهزيمة للكافرين، ولتكون في الآيات بشارات متعددة هي:
الأول: البشرى بالوعد الإلهي بالنصر.
الثاني: البشرى بذات النصر، كما في معركة بدر وما فيه من البشرى المركبة لمجئ النصر والمسلمون في قلة وفي ضعف قال تعالى [[ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالث: بشارة طمأنينة القلوب.
الرابع: عموم البشارة وشمولها للمؤمنين جميعاً.
الخامس: النصر بيد الله، لأن الله عز وجل لايهبه إلا للمؤمنين به وبرسله.
السادس: حسم المعارك بإنتصار المسلمين، وكما جعل الله عز وجل العقل عند الإنسان سبباً للهداية إلى سبل الإيمان ليكون عوناً من ذات الإنسان للتصديق بالأنبياء وما جاءوا به من المعجزات، فانه سبحانه جعل البشارة بالنصر سبباً لمبادرة المسلمين لسوح القتال، والخروج في الغزو، إلى جانب حب الشهادة في سبيل الله وما فيها من الأجر العظيم والخلود في النعيم.
السابع: إختتام الآية بالإخبار بأن الله عز وجل هو الممتنع الذي لايغلب فكون النصر بيد الله من الأمور ذات القطع الذاتي التي لاتقبل الترديد.
الثامن: من البشارات من الآية إخبارها بأن الله عز وجل هو (الحكيم) الذي يجعل النصر يأتي للمسلمين على نحو تام ومتقن وهذا النصر يستحقه المؤمنون وليس فيه ظلم للكفار لأن الله عز وجل منزه عن الظلم والقبيح مطلقاً.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأن إجتمع إسمان من أسمائه في خاتمة هذه الآية وفيه توكيد للبشارة وإستقرار للطمأنينة في نفوس المسلمين، وبرزخ دون الشك والريب في النصرالذي يأتي من عند الله.
ومن الآيات أن تختم الآية بتمجيد الله عز وجل، والثناء عليه في موضوع النصر والغلبة للمسلمين، وفيه شاهد بأن الله عز وجل هو القوي الذي لايقهر.
وإختتام الآية بالمدح والثناء على الله عز وجل دعوة للدعاء والتضرع إليه سبحانه لجلب النصر والمنافع، ودفع الضرر والأذى، ومناسبة للإنقياد إليه تعالى، والتسليم بربوبيته، والإمتناع عن الجحود والضلالة.
وفي الآية تخويف ووعيد للكفار، وإخبار بأن الهزيمة تنزل عليهم، بظلمهم وتعديهم والحكيم فعيل بمعنى فاعل، والله سبحانه أتقن كل شئ، وأحكم الأشياء جميعاً، ومن حكمته تعالى أن جعلها مستجيبة لأمره وهو سبحانه أعلم بالمصالح والمفاسد.
ومن إعجاز القرآن الموافقة بين موضوع وخاتمة الآية القرآنية، وذكرأن إعرابياً سمع من يقرأ (غفور رحيم) في محل (عزيز حكيم) فانكره قال: أن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لايذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه( ).
وتبين الآية الكريمة وجوهاً من حكمة الله عز وجل وهي:
الأول: أن النصر بيد الله عز وجل، وليس بيد غيره، وفيه شاهد بأن الملائكة لم ينزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمحض إرادتهم، بل نزلوا بأمر من الله عز وجل.
الثاني: نزل الملائكة لتحقيق النصر للمؤمنين، فهم لم يصعدوا إلى السماء إلا بالنصر التام والمتقن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، مما يدل على أن أي قوة تأتي مدداً للكفار لم تنفعهم.
الثالث: من الحكمة أن يكون النصر مصاحباً للمؤمنين، ولايفارق النبوة والإيمان، لأنه وسيلة مباركة لتعاهد العبادة في الأرض، وسلامة أولياء الله عز وجل.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn