معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 91

المقدمة
الحمد لله الذي جعل القرآن خزائن تخرج منها اللآلئ، وتستخرج منها الدرر، ومبادئ العلوم البرهانية والقوانين الكلية والقواعد الشرعية التي تنير عالم الدنيا بضياء الهداية والإيمان، وتبعث على السعي للإرتقاء في سلّم الرشاد ومراتب المعرفة وتكون واقية من درن الشهوة، وسلامة من غلبة النفس البهيمية والغضبية.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون الصاحب السماوي الكريم للأجيال المتعاقبة من الناس إلى يوم القيامة , ومن الآيات أن كل آية منه سلاح مبارك في سرعة إنتشار الإسلام وغزوه للقلوب , وإنجذاب الناس لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك آية ينفرد بها من بين الكتب السماوية وشاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وكل آية بمنزلة الرسول والسفير الملكوتي النازل من السماء، لتكون الذخائر السماوية التي يختص بها المسلمون من اللامتناهي، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن صفات القرآن أنه عقل إضافي شخصي ونوعي، يلازم الفرد والجماعة والأمة، ويمنع من الفرقة والتشتت , وحينما قال الله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، فانه سبحانه جعل كل آية من القرآن عصمة وتمسكاً به، وحرزاً من التفرق والإنقسام، ومنه الآية المباركة التي جاء هذا الجزء في تفسيرها، والتي تخبر عن هلاك طائفة من الكفار وخزيهم وهزيمتهم خاسرين لتكون سبباً لإستدامة وحدة المسلمين، وزيادة إيمانهم، ومقدمة لدخول أفواج من الناس في الإسلام وفق قواعد إتحاد الأمة المقيد بالتمسك بآيات القرآن، إذ أن الآية الكريمة تتضمن موضوعاً ومحمولاً وأثراً مباركاً متجدداً إلى يوم القيامة.
والآية إنذار مستديم وحاضر للكفار، وزجر لهم عن التعدي على الحرمات، وبرزخ دون التمادي في الضلالة والأباق عن قوانين الإرادة التكوينية وأحكام الحلال والحرام، وزجر عن الإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان قبح هذا الإعراض.
وجعل الله مقاليد الأمور كلها بيده, ليمنع من العتو والظلم والغرور، ولتبقى الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، تتصف بالبهجة والغبطة، وتزهو بالأمل والسعي في دروب الصالحات , ويتخذها الإنسان بلغة لنيل المنزلة الرفيعة يوم القيامة.
ومن الآيات أن العمل للكسب في الدنيا ليس بالأمر السهل بل يحتاج إلى التعب والعناء، فمن أجل أن يكسب الإنسان لقمة العيش ويأتي بالرزق له ولعياله عليه بالجد والمثابرة، وزاد الآخرة هو الأولى والأهم ويتجلى بطاعة الله ورسوله قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
قد يواجه من يريد الآخرة ويسعى لها بدأب وشوق وشغف الإبتلاء والإفتتان والأعداء من الكفار الذين قد يرفعون السيف في وجهه لمنعه من مواصلة الطريق، ليضروا أنفسهم والآخرين بحجبهم عن الإستبصار والرؤية الحسية والقلبية لمنافع الهداية.
فبعث الله عز وجل الأنبياء بالمعجزات الباهرات لجذب الناس لمنازل الإيمان، والمنع من إفتتانهم بالكفار وأموالهم، وأسباب الشك والريب التي يلبسون بها على الناس، ويجعلونها وسيلة للصد عن سبيل الله والتصديق بالنبوة.
وقد تجلت معجزات النبوة العقلية والحسية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعله الله عز وجل خاتم النبيين وسيد المرسلين وأنزل عليه القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل , وبينه وبين عيسى عليه السلام نحو ستمائة عام إنتشرت فيها مفاهيم الكفر، وأقام الغالب من الناس على عبادة الأوثان، وتعظيم الأصنام, وتوارثوا الجحود ومعاني الكفر، وسادت الأخلاق المذمومة , وصار فعل القبيح أمراً شائعاً ومتعارفاً، فإنتشر الغزو والسبي بين القبائل، وترشح عنه وأد البنات.
وإبتلى الله عز وجل الناس بالفقر والجوع والفاقة لعلهم يتدبرون، ومن اللطف الإلهي أنه سبحانه لم يجعل الناس في حيرة وغفلة بل جاءت المعجزات والبينات مع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى نحو التتابع والكثرة، فكانت كل آية من القرآن إعجازاً قائماً بذاته، وسراً من أسرار السماء وليكون القرآن سر الله الأعظم , ومائدة مباركة نازلة من عنده تعالى على صاحب الكمالات الإنسانية , يدعو الناس لسبل السلامة والأمن في النشأتين.
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بالمعجزات الحسية لتكون مع المعجزات والبراهين العقلية مجتمعتات ومتفرقات وسيلة قاطعة لهداية الناس على مختلف مشاربهم، ومداركهم العقلية مما جعل رؤساء الكفر والضلالة يستشيطون غضباً، ويجهزون الجيوش العظيمة لإستئصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله في معركة بدر(اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ) ( ).
فكان أن أنعم الله عز وجل عليه وعلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بنزول الملائكة مدداً وعوناً لهم، في آية لم تشهد الأرض لها مثيلاً، وتشريف للمسلمين لم تنله أمة قبلهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وتفيض منافعه على الأجيال المتعاقبة من الناس سواء ذراري الصحابة أو التابعين وعموم المسلمين والناس جميعاً.
وجاء هذا الجزء من التفسير وهو الواحد والثمانون والحمد الله بتفسير الآية السابعة والعشرين بعد المائة من سورة آل عمران , والتي تتضمن الإفاضات التي ترشحت عن المدد الملكوتي للمؤمنين يوم أحد , والوعد بهلاك بعض رؤساء الكفار وأئمة الضلالة ، وإصابة جماعة الكفار الذين يلون المسلمين بالضعف والذل والوهن وإبانة طائفة منهم ، ليعجزوا عن مواصلة التعدي والهجوم على المسلمين تخفيفاً عنهم، فلم يأت قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]قبل واقعة بدر، أو متعقباً لها للإنتصار العظيم للمسلمين فيها بمعجزة جلية تتضح معالمها بلحاظ الفارق الكبير بين عدد جيش الكفار وكثرتهم, وبين جيش المسلمين وقلتهم , وكذا في المؤون والسلاح , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
فجاءت آية القطع والإبانة هذه بعد معركة أحد , وما أصاب المسلمين فيها من الخسارة، لتكون هبة سماوية ومنحة تفضل الله عز وجل بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وإشراقة جديدة تفتح آفاق الأرض أمام المسلمين، وكأنها إذن بمواصلة الجهاد والزحف , وتحقيق الفتوحات، وبناء صرح الدولة الإسلامية , التي كتب الله لها البقاء إلى يوم القيامة , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بتقريب أن الخلافة مستمرة ومتجددة بالنبوة والتنزيل .
ولم تمض خمس سنوات على نزول هذه الآية حتى دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة فاتحين , وتوجهت سرايا الدعوة إلى الله إلى الجهات الأربعة لتثبيت مبادئ الإسلام , وأحكام الشريعة المتكاملة والباقية إلى يوم القيامة , وهذا التوجه وعموم جهته من مصاديق وتجدد قطع طرف الكفار, وصيغة المضارع في قوله تعالى (ليقطع) .
وقد قمت بتأليف هذا الجزء في خمسين ليلة لم أذق النوم فيها مع إتصال العمل في أغلب ساعات النهار، كانت المنضدة سريري، والقلم الصاحب المبارك , والأنيس في مناجاته وشرف موضوعه, ليكون هذا الجزء رشحة من رشحات القرآن وأفضل كتاب مؤلف في تأريخ الإسلام بفيض من الله إن شاء سبحانه , ولألتفت عند الفراغ منه إلى ورم طارئ في ظاهر القدمين , سرعان ما تبدد ببركة القرآن .
وكنت أرجو أن أفسر هذه الآية بنحو مائة صفحة فخرج أكبر جزء من أجزاء التفسير بمفاهيم قدسية لم يشهدها التأريخ بلطف من عند الله في آية قصيرة من بضع كلمات , وكله علوم مستحدثة ومستنبطة من مضامين ذات الآية , ليكون ثورة في ميدان العلوم يتجلى المدد في تأليفه وكتابته على نحو قضية عين ,إذ أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح لكتبي من غير مساعدة من أحد إلا من الله , وكأنه فرع من مدد المؤمنين يوم أحد بالملائكة وإستحضار ذهني له للسياحة في خزائن الآية رجاء مشاهدة سبحات أنوار القدس، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
لقد كتبتُ والحمد لله (74) صفحة خاصة بحرف (الفاء) وحده من قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ومنها:
1- بحث عرفاني.
2- بحث بلاغي.
3- بحث منطقي.
4- بحث أصولي.
5- بحث فلسفي.
6- قانون فينقلبوا.
7- علم المناسبة .
وكلها في الفاء ، وتجدها في الجزء (81) من تفسيري معالم الإيمان المعروض على موقعنا (www.marjaiaa.com) لبيان قانون علوم القرآن غير متناهية [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ].
وقد أجريتُ سنة 2012 اختباراً للفضلاء بهذه الصفحات ، وكانت الجائزة الأولى ثلاجة ، والثانية براد ماء ، وغيره


قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]الآية 127.
الإعراب واللغة
ليقطع:اللام للتعليل، يقطع:فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد اللام ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود لله .
طرفاً: مفعول به منصوب.
من الذين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة.
كفروا: فعل وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
أو يكبتهم: أو: حرف عطف، يكبتهم: فعل مضارع معطوف على يقطع.
الهاء:ضمير متصل في محل نصب مفعول به.
فينقلبوا خائبين: الفاء: حرف عطف، ينقلبوا: عطف على يكبتهم.
خائبين: حال منصوب بالياء وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
القطع: إبانة بعض أجزاء الشيء وفصل بعضها عن بعض، يقال: قطعه قطعاً وقطيعة ومقطوعاً، ويأتي كناية عن الهلاك، وهدم بعض أركان الشرك، وفضح مفاهيم الضلالة، والطرف يأتي بمعان متعددة منها:
الأول: القطعة والطائفة(وفي الحديث: فمال طَرَفٌ من المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم )( ).
الثاني: الطرف الناحية، وأطراف الأرض: نواحيها قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]( )، وفسرت بفتوح الأمصار، ولها معنى آخر، وهو موت العلماء، ولعل من مصاديقها ما يتعلق بهذا الزمان في إرتفاع مناسيب المياه وغرق بعض الأراضي، وإن مثله حدث في العصور القديمة, وسيأتي مزيد بيان .
الثالث: الطرف من الرجال : الشريف وكثير الآباء إلى الجد الأكبر، يقال أطراف الرجال أي أشرافهم .
الرابع: يقال في التعريض بالشخص لا يدري أي طرفيه أطول، كناية عن الجهل، وتعددت فيه الأقوال، منها:
الأول: أنه لا يدري أي والديه أشرف عن الفراء.
الثاني: لا يدري أنسب أبيه أفضل أم نسب أمه.
الثالث: أي نصفيه أطول الطرف الأعلى أم الطرف الأسفل.
الرابع: طرفاه لسانه وفرجه.
الخامس: أسته وفمه لا يدري أيهما أعف)( ).
المعنى الخامس: كل مختار طرف، والجمع أطراف، ومنه أطراف الحديث:
أَخَذْنا بأَطْرافِ الأَحاديثِ بَينَنا
وسالتْ بأَعْناقِ المَطِيِّ الأباطِحُ( ).
ومنه التلويح والتعريض.
الكبت: الصرع يقال كبته يكبته فأنكبت، ويأتي بمعنى الذل والحزن والأخذ بالعذاب(وفي الحديث: إن الله كبت الكافر أي صرعه وخيبه)( ).
القلب: تحويل الشيء عن وجهه، يقال: قلبه يقلبه قلباً أي حوله ظهراً لبطن، والقلب صرف الإنسان وإنصرافه، والإنقلاب إلى الله: المصير إليه (والانْقِلابُ الرجوعُ مطلقاً ومنه حديث المنذر ابن أَبي أَسِيدٍ حين وُلِدَ فاقْلِبُوه فقالوا أَقْلَبْناه يا رسول اللّه قال ابن الأَثير هكذا جاءَ في صحيح مسلم وصوابه قَلَبْناه أَي رَدَدْناه)( ).
وفي قوله تعالى[تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ] ( )، أي ترجف وتخاف، وتمتلأ جزعاً وفزعاً.
والخيبة: الحرمان، وعدم نيل البغية والطلب، يقال: خاب يخيب خيبه أي حُرم وخسر وفي المثل الهيبة خيبة، لأنها سبب في التخلف عن السعي والطلب.
في سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين آية[لَنْ تُغْنِيَ]( )، وهذه الآية , وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن عدم إنتفاع الكفار من أموالهم وأولادهم، وجاءت هذه الآية لبيان خسارتهم وعجزهم عن نفع أنفسهم.
الثانية: ذكرت الآية (الذين كفروا) بصيغة الذم والإخبار عما يلحقهم من الضرر.
الثالثة: لا ينحصر البلاء الذي يصيب الذين كفروا بعدم إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم، بل يصابون بالأسر والقتل.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين تحذير الكفار من مواصلة التعدي على المسلمين.
الخامسة: لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )،ومن مصاديق الرحمة لغة الإنذار في الآيتين، ما فيها من التخويف والزجر عن الهجوم على المسلمين.
السادسة: أسر أو قتل الذين كفروا لا ينجيهم من عذاب النار، وخلودهم فيها.
السابعة : ما يلحق الكفار من الخيبة في الدنيا مقدمة للبثهم الدائم في النار، وتحذير لهم من العذاب الأليم في الآخرة.
الثاني: الصلة بين آية[كَمَثَلِ رِيحٍ]( )،و بين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: خسارة الكفار لأموالهم من مصاديق القطع والبلاء الذي تذكره هذه الآية.
الثانية: هلاك أموال الكفار مقدمة لمنعهم من التعدي على المسلمين، وشاهد بأن العقوبة تأتي للكفار لنفعهم ورجاء صلاحهم وتوبتهم، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حريصين على دعوتهم للإسلام، وجذبهم لسبل الهداية.
الثالثة: الكفر والضلالة من ظلم النفس، وحجب المعارف والمنافع عنها.
الرابعة: خسارة الكفار أموالهم وما ينفقونه في التعدي على الإسلام من أسباب الخيبة التي تلحق بهم.
الخامسة: إنتصار المسلمين في بدر، وهزيمة الكفار من ظلمهم لأنفسهم كما في قوله تعالى في خاتمة آية (لن تغني)[ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ].
الثالث: الصلة بين آية[بِطَانَةً] ( )، وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: من يحارب المسلمين لا يجوز لهم إتخاذه بطانة ووليجة.
الثانية: لزوم أخذ المسلمين الحيطة والحذر من نوايا الكفار السيئة.
الثالثة: جاءت آية البطانة خطاباً للمسلمين بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية في ذم الذين كفروا، وفيه توكيد لمضامين الخطاب أعلاه.
الرابعة: أخبرت الآية محل البحث عن النقص الذي يلحق الكفار، وهلاك طائفة منهم، مما يدل على تخلفهم عن منازل البطانة والوليجة والشورى.
الخامسة: يأتي حرمان الكفار بسبب قبح سرائرهم، وقصدهم إيذاء المسلمين.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين تحذير الكفار من بغضهم وكرههم للمسلمين.
السابعة: جاءت خاتمة الآية أعلاه بالإخبار عن بيان الآيات والدلالات للمسلمين، والآية محل البحث من هذه الآيات خصوصاً وأنها تنسب قطع وحرمان الذين كفروا لله عز وجل.
الثامنة: لا يجوز إتخاذ البطانة من الذين كفروا الذين يحل بهم العذاب لمحاربتهم المسلمين.
الرابع: الصلة بين آية[الأَنَامِلَ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين تحذير المسلمين من حبهم للكفار.
الثانية: يبتلي الله عز وجل الذين كفروا على بغضهم للمسلمين وعدم حبهم لهم بما هم مسلمين.
الثالثة: لم ينفع الكفار قولهم (آمنا) بحضـــرة المسلمين فيؤاخذهم الله عــز وجل على تعديهم ويعاقبهم بهلاك رؤسائهم، وما يلحقهم من الضرر.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن نوع حب من المسلمين للكفار للرحم أو الجوار أو الصلات التجارية والمعاشية مع التحذير من هذا الحب، وجاءت الآية محل البحث لبعث النفرة في نفوس المسلمين من الكفار، لتكون عوناً لهم لترك هذا الحب.
الخامسة: لم ينفع الكفار غيضهم وحسدهم للإسلام , لأن الله عز وجل يبتليهم بالخسارة والخيبة، وهذا الإبتلاء من مصاديق قوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ).
السادسة: بيان التضاد بين المسلمين والكفار، فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية كلها، والكفار يجحدون بها.
السابعة: إذا كان الكفر سبباً لنزول العذاب بالكفار، فإن الإيمان والتصديق بالتنزيل سبب لنزول الخير والبركة على المسلمين.
الثامنة: لا يترتب أي أثر أو ضرر على المسلمين بسبب غيظ وبغض الكفار لهم، لأن الله عز وجل يبتلي الكفار بالخسارة والحرمان وفقد الرجال.
التاسعة: جاءت الآية أعلاه بتوبيخ الكفار بقوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ومن مصاديقه رجوعهم خاسرين محرومين.
العاشرة: يفيد الجمع بين الآيتين أن ما ينزل من البلاء بالكفار هو بسبب ما قدمت أيديهم وإصرارهم على التعدي على المسلمين، وإلى جانب الحرمان والخيبة التي تلحقهم يستولي الندم واليأس على نفوسهم والله عز وجل عليم بذات الصدور.
الحادية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين إنذار الكفار من بغضهم للمسلمين وتعديهم عليهم، وسوء عاقبة هذا التعدي، وصيرورته سبباً للحسرة الدائمة في نفوسهم , قال تعالى[وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ]( ).
الخامس: الصلة بين آية[إِنْ تَمْسَسْكُمْ] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يحزن الكفار لما يصيب المسلمين من الخير، فيأتي الكفار العذاب ليزداد حزنهم، ولينشغلوا بأنفسهم.
الثانية: مع الضرر الذي يلحق الكفار لكفرهم وتعديهم على المسلمين فأنهم يفرحون بما يلحق المسلمين من الأذى.
الثالثة: تعدد وجوه الأذى التي تصيب عامة الكفار، إذ يحزنون من النصر الذي يأتي للمسلمين وكثرة دخول الناس في الإسلام، ويدفعهم الحسد للتعدي على المسلمين فتلحقهم الخيبة والخسران.
الرابعة: لم ينفع الكفار فرحهم بالأذى والخسارة التي تلحق المسلمين، لأن الكفار في حال خسارة وفقد لمنازلهم وشأنهم، وحرمان من أسباب العز والظفر.
الخامسة: تتضمن الآية محل البحث ما يلحق الكفار من الأذى والخسارة والحرمان، ليكون سبباً لصرف كيد الكفار فمن ينقلب خائباً لا يقدر على الإضرار بالآخرين وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وإنشغالهم بأنفسهم.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين للصبر والتقوى حتى عند ظهور الخسارة والحرمان على الكفار.
السابعة: جاءت آية(إن تمسسكم) خطاباً للمسلمين، وجاءت الآية محل البحث بصيغة الجملة الخبرية، وفيه إكرام إضافي للمسلمين بإخبارهم عما يصيب الكفار من الخسارة والبلاء.
السادس: الصلة بين آية[وَإِذْ غَدَوْتَ]( )، وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للقتال قطع لطرف من الكفار.
الثانية: قطع طرف من الكفار عون للمسلمين في خروجهم للقتال، فقد زحف الكفار على المدينة في معركة بدر وأحد بجيوش عظيمة تفوق جيش المسلمين عدداً وعدة، فجاءت الآية محل البحث ومضامينها القدسية لتكون عوناً للمسلمين، وسبباً لطرد الفزع من نفوسهم.
الثالثة: تعبئة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للقتال من مقدمات وأسباب هزيمة الكفار، وما لحقهم من الحرمان والخيبة.
الرابعة: من يحارب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقطعه الله، ويرميه بالحرمان.
الخامسة: من مصاديق قوله تعالى(والله سميع عليم) أنه سبحانه يبتلي الكفار بالنقص في الرجال والحرمان والخيبة، ليبقى المؤمنون في عز وأمن.
السادسة: في الجمع بين الآيتين دعوة للمؤمنين للثبات على الإيمان، والنفرة من الكفار، وهي ترغيب للكفار بالإسلام والإلتحاق بالمسلمين.
السابعة: تبعث الآيتان في نفوس المسلمين العزم على مواصلة الجهاد، وقتال الكفار .
الثامنة: في الآيتين بيان لحقيقة من وجهين متباينين إذ أنها مدد للمسلمين في النصر وسبب لهزيمة الكفار.
السابع: الصلة بين آية [إِذْ هَمَّتْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: قطع طرف من الكفار برزخ دون فشل طائفة من المؤمنين.
الثانية: الآية محل البحث شاهد على أن همّ المؤمنين بالفشل لم يتحقق واقعاً، لإنقلاب الكفار خاسرين، وتقهقرهم منهزمين.
الثالثة: من ولاية الله عز وجل للمؤمنين إلحاق الخسارة بالكفار، وإصابتهم بالحرمان.
الرابعة: تدعو الآية أعلاه المسلمين للتوكل على الله، وجاءت هذه الآية لبيان منافع هذا التوكل بإصابة عدوهم بالضعف والوهن والحرمان.
الخامسة: يدل الجمع بين الآيتين على أن توكل المسلمين على الله عون لهم بالذات والعرض، إذ أن الله عز وجل يزيدهم قوة، ويجعل عدوهم عاجزاً وفي ضعف.
السادسة: جاءت هذه الآية محل البحث بشارة للمسلمين بعدم حصول الفشل عندهم لأن عدوهم عاجز عن إلحاق الضرر بهم، بسبب النقص الحاصل عنده في الرجال والمال.
السابعة: جاءت الآية أعلاه لحث المسلمين على التوكل على الله للأمن والسلامة من الجبن وشكراً لله عز وجل على الوقاية من الخور ونية الفرار.
وتدعو مضامين الآية محل البحث المسلمين إلى الشكر له سبحانه على جعل الكفار في حال وهن وإرباك، وتحث المسلمين على التوكل على الله، ويتجلى هذا التشابه بالجمع بين خاتمتي الآيتين بتقدير(فينقلبوا خائبين وعلى الله فليتوكل المؤمنون) بتقريب أن الأمر الإلهي للمسلمين بتوكلهم على الله جاء على نحو الإطلاق موضوعاً وحكماً وزماناً ومكاناً.
الثامنة: لقد إجتمع للمسلمين المدد والعوض من عند الله بجعلهم يمتنعون عن الجبن والفشل، ويرون عدوهم يصاب بالكبت والخسارة.
الثامن: الصلة بين آية [َبَدْرٍ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: نصر الله للمسلمين في بدر قطع لطرف الكفار، إذ قُتل فيها سبعون من كبرائهم وساداتهم.
الثانية: قد يسأل بعضهم كيف يقطع الله عز وجل طرفاً من الذين كفروا فتأتي آية بدر مصداقاً عملياً، وشاهداً تأريخياً على هذا القطع.
الثالثة:يبين الجمع بين الآيتين حقيقة وهي ظهور الإسلام، وإتساع رقعته، وإنتشار مبادئه وهزيمة أعدائه، إذ ينصر الله عز وجل المسلمين, ويجعل الكفار عاجزين عن مواجهتهم.
الرابعة:يفيد الجمع بين أول الآيتين التداخل في الموضوع , ويكون تقدير الجمع هو: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً من الذين كفروا.
الخامسة: أخبرت الآية أعلاه بأن المسلمين أذلة وضعفاء يوم بدر وقبل حصول النصر، وجاءت هذه الآية لتخبر بإنتقال الكفار لمنازل الذل والهوان مع تخلص المسلمين منها، مع الفارق في حال الذل إذ أن المراد من ذلة المسلمين الضعف وإستهزاء الكفار بهم، أما ذلة الكفار فهي حرمان وخسارة.
ولم يبق المسلمون مع الكفار في حال الذل، وفيه مثال لحال المؤمنين في الآخرة بأنهم يصيرون إلى الجنة، أما الكفار فيبقون في ذات الحال من الذل والخيبة والخسران، مع الفارق في حال الذل، فذلة المسلمين ضعف في سبيل الله ودليل على ما يتحلون به من الصبر والتقوى، وفيه الأجر والثواب، أما ذلة الكفار فإنها خزي لهم وإنذار من ذلة الآخرة التي هي عقوبة وفرع العقوبة, قال تعالى في أصحاب النار[وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ]( ).
السادسة: تنسب الآيتان نصر المؤمنين وكبت وخزي الكفار إلى الله عز وجل، وهو شاهد بأن مرجع الأمور بيده ، وأنه سبحانه ينصر المؤمنين.
التاسع: الصلة بين آية [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخسارة الكفار عند مواجهتهم للمسلمين في ميادين القتال، لذا وردت البشارة بالنصر للمسلمين على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فعندما أراد النبي الخروج لقتال قريش، والدفاع عن المدينة وحرائر المسلمين، قال (أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ، وَإِنّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارُ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ عَدَدُ النّاسِ وَأَنّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعُقْبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْت إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مَعَهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَخَوّفُ أَلا تَكُونَ الأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلا مِمّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلادِهِمْ . فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللّهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَجَلْ قَالَ لَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْت بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودِنَا وَمَوَاثِيقِنَا، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْت فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ، لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقُرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ، فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي الآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ) ( ).
الثانية: المدد الملكوتي الذي يأتي للمسلمين عوناً في قطع طرف من الذين كفروا.
الثالثة: لا يجد الذين يقاتلهم الملائكة إلا الخزي والحرمان.
الرابعة: قد إنقلب الكفار يوم بدر وأحد وحنين خائبين خاسرين بسبب نزول الملائكة لنصرة المؤمنين قال تعالى في خطاب للملائكة يوم بدر [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
العاشر: الصلة بين آية[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا]( )،وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: مع تحلي المسلمين بالصبر يأتي البطش الإلهي بالكفار.
الثانية: خشية المسلمين من الله مقدمة وسبب لنزول البلاء بالكفار.
الثالثة: الصبر والخشية من الله واقية من كيد ومكر الكفار.
الرابعة: من أسباب خيبة وحرمان الكفار رؤيتهم المسلمين في حال التقوى والخشية من الله عز وجل.
الخامسة: حالما يأتي الكفار للقتال يقطع الله عز وجل طرفاً منهم، فليس ثمة مسافة بين السماء والأرض بخصوص نزول الملائكة، لأن نزولهم بأمر الله عز وجل[كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
السادسة: تتجلى معاني التضاد بين المسلمين والكفار بلحاظ الجمع بين الآيتين، فالمسلمون يمدهم الله بالملائكة، أما الكفار فإنه تعالى يقطع طرفاً منهم ويخزيهم ويحرمهم من النصر.
السابعة: يرجع الكفار خاسرين خائبين، كما في رجوع الكفار إلى مكة في معركة بدر وأحد والخندق، أما المسلمون فإنهم يرجعون بالنصر والغنائم وزيادة الإيمان لرؤية الملائكة تقاتل إلى جانبهم.
الحادي عشر: الصلة بين الآية السابقة آية[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يتلقى المسلمون البشارة من الله بالنصر والغلبة، أما الكفار فيرون الخسارة بالرجال والمال تحيط بهم.
الثانية: يبعث الله السكينة في قلوب المسلمين , أما الكفار فإن الحسرة تملأ نفوسهم لما يصيبهم من الحرمان.
الثالثة: يفيد الجمع بين خاتمة الآية السابقة وهذه الآية أن الله عز وجل ينصر المؤمنين، ويخزي الكافرين.
الرابعة: قطع طرف من الكفار بشارة للمسلمين، وشفاء لصدورهم، ومناسبة لزيادة إيمانهم.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية[لَيْسَ لَكَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل يكفي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كيد وأذى الكفار , قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثانية: بعث السكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لأن الله عز وجل هو الذي ينتقم من الكفار.
الثالثة: ما يصيب الكفار من القطع والحرمان والخسران من عند الله عـز وجل إنتقاماً وعقوبة لهم.
الرابعة: بقاء باب التوبة مفتوحاً للكفار وغيرهم، وقد قتل وحشي الحمزة عم النبي، ثم جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تائباً مسلماً إذ قيل له: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقتل من جاء مسلماً.
الخامسة: تحذير الكفار من التمادي في الظلم والذي يكون سبباً للحوق الخزي بهم في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
السادسة: من مصاديق قطع طرف من الكفار هلاك بعض رؤسائهم، وجاءت الآية التالية لتؤكد أن العذاب ينتظرهم في الآخرة.
السابعة: خسارة وعذاب الكفار من الإرادة التكوينية.
الثامنة: لما أختتمت الآية السابقة بإسمين من أسماء الله عز وجل وأنه سبحانه (العزيز الحكيم) جاءت بداية هذه الآية بالإخبار عن قطعه تعالى لطرف من الكفار لتوكيد عظيم قدرة وسلطان الله.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( )،وفيها مسائل:
الأولى: ليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أمر في المغفرة والعذاب في الآخرة لأنهما بيد الله عز وجل وحده ، ومنه قانون الشفاعة ، قال تعالى [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ]( ).
الثانية: قانون دعوة المؤمنين إلى الإستغفار.
الثالثة: قانون توكيد المائز بين المسلمين وغيرهم بأن فتح الله عز وجل باب الإستغفار للمسلمين.
الرابعة: يأتي قطع طرف من الكفار بأمر الله عز وجل لأن كل ما في السماوات والأرض ملك له سبحانه.
الخامسة: ما يلقاه الكفار الذين يعتدون على المسلمين ، ويغزونهم في ديارهم من عمومات قوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: إنتقال الآيات لخطاب المسلمين بحكم عام .
الثانية: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل لإصابة الكفار بالخسران.
الثالثة: بعد ضعف ووهن الكفار جاءت هذه الآية لدعوة المسلمين للتفقه في الدين، والعمل بأحكام الحلال والحرام.
الرابعة: ضعف الكفار مقدمة لتثبيت سنن الشريعة في الأرض.
الخامسة: تقيد المسلمين بالتقوى والخشية من الله عز وجل واقية من كيد وأذى الكفار.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية[وَاتَّقُوا النَّارَ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: توكيد التباين والتضاد بين المسلمين وغيرهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن المسلمين يحرصون على إجتناب المعاصي التي هي مقدمة وسبب لدخول النار، وأما في الآخرة فإن الآية تتضمن الإخبار عن علة خلق النار وأنها أعدت للكافرين.
الثانية: الآية في مفهومها بشارة سيادة الإسلام وظهور دولته، وفيها حث للمسلمين على التقيد بأحكام الشريعة في حال الرخاء والسلم.
الثالثة: بيان البلاء والضرر الذي يلحق الكفار في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الهلاك والحرمان والخسارة تغزوهم مجتمعة ومتفرقة، وأما في الآخرة فإن النار والعذاب الأليم ينتظرهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا] ( ).
إعجاز الآية
جاءت الآية السابقة في بيان النعم الإلهية العظيمة على المسلمين المجاهدين في سبيل الله، لتذكر هذه الآية أثر المدد الملكوتي للمسلمين على الكفار، وبطش الله عز وجل بهم، وتبين الآية عظيم القدرة الإلهية وأنه سبحانه ينتقم من الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة القطع والجزم وليس لغة الإنذار والتخويف وحدها، لتكون المصاديق العملية والشواهد التأريخية على ما يصيب الكفار من النقص والضعف والوهن وهلاك طائفة منهم دليلاً على نزول القرآن من عند الله عز وجل، ومنها مقتل صناديد ورؤساء قريش على نحو لم يكن متوقعاً، لأن جيش الكفار ثلاثة أضعاف المسلمين، وهم أكثر عدة وسلاحاً ومؤونة وجاءوا للقتال وكأنهم في نزهة لم يدخل الخوف قلوب من خلفهم وأهليهم عليهم، لعلمهم بكثرتهم وقوتهم ووجود العبيد والأحابيش الذين يقاتلون دونهم إلى جانب ضعف المسلمين لذا ورد قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ومن إعجاز الآية بعث الأمل في نفوس المسلمين، وجعلهم يزحفون إلى سوح القتال وهم يعلمون بأن عدوهم يصاب بالضعف والوهن قبل وأثناء وبعد المعركة، فحتى لو كان الكفار أقوياء وعلى أهبة الإستعداد للقتال، وإجتهدوا في التدبير والمكر والخداع فإن الله عز وجل يصيبهم بالوهن، وينزل القتل بقادتهم وكبار رجالهم بما يبعث الفزع والخوف في قلوب الباقين منهم.
وقد يقال يدل تزايد وكثرة عدد المشركين في المعارك اللاحقة لبدر على خلاف هذا الأمر، وأنه لو كان هناك عندهم خوف لما جاء في معركة أحد ثلاثة آلاف مقاتل، وبعدها في معركة الخندق عشرة آلاف، لأن الخوف يقعد الفرد والجماعة عن القتال.
والجواب أن هذه الآية لم تشر إلى الخوف بالذات , ولكنها تشير إلى ما هو أهم منه من حصول القتل لرؤساء الضلالة وخسارة الكفار وحرمانهم وخيبتهم مما يترشح عنه الخوف لعامة الكفار، نعم قد لا يعم الخوف الكفار على نحو دفعي بل يأتي لهم تدريجياً وهو يقهر حمية الجاهلية والعصبية لدين الآباء.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية(ليقطع طرفاً) ولم يرد لفظ(طرفاً) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.

الآية سلاح
تبين الآية قانوناً من الإرادة التكوينية وهو تعدد وجوه وسبل نصر الله عز وجل للمسلمين، فيأتي النصر تارة بغلبة المسلمين في ميادين القتال، وأخرى بإقامة الحجة والبرهان على الكفار، وجذب الناس للإسلام بالحكمة لذا ورد قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وجاءت هذه الآية لتؤكد نصر المسلمين بإلحاق الضرر بالكفار مع بيان وجوه من هذا الضرر والتي تجعلهم عاجزين عن مواجهة الإسلام والمسلمين، ومما هو متعارف في ميادين القتال أن قتل كبراء القوم يبعث في نفوسهم الفزع، ويكون مانعاً من مواصلة القتال، وباعثاً إلى الهزيمة والفرار.
ومن إعجاز الآية الكريمة في المقام أنها ثبّتت هزيمة الكفار في كل الأحوال أي سواء قتل القادة منهم أم لم يقتلوا فإنهم يصابون بالذعر والفزع والخيبة والخسران، ويدركون عجزهم عن تحقيق النصر والغلبة على المسلمين.
وهذه الآية حرب على الإستكبار والصدود عن النبوة وتحذير للناس جميعاً من الإنقياد لأوامر رؤساء الكفر لأن عاقبتهم إلى خسران، ولأنهم غير قادرين على حفظ أنفسهم والسلامة من الهلاك والقطع، ويأتي الكفار للمعركة وهم فرحون بكثرة جنودهم ومناجاتهم بالباطل، وما عندهم من الأسلحة والخيل والمؤون، ولم يعلموا أن هذه الآية الكريمة تصاحب المسلمين في سوح المعارك وتكون لهم مدداً وعوناً وسلاحاً، وسبباً لرجحان كفة المسلمين وتدارك نقص عددهم، وقلة مؤونتهم، قال تعالى[وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ]( )، ومن أسباب هزيمة الكفار قطع طرف منهم , وبعث اليأس والحرمان في نفوسهم.
وهل هذه الآية من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، الجواب نعم فإن لفظ الجند في المقام أعم من أن ينحصر بالأشخاص، بل يشمل الوسائل والوسائط والأسباب التي تساهم في تثبيت دعائم الإسلام، وتقهقر الكفر، ووهن الكافرين، ومنه هذه الآية وما فيها من الإخبار عن بطش الله عز وجل بهم.
مفهوم الآية
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس كافة، وخفف سبحانه عن الناس في مسألة التصديق بنبوته وما جاء من التنزيل بالمعجزات العقلية والحسية التي صاحبت نبوته ثم بقت وضياؤها في الأرض، لم تغادرها إلى يوم القيامة وإن إنتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وهذه الآية الكريمة من تلك المعجزات، وتطل على الناس جميعاً كل يوم، ويتلوها المسلمون في صلاتهم في الليل والنهار لتتضمن معاني الإنذار والوعيد للكفار، وتدل في مفهومها على نصر الله عز وجل للمسلمين بما يصيب الكفار من القتل والتخويف والهزيمة سواء بالأسباب الظاهرة أو الخفية، والأرضية والسماوية وعلى أيدي المؤمنين أو بنزول الملائكة.
ومما تتصف به هذه الآية أنها معجزة من وجوه:
الأول: البلاغة، ومضامين الرقي اللغوي الذي تتصف به.
الثاني: جمع الآية للإنذار والبشارة في آن واحد مع التباين الجهتي، إذ يتوجه الإنذار للكفار، والبشارة للمؤمنين، وتحتمل ماهية البشارة في المقام وجوهاً:
الأول: يدل مفهوم الآية على البشارة.
الثاني: يتضمن منطوق الآية الكريمة البشارة.
الثالث: المعنى الأعم وأنها تتضمن بشارة المؤمنين بالنصر منطوقاً ومفهوماً.
والصحيح هو الثالث إذ أن تقسيم المعنى إلى منطوق ومفهوم تقسيم إستقرائي , وتقدير الآية بلحاظ المنطوق: لينصركم الله بأن يقطع طرفاً من الذين كفروا) لذا ورد في وجوه تفسير(أو يكبتهم) أي (يظفركم عليهم، عن المبرد)( )، بالإضافة إلى مجيء الآية ضمن لغة البشارة للمسلمين وحثهم على مواصلة القتال، والعصمة من اليأس والقنوط والخوف من الكفار، وطرف الكفار هو الأقرب للمؤمنين في المواجهة واللقاء، وحينما يتفضل الله عز وجل بقطع هذا الطرف فإنه يقرب المؤمنين من النصر، ويجعلهم في أمن من الخسارة الفادحة والضرر البالغ.
وقد يمد الله لقادة الكفار، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون فجاءت هذه الآية دعوة للمسلمين للصبر والتقوى ومواصلة القتال في سبيل الله، والإخبار عن بعث الخيبة في نفوس الكفار، كما حصل في معركة الخندق فلم يقتل من الكفار عدد يذكر لعدم حصول مواجهة وقتال بين الفريقين بإستثناء مبارزة تأريخية معروفة قتل فيه الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري، والرمي بالنبل .
لذا جاءت خاتمة الآية[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، لتكون معجزة أخرى وإخباراً عن نتيجة أخرى للمعركة لم تطرأ على أذهان المسلمين بأن يأتي الكفار فيجدون خندقاً يحيط بالمدينة ويعجزون عن إقتحامه، فيبقون حول المدينة سبعاً وعشرين ليلة ليرجعوا إلى مكة بذل وخيبة، ويشيع أمر إنكسارهم بين القبائل خصوصاً وأن لتعدد الهجوم على المسلمين موضوعية فيما يترتب من الأثر عند الناس.
فقد زحفت قريش بخيلها وخيلائها يوم بدر فلم يرجع أغلب صناديدها لذا قيل في تأويل قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]أنه (يوم بدر، عن الحسن والربيع وقتادة) ( )، وكانت نتيجة المعركة والهزيمة التي لحقت قريش مفاجئة لهم وللناس جميعاً، وتلك المفاجئة برهان في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز الغيري للقرآن دلالة الوقائع والحوادث على مضامين هذه الآية وآيات القرآن الأخرى، ثم زحفت قريش وغطفان وقبائل أخرى في معركة بدر بعدد وعدة أعظم وأكثر وبما يبعث الخوف والهيبة في القلوب.
إن دراسة مقارنة بين عدة قريش لمعركة بدر وعدة المسلمين دليل على شأن وقوة قريش، وسطوتها وهيبتها بين القبائل، ومع أن عدد المسلمين في السنة التي هي بين معركة بدر وأحد لم يطرأ عليه تغيير كبير من الناحية العسكرية والقتالية فإن نتيجة معركة أحد لم تختلف كثيراً عن معركة بدر، فقد عجز الكفار عن إلحاق الضرر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كسرت رباعيته، وشج في وجهه، ليكون إنسحاب الكفار من المعركة من مصاديق قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
وكأن نتيجة بدر موافقة لصدر الآية وقطع طرف من المشركين، ونتيجة معركة أحد موافقة لخاتمة الآية[أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] وصدق قطع وخيبة الكفار على كل من المعركتين .
ثم زحفت قريش بجيوش لا قبل للمسلمين وتأريخ العرب بها، فلم يشهد تاريخ المعارك والقتال في الجزيرة العربية وما حولها مثل عدد الجيوش التي زحفت يوم الخندق، إذ كانت القبائل العربية بعضها يغير على بعض مما يعني التشتت والفرقة والتناصر الذاتي، أما في الخندق فقد إجتمع المكي والحضري والبدوي والأعرابي لقتال المسلمين، ولم يعلموا أن الملائكة وأدعية الأنبياء تقف حاجزاً بينهم وبين النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله عز وجل رحمة بهم , وفي دعاء إبراهيم عليه السلام ورد في التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
وجاءت هذه الآية جامعة لتلك الوقائع وشاهداً عليها، ومرآة سماوية لما لاقاه المسلمون من العناء والأذى في جنب الله عز وجل، وفضل الله عليه في كبت عدوهم وإرجاع كيده إلى نحره، وفي الآية مسائل:
الأولى: إقتران البشارة للمسلمين بالنصر بهزيمة ودحر عدوهم، وفيه بعث للسكينة والطمأنينة في نفوسهم، فقد يظن فريق من المسلمين بعودة الكفار للقتال من جديد مع أفواج جديدة وأنصار وحلفاء لهم، فجاءت هذه الآية لتبين الخيبة التي عليها أعداء الإسلام وتخلفهم عن الإضرار بالمسلمين[كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] ( ).
الثانية: كما أن الفضل الإلهي على المسلمين لا ينحصر بموضوع أو أفراد مخصوصة، فكذا العقاب النازل بالكفار فإنه لا ينحصر بباب من أبواب البلاء والأذى .
وجاءت هذه الآية لبيان التعدد فيه، فقد يهلك كبار وقادة الكفار، وقد يبقون أحياء , ولكن يعيشون الحرمان ويحسون الخسارة ويشهدون تفرق الأعوان عنهم، وإنتقال فريق منهم إلى الإسلام ليفوزوا بنيل اسم ومرتبة الأنصار، وما فيه من الإشراقة المباركة في الدنيا، والثواب والمنزلة الرفيعة في الآخرة، لذا يمكن إستقراء مسألة عقائدية من الآية وهي دعوة عامة الكفار إلى التخلي عن رؤسائهم، وحثهم على دخول الإسلام خصوصاً وأن الكبراء لا يستطيعون القتال إلا بهؤلاء الأعوان والعامة.
ومن الآيات في خلق الإنسان ما رزقه الله عز وجل من العقل الذي هو كلي طبيعي يكون عند كل فرد منهم ليتدبر عامة الكفار من منازل الإستضعاف، والنفرة من إجتماع الكفر والباطل والإستضعاف، وتكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لهم لمراتب الرفعة والعز, والسعادة الدنيوية والأخروية.
الثالثة: نصر الله عز وجل للمؤمنين خزي وخيبة للكافرين، وكذا دخول الناس في الإسلام، فكلما دخل أفراد وجماعة في الإسلام يصاب الكفار بالحزن والخيبة.
الرابعة: بشارة المؤمنين بهلاك أقطاب الكفر والضلالة ، ومن يعتدي على المسلمين ممن جاورهم وجاء من مكان بعيد بغية قتال المسلمين.
الخامسة: منع تسرب الخوف إلى نفوس المسلمين من رؤساء الكفر والشرك، فمن المسلمين من هو حديث عهد بالإسلام، ويخشى صولة قريش ورؤساء الكفر وما عندهم من العدة والسلاح فأخبرت الآية عما يلقاه زعماء المشركين من القطع والهلاك لتكون حرزاً لأجيال المسلمين من الكفار وإن تباين العدد والعدة، لأن الآية تتضمن الإخبار عن البطش برؤساء الكفر وإن كانوا ذوي قوة وأموال وأولاد، فليس من مانع يحول دون إنتقام الله عز وجل منهم قال تعالى[لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] ( ).
السادسة: جاءت الآية بلغة الترديد وتعدد ما يلاقيه الكفار، وليس فيه مندوحة وسعة لهم، إذ أن البلاء يحيط بهم، ولا يستطيعون النجاة منه إلا بدخول الإسلام، والآية وعيد لهم بما هم كفار , وعندما يتغير الموضوع يتغير الحكم والله واسع كريم , أي أن البلاء زجراً وعقوبة يبقطع بدخوله.
السابعة: لقد سعى الكفار للنصر والغلبة على المسلمين، فجاءت الآية إنذاراً ووعيداً لهم بأن الله عز وجل يصرعهم، ويهلكهم ويخزيهم، وهل في الآية دعوة لهم للتوبة والإنابة , الجواب نعم خصوصاً وأن الآية تفضح حال الضعف والوهن التي عليها الكفار، وتبين أن الله عز وجل هو القوي الحكيم، وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
وهل تدل الآية على الجبر ونفي قانون العلة والمعلول في الخلائق، وأنه ليس من تأثير إستقلالي أو تبعي للكفار فيما بينهم، الجواب لا، إنما جاءت الآية لبيان البلاء والضرر الذي يلحق الكفار لإصرارهم على الكفر وتعديهم على المسلمين، قال تعالى[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( ).
لذا يتفق المسلمون على أن هذه الآية بشارة لهم ووعيد للكافرين، والوعيد للكفار على وجوه منها:
الأول: ما يخص الحياة الدنيا، وهو على أقسام:
الأول: ما يتعلق بالمعاشات والتجارات والمكاسب، وفي ذم الكفار وسوء عاقبة وأثر ما ينفقون في محاربة الإسلام , قال تعالى[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ].
الثاني: ما يتعلق بالأبدان، وما يصيب الكفار في أنفسهم وأولادهم.
الثالث: ما يخص العقائد برمي الكفار بالجهالة والسفه وخفة العقل، قال تعالى[اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( ).
الثاني: ما يخص الآخرة، وليس من حصر لأنواع العذاب التي تصيب الكفار في الآخرة، فلا يكون الأذى والعقاب الذي يلقاه الكفار بمرتبة البلاء، بل هو عذاب شديد لا إنقطاع أو تخفيف فيه، وصحيح أن هناك تبايناً بين عالم الآخرة والحياة الدنيا إلا أن بلاء وعذاب الكفار في النشأتين متداخل في الماهية، ليس من فصل بينهما، وتلك آية في الإرادة التكوينية.
الثامنة: قد يقطع طرف من الذين كفروا ولكنهم يبقون مصرين على قتال المسلمين، ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت خاتمة الآية ببلاء لا يحمل صبغة الإستئصال، ولكنه يتغشى الكفار عامة وبما يفيد خزيهم وخسارتهم.
التاسعة: الذين يعادون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويحاربون المسلمين لم يظفروا بما كانوا يأملون، بل يولون مدبرين ويلقون الخيبة.
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، والحاجة ملازمة لعالم الإمكان، وتلازم الحاجة الإنسان في ليله ونهاره وجميع أيام حياته، وهذه الحاجة متعددة في ماهيتها وجنسها وموضوعها، وكما تصاحب الفرد فإنها تصاحب الجماعة والطائفة والأمة، ومنهم المسلمون فإنهم محتاجون إلى الله عز وجل، كما يحتاج إليه باقي الناس، ولكن المسلمين يتصفون بأمور تكون عوناً لهم في قضاء الحوائج منها:
الأول: إتخاذ الدعاء بلغة لنيل المقاصد.
الثاني: تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته قال تعالى[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ] ( ).
الثالث: إخلاص المسلمين في عبادة الله، وتعاهدهم للتنزيل.
الرابع: إنفراد المسلمين بالتصديق بجميع الأنبياء والمرسلين على نحو العموم الإستغراقي.
الخامس: مجيء القرآن بالبشارات للمسلمين، والإنذارات للكافرين.
السادس: تحقق النصر والغلبة في المعارك للمسلمين، وجاءت هذه الآية بشارة بالنصر، وإخباراً سماوياً عن إنتقام الله عز وجل من الكفار والمشركين.
والآية لطف من وجوه:
الأول: إنها لطف بالمسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: البشرى بضعف ووهن عدوهم.
الثانية: إزاحة الموانع التي تمنع من إنتشار الإسلام.
الثالثة: الإنتقام ممن يريد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الرابعة: بقاء هذه الآية مصاحبة للمسلمين في كل الأزمنة والأمكنة، لتكون واقية وحرزاً وأمناً من الظالمين.
الثاني: الآية لطف بالناس غير المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: تدعو الآية الناس إلى عدم إتباع الظالمين في تعديهم على الإسلام والمسلمين.
الثانية: تبين الآية للناس العناية واللطف الإلهي بالمسلمين.
الثالثة: مجيء الوقائع والحوادث مصداقاً لمضامين هذه الآية.
الرابعة: حث للناس على دخول الإسلام، ونبذ الكفر ومفاهيم الضلالة.
الخامسة: هزيمة الكفار خاسرين سبب لزوال هيبتهم من النفوس.
السادسة: تدعو الآية الناس للخشية من الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ( ).
الثالث: الآية الكريمة لطف بالكفار الذين يعتدون على المسلمين وفيه مسائل:
الأولى: الآية إنذار للكفار، ومن منافع الإنذار الدعوة للتوبة والإنابة.
الثانية: تبعث الآية الوهن والضعف في نفوس الكفار.
الثالثة: تمنع الآية الكفار من بث روح الشك والريب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تجعلهم مشغولين في أنفسهم، عاجزين عن الذب عنها.
إفاضات الآية
تتضمن الآية معاني الإرتباط بين عالم الشهود وعالم الغيب بما يملأ قلوب المسلمين بالسكينة، ويجعلهم يواظبون على العبادة خوفاً من الله وطمعاً في جنته، وشكراً له على نعمة الإنتقام من أعدائهم.
لقد بدأت الدعوة للإسلام بشخص النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه ليواجهوا أعتى قوى الضلالة والبغي، ومفاهيم الكفر والفساد , وليس معهم من سلاح إلا كلمة لا إله إلا الله، ليأتي المدد والعون من السماء بآيات البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس النجاة من طاعة الهوى، وجاءت هذه الآية للوقاية من إستحواذ مفاهيم العناد والجحود على النفوس لما فيها من الإنذار والتوبيخ والزجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ببيان البلاء الشديد الذي يتعرض له الذين يحاربونه.
وتبين الآية في مفهومها أن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس من غير حصر بأمة أو جنس مخصوص قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( )، وأن الله سبحانه هيئ الأسباب، وأزال الموانع التي تحول دون الإيمان ومنهم رؤساء الضلالة كصناديد قريش وكبراء المشركين بأن رماهم بالقطع والهلاك والقتل والحرمان من بلوغ ما يأملون في الغلبة في ميادين القتال.
ولم تذكر الآية الكريمة الفتنة والخلاف بين رؤوساء الكفر , ولكنه يستقرأ ويترشح من صبغة الخيبة التي نعتتهم الآية بها , وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين ومناسبة لإجتهادهم في طاعة الله، وليس من حصر لفضل الله عز وجل في هذا الباب(فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش و شتمهم يشتمون مذمما وأنا محمد) ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بالإخبار عن بطش وإنتقام الله عز وجل من رؤساء الكفر والضلالة، ومن إعجاز الآية أنها بدأت بالقطع لغة وموضوعاً وحكماً، فلم تأت الآية بلغة الوعيد والتحذير للكفار، ولغة الإنشاء، نعم جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد الإستقبال، ولكن وجود لام التعليل في(ليقطع) يدل على الجزم والقطع في حصول البتر والهلاك لأقطاب الكفر
الذين تصدروا جماعات الكفار، وقادوا جيوشهم في الزحف على المسلمين، وجاء حرف الجر في[مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] لإفادة التبعيض وبيان حقيقة وهي أن القطع والقتل لا يأتي على الكفار كلهم، بل يأتي على عدد من أقطابهم , وفيه مسائل:
الأولى: الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وموعظة.
الثانية: هلاك عدد من أقطاب الكفر عبرة وموعظة للناس جميعاً.
الثالث: من الكفار من تدركه التوبة ويدخل الإسلام، ويحسن إسلامه، ويكون أيضاً موعظة للناس، وداعية لجذبهم للإسلام.
الرابعة: هلاك بعض رؤساء الكفار كاف لبعث الضعف والوهن في صفوفهم.
الخامسة: بيان قوة ومنعة المسلمين، وأهليتهم للدفاع عن الإسلام، ومواجهة الكفار، وكان فيهم عدد من الرؤساء والأقطاب، قال تعالى[لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا] ( ).
وجاءت الآية بالإخبار عن كبت وخزي وخيبة الكفار[كَفَرُوا] لإفادة الترديد والتعدد والجمع في وجوه الضرر الذي يلحق الكفار بتعديهم على المسلمين، ويحتمل الضمير الهاء في(يكبتهم) وجوهاً:
الأول: إرادة الطرف والرؤساء من الكفار.
الثاني:المقصود عموم الكفار إذ يصابون بالخيبة، ويحرمون من تحقيق الغلبة على المسلمين والإضرار بهم.
الثالث: الكفار الذين يحاربون المسلمين.
الرابع: رؤساء قريش ونحوهم ممن هجموا على المسلمين وقاتلوهم بقرينة خاتمة الآية[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
وليس من تعارض بين هذه الوجوه لأن كل فرد منها في طول الآخر، فهلاك بعض رؤساء الكفار خيبة لهم جميعاً سواء الذين هم قريبون من المسلمين أو بعيدون عنهم، وهو من عمومات المصطلح الأصولي”مفهوم الموافقة” وهو الذي يتحد في السنخية والمضمون مع المنطوق لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
ومن الآيات حصول التأثير المتبادل بين الكفار في الحرمان والخيبة، بأن يبث بعضهم لبعض أسباب الضعف والوهن، إلى جانب النقل العام الإختياري والقهري لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يترتب عليه من الأثر في النفوس عامة , فقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) يدل في مفهومه على اللطف والمدد الإلهي بنشر أحكام الشريعة الإسلامية وإصغاء الناس لآيات القرآن، وإنجذابهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ورمي الذين يحاربونه بالضعف والوهن والخيبة.
وتلك آية عظمى في الإرادة التكوينية، وتهيئة أسباب نصر الله عز وجل للمؤمنين بالمدد المركب الذي يتنافى طرفاه جهتياً، ويلتقيان في العلة والموضوع والأثر، فيأتي المدد والعون للمؤمنين، ومنه نزول الملائكة لنصرتهم، ويبتلى الكفار ورؤساؤهم خاصة بالفزع والخوف والهلاك، وهذا الهلاك على وجهين:
الأول: المدد الإلهي للمسلمين بهلاك للكفار، كما في نزول الملائكة لنصرة المسلمين، سواء قاتل الملائكة أو لم يقاتلوا، وعن(ابن عباس لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر و كانوا في غيره من الأيام عدة و مددا) ( ).
الثاني: مجيء الهلاك لرؤساء الكفار إبتداء أو فتنة أو بآفة أرضية أو سماوية ( وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! قال : أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق [إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً] ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له)( )، فكان من جهلهم أن نزل العذاب بهم.
ويصيب القطع والهلاك في المقام الملأ من الكفار، أما الكبت فهو عام يشمل الكفار جميعاً، وهلاك بعض رؤسائهم وصناديدهم من الكبت والخزي لهم عامة، ولا ينحصر هذا الخزي بالأحياء من الكفار بل يشمل الذين يقتلون منهم لأن الخزي يلاحقهم بإزدراء الناس والتأريخ لهم، ولما ينتظرهم من العذاب الأليم.
ويترشح عن الكبت والخزي رجوع الكفار خاسرين يشعرون بالذل لتخلفهم عن بلوغ الغاية التي خرجوا من أجلها وأنفقوا الأموال الطائلة، وجمعوا الجيوش لها وهي قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ومنع توالي نزول آيات القرآن.
وجاءت هذه الآية لتكون خزياً إضافياً للأحياء والأموات منهم، وإنذاراً سماوياً متجدداً لكل من يريد التعدي على الإسلام أو التواطؤ مع الظالمين وإعانتهم بالمال والسلاح، وذكرت الآية أمرين لا ثالث لهما:
الأول: هلاك رؤساء الكفر.
الثاني: خزي وحرمان الكافرين.
وليس من قسيم ثالث لهما، مما يدل على أن هذه الآية وعيد للكفار الذين يتعدون على المسلمين ويزحفون لقتالهم، فأي كان عدد أفراد الجيوش التي يأتون بها، والأسلحة التي يحملونها، والأموال التي ينفقونها في جمع الجنود والسلاح والدواب والمؤون فإن مصيرهم إلى أحد الأمرين أعلاه , وفيه مسائل:
الأولى: إنه من إعجاز الآية الكريمة وإخبار عن علم الغيب.
الثانية: الوعيد للكفار.
الثالثة: الإخبار عن عدم حصول نصر وغلبة للكفار، ومن الآيات أن الشواهد التأريخية برهان عليه، فإن قلت قد إنتصر الكفار يوم أحد، والجواب لم يتحقق للكفار النصر يوم أحد وقتل منهم إثنان وعشرون رجلاً ورجعوا خائبين نادمين لم ينالوا بغيتهم في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وجاءت الآية بالحرف (أو) الذي يفيد الترديد بين الأمرين، إلا أنها لم تمنع من إجتماعهما معاً نكالاً بالكفار، وعقوبة عاجلة لهم على تعديهم على الإسلام.
الرابعة: في الآية تحذير للكفار بالكف عن التعدي على المسلمين، وترغيب لهم بدخول الإسلام.
الخامسة: تبين الآية قانوناً ثابتاً وهو أن الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين لم يحصدوا الا الخيبة والخسران.
السادسة: مجيء البلاء والضرر للكفار المعتدين على نحو العموم الإستغراقي الذي لا ينجو منه بعضهم إلا بدخول الإسلام , وحسن التوبة والإنابة.
الآية نعمة
جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس مقيمون على الكفر والضلالة، ووصلت الأصنام إلى البيت الحرام وعلقت فيه، وسادت أعراف وعادات جاهلية، وغلبت الوثنية على القيم والمعاملات، وإنتشرت الأخلاق المذمومة، وصار الغزو والتعدي وقتل الموؤودة أمراً متعارفاً غير مستهجن عند القبائل، فدعاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبادة الله، والإقرار بنبوته، وإتيان الفرائض العبادية، ومنها الصلاة خمس مرات في اليوم , وفُرض القصاص بأمر من عند الله قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
وفيه آية بأن فرض الأحكام جاء بصيغة الإقناع والبرهان لإستدراج إعانة الناس للإمتثال لأحكام الشريعة والإقرار بما فيها من المنافع، ومنع مقابلتها بالصدود والعناد الذي قد يترشح منه التعدي على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله وأصحابه، ومع هذا فإن رؤوس الشرك والكفر زحفوا على المدينة المنورة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
لقد أخافهم وأفزعهم توالي نزول آيات القرآن، فجهزوا الجيوش للإجهاز على النبوة والصحبة والتنزيل، وليس من قوة ومنعة عند المسلمين في عددهم وعدتهم وأسلحتهم.
وجاء كفار قريش للمعركة وكأنهم في نزهة ورحلة صيد، أرادوها مناسبة للمباهاة بين القبائل العربية، وتجديد هيبة قريش في النفوس، ومنزلتها بين العرب وعند الروم والفرس , والتودد لليهود والنصارى بعدما سألوا عن صفات نبي آخر زمان فأخبروا بما يخالف صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن المعجزات التي جاء بها كافية للدلالة على صدق نبوته، وهي برزخ دون قيام قريش بالتعدي على الإسلام والمسلمين، ولكن طغيان النفس الغضبية ملازم للكفر، فأرادت قريش الإنتقام والبطش بغير الحق.
وأراد الله عز وجل للإسلام أن يكون الشريعة الباقية في الأرض إلى يوم القيامة، وما تتعارض إرادة متحدة أو متعددة مع مشيئة الله عز وجل إلا ويكون لتلك الإرادة وأهلها الخزي والقطع والمحو، فجاء نصر المسلمين بالمعجزة والمشيئة الإلهية خلافاً للأسباب، وقانون العلة والمعلول الدنيوي، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ), وتدل هذه الآية في مفهومها على أن الكفار كانوا في كثرة وقوة , وهو الذي تؤكده الآيات والأخبار المتواترة , ووقائع المعركة.
لذا جاءت الآية الكريمة بالإخبار عن قطع طرف من الكفار، ولم تقيد الطرف بفئة معينة أو فعل مخصوص كالهجوم على الإسلام ولكن نظم الآيات أمارة على إرادة الكفار في معركة بدر وأحد ويكون القطع هنا بقتل فريق من الكفار وأسر فريق منهم، وفيه نعمة عظيمة على المؤمنين إلى يوم القيامة.
فالآية وأن جاءت بخصوص معارك الإسلام الأولى إلا أن ما يترشح عنها من النعم أعم ويشمل أجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة لذا ترى أسماء ووقائع تلك المعارك تعيش مع المسلمين في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم ومنتدياتهم ويستحضرون ذكرها في الصلاة لأن آيات القرآن تذكرها كوقائع تبين عظيم قدرة الله ونصرته للمؤمنين بمعجزة خارقة لحسابات الجيوش في كل زمان، وقيل(فَكَانَ مِمّا أَنَزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي يَوْمِ أُحُدٍ مِنْ الْقُرْآنِ سِتّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ) ( ).
لقد أراد الله عز وجل أن تكون هذه الآية نعمة مصاحبة للمسلمين، ودعوة لهم في الشدائد، وقد تكون هناك معركة، أو معارك , ولكن من غير أن يقع قتلى كثيرون.
فجاءت الآية بالترديد [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] أي يصاب الكفار بالخيبة والخزي، وفيه بشارة ملازمة الأذى للكفار وإشارة إلى إتساع رقعة الإسلام، ودخول الناس[فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، الأمر الذي يغيض الكفار ويجعل الحزن واليأس يستولي على قلوبهم، وهذا الغيظ نعمة عليهم لو كانوا يتدبرون الأمر، إذ أنه إسقاط لما في أيديهم، ودعوة لهم للكف عن إيذاء المسلمين، والتخلص من الأوزار التي تتراكم على ظهورهم بسبب هذا الإيذاء والكيد، وعموم النعمة في الآية القرآنية من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنذار والتوبيخ للكفار، وهذا الإنذار نعمة من وجوه:
الأول: إنه نعمة على المسلمين لأن الله عز وجل يتولى بنفسه توبيخ وإنذار الكفار، وفيه تثبيت لأقدام المؤمنين , ولمّا جاء قبل آيتين قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، جاءت هذه الآية لتكون عوناً للمسلمين ومادة لتنمية ملكة الصبر والتقوى عندهم، وفيه آية إعجازية ونعمة من عند الله على المسلمين بأن يأمرهم الله، ويشترط عليهم أمراً لنزول المدد تم يتفضل عليهم بمقدمات وأسباب حصول الشرط عندهم، إذ يقابل المسلمون بشارة ما يلحق الكفار من القطع والهتك والخزي بالصبر والتقوى والشكر لله عز وجل، وليأتي المدد فيزيد قطع وخزي الكفار.
التفسير الذاتي
بدأت الآية بذكر العذاب العاجل للكفار والذي يتجلى فيه نصر الله عز وجل للمسلمين بخذلان عدوهم، ليزيل هذا الخذلان الرجحان الذي يتصف به الكفار في العدد والعدة والسلاح، وتلك آية في الخلق، وسر من أسرار قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، عندما رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجت[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]، فمن علم الله عز وجل أنه يهلك كبار كفار الذين يحاربون المسلمين كي يبقى المؤمنون في أمن وسلام، يؤدون معه الفرائض ويزحفون مجاهدين لنشر مبادئ التوحيد، وقهر مفاهيم الشرك والضلالة.
وهل الآية من عمومات إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم وإسماعيل في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ] ( )، ودعاء إبراهيم في قوله تعالى[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا] ( )، الجواب نعم فقد أراد الله عز وجل أن تتسع رقعة الإسلام وتشمل مكة وما حولها، ويكون الحرم آمناً بالإسلام وأحكامه.
ومن مقدمات تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن وتعليمه الناس سنن الشريعة هلاك رؤساء الكفر ممن يلي المسلمين ويواصل التعدي عليهم، فجاءت الآية محل البحث للإخبار بأن الله عز وجل كفل للمسلمين هلاك الظالمين الذين يصرون على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجهزون الجيوش لقتاله وأصحابه الذين آمنوا بنبوته , مع أنه جاء بالخير المحض لهم ولأبنائهم والناس جميعاً، ترى لماذا لم يقطع ويهلك الله الكفار مطلقاً وليس طرفاً منهم، والجواب من وجوه:
الأول: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء.
الثاني: تصاحب البشارات والإنذارات الإنسان في حياته كلها، وجاءت هذه الآية إنذاراً للكفار مطلقاً، وإن تعلق موضوعها بطرف منهم، خصوصاً وأن الطرف أعم من الرؤساء ويشمل القطعة والطائفة، أي أن كل كافر مهدد بالهلاك بأمر من عند الله سواء بسبب ظاهر أو غير ظاهر.
الثالث: لقد أراد الله عز وجل إعلاء كلمة التوحيد، ونشر مبادئ الإسلام، وإتباع الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ] ( )، فليس من خطيب ولا إمام أو مصلي إلا ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي الآية أعلاه ورد عن(عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية قال : قال لي جبرائيل قال الله عز و جل إذا ذكرت ذكرت معي و في هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلّم :
أغر عليــــه للنبــــــــوة خــــــــــاتم من الله مشهـــور يلوح و يشهد
و ضم الإله اسم النبي إلى إسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
و شق له من إسمــــــه ليجلــــــــه فذو العرش محمود و هذا محمد( ).
وتأتي الإنذارات والبشارات والدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة لجذب شطر من الناس للإسلام، وتجعلهم يتركون منازل الكفر والضلالة، كما تمنع فريقاً منهم من محاربة الإسلام، لأن الكفر أعم من التعدي على الإسلام وقتال المسلمين، فقد يكون الكافر حربياً، وقد يكون غير حربي، ومن الكفار من عقد هدنة وأبرم عهداً مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابع: قطع طرف من الكفار حجة عليهم، ودعوة لعموم الكفار للتدبر والتوبة والإنابة.
الخامس: هلاك بعض كبراء الكفار واقية للمسلمين وسبب لسلامتهم، ويأتي قطع طرف من الكفار بمقدمات وأسباب وإنذارات ظاهرة، أو يأتي فجأة وعلى نحو دفعي قال تعالى[وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا] ( )، فيكون الرعب مقدمة لمنع الكفار من التعدي على المسلمين، وهلاك رؤسائهم.
ولم يرد لفظ (يكبتهم) في القرآن إلا في هذه الآية، لبيان أن الكبت والقهر ينزل من عند الله على الكفار الذين يعتدون على الإسلام والمسلمين، بينما جاءت الآية بذكر حال العز والمنعة التي عليها المسلمون، قال تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وفيه شاهد على التباين بين الفريقين، وظهور أسباب الترجيح للمسلمين في ميادين القتال، فالمقهور وإن كان يملك السلاح والعدة فإنه عاجز عن مواجهة المؤمنين الذين يدخلون المعركة، وهم عاشقون للشهادة، ويسعون لإحدى الحسنيين، أما النصر وأما الشهادة.

من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تدل الآية على العناية واللطف الإلهي بالمسلمين.
الثانية: بعث السكينة في نفوس المسلمين لما يلقاه عدوهم من الخيبة والخسران.
الثالثة: وعد الله للمسلمين بهلاك الكافرين قال تعالى[فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة: بيان عظيم قدرة الله عز وجل بدفع الكفار وصدهم عن المسلمين.
الخامسة: الكبت والحرمان والخزي جزاء أعداء الإسلام.
السادسة: تدل الآية في مفهومها على الوعد الكريم للمسلمين بالنصر والغلبة على الكفار وإن كانوا هم الأكثر والأقوى، والمسلمون هم الأضعف والأقل، كما في معركة بدر قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وجاء النصر يوم بدر في أول معارك الإسلام وكانت ضياء مباركاً أنار للصحابة وأجيال المسلمين طريق الجهاد بالأمل والوثوق بتحقيق النصر والظفر بالأعداء لتأتي هذه الآية وتكون وثيقة مصاحبة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة تكشف لهم سر إنتصار المسلمين في معركة بدر وغيرها من المعارك، وتبعث في نفوسهم الطمأنينة بتحقيق النصر عند تعدي الكفار والمشركين على الإسلام والمسلمين، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وإتحاد العلة وهي مجيء النصر والغلبة للمسلمين من الله عز وجل .
وتضمنت الآية بيان حال الكفار وخسارتهم وخيبتهم، فقد يتحقق النصر للمسلمين في معركة وواقعة، ولكن الكفار يبقون أقوياء يستطيعون جمع صفوفهم، وندب أعوانهم من خلفهم ممن لم يدخلوا المعركة ولم يروا الآيات والمعجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة كنزول الملائكة لنصرته والمؤمنين (وعن ابن مسعود أنه سأله أبو جهل من أين كان يأتينا الضرب و لا نرى الشخص , قال : من قبل الملائكة فقال هم غلبونا لا أنتم)( ).
وفيه حجة إضافية على الكفار فجاءت هذه الآية لتحذير الكفار مطلقاً، ومنع رؤسائهم من جمع الحشود ضد المسلمين، لأن هذه الآية تنذرهم بالقتل والهلاك، وفيه نكتة عقائدية وعسكرية وهي أن قتل الفرد الواحد من الرؤساء يترك أثراً بالغاً في ميدان المعركة وعند الناس عامة ويكون هذا الأثر أكثر من قتل جماعات عديدة من عامة المقاتلين، وهو أمر ظاهر للوجدان في كل زمان ومكان.
وجاءت هذه الآية لتخبر المسلمين والمسلمات بأن الكفار عندما يغادرون المعركة فإنهم في حال من الخيبة والخزي والخسارة، وهذا الإخبار من علم الغيب الذي لا يعلمه ولا يقدر على كشفه إلا الله عز وجل، قال سبحانه[قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ] ( ).
فرجوع الكفار من المعركة مطلقاً في حال خيبة وخسارة سر من أسرار معارك المسلمين الدفاعية وما بعدها من الوقائع والحوادث، ومن إعجاز الآية أنها لم تأت بصيغة الرجوع فلم تقل الآية(فيرجعوا خائبين) لبيان حقيقة وهي أن الخيبة والخسران يصاحبان الكفار من حين الإنسحاب من المعركة، مما يدل على حصول التسالم عندهم بأنهم منهزمون أو أنهم رجعوا من غير أن يحققوا بغيتهم وما كانوا يطلبون.
وفي الآية وعد كريم بأن الله عز وجل يحول دونهم ودون ما يريدون من المقاصد الخبيثة والغايات السيئة في محاربة الإسلام والمسلمين، لذا ففي معركة أحد عندما إنسحب الكفار ظهرت الخيبة عليهم وأعرضوا عن فكرة العودة للقتال(قَالَ ابن هِشَامٍ : حَدّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب ٍ لَمّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ ، أَرَادَ الرّجُوعَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لِيَسْتَأْصِلَ بَقِيّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ : لا تَفْعَلُوا ، فَإِنّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرُ الّذِي كَانَ فَارْجِعُوا ، فَرَجَعُوا)( ).
لقد خشيت قريش من غضب المسلمين، وفزعت منهم مع إدراكها قلة عددهم، وفيه شاهد بأن الفزع الذي ألقاه الله سبحانه في قلوب الكفار يوم بدر لم ينقطع أو يزول بعد المعركة , بل هو حال مستقرة في نفوسهم قال تعالى[سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
التفسير
قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]
إبتدأت الآية بحرف اللام الذي جاء للتعليل، مما يدل على تعلق الآية بما قبلها موضوعاً وحكماً، والفاعل في الآية هو الله عز وجل، وهو الذي يهلك الكفار ويبعث الفزع في نفوسهم، ولا يستطيع قطع طرف منهم إلا هو سبحانه قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( )، وهذا القطع من الإرادة التكوينية التي إختص بها الله نفسه، والله عز وجل هو الرحمن الرحيم، وهو الذي يتغشى برحمته الناس جميعاً في الدنيا، فلماذا يهلك عدداً من رؤساء الكفر والجواب من وجوه:
الأول: هذا الهلاك من رحمة الله عز وجل بالمؤمنين والأجيال اللاحقة من الناس بهدايتهم، ومنع صد الكفار لهم عن دروب الإيمان.
الثاني: في هلاك الكفار منع من تماديهم في الغي والتعدي على الإسلام والمسلمين.
الثالث: يريد الكفار إشاعة الفساد في الأرض، ومن رحمة الله منع الفساد وأسبابه ومقدماته ، ومن هذا المنع هلاك رواده.
الرابع: بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة الناس من براثن الكفر والضلالة، وبعثته رحمة وخير محض، قال سبحانه[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، فيكون تعدي الكفار على المسلمين بقصد منع شآبيب الرحمة عنهم، فيأتي قطعهم رحمة من الله للناس جميعاً.
الخامس: يستحق رؤساء الكفار العقاب لإصرارهم على الكفر ومحاربتهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، مع وصول آيات الإنذار والوعيد إليهم.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً ليدعو الناس لعبادة الله، وأنزل معه الدلالات والبراهين التي تؤكد صدق نبوته وتخاطب العقول، وتجذب الناس على تباين مداركهم، وإختلاف مشاربهم لإتباعه، وكان تلقي الناس لدعوته على وجوه:
الأول: التصديق بنبوته، وهذا التصديق فاز به أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار.
الثاني: التردد وإظهار الإيمان، وإخفاء الكفر، وهو الذي كان عليه المنافقون، وجاءت آيات القرآن بذمهم وإنذارهم والإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم , وجاءت سورة كاملة في بيان صفاتهم المذمومة وتحذير المؤمنين منهم , قال تعالى[إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] ( )، ومع أن ذكر النفاق والمنافقين ورد في أربعين موضعاً من القرآن، فلم يذكر النفاق في سورة البقرة وسورة آل عمران إلا في آية واحدة في آخر سورة آل عمران( ) وتلك آية إعجازية في نظم القرآن وأسرار تقسيمه إلى سور وآيات، لمجيء السورتين أعلاه في تثبيت أحكام الشريعة وبيان سنن الحلال والحرام، ولتوكيد فضل الله عز وجل في توجيه الإنذارات إلى المنافقين من أجل توبتهم وصلاحهم.
الثالث: الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعرضوا عن الآيات والبراهين التي جاء بها، ولكنهم لم يعلنوا الحرب عليهم وعلى المسلمين , ترى لماذا لم يحاربوه، فيه وجوه منها:
الأول: الذين أدركوا صدق آيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم تخلفوا عن إعلان التصديق.
الثاني: الذين غلبت عليهم العادة والخلود إلى البقاء في منازل الكفر والجحود.
الثالث: من كان تحت سلطان وقهر الظالمين والطواغيت , والذي يخشى بطشهم عند دخوله الإسلام وإعلانه التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: فريق إمتلأت نفوسهم فزعاً وخوفاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعن صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر) ( ).
الخامس: أولئك الذين تريثوا وإنتظروا عواقب الأمور.
السادس: الذين غرتهم زينة الدنيا، ومالوا إلى زخرفها، وأغواهم الشيطان , قال تعالى[فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا] ( ) .
السابع: منهم من أنصت لأهل الشك والريب، وأرباب التحريف والذين ذكروا صفات نبي آخر الزمان مخالفة لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصرف الناس عن التصديق به.
الثامن: الذين جحدوا بنزول القرآن من عند الله، قال تعالى[يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ).
التاسع: المشركون الذين لا يؤمنون ولا يقرون باليوم الآخر.
الرابع: الكفار الذين أصروا على حرب رسول الله والمسلمين، وجهزوا الجيوش العظيمة لقتاله، وقد يستغرب كثير من الناس من زحف قريش بجيوش عظيمة في ذلك الزمان ليقطعوا مئات الأميال لقتال النبي وأصحابه مع أنه منهم ومن أوسطهم نسباً , وفرّ عنهم هو وأصحابه بدينهم.
الخامس: الذين حرضّوا وأمدوا وساعدوا الكفار الحربيين ضد الإسلام والمسلمين.
وتحتمل الآية في موضوعها وجوهاً:
الأول: إرادة الذين يحاربون الإسلام ويقاتلون المسلمين وجهزوا الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع إنتشار الإسلام.
لثاني: المقصود هم المذكورون في الوجه الرابع والخامس أعلاه بإضافة الذين حرضوا على الإسلام والمسلمين.
الثالث: المراد الكفار والمشركون مطلقاً ممن جحدوا بالتوحيد، وأصروا على إنكار النبوات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وإن كان والقدر المتيقن هو الوجه الأول أعلاه خصوصاً وأن نظم الآيات جاء بخصوص القتال بين المؤمنين والكفار، وما يترتب عليه من النتائج والآثار، وعدم التعارض لأمور:
الأول: مجيء الآية بلغة التبعيض [مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا].
الثاني: ورود الآية بلفظ (طرف) والمراد منه جهة مخصوصة ممن يقومون بمحاربة المسلمين.
الثالث: يبعث هلاك بعض رؤساء المشركين الوهن الضعف في صفوف الكفار.
الرابع: جاءت الآية في موضوع نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد.
وإبتدأت الآية بحرف اللام في(ليقطع) والمراد وفق الصناعة النحوية وجهان :
الأول: التعليل،وما يسمى لام كي, نحو قوله تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ]( )، والله عز وجل منزه عن الغرض والحاجة ولكن التعليل هنا لبيان رحمة الله بالمسلمين وقضاء حاجاتهم.
الثاني : لام العرض المحض في الفعل , كما في قوله تعالى[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
وفي هذا القطع منافع عظيمة منها:
الأول: إنه واقية للمسلمين لما يصيب الذين يلونهم من الكفار من الضعف والإرباك.
الثاني: شيوع الحزن والفزع في قلوب الكفار، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن أسباب وكيفية الرعب متعددة ومنها نصر المؤمنين، وقطع طرف من الكفار , وتارة يأتي الرعب بنزول الملائكة لنصرة المؤمنين، وأخرى يأتي الرعب إبتداء من عند الله.
الثالث: ظهور الجبن والخور في صفوف الكفار لقتل شطر من كبرائهم وقادتهم، ومن الآيات أن هذا القتل لم يأت مستقلاً بذاته، بل جاء مقترناً ومترشحاً عن نصر الله عز وجل للمؤمنين يوم بدر وأحد، وأن قلت هناك تباين في النتيجة بين معركة بدر وأحد، ففي بدر حقق المسلمون نصراً عظيماً بشهادة القرآن[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، أما في أحد فإن المسلمين تعرضوا للضرر وقتل منهم خمسة وستون رجلاً.
وجاءت هذه الآيات تحكي همّ طائفتين من المؤمنين بالهم بالفشل، والجواب إن نزول الملائكة يوم أحد نصر عظيم وبداية لإنتصارات للمسلمين, والتي ليس لها حد زماناً ومكاناً، وتضمنت الآيات الإخبار عن نزول الملائكة , وقد ورد قبل آيتين[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، ليكون النصر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، فقد رجع الكفار يوم أحد خائبين بعد أن عجزوا عن بلوغ ما قصدوه من قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وجاء التعليل في (ليقطع) في الآية لبيان الفرد الأمثل والظاهر بلحاظ أوان المعركة وحاجة المسلمين إلى خزي وهزيمة الكفار وإلا فإن الغايات والنتائج من نصر المسلمين أكثر من أن تحصى كما أنها متجددة ومتكثرة، وكما كتب الله الثواب العظيم في فعل الصالحات قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، فكذا بالنسبة لخروج المؤمنين للجهاد فإن الله عز وجل رزقهم الثواب عليه في الدنيا والآخرة، أما الثواب في الآخرة فهو الخلود في النعيم، وأما في الدنيا فهو متعدد وعلى وجوه لايحصيها إلا الله عز وجل , منها :
الأول : هذه الآية وما فيها من البشارة لهم بما يلحق الكفار من القتل والفزع والخيبة والحرمان ليكون تخفيفاً عن المسلمين.
الثاني: نصر المسلمين شاهد دنيوي حاضر لما ينتظرهم في الآخرة من الخلود في الجنة والنعيم الدائم .
الثالث: ما فيه تذكير وتحذير الكفار من النار عسى أن يفروا من أسبابه ومقدماته.
الرابع: ما يجعل المسلمين يستحضرون في الوجود الذهني نعيم الآخرة ويشتاقون إليه، ويسعون في مسالكه.
وجاءت هذه الآية في منطوقها من القسم الثالث ، وفي مفهومها من القسم الرابع ، وفي تعلق قوله تعالى[ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]بما قبله وجوه:
الأول: تتعلق هذه الآية بخاتمة الآية السابقة[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] فحينما أخبر الله عن قانون إنحصار مجيء النصر من عند الله ، وجاء الإخبار عن منحه للمسلمين بإفادة اللازم وإرادة الملزوم لأن قطع طرف من الكفار عنوان لهزيمتهم وخزيهم.
الثاني: تتعلق الآية بالشطر الأول من آية بدر( )، وتقدير الجمع بينهما: ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً من الذين كفروا.
الثالث: نزول الملائكة مدد للمسلمين يوم بدر وأحد والتقدير: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ليقطع طرفاً من الذين كفروا.
الرابع: الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنزول الملائكة مدداً لهم في حال رجوع الكفار لساحة المعركة يوم أحد كما ورد في الآية قبل السابقة، والتقدير: ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة ليقطع طرفاً من الذين كفروا، ولا يعني هذا التعليق في قطع طرف من الذين كفروا بل هو أمر حال، من جهات:
الأولى: تعدد أسباب وعلل قطع طرف من الكفار.
الثانية: مجيء هذه الآية للتخويف والوعيد.
الثالثة: جاءت الآيات بالإخبار عن إستئصال الكفار، ولم يبق لهم نسل أو ذرية , قال تعالى في عاد[وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا] ( )، وقد بعث الله عز وجل لهم هوداً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فدعاهم إلى عبادة الله ونبذ الشرك، وخلع الأنداد فكّذبوه وآذوه .
وكان لهم زرع ونخل وكانوا من المعمرين ولهم أجسام عظيمة، وأصروا على عبادة الأصنام فحبس الله عز وجل عنهم المطر سبع سنين وقيل ثلاثين حتى قحطوا، فالتجؤا إلى البيت الحرام بمكة، وكان الناس مطلقاً مسلمهم وكافرهم يلجأون إليه عند البلاء والجهد، وقال رأس الوفد: يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنا قد هلكنا فجاءت سحابة سوداء أخذتهم بالعذاب، وإعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة في أمن وسلامة.
الرابعة: إثبات شيء لشيء لشيء، لا يدل على نفيه عن غيره، وهلاك بعض رؤساء الكفر لا ينحصر بالبشارة بنزول الملائكة، بل هو أمر من عند الله عز وجل.
الخامسة: ترتب موضوع هذه الآية على البشارة للمسلمين التي ذكرتها الآية السابقة وتقدير الجمع بينهما (وما جعله الله إلا بشرى لكم ليقطع طرفاً من الذين كفروا) بتقريب أن البشارة للمؤمنين تقترن بالحزن والأذى للكفار.
الخامس : نزول العذاب بالكفار لجحودهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فمجرد الكفر بنبوته مع بلوغ المعجزات لهم علة تامة لقطع وهلاك طائفة منهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وهي مجتمعة ومتفرقة تدل على عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين، والآية من الشواهد على أن المسلمين أفضل الأمم , قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن يأتيهم النصر بأسباب أرضية وسماوية، ويهلك الله طائفة من أعدائهم، ويبعث في قلوب الذين بقوا منهم الفزع والرعب، ليتفقه المسلمون في الدين، ويجاهدوا في سبيل بمندوحة وسعة وسلامة، وقلة مؤونة.
إن نزول العذاب والموت بأقطاب الكفر عقوبة عاجلة من عند الله عز وجل على كفرهم وجحودهم، من غير تقييد وحصر بمضامين الآيات السابقة، ومحاربة الكفار للمؤمنين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً , وقد جاءت الآيات بنزول العذاب بالكفار لكفرهم وإصرارهم على الجحود، ليأتيهم العذاب لإختيارهم الكفر , ولما يترشح عنه من الظلم والجور والتعدي على حرمات المسلمين , قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول الهلاك بطائفة من رؤساء الكفار ممن يلي المسلمين، لأن معجزاته باهرات، وهي كافية لجذب الناس للإيمان ونشر مفاهيم التوحيد والإصلاح في الأرض، ولكن هؤلاء الرؤساء يحاربون الإسلام من وجوه:
الأول: صدّ الناس عن دخول الإسلام، ومنعهم من إتباع التنزيل، وقد سألت قريش يهود المدينة عن صفات نبي آخر الزمان بإعتبار أنهم أهل كتاب ليتخذوا من التحريف إعلاناً في تكذيب النبي، وأعرضوا عن إسلام نفر من كبار علماء يهود المدينة الذي هو حجة عملية على تصديقهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: تحريض الناس على مقاطعة الذين أسلموا، وحث القبائل على السعي لإعادة أبنائها الذين أسلموا، وعدم بقائهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: منع الهجرة إلى المدينة، واللحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ووضع الرجال والمسالح حول المدينة لإلقاء القبض على من يأتي لدخول الإسلام.
الرابع: نشر ثقافة مضادة للإسلام، وإدعاء وجود أذى في التكاليف الشرعية من أداء الفرائض، ومن منع الخمور والزنا.
الخامس: تعذيب الذين يعلنون إسلامهم، وحصول هذا التعذيب علناً وتحت أبصار الناس وفي الأماكن العامة ليكونوا عبرة لغيرهم ممن ينوي دخول الإسلام.
السادس: كانت القبائل العربية قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بعضهم بعضاً، ومع بعثته صلى الله عليه وآله وسلم توقف الغزو، وهذا التوقف له أسباب متعددة ومتباينة، منها:
الأول: شيوع الأخلاق الحميدة مع نزول القرآن وما فيه من البشارات والإنذارات.
الثاني: التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: مبادرة المسلمين لأداء الصلاة، والمسارعة في الخيرات، وفعل الصالحات.
الرابع: إنشغال الكفار بالموضوع الأهم من الغزو وهو التحريف والحشد لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المهاجرين والأنصار في المدينة.
وبخصوص الذي كان بين قريش وبين بني بكر قال ابن هشام(فبينما هم في ذلك من حربهم، حجز الإسلام بين الناس، فتشاغلوا به، حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر، فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم)( ).
الخامس: ظهور النقص في الرجال عند القبائل بهجرة عدد من أبنائها إلى المدينة، وعزوف شطر ممن بقي مقيماً في مكة عن الغزو ظلماً وتعدياً وعصبية جاهلية.
فكما إجتمع الصحابة من قبائل شتى كانت بينها ثارات وضغائن قبل الإسلام، فإن الكفار سعوا للتآلف فيما بينهم لمواجهة الإسلام فجاء البطش الإلهي بهم من حيث لم يحتسبوا بهلاك صناديدهم ورؤسائهم.
ولم يكن سعي الكفار لوأد الإسلام عن تقدير وظن، بل جاء عن حس ووجدان، فقد أدركوا التغيير الحاصل في المجتمعات والنفوس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه عديدة منها:
الأول: شيوع إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته.
الثاني: وصول الأخبار بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فمن فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقتران أخبار معجزاته مع ظهور أمر نبوته.
الثالث: توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية، فما أن يجتهد رؤساء الكفر والضلالة بإنكار بعض معجزاته حتى ترد إلى المنتديات والأسواق معجزات أخرى جديدة تتصف بأنها خارقة، مقرونة بالتحدي، سالمة عن المعارضة.
الرابع: دخول أفراد وجماعات الإسلام سواء من قريش وأهل مكة أو من القبائل والقرى المحيطة بها.
الخامس: إستعداد المسلمين لتلقي الأذى في سبيل الله، وإمتناعهم عن الإرتداد.
السادس: دخول نفر من المستضعفين والعبيد الإسلام، وفيه قهر وإهانة لكبراء المشركين، وإزدراء شديد لما هم عليه من الضلالة.
السابع: تسفيه المسلمين ومن أنصت لهم لعبادة الأوثان، وحال الجهل التي عليها المشركون وأعداء الإسلام.
الثامن: صنوف البلاء التي إبتلى الله عز وجل بها الكفار الذين حاربوا الإسلام، وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما آذته وأصحابه قريش (اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم إجعلها سنين كسني يوسف)( ).
التاسع: إعلان بعض علماء اليهود والنصارى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموافقتها لما بين أيديهم من البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل، وأخبار وقصص الأنبياء، إذ أن قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، أعم من أن يختص بالأحوال الشخصية للأنبياء، بل يشمل أدعيتهم وبشارتهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقائها متوارثة ومتداولة بين الناس إلى حين بعثته ولو على نحو الموجبة الجزئية، والتوارث من قبل عدد قليل من العلماء، ويمكن إعتبار ما جاء في دعاء إبراهيم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( )، وقوله تعالى في عيسى[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( )، من قصص الأنبياء، ومن أبهى تلك القصص لما فيها من التداخل في مواضيع النبوة بأفرادها الطولية، والصلة بين الأزمنة السابقة واللاحقة.
العاشر: مجيء آيات الإنذار والذم والتوبيخ للكفار التي تبعث الفزع والخوف في نفوسهم، وتقلل من شأن وهيبة رؤسائهم في نفوس عامة الناس، وتجعل المسلمين ينفرون للجهاد في سبيل الله، ومواجهة الكفر والكفار.
الحادي عشر: إيمان الأنصار، ووجود ملجأ ومأوى لمن يهاجر من المسلمين لذا كانوا يفتقدون بعض الشباب من مكة أو قراهم ومحل سكناهم، ويتبين بعد حين أنهم إلتحقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في يثرب.
الثاني عشر: مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمحاربة الفساد والإفساد، وإجهاره بحرمة الفواحش[مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ] ( )، ونزول أحكام القصاص بغض النظر عن منزلة الجاني وإن كان ذا شأن.
لقد أراد الله عز وجل للناس الهداية، وتفضل بما يقربهم إلى منازل الإيمان وحببه إلى قلوبهم، ولكن الكفار أبوا إلا الإصرار على الكفر والضلالة، وأضرار هذا الإصرار كثيرة منها:
الأول: ما يلقاه المسلمون من الأذى المترشح عن الإصرار على الكفر من العناد والإفتراء وإثارة أسباب الشك.
الثاني: إشاعة الكفار لمفاهيم الإستهزاء بالبراهين والدلالات الباهرات على صدق النبوة.
الثالث : إبطاء الناس في دخولهم الإسلام .
ويمكن الجمع بين الآية محل البحث وقوله تعالى[إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ), بأن يكون قطع طائفة من رؤساء الكفار من كفاية الله عز وجل المستهزئين من جهات:
الأولى: هلاك بعض الرؤساء الذين كانوا يظهرون السخرية والإستخفاف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به، وفي موضوع وسبب نزول الآية أعلاه ذكر أن المستهزئين كانوا خمسة نفر من قريش العاص بن وائل و الوليد بن المغيرة و أبو زمعة و هو الأسود بن المطلب و الأسود بن عبد يغوث و الحرث بن قيس, عن ابن عباس و سعيد بن جبير .
و قيل كانوا ستة رهط عن محمد بن ثور و سادسهم الحارث بن الطلاطلة و أمه عيطلة قالوا و أتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم و المستهزءون يطوفون بالبيت فقام جبرائيل و رسول الله إلى جنبه.
فمر به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى -أي جبرئيل – بيده إلى ساقه فمر الوليد على قين( )، لخزاعة و هو يجر ثيابه فتعلقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها و جعلت تضرب ساقه فخدشته فلم يزل مريضا حتى مات.
ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرائيل إلى رجله فوطىء العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله فقال لدغت فلم يزل يحكها حتى مات.
ومر به الأسود بن المطلب بن عبد مناف فأشار إلى عينه فعمي و قيل رماه بورقة خضراء فعمي و جعل يضرب رأسه على الجدار حتى هلك.
ومر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات و قيل أصابه السموم فصار أسود فأتى أهله فلم يعرفوه فمات و هو يقول قتلني رب محمد و مر به الحارث بن الطلاطلة فأومى إلى رأسه فامتخط قيحا فمات و قيل إن الحرث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتى أنقد بطنه) ( ).
الثانية: إتعاظ الناس من هلاك هؤلاء الرؤساء.
الثالثة: الأمن والسلامة من إستهزاء وإستخفاف أتباع هؤلاء الرؤساء.
الرابعة: عدم إنصات الناس للمستهزئين، وإعراضهم عن الجدال والخصومة التي يقومون بها لصرف الناس عن المعجزات.
الخامسة: الخزي الذي يلحق الكفار، وما يصيبهم من تلف الأموال, وأسباب الضعف والوهن.
الثالث: التجرأ على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولة النيل منه لمنع الناس من الإنجذاب إليه وإتباعه , وفي التنزيل[ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( )، إذ جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات البينات، لكن الكفار أعرضوا عنه، وأنكروا نبوته ونعتوه بتلقي التعليم من بشر وأنه مجنون بادعاء النبوة.
ومن إعجاز الآية أعلاه أنهم لم يدعوا أنه معلَم إلا بعد إن إستمعوا له ليوهموا الناس بأنهم مقتنعون بما يقولون في الوقت الذي تؤمن فيه جماعات من الناس بذات الآيات التي ينكرها هؤلاء، ويؤمن غيرهم ممن بلغته تلك الآيات، وسار أقطاب الكفر في مكة على نهج فرعون وملئه في إيذاء موسى عليه السلام وقومه، وخاطب موسى آل فرعون[وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ] ( )، أي إن لم تصدقوني في رسالتي فلا تكونوا لي ولا عليّ، (وعن ابن عباس:فاعتزلوا أذاي) ( )، وهو نوع إنذار لهم.
وعندما زحف فرعون وجنوده متعقباً بني إسرائيل , وحاول إجتياز البحر هلك هو جنوده، قال تعالى[وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، وهذا الغرق إنذار وتخويف لكل الذين يكذّبون الأنبياء والرسل، ويقابلون آيات النبوة بالجحود والتعدي والظلم للمؤمنين.
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين وسيد المرسلين، فجاءت الآية محل البحث بالإخبار عن قطع دابر الذين يحاربون الإسلام ويكونون برزخاً دون بلوغ الدعوة الإسلامية لمن خلفهم من أهل الملل والأمصار والبوادي.
لقد كانت قريش ذات سطوة وشأن بين القبائل، وتزاول التجارة وتقوم برحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى الشام، وتأتي العرب لحج البيت الحرام كل عام والإجتماع في أسواق مكة وعرفة التجارية والأدبية مما يهيء لهم أسباب التأثير والسلطان الفكري والمالي على الناس، ولم ينالوا هذه المنزلة والمقام إلا ببركة البيت الحرام , ودعاء إبراهيم[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
ولكنهم جحدوا هذه النعم ووظفوها لمحاربة النبوة فجاء العذاب للكافرين بالقطع والهلاك، مع أن إبراهيم عليه السلام دعا الله لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجل إصلاحهم وسلامتهم من العذاب بالوقاية من الفساد، وتفضل الله عز وجل عليهم بأن جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات العقلية لجذبهم إلى الإسلام، ونجاتهم من القطع والهلاك.
فمن إعجاز الآية أنها لم تقصد أشخاصاً بأسمائهم وأعيانهم، بل جاءت بقيدين:
الأول: الطرف من الكفار، وو رد في قوله تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]( ) ننقصها من أطرافها بفتوحات المسلمين.
الثاني: حصول النقص في أهل الكفر، والزيادة في المسلمين، وإرادة من دخل في الإسلام من أهل الشك والريب.
الثالث: الآية إنذار لأهل مكة لأنهم يرون فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرى ممن حولهم، ودخول الناس في الإسلام أفراداً وجماعات.
الرابع: الآية بشارة قرب فتح مكة , وإزاحة مفاهيم الشرك والضلالة.
الخامس: الآية إنذار للكفار، وإخبار عن حدوث النقص والضعف عندهم مع غزو مبادئ الإسلام القلوب، وميل الناس إليه، وتقدم رايات المجاهدين شمالاً وجنوباً، وتوالي أخبار الفتوحات.
الثاني: قيد الكفر والضلالة في نزول عذاب القطع، وإستئصال طائفة من رؤساء الكفر.
لقد جعل الله عز وجل إستدامة الحياة الدنيا بالأسباب الظاهرية، مع حدوث وقائع شخصية أو إبتلاءات عامة وحروب وآفات أرضية أو سماوية تأتي معها أضرار طارئة، وجاءت هذه الآية بالبرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على العلة، فيحتمل هلاك عدد من رؤساء المشركين وجوهاً:
الأول: وقوع هلاكهم على يد جيوش المسلمين الذين دافعوا عن النبوة والتنزيل.
الثاني: إنه يحصل بأسباب كونية ظاهرة.
الثالث: يصيبهم الله عز وجل بألوان البلاء والعذاب كمنع غيث السماء, وتعطل التجارات.
الرابع: الفتنة بين الكفار أنفسهم.
الخامس: ثورة المستضعفين عليهم بعد مجيء بشارات الإسلام، وتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: ضرب الذلة والمسكنة على الكفار، قال تعالى[وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ] ( ).
السابع: قطع طرف من الكفار بذاته علة مستقلة , وتترشح عنها نتائج وآثار كثيرة ضارة بالكفار.
الثامن: دخول أبناء الكفار الإسلام، وحصول الضعف والنقص في رجالهم، وظهور علامات الإنكسار عليهم.
التاسع: صيرورة أقطاب الكفار فقراء و عاجزين من محاربة الإسلام بسبب هلاك أموالهم وضياع ما ينقصونه في محاربة الإسلام والمسلمين، قال تعالى في ذم الكفار وبذلهم الأموال في إعداد وتجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ]( )، ولا يدل منطوق الآية على حصر موضوعها بهلاك عدد من رؤساء الكفر فهي أعم، وتتضمن أموراً منها :
الأول: دخول المسلمين للقرى القريبة من بلدة الكفار وإطلالة رايات الإسلام على البلدة وضواحيها.
الثاني: فتح المسلمين للأمصار وإنحسار أثر رؤساء الكفر.
الثالث: بعث الفزع في نفوس الملأ من الكفار لإزدياد قوة ومنعة المسلمين.
الرابع: تجلي معاني الصدق في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبين الطرف والطائفة عموم وخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء، والأخرى للإفتراق، لموضوعية المحل والمكان والجهة بالنسبة للطرف، وفي قطع الطرف دلالة على حدوث ثغرة عظيمة عند الكفار لا يستطيعون تداركها، لأنها لم تنحصر بفرد مخصوص وطرف محدود، فكلما تقدمت طائفة من الكفار لتكون طرفاً، يكون القطع والإنابة والهلاك في إستقبالها بما يخزي الكفار، ويملأ نفوسهم فزعاً.
ومن الآيات في إختيار لفظ الطرف في الآية أنه عام يشمل الرؤساء والصناديد والشجعان وعامة المقاتلين وأفراد الطرف، وفيه تحذير لعامة الكفار من البروز للمقدمة، والمواجهة للمسلمين في ميدان الحرب وغيره كالشعر، وإعانة جيش الكفار بالأموال، والتحريض على المسلمين، وإثارة الشك والريب بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عناداً وإستكباراً وجحوداً.
ويحتمل إتصال الآية بما قبلها، وتعلق قطع طرف من الكفار في نظم الآيات وجوهاً:
الوجه الأول: يتصل موضوع قطع طرف من الكفار بخاتمة الآية السابقة[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( )، وإن الله عز وجل لم يجعل النصر بيد غيره، أو بالأسباب المادية الظاهرة، بل جعله بيده سبحانه ليكون مقدمة ووسيلة لهلاك بعض كبار الكفار، وبرزخاً دون سيادة الكفر في الأرض، ويفيد الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية وجوهاً:
الأول: إرادة معركة مخصوصة من معارك المسلمين يجتمع فيها نصر المسلمين، وهلاك طائفة من الكفار كمعركة بدر أو أحد.
الثاني: المراد مجموع معارك الإسلام الأولى.
الثالث: المقصود جميع معارك الإسلام، وإن قانوناً ثابتاً يحكمها وهو أن النصر بيد الله، ومن عنده، وأن هلاك طائفة من الكفار مترشح عنه قهراً وإنطباقاً في كل معركة، كما تجلى الأمر في معركة بدر، وهو وإن لم يظهر واضحاً في معركة أحد إلا أنه أمر ثابت في كل معركة سواء في ميدان المعركة أو بعدها.
الرابع: إرادة عموم المعارك، وما تنتهي إليه، وما يترتب عليها من الآثار.
والصحيح هو الرابع، كما يشمل النصر وإنحصار أمره بيد الله ما هو أعم من المعارك، إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار ويتصارع فيها الخير والشر، والإيمان والكفر، ويأتي النصر الإلهي بالإحتجاج والجدال لدحر الكفر ومنع عتو وتمادي الكفار في الظلم والتعدي.
وعن ابن إسحاق (ولما نزل قوله تعالى[إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ]( )، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد،فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش،فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد إحتج وخاصم.
فذكر ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم فقال: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته.
فأنزل الله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ).
لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، أي عيسى وعزيز ومن عُبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، سبحانه، بل عباد مكرمون “والآيات بعدها( ).
والأصل في الآية إرادة النصر في ميادين المعارك، وفي توكيد هذه الآيات على أن النصر بيد الله دعوة للإقرار بالعبودية لله عز وجل، وإجتناب الغلو بالأنبياء أو الملائكة، فصحيح أن الملائكة نزلوا إلى ميدان المعركة، وكانوا السبب في هزيمة الكفار شر هزيمة إلا أنهم لم ينزلوا إلا بأمر الله عز وجل وهو سبحانه يوحي لهم، قال تعالى[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ]( ).
ومن الإعجاز القرآني أن تأتي الآية بالبشارة مع بيان موضوعها ودلالاتها، وجعلها وسيلة لزيادة الإيمان، وباباً للشكر لله عز وجل، وبرزخاً دون الإفراط أو التفريط، وسبباً لرجاء النصر، وطرداً للخوف والفزع من قلوب المؤمنين بتقريب أن النصر بيد الله وأنه ينصر المسلمين على الكفار،
ومن إعجاز القرآن إقتران حصر النصر بيد الله عز وجل بأنه سبحانه (العزيز الحكيم) وأن تعيين النصر ورجحان كفة المؤمنين وخسارة الكفار، وهلاك طرف منهم يأتي وفق موازين الحكمة والإتقان والعدل، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
وفي الجمع بين الآية أعلاه وبين هذه الآيات بخصوص ظلم الكفار لأنفسهم وجوه:
الأول: غفلة الكفار عن قانون النصر بيد الله من ظلمهم لأنفسهم.
الثاني: تحذير الكفار من التعدي على المسلمين، وتجهيز الجيوش ضدهم.
الثالث: مصاحبة اليأس والقنوط للكفار عند زحفهم على المسلمين، وعند الشروع في القتال، لذا فإن من آداب القتال عند المسلمين الإبتداء بإنذار الكفار ووعظهم وإرشادهم وتحذيرهم من القتال، ودعوتهم للإيمان بالله عز وجل إلهاً واحداً، مع إجتناب بداية القوم بالقتال حتى يبدأ الكفار به ليكون أتم للحجة عليهم، وأسرع لنصر وغلبة المسلمين.
وقد يكون لإبتداء القتال أثر من جهة المباغتة والخدعة وإظهار قوة العزيمة والإصرار على القتال، وحينما يتخلى عنه المسلمون فإنهم يؤكدون إيمانهم بقانون (النصر من عند الله) ( ) وفيه دعوة قهرية للكفار للتدبر والهداية .
وتأتي نتائج المعركة لتزيد إيمانهم، وتكون كبتاً وخزياً للكفار، وهو من مصاديق ظلمهم لأنفسهم.
الرابع: عدم إنحصار الأضرار التي تلحق بالكفار بساحة المعركة ونتائجها الميدانية، بل تشمل ما يلحق الكفار من الخزي والخسران وضياع الأموال، وتخلي الأتباع عنهم.
الخامس: هلاك عدد من أقطاب الكفر والضلالة، وهذا الهلاك من الشواهد على أن نصر الله خاص بالمؤمنين عند ملاقاتهم الأعداء.
ومعنى الآية على هذا الوجه أن الله عز وجل نصركم أيها المؤمنون بواسطة المدد الملكوتي لغايات حميدة هي البشرى لكم، والسكينة والطمأنينة لقلوبكم، وهلاك طائفة من الكفار.
الوجه الثاني: موضوع هذه الآية متصل بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ) وتقدير الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل نصر المسلمين في معركة بدر مع أنهم قلة وعلى حال ضعف للقطع من قوة وبطش قريش، وهدم ركن من أركان الكفر والضلالة، وتدل عليه نتيجة المعركة، وقتل سبعين من قريش بينهم عدد من كبار رجالاتهم مثل أبي جهل وعتبة بن ربيعة وأخيه وإبنه.
الوجه الثالث: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور دين الإسلام، وفيه أضعاف لجبهة الكفر، وإزاحة لسلطانه عن أمصار كثيرة، ومنع إفتتان الناس بالطواغيت.
إن معنى ومفهوم قطع طرف من الكفار أعم من أن ينحصر بميدان المعركة، ولتجتمع عدة وجوه وأسباب لضعف ووهن أهل الكفر والضلالة، منها :
الأول: إبتلاء الكفار بأنواع البلاء.
الثاني: إسلام فريق منهم ومن عامة الناس.
الثالث: إجتماع هزيمة الكفار في المعركة إلى جانب المعجزات والبراهين القاطعات التي تدل على صدق نبوة محمد، وهي من أقوى الأسلحة في جذب الناس، وحجة دامغة تجعل رؤساء الكفر عاجزين عن منع الأبناء والأتباع والأعوان من دخول الإسلام .
الرابع: حصول قتلى وأسرى منهم في المعارك الإسلام.
الوجه الرابع: بشارة المسلمين بالنصر، وما فيه من إمتلاء نفوسهم بالسكينة إذ أنه أمر يغيض الكفار، ويبعث الإرباك في صفوفهم، ويحدث الفرقة بينهم، لأن نصر المسلمين لم يكن بالأسباب الظاهرية، ففي معركة بدر ظن بعض رؤساء قريش أنهم يأتون على المؤمنين في ساعة واحدة، وهذا الظن ليس من الغرور والطيش خصوصاً وأن هؤلاء الرؤساء أصحاب خبرة في القتال، وتجربة طويلة، وإطلاع على التأريخ والمعارك التي جرت بين القبائل، والأحلاف التي تجري منها وبعدها، فجاءت هزيمتهم في معركة بدر مفاجئة لهم، وألحقت بهم الخزي وأدركوا ما عليه المسلمون من الطمأنينة والغبطة والسعادة، فإزداد الكفار ضعفاً وشعروا بالذل.
الوجه الخامس: المعنى الجامع من نصر المسلمين في معارك الإسلام الأولى وإبتلاء الكفار، ونفاذ وشيوع مبادئ ومفاهيم الإسلام لأبناء القبائل والجماعات، ولعمومات خاتمة الآية السابقة[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( )، وتقييدها بالملازمة بين النصر والإيمان، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( )، وهذا الإجتماع من أسرار إبتداء الآية باللام (ليقطع)من غير واو العطف، فلم تعطف الآية على ما قبلها وقوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] ( ) بل إبتدأت بحرف التعليل اللام ( وقال الإمام الرازي:ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، وهو كما يقول السيد لعبده:أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي)( ) .
ولكن الآية السابقة جاءت بحرف العطف(ولتطمئن) مع إتحاد الموضوع وجهة الخطاب، ووحدة الآية، والآية أعم في معناها ودلالاتها، وليكون هدم ركن من أركان الكفر والضلالة مطلوباً بذاته أيضاً خصوصاً وأن الآية السابقة جاءت للإخبار عن البشرى والطمأنينة بالوعد بالإمداد لقوله تعالى في الآية السابقة[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، نعم جاء في سورة الأنفال ما يدل على ترتب البشارة والطمأنينة على ذات المدد الملكوتي، وليس الوعد به( )، ولا يمنع من التعدد بأن تكون البشارة والطمأنينة مرة بذات المدد وأخرى بالوعد، قال تعالى[إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ]( ).
ومن وجوه قطع طرف من الكفار وقوع أسرى منهم يوم بدر , وفيه مسائل:
الأول: دفع قريش لأموال كثيرة لفداء أبنائهم ورجالاتهم،(قَالَ ابن هِشَامٍ: كَانَ فِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ آلافِ دِرْهَمٍ لِلرّجُلِ إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ)( ).
الثاني: إنتفاع المسلمين بمبالغ الفداء لشراء السلاح والمؤون، والتجهز للقتال والغزو.
الثالث: منع حصول فتنة في المدينة بسبب كثرة المهاجرين فيها، وقلة الأموال.
الرابع: منّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عدد من الأسرى الذين ليس عندهم مال.
الخامس: غياب رؤساء من الكفر، وإصابة قريش بالوهن وحصول الفتنة عندهم كما يظهر في قصيدة الأسود بن المطلب الذي قتل ثلاثة أولاد له يوم بدر بعد أن سمع امرأة تبكي جملاً لها في الليل، فعاب قريشاً لأنها تمنع البكاء على قتلى بدر وتأذن بالبكاء على جمل:
أَلا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ وَلَوْلا يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا. ( ).
وفيه دلالة على أن كفار قريش يسمّون معركة بدر بذات الاسم الذي نزل فيه القرآن بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) وإمتلاء نفوسهم بالحزن والأسى , وحصول الفتنة والإرتباك بينهم .
السادس: ظهور الذل على كبار رجال قريش، فعندما طلب من أبي سفيان وكان رجلاً شحيحاً أن يفدي أبنه عمرو الذي أسره الإمام علي عليه السلام (قَالَ أَيُجْمَعُ عَلَيّ دَمِي وَمَالِي قَتَلُوا حَنْظَلَةَ وَأَفْدِي عَمْرًا دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يُمْسِكُوهُ مَا بَدَا لَهُمْ) ( ).
السابع: تجلي أسباب القوة الشخصية والمنعة عند المسلمين مع ما فيهم من قلة المؤونة، ومن أسباب تسمية عبيد بن أوس بمقرن أنه قرن أربعة أسرى في يوم بدر، ومنهم عقيل بن أبي طالب.
ومجيء الإخبار عن قطع طرف من الكفار بعد معركة أحد شاهد على التغيير الكبير في الصراع بين الإيمان والكفر، وإتضاح معالم نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وميل كفة الغلبة والنصر لهم قبل المعركة وعند مقدماتها وهمّ الطرفان بدخولها.
فجاءت هذه الآية بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وبياناً لحسن العاقبة والثمرات العظيمة المترشحة عن توجه المسلمين للقتال بشوق ورضا.
وجاءت بأجزل عبارة وأوضح بيان، وأبهى سبك من وجوه:
الأول: الإخبار بصيغة الجزم بهلاك بعض أركان الكفر، وإنحسار بعض أطرافه ومقدمته المقابلة لثغور الإسلام والتي تعتدي على المسلمين، وورد في قوله تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا] ( ) وجوه:
الأول: أو لم ير هؤلاء الكفار أنا ننقص أطراف الأرض بإماتة أهلها، والمراد من الأطراف في الآية الأهل والسكان، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وعكرمة( ).
الثاني: النقص من أطراف الأرض بالفتوح على المسلمين، فينقص أهل الكفر، ويزيد عدد المسلمين، وتتغشى أحكام الإسلام بلاداً كانت مفاهيم الشرك هي السائدة فيها، عن الحسن والضحاك ومقاتل( ).
الثالث: أو لم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ما حولها من القرى.
الرابع: ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وخيارها، روي عن ابن عباس والأمام الصادق عليه السلام وسعيد بن جبير( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق القطع مع التباين في الموضوع، فهلاك الكفار، وإتساع رقعة الإسلام تثبيت لمبادئ التوحيد، وموت العلماء لحكمة في الدين، وفيه نكتة وهي التعاقب والكثرة في عدد العلماء، فإرادة موت العلماء في نقص أطراف من الأرض للدلالة على سعة رقعة الإسلام، وإنتفاء تهديد الكفار للمسلمين، وإلا لإجتمع عليهم تعدي وتهديد الكفار وموت العلماء فلم يمت العالم إلا وقد ظهر غيره من علماء المسلمين، خصوصاً وأن التخلص من قتال الكفار وإتساع رقعة الإسلام سبيلان لتفقه المسلمين في الدين، وتوجه فريق منهم لدراسة علوم القرآن والفقه قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ ْ] ( ).
الثاني: هلاك فريق من الكفار معلول لعلة، وتحتمل تلك العلة وجوهاً:
الأول: إنها خارجة عن إرادة الكفار أنفسهم.
الثاني: يشترك الكفار فيها مع غيرهم.
الثالث: يأتي القطع لقبح ما فعل الكفار , وظلمهم لأنفسهم .
والصحيح هو الثالث، فإن القطع بسبب إصرار الكفار على الجحود وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش عليه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثالث: إقتباس الأحكام والمواعظ من التعليل الوارد في الآية بما ينفع المسلمين والناس جميعاً، فحتى لو ظهر الكفار في بعض الأماكن فإن هذه الآية مواساة ومؤنس للمسلمين، ودعوة لهم للصبر والتقوى وإنتظار تحقق مضامين الآية الكريمة.
ومن إعجاز القرآن أنه يلبس المدركات العقلية لباس المحسوسات، فجاءت الآية بصيغة قطع الطرف من الكفار، لبيان قانون متجدد وهو ظهور النقص والوهن والضعف في صفوف الكفار على نحو الإستدامة، فيسعون لجمع الجنود وبناء الجيش، وتجهيزه بالسلاح والمؤون , فيرميهم الله بقطع الطرف بالمدد للمسلمين والبشارة به.
وروي أنه (اجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديد قريش ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون : الذين دخلوا في الإسلام ، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السَّواء فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ماذا يسألونني؟ ” قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال عليه السلام : ” أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ ” فقالوا : نعم وعشراً ، أي نعطيكها وعشر كلمات معها ، فقال : ” قولوا : لا إله إلاّ الله ” فقاموا وقالوا : { أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عُجَابٌ) ( ). ليكون هذا الحديث إنذاراً للكفار , وزاجراً لهم عن الخروج إلى بدر الذي كان فيه هلاكهم وقطعهم.
ومن إعجاز القرآن ذكر الرحمة قبل العذاب، والعفو العقاب في آيات كثيرة في القرآن، قال تعالى [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ]( ).
وجاءت الآيات بسعة واطلاق رحمة الله وأنها تشمل الخلائق كلها على نحو العموم الإستغراقي قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( )، وهو من التباين في الحكم والكيف والرتبة بين الرحمة والعذاب، نعم جاءت آيات قليلة بتقديم العذاب على الرحمة في مقام الإنذار والوعيد كما في قوله تعالى [يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ]( )، لأن سياق الآيات جاء في تحذير الكفار الذين يكذبون بالرسل.
ولم تخرج هذه الآيات عن تقديم البشارة للمؤمنين إكراماً لهم، وبياناً لشرف منزلتهم، وشكراً من الله لهم للتصديق برسوله الكريم، وخروجهم للقتال دونه , وتحت راية الإسلام وهو أبهى مصاديق الإيمان والتقوى خصوصاً مع رجحان كفة الكفار عدداً وعدة.
وإختصت هذه الآية بالإخبار الغيري عما يصيب الكفار الحر بيين الذين يقاتلون المسلمين , فإبتدأت بذكر فرد العذاب الأشد وهو القطع ليكون أبلغ في الإنذار وأتم في الحجة، وأكمل في البرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولزيادة إيمان المسلمين شكراً لهم، وتخفيفاً عنهم.
وهل يمكن ان يقطع الكفار طرفاً من المسلمين والحرب سجال،وكيد الكفار للإضرار بالمسلمين مستمر.
الجواب لا، فلا تجد عند المسلمين طرفاً بل هم أمة متحدة كالبنيان المرصوص، وقال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( )، (وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : أمة وسطا ، قال : عدلاً ( )، ومن معاني العدل الإستقامة وعدم الميل إلى أحد الطرفين.
ومن مفاهيم الوسط الإبتعاد عن الطرفين، والتنزه من الإفراط والتفريط، ومن شهادة المسلمين على الناس في الآية أعلاه شهادتهم على الكفار في تعديهم وظلمهم، وما أصابهم من قطع الطرف والكبت كبلاء وعقوبة عاجلة.
ترى لماذا لم تقل الآية(ليهلك طائفة) بل قالت (ليقطع طرفاً).
الجواب بينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هلاك عدد من الكفار، أما مادة الإفتراق فإن هلاك الطائفة يصدق على الطرف وغير الطرف، فقد يكون أفرادها متفرقين في الأمصار والقرى، وحتى في الجيش فإن هلاك الطائفة يحتمل إصابة جماعة في المقدمة والقلب والمؤخرة وغيرها وقد لا يؤثر فقد أفراد من الجيش في قوته .
أما قطع الطرف فإنه يعني هدم صرح من الكفر وتعطيل لجبهة وجهة من جيش الكفار، وصيرورتهم منكشفين أمام المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، فإن كان المؤمنون قلة في عددهم، ويظهر النقص في أسلحتهم ومؤونهم فإن الكفار أبتليوا بقطع طرف منهم وإصابتهم بالوهن والفزع والخوف والخزي بالإنكشاف الذي يتفرع قهراً وإنطباقاً عن قطع طرفهم، وهو من رشحات نزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وهذا المعنى للطرف لا يمنع من وقوع القتلى والهلاك في رؤوس الكفار وأطراف الجيش الأخرى , لإن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
ابتدأت آية البحث بلام التعليل ، وهي لام مكسورة تتضمن معنى سبب حدوث الفعل مما يدل على أنها حلقة وصل بين الجملة التي قبلها والجملة لتي بعدها ، وتحول حركة الفعل المضارع من الرفع إلى النصب ، بأن مضمرة جوازاً بعد اللام التي هي بمعنى (كي) ، ومن إعجاز نظم القرآن مجئ سورة تبدأ بلام التعليل هي سورة قريش ، قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
بحث كلامي
لقد نفخ الله عز وجل من روحه في الإنسان، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، لإرادة خلق آدم عليه السلام ليمتاز الإنسان بصفات تؤهله للإرتقاء في سلم الكمالات, والنفس مخلوقة في جوهرها على الفطرة والإيمان, والنفرة من الجحود.
وتفضل الله عز وجل وجعلها قابلة لإكتساب المعارف وأنوار الهداية والصلاح، ولكن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , والنفس فيها مهددة بالشرور والكدورات الظلمانية، واللهث وراء زينة الدنيا، وما فيها من أسباب الغرور والقوة الوهمية المستجيبة لإغواء الشيطان، لذا جاءت الآيات بالإستعاذة من الشيطان وشروره، لتكون وسيلة لسلامة الإنسان من التعب والنكد والظلم والبغضاء.
وتحتمل الإستعاذة في صدورها وجوهاً:
الأول: إنها خاصة بالمسلمين.
الثاني: يحتاج الكفار الإستعاذة.
الثالث: إتيان الناس مطلقاً الإستعاذة، وقد تقدم بيان منافع الإستعاذة( ).
وهل هي واجب، أو مستحب، والثاني قال به المشهور، وإستدل على الوجوب بقوله تعالى[فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ]( )، بأن ذكر الحكم عقب الوصف وترتيبه عليه مشعر بكون الوصف علة للحكم، وإذا كانت العبادات لا تقبل من الكافر، لإشتراط قصة القربة فيها، فهل تقبل الإستعاذة منه، الجواب إن الله عز وجل واسع لطيف وأن الإستعاذة لجوء إلى الله عز وجل من أسباب الكفر.
وجاءت هذه الآية الكريمة للحث على الفرار من منازل الكفر وبيان ما فيها من الأذى على النفس والمال، وأن الشأن والجاه في تلك المنازل ليس مستقراً ولا دائماً بل هو أمر زائل جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتهدمها من القواعد، وتبني صرحاً من العز والشأن للذين يؤمنون بنزول القرآن من عند الله.
وتبين الآية أن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم في إختيار الإيمان أو الكفر، بل أنه سبحانه يقرب الناس من مقامات الإيمان ويرغبهم فيه، ويدفعهم عن منازل الكفر، ويجعل نفوسهم تنفر منه، ولا ينحصر موضوعها بالطرف من الكفار بل هي رسول من عند الله للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والقريب والبعيد في مسكنه وبلده.
وتدل الآية على مشيئة الله في نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار الإسلام، ومنع الناس من محاربته، وجاءت لتخبر بأن متعلق هذا المنع على مراتب متعددة، منها:
الأول: أقطاب الكفر الذين يبطش بهم الله.
الثاني: من يفقد رئيسه وقائده في الكفر.
الثالث: الذي تنقطع مؤونته بسبب ما يلحق أموال الكفار من التلف.
الرابع: الذي يقربه الله بلطفه إلى منازل الإيمان.
الخامس: المنع العام الذي يصيب الكفار على نحو العموم المجموعي إلى جانب الإفرادي إذ يبتلى الكفار بما يشغلهم عن التعدي على المسلمين، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وجاءت الآية الكريمة بالوجوه أعلاه كلها، وهي مدرسة في الموعظة والإنذار ودعوة للمسلمين لمواصلة الدعوة إلى الإسلام، وعدم الخشية من أرباب الكفر والضلالة الذين لو إكتفوا بالتهديد والوعيد من دخول الناس الإسلام لخافهم الناس، فكيف وقد قاموا بتعذيب الصحابة الأوائل وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه أيام الدعوة الأولى في مكة، ثم هجموا بالجيوش العظيمة نحو المدينة المنورة , لتأتي هذه الآية سلاحاً هجومياً يطاردهم في عقر دارهم، ويكون إخباراً متقدماً زماناً عن البلاء الذي يصيبهم بسبب:
الأول: إختيارهم الكفر والجحود.
الثاني: إصرارهم على الكفر، أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: محاربة المسلمين، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة.
الرابع: صد الناس عن دخول الإسلام.
وإن قيل توارث الكفار مفاهيم الشرك والضلالة، فلماذا حينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم القطع والهلاك , والجواب من وجوه:
الأول: لقد أراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنزيه الأرض من الكفر والضلالة.
الثاني: من لطف الله بالناس منع الأسباب التي تحول دون دخولهم الإسلام، وأقطاب الكفر يمنعون ويكرهون الناس على عدم دخوله.
الثالث: إقامة الحجة على الناس بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله سبحانه، وكأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نهاية الإمهال الإلهي للكفار، وأن الجحود بلغ مرتبة لا يمكن تجاوزها لمنافاتها لأصل وغايات خلق الإنسان وعم وإصرار الكفار على قتال المؤمنين .
وإذ يقطع الله عدداً من أقطاب الكفر ليكونوا عبرة لعموم الكفار، فإن المؤمنين منقطعون إلى الله، ولا يرون في الوجود غيره ببديع خلقه وعظيم قدرته ، يعلمون أنه سبحانه يكفيهم عدوهم، ويرجع كيده إلى نحره، فجاءت هذه الآية بشارة الكفاية، وحاجباً من الفتنة والفرقة والخلاف الذي قد يترشح من تخويف وبطش الكفار.
لقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وجاءت كلماته البالغة 77430 شاملة لجميع الوقائع، وفيها غنى للمسلمين، وبلغة لمنازل النعيم في الآخرة، وتحيط كلمات وآيات القرآن المحدودة باللامحدود من الحوادث والتفاصيل، وهو المائدة السماوية والذخيرة الرسالية التي ينهل منها الناس، ولا يزيد القرآن أخذ الناس منه إلا مشارق وتجليات جديدة ومستحدثة، وهو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في الصحيحين (بعثت بجوامع الكلم) ( ).
لقد أقرّ المسلمون بالفقر إلى رحمة الله، وهبوا لميادين القتال في سبيله تعالى طمعاً بالفوز بأحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ] ( )، وأدرك المسلمون حاجتهم، والحاجة ملازمة لعالم الإمكان فأنعم عليهم رشحة من غناه، وضياء من فيوضاته، فكان القرآن هبة السماء إلى الأرض، والكتاب الذي تصاحبه وتلازمه البركات والفضل وأسباب الرحمة والعفو والمغفرة، فتنزل الآية من القرآن، وهي تتكون من بضع كلمات لتكون وثيقة كلامية وعقائدية وإماماً للمسلمين في جميع الميادين، ونبراساً لهم في مشتبهات الأمور، وأملاً ورجاء في ساعات الشدة والفزع.
لقد جاءت الكتب السابقة بالقصص والأخبار على نحو التفصيل، وجاء القرآن بأجزل عبارة وأبهى سبك، والجمل القصيرة والمتوسطة التي تكون كل واحدة منها أصلاً تقتبس منه العلوم، وقانوناً تتفرع عنه القواعد والمسائل.
لقد جعل الله عز وجل معاني القرآن لا تنفذ , سواء بلحاظ المنطوق أو المفهوم، ومجالسته لا تمل , وتلاوته مناسبة للتدبر والتحقيق , وعن الإمام علي عليه السلام (وما جالس هذا القرآن احد الا قام عنه بزيادة او نقصان زيادة في هدى ونقصان عن عمى”، وروي مثله عن الحسن)( ).
إن نزول القرآن بجوامع الكلم من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، وشاهد على تشريف وإكرام المسلمين لأنهم يرجعون إلى آيات القرآن ولا يصدرون إلا عنه، وهذا الصدور شاهد على إرتقائهم في منازل الفقاهة والتقوى , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويأتي جزء آية من القرآن ليكون تأسيساً لمدرسة كلامية أو أخلاقية كما في قوله تعالى[وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( )، الذي يتضمن أسمى معاني العفو والتسامح، وتنمية ملكة الأخلاق الحميدة والرفق، والدعوة إلى الإسلام، وقهر النفس الغضبية والشهوية.
وإبتدأت الآية محل البحث بقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] لبيان أن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل ، وأنه سبحانه لم يخلق الخلائق ويتركها وشأنها، بل أنه سبحانه يتعاهدها بالحفظ والسلامة وإختص بني آدم في العبادة والصلاح، وإزاحة الفساد عن منازل القهر والغلبة، وهو من عمومات قوله تعالى[ وما ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، فالسعي لقتل النبي، والتعدي على حرمات الإسلام من ظلم النفس في النشأتين .
لقد حارب الكفار رسولهم الذي بعثه الله عز وجل إليهم، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت للمسلمين وحدهم ولا لشعب أو أمة أو طائفة دون غيرها , قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( )، فجحدوا بالنعمة، وحاربوا النبوة فجاء قطع طرف منهم لتصديهم لنعمة النبوة العامة التي جاءت لهم ولعموم الناس، وفي التبعيض في القطع نعمة أخرى، لأن الطرف جزء من الشيء.
وتدل الآية على بقاء الوسط والأطراف الأخرى من الكفار ليتعظوا ويعتبروا ومن يزحف منهم لمنازل الطرف والمواجهة مع المسلمين يستقبله القطع من عند الله عز وجل بواسطة الملائكة والمؤمنين وما يسخره الله من الأسباب ، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
وهو من أسرار مجيء الآية بصيغة الفعل المضارع(ليقطع) فلم تقل الآية (فقطع طرفاً) وتفيد لغة المضارع الإستمرار والتجديد.
وثبت في العلوم العقلية أن تكرار الفعل يؤدي إلى حصول الملكات، وقد جاء القطع والكبت تكراراً سلبياً لما يحصل عند الكفار من الخيبة، وما يلحقهم من الضرر بسبب عدائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وقتالهم للمسلمين.
وجاءت هذه الآية لتوكيده والتنبيه إليه , وطرد الغفلة عن النفوس، وإنقاذ الناس من براثن الكفر .
قانون التبعيض في قطع الكفار
من إعجاز الآية إجتماع لغة الوعيد والتبعيض فيها، فمع أنها إنذار ووعيد للكفار , وإخبار عن بلاء عظيم يحل بساحتهم , وتحذير لهم من الإستمرار في التعدي على المسلمين، وإرادة وقف إعدادهم الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيه من المخاطر على شخصه الكريم وعلى أهل البيت والصحابة، فإن الآية جاءت بصيغة التبعيض في نزول البلاء والقطع، فلم تقل الآية (ليقطع الله الذين كفروا) بل ذكرت أن القطع يأتي على طرف منهم، وأفراد من رؤوسهم، وفيه وجوه:
الأول: إنه شاهد صدق على نزول القرآن من عند الله عز وجل من جهات:
الأولى: إخبار الآية عن الواقع من غير تهويل وزيادة.
الثانية: رأفة الله عز وجل بالناس عموماً.
الثالث: بقاء باب التوبة مفتوحاً للكفار، إذ تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على إحتمال توبة بعض أقطاب الكفر وسلامتهم من القطع بالإسلام، وهو من عمومات (الإسلام يجّب ما قبله) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء يتصارع فيها الخير والشر، ولكل منهما مفاهيمه المتضادة مع الآخر ورجاله ورواده، وإقتران هذا الإبتلاء بهبوط آدم إلى الأرض.
ولم يهبط مع آدم من الجنة إلا حواء وإبليس, قال تعالى[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] ( ).
ومن بديع خلق الإنسان وسلامة فطرته ذكراً وأنثى أن حواء كان مع آدم على الإيمان والهدى، وأن آدم كان نبياً، ولم يكن إبتداء العداوة بينهم في الأرض، بل كان في الجنة عندما أبى إبليس السجود لآدم، ثم أنزله وحواء بعد الأكل من الشجرة المنهي عنها، ولأن آدم وحواء يبغضان الذين يستكبر عن طاعة الله، وإنحصر الشر في الأرض بإبليس يؤمئذ، وفيه فخر للإنسان، وشاهد على أهليته للخلافة في الأرض , وتنزه آدم وحواء عن المعصية , ولقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
وحاول إبليس تسخير السباع الموجودة في الأرض قبل آدم لتأكله وحواء، ولكن الله عز وجل وقاهما وحفظهما منها، وورد عن الإمام علي عليه السلام (سئل مما خلق الله عزوجل الكلب ؟ قال: خلقه من بزاق إبليس قيل: وكيف ذلك يارسول الله ؟ قال: لما أهبط الله عزوجل آدم وحوا إلى الارض أهبطهما كالفرخين المرتعشين فعدا إبليس الملعون إلى السباع وكانوا قبل آدم في الارض فقال لهم: إطيرين قد وقعا من السماء لم ير الراؤن أعظم منهما تعالوا فكلوهما. فتعاوت السباع معه وجعل إبليس يحثهم ويصيح ويعدهم بقرب المسافة فوقع من فيه من عجلة كلامه بزاق، فخلق الله عزوجل من ذلك البزاق كلبين أحدهما ذكر والآخر انثى، فقاما حول آدم وحواء، الكلبة بجدة، والكلب بالهند فلم يتركوا السباع أن يقربوهما، ومن ذلك
اليوم الكلب عدو السبع والسبع عدو الكلب( ).
وعجز إبليس عن إغواء آدم وحواء، ولم يستطع إثارة الفتنة بينهما، فلم يقدر على الوسوسة لآدم بأن حواء هي السبب في خروجه من الجنة، وجاءت آيات القرآن واقية من هذه الوسوسة بنسبة الخروج إلى إبليس قال تعالى[فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ] ( ) بتقريب أن مضامين هذه الآية كان يعلمها آدم ويدرك سبب الخروج بالإضافة إلى مواساة الملائكة له، وعن الإمام الصادق عليه السلام إن آدم كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الأرض إستوحش الملك، وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعداً في قفرة من الأرض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة، قال الإمام الصادق يروون أنه أسمع عامة الخلق .
فقال له الملك يا آدم ما أراك إلا وقد عصيت ربك وحملت على نفسك ما لا تطيق أتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه؟ قال: لا، قال: أنه جعلك في الأرض خليفة، قلنا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فهو خلقك أن تكون في الأرض أيستقيم أن تكون في السماء، قال الإمام الصادق: والله عزى بها آدم) ( ).
وإتجه إبليس إلى إغواء ذرية آدم، إبتداء من قابيل بن آدم، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء لمنعه من إغواء بني آدم، وجذبهم إلى الإيمان لتكون نفرتهم من الشر والفواحش من مصاديق تقوى الله، إلى أن بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل، وقد ساد الكفر في الجزيرة وعبدت الأصنام في مكة، وعلقت في البيت الحرام، ولم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقوة والسلاح، بل نزلت معه المعجزات من السماء، وفيه مسائل:
الأولى: كانت نبوته صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للتمايز والتفاضل بين المعجزة والسيف، وتجلت في زحف الجيوش العظيمة من قريش وغطفان وغيرهما على المسلمين في المدينة، وهم ضعفاء وقلة في عددهم وعدتهم.
فان قلت إن الضعف والقلة خاصان بمعركة بدر قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، والجواب أنه أعم , وإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره , لقد زحفت قريش بجيوش عظيمة في معركة أحد والخندق تفوق أضعاف عدد وعدة المسلمين، نعم لقد كان النصر في بدر وكثرة قتل وأسرى الكفار وأخذ الفدية منهم والمدد الذي نزل للمسلمين يومئذ رفعاً للضعف، ودفعاً لحال الخوف والفزع عند المسلمين.
الثانية: لقد إنتصر الإسلام بالمعجزة والمدد الإلهي , وقيل إنه إنتصر بالسيف، ولكن الوقائع تدل على خلافه، إذ يزحف الكفار في كل مرة بأكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين عدداً وقوة، ويرجعون خائبين منكسرين، وجاءت الآيات السابقة لتوثيق نصر المسلمين بالمدد الملكوتي , قال تعالى[إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الثالثة: يزول أثر السيف بزوال سلطانه، وقهره، أما المعجزة فهي باقية في الأرض، وبقاؤها على وجهين:
الأول: بقاء المعجزة الحسية بالذكر والأثر والإعتبار وهداية الناس بها.
الثاني: تجدد وبقاء المعجزة العقلية بذاتها.
والقرآن معجزة عقلية فهو شاهد للناس وعليهم في كل زمان، ووسيلة سماوية لهداية الناس، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً] ( )، لتكون الهداية عن معرفة وعلم وقيام للحجة، وفيه رحمة للناس جميعاً.
وتجمع الآية محل البحث الصفات الثلاثة أعلاه للقرآن، ليكون فيه برهان بأن الآية الواحدة تجمع صفات متعددة للقرآن وهو من مصاديق التحدي في قوله تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ] ( ).
فمن التبيان في الآية أمور:
الأول: الإخبار عن أمور مستقبلية ووقائع تكون مقدمة لنصر المسلمين.
الثاني: إنذار الكفار بمصائب تنزل بساحتهم تؤكد سوء عاقبة الكفر والضلالة.
الثالث: البشارة بضعف ووهن الكفار بهلاك عدد من رؤسائهم.
ومن الهدى في الآية أمور:
الأول: تدل الآية على أن القوة مطلقاً لله عز وجل .
الثاني: وقاية المسلمين من الفزع والخوف من الكفار.
الثالث: دعوة المسلمين للجوء إلى الله عز وجل , والإجتهاد في عبادته.
الرابع: في الآية ندب إلى الجهاد، وبشارة بدحر الكفار، إذ بدأت هزيمتهم بجند من السماء، وآية تتضمن الإخبار عن قطع دابرهم.
الخامس: بقاء الآية ومضامينها القدسية سلاحاً بيد المسلمين إلى يوم القيامة، وإنذاراً متجدداً للكفار.
السادس: وتدعو الآية الكفار للإعتبار والإتعاظ من هلاك بعض رؤسائهم.
السابع: زيادة إيمان المسلمين بنزول الآية، ووقوع مصاديقها في الخارج، وتوجههم بالشكر لله عز وجل على نعمة البطش بعدوهم.
الثامن: الآية من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
أما الرحمة فإن الآية رحمة بالناس جميعاً من وجوه:
الأول: إنها رحمة بالمسلمين من جهات:
الأولى: ما تتضمنه الآية من الإخبار عن الغيب.
الثانية: تطرد الآية عن المسلمين الفزع والخوف من العدو وجعجعة سلاحه.
الثالثة: تنبئ الآية عن هلاك أعداء الإسلام.
الرابعة: الآية دعوة للدعاء على بعض رؤساء الكفر على نحو التعيين ممن يتمادون في التعدي على المسلمين، ويسعون جاهدين لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصد الناس عن الإسلام.
الخامسة: تحذير المسلمين من الركون للكفار[وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا] ( ).
الثاني: الآية رحمة بالكفار أنفسهم من جهات:
الأولى: في الآية إخبار وكشف عما ينتظرهم من الأذى والإنتقام الإلهي.
الثانية: هلاك ووهن رؤساء الكفار رحمة بعامتهم، وتخفيف عنهم، ومناسبة لتدبرهم في آيات ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: الآية إنذار وتحذير للكفار جميعاً، والإنذار رحمة لما فيه من الدعوة للكف عن المنذر منه، والذي جاء في الآية مركباً من وجوه:
الأول: البقاء على الكفر.
الثاني: تولي الرياسة في شؤون الكفر والضلالة.
الثالث: مواجهة المسلمين ولقاؤهم في القتال.
الرابعة: دعوة الكفار للتوبة والإنابة.
الخامسة: حث الكفار على التدبر في آيات القرآن والإنصات لها، وإستحضارها عند حصول المصاديق الخارجية التي تثبت صدقها، وعند تلاوة الآية.
فعندما يهلك بعض رؤساء الكفر يتذكر الناس هذه الآية الكريمة وما فيها من الوعيد، وعندما يسمعون هذه الآية يتذكرون هلاك بعض رؤساء الكفر بآية ومعجزة من عند الله عز وجل.
الثالث: الآية محل البحث رحمة بالناس من جهات:
الأولى: في الآية بيان لعظيم قدرة الله عز وجل , وسعة سلطانه.
الثانية: تدل الآية على نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بأن يجعلهم الله قدوة وأسوة للناس في مسالك الهداية.
الثالثة: زجر وتحذير الناس من إتباع أقطاب الكفر الذين يعتدون على المسلمين.
الرابعة: تخويف الناس من الإبتلاء بالقطع والهلاك، إذ أن الآية تبين السبب والمسبب، وتخبر عن الملازمة بين محاربة الإسلام والمسلمين وبين القطع وإستئصال الرؤوس، وقد يكون الفرد والجماعة من الكفار ولكنهم يتجنبون قتال المسلمين خشية البطش الإلهي.
الخامسة: منع الناس من إعانة الكفار وإعارتهم السلاح، وإقراضهم الأموال لقتال المسلمين بل مطلقاً حتى لغير القتال، لأن هذه الآية تخبر عن قطعهم وإستئصالهم، مما يبعث الحذر والحيطة عند الناس حرصاً على سلامتهم وصيانة أموالهم.
السادسة : دعوة الناس للإعتبار مما يصيب أعداء الإسلام من القطع والهلاك .
بحث بلاغي
يأتي الكلام أحياناً بلغة التصريح والوضوح، وأحياناً بالكناية والإشارة وأخرى بالتعريض، وقيل إن الكناية والتعريض أبلغ من التصريح وليس من دليل عليه، ولكن بينهما عموم وخصوص من وجه من جهة الآثار المترتبة عليهما إذ يلتقيان في وجوه ويفترقان في وجوه، وهناك حالات يكون التصريح أكثر نفعاً وأثراً، وحالات تكون فيها الكناية والتعريض هي الأرجح من وجوه :
الأول: إنها وسيلة للسلامة والأمن .
الثاني: هي حرز من الأذى .
الثالث: طرد الضرر العرضي الذي يترشح من التصريح كما لو كان يتضمن الإهانة والفضح وأسباب الفتنة والغيبة والنميمة ونحوها من الأخلاق المذمومة.
الرابع: التقية والوقاية .
الخامس: إقامة الحجة بالدليل كما جاء في التنزيل حكاية عن إبراهيم[بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا] ( )، لنسبة كسر الأصنام إلى كبيرهم، وكأنه غضب كيف تعبد الأصنام الصغار معه، وعجز تلك الإلهة عن الذب عن نفسها، ومنع زوالها.
وجاء القرآن بكل هذه الصيغ بحسب الحال ومن الإعجاز مناسبة لغة القرآن لكل الأزمنة وقد يجتمع التصريح والكناية، أو الإيضاح والإبهام في موضوع واحد في القرآن ليكون من عمومات القرآن يفسر بعضه بعضاً، ولبعث الشوق في النفوس للسعي للعلم بتمام الموضوع والحكمة.
ويتصف القرآن بأن هذا التفسير لا يمنع من إستقلال كل من التصريح والكناية بمعنى وتأويل مستقل بذاته، فتفسير القرآن بعضه لبعض وجه من وجوه التفسير والتأويل، وليس هو كل التفسير، وجاءت هذه الآية بالبيان والوضوح في حكم وعقوبة الكفار الذين يلون المسلمين ويدبرون المكائد للإيقاع بهم.
ترى لماذا لم تأت الآية بلغة التلطف والإحتجاج وإجتناب الإهانة والتوبيخ كما في قوله تعالى[وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي]( )، وفيه حث للكفار على عبادة الله، وجعلهم يتساءلون فيما بينهم إن الله عز وجل هو الذي خلقنا فلماذا لا نعبده.
والجواب أن الآية محل البحث جاءت في وقت يقوم رؤساء الكفر بتجهيز الجيوش ضد المسلمين، ويطوفون في القبائل , ويجمعون الرجال ويمدونهم بالمال والجاه من أجل الخروج لقتال المسلمين، ويفترون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجعل الناس يعرضون عن سماع آيات القرآن ويمتنعون عن تبادل الحديث بمعجزاته، وصار المسلمون بسبب سعي هؤلاء الرؤساء المذموم في خطر شديد , فجاء المدد من عند الله عز وجل بهذه الآية الكريمة بالتصريح بنزول العذاب العاجل بأقطاب الكفر الذين يجهزون الجيوش على المسلمين، لتكون الآية وآثارها المباركة ومنافعها على وجوه منها :
الأول : الآية إنذار للكفار .
الثاني : في الآية حجة على الكفار .
الثالث : الآية واقية للمسلمين مطلقاً , والمجاهدين منهم أيام التنزيل وما بعدها إلى يوم الدين.
من وجوه البديع حسن النسق، وهو أن يأتي المتكلم بكلمات يظهر بينها التآلف والإنسجام والتلاحم، وتصلح كل جملة أن يكون لها معنى مستقل، من غير أن يتعارض مع المعنى العام المستفاد من إجتماعها موضوعاً وحكماً، ويأتي هذا الضرب من البديع في الآية الواحدة , ويأتي في الآيات المتجاورات مما يدل على حسن نظم القرآن، وأن ترتيبه توقيفي من عند الله عز وجل، وفيه دعوة لإستقراء وإستنباط العلوم المتعددة منه، ويتجلى حسن النسق في الجمع بين هذه الآية والآية السابقة، وكلاهما نتيجة وثمرة لفضل الله، وكل فرد مما فيهما هو أيضاً من فضل الله مما يدل على أنه توليدي يترشح عن كل فضل منه أبواب كثيرة من الفيض الفضل، وهو من عمومات قوله تعالى[وان تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
فجاءت الآية السابقة ببيان منافع المدد الملكوتي، والغايات منه وأن الله عز وجل غني غير محتاج للنصر ونزول الملائكة كي ينتصر المسلمون ولكنه جاء رحمة بالمسلمين وفضلاً منه تعالى عليهم، ليخرجوا سالمين من المعركة, وتضمنت الآية أمرين:
الأول: البشارة للمسلمين بأن المدد الملكوتي ليس بعيداً عنهم، بل هو أقرب من الكفار إليهم , متى ما رجع الكفار إلى المعركة، ولو لم يكن ثمة وقت معتد به بين نزول الآية وعودتهم ، والله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، فأراد سبحانه أن تأتي البشارة دفعة للمسلمين في أشد الأحوال وفي ميدان المعركة.
الثاني: إمتلاء قلوب المسلمين بالسكينة، كي لا ينقطعوا عن الصلاة حتى في ميدان المعركة، ولكيلا يخافوا من كثرة العدو وعدته وخيله وحداثة أسلحته, ولا يخشوا من قلة عددهم وعدتهم ، فالقلة مع المدد الملكوتي كثرة عظيمة لم تشهدها الأرض، وتأريخ الحروب والمعارك، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )،لإنفرادهم بالكثرة المباركة , التي يلازمها النصر على نحو القطع واليقين .
ثم أختتمت الآية السابقة بقانون من الإرادة التكوينية وهو[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] لتشع أنواره على الآية السابقة إذ أنه جزء منه وخاتمتها، وعلى مضامين الآية محل البحث التي جاءت معطوفة في موضوعها على ما قبلها بلحاظ صيغة التعليل التي بدأت بها بالحرف اللام في(ليقطع)، وكما جاءت الآية السابقة بأمرين ونعمتين للمسلمين مترشحتين عن المدد الملكوتي، جاءت الآية محل البحث بأمرين عقوبة وزجراً للكفار وهما:
الأول: قطع طرف من الكفار، وهلاك بعض رؤسائهم وأركانهم، وما فيه الوهن والضعف للكفار، والقصور عن مواصلة التعدي على المسلمين.
الثاني: إلحاق الخزي والخيبة بالكفار ليخرجوا من ميادين المعركة دون أن ينالوا من المسلمين، ولم يحققوا ما كانوا يأملون، وفيه فضح لهم أمام القبائل وأهل مكة، ومن الآيات أن النعمتين اللتين ذكرتهما الآية السابقة جاءتا على نحو الجمع والتعدد بقوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ] أما هذه الآية وهي خاصة بتبكيت وزجر الكفار فجاءت ببيان رحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا، وأن قطع الطرف من الكفارأو خزيهم إنما بالتوبة والإنابة تحت لواء الإسلام والنطق بالشهادتين.
قانون الآية مدد
تبين هذه الآيات فضل الله عز وجل على المسلمين، وأنه من اللامحدود في موضوعه وأفراده ومضامينه القدسية، ومنه المدد الذي ينعم به عليهم، وهو على أقسام:
الأول: المدد الحسي، الذي يدرك بالحواس والوجدان، كما في تهيئة مقدمات القتال، وجعل المسلمين قادرين على الخروج لميدان المعركة بالأسباب الظاهرة، أو من غير أسباب ظاهرة.
الثاني: المدد العقلي الذي يدركه ويحكم بها لذاته بتصور طرفيه من غير وسط وسبب خارجي وهو من البديهيات، أو تلك التي لا يتوقف تعقلها على مبدأ غيرها , للتسالم على نصرة الله للمؤمنين قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
الثالث: المدد العقلي الحسي، وهو الجامع للأمرين.
ومن الإعجاز في المدد الإلهي أنه جامع لهذه الأقسام ومن الصعب الفصل بينها لتداخلها، وهذا التداخل زيادة في النفع والإنتفاع منها وهو من التعدد في الفضل الإلهي وكثرة أفراده ومصاديقه، ومن أبهى وأسمى هذه المصاديق المدد الملكوتي الذي تفضل الله عز وجل به في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها , وما تترشح عنه من الفوائد التوليدية المستمرة إلى يوم القيامة.
ومن الآيات في المدد الإلهي، تفرع المدد عن المدد بآيات باهرات، إذ تأتي الفوائد والآثار على نحو القضية الشخصية والمحصورة والجزئية، أما المدد الإلهي فإن آثاره من الكلي الطبيعي والكلية الموجبة، وقد تكون الآثار والمنافع اللاحقة أكثر منها في أوان وساعة المدد، من غير أن يكون الأثر والمدد في حينه قليلاً أو ضئيلاً، ولكنه من الفضل الإلهي الذي يتصف بالتجدد والتكاثر والزيادة المطردة.
وجاء في التنزيل[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ) لبيان عظيم الثواب من عند الله، وكذا بالنسبة للمدد فإنه يأتي فضلاً ورحمة من عند الله ثم تتضاعف منافعه وتتسع بركاته ليكون حجة بذاته وآثاره، ومنه هذه الآية التي هي مدد سماوي للمسلمين يتصف بأنه حسي وسماوي إذ يدرك المسلمون وغيرهم مصاديق هذه الآية , التي هي برهان عقلي ووجداني وحسي لنصرة الله لهم بالمدد من وجوه :
الأول : ما تدل عليه الآية فيما يصيب الكفار من النكد والعناء , وهلاك بعض الرؤساء.
الثاني : ذات الآية ونزولها من عند الله مدد، لأنها قانون ثابت في الإرادة التكوينية، وكنز من كنوز السماء أنزلها الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا غرابة أن يأتي بها ملك من كبار الملائكة ويوحيها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأن يصيب النبي الجهد ويتصبب عرقاً عند تلقيها.
فهذه الآية شمس عقائدية تبقى مشرقة من حين نزولها إلى يوم القيامة، فهي لا تعرف المغيب, وبعدما قال إبراهيم عليه السلام[لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ]( )، أطلت آيات القرآن على الأرض لتدعو إلى عبادة الواحد القهار، وتبعث على العمل بأحكامها وسننها وهي حرب على الكفر والضلالة.
الثالث : في الآية توكيد بأن الله عز وجل ولي وناصر المؤمنين , قال تعالى[وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا] ( )، ومن عظيم قدرة الله وبديع صنعه أن تأتي الولاية والنصرة بآية من السماء.
الرابع : حضور القرآن في ميدان المعركة بما يبعثه من معاني الصبر والتقوى في نفوس المسلمين.
الخامس : الآية من علوم الغيب والإخبار عما سيصيب الكفار من القطع وأسباب الضعف.
السادس : لقد بدأ الإسلام بعدد قليل من الصحابة وسط قوم مشركين يتصفون بالقوة والبطش، وليس من فئة تنصرهم وتؤوي وتمد المؤمنين بينما تستطيع قريش حشد القبائل، وتوظيف الأموال , وإحراز إعانة شطر من يهود المدينة , ويتعرض المؤمنون لإنخزال رأس النفاق أبي بن عبد الله بن سلول بنحو ثلاثمائة من جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد، فأمر الله عز وجل المؤمنين بالثبات في القتال[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا] ( ) وتستقرأ من ذات الأمر للمسلمين بالثبات وحال الضعف التي كان فيها المسلمون بشارة الأمن والسلامة من كيد وبطش الكفار.
والآية محل البحث من وجوه الأمن من الكفار بأن يستأصل الله عدداً من كبرائهم وصناديدهم , وهو الذي يلحق الذل والخزي بهم.
السابع : تبعث الآية الكريمة المسلمين إلى التطلع لفضل الله في هلاك الكفار، ولا ينحصر هذا التطلع بأوان وميدان المعركة، فهو ملازم للمسلمين على نحو القضية الشخصية والعموم المجموعي، فيقرأ المسلمون هذه الآية في صلاتهم وخارج الصلاة بقصد القرآنية مع الرجاء لإنجاز الله عز وجل وعده فيها، كما أنهم يجددون التلاوة بلغة الشكر والحمد لله عز وجل حين حصول مصاديقها الخارجية، وهلاك بعض أقطاب الكفار، ورمي جيوش الكفر والضلالة بأسباب الضعف والوهن والخزي والإرباك , قال تعالى [لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ] ( ).
ويتصف المدد في هذه الآية بأمور:
الأول:صيغة الإنذار والوعيد للكفار.
الثاني: ملازمة هذا الإنذار للبشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة.
الثالث: فيه توكيد للطمأنينة التي تتغشى المسلمين والتي ذكرتها الآية السابقة.
الرابع: الذل والكبت للكفار في الدنيا والآخرة، إذ يأتي القطع لطرف منهم ، ولكن الضرر والأذى يصيبهم جميعاً.
الخامس: هذه الآية دعوة للناس لدخول الإسلام، وإزاحة لأسباب المنع والإعراض التي يجعلها الكفار في طرق الهداية، إذ يجتمع عند الكفار أمور:
الأول: الجهالة وفساد العقيدة.
الثاني: الإصرار على العناد والقتال بالباطل.
الثالث: الإعراض عن الإنذارات، ومنها ما ورد في هذه الآية الكريمة.
الرابع: نزول البلاء بالكفار، وصيرورتهم عاجزين عن منع الناس من دخول الناس.
وهذه الآية مدد للمسلمين ,ودعوة للناس لدخول الإسلام، وتبعث النفرة في النفوس من الكفر والضلالة , لأنها ومصاديقها الخارجية الظاهرة للحواس والمدركة بالوجدان حجة وبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصر الله عز وجل له ولمن تبعه من المؤمنين , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
قانون للمدد فروع
المدد هو الزيادة والكثرة التي تأثير لشيء من ذات الجنس(وحكى اللحياني: أمد الأمير جنده بالخيل وأعانهم، وأمدهم بمال كثير وأغاثهم)( ) (وفي حديث أُويس كان عمر رضي الله عنه إِذا أَتَى أَمْدادُ أَهل اليمن سأَلهم أَفيكم أُوَيْسُ بن عامر)( ) (وفي حديث عليّ كرم الله وجهه قائل كلمةِ الزور والذي يَمُدُّ بحبلها في الإِثم سواءٌ مَثَّل قائلها بالمائِح الذي يملأُ الدلو في أَسفل البئر وحاكِيَها بالماتِحِ الذي يجذب الحبل على رأْس البئر ويَمُدُّه ولهذا يقال الروايةُ أَحد الكاذِبَيْنِ)( ) .
وفيه زجر عن الأخلاق المذمومة , ومنع من إشاعة الفاحشة بنقل كلمة السوء والغيبة والقذف إذ يبوء ناقل السوء بإثمه وذنبه, وتقتضي الوظيفة الشرعية للمستمع الرد والتنبيه , إلا مع خشية الضرر.
والمدد للعساكر التي تلحق بالغازي في سبيل الله.
لقد جاءت الآيات السابقة بالنص الصريح عن نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين في ميادين القتال، قال تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، وفيه آية بأن المسلمين إتصفوا بخصوصية من بين الموحدين والأمم السالفة من المسلمين بنزول الملائكة لنصرتهم وتترشح عنه نتائج ومنافع أكثر من أن تحصى، وتتصف هذه المنافع بأنها توليدية ومتجددة، وهي مدرسة في الفضل الإلهي على المسلمين ودعوة لهم للثبات على الإيمان، وحث لأجيالهم المتعاقبة للإقتباس والإتعاظ من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتالية وجهاد الصحابة في سبيل الله، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن يستلهم كل جيل من المسلمين الدروس من معارك الإسلام الأولى، وتفضيل المسلمين بالمدد الملكوتي وإستئصال رؤساء الكفر المواجهين لهم في القتال.
ومن الآيات أن تلك الدروس مستقلة بذاتها , وتضاف وتتداخل مع الدروس والعبر التي إقتبستها أجيال المسلمين السابقة بما فيهم الصحابة، فيكون عند المسلمين علم متجدد في باب المدد , وتأتيهم مصاديقه في كل جيل وزمان ومكان , ويدعو علماء المسلمين والباحثين إلى إحصائه وجمعه، وتحقيقه , ليشارك المسلمون الناس بالنعم الكونية والخيرات وثروات السماء والأرض , كنعمة المطر والزراعات والمعادن , وينفردوا بنعمة المدد الملكوتي من بين الأولين والآخرين.
وليكون المدد الإلهي للمسلمين توليدياً من وجوه:
الأول: تكرار نزول الملائكة مدداً للمسلمين في ميادين القتال.
الثاني: تعدد مصاديق المدد الإلهي.
الثالث: كل آية من القرآن هي مدد للمسلمين، ومنها هذه الآية.
الرابع: إنتفاع أجيال المسلمين من المدد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المسلمين.
الخامس: إتعاظ المسلمين من إنتفاع أجيالهم السابقة من المدد الإلهي مدد إضافي، وضياء ينير لهم دروب الجهاد في سبيل الله.
ويحمل لفظ(المدد) على معان ووجوه عديدة تتعلق بحال الحرب والسلم، ومن الآيات أن يأتي المدد في الحرب وميادين القتال لتكون منافعه على وجوه:
الأول: في المعركة ومقدماتها.
الثاني: نتيجة المعركة وتجلي بشارات النصر للمسلمين.
الثالث: في حال السلم وعند العودة إلى الحضر.
الرابع: سلامة وأمن المسلمين في ديارهم وأمصارهم.
الخامس: إعتبار الناس من المدد الإلهي للمسلمين، وما فيه من الدلائل والمواعظ.
السادس: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وإدراك حبل الصلة بين السماء والأرض , وهو الإيمان والتقوى ونزول الملائكة بواسطته قال تعالى[إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
وهل هو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، الجواب نعم فصحيح أن الأخبار وردت بخصوص التمسك بالقرآن والسنة إلا أن الإيمان شاهد على التمسك بهما، ليأتي المدد ثمرة له، ودعوة لتلاوة آيات القرآن، والعمل بمضامينها، والصدور عن القرآن وما فيه من البشارات والإنذارات،والأوامر والنواهي، والوعد والوعيد.
ويحتمل الإنشطار والتعدد في المدد الإلهي وجوهاً:الأول: إنشطار ذات المدد.الثاني: تفرع مدد جديد على المدد الأصل.
الثالث: تفرع مدد مستحدث عن إجتماع مصاديق من المدد، وتقدم في قانون( مدد الملائكة توليدي: وعروج الملائكة إلى السماء بعد إنتهاء المعركة، ولكن نعمة نزولهم باقية في الأرض إلى يوم القيامة وبوظيفة محصورة هي نصرة المسلمين، فكل مسلم يشكر الله عز وجل على نعمة نزول الملائكة، وينتفع من نزولها وان كان زمانها قد إنقضى) ( ).
والمدد الإلهي للمسلمين أعم من أن ينحصر بالملائكة، ومنه هذه الآية الكريمة بمضامينها وآثارها , وهي على أقسام:
الأول: منافع الآية للمسلمين.
الثاني: إخبار الآية عن الأضرار التي تلحق الكفار.
الثالث: إنتفاع الناس جميعاً من الآية الكريمة وما فيها من الإنذار والإخبار عن العذاب العاجل للكفار، وتجري هذه الأقسام متفرقة ومجتمعة ومتداخلة إلى يوم القيامة لتكون وسيلة إصلاح للناس، وتهذيب للنفوس وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة , والإخبار عن علمه المطلق , حينما خلق آدم لجعله خليفة , وإحتجوا كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء] ( ).
وتنزل الآية الكريمة فتكون مدداً وعوناً للناس جميعاً المسلم وغير المسلم، كل واحد من الناس ينهل ويتزود منها من غير أن يكون التباين بينهم سبباً للتزاحم أو التعارض في هذا النهل, فالمسلمون يفرحون بفضل الله ويزدادون إيماناً، وأما الكفار فيتلقون الآية على وجوه:
الأول: من يتعظ ويعتبر منها، وتكون سبباً لدخوله الإسلام والتوبة النصوح.
الثاني: الذي يعتزل قتال المسلمين، ويتجنب التعدي على حرمات الإسلام.
الثالث: من يأتيه العذاب والقطع الذي تذكره هذه الآية الكريمة.
ومن الآيات إتصاف فروع المدد الإلهي بالبركة، وهو من شآبيب الرحمة التي تطل على الناس مع تجدد الليل والنهار، لتكون تذكيراً بالوقائع التي صاحبت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي هذا التذكير آية في تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، ودعوة للناس جميعاً لأخذ الدروس والعبر من تلك الوقائع، ومن الآيات في خلق الإنسان وجود وجوه من الشبه بين الحوادث المتعاقبة الأمر الذي يخفف عن الناس، وييسر لهم الإهتداء إلى سبل الحق والرشاد، ويكون كشفاً للباطل، وفضحاً لأقطاب الضلالة الذين ينفقون المال , ويعدون العدة للتعدي على المسلمين.
وتكون تلاوة الآية الكريمة وإستحضار أسباب وموضوع النزول، والمصداق العملي عن النزول وفي ميدان معركة بدر وأحد والخندق سبيلاً للصلاح، وحرباً على الفساد في الأرض، وواقية للمسلمين إلى يوم الدين, فتأتي الآية القرآنية لتكون مدداً حالاً ومستديماً.
وتكون دعوة للمسلمين لإستنباط المواعظ والعبر المتجددة والمستحدثة منها، بالإضافة إلى توارث المواعظ القدسية المقتبسة منها حين نزولها، وهو مدد إضافي للمسلمين والمسلمات , وحرز لهم في ميادين الحياة المختلفة.
وليس من حصر للمدد الإلهي للأنبياء , ويأتي غالباً على نحو القضية الشخصية ، كما في إبراهيم قال تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )،وقيل لما أرادوا إحراق إبراهيم حبسوه وجمعوا لمدة شهر حطباً (حتى أن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم)( )، ولما أشعلوا النار وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً ورموه فيها(وعن ابن عباس: إنما نجا بقوله:حسبي الله ونعم الوكيل) ( )، وأطلّ نمروذ من الصرح على إبراهيم في النار فإذا هو في روضة ومعه جليس من الملائكة، فقال:(إني مقرّب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة، وكفّ عن إبراهيم، وكان عمر إبراهيم يومئذ ست عشرة سنة، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إن الله سلب من النار قوة الإحراق والإشتعال وشدة الحر.
الثاني: وقاية إبراهيم على نحو الخصوص من النار، بحيث لو دخل فيها غيره لإحترق , وذكروا أن الطير في الجو تكاد تحترق من وهجها.
الثالث: توجه أمر الله عز وجل إلى النار بأن لا تحرق إبراهيم، ومقاليد الأمور كلها بيد الله، والخلائق مستجيبة له.
والصحيح هو الثاني والثالث لقيد الأمن والسلام لإبراهيم على نحو التعيين , ومن إعجاز القرآن منع الترديد والخلاف في المعجزة والبرهان القاطع إذ جاءت الآية أعلاه صريحة بأن أمر الله توجه للنار لتكون باردة بما لا يسبب تجميد إبراهيم وهلاكه، وفي الخبر لو لم يقل الله(وسلاماً) لأهلكته ببردها.
وفي واقعة نمروذ وإبراهيم مرآة واقعية، ومصداق خارجي من عالم الدنيا لإحتجاج الملائكة على جعل خليفة في الأرض , ورد الله عز وجل عليهم[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، إذ لحق نمروذ والملأ من قومه الخزي، عندما غلبهم إبراهيم في الإحتجاج، ولمّا نجا من النار بمعجزة حسية ظاهرة للجميع، جاء القرآن ليكون وثيقة سماوية لعلم الأجيال المتعاقبة بجهاد وإخلاص إبراهيم في سبيل الله وهو من عمومات دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ]( )، وكما نجّا الله عز وجل إبراهيم من النار وأهلك نمروذ وأصحابه قال تعالى[وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] ( )، فكذا نجّا الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأهلك عدوه مع مشارق من تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها:
الأولى: سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المحاولات المتكررة لقتله وإغتياله.
الثانية: هجوم كفار قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بجيوش عظيمة ورجوعهم خائبين.
الثالثة: تكرار هجوم الكفار وفي كل مرة يأتون بأعداد من الجنود أضعاف الأعداد والعدة السابقة، فلا يحصدون إلا الخزي والخيبة والعار.
الرابعة: لقد نجا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه وأهل بيته.
الخامسة: تعدد مصاديق الخزي والخيبة التي لحقت الكفار، سواء في سوح المعارك أو في حال السلم.
السادسة: جعل الله عز وجل هذه الآية حرزاً يمنع وصول الكفار إلى رسول الله.
السابعة: نال إبراهيم مرتبة الإمامة، ومع هذا كان أمة بمفرده في مواجهة بطش نمروذ وجنوده، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني أصحابه وأهل بيته، كل واحد منهم يذب عنه بنفسه وماله.
الثامنة: لقد هاجر إبراهيم عليه السلام من العراق إلى الشام إعراضاً عن الطاغوت والقوم الظالمين، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد هاجر إلى المدينة ليقاتل منها الكفار وينتصر عليهم، ويتجلى المدد للأنبياء بأبهى صيغه وكيفياته , وجاءت خاتمة الآية السابقة بقوله تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ).
التاسعة: جاءت الآية محل البحث نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهلاك بعض أقطاب الكفار.
العاشرة: لم تمر الأيام والسنون حتى دخل الكفار الذين كانوا يقاتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام.
قانون موضوع النزول (علم جديد)
من علوم القرآن ما يتعلق بالحوادث والوقائع، والمواضيع التي كانت سبباً مباشراً ومناسبة لنزول الآية الكريمة , ويسمى (أسباب النزول) وهو نوع طريق وأمارة لمعرفة الحكم المستنبط من الآية ، وليس لنزول كل آية قرآنية سبب وواقعة مخصوصة وقضية شخصية ( ).
فقد تنزل الآية لبيان موضوع وحكم أعم من زمان نزولها خصوصاً وأن القرآن نزل ليحيط بالوقائع والحوادث إلى يوم القيامة فليس من كتاب سماوي بعده، وهو الإمام الباقي بين الناس لإستنباط الحكام منه وإتخاذها واقية وآمناً في النشأتين .
وسبب نزول الآية من إعجاز القرآن، وهو شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله لما فيه من الأسرار والعلوم التي تتفرع عنها المسائل، والحكمة والعلة في تشريع الحكم، مع الإقرار بعدم تخصيص الحكم بسبب النزول، والوقوف على معنى معين ، وقد إجتهد علماء الإسلام في بيان أسباب النزول ومواضيعه والوقائع المتقدمة أو المقارنة لنزول الآية , مع التسليم بأن معنى الآية أعم , وهو من أسرار شمول أحكام الآية القرآنية للامتناهي من الوقائع والحوادث .
ويتجلى في المقام علم آخر هو (موضو ع النزول) وفيه مسائل:
الأولى: بيان الأحوال التي تحيط بالمسلمين أوان نزول الآية.
الثانية: إستقراء المنافع التي تترشح عن الآية القرآنية بلحاظ موضوع نزولها، وهذه المنافع توليدية ومتجددة في أفراد الزمان الطولية.
الثالثة: معرفة حاجة المسلمين لنزول الآية، ولا تنحصر تلك الحاجة بزمان ومكان النزول بل تستغرق أيام وأمصار المسلمين.
الرابعة: بيان فضل الله على المسلمين في نزول الآية القرآنية، فهي خير محض، ونعمة عظيمة بالذات، وبلحاظ موضوع نزولها , وتفسير الآية بلحاظ الآيات التي نزلت قبلها وبعدها وقد تكون مجاورة لها، أو غير مجاورة لها، بل جاءت في ذات السورة أو سورة أخرى , وتعرف الصلة والإتحاد الزماني بينهما بالقرائن، والأخبار ووحدة الموضوع والوقائع وأسباب النزول.
الخامسة: بين موضوع الآية وسبب نزولها عموم وخصوص مطلق، فالموضوع أعم من السبب، وليس من تباين بينهما , إذ تدخل الوقائع والحوادث بموضوع النزول وكذا الأسئلة التي كانت توجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ]( )،[ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ]( ).
ووجود موضوع للآية القرآنية، ومعرفة الأحوال التي نزلت بها أمر ينفرد به القرآن وتوثيق المسلمين لها، وهو شاهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل يدخل موضوع الآية في علم التفسير والتأويل أو لا , الجواب هو الأول، فهو حجة وعدة وسلاح، ومقدمة للبرهان، ومناسبة لإستقراء المعاني والمقاصد من الآية القرآنية، وما فيها من معاني التحدي ودرر الحكمة.
السادسة: الدراسة المقارنة بين حال المسلمين قبل نزول الآية وبعدها، وهذه الحال لا تنحصر بموضوع أو حكم مخصوص بل هي مطلقة وتشمل مواضيع ووجوهاً متعددة، وكل واحد منها مدرسة عقائدية ومرآة لإعجاز القرآن.
السابعة: دلالة الآية على سلامة القرآن من التحريف لأنها تتضمن بيان الواقع الذي نزلت فيه، وتبين معاني اللطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً.
الثامنة: الشواهد الخارجية التي تصاحب الآية القرآنية، ودلالتها على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه, وما لاقوه في جنب الله من الأذى , قال تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ).
وبالنسبة للمسألة الأولى أعلاه بخصوص الآية محل البحث فانها نزلت في معركة أحد، وبعد أن إجتهد المؤمنون وأجهدوا في القتال، وإستشهد عدد منهم، ولم ينالوا من الكفار كما نالوا منهم يوم بدر، وشاع بينهم أن المشركين سيرجعون للقتال مرة أخرى بذات اليوم.
فجاءت هذه الآية بشارة وسكينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وبعثاً للرجوع إلى المدينة، وبرزخاً دون وقوع الخلاف بخصوص الرجوع فبعد نزول الآية لم يطلب بعض الصحابة البقاء في ميدان المعركة للتصدي للكفار عند رجوعهم من فورهم، ولم ينقسموا إلى طائفتين أو أكثر إحترازاً من تدبير ومكر المشركين بتعدد مقاصدهم وغاياتهم وإحتماله كما لو تردد المسلمون بين إحتمالين:
الأول: عودة المشركين إلى ساحة المعركة.
الثاني: هجوم المشركين على المدينة.
ومن الأحوال أوان نزول الآية أن المسلمين كانوا قلة وفي ضعف ونقص في العدة والسلاح، وأكثرهم فقراء ليس عندهم مؤونة أيام معدودة، أما المشركون فانهم في حال كثرة من الرجال والسلاح، وتمتلك قريش أموال التجارة، ومنها ما وظفتها في معركة أحد.
قال ابن هشام: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبدالله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان ابن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثارا بمن أصاب منها، ففعلوا( ).
وأيهما أكثر نفعاً هذه الآية للمسلمين، أم الأموال الكثيرة التي جمعها وأنفقها المشركون وغنمها المسلمون ، الجواب هو الأول، وهو المستقرأ من الوقائع والأحداث، ونتائج المعركة.
وأما بالنسبة للمسألة الثانية أعلاه وإستقراء منافع الآية , فليس من حصر للمنافع العقائدية والأخلاقية والعسكرية والإقتصادية لهذه الآية الكريمة، فهي تأسيس لقانون سماوي في الأرض، يتضمن رمي الكفار بالضعف وتجدد حال الوهن والخور عندهم ، وفيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين، وإتقان أداء الفرائض والمواظبة عليها، وهو مناسبة كريمة لإمتثال المسلمين لما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب العبادات منه قوله :صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى( ).
الأمر الذي تجلت ثماره بتعاهد أجيال المسلمين المتعاقبة للصلاة التي صلاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كيفيتها ووقت وعدد ركعات كل فريضة منها، وإمتناع الخلاف والخصومة بين المسلمين في أدائها، لتستنبط منها قاعدة كلية وهي أن منافع هذه الآية لا تنحصر بميدان المعركة وسوح القتال مطلقاً والجانب القتالي بل تشمل الميادين المختلفة ومن أهمها العبادة وهي علة خلق الإنسان.
أما بالنسبة للمسألة الثالثة فان حاجة المسلمين للآية مركبة ومتعددة، فجاءت رحمة بهم، وقطعاً لما أصاب بعضهم من الفزع والخوف والخشية على رسول الله والإسلام من فتك وبطش الكفار، وبرزخاً دون نزول الفشل عند المؤمنين والهم به , قال تعالى بخصوص معركة أحد ذاتها[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، لتكون وثيقة سماوية تؤكد ولاية الله عز وجل للمجاهدين في سوح القتال , وبشارة وسكينة للمؤمنين جميعاً , وفي حال الحرب والسلم , لأن الوارد لا يخصص المورد , إثبات شئ لا يدل على نفيه عن غيره .
وأما المسألة الرابعة فلم يكن المسلمون بحاجة إلى قطع طرف من الكفار مثل يوم أحد لظهورهم في المعركة، وتماديهم في التعدي، وإقترابهم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقتله، وقد أشاعوا في صفوفهم بأنه قتل، وسمع المسلمون هذه الإشاعة .
ولا يعلم أحد من الخلائق ما يفعل المشركون يوم أحد لو لم يقطع الله طرفاً منهم ويكبتهم ويخزهم ويجعلهم يدركون حرمانهم وعجزهم عن تخفيف غاياتهم , وما تصير إليه الأمور .
وعند بدايات معركة بدر إنقطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء, وكذا في واقعة أحد لأصل الإستصحاب, ووحدة الموضوع في تنقيح المناط, وموضوعية الدعاء مطلقاً, ودعاء النبي خاصة ساعة الشدة والحرج .
وأما المسألة الخامسة وما في الآية من فضل الله على المسلمين , فمن مصاديقه أمور:
الأول: نصر الله سبحانه لرسوله الكريم والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى .
الثاني: إنجاز وعد الله في تحقيق الهزيمة والذل للكفار بخصوص مشركي قريش يوم بدر [حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا]( )، وجاءت هذه الآية بعد آية البشارة بنزول الملائكة مدداً للمؤمنين , وباعثاً للطمأنينة في قلوبهم.
وأما السادسة فان هلاك طائفة من الكفار وذلهم وخزيهم إنعطاف في تأريخ الإنسانية في الأرض، وبداية لتثبيت سنن العبادة، فقد برز الإيمان كله لطائفة من المشركين، فجاء قطع طرف منهم، بعثاً للخوف في نفوس الكفار مطلقاً، وزجراً لهم عن المناجاة والتعاون في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وأما بالنسبة للمسألة السابعة وحال المسلمين قبل وبعد نزول الآية فان المسلمين خرجوا للمعركة وإنخزل في الطريق ثلث الجيش بافتتان من رأس النفاق، وفي القتال همّت طائفتان من المؤمنين بالخور، وهجم جناح من المشركين على الرصد في الجبل , وجاءوا لجيش المسلمين من الخلف وقتلوا عدداً منهم وإنهزم أكثر المسلمين .
فجاء المدد الملكوتي وهلاك عدد من صناديد قريش وإمتلاء نفوس جيش المشركين خوفاً، وإنهزامهم مدبرين خائبين لتبقى شمس الإسلام مشرقة على الأرض، وتكون هذه الآية حرزاً وسلاحاً للمسلمين، وحجة على الناس، ودعوة سماوية وملكوتية متجددة لتعظيم شعائر الله، وإعمار الأرض بالعبادة.
فمن إعجاز القرآن مجئ آية واحدة منه تغير مجرى الأحداث والوقائع، وتقلب موازين الأمور , وتؤسس لمدرسة جديدة من العز والرفعة والفخر للذين سبقوا في الإيمان، وبادروا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون مضامين هذه الآية من مصاديق القطع والكبت والحرمان للكفار، ومن صيغ عذابهم , كما في قوله تعالى [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ]( ).
بحث منطقي
ينقسم اللفظ من جهة التعدد والإتحاد إلى قسمين:
الأول: المفرد وهو على شعبتين:
الأولى: الذي ليس له جزء، مثل الباء في بسم الله الرحمن الرحيم.
الثانية: اللفظ الذي له جزء , ولكن هذا الجزء لا يدل على معنى مستقل مثل الجيش والسوق، فالجيش مفرد وإن كان أفراده كثيرين، إلا أنه بلحاظ اللفظ ليس لأجزائه وهي حروفه معنى مستقل يكون جزء معنى اللفظ كالجيش ذاته، وكذا بالنسبة للسوق، فليس للسين جزء من معنى السوق، وإن كان السوق يتكون من محلات ودكاكين عديدة.
الثاني: المركب: ويسمى أيضاً القول، وبينه وبين الوجه الأول أعلاه عموم وخصوص مطلق، وفق الإصطلاح المنطقي، فكل قول هو لفظ، وليس العكس .
والمركب هو اللفظ الذي له جزء يدل على جزء معناه مثل(الصلاة واجب) فكل جزء من اللفظين له معنى هو جزء من معنى المركب، وينقسم المركب إلى قسمين:
الأول: المركب الناقص وهو الذي لا يصح السكوت عليه وهو بحاجة إلى بيان مثل (إذا جاءك ضيف).
الثاني: المركب التام وهو الذي يتكون من ألفاظ يفيد إجتماعها معنى مفهوم لدى السامع، وهو على وجهين:
الأول: الخبر وهو الذي يكون مرآة لحقيقة وكاشفاًَ لمصداق خارجي وإخباراً عن أمر كما يقال(هلّ الهلال)، ويسمى(القضية) وقد يكون هذا المركب التام موافقاً للواقع ويتصف بالصدق، أو يتصف بالكذب ومخالفة الواقع.
الثاني: الإنشاء: وهو الذي لا يكون مرآة لحقيقة أو إخباراً عن أمر واقع في الواقع الخارجي، بل يتجلى المعنى بلفظ المركب، وهو على أقسام عديدة منها الأمر، النهي، الإستفهام، التمني.
وهذا التقسيم المنطقي فرع التقسيم البلاغي والنحوي في الجمل وتقسيمها إلى الجملة الخبرية والجملة الإنشائية، وتحتمل مضامين هذه الآية وجوهاً منها:
الأول: إنها قضية وخبر يفيد مطابقة الواقع ويتصف بالصدق، ووجود مصاديق خارجية له ومنها يوم بدر، إذ كان عدد القتلى من المشركين سبعين، ورجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلى المدينة المنورة بسبعين أسيراً من المشركين, وعدد القتلى والأسرى هذا هو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير( ).
الثاني: الإنذار والوعيد للكفار بأن هلاك فريق منهم والخزي ينتظرانهم عند التعدي على المسلمين.
الثالث: تحذير الكفار من محاربة المسلمين، وتجهيز الجيوش لقتالهم، وجمع الأموال لشراء السلاح والإنفاق على الجنود , قال تعالى بخصوص الذين ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله [فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( ).
وفي هذا التحذير لطف بهم وبالمسلمين، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا.
الرابع: المنع من نشر الفساد في الأرض, والإخبار بان الله عز وجل يتعاهد الإيمان ويدفع عن المسلمين , ويحول دون ظهور الكفار ومفاهيم الضلالة في الأرض , قال تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا] ( ).
الخامس: الأمر للمسلمين بالدفاع عن بيضة الإسلام، والبشارة بالنصر بالإخبار عما يلقاه عدوهم عند اللقاء .
السادس: زجر الكفار الذين في الوسط أو الأطراف البعيدة عن المسلمين من التقدم إلى الطرف الذي يلي المسلمين، وتخويف الذين لم يشتركوا بالهجوم على المسلمين من الإشتراك فيه والإعانة عليه بلحاظ المعنى الأعم للطرف وأن المراد منه مواجهة المسلمين ومحاولة الإجهاز عليهم.
السابع: من خصائص المعجزة التحدي , وعجز الناس عن الإتيان بمثلها، ومن مصاديق هذه الآية عجز الكفار عن دفع القطع والهلاك الذي يصيبهم، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جماعة من رؤساء قريش لشدة ما آذوه وأصحابه، فكانوا صرعى في القليب يوم بدر، لتتجلى حقيقة وهي أن التحدي في الآية القرآنية إنذار وبشارة، ودعوة للتدارك.
ومن الآيات إجتماع وتداخل هذه الوجوه، فالتقسيم إلى خبر وإنشاء تقسيم إستقرائي، والآية القرآنية أعم في دلالتها ومعانيها من أن تنحصر بهذين الأمرين , كما تتصف القضية القرآنية بالصدق وموافقة الواقع بجعل المسلمين يتلقون ما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالتصديق والقبول لها بالذات ولغيرها من مضامين القرآن لوجوه:
الأول: صدق الجزء يدل على صدق الكل.
الثاني: وحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث: تعلق الصدق بنزولها من عند الله، وهو طبيعي كلي يتغشى آيات وكلمات القرآن على نحو العموم الإستغراقي.
الرابع: إتصاف القرآن بالسلامة من الزيادة أو النقصان.
وإذا كان الإنشاء يعرف بأنه لا يوصف بالصدق أو الكذب فان الإنشاء في القرآن يمتاز بخصوصية وهي أنه حق وصدق .
ولا تنحصر معانيه بالترشح عن اللفظ وحده، بل هي قواعد وقوانين قائمة بذاتها، وتلك آية في كلام الله، ومصداق من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، جعل أساطين البلاغة أيام التنزيل يطأطؤن رؤوسهم مذعنين مقرين بنزوله من عند الله , وإتصاف المركبات بحقائق ثابتة في نفسها لا يتعارض مع أحكام التوبة والمحو , قال تعالى [َمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
ليكون فيه معجزة حسية وعقلية أخرى على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزيادة إيمان الصحابة رجالاً ونساءً، وبعث المسلمين على الجهاد والصبر والإندفاع بشوق إلى سوح القتال دفاعاً عن الإسلام ويرجع الكفار إلى مكة المكرمة , وليس معهم أسير من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في وقت قد وعدوا أهلها بالإنتقام من النبي وأصحابه، ليكون هذا الرجوع كبتاً وخيبة للمشركين سواء الذين حضروا المعركة منهم أو الذين لم يحضروا.
قانون الدنيا دار المدد
الحياة الدنيا آية من بديع صنع الله، وشاهد على عظيم قدرته، وسعة رحمته، وفيها الثابت والمتجدد، ومن الآيات أن الثابت مسخر للمتجدد فالشمس والقمر مثلاً مسخران للأجيال من ذرية آدم عليه السلام، وتتصف الدنيا بالقدرة على إستيعاب الزيادات في البشر من جهة المكان والسكن والطعام والشراب.
ولو حصل الإستنساخ البشري والطفرات في كثرة الناس فهل يخل هذا بقوانين إستيعابها للناس , الجواب لا، إذا حسن التدبير مع الصلاح ، الذي هو من مصاديق الشكر لله عز وجل على نعمة الدنيا وما فيها من اللا محدود من الفضل الإلهي.
وبعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس لوظيفتهم في الأرض وهي عبادة الله وعدم الشرك به , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، ويترشح عن العبادة التقيد بأحكام الحلال والحرام لذا تجد أحكام الشريعة تشمل باب العبادات، وباب المعاملات ليكون فيه صلاح للناس , ووسيلة مباركة لإنتفاعهم من الخيرات والنعم في الأرض، وهو من عمومات رحمة الله بالمؤمنين خاصة والناس عامة , وتنزيه الأرض من الفساد والإفساد، ورد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وتستحوذ النفس الشهوية والغضبية على شطر من الكفار ويعرضون عن النبوة، وعندما تتخذ الدعوة إلى الله صيغاً مؤثرة عند الناس، يصيب طائفة منهم الفزع والخوف على منازلهم، ويخشون على جاههم وشأنهم وما لهم من المصالح والرسوم عند العامة من أتباعهم، فيسخرونهم لمحاربة النبوة التي جاءت لإنقاذهم في الدنيا والآخرة، ومنعهم من إتباع الأنبياء فيما جاءوا به من عند الله.
وقد تجلت هذه الحقيقة فيما واجهه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الملأ من قريش وأقطاب الكفر والضلالة، الذين زحفوا بالجيوش العظيمة لقتاله وأصحابه فردّ الله عز وجل كيدهم ومكرهم, وعادوا خائبين من المعارك التي خاضوها , قال تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
فجاء المدد الإلهي للمسلمين بهلاك عدد من صناديد قريش ورؤوس الكفر، لتدخل تلك الجيوش العظيمة الإسلام طواعية.
ساعة من النهار تغير مجرى التأريخ، وتقلب موازين القوى لأحقاب وأجيال، فلو إنتصر الكفار في معركة بدر لما دخلت تلك الجيوش والأمم العظيمة الإسلام، إلا أن يفتح الله عز وجل باباً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والله واسع كريم لذا ورد في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر(اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لاَ تُعْبَدْ) ( ).
فجاء المدد الإلهي ليكون مصداقاً لتعاهد الله عز وجل لعبادة الناس له، ومنع غلبة الكفر والضلالة وشيوع مفاهيم الفساد، وتعطيل الأحكام في الأرض، فكان نزول الملائكة يوم بدر وأحد آية من بديع خلق الله، وواسطة سماوية لإصلاح الأرض.
ومن الآيات عدم وجود حد زماني أو مكاني لهذا الإصلاح، فمنذ يوم بدر إتسع الإسلام، وأصبح قوي الشوكة وأخذ الناس[يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، وهو شاهد عملي على صدق نزول الملائكة يوم بدر بالبرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول إلى العلة خصوصاً مع قلة عدد المسلمين، والنقص الظاهر في عدتهم وسلاحهم وإقرار الكفار بوجود الملائكة في ساحة المعركة، مدداً للمسلمين، وهذا الإقرار رحمة بهم وحجة عليهم لما فيه من البراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحث على التوبة والإنابة والكف عن قتال المسلمين.
وصحيح أن المدد الملكوتي جاء في معارك الإسلام الأولى إلا أن الدنيا يصدق عليها أنها (دار المدد) من وجوه:
الأول: إختصاص المدد السماوي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه الذين صدقوا به وخرجوا للقتال نصرة له.
الثاني: يمنع المدد الكفار من فرض سطوتهم على الناس.
الثالث: تثبيت معالم الإيمان في الأرض إلى يوم القيامة بنزول الملائكة.
ولو قيل لقد أهلك الله عز وجل الظالمين والطواغيت في القرون الخالية من غير نزول الملائكة كما في قوله تعالى[ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي* وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد] ( ) .
والجواب في الآيات أعلاه إعجاز قرآني في بيان عظيم قدرة الله والبطش الإلهي بأجيال من الكفار والطغاة وبيانه بكلمات قليلة من القرآن لتكون موعظة وعبرة للمسلمين والناس جميعاً، ومن أسرار هذه الآيات أنها جاءت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون لها موضوعية في السنة النبوية ولغة الإنذار والتخويف للكفار، وعاد قوم هود في اليمن قريباً من عدن.
وأختلف في أ رم على وجوه:
الأول: أنها قبيلة من قوم عاد، وكان فيها الملك وكانوا بمهرة وعاد أبوهم، عن مقاتل وقتادة.
الثاني: اسم بلد.
الثالث: هي دمشق عن ابن سعيد المقري و سعيد بن المسيب( ).
الرابع: أنها مدينة الإسكندرية عن محمد بن كعب القرظي.
الخامس: مدينة بناها شداد بن عاد الذي دانت له ملوك الأرض، فجمع منهم الجواهر والذهب لبناء مدينة لنفسه كالجنة التي وصفها الله عز وجل في الكتب السماوية المنزلة , طغياناً وعتواً منه على الله.
فلما تم بناؤها وسار لها هو وجنوده ولم يبق على مسيرة يوم وليلة منها، أهلكه ومن معه الله عز وجل بصيحة من السماء وكانت ثمود تنحت الجبال والصخور والرخام لبناء بيوت لهم وقال الزمخشري: وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة) ( ).
ونسبته إلى القيل نوع تضعيف له، ولو كان مثل هذا العدد من المدن في منطقة محصورة في اليمن لتم الكشف عن عدد كبير منها من قبل فرق الكشف والآثار في هذا الزمان.
وفي الأوتاد وجوه:
الأول:قواده الذين يشيدون حكمه، عن ابن عباس.
الثاني: كان فرعون يعذب الرجل بأن يشده بأوتاد أربعة على الأرض، ويتركه حتى يموت، عن ابن مسعود ومجاهد، ومنه تعذيبه لزوجته آسية، وماشطة بنته.
وجاء قوله تعالى[إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] ( )، إنذاراً لكفار قريش ومن خلفهم من الكفار وأهل الريب والشرك، وتخويفاً لهم من الإنتقام الإلهي ونزول العذاب بهم كما نزل بالظالمين من قبل، وتمتاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بولادة الإيمان في وسط مجتمعات الضلالة، ونموه وإتساعه يمنة ويسرة لينفذ إلى داخل المنتديات والبيوت، فتجد العظيم من كفار قريش يحرض الناس على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويظهر الإستهزاء بنبوته ويوبخ الأسر والقبائل التي إختار بعض أبنائها الإسلام, ويحثهم على تأديبهم وإرجاعهم.
ولكن هذا الكافر عندما يعود إلى أهله وسكنه يجد إبنه وإبنته قد دخلا الإسلام، ويجد زوجته عضداً لهما، وتقوم بذكر أسماء عديدة ممن حوله إعتنقوا الإسلام ويواظبون على تلاوة الآيات، ويتبادلون أنباء معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبار الوحي فيما بينهم من غير إعلان للملأ، فيصاب بالخيبة ويسقط ما في يده، وقد يكف عن التحريف على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد يزداد عتواً.
فجاءت هذه الآية مدداً لأولئك المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات، وزيادة في إيمانهم لما فيها من العقوبة العاجلة لمن يزداد عتواً من الكفار، ولا يكف عن تعذيبهم وإظهار غيظه على الإسلام بتجهيز الجيوش.
ويحتمل المدد في زمانه وجوهاً:
الأول: جاء المدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على نحو الحصر والتعيين.
الثاني: إبتدأ المدد من واقعة بدر، بنزول الملائكة لنصرة المؤمنين، وإذا أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها فتبقى آية ونعمة المدد متجددة في موضوعها وحكمها.
الثالث: مصاحبة المدد للمؤمنين في الحياة الدنيا منذ أيام أبينا آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة.
والصحيح هو الأخير فإن المدد الإلهي ملازم للمؤمنين في الحياة الدنيا ليكون عضداً لهم، وإماماً يقودهم في سبل الصلاح وطريقاً إلى الجنة، ودعوة للناس جميعاً للإنتفاع منه كآية من بديع صنع الله، وشاهداً على لزوم الإيمان, قال تعالى[فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا] ( ).
فأراد الله عز وجل للناس الأمن والسلامة في الدنيا والآخرة بالمدد والإتعاظ مما فيه من الدروس والعبر، نعم جاء المدد عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعدداً وجلياً وبجنود من السماء وهو من الشواهد على عظيم منزلته عند الله، وبقاء الأحكام التي جاء بها إلى يوم القيامة إذ ليس من نبوة من بعده، وقد نسخت شريعته الشرائع السابقة، وليس من ناسخ لشريعته إلى يوم الدين.
ومن الآيات في المدد الذي جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن منافعه باقية ومتجددة إلى يوم القيامة.
وهل قطع طرف من الكفار مدد للمسلمين الجواب نعم، فهو في مفهومه عون للمؤمنين سواء بمفهوم الموافقة وهو المعنى غير المذكور في المنطوق ولكنه موافق له سلباً وإيجاباً، أو مفهوم المخالفة وهو المعنى المخالف مما لم يذكر في المنطوق , وكأنه من الدلالة الإلتزامية، فهلاك نفر من قادة الكفار ضعف لهم، ومقدمة لغلبة ونصرة المؤمنين عليهم، فإن قلت قد قتل سبعون من صناديد قريش في معركة بدر، ولكن قريش عادت بعد أقل من سنة بثلاثة آلاف رجل, وهم ثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر، مما يدل على أنه لم يصبهم ضعف ووهن، والجواب من وجوه:
الأول: الضعف والوهن أعم في ظهوره من عدد أفراد الجيش في المعركة اللاحقة.
الثاني: لم يزد عدد المسلمين كثيراً بين معركة بدر وأحد، ومع هذا إجتهد الكفار في الطواف على القبائل, وتحريض الناس ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم لقتاله وأصحابه.
الثالث: تجلت معاني الضعف والفزع على الكفار حالما بدأت معركة أحد إذ ولوا الأدبار مع أول هجوم قام به المؤمنون، وأوشكوا على الفرار لولا ثغرة الجبل.
الرابع: في الآية إخبار عن إتصال وإستمرار قطع طرف من الكفار سواء في ساحة المعركة أو في حال السلم، فحتى إذا لم يتعظ الكفار مما يصيبهم من الخسارة في إحدى المعارك فإن الخسائر تتوالى عليهم بقتل صناديدهم، وهلاك أموالهم، ليدب معه قهراً وإنطباقاً الخوف والفزع في نفوسهم, قال تعالى [وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا] ( ).
قانون البشارة والإنذار مدد
عندما يسمع الإنسان بالمدد يتبادر ذهنه إلى المدد الظاهر المدرك بالحواس، والذي يكون له أثر ظاهر في الواقع الخارجي، سواء جلب النصر معه أو خفف من وطأة الهزيمة نتيجة المعركة، فقد يقع المدد القادم في الأسر، وقد يفنى قبل وصول المعركة، ولكن المدد الإلهي عامة متعدد المصاديق والصيغ, وليس من عدو يقدر على صده أو منع تأثيره وسلطانه، فيعجز الظالمون وأعوانهم عن منع المدد الذي يأتي للمؤمنين، ويقفون عاجزين أمامه، وفيه دعوة للناس للهداية والإيمان، ومن المدد الإلهي للمسلمين آيات البشارة والإنذار من وجوه:
الأول: البشارة منطوقاً.
الثاني: البشارة مفهومهاً.
الثالث: الإنذار منطوقاً.
الرابع: الإنذار مفهوماً.
ومن الآيات في المقام تداخل مفاهيم البشارة مع منطوق الإنذار، ومفاهيم الإنذار مع منطوق البشارة لتنمية ملكة الإيمان والصبر عند المسلمين، وجعلهم قادرين على خوض المعارك ضد الكفر والكفار.
ويحتمل المدد في آية البشارة وجوهاً:
الأول: إختصاص مضامين البشارة الخاصة بذات الموضوع والخطاب الموجه للمسلمين، كما في قوله[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الثاني: عموم البشارات القرآنية التي جاءت خاصة بالمسلمين.
الثالث: بشارات القرآن مطلقاً بما فيها التي تحكي البشارة للمؤمنين من الأمم السابقة للإسلام.
والصحيح هو الثالث، فإن المسلمين ينتفعون من البشارات الواردة في القرآن مطلقاً، ومنها البشارات التي جاءت للأمم السابقة، وهذا الإنتفاع من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
وفيه شاهد على إعجاز القرآن بتعدد وجوه الإنتفاع من القصة القرآنية، وهي كالكنز الذي تستخرج وتقتبس منه الدروس والمواعظ التي تجلب النفع الخاص والعام والشامل لدار الدنيا والآخرة، إذ أن مدرسة البشارة في القرآن مدد وعون للمسلمين في جهادهم في إصلاح النفوس والمجتمعات، ومحاربة أقطاب الكفر والضلالة، وكذا آيات الإنذار فإنها مدد آخر في عرض وطول المدد الذي تأتي به البشارات ليعملا معاً في بعث معاني القوة والمنعة عند المسلمين.
ومن إعجاز القرآن مجيء آية إنذار بعد آية بشارة وفي ذات الموضوع كما في هذه الآية والآية السابقة التي جاءت في بشارة النصر والظفر للمؤمنين , قال تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] ( ) .
فآية البشارة هذه مدد للمسلمين، وحرب على الكافرين، وكذا الآية محل البحث وما فيها من الإنذار لتكون الدنيا دار بشارة متصلة للمسلمين، ودار إنذار دائم للكافرين، ومن الآيات أن الإنذار في هذه الآية لا يقف عند التخويف والتحذير، ولم يأت على نحو التعليق بل جاء بصيغة المعلول الذي لا يتخلف عن علته (ليقطع)، وهذا القطع يفيد القطع أي يفيد الجزم في وقوع الهلاك لشطر من رؤساء الشرك والضلالة.
ترى كيف تكون البشارة للمؤمنين في مفهوم الإنذار للكافرين مدداً للمسلمين، فيه وجوه:
الأول: حث المؤمنين على الإجتهاد في طاعة الله.
الثاني: التخفيف عن المؤمنين في ميادين القتال، بهلاك صناديد وأبطال الكفار، قال تعالى في خطاب للمؤمنين[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ]( ).
الثالث: إمتلاء قلوب المسلمين بالسكينة والطمأنينة.
الرابع: إتعاظ الناس مما يصيب الكفار.
الخامس: تحقيق المصداق الخارجي لمضامين الإنذار في هذه الآية دعوة للناس للإيمان، وزجر لهم عن توجيه اللوم للذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإتبعوه وخرجوا معه للجهاد والنصرة فقد يأتي المدد للمؤمنين بما يحصل عند الكفار والناس جميعاً من إنكشاف للباطل، وفضح للكفر وبيان قبح الضلالة، وإبطال لأسباب الشك والريب التي يبثها المرجفون والذين في قلوبهم مرض .
وجاءت هذه الآية لتدعو الناس للربط بين التنزيل وما يلحق رؤساء الكفر من الضرر الذي يأتي بالأسباب الظاهرية المتعارفة في الإبتلاء في الدنيا كالمرض والحوادث الطارئة وهلاكهم في ميادين القتال مع رجحان كفتهم فيه عدداً وعدة، وترى الفارس والشجاع الذي كان يعول عليه الكفار الآمال في القتال يخر صريعاً حال المبارزة , كما في عمرو بن ود العامري مع الإمام علي يوم الخندق مع صغر سن الإمام علي عليه السلام، لذا ورد عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى في معركة الأحزاب (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي)( )، وقال الزمخشري[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) بالريح والملائكة.
ولا تعارض بين الأمرين، وفيه شاهد على كثرة أسباب النصر والغلبة للمؤمنين وتعدد مصاديق وطرق المدد الذي يأتيهم من عند الله عز وجل، ولتكون كل آية قرآنية فيها بشارة أو نصر أو إنذار مدداً مصاحباً للمسلمين في حياتهم، ونوراً يقتبسون منه الضياء لمسالك الآخرة , ونيل الرفعة والمنزلة والمقام العالي فيها.
وهو من الشواهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه :
الأول: تعدد صيغ النصر الإلهي بالكيف والكم من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثاني: تأتي البشارة للمسلمين فينتفعون منها، وتكون دعوة للناس للهداية والإيمان، وزجراً للكفار عن التعدي على الإسلام والمسلمين , ووعداً بالنصر والغلبة على الظالمين الذين يعتدون على المسلمين .
الثالث: توكيد إشراقات جهاد أهل البيت والصحابة في سبيل الله.
وفي فن المعقول يكون فردان تجمعهما ماهية أو موضوع واحد على ستة أقسام:
الأول: المثلان: وهما الموجودان اللذان يلتقيان في جهة الأوصاف النفسية، ويسد أحدهما مسد صاحبه، ويقوم مقامه بلحاظ التساوي في الذات.
الثاني: المضافان، وهما أمران وجوديان بينهما ملازمة موضوعية ولا ينفك أحدهما عن الآخر، ويسميان أيضاً المتضايفان، والمتقابلان.
الثالث: المتناقضان اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وقد يكون أحدهما وجودياً، والآخر عدمياً.
الرابع: الضدان، وهما اللذان ينافي أحدهما الآخر، ويستحيل إجتماعهما في زمان واحد، وفي محل واحد للتباين والتنافي بينهما في الذات، كالجواهر والفناء، والسواد والبياض .
الخامس: الخلافان ويكون بينهما خلاف وتعارض.
السادس: الملكة وعدمها، الملكة وهي وجود الشيء في نفسه، أما العدم فهو إنتفاء الملكة عن الشيء الذي من شأنه أن تكون فيه، كالبصر والعمى.
والبشارة والإنذار من المثلين من جهة إلتقائهما بنزولهما من عند الله عز وجل وقرآنيتهما وإن تباينا في الموضوع والجهة، وهما من المتضايفين إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار بشارة وإنذار، وجعل الآخرة دار الثواب والجزاء، فمن تأتيه البشارة على إيمانه وعمله الصالح يدخل الجنة، ومن يأتيه الإنذار ويقيم على السيئات , ولا يتعظ من الإنذارات يبوء بإثمه وينال جزائه في جهنم، وهما من الضدين بلحاظ الموضوع والحكم , ولكنهما من المتضايفان في الأثرقال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
وكل من البشارة والإنذار مدد وأمر وجودي وكذا العمل بهما، فإن التقيد والعمل بأحكام إنذارات القرآن شاهد على الصلاح، وباب للأجر والثواب، والبشارة والإنذار كمدد مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا، إذ أن كل واحد منهما وهما معاً مدد وعون للمسلمين.
فإن قلت جاءت الإنذارات للكفار فكيف تكون مدداً للمسلمين، الجواب من وجوه:
الأول: إنذارات القرآن جذب للإسلام، ودعوة للناس للخشية من الله والخوف من عقابه.
الثاني: تجعل الإنذارات القرآنية الناس يتدبرون في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تلاحق إنذارات القرآن الناس في منتدياتهم وبيوتهم، وتقول لهم إنكم لم تخلقوا للهو، فلا بد من عبادة الله.
الرابع: تطرد الإنذارات القرآنية الغفلة عن الناس, كما في قوله تعالى[وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا]( ), فالآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها إنذار إضافي وتبكيت للكفار .
الخامس: تحث الإنذارات القرآنية الكفار لهجران الكفر والضلالة لأن أضرار الكفر جسيمة ومتصلة في الدنيا والآخرة، وليس من نفع وفائدة في الكفر.
السادس: الإنذار ترغيب بالبشارة والسعي في مسالك الإيمان.
قانون المدد حاجة
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، وهذه الحاجة لا تنحصر بالإنسان، بل هي ملازمة لأفراد وعالم الإمكان، فكل ممكن محتاج، ويتصف الإنسان بأنه يدرك ضعفه ونقصه وحاجته إلى غيره، ومن الناس ممن تغلب عليه النفس السبعية ولا يلتفت إلى حقيقة أنه محتاج، فيبتليه الله عز وجل بما يجعله يقر بهذه الحاجة ويلجأ إلى غيره.
وتحتمل هذه الحاجة وجوهاً:
الأول: الحاجة على نحو القضية الشخصية، فالفرد يحتاج غيره.
الثاني: الحاجة النوعية، ولجوء الجماعة إلى غيرها.
الثالث: الإطلاق في الحاجة، بأن يحتاج الفرد والجماعة غيرهم.
والصحيح هو الثالث، فليس من حصر لحاجة الإنسان، ومن بديع خلق الله عز وجل للإنسان أن جعله محتاجاً إلى رحمته سبحانه، فلا يستطيع الفرد والجماعة والفرقة والأمة أن يستغنوا عن رحمة الله عز وجل، وليس من كاف للناس إلا الله عز وجل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ومن مصاديق الحاجة المدد في ميادين القتال وغيرها، فكل فريق من المتحاربين يتطلع إلى المدد من غيره في الغالب، وإتصفت معارك المسلمين الأولى بإنتفاء المدد من الناس للفريقين.
أما المسلمون فليس وراءهم من يمدهم بالرجال ويرفدهم بالسلاح، وليس من فئة لهم تبعث لهم بالرجال، والمؤون، وتتهئ لإستقبالهم إذا إلتجأوا إليها.
وأما الكفار فقد قطعوا مئات الأميال، وحال طول المسافة، وبعد المحل عن الأهل والمشركين في مكة ومن حولها عن طلب النجدة، لقد أستدرج الكفار إلى المعركة وغلبت عليهم النفس الغضبية ,ودفعتهم شرور الأرواح الظلمانية الخبيثة إلى التعدي على المسلمين.
وخرج المؤمنون للقتال بعد أن كسروا قيود التعلقات الجسمانية، وسلاسل الغريزية، وجعلوا من دخول ميدان المعركة يوم بدر وأحد طريقاً إلى عالم النور، وواسطة تقربهم من دخول الجنة سواء تم النصر والغلبة أو حصلت الهزيمة أو الشهادة في سبيل الله، وكان هذا التباين واضحاً، كما يظهر تباين مضاد له في الجهة والموضوع، ففي الوقت الذي يتصف المسلمون بالإيمان والتقوى والصبر في جنب الله، ويعشقون الشهادة، ويحرصون على التفاني في سبيل الله، إستهزء الكفار بالمسلمين من وجوه:
الأول: إستصحاب رؤساء قريش إستضعافهم للمسلمين كأفراد عندما كانوا بين ظهرانيهم (وروي أن رجلاً من الأنصار قال يوم بدر إن قتلنا الأعاجيز صلعا , فقال النبي أولئك الملأ من قريش لو رأيتهم في أنديتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم , ولاحتقرت فعالك عند فعالهم)( ).
الثاني: حرصت قريش على الظهور بخيلائها وزهوها.
الثالث: إصرار قريش على الإستهزاء بالمسلمين.
الرابع: إظهار قريش الإعراض عن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: إعتزاز قريش بكثرة جيوشها وسلاحها ومؤونتها، وكأنها لا تحتاج إلى المدد والعون من الغير خصوصاً مع قلة عدد وعدة المؤمنين، وعندما بدأت معركة بدر وكذا أحد أدرك كل فريق حاجته إلى المدد، أما الكفار فليس من مدد يأتيهم .
وأما المسلمون فقد نزل الملائكة لنصرتهم، وهو أعظم وأقدس وأشرف مدد في تأريخ الإنسانية، فلم تفز بهذا المدد أمة أو ملة ما, وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وقد سأل بنو إسرائيل نبياً لهم أن يبعث الله لهم ملكاً يقاتلون تحت رايته القوم الظالمين , قال تعالى[إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( )، وكان الملك يقود الجيوش في القتال، أما النبي فيبلغهم الوحي ويخبرهم عن الله بأسباب وبشارات النصر.
وقد فضّل الله عز وجل المسلمين بأن جعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام والأمير في الحرب، وبعث الله سبحانه ملائكة لنصرته والمؤمنين، وجاء تعيين طالوت ملكاً علة وسبباً للنصر والغلبة لأنه بأمر وإختيار من الله عز وجل، وإلا فإن تعيين الملك ليس دائماً سبباً للنصر كما أنه لا يخفف كثيراً القتال عن المؤمنين.
أما نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فإنه يؤدي إلى تحقيق النصر على الكفار على نحو القطع والتمام، لبيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل يقضي حاجة المسلمين في ميادين القتال ولا يتركهم يحتاجون غيره، أو يفتقرون إلى مدد من الناس، فقد ظن يهود المدينة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين سيحتاجون نصرتهم , قَالَ ابن هِشَامٍ : وَذَكَرَ غير زِيَادٌ عن مُحَمّدَ بْنَ إسْحَاقَ عَنْ الزّهْرِيّ: أَنّ الأَنْصَارَ يَوْمَ أُحُدٍ ، قَالُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ؟ فَقَالَ لا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ( ).
نعم خرج مخيريق وهو واحد منهم للقتال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أقام الحجة على اليهود , إذ قال لهم (يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت لكم.
فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء.
ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا:مخيريق خير يهود)( )وفيه مسائل:
الأولى: جاءت النصرة على نحو القضية الشخصية.
الثانية: في خروج مخيريق حجة في لزوم نصرة النبي محمد , وإشارة التوراة لها , قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ).
الثالثة: لم يحتج اليهود بعدم وجود السبب لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل إعتذروا بأن اليوم هو سبت ولا يعمل فيه اليهود، ويدل بالدلالة التضمنية على إقرارهم بلزوم نصرته ولكن بشرط ألا يكون يوم سبت.
الرابعة: يعلم مخيريق أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقتل في معركة أحد، وأن الله عز وجل بعثه ليتم رسالته، وينزل عليه القرآن كاملاً فأوصى مخيريق بتركته له.
لقد تجلى الرجحان في المعركة بالمدد، إذ كان الطرفان متضادين، فلم يصل للمشركين مدد، وجاء للمسلمين مدد من السماء لبيان حقيقة وهي أن الله عز وجل ينعم على المسلمين بقضاء حاجتهم، وبيّن لهم اللغة والوسيلة إلى النصر بوسائط سماوية لم تنلها قبلهم أمة من الأمم، ولا تنالها غيرهم أبداً، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام فهو الدين الذي تقضى به حوائج الدنيا والآخرة والذي يأتي فيه المدد من عند الله، وفيه الواقية من الكفار برميهم بالهلاك والقطع.
وحاجة الناس إلى المدد أعم من أن تنحصر بميدان المعركة كما أنها شاملة للحالات الشخصية والنوعية، لذا جاءت الآية محل البحث بالبشارة للمسلمين بوهن وضعف عدوهم , وجعله عاجزاً عن الإضرار بالمسلمين في حال الحرب والسلم، وقاصراً عن مقدمات التعدي على المسلمين.
وزحف الكفار على المدينة في السنة الثانية للهجرة لقتال المؤمنين فكانت معركة بدر، ثم زحفوا مرة أخرى بعد أحد عشر شهراً فكانت معركة أحد، وبعدها بسنتين أي في شوال سنة خمس للهجرة أقبلت قريش بعشرة آلاف من بني كنانة وأهل تهامة والأحابيش، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد) ( )، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وحال الخندق بين الفريقين، ومع رجحان كفة قريش عدداً وعدة، فلم تمض سنة حتى خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة محرماً للعمرة، ومع أنه إستنفر الناس والأعراب من أهل البوادي ممن حول المدينة (فلم يخرج معه إلا ألف وأربعمائة رجل، وقيل سبعمائة رجل) ( ).
قانون معجزة هلاك الكفار
تتصف المعجزة بأمور:
الأول: إنها أمر خارق للعادة، ولم يألف الناس مثلها، وهي حقيقة طارئة ومباغتة لهم .
الثاني: تقترن المعجزة بالتحدي للناس، في الإتيان بمثلها.
الثالث: إقرار الناس بعجزهم عن فعل ما يشبه المعجزة.
وجاءت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية في التحدي في باب البلاغة والموضوع والحكم وجذب القلوب، فمثلاً جاء الوليد بن المغيرة وهو من سادات قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تلا عليه آيات من القرآن، فأدرك الوليد ما فيها من معاني الإعجاز وكنوز البلاغة وعلوم الغيب فرق قلبه، فبلغ الأمر أبا جهل (فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده( ) مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله: الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه ويغدق أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، ففكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت ( ).
ومن الآيات أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى وبدأت قبل ولادته، وعند ولادته وكانت مصاحبة لنبوته وأيام حياته، وعندما غادر إلى الرفيق الأعلى بقيت معجزاته تتجدد وتزداد، ومنها مضامين ومصاديق هذه الآية، وما يرمي الله عز وجل به الكفار من أسباب الهلاك والخزي والإندحار، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
وجاءت هذه الآية للإخبار عن معجزة إضافية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتتصف هذه المعجزة بأمور عديدة منها :
الأول: إنها تجلت في أحوال أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فالمعروف عن معجزات الأنبياء أنها تجري على أيديهم، ولكن هذه المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بكبت أعدائه إلى جانب المعجزات التي جرت على يديه.
الثاني: قطع طرف الكفار معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل يتفضل بالمقدمات التي تساهم في إعلاء كلمة التوحيد، وجذب الناس للإسلام، قال تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
الثالث: جاءت أكثر معجزات الأنبياء على نحو القضية الشخصية والخاصة بأوانها مثل ناقة صالح، أو أنها خاصة بحياة النبي مثل عصا موسى عليه السلام، وإبراء عيسى عليه السلام للزمنى , وفي التنزيل[وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
أما آية هلاك كبار الكفار الذين يعادون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فهي باقية إلى يوم القيامة , وهو من أسرار أحكام آيات القرآن وأن مضامينها لا تنحصر بزمانها بل هي متجددة وتوليدية إلى يوم القيامة، وفيه زجر للكفار عن التعدي على المسلمين، ودعوة للناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتبقى المصاديق الخارجية
للآية شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه جاء بالمعجزات الباهرات التي لم يأت بها أحد من الأنبياء من قبله، لتضع بعثته حداً لطغيان الكفر , وتمنع من شيوع الفساد والإستكبار في الأرض.
وهذه الآية فضل من عند الله عز وجل على المسلمين إلى يوم القيامة، وهو فضل مركب ومتعدد، فيأتي هلاك الكفار بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وتتوالى أسباب وكيفية هلاك الكفار ليزداد الإسلام قوة ومنعة، وتكون مصاديق هذه الآية معجزة متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودعوة للناس للإتعاظ والإعتبار, وإجتناب التعدي على حرمات الإسلام.
وقد إنتهت معارك الإسلام الأولى، وساد الإسلام أمصاراً كثيرة, وبقت هذه الآية سيفاً سماوياً مشهوراً أمام رؤساء الكفار يقطع رؤوس عدد منهم إن أصروا على التعدي على الإسلام، وقاموا بإيذاء المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، فهذه الآية من المعجزات والأسباب القاهرة التي تمنع الكفار من الإضرار بالمسلمين بأن يأتي الهلاك والبلاء الشديد لشطر من أقطاب الكفر لينصرفوا عن الهجوم على المسلمين, وينشغلوا عن الكيد والمكر ومحاولات إلحاق الضرر بالمسلمين.
وما يتعرض له رؤساء الكفر شاهد على الإعجاز الغيري لهذه الآية ، ودليل على أن الآية القرآنية حية في موضوعها وحكمها، وبينها وبين مصاديقها في الواقع الخارجي نوع مفاعلة وتداخل، والأشياء كلها حاضرة عند الله مستجيبة لمشيئته , فهي تدل وتنبأ عن وقوع هلاك كبار للكفار، وهلاكهم يدل على صدق نزول الآية، وفيه مسائل:
الأولى: طرد اليأس والقنوط من قلوب المسلمين.
الثانية: البعث والندب لتلاوة آيات القرآن.
الثالثة: الحرص العام على إيجاد المصاديق الخارجية لآيات البشارة والإنذار.
الرابعة: إستقراء وجود الملازمة بين آيات القرآن والواقع الخارجي.
الخامسة: الواقع مرآة لآيات القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لمبادئ الإسلام البقاء إلى يوم القيامة، ولآيات القرآن الحفظ في الصدور والمصاحف وعالم الأفعال، فجعل الصلاة واجبة خمس مرات في اليوم، ولا بد فيها من تلاوة آيات من القرآن ليتدبر الناس في معانيها ودلالاتها القدسية، ويقتبسوا منها الدروس، ومنها إستدامة وتجدد معجزة النبي محمد بهلاك أعدائه وأعداء الإسلام الذين يسعون جاهدين لنقض بنائه , قال تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( ).
وليكون هلاكهم صلاحاً للباقين من الناس أجمعين، ودعوة للتصديق بنزول القرآن، وفيه شاهد بأن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية بتجدد مصاديقها الخارجية بما يشفي صدور المؤمنين، ويقيم الحجة على الكافرين، ويبين القبح الذاتي للكفر وما يترشح عنه من الظلم للنفس.
وتدل الآية على أن القرآن حي ويبعث بالحياة، وتصل إشعاعات ضيائه إلى النفوس والمنتديات، وإذ يستشفى بالقرآن، ويدفع به البلاء، ويجلب الخير، فإن هذه الآية جاءت لتؤكد نزول العذاب العاجل بشطر من الكفار، ليكونوا عبرة لمن خلفهم، وللناس جميعاً , قال تعالى[هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ]( ) فمع تعاقب الليل والنهار، تتغير أحوال الناس، وفيه شاهد على عظيم قدرة الله، وسعة لطفه ورحمته بالناس وحصول التبدل والتغيير في الأرض نحو الأصح والأحسن، ومنه إبتلاء الكفار بالقطع والهلاك والكبت والذل والهوان.
بحث أصولي
جاءت الآية بلغة الجزم والحصر والتنكير، الجزم بخصوص القطع والإبتلاء، أما الحصر فيتعلق بالطرف والرؤساء، وليس عموم الكفار , وإن كان القطع يؤثر على الكفار مطلقاً.
وأما التنكير فيتعلق بالأشخاص والأفراد لأن القطع من الكلي في المعين , أي المردد بين أفراد متشابهة يجمع بينها الكفر والهجوم على المسلمين وديارهم مما يبعث الفزع والخوف عند عموم الكفار , وفيه بيان لحقيقة وهي إستحقاق الكفار الذين يعتدون على المسلمين القطع والعقوبة العاجلة، فليس من تعيين أو حصر أو تقييد في متعلق القطع، لإفادة عدم خروج جماعة أو أشخاص من الكفار من موضوع الآية , وما فيها من الإنذار والوعيد خروجاً حقيقياً تكوينياً، بلحاظ تعدد معاني ومفاهيم الآية.
فإذا كان المقصود كبار الكفار، فكل واحد منهم يشمله الإنذار في الآية، وعلى معنى القرب والمجاورة للمسلمين فإن الكفار الذين يعتدون على المسلمين تشملهم أحكام الآية وإن جاءت بلغة التبعيض(طرفاً من الذين كفروا)، وليس من تخصيص في المقام، وهو خروج بعض أفراد العام من تحت حكمه بسبب عرضي كصلة القربى مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعندما وقع العباس عم النبي في الأسر يوم بدر لم يفك إلا بعد أن فدى نفسه.
فجاء الوعيد في الآية على نحو الشمول والإنطباق على كل فرد من الكفار من غير تقييد بخصائص وشرائط في التمادي في الكفر والتعدي.
ومن فوائد العموم في الآية بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والأفرادي، ومتى ما كان الخوف مستولياً عليهم على نحو العموم المجموعي فإنهم يعجزون عن التباني والإتفاق على قتال المسلمين.
وليس من إستثناء في العذاب النازل في الكفار، والإستثناء في الإصطلاح الأصولي هو إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم، لتكون تلك الأفراد خارجة من الحكم مع أنها من الموضوع، وهو الذي يسمى في علم النحو بالإستثناء المتصل والمنفصل.
وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع (ليقطع) لإفادة العام الأزماني، وإنبساط الآية على أفراد الزمان الطولية، وحضورها كوعيد منجز وليس معلقاً، فصحيح أن الدنيا دار عمل وإمتحان , والآخرة دار حساب، إلا أن الله عز وجل جعل الدنيا مناسبة للتدبر والتدارك, وهذا الجعل من أبهى وأجلى مصاديق اللطف .

قانون الوعيد مدد
هناك تباين بين الوعيد والمدد في الموضوع والجهة، إذ أن الوعيد تخويف وإنذار بالعذاب، ويتوجه إلى الكفار والمشركين، بينما يأتي المدد للمؤمنين الذين جاهدوا ويجاهدون في سبيل الله، لتكون النسبة بين منطوق ومفهوم كل منهما العموم والخصوص المطلق.
فكل وعيد للكفار هو في مفهومه مدد للمؤمنين، وكل مدد للمسلمين هو في مفهومه وعيد للكفار والمشركين، وتلك آية في بديع خلق الإنسان، وخلافته في الأرض وهي من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فمن علم الله عز وجل توالي الوعيد للكفار منطوقاً ومفهوماً، وتعاقب البشارات والمدد للمسلمين منطوقاً ومفهوماً، ومن الآيات وقوع آثار المدد على الكفار بعرض واحد مع الوعيد، فتزداد وطأته عليهم، وقد يأتي قطع طرف من الكفار في ميدان المعركة أو عند الإستعداد لها، وتهيئة مقدماتها، أو بعد المعركة، أو من غير قتال إذ أن الإعراض عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام، والإصرار عن الإقامة على الكفر بعد تجلي المعجزات والبينات التي تدل على صدق نبوته ولزوم إتباعه علة لنزول البلاء لما في هذا الإصرار من معاني الحث لأتباعهم على العناد والبقاء على الكفر.
ولما إنصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حنين، نزل الطائف وحاصر ثقيف نصف شهر، يقاتلهم من وراء الحصن، وأسلم الناس من حولهم، ولكنهم أصروا على قتال رسول الله، ورمي المسلمين بالنبل (وإستشهد أثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله سبعة من قريش، ورجل من بني ليث، وأربعة من الأنصار) ( ) (وقال الواقدي حدثنى كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة قال لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف إستشار رسول الله نوفل بن معاوية الدّيلى وقال يا نوفل ما ترى في المقام عليهم قال يا رسول الله ثعلب في حجر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك) ( ).
ولو بقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محاصراً لهم لفتح الحصن وكانت جرت محاولات من المسلمين لإقتحامه وأحدثوا ثغرة فيه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تركوا الطائف وإنصرفوا عنها، وهو من الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
فترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطائف ليرجع إلى المدينة المنورة، وبناء الدولة الإسلامية، وبيان أحكام الحلال والحرام، وتثبيت سنن الشريعة، وتنمية ملكة تعاهد الصلاة عند المسلمين والمسلمات، خصوصاً وقد تم فتح مكة , وفيه واقية للمدينة من التعدي , وطمع أعداء الإسلام في غزوها عند غياب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وكان قوله تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، مدداً وعوناً للمسلمين وضياء مباركاً في إلتحاق ثقيف وغيرها بالناس في دخول الإسلام فبادر عروة بن مسعود وهو من الطائف فخرج خلف رسول الله وأدركه قبل أن يصل إلى المدينة وأعلن إسلامه، وسأل النبي أن يرجع إلى قومه يدعوهم للإسلام، فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إنهم قاتلوك، فقال له عروة يا رسول الله أنا أحب إليه من أبكارهم( ) .
فلما وصل إلى الطائف وأظهر إسلامه , ودعاهم للإسلام رموه من كل جهة بالنبل فقتل رضي الله عنه و( قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه)( ).
ولكن جاء قطع طرف من الكفار في الطائف من حيث لا يعلمون، ومن غير معركة وقتال إذ أسلمت القبائل العربية من حولهم، وصارت ثقيف تخشى على نفسها ورجالها عند الخروج والسفر فإجتمعوا (وقال بعضهم لبعض ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا أقتطع به) ( ).
فقد ظهر القطع والهلاك في أطراف ثقيف بأن يقتل الذي يخرج منهم , ولا يعود إلى الطائف وأقروا بحصول القطع فيهم، فأرسلوا وفداً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ستة أشخاص، وأسلموا , وسألوا ثلاثة شروط وهي:
الأول: أن يدع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطاغية وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما زالوا ينقصون من المدة سنة، سنة، وأشهراً إلى أن سألوا أن تبقى اللات شهراً واحداً فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قصدهم من السؤال الإمهال لسفهائهم ونسائهم وصبيانهم حتى يتفقهوا في الدين ويعلموا أحكام الإسلام.
الثاني: أن يعفيهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة فلم يعفهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها وقال لا خير في دين لا صلاة فيه، فقالوا: أما هذه فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة، لما فيها من السجود ورفع العجيزة والإنحناء والخضوع.
الثالث: ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك( )، وبعث أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم اللات , فقام المغيرة يضربها بالفأس، وقومه بنو معتب خلفه خشية أن يرمى بالنبل وخرجت نساء ثقيف حاسرات مكشوفات الرؤوس يبكين عليها ويندبها.
ولم تمر الساعات والأيام حتى إتجهت تلك النسوة إلى الصلاة وعبادة الله، ثم يشيد مسجد عظيم في الموضع الذي أقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عسكره عند حصار الطائف ليكون مناراً للهدى، وشاهداً نبوياً يحكي جهاد رسول الله وأصحابه في سبيل الله.
والمدد الذي يأتيه من عند الله على نحو ظاهر وخفي، ودفعي وتدريجي، وما يأتي بالأسباب والسعي والقصد , وما يأتي من غير قصد وسعي بل هو من فضل الله عز وجل، فالمدد الملكوتي في بدر وأحد دفعي وسماوي بعد خروج المسلمين للقتال.
أما المدد في ثقيف وأهل الطائف فهو تدريجي ومن غير سعي بل بفضل من الله، فبعد أن إمتنعت ثقيف على النبي وقاتلت ممن خلف الحصن، جاء وفدها إلى المدينة ليعلنوا إسلامهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً، وجعل عليهم عثمان بن أبي العاص أميراً وكان من أحدثهم سناً، إذ أظهر الحرص على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن.
لقد جاءت هذه الآية وعيداً للكفار وبدأت بقطع طرف من الكفار والقطع أشد من الكبت والخزي، كما أنه سبب لحصول الكبت عند الباقين وجاء ذكر ثقيف في المقام من باب المثال وليس الحصر، للدلالة على أن القطع والحصار والتضييق يترشح عن عز الإسلام، ومنعة المسلمين، فيلحق الكفار الخزي ويصيبهم الضعف والوهن، ليكون سبباً لجذبهم للإسلام، والإقلاع عن ميادين الكفر والضلالة، ومن الآيات في الدين الإسلامي .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(الإسلام يجبّ ما قبله) ( )، والجب: القطع، أي أن دخول الإسلام والنطق بالشهادتين يقطع ويمحو ما قبلهما من الكفر والذنوب والسيئات، ليتجلى التباين بين الإسلام والكفر في باب القطع.
إذ تدل هذه الآية على أن الإصرار على الكفر يسبب القطع والهلاك للكفار، أما دخول الإسلام فيسبب قطع الذنوب , وفيه غبطة وسعادة وصلاح.
وليس من حصر لآيات الوعيد والتخويف للكفار التي جاءت في القرآن، لتكون كل آية مدداً للمسلمين، وسلاحاً في الإحتجاج على الكفار، وتحدياً لهم في الحياة الدنيا، وخزياً لهم يوم القيامة , قال تعالى[فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ] ( ).
قانون الدعاء مدد
الدعاء هو السؤال وطلب الحاجة، ويأتي بمعنى الإستغاثة ، وقد فاز المسلمون بأمر الله لهم بأن يسألوه حاجاتهم، وإقترن هذا الأمر بالوعد الكريم بالإستجابة , قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، وجاء الأمر بالدعاء مطلقاً من غير تقييد أو حصر لذا فإنه يشمل أمور الدين والدنيا، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء هو العبادة( ) ، ومن مصاديق العبادة في الدعاء أمور:
الأول: الدعاء مناجاة مع الله.
الثاني: الدعاء توسل وتضرع إلى الله عز وجل.
الثالث: في الدعاء إقرار بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل.
الرابع: يظهر العبد بالدعاء حاجته ومسكنته وخضوعه لله.
الخامس: الدعاء شاهد على التوحيد والثناء على الله عز وجل ورجاء رحمته.
السادس: في الدعاء عز المؤمنين لأنه عنوان الغنى عما في أيدي الناس.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار مدد للمؤمنين فيأتيهم من السماء والأرض، وبسعي منهم، وإبتداء من فضل الله من غير سعي، وفتح الله عــز وجل باب للدعاء , ليكون على وجوه:
الأول: مقدمة للمدد فبالسؤال يأتي المدد الإلهي، وقد تجلى الدعاء لطلب المدد بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية يوم بدر، وأعطى درساً للصحابة في موضوعية الدعاء، وكيف أنه سبيل مبارك لتحقيق النصر، وما زال يدعو الله حتى سقط رداؤه عن منكبه , وإستغاث المؤمنون بالله، فألقى الله الرعب في قلوب الكفار، والسكينة في نفوس المسلمين والمسلمات، وهو مدد عظيم للمسلمين، ثم تفضل الله بالمدد من الملائكة , قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ) ، وفيه شاهد بأن الدعاء مقدمة وجزء علة لنزول الملائكة لنصرة المسلمين.
ولو لم يدع ويستغيث المسلمون ليلة ويوم بدر فهل تنزل الملائكة، الجواب من جهات:
الأولى: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأمر من الله عز وجل.
الثانية: جاء دعاء النبي وسؤاله المدد والنصرة من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، والدعاء سلاح الأنبياء , وبلغة مباركة لتحقيق الغايات الحميدة .
الثالثة: ورد في الحديث ما يدل على أن الله عز وجل وعد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم النصر يوم بدر فقد ذكر أن النبي لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين إستقبل القبلة وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) ( ).
الرابعة : ملازمة الدعاء للإيمان , فلابد أن يفزع ويلجأ المسلمون إلى الله, وتتضمن واجباتهم التي يواظبون عليها الدعاء , ومن المعاني اللغوية للصلاة الدعاء .
الثاني: الدعاء ذاته مدد، بأن ينعم الله عز وجل على المؤمنين بتوجههم للدعاء والسؤال، وإلتجائهم إلى الله عز وجل بتضرع وخشية وأمل ، ويدرك الإنسان في حال الشدة والضرر الحاجة إلى رحمة الله، ونزول فضله، لذا جاءت البشارة العامة للمسلمين في إستجابة دعائهم، وبيان موضوعية الدعاء في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا] ( ).
والدعاء سفر روحي، وسياحة في عالم الملكوت، وهل من تعارض بين ما يستحدث بسبب الدعاء وبين القاعدة الكونية أن الله عز وجل جعل الأشياء بأسبابها، الجواب لا، إذ أن الدعاء من أهم الأسباب لأن مقاليد الأمور بيد الله، قال سبحانه[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( )، ويأتي الدعاء وإفاضاته بالأمر الخارق للقواعد والنواميس المحسوسة.
الثالث: الدعاء ثمرة من ثمرات المدد الإلهي، وهو نوع عبادة , وإقرار بالعبودية لله عز وجل، وللدعاء آداب وهي المدحة والثناء على الله عز وجل ثم الإستغفار والإقرار بالذنب ثم المسألة، والدعاء إتصال إختياري بالله عز وجل من غير واسطة أو برزخ وحاجب , قال تعالى[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي] ( )، وجاءت هذه الآية بصيغة الإطلاق في إجابة الدعاء إلا أن التقييد ظاهر من وجوه:
الأول: الآية خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: يتعلق موضوع الآية بسؤال العباد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل.
الثالث: مجيء آيات أخرى من القرآن تخرج دعاء الكفار بالتخصص من موضوع الدعاء، وتتضمن إستثناءهم، قال تعالى[وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
ومن الآيات في الدعاء ملائمة آنات الزمان الطولية كوعاء للدعاء سواء ساعات الليل أو النهار، ليكون مدداً في إصلاح النفوس، والتخفيف عنها.
الرابع: الدعاء سلاح بيد المؤمنين، وواقية من الكيد، وآلة لحفظ أنفسهم وتيسير أمورهم، وتقريب البعيد، ومحو الأضرار، وتهوين العواقب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء”( ).
وجاءت هذه الآية لتكون تلاوتها سلاحاً بيد المسلمين يساهم في قطع طرف من الكفار وإلحاق الخزي بهم.
الخامس: إستجابة الله لدعاء المؤمنين مدد عظيم، وسر سماوي من أسرار نصرهم في ميادين القتال، ومؤونة وسلاح خفي ضد الكفار، الذين لم يجعلوا له حساباً عند العزم والمناجاة بالتعدي على المسلمين، فمن بين أسباب إلتحاق القبائل بقريش في قتال النبي والمسلمين معرفة قلة عددهم وعدتهم، فطمعوا بقتلهم وأسرهم، ولم يعلموا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يمتلكون سلاح الدعاء الذي يزيدهم قوة ومنعة، ويكون واقية لهم من جيوش الكفار.
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بالتفقه في الدين، وتيسير طرق الدعاء، وهدايتهم إلى آدابه (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لله عز وجل تسعة وتسعون إسماً من دعا الله بها إستجيب له، ومن أحصاها دخل الجنة) ( )، وقال الله عز وجل[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] ( ).
ومن أعظم مصاديق المدد للمسلمين والناس جميعاً بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي فيها خير الدنيا والآخرة، وفي الحديث المستفيض عند عموم المسلمين: أنا دعوة أبي إبراهيم) ( ).
وإتخذ الأنبياء الدعاء وسيلة لجلب المدد وأسباب النصر، فقد إجتهد موسى عليه السلام في الدعاء على فرعون وقومه الذين أنعم الله عز وجل عليهم بالأموال والسلطان، ليتخذوها وسائط للصلاح، ولكنهم أفسدوا في الأرض فبعث الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام لفرعون وقومه لهدايتهم وسلامتهم ونجاتهم من العذاب الدنيوي والأخروي بالتصديق بنبوته، والكف عن المعاصي والسيئات , وسوم بني إسرائيل العذاب الأليم .
وإدّعى فرعون الربوبية، وتمادي في الكفر والغي وقتل المؤمنين، وأمر بتخريب مساجد بني إسرائيل، ومنعهم من الصلاة، فسأل موسى الله عز وجل كما في التنزيل [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ] ( )، لأن سلب الغنى عن الكافر وسيلة لمنعه من الإقامة على المعاصي، ودعوة قهرية له للتدبر في البراهين والدلالات الباهرات على وجوب عبادة الله عز وجل(ودعا موسى عليه السلام وأمن هارون، فسماهما الله داعيين، وهو المروي عن عكرمة والربيع وأبي العالية)( )، وهذا لا يمنع من إستقلال هارون بالدعاء أيضاً إلى جانب تأمينه على دعاء موسى عليه السلام.
وفيه تأديب لبني إسرائيل بالتوجه للدعاء على نحو العموم المجموعي والأفرادي , ويقال أمنت على الدعاء تأميناً: قلت عند الدعاء آمين، وآمين: اسم فعل مبني على الفتح، وفيه أربع لغات أكثرها إستعمالاً بالمد بعد الهمزة من غير إمالة، ومعناه: اللهم إستجب، وفي المرسل عن(الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا موسى وأمّن هارون، وأمّنت الملائكة، فقال الله تعالى:[ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا] ( ) ومن غزا في سبيل الله أستجيب له كما أستجيب لكما يوم القيامة) ( ).
وفي خاتمة الحديث أعلاه شاهد على المقام الرفيع للمدافعين والمرابطين في سبيل الله، وأنهم في ميادين القتال قد يلحقون بالأنبياء بخصوص إستجابة الدعاء لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وهو الجهاد في سبيل الله بالنفس وبذل الوسع لإعلاء كلمة التوحيد، والله وحده الذي أحاط بكل شيء علماً، الأمر الذي يستلزم إتصال التوسل، والتوقي من الذنوب والسيئات، والإحتراز من أكل الحرام.
(وعن زبور داود يقول الله عز وجل: “يا ابن آدم تسألني وأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثم تلح علي بالمسألة فأعطيك ما سألت( ).
إن الإلحاح في الدعاء والمواظبة عليه فزع إلى الله، وتفويض للأمور إليه سبحانه، وإظهار لحسن التوكل عليه، وهو من مفاهيم الصبر والتقوى التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون.
وقد يأتي المدد والإستجابة للدعاء بأمر غير الذي سأله العبد، والله عز وجل أعلم بالمصالح والمفاسد، (قال ابن جريج مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة , وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام) ( )، وفيه دعوة للإلحاح بالدعاء، والمواظبة عليه، والعصمة من اليأس والقنوط، والسلامة من تعطيل الأسباب والجهاد في سبيل الله، والمواظبة على أداء الفرائض.
ومن اللطف الإلهي بالمؤمنين في ميادين المعارك عدم تأخر الإستجابة عن الدعاء، ليكون ذات الدعاء والإستجابة له مدداً عاجلاً للمؤمنين، وعلة للنصر كما حصل في معركة بدر وأحد، ولا يتعارض الدعاء مع السعي وبذل الوسع في سبيل الله، والتقيد بأداء الفرائض والسنن، وهو من وجوه تفضيل المسلمين، والشواهد على أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، والخروج للقتال من أصدق معاني الطاعة والإمتثال لأوامر الله ورسوله، ليأتي الدعاء من منازل التقوى والخشية من الله، والإمتناع عن الذنوب والمعاصي.
قانون لماذا القطع
القرآن هو الكتاب النازل من عند الله، ويتصف بأنه قطعي الصدور، ليس فيه حرف واحد من الملك الواسطة بين الله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جبرائيل، ولا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يطرأ تحريف أو تغيير على كلمات وآيات القرآن، وتلك خصوصية ينفرد بها القرآن، ووسيلة مباركة لحفظه وتعاهد آياته لأن حاجة الناس له متصلة ودائمة إلى يوم القيامة.
ومن وسائل حفظ القرآن وجوب تلاوة المسلمين لآياته في الصلاة , ومنها قطع طرف من الكفار، والذي أخبرت عنه الآية، فالقطع مقصود بذاته، وهو أيضاً مقدمة لحفظ آيات القرآن والمسلمين معاً، فالمسلمون يحفظون بتلاوتهم آيات القرآن، ويقطع الله عز وجل لهم طرفاً من الكفار ليحفظ المسلمين في أنفسهم ودينهم فضلاً منه تعالى , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
أي أن القرآن يحفظ بوجوه منها :
الأول : يحفظ القرآن بذاته.
الثاني : تعاهد القرآن بالواسطة الإيجابية مثل تلاوة المسلمين لآياته وحفظها عن ظهر قلب.
الثالث : عصمة القرآن , وسلامته بقطع دابر الكافرينز
وقد يقال يحفظ القرآن من غير أن يهلك شطر من الكفار , والجواب نعم, وهلاك طرف من الكفار ليس بسبب حفظ القرآن وحده، بل له أسباب أخرى عديدة منها:
الأول: إصرار الكفار على قتال المسلمين الذين لا طاقة لهم بالجيوش العظيمة التي تزحف على المدينة المنورة بين الحين والآخر.
الثاني: إستمرار الكفار في تكذيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها من عند الله بعد إقامة الحجة عليهم.
الثالث: لقد أبى الله عز وجل أن يكون الإيمان والكفر بعرض واحد سواء في الدنيا أو الآخرة، فأما في الآخرة فإن المؤمنين في الجنة والنعيم الدائم، والكفار في النار والعذاب الأليم.
أما في الدنيا فإن الله عز وجل يمد النبي وأصحابه والمؤمنين بأسباب النصر، ويبتلي الكفار بأنواع البلاء والضرر، ومنه هلاك عدد من رؤسائهم، وفي فرعون مثلاً لما تمادى في الطغيان، وسام بني إسرائيل أشد أنواع العذاب, أمر الله عز وجل موسى أن يخرج ببني إسرائيل، ويبّس لهم أرضاً من قعر البحر ليعبروا فيه , ليكون آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، ودعوة لفرعون وجنوده للكف عن بني إسرائيل خصوصاً بعد أن رأوا الآيات بعصا موسى عليه السلام، وما إبتلى الله به فرعون وملته.
ولم تأت آية جفاف البحر إبتداء من غير علة وإنذاراً متعدداً كي يعذر آل فرعون بالجهالة والغفلة وغلبة النفس الغضبية، بل جاءت بعد آيات حسية عديدة كل واحدة منها دعوة للتدبر، وحث على التصديق بنبوة موسى عليه السلام، ولكن فرعون وأعوانه أصروا على التحدي والبطش , قال تعالى[فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا] ( ).
ومن إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند الله عز وجل أن اسم فرعون ورد في القرآن أربعاً وسبعين مرة، ولم يرد لفظ(فرعون وجنوده) إلا في الآية أعلاه , وورد أيضاً قوله تعالى[فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ] ( )، في دلالة على أن الهلاك لم يصب إلا المقاتلين الذين خرجوا مع فرعون في اللحاق بموسى وبني إسرائيل للإنتقام منهم، مع أن الآيات الأخرى جاءت ببيان عتو وظلم(آل فرعون) ( ) وجاءت بلفظ[الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ]( )و[فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ]( ).
وجاء الهلاك والقطع ومن بعده الخلود في النار لآل فرعون لإصرارهم على الكفر والظلم والتعدي، قال تعالى[وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] ( ).
وتلك آية من آيات القرآن، فالهلاك في البحر جاء لفرعون وجنوده، أما العذاب الأخروي فهو شامل لآل فرعون لكفرهم وإنقيادهم لفرعون في إدعائه الربوبية مع مجيء موسى عليه السلام بالبراهين والدلالات الباهرات التي تدعو لعبادة الله عز وجل، وكان هلاكهم في البحر قطعاً من الله عز وجل لطرف من الكفار، لذا ورد قوله تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ] ( )، أي أن الله عز وجل هو الذي أغرقهم إنتقاماً منهم، وذكر أنه لما وصل فرعون وجنوده ورأوا البحر قد إنفلق، وبين كل طريقين كالجبل أخذ الجنود ينظر بعضهم لبعض هيبة وإندهاشاً وخشية، فإقتحم قبلهم فرعون وكان على حصان أدهم ودخل خلفه القواد والجنود.
وذكر(أن جبرائيل عليه السلام على فرس وديق و خاض البحر و ميكائيل يسوقهم فلما شم أدهم فرعون ريح فرس جبريل (عليه السلام) إنسل خلفه في الماء و إقتحمت الخيول خلفه فلما دخل آخرهم البحر و همّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم) ( ).
وكذا أقطاب الكفر من قريش فأنهم ساروا بجنودهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءوا من مكة على مسافة أكثر من أربعمائة كيلو متراً على الرواحل والخيل , ومنهم من يسير على قدميه للقضاء على الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من بحر يفرقون فيه وليس من سبيل لنجاة المسلمين منهم إلا رحمة الله، فنزل الملائكة يوم بدر ليقتلوا فريقاً من الكفار، ويقتل المؤمنون سبعين منهم ويأسرون آخرين.
وفي الجمع بين قصص الأنبياء والأمم السالفة وبين مضامين الآية محل البحث تتجلى حقيقة وسنة من سنن الله عز وجل في الأرض وهي هلاك عدد من كبار الكفار عند تجاوزهم ظلم المؤمنين، وقهرهم وإستضعافهم لهم.

وجاءت قصص القرآن ليتعظ الناس من الآيات، ويحذروا من إعانة الظالمين والكافرين في التعدي على المسلمين، وفعلاً كانت هناك أصوات من قريش تدعو إلى ترك أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التعرض له، ولكن تلك الأصوات أسكتت، ورمى أبو جهل وأمثاله من رؤساء قريش أصحابها بالخوف والجبن والخذلان، وإستمرت تلك الأصوات حتى في ميدان المعركة، كما في معركة بدر، ولم يكن أمر الناس بيد أقطاب الكفر من قريش، فمقاليد الأمور كلها بيد الله، والنبي وسط المعركة ويتلقى فيها الوحي، وقال أبو جهل مستخفاً بالمسلمين(ما هم إلا أكلة رأس) ( ) إذ كان في معسكر قريش أربعمائة فرس، وقيل مائتين، وليس في معسكر المسلمين إلا فرسين.
ونزل قوله تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم، فخلوني والعرب وإرجعوا، فقال عتبة بن ربيعة وهو من كبار رجالات قريش : ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، وركب جملاً أحمر وأخذ يدعو قريشاً لإجتناب القتال ( فقال: يا معشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر إن محمداً له إل و ذمة و هو ابن عمكم فخلوه و العرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عيناً به و إن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره فغاظ أبا جهل قوله و قال له جنبت و إنتفخ سحرك) ( ) .
وفي كل زمان كان هناك من يدعو الظالمين للكف عن الأنبياء والصالحين وتركهم وشأنهم، ولكن هذه الدعوة من الكلي المشكك قوة وضعفاً , وعلانية وخفية , فقد ورد في فرعون وقومه تحذير ودعوة مؤمن آل فرعون لهم قال تعالى[وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً]( )، فكان هذا المؤمن من آل فرعون , ويخاف من إعلان إيمانه وتسليمه بالتوحيد ونبوة موسى، وإتجه إلى لغة السبر والتقسيم لإنقاذ موسى من القتل، وسلامة آل فرعون من العذاب.
وفي ذكر نسبته لآل فرعون نكتة , وهي خشيته زوال الملك وهلاك قومه كما ورد في التنزيل[وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ] ( ) ليخفف من غضبهم ويكسر من سورتهم، ويجذبهم إلى منازل التدبر والتفكر، بدل الإصرار على الكفر والظلم والبطش.
ويفيد قيد (يكتم إيمانه) الخوف من بطش فرعون وملئه , فإتجه إلى المناصحة والموعظة وإسمه حبيب وقيل سمعان، إذ أكد أن إظهار العبودية لله عز وجل لا يستلزم القتل مما يدل في مفهومه على إبطال القول بأن فرعون إله، وتحريضهم عليه، ودعاهم للإيمان بأن شهد على معجزات موسى إذ ذكر(البينات) التي جاء بها بصيغة الجمع مما يدل على أن موضوع الإحتجاج أكثر وأعم من آية العصا، وإبتلاعها لعصي السحرة , قال تعالى[فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ] ( ).
ولم يقل مؤمن آل فرعون(من ربه) بل قال(من ربكم) وفيه إنكار لربوبية فرعون بين رجالات حكمه، وإنذار ، ودعوة لهم لنصح فرعون بالكف عن موسى وقومه، وعدم اللحاق بهم، وبذا قام بنصيحة قومه وإنذارهم وزجرهم عن مواصلة العذاب لبني إسرائيل وحذّرهم من بطش الله بهم.
وكما ورد في التنزيل حكاية عنه[فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا]( )لبيان أن العذاب إذا جاء يكون عاماً وشاملاً لآل فرعون
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المؤمنين من قريش وغيرها كانوا يعلنون إيمانهم ويلتحقون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويهجرون الأهل والدعة، ويتركون خلفهم أموالهم، ويعرضون أنفسهم لأخطار الطريق، وملاحقة قريش، ووعيدها بالهجوم على المسلمين في المدينة إذ أن معركة بدر وأحد والخندق لم تحصل إرتجالاً وإبتداء.
فمع أن شباب قريش يسمعون الوعيد والتخويف والإنذارات من اللحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستخفاف بمعجزاته فإنهم أخذوا يتسللون ويخرجون من مكة خلسة أفراداً وجماعات، وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومقدمة لنزول الملائكة ونصرتهم، ومجيء المدد من الله عز وجل لهم فإنه سبحانه لا يخزي المؤمنين، ولا يجعل الكفار يشمتون بهم خصوصاً وأن الإسلام في أيامه الأولى وأهل الشك والريب من حول المدينة، وفي داخلها كما في كثرة عدد المنافقين ، ووجود اليهود في المدينة وتحريف صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة والإنجيل .
فجاء قطع طرف الكفار عزة وتخفيفاً , وقوة إضافية للمؤمنين.
قانون دخول الإسلام من قطع الكفار
تتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصية وهي دعوة الناس جميعاً للإسلام بعرض واحد، وأن ما ينالونه بذات المرتبة والدرجة، ليس من إمتياز وتفضيل لجنس أو قبيلة أو قومية على غيرها , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهناك من أشراف وكبراء الكفار من يظن أن إمارة تنتظره حينما يدخل الإسلام ومع هذا فإنه يمتنع عن دخوله، والأصل أن مثل هذا الأمر يكون برزخاً وحاجباً لدخول كثير من الناس عن الإسلام من باب الأولوية، فإنهم يقولون إذا كان الذي ينتظره الشأن والجاه والسلطان في الإسلام يمتنع عن دخوله، فمن باب الأولوية، أن نمتنع نحن , ولكن العكس هو الذي صار , إذ دخلت أفواج المستضعفين في الإسلام .
فجاء الإسلام بالشهادتين والتساوي في الحقوق والواجبات والتي تبدأ بالوقوف بين يدي الله للصلاة خمس مرات في اليوم في صفوف طوعية يتساوى فيها السيد والعبد، والغني والفقير، ويكون المكان في المسجد لمن سبق كالسوق، وهذا التساوي شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، إذ أن المسلمين رضوا به، ولم يعترض أو يمكر بعض الرؤساء والأشراف على هذا الحكم.
وتجلى التساوي بين المسلمين في العطاء، وتوزيع الغنائم، وأحكام القصاص، وغيرها، وكان سبباً في جذب عامة الناس للإسلام، وشرائهم مرضاة الخالق وإن سخط الظالم والكافر، ولو تصفحت التأريخ وما جرت فيه من الوقائع والمعارك العظيمة رأيت الذين يحاربون ويقتلون هم العامة من الناس، أما الطاغوت والملك فليس عنده إلا حشرهم للنفير وإصدار الأوامر، ولو كف العامة عن نصرته لما فكر في التعدي والظلم والإستيلاء على أموال الآخرين، وزحف على أراضيهم وأسقط الممالك وإستعبد أهلها، وجاء الإسلام لإستئصال الطغيان والعتو من الأرض، ومن وجوه هذا الإستئصال التكافؤ بين المسلمين، وتغشي هذا التكافؤ المعاملات والعقود.
وتتجلى موضوعية أحكام الإسلام في المعاملات في أبواب عديدة منها النكاح , فالمسلم كفؤ المسلمة (وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)( )، وفيه ترغيب للناس لدخول الإسلام، وهذا الترغيب ليس طلوباً بذاته بل هو رشحة من أحكام سماوية متكاملة تضمنتها شريعة الإسلام لتكون مؤهلة للبقاء إلى يوم القيامة، وإيجاد أجيال مؤمنة تجاهد إعصار الغضب وغلبة النفس الشهوية وإغواء الشيطان , وقادرة على الصبر في مواطن القتال .
فكما يجاهد المسلمون في سبيل الله، وحفظ بيضة الإسلام , فإن القرآن بذاته يجاهد أعظم جهاد لتثبيت أحكامه بما فيه من الإعجاز والحكمة والمواعظ والبراهين القاطعة وأحكام الشريعة في الحلال والحرام والمعاملات وثبوت مناسبتها للزمان والمكان، والحكم والموضوع، وتلك آية من بديع صنع الله ، ورحمة لأهل الأرض جميعاً بشوارق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويدرك الناس أن دخول الإسلام نعمة وحاجة لوجود المقتضي وفقد المانع، فالمتقضي هو وجوب عبادة الله، وتصديق أنبيائه، وإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس الكفر واللبث فيه زماناً وقضاء أكثر أيام العمر في الضلالة والظلم مانعاً من دخول الإسلام، وكان الذين يقاتلون المسلمين يعلمون أن أبواب الإسلام مفتوحة لهم.
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لا يبدأون القتال ، يدافعون بعد الوعظ والإنذار ودعوة الأعداء إلى الإسلام، وقد أدّب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وأمراء الجند والسرايا في سبيل الله ألا يبدأوا بالقتال، ليكون الكفار هم المعتدون، فتقوم عليهم الحجة، ويكون أسرع في هلاكهم وقطعهم وكبتهم ، وهو باعث للندم والحسرة في نفوسهم , مع تقدم الترغيب بدخول الإسلام من قبل المسلمين وقادتهم وزعمائهم، وليس من قانون في المساواة في تأريخ الإنسانية مثل نيل تمام الحقوق ساعة الإنتماء للإسلام ولو في ساحة القتال ، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، بتقريب تجلي التساوي في صلات وماهية ومراتب الأخوة الإيمانية.
ويعاني الإنسان عند الإنتقال وتغيير محل عمله وإقامته وسكناه من نعته بالغريب، والإعراض والصدود عنه، ومن ينتمي إلى جماعة وفرقة يبتدأ من المراتب الأدنى، وينظر له بريبة وشك وربما بغضب وغيض إذا كان من الأعداء، إلا في الإسلام، فإن دخول عظماء الكفار فيه يدخل البهجة والسرور في نفوس المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجع رؤساء القبائل الذين يدخلون الإسلام أئمة على قومهم في الغالب بعد التفقه في الدين وتعلم الصلاة.
ودخل عدد من كبار الكفار الإسلام وأحسنوا إسلامهم، ويحتمل بلحاظ الآية محل البحث وجوهاً:
الأول: إنه قطع لطرف من الكفار، لما فيه من الإختيار وقد تقدم في باب الإعراب واللغة: كل مختار طرف ( )، فالقطع هنا لذات الكفر وليس للذين يهجرونه، كما في قوله تعالى[وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا] ( )، أي أمرناهم بالإحسان والصلاح، ولكنهم عصوا وأظهروا الفساد، ويكون قطع طرف من الكفار بدخول جماعات منهم الإسلام.
الثاني: ليس من قطع طرف الكفار، لأن القدر المتيقن من القطع في المقام هو هلاك فريق من كبرائهم، كما في قتل سبعين من صناديدهم يوم معركة بدر.
الثالث: إرادة المعنى الأعم للقطع وتعدد طرقه وكيفياته والله واسع كريم، وهو الذي يبتلي الكفار بأنواع البلاء، ويأتيهم الضرر والأذى من حيث لا يحتسبون، ومن جهات كثيرة منها :
الأولى : دخول فريق من الكفار الإسلام .
الثانية : إعتزال شطر من القبائل قتال المسلمين.
الثالثة : عقد بعض القبائل العهود والمواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقادة المسلمين.
الرابع: يأتي القطع بمعنى الإبانة، وومحو وتعطيل طرف منهم من عند الله، وحينما يأتي القطع من عند الله فهو أعم من البطش والإنتقام العام، فقد يكون بهداية وصلاح فريق منهم، وهذه الهداية سبب لغيظ وحزن الذين يصرون على الكفر منهم.
لذا جاء في الآية التالية قوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ] ( )، ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية، إذ أن القطع لا ينحصر بالوجه الثاني أعلاه، ولكنه من أهم مصاديق الآية، وأكثرها جلاء ووضوحاً ساعة المعركة.
أما في حال السلم فإن أحكام هذه الآية لا تتعطل بل هي متجددة في الليل والنهار، وفي الشرق والغرب، ومن مصاديق تجددها أمور:
الأول: دخول الناس الإسلام.
الثاني: إقرار فريق من الكفار بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تجدد الشواهد التي تدل على الإعجاز في نبوته وفي آيات القرآن، ومنها هذه الآية التي هي إنذار دائم للكفار تظهر شواهده في كل زمان ومكان، خصوصاً في ميادين القتال وبما يكفي المسلمين أذى الكفار , قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
فمن وجوه كفاية الله المسلمين دخول الذي كان عدواً للإسلام فيه، ونطقه بالشهادتين , ليكون هذا النطق على وجوه:
الأول: فيه قطع لجانب من الكفار.
الثاني: إضعاف قوتهم.
الثالث: إنه سبب لبعث الوهن في صفوفهم.
الرابع: حصول الفتنة وأسباب الشك والريب فيما بينهم.
الخامس: توظيف الكثير من طاقاتهم وأموالهم لمنع إندفاع أتباعهم نحو دخول الإسلام.
ولا ينتهي القطع بدخول شطر من الكفار الإسلام، ولا بهلاك عدد من كبرائهم في ميادين القتال، بل أن طرق القطع متداخلة ومتصلة وتكون أحياناً كالسبب والمسبب، ومصداقاً لقانون العلة والمعلول , فدخول عدد من كبراء الكفار يجعل من بقي من الكفار هدفاً سهل المنال للمسلمين، ويصبحون قادرين على أسرهم أو قتلهم، وكذا فإن هلاك عدد من كبراء الكفار سبب وجزء علة لدخول أفواج من الكفار الإسلام ليجهز المسلمون على من بقي في منازل الكفر والضلالة ، كما حصل في معارك الإسلام الأولى، فلم يقع قتل ذريع بالكفار في معركة بدر والخندق، ولم تمر ثلاث سنوات على معركة الخندق حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة .
ويلاحظ أن الكفار يهجمون في شهر رمضان كما في بدر , وفي شوال كما في معركة أحد إجتناباً لحلول شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم وهي أشهر حرم سرد، وكأنهم يتعجلون في الظلم والتعدي وجلب الإثم والخزي لأنفسهم، ومن وجوه تفسير قوله تعالى [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ]( )، أن كفار قريش كانوا يستعجلون العذاب إستهزاء وسخرية , ومقابلة للوعيد بالتكذيب , فكانت واقعة بدر قطعاً وكبتاً وذلاً وخيبة لهم , وهو من أشد أفراد العذاب .
والشهر الرابع من الأشهر الحرم وهو شهر رجب منفرداً، وسمي الأصم لأمور:
الأول: عدم سماع قعقعة السلاح فيه.
الثاني: يأمن الناس بعضهم بعضاً , فلا ترد أخبار عن حصول قتل فيه.
الثالث: تكون السبل في شهر رجب سالكة، وتدل التسمية والمسمى، وتقيد العرب بآداب الشهر الحرام على الإرتقاء الإجتماعي عندهم، وإلتزامهم بضوابط حميدة العادات والصلات والحروب، فهم يخشون لحوق العار بهم بالتعدي في الشهر الحرام .
مما يدل على أن القرآن نزل في مجتمعات لها أصول وتحكمها عادات متوارثة بعضها موروثة من ملة إبراهيم، وفي تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على صدقها، ودليل على تلقي الناس لآيات القرآن بالقبول والتسليم بأنها من عند الله، ويعجز الناس عن الإتيان بمثل جزء منه قال تعالى[نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( )، وفيه دعوة لرؤساء الكفر والضلالة وأتباعهم للإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وبه نزل قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
وقيل أن السائلين هم الكفار لتعيير المسلمين لإستحلالهم القتال فيه، والمشهور والمختار أن السائلين هم المسلمون، ووجه إباحة القتال فيه أن المسلمين مطرودون من البيت الحرام ومكة، وخرجوا خائفين فالتعدي والظلم من الكفار مستمر حتى في الشهر الحرام، وليس من هدنة أو إعادة لحقوق وأموال المسلمين، لذا جاء في الآية أعلاه [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ]، وقيل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عقل ابن الحضرمي وهو أول رجل من الكفار يقتله المسلمون وإسمه عبد الله بن عباد وكان قتله من أسباب هياج الكفار إذ إدّعوا أنه قتل في الشهر الحرام (وتفاءلت اليهود بلحاظ الأسماء، وقالوا عمروا بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمروا: عمرت الحرب، الحضرمي:حضرت الحرب، واقد : وقدت الحرب) ( ).
وجاءت الآية محل البحث لتبين أن الدائرة على الكفار، وأن نصر الله عز وجل مصاحب للمسلمين، وليس في الحرب إلا قطع لطرف من الكفار، وقتل صناديدهم وأبطالهم، وتثبيت دعائم الإسلام في الأرض , ووجود أمة قوية منيعة تتعاهد أحكام الشريعة إلى يوم القيامة.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه إن معركة الخندق كانت في سنة أربع، وشهد مالك والشافعي بأنها أصح المغازي، إلا أن هذه الشهادة أعم من أن تكون بخصوص واقعة الخندق , ولا تنبسط على كل واقعة وتأريخ فيها إذ جاءت الشهادة في الجملة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع المبالغة، وهي أن يأتي المتكلم بما يفيد خصوصية وموضوعية للمعنى والقصد الذي يريد، ومن منافعه جذب الإسماع، والعناية بالموضوع والتدبر في الصفات، والمبالغة على أقسام:
الأول: مبالغة بالوصف، بأن يكون أكبر وأعظم من الوجود الذهني للشيء، وكأنه من عالم التصور، كقوله تعالى[وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ]( ) أي لا يدخل الكفار الذين كذّبوا بالآيات ومعجزات النبوة الجنة حتى يدخل البعير في ثقب الأبرة للإخبار عن النفي التام وحرمانهم من دخول الجنة.
وقيل المراد من الجمل، بضم الميم، الحبل الغليظة (وسئل عبد الله بن مسعود عن الجمل فقال (زوج الناقة)( ) تعريضاً بالسائل وإستجهالاً له، لإشتباهه ووضوح المسألة.
ويقال لإستبعاد أمر : لا يكون حتى يشيب الغراب) لتعليق الحكم على الوصف المستحيل وما لا يوجد إلا في الوجود الذهني والتصوري لتأكيد نفيه, وبعث اليأس منه.
الثاني: مبالغة بالصيغة مثل صيغة المبالغة (الرحمن) ( ) على وزن فعلان، وصفة الرحمن خاصة بالله عز وجل، وتدل على الكثرة، وقيل إنه من الصفات الطارئة كعطشان وغرقان، ولكنه مشتق من الرحمة وهو صفة دائمة لله عز وجل، نعم بناء فعلان يدل على السعة والشمول، كما يقال غضبان للذي إمتلأ غضباً، إلا أن يراد من الصفة الطارئة في المقام أن لفظ الرحمن خاص بالدنيا ، وهو بعيد لأنه ليس طارئ، وعن أبي سعيد الخدري (عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال أن عيسى بن مريم قال: الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة )( ).
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة ) ( )، أي أن الرحمن خاص بالدنيا وحاجات الناس فيها برهم وفاجرهم، والرحيم على وزن فعيل من صيغ المبالغة أيضاً إلا أن فعلان أبلغ من فعيل, وهو عام في الدنيا والآخرة للمؤمنين.
الثالث: المبالغة الموضوعية، وهو قسيم ثالث نؤسسه في المقام، فإن قيل أن البديع هو علم تعرف به الصيغ التي تضفي على الكلام حسناً، وتزيده إشراقاً وجمالاً، ومنه تحسين الكلام بالألفاظ ذات الحسن الذاتي والعرضي , أي في اللفظ والمعنى والدلالة، والمدار على اللفظ فيه وليس على الموضوع، والجواب أن المبالغة في هذا القسم تأتي باللفظ أيضاً.
ولم يرد لفظ(ليقطع طرفاً) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وفيه سر إعجازي ونكتة كلامية , إذ إجتمع في الكلمتين أمور:
الأول: لفظ(القطع) وما فيه من الإستئصال، فلم تجعل الآية مندوحة من الزمان قد يرجع فيها الكفار، مما يدل على أنهم لو بقوا لتمادوا في التعدي والظلم والتحريض على المسلمين، فجاءت الآية بصيغة المبالغة (القطع والهلاك).
الثاني: تعلق القطع بطرف وطائفة ذات شأن وموضوعية عند الكفار، وهجومهم على المسلمين.
الثالث: لم يأت القطع في الوسط بل تعلق بطرف منهم، وهذا الطرف يحتمل وجهين:
الأول: الطرف القريب والمجاور للمسلمين، والذي يعتدي عليهم، ويجمع الجيوش والسلاح ضدهم.
الثاني: الطرف البعيد عن المسلمين، والذي لا تصل أخباره إلا بعد حين، والذي لا تأخذه حمية الجاهلية والوثنية ضد المسلمين لبعد مثواه.
والصحيح هو الأول من وجوه:
الأول: من باب الأولوية فإنه يأتي للطرف ليكون إنذاراً للوسط فكذا للطرف الثاني.
الثاني: جاءت الآية بخصوص نتائج المعارك الأولى للمسلمين، ونزول الملائكة لنصرتهم.
الثالث: أراد الله عز وجل بهلاك هذا الطرف من الكفار تثبيت أقدام المؤمنين، وبعثهم لأداء الفرائض والعبادات بشوق ورغبة، والتوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء.
إن صيغة المبالغة في المقام وصف لما يصيب الكفار من غير تهويل أو مبالغة، ولأن المصائب التي تلحق بهم عظيمة، وتفوق التصور، وهم لايدركون معانيها ودلالاتها , فجاءت هذه الآية إنذاراً وتبصرة، وحثاً لهم على التوبة والندامة، والكف عن إيذاء المسلمين، وهي أيضاً دعوة للمسلمين للتفقه في الدين.
وقد يقال إذا كانت صيغة الرحمن خاصة بالدنيا وللناس جميعاً وأسباب الرزق والأمن والعافية فيها، فلماذا قطع طرف من الكفار، وهل يتعارض مع صيغة المبالغة في الرحمن التي تفيد العموم والشمول والجواب من وجوه:
الأول : يفيد الجمع بين صفة الرحمن لله سبحانه , وقطع طرف من الكفار أن هذا القطع من مصاديق الرحمة بالناس.
الثاني : قطع دابر الكافرين إصلاح للناس، وإنذار من التعدي على الإسلام، ولا يتعارض مع صيغة الرحمن.
الثالث : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، وزحفت قريش بخيلها وخيلائها للإجهاز على الإسلام، ومنع أسباب هذه الرحمة , والله عز وجل هو [الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ]( ).
الرابع : لم تمر الأيام والليالي حتى دخلت قريش في الإسلام، وتولى رجالها مقامات الإمامة والأمرة وقيادة الجيوش، وجلبت الغنائم والذهب والفضة إلى المدينة ومكة.
الخامس: مضامين الرحمة أعم من أن تنحصر بجيل واحد، وفريق من الناس كقريش، خصوصاً وأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت للأجيال المتعاقبة من الناس وإلى يوم القيامة.
السادس: من مضامين ومصاديق الرحمة الإلهية المعجزات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهي في مفهومها إنذار للكفار والمشركين , والإنذار رحمة وفضل من الله، وحجة على الناس.

علم المناسبة
وردت مادة(قطع) في آيات عديدة من القرآن، وفي معان متقاربة، وتفيد معنى الإبانة والفصل والتجاوز، وجاء لفظ (يقطع) بصيغة الفعل المبني للمعلوم ثلاث مرات في القرآن، الفاعل في إثنتين هو الله عز وجل , قال سبحانه[وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
لقد كان خروج المسلمين لمعركة بدر آية إعجازية , ويتجلى المدد الإلهي في ذات الخروج ، إذ نظر شطر منهم إلى الأسباب ومقدمات المعركة، ومستلزمات القتال , قال تعالى[كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ) ، وهذه الكراهية على وجوه:
الأول: إلتفت بعض صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قلتهم والنقص في أسلحتهم, إذ كان كفار قريش ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، وهذه النسبة لم تكن معروفة على نحو الدقة العقلية عند المسلمين قبل الخروج إلا أنها معلومة عندهم على نحو الإجمال بلحاظ عدد قريش ومن معهم من الأحابيش، ومن يبادر للخروج معهم من القبائل.
وقال حسان بن ثابت:
جمعتموها أحابيشاً بلا حسب أئمة الكفر غرّتكم طواغيها( ).
قال ابن إسحاق:وكان الحليس بن زيان أخو بنى الحارث بن عبد مناة – يومئذ سيد الاحابيش( ).
الثاني: إجتناب القتال، خصوصاً وأن الإسلام في بداياته.
الثالث: الخشية من تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة للقتل.
الرابع:( قال بعضهم كيف نخرج و نحن قليل و العدو كثير , وقال بعضهم كيف نخرج على عمياء لا ندري إلى العير نخرج أم إلى القتال) ( ).
الخامس: سرعة التهيئ للخروج، وعدم الإستعداد له قبل مدة مناسبة بالتمرين وجمع المؤون.
السادس: وطأة وأخطار القتال مع قريش , وما تتصف به من البطش والقسوة، وخشية شماتة الأعداء، قال تعالى[وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( ).
ولم يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بأمر من عند الله، إذ أن جبرئيل نزل عليه وأمره بالخروج للقتال، ويكون فيه إحقاق للحق، والله عز وجل أعلم بالمصالح والمفاسد، وما ينفع المسلمين والناس إلى يوم القيامة، فأراد الله سبحانه أن يظهر الإسلام , وينتصر المؤمنون ويعود الكفار بالخيبة والخسران من معركة بدر، ويستأصل كفار قريش.
والنسبة بين قوله تعالى[وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] في الآية أعلاه، وبين قوله تعالى(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) في الآية محل البحث، هي العموم والخصوص المطلق، فقطع الدابر أعم وأوسع وأكبر من قطع الطرف، ومن الآيات ورود قطع دابر الكفار في معركة بدر، وجاء قطع الطرف في معركة أحد مع أنها متأخرة زماناً بنحو سنة عن معركة بدر، ويحتمل وجوهاً:
الأول: كانت خسارة الكفار عظيمة يوم بدر إذ قتل منهم سبعون، وأسر سبعون، ولم يرجعوا من أحد إلا وقد خلفوا وراءهم إثنين وعشرين قتيلاً، لتكون هذه الخسارة مع إنسحابهم شاهداً على تحقق أمور وفق منطوق هذه الآية وهي:
الأول:قطع طرف من الكفار بهلاك عدد ليس بالقليل من صناديدهم وأبطالهم.
الثاني:كبت وخزي الكفار، وإصابتهم بالذل والحزن بالإنسحاب من دون أن ينالوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولم يستطيعوا وطأ أرض المدينة إلى أن دخلوا في الإسلام, وتلك معجزة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تستلزم من الباحثين في شؤون العقيدة والقتال الدراسة والتحقيق , وإستنباط المسائل والعبر.
الثالث: إنصراف الكفار إلى مكة , والخيبة تملأ نفوسهم.
فمن مصاديق النصر الإلهي للمسلمين أن تأتي أفراد وأطراف هذه الآية الثلاث كلها عند وقوع المعركة بين المسلمين والكفار، قال تعالى[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ]( ).
الثاني: إنهزم الكفار من معركة بدر خائبين، بينما إستطاعوا في معركة أحد أن يعيدوا الكرة على المسلمين، وإقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسروا رباعيته، وشجوا وجهه الشريف فسال منه الدم.
الثالث: إرادة المعنى الأعم في قوله تعالى[وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( )، وأن المقصود ليس معركة بدر وحدها بل معارك الإسلام اللاحقة، ليأتي فتح مكة بآية ومعجزة من عند الله عز وجل , ويكون مصداقاً لقوله تعالى[وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( )، ولم يأت قطع دابر الكافرين بواقعة واحدة.
ولا ينحصر موضوع الآية بزمان التنزيل، فهو متصل ودائم على نحو التدريج لكي يتعظ الناس، ويعتبروا من آية إبتلاء الكفار بالقطع والهلاك، وقد يأتي القطع في القرآن بصيغة الماضي ووقوع إستئصال الذين كفروا كما في قوم هود الذين جحدوا بنبوته وأصروا على الكفر والشرك , قال تعالى[وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا] ( ).
إذ جاء عذاب الإستئصال على الكافرين من قوم هود بريح فيها عذاب أليم[قَالُوا هَذَا عَارِضٌ]( )، ومن العذاب في هذه الريح أنها لم تنته بسرعة بل إستمرت[سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا] ( )، وهود وأصحابه في أمن من الريح وأذاها.
وجاء لفظ(طرف) في آيات من القرآن وبمعان متعددة، ولم يأت بخصوص طرف وطائفة من الكفار إلا في هذه الآية، وقد ورد بخصوص أوقات الصلاة قال تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( )، لبيان أن المسلمين يستثمرون آنات الزمان وأطراف النهار والليل لذكر الله سبحانه(و ذكر الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت و لم تفعله.
قال هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم , وأنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا قلت , ولم فعلته قال إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق ثم قرأ هذه الآية، و أقم الصلاة إلى آخرها) ( ).
وتتجدد أطراف الليل والنهار كل يوم وليلة بأفراد طولية متساوية، وحياة الإنسان فيها منقطعة، ولكن هذا الإنقطاع متباين بين الكفار والمسلمين، فالكفار يقطع طرف منهم، والطرف جزء من الشيء، ويهلكون قبل أوانهم بإختيارهم الكفر والضلالة.
أما المسلمون فإنهم يستثمرون آنات الزمان لعبادة الله وإتيان الفرائض، لذا يقطع الله عز وجل طرفاً من الكفار الذين يهجمون على المسلمين لمنعهم من أداء الفرائض (وبالإسناد عن أبي أمامة قال بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فقال هل شهدت الصلاة معنا , قال نعم يا رسول الله قال فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذنبك) ( ).
وفيه ترغيب بالفرائض , ودعوة للصلاح، والإمتناع عن التعدي على المسلمين , وفيه بيان لعظيم فضل الله على المؤمنين , وسعة باب التوبة , والحسن الذاتي لستر العبد نفسه, ولا دليل على إرادة خصوص من صلى مع النبي على نحو التعيين والحصر.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب التعليل، وبيان علة الفعل، وما يترتب عليه من أثر، وكأنه جواب لسؤال مقتبس من الجملة الأولى، وفوائد التعليل كثيرة، منها:
الأول: التقرير والإمضاء.
الثاني: بيان الغايات من الفعل.
الثالث: منع الجهالة والغرر.
الرابع: قطع الترديد ووجوه اللبس.
الخامس: البعث على قبول الفعل والحكم والأثر.
وحروف التعليل عديدة منها اللام، إذ، أن، الباء، كي، لعل، وقد يأتي بصيغة الاسم كغاية ونتيجة كما في قوله تعالى[جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاء] ( ).
والجعل أخص من الخلق، وبينهما عموم وخصوص مطلق، والثاني متأخر رتبة وزماناً عن الأول , أي أن جعل الأرض فراشاً والسماء بناء للناس ليس علة تامة في خلق السماوات والأرض.
وجاءت الآية محل البحث بحرف التعليل (اللام) وهو من أهم حروف التعليل وأكثرها بياناً في ذات الموضوع , ومن منافع اللام في المقام وجوه:
الأول: قطع طرف الكفار مقصود بذاته، فالله عز وجل قادر أن يظهر الإسلام ويحفظ المؤمنين مع وجود الكفار وخروجهم للمعارك، ولكنه سبحانه أراد هدم ركن من أركان الكفر، وهلاك عدد من رجالهم عقوبة عاجلة لهم.
الثاني: منافع وآثار قطع طرف من الكفار أعم من أن تنحصر بمعركة، فتتعلق بمستقبل الأيام، ولم يتعظ الكفار من هلاك سبعين وأسر سبعين منهم يوم بدر، بل زحفوا مرة أخرى بعد سنة في معركة أحد بجيوش لا عهد لأهل يثرب بها، وكأنهم أرادوا أن يوصلوا رسالة لأهل المدينة من الأوس والخزرج بأنه مع حلول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة جاءكم البلاء والقتال إلى جانب الضيق في المعاش , وإغراء اليهود والمنافقين بإثارة أسباب الفتن، ووجوه الشك والريب في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
وكون قطع طرف من الكفار مقصوداً بذاته لا يتعارض مع دعوة المسلمين للقتال وبعث الغبطة والسكينة في نفوسهم، قال تعالى [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ]( )،وقيل في الآية أعلاه أن المراد من القوم المؤمنين هم خزاعة الذين بيّت عليهم بنو بكر، عن مجاهد والسدي، ولكن الآية أعم زماناً وموضوعاً وأثراً لأن خزاعة تحالفت يوم صلح الحديبية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتحالف بنو بكر بن عبد مناة مع قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير لدم وثأر بينهم متقدم زماناً على صلح الحديبية.
وكانت البعثة النبوية وإنشغال الناس بأخبار ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس في الإسلام، قد شغلهم عنه، وأعانت قريش بني بكر، وقاتل عدد من رجالهم مستخفين مع بني بكر، وأمدوهم بالسلاح ضد خزاعة، فخرج وفد من خزاعة إلى المدينة، ووقف عمرو بن سالم الخزاعي في المسجد النبوي، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جالس بين ظهراني أصحابه، والقى عمرو قصيدة شكى فيها ما أصابهم، ودعا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنصرتهم بعد نقض قريش العهد الذي أبرموه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومما قاله في قصيدته:
ونقضـــــــــــوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لى في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا فهـــــــــــم أذل وأقل عددا
هـــــــــــم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعـــــــــــا وسجدا ( ).
فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لا نصرت إن لم أنصر بني كعب)( ).
وجاء وفد آخر من خزاعة مع بديل بن ورقاء المدينة وأخبروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بمظاهرة ومؤازرة قريش لبني بكر عليهم وكيف أنهم أممدوهم بالسلاح , وقاتلوا خفية معهم، ونقضوا الميثاق.
الثالث: الإشارة إلى ما تقدم من الآيات وإيجاد الصلة بينها وبين هذه الآية وفق قانون العلة والمعلول، ومن الآيات حصول الإختلاف في العلة لهذا القطع.
ويمكن ان نطلق على الآيات التي تتضمن التعليل (مدرسة التعليل) مع تقسيمها إلى أقسام بلحاظ الموضوع والحكم , لما فيها من البيان وتوكيد قانون العلة والمعلول وغاياته والأغراض السامية منه، إذ أنه وسيلة لتثبيت سنن التوحيد وأحكام الحلال والحرام في الأرض، وسبب سماوي لإزاحة الفساد من الأرض، ونبذ المفسدين والنفرة منهم.
ومصاديق مدرسة التعليل في القرآن من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن خصاص التعليل في القرآن أنه تأديب وتعليم للمسلمين، وموضوع مبارك متعدد المصاديق لتفقهم في الدين وإرتقائهم في سلم المعارك الإلهية.
قانون القطع رشحة البشارة والطمأنينة
جاءت الآية السابقة بالإخبار عما يترشح من نعمة الإمداد بالملائكة الذي جعله الله عز وجل ذخيرة وكنزاً وهبة سماوية خاصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهذا المدد نعمة توليدية متجددة في ذاتها ومضامينها وغاياتها وما يتفرع عنها، فنصر المسلمين من غايات المدد، وتترشح عنه منافع كثيرة ليس لها حد أو حصر، وهي تفوق عالم التصور الذهني لما لها من مصاديق مستحدثة في أفراد الزمان الطولية.
وجاءت الآية السابقة بالإخبار عن نعمتين مترشحتين عن نعمة المدد الملكوتي والوعد به وهما:
الأولى:البشارة للمؤمنين.
الثاني: الطمأنينة والسكينة في قلوب المؤمنين.
وهل يحصل قطع للكفار من الوعد بالمدد الملكوتي والذي جاء في الآية السابقة الجواب نعم، إذ يدرك المسلمون النعمة العظيمة بالوعد بالملائكة إستصحاباً لما رأوه من آية نزول الملائكة وملاحقتهم للكفار يوم بدر(روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال لقد رأينا يوم بدر أن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف) ( ).
والبشارة والطمأنينة سلاحان فاز بهما الصحابة ساعة العسرة والشدة، وأوان الفزع والخوف، وهما هبة من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، فلا يخشى المسلمون على بيضة الإسلام من هجوم الكفار، وهما من الوجوه والأسباب التي تحجب ضرر الكفار عن المسلمين، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وهل هما من أسباب قطع طرف من الكفار بالذات أو بالعرض الجواب نعم، وتلك خصوصية في النعمة الإلهية على المسلمين في ميادين القتال بأن تكون منافعها كثيرة وفي وجوه متعددة، ويكون أثرها على الكفار على قسمين:
الأول: نصر المسلمين هزيمة للكفار، لأنهما من الضدين اللذين ينافي أحدهما الآخر، ولا يصح إجتماعهما معاً في معركة واحدة أو وقت واحد، فنصر المؤمنين هزيمة لأعدائهم الكفار.
وهل الهزيمة خاصة بكفار قريش الذين حضروا بدراً أم هو أعم، الجواب هو الثاني , وفيه خسارة وخيبة وخزي لهم ولمن خلفهم من الكفار.
الثاني: تعني البشارة فتح أبواب من الفتح والظفر للمسلمين، ونشر لواء ومبادئ الإسلام.
الثالث: لقد كان الناس أزاء معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام:
الأول: من آمن وصدق بها , وبادر إلى دخول الإسلام، والإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختيار الهجرة.
الثاني: من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخفى إيمانه فزعاً وخوفاً من الكفار (قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب و كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت و أسلمت أم الفضل و أسلمت , و كان العباس يهاب قومه و يكره أن يخالفهم و كان يكتم إسلامه و كان ذا مال كثير متفرق في قومه) ( )الحديث.
الثالث: الذي أسلم وينتظر الفرصة والوقت المناسب للفرار بدينه والإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين.
الرابع: الذي أسلم وبقى مع الكفار خشية على نفسه وماله، وإختار بعث الخوف والشك في نفوس الكفار ودعوتهم بالحجة والبرهان إلى الكف عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد كان كثير من صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يهاجروا يدعون قومهم للكف عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسخرية منه.
الخامس: الذي أقام على الكفر والضلالة، ولم يتدبر في آيات النبوة، وكره أن يترك ما كان عليه آباؤه.
السادس: أقطاب الكفر والجحود الذين أصروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأنفقوا الأموال في صد الناس عن الإسلام، وتحريضهم للخروج لقتال المسلمين.
وجاء المدد الملكوتي والنصر الإلهي، والبشارة بالمدد لتثبيت أقدام المؤمنين، وحثهم على الخروج على الكفار، والإمتناع عن طاعتهم، فمن كان يخفي إسلامه جاء المدد الملكوتي دعوة له لإعلان إسلامه، واللحاق بالمهاجرين والأنصار، ومن كان كافراً جاءت البشارة للمؤمنين لكسر شوكته، وخزيه وإغاظته، قال تعالى[عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ).
ومن منافع البشارة للمؤمنين دخول الإيمان قلوب عدد منهم، لأن الإسلام هو دين الفطرة، وتخاطب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقول، وتطرق آيات القرآن الحواس والجوانح بالليل والنهار، وتأتي على النفس الشهوية والغضبية فتزيحهما عن مقامات القرار، وتمنعهما من الإستحواذ على اللسان والأفعال، وتجعل نفراً من الكفار يتداركون أمرهم، ويتدبرون في آيات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
ومن تلك الآيات أن البشارة بالمدد الملكوتي الواردة في الآية قبل السابقة لم تأت إلا بعد أن نزل الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر، فلو جاءت البشارة بالمدد وحدها لما إعتبر وخاف وفزع الكفار، لأن البشارة خطاب خاص للمسلمين.
وإنتهج الكفار صيغ الإستهزاء والإستخفاف , قال تعالى[إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( )، وكفاية الله إستهزاءهم بأن أهلكهم , وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهم خمسة نفر من قريش( )، والآية أعلاه أعم، وهلاك هؤلاء من عمومات قطع طرف من الكفار الوارد في هذه الآية، وأن جاء متقدماً زماناً عن معركة بدر وأحد، فكان هلاكهم قبل الهجرة النبوية الشريفة واقيةً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة، وهي سبب لإسلام عدد من شباب قريش، ومقدمة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتها بشارة للموحدين ومن بقوا وتوارثوا ملة إبراهيم، وهي طمأنينة وسكينة للقلوب المنكسرة، ومن معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأسباب المدد الإلهي لنصرته في المقام وجوه:
الأول: البشارة للمسلمين قطع لطرف من الكفار.
الثاني: البشارة بهلاك عدد من أقطاب الكفر.
الثالث: قطع طرف من الكفار وهلاك أقطاب منهم بشارة للمؤمنين، وطمأنينة لقلوبهم.
قانون البشارة والطمأنينة رشحة من القطع
جاء القانون السابق بعكس هذا القانون في عنوانه وموضوعه من غير تزاحم أو تعارض بينهما وكأنهما من المتضايفين، وهما الوجوديان اللذان يتوقف تصور كل واحد منهما على تصور الآخر كالإمساك والإفطار في يوم الصيام، فالتداخل والتضايف والأثر المتبادل بينهما في طول إجتماعهما لتثبيت دعائم الدين، وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من كيد الكفار والمشركين .
فتكون البشارة مقدمة لهلاك طائفة من الكفار، وبعث الخوف في صفوفهم، ويأتي قطع وهلاك طرف من الكفار نتيجة للبشارة أو على نحو مستقل من غير أن يكون رشحة من رشحات البشارة والطمأنينة ومحل البشارة غير محل القطع، وبينهما تناف في الموضوع والحكم والمحل، ولكن الأثر متحد ومتداخل، وهو من فضل الله عز وجل، ليكونا كمثال للحشر يوم القيامة، فالمؤمنون والمؤمنات يومئذ[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، والكفار في أشد الأحوال , قال تعالى[فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ] ( ).
ومن منافع الإيمان أن البشارة والطمأنينة اللتين أنعم الله عز وجل بهما على المسلمين سبب لبعث الحزن والأسى في نفوس الكفار، وأن قطع طرف من الكفار مناسبة للبشرى وفوز المسلمين بالسكينة، فإن قلت إن البشرى والطمأنينة جاءتا بأمور هي:
الأول: نصر المؤمنين في معركة بدر.
الثاني: المدد الذي بعثه الله من الملائكة في بدر وأحد.
الثالث: الوعد الإلهي الكريم بالمدد , إن عاد المشركون للقتال .
فهل البشارة والطمأنينة التي تأتي للمسلمين من قطع طرف من الكفار هو تحصيل لما هو حاصل , الجواب لا، بل هو فضل في البشارة، وتوكيد لها وزيادة في أفرادها وموضوعها، وإستقرار للسكينة في نفوس المسلمين، وتجديد لها، وهو من اللطف والفيض الإلهي على المسلمين الذي جاء بلحاظ ساعة الشدة والفزع والقلة التي كانوا عليها في معارك الإسلام الأولى.
وفي هلاك بعض أقطاب الكفر وجوه:
الأول: إنه باعث للمؤمنين للقتال في سبيل الله، لما فيه من الوهن والضعف في صفوف الكفار.
الثاني: إنه وسيلة سماوية مباركة، لزيادة إيمان المسلمين، وهذه الزيادة من جهات:
الأولى: نزول هذه الآية الكريمة وما فيها من الإخبار الذي يتضمن الصدق قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثانية: حصول المصاديق الخارجية لهلاك وقتل رؤساء من الكفار، وإصابة أموالهم بالتلف، وهجران أبنائهم وأزواجهم لهم.
الثالثة: لقد إجتهد أهل الشك والجدال في بث الريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها، فجاء قطع طائفة من الكفار سلاحاً عملياً مباركاً في الرد عليهم.
الرابعة: لقد أراد الله عز وجل للنفاق الإنحسار والخزي وقلة الأثر، وظن المنافقون أن الكفار ولكثرتهم وبطشهم وإستمرار تخويفهم ووعيدهم سيأتون على المسلمين، فكان قطع طرف من الكفار شاهداً على بطلان هذا الظن , قال تعالى[إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا] ( ).
الخامسة: يأتي هلاك وقطع طرف من الكفار على نحو دفعي وتدريجي، وكل واقعة منه فتح للمسلمين، ونصر لهم، والنصر أعم من أن يكون في ميدان المعركة، فقد يتجلى بعجز الكفار عن العودة لميدان المعركة.
وعندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد، وكان معه نحو ألف، إنخذل في الطريق عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش (وقال أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب , واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام , يقول يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم
قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم , قال أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه) ( ) وتلاحظ أن المنافقين يقولون فيما بينهم(علام نقتل أنفسنا) وفي هذا الخبر مسائل:
الأولى: يظن المنافقون هزيمة المسلمين بلحاظ قوة وكثرة الكفار.
الثانية: لم يلتفت المنافقون إلى المدد الإلهي، وأن الله عز وجل مع المؤمنين.
الثالثة: يتناجى المنافقون بينهم برجاء السلامة وإتخاذ الإنسحاب وسيلة للنجاة من موت مؤكد وليس له سبب، وعندما تبعهم بعض المؤمنين يعظهم ويدعوهم للعودة إدّعوا بأنه لا يكون قتال , وهو من مصاديق النفاق وإعلان غير الذي يخفون.
الرابعة: إنسحاب ثلث الجيش مع العلم بأن العدو ثلاثة أضعافهم ويفوقهم في السلاح والعدة أضعافاً كثيرة، ولكن المؤمنين أظهروا الصبر برداء التقوى، فقد يكون الصبر عن عجز ويأس، أو تسليم لما تأتي به الأيام، ولكن صبر المؤمنين يوم أحد كان أمراً آخر، فهو عزم على نيل النصر، وثبات على الإيمان، ومناجاة بالجهاد والقتال في سبيل الله، لذا فإن الصبر أمر وجودي تترشح عنه خصال حميدة، وأفعال عظيمة ويكون مقدمة للنصر، ورجاء عملياً لنزول المدد من عند الله عز وجل.
لقد كان إنخذال ثلث جيش المسلمين أمراً محزناً ومفزعاً، ووفق الحسابات المتعارفة يؤدي إلى تثبيط العزائم، وضعف الهمم، وتفشي أسباب الشك في الخروج وعلته وغاياته خصوصاً وأن بعضهم طلب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في المدينة مثل رأس النفاق من عبد الله بن أبي بن مسلول نفسه إذ قال(أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ قَطّ إلا أَصَابَ مِنّا ، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إلّا أَصَبْنَا مِنْهُ فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرّ مَحْبِسٍ وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمْ الرّجَالُ فِي وَجْهِهِمْ وَرَمَاهُمْ النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا) ( ).
وصحيح أن المؤمنين تعرضوا للخسارة يوم أحد , وقتل عدد من الصحابة وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الخروج كان هو الأفضل والأنسب، من وجوه:
الأول: فضح الله عز وجل في الخروج المنافقين، إذ إنخذلوا بثلث الجيش، وهل كان هذا الثلث كله منافقين الجواب لا، ولكن رؤوس النفاق فتنوا ضعاف الإيمان والقلوب، وبثوا الفزع والخوف بينهم.
الثاني: الكلام في منافع البقاء وإنهم ما خرجوا إلى عدو قط إلا أصاب منهم ليس بتام من جهات:
الأولى: لقد خرج النبي محمد والمؤمنون في معركة بدر فنصرهم الله نصراً بيناً , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية: الإستشهاد بالوقائع السابقة، قياس مع الفارق، فقد كانوا يقاتلون على الكفر، أما خروج المسلمين فكان جهاداً في سبيل الله، والله عز وجل ناصرهم.
الثالثة: لم يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بأمر الله عز وجل , قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وفي خاتمة الآية أعلاه وجوه:
الأول: إنه باعث للسكينة في نفوس المسلمين.
الثاني: فيه وعد كريم للمؤمنين بالنصر والغلبة.
الثالثة: إمضاء خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الرابع: دعوة المؤمنين للدعاء والتضرع إلى الله وسؤال النصر , قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
والتذكير بالدعاء في المقام وأن الله عز وجل يسمعه، دعوة لإستصحاب ما جرى في بدر وأن الله عز وجل سمع دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وإستغاثتهم فأنزل ملائكة من السماء مدداً، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الرابعة: لقد تغير حال المدينة وجاءها المهاجرون، وهم الذين خرجوا في مقدمة الجيش مع الأنصار، وكان حامل لواء المهاجرين مصعب بن عمير , وقد قاتل دون رسول الله حتى قتل.
وظن الذي قتله أنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم(فرجع إلى قريش فقال:قتلت محمداً) ( )، مما يدل على أن قريشاً جاءت للمعركة وهي تريد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين، ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللواء علي بن أبي طالب، وجلس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحت راية الأنصار (وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة) ( ) وقيل هي مع سعد بن معاذ, وفي لواء الأنصار (قال ابن هشام : كان أبيض) ( ).
وبالإضافة إلى لواء المهاجرين ولواء الأنصار، كانت هناك رايتان سوداوان أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحداهما مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وإسمها العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
الخامس: كان خروج النبي بأصحابه إلى أحد مناسبة لكشف وفضح المنافقين، وزحف المهاجرون والأنصار لميدان المعركة بإيمان وتفان وإخلاص، ولو بقوا في المدينة لإنزوى المنافقون في بيوتهم وأعطى بعضهم إشارات للكفار، وحصل الإرباك في صفوف المسلمين، وقد ظهر خذلانهم في واقعة الأحزاب عندما قام المسلمون بحفر الخندق حول المدينة، إذ أخذ المنافقون بالتسلل إلى أهليهم بغير علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل قوله تعالى[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ] ( ).
وهل ما يصيب المنافقين من عمومات [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] الذي ورد في الآية محل البحث، الجواب لا، إنما جاءت الآية بخصوص الكفار الذين يحاربون الإسلام، ويقاتلون المؤمنين , نعم يكون من أسباب وآثار قطع طرف من الكفار .
قانون القطع إجتثاث للكفر
لقد جعل الله عز وجل القرآن مرآة للوقائع، وشاهداً سماوياً على ما جرى ويجري في الأرض في أفراد الزمان الطولية من الحوادث ، وجاءت هذه الآية بإخبار كريم يتضمن الوعد والوعيد، وهذا من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية جملة خبرية أو بياناً لواقعة، ولكنه ينطبق على مصاديق كثيرة، كما في هذه الآيات التي تحكي غزو وقتال الكفار للمسلمين، وبطش الله بالكفار , ويتجلى غزو الكفار ، والتعدد في تعديهم بقوله تعالى [ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا]( ).
وفي الآية وعد كريم للمسلمين والمسلمات بالنصر، فإن قلت يخرج المسلمون للجهاد ويخوضون المعارك، ويأتي الوعد رحمة بهم، وسكينة لقلوبهم، أما النساء فقد وضع القتال عنهن ، فكيف تكون الآية وعداً لهن، وفيه مسائل:
الأولى: لمعاشر المسلمات موضوعية في خروج الصحابة إلى سوح الدفاع وفي تحريضهم ودعوتهم لبذل الوسع في سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثانية: تخاف النساء على الأزواج والأبناء والآباء، فتأتي هذه الآية لبعث السكينة في نفوسهن.
الثالثة: من غايات الكفار التعدي على المسلمين في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، خصوصاً وأن القبائل كانت يغير بعضها على بعض، ويسبون النساء والصبيان، وجاء الإسلام بحرمة هذه الإغارة , مما زاد من غيظ الكفار، وسعيهم للإنتقام والبطش بالمؤمنين ومحاولة الشماتة بهم، فجاءت هذه الآية واقية من إستحواذ الخوف على نفوس المؤمنات، ورأفة من عند الله بهن.
الرابعة:من المؤمنات من شاركت في القتال في معارك الإسلام الأولى، وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء كحكم ضرورة أو حاجة أو لمناسبة الحال، أو للتطوع والإنفاق، وورد بخصوص يوم أحد عن أم عمارة أنها خرجت أول النهار تنظر ما يصنع الناس، فرأت الغلبة والنصر للمسلمين، ثم ما لبث المسلمون أن إنهزموا بسبب ترك أكثر الرماة الذين على الجبل موضعهم طلباً للغنائم مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بعدم تركه بكل الأحوال، فقام المشركون بالهجوم من جهتهم ليأتوا للمسلمين من الخلف، فإنحازت أم عمارة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقول (فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي) ( ).
وفي معركة حنين كانت أم سليم زوجة أبي طلحة حاضرة ومعها خنجر(فَقَالَ: لَهَا أَبُو طَلْحَةَ مَا هَذَا مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَتْ خَنْجَرٌ أَخَذْته مَعِي، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته بِهِ. قَالَ: أَبُو طَلْحَةَ مَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ الرُّميَصَاء) ( ).
الخامسة: شاركت بعض نساء المشركين في القتال(قال ابن إسحاق: وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة) ( ).
وحينما تقدمت الصفوف ودنا بعضهم من بعض ،قامت نساء المشركين بضرب الدفوف خلف الرجال، وتحريضهم وقالت هند بنت عتبة:
ويها بنى عبد الـــــــــــــدار ويهــــا حماة الادبــــــــــــــــــــــــار
ضربا بكـــــــــــــــــــــل بتار
وقالت أيضاً:
إن تقبلـــــــــــوا نعانـــــــــــق ونفــــــــــــــــرش النمارق
أو تـــــــدبروا نفـــــــــــــــــــارق فـــــــــراق غير وامــــــــــــق( ).
فجاءت الآية لمنع شماتة نساء المشركين بالمسلمين ونسائهم والبشارة بأن كيد الكفار يرجع إلى نحورهم، وظن الكفار أن خروج النساء معهم ينفعهم، فكان وبالاً وخزياً لهم وهو من مصاديق قوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] .
وأخرج المشركون معهم يوم أحد النساء والأطفال والأموال كي يدافعوا عنها أمام هجوم المسلمين وكانت النتيجة أن إنهزموا ووقعت نساؤهم في السبي كما في هوازن، وفيه قطع ومقدمة لإجتثاثهم , وتعطيل الأرحام التي تلد الكفار، وتلك آية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزيه الأرض من الكفر.
فقطع طرف من الكفار مطلوب بذاته وهو مقدمة لزوال الكفر، وأحكام هذه الآية متجددة ومتصلة، فعندما يقطع الطرف من الكفار يصبح الوسط طرفاً فيشمله حكم القطع والهلاك ليكون الإجتثاث تدريجياً، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس، من وجوه:
الأول: إنه مناسبة ليتدبر المسلمون في آيات الله وبطشه بالكفار، وقد نزل القرآن نجوماً ليسهل حفظه وتلاوته , وكذا إجتثاث الكفر فإنه تدريجي.
الثاني: التعاقب والتدريج في هلاك الكفار من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، وما فيه من الإنذار وتجدد مصاديق الوعيد لبعث الكفار إلى التوبة والإنابة، وجذب الناس للإيمان بالإتعاظ والإعتبار من كثرة الشواهد في هلاك الكفار.
الثالث: إنه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين من جهات:
الأولى: لم ينل أحد من الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النصر بهلاك الطائفة المقابلة له من الكفار، وإبانة وهلاك الذين يعتدون عليه وعلى أصحابه، ومن الأنبياء من قتل لدعوته إلى الله تعالى كما ورد في التنزيل في ذم أمم سابقة[كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ]( ).
الثانية: جاء هلاك الكفار أيام نوح على نحو دفعي إذ تغشاهم الطوفان, وكذا في نزول العذاب بقوم لوط، وقوم صالح، وقوم هود، وفي قوم شعيب قال الله تعالى[فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ] ( ).
الثالثة: إنه تحذير متجدد للكفار، وزجر لهم عن التعدي على المسلمين.
الرابعة: توكيد الملازمة بين التعدي على المسلمين والهلاك، لتكون عبرة للأجيال المتعاقبة من الناس.
الخامسة: كل قطع من الكفار هو دعوة للناس لدخول الإسلام، لأنه يحدث بمعجزة خارقة، وخلافاً لقواعد وسنن القتال.
ويتجلى هذا الأمر في بدايات الإسلام ومعاركه الأولى، إذ كان الكفار هم الذين يهجمون على المسلمين ويأتون بالجيوش العظيمة، ثم ما لبثوا أن صاروا حريصين على الإمتناع في ديارهم لما أصابهم من الوهن والضعف، ثم دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً، فمكة لم تكن طرفاً يلي المسلمين، ولكن المسلمين زحفوا إليها عندما إزدادت قوتهم وكثر عددهم، لما تختص به من الموضوعية العقائدية والتأريخية وغيرها .
وأظهر الله عز وجل دولة الإسلام ، ولم ينته الأمر عند مكة وفتحها بل جاء من ليس بوسط ليقفز إلى مرتبة الطرف المواجه للمسلمين، كما في هوازن التي ما أن سمعت بفتح مكة حتى جمعت الجيوش والقبائل، وجرت واقعة حنين للتنهزم هوازن وثقيف، ويتعرضون لخسائر فادحة ويلحقهم الذل الآني والآجل وإلى يوم القيامة بآية من عند الله.
وقد يبقى الكفار بعيدين عن جيوش المسلمين، ويتجنبون القتال والمواجهة معهم، فهل تشملهم عمومات القطع , الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وإن إختلفت الوسائل والصيغ، إذ يصل لهم التبليغ والبشارة والإنذار والوعد والوعيد، ويبتليهم الله عز وجل بما يجعلهم يلتفتون إلى وظائفهم، ويقربهم إلى منازل التوبة والإنابة ودعوة الناس للتوبة والإنابة.
والمدد يوم بدر وأحد آية إعجازية وأمر خارق وخلاف نواميس الحياة الدنيا، ودعوة إضافية للناس لدخول الإسلام، وحجة ظاهرة في ميدان القتال, فيدخل المسلمون المعركة بعدد قليل، وعدة غير كافية، ولكن النصر حليف لهم، ومصاحب لهم في معاركهم.
وتارة يأتي الإنذار بالمدد الملكوتي مطلوباً بالذات وليس بالعرض، وتلك آية ومعجزة أخرى من معجزات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشريعة الإسلامية، فينزل الملائكة لإنذار وتخويف الكفار، ليكون نزولهم على وجوه:
الأول: النزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالقتال أمامهم، وإلى جانبهم كما في معركة بدر.
الثاني: النزول لبعث الخوف والفزع في قلوب الكفار، وجعلهم ينهزمون أمام المسلمين.
الثالث: مجيء الملائكة واقية وحفظاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ويظهر التدبر والتحقيق في نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكيد والمكر , وسلامته من إرادة إغتياله وقتله في حال السلم والحرب معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق نبوته، وهو موضوع وحكم يصلح لتأليف مجلدات عديدة تبعث في النفوس الشوق لإقتباس الدروس منها، وتزيد في الإيمان.
وفي قوله تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ) قيل أنها نزلت في بني مخزوم إذ حلف أبو جهل(إن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر، ليدمغه به فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي اخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله عينيه) ( ).
وعند فتح مكة وما فيه من معاني النصر والظفر لم يكف الكفار عن قصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها بعشرة آلاف رجل ومن غير أن يلقى قتالاً، وإستقبال أهل مكة له بإعلان إسلامهم طوعاً وقهراً .
ومع أن الأنصارتوقعوا بعد فتح مكة أن يقيم فيها لأنها بلده وفيها البيت الحرام، وعندما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمقالتهم قال:معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم، ولم يقم النبي في مكة سوى (خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة)( )، وأثناء هذه المدة تعرض للإغتيال مما يدل أن فتح مكة محفوف بالمخاطر، وأن تهديد الكفار متصل ومستمر, وذكر (ان فضالة بن عمير بن الملوح أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضالة , قال نعم فضالة يا رسول الله , قال : ماذا كنت تحدث به نفسك , قال : لا شئ كنت أذكر الله , فضحك النبي صلى الله عليه وسلم , ثم قال استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه , فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه( ).
أراد أحدهم ممن إلتحق بالمسلمين بعد الفتح قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن إسحاق (وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قلت: اليوم أدرك ثأري، وكان أبوه قد قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً.
قال: فأدرت برسول الله صلى الله عليه وسلم لاقتله , فأقبل شئ حتى تغشى فؤادى فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع مني) ( ).
ومنع الله أيدي الكفار من الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قطعهم و كبتهم، وفيه خيبة لآمالهم الزائفة، وحجب لمقاصدهم الخبيثة، وهو سبيل لدخول الناس للإسلام , لأن هذا المنع من الشواهد على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته , وتفضيله على الأنبياء الآخرين، لأن الله عز وجل كتب له الســلامة حتى نزلــت آيات وسور القرآن وأتم الله عز وجل أحكام الشريعة، وسنن الحلال والحرام.
وهل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق إمتناع القرآن عن التحريف , الجواب نعم، لأن كل يوم يمر من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت لآيات القرآن، ومناسبة لإستماع الصحابة لها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوتها وحفظها وتدوينها وكتابتها، وإعطائها شأناً ومنزلة في الواقع اليومي إلى جانب التسليم بوجوب قراءتها في الصلاة , وتنمية ملكة الشوق إليها وحبها، والسعي لنيل الثواب بتعاهدها.
الرابع: نزول الملائكة لتحذير الكفار، ومنعهم من دخول المعركة، أي أن الملائكة تحضر قبل بدأ القتال، وتجعل الكفار يحسون بوجودها وقصدها وغايتها من نصر المؤمنين.
لقد فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في السنة الثامنة للهجرة، وكان معجزة، ونصراً عظيماً.
وفتح مكة من عمومات قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ، من وجوه:
الأول: قدرة المسلمين على نصرة حلفائهم من خزاعة الذين جاءوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشتكون نقض قريش العهد.
الثاني: تجهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لفتح مكة، من غير إعتراض من أصحابه , وإنقياد هم لأمره بالتجهز للخروج من رشحات هذه الآية الكريمة، وما فيها من البشارة بهلاك كبار الكفار، وحصول شواهد عديدة له.
الثالث: من الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يخف غايته والجهة التي يقصدها من التجهز، قال ابن هشام(ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتجهز وقال ” اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فتجهز الناس) ( ).
ومن المعجزات القريبة التي ترشحت عن دعائه أن أحد أصحاب النبي وهو حاطب بن أبي بلتعة بعث كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعد للسير إليهم، وأرسله مع امرأة وجعل لها جعلاً إن أوصلت الكتاب إلى قريش، فنزل جبرئيل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر، فبعث الإمام علياً بن أبي طالب والزبير بن العوام للحوق بالمرأة، فأدركاها بذي الحليفة( )، فإستنزلاها، وفتشا رحلها، فلم يجدا شيئاً، وأنكرت أن تكون عندها رسالة.
(فَقَالَ لَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا كُذِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا كُذِبْنَا ، وَلَتُخْرِجَن لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكِ فَلَمّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ قَالَتْ أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا ، فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْهَا ، فَدَعَتْهُ إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَاطِبًا ، فَقَالَ ” يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا ” ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت ، وَلَكِنّي كُنْت امْرِئِ لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتهمْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّ الرّجُلَ قَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ لَعَلّ اللّهَ قَدْ اطّلَعَ إلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ ” فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُم) ( ).
الرابع: كشف الأسرار والأخبار أمارة على سلامة إختيار السير بإتجاه مكة، وهو من قطع طرف من الكفار، لأنه مانع من إستعدادهم، والمناجاة فيما بينهم للقتال، وفيه بعث للفزع والخوف في نفوسهم، ونوع تحد جديد لم يخطر على بالهم لا أقل في السنين الأولى لبعثة وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: عندما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة دخل الناس بيوتهم وأغلقوا أبوابهم لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن) ( )، وفي غلق أبوابهم عليهم قطع لطرف من الكفار، وهو كبت وخزي لهم , ولمن خلفهم من الكفار.
فهم لم يغلقوا أبوابهم فحسب، بل أغلقوا باب التعدي والهجوم على المدينة المنورة ونواة وعاصمة الدولة الإسلامية الأولى إلى يوم القيامة، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتتالية، نعم أراد بعض رجالات قريش القتال يومئذ فصاحبهم ولاحقهم الخزي والذل، أما مصاحبته لهم فلقلتهم وهم نفر قليل، ولأن أغلب أهل مكة دخلوا بيوتهم، وأما ملاحقته لهم فلمبادرتهم للهرب , وإصابتهم بالفزع وإعترافهم بالخور والجبن.
فقد ذكر أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمروا وهو الذي مثّل قريشاً في صلح الحديبية وخطيب قريش , وعكرمة بن أبي جهل جمعوا أناساً للقتال، وكان معهم حماس بن قيس نهته زوجته عن الخروج عندما رأته يصلح له سلاحاً وقالت له: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله أني لأرجو أن أخدمك بعضهم , فإنهزم هذا الجمع القليل من المشركين عندما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد، بعد أن قتل منهم نحو إثني عشر رجلاً وعاد حماس إلى بيته وقال لإمرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول , فقال شعراً يوثق خزيهم، وينهي فترة التعدي على المسلمين, ويؤكد قطع طرف الكفار ووسطهم أيضاً ، إذ قال أبياتاً منها:
إنّكِ لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ إذْ فَرّ صفْـــوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَــــــــهْ
وَأَبُو يَزِيدَ( ) قَائِمٌ كَالْمُوتِمَـــهْ واستقبلتهـــم بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ضَـــــــــــرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَـــــهْ لَمْ تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ( ).
وكان النبي قد عهد إلى أمرائه من المسلمين أن يدخلوا مكة ولا يقاتلون إلا من قاتلهم , مع شدة الضرر والمكر والأذى الذي جاء من الكفار ، وفيه أيضاً قطع لطرف منهم ، وهلاك لكبرائهم ، ورسالة إلى عموم الكفار والمشركين بالكف عن محاربة الإسلام.
وفي فتح مكة في المقام مسائل:
الأولى: تجلي آية واضحة في قطع طرف من الكفار.
الثانية: فتح البلد الذي يصدر الناس منه لقتال المسلمين.
الثالثة: فيه مصداق لدعاء إبراهيم[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( ) فالأمن والسلامة بسيادة مبادئ الإسلام .
السادس: لقد أمر الله عز وجل إبراهيم أن يدعو الناس لحج البيت الحرام, بعد رفع قواعده وشيد بناءه , قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وجاء فتح مكة ليكون بداية متجددة لدعوة الناس وإلى يوم القيامة للحج، وفيه إشارة إلى لزوم مواصلة المسلمين الجهاد للدفاع ونبذ عباد الأصنام ، ولتيسير مجيء الحجاج من الأطراف والأماكن البعيدة , فمن فضل الله قطع طرف وهلاك طائفة من الكفار , وظهور أطراف منيعة للمسلمين تؤدي المناسك , وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (وعن الحسن في الآية أعلاه أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع)( ).
فإن قلت أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم فتح مكة بقتل نفر سماهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل أحل مكة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة من نهار.
الثاني: من الذين أمر النبي بقتلهم من كان عليه دم، مثل عبد الله بن خطل الذي بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجمع الصدقات، ولكنه عدا على مولى له كان معه قصّر في خدمته، ولم يصنع له طعاماً، فقتله وإرتد مشركاً.
وكذا الحويرث بن نقيذ الذي كان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة(وَكَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمَلَ فَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ، ابْنَتَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ يُرِيدُ بِهِمَا الْمَدِينَةَ ، فَنَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثَ بْنَ نُقَيْذٍ فَرَمَى بِهِمَا إلَى الأرْضِ) ( )، قال ابن إسحاق: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركاً، وقتله علي بن أبي طالب( ).
الثالث: أكثر هؤلاء النفر الذين أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم عفا عنهم، مع شدة إيذائهم له وللصحابة والإسلام، منهم:
الأول: عكرمة بن أبي جهل الذي هرب إلى اليمن، وأسلمت إمرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فأستأمنت به من رسول الله، فآمنّه، ورجع وأسلم.
الثاني: سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب إستؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمنّها.
الثالث: عبد الله بن سعد وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإرتد مشركاً، وعند الفتح أخفاه عثمان وإستأمن له.
الرابع: رجلان إستأمنت لهما أم هاني بنت أبي طالب التي (قَالَتْ لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَكّةَ ، فَرّ إلَيّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ ، قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيّ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِي ، فَقَالَ وَاَللّهِ لَأَقْتُلَنهُمَا ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي ، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَوَجَدْته يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ إنّ فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشّحَ بِهِ ثُمّ صَلّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ مِنْ الضّحَى ثُمّ انْصَرَفَ إلَيّ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أُمّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِك ؟ ” فَأَخْبَرْته خَبَرَ الرّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيّ فَقَالَ ” قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت ، وَأَمّنّا مَنْ أَمّنْت ، فَلَا يَقْتُلْهُمَا) ( ).
الرابعة: كان فتح مكة بداية لدخول أفواج من الناس الإسلام ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( )، وهذه السورة من آخر سور القرآن نزولاً.
وهل كان فتح مكة إجتثاثاً للكفر في الجزيرة بإعتبار أن مكة أم القرى قال تعالى[وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( )، الجواب لا، بل كان قطعاً لطرف من الكفار , وآية في المدد والنصر الإلهي للنبي مجمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ زحفت هوازن لقتال النبي عندما سمعت بفتح مكة، وتلك مسألة غير متوقعة، فقد تناقلت الأخبار كثرة جيش المسلمين وأنهم عشرة آلاف رجل، وأن قريشاً مع هيبتها وشأنها ومن معها من القبائل عجزت عن اللقاء، وسارعوا إلى غلق أبوابهم عليهم طلباً للأمان, ومع هذا جاءت هوازن للقتال , والإجهاز على المسلمين .
قانون لا يصيب المشركون منا مثلها
هذا القانون مقتبس من حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله لعلي بن أبي طالب بعد إنقضاء معركة أحد , وتمام الحديث هو: ( لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا) ( )، وإعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيفه إلى إبنته فاطمة عليها السلام، وقال لها إغسلي عن هذا دمه يا بنية، فو الله لقد صدقني اليوم، مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قاتل يوم أحد بسيفه قتالاً شديداً.
ويصح هذا الحديث أن يكون قانون الموجبة الكلية المنبسطة على أفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة في منع الكفار من النيل من المسلمين , وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً]( )، إلا على القول بأن الكفر ينحسر ويزول من الأرض قبل يوم القيامة، وهو لا يتعارض مع ماهية هذا القانون .
ويدل الحديث بالدلالة التضمنية على أن المسلمين لاقوا الضرر والأذى الشديد يوم أحد، فقد قتل من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلاً ، منهم حمزة عم النبي , ولما وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لن أصاب بمثلك أبداً، وما وقفت موقفاً أغيظ إلي من هذا: ثم قال: جاءني جبرئيل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع: حمزة بن عبد المطلب، أسد الله، وأسد رسوله) ( ) وكان حمزة أخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة أرضعتهما مولاة لأبي لهب.
لقد خففت مصيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنصار والمهاجرين مصائبهم بقتلاهم، ولم ينحصر هذا التخفيف بالرجال منهم، بل شمل النساء أيضاً، فحينما مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بيوت الأنصار سمع نياحاً وبكاء فسأل: قالوا: يارسول الله إن نساء الأنصار يندبن قتلاهن، فقال: أليس لحمزة من يبكيه، وعندما سمعن نساء الأنصار ما قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذهبن إلى بيته معزيات نادبات فشكر لهن فعلهن.
وقال المقريزي من رجال القرن الثامن الهجري، ولا زالت نساء أهل المدينة تبدأ عند مصيبة الموت بنعي وندب الحمزة)، لتكون فيه آية، فهذا الندب يأتي من منازل الشكر لله عز وجل على نعمة سيادة الإسلام ونفاذ أحكامه في الأمصار، وعدم تكرر مصيبة مثل مصيبة حمزة وباقي قتلى أحد.
وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قتل الحمزة(لن أصاب بمثلك أبداً) من مصاديق هذا القانون بلحاظ أنه لم يحدث أن قتل مثل الحمزة في القرب والرحم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام اللاحقة، وقد كان الإمام علي عليه السلام يقاتل وسط كل معركة, ويذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإشترك العباس في القتال كما في معركة حنين.
قال ابن هشام (وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ)( )، وأصاب الخوف والخور فريقاً من المؤمنين , قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
ونزلت الآية في حيين من الأنصار هما:
الأول: بنو سلمة بن جشم بن الخزرج.
الثاني: بنو الحارثة بن النبيت من الأوس
والهم أول القصد والعزم، وما قبل الفعل، ولم يحدث مثل هذا الهم في المعارك اللاحقة للمسلمين من أي جناح من المهاجرين والأنصار وهو من عمومات التوكل على الله الذي ورد في خاتمة الآية أعلاه , ومن مفاهيم هذا القانون أن هذا الهم مما أصاب المسلمين يوم أحد، ولم يطرأ على فرقة منهم في المعارك اللاحقة.
وحصول الهم عند الطائفتين من الأنصار هو المروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وقتادة ومجاهد، والإمام الباقر والصادق عليهما السلام)( ) ، ومن الآيات في تأريخ الصحابة والإسلام وبركات ومنافع الآية القرآنية أنه لم يحدث همّ من تلكما الطائفتين أو من غيرهما ، نعم قد يحدث على نحو القضية الشخصية، كما حدث حين إستنفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى تبوك , وقال إنفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر، وقال ابن هشام (فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ : يَا جَدّ ، هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ ” فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَتَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنّي ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى إنْ رَأَيْت نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ ” قَدْ أَذِنْت لَك فَفِي الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ الْآيَةُ ( ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا]( ) عن ابن عباس ومجاهد.
ولما نزلت الآية أعلاه قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم لبني سلمة من سيدكم , قالوا: جدّ بن قيس غير أنه بخيل جبان، فقال عليه السلام: وأي داء أدوي من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور فقال حسان بن ثابت:
و قال رسول الله و القــــــــــــــــول لاحق
بمن قال منا من تعـــــــــــــــــدون سيدا
فقلنــــــــــــــــــا له جد بن قيس على الذي
نبخله فينــــــــــــــــــــــا و إن كان أنكدا
فقال و أي الـــــــــــــــــداء أدوى من الذي
رميتم به جـــــــــــــــدا و إن كان أمجدا
و سود بشر بن البــــــــــــــــــــــــــراء لجوده
و حق لبشر ذي النــــــــــــدا أن يسودا
إذا ما أتاه الوفـــــــــــــــــــــــــــــد أنهب ماله
و قال خــــــــــــــــــــــذوه إنه عائد غدا.
ولا يدل الخبر على أن همّ بني سلمة بالفشل يوم أحد بسبب رئيسهم وسيدهم الذي يتصف بالخوف والجبن وأنه أراد تحريض الحيّ على الإنسحاب والهزيمة، خصوصاً وأن صورة إنخزال عبد الله بن أبي سلول بثلث الجيش حاضرة في الوجود الذهني لقربها زماناً، وتعلقها بموضوع القتال في أحد، إذ أنهم إنخزلوا في الطريق إلى أحد , ولأن كل مؤمن منهم توجه له الأمر بالجهاد والدفاع.
وفي بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية لم يتخلف الإ الجد وقال جابر بن عبدالله: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس , ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، فكان جابر بن عبدالله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها ( )، يستتر بها من الناس( )، وجاء تنصيب بشر لتدارك الخلل في رئاسة هذا الحي من الأنصار فإن قلت لماذا لم يحدث هذا التغيير بعد معركة أحد مباشرة، والجواب من وجوه:
الأول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يتكلم ويأمر وينهى إلا بأمر من عند الله , قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) , ومنه زمان الكلام .
الثاني: جاء قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]دعوة لهم ولغيرهم من المؤمنين لإجتناب الخور والجبن والعزم على الإنسحاب والفرار.
الثالث: الأصل هو ترتب الأثر على الآية القرآنية، وإمتناع المسلمين عن الجبن والخوف وهو الذي حصلت مصاديقه في المعارك اللاحقة.
الرابع: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن ولاية الله للطائفين , والولاية أعم من مسألة تغيير رئيس الحي ، إذ تتضمن الإصلاح لأمور الدين والدنيا، وجاء تبديل الرئيس فيما بعد من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق هذه الولاية.
الخامس: نزول الملائكة مدداً للمسلمين في معركة أحد، وفيه تعضيد للمؤمنين، وطرد للخوف والفزع من نفوسهم، وجاء الوعد بالمدد من جديد في قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ) ليكون سبباً لصبر المؤمنين في ميادين القتال، وشد عزائمهم، وإقبالهم على ملاقاة الأعداء.
السادس: حينما جاء أوان معركة تبوك أظهر جد بن قيس خوفه وتردده، مع عصمة أفراد حيه من الخوف , وهو شاهد على المنافع العظيمة لقوله تعالى ( اذ همت طائفتان ..) والتي نزلت في معركة أحد , ولم يظهر الخوف والجبن على أفراد هذا الحي من الأنصار بعد أحد مع كثرة المعارك التي خاضها المسلمون وطول المدة، إذ جرت معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة، ووقعت معركة تبوك في السنة التاسعة للهجرة.
السابع: إتصف الخروج إلى معركة تبوك بخصوصية من وجوه:
الأول: كان الزمان زمن عسرة وشدة من الحرب، وجدب في البلاد، ثم طابت الثمار.
الثاني: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الخروج في الكتائب كنى عن جهته وغايته في الغالب لمنع سفك الدماء ، أما في كتيبة تبوك فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلن الجهة والقصد لبعد المسافة، وشدة العدو ليستعد الناس.
الثالث: فيه أمارة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنه لا يكون قتال، وفيه مسائل :
الأولى : قانون تنمية ملكة الدفاع عند المؤمنين بالخروج للعدو شديد البأس.
الثانية : قانون فضح المنافقين , والذين يسعون في تثبيط المؤمنين .
الثالثة : قانون تهيئ المؤمنين للخروج ، وبلوغ الأمصار البعيدة .
الرابعة : قانون ذم القعود , والنهي العملي عنه .
الخامسة : قانون ترغيب المسلمين بالثروات والخيرات .
السادسة : قانون نشر مبادئ الإسلام في أرجاء الأرض .
السابعة : قانون مجئ السنة النبوية العملية بما يمنع من القول بحصر الدعوة والجهاد بخصوص الجزيرة وما حولها.
الثامن : مع مرور ست سنوات بين أحد وتبوك وقوة وكثرة جيش الروم فلم يظهر الخور والتردد إلا على سيد بني مسلمة، وهذا الإستثناء والفرد النادر دليل على موضوعية وأثر الآية القرآنية في إصلاح النفوس، وثبات عزائم المسلمين في الجهاد في سبيل الله.
التاسع : قبول بني سلمة لعزل الجد بن قيس، وتنصيب فتى عليهم لأنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشر : مجيء هذا العزل والتغيير عند الشروع في الخروج للمعركة، وفيه آية وموعظة في شؤون القتال والإستعداد لخوض المعارك بإصلاح أمور الجند، ومنع دبيب الفزع والخوف في صفوفهم، وعزل الذي يخشى على الجنود من سلطانه في تثبيط العزائم، وبعث أسباب الشك والريب في نفوسهم.
الحادي عشر: لقد عزل الجد بن قيس نفسه عن رئاسة أصحابه، فهم عازمون على الخروج تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يكون الرئيس واسطة بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء تعيين البراء.
الثاني عشر: لم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبني سلمة إختاروا أحدكم بدل الجد فقد يحصل الخلاف بينهم، ويقول بعضهم ببقاء الجد لا سيما مع طول المدة التي تولى فيها رئاستهم، بل قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإختيار، وفيه الخير والبركة.
فإن قلت إن النبي وعد المؤمنين بغنيمة بنات الأصفر، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت بعض الأخبار بلغة الترجي كما ورد (أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر) ( ).
الثاني: وردت بعض الأخبار على نحو الإطلاق الزماني من غير تقييد بتلك الغزوة, وفي حديث ابن عباس: إغزوا تغنموا بنات الأصفر)( )، أي بنات الروم لأن أباهم الأول كان أصفر اللون قيل هو روم بن عيصو بن إسحق بن إبراهيم، ويدل على نسبة الروم إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، وإنحصار نسب الروم بشخص واحد هو من أولاد عيصو يحتاج إلى دليل.
الثالث: حصول النصر في السنوات اللاحقة ومجيء بنات الأصفر غنائم، ليكون ترغيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للغزو، والخروج لمعركة تبوك مثل الوعد بفتح مكة , وقوله تعالى[لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] ( )، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام في السنة السادسة للهجرة قبل خروجه إلى الحديبية (كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت) ( )، وكذا بالنسبة للغنيمة من بلاد الروم فقد جاءت فيما بعد فضلاً من عند الله.
لقد جاءت قريش بعدد من نساء رؤسائهم وأشرافهم إلى معركة أحد ولهذا المجيء غايات , ودلالات كثيرة تتعلق بشؤون القتال، وشد العزائم، والإستبسال في القتال، والدفاع عن المحارم، وطلب النصر، وإظهار الإستخفاف بالمسلمين، وتمتع الأزواج بزوجاتهم وصحبتهن في الطريق، وقيام النسوة بوظيفة التحريض على المسلمين , ولهن أشعار مذكورة عند بدأ القتال، ولكن تلك النسوة فوجئن بأمر لم يكن بالحسبان، إذ أخذ رجالات قريش يفرون من الميدان حالما بدأت المعركة، فقامت هند بنت عتبة وسط العسكر وهي زوجة أبي سفيان رئيس جيش المشركين، فكلما إنهزم رجل منهم ( دفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت: إنما أنت امرأة فأكتحل بهذا) ( ), وفيه دلالة على أن الخزي الذي جاء للكفار مركب ومتعدد من وجوه:
الأول: كثرة القتلى يوم بدر.
الثاني: دفع قريش أموالاً كثيرة لفداء الأسرى يوم بدر.
الثالث: هزيمة الكفار في بداية المعركة يوم أحد.
الرابع: شهادة النساء على فرارهم، فقد لا يلوم المقاتل الذي يشاركه الفرار، ولا يتعرض له بالتعيير بل يبحث له من عذر، أما النسوة فكانت كالشهود على الواقعة , وأظهرن الحسرة التي تملأ نفوسهن عند فرار الرجال لوجوه:
الأول: هؤلاء النسوة من الكوافر.
الثاني:تعرض النساء للأسر والسبي عند فرار الرجال.
الثالث: الغيظ والرغبة بالإنتقام التي كانت تملأ صدور هؤلاء النسوة.
الرابع: قيام نساء قريش بإعانة المقاتلين، وإلقاء الشعر لإثارة حماس الكفار، والنيل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، إذ قال عمر بن الخطاب لحسان بن ثابت: لوسمعت ما تقول هند، ورأيت أشرها قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة قال حسان: إسمعني بعض قولها أكفكموها:( فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ مَا قَالَتْ فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
أَشِرَتْ لَكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا لُؤْمًا إذَا أَشَرَتْ مَعَ الْكُفْرِ) ( ).
وهند هذه قتل أبوها عتبة بن ربيعة، وأخوها الوليد بن عتبة، وعمها شيبة ابن ربيعة في أول مبارزة جرت يوم بدر، إذ تقدم لهم رهط من الأنصار فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، ونادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، وفي قولهم هذا مسائل:
المسألة الأولى: إنهم لم يطلبوا مبارزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه وجوه:
الأول: إنه من الحجب وأسباب المنعة التي جعلها الله واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: فيه دليل على ما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الهيبة والشأن العظيم عند قريش.
الثالث: خشية كفار قريش أن يصرعوا عندما يتقدم لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: دلالة ظواهر المعركة على أن كل واحد من الصحابة من المهاجرين والأنصار مشروع فداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً وأنهم خرجوا للقتال دونه وبين يديه.
الخامٍس: إدراك الكفار عجزهم وتخلفهم عن ملاقاة رسول الله في القتال وغيره، وإنعدام الكفئ له بين الناس.
السادس: فيه شهادة من الكفار أن المهاجرين والأنصار مأتمرون بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: إقرار الكفار بوجود رجال أقوياء وشجعان بين المهاجرين، وفيه حجة عليهم، ومع هذا الإقرار فقد جاء القرآن بوصف المسلمين بأنهم في حال ذل يوم بدر , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، وفيه وجوه:
الأول: المراد الذلة العامة من قلة العدد والسلاح والعدة.
الثاني: غلبة أهل البيت في المبارزة وقتلهم لعتبة وشيبة والوليد من النصر الإلهي الذي ذكرته الآية السابقة.
الثالث: فيه دعوة للمسلمين والمسلمات للشكر لله عز وجل على نعمة النصر التي هي هبة وفضل من عند الله.
الرابع: لم يقف المسلمون عند تلك المبارزة، كانت مقدمة وسبباً للزحف، والهجوم على الكفار الذين ظهر الإرباك والفزع في صفوفهم بقتل ثلاثة من فرسانهم ورؤسائهم في لحظة واحدة.
المسألة الثانية: أراد عتبة وأخوه وإبنه إيصال رسالة إلى أهل مكة بقتلهم لرجال من المهاجرين يعرفونهم، في محاولة لصدهم عن الإسلام، ومنع الشباب من التسلل والخروج من مكة للإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلو قتلوا رجلاً من الأنصار لم يكن الأمر جلياً وظاهراً عند أهل مكة.
المسألة الثالثة: حال الزهو والخيلاء التي عليها قريش إذ أنهم حصروا الكفئ برجالات من قريش.
الرابعة: بعث الخوف والفزع في نفوس المهاجرين، عسى أن يندموا على الإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يهدف الكفار إلى تفريق أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه، وظنوا إذا أظهر المهاجرون الندم إنعكس هذا على الأنصار وعوائلهم، وإمتنع شباب القبائل عن الإلتحاق بدار الهجرة.
الخامسة: ظن الكفار أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقدم جماعة من المهاجرين من عموم قريش، بعد الأنصار، وظنوا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يظن ببني هاشم عن المبارزة والقتل، لذا جاء خطابهم إلى النبي نفسه ( يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا) ( ).
فجاء أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن أبي عبد المطلب ، والحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن ابي طالب آية في الجهاد والتفاني في سبيل الله، وإخلاص أهل البيت للنبوة لأن خروجهم شاهد على إيمانهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إثارة للفتنة والندم في صفوف المشركين لأن العباس بن عبد المطلب، و عقيل بن أبي طالب كانا ضمن جيشهم، ومن الآيات أنهما وقعا في الأسر يوم بدر.
لقد كان في قتل عتبة وإبنه وأخيه يوم بدر وهم من أشراف وسادة قريش قطع لطرف من الكفار، وخيبة لهم، وسبب لإمتلاء نفوسهم فزعاً وخوفاً، ورسالة من ميادين القتال إلى أهل مكة والقبائل العربية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منصور ومؤيد من عند الله.
الخامسة: طلب عتبة وإبنه وأخيه الأكفاء من قريش من عمومات ظلمهم لأنفسهم , قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، إذ كان هلاكهم بسؤالهم وسعيهم للمبارزة والقتال.
ومن الآيات أنه لم يحصل مثل هذا الطلب في معارك الإسلام الأولى إلا على نحو الفرد النادر والقضية الشخصية، ولم تأت النتائج إلا بكبت وخزي الكفار كما في طلب عمرو بن ود العامري المبارزة يوم الأحزاب والتي سبقها حوار بينه وبين الإمام علي يعتبر مدرسة في الإحتجاج وأسرار النصر الإلهي للمؤمنين.
السادسة: لقد تجلت معاني إنصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبراء قريش الذين سألوا المبارزة، وتحقق قطع طرف منهم بجلاء، إذ أن عتبة من حكماء ورؤساء قريش.
ويدل عليه ما خص به حكيم بن حزام عتبة من بين كبراء قريش يوم بدر، إذ أنه(مَشَى فِي النّاسِ فَأَتَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، فَقَالَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ إنّك كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، وَالْمُطَاعُ فِيهَا ، هَلْ لَك إلَى أَنْ لَا تَزَالَ تَذْكُرُ فِيهَا بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ ؟ قَالَ تَرْجِعُ بِالنّاسِ وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِك عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيّ ، قَالَ قَدْ فَعَلْت ، أَنْتَ عَلَيّ بِذَلِكَ إنّمَا هُوَ حَلِيفِي ، فَعَلَيّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ فَأْتِ ابن الْحَنْظَلِيّةِ)( ).
والمراد من ابن الحنظلية أبو جهل الذي ثارت ثأرته، وتوعد ووجه كلاماً قاسياً لعتبة، وقال (وَلَكِنّهُ قَدْ رَأَى أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكْلَةُ جَزُورٍ وَفِيهِمْ ابْنُهُ فَقَدْ تَخَوّفَكُمْ عَلَيْهِ) ( ).
وابن عتبة الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أبو حذيفة, وورد عن ابن إسحاق أنه حينما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب، (نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيّرَ لَوْنُهُ فَقَالَ يَا أَبَا حُذَيْفَةَ لَعَلّك قَدْ دَخَلَك مِنْ شَأْنِ أَبِيك شَيْءٌ ؟ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا ، وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا شَكَكْت فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ وَلَكِنّنِي كُنْت أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحُلْمًا وَفَضْلًا ، فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا رَأَيْت مَا أَصَابَهُ وَذَكَرْت مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ بَعْدَ الّذِي كُنْت أَرْجُو لَهُ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْرِ وَقَالَ لَهُ خَيْرًا) ( ).
لقد جاء قطع طرف من الكفار مع خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى القتال، وهو أمر قلما حصل في النبوات السابقة، كما في قتال بني إسرائيل للجبابرة ، قال تعالى[وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ]( ).
إذ يأتي النصر مع الخروج لما فيه من معاني الصبر والتقوى والإخلاص في طاعة الله، وقد يأتي هلاك الكفار من غير قتل كما في غرق فرعون وجنوده في أليم عندما أصروا على اللحوق بموسى وبني إسرائيل للبطش بهم.
ولكن قطع طرف من الكفار الوارد في هذه الآية خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والقطع هنا غير منحصر بواقعة أحد أو قضية في واقعة، بل هو مستمر ومتصل، ففي كل مرة يحدث قتال بين المسلمين والكفار يكون هناك قطع طرف من الكفار، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ]( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث ترشح قطع طرف من الكفار عن القتال، فكلما قاتل المسلمون الكفار إنهدم ركن من أركان الكفر، وهو صرح من بنائهم الخاوي، والذي لا يستطيعون تداركه لأنه لا أساس له يرتكز عليه من عقيدة ومبدأ وإيمان، بالإضافة إلى تزلزل وفضح مبادئ الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكما تضمنت الآية السابقة البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بنزول الملائكة لنصرتهم، جاءت هذه الآية بالبشارة لهم ولأجيال المسلمين اللاحقة بمصاحبة قطع الطرف للكفار، وهلاك صناديدهم، وبعث الحزن والخوف في صفوفهم.
لقد كانت معركة أحد إنعطافة كبيرة في حياة المسلمين، ودرساً عظيماً إستلهموا منه المواعظ، وإستنبطوا منه الدروس، ولكن الأهم هو إتصال فضل الله عز وجل عليهم، ومنه المدد الملكوتي الذي نزل لنصرة المؤمنين، فإن قلت إن المدد السماوي سابق لواقعة أحد، فجاء بخصوص يوم بدر.
لقوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، والجواب لقد ترشح عن المدد الملكوتي الذي جاء المسلمين يوم بدر فيوضات منها:
الأول: يوم بدر من عمومات الآية محل البحث لأن فيه هلاكاً لصناديد قريش وقطعاً لطرف منهم.
الثاني: جاء النصر للمسلمين يوم بدر وهم قليل والنقص في موؤنتهم وأسلحتهم أمر ظاهر قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالث: نال المسلمون الغنائم يوم بدر مما مكنهم من تدارك النقص في مؤونتهم، وزجر أهل الشك والريب.
الرابع: المدد الملكوتي والنصر يوم بدر وسيلة مباركة لجذب الناس للإسلام، وفي قوله تعالى[وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ]( )، ورد أن الكفار هم الذين بدأوا المسلمين القتال يوم بدر وقالوا حين سلمت العير والتجارة التي كانت في الطريق من الشام إلى مكة(لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه)( ).
وإذ خرج ثلاثمائة ونيف من المسلمين يوم بدر ، خرج ألف منهم إلى معركة أحد، ولم يكن بينهما سوى أحد عشر شهراً، نعم إنخزل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة لما أصابهم من الخوف والفزع المترشح عن ضعف الإيمان.
الخامس: قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد معركة بدر بمعارك ، فلم تمر سبعة أيام على معركة بدر حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني سُليم , وأسرى بدر لا زالوا في المدينة، ثم خرج إلى معركة السويق وقصد فيها اللحاق بأبي سفيان وأصحابه الذين تسللوا إلى المدينة، ومروا على الطريق ناحية من المدينة فقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ورجع النبي للمدينة من غير أن يلقى قتالاً، وأقام بقية ذي الحجة ثم غزا نجداً يريد غطفان، فأقام بنجد صفراً كله ثم رجع إلى المدينة لم يلق كيداً ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد قريشاً، قال ابن إسحق: حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرُع، فأقام بها شهري ربيع الآخر وجمادي الأولى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق وعيداً.
ثم حدث نقض العهد من بني قينقاع، ثم أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرية زيد بن حارثة إلى ماء إسمه القرده فأصاب عير قريش، وتحمل فضة , وكان فيها أبو سفيان بن حرب، ولكنه إنهزم وأصحابه فجاء بها زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتكرر هو وأصحابه بأمر من عند الله، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وعندما وقعت معركة أحد حصلت خسائر كبيرة عند المسلمين، ولكنها لم تثبط عزائمهم، أو تضعف عضدهم ، لقد جاء النصر في بدر واقية , ومانعاً من ترتيب الأثر على الخسارة الكبيرة يوم أحد، وكانت معركة أحد برزخاً دون تكرار الأخطاء والخسائر التي حدثت يومئذ.
ومضامين هذا القانون بشارة وإعجاز في تأريخ الإسلام , وتتجلى فيه معاني المدد واللطف الإلهي بالمسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن أبهى مصاديق قطع طرف من الكفار لأنه يدل على الضعف المستديم للكفار.
ويحتمل قطع طرف من الكفار في إستدامته وجوهاً:
الأول: يأتي القطع في وقائع خاصة كميادين المعارك
الثاني: لا يحدث قطع طرف من الكفار إلا بحالات ومعارك مخصوصة تذكر في القرآن على نحو التعيين .
الثالث: القدر المتيقن من الآية حصول القطع بخصوص معركة أحد على نحو الحصر، ولا يتعدى إلى غيرها إلا بدليل وإن جاء بلفظ مرادف أو مختلف وقد يأتي الإخبار عن قطع طرف من الكفار بالسنة النبوية كما في فتح مكة (ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ( ).
الرابع: إتصال وإستمرار وتجدد مصاديق قطع طرف من الكفار.
والصحيح هو الأخير، ويأتي ضعف وهلاك الكفار وإبتلاؤهم بالوهن من وجوه عديدة منها :
الأول : دخول المعركة , وحدوث القتال والمبارزة مع المؤمنين .
الثاني : حصول الفتنة والخصومة بين الكفار.
الثالث : تجلي المعجزات الباهرات لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وتلقي الناس لها بالقبول والتصديق .
الرابع : إيمان بعض كبار الكفار , ودخول الإسلام بيوتهم .
الخامس : تحقق النصر والغلبة للمسلمين مع قلتهم والنقص الظاهر في عدتهم .
فالقطع يأتي على يد المجاهدين والمؤمنين الصابرين الذين يتصفون بالتقوى، والقطع نفسه من جنود الله عز وجل في إتساع رقعة الإسلام ونصر المؤمنين ، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ويحتمل المراد من الفتح في الحديث النبوي الوارد في أول هذا القانون وجوهاً:
الأول: إرادة فتح مكة والذي تم في السنة الثامنة للهجرة.
الثاني: المراد النصر والظفر للمسلمين من غير تعيين بمعركة أو واقعة مخصوصة.
الثالث: المقصود فتح البلدان والأمصار وإرسال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمراء إليها.
الرابع: صيرورة الإسلام قوياً منيعاً.
الخامس: كثرة الأموال والمؤون التي تأتي للمسلمين، وما فيها من قوة لهم، وحال العزة للمؤمنين، قال تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السادس: كثرة عدد المسلمين، ومجيء الغنائم والثمرات لهم، وهو من مصاديق دعاء إبراهيم الوارد في قول الله تعالى[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ).
السابع: توالي نصر المسلمين في معارك القتال، وإرادة المعنى الأعم للفتح، وهو تعاقب الإنتصارات والفتوحات للمسلمين في كل معركة وإتساع رقعة الإسلام , ليكون مقدمة لصلاح الناس وتنزيه الأرض من براثن الضلالة, وبعث الفزع واليأس في قلوب الكفار , قال تعالى[إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( )
الثامن: ظهور دولة الإسلام، وإستقرار المجتمعات الإسلامية، وأداء المسلمين للفرائض في قراهم وأمصارهم تحت لواء الإسلام من غير منع من أحد.
التاسع: قطع طرف من الكفار، وعجزهم عن تدارك النقص الحاصل عندهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الحديث الشريف (لا يصيب الكفار ) والذي هو أصل هذا القانون , وجاء حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيه من البشارة , وبعث الطمأنينة في النفوس لمواساة المسلمين، وجعلهم ينظرون إلى قادم الأيام.
قانون آيات المدد
جعل الله عز وجل عبادة الإنسان علة خلقه وغايته وبلغته , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ، وتبين هذه الأسباب مجتمعة ومتفرقة المنزلة العظيمة للإنسان بين الخلائق، وإصلاحه لمقامات الخلافة في الأرض، إذ نفخ الله عز وجل فيه من روحه، وجعله مؤهلاً لأداء العبادات التي جاءت بأبهى كيفياتها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت بعثته وأكثر الناس عاكفون على الأوثان ، ومعرضون عن سبل الإنقياد لله عز وجل، ولكن الله عز وجل أنعم عليه بالمدد فكان سلاحاً ذا حدين، فهو وسيلة لجذب الناس إلى منازل الإيمان، وحرب على عبادة الأصنام وتحريف الكتاب.
وتجلى هذا المدد بأمور منها:
الأول: الوحي من عند الله، فلا يقول ولا يفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يأمره الله عز وجل به قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، فالوحي أعظم صاحب، وخير سلاح، والآية العظمى , وهو حاضر وملازم للنبي في الليل والنهار، ولا يتخلف عن نصرته طرفة عين.
وإذا نزل الملائكة يوم بدر لنصرة المؤمنين فإن الملك مع النبي دائماً بأن يكون الواسطة بينه وبين الله عز وجل، وهذا من أسرار مجيء آيات المدد السابقة بلغة الخطاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
فالنبي يصاحبه الملك ولا يغادره، وهو من المدد الإلهي له وللمسلمين، لينير لهم دروب الجهاد في سبيل الله، ويكون واقية من تعدي الكفار، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، فالوحي وصحبة الملك حرز من الضرر الآتي من الكفار.
الثاني: مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الباهرات، وهي على شعبتين:
الأولى: المعجزة العقلية: لقد أنزل الله عز وجل القرآن نجوماً لمناسبة الوقائع والأحداث، وليتدبر الناس فيه، ويتطلعون إلى الجديد النازل منه، وليقوم المسلمون بحفظه في معانيه ودلالة آياته.
ومن خصائص القرآن أن كل آية منه مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , ومعجزة قائمة بذاتها ونعمة متجددة تنير دروب السائلين إلى الفوز بجنات الخلد , لذا جاء التحدي في القرآن بسورة واحدة منه قال تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( )، وليس من حصر لوجوه المدد في الآية القرآنية، إذ أنه توليدي وكل آية هي نصرة وعون للمسلمين في الحرب والسلم، وأمور الدين والدنيا.
الثانية: المعجزة الحسية، لقد جاء الأنبياء السابقون بالمعجزات الحسية، وإمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية الخالدة وهي القرآن، إلا أن هذا لا يتعارض مع الآيات الحسية التي جاء بها , ليكون هذا الإجتماع في ضروب المعجزة من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوه تفضيله على الأنبياء السابقين .
الثالث: كان المهاجرون والأنصار مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعوناً له في نشر مبادئ الإسلام، وتثبيت أحكامه في الأرض، وسيوفاً في سبيل الله تدرأ الأذى والكيد عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، وكانوا نواة للأمة الإسلامية، وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، وليس من نبي عنده من الأصحاب مثل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة وإخلاصاً وحباً للشهادة، وصبراً وتقوى وخشية من الله عز وجل.
الرابع: نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في ميادين المعارك، إن النبوة والصحبة لا تنفي الحاجة لله عز وجل، لأن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، وذات النبوة من أهم مصاديق الحاجة واللطف الإلهي بالناس أجمعين، والتذكير بوجوب عبادته، ولكن النعم والفضل الإلهي على الناس عامة والمسلمين خاصة من اللامتناهي في ماهيته وموضوعه وصيغه فجاء نزول الملائكة مدداً رحمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، فهو آلة الحسم في المعركة، والسلاح السماوي الذي يقطع الطرف من الكفار بعد الطرف.
وهل ينحصر قطع طرف من الكفار بالمدد الملكوتي بساحة المعركة أم يتعداه في موضوعه وما يترتب عليه من الأثر، الجواب هو الثاني، وهو من عمومات إذا أنزل الله عز وجل نعمة فهو أكرم من أن يرفعها، فقد نزل الملائكة في معارك مخصوصة ولكن منافع هذا النزول متجددة، وتتشعب عنها فروع كثيرة، وهذه الفروع على جهتين:
الأولى: تقوية عزائم المسلمين، وتثبيت أقدامهم، وبعث السكينة في نفوسهم، فكلما داهمهم خطر ووعيد من الكفار كان الإستحضار الذهني للمدد الملكوتي يوم بدر وأحد وحنين وغيرها عوناً للمسلمين وهو من الشواهد على مصاحبة السكينة للمؤمنين , قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( )، وإصلاحاً لهم لدفع هذا الوعيد.
الثانية: ضعف ووهن الكفار، وإنذارهم بتجدد نعمة المدد الإلهي، وهو من مصاديق التشعب والتجدد في مضامين الآية محل البحث، وهلاك الكفار، ونفر ة الناس من مفاهيم الشرك والضلالة.
الخامس: البشارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي يختص بها الذين آمنوا برسالته وإتبعوه مدد وعون لهم في الحياة الدنيا وطريق إلى الخلود في النعيم في النشأة الآخرة، وجاءت آيات عديدة يأمر فيها الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ببشارة المؤمنين.
وهذه الآيات مدرسة في المدد الإلهي لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعانة المسلمين في صبرهم وتقواهم وقتالهم في سبيل الله ، وهي باب لنزول مصاديق كثيرة من المدد الإلهي، قال تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا] ( ).
السادس: الآيات القرآنية التي تتضمن الإخبار عن المدد الإلهي للمسلمين، ومنها هذه الآية الكريمة التي هي بشارة وإخبار عن ضعف ووهن أعداء الإسلام، وهذا الضعف من جهات:
الأولى: هلاك بعض رؤساء وصناديد الكفار.
الثانية: دبيب الضعف والخور والجبن في صفوف الكفار الذين يلون المسلمين، ويكونون بجوارهم.
الثالثة: تقدم وسط الكفار ليكونوا طرفاً مواجهاً للمسلمين مما يعني حصول ثغرات في صفوفهم، وعجزهم عن تدارك النقص في العدد والقوة والعزائم، وفيه دعوة للمسلمين للإجهاز عليهم، قال أبو تمام:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت
بها الحوادث حتى أصبحت طرفا( ).
بإعتبار ان الخلل يصيب الأطراف، وقد مدح الله المسلمين بوصفهم أمة وسطاً , قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا]( )، أي صلحاء عدولاً، ولعل فيه إشارة إلى سلامتهم من الضرر والكيد.
وقال تعالى[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ]( )، والضمير في قاتلوهم يعود لأئمة الكفر بلحاظ الآيات السابقة [فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ]( )، وهم رؤساء وفضحتهم الآية بالذكر لأنهم يضلون أتباعهم وشطراً من الناس،(وقال الحسن:وأراد به جماعة الكفار وكل كافر أمام لنفسه في الكفر ولغيره في الدعاء إليه) ( )، وعن ابن عباس وقتادة، أراد به رؤساء قريش مثل الحرث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسائر كفار قريش الذين نقضوا العهد.
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالقتال، كما في الآية أعلاه(قاتلوهم) وفيه دلالة على أن الله عز وجل يقطع طرفاً من الكفار بالمدد الملكوتي وبآية من عنده، وأحياناً على أيدي المؤمنين، لقوله تعالى[يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ]أي بقتلهم وأسرهم ، وما يلحقهم من الخزي والذل.
وهل في ثبات المسلمين على الإيمان خزي للكفار، الجواب نعم , وهو من مقدمات قطع طرف من الكفار والنصر عليهم، ودخول الناس في دين الإسلام .
ولا تنحصر آيات المدد للمسلمين بأوان المعركة وزمان التنزيل بل هي متجددة ومصاحبة للمسلمين وتطل عليهم بين الحين والآخر، ويتلو المسلمون آيات المدد القرآنية فيقتبسون منها المسائل، ويسيحون في بشاراتها، وتكون أسباب النزول والآثار الكريمة المترتبة على المدد عيداً وفخراً وعزاً للمسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، (عن عكرمة في المرسل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء جبرئيل فقال لي يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئاً إلا بأمرك.
فقال ملك الجبال: إن الله أمرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك إن شئت دمدمت عليهم الجبال , وان شئت رميتهم بالحصباء , وإن شئت خسفت بهم الأرض.
قال يا ملك الجبال فاني أأنى بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولوا لا إله
إلا الله عز وجل.
فقال ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم) ( ).
ويدل الحديث على أن المدد الملكوتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستمر ومتصل ومتعدد الكيفية والفعل، وأن وسائل وصيغ قطع دابر الكفار ليس لها حد.
بحث بلاغي
إتفق المليون على وجود الملائكة وأنهم خلق عظيم شرّفهم الله عز وجل بالسكن في السماء، وأختلف في ماهية الملائكة، وقال كثير من الفلاسفة بأنها ذوات مجردة ليست من الماديات، وقال المسلمون أنها جواهر مجردة، وقال المتكلمون منهم أنها أجسام لطيفة .
ولا يحصي عدد الملائكة إلا الله عز وجل وقد جعل الله الملائكة وسائط الوحي بين الله عز وجل والأنبياء، وكأنهم المرآة للروح التي نفخها الله عز وجل في آدم عليه السلام , وكل ملك أمة في الإجتهاد في طاعة الله والإنقطاع إلى التسبيح، لذا فإن نزولهم بالوحي يصاحبه القطع بصدقهم وأمانتهم.
وخلق الملائكة أمر متجدد ومتصل.
ومن ا لملائكة حملة العرش وهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم لأن العرش أحاط بكل شيء من الخلائق، (وأخرج عبد بن حميد عن ميسرة رضي الله عنه قال : حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ، ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة ، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها ، وأهل السماء التي تليها أشد خوفاً من التي تليها) ( ).
ولا يعني هذا انهم مراتب في الطاعة والإمتثــال بل ان القــرب من العرش يترشح منه فزع أشد.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “ان لله ملائكة أنصافهم من ثلج وأنصافهم من نار وأن لله ملائكة بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير”.
ومما عليه النص والإجماع أن جبرئيل نزل على الأنبياء بالوحي , وهذا النزول من الكلي المشكك بلحاظ عدد المرات التي نزل فيها على كل نبي وهي على وجوه:
الأول: نزل على إبراهيم  خمسين مرة.
الثاني: نزل على موسى  أربعمائة مرة.
الثالث: نزل على عيسى عشر مرات.
الرابع: نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربعة وعشرين ألف مرة) ( ).
وهذه الكثرة في نزول جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على إتصال المدد الملكوتي له، وعدم غياب أو تخلف نصرة الملائكة له، وليس للملائكة قوة شهوية أو بهيمية تطلب الطعام والزاد، وتشتاق معها إلى اللذات الحسية، فهم منقطعون إلى التسبيح لا يأكلون، ولا يشربون ولا ينكحون، وليس لهم نفوس سبعية تميل إلى الغضب والإستعلاء، ونزلوا لنصرة المؤمنين، وقاموا بقتل الكفار ومطاردتهم لإرادة قطع طرف منهم إمتثالاً لأمر الله , وليكون فعلهم هذا من المصاديق العملية لرد الله عز وجل عليهم ، وما قاله سبحانه في إقامة الحجة عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) , حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فمن الآيات أن الملائكة نزلوا بأنفسهم لأمور:
الأول: الفساد في الأرض.
الثاني: الحيلولة دون سفك الدماء.
الثالث: منع الكفار من الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الرابع: قطع طرف من الكفار.
الخامس: إزاحة الشرك عن مواقعه المتقدمة في الأرض.
(وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) ( )، وفيه إشارة إلى إظهار نبوته، وعز الذين آمنوا به، وإنذار الذين يحاربونه ويصرون على قتاله، ويسعون في منع إنتشار لواء الإسلام.
وجاءت الآية محل البحث لتؤكد بصيغة الجزم التي لا تقبل الترديد أو البرزخية بأن هلاك الكفار أمر حتم ما داموا على الكفر والجحود، ويأتي الهلاك على الأفراد والجماعات ولكنه لا يقف عندهم، ولا ينحصر بهم فأحكام الآية متجددة بتجدد الطرف من الكفار، فكلما هلك طرف تقدم طرف آخر من الوسط أو من الأطراف الأخرى البعيدة عن المسلمين لتكون مقابلة ومواجهة له، كما في الفتوحات الإسلامية، فكانت مكة أيام الدعوة الأولى مقراً ومقاماً لأهل الشرك والضلالة، ويصدر المشركون عن أقطاب قريش بخصوص الهجوم على المدينة ومحاربة المسلمين.
وبعد فتح مكة تقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون نحو الطائف وتبعد نحو ثمانين كيلو متراً عن مكة ولكن بالجهة الأخرى المقابلة لجهة المدينة المنورة وتم النصر بآية ومدد من عند الله قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا]( )، ففتح مكة مهّد الطريق وأمّن السبل لتعظيم شعائر الله ، ثم لم يلبث المسلمون حتى زحفوا نحو جهة المشرق إلى بلاد فارس، والمغرب نحو الروم.
بحث عرفاني
لنزول الملائكة لنصرة المسلمين وقطع طرف من الكافرين منافع وآثار روحية ووجدانية وسلوكية، وهو مناسبة لتطهير النفوس من درن الشك والريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويشمل هذا التطهير شطراً من الذين يقومون ببث الشك ويتجلى بتوبتهم وإنابتهم، خصوصاً وأنهم يرون بعد نزول الملائكة وظهور الشواهد على هدم أركان من الكفر والكافرين إعراض الناس عنهم وعن مصاديق الشك والسموم التي يسعون في إفشائها.
ومن منافع نزول الملائكة وجوه :
الأول : إزالة الكدورات والضغائن.
الثاني : تصفية القلوب،وتهذيب النفوس .
الثالث : طرد مادية الطبيعة عن الأوهام .
الرابع : منع سيطرة النفس الشهوانية والحيوانية.
الخامس : قطع دابر الكفار، وتوكيد القبح الذاتي والعرضي لمفاهيم الضلالة .
السادس : بيان بهاء قوس النزول والصلة المباركة بين أهل السماء وأهل الأرض .
ونزول الملائكة شاهد على محبة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ومناسبة لظهور هذه المحبة بمعجزات لم تشهد الأرض مثلها، وتفيد الجزم واليقين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وضرورة إتباعه ونصرته، وهذا اليقين قطع لطرف من الكفار، ووسيلة لهجران شطر منهم منازل الشرك والضلالة.
لقد أشرقت على الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شمس الملكوت والتي ترشح عنها نهار الإتصال والتداخل بين الإنسان والسماء بملاك التقوى والإيمان، ليستنير الناس بالإشعاع المنبعث من آيات القرآن والذي يخترق شغاف القلوب ويطرد الغفلة، ويمنع من دنوها من نفوس المسلمين وإستيلائها على مساحة ولو قليلة من وقت وعمل المسلم.
وفي المدد الإلهي لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضور سماوي في المجتمعات يجذب الناس للإيمان، ويحول دون التردي في هاوية الضلالة وأسباب الشك والوهم، وفيه دعوة للناس للإيمان بالله واليوم الآخر والتذكير بأهوال الحساب.
لقد دعا الله عز وجل الناس للتصديق باليوم الآخر، وهو أصل من أصول الدين , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا]( )، فجاءت الآية أعلاه بجعل الإيمان به شرطاً للأمن والسلامة يوم القيامة.
وجاء نزول الملائكة وقطع طرف من الكفار إعانة ولطفاً بالناس، وتذكيراً بالآخرة، ومنعاً للغفلة عنها، وإشارة سماوية إلى قرب أوانها وخسارة الكفار يومئذ سواء الذين هلكوا وقتلوا على أيدي الملائكة أو أيدي المؤمنين، أو الذين كبتوا منهم وبقوا أحياء، قال تعالى[فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا*وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ).
وهو سياحة للروح في السماء، وبعث للمحبة الإيمانية بين المسلمين, وجعل الحياة الدنيا مملوءة بالغبطة والسعادة والرضا بفضل الله، والشعور بوجود حصة للمسلمين في السماء بتعضيد ونصرة الملائكة لهم، وليس من شرف وحجة أعظم من تلقي المسلمين النصر من السماء، وقطع عدوهم، وهدم أركانه، وفيه تكميل للنفوس، وإقتناء ثروة عقائدية وإجتماعية عظيمة، ورئاسة بين الناس، ليصبح المسلمون أئمة في الخير، والأمة التي تملأ الأرض إيماناً وعدلاً بعد أن مُلأت جحوداً وظلماً، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي حديث الإسراء ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام (قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رب ما حال المؤمن عندك: قال يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة , وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي).
وجاء الحديث أعلاه ببيان تعرض المؤمن بصيغة المفرد للإهانة والذل, ونصرة الله عز وجل له , وعدم تخلف هذه النصرة زماناً ومكاناً وكيفية، وقد قام الكفار بالهجوم على المسلمين ليس للإهانة فقط بل لإستئصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، الذين وصفهم الله عز وجل بالمؤمنين قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
فمن باب الأولوية القطعية نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، والتي جاءت سريعة وعظيمة وشاهداً على قرب المؤمنين من حضرة القدس بإخلاصهم ودعائهم وجهادهم في سبيل الله بأنفسهم فلم يروا يوم أحد إلا الله، ولم يلتفتوا إلى كثرة الكفار وإنخذال المنافقين في الطريق وما فيه من أسباب التوهين، فجاءت النصرة السريعة من السماء بهلاك الكفار، وإنذارهم من الهجوم على المسلمين، لتفيد الآية قانوناً ثابتاً بوقاية المسلمين من الفزع والخوف , وتكون مقدمة لإرتقائهم في سلم المعارف الإلهية.

قانون القطع بعد أحد
لقد جعل الله عز وجل الأشياء جميعاً حاضرة عنده، مستجيبة لأمره لاتخفى منها عليه خافية، وهو سبحانه الذي جعل الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، وسخّر ما في السماوات والأرض للإنسان لتكون عوناً له في عبادة الله، وآية تدعو العقول للتدبر والتفكر في بديع صنع الله، وتجعل الناس يأتون بالفرائض والواجبات بشوق ورغبة للإيمان بالله وما جاء به الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ومنه الإقرار بعالم الحساب وما فيه من الثواب والعقاب.
ومع أن الحجة قائمة على الناس بلزوم إتيان علة خلقهم وهي العبادة , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، فان الله عز وجل لطيف بعباده يجذب الناس لسبل الإيمان، ويمنع من طغيان مفاهيم الكفر والضلالة.
ومن مصاديق اللطف الإلهي قطع طرف من الكفار وما فيه من التأديب والعقوبة العاجلة , والزجر عن صد الناس عن التصديق بالمعجزات والعمل بما يصاحبها من الأحكام، في باب العبادات والمعاملات، ويحتمل قطع طرف من الكفار وجوهاً :
الأول: إنه ملازم لوجود الإنسان في الأرض مثل ملازمة النبوة له مع التباين بينهما، فقد جعل الله عز وجل آدم أبا البشر نبياً ” وبالاسناد عن أبي إمامة عن أبي ذر قال: قلت: يا نبي الله،أنبياً كان آدم؟ قال: نعم، كان نبيّاً، كلمه الله قُبُلاً”( ).
الثاني: يأتي هلاك الكفار وقطع طرف منهم عند بعثة الأنبياء على نحو التعيين، فالتكذيب بالنبي سبب للهلاك.
الثالث: إقتران هلاك طرف من الكفار بالبشارة التي تأتي للمسلمين بالنصر والغلبة.
الرابع: القطع وهلاك الكفار فرع محاربتهم للنبي وأصحابه، فكلما حارب الكفار النبي يأتيهم القطع.
الخامس: إنه دفاع خاص من عند الله عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
فمن مختصات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قطع طرف من الكفار، وكبتهم وخزيهم.
لقد تباينت نتيجة القتال بين معركة بدر وأحد على نحو الموجبة الجزئية، ففي بدر حقق المسلمون نصراً عظيماً، جاء بمعجزة ومدد من عند الله , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وهو خلاف ما قيل من عدم إجتماع المتضادين، إذ إجتمع هنا النصر والغلبة مع الذلة والضعف، لأن المعجزة خارقة للعادة وقانون السبب والمسبب، بمجئ سبب قاهر من عند الله يفوق الواقع، ولم يجر أصل الإستصحاب في معركة أحد بتحقيق النصر للمسلمين ظاهراً، ولكنه يتجلى لك عند التدبر والتحقيق.
فقد كان نصر المسلمين عظيماً يوم أحد وتدل عليه هذه الآية الكريمة إذ جاء قطع طرف الكفار متعقباً ومتداخلاً مع معركة أحد، فليس ثمة مدة وزمان معتد به بين الأمرين، فلم تقل الآية (وسوف يقطع طرفاً) أو (سيقطع طرفاً) بلحاظ أن السين تفيد المستقبل القريب.
ولم تقل (فيقطع طرفاً) لإفادة التعقيب ومجئ القطع بعد البشارة بالمدد الملكوتي، ونزوله من عند الله، بل جاءت باللام لبيان العاقبة والنتيجة والثمرة العظيمة لنزول الملائكة يوم بدر، ولإفادة حقيقة وهي أن النصر يوم أحد لم ينحصر بوقائع المعركة بل هو متصل ودائم , ومنهم من يسمي اللام لام كي, كما في قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ]( ).
وإذا كان نصر المؤمنين يوم بدر على نحو دفعي وفي ساعة واحدة، فان نصرهم يوم أحد على نحو تدريجي وعلى مراحل متعددة، ويتقوم بهلاك رؤوس الكفر، وإصابة الكفار بالخزي والكبت.
لقد دخل الصراع بين المسلمين والكفار بمعركة أحد مرحلة جديدة، وبان وظهر رجحان كفة المسلمين وصار النصر قريباً منهم، وأدرك المسلمون بهذه الآية أن دفع الكفار وضررهم أمر سهل المنال، وانه يستلزم منهم الصبر وإظهار معاني الخشية من الله بأداء الفرائض والواجبات العبادية لما جاء قبل آيتين [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( ).
لقد خرج المسلمون إلى بدر وهم قلة وضعفاء، ثم خرجوا يوم أحد وهم أعزة بالنصر الذي منّ الله عز وجل عليهم يوم بدر، مع بقائهم على صبغة القلة , وفيه شاهد على تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، وعشقهم للجهاد في سبيل الله.
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مدرسة الجهاد المتكاملة في سبيل الله، إذ يتدافعون بتنافس وتزاحم إلى سوح القتال دفاعاً عن بيضة الإسلام في حال الشدة والرخاء ,والنقص في العدد والمؤون , قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ).
فجاءت البشارات بالنصر من عند الله، قال تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]( )، فلا يعلم الكفار أن النصر بيد الله وأنه يمنحه للمؤمنين والمجاهدين لإعلاء كلمة التوحيد، ولا يدركون ما أعدّ الله عز وجل للمسلمين من الثواب العظيم، وما ينتظر الكفار من العذاب، ولا يفقهون أن الله عز وجل يقطع طرفاً منهم ويكبتهم ويخزيهم، وهذا القطع والخزي من أسباب التخفيف عن المسلمين وجعل المائة منهم تغلب ضعفها ، فان قلت أن المراد رمي الكفار بالهلاك والخزي يجعل العدد القليل من المؤمنين بذم أضعافاً مضاعفة من الكفار.
فاذا كانت المائة من المؤمنين تهزم الفاً، فمع القطع والخزي للكفار تغلب المائة من المؤمنين ألفين من الكفار , والجواب من وجوه :
الأول : إن آية التخفيف أعلاه لم تمح حكم ما قبلها , وان قيل بالنسخ بينهما.
الثاني : نصر المسلمين على ضعفهم من الكفار لا يعني إنحصار النصر به فإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، ولقرينة خاتمة الآية أعلاه وهي [وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
الثالث : لم يأت التخفيف بسبب ضعف المسلمين، وما قيل بأن المسلمين(إختلط بهم من كان أضعف يقينا وبصيرة، ونزل (الآن خفف الله عنكم) ( ).
بل جاء التخفيف بما رمى الله عز وجل به الكفار من قطع الطرف وإبانة طائفة وجزء منهم، وإصابتهم بالخزي بسبب القتل والأسرى في معركة بدر.
الرابع : عجز الكفار عن درك ثأرهم وغاياتهم الخبيثة التي جاءوا من أجلها يوم أحد، بدليل أن الآية أعلاه ذكرت موضوع ضعف المؤمنين على نحو العطف على التخفيف في قوله تعالى[وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا] ( ).
ويفيد العطف المغايرة والتعدد، وأن التخفيف فضل ومدد إضافي للمسلمين، وهو من بركات ومنافع الآية محل البحث وإصابة الكفار بالهلاك والقطع، والخزي الذي يترشح عنه قهراً عجز الكفار عن المثابرة والجد في القتال وتهيئة مقدماته، وهو من أبهى معاني التخفيف عن المسلمين، ولا ينحصر بميدان المعركة بل يشمل قلة المعارك، والتباعد الزماني بين غزوات وهجوم الكفار على حرمات الإسلام ، وإبطاء القبائل والناس عن نصرتهم وإغاثتهم.
وتجلّى التخفيف عن المسلمين بعد معركة أحد بأنه لم يحصل قتال يذكر بعدها، إذ جاء الكفار في معركة الأحزاب وإنسحبوا خائبين، وهذا الإنسحاب من مصاديق الكبت المذكور في الآية، إلى أن جاء فتح مكة ودخول الكفار الإسلام.
ويحتمل دخول قريش الإسلام يوم الفتح بلحاظ مضامين الآية محل البحث وجوهاً:
الأول:إنه من قطع الكفار، فمن معاني القطع إبانة جزء وطائفة من الكل، ودخول قريش في الإسلام من أعظم مصاديق النصر , وإزاحة الكفر عن البقاع المباركة الطاهرة بالهداية والإنتقال إلى منازل الإيمان.
الثاني: فتح مكة من كبت وصرع الكفار، وجعلهم أذلة وفي حزن، إذ تجلت معاني القوة والمنعة والكثرة في زحف المؤمنين، وعندما أدخل العباس أبا سفيان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو والمؤمنون في طريقهم إلى مكة (قال صلى الله عليه وآله وسلّم إنصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله قال : فحبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي و مر عليه القبائل قبيلة قبيلة و هو يقول من هؤلاء و أقول أسلم و جهينة و فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال من هؤلاء يا أبا الفضل قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في المهاجرين و الأنصار فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت ويحك إنها النبوة فقال نعم إذا( ).
الثالث: يجتمع قطع وكبت الكفار في فتح مكة، لما فيه من تعدد مصاديق النصر ومعاني الغلبة للمسلمين، وصيرورة الكفار عاجزين عن الإجهاز على المسلمين وعاصمتهم وثغورهم.
الرابع: لا صلة بين قطع وكبت الكفار وبين فتح مكة، لأن كفار قريش دخلوا الإسلام يومئذ.
والصحيح هو الثالث، وهو من مصاديق الآية الكريمة، والمنافع العظيمة لنزولها يوم أحد، وما فيها من البشارات عن تزلزل أركان الكفر.
قانون الأسر من القطع
الأسير: الأخيذ والمحبوس في قيد أو سجن، يقال: أسرنا الرجل أسراً وإساراً فهو أسير ومأسور، والجمع أسرى وأسارى , مأخوذ من القيد، إذ كانوا يشدونه بالقيد، قال تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ).
وعن ابن عباس ومجاهد أن الآية أعلاه نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وذكر أنه مرض الحسن والحسين وعادهما جدهما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه العرب، وقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله عز وجل، وكذا نذرت فاطمة، وكذا جارية عندهما تسمى فضة، فإستقرض الإمام علي ثلاثة أصوع( ) من شعير من يهودي، وجاء بها إلى فاطمة عليها السلام فطحنت صاعاً منا فإختبزته، وصلى عليّ المغرب، وقربته إليهم ليفطروا فأتاهم مسكين يسأل ويدعو الله لهم فاعطوه ما خبزوه.
وفي اليوم الثاني طرق الباب أوان الإفطار يتيم يستطعمهم ويسأل الله لهم فدفعوا له الخبز، وفي اليوم الثالث وعند أوان الإفطار وقف على الباب أسير فأعطوه ما إختبزته الزهراء، وأتموا صيامهم .
وفي اليوم الرابع عندما أتموا صيامهم أتى الإمام علي ومعه الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهما ضعف، وبكى رسول الله ونزل جبرئيل بسورة الدهر( ).
وفي قوله تعالى(وأسيراً) ورد عن الحسن البصري (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه) ( )، ومن الآيات الإعجازية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد مصاديق النصر يوم بدر في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
فليس من حصر لوجوه ومصاديق النصر يومئذ ومنها وقوع سبعين من رجالات قريش في الأسر، وهو شاهد على صيرورة دولة للمسلمين ذات نظام، وتتصف بالضبط والدقة وصيغ أخلاقية رفيعة، فلم يعتد أحد على الأسرى، بل كانوا في ذمة وعهدة المسلمين، ونزلت الآية أعلاه لأمور وغايات عقائدية وأخلاقية كثيرة منها ما يتعلق بمضامين الآية, وهو على وجوه :
الأول : تأديب المسلمين وإرشادهم إلى حسن معاملة الأسرى .
الثاني : الآية جذب للأسرى للإسلام،وطرد للنفرة منه من نفوسهم .
الثالث : في الآية حجة على الأسرى ,لأن إكرامهم وإطعامهم من قبل أهل بيت النبوة وتوثيقه سماوياً شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : فصل المسلمين بين كبت الكفار بالأسر وبين إيثارهم على النفس, وجاءت الأخبار بأن المستضعفين من المسلمين يفرون من مكة رغم بطش قريش والرصد الذي وضعته حول مكة, ولم يحدثنا التأريخ عن فرار جماعة من الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين .
الخامس : إرتقاء أصحاب النبي محمد والمسلمين عامة في مراتب الخلق الحميد، والدعوة إلى الله، وإجتناب الإكراه والإجبار مع أن الأسرى معتدون على المسلمين، ويستحقون العقاب ولم يقتلهم المسلمون بإعتبار أن قتلهم من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] وهو هلاك وإجتثاث لبعض صناديدهم بلحاظ أن الأسرى أخذوا من وسط المعركة وأثناء القتال أو الفرار وهم كفار.
فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل الأسرى ، ولم يعذبهم بل أمر بالعناية بهم، وأفدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسرى بدر, وجاءت الآية أعلاه تأديباً للمسلمين بخصوص معاملة الأسرى .
السادس : جاء كبت الكفار من الله ( أو يكبتهم ) وهو سبحانه الذي أثنى على أهل البيت لعنايتهم بالأسير
السابع : تنزيه المسلمين كأمة وأفراد من العصبية وغلبة النفس الغضبية , وهذا التنزيه من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على أنه لا يقول أو يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل به أن مكوث الأسرى لم يتأخر فقد وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، (قال ابن اسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر عقب شهر رمضان أو في شوال)( ).
وتم في شهر شوال وفي ذي القعدة تخلية أغلب الأسرى ، مع أن النبي خرج في معركة بني سليم في شوال نفسه وكان الأسر والفداء إنذاراً مركباً لقريش، أي أن كل فرد منهما إنذار مستقل قائم بذاته، وزجر عن مواصلة القتال، وكانت سلامتهم من الأسر يوم أحد والأحزاب نوع إستدراج لهم , قال تعالى[سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ولبيان قانون ثابت مع تباين الأحوال، وهو منعة وعز الإسلام في حال السلم والحرب، بخلاف الكفار فإنهم في حال ضيق وخوف وفزع في جميع الأوقات وتباين الأحوال، وهم معرّضون لقطع طرف منهم، وللخسارة وهلاك رؤسائهم وكبرائهم.
ويحتمل أسر المسلمين للكفار بلحاظ قطع طرف من الكفار وجوهاً:
الأول: الأسر من القطع موضوعاً وحكماً.
الثاني: الأسر أجنبي عن القطع، لأن الأسرى أطلق سراحهم، ورجعوا إلى قريش.
الثالث: الأسر مقدمة وإنذار للقطع.
والصحيح هو الأول والثالث، ولم يرجع الأسرى إلى أهليهم إلا بعد الفداء ودفع الأموال الكثيرة .
إن دفع قريش للفداء كبت وخزي للكفار خصوصاً وأن قريشاً أهل تجارة ويصعب عليهم دفعها , وهم في حال حرب مع المسلمين , ويعلمون أن النبي محمداً والمسلمين يوظفونها في شراء السلاح وتحسين أحوالهم المعاشية.
و قال أبو داود: حدثنا عبدالرحمن بن المبارك العبسى، حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة، عن أبى العنبس، عن أبى الشعثاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وهذا كان أقل ما فودى به أحد منهم من المال، وأكثر ما فودى به الرجل منهم أربعة آلاف درهم( ).
وفي حجز بعض رجالات قريش أسرى حرب خزي لهم ولعموم الكفار الذين من خلفهم , قال تعالى[كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ]( ).
وتظهر الآية أعلاه من سورة الدهر أن الأسرى لم يكونوا محبوسين، بل كانوا يطوفون على بعض بيوت المدينة، ليروا بأم أعينهم الأثر العظيم الذي أحدثه الإسلام، وإصلاحه للنفوس والمجتمعات والسنن، وإقامة المسلمين على أداء الفرائض، وتقيدهم بأحكام الحلال والحرام، وتجلي ملكة الإيمان على الألسن والجوارح، ليعود هذا الأسير نذيراً إلى قومه، وداعياً إلى الإسلام، او لا أقل الكف عن محاربة المسلمين، ومن الآيات أن الصحابة كانوا يؤثرون الأسير على أنفسهم وإن بقى على كفره وجحوده.
وتلك سجايا وأخلاق حميدة لم تصل إليها القوانين التي تنظم شؤون أسرى الحروب إلى يومنا هذا , وأن قلت من أسرى بدر الذين إفتدوا أنفسهم أو عفى عنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رجع إلى القتال في أحد ولم يتعظ مما رأى من حال المهاجرين والأنصار في المدينة، وما هم عليه من الهداية والصلاح فان هذا الفعل لا يمنع من الإحسان والرأفة.
والجواب الذين عادوا للحرب من الأسرى أفراد قلائل، ولم يخرجوا إلا تحت الإلحاح وما يشبه الإكراه، إذ أخذ كبار رجالات قريش مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل يطوفون على الناس والقبائل يحرضونهم ويرغبونهم بالخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ويعدونهم فمثلاً كان (أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى قد منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، وكان في الأسارى، فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة، إنك إمرؤ شاعر فأعنا بلسانك وأخرج معنا، فقال: إن محمداً قد منّ علي فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتى يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بنى كنانة ويقول:
أيــــــــا، بنى عبد منــــــاة الرزام
أنتم حمـــاة وأبوكــــــــــم حام
لا يعدونى نصركم بعد العــــــــام
لا تسلمـــــــــوني لا يحل إسلام) ( ).
وفي اليوم التالي بمعركة أحد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في أثر العدو، ووصل إلى حمراء الأسد، وتبعد عن المدينة ثمانية أميال وأقام فيها ثلاثة أيام، ثم رجع إلى المدينة، وقبل رجوعه أخذ أبا عزة الجمحي هذا ومعه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبدالملك بن مروان لأمه، فقال أبو عزة: يارسول الله، أقلني فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول:خدعت محمداً مرتين.
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” إنّ الْمُؤْمِنَ لا يُلْدَغُ مِنْ جُحْر( )ٍ مَرّتَيْنِ اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا عَاصِمُ بْنَ ثَابِتٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ( ).
وتلك آية إعجازية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتخلف أبو عزة هذا عن قريش، ويخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لأحد فيأخذه وتضرب عنقه وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ولم يلبث صفوان بن أمية الذي وعده بكفالة وإعالة بناته أن هرب من مكة يوم الفتح إلى جدة يريد الركوب منها لليمن، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمان، ودخل في الإسلام، وقد يتخذ من بعض الكفار الذين يقعون في الأسر عبيداً، للأمن من شرهم وأذاهم، وما يلبثوا حتى يعتقوا، فيكونوا أحراراً في دولة الإسلام.
وقد جاءت الآيات بالترغيب بالعتق وجعله كفارة عن ذنوب مخصوصة فتكون حتى على حنث اليمين قال تعالى فيه [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( ).
وفيه ندب لعتق العبيد وإكرام المؤمنين منهم بالحرية، ولم تمر الأحقاب على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنقرض نظام العبيد في الواقع الخارجي فلم تجد بين المسلمين عبيداً، بل كلهم متساوون في العبودية لله عز وجل، و تلقي الخطاب التكليفي والتشريعي , والإنقطاع إلى طاعة الله عز وجل.
قانون موضوعية آية (ليقطع)
من أسرار الآية القرآنية أمور:
الأول: شهادتها على ما حدث ومضى من الأحداث.
الثاني: توثيق الوقائع التي تقترن بزمان نزول الآية، لذا أسس علم شريف في آيات القرآن هو (علم أسباب النزول) ( ).
الثالث:موضوعية الآية في الوقائع التي تقع في المستقبل، لتكون الآية إشارة إليها، ومقدمة لوقوعها.
الرابع:الآية القرآنية بشارة للمؤمنين وسكينة لقلوبهم، وجاء في الآية السابقة، قوله تعالى[وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]( )، وبخصوص الآية الكريمة محل الحث فانها شاهد سماوي على واقعة أحد , ودليل على أن المسلمين لم يخسروا فيها، وإن أصاب الكفار من المسلمين، وإستطاعوا أن ينالوا منهم, ويعتدوا على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاصيب بجروح بليغة منها:
الأول: كسر رباعيته اليمنى السفلى( ).
الثاني: جرح شفته السفلى، إذ رماه عتبة بن أبي وقاص بنبل (فدعا عليه النبي بأن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا فمات كافرا قبل أن يحول الحول)( ).
الثالث: شج جبهته، رماه عبد الله بن شهاب الزهري.
الرابع:جرح وجنته، رماه بن قمئة، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَقَطَتْ ثَنِيّتُهُ ثُمّ نَزَعَ الأخْرَى ، فَسَقَطَتْ ثَنِيّتَهُ الْأُخْرَى، فَكَانَ سَاقِطُ الثّنِيّتَيْنِ ( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله( ).
وصبر جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتلون دونه، ومنهم من تلقى النبال التي يراد منها شخص النبي حتى وقع شهيداً بين يديه إلى أن علم المسلمون الذين إنهزموا من وسط المعركة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي ولا زال يقاتل وسط المعركة , فبادروا إلى الرجوع للقتال.
ونزلت هذه الآية لتكون سلاحاً وعوناً للمؤمنين، ومدداً لهم في ساحة المعركة وما بعدها من الآيات والوقائع، إذ أن معركة أحد إنتهت بإنسحاب الكفار، وعجزهم عن الرجوع إلى المعركة بعد أن هموّا به.
وكان جند الله من الملائكة وأهل الإيمان لهم بالمرصاد في حال العودة, وإنتهت المعركة بخسارة كبيرة من الشهداء المؤمنين الذين قدّمهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار، ودخل الحزن بيوت المدينة , وقامت نسوة الأنصار بمواساة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل حمزة، لتكون هذه الآية مواساة لهم جميعاً رجالاً ونساءً ووعداً بالنصر ودعوة للصبر في جنب الله.
والآية وثيقة على الوقائع التي سبقت وإقترنت بيوم أحد بما يبعث الغبطة في نفوس المسلمين، وتصلح أن تكون حال المؤمنين يوم أحد من أسباب نزول الآية وأن الله عز وجل لن يجعل المسلمين يخسرون المعركة، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
ومن الآيات أن دفاع الله عز وجل عن المؤمنين ليس له حصر في كيفيته وطرقه، وتجلت في واقعة بدر وأحد آيات منه بسرعة نزول الملائكة من السماء لنصرة المؤمنين وكأنه ليس من ثمة مسافة بين السماء التي هي مسكن الملائكة وبين الأرض.
وجاءت هذه الآية لبيان أثرها وموضوعيتها في الوقائع التي تلت وأعقبت واقعة أحد، فإنسحب الكفار من المعركة خائبين محرومين من تحقيق ما جاءوا من أجله مع كثرة قتلاهم وإن كانت أقل بالقياس مع قتلاهم وأسراهم في معركة بدر، إلا أن هذه الآية جاءت لتخبر بأن خسائرهم في معركة أحد أكبر مما حصل لهم في بدر لما فيها من الإخبار عن إستئصال الكفار طرفاً بعد طرف , وجماعة بعد جماعة، إذ أن أحكام الآية مستديمة ومتجددة، فكلما هلك بعض قواد الكفار برز غيرهم ليلقوا ذات العاقبة وسوء المنقلب، فيتجدد المصداق العملي لقوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ], وهذه الكثرة بسبب إصرارهم على التعدي والهجوم على المسلمين, وعدم إتعاظهم من هزيمتهم في يوم بدر .
لقد لاقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بداية الدعوة في مكة أشد أصناف العذاب من قريش وعموم مشركي مكة (وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ، فيقول لهم : إصبروا فإني لم أؤمر بالقتال) ( ).
وهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليدافعوا عن الإسلام من بلد المهجر والأنصار، ويقاتلوا الذين جاءوا من مكة ظلماً وعدواناً، ويروا مصارع الذين إشتركوا في تعذيبهم في مكة، وجاءت هذه الآية ليلتفت المسلمون إلى هذه النعمة، ويشكروا الله عز وجل عليها.
وهي باعث للسكينة في نفوسهم بأن الكفار لن يستطيعوا الثأر والإنتقام من المسلمين بعد معركة أحد لأن هذه الآية تلاحقهم بإبانة طائفة منهم، وذل وحزن الباقين منهم، وهي بشارة دخول فريق من الكفار الإسلام، بلحاظ أركان الآية من وجوه:
الأول:قطع طرف من الكفار بإسلام فريق منهم، وهو لا يتعارض مع القطع بهلاك رؤسائهم وكبرائهم في ميدان المعركة وغيره، وقد يدخل بعض رؤسائهم الإسلام ويتبعهم الأنصار والأعوان والأتباع وأبناء القبيلة.
الثاني: دخول فريق من الكفار الإسلام كبت وذل وحزن لمن بقي منهم في منازل الكفر والضلالة.
الثالث: رجوع الكفار إلى ديارهم وأمصارهم خائبين بعد دخول فريق منهم الإسلام، وإخبار أهلهم حين الرجوع بإسلام عدد من الشباب وإلتحاقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الرابع : صيرورة الكفار عاجزين عن منع أبنائهم ذكوراً وأناثاً من دخول الإسلام .
وستبقى هذه الآية حاضرة في المجتمعات وتكون لها موضوعية في دراسة أحوال العدو، وما ينتظره من القطع والكبت، من غير أن تكون هذه الموضوعية سبباً لتفريط المسلمين في الإستعداد للقتال والدفاع عن بيضة الإسلام، لذا جاءت الآية وسط الميدان وفي معركة أحد.
قانون مصاديق القطع
لقد تفضل الله عز وجل بمعجزة خالدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة لنصرته، لتبقى آية في الخلائق تشهد على صدق نبوته وعظيم منزلته عند الله، وإختصاصه من بين الأنبياء بمدد من السماء لأن رسالته أعم زماناً ومكاناً.
وعندما جمع قوم نمروذ الحطب لإبراهيم لمدة شهر وأوقدوا النار أمر الله عز وجل النار بأن تكون[بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، ليغادر إبراهيم القوم ويهاجر إلى الشام، وعندما زحفت قريش بجيوشها لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أنزل الله عز وجل ملائكة لنصرته، وكانت آية في العالمين، وهي من أبهى وأعظم مصاديق قطع دابر الكفار بما يفوق قانون السبب والمسبب وفق نواميس الدنيا، وقدرات البشر المحدودة.
وليس من حصر لوظائف الملائكة الذين نزلوا مدداً في معارك الإسلام الأولى وأهمها القتال , ومنها تخويف الملائكة للكفار , وهو نوع قطع لطرف منهم من وجوه:
الأول: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثاني: تمكين المؤمنين من الكفار .
الثالث : بث الضعف والوهن في صفوف الكفار.
الرابع : دعوة الكفار للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراك حقيقة ضلالتهم.
الخامس : إزاحة الغشاوة التي على أبصار الكفار، من حضر منهم ميدان المعركة، ومن تخلف عنها.
السادس: إبتلاء كبراء كفار قريش بالعجز عن جمع الأنصار والأعوان كما في يوم فتح مكة , فقد زحفوا في معركة الأحزاب بعشرة آلاف رجل من الأحابيش( ) وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان , وخرجت غطفان بألف ونزل قوله تعالى[إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ] ( )، وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة آلاف من المسلمين، وبينه وبين جيش المشركين خندق حفره المسلمون , وظهر النفاق يومئذ (قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط)( )، (وقال ابن هشام: وأخبرني من أثق به من أهل الله: أن معتب بن قشير لم يكن من المنافقين، وإحتج بأنه كان من أهل بدر) ( )، مما يدل على الفزع والخوف الذي أصاب المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وأهل المدينة بصرف المشركين بعد أن أقاموا في حصار المدينة قريباً من شهر، مع الرمي بالنبل، ليدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعدها بثلاث سنوات مكة فاتحين من غير قتال ومقاومة تذكر , مع عجز ظاهر من الكفار في جمع الأعوان .
ترى أين ذهب أحد عشر ألف مقاتل يوم الأحزاب، وكيف دخلوا الإسلام إنها آية في العالمين ومعجزة ظاهرة للأجيال، وشاهد يتضمن الإنذار من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبشارة دخول الناس الإسلام أفواجاً، وإنضواء أعداء الإسلام تحت لوائه , وإتيانهم الفرائض العبادية, لتكون البشارة الواردة في الآية السابقة وقطع طرف الكفار المذكور في هذه الآية أعم من أن ينحصرا بواقعة مخصوصة، أو خصوص أيام التنزيل ومعارك الإسلام الأولى بل هما متجددان ومتصلان.
ومن مصاديق قطع طرف الكفار أمور :
الأول: ما يرميهم الله عز وجل به من الخلاف والفرقة .
الثاني: نقص المؤون وحبس الغيث وإمتناع السماء، وقلة الريح،وقلة الريع.
الثالث: تعطل المكاسب وكساد التجارات , وقلة الربح .
الرابع: عدم إتباع أبناء الكفار لآبائهم في جحودهم وإصرارهم على الكفر , ليكونوا أقل حمية لمفاهيم الجاهلية، وأبعد عن عبادة الأوثان، وأكثر إلتفاتاً إلى المعجزات وإصغاء لآيات القرآن التي دخلت كل بيت من بيوت العرب طوعاً وإنطباقاً وقهراً، وبينما كان أبناء المسلمين على نهجهم في الإيمان والدفاع عن الإسلام، كان أبناء الكفارعلى وجوه:
الأول: الذين إعتزلوا القتال، وإجتنبوا نصرة أقطاب الكفر والضلالة.
الثاني: الذين إختاروا دخول الإسلام، ومنهم من تحمل الأذى في سبيل الإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في المدينة وفاز بلقب المهاجر، فلا تشرق الشمس على قريش إلا ويفتقدون بعض أبنائهم، وهو من الأسباب التي جعلتهم يغزون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، بدل أن يتعظوا من هذه الآية، ومن هؤلاء الشباب من كان من أبناء سادات قريش.
ففي صلح الحديبية بعثت قريش سهيلاً بن عمرو للصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأثناء كتابة كتاب الصلح جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو هذا يرسف في الحديد وهو مسلم يريد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الصلح بذاته من مصاديق قطع طرف من الكفار لما فيه من الدلالة على تخلف قريش عن الهجوم من جديد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة، وقد جاء الصلح خارج المدينة، بعد أن غادرها النبي في ألف وأربعمائة من أصحابه في رواية جابر بن عبد الله وهو يريد العمرة ولا يريد حرباً، وإستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي( ).
وتدل هذه الإنابة على قيام نواة دولة الإسلام، وأن الحكم في يثرب بيد المسلمين، وأن اليهود الذين بقوا فيها هم تحت حكم المسلمين، وساق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه الهدي لإعطاء رسالة لقريش وغيرها أنه خرج زائراً للبيت الحرام , والذي تحجه وتطوف به العرب.
ترى لماذا لم تجهز قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق إلى مكة وتنتقم لقتلاها في بدر وأحد، والخندق، وتحقق غاياتها التي جمعت لهم الجيوش العظيمة على مدى السنوات السابقة، تلك آية تستلزم التحقيق والدراسة، وفيها وجوه:
الأول: عجز قريش عن الإجهاز والهجوم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإن كانوا عزلاً ليس معهم أسلحة.
الثاني: خشية قريش من القبائل العربية من حولهم أن ينتقموا منهم.
الثالث: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شهر ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم، ويليه شهر ذي الحجة والمحرم , وهما من الأشهر الحرم أيضاً، وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم.
الرابع:ظهور وهن وضعف قريش في السنة السادسة للهجرة.
الخامس: وجود أعراف في أيام الجاهلية أن من خرج معتمراً أعزلاً من السلاح لا يباغَت، ولا يغدر به.
السادس: خشية قريش من الغدر على نحو القضية الشخصية، بينما كانوا يهجمون على المدينة ويغزونها جهاراً.
السابع: إتساع رقعة الإسلام، وظهور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخفيف قريش من غيظها وحقدها على الإسلام والمسلمين قهراً وإنطباقاً .
الثامن: إدراك قريش لحقيقة وهي تخلي العرب عنها في تعديها وظلمها للنبي محمد والمسلمين.
التاسع: قطع طرف من الكفار كما جاءت به هذه الآية.
العاشر: غياب الرؤوس الذين كانوا يحرضون القبائل، والذين يقولون الشعر، وينالون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من آثار ومنافع قطع طرف من الكفار.
الحادي عشر: إنقطاع وهلاك بعض اليهود الذين كانوا يطوفون على قريش للتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، مثل كعب بن الأشرف وأصله من طيء ، من بني نبهان، ولكن أمه من بني النّضير، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث بعد إنتهاء معركة بدر زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية للبشارة بنصر الله وهلاك رؤساء الكفر والضلالة من قريش، فخرج كعب إلى مكة وأخذ (يبكي أصحاب القليب من قريش، الذين أصيبوا ببدر)( )، وصار يحرض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقول الشعر:
لِيَزُورَ يَثْرِبَ بِالْجُمُوعِ وَإِنّمَا
يَحْمَى عَلَى الْحَسَبِ الْكَرِيمُ الْأَرْوَعُ( ).
وعندما رجع كعب إلى المدينة تمادى في الغي، وأخذ يشبب بنساء المسلمين, وتلك حرب جديدة فتحها عليهم لإشغالهم وإرباكهم وإضعاف همتهم،(فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لي بابن الأشرف)( )، فتصدى له إثنان من المسلمين فقتلاه.
الثاني عشر: ظهور حالات من اللوم والندامة بين رجالات قريش، وفي منتدياتهم على سوء فعلهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهذا اللوم مستمر في مجالس وحوارات قريش إلا أنه يزداد مع تقادم الأيام، وتجلي معجزات النبوة، ولحوق الخسائر الفادحة بقريش فمثلاً عندما همّ أبو سفيان بن حرب بالرجوع إلى المدينة المنورة بعد معركة أحد (ليستأصل بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم صفوان بن أمية بن خلف: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا فرجعوا) ( )ز
ولم يعلموا أنهم حينما هموا بالرجوع نزلت البشارة على المسلمين[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ) ,
والأصل في رجوعهم وعلته رؤية آثار المدد الملكوتي وأسباب النصر الإلهي للمؤمنين, وخشية الهلاك والإستئصال إن رجعوا .
الثالث عشر: إصابة قريش بالفزع والهلع عندما سمعوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة، وخرج بعض رؤسائها يملأهم الغضب والغيظ (يعاهدون الله لا يدخلها عليهم أبداً) ( ).
فلم يطرأ على أذهانهم صلح الحديبية والرخصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالعودة , ودخول مكة معتمرين في العام التالي, مما يدل على أن صلح الحديبية من عمومات كبت الكفار، وفيه خزي لهم أمام القبائل والتأريخ ، وهو شاهد على عجزهم عن التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإن كانوا بغير سلاح وفي أرض قريبة من موطن قريش.
ووفق الحسابات العسكرية لا يمكن أن يتصور أحد خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عزلاً من غير سلاح قاصدين مكة , لتتجلى في المقام معاني الصدق في نبوة محمد والعناية والمدد الإلهي الملازم له وهو من عمومات قوله تعالى[ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ]( )، والشواهد على تسليم وإقرار قريش بقوة الإسلام وظهور أحكامه , ونفاذ إشراقات مبادئه إلى شغاف قلوب عامة الناس، نعم هذا الإقرار على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، لقانون الإيمان يغزو نفوس وبيوت ومنتديات الكفار، فيجعلهم في إرباك وحيرة عند ورود أخبار وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى البيت الحرام.
( وعن ابن عباس أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ليصيبوا من أصحابه أحدا، فأخذوا أخذا، فأُتي بهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحجارة والنبل( ).
الرابع عشر: خروج النبي محمد في السنة السابعة للهجرة إلى عمرة القضاء، ليكون هذا الخروج بداية لكيفية وصيغة جديدة للحرب والخصومة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقريش، وكأنها هدنة , وفيها عز وفخر للمسلمين، وكبت وخزي للكفار لقصورهم وعجزهم عن الهجوم على المدينة، وإكتفت قريش بالخروج من مكة عندما سمعوا بإقتراب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منها، وفيه ذل ووهن إضافي لقريش, وبشارة الفتح والنصر للمسلمين .
ووقف رجالات قريش عند دار الندوة لينظروا إلى النبي وأصحابه عند دخولهم البيت الحرام ، وكان عبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقة النبي، ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إني مؤمن بقيـــــــله أعـرف حق الله في قبوله)( ).
وحينما دخل النبي المسجد الحرام، قال لأصحابه( رَحِمَ اللّهُ امْرَأً أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوّةً ، ثُمّ اسْتَلَمَ الرّكْنَ ، وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتّى إذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ وَاسْتَلَمَ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ ، مَشَى حَتّى يَسْتَلِمَ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ ثُمّ هَرْوَلَ كَذَلِك ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا فَكَانَ ابن عَبّاسٍ يَقُول : كَانَ النّاسُ يَظُنّونَ أَنّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ . وَذَلِك أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ لِلّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ حَتّى إذَا حَجّ حَجّةَ الْوَدَاعِ فَلَزِمَهَا ، فَمَضَتْ السّنّةُ بِهَا) ( ).
الخامس عشر: لقد أنهكت الحروب مع المسلمين قريشاً، ودب الضعف والوهن فيهم، وعندما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في طريقه قبل أن يصل إلى الحديبية بخروج قريش لمنعه من العمرة قال:(يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا ، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ ، فَوَاَللّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُ)( )( ).
قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ]
تأتي(أو) بمعنى التخيير والترديد بين أمرين كما في قوله تعالى في كفارة اليمين فكفارته [إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ] ( )، كما تأتي بمعنى حرف الإضراب (بل) وأستدل عليه بقوله تعالى[لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ] ( )، ولكنه لا يخرج عن معنى الترديد بين الأمرين، وردت الآية أعلاه في سورة الكهف، وروي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان إنتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم .
وتكون (أو) بمعنى(حتى) قال الزجاج نحو قول (لا تبرح أو أخرج إليك)( )، وهو بعيد عن المعنى الظاهر وصيغ التفاهم في اللغة.
وتتكون جملة(يكبتهم) من ثلاث كلمات:
الأولى: فعل مضارع.
الثانية: ضمير مستتر تقديره(هو) يدل على الفاعلية والمراد الله عز وجل.
الثالثة: المفعول به الضمير (هم) والمراد به الذين كفروا بلحاظ نظم الآية، ويحتمل من جهة الكثرة والقلة وجوهاً:
الأول: إرادة الكفار الذين خرجوا لقتال المسلمين يوم بدر وأحد، وعادوا خاسرين عاجزين عن تحقيق غاياتهم الخبيثة بقرينة خاتمة الآية(فينقلبوا خائبين).
الثاني: المراد رؤساء الكفار من قريش الذين طافوا على القبائل وحرّضوا الناس وأخرجوهم قهراً وترغيباً لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلا فإن عامة الناس إذا تركوا وشأنهم لا يخرجون لقتال، ويحبون العافية والدعة إلا المجاهدين الذين يقاتلون في سبيل الله طاعة لله ورسوله وعشقاً للشهادة، وحباً لصلاح الناس وفوزهم بخير الدارين قال تعالى[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( )، بالإضافة إلى تجلي حقيقة لها موضوعية في العزم على القتال أو العزوف عنه بالنسبة للقبائل العربية، وهي مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات والدلالات الباهرات التي تدل في مفهومها على لزوم عدم محاربته.
وبين الوجه الأول والوجه الثاني أعلاه عموم وخصوص مطلق، فرؤساء الكفار من قريش جزء من عموم الكفار الذين خرجوا للقتال.
الثالث: أمة الكفار الذين يلون المسلمين والتي تكون رحماً ووعاء لتجهيز الجيوش لقتال المسلمين.
الرابع: إرادة عموم الكفار، لأن أي قطع وصرع لعدد من رؤساء الكفار يترشح عنه ذل وحزن للكفار الذين يبلغهم خبر إنتصارات المسلمين في معارك الإسلام الأولى.
وليس من تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية ولكنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتةـ، إذ يظهر التباين في الدرجة ومراتب الأثر، ويتعلق أشده بالكفار الذين خرجوا لقتال المسلمين .
لقد إنتهت معركة بدر بخزي قريش، ومقتل صناديدها، ولم تتعظ , وتكف عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدرك أن نصره وأصحابه وسلامتهم، مع قلتهم وضعفهم، ووقوع القتلى والأسرى في جيش قريش العظيم آية ومعجزة وزاجر عن مواصلة التعدي على المسلمين ، ودعوة سماوية للكف عنهم .
وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ثلاثة من المشركين صبراً، منهم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يا علي عليّ بالنضر أبغيه فأخذ علي بشعره و كان رجلا جميلا له شعر فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال يا محمد أسألك بالرحم بيني و بينك إلا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني , و إن فاديتهم فاديتني فقال صلى الله عليه وآله وسلّم لا رحم بيني و بينك قطع الله الرحم بالإسلام قدمه يا علي فاضرب عنقه فضرب عنقه) ( ).
والنضر هذا هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وهو الذي قال في وصف القرآن[إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( )وقال لو شئت قلت مثل هذا،(وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأسفنديار) ( )، للإفتراء على القرآن وحاول إيهام الناس بوجوه من الشبه والتمثيل بينها وبين بعض قصص الأمم السالفة في القرآن، وهو من الخبر والقضية التي تتضمن الصدق وكشف الواقع وذكر الوقائع التأريخية وإقتباس المواعظ والعبر منها.
وأخذ لواء المشركين بعده أبو عزيز الذي أسره المسلمون وهو أخو مصعب بن عمير ، وقال مصعب لمن أسره: شد يديك به، فان أمه ذات متاع لعلها تفديه منك , فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك، ففدته أمه بأربعة آلاف درهم.
ورثت النضر أخته قتيلة بنت الحارث بقصيدة لم تنس أن تمدح بها النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وتثني عليه مع ما بها من مصيبة وأسباب العداوة وتذكره بالرحم , وتقر بأن الذين قتلوه هم أخوة له، لبيان أثر الإسلام في تقسيم الناس على أسس عقائدية , وتلمح إلى أنها لا تطالب بدمه ولا تحرض على قاتليه , ومن قصيدتها :
أَمُحَمّدٌ يَا خَيْرَ ضَنْءِ( ) كَرِيمَةٍ
فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعَرّقُ( ).
مَا كَانَ ضَـــــرّك لَوْ مَنَنْت وَرُبّمَا
منّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحُنَــــقُ
أَوْ كُنْت قَابِلَ فَدِيَةٍ فَلْيُنـــــــــــْفِقَنْ
بِأَعَزّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْــــــــــــــــــفِقُ
فَالنّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرْت قَرَابَةً
وَأَحَقّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْــــــــــــتَقُ
ظَلّتْ سُيُـــــوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ
لِلّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقـــــــــــــــــــــّقُ
صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيّةِ مُتْعَــــــــــــبًا
رَسْفَ الْمُقَيّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَـــــقُ( ).
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعرها قال: لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه، وتتجلى في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا معاني الرحمة والرأفة وأنه لم يبعث إلا لهداية وإصلاح الناس، ويصبر على أذاهم ويتجاوز عن تعديهم رجاء دخولهم الإسلام.
فسار بعض رجالات قريش من أرباب الجاه , وأهل العناد والجحود والحسد بالسعي والطواف في قريش وبين أهل مكة للتحريض على معاودة الكرة في القتال، وطلب الثأر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وإذ جاءت الآية السابقة بالبشرى والطمأنينة للمسلمين، فان هذه الآية جاءت بالقطع والكبت للكفار الذين يعتدون عليهم، ليتجلى الفضل الإلهي العظيم على المسلمين، إذ أن ذكر وحضور الشئ بلغة القبح والذم سبب لبيان حسن ضده ، كما قال الشاعر:
فالوجه مثل الصبح مبيض والفرع مثل الليل مســود
ضدان لما إستجمعا حَسُنا والضد يظهر حسنه الضد.
وجاءت الآية بنسبة الكبت لله عز وجل، فهو سبحانه الذي يذل ويخزي الكفار، ولم تقل الآية أو (يكبتوا) على البناء للمجهول، فمع أن الله عز وجل أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والصحابة يرفعون سيوفهم على هامات الكفار، ويطاردونهم في المبارزة والقتال, والكفار يولون الأدبار وهو من أصدق معاني الذل والهزيمة،فان الآية الكريمة نسبت كبت الكفار إلى الله عز وجل بقوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] , وفيه مسائل:
الأولى: إن كبت وخزي فريق وشطر من الناس أمر بيد الله عز وجل وحده، وقد يتلقى الإنسان الأذى من غيره متحداً أو متعدداً ويصاب منه بالذل والإهانة ولكن سرعان ما ينكشف الذل، ويبتلى الذي آذاه بما يكون مواساة للذي تلقى الأذى منه , قال تعالى[تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، أما الكبت والخزي الذي يأتي من الله عز وجل فهو ملازم لصاحبه، ومنه هذه الآية التي هي وثيقة سماوية , وشاهد على هذه الملازمة.
الثانية: قد يأتي الكبت والذل للإنسان ظلماً وتعدياً، أو نتيجة خطأ في المبنى والمرتكز، وربما تظهر فيما بعد براءة الشخص، أما الكبت من عند الله فلا يأتي إلا بعد قيام الحجة والبرهان على إستحقاق الفرد والطائفة من الكفار له، وبعد توالي الإنذارات وأسباب الدفع عن منازل الكبت والخزي والذل.
الثالثة: تدل نسبة كبت الكفار لله عز وجل على أن قتل وتشريد الملائكة والمؤمنين للكفار إنما هو بأمر وفضل من الله عز وجل لذا جاءت إضافة نصر المسلمين يوم بدر لله عز وجل , قال سبحانه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الرابعة: جاءت الآية بالترديد بين قطع الطرف من الكفار وبين كبتهم وخزيهم وذلهم وفيه نوع رحمة وإمهال للكفار، فقد تكون عاقبة الكبت التوبة والإنابة , وكثير من رؤساء الكفار قاتلوا بضراوة ضد المسلمين، وإجتهدوا في السعي لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقاموا بتعذيب المسلمين الأوائل في مكة، وطافوا على القبائل للتحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم ما لبثوا أن دخلوا الإسلام، سواء قبل فتح مكة أو بعده.
وفي الترديد والتعدد والعطف بالحرف (أو) وجوه:
الأول: إنه آية في الرحمة الإلهية التي تتغشى الناس جميعاً , المؤمن منهم والكافر.
الثاني: إنه وسيلة مباركة لجذب الناس لمنازل الهداية والصلاح، فلا يشمل القطع الكفار كلهم، أو جميع الذين يشتركون في قتال المسلمين منهم.
الثالث:قيام الملائكة بكبت الكفار في المعركة بآية إعجازية، وروى الواقدي عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا ( )، ولكنه خلاف المشهور، والظاهر من الوقائع، ولايتعارض قتالهم مع هزيمة المسلمين أثناء جولة في المعركة التي هي كر وفر , والمدار على خواتيم الأمور.
(روى الواقدي عن مجاهد أنه قال : حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به ( ).
وهذا الخبر لا يتعارض مع أمرين:
الأول: قتال الملائكة في المعركة لتعدد وظائف المدد الملكوتي , وكثرة الملائكة وأنهم ثلاثة آلاف ملك.
الثاني: ما ورد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى اللواء عند مقتل مصعب للإمام علي اللواء، كان فيها ملك يحمل اللواء، وفيه نكتة عقائدية من جهات :
الأولى : رفع ملك من السماء لواء قوم وأمة شاهد على إيمانهم .
الثانية : الملازمة بين رفع الملك اللواء وتحقيق النصر والفتح للمؤمنين, فلابد أن يفتح الله عز وجل لهم , وينصرهم على أعدائهم.
الثالثة : إنه من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فليس من أمة من الموحدين رفع لواءها ملك من السماء إلا المسلمين
الرابعة : فيه نوع تخفيف عن المسلمين في ميادين القتال .
الخامسة : إنه من أفراد المدد الإلهي للمسلمين , وتعدد مصاديق نصرة الملائكة لهم.
السادسة : لمقتل حامل اللواء وقع في النفوس , وتأثير على المقاتلين , فجاء رفع الملك للواء وتصوره بهيئة مصعب بن عمير عناية ولطفاً بالمؤمنين في القتال.
الرابع: يأتي الكبت من عند الله على نحو الإستحقاق، وما فيه جلب المصلحة ودفع المفسدة.
الخامس: ترشح الإنصراف والإنقلاب من الكفار على نحو الجزم، وكأن إنصراف ورجوع الكفار بالنسبة للكبت من المعلول الذي لا يتخلف عن علته، فلابد أن يتعقب الإنصراف والخيبة الكبت الذي يأتي من عند الله، وهذه الملازمة والترابط والتعاقب بين الكبت والإنصراف بخيبة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
فقد يصاب الكفار بالكبت والحزن والإهانة في ساحة المعركة , ولكن عندما وصلوا إلى مكة وإلى أمصارهم وقراهم أنكروا ما أصابهم من الكبت والذل، وإبتدعوا أخباراً عن بطولات وصولات لهم.
وحينما يأتي الكبت من الله فان الكفار يعجرون عن إخفائه، فيظهر على ألسنتهم، وفي أفعالهم، وتتناقله الركبان , وتوثقه الأشعار والحوادث والأخبار والقصص .
ويحتمل الكبت الذي يلحق الكفار وجوهاً:
الأول: إنه من معجزات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية.
الثاني: هو رشحة من معجزة نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، لمقابلة هزيمة العدو النصر ، فقد يقع النصر من غير هزيمة تامة للعدو، فجاءت هذه الآية لتؤكد حقيقة هزيمة الكفار لإصابتهم بالذل والحزن، ومبادرتهم للفرار والهزيمة.
الثالث: كبت الكفار فرع إنتصار المؤمنين، وهو من نتائج المعركة ولا صلة له بالإعجاز، وفي الحديث المستفيض: (الحرب خدعة) ( )، فقد أحكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون خطط القتال، والهجوم مما أثار الفزع والرعب في قلوب الكفار.
الرابع: كبت وذل الكفار من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية من جهات:
الأولى: ما أصاب الكفار من الذل أمر خارق للعادة.
الثانية: إعجاز هذه الآية بالإخبار عن حال الكفار التي هي خلاف قواعد ونتائج القتال، إذ أن عدد وعدة الكفار أضعاف عدد وعدة المسلمين , ومع هذا إنهزم الكفار بخيبة وحرمان.
الثالثة: إتحاد ذات النتيجة في كل المعارك التي خاضها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بأن تنتهي بذل وخزي الكفار , وفيه مسائل :
الأولى : إنه شاهد على صدق نبوته .
الثانية : فيه إنذار وتخويف للكفار .
الثالثة : دعوة للناس للإسلام تنطلق من ميدان المعارك.
وبإستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة، فخروج الكفار من المعركة أذلاء يتغشى الحزن وجوههم، وتملأ الكآبة جوانحهم من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصابة أعدائه بالخزي والخيبة , قال تعالى [فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ]( ).
وتجعل الآية الكفار على قسمين:
الأول: فريق يتعرض للقطع والهلاك، وهو الطرف منهم.
الثاني: فريق يصاب بالخسران والخيبة والذل والهوان.
وأيهما أكثر عدداً، الجواب هو الثاني، لتقييد وقوع القطع بطرف منهم , وتبادر معنى التعدد من لفظ الطرف , وجمعه أطراف .
وفي قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ] ذكرت أقوال:
الأول:معناه يخزيهم بالخيبة مما أملوا من الظفر بكم، عن قتادة والربيع.
الثاني: يردهم عنكم منهزمين، عن الجبائي والكلبي.
الثالث: يصرعهم الله على وجوههم، نسبه الطبرسي إلى القيل ( ).
الرابع: يظفركم عليهم، عن المبرد.
الخامس: يلعنهم عن السدي.
السادس: يهلكهم، عن أبي عبيدة ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، وتعدد صيغ بطش الله عز وجل بالذين يصرون على قتال رسوله الكريم ، وهي من الوعد الإلهي الكريم للمؤمنين بالنصر ومقدماته قال تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ] ( ).
ومن أسرار الآية أمور:
الأول: قد يأتي للكفار الكبت وحده من غير قطع , فيشمل الكبت جميع الكفار.
الثاني: ورود لفظ (أو) في قوله تعالى(أو يكبتهم) وإتحاد المعنى والمقصود من الضمير(هم) في (طرف منهم) ليشمل الكبت جهات:
الأولى: الطرف الذي يقطع.
الثانية: وسط الكفار.
الثالثة: أطراف الكفار الأخرى.
الرابعة : الكفار الذين خلفهم، قال تعالى[فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
الثالث: يصيب القطع والهلاك طرفاً من الكفار فيأخذ الكفار الآخرين العناد، ويسعون للإنتقام وطلب الثأر، كما حصل في قريش بعد معركة بدر، فقد كانت الآيات ظاهرة في نصرة الله عز وجل للمسلمين، ومدد الملائكة لهم، ولكن نفراً منهم أخذوا يحرضون على قتال النبي وأصحابه، وأخذت نساؤهم تندب القتلى بشعر يثير الأشجان، ويؤكد الإصرار القبيح على الضلالة ويحرك الحمية بعصبية، ومنه قصائد عديدة لهند زوجة أبي سفيان تندب أباها عتبة بن ربيعة، إذ قتل هو وأخوها وعمها في أول مبارزة يوم بدر , وفي مطلع لقصيدة لها :
أَعَيْنَيّ جُودَا بِدَمْــــــــــــــــــعِ سَرِبْ عَلَى خَيْرِ خِنْدِفَ لَمْ يَنْقَلِبْ
تَدَاعَى لَهُ رَهْطُهُ غُــــــــــــــــــــــذْوَةً بَنُو هَاشِــــــــمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبْ( ).
ومن قصيدة لها ترثي قتلاها:
لِلّهِ عَيْنـــــــــــــــــــــــــــــــــًا مَنْ رَأَى مُلْـــــــــــــــــــكًا كَهُلْكِ رِجَالِيَهْ
ومنها
قَدْ كُنْت أَحْـــــــــــــــــــــذَرُ مَا أَرَى فَالْيَوْمُ حَـــــــــــــــــــقّ حَذَارِيَهْ( ).
وقالت صفية بنت مسافر قصائد تبكي أهل القليب من قريش منها قصيدة مطلعها:
يَا مَنْ لِعَيْنِ قَذَاهَـــــــــــا عَائِرُ الرّمَدِ
حَدّ النّهَارِ وَقَرْنُ الشّمْسِ لَـمْ يَقِدْ
أُخْبِرْت أَنّ سَرَاةَ الْأَكْرَمِينَ مَعًــــــــا
قَدْ أَحَرَزَتهمْ مَنَايَاهُمْ إلَى أَمَــــــدِ( ).
وتقدم شعر قتيلة بنت الحارث في رثاء أخيها النضر( )، ويدل شعر نساء قريش وتناقل الناس له وحفظه وتوثيقه على الإرتقاء الأدبي والبلاغي عند العرب آنذاك، وأن هذا الإرتقاء لا ينحصر بمنتديات الرجال بل يشمل النساء أيضاً .
وقد شهدت بداية الدعوة دخول النساء في الإسلام , لتكون كل واحدة منهن سبباً لجذب أهلها، فمنهن من سبقت زوجها أوأخاها في الإسلام أو هما معاً، وقد سبقت أم حبيبة أباها أبا سفيان، وحينما دخل عليها (ذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال : يا بنية أرغب بهذا الفراش عني فقالت نعم هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك) ( ).
وفيه آية في إنجذاب القلوب لدعوته، وصدق العموم في الخطاب التكليفي الذي جاء به والشامل للرجال والنساء .
وجهاد المؤمنات في أيام الإسلام الاولى مدرسة عقائدية , ودليل على أن القرآن تحدى في نزوله أمة تتصف بالقدرة على التمييز , والفصل بين التنزيل وكلام أهل الفصاحة والبلاغة، ولعل كثيراًَ من الشعر الذي قيل فيما بعد يرجع في نظمه وبحره وقافيته إلى الشعر الذي حفظ من الأشعار التي تداولها الناس أيام البعثة النبوية وما بعدها.
وفيه شاهد بأن خروج النساء مع الجيش له موضوعية وإعتبار، وهو مدرسة في البلاغة لما يلقى من القصائد والأشعار والزجر والخطب وإعانة الرجال في القتال، ولعل النساء كانت تحضر المنتديات الأدبية خصوصاً ، وكان بعضها يقام في موسم الحج الذي تحضره النساء والرجال.
وفي شمول الكبت للنساء من الكفار وجوه:
الأول: شمول نساء الكفار بالكبت والذل بعرض واحد مع ذات الكفار.
الثاني: يلحق نساء الكافرين الكبت والحزن بالإلحاق والتبعية للكفار.
الثالث: يختص الكبت بالنساء اللائي يشاركن في القتال وتهيئة مقدماته، ويضربن الدفوف، ويقدمن النبل للمقاتلين، كما في واقعة أحد، ومجئ رؤساء قريش بنسائهم إلى ميدان المعركة.
الرابع:إنحصار الكبت بالرجال لأنهم المقاتلون ولمجيء الضمير في(يكبتهم) بصيغة جمع المذكر، وقد وضع القتال عن النساء وليس عن عادة العرب مشاركة النساء في القتال، والكبت في الآية فرع القطع.
والصحيح هو الأول لوجوه:
الأول: أصالة العموم وشمول الكفار جميعاً بالكبت.
الثاني: إتحاد الموضوع وسور السالبة الكلية، وهو الكفر الشامل للرجال والنساء منهم.
الثالث: وحدة الموضوع في تنقيح المناط وتبعية الحكم للموضوع.
الرابع : مجئ صيغة المذكر ( يكبتهم ) لغلبة التذكير في كلام العرب, وليس للحصر على الرجال .
ويحتمل الكبت الوارد في الآية من جهة تعلقه وغاياته أموراً:
الأول: إنه مطلوب بذاته، فالمراد إحاطة الذل والكبت بالكفار.
الثاني: الكبت مقدمة لإبتلاء الكفار بالضعف والوهن.
الثالث: من معاني الكبت الأخذ بالعذاب، ليكون الكبت بهذا المعنى في طول القطع.
وبين الكبت وقطع طرف من الكفار عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول: إن الله عز وجل هو الذي يبتلي الكفار بصنوف العذاب.
الثاني: ترشح القطع والكبت عن نصر الله للمسلمين.
الثالث: ينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وينزل القطع والكبت على الكفار، وهو مرآة للتضاد بين الإيمان والكفر،وعدم إجتماعهما.
الرابع: يصيب القطع والكبت الكفار على نحو التعيين.
الخامس: كل من القطع والكبت يبعثان الضعف والخور في صفوف الكفار، على نحو الإجتماع والتعدد من وجوه:
الأول: يضعف الكفار قطع طرفهم.
الثاني:كبت الكفار وهن لهم، وسبب ومقدمة للوهن.
الثالث: يجتمع قطع الطرف والكبت في ظهور الضعف واضحاً جلياً على الكفار مجتمعين ومتفرقين، فيبدو الضعف والجبن والتردد عن القتال على الأفراد منهم والجماعة.
وأما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: يفيد القطع في معناه إبانة وإزاحة طائفة من الكفار، وقتل قادة وكبراء من الكفار، أما الكبت فيتضمن الذل والخزي.
الثاني: القطع أمر ظاهر، ويتضمن البطش بالكفار، أما الكبت فقد يظهر أحياناً بإجتناب المبادرة والعزم على القتال، وبإمتلاء نفوس الكفار بالخوف والوجل.
الثالث: يأتي القطع على الكفار الذين يلون المسلمين، وبعض قادتهم، أما الكبت والذل فهو عام يشمل الكفار، ويصاحبهم في منتدياتهم، ويدخل معهم إلى بيوتهم، وهذا العموم لا يتعارض مع تعلق خاتمة الآية بالكفار الذين ينقلبون خائبين للتباين الرتبي في الذل والكبت الذي يلحقهم , فالذين يعتدون على المسلمين يلحقهم الذل والخزي بالذات، ويحسون به في قرارة أنفسهم، ويظهر فيما بينهم بالشواهد والمصاديق.
ومن الإعجاز في آيات القرآن أن هلاك الكبراء من الكفار، وإصابتهم بالخزي والذل رشحة من رشحات بشارة المسلمين بالنصر والغلبة، ونزول الملائكة لنصرتهم.
وقطع وكبت الكفار نفسه بشارة للمسلمين بالنصر والغلبة، وليس من دور في المقام الذي يعني توقف حدوث الواحد منهما على الآخر الذي يحتاج في حدوثه إلى صاحبه، لأن البشارة التي يحدثها القطع والكبت في نفوس المسلمين متعددة , وهي رحمة إضافية بهم وتخفيف عنهم، وفيها مسائل:
الأولى: في الآية عون في تلقي المدد الملكوتي والبشارة به بالغبطة والرضا.
الثانية: دفع وإزاحة الخوف والخور عن نفوس المسلمين، وهو من عمومات ولاية الله للمؤمنين عموماً في قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )، وقال تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ومن نصرة الله عز وجل للمؤمنين بشارتهم بهلاك بعض رؤوساء الكفر، وإصابة الكفار بالذل والخزي.
الثالثة: في الآية إخبار للمسلمين عن حال الضعف والوهن التي عليها الكفار، وفيه دعوة لمواصلة الجهاد، وتعاهد الفرائض، وحفظ السنن.
الرابعة: في الآية ترغيب للمسلمين بالإنصات لآيات القرآن، والتطلع إلى البشارات السماوية التي تنزل بالنص والمنطوق، أو بالمفهوم والعرض، وإن كانت كل آية قرآنية بشارة , وعلى وجوه:
الأول: البشارة الدنيوية.
الثاني: البشارة الأخروية.
الثالث: البشارة الدنيوية والأخروية.
ومن إعجاز القرآن كون البشارة القرآنية للمؤمنين إنذاراً وكبتاً للكفار، ويكون إنذار الكفار بشارة للمسلمين، فكبت وذل الكفار بشارة وعز للمؤمنين .
وكلما أصابت مصاديق الذل والضعف الكفار فإن المؤمنين يزدادون منعة وعزاً، وهذه المنعة بشارة عرضية للمسلمين، وتثبيت لأحكام الإسلام في الأرض.
ويأتي كبت الكفار على وجوه:
الأول: يكون بالذات بأن يبتليهم الله بالذل والخزي.
الثاني: يأتي الكبت بالواسطة ويكون معلولاً لعلة، ومسبباً لسبب، وليس من حصر لهذه الوسائط والأسباب، وفيه تحذير مستديم وإنذار متجدد للكفار، ويملي عليهم قهراً إستقراء القبح الذاتي للكفر في الوجود الذهني، وجريان ذم الإقامة عليه على الألسن وفي المنتديات.
الثالث : يسعى الكفار بأنفسهم لمنازل الكبت والذل , قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ومن الآيات أن هذا الذم الذاتي لا ينجيهم من إستمرار الكبت والقطع، وتوالي أفراده وصنوفه، وتنحصر النجاة بدخول الإسلام، والكف عن التعدي على ثغورهم وتجهيز الجيوش عليهم، فجاءت الآيات بحث المسلمين على الصبر والمرابطة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ).
فصحيح أن قوله تعالى(يكبتهم) جاء بصيغة الغائب، وإرادة الكفار الذين ذكروا في أول الآية بقطع طرف منهم , إلا أنه يتضمن معنى الإنشاء في مفهومه، فهو خطاب سماوي حاضر لجميع الكفار لإنذارهم، ورحمة بهم في الحياة الدنيا، وحجة عليهم في النشأتين, ومدد للمؤمنين .
إن مجيء الآية بذكر الطرف , وبصيغة التنكير والتبعيض شاهد على قوة وكثرة الكفار، وما عندهم من الجنود والمؤون، فلم تقل الآية(ليقطع طرف الذين كفروا) بل (طرفاً من الذين كفروا)، وفيه مسائل :
الأولى : الإشارة إلى تعدد أطراف الكفار .
الثانية : لزوم أخذ المسلمين الحائطة .
الثالثة : حاجة المؤمنين لمواصلة الجهاد في سبيل الله، وطرد الغفلة, وإجتناب التراخي والقعود، والإنشغال بالدنيا وحاجات المعاش اليومية , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( ).
الرابعة : وقاية المسلمين من القنوط , والهم بالفشل عند ظهور طرف جديد من الكفار .
الخامسة : يصاحب المسلمين الشكر لفضل الله وحسن التوكل عليه , قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
السادسة : المنع من إستيلاء اليأس وأسباب الشك والريب على النفوس.
السابعة : يدل هلاك وقطع طرف من الأطراف على بقاء أطراف أخرى ووسط للكفار, وهو مناسبة لتوجه المسلمين بالدعاء والتضرع إلى الله .
وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أشدد وطأتك على مضر( )، ليأتي قطع طرف من الكفار من مصاديق الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه نكتة عقائدية وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سأل نزول البلاء بالكفار على نحو الإجمال، فجاءت هذه الآية بالإستجابة والبيان والتفصيل.
وكل طرف في الآية من القطع والكبت والهزيمة والخيبة للكفار ثقيل الوطأة على قريش وعموم الكفار، والآية مناسبة لشكر الله عز وجل لإستجابته الدعاء، ومجئ الأمر بما يوافق الدعاء وحاجة المسلمين في أمور الدين والدنيا.
الثالث: تواصل أطراف الكفار التعدي على المسلمين ولكن بمرتبة أدنى لما يصيبها من الضعف والوهن بقطع وهلاك بعضها.
الرابع: في هلاك طائفة من الكفار دفع للوهن عن المسلمين، ودعوة للأمل والرجاء بفضل الله عز وجل، لأن القطع والإبانة متكرر ومستمر وواقع بأطراف الكفار ، لورود الآية بصيغة التذكير (طرفا) والنكرة في مقام الإثبات تفيد العموم ، فلم تقل الآية (ليقطع الطرف ) ، فيكون من معاني الآية ليقطع طرفاً ثم طرفاً ثم طرفاً من الذين كفروا ليكون من معاني الآية الكريم : ليقطع أطرافاً من الذين كفروا ما داموا مقيمين على الكفر ومفاهيم الضلالة والجحود ، حتى يرضوا بالصلح كما في صلح الحديبية ، ويسهل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة من غير قتال يذكر ، وآية البحث من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثامن والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر في باب (تقدير [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] ).
ومن الإعجاز في الآية نسبة فاعلية كبت الكفار إلى الله عز وجل، فهو الذي يرميهم بالذل والهوان، وفيه وجوه:
الأول: الكبت حال وأمر مطلوب بذاته.
الثاني: يأتي الكبت للكفار بأمر الله عز وجل [كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثالث: ذل وكبت الكفار مسبب ومعلول لسبب وعلة تستقرأ من مضامين الآية الكريمة .
الرابع: كبت الكفار رشحة من رشحات نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الخامس: قطع طرف من الكفار سبب كبتهم وذلهم.
السادس: كبت وخزي الكفار نتيجة إخلاص المؤمنين في الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن بيضة الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة، والشواهد على عظيم فضله تعالى على المسلمين، وأنه سبحانه لم يخلق الناس ويتركهم وشأنهم، بل يمد المؤمنين بأسباب النصر والظفر , ويكبت عدوهم ، وهذا الكبت من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا بجعل الإنسان خليفة في الأرض وهو يفسد فيها ويسفك الدماء فقال تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فالله عز وجل يمنع الكفر من الطغيان , ويرمي الذين يفسدون في الأرض ويعتدون على الحرمات ويصدون عن سبيل الله بالكبت والحسرة والخيبة , لتبين هذه الآية الصلة بين خلق آدم وبعثة النبي محمد وجهاد المسلمين في سبيل الله وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتتضمن الآية محل البحث مصاحبة الكبت والخزي للكفار إلى يوم القيامة، ودعوة المسلمين والمسلمات لشكر الله عز وجل على هذه النعمة برمي عدوهم بالوهن والضعف، ورؤية الملائكة لآية في بديع صنع الله وجعله خليفة في الأرض بأن نزلوا مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتوارث الأجيال والاحقاب مفاهيم الصلاح في الأرض، وتبقى أمة عظيمة تواظب على عبادة الله عز وجل إلى يوم القيامة، وتتعاهد آيات القرآن , وتدفع عنها التحريف والتبديل، ليكون هذا التعاهد إنذاراً متجدداً للكفار لما فيه من توكيد مضامين آياته، وكل آية وثيقة وحجة سماوية، وبرهان ملكوتي.
لقد إستحوذ الشيطان على أقطاب الكفر من قريش، وتجلت يوم بدر وأحد معاني قوله تعالى[وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( )، فجاء نزول الملائكة لنصرة المسلمين عذاباً دنيوياً حاضراً، وموعظة للناس جميعاً.
وعن عبد الله بن عباس جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه -وكانت يده في يد رجل من المشركين -انتزع يده ثم ولى مدبرا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، أتزعم أنك لنا جار؟ فقال {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وذلك حين رأى الملائكة( ).
قانون الصلة بين آخر الآية السابقة وآية (ليقطع)
تملأ الآية السابقة قلوب المسلمين والمسلمات بالغبطة والسعادة والسرور لمضامينها القدسية وهي:
الأول: الإشارة إلى نزول الملائكة مدداً من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثاني: نزول الملائكة بشرى للمسلمين.
الثالث: الوعد الإلهي بنزول الملائكة بشرى أخرى للمسلمين لبيان أن البشرى في المقام متعددة وتوليدية، وتتفرع الواحدة منها إلى بشارات عديدة كما يظهر في سلامة المؤمنين وكثرة الغنائم , ووقوع الكفار في الأسر , وهلاك بعض صناديدهم.
الرابع: زوال أسباب الإكتئاب عند المسلمين، فقد ترك المهاجرون أهليهم وأموالهم وملاعب الصبا، وجاءوا ليعيشوا شظف العيش ، وشدته وضيقه المؤقت في المدينة , مع الإنقطاع إلى طاعة الله ورجاء فضله .
فجاءت الآية السابقة وهذه الآية بشارة العودة إلى مكة والأهل بالنصر العاجل السريع، ويتجلى قرب النصر بماهية وموضوع المدد وأن ملائكة نازلون من السماء , وليس من حد لقوتهم وما يترتب على فعلهم من الأثر في ميدان المعركة وما بعدها.
الخامس: تدل النصرة على المحبة وأن الله والملائكة يحبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين خرجوا معه في معركة أحد، وهو من عمومات وتأويل قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ]( ).
وفي قطع الله عز وجل لطرف من الكفار , وقتل الملائكة لهم دلالة على بغضهم وإبتعادهم عن رحمة الله عز وجل، وفيه درس للناس للهرب من منازل الكفر،والمبادرة إلى الدخول في الإسلام، وترك الإقامة على المعصية.
السادس: تشمل البشارة للمؤمنين الحياة الدنيا والآخرة، وهو من عمومات ومصاديق أن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم , وحينما شمت أبو سفيان بالمسلمين عندما أراد الإنصراف من أحد ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار) ( ).
وفيه دعوة لسياحة المسلمين في مضامين البشارة , وجعل معالم النعيم في الجنة حاضرة في الوجود الذهني عندهم , سواء بالنسبة للنعيم الذي ينتظرهم والجزاء الذي أعدّ الله لهم لجهادهم في سبيله، أو النعيم الذي حلّ فيه الشهداء منهم في معركة أحد وغيرها.
السابع: عموم البشارة للمسلمين إذ جاءت بسور الوجبة الكلية [بُشْرَى لَكُمْ]( ).
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: إختصاصها بالمجاهدين في ميدان المعركة.
الثاني: إلمقصود جميع الصحابة بما فيهم من تخلف عن القتال.
الثالث: إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الثالث، إذ يتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البشارة من السماء بالوحي، ويخبر بها أصحابه فتعم الفرحة والرضا أطراف المدينة بفضل الله وتنزل على المؤمنين والمؤمنات السكينة معها، وهي بشارة متجددة لكل جيل من المسلمين، وفيها مسائل :
الأولى: هذه البشارة من أسرار قراءة القرآن في الصلاة لما في قراءته اليومية المتكررة من بعث للغبطة في نفوس المسلمين.
الثانية: إنها برزخ دون اليأس والقنوط.
الثالثة: ملازمة البشارة للمسلمين من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فليس من أمة تصاحبها البشارة إلى يوم القيامة، وتكون عندها سلاحاً ضد الأعداء والأدران والكدورات الظلمانية إلا المسلمين .
الرابعة: إستدامة وتجدد البشارة من الشواهد على وراثتهم الأرض, وبقاء القرآن سالماً من التحريف .
الخامسة : تساهم هذه الآية في تحقيق المصاديق العملية لقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) ، إذ أن تغشي البشارة للمسلمين والمسلمات في حياتهم اليومية المتتابعة عون ومادة لحسن الأخوة، وتجلي مفاهيم الإيمان، في هذه الأخوة.
الثامن: تتضمن الآية السابقة الإخبار عن حقيقة وصفة ورشحة من رشحات نزول الملائكة , وهي أن هذا النزول سكينة لقلوب المسلمين، ومع أن البشارة ذاتها طمأنينة للقلوب جاء عطف الطمأنينة على البشارة، كما في الآية السابقة.
ومن خصائص العطف المغايرة والتعدد، مما يدل على أن الطمأنينة أمر مستحدث في ميدان المعركة، جاء نزوله والوعد به فضلاً ومدداً وعوناً من الله عز وجل سبحانه .
وصحيح أن نزول الملائكة في بدر وأحد أكبر وأعظم من الوعد به المقيد بمجيء الكفار بقوله تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا]( )، إلا أن الوعد السماوي مدد حاضر، وأمن وسلامة، مما يطرأ من الوقائع والأحداث، وقد يظن نفر من المؤمنين أن الكفار سيعودون إلى المعركة ومعهم مدد وتأتيهم نصرة غيرهم، وأنهم يرومون غزو المدينة، وقد أنهك القتال المؤمنين , فجاءت هذه الآية لتنزل السكينة على نفوس المسلمين، وهذه السكينة والطمأنينة مقدمة لقطع طرف من الكفار.
وتضمنت خاتمة الآية السابقة قانوناً وهو أن النصر بيد الله ومن عنده موضوعاً وحكماً، وقد تقدم بيانه في الجزء السابق، وتتجلى الصلة بينها وبين أول هذه الآية بأمور:
الأول: عداوة الله عز وجل للكافرين، وتفضله بمنعهم من النصر والغلبة قال تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ] ( )، ولقد جعل الله عز وجل العبادة علة لخلق الناس , قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وهو سبحانه يرغّبهم بالعبادة، ويجذبهم لها بلطف، ويزيح العوائق التي تقف في طريقهم، ومنها سلطان الطواغيت ورؤوس الكفر، وتفضل الله عز وجل وبعث الرسل في زمن الطواغيت، كما في بعثة إبراهيم أيام نمروذ، وموسى عليه السلام أيام فرعون.
وبعث الله عز وجل النبي محمداً ليقضي على سلطان الكفر إلى يوم القيامة، وإن قامت للكفار دولة فإنها تبقى متزلزلة غير ثابتة لا تستطيع التمتع بالسلطان المطلق كما في فرعون الذي قال[أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ).
ومن خصائص شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تحفظ الملل السماوية السابقة كاليهودية والنصرانية , مع الدعوة للإسلام بإعتباره الشريعة المتكاملة، وتتعاهد الصلاة اليومية كأشرف عبادة على الأرض لتكون إقامة المسلمين للصلاة اليومية برزخاً من إدعاء الجبابرة للربوبية، وسبباً في بقائهم على وجل من سطوة المسلمين ونصرة الملائكة لهم، لأن النصر بيد الله وهو لا يمنحه لأعدائه.
لقد أمر الله عز وجل بني إسرائيل بذكر نعمه عليهم، وشكرهم له سبحانه إذ أنقذهم من فرعون وجنوده , قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ] ( ).
وقد رزق الله عز وجل المسلمين ما هو أعظم وأكبر من وجوه:
الأول: النجاة من بطش الكفار، الذين جاءوا لقتالهم.
الثاني: النصر والظفر بالكفار.
الثالث: وقوع أبطال العدو أسرى بيد المسلمين.
الرابع: نزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
الخامس: إقتران نزول الملائكة بالوعد بنزولهم لاحقاً.
السادس: دخول طائفة من الكفار الإسلام بعد أن حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله وأصحابه، وتلك آية لم تشهدها الأرض بأن يقاتل الكفار المسلمين وتسيل بينهما دماء غزيرة، وتتناقل العرب والناس أشعار الذم والمدح والتعيير، ثم ينتهي الأمر بدخول الكفار الإسلام، ليبدأوا صفحة جديدة مشرقة تحت راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات الطمأنينة التي ذكرتها الآية السابقة، وقطع طرف من الكفار الذي ذكرته هذه الآية لأن إنتقال أقطاب الكفر إلى الإسلام من أبهى وأعظم مصاديق قطع طرف من الكفار بتقريب أن الطرف في الآية بعض وجزء من الذين كفروا[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]، ولما يفيده حرف الجر (من) من لغة التبعيض.
فدخول شطر من الكفار ممن يلون المسلمين الإسلام قطع لطرف الذين بقوا على الكفر، وإنذار لهم، وحجة عليهم، وليس من حصر لوجوه الصلة والتداخل بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية، والمنافع المترشحة عن هذا التداخل، ومنها:
الأول: فيه شاهد بأن الله عز وجل إذ ذكر أمراً من عظيم قدرته ومشيئته فإنه سبحانه يأتي بالدليل والشاهد الجلي الذي يدرك بالحواس، وهو من عمومات وتأويل قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، بمعنى أن القرآن فيه بيان لذات آياته، والحقائق والقوانين التي وردت فيه ليكون هذا البيان شاهداً على وجوب عبادة الله، ودعوة للناس للإيمان، ونبذ الكفر والضلالة، فما دام النصر بيد الله عز وجل وأنه سبحانه يذل به رؤساء الكفر والضلالة فإن القرآن يحث على ترك منازل الكفر، ويبين بالبرهان لزوم هجرانها.
الثاني: لما أخبرت الآية السابقة بأن النصر بيد الله عز وجل تطلع المسلمون إلى هذا النصر وإشرأبت الأعناق إلى السماء، وصغت حواس السمع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإنتظار الوحي والتنزيل، وأخذ المسلمون يرون النصر قريباً لأنه سبحانه يهبه لأوليائه وأحبائه وهم المؤمنون، ويجتهد الكفار في الإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليجعل نصر الله كفة الفوز والغلبة للمسلمين.
الثالث: لما أخبر الله عز وجل في الآية السابقة بأن النصر مطلقاً بيده ، جاءت هذه الآية بالمصداق العملي الذي يؤكد هذا القانون من غير فاصلة بين القانون ومصداقه، وإنعدام الفاصلة هنا من عمومات وصف تسمية القرآن بأنه (تبيان).
وصحيح أن هذا الاسم لم يذكر مع أسماء القرآن كالفرقان والذكر والروح، إلا أن الآية أعلاه والشواهد تؤكده، وجاء أول هذه الآية مصداقاً وتفسيراً عملياً لخاتمة الآية السابقة بلحاظ أن الآية القرآنية وقانون قطع طرف من الكفار إنما هو من (كل شيء) الذي ذكرته الآية أعلاه، ليكون القرآن تبياناً وهدى من وجوه منها:
الأول: إنه تبيان للوقائع والأحداث, لتكون عبرة وموعظة , قال تعالى [فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثاني: فيه إخبار عن عالم الغيب، وأحوال الآخرة وما فيها من الحساب والجزاء.
الثالث: بيان أسرار عالم الخلق والتكوين , كما في الآيات التي تتعلق بخلق السماوات والأرض .
الرابع: ذكر صفات الله الحسنى.
الخامس: وجوب عبادة الله على الناس جميعاً , قال تعالى[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
السادس: وجوه وكيفية وتفاصيل العبادات.
السابع: أحكام الحلال والحرام إلى يوم القيامة.
الثامن: قصص الأنبياء والأمم السالفة.
التاسع: ما يحتاجه الناس في المعاملات والمكاسب وأمور الدين والدنيا.
العاشر: سنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وإجتهاد المسلمين في إصلاح النفوس والمجتمعات , ونشر مفاهيم العفو والإحسان , قال تعالى[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ]( ).
الحادي عشر : بيان القرآن لمضامين آياته , فتجد البيان في القرآن للآية منه مركباً من وجوه:
الأول: البيان الذاتي في الآية نفسها، فهي بيان لمعانيها ومقاصدها بذاتها ومضامينها القدسية منطوقاً ومفهوماً , فإن قلت: في القرآن مجمل ومبين، فهل يشمل هذا الوجه المبين دون المجمل، الجواب إنه مطلق وشامل لهما معاً، من جهات:
الأولى: قد لا يستوعب الإجمال مضامين الآية كلها، فقد يكون بخصوص ما في صدرها أو آخرها.
الثانية: ليس الإجمال في الآية القرآنية مطلقاً، بل هو جهتي.
الثالثة: يأتي الإجمال بالنسبة للبيان الذي يتجلى في آية أخرى بخصوص ذات الموضوع والحكم اللذين تتضمنهما.
الرابعة: التباين في تفسير الآية، فما تراه مجملاً قد لا يراه غيرك بذات المعنى، أو يأتي زمان يتضح فيه أنه ليس مجملاً، بل هو مبين بذاته، وفي تعدد البيان فضل من عند الله.
الثاني: البيان القرآني الذاتي وهو مجيء آية قرآنية تكون بياناً وتفسيراً لآية أخرى، وقيدناه بالقرآني لإخراج البيان والتفسير من السنة النبوية ونحوها، وبالذاتي لإرادة البيان في آية لآية قرآنية أخرى( ).
الثالث: إجتماع البيان الذاتي والغيري في آية واحدة، وموضوع واحد، وإستقراء المسائل والأحكام من هذا الإجتماع والتداخل.
وتلتقي وجوه البيان الثلاثة أعلاه في خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية، فكل فرد منهما يفسر نفسه , ويكشف عن دلالاته، ومن الآيات أن كل واحد منهما تفسير للآخر، ويشاركه في تفسير ذاته، فتجلي النصر من عند الله , وهو سبحانه العزيز الحكيم الذي يقطع طرفاً من الكفار، ويبين ويفسر قانون النصر من عند الله قطع طرف من الكفار.
فإن سأل سائل كيف يكون قطع طرف من الكفار إذا كانوا أقوياء وأشداء وبيدهم السلاح والمال والسلطنة، وأهل الإيمان مستضعفين، الجواب من وجوه :
الأول: إن النصر يأتي من عند الله, وبيده مقاليد الأمور [أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: أمر الله سبحانه يفوق ويتجاوز قانون السبب والمسبب، والعلة والمعلول.
الثالث : كبت الكفار من نصر الله عز وجل للمسلمين، وهو أعم من وقوع المعركة والقتال فيها، وتلك آية في معاني النصر الإلهي، فليس من حصر لها، ليكون النصر الإلهي ذاته على وجوه :
الأول : إنه مدد وعون للمسلمين .
الثاني : مصاحبة النصر للمسلمين .
الثالث : النصر وسيلة لتثبيت أقدام المسلمين , وزيادتهم إيماناً.
الرابع : إنه برهان لدفع وزجر أعدائهم، وجعلهم يكفون عن حرمات المسلمين، ويتجنبون الإستمرار في التعدي عليهم وعلى ثغورهم.
ومن إعجاز القرآن تعلق ذكر ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى في خاتمة الآية السابقة [اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( )، بمضامين هذه الآية، وفيه مسائل:
الأولى: إن الله تعالى هو العزيز الذي ينتقم من الكفار.
الثانية: الله عز وجل هو العزيز الذي نزّل الملائكة عدة ومدداً للمؤمنين لقطع طرف من الكفار.
الثالثة: من حكمة الله عز وجل إستئصال الكفر من الأرض، ومن مصاديقه قطع طرف من الكفار.
الرابعة: لم يجر قطع طرف من الكفار إلا بحكمة وتدبير من عند الله عز وجل، فمع ظهور معالم الإيمان في الأرض يأخذ الكفر بالإندحار والهبوط.
الخامسة: من صفات الله عز وجل إنفراده بالمنعة وتدبير شؤون الخلائق، وإجتماعها وحضورها عنده، وإنتفاع المسلمين من رشحات الصفات الحسنى، وتلقي الكفار العذاب والإنتقام، لأن من مصاديق الحكمة الإلهية في أمور الخلائق نصر المؤمنين.
السادسة: لما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وقال الله عز وجل، [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وتفضل وعلّم آدم الأسماء كلها لتكون منافعها متعددة, وشاملة لأحوال الإنسان في الدنيا والآخرة , ومنها :
الأول: تعلم الإنسان للأسماء حرز من الفساد.
الثاني: إنه وسيلة للإرتقاء في المعارف، وإكتساب العلوم، ومقدمة لعمارة الأرض بالعبادة، وقد تفضل الله عز وجل بأن جعل أول آية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفتاحاً للعلوم[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
الثالث: توارث ملكة التقوى والصلاح .
الرابع: إقرار الملائكة بقصورهم عن إدراك كنه الغايات العظيمة في بديع خلق الله لآدم ، وما فيه من إنتفاع الخلائق منه , وقالوا بلغة التنزيه لمقام الربوبية[سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
الخامس: خلق الله للجنة والنار جزاء للإنسان, وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الله ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده) ( ) .
بحث منطقي
يأتي لفظ يدل على أفراد الموضوع في القضية الحملية المحصورة قلة وكثرة ويسمى هذا اللفظ(سورة القضية) مقتبساً من سور البلدة الذي يحصرها ويحيط بها، لذا تسمى القضايا المحصورة بالمسورة، واللفظ الدال عليها على أقسام:
الأول: سور الموجبة الكلية، ويراد منه العموم والشمول، مثل جميع، كل, عامة، لام الجنس التي تفيد الإستغراق، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
الثاني: سور السالبة الكلية، وهو الذي يدل على النفي المطلق أو رفع حكم في جميع الأحوال والأوقات، وتدل عليه ألفاظ النفي المطلق، مثل لا شيء، لا واحد، نفي الشريك.
الثالث: سور الموجبة الجزئية، وهو اللفظ الذي يدل على ثبوت المحمول لبعض أفراد الموضوع، أو بقاء بعض أطراف الموضوع، مثل بعض، من، جزء كما في قوله تعالى خطاباً لإبراهيم[ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا] ( ).
الرابع: سور السالبة الجزئية، وهو اللفظ الذي يدل على إنتفاء أو إبانة بعض أجزاء الموضوع أو سلب المحمول عنها مثل: ليس كل، ليس بعض، الإستثناء.
وجاءت الآية محل البحث بالإخبار عن القطع والإبانة لطرف من الكفار، وفيه وجوه:
الأول: إنه من سور السالبة الجزئية لما فيه من الإبانة، وهلاك عدد من رؤساء الكفار، ولحوق الخسارة بمن يلي المسلمين من الكفار، كما في كفار قريش.
الثاني: إنه من الموجبة الجزئية بالنسبة للمسلمين، لما فيه من قوة لهم، وزيادة في إيمانهم، وتلك آية في الفضل الإلهي على المسلمين، إذ يأتي البلاء والعذاب على الكفار فيكون تثبيتاً لأقدام المسلمين في مسالك الإيمان، وتخفيفاً عنهم في ميادين القتال، قال تعالى[وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث: إنه من السالبة الكلية، لأن قطع وهلاك طائفة من الكفار مقدمة لهلاكهم وبداية لدحرهم، وسبب لكف أيديهم عن المؤمنين، وفي هذا القطع خزي للكفار على نحو العموم، فصحيح أن القطع والهلاك يأتي لفريق منهم، ولكن الخزي واليأس والقنوط يتغشى الكفار كافة، ولفظ(كافة) من سور الكلية سالبة أو موجبة بحسب الحال والقرينة.
الرابع: إنها من الموجبة الكلية لأن قطع طرف من الكفار مدد للمسلمين جميعاً، وباعث للسرور والغبطة في نفوسهم.
وهذا التعدد في ثمرات وغايات البطش الإلهي بفريق من الكفار آية في بديع صنع الله , وهل هو من عمومات[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )، الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الآية أعلاه حسن صورة الإنسان، وبديع خلقه وهيئته، وتسوية أعضائه , وإتصافه بخصائص يمتاز بها عن الحيوانات، نعم الكفار لم يشكروا الله عز وجل على نعمة بديع الخلقة، وإستدامة العافية.
وتبين الآية عدم إنتفاع الكفار من نعمة العقل كرسول باطني، يدعو للإيمان بالله، والتصديق بمعجزات النبوة والكتب المنزلة من الله، لتكون عاقبة الكافرين هلاك طائفة منهم.
قانون يكبتهم
لقد نفخ الله عز وجل في آدم من روحه في آية لم يشهدها الخلق، لينال منزلة تتخلف عنها المخلوقات الأخرى حتى إستدل بعضهم بأفضلية الأنبياء على الملائكة بالنفخ المبارك هذا , قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، ويترشح عن هذا النفخ حب الله عز وجل للناس، ومن مصاديقه أن جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وينتفع مما فيها من الحيوان والنبات والكنوز الظاهرة والباطنة والتي ليس لها حصر نوعاً وكيفاً وكماً.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالبراهين الساطعات، والحجج البينات لجذب الناس لسبل الإسلام وجعل جبهة الإيمان قادرة على مواجهة عتاة الكفار وصناديد الشرك، ولكن الكفار لم يمهلوا المسلمين حتى يكثر عددهم، وتزداد قوتهم، فأجهزوا عليهم، وجاءوا بجيوش لا قبل ليثرب بها , فكان القطع بإنتظار الكفار وطرف منهم على نحو التنجيز والفعلية وليس التعليق والوعيد .
فقد فرّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم قليل إلى المدينة المنورة على بعد أكثر من أربعمائة كيلو متراً , وبعضهم قطع المسافة سيراً على الأقدام وفي حال من الفزع والخوف من طلب قريش، فأبت قريش إلا إستئصال الإسلام لتتكرر وقائع الصراع بين فرعون وملئه من جهة، وموسى وبني إسرائيل من جهة أخرى مع زيادة في الفضل الإلهي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأن خفف الله عنهم، فلم تستطع قريش مواصلة العذاب والتعذيب لأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوجوه:
الأول: بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أوسط قريش نسباً، ومنزلة وشأناً، فهو ليس كبني إسرائيل وإستضعاف آل فرعون لهم، وجعلهم في المهن الوضيعة والشاقة كما في تفسير قوله تعالى[يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] ( ).
فقد إستضعف آل فرعون بني إسرائيل ، فمنهم من يقوم بخدمة آل فرعون، ومنهم من يحرث لهم، ومن لا يقدر على العمل ضربوا عليه الجزية إلى جانب ذبح أبنائهم وإستحياء نسائهم، نعم تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأذى وقد تقدم ذكره، كما تعرض نفر من أصحابه إلى أذى شديد، سرعان ما زال بالهجرة، ثم لقى الذين آذوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الهلاك , وهو من عمومات قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]، في آية من عذاب الله عز وجل للكافرين الذين أرادوا إستئصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فاستئصلهم الله عز وجل .
فمثلا كان أمية بن خلف وهو من كبار رجالات قريش، يعذب بلالاً بمكة في بداية الدعوة الإسلامية لحمله على ترك الإسلام(فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءَ مَكّةَ إذَا حَمَيْت ، فَيُضْجِعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَا تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمّدٍ فَيَقُولُ بِلَالٌ أَحَدٌ أَحَدٌ) ( ).
ويوم بدر وقع أمية بن خلف بالأسر في آية من عند الله تتضمن كبت وخزي الذين كفروا، إذ كان واقفاً وهو وإبنه علي بن أمية، فمر بهما عبد الرحمن بن عوف، ومعه أدراع إستلبها فقال له أمية، وكان صديقاً له في مكة: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك.
وقال: وما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ يريد لماذا يعزف المسلمون عن أسري مع أني أفتدي نفسي بالجمال الكثيرة اللبن، فأخذه وإبنه عبد الرحمن بن عوف.
ولكن لما رآه بلال قال: لا نجوت إن نجا، وإحتج عليه عبد الرحمن: أي بلال، أسيري، ثم صرخ بلال بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر، أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا بهم، ولم يستطع عبد الرحمن كفاية أمية بن خلف وإبنه فقتلا ( )، وفي أسرهما وقتلهما قطع وكبت للكفار عموماً، وهو من أخبار بدر التي أدخلت الحزن والفزع إلى كل بيت من بيوت مكة، وكان نوفل بن خويلد بن أسد قد عقل أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله حين أسلما في حبل، فكانا يسميان القرينيين لذلك، وكان نوفل من شياطين قريش، فقتله علي بن أبي طالب.
ولقد جاءت الآية بالإخبار عن كبت وخزي الكفار، وأن هذا الكبت من عند الله، وفيه دلالة على أمور:
الأول: تعدد طرق وكيفيات كبت وخزي الكفار.
الثاني: جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع التي تفيد التجدد والحدوث المستمر، ففي كل يوم تطل على الأرض ضروب من كبت الكفار والمشركين، لتكون درساً وموعظة للناس جميعاً، وزجراً عن التعدي على حرمات الإسلام.
الثالث: تخلف قوة ومنعة الكفار عن دفع الكبت والخزي عنهم، لقد إعتاد الكفار على حساب النتائج بلحاظ الأسباب والمستلزمات والمقدمات ونحوها، وكانت قريش فخورة بمنزلتها الرفيعة بين القبائل، وأموالها الكثيرة، وجوارها البيت الحرام، ومجيء العرب للحج والعمرة، وصلاتها مع الملوك والسلاطين والتجار في بلاد الروم واليمن وغيرها من خلال رحلات التجارة والكسب , قال تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )، وإجماع المفسرين على أن المراد رحلة قريش في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة، ورحلتهم في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية، تجلب بهما قريش التجارات والمؤون لأن الحرم واد جديب.
وكانت قريش تسير بتجارتها في آمن، لا يتعرض لها الناس لأنهم أهل حرم الله، والقائمون بشؤونه، بينما يتخطف من حولهم، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لتبين أن مدار الإكرام هو الإسلام، وأنه لا أمن مع الكفر والجحود , والآية أعم من وجوه:
الأول: صحيح أن الرحلة جاءت بصيغة المفرد إلا أن المراد منها الجنس، وتعدد الرحلات، ويدل عليه توالي عير قريش التي تأتي من الشام من خلال وقائع معركة بدر وما بعدها، وكيف أن المسلمين أرادوا أخذ عير أبي سفيان القادمة من الشام , قال تعالى[وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ).
الثاني: التجارة وسيلة للتعارف والإتصال والقرب من الملوك وأصحاب القرار.
الثالث: يحل التجار ضيوفاً على البلد الذي يصلون إليه، ويكونون واجهة لأهل الجزيرة.
الرابع: ينقل التجار أخبار بلدهم، ويفسرونها بوجوه تتصف بالبيان مع ميل وإنحياز منهم إلى أهوائهم ومصالحهم ومصالح تلك الدول.
الخامس: إيجاد شأن ومنزلة لبلدهم وقومهم بين الأمم، فقد لا يعرف كبار الروم من العرب إلا قريشاً لتعاملها معهم بالتجارة، وترددها على بلاد الشام، وإتصالها مع الملوك والوجهاء.
السادس: أثر هذه الصلات على قريش في الشأن والجاه وحسن المعاشرة، ولم يجهزوا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بداية البعثة إلى أن إشتهر أمره، وخشوا على منازلهم وأصنامهم وعاداتهم، ومن أسباب إستيائهم رؤيتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يساوي بين أصحابه في المرتبة والود , لم يفرق بين الغني والفقير، والحر والعبد منهم.
قانون خزائن مصر
لقد سأل إبراهيم عليه السلام الثمرات لأهل البلد الحرام بقوله تعالى[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( )، لتكون نعمة مصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء المسلمين للفرائض،وليأتي من بعده يوسف عليه السلام فيطلب من ملك مصر وزارة الأرض كما ورد حكاية عنه في التنزيل[اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )بعد محنة السجن.
وذكر الخزائن بصيغة الجمع والتنكير والإطلاق إشارة إلى عدم إنحصار وظائف وزارته بالزراعات، خصوصاً وأنها كانت سني قحط مع قلة الأمطار والمياه , قال تعالى[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ] ( ).
وكان إدخار يوسف عليه السلام للبر والطعام في سني الخصب والرخاء وسيلة ومقدمة لبيعه على الناس الذين جاءوا بأموالهم وذخائرهم للحصول على رغيف العيش، وربما إجتهدوا في إستخراج بعض الكنوز والمعادن من أرض مصر ، وأن يوسف وجّه عماله لهذا الغرض.
ومن إعجاز القرآن وجود المصاديق الخارجية لمضامين الآية القرآنية على وجوه:
الأول: ماهو خاص بزمان الواقعة , وإن تقدم على أيام التنزيل بأحقاب لتكون مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وإرتقائهم في المعارف الإلهية، وآية للناس في كشف القرآن لعلوم الغيب وقصص الأمم السالفة بلغة خالية من التحريف والتشويه , قال تعالى في قصة نوح، ونجاته ومن معه من الطوفان [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ] ( ).
الثاني: المصاديق التي تتجلى أيام التنزيل، وتكون شواهد على صدق مضامين الآية، وحجة وبرهاناً على صدق نزول القرآن خصوصاً وأن الناس جميعاً المسلمين وغيرهم يشتركون باستحضار هذه المصاديق في الوجود الذهني عند تلاوة الآية أو الإستماع لها، أو سماعها عرضاً من غير قصد.
الثالث: ما يتجدد من المصاديق في الأحقاب اللاحقة لنزول القرآن والتي تؤكد إعجازه , وتبعث الشوق في النفوس لإستقراء ما فيه من الدرر, والإتعاظ مما فيه من الدروس والعبر، والإنتفاع الأمثل مما ينبأ عنه، فليس من حصر لزمان مواضيع الآية القرآنية بل تتغشى أفراد الزمان الطولية بأقسامها الماضي والحاضر والمستقبل.
وجاءت الآية أعلاه بخصوص كنوز مصر من الشواهد على هذا الإطلاق الزماني، وفي قوله تعالى [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، ورد (عن ابن عباس رضي الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت( ).
وفي قوله تعالى [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )، إخبار وبشارة عن وجود خزائن وكنوز في أرض مصر، وهو من اللطف الإلهي، وبيان فضل الله على أهل مصر في الإسلام , ودعوة للإجتهاد والتنقيب على الكنوز والمعادن فيها , وفي صبغة القرآنية ومناسبة المقام لهذه البشارة إشارة إلى إنتفاع أهل مصر والمسلمين عموماً من هذه الكنوز والمعادن والخيرات , وفيه دعوة لبذل الوسع وفق الأسباب وأدوات العلم لإكتشاف وإستخراج تلك الكنوز, ولا دليل على نفاد تلك الكنوز أيام يوسف عليه السلام وما بعدها .
وإذا كان النفط هو الكنز الغالب في هذا الزمان فإن الآية تشمل هذا الزمان وأفراد الزمان الطولية اللاحقة فيما يخص المصاديق المتعددة والمستحدثة لكنوز الأرض وحاجة الناس لها وفق الإرتقاء العلمي والتقني ومنها خزائن مصر، بتقؤيب أن مضامين الآية القرآنية حية وباقية إلى يوم القيامة ( والخزانة: اسم الموضع الذي يخزن فيه الشئ)( ).
وفيه دعوة للناس للتقيد بأحكام الإسلام، وسنن الإيمان مقرونة بالأمل والرجاء والحث على الدعاء لتقريب البعيد، ولكن شطراً من الناس إختاروا الضلالة والجحود، وغرتهم الحياة الدنيا وزينتها، وصاروا أعداء للأنبياء , قال تعالى[فَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ] ( ).
فتأتي ذخائر الأرض الإسلامية ترغيباً لهم بالإسلام
وبلاد مصر أكثر المدن والبلدان التي ذكرت في القرآن , وهذا شرف عظيم إختص الله به مصر وأهلها , ويلقي وظائف عقائدية عليهم ويشير إليها, ويدل في مفهومه على الثناء عليهم , وأنهم أهل لهذا الإكرام , فلا غرابة أن يخصهم الله بخزائن مدخرة في الأرض والبشارة بها , وصحيح أن ذكر مدين جاء عشر مرات في القرآن، إلا أن ذكر مصر جاء فيه أكثر عدداً، وأعظم دلالة، من وجوه:
الأول: جاء ذكر مدين بلحاظ المتعلق وليس ذات البلدة [أَهْلِ مَدْيَنَ]( )،[ أَصْحَابِ مَدْيَنَ] ( )،[مَاءَ مَدْيَنَ]( )،.
الثاني: لم يبق لمدين من عمارة وأثر حضاري , ومصر عامرة بأهلها في كل زمان , وملكة عشقهم المتوارث للإيمان أمر معروف ومحمود , وهو نوع تكريم إضافي لهم .
الثالث: إرادة أهل مدين في الآيات بلغة الإنذار كما في قوله تعالى [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا]( ).
بينما جاء ذكر مصر في القرآن على وجوه:
الأول: إرادة بلدة مصر على نحو التعيين وذكر إسمها خمس مرات في القرآن ، قال تعالى في يوسف وأبويه وإخوته [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ).
وقد ذكرت في كتابي الموسوم تفسير سورة يوسف والمطبوع قبل عشرين سنة أن هذه الآية بشارة فتح المسلمين لمصر من غير قتال وهو آية إعجازية تدل على وجود بشارات في القرآن تدرك بالتفسير والتأويل، خصوصاً وان الله عز وجل فضّل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: ورود مصر في القرآن بلفظ (المدينة) خمس مرات ( ), قال تعالى في صويحبات يوسف [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ]( ).
الثالث: ذكرت مصر في القرآن بلفظ (المدائن) ثلاث مرات( )، وكلها خاصة ببلدة مصر والمدن المحيطة به والتابعة لها , قال تعالى [فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ]( ).
الرابع: كثرة القصص والمواضيع التي تخص بلاد وأهل مصر في القرآن فقد ذكر فرعون مثلاً أربعاً وسبعين مرة في القرآن , وجاء شطر من قصص بني إسرائيل في مصر لتكون وراثة المسلمين لأرض مصر نصراً عظيماً ، وآية في تثبيت أحكام التوحيد في ربوع الأرض إلى يوم القيامة، لما تشع من أرض مصر من أسباب الهداية والصلاح، وتعاهد أهلها للفرائض وسنن الشريعة الإسلامية، فلا غرابة أن تكون بإنتظارهم كنوز عظيمة في الأرض، تجعل لمصر وأهلها بين الناس ذات المنزلة المستقرأة من آيات القرآن , موضوعاً ومدداً.
ولا دليل على ما ذكر في علم الأصول أن التحديد بالعدد لا مفهوم له , إلا أن يراد المفهوم الجهتي وعدم دلالة العدد الخاص على إنتفاء الحكم عن غيره, خصوصاً في معاني اللفظ القرآني , وأن كل لفظ مبارك فيه له دلالات وإشارات إعجازية عديدة , وجاءت البشارة عما في مصر من الذخائر والكنوز إشارة إلى الرزق الكريم للمسلمين.
نعم وقع الخلاف في معنى فرد واحد من لفظ (مصر) الوارد في القرآن وهو قوله تعالى [اهْبِطُوا مِصْراً]( )، تقدم ذكره( ).
ولفظ المدينة من الموضوعات العرفية والأمور الخارجية، ويراد منه الموضع الذي تقيم فيه جماعة كثيرة من الناس، ويصلح لتبليغ الأحكام ونشر الدعوة وقيام الحجة، وكذا القرية ولكنها أقل عمارة بالإضافة إلى التباين في مهن السكان، ومزاولة أكثر سكان القرية الزراعة، إذ أنها ضيعة، سميت بالقرية لأن الماء يقرئ فيها أي يجمع، بينما جاء لفظ المدينة من الإقامة، يقال مَدَن بالمكان أي أقام به، وهي فعيلة، وتجمع على مدائن ومَدن، ومُدُن، وقيل أنها مفعلة من دنتُ أي ملكت.
وقد جاء ذكر مكة المكرمة في القرآن بلفظ القرية , قال تعالى[وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( )، والمراد من القريتين مكة والطائف، كما ذكرت مكة بأنها أم القرى، وذكرت يثرب بلفظ المدينة، فمع تكرار ذكرها في القرآن لم ترد بلفظ القرية، كما أن تسمية مكة بالقرية إنما جاء في القرآن حكاية عن الكفار الذين أنكروا نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أوسطهم، ليكون شاهداً على أن الكفار كانوا يستخفون بمكة وما لها من المنزلة العظيمة، وأن الإسلام أظهر الوجه المشرق لمكة وعظيم شأنها ومنزلتها بين مدن وأمصار الأرض، وهو نعمة أخرى على المسلمين والناس جميعاً.
ومن الإعجاز في القرآن بلحاظ الأمكنة والبلدان مجيء لغة الإنذار والعقاب والهلاك بلفظ القرية، وفيه إشارة إلى نزول الرحمة والعفو مع كثرة الناس في المدينة والحضر، ووجود جماعة وأمة في المدينة تذكر الله عز وجل، ولا تنقاد لمفاهيم الضلالة، وبلحاظ السعة والكثرة وتعدد الأنساب والمذاهب قد يوجد في المدينة المؤمن الذي يستحق الرحمة , وينكر على الكفار سوء فعلهم ويستهجن إقامتهم على المعاصي , ويدرك أن الله بديع السماوات والأرض فيكون سبباً لدفع البلاء والإنتقام العاجل عن الناس.
ومدين مدينة تقع في طريق القدس(وقال الزمخشري: مدين بلدة معروفة)( )، وتحتمل المعرفة هنا وجوهاً:
الأول: تكرار إسمها في القرآن , وحضور المعنى المخصوص في الوجود الذهني.
الثاني: كانت موجودة آنذاك، وتوفي الزمخشري سنة 538.
الثالث: إرادة المعنى الأعم، والشامل للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث ليبقى ذكر مصر في القرآن مدداً لأهلها في الإعتزاز بها، ولزوم تعاهد الإيمان في ربوعها, وتطلعهم إلى تلك الكنوز المتجددة , ولزوم إجتهادهم وبذل الوسع لتحصيلها .
ومن الآيات أن لفظ (خزائن) ورد في القرآن ثمان مرات( )، كلها تتعلق بخزائن الله ورحمته، إلا الآية أعلاه من سورة يوسف فانها جاءت بخصوص خزائن مصر مما يدل على أنها من خزائن الله، والله له ملك السماوات والأرض , وقد إختص الله عز وجل مصر وأهلها بأفراد مباركة منها، وإدخرها للمؤمنين لتكون مأوى للمترين والتجار وأهل الحاجة، كما كانت في أيام وزارة يوسف عليه السلام، وموضوعاً للسعة والمندوحة عند المسلمين , قال تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
وهل خزائن مصر من كبت الكفار , الجواب نعم وإن تحقق بعد حين، وهو من أسرار مجئ قوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] بصيغة الفعل المضارع، ولإرادة المعنى الأعم من الآية والعموم الأزماني ، وما يقع في تعاقب الجديدان من الحوادث والوقائع تكون فيها تلك الخزائن سلاحاً وعوناً للمسلمين وواقية من إضرار الكفار بأمصار المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وهذا القانون رشحة من موضوع الآية , وإن تأخرت مضامينه عن زمان النزول , ودعوة للتأمل والتدبر في بشارات القرآن , وكيف أنها تجعل كبت وذل الكفار الوارد في هذه الآية متجدداً , والآية القرآنية حية بمصاديقها التوليدية , تحث على إستقراء مصاديقها المستحدثة لتكون ضياء وسراً مكنوناً من كنوز القرآن وذخائر بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وتفضيل المسلمين بما في أرضهم وأمصارهم من الخزائن .

قانون ملازمة الكبت للكفر
الحياة الدنيا آية من آيات الله في الخلق، وبديع الصنع، وجعلها الله عز وجل دار سعادة وغبطة، ومرآة لجنة الخلد وما فيها من النعيم , ومن الناس من لم يتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، فظلم نفسه وغيره، وزاحم الباطل الحق، والكفر الإيمان إلا أنه لم يحصل إختلاط وتداخل بينهما، وتلك آية أخرى في ماهية الحياة الدنيا، وفضل الله عز وجل على الناس فيها، وصحيح أنها دار إمتحان وإختبار وبلاء إلا أن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم.
ولا يستطيع الناس إحصاء مصاديق وأفراد العناية الإلهية بهم وعدم تركهم وشأنهم موضوعاً وحكماً وأثراً ، والله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، إذ بعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لمنع اللبس والجهالة، ولجذب الناس لسبل الإيمان , وجعلهم ينفرون من الكفر والضلالة، وجاء النسخ في الشرائع لتفقه الناس في الدين , ولمنع خلط المفاهيم.
وعندما دعا اليهود والنصارى المسلمين إلى دينهم نزل القرآن من عند الله بأن الأصل هو ملة إبراهيم، وهو سور الموجبة الكلية الجامع لأسس الإيمان، قال تعالى[وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( )، لبيان الحجة على الأمم السالفة واللاحقة، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أحيى سنن التوحيد وأن النسخ لا يعني التبديل والتغيير فقط بل يتضمن التجديد والتفصيل والبيان من غير تعارض بينهما .
وهل قطع طرف من الكفار من النسخ، الجواب لا، فهو أجنبي عن النسخ في الشرائع، لأن الكفر والشرك لا أصل لهما.
وقال ابن إسحاق: عاصم بن عمر بن قتادة قال حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز من مروان قال: حُدّثْت عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ ، أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِين أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ إنّ صَاحِبَ عَمُورِيّةَ قَالَ لَهُ ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَإِنّ بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ . يَخْرُجُ فِي كُلّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا ، يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ فَلَا يَدْعُو لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلّا شُفِيَ فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا الذي تَبْتَغِي ، فَهُوَ يُخْبِرُك عَنْهُ . قَالَ سَلْمَانُ : فَخَرَجْتُ حَتّى أَتَيْت حَيْثُ وُصِفَ لِي ، فَوَجَدْتُ النّاسَ قَدْ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ حَتّى خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إلَى أُخْرَى ، فَغَشِيَهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ لَا يَدْعُو لِمَرِيضٍ إلّا شُفِيَ وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ حَتّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ إلّا مَنْكِبِهِ . قَالَ فَتَنَاوَلْته : فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ وَالْتَفَتَ إلَيّ فَقُلْت : يَرْحَمُك اللّهُ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ إنّك لَتَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النّاسُ الْيَوْمَ قَدْ أَظَلّك زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ بِهَذَا الدّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُك عَلَيْهِ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَلْمَانَ لَئِنْ كُنْتَ صَدّقْتَنِي يَا سَلْمَانُ ، لَقَدْ لَقِيت عِيسَى ابن مَرْيَمَ) ( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة، فمن جهة السند لم يذكر الذي أخبره بالاسم وإكتفى بما يدل على توثيقه عنده، وهو مقطوع من جهة الإرسال إذ أن عمر بن العزيز لم يذكر رجال سنده، وطريقه إلى سلمان المحمدي لم يوثق في علم الرجال.
وأما دلالة فلم ترد نصوص تدل على أن عيسى قام بوظيفة شفاء المرضى, وعلى نحو متكرر كل سنة بعد رفعه إلى السماء، ورواية سلمان هذه ليس بعيدة عن زمن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن سلمان كان عند صاحب عمورية الذي أخبره بقرب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال له(قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجَرُهُ إلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى ، يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ) ( ).
وحينما يخرج عيسى عليه السلام فإنه لا يكتفي بالدعاء لأناس لا يسألون عن أمور دينهم، بل يدعوهم للإسلام، وتجديد العهد بكلمة التوحيد , ومع هذا فالحديث لا يترك لما فيه من المعاني والدلالات , ولذكره في كتب السيرة وإسنادها.
وجاءت هذه الآية لتبين أن عدم إختلاط مفاهيم الإيمان والكفر أمر مستديم وهو رحمة إضافية للناس، ومادة لإستدامة الحياة بوجود أمة مؤمنة, ونعمة متجددة ليس من حصر لوسائطها ورسائلها، ومن أهمها آيات القرآن، فكل آية منه نعمة في الفصل بين الإيمان والكفر منطوقاً ومفهوماً .
وهذه الآية حرز وواقية للإيمان والمؤمنين إذ أنها تتضمن ما يلحق الكفار من الضرر والأذى، ويأتي الضرر ذاته تحذيراً وإنذاراً ودعوة الكفار لإستحضار مصاديق الكبت والذل التي لحقت بهم بسبب الإقامة على الكفر , والإصرار على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
فمن اللطف الإلهي بالناس في الدنيا، وفلسفة الحياة فيها أن العقوبة العاجلة لا تأتي إلا بعد شدة التفريط، وكثرة التعدي، وعظم المعصية لتكون هذه العقوبة درساً وموعظة لصاحبها ولغيره، وزجراً عن فعل السيئات, وإرتكاب ذات الذنوب التي هي سبب لها، ومنعاً من غلبة النفس الشهوية.
وفي دعاء نوح ورد في التنزيل[إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ] ( )، وهذه العقوبة جذب إلى مقامات ملكة التنزه عن الذنوب التي تأتي من أمور:
الأول: الأهوال الدنيوية والأخروية التي تتفرع عن إرتكاب الذنوب.
الثاني: الترغيب بالإيمان وفعل الصالحات، والإخبار عن النعيم الدائم الذي ينتظر المؤمنين.
الثالث: التصديق بالأنبياء والكتب السماوية المنزلة.
الرابع: أداء الفرائض والواجبات العبادية.
الخامس: الخشية من الله بالغيب.
فجاءت هذه الآية بذكر الوجه الأول لإنقاذ الناس من براثن الضلالة وعبادة الأصنام، وإخبارهم بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله، وأنه سبحانه لن يترك الصراع بين المؤمنين والكفار يجري بالأسباب وقانون العلة والمعلول المادي وحدها , بل تكون الإرادة التكوينية لله عز وجل حاضرة في كل ميادين الحياة، وتتجلى بوضوح في الصراع بين الإيمان والكفر، وقانون ملازمة الكبت والذل للكفار في تعديهم على المسلمين ومطلقاً، وإفادة الجزم والقطع بهذه الملازمة.
وفيه تعاهد للغايات العظيمة في خلق الإنسان وهي إخلاص العبادة لله عز وجل.
وتلك الغاية مقدمة ووسيلة لفوز المؤمنين بالنعيم الدائم , والخلود في الجنان، قال تعالى[تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا] ( ).
بحث عرفاني
الإيمان بالله عز وجل تطهير للذات وإزالة للكدورات الظلمانية، ونفع للنفس، وتصفية للقلب، وطرد لمادية الطبيعة، ومنع من إستحواذ النفس الشهوانية والحيوانية، وإزاحة للدرن المترشح عن المعاملات اليومية والحاجات والمكاسب الآنية.
لقد أطلت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض بشمس الإيمان التي لا تعرف المغيب، ولا تستطيع سُحب الشك والريب حجب ضياءها الذي يسطع على القلوب المنكسرة فيجذبها طوعاً وإنطباقاً، وأنىّ لها ذلك، وقد صار كل مؤمن مرآة يعكس شوارق الإيمان مثلما يعكس نور القمر ضياء الشمس.
وكما يعجز الناس عن إحصاء عدد ملائكة السماء فإنهم يعجزون عن إحصاء عدد المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأن عددهم من اللامتناهي وهو بإطراد ونماء متصل مع تقادم الساعات والأيام، ولا ينحصر هذا النماء بالعدد وحده، بل يشمل حال الإرتقاء العقائدي والفقهي عند المسلمين , وعشق تلاوة الآيات وأداء الفرائض والعبادات والشوق للقاء الله وحب الشهادة في سبيله تعالى بأرض المعركة وإخلاص النية، وقصد القربة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويواجه الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان حروباً متعددة الوجود والكيفيات والصيغ، فيخرج منها قوياً بذاته، وتكون تزكية للمسلمين، وموضوعاً للثناء عليهم، وحرزاً من هجمات الضلالة ومحاولات خلط المفاهيم، وواقية وتبصرة في زمان تداخل الحضارات، وتقارب القارات والأمصار، والثورة المعلوماتية وصيرورة العالم كالقرية ليصاحب المسلمين القرآن، وما فيه من البشارة والإنذار، ويكون ظهور المصاديق العملية لآياته زاداً في الميادين المختلفة .
وما في القرآن من الوعيد والوعد ليس مفاهيم جامدة، أو حديثاً مجرداً منحصراً بالإخبار عن الزمن الماضي . بل هي أمور متجددة في موضوعها وأحكامها، وجاء قوله تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( )، لإرادة عموم المنفعة من قصص القرآن، ولزوم إتخاذ الناس برهم وفاجرهم لها مدرسة يقتبسون منها المواعظ، ويستنبطون منها الأحكام.
وهذا العموم من أسباب وجوب القراءة في الصلاة، وتلاوة الآيات بصورة جهرية في أكثر الصلوات لكسر حاجز الخوف عند المسلمين ولإيصال كلام الله إلى الناس جميعاً طوعاً وقهراً، وإزاحة مؤقتة لظلمة الدنيا وغشاوة اللذة وشوائب المشاغل، ومع أنها مؤقتة إلا أن أثر القراءة يبقى في الوجود الذهني عند القارئ والمستمع والسامع، وتكون إصلاحاً للفكر، وتقويماً للسان، وواقية من إغواء الشيطان.
لقد جاءت هذه الآية الكريمة حضوراً سماوياً في ميدان المعركة مع حضور الملائكة مدداً وعوناً ليبقى المسلمون في جوار حضرة القدس والجلال، ويرتقي المجاهدون في مراتب الكمالات الإنسانية، لذا شرّفهم الله عز وجل بوسام خالد وهو تسميتهم بالمؤمنين، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
ومع تعلق موضوع الآية بالكافرين الذين يعتدون على المسلمين والذي جاء بلغة الإنذار وهو الإخبار مع التخويف، ليكون مناسبة لإلتجاء المسلمين إلى الله عز وجل.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا بستاناً وحديقة بهيجة مملوءة بالأشجار العقائديةالمثمرة التي يترشح عنها الإيمان، والهداية فأنزل الكتب السماوية، وختمها بالقرآن، وجعل كل آية منه حديقة زاهية تعطي الثمار في الليل والنهار، وترغّب الناس للإقتطاف منها ولكن لاتصل إليها إلا يد المؤمن والمؤمنة , وتمنع الكفار عن شم طيبها وما تبعثه من المسك والعنبر.

قانون مصاحبة مصاديق الوعيد لنزوله
يتضمن القرآن الوعد والوعيد، وكل واحد منهما شاهد على صدق نزول القرآن لأمور:
الأول: ما فيهما متفرقين ومجتمعين من الإخبار عن الغيب.
الثاني: تثبيت أسس الإسلام ونشر مبادئه.
الثالث: إمتلاء نفوس المسلمين بالغبطة والسعادة والرضا بمنطوق الوعد ومفهوم الوعيد .
الرابع : إمتلاء نفوس الكفار بالخوف والفزع والحزن من منطوق الوعيد , ومفهوم الوعد , كما يتجلى في هذه الآية والآية السابقة.
الخامس : حصول المصاديق العملية لآيات الوعد والوعيد، والحدوث المستمر والمتصل لشواهد الوعد، والمصاديق الخارجية للوعيد وبطش الله بالكفار، ليكون من أبهى معاني كبتهم وخزيهم.
وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين خاصة، والناس عامة، لتبقى الدنيا مرآة لعالم الآخرة، وشاهداً على الحساب والجزاء يوم القيامة، ودعوة للإستعداد والتهيئ لهما بالعمل الصالح, والتوبة والإنابة.
وتبين المصاحبة المتجددة بين الآية القرآنية ومصاديقها العملية أن الأمور كلها بيد الله عز وجل.
وفي نوح وقومه ورد قوله تعالى [ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ]( )، إذ كان يعدهم بالعذاب العاجل على الكفر والجحود، وأنهم لن يفوتوا الله بالهرب، فأخذ نوح يصنع السفينة بيده من شجرة عظيمة إنتشرت أغصانها.
وكلما مرّ عليه جماعة من رؤساء قومه إستخفوا به وبما يعمل لأنه يصنعها في البر، وليس من بحر أو نهر قريب منه يحمل تلك السفينة الكبيرة، ولم يسكت عن إستهزائهم وتضاحكهم , بل كان يرد عليهم ويحذرهم ويتوعدهم بالعذاب، وهذا الوعيد رحمة ولطف بهم لجذبهم للإيمان كما ورد في التنزيل حكاية عنه [إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ] ( ).
وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى حتى إذا كان آخر زمانهم غرس شجرة , فعظمت و ذهبت كل مذهب , فقطعها و جعل يعمل على سفينته و قومه يمرون عليه فيسألونه فيقول أعمل سفينة فيسخرون منه و يقولون تعمل سفينة على البر فكيف تجري , فيقول سوف تعلمون , فلما فرغ منها و فار التنور و كثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه , و كانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي( ).
ونوح من الرسل الخمسة أولى العزم، ونجا بفضل الله عز وجل بنفسه وبمن معه من أهل بيته، اما النبي محمد فقد آمن به أفراد وجماعات فصاروا أمة تستطيع أن تذب عنه، وعن الإسلام, لتتناقص قوى الشر والبغي والضلالة.
ومن الشواهد على تفضيله على الأنبياء بمجئ البشارات بالنصر والغلبة، ورمي الكفار بالعذاب العاجل , قال تعالى [أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ] ( ).
في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان يريه في حياته ما وعد الله اللكفار والمشركين من العذاب، ( وقال الحسن وقتادة: إن الله أكرم نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم بأن لم يره تلك النقمة و لم ير في أمته إلا ما قرت به عينه و قد كان بعده نقمة شديدة( ).
ولكن الآية أعلاه جاءت بالوعيد للكفار الذين يحاربون المسلمين، وقد أرى الله عز وجل نبيه ما أصابهم من القتل والأسر في معركة بدر، وما لحق عموم المشركين من الخزي والذل، ثم جاءت معركة أحد بإختيار وسعي من المشركين أنفسهم.
فجاءت الآية محل البحث ليرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون مصداق ما وعد الله الكفار من العذاب العاجل، والذي جاء بآيات القرآن وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً وأن السور المكية التي نزلت في بداية الدعوة الإسلامية , ونزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بالوعيد والتخويف والإنذار للكفار، ولعله من بين الأسباب التي زادت من سخط قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبطشهم بأصحابه لما كانت عليه قريش من الكبرياء والخيلاء والزهو، وكل سورة منها مدرسة في الوعيد، ومنه ما جاء بلغة القسم، ويمين الله بمخلوقاته لتوكيد نزول العذاب بالكفار.
لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالبطش بالكفار قطع طرف منهم وهلاك رؤسائهم، وإصابة تجاراتهم بالكساد، وإنشغالهم عنها بالمعارك والتعدي على المسلمين، ومنعهم من توظيف أموالهم لشراء السلاح والإنفاق على آلاف الجنود الذين يزحفون معهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وإضطرارهم لفداء لكبرائهم الذين وقعوا بالأسر يوم بدر، إلى جانب صيرورة الأسلحة والدروع والرواحل التي جاءت بها قريش للحرب غنيمة بيد المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ].
وكما جاء القطع والكبت للكفار يوم بدر، فانه لحقهم يوم أحد، إذ ( بلغ عدد قتلاهم يومئذ إثنين وعشرين رجلاً( )، وأصابهم الخزي لعدم نيلهم النصر الذي وعدوا به أهل مكة، والقبائل التي خرجت معهم، وفيه مصيبة وحزن لهم , ويكون الإنسان إذا أصابته مصيبة ومحنة على أقسام:
الأول:الذي يواجهها بصبر وتحد.
الثاني: الذي يتخاذل ويضعف أمامها.
الثالث: من يتوسل بالأسباب والوسائط لتداركها كلاً أو جزء.
الرابع: الذي يقف عندها يائساً قانطاً.
الخامس: الذي يبادر إلى العمل لتجاوزها، والسعي للخلف والبديل عنها.
وجاءت الآيات بحث المؤمنين على الصبر في المصيبة الخاصة والعامة والإستعانة بالصلاة والعبادة ورؤية آفاق المستقبل بالتوكل على الله عز وجل, قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، أما الكفار فان الخزي والذل يحلان بهم، وتتعاقب عليهم صنوف الأذى والضرر ليعجزوا معها عن التدارك، وهذا التدارك زيادة في قوتهم وسبب للإضرار بالمسلمين، وقد قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، فالكبت والذل للكفار من أسباب حجب ضررهم عن المسلمين، وجعلهم عاجزين عن إلحاق الضرر بالمسلمين.
ومن الآيات أن مصاديق الوعيد العاجلة لم تمنع من مصاديقه الآجلة والعذاب المقيم في الآخرة، ويأتي القطع والكبت دعوة للكفار للسعي للسلامة من اللبث الدائم في عذاب النار، لذا فمن إعجاز الآية أنها أخبرت عن تعلق القطع بطرف من الكفار، وليس جميعهم ليكون فيه للذين يبقون من الكفار إنذار مركب من وجوه:
الأول: فقدانهم لطرف منهم.
الثاني:خسارتهم لصناديدهم في القتال.
الثالث:الخزي والذل الذي يلحق بهم.
الرابع:الخسارة في الأموال ونفقات الحرب التي تذهب سدىّ , ولا تخلف إلا الحسرة في نفوسهم وإزدياد اللوم بينهم، قال تعالى[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( ).
بحث أصولي
من مباحث علم الأصول أصل (الإستصحاب) وهو الحكم ببقاء الشئ، وترتيب آثار بقائه عند الشك فيه، وفي الحديث: لاتنقض اليقين بالشك)، وعليه مبنى العقلاء.
ومن إعجاز القرآن أنه برزخ دون طرو الشك في قوانينه وأحكامه، وتأتي آيات البشارة والإنذار لتدفع مثل هذا الشك، وتجتمع في زيادة قوة المسلمين، والإجهاز على الكفار بهلاك بعض رؤوسهم وخيبتهم جميعاً، ورجوعهم من المعركة يحيط بهم الخزي والخيبة , وتتجلى الأمارات والأدلة على تحقيق النصر في هذه الآيات على أقسام منها :
الأول: آيات البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة.
الثاني: الآيات التي تتضمن الإخبار عن حصول النصر للمسلمين قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، ليكون الإخبار عن النصر توكيداً لتحقيق آيات البشارة، بالإضافة إلى موضوعية الإستصحاب الذي هو دليل عقلي بالأصل.
الثالث: آيات الإنذار والوعيد للكفار، ومن الآيات الإطلاق الزماني في الإنذار وأنه لا ينحصر بالحياة الدنيا بل يشمل عالم البرزخ واليوم الآخر.
ومن الإعجاز في هذه الآية انها جاءت بالأقسام الثلاثة أعلاه وهو دليل على أن كل آية من القرآن خزينة علمية , وبشارة للمسلمين في لغة الخطاب والمفهوم، فصحيح أن موضوع الآية محل البحث يتعلق بالكفار إلا أنها جاءت خطاباً للمسلمين بلحاظ نظم الآيات، وفيه كبت إضافي للكفار إذ يرون المسلمين في غبطة وسعادة للبشارة الإلهية، وكيف أنها مدد وعون لهم، ويستصحبون النصر موضوعاً وحكماً .
أما إستصحاب الموضوع فهو على وجوه:
الأول: التشابه في طرفي القتال، فمشركو قريش إنهزموا في معركة بدر وهم أنفسهم جاءوا لمعركة أحد ,وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقائهم.
الثاني: كان المسلمون في معركة بدر في ضعف ونقص من العدة والمؤونة.
قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثالث: عدد جيش المشركين في معركة بدر ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، وكذا في معركة أحد، وإن زاد عدد الجنود في الطرفين.
الرابع: حضور وإشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعركتين.
الخامس: نزول الملائكة لنصرة المؤمنين.
وأما الإستصحاب الحكمي فهو على وجوه:
الأول: مجئ النصر في معركة بدر من الله عز وجل، فيستصحب في معركة أحد.
الثاني: هزيمة الكفار في معركة بدر مع كثرتهم، وكذا في معركة أحد.
الثالث: هلاك صناديد الكفار في معركة بدر ، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن تجدده في معركة أحد والمعارك اللاحقة , وهو المستقرأ من صيغة الفعل المضارع ( أو يكبتهم ).
ومع أن الأصوليين لايقولون بالإستصحاب القهقري، وهو إستصحاب اليقين اللاحق لنقض شك سابق , كما لوعلمت اليوم أن زيداً متزوج، فلا نستصحب زواجه قبل سنة، فقد يكون زواجه حديثاً، إلا أن الآية القرآنية أعم في مضامينها من القواعد الأصولية.
فهذه الآية الكريمة وإن جاءت في معركة أحد، إلا أن الإستصحاب القهقري يجري فيما قبلها كمعركة بدر وأن الله عز وجل قطع فيها طرفاً من الكفار بإمتلاء القليب بجثث صناديدهم وأبطالهم، وأدخل الحزن في نفوسهم رجالاً ونساءً، وجعلهم الله عز وجل ينهزمون خائبين عاجزين عن الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسوء، ومحرومين من إستئصال المؤمنين من المهاجرين والأنصار، تاركين وراءهم عدتهم ومؤونتهم غنيمة للمسلمين.
ويستصحب المسلمون هذه الآية ومضامينها القدسية إلى يوم القيامة فهي سلاح ومدد إلهي لهم وزاجر للكفار عن التعدي عليهم، ومن يتجرأ ويتعدى يجد مصاديق هذه الآية برجوعه خائباً منكسراً محروماً.

بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل القرآن جامعة الأخلاق الحميدة، والمدرسة الواقية من الأخلاق المذمومة، وهو من أسرار تلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب والتعدد في كل صلاة من الصلوات الخمسة، لما فيها من التدبر في الأفعال والسنن والقصص والمواعظ والحوادث، ومجئ القرآن بالثناء على المؤمنين الذين يعملون الصالحات، قال تعالى [وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ] ( )، لبيان محاسن الأخلاق وموضوعية الصبر والصلاة وإخراج الزكاة في إصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات.
ويملي الله للكافرين ويستدرجهم ويرزقهم من الطيبات، فينتفعون من خيرات الأرض، ويتمتعون بالطيبات وبدعاء الأنبياء كما في دعاء إبراهيم في الحرم [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( )، ويجعلون هذه النعم في التعدي للإسلام، ومحاربة النبي الذي جاء بالمعجزات الباهرات، ويدعوهم لما يكون سبباً لتمام النعمة عليهم، والفوز بالخلود في النعيم، ولكنهم جحدوا بالمعجزات ليكون هذا الجحود أقبح الأفعال، ويأتي على تلك النعم وأنواع التمتع التي يعيشون، ويهلك طرفاً منهم.
ولم يجعل الله عز وجل فترة بين معركة أحد وبين القطع، أو مهلة يتدارك فيها الكفار أمرهم، ويثوبون إلى الرشد، ويتبعون الحق، إذ أن هجومهم بالسيف على المسلمين دليل على إستحواذ النفس الغضبية والسبعية الجاهلية، والإنفعال للكفر والجحود على نفوس الكفار.
وجاءت هذه الآية لزجر الناس عن أمور:
الأول: الإصرار على الكفر والجحود.
الثاني: الإعراض عن الدلالات والعلامات التي تؤكد صدق نبوة محمد.
الثالث:الإمتناع عن سماع آيات القرآن، وما فيها من الإعجاز والأحكام، والشواهد على صدق نزوله من عند الله.
الرابع: إتباع الهوى، وملازمة عبادة الأصنام [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ]( ).
ولم ينحصر هذا الزجر بالإنذار والوعيد، بل تعلق بالبطش بالكفار وهلاك قادة وكبراء منهم.
ومن الآيات أن هذا الهلاك جاء على أيدي المسلمين الذين كانوا مستضعفين في مكة، يتلقون صنوف العذاب من مشايخ قريش ذوي السطوة والهيبة في النفوس، والذي يدل عليه قوله تعالى في هذه الآية[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا].
لتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على كسر شوكة الكفار، وسقوط هيبتهم من النفوس، وبداية زوال سلطانهم وأيام الجاهلية , وما يصاحبها من السجايا الرديئة، والعادات القبيحة التي تترشح قهراً وإنطباقاً عن الكفر وعبادة الأوثان وما فيها من تفريط بنعمة العقل، وتضييع لما جبلت عليه فطرة الإنسان.
وتطل بهذه الآية إشراقة سماوية تكون تأسيساً لعلم الأخلاق والسنن الفاضلة، وفيها تهذيب للذات، وتنقيح للسان .
وتدعو الآية إلى الصلاح والإصلاح بلغة التأديب والقطع للكفار، وإكرام المؤمنين والذب عنهم وهو من عمومات الخطاب القرآني للمسلمين [لاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا]( )، لأن قطع طرف من العدو الكافر مرة بعد أخرى سبب لبعث الأمن والسكينة في النفوس، ومناسبة لتقويم السلوك، وتهذيب عالم الأفعال، وتنمية ملكة التقوى التي هي حرز من الأخلاق المذمومة، وواقية من الرذائل.
علم المناسبة
الكبت هو الذل والحزن، ومع أن القرآن جاء بالإنذار والوعيد للكفار وعلى نحو البيان والتفصيل فان مادة (كبت) لم تأت في القرآن إلا ثلاث مرات، وتتعلق بموضوع واحد وهم الكفار، وجاءت في هذه الآية من القرآن، ثم ذكرت مرتين في آية واحدة، وهو نوع إعجاز إضافي للقرآن في باب الألفاظ وتكرارها، ودلالات هذا التكرار، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( )،وجاءت الآية أعلاه بأمور:
الأول: إصابة الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالذل والخزي.
الثاني: توكيد مضامين الآية محل البحث والتي نزلت في السنة الثالثة للهجرة وفي ميدان القتال، ويوم اللقاء مع الكفار، بينما جاءت الآية أعلاه لبيان الأحكام بعد إستقرار دولة الإسلام ودفع شر وكيد كفار قريش.
الثالث:جاءت الآية أعلاه بصيغة الفعل الماضي(كبتوا) بينما جاءت الآية محل البحث بصيغة الفعل المضارع، مما يدل على تحقق الكبت والذل للكفار بفتح مكة، وظهور المسلمين عليهم في المعارك المتعاقبة.
الرابع: في الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء لدلالة الآية أعلاه على الوعد الكريم الذي ورد في الآية محل البحث بكبت وذل ووهن الكفار.
الخامس: الآية دعوة للعلماء والباحثين لتلمس وبيان الشواهد والحجج الواضحات التي تدل على كبت وخزي الكفار، وقطع طرف أو أطراف منهم في الفترة بين واقعة أحد وفتح مكة، ومنها خزيهم في كل من معركة بدر وأحد والخندق، والقضاء على الكفر بتنزيه الحرم ومكة منه، ليكون من مصاديق كبتهم نشر الأمن بالإسلام في ربوع مكة , قال تعالى[وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( )، ويكون فتح مكة عنواناً للأمن للمسلمين والإسلام.
وصحيح أن المتبادر في الآية أعلاه هو القضية الشخصية ودخول الأفراد والجماعة البيت الحرام، إلا أنه لا يمنع من إرادة الطائفة والأمة من المؤمنين وذات الملة السماوية، وصار فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة أمناً للإسلام ولكلمة التوحيد التي دخلت مكة، لتبقى إلى يوم القيامة , وتلك آية إعجازية في مفاهيم القرآن وسعتها، وتعدد مصاديقها، ومعاني الفضل الإلهي في ثناياها والمترشح عنها.
وجاءت الآية من سورة المجادلة بالتشبيه والمماثلة بين ما لاقاه كفار قريش، وما أصاب الكفار في الأمم والأحقاب السابقة، وفيه آية إعجازية وشاهد بإتحاد الموضوع والحكم، وأن الله عز وجل ينصر أنبياءه والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ولا يترك الكفار يعيثون في الأرض فساداً، ويتمادون في الغي والتعدي والظلم.
ومن إعجاز القرآن كثرة الآيات التي تحكي ما لاقاه الطواغيت والكفار عموماً من العذاب المهين مثل فرعون الذي هلك هو وجنوده في أليم، وقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وقوم هود ممن كذبوا الرسل، قال تعالى[وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا]( ).
وجاءت خاتمة الآية أعلاه من سورة المجادلة بالوعيد للكفار مطلقاً [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، في إشارة إلى أن الكبت والذل الذي يلحق الكفارعلى وجوه:
الأول:الطرف من الكفار.
الثاني:ميادين القتال.
الثالث:الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الرابع: الكبت في الحياة الدنيا.
الخامس: الذل والعذاب في الحياة الآخرة.
فجاءت خاتمة الآية أعلاه بالإنذار والوعيد للكفار مطلقاً، وأن العذاب الذي ينتظرهم أشد من الكبت والذل وقطع الطرف، فهو الخلود في النار يوم القيامة، ويكون الذل والخزي مما يتفرع عن العذاب الأخروي.
ولم يرد الكبت في القرآن إلا بخصوص الكفار.
قانون بين القطع والكبت
جاء هذا الشطر من الآية بالعطف والترديد على قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] لبيان أن النسبة بين القطع والكبت الواردين في الآية عموم وخصوص من وجه، وبينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق، ومادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: تعلق كل من القطع والكبت بالكفار على نحو التعيين.
الثاني: القطع والكبت إنذار وتخويف للكفار، سواء على نحو الإجتماع أو التفرق قال تعالى [ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا]( ).
الثالث: لم يفلت الكفار الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أمرين إما القطع وإما الكبت، وكل واحد منهما أذى وضرر كبير.
الرابع: توكيد سوء عاقبة الكفار.
الخامس: ترشح القطع والكبت عن التعدي على الإسلام وقتال المسلمين.
أما مادة الإفتراق , فهي من وجوه:
الأول: القطع أشد وأعظم من الكبت.
الثاني: الكبت أعم من القطع، لأن القطع والهلاك يصيب طرفاً من الكفار، أما الكبت والخزي فيأتي على الكفار جميعاً.
الثالث: القطع والهلاك آية ظاهرة للعيان، كما في قتل صناديد قريش في معركة بدر، والكبت حزن يملأ نفوس الكفار.
ومع أن الآية جاءت بالترديد بين القطع والكبت إلا أن كل واحد منهما سبب وعلة للآخر من غير أن يلزم الدور وتوقف أحدهما على الآخر، بل يكون المعلول للآخر موضوعاً إضافياً , فالقطع الذي يترشح عن الكبت غير القطع الذي يأتي للكفار إبتداء بما يدل على إجتماع قطعين:
الأول: ما يأتي بالذات والأصل.
الثاني:الذي يأتي عرضاً ويترشح عن الكبت.
وكذا بالنسبة للكبت والحزن الذي يلحق الكفار فانه على قسمين:
الأول: الذي جاءت به هذه الآية بقوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ].
الثاني: الذي يأتي عرضاً بالترشح عن القطع والهلاك الذي يصيب الكفار، ولا ينحصر القطع والكبت الذي يأتي للكفار بهذه الأقسام ، لأن إثبات شئ لشئ لايدل على نفيه عن غيره، فانهما مترشحان عن القبح الذاتي للكفر، والإصرار عليه، وطول الإقامة والتلبس بمفاهيمه الخاطئة.
وجاءت الآية بتقدم القطع على الكبت، وهو إعجاز إضافي لها فلم تقل الآية (ليكبت الكفار أو يقطع طرفاً منهم) وفيه مسائل:
الأولى : تقدم القطع زيادة في إنذار الكفار، وتوبيخ إضافي لهم.
الثانية : يحتاج المسلمون النصرة يوم أحد بقطع وهلاك رؤوس من الكفار وصرف أذاهم، فجاءت الآية بتقديم أسباب سلامة المسلمين ، ومقدمات نصرهم.
الثالثة : الآية من عمومات تقديم الأهم على المهم، إذ أن قطع وهلاك الكفار هو الأهم في المقام.
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المسلمين، بإخبارهم عما يكون سبباً لخسارة الكفار المعركة.
الخامسة : منع تسرب الخوف والحزن إلى نفوس المسلمين ، قال تعالى[فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
السادسة :القطع أمر حاضر في ميدان المعركة، والكبت والحزن عام يشمل الكفار رجالاً ونساء، ويأتي شطر منه بعد تحقق نصر المسلمين، وقطع وهلاك طائفة من الكفار.
السابعة : بيان الأثر العملي الحال لنزول الملائكة مدداً، بأن يهلك صناديد الكفار، ويكون هذا الهلاك سبباً لترسيخ حال الحزن والكبت عند الكفار.
الثامنة: القطع بالطرف والكفار الذين يلون المسلمين ويعتدون عليهم، ويكذّبون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويصدون الناس عن التصديق بنبوته، أما الكبت فهو عام يشمل الكفار جميعاً، وكأنه من تقديم الخاص على العام.
التاسعة:بيان بطش الله عز وجل بالكفار، وأول ما ينزل بهم هو القطع والهلاك.
العاشرة: إبتداء نزول القطع كعذاب بالكفار مناسبة وعبرة للباقين منهم للتوبة والإنابة وإصلاح الذات بلحاظ أمور:
الأول: هلاك رؤوس من الكفار شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: في قطع وهلاك صناديد الكفار دليل على صدق نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين كانوا في حال ضعف وقلة ونقص في العدة والمؤونة .
الثالث:رؤية الكفار هلاك أبطالهم في ميدان المعركة شاهد على صدق نزول هذه الآية من عند الله، وأن القرآن حق.
وتبين الآية أن العذاب ينزل على الكفار عموماً لإعتدائهم على المسلمين، ولكن هذا العذاب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وأشده هو القطع والهلاك الذي ينزل على الطرف الذي يلي المسلمين ويهجهم عليهم , ويتعدى على حرماتهم.
قانون إجتماع القطع والكبت
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , ومرآة لعالم الآخرة وعالم الثواب والعقاب، ومن الآيات أن الإبتلاء فيها ليس على كيفية واحدة فهو متعدد الكيفيات والصيغ والمواضيع , ولكنه يتضمن ضابطة كلية وهي التباين والتضاد بين نوع إبتلاء المؤمنين، وإبتلاء الكفار موضوعاً وحكماً وأثراً .
إذ يمد الله عز وجل المؤمنين بأسباب التوفيق والنجاح، ويقرب لهم سبل الفلاح ويهديهم إلى الإستعانة بالصبر، وتكون لهم الفرائض العبادية ضياء وواقية، أما الكفار فانهم يبتلون بالأذى والعناء , وتأتيهم النعم ولكنه يكون نوع إستدراج لهم، ومقدمة للعذاب لأنهم لايعملون بما أمرهم الله، قال سبحانه[إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا] ( ).
وقال مقاتل: نزلت الآية أعلاه بمشركي مكة) ( )، لقد خرج أكثرهم سالمين من معركة أحد، وترك الملائكة والمؤمنون قتلهم يومئذ، في وقت أستشهد فيه عدد من المسلمين، فان بقاء الكفار وعدم تعجيل العقوبة لهم إستدراج لهم , وزيادة في الحجة عليهم بتعديهم على الإسلام، وتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإصرارهم على الكفر، وجحودهم بالمعجزات ومناسبة للتوبة والإنابة ودخول الإسلام، فمن فضل الله على الناس أن يكون ذات الإستدراج رحمة وندباً إلى التدارك واللحوق بالمسلمين، خصوصاً وأن المعجزات والآيات تترى وتتصل وتجذب القلوب والأبصار.
ولا تعارض بين زيادة الإثم في الآية أعلاه، وبين الكبت الوارد في الآية محل البحث , وإن جاء كل واحد منهما بلام العاقبة إذ يفيد الجمع بين الآيتين إجتماع الأمرين معاً، فيزداد الكفار إثماً إلى جانب حال الذل التي هم عليها، وتلك آية في نوع الإبتلاء الذي يمتحن به الكفار، وليكون الكبت هنا نوع رحمة بهم في الحياة الدنيا.
وفي ماهية هذه الرحمة مسائل:
الأولى: إنها دعوة للكفار للتدبر بالنبوة والتنزيل، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
الثانية: زجر الكفار عن مواصلة الهجوم على المسلمين، وتجهيز الجيوش ضدهم.
الثالثة: منع الكفار من الغي والتعدي والظلم، قال تعالى[وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ).
الرابعة: التخفيف عن المسلمين.
الخامسة: جعل الكفار منشغلين بأنفسهم.
السادسة: إزدياد الإثم نوع ذل إضافي للكفار خصوصاً مع آيات الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار، وإدراكهم الحرمان من آيات البشارة وما فيها من الوعد الكريم للمؤمنين، وعدم إنتفاعهم من آيات الإنذار، وما تتضمنه من الإخبار عن الإقامة بالعذاب الأليم في الآخرة.
وكما تتعدد نعم الله عز وجل على المسلمين في ميادين القتال، ويرزقون النصر والغلبة، ويرجعون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجلبون معهم الغنائم، ويفوز بالسعادة الأبدية الذي يقتل منهم، فان الضرر والأذى يتعدد على الكفار، فيصاب شطر من قادتهم في المعركة، وقليب بدر من الشواهد التأريخية عليه، إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرح قتلى قريش يومئذ في القليب، وهي البئر لم تطو.
قال ابن اسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله من جوف الليل وهو يقول ” يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدد من كان منهم في القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقاً، فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا .فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني( ).
ليجتمع القطع والكبت والخزي على الكفار، وليلحق الخزي بين الناس الذين قتلوا منهم، فيخاطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغة التبكيت والتوبيخ، وبمسمع من الصحابة ليكون هذا الخطاب وثيقة تأريخية تبين سخط النبوة على رؤس الكفر الذين أصروا على محاربتها، فمجئ القطع والهلاك لهم لم ينجهم من الكبت والذل والحزن.
فان قلت إن مجئ الآية بحرف التخيير (أو) يدل على الترديد بينهما، فاما القطع وأما الكبت.
والجواب جاءت الآية لبيان ما يلحق الكفار ساعة المعركة، بحيث لا يسلم واحد منهم من أحد الأمرين أعلاه، ولكنه لا يمنع من لحوق وتبعية الذل للقطع، وكذا العكس أي تبعية القطع للذل.
ومع أن الموت خاتمة الحياة فكل ابن آدم ينتظره الموت , وان طالت أيامه في الدنيا، فقد أخبت الآية عن قطع طائفة من الكفار للدلالة على هلاك فريق منهم قبل أوانهم، وسعيهم بإختيارهم لحتفهم، وجلبهم الخزي والذل لأنفسهم، ليجتمع القطع والخزي الذي يلحقهم في دعوة الناس للإسلام، والزجر عن البقاء في منازل الكفر التي لا تأتي للمقيم فيها إلا بالأذى والضرر العاجل والآجل، والدنيوي والأخروي، بمعنى عدم تعلق الآجل منه بعالم الآخرة بل يشمل أيام الحياة الدنيا لنفرة النفوس من الكفر والإصرار على محاربة النبوة وإنكار المعجزات والخروج لقتال المؤمنين ومبارزتهم في ميادين القتال.
وإجتماع القطع والكبت مدد إضافي وعون ظاهر للمسلمين في ميادين القتال، وفي حال السلم، وسبب للأمن من مباغتة العدو .
وأي من الأمور التالية أشد على الكفار :
الأول: قطع طرف منهم.
الثاني: كبت الكفار الذين يعتدون على المسلمين.
الثالث: كبت عموم الكفار.
الجواب كل أمر منها هو الأشد في أوانه وأثره , وليس من حصر لفرد ثابت منها يكون أشد على الكفار بل يتعلق الأمر بالحال ومناسبة الموضوع والحكم، فقد يكون القطع هو الأشد عند المواجهة والقتال لما فيه من هلاك لرجالهم , ومقدمة لهزيمتهم وخسارتهم.
وقد يكون الكبت هو الأشد وذلك عند الرجوع من المعركة بخيبة، وفي حال السلم، ومن الآيات أن القطع يلاحق الكفار في حال السلم والحضر أيضاً وقد منعت قريش النياحة على قتلى بدر لكيلا يقنطوا أو ينشغلوا عن الثأر والإنتقام، نعم القطع أظهر حجة، وأسرع أثراً ونفعاً , لذا قال الله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] ( ).
بحث بلاغي
من إعجاز القرآن تعدد معاني ومضامين الكلمة الواحدة، فجاءت كلمة (يكبتهم) من فعل وفاعل ومفعول به، مع خلوها من اللبس والترديد، وهي حكم وجزاء يحتاج إليه الناس للإعتبار والإتعاظ.
وقد جاء الفعل(يكبت) بصيغة الفعل المضارع التي تدل على الحدوث والتجدد من جهات:
الأولى: كلما برز الكفار لقتال المسلمين لحقهم الكبت.
الثانية: يأتي الكبت على نحو مستحدث وطارئ.
الثالثة: يترشح كبت الكفار في كل نصر جديد يحرزه المؤمنون.
الرابعة: تعدد وكثرة الأسباب التي يأتي منها الكبت والذل للكفار، منها أمور:
الأول:دخول الأفراد والجماعات للإسلام.
الثاني: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من المعركة ويحيط به أصحابه بالألوية البيضاء والسوداء، والرايات ذات الألوان البهيجة التي تعطي دلالات على قبائل ونسب الصحابة، وفخرهم وإعتزازهم بنصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلن ودعوة لإخوانهم وقبائلهم للحوق بهم.
الثالث:توالي نزول آيات القرآن، إذ أن الآية القرآنية لها موضوع وتكون حكماً بذاتها، وتترشح عنها منافع وفوائد أكثر من أن تحصى , وتساهم في قطع طرف من الكفار، وذلهم وكبتهم وإستبانة أسبابه، سواء حال النزول أو مع تقادم الأيام وتعاقب الأجيال , وهو من أسرار القرآن كوثيقة سماوية سالمة من التحريف.
فكما أن نزو ل الآية القرآنية حرب على الكفار، فان أثرها المتصل في النفوس والمجتمعات، وتجلي مصاديق مضامينها في الواقع الخارجي حجة عليهم، وسبب لدخول الحزن إلى نفوسهم، وجذب للناس جميعاً لمنازل الهداية والإيمان.
ومع الفعل المضارع تتضمن الآية الفاعل، ولم يذكر في المنطوق، ولكنه ظاهر في المعنى والمفهوم.
وصحيح أن نظم الآيات وما سبق منها يدل على أن الفاعل هو الله عز وجل وفق الصناعة النحوية، إلا أن هناك أمارة كلامية تحصر الأمر بالله عز وجل وهي أنه لا يستطيع أحد قطع طرف من الكفار وكبتهم وإلحاق الذل والخزي بهم إلا الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( ).
وجاءت آيات القرآن بالدلالة على أن الأمر والمشيئة بيد الله وحده سبحانه، فمن رحمة الله عز وجل بعباده مطلقاً البر والفاجر، عدم قدرة غيره سبحانه على إنزال القطع العام بطائفة من الناس، لأنه حكم من الأرادة التكوينية وفرع الربوبية المطلقة لله سبحانه على الخلائق كلها.
ولم يأت هذا القطع إلا بعد الإنذار المتكرر، والشواهد والمعجزات التي تدل على قبح البقاء على الكفر في زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أراد الله عز وجل له أن يكون بداية الإنعطاف في تأريخ الإنسانية نحو ثبات مبادئ التوحيد إلى يوم القيامة , قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( )، ولبيان أن العلة الفاعلية بيد الله سبحانه، ومن خصائصها عدم إستطاعة الكفار الهرب من القطع، والفرار من الكبت، فهو يدخل إلى بيوتهم ومنتدياتهم وينفذ إلى نفوسهم لتمتلأ بالحسرة والحزن.
وجاء الضمير (الهاء) لإفادة المفعول به، ويتضمن معنى العموم لأصالة الإطلاق , ونزول العذاب بالكفار عامة وهو على أقسام:
الأول: الكبت الشخصي الذي يصيب الفرد من الكفار.
الثاني: الكبت والذل العام الذي يأتي للكفار على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الثالث: إجتماع الكبت الشخصي والعام في الأثر والتأثير , وأخذ الكفار بأشد الأحوال.
قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا]
تتألف هذه الآية من أركان أربعة , ولكل ركن منها مصاديق متجددة، وكل فرد من هذه المصاديق معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الأركان هي :
الأول: قطع طرف من الكفار، وهلاك بعض رؤسائهم، وإبانة طائفة منهم.
الثاني: إصابة عموم الكفار بالذل والحزن والكبت.
الثالث: إنصراف الكفار من المعركة منهزمين.
الرابع: حرمان الكفار من الظفر ونيل ما جاءوا من أجله.
ومن إعجاز الآية في المقام وجوه:
الأول: إجتماع هذه الأركان في الآية مع قلة كلماتها، فكل كلمة أو كلمتين مدرسة عقائدية تبين البطش الإلهي العاجل بالكفار، وجاءت آيات القرآن بالإنذار والوعيد في الآخرة، وترى بعض الكفار يتلقى آيات الوعيد بالخلود بالنار بالجحود بالمعاد، قال تعالى[وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ]( ).
وكان الكفار ينسبون موتهم إلى تعاقب الليل والنهار، وعجز البدن عن مقاومة مؤثرات الزمان ولا يقرون بملك الموت وقبضه للأرواح،فجاءت الآيات بلزوم الإيمان بالملائكة،في آيات عديدة منها قوله تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ) .
وكانوا يضيفون الحوادث للدهر،جهلاً وإستكباراً منهم , وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم (لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ) ( )، أي أن الله عز وجل هو الذي يقدر الأمور، ويجري الحوادث.
وجاءت الآية محل البحث لبيان نزول العذاب العاجل بالكفار، وإنعدام الفترة بين تعديهم وقتالهم للمسلمين وبين نزول البلاء بهم.
الثاني: تعدد وجوه وضروب العذاب العاجل النازل بالكفار، ليكون مرآة ومثالاً لما يلقونه يوم القيامة.
الثالث: بيان حقيقة وهي تغشي العذاب للكفار على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الرابع: يواجه الكافر الذي ينجو من القطع الكبت والذل والهوان، ويرجع بالخيبة والحرمان.
الخامس: تفيد الآية في أطرافها الأربعة القطع بعدم حصول الكفار على بغيتهم، وعجزهم عن الظفر بغايتهم من إستئصال المؤمنين.
وتدل الآية على الملازمة بين الكبت والإنقلاب بحسرة وحرمان، وترشح هذا الإنقلاب عن الكبت والحزن والذل، وكأنه من العلة والمعلول، وعدم تخلف المعلول عن علته، فمع الكبت والذل يكون أمران:
الأول: إنصراف الكفار ورجوعهم إلى أهليهم، وعدم بقائهم مشرفين على المدينة يواصلون التهديد والتخويف، وما يسببه هذا التهديد من تعطيل للأعمال، وبعث للخوف، وبذل المسلمين الوسع للحيطة والحذر والمرابطة ، فما أن تنقضي المعركة حتى يولي الكفار وجوههم لايلوون على شئ إلى أن يدخلوا بيوتهم , وهو من مصاديق خاتمة الآية [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
الثاني: إقتران الرجوع بالخيبة والحرمان، لتكون العاقبة العاجلة للكفار, على وجوه:
الأول: الكبت والذل والهزيمة.
الثاني: النقص الظاهر في رجالهم , وتعلق هذا النقص بالأبطال منهم , ليكون أبلغ في الحجة والبرهان
الثالث : الإنقلاب والإنصراف القهري من ساحة المعركة[وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ]( ).
فلا يستطيع الكفار البقاء في ميدان المعركة ولا المرابطة والمطاولة والصبر، وتجلى هذا الأمر في معارك الإسلام الأولى، من جهات :
الأولى: لجوء الكفار إلى الفرار والهزيمة عند إبتداء معركة بدر، وهجوم المسلمين عليهم، مع كثرة عدد الكفار وخيلهم وسلاحهم وعدتهم.
الثانية: جاء الكفار في معركة أحد طلباً للثأر مع الإتعاظ من تجربة معركة بدر وما حلّ بهم من الكبت والخزي، وإستعدوا للمعركة بثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر كما تقدم ذكره، وجاءوا بنساء قريش لضرب الدفوف, ونظم الشعر، وشد العزائم.
وما إن بدأت المعركة حتى التجأوا للهزيمة والفرار، وإنقسمت النسوة بين مولولة خائفة، وبين التي تهجو المشركين على فرارهم، وخفتت أصوات الطبول ، وعلت صيحات الله أكبر , ومع حصول ثغرة الجبل وهزيمة الشطر الأكبر من المؤمنين فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقى في مكانه وسط المعركة إلى أن رجع له أصحابه وقاتلوا والملائكة دونه، أما الكفار فلم يصبروا في المعركة بل إنسحبوا منهزمين , وليس عندهم إمام يذبون عنه , أو يلوذون به، قال الإمام علي (كنا إذا إشتد البأس ، وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله ولذنا به( ).
ومن الآيات أن الكفار لاموا أنفسهم حين الهزيمة وأرادوا الرجوع إلى المعركة ولكن الكبت والذل يملأ نفوسهم، والملائكة لهم بالمرصاد , قال تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الثالثة: جاء الكفار في السنة الخامسة للهجرة بجيوش عظيمة , فأحاطوا بالمدينة ولا يفصل بينهم وبين المؤمنين إلا خندق، فكان مصداقاً وسلاحاً لنزول الكبت بالكفار للحيلولة دون تحقيق رغائبهم في الإجهاز على المسلمين، والثأر لقتلاهم وهيبتهم في معركة بدر وأحد، وتلاحظ الزيادة البيانية المتصاعدة في عدد جيوش الكفار، على وجوه :
الأول: ألف رجل في معركة بدر السنة الثانية للهجرة.
الثاني: ثلاثة آلاف في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة.
الثالث : عشرة آلاف في معركة الأحزاب وهي ذاتها الخندق .
ثم عجزوا بعدها عن صد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة عندما توجه وأصحابه إلى العمرة، وكان هذا التوجه بداية النهاية للشرك في الجزيرة وإلى يوم القيامة ، وإنفراط عقد ولاء القبائل لها، والإدراك العام بفقدانها الشأن والهيبة مطلقاً، ليأتي فتح مكة مصداقاً عملياً يؤكد صدق هذه الآية، وبقاء مضامينها القدسية متجددة، وهو من أسرار تلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب، وأكثرها جهرية , ليسمع الناس ما في الآيات من البشارة والإنذار منطوقاً ومفهوماً.
الرابعة: لم تشهد السنة السادسة والسابعة للهجرة هجوماً من الكفار على المدينة، وواصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث السرايا والدعاة , ودخل الناس في الإسلام بمرأى ومسمع من قريش.
الخامسة: توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة لأداء العمرة وخروجه وأصحابه من غير سلاح يعتد به، وبذلت قريش وسعها في منع دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة في تلك السنة.
السادسة: دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السابعة مكة في عمرة القضاء، أي أنها بدل عن العمرة التي منعته قريش عنها، وتسمى أيضاً عمرة القصاص، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إقتص من الكفار، ودخل مكة في ذات الشهر الحرام الذي صدوه فيه قبل عام ومنعوه وأصحابه من أداء مناسك العمرة، ( عن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله في ذلك[وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ]( ).
وفي كل من العمرتين قطع وكبت وخيبة للكفار، فان قلت لم يحصل قتال فيهما، وجاءتا في شهر حرام فكيف يكون فيهما قطع للكفار، والجواب بين القتال والقطع عموم وخصوص مطلق، فكل قتال بين المؤمنين والكفار هو قطع للكفار وسبب لقطعهم وليس العكس، وكذا النسبة بين القطع والهلاك، فكل هلاك لمقاتلين وشجعان من الكفار هو قطع لهم، ولكن ليس كل قطع يصيبهم هو هلاك لهم، فقد يأتي القطع باسلام رجالات وصناديد وكبراء من الكفار، أو إعتزالهم القتال , لذا فمن المعاني اللغوية للقطع الإبانة وفصل الجزء عن الكل.
ويمكن تقسيم القطع تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: القطع الذاتي، وهو الذي يصيب ذات الأفراد بالقتل والهلاك.
الثاني: القطع العرضي، وهو الذي يصيب الكفار عامة، بدخول فريق منهم الإسلام، وتخلي الأعوان والأنصار عنهم.
ويتصف دخول أفراد من الكفار الإسلام بأن القطع قد يحدث في الطرف الذي يلي المسلمين، أو يصيب الوسط أو الأطراف الأخرى لهم، وفيه حينئذ وجهان:
الأول: إنه من عمومات القطع الوارد في هذه الآية الكريمة.
الثاني: القدر المتيقن من الآية هو القطع في جماعة الكفار القريبين والمواجهين للمسلمين.
والصحيح هو الأول، لأن الطرف يأتي بمعنى القطعة والطائفة، والجماعة التي يكون لها شأن مستقل، وأثر مشترك في الفعل وما يترشح عنه، لذا لم تقل الآية (ليقطع طرف الذين كفروا) بل جاءت بصيغة التنكير في جهة وذات الطرف.
وهناك ملازمة بين نصر المسلمين في ميدان المعركة وتجلي آيات المدد الملكوتي لهم، وشيوعه بين الناس، ودخول أهل القرى والقبائل البعيدة عن المدينة المنورة الإسلام جماعات , قال تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، ليكون معنى (ليقطع طرفاً) على وجوه:
الأول: هلاك بعض صناديد قريش.
الثاني: إسلام جماعات وطوائف وقبائل من الكفار عند سماع نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثالث: إمتناع قبائل وجماعات من الكفار عن نصرتهم وإعانتهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وليكون إسلام القبائل وتخلي بعضها عن نصرة قريش من أسباب خيبة كبار الكفار، فتصبح خيبتهم وحرمانهم من النصر أمراً متجدد المصاديق، ومتعدد الشواهد والأفراد، ويصير على وجوه:
الأول: خيبة الكفار في ميدان المعركة برؤية فرسانهم يخرون صرعى في المبارزة.
الثاني: حرمانهم من قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار.
الثالث: الرجوع من المعركة مع خسارة في الرجال والمؤون، وصيرورتها غنائم للمسلمين.
الرابع: إنفاق قريش الأموال الطائلة على المعركة، والإستعداد لها، وتهيئة مقدماتها، وهم أهل تجارة، مما يخلف الحسرة في نفوسهم لفقدان الأموال، والعجز عن توظيفها في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الخامس:مواجهة رؤساء الكفر العائدين من المعركة بأخبار دخول عدد من الأتباع والعبيد الإسلام، ثم يفاجئون بدخول الإسلام إلى بيوتهم وخدور حرائرهم.
ولو أسلم الكافر هل تبقى الحسرة في نفسه على خسارته الأموال في محاربة الإسلام، كما في دخول رؤساء قريش الإسلام يوم فتح مكة، الجواب قد أنعم الله عز وجل على عموم المسامين بالغنائم بما يجعلهم يدركون ملازمة الخير والنعم الكثيرة لدخول الإسلام.
فجاءت معركة حنين بعد فتح مكة مباشرة، ليعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم من أشراف قريش إبلاً كثيرة، فقد أعطى مائة بعير لكل من أبي سفيان وإبنه معاوية وحكيم بن حزام، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو، الذي أبرم صلح الحديبية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس التميمي، وصفوان بن أمية وغيرهم، وأعطى رجالاً آخرين من قريش أقل من مائة بعير( ).
ولم يعط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار من غنائم حنين شيئاً، وكان فيه إحتجاج وبيان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبرضا الأنصار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي الغايات العظيمة لقسمة الفيء فيما بعد بما يثبت معالم الدين في الجزيرة ويفتح أبواب الغنائم على الأنصار والمهاجرين , والتابعين .
فجاء إقتران الخيبة والحرمان لإنقلاب الكفار سبباً لإستدامة الكبت والحزن , وإستقرار اليأس في نفوسهم، وإظهارهم العجز عن نيل الغايات التي أرادوا تحقيقها بخروجهم للقتال.
وإنقلاب الكفار بذاته من المعجزات الحسية، والشواهد العملية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن معاني الإنقلاب تحويل الشئ عن وجهه , لتكون هزيمة الكفار مناسبة لإعتبارهم ومن خلفهم وإدراك حقائق وهي:
الأولى: تجلي المصاديق العملية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: إنغلاق أبواب النصر أمام قريش، فجاءت الآية بانقلابهم خائبين، لتدل في مضامينها على تحول الشأن والجاه عنهم، وإنصراف الخير والسلطان إلى المسلمين.
الثالثة: قطع طرف من الكفار أمر من عند الله عز وجل، وليس له حد، إذ يتجدد بوجود أطراف للكفار غير التي تقطع، وبروز فرسان من الكفار في مواجهة المسلمين، ليكون القطع هو الذي ينتظرهم في ميدان المعركة وخارجها بلحاظ أن هذه الآية قانون ثابت، وآية متجددة لذا جاءت بصيغة الفعل المضارع (فينقلبوا) وفيه رحمة بالكفار بلحاظ أن هذه الصيغة ومفاهيم التجدد فيها زجر متصل من التعدي على المسلمين.
وقد يكبت ويذل العدو، ولكنه يبقى في ميدان المعركة وينتشر حواليها ويتربص الفرص للوثوب من جديد، ويجعلك على حذر وفي حال رباط دائم، ويكون المصر الذي أنت فيه كالثغر الذي يخشى عليه من مباغتة العدو، مع إحتمال وصول مدد له.
فجاء هذا الشطر من الآية سكينة للمؤمنين بأن الكبت والذل لايغادر الكفار حتى ينقلبوا عن وجههم، ويرجعوا على أدبارهم وهو يصاحبهم لايفارقهم، وكما في قوله تعالى [يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، أنها لو كانت برداً فقط لجمد إبراهيم، ففي المقام لو إنحصر الأمر بالكبت لبقى المسلمون في مواضعهم وواصلوا القتال، ولكن بطش الله بالكفار شديد، وهو سبحانه يأخذهم بأشد الأحوال، فينهزمون جزعاً وفزعاً، وهو من المدد الإلهي للمسلمين، وعمومات قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، فلا يخاف المسلمون من العدو بعد إنقضاء المعركة لقاعدة كلية وهي إنقلابه محروماً خائباً.
وهل يستطيع الكفار الصبر في ميادين المعركة , الجواب لا، وهذه الآية تؤكد هذا النفي، لان الله عز وجل هو الذي يمنعهم من البقاء في ميدان المعركة، ويدل الإنقلاب والإنصراف المذكور في هذه الآية على عجز الكفار عن الإجهاز على المدينة من باب الأولوية القطعية، وهو من إعجاز الآية لإرادة معنى الرجوع من الإنقلاب، ويؤكده الواقع الخارجي ونتائج معارك الإسلام الأولى.
فلم يبق الكفار في ميدان المعركة سواء في بدر أو أحد أو الخندق، وأقصى ما حققوه في القتال يوم أحد، في كرة لهم لم تدم ساعة من نهار , إذ بادروا إلى الإنصراف بخزي، قال ابن هشام: ثُمّ إنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَقَالَ أَنِعْمَتْ فَعَالِ وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ يَوْمٌ بِيَوْمِ أَعْلِ هُبَلُ أَيْ اظْهَرْ دِينك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُمْ يَا عُمَرُ فَأَجِبْهُ ، فَقُلْ اللّهُ أَعَلَى وَأَجَلّ ، لَا سَوَاءَ قَتْلَانَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النّارِ . فَلَمّا أَجَابَ عُمَرُ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ هَلُمّ إلَيّ يَا عُمَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعُمَرِ ائْتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ ؛ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْشُدُك اللّهَ يَا عُمَرُ أَقَتَلْنَا مُحَمّدًا ؟ قَالَ عُمَرُ اللّهُمّ لا، وَإِنّهُ لَيَسْمَعَ كَلامَك الآنَ( ).
ويبين هذا الخبر أن المشركين هم الذين إبتدأوا بالإنصراف، ويتجلى كبتهم وخزيهم وخيبتهم واضحة بالإخبار عن سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه حي خلافاً لما كان يدور بين صفوف المشركين بأنهم قتلوه وهو من الشواهد على أن الكبت سابق للإنقلاب.
ونادى أبو سفيان عند الإنصراف: إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ : قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ( ).
ولكن الكفار لم يخرجوا للموعد، وتخلفوا عنه، وهو من مصاديق الخيبة التي رجعوا بها، وشاهد بأن قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] مصاحبة الخيبة لهم في حال السلم والحضر بحيث يعجزون عن الوفاء بوعدهم وتهديدهم باعادة الكرة في القتال.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني خلف العدو لبعث الفزع والخوف في نفوس المشركين، ولم ينقطع المسلمون في تلك الفترة عن التبليغ وسراياه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في الكتائب بنفسه ، ويبعث السرايا.
ونزلت الآية محل البحث في واقعة أحد، وتتضمن بشارة إنسحاب الكفار بذلة وهوان إلا أن هذا لم يمنع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أخذ الحائطة ورصد أخبار العدو خشية توجهه إلى المدينة.
وفي الآية دعوة للعلماء والباحثين لدراسة وبيان حال الكفار في المعركة وهزيمتهم فيها، وعدم صبرهم لحر السيوف، وأسرار وأسباب جزعهم وسرعة إنسحابهم، وهي على أقسام:
الأول: ماهو خاص بالكفار ذاتهم وغرورهم وإمتلاء نفوسهم بالفزع، وعجزهم عن مواصلة القتال.
الثاني : ما يتعلق بالمؤمنين، وإخلاصهم في الجهاد في سبيل الله، والفناء في مرضاته , وتحليهم بأبهى معاني الصبر والمرابطة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ).
الثالث : جهاد ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وإمامته وحسن قيادته للجيش , وعصمته بفضل الله من العدو وكيده وبطشه.
الرابع : المدد الملكوتي للمسلمين.
وهذه الآية من الوعد والوعيد منطوقاً ومفهوماً، فهي وعد للمسلمين بهزيمة عدوهم أمامهم، ووعيد للكافرين مركب من أمور:
الأول: عجز الكفار عن الثبات في ساحة المعركة، وصد هجمات المسلمين، لتبين الآية حقيقة وهي أن الوعد والوعيد لا ينحصران بعالم الآخرة، بل يشملان الحياة الدنيا , قال تعالى[وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ]( )، في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووعد كريم بالإنتقام من الكفار بالعقوبة في حياته(وقالوا ومنها وقعة بدر)( )، وسواء جاء عذابهم في حياة النبي أو بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى فأنهم لا يفوتون الله، ولا يستطيعون النجاة من العذاب وهو من مصاديق قوله تعالى[فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ]( ).
الثاني: ساحة المعركة مرآة للجزاء يوم القيامة والعذاب الأليم الذين ينتظر الكفار.
الثالث: من معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] رجوع الكفار إلى الله عز وجل خاسرين محرومين من رحمة الله يوم القيامة، والتي يكون الناس في أشد الحاجة لها.
وبين الإنقلاب والرجوع إلى مكة في المقام عموم وخصوص مطلق، فكل رجوع هو إنقلاب، وليس العكس، فقد ينقلب الكفار منهزمين فيحصل القتل الذريع فيهم، سواء كان الإنقلاب بسبب شدة وطأة هجوم المسلمين، وعجز الكفار عن الثبات في مواضعهم وهو الغالب , أو بسبب قتل صناديد الكفار في المبارزة، وجزع الكفار، وإدراكهم لإنعدام الموضوع الذي يقاتلون من أجله، وهذا الإدراك تكون له موضوعية، وتظهر آثاره عندما يحمى ويشتد القتال، وتقع القتلى في صفوف المشركين.
ترى لماذا لم تقل الآية (فينهزموا)، خصوصاً وانه جاءت مادة (هزم) في القرآن ثلاث مرات، قال تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ]( )، فيه وجوه:
الأول: بين الهزيمة والإنقلاب عموم وخصوص مطلق، فكل هزيمة هي إنقلاب وليس العكس.
الثاني:إرادة المعنى الأعم، وشمول الإنسحاب من ميدان المعركة مطلقاً، والإشارة إلى واقعة أحد، فقد إنهزم الكفار في أول المعركة، ثم حصلت ثغرة الجبل، وصار المؤمنون في حال دفاع عن النفس.
الثالث: لفظ (فينقلبوا) من فرائد القرآن، فمع وجود نظائر لهذه الكلمة إلا أنها قاصرة عن إستيفاء المعاني والدلالات التي تتضمنها هذه الكلمة بلحاظ مناسبة الحال والمقال.
الرابع: موضوعية صيغة الفعل المضارع (فينقلبوا) في تعدد مواضيع الآية الكريمة , وتجدد إنقلاب الكفار خائبين خاسرين.
الخامس: قد ينهزم الجيش، ولكنه يجمع صفوفه ويعاود الكرة أو يباغت العدو، أو يرجع إلى فئة أو يأتيه مدد، أما الإنقلاب فهو إخبار عن الإنصراف والرجوع.
وجاء قيد (خائبين) ليؤكد ماهية الإنقلاب، وإنه رجوع إلى الأهل والمصر والموضوع الذي خرجوا منه، وإنتفاء القدرة على العودة الآنية للقتال، ويتصف المؤمنون بخصوصية وهي أن رجع عدوهم للقتال فان الملائكة له بالمرصاد , قال تعالى في إحتمال عودة قريش للقتال يوم أحد [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
وبلحاظ أن الإنقلاب هو تحويل الشئ عن وجهه يكون معنى (فينقلبوا) على وجوه:
الأول: إرادة المعنى الأعم للإنقلاب فيتضمن إنصراف الكفار عن العزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثاني: إنصراف الكفار عن تعذيب الذين يختارون الإسلام من أبنائهم وعبيدهم وأهل مكة مطلقاً.
الثالث: ترك الكفار العناد والإصرار على السخرية بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستكبار عنها لتجلي أفراد منها في ميدان القتال.
الرابع: الإنسحاب من أرض المعركة والرجوع إلى مكة.
الخامس: ترك القتال والحرب وتحريض وحشد القبائل لقتال المسلمين.
السادس: إنقلاب الكفار على رؤساء الضلالة الذين ساقوهم في الباطل والغواية، لذا كسرت معركة بدر وأحد شوكة الرؤساء من قريش.
السابع: مغادرة الحياة الدنيا، والإنقلاب إلى الآخرة، والرجوع إلى الله عز وجل , وفي التنزيل حكاية عن السحرة بعد إسلامهم وتخويف فرعون لهم بقطع الأطراف والصلب [قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ]( ).
قانون “الفاء” في “فينقلبوا”
يتكون قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا] من :
الأول : حرف عطف.
الثاني : فعل مضارع .
الثالث : فاعل, وهو واو الجماعة.
وجاءت الفاء لبيان التعقيب، وأن الثاني يأتي بعد الأول من غير مهلة، ولم تقل الآية (وينقلبوا) لتكون الفاء في المقام على وجوه:
الأول: تبعث الفاء السكينة في نفوس المؤمنين، وتطرد الخوف من إحتمال عودة العدو، أو وصول مدد له، ويحتاج المقاتلون متحدين ومتفرقين السكينة عند نهاية المعركة، والمؤمنون أولى بها من غيرهم، لذا جاءتهم هبة سماوية بحرف عطف نازل من عند الله، وبما يفيد القطع وجعل السكينة ملكة عند المؤمنين، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( ).
الثاني: جاءت الفاء بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهزيمة العدو، وإنتهاء المعركة.
الثالث: في الفاء دعوة للمؤمنين بدفن قتلاهم ، ومعالجة الجرحى، وتنظيم صفوفهم والإلتفات إلى أداء الصلاة، لأن المشركين لن يعودوا.
الرابع: إنها تعليم وإرشاد سماوي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ببيان البطش الإلهي بالكفار ولجوئهم للفرار من غير إبطاء (وفي الحديث: أدبني ربي فأحسن تأديبي( ).
الخامس: هذه الفاء دليل على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لإتصافهم بخصوصية وهي إنهزام عدوهم عند اللقاء، وإنقلابه ورجوعه إلى بلده خاسراً محروماً من الغايات الخبيثة التي خرج من أجلها.
وفي الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الانبياء قبلى، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبلى، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة( ).
السادس: تزيد الفاء المسلمين يقيناً إلى يقينهم كما تدل عليه الآية أعلاه، فمع كثرة جيوش الكفار، وتفوقهم بالعدد والعدة على المسلمين فانهم يولون الأدبار , ولم ولن يقفوا إلا عند أهليهم.
ومع طول المسافة بين المدينة ومكة المكرمة فلم يحدثنا التأريخ بأن الكفار أقاموا في طريق العودة والرجوع، وهو من مصاديق هذه الآية ومجئ كلمة (فينقلبوا) وما فيها من معنى المصير إلى الأهل.
السابع: لقد أراد الله عز وجل لشريعة الإسلام البقاء إلى يوم القيامة، وإظهار سلطانه، وتثبيت دولته، فرزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم النصر قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( )، وهزيمة العدو أمامه من مصاديق النصر العزيز الذي لايستطيع أي جبار عنيد أن يصمد أمام هجوم المؤمنين.
الثامن: الآية مناسبة كريمة لتلقي المسلمين الفرائض والأوامر الإلهية بالقبول والرضا والإمتثال، والنواهي بالتقييد والإلتزام.
التاسع: تمنع الفاء من الجدل والخلاف بين المسلمين لإنصراف العدو وإنقلابه على عقبه بخزي ,وترشح الذلة على هذا الإنقلاب على نحو الإنطباق, بلحاظ أن الكفار هم الذين زحفوا وإختاروا القتال , وعدم نفع كثرتهم وعدتهم لهم.
العاشر: جاءت الفاء في الآية الكريمة دعوة للمسلمين للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر على نعمة النصر، وهزيمة العدو.
الحادي عشر: هزيمة العدو مصداق للخزي والذلة التي لحقتهم، جيشاً وأفراداً.
الثاني عشر: لقد همت طائفتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجبن والخور والفزع، قال تعالى [ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
وجاء قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا] من المصاديق العاجلة لولاية الله عز وجل للنبي والمؤمنين بأن جعل عدوهم ينقلب وينسحب منهزماً فزعاً لينتفي معه سبب الهم بالفشل، وتلك آية في النعم الإلهية على المسلمين، فجاءت هزيمة الكفار لأمور:
الأول: منع صيرورة الهم بالفشل عند فريق من المؤمنين إلى تحقق الخور والجبن واقعاً.
الثاني: إنه واقية دون همّ غير الطائفتين بالفشل، فلم تظهر أمارات الجبن والخور على باقي طوائف المؤمنين من الأنصار والمهاجرين:
الثالث: سلامة الطائفتين من الهم بالفشل , وإنتفاء العزم على الفرار في معارك الإسلام اللاحقة، لذا كان أفرادهما يتفاخرون بنزول الآية فيهم لإخبارها عن ولاية ونصرة الله لهما، وما في هذه النصرة من الإكرام والشأن والعز.
الثالث عشر: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشواهد الخارجية التي تتعلق بأعدائه إذ يصابون بالخيبة ويبادرون إلى الفرار.
الرابع عشر: صحيح أن الكبت أدنى مرتبة من القطع الذي يعني الإبانة والهلاك في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( )، ولكن كبت الكفار يترشح عنه إنصرافهم وإنسحابهم من المعركة.
الخامس عشر: يدل ذكر الفاء في إنصراف الكفار، على أنه فرار وإنسحاب غير منظم، وتفيد أخبار المغازي أن الكفار كانوا يفرون من ساحة المعركة، ويولون الأدبار ثم لايعودون إلى المعركة، وهو من مصاديق مجئ الفاء في الآية، وأن إنقلابهم بخزي وذل.
السادس عشر: الكبت من الكلي المشكك، ويكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، وجاءت الفاء لبيان أن الكبت الذي يصيّر الله به الكفار أشد أنواع الكبت بحيث لايستطيعون معه البقاء في ميدان المعركة بل يولون الأدبار، ولايلتفتون إلى ما يفقدونه بالهزيمة من الشأن والجاه والأموال.
السابع عشر: من منافع الفاء في الآية دعوة الناس للإسلام، وجعلهم ينصتون لآيات القرآن ويتدبرون في دلالاتها وأسرارها القدسية، ولإصابة الكفار بالكبت والذل وسرعة مغادرتهم ميدان المعركة بغير إنتظام مع ما عرف عن قريش والعرب عموماً من الصبر والتحمل والمطاولة.
وإجتماع الكبت وسرعة مغادرة الكفار المعركة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمدد الإلهي له.
الثامن عشر: قد يسأل الناس عن الأثر الخارجي، والدليل الحسي لنزول الملائكة، فجاءت هذه الآية لبيان طرف من المصاديق العملية لنزولهم بتجلي قانون ثابت يستغرق كل المعارك بين المسلمين والكفار بأن يلجأ الكفار إلى الفرار بعد بدأ المعركة بقليل، فمع أن الكفار حققوا مكاسب في معركة أحد إلا أنهم إنسحبوا في نفس اليوم، اما الطرف الأخر الذي يؤكد نزول الملائكة الأثر الذي يظهر على المسلمين وشكرهم لله عز وجل، وإطمئنانهم للنصر لذا جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]( ).
التاسع عشر: التخفيف عن المسلمين في العودة المبكرة إلى بيوتهم وأعمالهم ومزارعهم، وتلك آية لم تفز بها أمة من الموحدين من قبل لاسيما وأن معارك الإسلام الأولى جرت بالقرب من المدينة المنورة وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتولي قيادات الدول والجيوش في هذه الأزمنة مسألة التعجيل بعودة الجنود إلى ثكناتهم( )، وأهليهم عناية خاصة، حتى عند التخطيط والإستعداد لدخول المعركة، ويقدمون التنازلات ويستغنون عن مكاسب عديدة من أجل تحقيق هذا الهدف، ويدركون المخاطر الجسيمة التي تنجم عن ترك الجنود في ميادين القتال.
وقد أنعم الله عز وجل على رسول الله صل الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالعودة في نفس اليوم إلى المدينة، أو أنهم في ذات اليوم في طريقهم إليها، وقد أرسلوا البشير مقدمة لدخولهم لها سالمين ظافرين، لأن الفاء جاءت في هذه الآية حرزاً للمؤمنين، وواقية من مباغتة العدو لهم.
العشرون: في الفاء درس وتحذير للكفار في بلدانهم وقراهم ممن لم يحضر المعركة بأنها لهم بالمرصاد، سواء خرجوا للقتال أو بعثوا بالمدد والسلاح، أو ساهموا بالأموال في قتال المسلمين، وورد في التنزيل دعاء موسى عليه السلام على فرعون وملائه [رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ]( )، لكيلا ينتفعوا بها، ولا تكون وسيلة لتعذيب بني إسرائيل، (وقال مجاهد و قتادة و عامة أهل التفسير صارت جميع أموالهم حجارة حتى السكر و الفانيذ( ) ( ).
وأنعم الله عز وجل على المسلمين بمبادرة الكفار إلى الإنقلاب والإنصراف من المعركة ,ومن فضل الله على المسلمين أن أموال الكفار في المعركة صارت غنيمة بأيديهم لمقام الفاء في هذه الآية وعجز الكفار معها عن حمل أمتعتهم وأسلحتهم، والكبت العام الذي شملهم على نحو العموم الإستغراقي، وتعقب الإنقلاب للكبت والخزي وقتل صناديدهم، وما يبعثه هذا القتل من أفراد إضافية للكبت الذي حلّ بساحتهم من غير أن يتعارض أو يفنى فيه أي في الكبت الذي جاءهم بالأصل والذات بقوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ]، بل يكون في طوله، وزيادة فيه .
ومن الأسباب التي تجعل الكفار لا يلتفتون إلى شيء شعورهم العام بالحاجة إلى الفرار، ليقوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيعها على المؤمنين، ويدخل الكفار الإسلام بالشهادتين ، وتوظف تلك الأموال في سبيل الله.
لتكون الفاء في المقام على وجوه :
الأول : إنها رحمة بالمسلمين
الثاني : موعظة للناس مطلقاً.
الثالث : إنها مقدمة وبشارة زيادة عدد المسلمين ، وتنامي قوتهم، ومادة للوفرة في أسلحتهم ومؤنتهم , وسبيل لزيادة أموالهم .
الرابع : إنها دعوة للمسلمين للصبر والدفاع , وإزاحة لأسباب الخوف من الكفار وزهوهم وخيلائهم , قال تعالى [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا]( ).
الحادي والعشرون: الفاء الواردة في هذه الآية ذخيرة وكنز عند المسلمين إلى يوم القيامة، فما أن يقوم عدو بالتعدي عليهم وعلى ثغورهم وحرماتهم حتى تكون هذه الفاء حاضرة لتكون من الإرتباط الشرطي في المقام.
الثاني والعشرون: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وهذه الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، ولا تنتفي مع الكثرة والتعدد، فتصاحب الحاجة الطائفة والأمة، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين تهيئة أسباب ومستلزمات ما يحتاجون إليه عند ملاقاة الأعداء , ومن هذه الأسباب الفاء الواردة في هذه الآية لما فيها من البشارة بإنصراف العدو بكبت وذل.
الثالث والعشرون: يفسر القرآن بعضه بعضاً، والفاء في هذه الآية تفسير وبيان لمضامين قرآنية كثيرة , وهي خير محض لأجيال المسلمين والمسلمات يبعث الحزن في نفوس الكفار , وهو من عمومات الحسنة في قوله تعالى[إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ]( ).
الرابع والعشرون : لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالصبر في مواطن القتال ومطلقاً، وجاءت الفاء في هذه الآية لتبين عاقبة الصبر ورشحة من رشحات حسن توكل المؤمنين على الله بإنصراف أعداء الله ورسوله خائبين محرومين من تحقيق غاياتهم الخبيثة، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
وجعل الله عز وجل(الفاء) في هذه الآية لتوكيد سلامة المسلمين من كيد الكفار، إذ يجّهزون الجيوش العظيمة، ويقطعون مئات الأميال على الرواحل, وسيراً على الأقدام في أرض وعرة جرداء , وينفقون الأموال الكثيرة في إعداد الأسلحة والمؤون.
وحالما تبدأ المعركة تطالعهم (الفاء) في هذه الآية والتي تنبأ عن إنعدام المهلة بين بداية المعركة وإنصراف الكفار أذلاء يتغشاهم الحزن والحسرة، وهو من أسرار ما ورد في التنزيل على لسان إبراهيم [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( )، من وجوه:
الأول: يسير أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين يريدون قتاله في أرض قاحلة , ليس فيه زرع ونخيل مما يزيد من المشقة عليهم، ويؤدي إلى ضعف الهمة عندهم، وهزال دوابهم.
الثاني: إنه مناسبة للتدبر بالآيات لخلو الطريق من أسباب الزينة والنعم والطيبات التي تشغل الإنسان.
الثالث: عزوف الدول العظمى آنذاك عن تجهيز الجيوش للقضاء على النبوة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لخلو الجزيرة من المنافع الإقتصادية الكبيرة والغنائم التي تستحق تسيير الآلاف من الجيوش الذي تنهكهم شدة حر الجزيرة وقلة المؤون فيها , وإحتمال إنسحاب وخروج النبي محمد والمؤمنين من المدينة , ولم يعلموا أن الله عز وجل جعل كنوز الأرض في تلك الأرض كما في نعمة النفط في هذا الزمان ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
لتكون أرض الجزيرة الأولى في العالم من حيث غزارة الإنتاج والتصدير بلحاظ تعدد دولها، وتقارب آبارها، يكون عصب الإقتصاد العالمي بيد المسلمين ويتعلق بأرضهم، وكأنه مرآة لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنها الضياء الذي يشع على أرض المعمورة، وأن الأرض دحيت من تحت الكعبة , وهومن بركات وأسرار قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ).
وعزوف الدول العظمى آنذاك لم يكن عن غفلة وجهل، إذ قصد بعض رجالات المشركين ملك الروم وملك الحبشة وغيرهما وشكوا لهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإتساع سلطان ملكه، ودعوته الناس جميعاً لدخول الإسلام، والتقيد بالفرائض والآداب التي جاء بها من عند الله، وجاء وفد نصارى نجران إلى المدينة المنورة ستين راكباً منهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم والأمر بيد ثلاثة نفر منهم.
ومنهم (أبو حارثة بن علقمة الاسقف، وهو حبرهم و إمامهم وصاحب مدارسهم، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرّفوه ومو لوه وأخدموه، قد بنوا له الكنايس، وبسطوا عليه الكرامات( ).
وحينما رأوا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتنبوا مناجزته ورضوا بدفع الجزية له، وكأنهم أدركوا مقام (الفاء) في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا] في عاقبة الأمور، وما ينتظر من يحارب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , ويجهز الجيوش عليه، إذ يدل إكرام ملوك الروم لأبي حارثة على منزلته ومنزلة نصارى نجران عندهم، ولعله لم يقم نصارى نجران بتهييج وتحريض ملوك الروم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه لما علموه من صدق نبوته وخسارة من يحاربه.
الخامس والعشرون: ليس من حصر لوظائف (الفاء) في هذه الآية ومنافعها, وهي ملازمة لوجود الإنسان إلى يوم القيامة، ومن وظائفها:
الأول: إنها نوع وعيد للكفار وتحذير لهم من التعدي على المسلمين ومقدمة لإستئصالهم , قال تعالى [فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني: في الآية إخبار من علم الغيب، لما تدل عليه الفاء من سوء عاقبة الكفار الذين يحاربون الإسلام والمسلمين.
الثالث: من إعجاز هذه الآية ذكر ما يلقاه أعداء الإسلام على نحو التعيين والبيان، بالإنصراف المقرون بالخيبة والحرمان .
الرابع: في الآية تحذير لجميع الكفار وغير المسلمين بذكر ما ينتظرهم إذا عزموا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الخامس : ذكر الفاء هنا من اللطف والرحمة الإلهية بالناس جميعاً، لأنها تمنع من اللبس والجهالة والغفلة وتطرد الآمال الزائفة , وتحذر من الإصرار على الضلالة والغواية .
السادس : تفضح الفاء ودلالتها على إنعدام الفترة بين الكبت الحتمي للكفار وإنقلابهم خاسرين الغايات المذمومة للذين يجهزون الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
السابع : الآية بشارة ملازمة الإنتصار للمؤمنين المجاهدين , والخيبة للكفار.
الثامن : إستدامة العز والنصر والغلبة والغبطة للمؤمنين.
التاسع : مصاحبة الخسارة في النشأتين للكفار الذين يعتدون على حرمات الإسلام , قال تعالى[أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
السادس والعشرون: تدل الفاء على أن المشركين ينسحبون من المعركة من غير ترتيب وإحتراز وتأمين لمؤخرتهم، ويحتاج تنظيم الإنسحاب إلى تخطيط وتقديم وتأخير وإشراف من القيادة، وتأن وحذر، بينما أخبرت هذه الآية عن مبادرتهم للإنسحاب والهروب من ميدان المعركة.
السابع والعشرون: ترى لماذا لم تقل الآية (فيولوا) بدل (فينقلبوا) لتكون أكثر دلالة على الفضل الإلهي على المسلمين، وأظهر للحجة , وتوكيداً لزجر الكفار عن الهجوم على المسلمين، وملاقاتهم في سوح المعارك، والجواب من وجوه:
الأول: كلمات القرآن فرائد، وكل كلمة منها كالجوهرة التي لا مثيل أو شبيه لها، وترى قواعد الأشباه والنظائر في اللغة متخلفة عن مواضع الكلمات القرآنية، فالكلمة التي تكون نظيراً لكلمة أخرى في اللغة، تكون قاصرة في المعنى لو وضعتها بدل اللفظ القرآني الذي هو نظير له في اللغة، وهو إعجاز وسر بياني ولغوي ينفرد به القرآن، وسبب من أسباب تصديق العرب بنزوله من عند الله، ووقوفهم عاجزين عن إدراك كنه بلاغته، مع إقرارهم بأن تلك البلاغة مرآة لكنوز علمية، وذخائر عقائدية تتضمنها آيات القرآن.
الثاني: في الآية نوع إستدراج للكفار، وهو من مصاديق قانون “الحياة الدنيا دار الإنذار “.
الثالث: بين الإنقلاب والتولي عموم وخصوص مطلق، فكل تول إنقلاب وليس العكس، لذا جاءت الآية بالمعنى الأعم، وهو من إعجاز القرآن والسعة في الفاظه ومضامينه.
الرابع: في الآية دعوة للمسلمين لليقظة وأخذ الحذر من العدو ومباغتته، قبل وأثناء وبعد إنتهاء المعركة.
وهذا الحذر تجلى بتوجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه برصد ومتابعة العدو أثناء إنسحابه، فبعث النبي عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عند إنتهاء معركة أحد ، فَقَالَ : اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لأُنَاجِزَنّهُمْ . قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ( ).
ويلاحظ في الحديث دقة الوصف وبيان التباين في جهة الخروج بأمارات وعلامات مخصوصة لا تقبل اللبس والترديد، لأن المدينة قريبة منهم ويحتاجون في دخولها إلى القتال والهجوم فيركبون الخيل، أما مكة فهي بعيدة ولاينوون في الإنصراف إليها القتال فيركبون الأبل، وفيه شاهد على كثرة الرواحل التي عند الكفار وتعدد أنواعها بحيث يركبون ما يحتاجون إليه، ويساعدهم في تحقيق أغراضهم، وفي الحديث والتردد في الجهة التي يقصدها المشركون وجوه:
الأول: يعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لا يريدون إلا مكة.
الثاني: لا يعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجهة التي يقصدون، لأن جبرئيل لم ينزل عليه بخصوص هذا الموضوع .
الثالث: هذه الآية إخبار عن توجه الكفار إلى مكة المكرمة، لأن الله تعالى يقول [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
والصحيح هو الثاني والثالث، فمن منافع هذه الآية حصول الكشف عند المسلمين عن الجهة التي يروم قصدها الكفار، وهو نعمة إضافية على المسلمين، وخصوصية يتصفون بها من بين أهل التوحيد والأمم السابقة، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فان قلت لماذا لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إرادتهم سمت وجهة مكة , والجواب من وجوه:
الأول: بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمصداق عملي حال لهذه الآية
الثاني: دعوة المسلمين لأخذ الحائطة من مكر العدو.
الثالث: تعليم المسلمين فنون القتال، وإرشادهم إلى رصد العدو، وحركته ونواياه قبل وأثناء وبعد المعركة.
الرابع: لقد فقد المسلمون عدداً من الشهداء يوم بدر بسبب ثغرة الجبل في يوم أحد نفسه، وضراوة القتال , فأراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند نهاية المعركة إعطاءهم درساً بلزوم الحذر وعدم ترك المواقع والمواضع القتالية إلا بمعرفة جهة العدو ونواياه السيئة.
الخامس: أراد النبي محمد صلى الله عليه وآل وسلم أن يدرك المسلمون الإعجاز في هذه الآية وأن مصاديقها لا تتأخر عنها، كما أن إنقلاب الكفار لا يتخلف عن كبتهم وذلتهم بدلالة الفاء الواردة في هذه الآية.
السادس: إرشاد المجاهدين بلزوم الرجوع إلى الإمام القائد، وعدم التعجل بالرحيل من ساحة المعركة إلا بعد إحراز الأمن من العدو، بينما يفتقر الذين يقاتلون المسلمين إلى التريث والتدبر في كيفية الإنسحاب , لأن الفاء تدل على مغادرة الكفار ساحة المعركة على عجل وإرباك.
السابع: دعوة المؤمنين المقاتلين في كل زمان إلى الإلتفات إلى مسألة وهي الجهة التي يقصدها الكفار عند الإنسحاب.
الثامن: التوجه بالشكر لله عز وجل على إنسحاب الكفار، وتحقيق مصداق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا] وإنصراف كيدهم.
التاسع: نظر المسلمين في إمكان مطاردة العدو، والإجهاز عليه في الطريق، ونصب الكمائن له، أو تركه وشأنه خصوصاً وأنه ينسحب ذليلاً مقراً بالحرمان من تحقيق أغراضه التي جاء من أجلها.
العاشر: إعطاء المسلمين درساً من جهات:
الأولى: تعيين الذي يتولى رصد العدو، وعدم ترك المسألة إجمالية مبهمة.
الثانية: إختيار الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لتعقب العدو ورصده، ويدل هذا الإختيار على أهمية وموضوعية هذه الوظيفة والنتائج التي تترتب عليها.
وفيه حث لقواد وأمراء المسلمين بالعناية في إختيار الذي يقوم برصد حركات العدو , ويجب أن يكون من القادة , وذا دراية وحنكة وقدرة على القتال، فمع مواصلة الإمام عليه السلام القتال يوم أحد، وحمله اللواء وقتله لعدد من المشركين يومئذ، وكثرة جراحه , وصبره وثباته وسط المعركة يذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما فرّ أغلب المسلمين , فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسله ليتولى بنفسه مراقبة العدو، وضبط الجهة التي يريد على نحو القطع واليقين.
ولم يعتذر الإمام عن تتبع أثر الأعداء لكثرة ما فيه من الجراحات , ولم يرجع إلا بعد التأكد من إنسحابهم التام لقوله عليه السلام (وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ) ( ) , ليكون قوله هذا مصداقاً حالاً للفاء وإنصراف الكفار من غير إبطاء, وهزيمتهم من غير حرص على تنظيم الإنسحاب .
وفي بعث الإمام علي مسائل :
الأولى : إنه إشارة من أسرار وكنه النبوة بأن الكفار لن يعودوا للقتال, لدلالة بعثه على أن النبي محمداّ صلى الله عليه وآله وسلم لن يحتاجه إلى جانبه ساعة رصده للعدو .
الثانية: إستعداد الإمام علي لقتال الكفار، وصدهم عن التوجه إلى المدينة.
الثالثة: تفويت مسألة المباغتة على الكفار، وبعث اليأس في نفوسهم وأنهم لن يستطيعوا الهجوم على المدينة على حين غفلة من المؤمنين.
الرابعة: جعل الخوف والفزع في نفوس الكفار مستديماً، ولا ينتهي بانتهاء المعركة، بل هو يصاحبهم لملاحقة المؤمنين لهم بعد إنقضائها.
الثامن والعشرون: قد ينصرف العدو من المعركة وينقلب على وجهه، ولكنه يريد من هذا الإنقلاب الخدعة، وينوي منه الرجوع إلى المعركة مع المباغتة والغدر، فجاءت هذه الآية لبعث السكينة في نفوس المسلمين بأن إنقلاب الكفار حقيقة وهزيمة، وليس مجازاً وخدعة.
التاسع والعشرون: جاءت الآية السابقة بثلاثة أمور هي:
الأول: نزول الملائكة والوعد به.
الثاني: طمأنينة قلوب المسلمين.
الثالث: بيان قانون ثابت وهو أن النصر بيد الله عز وجل( ).
وجاءت (الفاء) وقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا] بصيغة الإطلاق , لتكون مصداقاً لهذه الأمور الثلاثة وفيه مسائل:
الأولى: إنها بشارة وسبب لغبطة المجاهدين وعموم المسلمين.
الثانية: فيها بعث للطمأنينة في نفوس المؤمنين.
الثالثة: طرد الفزع والخوف الذي قد يأتي من كثرة عدد وعدة العدو.
الرابعة: إنها شاهد على أن تحقق نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بفضل ومدد من عند الله عز وجل.
الخامسة: إذ أن إلتجاء الكفار إلى الهزيمة المقرونة بالذل والكبت دليل على تحقق النصر للمسلمين الذين ثبتوا في ميدان المعركة إلى حين التأكد من توجه الكفار منقلبين إلى مكة قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا] ( ).
الثلاثون:مع تعدد المعارك بين المسلمين والكفار فان ( الفاء) تخبر عن حقيقة ثابتة وهي إتحاد النتيجة التي تتمثل بهزيمة الكفار وهم في حال كبت وذل وعجز عن الوصول إلى غاياتهم التي جاءوا من أجلها، وفيه ردع وزجر لعموم الكفار من التعدي على المسلمين , لتبقى الفاء حرزاً وواقية وسلاح دفاع , ومادة لنصر وغلبة المؤمنين على أعدائهم.
الحادي والثلاثون: تبين الفاء إتصال إنقلاب الكفار بكبتهم وذلهم من غير فترة أو فصل معتد به بينهما، كرمي النبال والمبارزة، وتدبير المكائد , وإتقان الإنسحاب , وتدل على إنتصار المسلمين في معركة أحد، وإن لحقتهم خسارة جسيمة في الأرواح.
الثاني والثلاثون: هذه (الفاء ) من ثمرات دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان المعركة، وتلاوتهم للقرآن وحسن توكلهم على الله عز وجل قال تعالى [إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]( )
وستبقى الفاء في الآية شاهداً على نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , ومناسبة كريمة لثباتهم في القتال ورسوخ الإيمان في قلوبهم، وتقيدهم بأداء الفرائض والعبادات, وهو من مصاديق السلامة المستديمة والمتصلة للقرآن من التحريف, إذ يحتاج المسلمون هذه الفاء في كل زمان .
الثالث والثلاثون: جاءت الفاء رحمة من عند الله بالمسلمين والناس جميعاً لأنها تجعل هزيمة الكفار أمام جحافل المسلمين من اليقينيات التي لاتحتاج إلى توسط إستنباط أو تقديم تصور.
الرابع والثلاثون: تتعدد صيغ وكيفية المواجهة والمنازلة بين المسلمين والكفار، وقد يكون المسلمون في حال دفاع عن بيضة الإسلام كما هو في معارك الإسلام الأولى.
فهل تنحصر وظائف الفاء بتلك الحال، الجواب لا، بل هي مطلقة سواء كان المسلمون في حال سلم أو دفاع أو مرابطة .
الخامس والثلاثون : الفاء الواردة في هذه الآية مدد للمسلمين في معاركهم اللاحقة، فكل إنهزام مفاجئ للكفار بعث للمسلمين للخروج للجهاد في المعارك اللاحقة، وترغيب بالقتال في سبيل الله، وندب لطاعة الله ورسوله، ويتجلى هذا الأمر في كثرة عدد المسلمين في كل معركة لاحقة بالنسبة للمعركة السابقة، وحتى المنافقين الذين إنسحبوا في الطريق إلى معركة أحد فان أكثرهم لجأ إلى الإستغفار وأظهر الندم والحسرة على رجوعه قبل المعركة, وكأن اللوم إنحصر برأس النفاق أبي بن أبي سلول.
السادس والثلاثون: من المسلمات حصول الخصومة والخلاف بين الكفار قبل وأثناء المعركة، كما يظهر في واقعة بدر ودعوة عتبة بن ربيعة لإجتناب القتال، وتوبيخ وذم أبي جهل له.
وجاءت الفاء في هذه الآية للإخبار عن حقيقة وهي إنعدام الخلاف بين الكفار بخصوص الإنسحاب والهزيمة، لدلالتها على إنتفاء الفترة بين الكبت والإنسحاب، كما أنها تؤكد عدم وجود التشاور بين الكفار بخصوص الإنسحاب أو عدمه، لذا لم تبين الأخبار وجود أصوات بين الكفار تطالب بمواصلة القتال.
فمن إعجاز الفاء في المقام العزم الإفرادي والمجموعي عند الكفار على الهزيمة وإجتناب القتال.
السابع والثلاثون: الحرب سجال، وهي كر وفر، ولا تعرف النتيجة فيها لعدم ملازمتها للترجيح بالعدد والعدة، لما فيها من الخدعة والكيد والمباغتة، وسرعة الحركة أو الإبطاء.
وجاءت الفاء لتؤسس قانوناً مخالفاً لنواميس وسنن القتال وما فيها من المفاجئات والفن والمهارة بأن جعلت هزيمة الكفار في المعركة من الفطريات وهي القضايا التي يحكم بها العقل من غير حاجة للإحساس بها، إذ أن قياساتها معها، فحالما يستحضر العقل أو يتصور الطرفين يكون الحكم ذاته حاضراً معها، وهذا الحكم هو إنقلاب الكفار على أعقابهم في قتالهم مع المسلمين.
الثامن والثلاثون: جاءت الآية قبل السابقة بالندب إلى الصبر والخشية من الله بلغة الشرط بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( )، وجاءت الفاء لإعانة المسلمين للتقيد بآداب الصبر، وبعث الشوق في نفوسهم للتقوى وأحكامها التي هي طريق لإنتهاء المعركة بسرعة وبنتيجة واحدة وهي هزيمة الكفار.
التاسع والثلاثون: لقد أراد الله عز وجل لشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون باقية إلى يوم القيامة، لا تقبل النسخ والتغيير، وتكون معصومة من التحريف والتبديل.
ويأتي تحريف الشرائع بطرق وكيفيات متعددة، منها القوة والقهر وغلبة الجنود وهو أخطر وأشد الأسباب على المبادئ والعقائد.
فتفضل الله عز وجل بالفاء في هذه الآية لتكون جزء علة في تثبيت دعائم الإسلام، وبشارة تملأ نفوس المسلمين بالطمأنينة، وهذه الطمأنينة أعم من أن تختص بساحة المعركة أو حياة الفرد والجماعة، بل تشمل الإطمئنان في مستقبل الأيام من وجوه:
الأول: وراثة الأبناء والأحفاد لملكة الإيمان , وتعاهد الفرائض والسنن التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: سلامة أحكام الشريعة من التعدي.
الثالث: الرضا بفضل الله عز وجل بتجدد نعمة النصر وهزيمة الأعداء المستقرأة من صيغة الفعل المضارع (فينقلبوا) وما يدل عليه من الإستمرار والحدوث.
الرابع: (الفاء) الواردة في الآية من الشواهد على عدم طرو التحريف على القرآن وآياته، لعدم تمكين الكفار من الإستحواذ على الأمصار والبلاد الإسلامية.
الأربعون: الفاء في هذه الآية حجة، لما تفيده من العلم والإعتقاد الجازم المطابق للواقع بأن هزيمة الكفار لن تتأخر زماناً وفعلاً عن بداية المعركة وما يقع فيها.
الحادي والأربعون: يحتمل تأثير الفاء في الآية وجوهاً:
الأول: إنه على نحو العلية والتأثير.
الثاني: الكشف والدلالة.
الثالث: إرادة المعنى الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث، إذ أن مجئ الفاء في هذه الآية مدد للمسلمين، وسبب لزيادة قوتهم، وبرزخ دون تسرب الخوف والخور إلى نفوسهم وبين صفوفهم.
والفاء علة لبث الفزع في صفوف الكفار وهي كاشفة عن حال الكبت والذل الذي ينزله الله بالكفار، وعن عز المسلمين وصدق جهادهم في سبيل الله والعلة الفاعلية في المقام ليس للفاء إنما هي مشيئة وقدرة الله عز وجل، وجاءت الفاء للدلالة على إرادته سبحانه.
الثاني والأربعون: جاءت (الفاء) بشرط لا شئ، وهي الماهية المجردة التي لا تتوقف على شي من العوارض والقيود، وتكون خالية من الإعتبارات الإضافية، فهي شاهد سماوي على حصول هزيمة الكفار وإن تباينت حالهم قوة وضعفاً، وكثرة وقلة بالمقارنة مع جيش المسلمين.
الثالث والأربعون: مجئ الفاء في الآية من مصاديق التخفيف عن المسلمين في قوله تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، لما تدل عليه الفاء من قصر مدة المعركة بين المسلمين وجيوش المشركين، وأن الكبت يأتي مدداً للمسلمين، وتكون الفاء شاهداً على الذل والهوان.
الرابع والأربعون: جاءت(الفاء) لتكون جذبة من الله للمسلمين لمقامات التقريب والطاعة، فمن رحمته سبحانه أن يزيد من فضله ليترشح عنه فضل آخر، فجاءت الفاء دعوة الناس لدخول الإسلام وفضحاً للمفسدين , وواقية من مكرهم.
الخامس والأربعون: الفاء في هذه الآية إرتباط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وبيان لموضوع هذا الإرتباط الذي يتقوم بأمور متباينة وهي:
الأول: بروز المؤمنين للقتال في سبيل الله .
الثاني: إصرار الكفار على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: وقوع المعركة، بين الطرفين، وإبتداء القتال، لتكون الفاء شاهداً على صدق نزولها من عند الله وتفاني المسلمين في طاعة الله.
السادس والأربعون: الفاء إشارة ومقدمة لما ينتظر الكفار من العذاب الأليم في الآخرة، لأن كبت الله عز وجل لهم، وسرعة هزيمتهم من مصاديق الغضب الإلهي، قال تعالى[وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]( ).
وقد يقال أن الفاء لا تدل على سرعة هزيمة الكفار، لأنها تفيد التعاقب والتوالي بين الكبت والإنقلاب لقوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا] وهذا القول صحيح وهو بذاته نعمة عظيمة على المسلمين، إلا أن التبادر من علامات الحقيقة والأصل في الآية سرعة ورود الكبت والذل على الكفار كما يصدق عليه مجئ الكبت في معركة أحد، وإستمراره للمعارك الأخرى فيتعدد المعلول مع إتحاد العلة.
وأصل وسنخية الكبت واحدة ، ولكن الهزيمة متعددة، وكل فرد منها يكون علة لفرد آخر من الكبت.
السابع والأربعون: جاءت الفاء بالماهية لا بشرط وتسمى (المطلقة) فهزيمة الكفار، وإقترانها بكبتهم وذلهم مع تعدد ما يعرض لها من الإعتبارات، ففي كل الأحوال وما يطرأ من التغيير كالمدد الذي يأتي للكفار، وحال النقص والإجهاد عند المسلمين تكون ذات النتيجة وهي فرار الكفار من ساحة المعركة.
الثامن والأربعون: لقد جعل الكفار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهم غايات زحفهم على المدينة، وأبى الله عز وجل إلا أن يحفظه وينجيه، وليس من حصر لأسباب ووسائل حفظه لأن الله عز وجل الواسع الكريم الذي لاتستعصي عليه مسألة، وجاءت الفاء من مصاديق هذا الحفظ قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، فلا يستطيع الكفار إطالة المكوث في ساحة المعركة، ولا التدبير بمكر.
وفي قوله تعالى[وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( )، يجعل الله عز وجل الملائكة حفظة للنبي، يعصمونه من وساوس الشياطين حتى يبلغ ما أوحى الله إليه، وعن الضحاك: ما بعث نبيّ إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك( )، والآية ومضمون الرصد أعم , فكان الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهيئة سماوية مباركة لاتقبل الترديد أو الشك، ولعل منهم ملائكة يحرسون النبي من القتل ، ويمنعون وصول يد الكفارله , وهو من وجوه كثرة لمدد الملائكة الذين نزلوا يوم بدر وأحد، بالإضافة إلى قدرة الملك على القيام بالوظائف المتعدد بأذن الله، فهو ينصر المؤمنين ويطرد الشياطين.
ولم يأت العطف بالواو، فلم تقل الآية (يكبتهم وينقلبوا) فجاء بالفاء، لأن الواو لإفادة مطلق الجمع، وقيل بأنها لا تفيد الترتيب، وتأتي للإستئناف كما في قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
أما الفاء فتأتي لأمور:
الأول:الترتيب المعنوي والذكرى بعطف المفصل على المجمل.
الثاني: التعقيب الذي ينفي التراخي والتباطئ في المعطوف بالنسبة لزمان وقوع وفعل المعطوف عليه.
الثالث: تأتي الفاء للسببية ليكون ما قبلها سبباً لما بعدها , كما في قوله تعالى [فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ]( ).
ولا ينحصر معنى الفاء في هذه الآية بالتعقيب وهذا من إعجاز حروف وكلمات القرآن وهو أنها أعم وأوسع من التقسيم الإستقرائي في الصناعة النحوية، فتتضمن الفاء في (فينقلبوا) معنى السببية أيضاً بلحاظ أن كبت الله عز وجل لهم سبب لهزيمتهم وتعجيلهم الإنسحاب.
وتحتمل (الفاء) في فينقلبوا وجوهاً في متعلقها :
الأول: إرادة عموم الكفار.
الثاني: الكفار الذين ينسحبون من المعركة.
الثالث: الذين يهمون بالتعدي على المسلمين وحرماتهم وثغورهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالآية وان تعلق موضوعها بالكفار الذين يهجمون على المسلمين، وقتل فرسانهم، وعودة عامتهم بالخيبة والخسران إلا أنها أعم للخوف الذي يملأ صدورهم، والجزع والفزع الذي يحيط بهم، وبأصحابهم الذين يتلقون نبأ هزيمتهم، وهلاك رجالاتهم.
لقد جاء الإنقلاب والإنصراف في الآية متعقباً للكبت، وليس من فترة أو فصل معتد به بينهما، لتكون دلالات الآية الكريمة على وجهين:
الأول: قطع طرف، وإبانة طائفة من الكفار.
الثاني: كبت وذل الكفار، ويترشح عن هذا الكبت أمور:
الأول: مصاحبة الكبت والذل للكفار، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ] ( ).
الثاني: حصول إنقلاب وإنصراف الكفار على نحو القطع والجزم.
الثالث: إقتران الإنصراف بالخيبة والحرمان.
فقد يكون الإنسحاب من المعركة تداركاً ومقدمة لإعادة الكرة، وإستدراجاً للعدو، وإستنزافاً لقواه، والتحيز والرجوع إلى فئة تساعدهم وتمدهم للعودة مرة أخرى للقتال، أو يصاب الكفار بالكبت والذل والحزن في ميدان المعركة، ولكن عندما يرجعون إلى أمصارهم تبرز عندهم حمية الجاهلية، ويتجهون نحو الإنتقام والبطش , ويزين لهم الهوى والنفس الغضبية المناجاة بالباطل والعودة للقتال بالنفخ والمبالغة في قوتهم وذكر الضعف والقلة والنقص الذي عليه المسلمون والتخفيف من وطاة المصيبة في المعارك السابقة، وبذل الوسع في بعث أسباب الشك والريب في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
وتحتمل الفاء في متعلقها أموراً:
الأول: الإختصاص بالكبت، والملازمة له، وينقلب الكفار خائبين في حال الكبت.
الثاني: التأخر الرتبي عن الكبت فلا يحصل الإنقلاب إلا بعد أن يكون الكفار في حال الكبت والخزي والذل وهذا الكبت يأتي من جهات:
الأولى: يترشح الكبت والخزي عن علة وسبب كقطع وهلاك طائفة منهم.
الثانية: يأتي الكبت عقوبة عاجلة الكفار.
الثالثة: ينزل الكبت بالكفار إبتداء وعلى نحو الدفعة الواحدة.
الثالث: يأتي الإنقلاب مترشحاً ومتعقباً لقطع طرف من الكفار، فحالما يشتد القتل في الكفار ويقع على الأرض من يتقدم للمبارزة، ويهلك من يحمل اللواء منهم، وتأتي نبال المسلمين على عدد منهم، ويرون شدة بأس المسلمين، وتفانيهم في الجهاد في ميادين الحرب، فيفر الكفار أمامهم، وهو من عمومات قوله تعالى في وصف المسلمين [وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ]( )، بتقريب وإستحضار موضوعية بذل المؤمنين الوسع في القتال ومطاردة الكفار.
وتقدير الآية (ليقطع طرفاً من الذين كفروا فيكبتهم وينقلبوا خائبين) بتقدم الفاء لتشمل الكبت ويكون مترشحاً عن قطع وهلاك صناديد الكفار، وهذا الوجه والتقدير لايتعارض مع الوجوه أعلاه والأصل موضوعاً وحكماً هو النص القرآني.
الرابع: من مصاديق الآية الكريمة عدم وصول النوبة إلى الكبت في حصول هزيمة الكفار، لأنها قانون ثابت , وعقوبة عاجلة لهم , ووسيلة لإستئصالهم , وبشارة للمؤمنين , وجزاء لهم على إخلاصهم وتنافسهم في طاعة الله عز وجل.
وورد الترديد (أو) في الآية , فلم تقل الآية (ويكبتهم) وفيه بيان لعظيم قدرة الله، وكثرة الوجوه والصيغ التي يبتلي ويخزي بها الكفار، وفي هذه الكثرة وجوه:
الأول: إنها شاهد عملي محسوس على المدد الإلهي للمسلمين، إذ أن الكفار هم الذين أرادوا القتال، وزحفوا بالجيوش العظيمة، وإختاروا الزمان والمكان، وإبتداء القتال بلحاظ قاعدة كلية وهي ان المسلمين لايبدأون عدواَ بقتال بل يقومون بالوعظ والنصح والدعوة إلى الله قبل المعركة وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] ( )، لما في الوعظ من الإنذار والبرهان , وهو دعوة متجددة للكفار للتدارك وإجتناب القتال وخسارة الدنيا والآخرة.
الثاني: دعوة الناس للإعتبار والإتعاظ من الكفار، فمن لا يلتفت إلى صيغة أو إثنتين من كبت وخزي الكفار، فانه يلتفت إلى غيرها من الصيغ والكيفيات الأخرى، وقد يقوم الكفار بالتورية والإخفاء والتستر على بعض أسباب ذلهم وخزيهم.
وتكون الكثرة من عمومات قوله تعالى [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] بأن يظهر الله ذات الكبت والخزي للناس وإن إجتهد الكفار في إخفاء الكبت الذي يصيبهم والجزع وقلة الصبر الذي يكون عندهم عرضاً ملازماً.
الثالث: تعدد كيفيات خزي وكبت وذل الكفار مقدمة لنصر المسلمين، وسبب لزحفهم إلى سوح القتال، وبرزخ دون حصول الفشل والخور أو الخلاف بينهم، وعون على التمسك بسنن الأخوة الإيمانية وأحكام الشريعة.
الرابع: إنه من التخفيف عن المسلمين في ميادين القتال قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ]( )، وليكون أصل الكبت تخفيفاً، وتعدده وكثرة صيغه تخفيفاً إضافياً آخر.
الخامس: فيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على تهيئة مقدمات النصر، وزيادة في إيمانهم، وسبب للحرص على أداء الفرائض والعبادات بشوق ورغبة بعد تجلي الآيات والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يظهر على أعدائه من تعدد وجوه الذل والخزي.
ويفيد الجمع بين الفاء والإنقلاب في هذه الآية وبين قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ]( )، أن إنقلاب الكفار لم يكن مجرداً بل تصاحبه أمور:
الأول: عجز الكفار عن الحاق الضرر الفادح بالمسلمين، فهم لم يزحفوا إلا لإستئصال المؤمنين، ورجعوا بعد أن خرج الإسلام والمؤمنون من المعركة في حال أقوى مما كانوا عليه سواء في حال السلم أو القتال.
الثاني: هزيمة الكفار من ميدان المعركة.
الثالث: إقتران إنصراف وإنسحاب الكفار بالخيبة والحرمان، وعدم بلوغ القدمات التي جاءوا من أجلها.
ترى ماذا لو لم تأت الفاء، ولم ينقلب الكفار من المعركة بذل وخيبة , فيه وجوه:
الأول: هلاك الكفار جميعاً ، فيقع فيهم القتل على نحو العموم الإستغراقي.
الثاني: إستمرار المعركة، وبقاء الكفار يقاتلون ويذبون عن أنفسهم.
الثالث: تغير نتيجة المعركة، وتكرار الكر والفر بين المؤمنين والكفار.
الرابع: وقوع الكفار بين قتيل وأسير، وعدم إفلات نفر منهم، وإن طال زمان المعركة.
والصحيح هو الرابع، وهو من أسرار تقديم القطع والإبانة في أول الآية بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]، ليكون هذا القطع من مصاديق الرحمة الإلهية بالناس كافة في الحياة الدنيا لما فيه من ميل الكفار إلى الهزيمة، وإدراك أنها أهون الأمرين عليهم، ولتكون الهزيمة مناسبة للتدبر في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خلال وقائع المعركة وتجلي آيات النبوة فيها، وكان النبي يرجو هدايتهم مع شدة أذاهم له, وبخصوص ثقيف وحصارها : (وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبى الزبير، عن جابر قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: ” اللهم أهد ثقيفا”( ).
ولم تمر الأيام حتى دخلت ثقيف رجالاً ونساءً في الإسلام طوعاً, ليكون آية في إستجابة دعاء النبي , وشاهداً على صدق نبوته , وقطعاً لطرف من الكفار وكبتاً وخزياً لهم .
ترى لماذا لم تقل الآية (فيقلبوا) أو(فيقلبهم) لتكون على وزن ونظم القطع والكبت(أو يكبتهم) ونسبة فعل القلب إلى الله عز وجل , والجواب من وجوه:
الأول: بيان حال الكفار بعد نزول القطع والكبت فيهم.
الثاني: دعوة المؤمنين والباحثين العسكريين إلى إستنباط المسائل، ودراسة ما يحصل عند الكفار بعد إبتلائهم بهلاك طائفة منهم، وخزيهم وذلهم.
الثالث: وقوع إنقلاب الكفار بإختيارهم، وفيه زيادة في توبيخ وتبكيت الكفار , وهو شاهد على عجزهم عن مواصلة القتال .
وقد ورد قوله تعالى [يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ]( )، لبيان أن الرجوع والإنقلاب إلى الآخرة والمثول بين يدي الله أمر قهري وحتمي.
الرابع: توكيد قانون السببية، وأنه لا يتعارض مع مشيئة الله، وفي المقام نكتة عقائدية وهي أن إيجاد السبب للإنقلاب من عند الله.
الخامس: تدل الآية على أن تدبير نظام الوجود بيد الله، وهو وحده المهيمن المؤثر المستقل المختار، قال تعالى [قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، الذي يبتلي الكفار بالإنقلاب خائبين، ليكون مقدمة وإنذاراً لسوء منقلبهم يوم القيامة.
ومن الآيات أن تأتي البشارة للمؤمنين في الإنقلاب في ذات الموضوع الذي جاءت به هذه الآية للإخبار عن سوء منقلب الكفار، ودعوة الناس للفوز بما في الإسلام من النعم في النشأتين , قال تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ]( ).
أي فرجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر بعافية وسلامة وأمن من السوء والضرر، ليتجدد عندهم الثبات على الإيمان ومع فضل من الله بالغنائم من العدو.
وهو من عمومات دلالة البشارة للمسلمين في مفهومها على الإنذار للكفار, الإنذار للكفار في مفهومه البشارة للمسلمين، بالإضافة إلى ما في الجمع بينهما من الترغيب في الإسلام، والدعوة إلى التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله سبحانه , والنفرة من الكفر والجحود.
ويحتمل مجئ الفاء وإنقلاب الكفار خائبين أمرين:
الأول: وجود المقتضي وفقد المانع.
الثاني: إنه أمر عرضي طارئ تم إتفاقاً.
والصحيح هو الأول، لتجلي العلة التامة لهزيمة الكفار، ومنه إجتماع هلاك طائفة وطرف منهم، وإصابة عموم الكفار بالخيبة، وهل تكون هذه الخيبة نهاية وأمناً من قطع الطرف، الجواب لا، بل يكون إنقلاب الكفار بذل وحرمان وخيبة سبباً لتسهيل قطع طرف منهم , مثلما يكون قطع الطرف منهم مقدمة وسبباً لهزيمة الكفار .
فمن الإعجاز في منطوق ومفهوم الفاء في الآية الكريمة وقوع المتضادين من غير تعارض بينهما للتباين في المحل , فالهزيمة أثر لقطع طرف من الكفار وخزي لهم , وتخفيف عن المؤمنين .
وتتصل الفاء في موضوعها وعلتها بالآية السابقة من وجوه:
الأول: دلالة قطع طرف من الكفار، وكبتهم وإنقلابهم خائبين على صبر وجهاد المسلمين، وثبات الإيمان في نفوسهم.
الثاني: هزيمة الكفار حال بدء المعركة وإشتداد القتال بشارة للمؤمنين، فصحيح أن البشارة في الآية السابقة تتعلق بنزول الملائكة لنصرتهم والوعد به بقوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]( )، إلا أن الجمع بين الآيتين، ولحاظ موضوعية الفاء يفيدان أن البشارة التي تأتي من نزول الملائكة توليدية من وجوه:
الأول: نزول الملائكة ذاته.
الثاني:مشاركة الملائكة إلى جانب المسلمين مدد لهم في القتال.
الثالث: هزيمة الكفار وعجزهم عن الصبر أمام الملائكة.
الرابع: هلاك طائفة من المشركين.
الخامس:لجوء الكفار للهزيمة حالما أصابهم الكبت والخزي , وهم في حال متزلزلة من أول المعركة .
فتؤكد الفاء أنه ليس من فترة بين كبت الكفار وبين هزيمتهم، وأن الكبت يصيبهم بهلاك طرف منهم أو عدمه , ولكن هلاك الطرف منهم ملازم لقتالهم المسلمين , إذ أن الطرف من الكلي المشكك الذي يقع على أفراد متباينة قوة وضعفاً , وكثرة وقلة , مع إتحاده في الجنس وصبغة الكفر.
وللفاء موضوعية في حال السلم الحرب، فحتى لو لم تقع معركة بين المسلمين والكفار، فان الكبت والذل يلحق الكفار، ويجعلهم ينهزمون في المعارك والإحتجاج والجدال والمنتديات.
لقد جاءت الفاء لتؤكد شروق شمس الإيمان، وإنحسار الضلالة والكدورات الموحشة , ويتضح للناس طريق مبارك إلى عالم النور والهداية.
الثالث: إنقلاب الكفار خائبين سكينة وطمأنينة لقلوب المسلمين في ميدان المعركة وقادم الأيام.
الرابع: جاءت الفاء لحث المسلمين على التفقه في الدين , والتدبر في آيات القرآن، والإرتقاء في سلم الكمالات.
الخامس: إقتران المصداق العملي لعظيم قدرة الله عز وجل إذ أخبرت الآية السابقة في خاتمتها على أن النصر بيد الله عز وجل.
وجاءت هذه الآية بهزيمة الكفار خائبين محرومين، لتدل في مفهومها على نصر الله لنبيه الكريم والمؤمنين.
السادس: سرعة إنقلاب الكفار من المعركة من الشواهد على [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
ومن مصاديق حكمة الله تعالى وإتقانه للأمور، وتفضله بتثبيت سنن الإيمان في الأرض وتخليص الناس من سلاسل الضلالة، وغشاوة العناد , إمتناع النصر والثبات والصبر على الكفار.
وهل من موضوعية للمدد الملكوتي في(الفاء) وسرعة إنصراف الكفار من المعركة يجرون أذيال الهزيمة والخسران، الجواب نعم , ويدل عليه نظم الآيات فنزول الملائكة والوعد به كما في الآية السابقة من أسباب إمتلاء قلوب الكفار بالفزع والخوف.
ولم يرد لفظ (فينقلبوا) في القرآن إلا في هذه الآية، وفيه بشارة إضافية للمسلمين، وأن الإنقلاب والهزيمة خاصة بالكفار، وتصاحبهم هي والخيبة في ميادين القتال.
ترى ما هو أثر الفاء في خيبة الكفار بقوله تعالى [خَائِبِينَ] الجواب:
خيبة الكفار حال نفسانية تترشح عن أسباب وأمور متعددة، منها مجئ الفاء في هذه الآية والحسرة التي تصيب الكفار بسبب سرعة هزيمتهم، وعدم صبرهم في المعركة، وكأن ثغرة الجبل يوم أحد ومجئ الكفار للمؤمنين من الخلف وسرعة زوال أثرها وتدارك المؤمنين ورجوعهم للقتال موضوع لزيادة حسرة الكفار، ولومهم لأنفسهم، وجعل الخيبة ملكة ثابتة عندهم، بينما كانت درساً وعبرة للمؤمنين، ودعوة لطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال , قال تعالى [مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( ).
وتكررت الفاء في موضوع هبوط آدم وحواء من الجنة، ونسب الفعل إلى السبب وهو إبليس بقوله تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( )، لبيان أثر وأضرار وسوسته وإغوائه في فقدهما عظيم الشأن والرتبة الرفيعة في السكن في الجنة، والهبوط إلى الأرض، وقد أزلّ الشيطان آدم وحواء وهما كل البشر يومئذ , وتدل الفاء في الآية أعلاه على قصر مدة بقاء آدم وحواء في الجنة بسبب غواية الشيطان.
بينما جاءت الفاء في(فينقلبوا) لبيان وجود أمة مؤمنة في الأرض يصاحبها العز والنصر والظفر، والكفار في هزيمة وخيبة، وفيه وهن وضعف للشيطان وجنوده، وهو من مصاديق إجتناب الفساد من الأرض وموضوع إحتجاج الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ورد الله عز وجل عليهم [أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فإنه سبحانه ينزل ذات الملائكة لدحر أعوان الشيطان وجعل قطع طرف منهم وخزيهم مقدمة لجذبهم للهداية والإيمان.
وتكررت الفاء أيضاً في قوله تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ]( )، فكما أن الفاء في الآية تفيد عدم وجود مهلة بين كبت الكفار وهزيمتهم خائبين وإمتلاء نفوسهم بالغيظ، في بيان لبطش الله عز وجل بهم، فإن الله عز وجل يتفضل على المؤمنين من ذرية آدم بالتوبة وأسباب الهداية والرشاد، كما تفضل وعلم أبيهم آدم كلمات ليتوب عليه، وتفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل ملائكة لنصرته وأصحابه ليكون هذا النزول خسارة مستديمة ومتصلة للكفار إلى يوم القيامة , وواقية من تأثير إبليس وجنوده.
ويحتمل متعلق الفاء في قوله تعالى(فينقلبوا خائبين) أمرين:
الأول: كبت وخزي الكفار، أي أنهم ينقلبون خائبين بسبب خزيهم وذلهم.
الثاني: هزيمة الكفار بسبب قطع طرف وهلاك طائفة منهم.
الثالث: إنقلاب وخسارة الكفار السريعة للعنوان والسبب الجامع وهو قطع طرف منهم وكبتهم.
والصحيح هو الثالث، وتلك آية في الفضل الإلهي على المسلمين، وصحيح أن الآية جاءت بخصوص واقعة أحد إلا أنها أعم في مصاديقها المتكثرة في الخارج، فكأن الآية نازلة بخصوص واقعة الخندق التي جاءت بعد أحد، فحينما إقتحمت بعض خيل المشركين الخندق الذي حفره المسلمون وبرز الإمام علي عليه السلام لبطل قريش عمرو بن ود العامري قال ابن هشام(فتنازلا وتجادلا، فقتله علي رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة، حتى إقتحمت من الخندق هاربة) ( )، ويكون الطرف من الجيش متعدداً أو متحداً، ويمكن إعتبار عمرو بن ود طرفاً من الكفار مع أنه شخص واحد، لوجوه:
الأول : إنه مشهور بالشجاعة .
الثاني : إجتيازه الخندق تحدياً وبقصد القتال .
الثالث : إصراره على القتال وسؤاله المبارزة.
الرابع : ترتب الأثر الكبير على قتله بفزع وخيبة الكفار، وإمتناعهم عن إقتحام الخندق بعد قتله .
ويصدق قطع الطرف في المقام على هزيمتهم المترشحة عن قتله بعد طلبه المبارزة وكأن قوله تعالى(ليقطع طرفاً) بشارة تتعلق بمعركة الخندق وأن قطع الطرف من الكفار وكبتهم وإنقلابهم خائبين نزل في معركة الخندق ووقائعها ونتائجها، لبيان بقاء نعمة الله على المسلمين بهزيمة عدوهم , كما إنه لا يتعارض مع نزول الآية بخصوص معركة أحد، وفيه توكيد لمضامين قوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]وإرادة زمان ما بعد معركة أحد، وما يأتي من الحوادث والوقائع فإن سأل المسلمون ماذا بعد معركة أحد، وأحس نفر منهم بالأذى والخوف فيكون قوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] هو الجواب والقانون لما بعد معركة بأن الله عز وجل يتكفل شؤون الإسلام ويدفع عن المسلمين.
بحث عرفاني في (الفاء)
جاءت الفاء لتكون مناسبة لتوجه المسلمين بأجيالهم المتعاقبة بالشكر لله عز وجل.
ويتقوم الشكر في المقام بأمور:
الأول: معرفة المسلمين بأنفسهم من جهات :
الثانية : المسلمون أتباع وأنصار سيد المرسلين الذي بشر به الأنبياء السابقون .
الثالثة : إن الله عز وجل يتفضل عليهم بالمدد الملكوتي في ميادين المعارك.
الرابعة : يجعل الله أعداء الإسلام ينهزمون بذل ووهن أمام جحافل المسلمين وإن كانوا قلة .
الخامسة : تعاهدهم لأداء الفرائض والواجبات .
الثاني: معرفة أن إنقلاب الكفار حال بدئ المعركة لم يكن بالأسباب المادية ورجحان كفة المسلمين عدداً وعدة، والعلة والمعلول في ميادين المعارك وفنون القتال فيها، بل جاء بمدد وعون ولطف من الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثالث: التسليم بأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعددة المواضيع ، وهي على شعب منها:
الأولى: ما ينزل عليه من آيات القرآن.
الثانية: عموم الوحي، وما يأتي به الملك من عند الله مما يتعلق بالحوادث والوقائع وبيان الآيات وغيرها.
الثالثة: ما يجري على يديه من المعجزات الحسية، التي تدل على صدق نبوته.
الرابعة: سلامته من الكفار والكيد والمكر، ومحاولات الإغتيال المتكررة , قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الخامسة: إمتلاء نفوس أعدائه منه بالرعب والهلع .
السادسة: تجلي البطش الإلهي بالكفار بقتل صناديدهم وأبطالهم كما في معركة بدر إبتداء وإستدامة وخاتمة.
السابعة: إنقلاب الكفار في المعركة خائبين عند المواجهة.
الثامنة: التداخل بين هذه المعجزات فمثلاً هناك موضوعية للرعب المذكور في الشعبة الخامسة أعلاه في مبادرة الكفار للهزيمة، وكذا بالنسبة للمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانت عقلية أو حسية في بعث الخوف والرعب في قلوب أعدائه منه , وصيرورته مقدمة ووسيلة لإنصرافهم خائبين، وهو من أسرار فلسفة مجئ الفاء في الآية، وإمتزاج هذا الخوف بالإقرار على نحو الموجبة الجزئية بصدق نبوته، وإدراك أولوية عدم مقاتلته والمؤمنين برسالته، ورجحان إجتناب القتال، وتفضيل الإنسحاب وإعتزال الحرب قهراً وطوعاً وإنطباقاً والله واسع كريم يأخذ الكفار بأشد الأحوال.
الرابع: معرفة أن الله عز وجل هو الذي تفضل بقطع طرف من الكفار وإنصرافهم خاسرين محرومين، والله عز وجل وحده هو المنعم، وأن المؤمنين جنود لله عز وجل.
وقد ثبت في المعرفة الإلهية أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله عز وجل، وهذه الحقيقة علم فطري وسبيل إلى الإنقطاع إليه بالعبادة وإظهار الخشوع والخضوع له سبحانه، والتسليم بعظيم قدرته وسلطانه وأنه لاتستعصي عليه مسألة , وحيث أن الأثر ملازم للمؤثر فإن خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض ونصر المؤمنين من الشواهد على أن مقاليد الأمور بيده تعالى .
ومن ذكر الله عز وجل وشكره في ميادين القتال اللجوء إلى الدعاء وسؤال الصبر والظفر بالأعداء، وهو من مصاديق الإقرار بأن الله عز وجل هو المنعم وأن مفاتيح النصر بيده سبحانه , وفي التنزيل [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
لقد جاءت مبادرة الكفار للهزيمة يوم معركة أحد مع كثرة عددهم وعدتهم مناسبة ليشكر المسلمون والمسلمات الله عز وجل على نعمة كفاية وهزيمة الكفار, وبشارة إنتصار الإسلام المتجدد، وهزيمة أعدائه وسلب النعم والجاه عمن يحارب الإسلام والمسلمين، وفيه دعوة للناس لتعاهد النعم بمحاكاة أهل الإيمان الذين أبى الله عز وجل إلا أن يمدهم بالنصر والغلبة، وقد نصرهم وهم ضعفاء وقلة , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، فمن باب الأولوية القطعية أن ينصرهم الله عز وجل وهم كثير وأعزة.
الخامس: معرفة مصاديق النعمة في ميادين القتال، وآثارها بالذات والعرض، وفي أفراد الزمان الطولية ومنها الحال والمستقبل، وبعث السكينة في نفوس المؤمنين، وشكر الله عز وجل على ملكة الصبر وتحمل الأذى من الكفار في بدايات الدعوة الإسلامية , ورؤية مصارع أبطالهم وهزيمتهم يوم بدر وأحد , قال تعالى[وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ] ( ).
والشكر من مقامات السالكين، ويتألف كل مقام من:
الأول: العلم وهو الأصل، فلابد من معرفة المنعم، وموضوع مقدار الإنعام كماَ وكيفاً.
الثاني: يتفرع عن هذا الأصل الحال , وهو الغبطة والسعادة التي تغمر المنعم عليه.
الثالث: الشكر والجزاء لما يكون مناسباً لحال الحب والإمتنان , والثناء على المنعم، وبما يدل على الإقرار بالنعمة، وظهورها على الجوارح والأركان بالفعل والشكر على النعمة باللسان , أو الوقوف على ما هو أقل في مراتب الشكر بالذكر بالقلب المقرون بحال الرضا والفرح بالنعم.
وجاءت الفاء في هذه الآية ليظهر المسلمون أبهى آيات الشكر عز وجل، ويتجلى بالإخلاص في عبادة الله، والفناء في مرضاته، والإنقياد إلى الأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والإمتثال التام للأوامر والنواهي القرآنية.
بحث بلاغي في فاء (فينقلبوا)
قسمت المعاني التي تأتي فيها الوجوه تفسيراً إستقرائياً إلى عدة أقسام، ولكن هذا لا يعني عدم الإشتراك والتداخل وتعدد الوجوه في لفظ واحد منها، فمن إعجاز القرآن إنطباق تلك الوجوه على الفاء في هذه الآية من غير تزاحم أو تعارض بينهما، فتأتي الفاء حرف عطف وتكون على وجوه:
الأول: الترتيب وهو على شعبتين:
الأولى: الترتيب المعنوي كما في قوله تعالى[فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ]( )، فعندما يرمي الله عز وجل الكفار المعتدين بالكبت والذل تترتب عليه حال الهزيمة والفرار.
ومن الإعجاز في الآية أنها تذكر الكبت بكيفية من ضروب البديع(حسن النسق) وهو مجيء المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متصلة في مضامينها، وجاءت هذه الآية بسبع كلمات , وكل كلمة وجملة منها مدرسة كلامية وعقائدية وبلاغية تؤكد نصر الله عز وجل رسوله الكريم، وما أصاب الكفار من الذل والهزيمة.
ومن الآيات أن هذه الجمل متداخلة، وهو مما إذا إجتمع إفترق، وإذا إفترق إجتمع، وكأن إختيار الكفر موضوع، والقطع والكبت والهزيمة والخيبة محمول وعرض ملازم له لا ينفك عنه، وفيه إنذار وتحذير للكفار.
ترى لماذا لم تقل الآية (ليقطع طرفاً من الكفار أو الكافرين) والجواب : قد ورد لفظ(الذين كفروا) ستاً وثمانين ومائة مرة في القرآن، وتدل على ظلمهم لأنفسهم، وقيام الحجة عليهم وما ينتظرهم من العذاب الأليم[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ].
ويدل لفظ(الذين كفروا) على إختيارهم الكفر وتلبسهم به ، وأنه ليس عرضاً غريباً أو أمراً متوارثاً قهرياً، بل هو فعل إختياري قامت عليهم الحجة، وأن هذا التلبس كاف لنزول قطع الطرف منهم قبل أن تصل النوبة إلى ظلمهم وسوء فعلهم بالزحف على المدينة لإستئصال الإسلام , قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثانية: الترتيب الذكري، وهو عطف مبين ومفصل على مجمل بما يدفع الوهم والترديد كما قوله تعالى[وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ]( )، ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن الكفار هم الذين أرادوا القتال وقصدوا الإجهاز على الإسلام، فلا ينفع الإعراض عنهم ولا بد من الدفاع والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، وجاءت الفاء في(فينقلبوا) لبيان ما يترشح عن الكبت والذل الذي يصيب الكفار من عدم البقاء في ميدان المعركة.
الثاني: التعقيب، وبه تنفصل الفاء عن حرف العطف الواو، وعن (ثم) التي تفيد التراخي، لذا فإن مجيئها بقوله تعالى(فينقلبوا) مدرسة كلامية وبلاغية في تأكيد نصر الله عز وجل العاجل للمؤمنين , وبرزخ دون الشك بهزيمة أعدائهم أمامهم حالما بدأت المعركة.
الثالث: السببية، بأن يكون ما قبلها سبباً لما بعدها، وهو أمر لا يتحقق بحرف العطف الواو، ولا تتعارض السببية في المقام، مع إعتبار إنقلاب الكفار منهزمين آية إعجازية مستقلة ونعمة على المسلمين قائمة في عدوهم تحكي الخوف والفزع الذي يملأ نفوس الكفار , ويلاحظ في الآية توالي وتعاقب أسباب الخسارة والذل للكفار , وبما يطرد الغرور عن أنفسهم ويبين لهم ضلالتهم وقبح الإصرار على إرادة قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وإذا كانت علة زحف الكفار على المدينة المنورة هي منع إنتشار مبادئ الإسلام ودخول أفراد وجماعات من الناس فيه، فإن معركة بدر وأحد وإنقلابهم فيهما خائبين جعل الإسلام ينتشر في الآفاق بسرعة فائقة، وتدخل القبائل، والناس أفواجاً فيه، قال تعالى[فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ]( )، ومع قلة كلمات الآية فأنها تتضمن دلالات عظيمة في دحر الكفار وإلحاق الخسارة الفادحة بهم، لتكون هذه الآية مقدمة لفتح مكة.

بحث منطقي في (الفاء)
تتعدد مفاهيم الدلالة اللفظية وهي في إصطلاح المنطق العلم بالمعنى المقصود من اللفظ الصادر يقيناً من المتكلم وإنه جاد غير هازل.
وتقسم الدلالة عدة تقسيمات بحسب اللحاظ، فهي تقسم إلى :
الأول : الدلالة التصورية .
الثاني : الدلالة التصديقية .
والتصورية إنتقال ذهن الإنسان إلى معنى اللفظ بمجرد صدوره من لافظ وأنه لم يكن يقصده كما لو قصد معنى مجازياً ولكن السامع ينتقل ذهنه قهراً إلى المعنى الحقيقي كطريق للوصول إلى المجازي أومقدمة , ومناسبة لإستحضاره.
والدلالة التصديقية هي ما يقصد المتكلم إستعماله ورادته له ولها شرائط وقرائن.
وتقسم تقسيماً آخر بلحاظ ما وضع له اللفظ وهي الدلالة المطابقية والتضمنية والإلتزامية، فالأولى أن اللفظ مطابق للمعنى الموضوع له تلفظ الكتاب على الأوراق والغلاف والمضمون.
والثانية ما يدل فيه اللفظ على جزء معناه كلفظ القرآن على بعض الآيات.
والثالثة دلالة اللفظ على لازم معناه كدلالة الصلاة على الصلاح ودلالة الشمس على الضوء .
ومنها تقسيمها إلى دلالة الإقتضاء والإيحاء والإشارة، والأولى أن تتوقف صحة الكلام على إرادة القائل لذلك المعنى عقلية كانت الدلالة أوشرعية.
ومن الآيات أن الآية القرآنية وذكرت هزيمة الكفار بأمور ثلاثة متداخلة:
الأول: إتصال الهزيمة بالكبت والخزي، وكأن الفاء تمحو ما بينهما من آنات الزمان، وهو موضوع إضافي للخزي بإنتقال ذهن التالي والسامع للآية القرآنية إلى تصور ذل وهزيمة الكفار مما يؤدي إلى النفرة منهم، وإنكار قبح فعلهم وإصرارهم على الزحف على المدينة لإستئصال المسلمين، وجاءت الفاء في(فينقلبوا) لينتقل الذهن عند حدوث مقدمات القتال بين المؤمنين والكفار إلى حتمية فرار الكفار لرسوخ العلاقة في الذهن بين واقعة بدر وأحد وغيرها من معارك المسلمين في الدفاع عن الإسلام.
وأما التصديق فهو مطابقة الخبر والإدراك للواقع بما يستلزم إذعان وإقرار الفرد والجماعة ، وسميت الدلالة التصديقية لإفادة اللفظ معنى مخصوص وأنه مراد قائله , وهذه الدلالة عليها مبنى العقلاء، ويعبر عنها في علم الأصول بحجية الظواهر.
وينقسم التصديق إلى قسمين:
الأول : اليقين , وهو ترجيح ما يتم الإخبار عنه من طرفي الوقوع واللا وقوع , مع نفي إحتمال الطرف الآخر.
الثاني: الظن، وهو ترجيح الطرف الذي يتم الإخبار عنه مع إحتمال ضعيف للطرف الآخر، وجاءت هذه الآية لنفي الجهالة والغرر، ومنع الشك والوهم.
والمراد من الشك في الإصطلاح هو تساوي إحتمال الوقوع والعدم، أما الوهم فهو ترجيح ما هو خلاف الواقع، لذا يعتبران من أقسام الجهل وليس من أقسام العلم والتصديق .
ولم تأت آيات القرآن للمسلمين فقط بل هي خطابات تكليفية وأسباب هداية للناس جميعاً، لذا قال المشهور بأن الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، وهو المختار، فجاءت الفاء في (فينقلبوا) لتؤكد قانوناً ثابتاً بسرعة هزيمة الكفار من المعركة، وعدم تخلفهم عن الهزيمة، والتضاد بينهم وبين البقاء فيها، لإجتماع التصور في أذهانهم، وظهور الدلالة التصديقية لهم بأرض الواقع بأن تأخرهم في ميدان المعركة وإصرارهم على القتال لا يؤدي إلا إلى قتلهم قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وإذا تجعل هزيمتهم الهلاك والإبانة متعلقة بطرف منهم، فإن إصرارهم على القتال يعني هلاكهم جميعاً، وهو الذي يتجلى من نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عله وآله وسلم ونزولهم مدداً للمؤمنين , قال تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
وجاءت هذه الآية الكريمة ليستحضر المسلمون في كل زمان واقعة بدر وأحد ومن الآيات أنها حاضرة في الوجود الذهني لا على نحو التصورات المجردة، بل يترشح عن تلاوتها وحضورها في الذهن حكم وتصديق بدلالة(الفاء) على سرعة كسب المسلمين للمعركة، هذه السرعة التي يحلم بها في كل زمان كبار المخططين للقتال والقادة الحريصون على تجنب جنودهم الخسائر وعدم الإقامة في الجبهات وتسمى(خطة الحمامة) .
وقد تفضل الله عز وجل بالفاء في الآية للإخبار عن نصر المسلمين الحاسم والسريع، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعود بالمؤمنين في ذات يوم القتال إلى المدينة , وهو من مصاديق بعث السكينة في نفوسهم وعوائلهم، وإمتلاء قلوب الكفار والمنافقين بالغيظ , قال تعالى[وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ] ( ).

بحث أصولي في (الفاء)
الزمان هو وعاء حال ومستديم لذات الفعل بلحاظ آناته ووقته، لذا قسم الفعل إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الفعل الماضي.
الثاني: الفعل الحال.
الثالث:الفعل المستقبل.
وللزمان موضوعية في ذات الفعل إلى جانب هيئته ودلالته، لذا جاء التفريق بينه وبين الاسم بالإضافة إلى حركته، ويتجلى في حديث الإمام علي عليه السلام: الاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره).
وهناك نوع ملازمة بين موضوعية الحركة في ذات الفعل، وإقترانه بالزمان بإعتباره وعاءً للحركة، وقيل أن الأفعال الإنشائية لا تدل على الحال والزمان كما في الأمر والنهي والإستفهام لأن القدر المتيقن منها هو البعث على الفعل كما في الأمر، والزجر عنه كما في النهي والترك، ولكن الزمان معتبر فيها على نحو التعليق والمشارفة والرجاء بإتيان الفعل، لأن الإنشاء إرادة وعزم وليس لغواً، وتدل الأفعال في مادتها( )، وهيئتها( ) على الزمان، ولا تنحصر الأفعال بالإنشائية فتشمل الخبرية، والتي يكون فيها التقسيم الزماني واضحاً عند الوضع، ومفهومها عند المخاطب ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة الفعل الماضي(فإنقلبوا) والجواب من وجوه:
الأول: الآية بيان لحال الكفار عند وقوع المعركة.
الثاني: جاء الإنقلاب مترشحاً عن الكبت والذل الذي يصيب الكفار في المعركة.
الثالث: إرادة إستمرار وإستدامة حال الخيبة عند الكفار في حال الإنقلاب وبعده.
إذ تحتمل الخيبة في المقام وجهين :
الأول: إنها عرض زائل ومفارق وغير ساري فتكون الخيبة أمراً عارضاً متعلقاً بحال إنقلاب الكفار في المعركة.
الثاني: إنها عرض ساري ملازم للكفار، والساري هو ما كان كل جزء من الحال يلاقي كل جزء من المحل.
والصحيح هو الثاني، فتتغشى الخيبة الكفار كأفراد وكأمة، ويظهر عليهم الذل حال الإنقلاب من المعركة وبعده، وجاءت هذه الآية لتكون وثيقة سماوية وشاهداً إلى يوم القيامة يحكي خيبتهم وذلهم.
ومن الآيات أن الفعل جاء جامعاً للحال والإستقبال، أما الحال فبقرينة الفاء في(فينقلبوا) لما تدل عليه من التعقيب والسببية. وأما الإستقبال فهو ظاهر بصيغة الفعل .
وفي علم الأصول قاعدة هي(تداخل الأسباب والمسببات)، بأن تشترك عدة أسباب ليترشح عنها مُسبب واحد، سواء تتداخل على نحو الدفعة أو التدريج، وطوعاً وقهراً بأن تكون الأسباب متعددة ويحكم بتداخلها في المسُبب والإجزاء بماهية وحكم المتحد، كما في نقض الوضوء بالنوم وغيره فإنه يجزي وضوء واحد .
ويحتمل تعجيل الكفار بالهزيمة والذي تدل عليه (الفاء) وجوهاً:
الأول: إتحاد السبب.
الثاني: تعدد وتداخل أسباب تعجيل هزيمة الكفار.
الثالث: إتحاد ماهية المسُبب، وتكرارها بتجدد السبب.
والصحيح هو الثاني والرابع، فإن أسباب إنصراف الكفار منهزمين متعددة, وهي شاهد على نصر الله عز وجل للمؤمنين , وخزي الكفار , قال تعالى[كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ]( ).
ومناسبة هذه القاعدة دعوة لبيان موضوعية تعدد السبب في فرار الكفار خائبين ، وتفضل الله تعالى وأنزل آلاف الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، مع أن ملكاً واحداً يكفي لتشريد وهلاك الكفار، فأراد الله سبحانه بتعدد أسباب تعجيل الكفار بالهزيمة أموراً :
الأول : تثبيت السكينة في نفوس المؤمنين .
الثاني : إنذار وتحذير للكفار .
الثالث : دعوة الناس لدخول الإسلام.
لقد جاءت الفاء في (فينقلبوا) واقية للمؤمنين، وحرزاً من تعدي الكافرين، وزجراً للظالمين، ومناسبة لدعاء المسلمين بتقريب النصر، وتعجيل الكفار بالهزيمة.
وتؤكد الفاء هزيمة المشركين المتجددة على نحو العموم الزماني الذي هو عبارة عن إستمرار ذات الحكم وهزيمة الكفار في أفراد الزمان الطولية ولا ينحصر هذا الحكم بكفار قريش، فالمدار على عموم الحكم، وليس سبب النزول، ليأتي قانون التعجيل بهزيمة الكفار على نحو العام البدلي , والعام الإستغراقي ,والعام المجموعي( )، وتكون الدنيا دار الهزيمة والخيبة للكفار , من غير تعارض مع كونها دار النصر والظفر والرفعة والعز للمسلمين والمسلمات , قال تعالى [لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وهل قوله تعالى(فينقلبوا) من الحقيقة وهي اللفظ الذي وضع له في أصل اللغة، أم أنه من المجاز الذي يراد منه معنى غير الذي وضع له في الأصل على جهة التبع للأصل كما في إطلاق لفظ الشجاع على الأسد، وحاتم على الرجل الكريم، الجواب إنه من الحقيقة من وجوه :
الأول: إعتبار أصالة الحقيقة عند الشك في المراد من اللفظ.
الثاني: إنعقاد الظهور بإرادة المعنى الحقيقي من اللفظ، لذا قيل أن كل الأصول اللفظية راجعة لأصالة الظهور، كأصالة الإطلاق وأصالة العموم، وأصالة عدم التقدير.
الثالث: تجلي الحقيقة في الواقع الخارجي، وتواتر الأخبار بإنهزام الكفار من المعركة عقب بدأ القتال , وتوثيق الشعر لهذه الحقيقة، وحفظ العرب للأشعار التي قيلت في معركة بدر وأحد وغيرهما من الفريقين بما فيها أشعار النساء.
الرابع: إنطباق علامات الحقيقة على لفظ (فينقلبوا) وهي ثلاثة :
الأولى: التبادر، وهو إنسباق معنى إنهزام الكفار إلى الذهن من لفظ (فينقلبوا) حال سماعه وبعث السرور والغبطة في نفوس المسلمين من دون حاجة إلى تأويل أو رجوع إلى آيات أخرى لتفسير المعنى أو قرائن وأمارات تؤكده وتمنع إحتمال غير الهزيمة السريعة للكفار.
الثانية: عدم صحة السلب، وهي موافقة اللفظ للمعنى الكلي المرتكز في الذهن، فجاءت الفاء لإفادة عدم تخلف الهزيمة والإنصراف عن الكبت، ويدل إجتماع إصابة الكفار بالقتل والكبت، وترشح سرعة الإنقلاب عنهما على حقيقة وهي أن هذا الإنقلاب ليس إنصرافاً مجرداً أو إنسحاباً منظماً أو عودة إلى فئة أو خدعة ومكراً في الحرب، بل يصح حمل معنى الهزيمة القاسية على إنقلاب جيوش الكفار على يد الملائكة والمؤمنين، وذل مصاحب لهم قال تعالى[يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة: الإطراد: والمراد منه عدم إختصاص صحة إستعمال اللفظ بمقام دون مقام، أو صورة دون أخرى في المعنى المشكوك، بل هو مكرر بذات الماهية في كل أحوال الموضوع، كما في إطلاق لفظ الأسد حقيقة على الحيوان المعروف المفترس في كل أحواله، والشجاعة تطرد وتصاحبه دائماً، بينما يطلق لفظ الأسد على الإنسان مجازاً لأن الخوف ينتابه في بعض الحالات.
وجاء إطلاق معنى(فينقلبوا) للدلالة على هزيمة الكفار حقيقة من جهتين:
الأولى: مبادرة جميع الكفار إلى الهزيمة دفعة واحدة وإعطاء ظهورهم للريح وسيوف المسلمين.
الثانية: إنتظار الهزيمة للكفار في كل معركة يخوضونها مع المؤمنين، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والشواهد العقلية والحسية على صدق نبوته.
وقد جاء الأنبياء السابقون بالمعجزات الحسية، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينفرد بالمعجزة المتعددة من وجوه :
الأول: المعجزة العقلية، والتي تتجلى بالقرآن، وقصور الناس وإن إجتمعوا عن الإتيان بسورة من مثله , قال تعالى[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ].
الثاني: المعجزة الحسية، وجريان الآيات على يديه، وليس من حصر لهذه الآيات والبراهين التي صاحبت أيام نبوته.
الثالث: المعجزة العقلية الحسية، وتظهر في القرآن أيضاً لأنه المعجزة الخالدة والسر السماوي الملازم للإنسان في الحياة الدنيا والآخرة، ومنه هذه الآية الكريمة التي تحكي معجزة عقلية حسية تتمثل بهزيمة الكفار أمام المسلمين، وأما كونها عقلية، فمن وجوه:
الأول: نزولها من عند الله عز وجل.
الثاني: نزول الآية بواسطة جبرئيل عليه السلام وهو من كبار الملائكة وممن شارك في القتال إلى جانب المؤمنين في بدر وأحد والخندق وحنين.
الثالث: تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الكمالات الإنسانية الآية الكريمة من غير واسطة من البشر.
الرابع: حصول الهزيمة للكفار على نحو مفاجيء وسريع ومخالف لنواميس القتال في كل زمان.
الخامس: ظهور المصداق الخارجي للآية حال نزولها، وهو شاهد يفوق سبب النزول في موضوعه وأثره، لما فيه من البشارة والدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد إنتصر بنو إسرائيل على الجبارين بعد قتال إستمر أياماً , إلى أن قتل داود جالوت بمعجزة وآية من عند الله، قال تعالى[وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ] ( )، لنهزم الكفار .
أما معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتتجلى بهزيمة الكفار وإنقلابهم خائبين حال بدء المعركة مع كثرتهم وقوتهم وشدة بأسهم، وما عليه المسلمون من الضعف والقلة، وهو من الدلائل على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، والشواهد العسكرية على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يبادر أعداؤها الأقوياء إلى الإنهزام بذل وخيبة أمام المجاهدين، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
فصحيح أن الدنيا دار الإمتحان والإبتلاء إلا أن الغبطة والسعادة تتغشى المسلمين والمسلمات لتكون مدداً لهم في تعاهد مبادئ الإسلام، والإنقطاع إلى طاعة الله، واللجوء إليه في المهامات، والحرص على شكره سبحانه، أما الكفار فإن الخيبة والحرمان يصاحبهم ليلتفتوا إلى القبح الذاتي والعرضي للكفر، ويتوبوا إلى الله عز وجل .
والمدار على عموم اللفظ القرآني وليس خصوص سبب النزول ، وهو المشهور شهرة عظيمة، وإن ذهب جماعة من الأصوليين إلى الثاني، فتنزل الآية في واقعة وسبب مخصوص إلا أنها تتعدى إلى غيره، وقد إحتج أهل البيت والصحابة في وقائع متعددة بآيات نزلت في أسباب خاصة وليس من حصر لأبواب ومسائل هذا الإحتجاج ، لتتضمن الآية الوعد والوعيد إلى يوم القيامة، وهو من أسرار مجيء (فينقلبوا) بصيغة المضارع.
وفي باب البيع والعقود نسب إلى المشهور شرط الماضوية لأن لغة المضارع تتضمن التعليق، وقصد الإنشاء وهي أشبه بالوعد، وفي رسالتنا العملية قلنا (بأنه الأقوى والأولى، ولكن البيع يصح بالفعل المضارع إذا كان قاصداً الإنشاء الفعلي المنجز ولو بالقرينة والظهور العرفي بما يرفع الإلتباس والغرر، والأقوى جواز إيقاعه بالجملة الإسمية نحو: أنا بائع مع قصد إنشاء البيع) ( ).
وجاءت الآية الكريمة والإخبار عن لجوء الكفار للهزيمة المترشحة على الكبت والذل بصيغة المضارع التي تدل على إستيعاب أفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، وهو من إعجاز القرآن كما في قوله تعالى[كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( )، إذ جاء الفعل بصيغة الماضي مع أن رحمة الله عز وجل متصلة ومتجددة ومنبسطة على كل الأزمنة، ومن أسماء الله تعالى(الرحيم) وهو رحيم الدنيا والآخرة .
وجاءت القرائن الحالية لإفادة حدوث إنقلاب الكفار خاسرين من معركة بدر وهي سابقة في زمانها لمعركة أحد بأحد عشر شهراً، وإنقلابهم في أحد والمعارك اللاحقة، ليتضمن قوله تعالى(فينقلبوا) معنى الجملة الخبرية والإنشائية معاً، وإجتماعهما في محل واحد من ذخائر القرآن البلاغية والكلامية.
ولم تقل الآية (فينهزموا) لأن بين الإنقلاب والهزيمة عموماً وخصوصاً مطلقاً , فكل هزيمة إنقلاب وليس العكس، ليكون لفظ (فينقلبوا ) شاهداً بأن كل كلمة من كلمات القرآن آية أعجازية تدل على صدق نزوله من عند الله، وإحاطة آياته باللامحدود من الوقائع والأحداث , ومنها حال إنسحاب أو تولي وهزيمة الكفار، والتي تجلت بوجوه
الأول : إنهزام الكفار في معركة بدر، إذ ولوا الأدبار تاركين مؤنهم غنائم للمسلمين في أول معارك الإسلام .
الثاني : إنسحابهم خائبين في معركة أحد بعد قتال شديد.
الثالث : رجوع الكفار من معركة الخندق من غير قتال خاسرين بعض صناديدهم .
لتتضمن الفاء في (فينقلبوا ) التحدي الدائم والمتجدد في قانونين يحكمان القتال بين المسلمين والكفار :
الأول : الإخبار عن عجز الكفار عن الثبات في سوح المعارك وإن كانت الكثرة والرجحان لهم .
الثاني : ندب المؤمنين إلى الصبر والثبات في سوح المعارك , وكأن الفاء تقول لهم قولين متحدين في المفهوم , مختلفين في الحيثية :
الأول : في ساحة المعركة ومقدماتها , ومعناه الآن سينهزم عدوكم خائباً ومنه قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثاني : في حال السلم والحضر , إذ يبعث النطق بفاء ( فينقلبوا ) السكينة في نفوسهم , والطمانينة بوهن عدوهم وعجزه عن الإضرار المستديم بهم .
وتدعو الفاء المسلمين إلى شكر الله على نعمة سرعة إنقلاب عدوهم وتعدد كيفية هذا الإنقلاب , وهو من عموما ت قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )،وليكون لفظ الإنقلاب في الآية دعوة للمسلمين لليقطة والحذر من رجوع الكفار إلى المعركة أو الخديعة فيه، مع بعث السكينة في نفوس المسلمين بإخبار الآية عن ترشح إنقلاب الكفار عن كبتهم وذلهم، مما يشل ويضعف قدرتهم على العدوة للقتال، ولكن هذا الضعف لا يتعارض مع لزوم اليقظة وعمومات قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( )، بلحاظ الحاجة إليه عند إبتداء وإستدامة المعركة وما بعدها لذا بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لرصد الكفار عند إنسحابهم من أحد، كما تقدم بيانه.
ويدل وصف الكفار حال التلبس بالإنقلاب بالخيبة ومصاحبة الحرمان لهم على عجزهم عن تحقيق غاياتهم الخبيثة وإن رجعوا إلى المعركة لأن مضامين الآية توليدية , ولاتنحصر بالمعركة الأصلية أو الأولى، خصوصاً وان موضوع الآيتين السابقتين يتعلق بعودة الكفار إلى المعركة , ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين لقوله تعالى [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، فحينما يرجع الكفار يجدون المسلمين في حال أقوى ومعهم المدد الملكوتي لتكون نتيجة المعركة من أبهى مصاديق الآية محل البحث وقطع طرف من الكفار , وإن إنقلبوا في الأولى خائبين، فإنهم عند العودة ينهزمون خاسرين مع قطع طرف آخر منهم مما يجعل الخيبة مستقرة عندهم [ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ]( ).
بحث فلسفي
من صفات الله عز وجل الثبوتية القدرة المطلقة، وهذه الصفة تدركها العقول، والحواس لتكون حجة على العباد، ودعوة لهم لتحقيق الغاية التي خلقهم الله لها، وهي عبادته، والفوز بالنعيم الذي أعده لهم.
وهذه الصفة من الشواهد التي تدل على حاجة الخلائق كلها وجوداً وإستدامة لقدرة الله تعالى، سواء كانت جواهر أو أعراضاً بلحاظ أنها ممكنات وتفتقر إلى الحيز وهو الفراغ الذي يشغله الجسم، وكل ممكن حادث، محتاج إلى المؤثر المختار الممتنع عن التغيير والتبديل، وليس من حد او حصر لقدرة الله عز وجل، موضوعاً ومكاناً وزماناً , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
والإطلاق في قدرة الله رحمة بالناس، ودعوة لهم لعبادته، والقدرة هي ملكة الفاعل الحي المختار ومبدأ أفعاله، وهي بالنسبة للممكن متناهية ومحدودة كما وكيفاً، في آية تدل على بديع صنع الله، وتوكيد قانون في الإرادة التكوينية، وهو أن كل شئ محتاج إلى الله عز وجل ومستجيب لأمره، ومذعن له، ومعترف بعظيم قدرته وسلطانه، لتتجلى معاني الإلوهية التي تجعل الخلائق خاشعة لله عز وجل، وهو فضل منه سبحانه الذي لا يعجزه شئ.
ومن مصاديق قدرة الله تعالى أنه سبحانه ينصر المؤمنين , ويصيّر الكفار منهزمين، وفيه دليل على أن أفراد وآثار قدرة الله تصاحب الناس في الحياة الدنيا، وتتجلى بمقدمات وأفراد تثبيت مفاهيم التوحيد في الأرض، واللطف الإلهي بإزاحة الكفار عن منازل القوة والشأن والجاه.
ومن خصائص عالم الإمكان النقص والقصور ليكون هذا النقص مقدمة وسبباً للجوء إلى واجب الوجود، ويتغشى موضوع النقص المسلمين والكفار، ليفيض الله على المسلمين بما يجعلهم يتداركون النقص في ميدان المعركة، فيأتيهم المدد الخارجي بأبهى صوره بنزول الملائكة من عند الله، والمدد الذاتي بتثبيت أقدامهم، وطمأنينة قلوبهم.
ويجعل الله عز وجل النقص عند الكفار جلياً، وممتنعاً عن الإخفاء والستر ليبقى شاهداً تأريخياً يؤكد للأجيال المتعاقبة القدرة المطلقة لله عز وجل ومشيئته بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وقطع طرف من الكفار، ولجوئهم المبكر إلى الهزيمة، وهو من الدلائل على الحكمة والإتقان في صنع الله عز وجل بجعل الدنيا دار الإيمان والتقوى والثواب العاجل للصابرين، والعقاب الحاضر للمعاندين والجاحدين بالمعجزات والبراهين التي تدل على وجوب عبادته، وصدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ونزول القرآن .
ومن بديع صنع ومشيئة الله عز وجل أن قدرته المطلقة مقترنة بعائدية السماوات والأرض والأشياء جميعاً في ملكيتها لله عز وجل، وهو من النعم العظيمة على الخلائق , قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ), ليكون نصر المسلمين في بدر وأحد بشارة ومقدمة لوارثتهم الأرض , ومجئ الفاء في الآية وعد كريم للمؤمنين , وإنذار للكافرين لا يقدر عليه وعلى تحقيق مصاديقه خارجاً إلا الله , وقد تفضل وجعله هبة مدخرة وسلاحاً بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
قانون فينقلبوا
جاء الإخبار عن إنقلاب الكفار على نحو العموم المجموعي والإستغراقي وفيه مسائل:
الأولى: لم يتأخر شطر من الكفار في المعركة، فليس فيهم من أصر على البقاء في الميدان لمواصلة القتال , ونسوا جميعاً الثأر والغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها , وصار همهم النجاة بأنفسهم , وغاب عنهم أنها لا تكون إلا بدخول الإسلام على نحو الحصر والتعيين .
الثانية: خلو ساحة المعركة وما حولها من كمائن العدو، وأسباب الكيد، وهذا لايتعارض مع لزوم الحذر والوقاية من قبل المسلمين.
الثالثة: إنكشاف العدو دفعة واحدة وهو على وجوه:
الأول: الإنسحاب فجأة ومن غير أسباب ظاهرة، إذ ينظر المسلمون للكفار، وهم يجرون أذيال الهزيمة.
الثاني: الهزيمة أمام المقاتلين المسلمين الذين يندفعون وسط صفوف العدو، ويلاحقونها.
الثالث: عجز الكفار عن مواصلة القتال، وإحجام أبطالهم عن الخروج للمبارزة.
الرابع: إصابة الكفار بالضعف، وظهور نقص الرجال عليهم، وفقرهم للأبطال الذين كانوا يعولون عليهم في القتال.
الخامس: حال الكبت والذل التي تتغشى الكفار طوعاً وقهراً لأنها أمر من عند الله عز وجل يأتي على نحو الحتم واللزوم.
السادس: قيام الملائكة بزجر وطرد الكفار من ساحة المعركة.
وليس من حصر لأسباب هزيمة الكفار لأن هذه الآية تؤكدها وان تعددت وتباينت طرقها وكيفياتها، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الرابعة: في الآية تحذير وإنذار لعموم الكفار وفي كل زمان، قال تعالى [فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ]( )، ولا ينحصر الإعتبار فيها بخصوص الذين آمنوا وهو من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في دار الإبتلاء والإمتحان، ليكون هذا الإعتبار على وجوه:
الأول: إنه باب للهداية والتوبة والإنابة.
الثاني: الإتعاظ من آيات نصر المؤمنين، وما يأتيهم من المدد من عالم الغيب.
الثالث: النفرة من الكفر، والإبتعاد عن منازل الضلالة لرؤية ما يحل بالكفار، إذ يأتون بالجيوش العظيمة ذات المؤون والسلاح والعدة , فيفرون منهزمين، ويملأ الحزن والذل نفوسهم، في آية تدل على التركيب والتعدد الجهتي في نصر الله عز وجل للمؤمنين.
الرابع: تجدد آية إنقلاب الكفار مع أنهم يعودون إلى المعركة بأضعاف العدد والعدة التي جاءوا بها في المعركة السابقة، فيخرج لهم المسلمون على قلتهم والنقص في عدتهم، فتكون ذات النتيجة المركبة من وجوه:
الأول: تعدد وتجدد المصداق في قطع وهلاك طائفة من رؤساء وعموم جيش الكفار.
الثاني: ظهور الوهن والعجز على الكفار، فكلما أرادوا تدارك النقص، إستحدث غيره في ذات الجهة والموضوع، وهو الطرف، ليكون مناسبة للبرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول إلى العلة، فقتل كل من يبرز من أبطال الكفار، وهلاك الطرف منهم شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد تفضل الله عز وجل وشدّ عضد موسى عليه السلام بأخيه هارون وجعله نبياً معه , قال تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ]( )، فانه سبحانه تفضل ونصر النبي محمداً بآلاف من الملائكة وهو أبهى مصاديق شد العضد في تأريخ النبوة والإنسانية مطلقاً ليكون عضداً للمؤمنين ومادة سماوية لبعث السكينة في نفوس المسلمين إلى يوم القيامة , وهو من الشواهد على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وحصول النقص عند الكفار دليل على إنتقام الله منهم، وقبح فعلهم وسوء إختيارهم، وليس في الكفار من يقوم مقام عمرو بن ود العامري عندما قتله الإمام علي عليه السلام في معركة الخندق بدلالة ما ظهر عليهم من الكبت والإمتناع عن عبور الخندق، وعندما أسلم خالد بن الوليد ورجالات من قريش خسر الكفار الجرأة والمباغتة، وهو من مصاديق القطع المعنوي والإعتباري، وشاهد على أن القطع أعم من أن يختص بالطرف والأفراد والأموال.
ولم تقل الآية (أو يكبتهم أو فينقلبوا خائبين) بالترديد بين الكبت والإنقلاب والإنصراف , وإتحاد النظم بينه وبين الكبت والذل، بل جاء بالعطف وإقتران وتعلق الإنقلاب بالكبت، وفيه مسائل:
الأولى: بيان إقتران الإنقلاب بالكبت والذل , والإشارة إلى وهن الكفار وظهور الضعف عليهم.
الثانية: تحذير وإنذار الكفار من سوء عاقبة الإنقلاب، وأنه غاية بالذات وشاهد على حال الجبن والخور الذي يصيب الكفار , ومقدمة لغايات عديدة تتضمن دعوة الكفار للتدارك، وحثهم على التسليم بالمعجزة والكف عن العناد والجحود.
الثالث : البشرى للمسلمين بعدم عودة الكفار للمعركة , وكيف يرجع من تغشاه الذل وملأ الرعب نفسه, والملائكة له بالمرصاد , قال تعالى[وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
ومن معاني الإنقلاب تحويل الشئ عن وجهه، وفيه دلالة على أن معركة أحد إنتصار للمسلمين لأنها منعت الكفار من تحقيق الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها، إذ أنها مركبة من أمور:
الأول: ذات الأغراض التي زحفوا من أجلها قبل عام حيث كانت معركة بدر.
الثاني: الإنتقام لما لحق قريش من الهزيمة والذل يوم بدر.
الثالث: الثأر للعدد الكثير من رجالهم الذين قتلوا يوم بدر، ودفنوا بالقليب.
الرابعة: فقدان الأمن في طرق قوافل قريش إلى الشام والإنذار بتجرأ الأعراب والقبائل عليها بعد إنكسار هيبة وشأن قريش، وإصرارها على عبادة الأصنام والجحود بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وصارت حديث الركبان، والعذارى في خدورهن.
الخامسة:لحوق الشباب من قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإسلام أبناء وبنات عدد من كبراء أهل مكة، وميل الناس الظاهر للإسلام.
السادسة : الطمع بقلة وضعف المسلمين.
السابعة : فضح وإنعدام أثر تحريض بعض اليهود لقريش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإغرائهم بالمسلمين، وبيان ما عندهم من النقص في العدة , والقلة في المؤونة، ووجود المنافقين.

علم المناسبة
جاءت مادة (قلب) في القرآن في لغة الإنذار والبشارة، وأكثرها في الإنذار ومنها ما جاءت في الحياة الدنيا، ومنها ما يتعلق بالآخرة، قال تعالى[لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد]( )، والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته عموم المسلمين، في التحذير من الإفتتان بما عليه المشركون من سعة الرزق وكثرة الأموال، والسعي لطلب المكسب والتجارة، (وعن ابن عباس : هم أهل مكة( ).
والتقلب هنا غير الإنقلاب، لأن المراد من التقلب السعة والتصرف في البلاد، والرخاء، أما الإنقلاب فهو الإنصراف والرجوع، وجاء إنقلاب كفار قريش أذلاء في معركة بدر وأحد مقدمة وبرزخاً دون تقلبهم في البلاد , لذهاب شوكتهم به , وخزيهم عند القبائل , وإكتشاف الناس أنهم على باطل .
وجاء قوله تعالى [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]( )، إنذاراً وتبكيتاً للكفار إذ أن الرجوع إلى الله أمر حتم، والنشور حق.
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن الذين يعتدون على المسلمين يلاقون الخزي والذل في الحياة الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تهلك طائفة منهم ويفر الباقون من ساحة المعركة، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب إلا الذي تدركه التوبة، لذا جاء فتح مكة رحمة بهم، ومناسبة لإنابتهم.
وجاء في ذم السحرة حينما جاءت عصا موسى على حبالهم وعصيهم وابتلعتها ثم عادت عصا باذن الله [فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ]( ).
وقد إنقلب الكفار يوم بدر وأحد وهم في حال من الكبت والحرمان، ويترشح عنه إنطباقاً الذل والصغار، ومع أن السحرة أعلنوا إسلامهم وسلّموا بالمعجزة، وقالوا لو كانت عصا موسى سحراً لما أكلت الحبال والعصي وعادت كما كانت إذ جعل الله عز وجل تلك الأجرام أجزاء لطيفة أو أعدمها، وتعرض السحرة للعذاب من قبل فرعون وملئه ولم يتخلوا عن الإسلام، أما كفار قريش فقد رأوا المعجزات الباهرات في المعركة والتي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنهزموا فزعين خائفين، ومع هذا لازموا الإستكبار والعناد، ولم يغادروا منازله.
وقد أثنى الله عز وجل على السحرة عند توبتهم وإحتجاجهم على فرعون بذات اللفظ الذي ذم فيه الكفار، وورد في التنزيل [قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ]( )، فأعلنوا إسلامهم وعدم المبالاة بوعيد فرعون لهم بالقتل لأنهم منقلبون إلى الله جميعاً هم وفرعون فيحكم بينهم، وإرادة نفي الربوبية عن فرعون وتذكيره بأنه ميت ومنقلب إلى الله عز وجل
قوله تعالى [خَائِبِينَ]
تأتي خواتيم الآيات أحياناً في الثناء على الله عز وجل، وبيان صفاته وأسمائه الحسنى، لتكون إشراقة تنير القلوب المنكسرة، وتبعث فيها معاني الهداية والإيمان , وفيها توكيد لمضامين الآية بلغة البرهان كما في خاتمة الآية السابقة [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ].
وتأتي لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في آيات النعم الإلهية، كما في الآيتين اللتين قبل الآية السابقة وما فيهما من الإخبار عن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ووصف الملائكة بأنهم [مُنْزَلِينَ] ( )، و[مُسَوِّمِينَ]( )، وتأتي أحياناً في مدح المسلمين، كما في خاتمة الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من هذه السورة [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] وخاتمة الآية التي بعدها (لعلكم تشكرون) والخاصة بنصر الله للمؤمنين يوم بدر , وهذا المدح في طول الثناء على الله عز وجل.
وتتضمن الآية محل البحث بيان بطش الله بالكفار الذين يعتدون على الحرمات، ويزحفون بالجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
وجاءت خاتمتها إعجازاً وشاهداً على صدق نزول القرآن من عند الله، فكما أنها خاتمة للآية فانها خاتمة لظلم وتعدي الكفار وبيان للعذاب العاجل الذي ينتهي إليه هجومهم إلى جانب الآيات التي تؤكد ما ينتظرهم من العذاب الأليم يوم القيامة.
لقد أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [خَائِبِينَ] وهذه الخيبة على وجوه:
الأول: الخيبة على نحو العموم الإستغراقي الشامل لجميع الكفار الراجعين من المعركة.
الثاني: الخيبة على نحو العموم المجموعي، فتظهر الخيبة والإنكسار عليهم كجيش يقر بعجزه عن تحقيق الغايات التي خرج من أجلها.
الثالث: الخيبة على نحو العموم الإفرادي، وإحساس كل فرد من جيش الكفار على نحو مستقل بالخيبة والحرمان.
وهذا التعدد في مصاديق الخيبة برزخ دون المواساة فيما بينهم، فلا يسمع منهم إلا اللوم والأسى والحسرة، ولا بد من موضوع لهذه الخيبة، إذ تأتي كأثر من وجوه :
الأول: خيبة الكفار قبل بدأ المعركة، وفيها مسائل:
الأولى: خيبة الكفار لخروج الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم ترددهم أو قصورهم , قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثانية: حسن إنقياد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإستعداد للقتال، إذ أن ميدان المعركة يتصف بمزايا خاصة، ويخرج أحياناً عن القواعد والضوابط السائدة في حال السلم، ويقل فيه الضبط والإمتثال للأوامر طلباً للنجاة , ودفعاً للأذى وطمعاً بالنفع.
ويرى الكفار أن الصحابة يتدافعون دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتطلعون بشوق إلى أوامره، وينصتون إلى ما ينزل عليه من الوحي حتى في ساحة المعركة.
وعندما أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في طريقه إلى مكة سنة ست للهجرة يريد العمرة، قبل أن يتم صلح الحديبية وجلس عروة بين يديه وأخبره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنه لم يأت يريد حرباً، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا إبتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه , وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا، فقروا رأيكم( ).
الثالثة: الصلات الأخوية بين المهاجرين والأنصار، والتي تتجلى في ميدان القتال بالنصرة ودفع بعضهم عن بعض العدو، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه آخى بين المهاجرين والأنصار.
الثاني: خيبة الكفار أثناء المعركة، وفيها مسائل:
الأولى: التزاحم بين المؤمنين للخروج للمبارزة، كما تجلى يوم بدر إذ بادر ثلاثة من الأنصار للخروج لمبارزة عتبة بن ربيعة وأخيه وإبنه، ولكنهم أبوا إلا الأكفاء من قريش، وكانت قريش تظن أن الخوف يدخل قلوب المسلمين عندما يرون كثرة عدد وعدة قريش وأنها ثلاثة أضعاف عددهم سواء في بدر أو أحد، ولكنها أصيبت بالخيبة من تفاني المسلمين في القتال في سبيل الله.
الثانية: عشق المؤمنين للشهادة، وهو أمر إنفرد به المسلمون، وفيه قوة إضافية ومنعة لهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه إنذار لعدوهم بالكف عن قتالهم، وهو سبب لإصابته بالخيبة عند المعركة لأنه يفاجئ بسلاح ذاتي عند المسلمين يعجز الناس عن إيقافه أو التقليل من شأنه وأثره.
الثالثة: إحساس الكفار بنزول الملائكة لنصرة المسلمين، وورد عن ابن عباس قال: قال حدثني رجل من بني غفار ، قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة . فننتهب مع من ينتهب . قال فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول اقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت( ).
الرابعة: إندفاع المسلمين في القتال، لتتجلى مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، في ميدان القتال إذ يهجمون وكأنهم رجل واحد يعضد أحدهم الآخر، ومن الشواهد أن المشركين مع كثرتهم ورجحان كفتهم عدداً وعدة يبادرون إلى الفرار من المعركة حالما يبدأ القتال كما في معركة بدر وأحد.
فلم يعهد تأريخ المعارك وما عند الناس من أخبارها مثل الإستبسال والفداء الذي يظهر عليه المسلمون في القتال ليكون سبباً لتغشي الخيبة للكفار على نحو دفعي وحال، وليس من فترة بين المعركة وخيبة الكفار، لأن هجوم المؤمنين العام وتفانيهم في مرضاة الله يجعل الكفار يميلون للفرار وإجتناب القتال.
الخامسة: إدراك الكفار للتباين العقائدي بينهم وبين المسلمين فيتناجى الكفار للقتال، ويلقون القصائد والأراجيز والأشعار، ويزحفون بعزم , وحالما يبدأ القتال تنزل الخيبة بين صفوفهم، لتهدم تلك العزائم وتكشف لهم حقيقة أن الموضوع الذي جاءوا للقتال من أجله سراب ولا أصل له، والدفاع عن الأوثان والأصنام يتنافى مع وظائف العقل الذي جعله الله عز وجل رسولاً ذاتياً عند الإنسان.
السادسة: نزول آيات القرآن أثناء المعركة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة المسلمين لآيات القرآن التي تزيد من قدرتهم على القتال وتماسكهم وتعاونهم , ومن مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، إندفاع المسلمين في القتال، وعدم خشيتهم من الكفار وأسلحتهم.
السابعة: وقوع صناديد الكفار الذين كانوا يعول عليهم قتلى في أول ساعات المعركة، وظهر في هذا الزمان إصطلاح (الضربة الأولى) في القتال والحرب، وما فيها من المباغتة للعدو وإجهاز على أهم دفاعاته، وسلب لقدراته الهجومية، وبعث للإرباك في صفوفه، وتعطيل لخططه.
ومن الآيات أن المسلمين لم يبدأوا عدواً القتال، ومع هذا تكون الضربة الأولى لهم وبأيديهم، ويفشل العدو في تحقيق غاياته عند إبتدائه المعركة، وهو إعجاز حي ظاهر في ميدان المعركة، ودليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الملائكة لنصرته وأصحابه، وسبب لبعث الحسرة والندم في نفوس الكفار.
الثامنة:تجاف الكفار عن الموت، وتعذر السلامة منه مع الحرص لأن الله عز وجل أبى إلا أن يقطع طرفاً منهم، والقطع هنا على نحو الحتم .
التاسعة: إختيار المسلمين للشهادة بتفانيهم وبذلهم الوسع في القتال، فهم يقصدون أموراً مجتمعة ومتفرقة وهي:
الأول: القتال والدفاع عن الإسلام، وان صار مقدمة للشهادة.
الثاني: الشهادة ذاتها سبيل للحياة الأبدية في الجنة قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثالث: تحقيق النصر للإسلام والمسلمين وإن جاء بالتضحيات.
الرابع: الذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ شخصه الكريم، وإستدامة نزول آيات القرآن لتبقى مناراً وضياء ينير دروب الجهاد والصلاح للناس جميعاً في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، بإعتبار أنهم من جند الله الذين يساهمون في حفظ حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي ضرورة لنزول القرآن على صدره.
العاشرة: التباين بين المؤمنين والكفار في موضوع الجبن والخور في المعركة وإذ جاءت الآيات بتوكيد ثبات المسلمين في ميدان المعركة وعدم حصول الفشل والخور عندهم إلا على نحو الهم به من فريق منهم مع سرعة زوال هذا الهم بفضل الله( )، بينما جاءت الآية محل البحث بالإخبار عن قانون ثابت وهو هزيمة الكفار المقرونة بالخيبة والحرمان.
الحادية عشرة: إتحاد لواء المشركين في الغالب وسقوطه في المعركة ومقتل حامله، وتعدد ألوية ورايات المؤمنين وبقاؤها مرفوعة خفاقة، وكان لواء المسلمين يتقدم وسط المعركة ساعة ضراوتها وشدتها، ومع شدة القتال يوم أحد أرسل النبي إلى الإمام علي أن قدم الراية، فتقدم علي فتبارز هو وأبو سعد بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين بين الصفين، أي أن الجيشين ينظران لهذه المبارزة لموضوعيتها في سير المعركة ونتيجتها، خصوصاً وأن كلاً منهما حامل اللواء، فصرعه الإمام علي عليه السلام قتيلاً (ثم انصرف ولم يجهز عليه، فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه ؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله) ( )وفي رواية أن الإمام علي ضربه فقتله.
وهذه المبارزة من مصاديق قطع طرف من الكفار، لأن حامل اللواء علم من الكفار، وأحد رؤسائهم.
وقتل حامل لواء الكفار بشارة وغبطة للمؤمنين، وسبب لإمتلاء نفوسهم بالطمأنينة والسكينة وإرتفاع أصواتهم بالتكبير والتهليل، ويبعث التكبير الفزع والكبت والحزن في قلوب الكفار.
الثالث: خيبة الكفار بعد إنقضاء المعركة، وفيه مسائل:
الأولى: فرار الكفار من ساحة المعركة.
الثانية: إدراك الكفار لفشلهم وجبنهم.
الثالثة: عجز الكفار عن تحقيق ما يأملون.
الرابعة: إلتفات ومناجاة الكفار لفقد صناديدهم.
الخامسة: بكاء الكفار على قتلاهم، وشمول هذا البكاء للرجال والنساء.
السادسة: الخيبة والحسرة للوهن والضعف الذي أصابهم.
السابعة:تجلي معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي خروجه سالماً من المعركة والقتال، مع أن الكفار يرون مكانه وسط الميدان.
الثامنة: الإقرار العام عند الكفار بقوة شوكة المسلمين.
التاسعة: مايلحق الكفار من الخزي والذل عند القبائل الأخرى والناس عامة بسبب عجزهم عن الإضرار بالمسلمين قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
العاشرة: إمتلاء نفوس الكفار بالحسرة لذهاب الأموال التي إنفقوها في مقدمات القتال والسلاح والمؤون.
الحادية عشرة: إنكشاف كذب الدعوى بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإصابة الكفار بالإحباط والقنوط.
الثانية عشرة : عدم حيلولة المعركة والقتال دون مواصلة المسلمين الخروج بسرايا التبليغ حول المدينة، ومع حلاوة نعمة النصر في معركة بدر، وكثرة الأسرى والغنائم ، وما تستلزمه من أمور ، وهذه السرايا ليست للغزو ، إنما هي من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( )، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم (قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب شهر رمضان، أو في شوال.
ولما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سليم)( ).
أي عدم تحقق مصداق الغزو .
ومع ما أصاب المسلمين من القتلى والجراحات يوم أحد فأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خرج في اليوم الثاني للمعركة خلف جيش المشركين في يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال في السنة الثالثة للهجرة، وسميت كتيبة حمراء الأسد نسبة إلى الموضع الذي وصل إليه، ويبعد عن المدينة ثمانية أميال، وأقام فيها ثلاثة أيام.
الثالثة عشرة: هزيمة الكفار في المعركة، وعجزهم عن نيل ما يطلبون معجزة ظاهرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أمور منها:
الأول: قلة عدد أصحاب النبي في المعركة.
الثاني: النقص الظاهر في عدتهم وأسلحتهم ورواحلهم.
الثالث: ما يتحلى به المؤمنون من الصبر في ميدان المعركة طلباً لمرضاة الله.
الرابعة عشرة: سلامة المدينة المنورة من الضرر، وعجز الكفار عن الوصول إليها، وكأن حجباً سماوية تحيط بها، وسلامتها تلك رشحة من رشحات نزول الملائكة لنصرة المؤمنين، وعلة لرمي الكفار بالضعف والوهن والعجز، وهو من عمومات الخيبة التي تلحق بالكفار.
الخامسة عشرة: خيبة الكفار برؤية دخول الناس الإسلام بسبب هزيمة الكفار، على نحو الخصوص، وهو من عمومات قوله تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، فمن مصاديق دخول الإسلام جماعات وفرق أنهم يرون هزيمة الكفار خائبين محرومين أمام المسلمين الذين هم قلة إلى جانب تجلي معجزات النبوة، والضياء الذي تبعثه آيات القرآن فيملأ القلوب بنور الهداية , ويجذبها إلى منازل الإيمان.
الخامسة عشرة: لقد حرص الكفار على بقاء المسلمين في حال فقر وضعف، ومنعوا المهاجرين من أخذ أموالهم معهم إلى المدينة، أو بيع دورهم وبيوتهم، فجاءت معارك الكفار مع المسلمين لتجعل المسلمين المهاجرين والأنصار يغنمون الأموال.
ومن أسرار إقتران هزيمة الكفار بالخيبة والحرمان الإخبار عن إستمرار حال ظلمهم لأنفسهم، فهم لم ينقلبوا تائبين، ولا شاكرين لله على المهلة والمندوحة في عدم وقوعهم قتلى على يد الملائكة والمؤمنين، بل تملأ نفوسهم الحسرة على فوات ما كانوا يأملون، وأيهما أكثر ظلماً للنفس الهجوم على المسلمين ودخول المعركة أم الهزيمة بخيبة وذل.
الجواب هو الأول لموضوعية إختيار الظلم والتعدي على حرمات الإسلام، وتهيئة مقدماته، وجاءت الخيبة مترشحة عنه , وعقوبة عاجلة، وإنذاراً لعموم الكفار , قال تعالى[وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ] ( ).
ترى لماذا قال الله(فينقلبوا خائبين) ( ) ولم يقل(فينقلبوا خاسرين) يراجع أن كان موجود، فيه مسائل: بين الخسارة والخيبة عموم وخصوص مطلق فكل خسارة هي خيبة وليس كل خيبة هي خسارة، فمن معاني الخيبة في المقام أنهم عادوا من غير أن يحققوا الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها بالقضاء على الإسلام.
ولم تحصل عندهم خسارة مثل تلك التي لحقتهم يوم بدر، لذا قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، فنسب النصر للمسلمين والذي يدل في مفهومه على هزيمة وخسارة الكفر، ومن إعجاز القرآن الوصف الدقيق لحال الكفار منطوقاً مفهوماً بعد إنتهاء المعركة يوم بدر وأحد، إنهزموا يوم بدر بعد كثرة القتل والأسرى فيهم في الجملة مما جعل المؤمنين يخشون عودتهم للقتال فجاءت البشارة بالمدد الملكوتي بما ينفي هذه الخشية، ويجعل الفبطة تغمر المؤمنين، وألسنتهم حزية بالثناء على الله لعظيم فضله عليهم.
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثاني والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر في باب سلامة قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( )، من النسخ وعدم إنحصار خيبة المشركين بانقلابهم من معركة أحد بل تشمل تجدد وقائع هزيمتهم في معركة بدر , وعجزهم عن أخذ الثأر في معركة أحد مع أنهم أستعدوا له وبذلوا الأموال وجيشوا الجيوش والمترزقة .
قانون خائبين
لم يرد لفظ(خائبين) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وكأنها علم مستقل خاص بهزيمة الكفار، وفيه بيان بأن الخيبة والحرمان الذي يصيبهم يومئذ هو أشد وجوه الخيبة والحرمان، وليس من أمة تعاني من الحرمان والحزن والحسرة مثل الكفار ساعة الهزيمة، فلذا خصهم الله عز وجل بهذا الوصف ليعتبر الناس منهم، ويتدبروا في أسرار القرآن وكلماته التي تكون كل واحدة منها فريدة عقائدية وبلاغية ويدركوا أن أشد وجوه الخسارة والحرمان في الدنيا النعت الدائم للذين يقاتلون النبي محمداً والمؤمنين، ويجهزون عليهم، ويسعون في إستئصالهم بأنهم خائبون.
ومع أن هذه الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية التي تتضمن الوقوع والحدوث، فإنها تتضمن الإنشاء والوعيد ودعوة الكفار لإجتناب قتال المسلمين، وبلحاظ عمومات قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]فإن الخيبة مقدمة وإنذار لنزول عذاب الإستئصال بالكفار إن إستمروا على نهج محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
وصحيح أن الآيات جاءت بالوعيد والعذاب الأليم للكفار، وأخبرت عما لاقوه من البطش الإلهي وما أعد الله عز وجل لهم من العذاب الأليم يوم القيامة، إلا أن الخيبة جاءت صفة للكفار الذين ينسحبون من ساحة القتال مع المسلمين، وهو من مصاديق ما رزق الله المسلمين، وجعلهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار سعادة وغبطة للمسلمين، وتشملهم معاني الإبتلاء والإمتحان فيها كما تشمل غيرهم من الناس , ولكن مع التباين الجهتي في الموضوع , والمطلق في الأثر إذ يتصفون بخصوصية وهي الفوز باللطف الإلهي بنيل العون والعناية والمدد للتوفيق في الإبتلاء، والثواب العظيم عليه .
ويأتي العون والمدد بالذات أحياناً , وبالعرض أحياناً أخرى، ومن الثاني ما يترشح عن نزول الخسارة والخيبة بالكفار، فإنه عون للمسلمين من وجوه:
الأول: تجلي معجزة حسية بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إنه مناسبة لدخول الناس الإسلام.
الثالث: كان كفار قريش يسيمون المؤمنين المستضعفين في ناحيتهم شتى صنوف العذاب، فجاءت خيبة الكفار لتصيبهم بالشلل والوهن.
الرابع: ظهور التضاد والتباين بين المسلمين والكفار بشمول الكفار بالخيبة والحرمان، وفوز المسلمين بالنصر والعز والرفعة وهو من عمومات قوله تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامس: الخيبة إبتلاء وداء يصيب مجتمعات الكفار، ويجعل الحزن والأسى مستقراً في نفوسهم، ويكون سمة مصاحبة لهم يعرفون بها، وهل تبقى عندهم حتى بعد دخولهم الإسلام، الجواب لا، لأنها من لوازم الكفر المقرون بالتعدي على حرمات الإسلام، فاذا تغير الموضوع تبدل الحكم، فتأتي العزة مع دخول الإسلام مما يدل على إعجاز قرآني وهو أن لغة التوبيخ والتبكيت الواردة في القرآن زجر عن الفعل المذموم الذي يأتي التوبيخ بسببه.
وفي نعت الكفار الحربيين بالخائبين والمحرومين تحذير ودعوة للناس عامة من وجوه:
الأول: إجتناب نصرة الكفار في تعديهم على الإسلام والمسلمين.
الثاني: من المعروف والمتواتر تأريخياً أن قريشاً أهل تجارة إذ أن مكة بلاد جدب وتأتي العرب من كل صوب في موسم الحج والعمرة، فيكون مناسبة لتولي قريش البيع وتصريف البضاعة التي يأتون بها من الشام ، ومن اليمن ، وهو من مصاديق دعوة إبراهيم كما ورد في التنزيل[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
وجاء نعتهم بالخائبين لتحذير الناس من المعاملة معهم، وكانت العرب تتفائل وتتشاءم بالأسماء والظواهر والعلامات، وورد في التنزيل ذم الكفار في تعديهم على المسلمين بنسبة ما يلحق بهم من القحط والجدب لوجود الأنبياء وأصحابهم بين ظهرانيهم، وكما في مشركي مكة حينما حبس عنهم المطر[وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ]( ).
وصحيح أن معنى الخيبة هو الحرمان لغة ولكن يمكن القول أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل حرمان هو خيبة وليس العكس فالخيبة أعم في موضوعها، وتكون أثراً مترشحاً عن الحرمان، والحرمان يكون كالمصيبة التي تصيب الفرد والجماعة، وتخف وطأته مع تقادم الأيام.
أما الخيبة فهي صفة وعرض , وقد تستقر في النفوس، وتمنع من معاودة الكرة في ذات السبب التي جاءت الخيبة بسببه، وهل الخيبة من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ومتساوي الأفراد أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الجواب هو الثاني، لذا جاءت الآية ببيان التعدد في علة وموضوع خيبة الكفار من قطع طرف منهم، وهزيمتهم في القتال، وعجزهم عن نيل ما قطعوا مئات الأميال ذهاباً وأياباً وانفقوا من أجله الأموال الطائلة بالإضافة إلى الإستعداد له وتحريض القبائل وإستمالتها والتذلل لها، في وقت كانت السطوة والشأن بين القبائل لقريش.
فأخذت تسأل وتستجدي النصرة والعون بالباطل، فكان هذا السؤال من مصاديق خيبتهم وفضحهم وخزيهم عند القبائل، لبيان شدة الخيبة التي أصيب بها الكفار، وأنها ليست أمراً طارئاً وعرضاً زائلاً، ومن الخيبة إنعدام الظن بحصول ما جرى لهم، فكانوا يظنون أن قتل المؤمنين في ميدان المعركة أمر هين وسهل، ولم يرجع الكفار إلا وقد فقدوا أبطالهم، وعدداً من رؤسائهم وكبرائهم.
وجاء الأمر والعذاب الإلهي بالكفار مردداً بين أمرين:
الأول: قطع وهلاك طائفة منهم.
الثاني:الكبت والذل لمن بقي منهم , لقوله تعالى في الآية محل البحث [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ].
وكل فرد منهما موضوع للخيبة، ولم تنحصر أسباب الخيبة بحال المعركة، بل هي متجددة الأفراد، فلا يستطيع الكفار التخلص منها، بل تأتيهم من بيوتهم ومنتدياتهم والأسواق ومن العبيد وعمار بيت الله الحرام، وحديث الناس العلني عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها خيبة الكفار، إذ أنها معجزة قائمة بذاتها خصوصاً وأنها جاءت دفعة واحدة لقريش بعد توارث رفعتها وعظيم شأنها بين القبائل، فتلك الرفعة غادرتهم بمحاربتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وإستبدلها الله بملازمة الخيبة لهم، قال تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( )، وفيه تخفيف من وجوه:
الأول: صيرورة الكفار في حال خيبة، وزوال الكبرياء وأسباب الرفعة والشأن عنهم برزخ دون إصرارهم على الباطل وإكراه الناس عليه.
الثاني: خيبة الكفار مناسبة للتخفيف عن أولادهم وعبيدهم وحلفائهم والناس جميعاً , وفيه مندوحة وسعة في إختيار طريق الهداية والحق.
الثالث: تبعث الخيبة على القنوط واليأس، فتضعف همة الكفار في التعدي ومحاربة الإسلام.
الرابع:التخفيف عن المسلمين الذين يخفون إسلامهم ممن كانوا في مكة وحواليها، وكثرة وتنامي عددهم مع كل خيبة تلحق الكفار.
الخامس: فيه