معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 95

المقدمة
الحمد لله الذي جعل كلماته من اللامنتهي، وتنفد مياه البحار والمحيطات، وكلمات الله تبحث عن مداد إضافي لها ولبيانها ، ولن يعجزها ، قال تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي]( )، وفيه تحد عظيم للخلائق , ودعوة للناس للتسليم بالعبودية والخضوع لله عز وجل، والإقرار بأنه الباقي الأزلي الأبدي، وحض التدبر في البقاء ودوام الوجود لله عز وجل بأفراد الزمان الطولية اللامتناهية في ماضيها ومستقبلها، وليس من حصر للشواهد التي تدل على صدق الآية أعلاه مع ما فيها من المبالغة التي قد لا تتحملها بعض العقول حتى في تصورها الذهني لولا اللطف الإلهي في إصلاح الناس لمنازل العبودية، ودفعهم عن مواطن الجهالة والعناد.
فمن كلمات الله نهي المسلمين عن أكل الربا ونزول آية البحث وهم في حال من القلة ونقص المؤون , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وهل المنع من الربا من النصر المذكور في الآية أعلاه لما يدل عليه في مفهومه من النماء والكثرة في أموال المسلمين.
الجواب لا، فالقدر المتيقن من النصر هو الغلبة وقهر الكفار يوم بدر، بعد إختيارهم القتال واصرارهم عليه .
أما الإمتناع عن الربا فهو نصر آخر يتصف بأنه متجدد ومتصل ليس له إنقطاع.
وإمتناع المسلمين عن الربا نصر من وجهين:
الأول: إنه قهر للنفس الشهوية، وطرد لخصلة الطمع , ومنعها من الإستحواذ على عالم القول والفعل.
الثاني: بشارة الغنائم والفتح للمسلمين، وإتساع رقعة الإسلام.
ومن الآيات ظهور الثروات المعدنية وكنوز الأرض للمسلمين حكومات وشعوباً ومنها نعمة النفط ليكون إمتناع المسلمين عن أكل الربا على وجوه:
الأول: إنه سبب لجلب النعمة وظهور الكنوز.
الثاني: إنه شاهد على إستحقاق وأهلية المسلمين للنعم وتوالي الخيرات.
الثالث: إجتناب الربا وسيلة للتصرف الحسن بالثروات والخيرات التي تأتي للمسلمين وإتخاذها مقدمة لفعل الصالحات .
الرابع: بالإمتناع عن الربا تعاهد للثروة والمال، ومانع من تضييعها، قال تعالى في ذم قوم[بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( ).
الخامس: فيه شكر لله عز وجل على النعم بلحاظ قانون عقائدي وهو كل طاعة لله عز وجل وإجتناب للمعصية شكر له سبحانه.
فجاءت آية البحث لتحمل أسباب جلب الخير والبركة للمسلمين، وتمدهم بأسباب الحفاظ على منازل الرفعة ونزول البركات بالتقيد بمضامينها وإجتناب الربا، وهذا المدد السماوي، وحفظ منازل الرفعة من مصاديق قوله تعالى [يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).

قانون القرآن إصلاح عام
لا يقدر على الإصلاح العام إلا الله عز وجل ، والمراد من الإصلاح العام وجوه كثيرة منها :
الأول : قانون تهذيب النفوس .
الثاني : قانون حلية المعاملات ، والتنزه عن الربا .
الثالث : قانون الأداء العام للفرائض العبادية .
ومن الإعجاز في المقام فرض الله عز وجل الصلاة اليومية واستحباب أدائها جماعة ، والندب إلى العمل الجماعي مطلقاً بوحوه الخير قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد)( ).
الرابع : قانون تغيير العادات والأعراف نحو الأحسن والأصلح ، ومنه حرمة الربا ، وقطع الوأد ، واستئصال الظلم ، لذا جاء في آيات الربا [فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
من إعجاز القرآن أن تأتي آية منه بأمر أو نهي لتغير أحوال الناس ومراتب الناس فيها، وتقسمهم على أساس عقائدي إلى قسمين , بينهما تباين وتضاد يكون مرآة ومقدمة للتباين الذي يكون جلياً في الآخرة، وعالم الثواب والعقاب.
وتحتمل آية البحث وجوهاً:
الأول: قانون النهي عن الربا مدد للمسلمين في الحياة الدنيا.
الثاني: قانون العصمة من الربا رحمة تصاحبهم في الآخرة.
الثالث: قانون امتناع المسلمين عن الربا عون للناس جميعاً في الحياة الدنيا.
الرابع: قانون الثواب العظيم في الآخرة على إجتناب الربا في الدنيا والآخرة.
الخامس: إنها مدد للناس جميعاً في الحياة، ومدد خاص للمسلمين في الآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من الشواهد على إفاضات وبركات الآية القرآنية مطلقاً وآية البحث على نحو الخصوص، ومن الدلائل على أن الآية القرآنية كنز ينهل منه المسلمون والناس جميعاً في الحياة الدنيا، ويختص به وببركاته ومنافعه المسلمون خاصة يوم القيامة .
قانون خزائن القرآن أكثر من عدد آياته
تكون خزائن القرآن أكثر بكثير من عدد آياته وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وليس من نفاد لأي خزينة منها، وكأنه مثال ومرآة في الحياة الدنيا للنعم الإلهية في الجنة، وعمومات قوله تعالى [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ] ( )، بخصوص ثمار الجنة ، والتي إذا قُطعت واحدة منها حلت أخرى جديدة محلها.
وتتجلى كنوز القرآن بأمور منها :
الأول: قانون إحاطة آيات القرآن باللامتناهي من الوقائع والأحداث.
الثاني : قانون خزائن القرآن لا تنفذ.
الثالث : قانون صدور المسلمين عن القرآن.
ومن مصاديق إعجاز القرآن شدة النهي عن الربا، ومجيؤه لمنع الداعي النفسي والجمعي في الميل إلى لفعل المحظور والضار وهو الربا، وعند شدة المرض مثلاً يزيد الطبيب جرعة الدواء لمحاصرة المرض.
أما في الحكم التكليفي في النهي عن الربا فإن الأمر أعم إذ أن آية البحث من الوقاية والعلاج في آن واحد، فتتعدد الموضوعات التي يتغشاها اللفظ القرآني المتحد، ويكون صلاحاً وإصلاحاً، وحرزاً من التعدي والظلم وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
فصحيح أن قوله تعالى (لا تأكلوا الربا) يحرم الربا إبتداءً ويمنع المسلمين من أخذ الزيادة الربوية إلا أنه يشمل في حكمه حال التلبس بالربا ولزوم التوبة منه.
إن أي حركة سياسية، وجهة تريد التغيير الكلي تحرص على إرضاء عموم الأغنياء في الجملة، أو أنها تتجنب إيذائهم، وفعل ما يسبب نفرتهم، وتآمرهم على الحركة في مهدها.
ولكن الإسلام دين سماوي، والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث من الله عز وجل، فنزلت عليه آيات القرآن بًأحكامها الباقية إلى يوم القيامة، وكان صاحب المال يقول للمقترض:أتقضي أم تربي) ( ).
أي يخيره بين الوفاء بالدين في أجله أو يزيد في مقدار الدين لخصوص النسيئة في الأجل، أو يقول المقترض والمشتري لصاحب المال:أنظرني أزدك.
أي أمهلني مدة أكثر، وأزيد في أصل الدين.
وفي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، ذكر أن الآية نزلت (في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، ومسعود بن عمرو بن عبد يا ليل بن عمرو ، وربيعة بن عمرو ، وحبيب بن عمير ، وكلهم اخوة وهم الطالبون ، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم ، وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح ثقيفاً فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة ، وكان مالاً عظيماً فقال بنو المغيرة : والله لا نعطي الربا في الإِسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المسلمين.
فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل ، ويقال عتاب بن أسيد ، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني عمرو وعمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة ، فأنزل الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )] فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاذ بن جبل : أن اعرض عليهم هذه الآية ، فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم ، وإن أبوا فأذنهم بحرب من الله ورسوله)( ).
وقد تقدم البيان في الجزء (الثامن والأربعين) من هذا السِفر.
فجاءت آية البحث بتحريم هاتين الصيغتين، والمنع منهما من غير مصالحة أو هدنة مع الربا، وليس فيه تحريض للتجار على الإسلام وأحكامه، بل يتضمن حقيقة وهي أن الربا ضار بالتجار والصنائع والمجتمع.
قانون حرمة الربا رحمة عامة
تبعث الآية السكينة في نفوس التجار وأصحاب الأموال بتعيين وجه محرم وممنوع من المكاسب، وتبين حقيقة وهي أن العقود التجارية ليست عقوداً طوعية وإختيارية على نحو الإطلاق، بل هي مقيدة بالعناية الإلهية بأصحاب الأموال والمحتاجين في ذات الوقت، وهو من معاني وعمومات صفة الله الرزاق والرازق، وورد في القرآن الإخبار بأن الله(خير الرازقين) خمس مرات ( )، ومن المصاديق العملية في المقام أمور:
الأول: إتصاف الرزق من الله بأنه رزق كريم، وفيه دعوة للتعفف والنفرة من الربا.
الثاني : قانون تقريب الرزق من الناس.
الثالث : قانون إعانة الناس على الكسب والتحصيل.
الرابع: مجيء الرزق من السماء للناس بنزول المطر وإحياء الأرض ، وفي التنزيل [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وكأن فيه تذكيراً بنزول القرآن من السماء لإحياء النفوس ويقظتها وبعثها على العبادة والحرث , لقانون أن الدنيا مزرعة للآخرة.
الخامس: الله خير الرازقين الذي ينزه الناس عن المكاسب الفاسدة مع ضمان الرزق لهم، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله، ووعد كريم منبسط على آنات الليل والنهار إلى يوم القيامة، فحينما نهى الله عن جمع الأضعاف المضاعفة عن طريق الربا فإنه سبحانه وعد بالرزق الكريم من موارد الحلال، إلى جانب الفوز بالنعيم الدائم.
السادس : قانون تغشي رحمة الله للمؤمنين الذين يجتنبون الربا.
السابع : وبشارة مجئ الرزق الكريم , قال تعالى[وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الثامن : منع الله الربا ليتوجه الناس إلى التجارات، ويقومــون بالقــرض والإقتراض، والبيــع بالنقد والنســيئة وما فيـه تهــذيب النفوس وإصـــلاح الأســواق، ورجــاء الــرزق الكــريم من الله عــز وجل، ومع ظهور عالم المصارف والبنوك إزداد اللبس، وحصل الربا الظاهر والخفي، وإحتاج الناس الرجوع اليومي إلى آيات النهي عن الربا , وتلاوتها والتدبر في مضامينها.
أربعة أجزاء بتفسير آية واحدة
الحمد لله الذي جعل اول كلمة نزلت من القرآن تحض على القراءة والتحصيل العلمي الهادف بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
ليكون قيد (باسم ربك) أعلاه بشارة النفع العام من قراءة القرآن ، والتدبر في آياته ، والتأويل الصحيح له .
فجاءت أربعة أجزاء من هذا السِفر خاصة بتفسير آية البحث وكلماتها العشرة في آية علمية ولطف ومدد من عند الله عز وجل لبيان قانون كنوز القرآن غير متناهية وقانون تجدد العلوم التي تتضمنها الآية القرآنية وأظهر فريق عن العلماء طائفة منها ، وتراءت أمام أنظارهم وغيرهم علوم أخرى منها .
وعن (الزهري قال: سمعت علي ابن الحسين عليهما السلام يقول: آيات القرآن خزائن العلم فكلما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها)( ).
وبعد أن صدر الجزء التاسع والثمانون من تفسيري هذا للقرآن (معالم الإيمان) في تفسير آية البحث (لا تأكلوا الربا)( ) من سورة آل عمران وصلتها بالآيات المجاورة لها، جاء هذا الجزء وهو التسعون خاصاً بتفسير ذات الآية ، وإستظهار كنوزها، وبعض ما فيها من العلوم , وبيان دلالات صلتها بالآيات المجاورة .
ليأتي الجزء الواحد والتسعون إن شاء الله في تفسير ذات الآية وأحكامها، وهو آية في علم التفسير تطل على الأرض في زمن العولمة، فبعد أن كان كثير من الأساطين يفسرون هذه الآية بأسطر معدودات جاء هذا السفر بإستخراج درر من العلوم العقائدية في الآية القرآنية.
وأبذل الجهد بمفردي في كتابة التفسير ومراجعته وتصحيحه لحين خروجه من الطباعة، ولو كان عندي مساعدون مختصون لتضاعف الصادر من الأجزاء , والفضل والعون والمدد عليّ من الله عز وجل , ومن الجزء الأول أعظم وأكبر ، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).

قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] الآية 130

القسم الثاني ( ): صلة هذه الآية بالآيات التالية لها, وهي على شعب منها:
الشعبة الأولى: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( )
الصلة بين مقدمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا إتقوا النار.
الثاني: لا تأكلوا الربا وإتقوا النار.
الثالث: إتقوا النار لا تأكلوا الربا.
الرابع: إتقوا الله وإتقوا النار.
الخامس: إتقوا النار لعلكم تفلحون.
أما بالنسبة للوجه الأول أعلاه فإن المسلمين حينما آمنوا تلقوا من الله عز وجل التحذير والإنذار من النار، بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب , قال تعالى [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: وتوّق كرائم أموالهم)( )، أي أتركها لأصحابها، ولا تأخذها في الصدقة، لأنها تعز عليهم.
إن التحذير والتخويف من النار رحمة من الله عز وجل خصّ بها المسلمين في آية السياق، فإن قلت لماذا المسلمون وحدهم من الناس جميعاً وهم عباد لله عز وجل , وهو سبحانه الغفور الرحيم كما جاء في خاتمة الآية التي قبل آية البحث( ).
والجواب من وجوه:
الأول: جاءت آيات من القرآن تحذر الناس جميعاً من النار، وتدعوهم للإحتراز منها، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا]( ) , ويمكن القول بقانون سماوي يتضمن الإنذار من النار.
الثاني: يتضمن القرآن البيان والتفصيل في حال الناس يوم القيامة، وما يلقاه الكفار من العذاب، وفيه أمران:
الأول: قانون بيان القرآن عذاب الكفار في الآخرة ليصير حاضراً في الوجود الذهني عند الناس جميعاً، فتنفر منه النفوس وفيه دعوة لترك الكفر وهجران الربا.
الثاني: يدرك الناس عند البعث إعجاز القرآن، وما فيه من دقة الوصف لأحوال الآخرة، وصدق البيان عن سوء حال الكفار وهم في العذاب , قال تعالى [لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ]( ).
و(عن أبي سعيد الخدري عن النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} في قوله عزَّ وجلّ {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}( ) قال : تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته) ( ).
وصحيح أن هناك تبايناً موضوعياً وزمانياً بين الأمرين أعلاه إلا أن التداخل بينهما ظاهر لتعلق كل منهما بأحوال الناس ولزوم إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة , فقد أخبرت آية السياق عن إعداد النار للكفار , وجاءت آية البحث باصلاح وسعي المسلمين لدخول الجنة , بالعصمة من الربا وأكله.
والربا زرع خبيث لا ينبت إلا في مواطن الكفر والجحود، وثمرته وأرباحه خالية من النفع، وليس فيها إلا الضرر، وتلفظها النفس العاقلة ولا تقبلها , قال تعالى[وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا]( ).
الثالث: جاءت آية السياق بالتحذير والإنذار من النار للناس جميعاً، لأن مضامينها ودلالاتها أعم من صيغة الخطاب فيها، إذ ورد التحذير من النار التي أعدت للكافرين، وفيه زجر عن الكفر، وتخويف من عاقبته وأليم العذاب المترشح عنه.
قانون إنذارات القرآن رحمة
من إعجاز القرآن مجيء الآية بصيغة الخطاب للمسلمين، والملازمة بين النار والكفر، وفيه مسائل:
الأولى: دعوة للناس إلى إختيار الإسلام ونبذ الكفر.
الثانية: قانون حتمية العالم الآخر، وما فيه من الحساب والجزاء.
الثالثة: قانون إقامة الحجة على الناس.
الرابعة: بعث الناس للفوز بالأمن مما أعدّ الله للكفار يوم القيامة، ومن بديع وأسرار خلق الإنسان أن العمل والبشارة والإنذار في الحياة الدنيا .
أما الجزاء ففي الآخرة وأن الدنيا دار منقطعة غير دائمة، والآخرة دار الدوام.
ولابد من بيان قانون ثابت، وهو أن المدار على مجموع آيات القرآن ودلالاتها، فقد جاءت مضامينها القدسية مستوفية لحاجات الناس، ومبينة لأحكام الآخرة وعالم الجزاء في آية لم يشهدها تأريخ الأرض، ونزول القرآن من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما تساءلوا على جعل خليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فإن الله سبحانه يعلم بأنه ينزل القرآن ليكون دستوراً ونظاماً متكاملاً لأمور الدين والدنيا، ويتضمن أموراً:
الأول: قانون بعث الناس لفعل الصالحات.
الثاني: قانون الزجر عن السيئات.
الثالث: قانون بشارة المؤمنين بالثواب الجزيل.
الرابع: قانون توعد الكفار بالعذاب الأليم.
ومضامين القرآن هذه من مصاديق البركة التي فيه, والتي تترشح عنه، قال تعالى[وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( ).
قال تعالى [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
لتجمع الآية أعلاه بين كل من :
الأول : آيات القرآن والسنة النبوية , فإنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن بتلاوة آياته وتفسيرها وبيانها والترغيب بالعمل بمضامينها .
وسيأتي في الجزء الثامن والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر قانون لا يحصي منافع إنذارات القرآن إلا الله عز وجل.
الثاني : المسلمون وأهل الكتاب وغيرهم .
الثالث : الصحابة للعموم في صيغة الخطاب والتابعون والأجيال اللاحقة .
ومن إعجاز القرآن أن إنذاراته رحمة للناس جميعاَ , ودعوة متجددة للتوبة والإنابة والهداية لقانون كل إنذار قرآني حق وصدق.
الثانية: إبتدأت آية السياق بأمرين:
الأول: حرف العطف الواو في(واتقوا) ويدل على عطف مضامين هذه الآية على آية البحث.
الثاني: مجيء آية السياق بذات الصيغة من الخطاب في الآية السابقة، وإرادة المسلمين أيضاً وتقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا اتقوا النار).
إن عطف مضامين هذه الآية على آية الربا نوع إكرام إضافي للمسلمين.
فإن قلت: جاءت الآية بصيغة التخويف والوعيد(اتقوا النار) فأين الإكرام؟
والجواب إنها ليست من الوعيد، ولكنها من تحذير المسلمين بصيغة الإكرام بدليل القرينة المقالية والحالية الواردة في ذات الآية الكريمة إذا أنها تخبر عن كون النار أُعدت للكفار.
ومن مفاهيم آية السياق أمور:
الأول: أنها وعد كريم للمسلمين بأن النار أعدت للكفار على نحو الحصر والتعيين وأنها أشد أنواع العذاب، قال تعالى[لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ] ( )، ليتجلى التباين بين المسلمين والكفار، بمجيء الإنذار للكفار المشركين الذين ظلموا أنفسهم بإختيار الكفر والجحود.
الثاني: شفاء صدور المسلمين، لأن الله عز وجل أعدّ لأعدائهم العذاب الأليم.
الثالث: بعث المسلمين للتنزه عن الربا، وما فيه من الأذى وسوء العاقبة.
الثالثة: بيان حقيقة وهي أن النطق بالشهادتين مدخل ومقدمة لأداء الفرائض والإحتراز من العذاب في الآخرة، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفًا]( ).
وهل دخول الإسلام والنطق بالشهادتين من الوقاية من النار الجواب نعم، فلذا شرّف الله المسلمين بخطاب الإيمان، فلم يقل سبحانه(يا أيها المسلمون) بل جاء الخطاب بصفة الإيمان ليكون بشارة وسكينة وعوناً لهم للسلامة من أكل الربا كونه قبيحاً ذاتاً وعرضاً وأثراً.
أما الذات فانه معاملة لم تقم على قواعد وشرائط صحيحة، وأما العرض فإن النفرة ظاهرة من آخذ الربا حتى أثناء العقد بلحاظ أنه يستوفي أرباحاً لا أصل لها.
وأما الأثر فقبيح من وجوه:
الأول: الأثر على آكل الربا في بدنه وحالته الإجتماعية، قال تعالى[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ]( ).
الثاني: قانون الوعيد لآكل الربا.
الثالث: حمل المقترض على دفع المال الربوي مع حاجته له، لأن أصل القرض الحاجة، وعلى فرض أنه ربح أموالاً بعد القرض وبسببه فإن هذه الأموال والنماء حق ورزق له، لينتزعها منه ومن أولاده المرابي قهراً وبشرط قاسية ظالمة.
الرابعة: يتجلى إعجاز نظم وسياق الآيات في لغة الخطاب الموجه للمسلمين في آية البحث، ومجيء الآيات التي بعدها بذات الصيغة وبلغة الأمر، من وجوه:
الأول: إبتدأت آية السياق بقوله تعالى(واتقوا النار) ومجيء هذا التحذير بعد الأمر الإلهي إلى المسلمين في آية البحث (واتقوا الله).
الثاني: جاءت الآية التالية لآية السياق بالأمر[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ).
الثالث: مجيء الآية الثالثة والثلاثين بعد المائة بالأمر للمبادرة لنيل العفو والمغفرة بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] لتكون كل آية من الآيات التالية تعضيداً لآية البحث، وعوناً للمسلمين في إجتناب الربا، والعصمة النفسية والبدنية من المعاصي والذنوب وتبعاتها.
فيتلو أويسمع المسلم آية البحث، ويدرك حرمة الربا بالنص الجلي، ثم تأتي الآية التالية لها لترسخ في ذهنه لزوم الإمتناع عن المعاملة الربوية، وتجعل نفسه تنفر من الربا، وتبتعد عن أسبابه ومقدماته، من غير أن يتعارض هذا المعنى مع الدلالات الخاصة لكل آية من الآيات أعلاه.
فمن إعجاز الآية القرآنية وجوه :
الأول : قانون تعضيد الآية القرآنية لمضامين غيرها من الآيات لا يتعارض مع الغايات الحميدة منها.
الثاني : قانون لغة الأمر والنهي في الآية القرآنية منطوقاَ ومفهوماَ.
الثالث : قانون التعضيد متبادل بين آيات القرآن .
الرابع : قانون النهي عن الربا تعضيد للأمر الإلهي في آية السياق بإتقاء النار والحذر من العذاب الأليم.
صلة (واتقوا النار) بهذه الآية
يفيد الجمع بين الآيتين أن أكل الربا سبيل لدخول النار لأنه أمر نهى الله عز وجل عنه على نحو مطلق، ومن المنافع العظيمة في صيغة القطع والجزم بالنهي عن الربا في آية البحث
الأول : بيان قانون القبح الذاتي للربا .
الثاني : قانون تنمية ملكة التوقي من الربا في المعاملات عند المسلم .
الثالث : قانون تعاون المسلمين بالإجتناب عن الربا وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
الرابع : من معاني الأمر باتقاء النار في آية السياق اجتناب ما حرمه الله عز وجل , ومنه الربا والزنا .
الخامس : بيان وحدة الموضوع بين تقوى الله عز وجل وتقوى النار , والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق , فتقوى النار فرع تقوى الله عز وجل التي هي أعم , ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
إن تقوى الله والخشية منه سبحانه سبيل للوقاية من الربا , وصراط للرزق الحلال وتيسيره .
السادس : قانون تناهي المسلمين فيما بينهم عن المعاملة الربوية.
ومن خصائص [المؤمنين] التناجي العام في هذا التناهي، وعدم إنحصاره بحد مخصوص، فالكبير ينهى الصغير وكذا العكس، وكما ينهى الرجل المرأة عنه فإن المرأة تنهى الرجل أيضاً من غير خوف أو خشية من تبعات هذا النهي لأنه قربة إلى الله , وهو من عمومات الولاية بينهم، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
وجاءت آية السياق لتؤكد إعتبار وموضوعية عالم الآخرة في إختيار وفعل المكلفين في الحياة الدنيا، فالفعل الذي يأمر به الله عز وجل يبادر إليه المسلمون ويأمر به بعضهم بعضاً، والفعل الذي ينهى عنه يتجنبونه، ويحذر بعضهم بعضاً منه.
قانون آية الربا نجاة من النار
لقد تعددت آيات الربا في القرآن وسيأتي إحصاؤها في الجزء الثامن والاربعين بعد المائتين من هذا السفر .
ليكون هذا التعدد عوناً للمسلم في الإحتراز من الربا وإن كان يظن النفع العاجل منه .
وهذا الإحتراز من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
فمن الإعجاز في نواهي القرآن وجوه :
الأول : قانون نواهي القرآن رحمة عامة .
الثاني : قانون مصاحبة النواهي للخلافة في الأرض .
الثالث : قانون النواهي نوع طريق للإمتثال للأوامر .
الرابع : قانون نواهي القرآن من حب الله للعباد .
الخامس : قانون نواهي القرآن ملزمة للناس , لعمومات تكليف االمشركين بالأصول كتكليفهم بالفروع .
السادس : قانون ترك الربا من شرائط الإيمان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وهل ترك الناس الربا مقدمة لزرقهم رزقاً كريماً ، وكثرة سيولة المال ، الجواب نعم ، فما من نهي إلا وفي التقيد به نفع حال وآجل.
ليكون نهي آية البحث عن الربا ومضاعفة المال به من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فينتفع من هذه الحرمة عامة الناس ، ويشيع القرض وتزدهر الأسواق وتطيب المكاسب.
وحينما يتلو المسلم آية البحث وما فيها من النهي عن الربا يستحضر عذاب النار للملازمة بينهما , والتي جعلها الله عز وجل في الوجود الذهني ببركة هذه الآيات وتواليها.
وفيه أمارة وشاهد على أن نظم القرآن توقيفي من عند الله، وإدراك لحقيقة وهي أن هذا النظم مدرسة إعجازية تحتاج إلى إستنباط المسائل وإقتباس الدروس منها، والذي يتجلى شطر يسير منه في علم الصلات الذي أسسناه وأجزاؤه المباركة , في هذا الكتاب.
تحتمل الأضعاف المضاعفة من الربا وأثرها في الحياة الآخرة وجوهاً:
الأول: حضور هذه الأصناف للحساب.
الثاني: يدفع صاحب الربا أمواله عوضاً وفدية.
الثالث: ليس للأرباح الربوية من أثر أو نفع أو ضرر، وكأنها من المباحات.
الرابع: المدار على توظيف تلك الأرباح في الصالحات, وأعمال البر أو فعل السيئات.
الخامس: الأرباح الربوية وبال على صاحبها، ومادة للحساب والعذاب الأليم.
والصحيح هو الأول والخامس، لذا جاء قوله تعالى(واتقوا النار) وفيه مسائل :
الأول : التذكير بعذاب النار .
الثاني : إقامة الحجة على الناس .الثالث : توكيد عدم إنتفاع الظالمين من أموالهم في الدار الآخرة, قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ]( ).
اللطف بترك الربا
من أسماء الله عز وجل (اللطيف) ومن معانيه الرفق بالعباد وإيصال ما يحبون لهم باسمى الوسائل ، وأرق الطرق مع علم الله عز وجل بما ينفع العباد .
(واللُّطْف واللَّطَف البر والتَّكْرمة والتحَفِّي لَطف به لُطْفاً ولَطافة وأَلطَفه وأَلطفته أَتحَفْته وأَلطفه بكذا أَي بَرَّه به والاسم اللَّطَفُ بالتحريك يقال جاءتنا لَطَفةٌ من فلان أَي هَدية وهؤلاء لَطَف فلان أَي أَصحابه وأَهله الذين يُلطفونه) ( ).
ومن لطف الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : النهي عن الربا .
الثاني : قانون الوعد بالخير والبركة بترك الربا .
الثالث : قانون الإنذار من النار , والعاقبة السيئة لآكل الربا .
وفي حديث الإسراء الطويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ثمّ عرض عليَّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكلّ بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخراً من نار تخرج من أسافلهم.
قلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟
قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً.
ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرَّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً. قلت : من هؤلاء ياجبرئيل؟
قال : هؤلاء أكلة الربا {ومثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس( ))( ).
ومنه المعاملة الربوية قبضاَ أو دفعاَ للمال الربوي أو الشهادة عليه أو كتابة عقد البيع والقرض الربوي .
ومن إعجاز نظم الآيات عدم وجود فاصلة أو آية بين آية النهي عن الربا وآية التحذير من النار.
فإن قلت يدل هذا الإتصال والتعاقب على إرادة بعث الفزع والخوف في قلوب المسلمين، لأن آية النهي عن الربا جاءت بالخطاب(يا أيها الذين آمنوا) ثم جاءهم الأمر بتقوى الله في ذات الآية، ثم إبتدأت آية السياق بقوله تعالى(اتقوا النار).
والجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآيات بإكرام المسلمين، وبيان دفع الخوف عنهم بفضل من الله، قال سبحانه[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، ومن مصاديق الإستقامة إجتناب الربا، والتناهي عنه.
الثاني: الدنيا دار إبتلاء، والإمتحان مصاحب لأيامها، المليئة بأسباب الإفتتان، فجاءت الآيات لجعل المسلم في حيطة وحذر من زينة الحياة الدنيا، والطمع في جمع المال، وجعله غاية من غير إعتبار لشرطية صحة وشرعية الطريق إليه.
الثالث: نزل القرآن بلغة إياك أعني وأسمعي يا جارة، فجاء الخطاب بالحذر , والإحتراز من النار وليتعظ الناس من وجوه:
الأول: قانون وجوب الإلتفات إلى وجود النار، وأن الدنيا يتعقبها عالم الحساب والجزاء، قال تعالى[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
الثاني: إن الله يحصي على الناس أعمالهم، لأن الحساب لا يكون إلا بإستحضار أعمال الناس في الدنيا.
الثالث: قانون ترغيب الناس بالإقتداء بالمسلمين في الإيمان وعمل الصالحات، وإتخاذها واقية من النار.
الرابع: قانون معرفة الناس بقبح المعاصي، لأنها طريق إلى العذاب، قال تعالى[وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
والمعاملة الربوية ظلم من وجوه:
الأول: إنها معصية لله عز وجل.
الثاني: فيها إضرار بالآخرين، وإستيلاء على أموال الناس بعقد جائر.
الثالث: في الربا تقليص للتجارات، وموارد الكسب.
الرابع: منع الإحسان والحيلولة دون إشاعة القرض بين الناس قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
الخامس: بعث الضعف والوهن في صفوف الكفار، فإذا كان المسلمون يتلقون التحذير من النار، فإن الكفار يصابون بالرعب لخشيتهم مما ينتظرهم من العذاب.
السادس: مع قلة كلمات آية السياق فإنها جاءت بالإخبار القاطع على أن النار خاصة بالكفار لقوله تعالى [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
وفيه دعوة للتقوى والصلاح ، والدعاء اللهم لا تجعلني ممن أعددت لهم النار , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار اللطف الإلهي بما فيها التكاليف العبادية لذا نرى الطمأنينة والسكينة تملأ قلب المسلم عند التوفيق لأداء الصلاة أو صيام ليوم من شهر رمضان أو اداء الحج .
والنسبة المنطقية بين آية الربا والتي بعدها من إعجاز القرآن للتداخل الموضوعي بين الآيتين المتجاورتين , واستنباط مسائل وأحكام وقوانين متعددة من الصلة بينها.
وبين آية البحث والآية التالية لها [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، عموم وخصوص مطلق ، فيكون إتقاء النار بالإيمان وعمل الصالحات وترك المعاصي ، ومنها الربا ، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الأمر بالتقوى، وما فيه من الإكرام والبعث على طاعة الله والعصمة من الربا.
الثاني: إتحاد جهة الخطاب في التقوى، وإرادة المسلمين لعطف آية السياق على آية البحث التي تبدأ بالخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا).
الثالث: عموم الأمر بالتقوى إلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
وأما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: تضمنت آية البحث وجوب التقوى والخشية من الله عز وجل، أما آية السياق فجاءت بالوقاية والحذر من النار.
الثاني: جاء الأمر بتقوى الله عز وجل في وسط آية البحث، أما الأمر بالوقاية من النار فجاء في بداية آية السياق.
الثالث: بعد تقوى الله عز وجل جاءت البشارة بالفلاح لعموم المسلمين، وتعقب الوقاية من النار الإخبار أنها خاصة بالكفار، وفيه بشارات إضافية للمسلمين بالأمن والسلامة من العذاب .
قانون تعدد البشارة القرآنية
ليس من حصر لمصاديق فضل الله عز وجل , وسعة رحمته والنسبة بين فضل الله عز وجل وبين البشارة من الله عز وجل عموم وخصوص مطلق , ففضل الله عز وجل أعم وأكبر .
وتعدد البشارة للمسلمين من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، فمرة تأتي البشارة صريحة وبلغة الخطاب بالمفهوم، وذم وإنذار أعداء الإسلام الذين يصرون على جعل الربا مثل البيع، ويبيحون أكل المال الربوي.
ويتضمن كل منهما أموراً:
الأول: البشارة بالسكينة والأمن للمسلمين، قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ]( ).
وهل الإمتناع عن أكل الربا حسنة، الجواب نعم , فهو إمتناع عن المعصية طاعة لله عز وجل وبقصد القربة.
الثاني: بعث الفزع والحزن في قلوب الكفار , قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
الثالث: حث المسلمين على إجتناب الربا.
الرابع: توبيخ الذين يتعاطون الربا لتنافيه مع تقوى الله.
وهل هذا التعاطي من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الجواب نعم , إذ أن مضمون الآية أعم يتعلق بالإمتثال للأوامر الإلهية واجتنال ما نهى الله عز وجل عنه , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ويمكن القول بقانون ليس من نبي إلا وجاء بالبشارة المتعددة من عند الله عز وجل للمؤمنين .
وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة للناس جميعاَ وللمؤمنين خاصة , وهو من مصاديق قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإفتان) وهو الإتيان بموضوعين أو فنين مختلفين مع وجود نسبة بينهما، وإستدل عليه السيوطي بالجمع بين الفخر والتعزية في قوله تعالى[كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
وجاءت آية البحث بالأمر بتقوى الله، وجاءت آية السياق بقوله تعالى(وأتقوا النار) وبين الأمرين تباين فما النار إلا مخلوق لله، وعليها ملائكة من عنده تعالى، قال سبحانه[عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
لبيان قوة الملائكة , وشدة بأسهم , وغلظتهم على الكفار يوم القيامة .
(قال الجبائي إنما عنى أنهم لا يعصونه و يفعلون ما يأمرهم به في دار الدنيا لأن الآخرة ليست بدار تكليف , وإنما هي دار جزاء وأمرهم الله تعالى بتعذيب أهل النار على وجه الثواب لهم – أي للملائكة – بأن جعل سرورهم و لذاتهم في تعذيب أهل النار كما جعل سرور المؤمنين و لذاتهم في الجنة) ( ).
وفيه إشكال من وجوه:
الأول: الدنيا دار تكليف بالنسبة لبني آدم والجن قال تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا]( ) ، وليس الملائكة، وجاءت الآية أعلاه بصيغة المضارع لإرادة طاعتهم لله , وعدم معصيته بخصوص عملهم وتوليهم أمر عذاب أهل النار.
وفيه إشارة إلى عصمتهم من ظلم الكفار الذين في النار، وأنه ليس لهم تخفيف العذاب عنهم.
الثاني: توكيد قانون أن الله عز وجل هو العدل الذي لا يظلم الناس في الدنيا والآخرة.
والمراد من الملائكة في الآية أعلاه هم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم.
الثالث: الآخرة دار جزاء للناس، وليس للملائكة، لأن من الملائكة من تستمر وظائفه في الآخرة، ومنهم من تستحدث له وظائف فيها وهو من بديع صنع الله عز وجل، وكأنه من الإفتان بمعناه الإصطلاحي، ليكون هذا التباين في الموضوع والحكم على وجوه :
الأول : إنه شاهد على بديع صنع الله.
الثاني : بيان قانون عظيم قدرة الله .
الثالث : قانون الإطلاق في ملك وسلطان الله بأفراد الزمان الطولية كلها المقدرة وغير المقدرة, قال تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ).
الرابع: قانون دعوة للناس للهداية والإيمان والتوقي من النار، بالتنزه عن الربا ومقدماته .
الخامس: قانون بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار .
وجاءت آية السياق تتمة لآية البحث للتدبر بسوء عاقبة الذين يأكلون الربا بإعتبار أنه ظلم للغير، وظلم للنفس لما فيه من المعصية.
أقسام الربا
من إعجاز القرآن مجيؤه بحرمة الربا مطلقاً من غير تقييد بنوع مخصوص، ولولا هذا الإطلاق لقيل بحصر الربا بخصوص ما كان سائداً في الجاهلية، وهو لا يمنع من إستعراض وبيان أقسام الربا لأنه مادة للتفقه في الدين، ومنها:
الأول: الربا الجاهلي: وهو الزيادة الطارئة على أصل الدين، والتي تأتي عند حلول الأجل، وعجز المدين عن القضاء.
وعن ابن عباس:كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه له زدني في الأجل و أزيدك في المال فيتراضيان عليه و يعملان به فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء)( )، ويقولون هو مثل البيع في الربح عند إجراء العقد، أو عند حلول أجل التأخير، أي يجعلون قيمة وبدلاً لمدة التأخير.
الثاني: الزيادة في المال المقترض في مقابل الأجل في عقد القرض، ويسمى الربا القرضي، بأن يعين مقدار الزيادة ساعة العقد وسببها النسيئة والأجل، ولا يترك تعيين مقدارها إلى أوان الأجل، وعجز أو إمتناع المدين عن القضاء.
الثالث: الربا معاملة تتضمن زيادة أحد العوضين وقد يطلق الربا على حصول تلك الزيادة، وفيه قولان:
الأول: إنه خاص بالبيع.
الثاني: إرادة المعنى الأعم للربا فيشمل البيع وغيره من المعاملات .
وجاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:إنما الربا في النسيئة)( ) للإطلاق في نوع المعاملة الربوية ذات الأجل المؤجل.
الرابع: كل قرض جر نفعاً مع الشرط، أما إذ حصل النفع من غير شرط فليس بربا، كما لو إقترض منه ديناراً فأعاده له دينارين بدون أن يشترط الزيادة مقدرة كانت أو غير مقدرة
( وروي أنه إستقرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رجل سنا فأعطاه سناً فوق سنه فقال خياركم أحاسنكم قضاء)( ).
الخامس: الربا في المتجانسين من المكيل والموزون، وإختصاص الربا بهما قال به الأكثر من الفقهاء.
وضابط الجنس التشابه في الذات، وإتحاد الاسم واللفظ الدال عليه، فالتمر جنس والحنطة والشعير جنس وإن إختلفا في الزكاة, وعلى هذا لا يصدق الربا إلا بإجتماع أمرين:
الأول: إنه من الكيل أو الموزون.
الثاني: العوضان من جنس واحد.
فيه الطرفان على الزيادة حال العقد لذا عرف الربا القرضي بأنه الزيادة في مقابل الأجل في عقد القرض، وجاء ذم القائلين بجواز الربا في القرآن بقوله تعالى[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( )، وقيل كانت ثقيف أكثر العرب رباً، فلما نهو عنه قالوا: إنما هو مثل البيع .
وورد عن جابر بن عبد الله في شَأْنِ ثَقِيفٍ إِذْ بَايَعَتْ فَقَالَ اشْتَرَطَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ لاَ صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلاَ جِهَادَ)( )، وقاتلت ثقيف رسول الله والمسلمين بعد فتح مكة وهو أمر غريب، فالأصل أن يعتبروا من الفتح ودخول أهل مكة الإسلام .
وحاصرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بضع عشرة ليلة وقاتلته ثقيف بالنبل والحجارة وهم في حصن الطائف)( ).
ربا النسيئة والفضل
يمكن تقسيم الربا إلى أقسام :
الأول: ربا النسيئة.
الثاني: ربا الفضل.
الثالث: ربا القرض الذي يجر نفعاً.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل قرض جر منفعة فهو ربا) ( ).
وقيل أن الأصل في الربا الديون، أما ربا الفضل فقد ورد في الحديث ويسمى ربا تغليظاً وزجراً عنه، ثم صار إستعمال لفظ الربا فيه متبادراً، ولا دليل على هذا التقسيم لأن الآية وردت مطلقة في النهي عن الربا، وأكثروا من ذكر ربا الجاهلية.
ولا تنحصر مضامين النهي به سواء كان سبباً أو موضوعاً للنزول، قال تعالى في خطاب للمسلمين كافة[وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ]( ).
ومنهم من اختصر الربا على قسمين ، قال الرازي (إعلم أن الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل)( ).
وظاهره أنه إذا حلّ الأجل لم يكتفوا بالقدر المعين الذي يأخذونه من المدين كل شهر بل تحصيل زيادة على مقدار المال مقابل الإطالة بأجل الدين.
وقال الجصاص: وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفهُ وَتَفْعَلُهُ إنَّمَا كَانَ فَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اُسْتُقْرِضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ مُتَفَاضِلًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ) ( ).
ولكن البيع بالنقد هو الأصل أحياناَ في المعاملات وعقود البيع والشراء، سواء البيع بالذهب والفضة حالاً أو نسيئة، أم بالمقايضة والمبادلة.
بحث بلاغي (الجناس)
من ضروب البديع(الجناس) وهو الإتحاد والتشابه في اللفظ، مع التعدد في المعنى والدلالة، لأن اللفظ إذا جاء بمعنى ظاهر على نحو الحقيقة، ثم جاء بمعنى آخر يجذب النفس إليه، ويبعث على التفكر والتدبر.
وأنواع الجناس كثيرة، أهمها وأدقها(التام) الذي تتشابه حروفه وعددها ووزانها كلفظ(الساعة) في قوله تعالى[وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ] ( ).
وأنكر بعضهم كون الآية أعلاه من الجناس، وقال: الساعة في الموضعين بمعنى واحد والتجنيس: أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى، ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً بل يكونا حقيقيتين) ( ).
ولكن معاني الجناس ظاهرة في الآية، وهي رشحة من رشحات الإعجاز في الآية القرآنية أعلاه، وباب لدراسات كلامية وفلكية وعقائدية أعم تتعلق بأفراد الزمان الطولية، وعالم البرزخ، وعظيم قدرة الله في الخلق، وأسرار البعث فالموضوع متحد ولكن العلوم التي تستقرأ منه عديدة ومتنوعة.
إذ ورد معنى الساعة في الأول بصيغة المضارع(تقوم) أي القيامة وعالم الحساب.
أما الثاني فالمراد إنقضاء الزمن الماضي السابق لها والذين لبثوا فيه وكأنه ساعة من نهار من أيام الدنيا.
الجناس في آية الربا والتي بعدها
وينظر العلماء إلى الجناس في الآية الواحدة باتحاد اللفظ وتعدد المعنى , قال تعالى [وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ*وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ] ( ).
فقد ورد الميزان في المرة الأولى أعلاه بمعنى الأحكام الشرعية والعدل , وفي الثانية الحكم والتقدير أما الثالثة فيتعلق بالبيع والشراء وحرمة البخس والتطفيف في الكيل والوزن .
وهل يشمل البيع بالعدد وإنقاصه ، الجواب نعم , قال تعالى [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ] ( ).
ولكن لا مانع من التوسعة والمندوحة فيه، وشموله لآيات القرآن بلحاظ اللفظ الواحد فيها والتعدد في دلالاته، خصوصاً وفق علم سياق الآيات الذي شرعنا فيه ومنه الجناس في آية البحث والآية التي تليها.
وتقدير الجمع بين آية البحث والآية التالية (واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار) فجاء لفظ(اتقوا) بذات صيغة الأمر والتحذير على نحو الحقيقة.
وبينهما عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: إرادة لزوم الخشية والخوف.
الثاني: توجه الخطاب في الآيتين إلى المسلمين جميعاً رجالاً ونساءً في أجيالهم المتعاقبة.
الثالث: بعث المسلمين للعمل الصالح , وحث الناس على محاكاتهم , قال تعالى[إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ]( ).
الرابع: تأكيد النهي عن الربا.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: العموم في معاني تقوى الله والخشية منه.
الثاني: إن الله عز وجل هو خالق النار، وقد أعدها للكفار الذين يصرون على الجحود والعناد.
الثالث: تقوى الله واجب في كل آن في الحياة الدنيا التي جعلها الله عز وجل دار عمل بلا حساب، أما النار فهي عاقبة وجزاء في الآخرة للكفار والظالمين.
الرابع: من مصاديق تقوى الله طاعته، أما النار فالتقوى منها الحذر والسلامة من دخولها، وكما يحذر الله عز وجل المسلمين، ويدعوهم للتقوى والخشية منه، فإنه سبحانه يدعوهم للتقوى والخشية من نار خلقها بيده، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا]( ).
كما في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ).
ثم ذكرت الإستعانة بالصبر بقوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ومن معاني الصبر الصيام , وكذا تأتي التقوى من الله عز وجل وهي الأصل , وتأتي بالخشية والخوف من دخول النار .
وفيه مسائل:
الأولى: إنه بيان لمصاديق من رحمة الله بالمسلمين.
الثانية: فيه حجة متعددة على الناس جميعاً.
الثالثة: توكيد منافع الجناس في القرآن , وإن استقرئ من الجمع بين آيتين أو أكثر لصدق لفظ واسم القرآن على الآية الواحدة والمتعدد منها.
الرابعة: قانون إصلاح الناس للعبادة، وهدايتهم إلى سبل الرشاد.
الخامسة: تفقه المسلمين في الدين.
السادسة: إستظهار بعض درر كنز من كنوز القرآن اللامتناهية.
السابعة: توكيد الأوامر والنواهي القرآنية، وبيان المطلق والمقيد منها.
الثامنة: إستقراء وجوه الإلتقاء والإتحاد الموضوعي بين عالم الدنيا والآخرة.
ولعل في حصر الجناس بخصوص الآية الواحدة نوع تعطيل لعلوم تستنبط من مسائل كثيرة، وتضييع لمنافع عديدة، وإشراقات من الإعجاز القرآني، والحكمة التي بين ثنايا الآيات.
وإجتناب الربا مصداق لتقوى الله، وتقوى النار، إذ أن النار مثوى أهل المعصية والجحود، وأكل الربا معصية.
وكل من الآيتين تحذير من الربا ببيان وظيفة العبد في الدنيا، ولزوم إستحضاره لعالم الآخرة، وما أعدّ الله عز وجل من العذاب الأليم للذين يأكلون الربا ظلماً وتعدياً وإصراراً على الباطل، ويكفرون بالتنزيل والنبوة , قال تعالى[وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ]( ).
قانون الحطحطة
يكون حال الدَين والقرض على وجوه:
الأول: قضاء مقدار الدين كاملاً عند حلول الأجل.
الثاني: تأخير الأجل مع عدم الزيادة فيه، قال تعالى[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).
الثالث: تأخير أجل الدين مع الزيادة في مقداره.
الرابع: تقريب الأجل بذات المقدار.
الخامس: تقريب أجل الدين مع الحط والنقص في مقداره، كما لو كان الدين ألف دينار لمدة ستة شهور، وبعد شهر إتفق الدائن والمديون على دفع سبعمائة دينار، وإسقاط الباقي وهو ثلاثمائة دينار، ورأى الدائن أن إستلام مبلغ سبعمائة في الحال خير له من إنتظار الألف لمدة خمسة أشهر أخرى.
وهذا الوجه هو موضوع القانون أعلاه، ويسمى (حط وتعجل) بشرط أن يكون الحط من أصل المال وذات القرض، وليس من زائد ربوي .
وهل هو مصداق من مصاديق الربا لما فيه من إسقاط وضياع حق صاحب المال، وإنتفاع المقترض بغير عمل وللقول بأنه لا يجوز الكسب من دون بذل عمل مباشر أو مختزن.
الجواب لا، فالقدر المتيقن من الربا هو الزيادة في مقابل الأجل في عقد القرض، وهناك موارد فيها زيادة ولكنها لا تلحق بالربا، كما لو إقترض منه ديناراً فأعاده له دينارين من غير أن يشترط عليه الزيادة والضعف فأنه يصح للملازمة بين صدق الربا وبين شرط الزيادة.
ويسمى إسقاط شطر من الدين مع تقريب أجله(صلح الحطيطة).
وكلمة صلح تدل على إرادة التباين بينه وبين الربا الذي يتقوم بالشرط،( عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ فَلْيَنْظِرْ مُعْسِرًا أَوْ لِيَضَعْ لَهُ) ( ).
وهل يمكن إجراء الصلح في المعاملة الربوية من الأصل , بمعنى أخذ الزيادة تحت اسم الصلح الجواب لا .
إنما ورد النص في الحط , وهو ليس في مصلحة صاحب المال بل إعانة للمقترضين .
(أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله فاستلف له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصف وسق فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقا وقال (نصفه قضاء ونصفه نائل)( )، ومعنى نائل أي عطية وهدية.
قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
والوضع هنا أعم من تقديم الأجل، فيصح حتى مع عند حلول الأجل، ولكن الحديث مقيد بإعسار المقترض.
وهل هذا القيد مطلق أم أنه من باب الفرد الغالب، الجواب إنه جاء لأن الحط هنا خاص بصاحب المال، وعائد له، والصلح أعم منه وقال جماعة بعدم صحة الحط، ولكن النصوص ظاهرة في جوازه وجاء النهي عن الربا وأكل الأضعاف المضاعفة من قبل صاحب المال، وهو لا يتعارض مع إرادته التنازل.
قانون محاسن الحط من الدين
في الحط عن شطر من القرض أمور:
الأول: الإحسان إلى المقترض , وقد جاء التخفيف في القصاص ومقدار الدية بقوله تعالى[فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ]( ) .
وسمّى الله عز وجل ولي الدم أخاً للقاتل لبيان أن أخوة الإسلام هي الأقوى والأظهر، والأكثر حاجة للمسلمين حتى في حال قتل أحدهم، وبالعفو من الولي يسقط القود والقصاص المترتب على قتل العمد.
ومن باب الأولوية القطعية صحة العفو في القرض بين الأخوة المؤمنين إلا أن يرد نص يمنع منه على نحو الخصوص وهو مفقود، وإستدل القاتل بحرمة(ضع وتعجل) بما ورد عن ابن المسيب وابن عمر قالا من كان له حق على رجل إلى أجل معلوم فتعجل بعضه وترك له بعضه فهو ربا) ( )، وفي خبر آخر أن ابن عمر كره ذلك.
ولكن صاحب المال يتنازل عن شطر من رأس المال، وليس في هذا التنازل بالذات أضعاف مضاعفة إلا أن تستفاد الحرمة أو الكراهة من دليل آخر, وهو مفقود وتدل عليه الجواز قاعدة السلطنة واستحباب التخفيف والسماحة في قضاء الدَين.
(وعن ابن عباس إنما الربا أخر لي وأنا أزيدك وليس عجل لي وأضع عنك)( ).
وفي قانون(الحطحطة) أمور:
الأول: قانون التخفيف عن المؤمنين.
الثاني: قانون تنشيط الأسواق وعدم كساد التجارات.
الثالث: التعجل ببراءة ذمة المديون، وإسقاط جزء من الدين عنه برضا الدائن.
الرابع: وصول شطر من الدين لصاحبه قبل حلول الأجل، وقد يتعذر وصوله عنه حلول الأجل كما لو صار المديون حينئذ معسراً.
أو ظهرت أمارات على هبوط قيمة العملة هبوطاَ حاداَ أو خشية الإعسار التام من المقترض سواء لأسباب شخصية , أو عامة كالوباء والبلاء
وهل الحط من الدين لقاء تعجيل الأجل من عمومات قوله تعالى[أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] ( )، بخصوص القدر الذي يُحط ويسقط من أصل الدين، الجواب نعم على نحو الموجبة الجزئية .
فالقدر المتيقن من الإنفاق هو إخراج المال ودفعه في سبيل الله، وتقييده بالطيبات لإرادة الحلال.
وفي أسباب نزول الآية أعلاه قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا) ( ).
ويدخل في مكاسب السوء الربا والميسر، وفيه توكيد لقبح المكاسب المحرمة، وعدم الإنتفاع منها في الإنفاق وما له من المنافع الدنيوية والأخروية.
نعم لو كان صاحب المال يحط من الدين بقصد الإعانة للمسلم، وقربة إلى الله فإن الله واسع كريم.
والقرض معروف، وخير محض، وعنوان للألفة ومصداق للأخوة بين المسلمين، ورحمة جارية بين الناس وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، لما فيه من قضاء الحوائج، ودفع الحرج، وطرد العسر.
والترغيب بالقرض زجر عن الربا لما بينهما من التنافي في وجوه عديدة منها:
الأول: قانون خلو القرض من الظلم بخلاف الربا.
الثاني: قانون إنتفاء النفع لصاحب المال في القرض.
الثالث: قانون غبطة المدين لعدم ترتب زيادة ربوية على الدين.
الرابع: قانون الأجر والثواب العظيم الذي أعده الله للذي يقوم بالإقراض , بخلاف الربا الذي فيه اللعنة والحساب والعقاب.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا يا نبي الله، إنه أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ضعوا وتعجلوا) ( ) .
أي أسقطوا شطراً من ديونكم وقربوا أوان القضاء، وفيه تشريع لقانون حط وتعجل، وجعله وسيلة للتخفيف والتيسير، ومنع الحرج وضياع الأموال.
بحث كلامي
تضمنت آية البحث إجتماعاً للزجر والأمر ، الزجر عن الربا كظلم , والأمر بتقوى وطاعة الله عز وجل، لبيان أمور :
الأول : قانون لزوم تنزه المسلمين من الجمع بين إجتناب المعصية كالربا، وبين التخلف عن أداء الوظائف العبادية.
الثاني : قانون حرمة الإصرار على معصية أخرى غير الربا.
الثالث : قانون الدنيا دار الأمر والنهي من عند الله عز وجل.
وأختتمت الآية بالأمر والطمع بالفلاح والفوز بالبقاء من غير تأكيد وقطع به، مما يدل على أن الدنيا دار جهاد في السعي لمرضاة الله عز وجل.
ويستلزم الأمر يقظة وتفقهاً في الدين من أجل الفوز والتوفيق فليس فيها فترة إتكال على فعل صالح سابق، فمع تجدد آنات الليل والنهار تتجدد الوظائف العبادية على المكلفين، وتقدير الآية : واتقوا الله في كل ساعة.
وهل الإستغفار من التقوى , الجواب نعم، وهو من أركان التقوى وسبيل إلى الفلاح، وفي التنزيل[فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ]( )، في حث للمسلمين للإقامة على طاعة الله , وإرتداء جلباب الإستغفار , ودعوة الناس لأمور:
الأول: قانون التوحيد والإنقطاع إلى العبادة.
الثاني: قانون اللجوء والإستجارة بالإستغفار , وهو واقية من أكل الربا باللطف والعناية الإلهية.
الثالث: قانون دفع أهل الإستغفار عن مواطن الربا.
الرابع: قانون بعث النفرة في النفوس من أكل الربا، وكأنه والإستغفار من إستحالة إجتماع الضدين.
فإذا كان القلب والجوانح دائبة على الإستغفار فلا يكون في القلب محل لأكل الربا، وهو من الإعجاز في تعقب الأمر بالتقوى للنهي عن الربا.
فلم تأت آية البحث بتعدد صيغ ومضامين النهي موضوعاً وحكماً.
أما الموضوع فهو تعدد الأفراد التي تنهى عنها الآية، وأما الحكم فهو بيان أقسام الربا المنهي عنه وأضراره في الدنيا والآخرة، وجاء نهي واحد بخصوص أكل الربا، ثم تعقبه أمر عام بتقوى الله شامل للأوامر والنواهي، بإتيان الطاعات، وإجتناب المحرمات.
ومع أن العطف في الآية (واتقوا الله) من عطف العام على الخاص إلا أنه أعم في موضوعه، فهو بعث لفعل الصالحات، وحث للمسلمين جميعاً للمناجاة بالصلاح , قال تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
خاتمة آية الربا
اختتمت آية البحث برجاء الفلاح والبقاء لتبدأ الآية التي بعدها بالتحذير والإنذار من النار وشدة عذابها , وتلك آية في نظم القرآن وأسرار سياق آياته.
فلم تأت بعد الزجر عن الربا والأمر العام بتقوى الله ورجاء الفلاح البشارة بالفوز، ولم تنتقل الآيات إلى موضوع آخر، بل استمرت في ذات الأمر إبتدأت الآية التالية لها بحرف العطف (الواو) والتحذير من النار.
فمع التقوى والفلاح , لماذا يأتي الإنذار بالنار، الجواب من وجوه:
الأول: ليس من صلة بين موضوعي الآيتين، والحيطة والحذر من النار جاء مستقلاً في موضوعه.
الثاني: التحذير من النار توكيد للزجر عن الربا، وبيان قانون سوء عاقبة الذين يأكلون الربا.
الثالث: قانون تعدد وظائف المسلمين، بإتيان الطاعات وإجتناب السيئات، والسلامة مما تؤول إليه من العقاب الأليم.
والصحيح هو الثاني والثالث من غير تعارض بينهما، فالوظائف العبادية والجهادية للمسلمين كثيرة ومتعددة، وتتضمن بذل الوسع في طاعة الله، والإحتراز والحذر من أسباب ولوج النار، وهو من أسرار صيغة العطف في ذات آية البحث في(واتقوا الله) وفي قوله تعالى(واتقوا النار).
وفيه تأديب للمسلمين بأن إجتناب فرد من المعاصي غير كاف فلابد من طاعة الله بالسر والعلانية، وإتيان ما أمر به الله سبحانه، والوقاية من النار بترك الأسباب والطرق المؤدية لها، وفيه حجة على الكفار، فإن المسلمين مع طاعتهم لله يحذرون النار.
وقوله تعالى(واتقوا النار) من مصاديق طرد الفزع والخوف من نفوسهم , وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
المهن المكروهة
قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] ( ).
جعل الله عز وجل الأرض لينة سهلة منبسطة , وهي تحت أقدامنا , ومناكبها فجاجها وأطرافها وسهولها .
كما تنطبق الأحكام التكليفية على عمل المكلف، فإنها قد تظهر في باب الصنائع والمكاسب، وفيه آية من الدقة والضبط في أحكام الشريعة الإسلامية وتغشيها للعبادات والمعاملات والأحكام , قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والكراهة لا تعني الحرمة والزجر عن أصناف مخصوصة، ولكنها تنزيه عن معاملات يترشح عنها في أحيان كثيرة ما يسبب غضاضة أو نفرة أو أن الأذى ملازم لها.
والكراهة في تلك المهن ليست مطلقة، فمن كان حافظاً لدينه، متفقهاً في التجارة وكيفية المكاسب فلا كراهة في عدد من تلك المهن منها على سبيل المثال الأظهر:
الأولى: مباشرة الصرف، وشراء وبيع الدينار والعملات، لأن صاحبه في معرض الوقوع في الربا.
وورد عن الإمام علي عليه السلام قال: طرق طائفة من بنى إسرائيل ليلا عذاب فأصبحوا و قد فقدوا أربعة أصناف:
الطبالين، والمغنين، والمحتكرين للطعام، والصيارفة أكلة الربا منهم)( ).
وجاء التقييد في الصيارفة الذين نزل بهم العذاب بخصوص الذين يتعاطون الربا وليس كل الصيارفة , لذا لم يرد تحريم بمهنة الصيرفة بل الكراهة للتحذير من صيرورتها مقدمة للوقوع بالحرام.
وهل هذه الكراهة تحذير وواقية من الربا، الجواب نعم إذ يكون المؤمن الذي يعمل في الصيرفة في حيطة وحذر وحرص على التفقه في الدين للسلامة من الربا، ولو كان بيعه بالنقد والحال فليس من ربا مع الإحتراز , وموضوع الربا في الجملة القرض والبيع بالآجل
(وكان ابن عباس يرى جواز بيع الدرهم بالدرهمين نقدا وناظره على ذلك وجوه الصحابة واحتجوا عليه بنهي النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة فعارضهم بقوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة) ( ).
الثانية: بيع الطعام: لإحتمال وقوع صاحبه في فخ الإحتكار طمعاً بإرتفاع الأسعار، وزيادة الأرباح، لحرمة الإحتكار , ومنافاته لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
والقدر المتيقن في موضوعه هو الإحتكار في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والدهن، وما يحتاج إليه الناس من الطعام بحسب البلاد والزمان والحال فلو كان الرز أو الذرة هي الطعام والقوت الغالب للناس في بلد معين فتشمله أدلة الإحتكار والتلاعب في الأسعار وحرمته( ).
الثالثة: بيع الرقيق , والمراد بالرقيق هم العبيد والإماء، لأنه إحتراف بيعهم قد يؤدي إلى الحرام بأن تكون عنده أمة معروضة للبيع فيطأها، أو يحصل أمر مكروه بأن يسئ معاملتهم.
الرابعة: إحتراف مهنة الذبح والنحر لما فيها من سلب للرحمة من القلب، عند بعض الناس، نعم المؤمن في حرز من هذا السلب لأنه يؤدي الصلوات اليومية الخمس، ويتوجه إلى الله برداء الخشوع والخضوع.
الخامسة: بيع الأكفان، فقد لا يسلم صاحبها من تمني الموت لأخيه، ولو كان بيع الأكفان جزءً من تجارة بيع الأقمشة ، فهل تشمله الكراهة، الجواب لا.
السادسة: الصياغة , وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وأما الصائغ فإنه يعالج غبن أمتي( ),( ).
السابعة: الحياكة ، وهل يمكن الإشكال على كراهة هذه المهنة بأن آدم عليه السلام أول من إشتغل في الحياكة , الجواب لا .
حياكة آدم ليست مكروهة
ذكر عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هبط آدم وحواء عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصابه الحر حتى قعد يبكي ويقول : يا حواء قد آذاني الحر , فجاءه جبريل بقطن وأمرها أن تغزل ( تغزل : غزلت المرأة القطن من باب ضرب واغتزلته مثله والغزل أيضا : المغزول)
وعلمها وأمر آدم بالحياكة وعلمه وأمره بالنسيج .
وكان آدم لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها للخطيئة التي أصابها بأكلها الشجرة وكان كل واحد منهما على حدة ينام أحدهما في البطحاء والآخر من ناحية أخرى حتى أتاه جبريل فأمره أن يأتي أهله وعلمه كيف يأتيها فلما أتاها جاءه جبريل فقال له : كيف وجدت امرأتك ؟ قال : صالحة)( )، وتنتفي الكراهة في المقام من وجوه :
الأول: تعلم آدم للحياكة حاجة طارئة .
الثاني: أراد آدم وحواء لبس الثياب .
الثالث: لم يتعلم آدم الحياكة كحرفة للناس .
بالإضافة إلى أن كراهة الحياكة مسألة عرفية بسبب آثارها وإنقطاع صاحبها عن الناس .
والأصل في الصنائع المكروهة الإباحة
ومع هذا فلو إستدل الحائك بالخبر أعلاه بخصوص حياكة آدم عليه السلام وتعلق الحياكة بالكساء والستر مهنته فهو إستدلال كريم لما يدل في ظاهره على صبغة الإيمان والتفقه , قال تعالى [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
وقد يقال ورد قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، فالأصل أن تكون الحياكة منها لسور الموجبة الكلية الذي يدل عليه لفظ العموم(كلها), فكيف علمها جبرئيل آدم .
والجواب من وجهين:
الأول: التباين بين الاسم والمسمى، وأن اسم الحياكة غير فعلها، وما لا يستطيع الإنسان فعله من الصنائع أكثر مما يعلمه ويتقنه , فآدم يعلم اسم الحياكة بدليل أن آدم أخبر الملائكة بأسماء الأشياء فأذعنوا لحكمة الله , قال تعالى[يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( ).
الثاني: تعليم جبرئيل لآدم عليه السلام من التوكيد والعون الملكوتي له في أول نزوله الأرض ليأتي هذا التعليم مقدمة لأمره بالنسج .
وقيل لو قال أحدهم: (إنَّ آدَمَ نَسَجَ الْكِرْبَاسَ فَقَالَ آخَرُ نَحْنُ مِنْ أَوْلَادِ الْحَائِكِ يَكْفُرُ) ( )، ولكن لا دليل على الكفر لتعدد الإحتمال من قوله.
ومنهم من قسم هذه الصنائع إلى قسمين:
الأول: الصنائع المكروهة.
الثاني: الصنائع الدنية كالحياكة والحجامة والزبال.
ولا تتعارض هذه المهن مع قبول الشهادة فلا يصح رد شهادة أحد أرباب هذه المهن، لأن الشهادة تتقوم بالعدالة والتقوى، ولا ملازمة بينها وبين مهنة مخصوصة، وقد يكون إختيار بعضهم لأحدى المهن أعلاه بسبب التقوى وكيلا يعيش على كد غيره.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب(التضمين) وهو إيقاع لفظ محل لفظ آخر، لأن الأول يتضمن معنى الآخر.
ومن مصاديق التضمين أيضاً حصول المعنى من غير ذكره، ولكن يرد اسم ومعنى آخر يدل عليه، ويملي إستحضاره في الوجود الذهني وهو ضرب من الإيجاز، وبعث للسامع على التدبر والإستقراء.
والأمثلة التي ذكرها علماء البلاغة في المقام قليلة مع أنها كثيرة ومتعددة في موضوعها ودلالاتها.
قال ابن أبي الأصبغ: ولم أظفر في القرآن بشيء منه إلا في موضعين تضمنا فصلين من التوراة والإنجيل: قوله (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية، وقوله (محمد رسول الله) الآية) ( ).
ومن وجوه التضمين مجيء الإتقاء تارة من الله، كما في آية البحث، وأخرى من النار كما في الآية التالية لها، لأن قوله تعالى(وأتقوا النار) يتضمن معنى الخشية من الله ولزوم عبادته، والإنقياد لأوامره، وإجتناب الربا.
وتفيد الألف واللام في(النار) العهد من وجوه:
الأول: من علامات الحقيقة التبادر، بأن يتبادر إلى الذهن المعنى الحقيقي من اللفظ وهو نار الآخرة.
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا .
ولكن جعل لهم الأبد) ( ).
الثاني: قرينة إعداد النار للكفار، ومن الكفار من يتنعم في الدنيا، ويتخذ النار وسيلة لقضاء حوائجه.
الثالث: قيد (واتقوا) لبعث الفزع والخوف العام من النار، فمع أن الآية خطاب للمسلمين إلا أنها تضمنت التحذير والإنذار العام من النار.
وهل يحتمل إرادة المعنى الأعم من القضية الشخصية في الخشية من النار، الجواب نعم من وجوه:
الأول: مجيء القرآن بالدعوة للسعي لنجاة الأهل من النار، قال تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
الثاني: عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما فيها من دفع الناس عن النار، والعذاب فيها.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : على كل ميسم من الإِنسان صدقة كل يوم .
فقال بعض القوم : إن هذا لشديد يا رسول الله ومن يطيق هذا؟
قال : أمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة ، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وإن حملك على الضعيف صدقة ، وإن كل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة)( ).
الثالث: وقاية الإنسان نفسه من النار حجة، ودعوة للناس للإقتداء به، وإقتفاء أثره، وتقدير آية السياق: واتقوا النار كي يتبعكم الناس في الإيمان.
وهل في الآية ذم للذين يعبدون النار , الجواب نعم فإن مفهوم الآية يدل على أن النار من خلق الله، وأعدّها للكفار في الآخرة، ومنهم الذين يعبدون غيره لتكون النار في الدنيا وما فيها من اللهب والشدة وأسباب الحرق والتلف مرآة وتذكيراً بنار الآخرة، وحثاً للناس على طاعة الله وإجتناب معصيته.
وفيه شاهد على أن القرآن نعمة ورحمة للناس جميعاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).

قانون تقييد المكاسب
ليس من تعيين وحصر لمصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا، كل آن منها يداهم الإنسان فيه إبتلاء وإن تعددت سنخيته، فقد يكون عبادياً كأداء الفرائض، أو يكون معاملاتياً كوجوب التنزه عن الربا، أو أخلاقياً كلزوم طاعة الوالدين، أو إجتماعياً كحرمة الغيبة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( ).
ويحتمل موضوع الربا في المقام وجوهاً:
الأول: إنه مسألة إبتلائية قائمة بذاتها.
الثاني: إنه فرع إبتلاء آخر أعم منه.
الثالث: الربا ليس مسألة إبتلائية.
الرابع: إنه إبتلاء خاص بالأغنياء، وأصحاب الأموال الذين يستطيعون الإقراض، وفرض الشروط.
الخامس: إنه إبتلاء للأغنياء , والفقراء الذين يقترضون مع الزيادة طلباً لمادة للكسب وتحصيل الربح.
السادس: إنه إبتلاء مؤقت ومخصوص بحال معينة.
السابع: قانون الربا إبتلاء عام يواجه المسلمين جميعاً.
والصحيح هو الأول والخامس والسابع ، فليس من حصر لجنس الأفراد الذين يبتلون بالربا، بل هو إختبار وإمتحان لكل المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
لقد نهى الله عز وجل المسلمين عن الربا ليكتب لهم الحسنات المضاعفة على إمتناعهم عنه .
وليشكروا الله عز وجل على سلامتهم منه , وما فيها من تنظيم حياتهم المعاشية والإقتصادية .
وجعل الله عز وجل ضوابط شرعية للمكاسب مع تحصيلها فيجب إخراج الزكاة والخمس مع إكتمال الشرائط مع الترغيب بالصدقات المستحبة وتوكيد ما فيها من الثواب العظيم والندب إلى الصدقة والحث على الدين.
ومن مصاديق التقييد في المقام حرمة الربا، والمنع من فرض الزيادة، وإشتراط الربح على القرض والبيع بالنسيئة.
قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( )، واختلف في المراد من الزينة المذكورة في الآية أعلاه على وجوه:
الأول: الأنهار والأشجار والزراعات ونحوها من بديع خلق الله، وفي المراد من الزينة(قيل الأنبياء والعلماء) ( )، وقيل الرجال لأنهم زينة الأرض.
أي بين الوجهين أعلاه عموم وخصوص مطلق لأن الرجال أعم والأصل حمل الآية على إرادة الإطلاق، وعموم الزينة وأســباب البهجة في الأرض، ومن الرجال مــا يكــون أّذى ونقمة في الأرض وتنفر النفوس منه.
ولكن لا يمنع من شمول الزينة للرجال , لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
والزينة من الكلي المشكك سعةَ وضيقاَ , ويتخذ الإنسان رجلاَ أو امرأة الزينة , قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
وقد جعـل الله عــز وجل ما على الأرض زينة للرجال والنساء فهناك زينة، وهناك جهة خلق الله لها الزينة وهم الناس جميعاً إلا أن هذا لا يمنع من كونهم من مصاديق الزينة بعضهم لبعض، كما في الأنبياء ومعجزاتهم الحسية والعقلية.
قانون الأنبياء مصابيح الأرض
من بديع صنع الله عز وجل أن الأنبياء أسوة للناس , وزينة للأرض من وجوه كثيرة منها:
الأول: النبوة والوحي ودلالاتها على الصلة بين السماء والأرض.
الثاني: قانون إمامة الأنبياء للناس في التقوى.
الثالث: قانون صبر الأنبياء في جنب الله.
الرابع: قانون بقاء قصص الأنبياء تزين الأرض بتأريخ مشرق من أسباب الهداية، وضياء الإيمان، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
الخامس: قانون سنن الأنبياء درس حاضر، ونهر جاري يغترف منه الناس الفضائل , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ومع عظيم منزلة الأنبياء عند الله واستجابة دعائهم فقد إتصفت حياتهم بالزهد، وقلة المؤونة، وفي حديث الإسراء (هبط مع جبرئيل ملك لم يطأ الأرض قط معه مفاتيح خزائن الأرض قال إن شئت كنت نبيا عبداً وان شئت ملكاً نبياً فأشار إليه جبرئيل أن تواضع يا محمد فقال بل أكون عبداً نبياً) ( ).
ومن مصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا الغنى والفقر , وما بينهما من المراتب كما أن كلاً من الغنى والفقر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
قانون غلق باب الربا رحمة
تحتمل حرمة الربا بلحاظ أثرها على حال الغني وجوهاً:
الأول: النقص في أموال الغني لغلق باب الربح وحرمانه من أضعاف مضاعفة.
الثاني: ليس من تأثير لإمتناع الغني عن الربا بخصوص مقدار ثروته وأمواله.
الثالث: زيادة نماء مال الغني بإمتناعه عن الربا.
الرابع: التفصيل، من الأغنياء من تكثر أمواله بسبب إمتناعه عن الربا، ومنهم من تصاب أمواله بالنقص لقلة موارد إستثمار المال في ناحيته إلا بالربا، ومنهم من تظل أمواله بذات المقادير.
والصحيح هو الثالث، فما من شيء حرّمه الله إلا وفيه فساد وضرره نعم , قد يقال إن الضرر الناجم عن الربا أعم في موضوعه من مقدار مال وثروة الذي يمتنع عن أكله، إذ أنها تتعلق بالمقترض، وحال المجتمع، وتعطيل الأعمال، وهو أمر صحيح.
إن الإمتناع عن الربا غلق لطريق للكسب وليس حجباً للرزق، وهو شاهد تأريخي متجدد من الزينة التي جعلها الله عز وجل في الأرض بأن يكون الإمتناع عن الكسب الحرام سبباً في زيادة الرزق الحلال , وهذا الإمتناع من مصاديق الجامع بين قانون التقوى وقانون التوكل في قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
و(عن ابن عباس في قوله : { ومن يتق الله يجعل له }( ) الآية ، قال : نزلت هذه الآية في ابن لعوف بن مالك الأشجعي ، وكان المشركون أسروه وأوثقوه وأجاعوه ، فكتب إلى أبيه أن ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأعلمه ما أنا فيه من الضيق والشدة ، فلما أخبر رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اكتب إليه وأخبره ومره بالتقوى والتوكل على الله ، وأن يقول عند صباحه ومسائه { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}( ) { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم }( ) .
فلما ورد عليه الكتاب قرأه فأطلق الله وثاقه ، فمر بواديهم التي ترعى فيه إبلهم وغنمهم فاستاقها فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال يا رسول الله : إني اغتلتهم بعد ما أطلق الله وثاقي فحلال هي أم حرام؟
قال : بل هي حلال إذا شئنا خمسنا ، فأنزل الله { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء }( ) من الشدة والرخاء { قدراً } يعني أجلاً) ( ).
ولو قام الأغنياء بجمع الأضعاف المضاعفة بالربا لتعطلت الأعمال، وأصابت التجارات الكساد، وعجز المقترضون عن دفع الأموال الربوية، وحتى أصل الدين وذات القرض، فيتعذر نماء أموال الأغنياء وتصاب التجارات بالكساد، وتحدث أزمة مالية خانقة، لذا فإن المنع من الربا رحمة عامة بأصحاب الأموال والفقراء وعامة الناس.
وتلك آية ومصداق في كون النبوة زينة للأرض بالمعنى الأعم للزينة وإرادة إصلاح الأرض، وعمارتها وبهجتها بالعبادة والتقوى، وفضل من عند الله في تعدد مفاهيم الزينة، وموضوعية التقوى والهدى في الأرض، ليرى الملائكة الأرض ذات زينة بتنزه المسلمين والمسلمات عن الربا والكسب الحرام.
فعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاءت آية(الزينة) ليرى الملائكة الأرض وقد تزينت بالتقوى، قال تعالى[لِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( ).
وهل يتعارض تقييد الأغنياء بتحريم بعض المكاسب مع قانون الإبتلاء والإمتحان في الدنيا.
الجواب لا، وهذا التقييد جزء من الإبتلاء والإختبار ، ليكون إبتلاؤهم مركباً من كثرة الأموال، والحبس عن معاملات فيها مضاعفة لأموالهم طاعة لله عز وجل ليفوزوا بالثواب المركب.
فمن فضل الله عز وجل على الناس أن يرزقهم الأموال الطائلة ثم يثيبهم على التنعم بها في مرضاته، لذا جاءت آية البحث بالخطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً بإجتناب أكل الربا ليشتركوا في الثواب، الأغنياء وغيرهم للعزم وقصد إجتناب الربا، والتعاون والتعاضد والمناجاة بالتنزه عنه , ويشكروا الله عز وجل على نعمة حرمة الربا وهذا الشكر من التفقه في الدين.
صلة (أعدت للكافرين) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان التباين بين المسلمين والكفار في عواقب الأمور، وعالم الجزاء، وفيه أمور:
الأول: قانون البعث للعمل الصالح.
الثاني: قانون دعوة الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: قانون إقامة الحجة على الكفار، قال تعالى[وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ]( ).
الثانية: جاء القرآن بتوكيد خلق الجنة والنار جزاء للناس على أعمالهم في الحياة الدنيا، وتتصف هذه الأعمال بالتضاد في السنخية، وهو أمر معروف للناس جميعاً، ولكن أصل وبيان هذا التضاد من الله عز وجل إذ تفضل بإنزال الكتب السماوية، وبعث الأنبياء مبشرين بالجنة للصالحين، والنار للكافرين.
وما من آية من آيات القرآن إلا وهي بشارة وإنذار في منطوقها أو مفهومها.
فآية البحث بشارة منطوقاً، وإنذار مفهوماً، والعكس بالنسبة لآية السياق فهي إنذار في منطوقها، وبشارة للمسلمين في مفهومها.
وكل من البشارة والإنذار في الآية القرآنية متعدد من الجهتين، أي جهة المنطوق وجهة المفهوم .
وفي هذا التعدد مسائل:
الأولى: إنه مدرسة عقائدية تساهم في تثبيت الإيمان في النفوس.
الثانية: إنه بناء لصرح التقوى , وطاعة الله في المجتمعات.
الثالثة: فيه وسيلة للتفقه في الدين.
الرابعة: إنه حجة توليدية متفرعة بيد المسلمين.
الخامسة: توكيد لحقيقة وهي أن البشارة والإنذار في منطوق الآية من الإعجاز الذاتي للقرآن، وهما في مفهومهما من الإعجاز الغيري له، لذا جاء في وصف القرآن أنه[هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وشاء الله عز وجل أن يجعل موضوع النهي عن الربا مناسبة للبشارة للمسلمين، ونيلهم الأجر والثواب.
قانون الفلاح بالتقوى
ومن أسرار نظم هذه الآيات أن التحذير والتخويف بالنار لم يأت إلا بعد آية الربا وإختتامها بالفلاح للمسلمين ليأتيهم التخويف وهم يبذلون الوسع لنيل مراتب الفلاح، ويتقيدون بسنن تقوى الله، ويبتعدون عن أكل مال الربا، ليكونوا في مأمن وحرز من التخويف بالنار الوارد في آية السياق، وهو من عمومات قوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثانية: لقد نال المسلمون شرف إخبار الله لهم بأحوال الناس يوم القيامة، وجاء القرآن ببيان حسن عاقبة أهل الإيمان، وسوء عاقبة الكفار والظالمين .
وجاء هذا الإخبار بعرض واحد مع التكليف، وأحكام الحلال والحرام في القرآن ليكون نوع تعضيد للمسلمين في إمتثالهم للأوامر الإلهية، وهو من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
بتقريب أن هذه القصص تحث على العمل الصالح، فيبعث ذكر الجنة الشوق في نفوس المسلمين للإقامة فيها، ويملأ ذكر النار النفوس بالخوف والفزع من دخولها.
الثالثة : يعمل هذا الشوق للجنة والخوف من النار معاً في حصانة المسلمين من الربا، وتلك آية في تأديب القرآن للمسلمين والناس جميعاً، وجعلهم ينفرون من القبائح.
قانون الإنذار الأخروي من الكفر والمعصية
ذكرت آية الســياق إعداد النار، والذي أعدّها هو الله عز وجل، وجاءت الآية بصيغة الفعل المبني للمجهول، وجاءت آيات قرآنية عديدة تدل على أن الله هو الذي أعدّ النار للكفار , قال سبحانه[إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا]( )، وفيه أمور:
الأول: إنه شاهد على قانون تفسير وبيان آيات القرآن بعضها لبعض.
الثاني: فيه دليل على قانون عدم قدرة الخلائق على إعداد النار، فالله وحده هو القادر على خلقها وإعدادها، والعذاب الأبدي للكافرين فيها, قال تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث: قانون إنذار الكفار من العذاب الأخروي وشدته.
وكل ما هو آت قريب , قال تعالى [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ] ( ).
الرابع: قانون حتمية وجود النار لأن الآية جاءت بصيغة الماضي وحصول الإعداد، فلم تقل الآية (تُعد للكافرين).
واختلف المتكلمون في خلق الجنة والنار , وهل هما مخلوقتان الآن أم لم يخلقا بعد لأن موضوعهما وزمانهما هو الآخرة، والمشهور والمختار أن الجنة والنار مخلوقتان , وهما موجودتان الآن، وفيه مسائل:
الأولى: إنه إنذار إضافي للكفار.
الثانية: فيه تحذير من فعل المعاصي.
الثالثة: بعث الناس للتوبة والإنابة.
الرابعة: حصول حال اليقين عند الناس بالجزاء الأخروي، لأن الله لا يقبل إلا الحق، قال تعالى[لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ]( ).
قانون الجزاء باعث على العمل الصالح
الخامسة: من أسماء الله (الحكيم) وخلق الجنة والنار من حكمته تعــالى .
وهل هــو من رحمة الله , الجـــواب نعم، لما فيــه مــن جذب النـاس للإيمــان، وبعــثهم على فعل الصالحات طاعة لله عــز وجل , ورغبة في الجنة وخشية من النار.
وقيدت آية السياق الجهة التي أعدت لها النار , وأنهم خصوص الكفار، ولكن آيات القرآن وردت بذكر فريق آخر من أهل النار هم الظالمون والمنافقون والمجرمون وأعداء الله والفاسقون، قال تعالى[وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ]( )، ويحتمل هذا التعدد وجوهاً:
الأول: الظلم والنفاق والفسق وعداوة الله كلها من الكفر والجحود.
الثاني: إعداد النار لخصوص الكفار، والمذكورون أعلاه ملحقون بهم، لأن أفعالهم تدل على الكفر والجحود.
الثالث: جاء ذكر الكفار في آية السياق من باب الفرد الغالب والأهم، والظلم والنفاق والفسق شعبة من الكفر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، إذ أن الكفر هو الأصل في إستحقاق دخول النار، والتباين في الحياة الدنيا بين الإيمان والكفر جلي ، وكذا في عالم الجزاء فإن الجنة دار الخلود لأهل الإيمان، والنار دار الخلود للكفار الجاحدين، وبخصوص آية البحث فإن العذاب يأتي من وجوه:
الأول: التخلف عن الإيمان، والإمتناع عن أداء الفرائض والطاعات.
الثاني: أكل الربا وأخذ المال بغير حق.
الثالث: الإصرار على الجحود، وعدم الخشية من الله.
الرابع: عدم السعي للفلاح والبقاء.
الخامس: الجدال بالباطل، والمغالطة بخلط الحق بالباطل , قال تعالى[وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ]( ).
ليتضمن الجمع بين الآيتين معاني الرحمة والرأفة بالناس جميعاً وزجرهم عن المعاصي مطلقاً وعن أكل الربا، ودعوتهم للكف عن جدال وإيذاء المسلمين بخصوص أحكام الحلال والحرام في القرآن .
وهذه الرحمة العامة تخفيف عن المسلمين، بصد ومنع أعدائهم من الإضرار بهم، وتأتي صيغ المنع بالإنذار والوعيد والتنبيه والترغيب، وبيان قبح المنهي عنه وأسباب الفساد فيه وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
قانون الوعيد لا يحجب الترغيب
لغة الوعيد لا تحجب لغة الترغيب وأسباب الرحمة عن الناس عموماً، بل تجذب الناس إلى أبواب التوبة , وتجعلها واضحة للجميع , وفيه مسائل:
الأولى: إنه آية في إعجاز القرآن , ودعوة للتدبر في معاني الحكمة فيه.
الثانية: إنه شاهد على نزول القرآن من عند الله , وقانون التكامل الموضوعي في آياته وأنه خير محض، وفي القرآن وعظيم النعمة بنزوله، قال تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]( ).
الثالثة: إن الله سبحانه رحيم بالناس جميعاً في الحياة الدنيا، فصحيح أن النار أعدت للكافرين إلا أن رحمة الله عز وجل متوجهة للناس جميعاً ومنهم الكفار للتنزه من الكفر والجحود , وكل من آية البحث والسياق من رحمة الله.
وجاءت آية البحث لترغيب الناس بدخول الإسلام، والشوق لتلقي خطاب (يا أيها الذين آمنوا) وهذا الشوق من عمومات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، وصيرورة النفس الإنسانية تشتاق للخطاب الإلهي الذي يتضمن الإكرام والتشريف.
الرابعة: بعد مجيء آية البحث بنهي المسلمين والمسلمات عن أكل الربا، وزجرهم عن جمع الأموال الطائلة من المعاملات الربوية.
وبعد حثهم على الخشية من الله، وعلى الإنقطاع إلى طاعته والإنشغال بالسعي لنيل رضاه والفوز بالثواب والجزاء الحسن.
جاء الوعيد والتخويف للكفار بالخطاب للمسلمين والمسلمات بأن ينجوا من النار، ويتجنبوا أسباب دخولها.
ويتجلى قانون كل ساعة من ساعات الإنسان في الحياة الدنيا مناسبة لتوبته توبة نصوحاً، ومادة ومحل لهدايته إلى الصراط المستقيم , وتلقي الخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) والإحتراز من النار وأسباب دخولها وفي التنزيل [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ]( ).
وجاءت كل من آية البحث والسياق لتقريبه إلى منازل التوبة والإبتعاد عن النار.
السياق الموضوعي لآية الربا
بعد أن جاءت الآية المائة والعشرون ببعث المسلمين إلى الصبر والتقوى , والإخبار بإنهما واقية من كيد الكفار بقوله تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( )، جاءت الآيات الثمانية التي بعدها في ذات الموضوع والحكم , والأثر المترتب على تعدي الكفار على المسلمين، ولحوق الخسارة والخيبة بالكفار بترتيب وتعاقب للوقائع والحوادث.
ويظهر الإعجاز التأريخي نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتحكي آيات السياق هذا التعاقب على وجوه:
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الدفاع لقتال الكفار يوم معركة أحد في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة لقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وجاء خروج المسلمين مع قلة عددهم , والنقص الظاهر في أسلحتهم ومؤنهم، وظهور النقص هذا سبب لطمع العدو لأنه نوع إغراء بهم.
لذا قال أبو جهل يوم بدر (ما هم إلا أَكَلَةَ رأسٍ لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد) ( ).
وذكر هذا القول والوصف أبو لهب قبل الهجرة النبوية أيضاً، فحينما نزل قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، وجمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب، ودعاهم إلى الله، تكلم أبو لهب وكان شديداً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , مع أنه عمه صنو أبيه لتنزل سورة كاملة في ذم أبي لهب وزوجته , قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
وهذه السورة من إعجاز القرآن بخصوص الوقائع والأحداث فقد دخل الأعم الغالب من قريش الإسلام , ومع هذا مات أبو لهب كافراَ مما يدل على صدق ذم القرآن له .
إن التعدد النوعي والتحول في أحوال الناس نحو الهدى والإيمان من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد التي تدل على صدق نبوته، ومفاهيم وآثار نزول الملائكة لنصرة المسلمين، ولم يحصل في التأريخ مثل هذا التحول السريع، وأن المشركين يدخلون في الإسلام جماعات وأفواجاً خلال أيام وسنوات قليلة.
وقد خرج بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام من مصر هرباً من آل فرعون، وكان أصحاب عيسى عليه السلام أفراداً قليلين، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه بدأ بأهل بيته وقلة من الأصحاب ثم خرجوا جميعاً للدفاع مع قلتهم لمواجهة المشركين، الذين يصفون المسلمين بأنهم قلة .
ثم دخلت جموع المشركين الإسلام , ولم يبق منهم إلا أفراداً قليلين يلوم بعضهم بعضاً على التخلف عن الإسلام ويصفون أنفسهم بأنهم أكلة رأس.
فلم يرمهم الله بالبلاء والآفات التي تهلكهم كما في أقوام بعض الأنبياء السابقين فلما عقر قوم صالح الناقة ، نجّى الله عز وجل نبيه صالح والذين آمنوا معه ، ونزل عذاب الإستئصال بالكفار من قومه، قال تعالى[وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ] ( )، بينما قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هداهم الله للإسلام .
وفيه دليل على صدق نبوته , وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين.
قانون إجتماع النبوة والإمامة
لقد تجلت إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين من الساعات الأولى للرسالة ، ليكون الصحابة كلهم بعرض واحد، في إنقيادهم وطاعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعيّن لهم وظائفهم ومواضعهم، قال تعالى[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] ( ).
وفيه إشارة إلى لزوم العمل بمضامين آية الربا في حال السلم، وعدم أكل المال الربوي طاعة لله ورسوله وفيه وجوه :
الأول : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعل معه صحابة مؤمنين، مستعدين للجهاد وبذل النفس في سبيل الله ودفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قلة أسلحتهم وأمتعتهم.
الثاني : قانون مجيء البشارة وأسباب السكينة للمسلمين بقوله تعالى[وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ولعل في ورود اسمه تعالى(سميع) دليل على مناجاة المسلمين عند الخروج إلى القتال بالجهاد والتضحية، ولزوم الدفاع عن بيضة الإسلام، لذا إستحقوا وصفهم بالمؤمنين .
ولما سمع النبي بزحف قريش يوم بدر إستشار أصحابه (قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ودعا له)( ).
الثالث : جاء قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( )، بعد الإخبار عن إصلاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ساعة الإعداد للخروج لمعركة أحد، ليدل بالدلالة التضمنية على خروج المسلمين للدفاع وخوضهم القتال، ورؤيتهم لمعان السيوف ووقوع القتلى وجريان الدماء.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدقها بلحاظ الآية أعلاه أمور:
الأول : قانون سلامة المؤمنين المقاتلين من الفشل، ونجاتهم من الجبن والخور، لأن الآية لم تذكر إلا الهمّ بالفشل الذي يدل على عدم وقوع ذات الفشل.
الثاني: قانون عصمة أكثر المؤمنين المقاتلين من الهم بالفشل وهي حاجة لجعل من همّ بالفشل يتركه، ويحسن التوكل على الله.
الثالث: قانون ولاية الله للمسلمين واقية من حصول الجبن والخور، وتدل الآية أعلاه على حقيقة وهي أن المسلمين لم يتعرضوا للفشل والهزيمة يوم أحد، لأمور:
الأول: قانون عدم حصول الفشل والجبن للمسلمين.
الثاني: قانون ولاية الله عز وجل للمسلمين.
الثالث: قانون توكل المسلمين على الله عز وجل.
وجاء هذا التوكل بصفة الإيمان بقوله تعالى[وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) و فيه دليل على عدم مغادرة الإيمان للطائفتين عندما همتا بالفشل , وهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار.
و(عن ابن شهاب وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ قالوا : كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص ، اختبر الله به المؤمنين ، ومحق به الكافرين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخفٍ بالكفر.
ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته ، فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك ، ومعاتبة من عاتب منهم .
يقول الله لنبيه {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم}( ))( ).
وتدل الآية أعلاه على رجوع المسلمين من معركة أحد ممتنعين عن الشعور بالهزيمة والجبن، بينما رجع عدوهم من المعركة في حسرة، قال تعالى في وصف الكفار يوم أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ), ( ).
قانون سلامة الإسلام في أحد
وفي حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند رجوعهم إلى المدينة يوم معركة أحد أعزة سالمين من الهزيمة مسائل:
الأولى: إنه من الشواهد على ولاية الله لهم.
الثانية: قانون إستدامة حال العز التي عليها المسلمون وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالثة: إنتفاء الضجر والملل من الحرب عند المسلمين، خصوصاً وأن الملل سبب ينفذ منه العدو لبث الإشاعات وأسباب اليأس والفرقة في الطرف الآخر.
الرابعة: قانون عدم حصول النفرة عند عوائل المؤمنين وأهل المدينة عموماً من خروج المؤمنين للقتال، وإنعدام الخوف والحزن والخشية من عدم رجوع المؤمنين المقاتلين مع علم الجميع بما يمتاز به الكفار من الكثرة والقوة والرغبة في البطش والإنتقام ، ومع ما بينه المنافقون والمنافقات من الأراجيف والإشاعات المغرضة ضد الإسلام كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
ومناجاة الكفار بالقتال سبب إضافي للقوة، ويكون لها أثر مضاعف عند إجتماعها مع رجحان الكفة على العدو لولا فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الخامسة : سلامة عوائل المسلمين من حال الخوف والحزن مناسبة لمتابعة أخبار إنتصارات المسلمين، وما أصاب الكفار من الخسائر.
ومن إسرار ولاية الله للمسلمين وإعانتهم وعوائلهم على الصبر والتقوى دخول الغنائم إلى المدينة وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقسمتها بين المهاجرين والأنصار .
فلم يقل لهم النبي إننا بحاجة إلى السلاح والمؤن واصبروا حتى نخوض معارك أخرى بخيل ومؤون كافية، بل كان الإمام في حسن التوكل على الله.
وفيه ترغيب للمسلمين بالإقبال على أداء الفرائض العبادية , والإمتناع عن المعاملات الربوية خاصة وأن المسلمين كانوا في إنشغال بطاعة الله عز وجل , والدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل وبيضة الإسلام لتترشح حرمة الربا عملياَ في المجتمعات .

من مصاديق ولاية الله للمؤمنين
فجاءت نتائج معركة أحد درساً وموعظة من غير أن تبطل الأمل بالظفر والنصر الذي أدرك المسلمون جميعاً أنه بات قريباً منهم، ولا يغادرهم، قال تعالى[مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا] ( ).
أي ليس لأي نبي من الأنبياء أن يأخذ الأسرى من المشركين في أول المعارك معهم ، إلى أن يقهرهم ويكشفهم ويصيبهم الخزي، ويخاف الذين من ورائهم فينزجروا ويكفوا عن التعدي على المسلمين.
ولم تأت الآية أعلاه للوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها خطاب للمسلمين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى في معركة بدر، وتأديب وإرشادهم، ومدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحجة واقعية متجددة من ميدان المعركة.
من ولاية الله عز وجل للمؤمنين في حال الحرب دفع الفشل والهم به عنهم، وفي حال الحضر حرمة الربا ولزوم التنزه عنه، ليكون هذا التنزه من شكر المسلمين لله عز وجل على كل من:
الأول: نعمة ولاية الله على المؤمنين على نحو العموم الإستغراقي الشامل للجميع.
الثاني: نعمة النصر في معركة بدر وأحد.
وأي النعمتين أعلاه أعظم.
الجواب هو الأول أعلاه، لأن نعمة النصر رشحة من رشحات نعمة الولاية.
السابع: بعد ذكر الهمّ بالفشل، وولاية الله الواقية من إتساعه وصيرورته فشلاً ذا مبرز خارجي، جاء التذكير بالنصر بالأمس القريب في معركة بدر بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وفيه مسائل:
الأولى:بيان فضل الله عز وجل على المسلمين.
الثانية: قانون بعث الأمل في نفوس المسلمين.
الثالثة:قانون منع الإنشغال بأسباب الفشل والخسارة التي تعرض لها المسلمون.
الرابعة: قانون توكيد أهلية المسلمين للنصر بعد معركة أحد من باب الأولوية القطعية لأن النصر جاءهم في معركة بدر وهم أذلة، وإنتفت حال الضعف والذل بعدها بدليل صبرهم وقتالهم في معركة أحد.
قانون وجوب الشكر على نعمة النصر
دعوة المسلمين للشكر لله على نعمة النصر، رجاء إستدامتها وتجددها، وقد جاء النص بالندب إلى الشكر بخصوص معركة بدر , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة من المدينة ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه في كتيبة استطلاع وتبيلغ ودعوة للهدى ولم يثبت أنه كان يقصد قافلة أبي سفيان , ولكن المشركين أصروا على القتال عند اللقاء في ماء بدر وسميت بدراَ لوجوه منها :
الأول : وجود بئر في المكان حفره لاجل اسمه بدر من كلدة , فسمي باسمه , وبه قال الشعبي .
الثاني : صفاء ماء البئر , ويرى فيها البدر .
ويحتمل موضوع الشكر لله وجوهاً:
الأول: النصر في معركة بدر بمدد من الملائكة.
الثاني: النصر في معركة بدر وأحد.
الثالث: قدرة المسلمين على مواجهة العدو في ميادين القتال بعد أن كانوا مستضعفين.
الرابع: مقدمات نصر المسلمين.
الخامس: قانون تحلي المسلمين بالصبر والتقوى مطلقاً , وفي معاركهم مع الكفار , قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
السادس: المنافع والمغانم التي يخرج بها المسلمون من ساحات القتال.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مواضيع ومادة الشكر لله عز وجل، لتكون الدنيا(دار الشكر) ويكون الشكر مادة وسبباً لنزول الفضل من الله عز وجل , قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
السادسة: قانون بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار , قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.

نصر النبي “ص” معجزة حسية وعقلية
السابعة: تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال، ويحتمل النصر يوم بدر وجوهاً:
الأول: إنه معجزة عقلية.
الثاني: إنه معجزة حسية.
الثالث: إنه معجزة عقلية حسية.
والصحيح هو الثالث، وهو آية تأريخية متجددة، وسبيل للتغيير في حال الكفار، فبعد أن كانوا يتناجون بمحاربة الإسلام , ويخرجون لقتال المسلمين، صاروا على وجوه:
الأول: فرقة إختارت التوبة والإنابة ودخول الإسلام.
الثاني: فرقة كفت عن قتال المسلمين، وإختارت الإنعزال.
ومن الإعجاز أن هذا الإنعزال ليس مجرداً، بل هو مناسبة للتدبر في الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: فرقة أصرت على قتال المسلمين، فصارت في حال ضعف وإرباك وفزع، قال تعالى في تحديهم وذمهم، ودعوة المسلمين لعدم الخوف منهم[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
فمن مصاديق ولاية الله للمسلمين، أن همت فرقتان منهم بالجبن والفشل في بداية معركة أحد ورؤية كثرة وشدة بأس الكفار فزالت أسباب هذا الهم أثناء المعركة بمصاحبة الخيبة والذل للكفار حتى بعد مغادرتهم لأهليهم وإبتعادهم عن المدينة المنورة.
وفي حديث (فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره .
ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً .
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟
فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله والله شديد العقاب ، فذلك حين رأى الملائكة) ( ).
لتجتمع البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة على الكفار، بلحاظ هذه الآية والآيتين السابقتين لها من وجوه:
الأول: قانون ذهاب الفشل عن المؤمنين الذين همّوا به يوم أحد بفضل من الله عز وجل.
الثاني: قانون ولاية ونصرة وإعانة الله للمسلمين لقوله تعالى(والله وليهما) وولاية الله لهاتين الفرقتين جزء من ولايته للمسلمين جميعاً.
الثالث : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهو من الشواهد على أنهم في حال دفاع واضطرار للقتال , قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
ترى لماذا ذكرت الآية ولاية الله للطائفتين على نحو الخصوص، فيه مسائل:
الأولى: قانون توكيد الشمول والإطلاق في ولاية الله للمسلمين.
الثانية: بيان حقيقة وهي تغشي رحمة الله عز وجل للمسلمين في كل الأحوال، قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
الثالثة: كما جاء نصر المسلمين يوم بدر بفضل من عند الله، فان دفع الهم بالخور والجبن عن الطائفتين كان بفضل من الله أيضاً، فهو سبحانه ينصر المسلمين، ويقيض أسباب ومقدمات هذا النصر، ويحول دون حصول المانع والبرزخ عن بلوغ مراتبه.
قانون التوكل شاهد على العبودية لله
توكل المسلمين على الله مقدمة للثبات في الميدان ، ويأتي هذا التوكل بصبغة الإيمان والله هو الذي يشكر عباده على إيمانهم وفعلهم الصالحات، قال تعالى[وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ] ( )، والتوكل على الله من الفعل الحسن ذاتاً وأثراً وفيه أمور:
الأول: التوكل على الله إقرار بالعبودية له سبحانه.
الثاني: إنه شاهد على التسليم بالقدرة المطلقة لله عز وجل.
الثالث: فيه إعتراف بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه.
الرابع: إعلان حاجة الفرد والجماعة والأمة لرحمة الله عز وجل في حال الرخاء والشدة.
ويلازم الإحتياج الإنسان لأنه ممكن الوجود، ولم يتركه الله عز وجل يبحث عن محل قضاء وتيسير حاجته، بل دعاه إلى التوكل عليه، ففاز المسلمون بنعمة التوكل.
وجاءت خاتمة آية (إذ همت)( ) شاهداً سماوياً وثناءً عليهم ، ودعوة لهم لإستدامة هذا التوكل وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( )، بأن يفوز المسلمون في موضوع واحد يكون سبباً للتوكل، ومصداقاً وأثراً له.
إخبار آية (بدر) عن نصر المسلمين في المعركة ليستصحب المسلمون وقوع النصر في معركة أحد، وأصل الإستصحاب أمر عقلائي يعتمده العقلاء في حياتهم، ووضع له علم الأصول ضوابط بلحاظ النصوص مثل (لا تنقض اليقين بالشك) ليكون الإستصحاب أصلاً عملياً يرجع إليه المكلف في حال الشك.
قانون إجتماع الضدين النصر والذلة
لقد حصل النصر للمسلمين وهم في حال ذلة، مع التسليم بالتنافي بين النصر والذلة في آية ولطف وقهر للأسباب بفضل من الله عز وجل ، وفيه أمور:
الأول: إنه شاهد على قانون أن الله لاتستعصي عليه مسألة.
الثاني: توكيد قانون ثابت وهو أن النصر بيد الله سبحانه.
الثالث: وجود ملازمة بين العز والنصر، قال سبحانه[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وقد وصفت هذه الآيات المسلمين بصفة الإيمان وعلى نحو متعدد ومتكرر[تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ]( )، [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وكل فرد منها متحداً ومنضماً للآخر شهادة سماوية، ووسام فخر لأجيال المسلمين.
ونزل الأمر من الله عز وجل للمسلمين بالتقوى والخشية منه سبحانه، وجاءت(الفاء) (فاتقوا الله) للسببية، وقيل في الصناعة النحوية بعدم عطف الإنشاء على الخبر، فتكون في الآية أعلاه للسببية فقط من غير عطف .
ولكن هذه القاعدة تحتاج إلى دليل وإثبات، فالعطف والتعقيب وعدم التراخي ظاهر في الآية الكريمة، إذ إحتاج المسلمون التقوى بعد معركة بدر بإظهار الإيمان، والإنتفاع الأمثل من النصر بعمل الصالحات.
وهل من التقوى الإستعداد للمعركة القادمة بلحاظ أن التقوى واقية من الهمّ بالفشل وإنسحاب شطر من المؤمنين من ساحة المعركة يوم أحد لولا ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد قليل من أهل بيته وأصحابه , لتمنع التقوى من تحول الهمّ بالفشل إلى فشل وجبن وإنسحاب.
الجواب جاءت آية[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ) عوناً يوم أحد للتذكير بفضل الله عز وجل على المسلمين، ولتنمية ملكة الصبر عندهم، لذا فان قوله تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ] يرجح نزوله يوم أحد وما لاقاه المسلمون من المشقة والعناء في مواجهة محافل جيوش الكفار.
قانون الدنيا دار الحجة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الحجة) فهي مملوءة بالبراهين التي تدل على وجوب عبادة الله تعالى، وتتضمن مجتمعة ومتفرقة الزجر عن معصيته، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، ونزول الملائكة لنصرة المسلمين آية وحجة بالغة، وهي حجة توليدية تتفرع عنها حجج غير متناهية في موضوعاتها وأحكامها.
ومنها ما تتضمنه آية السياق ذاتها كما في نعت الملائكة بصفة (مسومين) لتكون شارات الملائكة التي يمتازون بها ضياءً يبعث المسلمين لمسالك التقوى، وتجعلهم يسعون في الأرض بِشارات , وبُشارات التقوى بين الناس.
ومنها الإمتناع عن الربا، فهذا الإمتناع سمة وعلامة شرّف الله عز وجل بها المسلمين، وهي نوع جهاد ضد النفس الشهوية، وضد الكفر والجحود، وهو من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، بأن جهاد المسلمين مع أنفسهم ودفاعهم ضد عدوهم في موضوع واحد متحد، سواء كان عبادياً كالصلاة أو معاملات كالتنزه عن الربا طاعة لله عز وجل.
إن إتصاف المسلمين بخصال عبادية عديدة، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سمات إيمانية مباركة تميزهم عن غيرهم ، وتملي عليهم اتخاذ الأخلاق الحميدة زينة وهوية مصاحبة ، والنسبة بينها وبين الإرهاب هو التضاد والتنافي.
وقد جعل الله عز وجل عند الإنسان القدرة على التمييز بين الأشياء والمتضادات، بين الحق والباطل، والجيد والردئ، والعدل والظلم، والكرم والبخل.
لقد فاز المسلمون بسمة مباركة وهي ترك الربا وان كان فيه أرباح طائلة سواء كانت كثرة الأرباح الربوية في عقد واحد أو عقود متعددة وفي عرض وزمان واحد، أو في أوقات وآنات متعاقبة.
فان قلت لا يرقى المؤمنون إلى مرتبة الملائكة ، وفي التنزيل [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ورد (عن ابن عباس في قوله [مسوّمين] قال : أتوا مسوّمين بالصوف ، فسوّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف)( ).
أي جعلوا علامات لهم من الصوف بكيفية وألوان مختلفة.
فالجواب هذا صحيح إنما ذكرنا موضوع السمة من باب البيان والإجمال وجاء وصف(المسومة) في القرآن بخصوص الأموال وإقتناء الدواب، قال تعالى[وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ]( ).
مصاديق الرحمة في الحلال والحرام
إن الله عز وجل هو الرؤوف الرحيم بالناس جميعاً ومنهم المسلمون، فجعلهم يتعارفون فيما بينهم باجتناب الربا ويدرك الناس أن تعفف المسلمين عن الأرباح الربوية الطائلة إنما هو طاعة لله عز وجل الذي جعل أمور المعيشة على قسمين:
الأول : حلال ، يثاب المرء باتيانه.
الثاني: حرام ، يثاب المرء بتركه ، ويؤثم باتيانه.
و(عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)( ).
فأمرهم وندبهم إلى الحلال، وزجرهم ونهاهم عن الحرام، والواسطة في التبليغ كتاب سماوي[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( )، وهو القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وعن (الحكم بن عمير الثمالي وكانت له صحبة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه، يسير لمن تبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن ، قال الله سبحانه وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( ).
إن إختصاص المسلمين بصفة الإمتناع عن الربا من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، فهم أخوة من وجوه:
الأول : قانون إتيان الفرائض والواجبات العبادية.
الثاني : قانون الإمتناع عن المحرمات، ومنه العصمة من الربا.
الثالث : قانون القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلقيه بالقبول والرضا.
لقد جعل الله عز وجل تقسيم الأمور والمكاسب والأطعمة إلى حلال وحرام ، وما بينهما من تضاد امتحاناً واختباراً للناس ، وهو لا يخلوا من أثر يترتب عليه بأن تكون العافية والزيادة في الرزق مع الحلال ، والمرض والإبتلاء مع تنازل الحرام ومنه أكل المال الربوي ، وهو من معاني وعمومات قوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، وما فيه من الدلالة على قبح الحرام وضرره.
وفي حسن سمت المسلمين دعوة للناس جميعاً للصلاح، ونبذ الفساد والمعاملات الباطلة التي تجلب الأذى والضرر، ليبقى المسلمون رافعين للواء الجهاد من أجل الإصلاح بأدائهم التكاليف وإعراضهم عن الربا وما فيه من الظلم والفساد.
قانون (بشارة النصر)
من إعجاز القرآن بيان آياته الذي ينفذ إلى شغاف القلوب، ويصل إلى مدارك الناس جميعاً مع التباين بينهم في الرتبة واللسان والإلتفات، أي قد يكون الإنسان ذكياً ولكنه لا يلتفت إلى موضوع ما فلا يفقه فيه مع سهولته ويسره، وقد يكون العكس بأن يكون مستوى الذكاء عند إنسان ما أدنى رتبة , ولكنه يواظب على فعل أو يوليه عناية ويحرص على تعلمه فيفقه معانيه.
وجاءت آيات القرآن بالمعنى الأعم الشامل للناس جميعاً فحالما يتلو أو يسمع الإنسان الآية القرآنية يدرك مضامينها القدسية في الجملة.
وجاء قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى] ( )، جلياً واضحاً ونصاً حاضر المضمون في الوجود الذهني حال سماعه وما بعد السماع، إذ أن قوة البيان وعظمة الموضوع والحكم تجعله لا يغادر الذهن بسرعة أو بسهولة، وفيه مسائل:
الأولى: إنه بشرى عامة لكل المسلمين بموضوع يتعلق بالقتال.
الثانية: توكيد مصداق عملي للنصر بجند من السماء.
الثالثة: إنه أمر يملأ النفس المؤمنة بالغبطة.
الرابعة: جعل المسلمين في عز وفخر دائمين، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتحتمل البشرى في شرائطها وجوهاً:
الأول:البشرى بقيد الصبر والتقوى لقوله تعالى في ذات الآية السابقة لها[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ).
الثاني: البشرى حال مجيء الكفار للقتال، إلى جانب شرط تحلي المسلمين بالصبر والتقوى.
الثالث: الإطلاق في موضوع البشرى، وعدم تقييدها بشرط مخصوص.
والصحيح هو الثالث من وجوه:
الأول: قيد الصبر والتقوى شرط لنزول خمسة آلاف من الملائكة، وليس لذات البشرى.
الثاني: التباين بين نزول الملائكة والبشرى.
الثالث: ذات الآية القرآنية أعلاه بشرى قائمة بذاتها.
الرابع: تدعو البشرى من الله إلى الصبر والتقوى، بلحاظ أنهما من مصاديق الشكر لله على نعمة البشرى.
وتقدم ذكر ستة وجوه للهاء في قوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى]( ).

قانون عموم البشرى
إن الله عز وجل إذا أعطى فانه يعطي بالأوفى والأتم ، وهو [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ولا تنفد خزائنه.
ويتجلى العطاء في البشرى الواردة في الآية السادسة والعشرين بعد المائة من سورة آل عمران من وجوه:
الأول: عموم البشرى وانها لكل المسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
وهو المستقرأ من الضمير الكاف في [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]( )، أما الضمير الهاء في (وما جعله) فهو على معنى متعدد :
الأول : قانون المدد الملكوتي .
الثاني : الإخبار السماوي عن نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع إشاعة المشركين بين الصفين بقتله .
وعن أهل التفسير والسنة الدفاعية في حديث طويل أن خيل المشركين حملوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلفهم عندما رأوا إنشغال المسملين بالغنيمة.
(ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله ، وتفرّق عنه أصحابه.
فأقبل عبد الله بن قميه يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ويوم أُحد وكان اسم رايته العقاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قميه.
فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله، فقال : إني قتلت محمداً وصاح.
صارخ : ألا أن محمداً قد قتل، ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس ويقول : إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين)( ).
الثاني : إن الله عز وجل منح البشرى للمسلمين، وجعل موضوعاً لوصولها إلى نفوسهم.
الثالث: إتصاف المواساة التي تأتي من الله بأنها عامة وعظيمة وواقية، فمع خسارة المسلمين في معركة أحد جاءتهم البشرى وطمأنينة القلوب على نحو دفعي حاضر.
الرابع: البشرى واقية من الفرقة والفتنة وأسباب الخلاف، فمن فضل الله عز وجل أنه يأمرهم بالأخوة والتمسك بالقرآن ونهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التفرق، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وجاءت البشرى أوان المعركة وعند إنقضائها، وهو أمر إختص به المسلمون لمصاحبة البشرى لهم وإلى يوم القيامة لتكون عوناً لهم في تقيدهم بأحكام الكتاب والسنة، وحرزاً وأمناً من تعدي الكفار لاسيما وان موضوع البشارة هو ساحة معركة أحد وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين سالمين منها.
وتقدير الآية وما جعله الله إلا بشرى لكم في كل معارك الإسلام ولتطمئن قلوبكم بالمدد والعون من الله) .
إن إستدامة وإتصال البشارة من حكمة الله في إصلاح الأرض بالتقوى وتيسير أمور العبادة والنسك , وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
قانون البشرى تقريب للإمتثال
من لطف الله عز وجل إعانة الناس عامة والمسلمين خاصة لأداء الواجبات العبادية، وإزاحة الموانع التي تحول دون عمارة الأرض بذكر الله، لتكون البشارة على وجوه:
الأول: إنها عون للمسلمين بالإمتناع عن الربا.
الثاني: فيها شكر لله تعالى على نعمة البشارة.
الثالث: إنها مناسبة لسؤال ورجاء دوام البشارة ,والنفع المترتب عليها.
الرابع: إدراك الحاجة لحضور البشارة في حال الحرب في الوجود الذهني والواقع الخارجي.
وهل تنفع البشارة للمسلمين الكفار.
الجواب نعم، فمع التضاد بين الإيمان والكفر , وكون موضوع البشرى هزيمة الكفار فانها رحمة بهم لأنها منع من إستحواذ الكفر على الأرض، وزحزحة له من على نفوس الكفار أنفسهم لإدراكهم التباين بين رفعة وعز المسلمين بالبشارة , وبين ما لحق الكفار من الخزي والذل بين الناس.
فبعد معركة بدر وأحد زالت هيبة قريش بين القبائل وإنكشف قبح الكفر وما يجر على أهله من الويلات، وإتضحت للناس حقيقة وهي أن أهل البيت الحرام هم أولى الناس بالإسلام، ومفاهيم التوحيد بقيام الحجة عليهم، وحضورها بين ظهرانيهم، لذا جاءهم العذاب العاجل بسبب محاربتهم للإسلام .
وقد حذّرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه العاقبة السيئة، وفي يوم بدر خطب عتبة بن ربيعة وهو من رؤساء الكفر فقال (يا معشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر إن محمدا له إل و ذمة و هو ابن عمكم فخلوه و العرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به و إن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فغاظ أبا جهل قوله) ( ).
فأبوا إستكباراً وحرضوا الجيوش العظيمة للقضاء على بيضة الإسلام في إستبداد وطغيان لم يرد في التأريخ مثله، بلحاظ أن معجزات نبوة محمد العقلية والحسية ظاهرة لهم.
والأصل التصديق بها والمبادرة للإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية التي هي من المعجزات ، وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ]( ).
أو لا أقل الكف والإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا بنبوته خصوصاً وأنه قصد دار الهجرة في المدينة , وإبتعد عن مكة.
توالي أخبار النبوة على قريش
لقد أرادت قريش قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه فنزل جبرئيل عليه السلام وأمره بالهجرة إلى المدينة ، فكان في استقباله الأنصار وعدد من الذين سبقوه بالهجرة منهم مصعب بن عمير ، وهذا الإستقبال معجززة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المعجزات أيضاً أن أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة هو بناؤه المسجد النبوي لتتجلى المصاديق اليومية لهذه المعجزة والتي تبهر العقول .
وصارت الأخبار تترى على مكة وأهلها بخصوص آيات النبوة في المدينة .
لم تصل إلى قريش من أخبار النبي إلا آيات منها:
الأولى: دلائل تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: دخول الناس في الإسلام .
الثالثة: قانون تنامي قوة المسلمين قال تعالى [قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة خمس مرات في اليوم في المسجد النبوي ومساجد المدينة الأخرى.
فجاءت البشرى لتكون على وجوه:
الأول: إنها زاجر إضافي.
الثاني: فيها دعوة لهم للإسلام.
الثالث: التذكير بوجوب تعاهد أهل البيت الحرام لمبادئ التوحيد.
الرابع: فيها حجة بالغة على أهل مكة، وتذكير بنبوة إبراهيم، وبشاراته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه له، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ].
والتزكية في المقام شاهد بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير لهم في النشأتين.
وهل تدخل البشارة في مصاديق الأمن والثمرات في دعاء إبراهيم الذي ورد في التنزيل بقوله تعالى[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( )، إنه أمر يحتاج إلى دليل وأمارة وشاهد، وان كانت البشارة تتغشى المقام.
ومن الأمن في مكة وكل بلد إنتفاء الربا والزيادة القرضية، وأكل المال بالباطل إذ أن الربا باعث على الفتنة ، وهو سبب للضغائن والأخلاق المذمومة.
فتفضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنشر الأمن في أسواق مكة بتنزيهها من الربا ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] .
وتفضل الله عز وجل بالرزق الحلال الذي يغني أهل مكة والمسلمين عن الأضعاف المضاعفة من الربا، بل وعن المعاملة الربوية أصلاً، فليس فيهم من هو محتاج لتلك المعاملة أخذاً وعطاءاً.
قانون النصر طمأنينة
لقد جاء قوله تعالى[وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] ( ) وعد حاضر للمسلمين بالسكينة الشخصية والعامة بالمدد الملكوتي وتحقيق النصر والغلبة على الكفار.
ومن خصائص (المؤمنين) فوزهم بالسكينة وطمأنينة القلوب , وفيها مسائل :
الأولى : الطمأنينة ذاتها نعمة.
الثاني: لا يقدر على طمأنينة القلوب إلا الله عز وجل، وقد يتحقق النصر لقوم، ولكن لا تطمئن قلوبكم لإحتمال إصابتهم بالضعف، وحصول الفرقة بينهم، أو مباغتة العدو لهم، ولكن الطمأنينة التي تأتي من عند الله عز وجل تتصف بأمور.
الأول: الإستدامة والدوام.
الثاني: ثبوت الطمأنينة في كل الأحوال والأزمان.
الثالث:العموم، وشمولها لجميع المسلمين والمسلمات.
الرابع:الطمأنينة عن علم وتفقه في الدين.
والصبر والتقوى وسيلة لمصاديق مستحدثة من الطمأنينة، لتكون مصاديقها التي يرزقها الله المسلمين في ميادين الدفاع توليدية من جهات:
الأولى: بعث الطمأنينة على العمل الصالح.
الثانية: صيرورة المسلمين في حال قوة ومنعة دائمة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة: جعل الناس يخشون المسلمين , ويدركون أنهم يجتنبون الربا طاعة لله عز وجل.
الرابعة: أداء المسلمين للوظائف العبادية، قال تعالى[فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ).
الخامسة: الطمأنينة والسكينة مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإنصات له، ومن أهم مصاديق الأمر والنهي بيان أضرار الربا والتناهي عنه.
ويفيد الجمع بين آية السياق والآية التي قبلها اجتماع أمور مباركة تدفع المسلمين عن منازل الربا الظاهرة والخفية، وهذه الأمور هي:
الأول: تحلي المسلمين بالصبر، وما فيه من معاني الإستغناء عن الأرباح الطائلة التي تأتي عن طريق المعصية.
الثاني:تقوى المسلمين، وخشيتهم من الله.
الثالث: مصاحبة البشارة للمسلمين والتي لم تأت إلا عن صلاح المسلمين , وإتخاذهم الإيمان منهجاً.
الرابع:تطلع المسلمين إلى النصر بفضل من الله عز وجل.
وهل يدخل في قوله تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] قهر النفس الشهوية، ومنعها من الميل إلى الربا أكلاً وأخذاً.
الجواب لا، فان القدر المتيقن من قوله تعالى أعلاه نصر أحد طرفي القتال، نعم يكون هذا النصر على وجوه:
الأول: فيه رحمة للمسلمين.
الثاني: إنه واقية من المعاصي.
الثالث: مانع من غلبة النفس الشهوية.
أما إذا انتصر الكفار في معركة فانهم يتخذونه سبباً لشيوع المعاملات الربوية، وأكل المال بالباطل فينزل بهم البلاء، فيتفضل الله عز وجل بجعل النصر ملازماً للإيمان، ونعمة يفوز بها المسلمون , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وكما أن حكم القصاص سبب للإنزجار عن قتل الغير خشية القصاص، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( )، فكأن في مصاحبة النصر للإيمان زجر للناس عن التعدي على المسلمين لأن الهزيمة تنتظر الذي يحاربهم ويعاديهم , قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر)( ).
فقد تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن جعل الإخبار عن نصرهم في القتال على وجوه:
الأول: إنه سبب لخوف وفزع الكفار من المسلمين.
الثاني: دعوة الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الإسلام وما فيها من التكامل، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
الثالث: ثبات المسلمين على الإيمان والإستعداد لمواجهة الكفار.
لمّا جاءت خاتمة آية (البشرى) ( )، بالإخبار عن كون النصر بيد الله عز وجل، جاء قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] .
لتوكيد حقيقة وهي أن النصر كنز ظاهر إختص الله به المؤمنين وهو من عمومات رد الله على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، عندما إحتجوا على جعل الإنسان في الأرض، فانه سبحانه جعل أسباباً متعددة لضعف ووهن الكفار، ومنع المفسدين عن منازل الخلافة، فبعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية، وتفضل ورزق المسلمين منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وأعانهم على التقيد بحرمة الربا، وهذا التقيد مستمر ومتجدد إلى يوم القيامة وكل يوم تشرق عليهم آية البحث بأمرها بالتقوى ونهيها عن المعاملة الربوية.
قانون سمت المؤمنين في المعاملات
وتظهر الآيات التباين بين المؤمنين ومشركي قريش وثقيف في باب المعاملات، وتنزه المؤمنين عن أسباب الفساد التي إستنكرها الملائكة، أظهروا عدم ملائمتها بصفة ومقامات خلافة الله ، وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ليكون في عمل المسلمين رضا لله وملائكته ورسله، ويتبين للملائكة حكمة الله في خلق الإنسان من عقل وشهوة، وغلبة العقل عند المسلمين بدليل إجتنابهم للربا، وتناهيهم عنه.
وبترك الربا يعرف المسلمون في كل زمان، وفيه مسائل:
الأولى: إنه وسام عز وفخر.
الثانية: فيه حجة لإستحقاقهم النصر والغلبة في ميادين القتال على مشركي قريش .
الثالثة: هذا الترك من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بلحاظ أن من مصاديق العز التقيد بأحكام الشريعة.
ترى ماذا يختار المسلمون لو خيروا بين أمرين:
الأول: النصر في ميادين القتال يوم بدر وأحد والخندق .
الثاني: كسب الذهب والفضة والعروض بالمعاملات الربوية.
الجواب يختار هو الأول أعلاه لوجوه:
الأول: يأتي النصر من عند الله عز وجل، وفيه رفع للإستضعاف، وطرد للذل عن المسلمين، وباب للكسب والرزق الكريم , قال تعالى[وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ).
الثاني: يأتي النصر بالمغانم ومقدمات المكاسب، والربا لا يأتي إلا بالأذى والضرر وفساد المعاملات، والإرباك في الأسواق، وكساد التجارات.
الثالث: الملاك في إختيار المسلمين هو إرادة الحلال وما يوافق الشريعة، وترك الحرام وما يخالف أحكام القرآن والسنة.
إن مجئ النهي عن الربا من الله عز وجل الذي بيده النصر والعز يجعل النفوس تنفر من الربا، وتدرك الملازمة بينه وبين الذل والخسارة، وما تلك الأضعاف المضاعفة التي تأتي بواسطته إلا من أسباب الإغواء والفتنة.
وقد يقع النصر من غير إصابة العدو بخسائر فادحة، فيبقى على إستعداد للوثوب من جديد، وإختيار ساعة وكيفية المواجهة، فجاءت آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، بآية في بيان النصر الإلهي للمسلمين، إذ أنها تتضمن إصابة الكفار يوم معركة أحد بالوهن والنقص والعجز عن تجهيز الجيوش وزحفها على المدينة .
وفيه تحذير للكفار بأن من يزحف على ثغور المسلمين فانه لا يستطيع تكرار ذات الفعل مرة أو مرات أخرى، والشواهد التأريخية في هذا الباب كثيرة ومتجددة، إذ أصيب الكفار بالمتعدد من الضرر، وهو بلحاظ آية السياق أعلاه على وجوه ثلاثة:
الأول: هلاك طائفة من جيش المشركين .
الثاني: خزي وذل الكفار.
الثالث: إصابة الكفار بالخيبة واليأس، والعجز عن تحقيق الآماني الزائفة إذ أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابة وأسر آخرين .
قانون ملازمة البلاء للكفر
وتقدير موضوع الكفر في قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] على وجوه:
الأول: الكفر بالله عز وجل والجحود بربوبيته المطلقة.
الثاني: الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخلف عن التصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثالث: الكفر بأنعم الله.
الرابع: التكذيب بآيات الله والدلائل الكونية التي تدل على وجوب عبادته، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا] ( ).
الخامس: الكفر المطبق الذي يكون جحوداً على نحو السالبة الكلية، قال تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
السادس: الذين كفروا بأحكام الحلال والحرام، وأصروا على أكل الربا وهم قليل ، وظنوه معاملة تجارية لا تختلف عن البيع، وقالوا إن فرض الزيادة في الثمن والقرض بسبب الزيادة في الأجل هو مثل الربح الذي يؤخذ عند البيع وإجراء عقد الشراء ، فنزلت الآيات بالإنذار ، قال تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( )، وفي سبب وموضوع نزول الآية أعلاه ورد عن ابن جريج قال :
(كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب من الله ورسوله”، إلى”ولا تظلمون”. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال:”إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب)( ).
ولا تعارض بين الوجوه أعلاه، لأمور :
الأول:أصالة الإطلاق، ومجئ الآية بصيغة العموم بصفة الكفر.
الثاني: عناد قريش وإصرارهم على الجحود، وزحفهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين آمنوا برسالته.
الثالث : مجئ آيات عديدة من القرآن بذم الكفار وبيان قبح أفعالهم وأقوالهم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
فجاء إستئصال فريق منهم لمنع توظيف الأموال ضد النبوة والإسلام، ومنع الكفار من الجدال بالباطل، وتحريض الناس لمحاربة المسلمين.
قانون استدامة بقاء المعجزات
لقد أراد الله عز وجل للمعجزات التي أنعم بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تبقى إلى يوم القيامة تضئ للناس دروب الهداية والإيمان.
ومنها آية حلية البيع وحرمة الربا ، مع أن هذه المسألة ابتلاء يومي لكل إنسان فقد انتظم واستقام شرعاً بآية من خمس كلمات بقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
لتكون حاضرة عند المسلمين والناس جميعاً في المعاملات اليومية وهو من مصاديق تلاوة كل مسلم ومسلمة كل يوم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ليكون تقدير الآية أعلاه في المقام : اهدنا الصراط المستقيم في البيع والشراء ، والتنزه عن الربا.
إذ أن المصاديق العملية لقوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] من اللامتناهي بلحاظ الأفراد الطولية المتعاقبة لأجيال المسلمين، وعمل كل مسلم ومسلمة بمضامين الآية، وإجتنابهم الربا طاعة لله عز وجل.
ومن مصاديق الآيات في المقام أمور:
الأول : قانون إجتناب المسلمين الربا عن فقاهة.
الثاني : قانون إدراك المسلمين لمنافع الإمتناع عن الربا الدنيوية والأخروية .
الثالث: قانون معرفة المسلمين لما في الإمتناع عن الربا من تهذيب للنفوس، وإصلاح للأسواق.
الخامس: قانون تسليم المسلمين بأن حرمة الربا حرب على الكفر فقد أهلك الله طائفة من الكفار الظالمين.
ليعمل المسلمون بمضامين آية حرمة الربا.
وفي المسلمين لأحكام آية البحث وما فيها من النهي عن الربا مسائل:
الأولى: دحض الباطل، وبيان أضرار الربا.
الثانية: الزجر عن الأخلاق المذمومة.
الثالثة: دعوة الناس لترك الربا، ونبذ المعاملات الفاسدة.
الرابعة: قانون حضور مفاهيم الإيمان في الأسواق، وفيه زحزحة لسلطان الباطل عن النفوس.
الخامسة: قانون بعث الناس لرجاء الثواب يوم القيامة بترك الربا ، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، أي تفلحون بالفوز بالثواب على ترك الربا بدخول الجنة .
السادسة: إبطال حجة الكفار ومنعهم من المغالطة والجدال بغير حق، قال تعالى[وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ]( ).
قانون الجهاد الأكبر ضد النفس
لقد بعث الله الأنبياء ليعمل الناس بمصاديق الحق في الواقع اليومي وعالم الأسواق، ويكون بعملهم فضح للكفار، وحجة عملية إضافية في الرد عليهم في جدالهم، ليكون إمتناع المسلمين عن الربا جهاداً لتهذيب النفوس، ومنعاً للإفتتان بالمال والمعاملات الربوية.
وفي الخبر عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام(أن النبي صلى الله عليه وآله بعث بسرية، فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الاكبر؟
قال:جهاد النفس)( ).
ليبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون الجهاد الأول والأولى هو أداء الفرائض العبادية والإمتناع عن المحرمات.
لذا حينما نصر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر أمرهم بالتقوى والخشية منه ، بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لبيان النسبة بين التقوى والدفاع عموم وخصوص مطلق فالتقوى أعم ، وأن اضطر المسلمون للقتال يوم بدر بعد إصرار المشركين عليه فان التقوى حاجة يومية لكل مسلم ، ومنها تقوى الله في الميدام بعدم لتعدي والظلم ، وقانون التقيد بالحلال في المعاملات.
وإذا كان الإمتناع عن الربا من مصاديق الجهاد الأكبر، فهل فيه أجر وثواب.الجواب نعم .
وتلك آية في بديع خلق الإنسان والمضامين القدسية لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ومنها بلحاظ آية البحث بأن الإمتناع عن الربا من مصاديق العبادة.
تقسيم العبادة
يمكن تقسيم العبادة تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: العبادة الإيجابية، التي يؤتى بها بالفعل كالصلاة والصوم والزكاة.
الثاني: العبادة السلبية وهي الإمتناع بقصد القربة عن المعاصي والفواحش ليفوز المسلمون بأداء العبادة على نحو الإطلاق، وإمتثالهم للأوامر والنواهي الإلهية ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وتجمع آيات قرآنية عديدة بين القسمين من وجوه :
الأول : بيان كل من القسمين فتتضمن الآية الأمر والنهي ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( )، ومع كثرة النواهي في القرآن فلم يرد لفظ (ينهى عن) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الثاني : بيان قسم وإشارة إلى الآخر وهو على شعبتين :
الأولى : بيان العبادة الإيجابية والإشارة إلى السلبية كما في قوله تعالى [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ]( ).
الثانية : بيان العبادة السلبية المتكررة ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى]( ).
الثالث : الإشارة لكل من العبادتين ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( ).
قانون الشكر بالعبادة
تفضل الله عز وجل على المسلمين بالنصر ليؤدوا وظائف الشكر لله عز وجل على هذا النصر بالإنقطاع إلى عبادة الله عز وجل، وإجتناب ما نهى عنه، ومنه أكل الربا، إذ جاءت آية البحث صريحة بالزجر والنهي عنه، وقرنت هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح وجلب النصر على نحو مستمر ومتجدد.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، الجواب نعم ، ومن موارد الزيادة في المقام الرزق الكريم ، واليسر والسهولة في قضاء الدين.
ويحتمل حال الكفار عند نزول البلاء بهلاك طائفة منهم بقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، وجوهاً:
الأول : قانون عدم بقاء الكفار في حال قوة ومنعة وكثرة.
الثاني: قانون ضعف ووهن الكفار.
الثالث: حال الكفار البرزخية بين القوة والضعف.
والجواب يأتي قطع الطائفة من الكفار وهم في أي حال من الأحوال أعلاه.
ومن إعجاز الآية أعلاه مجيؤها بصيغة الفعل المضارع للإشارة إلى تجدد هلاك طائفة من الكفار وأنهم جميعاً عرضة للهلاك، وفيه إنذار لهم بأشخاصهم عندما يخرجون لقتال المسلمين والتعدي عليهم، فترى كل واحد منهم ممتلأ خوفاً ولا يعلم هل يرجع إلى بلده أو لا، وهو من عمومات مقدمات الفزع الذي يلحق أعداء الإسلام، ليكون هذا الفزع من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وهل قوله تعالى(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) من جنود الله. الجواب نعم، من جهات:
الأولى: ما للآية أعلاه من الأثر العظيم من وجوه:
الأول: قانون صدّ الكفار عن قتال المسلمين.
الثاني: قانون إصابة الكفار بالفزع والخوف قبل وأثناء المعركة.
الثالث: قانون وقوع بعض قادة الكفار صرعى في ساحة المعركة، مما يزيد في خوف وفزع الباقين، ويرون هلاك بعض أبطالهم من غير علة كافية وفق موازين القتال وأصول المبارزة، ليس فقط بما يكون على يد الملائكة كما في قوله تعالى[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( )، بل هو أعم من الأسباب الظاهرة والخفية .
الثانية: الوعد الكريم الذي تتضمنه الآية في منطوقها ومفهومها ، وفيه وجوه :
الأول : بعث للسكينة في نفوس المسلمين .
الثاني : مناسبة لنبذ الفرقة والخلاف .
الثالث : هو برزخ دون حصول الهمّ بالفشل والجبن والخور .
فمتى ما كان العدو في حال فزع وإرباك مترشح عن هلاك طائفة منه، فلا يكون هناك سبب وموضوع للخوف والخشية منه ، قال تعالى [فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الثالثة: بشارة تكرار هلاك كبراء من الكفار، وهزيمة جيوشهم، وهو من المصاديق الظاهرة لصيغة الفعل المضارع التي جاءت بها الآية الكريمة(ليقطع)(أو يكبتهم).
الرابعة: توكيد أن الأمور كلها بيد الله، وهو سبحانه[عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وهو سبحانه الذي يهزم الكفار، ويمنّ على المسلمين بالنصر.
الخامسة: إنذار وتخويف الكفار من التعدي على ثغور المسلمين، وزجرهم عن السعي في قتال المسلمين، والآية رحمة للكفار لأنها دعوة لهم لإجتناب القتال، فإذا كان الجيش يعلم بهزيمته في المعركة، والملأ والقادة يعلمون بضياع أموالهم مع الهزيمة، فيجب عليهم عقلاً إجتناب القتال.
قانون كفار قريش هم المعتدون
نشأت في الجزيرة أيام البعثة النبوية مدن قليلة ليست بالكبيرة، وقبائل في بيوت متناثرة، ومنها ما هو متنقل ورحال بحثاً عن العشب والماء، أو هرباً من الثأر، وممن هو أقوى منها ، ويريد غزو المستضعف ونهبه وسبي زوجاته وبناته وأولاده .
وحينما ظهرت الدعوة الإسلامية في مكة ثم في المدينة المنورة , وتناقل الناس الدلالات والبينات التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إغتاظت قريش وجمعت الجيوش وأنفقت الأموال الطائلة لإجهاظ الدعوة في أيامها الأولى.
ويدل هذا الفعل على أمور:
الأول: الدقة والتنظيم والنظرة الشمولية عند الملأ من قريش.
الثاني: قدرة الملأ من قريش على إتخاذ القرارات الصعبة.
الثالث: تهيئة مقدمات الفعل وإن كانت باهضة وتحتاج إلى جهود عظيمة.
الرابع: تماسك قوى الشرك وإتحادها عند الشدائد وإدراكها للخطر المحدق بمصالحها ومنافعها.
والمؤمنون الذين حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلة ومستضعفون، وليس عندهم أسلحة وأمتعة تؤهلهم للصمود في وجه جيوش قريش ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
فجاء النصر من عند الله ليكون آية للأجيال، وتحذيراً متجدداً في كل زمان للكفار ، يحذرهم من التعدي على المسلمين، ومن البقاء على الضلالة والجحود ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
قانون هجوم قريش لتحريم القرآن الربا
هل كان لحرمة الربا التي جاء بها القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية في تحريض رؤوس الكفر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وعلى نحو السالبة الجزئية .
الجواب نعم من وجوه:
الأول : قانون في تلك الحرمة ضبط للأسواق.
الثاني : قانون منع الأغنياء من الإستيلاء على الأموال.
الثالث : قانون الحيلولة دون قهر نفوس الضعفاء من الناس , وهذا الإستيلاء والقهر من أهم أسباب حشد قريش الجنود وجمع القبائل لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تنكشف للناس ضلالة قريش وأقطاب الكفر ، ليتجلى فضل الله على الناس بحضور قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وتتبين لهم حقيقة قوة الإسلام بالنصر والمدد من الله عز وجل، وهزيمة الكفار مع قوتهم وعتوهم.
واجتمع في هذه الآيات الإخبار عن نصر المسلمين وهلاك طائفة من الكفار لتوكيد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي عجز وتخلف عدو النبوة عن العودة المتكررة للقتال.
فقطع الطرف منه مستمر في كل مرة إلى أن يصبح عاجزاً عن الهجوم ثم يفقد القدرة على الدفاع، وهو الأمر الذي حصل واقعاً من وجوه متعاقبة:
الأول: بعد معركة أحد وهي موضوع آيات البحث جاءت واقعة الخندق التي لم يحدث فيها قتال معتد به ومواجهات بين المسلمين والكفار.
(حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، بعلي بن أبي طالب)( ).
في إشارة إلى مبارزته لعمرو بن ود العامري الذي إجتاز وجماعة من المشركين الخندق وأصر على المبارزة ، وأخذ بتعيير أصحاب النبي لعزوفهم عن مبارزته كونه فارس مضر .
وعن (ابْنُ إسْحَاقَ : إنّ عَمْرَو بْنَ وُدّ خَرَجَ فَنَادَى : هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟ فَقَامَ عَلِيّ : وَهُوَ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ أَنَا لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ فَقَالَ: إنّهُ عَمْرٌو اجْلِسْ ، وَنَادَى عَمْرٌو أَلَا رَجُلٌ يُؤَنّبُهُمْ وَيَقُولُ أَيْنَ جَنّتُكُمْ الّتِي تَزْعُمُونَ أَنّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا ، أَفَلَا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلًا ، فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ ” اجْلِسْ إنّهُ عَمْرٌو ” ثُمّ نَادَى الثّالِثَةَ وَقَالَ :
وَلَقَدْ بَحِحْت مِنْ النّدَا … ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْت إذْ جَبُنَ الْمُشَ … جّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّي لَمْ أَزَلْ … مُتَسَرّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى … وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا لَهُ فَقَالَ : إنّهُ عَمْرٌو ، فَقَالَ وَإِنْ كَانَ عَمْرًا ، فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَمَشَى إلَيْهِ عَلِيّ ، حَتّى أَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ :
لَا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أَتَا … ك مُجِيبُ صَوْتِك غَيْرَ عَاجِزْ
ذُو نِيّةٍ وَبَصِيرَةٍ … وَالصّدْقُ مُنْجِي كُلّ فَائِزْ
إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِ … يمَ عَلَيْك نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ … قَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : مَنْ أَنْتَ ؟
قَالَ أَنَا عَلِيّ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ؟
قَالَ أَنَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ غَيْرَك يَا ابْنَ أَخِي مِنْ أَعْمَامِك مَنْ هُوَ أَسَنّ مِنْك ، فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك ، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : وَلَكِنّي وَاَللّهِ لَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك ، فَغَضِبَ وَنَزَلَ فَسَلّ سَيْفَهُ كَأَنّهُ شُعْلَةُ نَارٍ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ مُغْضَبًا ، وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ عَلَى فَرَسِهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : كَيْفَ أُقَاتِلُك وَأَنْتَ عَلَى فَرَسِك ، وَلَكِنْ انْزِلْ مَعِي ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيّ – عليه السلام – بِدَرَقَتِهِ فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِيهَا فَقَدّهَا وَأَثْبَتَ فِيهَا السّيْفَ وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجّهُ وَضَرَبَهُ عَلِيّ عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ فَسَقَطَ وَثَارَ الْعَجَاجُ وَسَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ التّكْبِيرَ فَعَرَفَ أَنّ عَلِيّا قَدْ قَتَلَهُ فَثَمّ يَقُولُ عَلِيّ :
أَعَلَيّ تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا … عَنّي وَعَنْهُ أَخّرُوا أَصْحَابِي
فَالْيَوْمَ تَمْنَعُنِي الْفِرَارَ حَفِيظَتِي … وَمُصَمّمٌ فِي الرّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
أَدّى عُمَيْرٌ حِينَ أُخْلِصَ صَقْلُهُ … صَافِي الْحَدِيدَةِ يَسْتَفِيضُ ثَوَابِي
فَغَدَوْت أَلْتَمِسُ الْقِرَاعَ بِمُرْهَفِ … عَضْبٍ مَعَ الْبَثْرَاءِ فِي أَقْرَابِ
قَالَ ابْنُ عَبْدٍ حِينَ شَدّ أَلِيّةً … وَحَلَفْت فَاسْتَمِعُوا مِنْ الْكَذّابِ
أَلّا يَفِرّ وَلَا يُهَلّلَ فَالْتَقَى … رَجُلَانِ يَلْتَقِيَانِ كُلّ ضِرَابِ)( ).
وقرأ بعضهم (ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة)( ).
ولا أصل لهذه القراءة ، وهي خلاف المرسوم في المصاحف ولم ترد عن أحد من الصحابة أو أهل البيت عليه السلام كما أن القرطبي ذكرها للتعريض بصاحبها بسبب التصرف في التنزيل وإن كان الإمام علي عليه السلام قتل أكثر عدد من المشركين يوم بدر.
ولو أراد الكفار إقتحام الخندق ونصب جسور من جذوع النخل والشجر عليه لإستطاعوا، ولكن الله بعث في نفوسهم الفزع والخوف فرجعوا خائبين.
الثاني: جاء بعد الخندق بأكثر قليلاً من سنة صلح الحديبية وبعد أن بادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للخروج بإتجاه البيت الحرام.
الثالث: تحقيق فتح مكة , وقريش غير قادرة على الدفاع في عقر دارها، وإنشغل أهل مكة بسلامة أنفسهم فنودي (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ)( ).
قانون تعاهد أحكام الحلال والحرام في المكاسب
لقد تحمل المسلمون الأوائل الأذى وخاضوا المعارك من أجل بيان وتبليغ آيات الأحكام، وتثبيت حرمة الربا على نحو الإطلاق حتى في حال الحاجة والضرورة.
وتفضل الله عز وجل بنصرهم على أعدائهم بمدد ملكوتي بأن أنزل ملائكة من السماء لهزيمة الكفار، الأمر الذي يملي على أجيال المسلمين تعاهد أحكام حرمة الربا، والتقيد بمضامين قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] وفي هذا التعاهد أمور:
الأول : قانون دحر الكفر وبيان قبح المعاملات الربوية.
الثاني : قانون إنحسار مفاهيم الضلالة.
الثالث : قانون منع طغيان الظالمين.
الرابع : قانون توكيد رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً ، والله عز وجل هو [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
الخامس : قانون حرمة الربا عنوان للتراحم بين الناس.
و(عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يرحم الله من لا يرحم الناس)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)( ).
وقيل أن عيسى كان يقول (اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ، ولا أملك نفع ما ارجو ، وأصبح الأمر بيد غيري ، وأصبحت مرتهنا بعملي ، فلا فقير أفقر مني ، فلا تُشْمِت بي عدوّي ، ولا تسيء بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي في ديني ، ولا تُسَلِّطْ عليَّ من لا يرحمني)( ).
السادس : قانون حلية البيع والشراء وحرمة المعاملة الربوية ، وليس الفائدة على القرض وحدها لأصالة الإطلاق في قوله تعالى [وَحَرَّمَ الرِّبَا] وهل يمكن أن تكون آية البحث مقيدة للحرمة في قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، الجواب لا ، لأصالة الإطلاق في لفظ الربا أعلاه ولبيان السنة النبوية بتشديد تحريم الربا على أطراف المعاملة الربوية بما فيهم الشاهدان والكاتب .
وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون تجدد منافع حرمة الربا
منافع النهي عن الربا متجددة في كل زمان وشاملة للمسلمين والمسلمات وغيرم من الناس وفيه مسائل :
الأولى : قانون إحتراز المسلمين من الربا نعمة .
الثانية : قانون إستدامة نهي المسلمين عن الربا، وإتخاذها فعلاً عبادياً.
الثالثة: قانون إشاعة الأخلاق الحميدة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الرابعة: هذا التعاهد منع للعادات المذمومة.
الخامسة: فيه بعث للتنعم بأيام الحياة الدنيا لأنها وعاء زماني لطاعة الله، ومزرعة للآخرة، ومناسبة لنيل الثواب العظيم لترك الربا , قال تعالى[وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ]( ).
لقد ابتدأن آية البحث بنداء الإكرام للمسلمين والمسلمات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعين مر وفيه دعوة للتقيد بمضامين الآية وما فيها من الأحكام وفيها النهي عن أكل الربا ، وصحيح أن الخطاب لمنع المسلم من قبض الربخ على القرض ، إلا أنها في المفهوم تتوجه إلى المقترض بأن لا يقبض القرض بشرط الزيادة الربوية .
ولميعلق القرآن الحكم على قول الأصوليين وهل المفهوم حجة أم لا سواء مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة ، إنما نزل بحرمة الربا مطلقاً بقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، فكما أن البيت حلال على أطرافه ، فان الربا محرم على أطرافة .
وفي حجة الوداع ، ورد (عن عمرو بن الأحوص . أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال : أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم . فقال الناس : يوم الحج الأكبر يا رسول الله .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا لا يجني جان إلا على نفسه ، ألا ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده ، إلا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل ، ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً }( ) ألا وإن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً . فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)( ).
وتحريم الربا من عند الله نعمة ورحمة عامة على الناس جميعاً ، إذ يدرك الناس أنه معاملة محرمة في الشريعة الإسلامية وهذه الحرمة من اليقينيات التي لا تحتمل الضد والتأويل المتعدد .
وهو من أسرار بقاء القرآن سالماً من التحريف ختى يوم القيامة ، وتشمل هذه السلامة علم التفسير أيضاً وهو من إعجاز القرآن الغيري بما فيه قانون تيسير التفسير الصحيح والتأويل السليم ، وقانون فضح التفسير الخاطئ .
كما أن ضرر الربا من المجربات وهو إصطلاح في علم المنطق يراد منه حكم العقل على القضايا وفق تكرر المشاهدة أو الفعل سواء بالتجرية الذاتي او الغيرية.
قانون الربا ظلم متعدد
قال تعالى في النهي عن الربا والإقامة عليه [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ]( )،
وذكرت الآية فردين متقابلين من الظلم [ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] لتتحقق بترك الربا السلامة من الظلم الذي هو على وجوه:
الأول : قانون ظلم النفس بأكل الربا.
الثاني : قانون ظلم الغير بأخذ أمواله والزيادة على القرض بالعقد الربوي.
الثالث : قانون الظلم بالبقاء على الكفر والجحود، فإن التنزه عن الربا فرع دخول الإسلام.
الرابع: الظلم بمــحاربة الإسلام لبقاء مفاهيم الربا، وأكل الأموال بالباطــل.
وتدل الآية على عــدم الحصر في وجوه الظلم التي رفعها الله عز وجل عن الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يختص هذا الرفع بالمسلمين، بل يشمل الناس جميعاً لموضوعية مفاهيم التوحيد وإشاعتها في تهذيب النفوس، وإستقرار المجتمعات.
فبينما كان الخوف يدب في قلوب الفقراء والضعفاء من الأقوياء والرؤساء ، إمتلأت النفوس بالخوف من الله، وصارت لهذا الخوف موضوعية في المعاملات، وأصبح الناس يخشون القصاص والحكم بالعدل والإنصاف، وإقترن بهذا الخوف الرجاء بالأمن والسلامة في الآخرة وهو من عمومات قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، لذا جاءت آية البحث بأمرين متلازمين:
الأول: حرمة الربا.
الثاني: وجوب الخشية من الله، لتكون التقوى واقية من الظلم مطلقاً، ودعوة للناس لنبذ الظلم، ومنه أكل المال الربوي.
ويجعل قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) الكفار أمام طريقين :
الأول : قانون بقاء الكافر في ذل وخيبة.
الثاني : إنتقال الكفار إلى منازل العز بدخول الإسلام.
وتتجلى عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، في المقام بدخول الإسلام إلى بيوت هؤلاء الكفار وفتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة، ونطق أهلها بالشهادتين , وإنتفاء الخيبة بزوال موضوعه وهو الكفر.

واو الجماعة في (فينقلبوا)
تعود الواو في (فينقلبوا) إلى الكفار المذكورين في أول الآية[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
فالله عز وجل هو الذي يقطع طرفاً من الكفار , ويهلك عدداً من رؤسائهم إلى أن ينسحبوا من المعركة، وهم في حال فزع وخوف , لذا فإن الطرف المذكور في الآية من الكلي المشكك والمقيد بلحاظ أثره , فيهلك الكثير أو القليل من أرباب الكفر إلى أن ينهزموا، ويصيروا في حال خيبة فتأتيهم الدعوة إلى الإسلام, كسبيل وحيد لإنقاذهم من حال الذل والخيبة.
وإذا دخل الكفار الإسلام سقطت الأرباح الربوية التي لهم على الناس , فهل فيه خيبة أخرى لهم.
الجواب لا، ففي الإمتثال لأمر الله عز وجل مسائل:
الأولى : فيه عز وهيبة، ويحتمل العز المترشح عن ترك الربا، سعة وضيقاً وجوهاً:
الأول : القضية الشخصية , وأنه خاص بالذي يترك الأرباح الربوية طاعة لله سبحانه .
الثاني: يشمل العز أولاد تارك الربا.
الثالث: إنه عام للمسلمين جميعاً.
والصحيح هو الثالث، لأن طاعة الله عز وجل الشخصية، تنفع المسلمين جميعاً وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وفيه قوة ومنعة للمسلمين.
الثانية: إنه باب للرزق الكريم.
الثالثة: إنه مناسبة للتجارة والكسب وفق الضوابط الشرعية.
الرابعة: فيه مساهمة جهادية في بناء صرح الإيمان، والعمل بمضامين القوانين السماوية.
الخامسة: يبعث الإمتثال لأمر الله بإجتناب الربا السكينة في النفس، والتي تتضاد مع الخيبة، فهما لا يجتمعان في قلب إنسان، وفاز المؤمنون بالسكينة وأسبابها وآثارها، وهو من فلسفة طاعة الله , قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ).
وحالما يهجر الإنسان منازل الكفر يتوجه له الخطاب التشريفي،[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ويدرك أنه مقصود بالثناء الذي أفتتحت به الآية الكريمة بمخاطبته بصفة الإيمان، والشهادة له بحسن الإسلام، وهذا الإدراك مقدمة كريمة لتلقي النهي عن الربا بالقبول، الذي هو رشحة من رشحات الإيمان.
قانون العفو والمغفرة عند ترك الربا
جاء قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( )، بالبيان والتفصيل في حال الكفار بعد إنكسارهم في القتال، ورجوعهم أذلة خائبين، ولجوء شطر منهم إلى التوبة والإنابة بعد رؤية الآيات.
وصاروا يعلنون دخولهم الإسلام بفخر , ويجتنبون الربا ومطلق المعاصي , فلا يلقون إلا العفو والمغفرة من الله عز وجل , بالوعد الذي تؤكده الآية أعلاه .
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:الإسلام يجّب ما قبله)( )، أي يمحو ويقطع ما كان من المعاصي والجحود والكفر.
وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى(والله غفور رحيم) ويحتمل في دلالته وجوهاً:
الأول : جاء كل من إسم(الغفور) و(الرحيم) لتوكيد مغفرة ما تقدم من الذنوب، لأن هذه المغفرة والتوبة رحمة من الله عز وجل.
الثاني : إرادة غفران ما تقدم من الذنوب , بقوله تعالى(الغفور) وجاء اسم (الرحيم)للدلالة على الفوز بالهداية والصلاح في القادم من الأيام.
الثالث : تضمنت خاتمة الآية بيان حقيقة وأن المغفرة والرحمة بيد الله عز وجل، وأن من أسمائه الحسنى الغفور الرحيم.
الرابع : ورد إسم (الرحيم) لتوكيد رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هداية الكفار للإسلام، وتنزيه تلك المجتمعات عن أكل الربا.
الخامس : من معاني خاتمة الآية الجواب على سؤال مقدر:كيف يتوب الله على رؤساء الكفر والضلالة الذين قاموا بإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل المؤمنين , وفيها بيان لأمور منها:
الأول : إن الله عز وجل هو(الغفور الرحيم) .
الثاني : إنتفاع المسلمين من المغفرة والرحمة الإلهية، وفازوا هم أيضاً بالتوبة والرحمة.
الثالث : ترغيب الناس بالتوبة , وطرد الشك والريب عن السالكين سبل التوبة والإنابة.
السادس: دعوة المسلمين لقبول الذين يدخلون الإسلام من الكفار ممن كان يقاتلهم ويجهز الجيوش عليهم، والإمتناع عن نبزهم وتعييرهم وإدراك حقيقة أن الله عز وجل هو(الغفور الرحيم) .
وفي قوله تعالى[بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ]( )، قيل (كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيلقب فيقال له: يا يهوديّ، يا نصراني، فنهوا عن ذلك)( ).
سياق آية الربا
يبعث سياق هذه الآيات المسلمين على التقيد بأحكام الربا، ويحثهم على الإمتناع عن الأرباح الربوية وإن كانت أضعافاً مضاعفة شكراً لله عز وجل على النعم العظيمة التي تفضل بها والتي تذكرها هذه الآيات وهي جزء يسير من النعم الإلهية على المسلمين.
وكل نعمة ومسألة وردت في نظم الآيات التي سبقت آية البحث وما فيها من حرمة الربا كافية للإنزجار عن الربا على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
فقد جاءت هذه الآيات بأمور كالمقدمات لإجتناب المسلمين الربا، مع موضوعية وإستقلال موضوع كل آية على حدة، وهي:
الأول: تذكير المسلمين بنصرهم يوم بدر.
الثاني: تجــلي حقيقة عقــلية وحســية بأن نصرهم لم يتم إلا من الله عز وجل , قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ]( ).
الثالث: حضور الملائكة لنصرة المسلمين يوم أحد ودفع الكفار إن رجعوا إلى ميدان المعركة، مع وقوع الشاهد والمصداق بقتال الملائكة إلى جانب المسلمين يوم بدر بحيث يكون الوعد بقتالهم عند رجوع الكفار للمعركة بشارة وسكينة للمسلمين على نحو القطع، وإذ همت طائفتان من المسلمين بالفشل والجبن في بداية المعركة، فإنه لا يهم جماعة أو أفراد من المسلمين بالفشل بسبب الخشية من عودة العدو للمعركة لإدراكهم بأن الملائكة حاضرون للنصرة ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
وهل حضور الملائكة خاص بمعركة أحد أم أنه عام , الجواب إذا أنعم الله على الناس نعمة فإنه أكرم من أن يرفعها.
فمن خصائص المسلمين تجدد حضور الملائكة لنصرتهم عند عودة العدو للقتال، قال تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( ).
الرابع: البشارة بهزيمة الكفار بذل وخزي.
الخامس: إن الله الذي حرم الربا له ملك السماوات والأرض وبيده مقاليد الأمور، وسعة الرزق الحلال من رحمة الله , أما أكل الربا فإنه سبب لنزول البلاء الذي هو من عمومات قوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
السادس: التذكير بسعة رحمة الله وأنه الذي يمحو الذنوب، ويتجاوز عن السيئات، وأن الإمتناع عن الربا مدخل كريم للفوز بالعفو عن الذنوب.
وبعد ذكر النعم الإلهية على المسلمين والإخبار عن سعة رحمته تعالى , وجذب المسلمين لمنازل الإنقطاع إليه، والإقامة على طاعته والرضا بما رزقهم وإدراك تفضيلهم بأحكام الحلال والحرام ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
جاءت آية البحث بالنهي عن فعل مذموم وهو الربا والظلم فيه ظاهر من غير إختصاص بطرف من أطرافه.
ليكون القبول والإنصياع الصفة والصبغة التي يتحلى بها المسلمون في تلقي المنع من الربا.

قانون خاتمة الآية السابقة مدد لترك الربا
من إعجاز الآية السابقة لآية البحث وهي [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ابتداؤها باسم الجلالة واختتامها بثلاثة من أسماء الله الحسنى .
لتكون مدداً عوناً للمسلمين في ترك الربا ، وبشارة العوض من عند الله عز وجل.
لقد أختتمت الآية السابقة لآية البحث بذكر اسم من أسماء الله الحسنى وهو(الرحيم) , ومن رحمته تعالى تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم قبل أن ينهاهم عن الربا، وفيه دلالة على أمور:
الأول : إرتقاء المسلمين في سلم المعارف.
الثاني : إدراك المسلمين لوظائف وسنن الشكر، ولزوم الثناء على الله عز وجل.
الثالث: القصد والعزم على التقيد بالأوامر والنواهي التي يتفضل بها الله عز وجل وأنها خير محض وفيها نفعهم في النشأتين، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
ولا يعلم المفاسد التي تُدفع بالعصمة من الربا، والمنافع العامة والخاصة التي تترشح عن ترك الربا إلا الله عز وجل، ليفوز المسلمون بالنفع المتصل.
وقيل الفقه كله يرجع إلى موضوعين:
الأول: جلب المصالح.
الثاني: دفع المفاسد.
وقيده بعضهم بالرجوع إلى الأول أعلاه بلحاظ أن دفع المفاسد منه، إن كل أمر أو نهي في القرآن هو دفع لمفاسد كثيرة، أي أن المتحد من الأوامر أو النهي الذي يتفضل به الله يصرف به مصاديق وأفراد عديدة من المفاسد ومقدماتها ، ولكن موضوع الفقه وبركته أعم وأكبر .
فمن الإعجاز في إختتام الآية السابقة بلفظ (الرحيم) توكيد المصلحة في النهي عن الربا، ومنع أهل الريب والشك من الجدال في حرمته.
إن قول الكفار[إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ) تحد إجتماعي وإقتصادي بالغ الأثر والتأثير لولا ثبات المسلمين على الإيمان، وتسليمهم بأمور:
الأول: قانون الربا فعل محرم.
الثاني: قانون في الربا ظلم ظاهر وخفي.
الثالث: قانون الربا سبب لجلب الضرر.

قانون قبح المنهي عنه في القرآن
كما جاء القرآن بالأوامر العبادية وفي المعاملات ، جاء بالنواهي إذ نهى عن الشرك والأنصاب والأزلام والأوثان والأنصاب وعن السخرية بآيات الله وغيرها كما نهى عن أمور عملية منها التبذير وأكل مال اليتيم ، وأكل مال الغير ، قال تعالى [وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( )، والنسبة بين مضمون الآية أعلاه وآية البحث العموم والخصوص المطلق ، فأكل المال بالباطل أعم.
لو لم يكن إلا النهي عن الربا من عند الله لكفى في قبحه، وضرورة تركه .
ومن إعجاز القرآن الشواهد العملية التي تدل على صدقه ، وهي متجددة ما كرّ الليل والنهار، فإن قلت لماذا قالوا بالتشبيه بين الربا والبيع بلحاظ أن هذه الشواهد ظاهرة للناس جميعاً .
فالجواب من وجوه:
الأول: الذين نطقوا بالقول أعلاه من الكفار أرباب الأموال الذين يتعاطون الربا.
الثاني: يحكي القرآن جدال أهل الكفر والضلالة لإحتراز المسلمين منه, وإلتفات الناس إلى ما فيه من المغالطة.
الثالث: بيان موضوعية الحلية والحرمة في خصائص الأفعال والمعاملات، فليس المدار على القياس الظاهر بين الأشياء، بل تعطى الأولوية للأحكام التكليفية قال تعالى[وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الرابع: يدل التضاد بين الأشياء والأفعال بلحاظ الحكم التكليفي من الحلية والحرمة على التباين بينها بالذات والأثر، وقد لا يتجلى هذا التباين لفريق من الناس بسبب مانع ذاتي عندهم من الطمع والشره والضلالة.
ومن إعجاز القرآن وما فيه من مصاديق التحدي ذكره للأقوال التي تخالف أحكامه مما نطق به الكفار أو قاموا بفعله علانية أو سراً، وتكرار مثل تلك الأقوال، والأفعال في كل زمان، ليساهم ذكرها في إقامة الحجة على الكفار، ويكون من أسباب نضارة الآية القرآنية ودلائل نزولها من عند الله عز وجل.
ويعمد الملوك وأرباب الحكم إلى التعتيم على أقوال خصومهم وأعدائهم، والبطش بمن يروج لتلك الأقوال، أما القرآن فإنه يوثق كلاماً مخالفاً لأحكامه صادراً من أرباب الأموال في منطقة صغيرة جداً من الأرض، وفي زمان مخصوص وهو زمان التنزيل.
ليبقى مضمون هذا الكلام في الأزمنة اللامتناهية , ويكون معروفاً في أرجاء الأرض لأنه مذكور في القرآن مع أنه حرب على القرآن، وفي هذا التوثيق مسائل منها:
الأولى: تلك آية في التحدي لا نظير لها في تأريخ الإنسانية.
الثانية: فيه شاهد على زيف وبطلان قول الكفار.
الثالثة: عدم الخشية منه على المسلمين والناس عموماً.
الرابعة: دعوة الناس للتفكر والتمييز والفصل بين البيع والربا.
الخامسة: إقامة الحجة على الكفار، في الدنيا والآخرة , قال تعالى[أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ]( ).
قانون التضاد والتباين بين البيع والربا
يتجلى تمام حجة الحكم الذي جاء به القرآن من عند الله وهو أن البيع ليس مثل الربا، بل هناك بينهما تباين في الذات.
وهذا التباين ظاهر يدرك بأدنى تدبر وتمحيص، قال تعالى[خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ]( ).
وهل ذكر قول الكفار[إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ) رحمة , الجواب نعم من وجوه:
الأول: كل آية في القرآن رحمة من الله في نزولها وموضوعها ودلالاتها وتلاوتها.
الثاني: إنها دعوة للناس للتمحص والتفقه في الدين , ومعرفة المائز بين الربا والبيع، ووجوه الفساد والأضرار في الربا.
الثالث: الآية فضح للكفار، ودعوة لكبح جماح النفس الشهوية، وحب جمع المال بالباطل.
الرابع: إنها من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، بلحاظ أن قولهم أعلاه مثال على سنخية شائعة في الكسب وجمع المال من غير إعتبار لما فيه من الظلم والتعدي ومصادرة حقوق الآخرين.
ويبين هذا التوثيق الأذى الذي كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ أحكام الشريعة، ومحاربة الكفار لأحكام التنزيل, وإحتجاجهم عليها بالظاهر الواقعي القريب، وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لتثبيت قواعد الحلال والحرام، وجعلها الملاك في عالم الأقوال والأفعال .
وقد يتكرر تشبيه وجمع الكفار بين البيع والربا في أزمنة أخرى لاحقة وإن إختلفت الصيغة والكيفية، فيكون رد القرآن عليهم وفضحه لهم مناسباً لكل الأزمنة ، وهو من أسرار ذكر الآية أعلاه من سورة البقرة.
ليكون من منافع ذكره في القرآن أمور:
الأول: تجديد إعجاز القرآن.
الثاني: وقاية المسلمين وغيرهم من الإفتتان بأقوال أعداء القرآن والسنن السماوية.
الثالث: إنه مصداق لإحاطة القرآن بالحوادث والوقائع إلى يوم القيامة، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع: توكيد حقيقة وهي أن أضرار وحرمة الربا عامة لا تنحصر بالقرآن وأحكام الشريعة الإسلامية.
قانون جديد في علم المنطق
البرهان هو قياس مؤلف من يقينيات يوصل إلى نتيجة قطعية تطرد أسباب الوهم، والظن المخالف للواقع , وبالبرهان يتجلى الحق، ويستبين الصحيح، ويفتضح الفاسد، لأن القضايا التي يتألف منها واجبة القبول ولا تحتمل الترديد.
ويقسم البرهان تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: البرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على العلة، ولو بلحاظ الوجود الذهني , فعمارة البستان وجني الثمار تدل على وجود الفلّاح وسعيه في إصلاحه.
وكذا العكس فإن عدم المعلول يدل على عدم العلة، فصيام يوم الشك آخر شهر رمضان يدل على عدم ثبوت هلال شوال , ليكون معنى البرهان الإني هو إتخاذ المعلول أصلاً للإستدلال على وجود العلة أو عدمها.
الثاني: البرهان اللّمي: وهو الإستدلال من العلة على وجود المعلول، أو بالعكس السالب أي الإستدلال بعدم وجود العلة على عدم وجود المعلول.
فحينما تنزل الأمطار نعلم بالبرهان الإني أنها من الله, ونعلم نزول المطر بالبرهان اللمي بإخضرار الأرض بلحاظ أن المطر علة وسبب، قال تعالى[تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أنه يأتي باللفظ الواحد الجامع للقسمين معاً كما في الآية أعلاه فتتعدد مصاديق البرهان الإني واللمي في الموضوع الواحد في الآية القرآنية.
ومنه تحريم الله عز وجل للربا علة يستدل بها على المفاسد التي يتضمنها الربا، وما يؤول إليه من الأضرار العامة .
وتلك الأضرار معلول يستدل بها على حتمية تحريم الربا من عند الله وموافقة أحكامه لكل الأزمنة، وعمومات ومصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلام) ( ).
وفي هذا الجمع والتعدد في المعنى وصيغ البرهان مسائل:
الأولى: إنه حجة على الناس.
الثانية: التعدد مادة لإكتساب المعارف.
الثالثة: إنه لطف من الله لتقريبهم إلى منازل الطاعة والنفرة من المعاصي، فلا غرابة أن تختتم الآية السابقة لآية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
فمن مصاديق الرحمة والجذب إلى مقامات المغفرة تعدد البرهان الإستدلال في الآية الواحدة بما يفيد بعث المسلمين عامة إلى التقيد بالأحكام الشرعية والأوامر والنواهي الواردة في الآية , وهو من خصائص القرآن، ومصاديق الإعجاز فيه بأن يكون مدداً سماوياً للمسلمين في العبادات والمعاملات، إلى جانب المدد الذاتي في كل آية بأن يكون الأمر فيها عوناً لإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه، كما في آية البحث إذ أن الأمر بتقوى الله تعضيد وواقية للمسلم من الربا، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
ويمكن إتخاذ إمتناع المسلمين عن الربا شاهداً على رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً , وهو من البرهان الإني لأن هذا الإمتناع وما يترتب عليه من الفضائل في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة من رحمة الله سبحانه.
ليكون قوله تعالى(والله غفور رحيم) جزء علة في إمامة المسلمين للناس لإجتناب الربا، وكأنه من البرهان اللمي وما يعنيه من الإستدلال من العلة على وجود المعلول .
والتقسيم أعلاه للبرهان أعم من أن ينحصر بالعلة أو المعلول المتحد، ويشمل الأجزاء التي تتألف منها العلة، وليس من حصر لأفراد رحمة الله التي تجعل المسلمين يتعاهدون التنزه عن الربا , مع وجود مقدماته وأسباب الطمع فيه التي تكون معها موضوعية للحلية والحرمة في ماهية الأشياء.
فالحكم بالحلية إذن بالفعل وبعث للشوق إليه، والحكم بالحرمة سبب للنفرة منه، وإدراك فطري لأضراره والتي أعم من كونها حاضرة فقد تكون آجلة وليست قريبة.

بحث روائي
وردت نصوص عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبين حرمة الربا، ومصاديق منه وفي موضوع خيبر(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا، قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لاَ تَفْعَلْ ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) ( ).
عن جابر بن عبد الله في قصة حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته ألا وان كل شئ من امر الجاهلية موضوع تحت قدمي وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله) ( ).
ومن الفقهاء ومن إستدل على جواز الربا آنذاك لأمارات تدل على أن العباس قد أسلم قبل فتح مكة، وأطال أتباعه من بعده نصرة هذا القول ؟
ولكن آيات القرآن نزلت بحرمة الربا قبل عام الفتح، وبينّه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في فتح خيبر في السنة السادسة للهجرة وفي مواضع ومناسبات عديدة، فلا موضوعية لمسألة إسلام العباس قبل الفتح أو بعده لأنها قضية عين، وربما كانت أرباح ربوية للعباس مؤجلة، فإبتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بها ليكون موعظة وعبرة للمسلمين , وليكون من عمومات قوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( ).
بالإسناد عن عبد الله بن حنظلة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :درهم ربا أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) ( ).
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن أكل درهما من ربا فهو مثل ثلاث وثلاثين زنية) ( ).
بالإسناد قَالَ رَسُولُ الله: الرِّبَا سَبْعُونَ حُوباً أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ)( ).
وفي الصحيح عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الربا: درهم رباء أشد من سبعين زنية كلها بذات محرم)( ) .
والفروج أمرها شديد، وفيها أغلظ العقوبات , ومنها الرجم إلى جانب القبح الذاتي للزنا مطلقاً فكيف بالزنا بالمحارم، وتترتب عليه آثار عرضية ضارة منها:
الأول: قلة الحياء.
الثاني: إشاعة الفساد وسوء الأخلاق.
الثالث: غلبة النفس الشهوية.
الرابع: إحتمال إختلاط الأنساب.
الخامس:إنتشار الأمراض النفسية والعضوية.
السادس: شدة الإثم، وعظم الذنب.
فكيف يكون درهم واحد من الربا أشد من فعل الزنا المتكرر، الجواب من وجوه:
الأول: جاء الحديث لبيان التغليظ في حرمة الربا.
الثاني: دعوة المسلمين للنظر إلى الأضرار العامة للربا.
الثالث: بيان حاجة المسلمين والمجتمعات للأموال، وتيسير الأعمال بها.
الرابع: البعث على المعاوضة والبيع والشراء في الأجناس الربوية.
الخامس: جعل النفوس تنفر من الربا، والذين يتعاطونه.
السادس: توكيد حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لعن الأطراف التي تتعاطى الربا والتي تشهد عليه وتتولى كتابته وتوثيقه.
السابع: الزجر عن الربا لما فيه من الإيذاء النفسي والإضرار العام وسلب الضعفاء أموالهم وآمالهم وهذا الإيذاء من عمومات الإضرار الذي جاءت به قاعدة (لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلام) ( ).
الثامن: منع الأغنياء من الإستحواذ على الأموال، والسعي في جمعها والإستزادة منها، لأن النفس إذا ذاقت حلاوة جمع المال إشتاقت إلى المزيد منها.
فجاءت آية النهي عن الربا لزجر النفس عن السعي في جمعه بالباطل، وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( ).
التاسع: دعوة المسلمين للتنزه عن الربا وما فيه من ظلم النفس وكما يجلب الزنا المحق والنقص في الأموال وأسباب الرزق، فكذا الربا في عاقبة الأمور.
العاشر: توكيد العقاب الأليم على الربا في الآخرة، ومنع الناس من الإستهانة والإستخفاف به فلا غرابة أن يذكر ضمن الكبائر كما سيأتي بحثه في الجزء التالي أن شاء الله.

بحث فقهي
إن باب التوبة مفتوح للإنسان مطلقاً سواء في موضوعه أو زمانه، ومنه آكل مال الربا ، وفيه وجوه أربعة:
الأول: إذا علم مقدار المال الربوي ، ولم يعلم صاحبه.
الثاني: يعلم المقدار ويعلم صاحبه.
الثالث: يعلم الشخص الذي أكل منه المال بالمعاملة الربوية الباطلة، ولكنه يجهل مقدار المال الربوي، سواء كان يعلم أصل المال الذي إسترده أو لا.
الرابع: يعلم أنه أكل مالاً ربوياً، ولكنه لا يعلم صاحبه , ولا مقدار المال الربوي.
أما الأول فيجب عليه التصدق بمقدار المال الربوي، وإذا أدركته التوبة وليس عنده مال يتصرف به كما لو أصاب أمواله المحق والمحو والتلف، فعليه الإستغفار والعزم على التصرف بالمال عند تيسره.
وأما الثاني فيجب عليه رد المال الربوي إلى صاحبه، لبقائه على ملكه.
وهل تجوز المصالحة في المقام.
الجواب نعم، لقاعدة السلطنة بأن يتنازل صاحب المال عن حقه طوعاً من غير إشتراط عليه .
فلا يصح أن يقول له المرابي مثلاً:أعطيك نصف أموالك التي أخذتها منك بالربا مقابل إسقاط النصف الآخر.
وأما الثالث فتجب عليه المصالحة مع صاحب المال ويتوخي بخصوص مقدار المال الربوي
الأقرب فالأقرب، ورجاء والثواب.
ولو ظن صاحب المال أن حقه عند المرابي أكثر ومع هذا رضي بالأقل فهو من عمومات قوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، الجواب نعم، وفيه نشر لمفاهيم الرحمة والرأفة بين الناس، وإعانة للمسلمين على أداء وظائفهم العبادية.
وأما الرابع فإنه يخرج خمس مجموع ماله إلى مستحقه، ويحل له باقي ماله.
وإذا حصل قبض الربح فلا بد من إعادته لصاحبه لأنه باق على ملكه، وهو من خصائص صيغة المضارع في الآية(لا تأكلوا الربا) وجعل متعلق الحرمة على الأكل والتصرف بالأرباح الربوية.
بحث عرفاني
عندما يستقر الصبي في مرحلة التمييز بين الأشياء تمر الواجبات التعبدية على حواسه مرّ السحاب الرقيق المتكرر، إذ يسمع ويرى ما حوله من أسباب الإنجذاب إلى طاعة الله.
ويتصف الصبي المسلم بخصائص لا يفوز بها غيره من أبناء الملل الأخرى إذ يرى والديه يؤديان واجب الصلاة مرات متعددة كل يوم، وهي أكثر من المرات التي يتناولون فيها وجبات الطعام ليكون هذا الأداء شكراً لله على النعم وسؤالاً عملياً لدوامها وزيادتها، وليرث المسلم مطلقاً ذكراً أو أنثى وظيفة الشكر لله، وفي التزيل[رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ]( ).
ويكون هذا الشكر على وجوه:
الأول: إنه سبب لنزول الرحمة على الناس جميعاً.
الثاني: أنه وسيلة مباركة للتفقه في الدين.
الثالث: الإحتراز الذهني المبكر من السيئات ومنها الربا بلحاظ أنه ظلم، وفعل نهى الله عز وجل عنه، وأغلظ في النهي عنه.
ومع إدراك الصــبي المســــلم سن البلوغ يكون في أمن من الجهالة والغرر بخصــوص المعاملات الباطلــة، ويصير بمرتبة من الرشد يتلقى معها الأوامر والنــواهي بالرضا والقـــبول، ومنها لزوم الإمتناع عن الربا طاعة لله عز وجل.
ويحتمل أثر حرمة الربا على النفس وجوهاً:
الأول: الإنقباض والقنوط بسبب حجب باب لكسب أموال كثيرة من الربا، والله عز وجل هو الذي وصفها بأنها[أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، مما يدل على الربح الوفير في الربا , لأن الله عز وجل لا يقول إلا الحق والصدق، ولكن هذا الربح خال من النفع والفائدة وليس بطائل( ).
الثاني: إنعدام أثر الحرمة على النفس لجهات:
الأولى: تعدد أبواب الرزق.
الثانية: وجود البدائل في الكسب.
الثالثة: عدم الإلتفات إلى أضرار منع الربا.
الثالث: إمتلاء النفس بالغبطة والسرور في الإمتناع عن الربا.
والصحيح هو الأخير، من وجوه:
الأول: الملازمة بين السكينة في النفس والإمتناع الخارجي عما نهى الله عنه.
الثاني: إستحضار الثواب العظيم الذي يفوز به العبد عنه الإمتناع عن الربا.
الثالث: الإحساس بالأمن والسلامة من العذاب الذي ينتظر أهل الموبقات، لتغمر أنهار السعادة المؤمن فهو يمتنع عن فعل محرم وهو الربا فتتعدد مصاديق وأفراد الغبطة والفرح , قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، فالعزم على إجتناب الربا فضل من الله، وفلاح بلغه المسلمون بلطف منه تعالى، وهو بلغة للوصول إلى منازل الخلود في دار النعيم.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا(دار الصبر) فلابد للإنسان من إستحضار الصبر في كل فعل ينوي القيام به، وحتى السكون وعدم الفعل يستلزم الصبر هو الآخر.
وقد بينت آية البحث أن الربا ربح مضمون في الجملة، ونماء متكثر من غير جهد، فيحتاج المسلم إلى ملكة الصبر للعصمة المتجددة عن الربا، والتي تكون في حالات منها:
الأول: كثرة أموال المسلم.
الثاني: سعي المسلم لتوظيف أمواله في المكاسب.
الثالث: كساد التجارات وإغراء المعاملة الربوية لما فيها من الربح الظاهر.
الرابع: تعاطي الناس للربا من حول المسلم.
وفي إمتناع المسلمين عن الربا رسالة إلى الناس جميعاً بأن المسلمين لم تستحكم فيهم الشهوات الجسمية، ولم يلهثوا وراء جمع الأموال، بل يجاهدون للإرتقاء في منازل التقوى، ويحسنون التوكل على الله.
ويكون جهادهم ضد الكفر والضلالةمتصلاً ومتعدداً , فيقاتلون الكفار في ميادين المعارك دفاعاً عن الإسلام، وفي ذات الوقت يأمرون بالمعروف , ويقهرون النفس البهيمية والشهوية.
ويعرضون عن الأضعاف المضاعفة من الأموال لأن الطريق إليها عليه بيان وإعلان كبير يقول(مغلوق شرعاً) فهم يرون تلك الأرباح الربوية، ولكنهم يتنزهون عنها.
وإذ كانت الحيتان تأتي إلى بني إسرائيل يوم السبت وتغادر بعده لأنهم لا يصيدون ولا يعملون يوم السبت قال تعالى[وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ] ( )، فأفتتن فريق منهم بها ولجأوا إلى الإحتيال فنزل بهم العذاب.
أما المسلمون فإن الله أخبرهم بتلك الأضعاف وحرمتها عليهم، وهي ظاهرة أمامهم , فيتسلحون بالتقوى، ويتناجون بالصبر والورع، ويظهرون الإخلاص في العبودية لله عز وجل، ويرددون لمرات عديدة في اليوم وعلى نحو الوجوب[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ومن مصاديق الإستعانة بالله أمور:
الأول: إرادة السلامة من النفس الأمارة بالسوء بلحاظ أن الربا ظلم ومعصية.
الثاني: سؤال الرزق الكريم من الله.
الثالث: الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية.
بحث أصولي (قاعدة لا ضرر ولا ضرار)
تعتبر قاعدة(لا ضرر ولا ضرار) من أمهات القواعد الأصولية وهي سيالة تتغشى أحكام الفقه من باب الطهارة إلى باب الديات ومنهم من قال بإعتبارها في أبواب خاصة من الفقه مثل باب القضاء وحل المنازعات.
ومن مواردها الفقهية الرد بالعيب، ووجوه الخيارات، والشفعة لمنع الضرر الناتج عن القسمة، والكفارات، والحدود، وقتال المشركين.
وليس من قاعدة أصولية ألفت فيها المجلدات الكثيرة كقاعدة(لا ضرر) ومنهم من جعلها مدار الإجتهاد، فتصدى كثير من العلماء لتأليف الكتب الخاصة بها على نحو التفصيل والأسباب والنقض والإبرام، والطرد والعكس.
وهي مقتبسة من حديث متواتر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو(لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلام) ( )ومنهم من ذكره بإضافة همزة(لا ضرر ولا إضرار)..
ومنهم من إستدل عليها بالكتاب وقوله تعالى[لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ] ( )، وآيات أخرى تتضمن مادة(ضرر).
وأستدل عليها بالإجماع القولي والعملي.
والضرر الواقع نتيجة العمل بأحكام الشريعة على وجهين:
الأول: الذي يأتي عن إستحقاق وعقوبة كجلد الزاني، وقطع يد السارق.
الثاني: الضرر الشخصي وهو متعلق قاعدة(لا ضرر) دون الأول أعلاه وهو ناتج عن سبب عرضي يختلف بحسب الأشخاص وأحوالهم المتغيرة، وليس النوعي الذي هو حكم عام وإن لم يحصل الضرر لبعض أفراد النوع.
ومدار الحكم على الموضوع، فمتى ما حصل الضرر يتحقق الرفع، لأن الحكم تابع للموضوع، فإذا كان الحكم العام فيه ضرر على شخص , فيكون رفع الحكم خاصاً به وبمقدار دفع الضرر دون باقي المكلفين، فإذا كان غسل الجنابة ضررياً على شخص مجدور أو في أوان البرد الشديد يحكم بعدم وجوبه عليه بلحاظ المانع العرضي الطارئ.
وما يصح لعذر يبطل بزوال العذر كالتيمم فإنه يبطل عند الحصول على الماء قبل الشروع في الصلاة.
ولا يستنتج عن قاعدة (لا ضرر) حكم كلي، بل هي أحكام جزئية شخصية.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(بعثت بالحنيفية السمحة) ( ).
والأحكام تابعة للمصالح، والمراد مصالح العباد، لأن الله غني عن العالمين، ومنزه عن الحاجة , فجاءت الأوامر والنواهي لجلب منفعة أو لدفع ضرر.
والضرر أعم من أن يكون حالاً وعاجلاً، فقد يظهر بعد حين وعلى نحو القضية النوعية أو الشخصية للذات أو الغير فقد لا تتبين أضرار الربا وما فيه من المفسدة إلا بعد حين، وعلى أفراد العائلة في المال وغيره، لذا وردت آية البحث بالنهي عن أكل الربا وهو أعم من العقد وقبض المال الربوي.
ومن الأمور ما يغتفر في الدوام دون الإبتداء، ومنها العكس فيغتفر في الإبتداء دون الدوام، ومن مصاديق البيان في القرآن قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفيه النص القاطع بحرمة الربا إبتداء وإستدامة وأثراً، فالعقد الربوي محرم، ولو تم العقد فيجب إبطاله.
وقد جاءت آيات أخرى بحرمة عقد الربا من الأصل، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، فالحرمة مطلقة تشمل العقد أيضاً، ومن القواعد الفقهية قاعدة السلطنة، وأن الناس مسلطون على أموالهم، وأدلة نفي الضرر حاكمة عليها، ومقدمة عليها فلا معنى للتساقط أو الترجيح أو الرجوع إلى الأصل ولا تصل التوبة في حرمة الربا إلى القواعد الأصولية والفقهية، والتقديم بينها، لأن التحريم جاء في القرآن، وهو قطعي الصدور والثبوت.
والقرآن هو كتاب الله المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللفظ العربي المنقول إلينا بالتواتر المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، الذي يبدأ بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس، وتحتمل(لا) في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا ضرر، وجهين:
الأول: إنها (ناهية).
الثاني: إنها (نافية).
والصحيح هو الثاني، لأن(لا) الناهية تدخل على الفعل المضارع كما في الآية الكريمة(لا تأكلوا)إذ تفيد(لا) النهي والحرمة، وليس على الإسم.
فجاء الحديث النبوي بصيغة الإنشاء لبيان أنه أعم من النهي الشخصي فيشمل القضاء والأحكام.
وتفيد صيغة الحديث، عموم النفي، لأن من صيغ العموم النكرة في سياق النفي، لأن كلاً من(ضرر) و(ضرار) نكرة جاءت بسباق النفي لتقدم(لا) عليهما.
وتتعلق بقاعدة(لا ضرر) قواعد عديدة منها الضرورات تبيح المحظورات بقدرها ونفي الجهالة والغرر وغيرها، وقيل أن قاعدة (لا ضرر ) نصف الفقه.
وقد تتناوب الأحكام التكليفية في موضوع واحد بلحاظ العنوان الثانوي، فالزواج أمر مستحب وعليه الكتاب والسنة والإجماع، (والنكاح سنة النبي صلى الله عليه وآله وروي عنه انه قال: من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي، فليس مني) ( ).
ويتعدد حكمه بلحاظ الحكم الثانوي والطوارئ إلى الأحكام التكليفية الأربعة الأخرى فيكون واجباً في حال الحاجة إليه للنجاة من الفاحشة ومظنة الضرر، ويكون مباحاً عند تساوي الصلة في فعله وتركه، ويكون مكروهاً كما في نكاح القابلة والمربية أو كان مقدمة للمكروه أو محرماً كما في نكاح المحارم والزيادة على الأربعة، قال تعالى[فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ]( )، وذات الأحكام بالنسبة للمرأة، والأصل أن إستحباب الزواج لها أكثر توكيداً.
والطعام أمر مباح ولكنه يكون واجباً إذا كان لدفع الهلاك والموت ويكون مكروهاً إذا ظن أنه يؤدي إلى المرض، ويكون مستحباً، إذا كان للوقاية من الآفات ولدفع الضعف، ويكون محرماً إذا أدى إلى الأمراض وأسباب الهلكة.
ومن الكسب المحرم أكل المال الربوي، ولكن لو إشترى بالمال الربوي البُر واللحم مثلاً فهل هذا البر واللحم من الطعام المحرم الذي لا يجوز أكله، أم يجوز أكله ولكن ذمة الآكل تبقى مشغولة بثمنه لصاحب المال.
الجواب هو الثاني، هذا مع العلم بأن قيمة الشراء مال ربوي وإلا فيشمله حديث الرفع، ويكون بعهد آكل الربا أي الذي قبض الزيادة.
صلة الآية[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين:
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين:
الأول: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله.
الثاني: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الرسول.
فإن قلت إن النطق بالشهادتين طاعة لله ورسوله، ويمكن القول يا أيها الذين آمنوا أطعتم الله والرسول، فالجواب من وجوه:
الأول: صحيح أن دخول الإسلام والنطق بالشهادتين طاعة لله والرسول ولكن الإيمان أعم موضوعاً وحكماً، فيجب طاعة الله بالإمتثال للأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن، وطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة النبوية , قال تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ]( ).
الثاني: توكيد وجوب الفرائض.
الثالث: بيان قانون وهو الرجوع إلى السنة في تفاصيل أحكام الفرائض.
الرابع: دعوة المسلمين للتقيد بحرمة الربا على نحو متجدد.
الخامس: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، والأمر بطاعة الله ورسوله في الزمن الحاضر والمستقبل لا يتعارض مع حقيقة طاعة المسلمين لله ورسوله في الزمن الماضي وأوان ما قبل نزول الآية الكريمة.
ويدل على الطاعة في الماضي نزول الآية بالشهادة للمسلمين بالإيمان، فهي لم تخاطبهم(يا أيها المسلمون) بل جاءت بصفة الإيمان، وما فيها من الإكرام.
الرابع: شمول أحكام الشريعة لأمور العبادات والمعاملات، ومنها حرمة الربا ولزوم إجتنابه.
الثانية: لقد جاءت آية البحث بحرمة الربا، ولم تكن الآية الوحيدة بهذا الخصوص، وتلك آية في الفضل الإلهي، لبيان حقيقة وهي أن طاعة الله تشمل الأحكام التكليفية الخمسة، ومنها الوجوب والحرمة، فكما يّجب طاعة الله في الفرائض والواجبات فكذا يّجب طاعته في إجتناب ما نهى عنه، ومنه الربا وأخذ المال الزائد على القرض.
وتتوجه النواهي إلى الذين آمنوا وهم المسلمون ليتجلى إيمانهم بالإجتناب العام والمطلق عن الربا.
العام بأن يتنزه المسلمون رجالاً وأناثاً عن أخذ الربح الربوي، والمطلق بأن يبتعدوا عن كل المعاملات الربوية الظاهرة والخفية، والربح الربوي القليل والكثير.
ليكون الجمع بين الآيتين شاهداً على بلوغ المسلمين مرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأنهم في طاعة مستمرة ومتجددة لله ورسوله، بدليل مجيء آية البحث بصيغة فعل الأمر(وأطيعوا).
وهو خطاب إنحلالي متجدد كل آن، ويطل على المسلمين مع طلوع الشمس، وبزوغ القمر، وإذا إنحدرت الشمس عن كبد السماء عند فترة الظهيرة وأخذت بالدنو إلى المغيب والغياب فإن ذات الخطاب(وأطيعوا الله ورسوله) يبقى متجدداً على حاله لا يقبل الفتور وليس فيه فترة أو غروب، ويتجلى هذا التجدد في تشريع فريضة الصلاة في الأوقات الخمسة آية إعجازية على مصاحبة قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] للمسلمين , قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ]( ).
الثالثة: بيان موضوعية التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمجيء الأمر الإلهي بإقتران طاعته بطاعة الله عز وجل، وإرادة الإيمان بالله عز وجل ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لاَ أَدْرِى مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ) ( ).
إن إقتران طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة الله عز وجل دليل على أنها في طول طاعة الله، وشاهد على إنعدام التعارض أو التزاحم بين الكتاب والسنة، لذا وردت أحاديث العرض على الكتاب.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط) ( ).
والسنة النبوية أعم من معاني الطاعة، إذ أنها تشمل الأحكام التكليفية الخمسة، وأمور العبادات والمعاملات والسيرة النبوية، وتتجلى فيها مصاديق النهي والإنتهاء عن الربا وحرمة المال الربوي.
وهل تنحصر طاعة الرسول بخصوص الأوامر والنواهي الجواب إنها أعم فتشمل إتباعه في سنته بلحاظ أنها حجة ووحي قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
صلة قوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: وأطيعوا الله والرسول لا تأكلوا الربا.
الثاني: وأطيعوا الله وأتقوا الله.
الثالث: وأطيعوا الله والرسول وأتقوا الله.
الرابع: إتقوا الله وأطيعوا الله.
الخامس: وأطيعوا الله والرسول لعلكم تفلحون.
المسألة الثانية: يبــين قـــوله تعالى(وأطيعوا الله) وجود أوامر من الله عز وجل للمسلمين وأنهم يعرفون أنها من عند الله، وتشمله قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
فإن الآية شاهد على البيان والوضوح في الأوامر الإلهية، والنواهي أيضاً، ليفيد معنى الإيمان في قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) العموم وإرادة الإيمان بالقرآن كتاباً نازلاً من عند الله.
إن الإختلاف في الجهة التي يأخذ منها المسلمون الأوامر والنواهي الإلهية يؤدي إلى الفرقة والفتنة، فجعل الله عز وجل الأوامر بطاعته سبباً لإتحادهم وإستدامة أخوتهم قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وفيه بعث لجميع المسلمين للرجوع إلى القرآن والصدور عنه, وأخذ الأحكام منه.
فمن إعجاز القرآن ترشح وحدة وأخوة المسلمين من التكاليف، مع ما فيها من المشقة والعناء، لتكون هذه الوحدة والأخوة من مصاديق الثواب العاجل للمسلمين، ومقدمة لإتيان الصالحات وفعل الخيرات، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وفيه دلالة على أمور:
الأول: الإيمان علة للأخوة.
الثاني: إنه سبب لإتحاد المسلمين.
الثالث: معاني وسنن الأخوة سبب لزيادة إيمانهم.
الرابع: تقيد المسلمين بمفاهيم الأخوة الإيمانية زاجر للكفار عن التعدي عليهم.
ومن منافع التنزه عن الربا إستدامة أخوة المسلمين في الله، وتعاونهم في سبل الهداية بما يزيد إيمانهم لذا جاءت الآية بصفة الإيمان لتوكيد موضوعيته في الأخوة بين المسلمين(وقيل لعيسى ابن مريم : هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال : نعم ، أمة أحمد . قيل : وما أمة أحمد؟ قال : علماء ، حكماء ، أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون باليسير من الرزق ، ويرضى الله عنهم باليسير من العمل ، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله) ( ).
وفيه دلالة على تنزه المسلمين عن الربا، والأرباح الكثيرة التي تأتي منه.
الخامس: لقد جاءت الشهادة النبوية لأجيال المسلمين المتعاقبة بالعفة والحسن الذاتي قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن هذا الحسن وإنبساطه على لأجيال المسلمين الأهلية لأخوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( إشتقْتُ إلى إخواني ، فقال أصحابُه : نحتن إخوانُك يا رسول الله ، فقال أنتم أصْحَابي ، إخْواني : ناس يأتُون بعدي ، يُؤمنون بي ولم يَرَوْنِي ، يَوَدُّ أحدُهم لو يَرَاني بجميع ما يَمْلِكُ . يَعْدِلُ عملُ أحدهم سبعين منكم، قالوا: مِنْهم يا رسول الله؟ قال : منكم . قالوا : ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال : لأنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً ، وهم لا يَجِدُوا عليه أعواناً)( ).
وفيه آية في رفعة وعلو منزلة أجيال المسلمين المتعاقبة، والصبر في جنب الله، والتنزه عن الربا والمعاصي الأخرى، وتتجلى مصاديق الوحي والحكمة في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه في زمان ظهور الفتن، والتقارب بين أمصار المسلمين وبلاد الغرب والأمم التي تبيح الربا ولا ترى فيه بأساً، وتداخل المعاملات التجارية .
ومع هذا يعلم الناس جميعاً أن المسلمين متقيدون بطاعة الله ورسوله في إجتناب الربا والنفرة منه، وهو من عمومات مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
المسألة الثالثة: تضمنت آية البحث النهي عن الربا وإكتساب الأضعاف المضاعفة منه، وجاءت آية السياق بالأمر بطاعة الله ورسوله.
ويحتمل الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: ترك الأرباح، وتحمل حال الفقر والنقص في المكاسب وقلة النماء، وقد يكون ترك الأرباح سبباً لضياع رأس المال نفسه لأن النفقة والمؤونة منه.
الثاني: إيجاد موارد مالية ومكاسب من الحلال بفضل من الله.
الثالث: ترك الإقراض والقروض خشية أن تؤدي إلى الوقوع في الربا.
والصحيح هو الثاني فقد جعل الله عز وجل الأرض مورداً لأسباب المعيشة، قال تعالى[وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ]( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا(دار المكاسب) لما فيها من أسباب الكسب والعمل، وهذه المكاسب على وجوه:
الأول: إنها مادة للإختبار.
الثاني: فيها موضوع للإفتتان.
الثالث: كيفية المكاسب طريق إلى الجنة أو النار فحرّم الله الربا، وأحلّ البيع والشراء والمعاوضة والإجارة والرهن.
ففاز المسلمون بطلب الرزق الحلال، وإجتناب ما فيه المفسدة والضرر كالربا، وصاروا حجة على الناس في الدنيا والآخرة.
فإن قلت قد لا يكون في إحدى المعاملات الربوية ضرر، والجواب من وجوه:
الأول: الضرر أعم من الخسارة المادية.
الثاني: قد يحدث الضرر لاحقاً وبعد حين، وهو من عمومات المحق والنقص.
الثالث: الربا معصية لله ورسوله , وفي هذه المعصية أعظم الضرر على الذات والغير، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، وإذا كان فوات الربح مانعاً دون السعة في المال والتمتع في ملذات الدنيا، فإن المعصية في أخذ الربا ضرر ليس لمدته أجل، وهو ضرر في الدنيا والآخرة، مما يدل على أن طاعة الله ورسوله خير محض في الدنيا والآخرة، وواقية من الضرر والأذى في النشأتين.
وهل طاعة لله ورسوله من الكسب الجواب نعم فإنها بذاتها كسب، وهي مقدمة لكسب والمعاش، وهي من عمومات قوله تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
فتتجلى معاني التقوى بطاعة الله ورسوله في باب الأوامر والنواهي، وتفضل الله عز وجل بآية البحث لتكون من سبل التقوى وإكتساب الصالحات، والعصمة من السيئات.
المسألة الرابعة: جاءت الآيتان بالحث على تقوى الله وطاعته.
ومن الإعجاز إقتران طاعة الرسول بطاعة الله، بينما تختص التقوى بالله عز وجل، فليس من آية تقول (اتقوا الله والرسول) وفيه وجوه:
الأول: الأمر بتقوى الله موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ).
الثاني: لقد جعل الله الحياة الدنيا (دار التقوى) ومناسبة الرشاد، ومن فضل الله عز وجل على الناس هدايتهم للتقوى، وإختيارهم سننها، ومنها الإمتناع عن الربا.
الثالث: الأمر بتقوى الله شاهد على الربوبية المطلقة له سبحانه، وأن الناس جميعاً محتاجون إلى رحمته، وتجب عليهم الخشية منه تعالى.
الرابع: قوله تعالى (اتقوا) فضل من الله عز وجل على الناس، وهداية لهم لوظائفهم، وسبل نجاتهم في الدنيا والآخرة.
الخامس: طاعة المسلمين للرسول من تقوى الله والخشية منه سبحانه.
وجاءت آية السياق بوجوب طاعة المسلمين للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع طاعتهم لله عز وجل لأن الرسول يأمر بتقوى الله، وهو إمام المتقين وقد تنزه في حياته عن الربا مع أنه عمل في التجارة قبل الإسلام، فتاجر بأموال خديجة وذهب إلى الشام وجاء بالبضائع منها، وكان يسمى في مكة أيام الجاهلية(الصادق الأمين)، لما عرف عنه من حسن السمت، والأخلاق الحميدة وصدق القول في المعاملة وغيرها
وهذه الشمائل من أسباب عرض خديجة عليه الإتجار بمالها، ثم رغبتها بالزواج منه، وتجلت منافع ملكة الصدق والأمانة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدايات البعثة إذا تلقاها الناس بالتدبر .
وعندما عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غار حراء خائفاً قالت له زوجته (خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل( )، وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق( ).
مما يدل على القبح الذاتي للربا، وعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرذائل والقبائح قبل النبوة وبعدها بفضل وواقية من الله عز وجل.
وبين الطاعة والتقوى عموم وخصوص مطلق، فكل طاعة لله هي تقوى، والطاعة فعل خارجي باللسان والجوارح والأركان، أما التقوى فهي ملكة وواعز نفسي وقصد، وتكون وعاء ومقدمة للطاعة والفعل الصالح، وحصانة من الفعل القبيح، وطاعة الرسول من تقوى الله عز وجل لأنه هو الذي بعثه[بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، وكل من البشارة والإنذار من مصاديق التقوى وكذا العمل بمضامينهما.
يفيد الجمع بين الآيتين البعث على التقوى من وجوه:
الأول: قوله تعالى(إتقوا الله).
الثاني: قوله تعالى(وأطيعوا الله).
الثالث: قوله تعالى(والرسول).
الرابع: إجتماع التقوى وطاعة الله والرسول.
وهذا التعدد فضل ورحمة من الله إختص بها المسلمين، ويتضمن الدعوة للناس جميعاً لأمور:
الأول: الإنتفاع من مصداق الرحمة والتعدد أعلاه بدخول الإسلام.
الثاني: العمل بمضامين الآيتين.
الثالث: إجتناب المعاصي، قال تعالى[وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ]( ).
الرابع: توكيد عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإقتران طاعته بطاعة الله.
الخامس: بيان حسن سمت المسلمين، وأسرار تفضيلهم لتقيدهم بمفاهيم التقوى.
الخامسة: جاءت آية البحث بنهي وأمر، نهي عن الربا، وأمر بتقوى الله، أما آية السياق فتحتمل وجهين:
الأول: إنها جاءت بأمر واحد متحد، وهو طاعة الله والرسول.
الثاني: جاءت الآية بأمرين طاعة الله وطاعة الرسول.
والصحيح هو الثاني، وفيه دلالة على أحكام السنة النبوية وأن الرسول محمداً صلى الله جاء بأوامر يجب العمل بمضامينها، ونواهي لا بد من إجتنابها.
وتتضمن آية السياق الأمر بالعمل بهذه الأوامر والنواهي.
إن مجموع الأوامر في الآيتين ثلاثة، أما النهي فيها فهو واحد، وهو الزجر عن الربا.
بحث أصولي
هل من تباين موضوعي بين الأوامر والنواهي، الجواب جاءت الأوامر في الآيتين مدداً وعوناً للمسلمين للتنزه والإبتعاد عن الربا، ما قل منه وما كثر، لأن الذي يأخذ القليل ينغمس فيه طلباً للإستزادة، وهو من أسرار توكيد الحرمة بترك(الأضعاف المضاعفة).
وهناك مسألتان:
الأولى: هل حرمة الربا من الكلي المشكك بحيث تكون حرمة أكل الأضعاف المضاعفة أشد وآكد من الربا القليل.
الثانية: هل الربا القليل معفو عنه لتقييد آية البحث النهي والزجر بالأضعاف المضاعفة، ولقوله تعالى[الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ]( ).
أما الأولى فإن حرمة الربا مطلقة وشاملة للقليل والكثير بعرض واحد.
وأما الثانية فإن موضوع المغفرة غير الأحكام التكليفية، وهو متعقب لها، وعائد لله عز وجل الذي تفضل وفتح باب الإستغفار والتوبة والإنابة، وحتى التوبة في موضوع الربا فإنها مقيدة بالتنزه عن الأرباح الربوبية قال تعالى[وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( )، وهذا التنزه طاعة لله ورسوله.
فمن الإعجاز في الشريعة الإسلامية التداخل بين المتضادين في باب الأحكام بأن يكون كل أمر عوناً لإجتناب المنهي عنه، ويكون النهي مدداً للمسلمين في الإمتثال للأوامر الإلهية، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن إجتناب الربا من طاعة الله ورسوله، لتجتمع وفق هذا المعنى ثلاثة نواهي على ترك الربا، إثنتان منها بلفظ الطاعة والتي ذات حكم متعدد تشمل الإمتثال في الأوامر، والإمتناع في النواهي.
فالتنزه عن الربا طاعة لله ورسوله، وتقدير الآية: وأطيعوا الله ورسوله بعدم أكل الربا.
ومن إعجاز اللفظ القرآني إجتماع أمر ونهي في آن واحد من غير تعارض بين الأمرين، ليكون من المتعدد في وجوه تأويل اللفظ القرآني، وهو من أسرار إحاطة آيات القرآن باللامتناهي من الوقائع والأحداث.
لقد جاءت آية البحث بأمر المسلمين بترك الأضعاف المضاعفة من الأرباح الربوية، وفيه تنمية لملكة العفة والنزاهة عند المسلمين، وبعث لهم للعصمة من الطمع بالمال الحرام، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
فجاءت الآية أعلاه بالإخبار عن الملازمة بين السلامة من الشح والبخل في سبل الخير وبين الفلاح.
وجاءت آية البحث بالإخبار عن كون إجتناب الربا طريقاً للفلاح(عن سعيد بن جبير شح النفس هو أخذ الحرام و منع الزكاة، وعن ابن زيد من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه و لم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقى شح نفسه)( ).
وأخذ وأكل الربا حرام وهو أمر منهي عنه، ولكن أخذ الربا أعم من شح النفس لأنه معصية وتعد وإصرار على فعل الحرام وهو فعل، والشح سجية في النفس، وإجتناب الربا، واقية منها، حرب عليها.
وبين الشح وأخذ الحرام عموم وخصوص من وجه، والظاهر من تفسير الآية أعلاه أن المراد من شح النفس هو البخل الشديد والعزم على البخل، فما أن يعرض عليه أمر فيه جهاد وبذل إلا وتنقبض النفس وتميل إلى الإمتناع.
وورد في الحديث: لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِى جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِى جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)( ).
ويحتمل الحديث أعلاه أمرين:
الأول: التضاد بين الشح والإيمان، لذا لا يمكن إجتماعهما في موضوع واحد.
الثاني: الشح غشاوة تحول دون الإرتقاء في سلم الإيمان.
والصحيح هو الثاني، من وجوه:
الأول: جاء الحديث لبعث المسلمين للتنزه من الشح، وجعلهم يبادرون إلى فعل الصالحات، قال تعالى في مدح الذين يؤمنون بآيات الله[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
الثاني: توكيد قانون ثابت وهو أن الإيمان قهر للنفس الشهوية والغضبية.
الثالث: الإيمان ندبة بيضاء في القلب تزيح البخل والشح عنه، وتجعل المسلم متوثباً للجهاد، مستعداً لفعل الصالحات.
الرابع: بيان وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور:
الأول: فضل الإيمان.
الثاني: عظيم منزلة المسلمين في التنزه عن الرذائل.
الثالث: توكيد إرتقاء المسلمين في مراتب التقوى والصلاح.
الرابع: سلامة المسلمين من الشح والإمتناع عن المعروف، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: ترغيب الناس بدخول الإسلام.
ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه لم يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مؤمن) بل ذكر الإسلام وهو أعم من الإيمان لإفادة حقيقة وهي أن بلوغ مرتبة الإيمان شاهد على التنزه من الشح، وأن قلب المؤمن ممتنع على الشح والبخل، الأمر الذي ينعكس في الخارج بخصال التفاني في مرضاة الله عز وجل.
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بطاعته، ومن مصاديق الطاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبلحاظ آية البحث لابد من تعاون المسلمين للنجاح والفلاح والفوز، ومن الأمر بالمعروف في المقام وجوه:
الأول: الأمر بالكسب الحلال.
الثاني: الأمر بالتفقه في الدين، قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( ).
الثالث: التعريف بالمائز بين المعاملات الصحيحة والفاسدة.
الرابع: الأمر بترك الربا كما في قولك(أترك أكل الربا).
الخامس: الأمر بالنهي عن الربا، كما لو قام أحد المؤمنين بحث إخوانه بأن ينهوا الناس عن الربا، ويقول لهم: لا تتعاطوا المعاملات الربوية.
السادس: الأمر بالأمر بالإمتناع عن الربا، كما لو قام إمام الجماعة بحث المؤمنين على القيام بأمر الناس بترك الربا.
وهل تلاوة آية البحث والسياق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم، إذ تكون تلاوة المسلم للآية على وجوه:
الأول: تأديب المسلم لنفسه بمفاهيم الصلاح , قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( )، والأمر بالتقوى من التعليم، وليس كل التعليم الذي يستمر مع الإنسان متجدداً في مصاديقه.
الثاني: إرشاد الناس.
الثالث: التذكير بالوظائف العبادية، ومع أن قوله تعالى(أطيعوا الله ورسوله) خطاب للمسلمين إلا أنه يتضمن المعنى الأعم، ودعوة الناس للإسلام، وإخبار الكفار وغيرهم بأن دخول المسلمين الإسلام ليس حداً ونهاية للأوامر والتكاليف بل هي مستمرة ومصاحبة للمسلم في أيام حياته كلها.
الرابع: بعث المسلمين والناس لإستحضار مصاديق طاعة لله ورسوله الواجبة عليهم، ومنها الإمتناع عن الربا، وأكل المال به تعدياً.
فإن قلت تتجلى طاعة الله في الإمتناع عن الربا بآية البحث والآيات المشابهة لها، وأين طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حرمة الربا، والجواب من وجوه:
الأول: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين آيات تحريم الربا.
الثاني: إسقاط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما كان من الربا في الجاهلية.
وهل هو من عمومات(الإسلام يجّب ما قبله)( )، الجواب لا، لأن الحكم يتعلق بما بعد دخول الإسلام بالتخلي عن الكسب الحرام.
الثالث: الأخبار الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص حرمة الربا ومنها: (روي عن علي عليه السلام أنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الربا خمسة آكله و موكله و شاهديه و كاتبه) ( ).
فإن قلت إن آية البحث لم تمنع عن الربا ذاته، بل منعت عن أكل المال به، والجواب من وجوه:
الأول: جاءت الآية بقصد اللازم وإرادة الملزوم.
الثاني: بيان التعدد في مصاديق النهي في الموضوع الواحد، وفيه إعانة للمسلمين بأحكام الشريعة.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفة التفصيل والتعدد بين العقد الربوي، وأكل المال بالربا، وكون الأول مقدمة للثاني، وهل يصدق حكم الربا وحرمته على المعاطاة فيه، الجواب نعم لعمومات النهي في الآية الكريمة.
الرابع: مجيء آيات قرآنية أخرى بتوكيد حرمة الربا مطلقاً , قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
بحث إقتصادي
مع أن الربا محرم على طرفي العقد، وجاءت اللعنة بشمولهما لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وكاتب العقد والشاهد عليه لأن فعلهم من الإعانة على الإثم إلا أن آية البحث تدل على تغليظ الحرمة على خصوص طرف واحد في العقد، وهو آكل الربا، لأنه ينفرد من بينهم بأكل المال الحرام.
وإذا تنزه صاحب المال عن أكل الحرام صار الربا سالبة بإنتفاء الموضوع، لعدم وجود العرض وأصل القرض الربوي، والتغليظ في المقام مستقرأ من أمور:
الأول: ذات آية البحث.
الثاني: الجمع بينها وبين الآيات الأخرى التي تنهى عن الربا ومنها ما ورد بتحريم الربا مطلقاً قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الثالث: الزجر عن العقد الربوي والإشتراك في إجرائه وإبرامه.
وتفيد الآية أعلاه إستدامة حرمة الربا حتى بعد العقد، فلو تم إجراء العقد فهو باطل، وتحث أطراف العقد على إبطاله وإسقاط الربح الربوي وتجريد أصل القرض منه.
وهل فيها أمر للمسلمين من غير المتعاقدين على إبطاله، الجواب نعم، وتتضمن آيات القرآن حثهم على تعظيم شعائر الله في المقام وبذل الوسع، والإعانة بالمال لإبطال العقد الربوي والترغيب بنسخه ونقضه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
صلة (لعلكم ترحمون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا لعلكم ترحمون.
الثاني: لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة لعلكم ترحمون.
الثالث: واتقوا الله لعلكم ترحمون.
الرابع:لعلكم تفلحون لعلكم ترحمون.
الثانية: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الرحمة) تنزل فيها رحمة الله على الناس والدواب والنبات، وهو من مصاديق قوله تعالى[بسم الله الرحمن الرحيم] ( ).
وبين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق، فالمسلمون من الناس، وتصيبهم شآبيب الرحمة مثل باقي الناس.
فلماذا جاء تعليق تغشيهم بالرحمة بطاعة الله ورسوله، فيها وجوه:
الأول: تقييد إطلاق الرحمة بطاعة الله ورسوله، فتدل آية السياق على تعليق الرحمة بطاعة الله ورسوله فلا تصيب رحمة الله الكفار.
الثاني: خصوص التقييد بمصاديق إضافية من الرحمة.
والصحيح هو الثاني فاختصاص المؤمنين برحمة الله في الآخرة ، قال تعالى [يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا]( ).
أما الحياة الدنيا فهي (دار الرحمة) للناس جميعاً ، ومن مصاديقها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتبين الآية نزول مصاديق إضافية يختص بها الذين يطيعون الله ورسوله، فليس الجمع بين آية السياق وعمومات رحمة الله من المطلق والمقيد، وليس من العام والخاص بل هو من الزيادة في رحمة الله لخصوص المسلمين ، لتكون الرحمة في المقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وكثرة وقلة، وأن الرحمة على قسمين:
الأول:مصاديق الرحمة التي تتغشى الناس جميعاً برهم وفاجرهم.
الثاني: الرحمة الإضافية التي تصيب المسلمين خاصة بقيد طاعة الله ورسوله.
لذا فان قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] بشارة نزول مصاديق إضافية من الرحمة، ومن فضل الله عز وجل أن أفراد ومصاديق الرحمة في كل من القسمين أعم من أن تحصى.
وفيه ترغيب للناس بطاعة الله ورسوله للفوز بالرحمة الإلهية بمصاديقها العامة والخاصة ومن مصاديق الرحمة العامة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
والرحمة ببعثته توليدية ومتجددة وتتجلى في كل آن ومكان مصاديق كثيرة منها ومن آيات القرآن التي نزلت من عند الله، ومنها آية الربا هذه.
وفي كل إمتناع من المسلم والمسلمة عن الربا أمور:
الأول: إنه رحمة بهما، وبالناس.
الثاني: فيه إشاعة للأخلاق الحميدة.
الثالث: جهاد ضد النفس الشهوية.
الرابع: حرب على الكفر والضلالة.
وهل رحمة الله في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الجواب نعم، وهو شاهد بأن مصاديق وفروع من نعمة الله لا يمكن إحصاؤها بتقريب أن مصاديق من أحكام القرآن لا يمكن إحصاء وجوه الرحمة فيها، فكيف بمصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من اللامتناهي، وهي نعمة من نعم الله عز وجل التي تفوق حد التصور الذهني، قال تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي]( ).
ومع أن قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] جاء بلغة الرجاء فانه ليس من أمة فازت به إلا المسلمين وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: خطاب البشارة برجاء الرحمة الإلهية[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ].
الثاني: الخطاب التشريفي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثالث: إجتماع الخطابين أعلاه من فضل الله عز وجل.
الرابع: نهي المسلمين عن أكل الربا، والزيادة القرضية.
الخامس: حث المسلمين بلغة الأمر على تقوى الله.
السادس: البشارة للمسلمين برجاء الفلاح والتوفيق والبقاء.
السابع: الأمر إلى المسلمين بطاعة الله.
الثامن: الأمر إلى المسلمين بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع: رجاء نزول رحمة الله بالمسلمين، ويكون هناك أمران لم تشهد لهما الأرض مثيلاً وإختص بهما القرآن وهما:
الأول: إن إجتماع كل آيتين يعطي دلالات ومصاديق من رحمة الله لتكون الآية القرآنية مستقلة ومتحدة مع غيرها رحمة مزجاة للناس وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن، وتعدد مفاهيم وماهية البيان فيه، ويحتمل قوله تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( )، وجهين:
الأول: المراد كل آية من القرآن على نحو مستقل.
الثاني: إرادة الجمع بين الآيات أيضاً.
والصحيح هو الثاني، فمن الآيات التي أنزلها الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يتجلى من الجمع بين الآيات منطوقاً ومفهوماً.
الثاني: ترشح معاني الرحمة الإلهية من آيات القرآن مستقلة ومجتمعة على المسلمين والمسلمات جميعاً , وهو من مصاديق الإعجاز الغيري للقرآن، فآية تأتي بالرحمة العامة وأخرى بالرحمة الخاصة، وفي كل واحدة منهما مسائل:
الأولى: الترغيب بالإسلام.
الثانية: حث المسلمين على تعاهد منازل الإيمان , وأسباب الهداية والرشاد , قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
الثالثة: البعث للعمل في طاعة الله وتعظيم شعائره.
الرابعة: تجلي معاني الخشية من الله تعالى بالسر والعلانية.
الخامسة: كل آية مقدمة للنهل من مفاهيم الرحمة بالآيات الأخرى من غير أن يستلزم الدور.
وهل الخشية من الله من أفراد طاعته تعالى في قوله[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ].
الجواب نعم، لأن آية البحث جاءت بالأمر بتقوى الله، والخشية من مصاديق التقوى وكل منهما على وجوه:
الأول: إنه زاجر عن الربا.
الثاني: فيه سبب لنزول الرحمة الإلهية، وتيسير الأمور.
الثالث: إنه مناسبة كريمة لتهيئة أسباب الرزق التي تجعل المسلم في غنى عن الربا أخذاً وإعطاء، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الثالثة: جاءت آية البحث مع النهي عن أكل الربا بأمر واحد وهو(واتقوا الله)، بينما جاءت آية السياق بأمر آخر وهو قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] فان قلت تضمنت آية البحث الخطاب التشريفي للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
والجواب جاءت آية السياق معطوفة عليها، بحرف العطف الواو، مما يدل على إستمرار مضامين العطف للخطاب التشريفي , وشمول مضامين آية السياق به، ليكون تقديرها(ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول).
ومن أسرار الصلة بين آية البحث وآية السياق إجتماع وتوجه أمرين إلى المسلمين مع نهي واحد، وهو[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]، وليس في آية السياق نهي.
وفي إجتماع أمرين مع نهي واحد ترغيب للمسلمين بالعمل بأحكام الحلال والحرام، وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه.
ومن الآيات أن كلاً من الأمرين في الآيتين عام لا ينحصر بخصوص زمان ومكان وفعل مخصوص، أما الربا الذي نهت عنه آية البحث خاص من وجوه:
الأول: إنه خاص بالتجارة والمكاسب.
الثاني: يتعلق الربا بالقرض، والزيادة في الأجل للدين وبيع السلف, وقيل بالإحتياط والإحتراز من الهدية التي تقترن بالقرض، وبالإسناد عن أبي بردة قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال انطلق معى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتصلى في مسجد صلى فيه فانطلقت معه فسقاني سويقا واطعمني تمرا وصليت في مسجده فقال لى انك في ارض الربا فيها فاش وان من ابواب الربا ان احدكم يقرض القرض إلى اجل فإذا بلغ اتاه به وبسلة فيها هدية فاتق تلك السلة وما فيها) ( ).
الثالث: جاء النهي عن الربا في الآية للمسلمين، وإن كان الأصل فيه عموم الناس من وجوه:
الأول: تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول.
الثاني: مجئ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث: مجئ الأنبياء بالبينات، ونزول الكتب السماوية بتحريم الربا والنهي عنه، وهناك مسألتان:
الأولى: من الأنبياء من بعث لعائلته وقريته.
الثانية: من الأنبياء من ليس في زمانه ربا ومعاملات تجارية وبيع وشراء كما في أيام آدم وحواء.
أما المسألة الأولى ففيها وجوه:
الأول: قلة المبعوث لهم النبي ليست مانعاً من تبليغه أحكام الحلال والحرام.
الثاني: يؤدي النبي رسالة من الله عز وجل لمن بعثه الله لهم، والذين من دونهم ومن بعدهم.
الثالث: بين المبعوث إليهم النبي وبين الذين يصلهم تبليغه عموم وخصوص مطلق، فالنبي يبعث لجماعة أو قرية أو أمة، ولكن التبليغ وأنباء ما جاء به تنتقل بين غيرهم من الناس، لتكون على وجوه:
الأول: إنها آية في الخلق.
الثاني: فيها حجة على الناس ورحمة من الله بهم.
الثالث: إتعاض الناس من النبوة من لم يكن في مصر النبي ، أو في زمانه وهو أمر ظاهر وجلي.
وهذا الإتعاظ من عمومات رحمة الله وبديع صنعه، وعمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
الرابع: تجلي إعجاز متجدد للنبوة وتهيئة للناس للنبي اللاحق، والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: لا تنحصر رسالة النبي بأهل زمانه، بل تشمل ما بعده من الأجيال، سواء من ذرية الذين بعث لهم، أو من غيرهم، والله واسع عليم.
وأما المسألة الثانية، ففيها وجوه:
الأول: من وظائف النبوة البيان فيأتي النبي بأحكام الحلال والحرام المتعلقة بزمانه وما بعده من الأزمنة، وتلك آية في رحمة الله في النبوة ومنافعها للناس، فحتى لو جاءت فترة ليس فيها نبي فان الناس يعملون بالأحكام التي جاء بها النبي السابق لزمانهم.
الثاني: لقد جعل الله عز وجل الناس بالناس، فهم يتبادلون المنافع، لذا جاء الأنبياء بالحث على الخلق الكريم في المعاملة وغيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) ( ).
وفيه دلالة على أن الأنبياء قاموا ببناء صرح الأخلاق الحميدة، لتتغشى الصلات الإجتماعية وعالم المعاملات، ومنها إجتناب الربا وما فيه من الظلم وقهر الناس بالعقد والمعاملة على دفع أموالهم ليأكلها صاحب رأس المال.
الثالث: ليس من نبي إلا وبعث بين الناس، ويشارك في معاملاتهم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] ( )، مما يدل على أن النبي يبعث للناس ويكون بينهم، ويبين لهم أحكام الحلال والحرام حتى إذا كان لا يتعاطى البيع والشراء كآدم عليه السلام وهناك مسائل:
الأولى: كان آدم نبياً رسولاً، وفيه مصداق للخلافة في الأرض , وشاهد على سعة رحمة الله بالناس وإكرامه لآدم وذريته .
ورد بالإسناد (عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال: نعم كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) ( ).
الثانية: من بديع صنع الله أن آدم لم يهبط وحده، فقد نزلت معه حواء في ذات الوقت، قال تعالى[اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ونزل معهما إبليس كرمز للمعصية وتزيين الربا مما يلزم الحذر والحيطة منه، لقبح فعله في الجنة مع آدم وحواء، قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
فان قلت حواء زوجة واجبة النفقة على الزوج، والجواب نعم، إلا أن الصلات بين الزوجين أعم من موضوع النفقة الواجبة، وأما موضوع إنعدام الربا بين الزوج وزوجته فهو أمر خاص، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن عدم وجود عقود بيع وشراء بين النبي وزوجته لايعني عدم قيامه بتبليغها والناس حرمة الربا.
الثالثة: لم يغادر آدم الدنيا إلا بعد أن صار له أولاد وأحفاد كثيرون، وفي الخبر بالإسناد(عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن أول من جحد آدم، عليه السلام، أن الله لما خلق آدم، مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يَزْهر، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هو ابنك داود. قال: أي رب، كم عمره؟
قال: ستون عامًا، قال: رب زد في عمره. قال: لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عامًا، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلت فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة)( ).
ولم يغادر آدم الدنيا إلا وإبنه هبة الله نبي من عند الله.
الرابعة: جاء القرآن بذكر قصة ولدي آدم، وكيف أن قابيل قتل هابيل قال تعالى[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ] ( ).
وفي خبر أن سبب القتل يتعلق بالتباين والتمايز في ماليهما، فقد ورد أن هابيل تقرب بخير ماله وعزم على الرضا بحكم الله، أما قابيل وهو القاتل فقد تقرب بشر وأردأ ماله(و قيل إن سبب أكل النار للقربان أنه لم يكن هناك فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى فكانت تنزل نار من السماء فتأكله)( ).
الأمر الذي يدل على أن آدم عليه السلام بعث لأناس عندهم ملكية خاصة، وهذا الخصوص أصل للبيع والشراء وإجراء العقود.
المسألة الرابعة: تضمنت آية البحث نهي المسلمين عن أكل الربا، ومن مصاديق قانون (الدنيا دار الرحمة) أن الله عز وجل يثيب المسلمين على تقيدهم بالأوامر والنواهي القرآنية.
الخامسة: جاء النداء للمسلمين بصفة الإيمان على نحو الإجمال في موضوعه مع بيان ثبوت حكمه، والشهادة لهم من الله بنيلهم مرتبة الإيمان، ويكون موضوعه على وجوه:
الأول: الإيمان بالله عز وجل.
الثاني: الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الإيمان بالملائكة.
الرابع: الإيمان باليوم الآخر، وبعث الناس للحساب.
وكل هذه الوجوه من مصاديق الإيمان، وليس من تعارض بينها، وفي التنزيل[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ]( ).
لذا جاء الإجمال الموضوعي في الآية لبيان الإطلاق في إيمان المسلمين, فقد كانت الأمم السابقة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حال متباينة، وعلى وجوه:
الأول: الذين آمنوا بالله دون ملائكته.
الثاني: الذين آمنوا بالله وبعض الأنبياء.
الثالث: الذين تركــوا الإيمان بالنبي اللاحق للنبي الذي أرسله الله عز وجل إليهم.
فجاء الثناء على المسلمين لتصديقهم بالأنبياء والكتب السماوية على نحو العموم الإستغراقي، وهو من عمومات الأكرام والشهادة للمسلمين بالإيمان في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
وهل إجتناب أكل المال الربوي من الإيمان أم أنه أمر خارج عن موضوعه.
الجواب إنه من الإيمان لأن النهي عنه جاء في القرآن، وهو كتاب الله النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد إتصف المسلمون بخصوصية، وهي الإيمان بمضامين الكتاب النازل من عند الله، وتعاهد آياته بالعمل بما فيها من الأحكام والسنن وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لذا يمكن تقدير الآية بخصوص هذه الحصة:
يا أيها الذين آمنوا بحرمة أكل الربا أضعافاً مضاعفة.
وهل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] باعث للمسلمين على إجتناب الربا.
الجواب نعم، لما في الشهادة الإلهية للمسلمين من الثناء الدائم عليهم، وأسباب جعلهم يتعاونون في سبل الإيمان، ويحرصون على البقاء في منازل الإيمان، والذي لا يكون إلا باجتناب الربا لأن قبض المال الربوي فعل قبيح.
وتفضل الله عز وجل وجعل النهي عنه متعقباً لخطاب التشريف والثناء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهذا التعاقب والإتصال أمارة على موضوعية الإمتناع عن الربا في سلم ومراتب الإيمان، وحجة على الناس من غير المسلمين لما في الإمتناع من الدلالة على تكامل إيمان المسلمين وشموله للجوارح والجوانح وعالم المعاملات.
فحينما أخلصوا إيمانهم لله عز وجل، وصدّقوا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه سبحانه رزقهم خير الدنيا والآخرة، بأن نهاهم عن القبائح والرذائل مطلقاً، ومنها ما كان في باب العقود.
وبينما يقول الناس[إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا] ( )، فان المسلمين يمتازون عن الناس بالتقيد الفعلي العام بقوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( )، فتراهم يجرون عقود البيع، ويمضون معاملات الشراء، ولكنهم يمتنعون عن الربا ليكون من مفاهيم قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] بعث المسلمين للبيع والشراء، وإجراء العقود التجارية الخالية من الزيادة المحرمة.
وحينما ينحسر الحرام تتجلى صيغ الحلال بأبهى حلة، فاذا إمتنع الناس مثلاً عن الزنا، كثرت عقود الزواج وساد المجتمعات الإستقرار وإزداد النسل.
وإذا انتفى الظلم ظهر العدل والإحسان، وإزدهرت التجارات وعمّرت المدن، وأعرض الناس عن إختيار الحياة البعيدة عن المدن والعمران، فاجتناب الضد القبيح سبب لإنتشار وتثبيت الضد الحسن، وترشح المنافع عنه.
وهو ليس من قول الشاعر:
فالوجه مثل الصبح مبيض … والفرع مثل الليل مسود
ضدان لما إستجمعا حسناً … والضد يظهر حسنه الضد
لأن مراد الشاعر أعلاه الحسن المركب في الضدين , لذا قيل أن هذا البيت مدخول معيوب( ), والأولى أن يقال أنه صحيح على نحو الموجبة الجزئية وبخصوص إجتماع الحسن في الضدين , وهو من بديع صنع الله سبحانه.
إن قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] حرب على الكفر، وتعريض بالكفار الذين يصرون على الإعراض عن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويمتنعون عن العمل بأحكام الحلال والحرام التي جاءت في الكتاب السماوي الخالد وهو القرآن.
وهل يضرون المسلمين في فعلهم هذا، الجواب لا، من وجوه:
الأول: بشارة القرآن للمسلمين بالأمن والسلامة من الكفار، كما يدل عليه مفهوم قوله تعالى[وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] ( ).
الثاني: لحوق الأذى بالكفار لإصرارهم على الكفر والجحود.
الثالث: وصف المسلمين بالإيمان في آية البحث بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي يدل في مفهومه على ثبوت الإيمان في نفوس المسلمين.
الرابع: مجيء صفة الإيمان بصيغة الفعل الماضي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مما يدل على حصول الإيمان وثبوته وإستمراره، ويأتي النهي عن الربا ليكون شاهداً على الإيمان من وجوه:
الأول: تلقي المسلمين من السماء النهي عن الربا.
الثاني: إقرار المسلمين بأن هذا النهي من عند الله لأن كل كلمة في القرآن هي تنزيل، وفيه الأجر والثواب، قال تعالى في الثناء على أهل الجنة[الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ]( ).
الثالث: إمتثال المسلمين لأحكام النهي الظاهرة في الآية القرآنية، وإمتثالهم على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي عن الربا.
الرابع: توارث المسلمين التنزه عن أكل الربا بإعتبار أن هذا التنزه من مصاديق الإيمان وتعاهده فلا غرابة من القول بأن خطابات القرآن للمسلمين متجددة في كل زمان وإلى يوم القيامة، وأنها لا تنحصر بأيام التنزيل.
ففي كل زمان ترى المسلمين يمتنعون عن الربا لأن آية البحث تنهي عنه، وأنها نازلة من عند الله، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: المسلمون يمتنعون عما نهى الله عنه في القرآن.
الصغرى: الربا نهى الله عنه في القرآن.
النتيجة: المسلمون يمتنعون عن الربا.
السادسة: أخبرت آية السياق عن رجاء الرحمة للمسلمين بتقيدهم بطاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما خاطبت آية البحث المسلمين بصفة الإيمان، وعلّقت رجاء الفلاح على إجتناب الربا بالإضافة إلى الإيمان .
فلم تقل الآية (يا أيها الذين آمنوا لعلكم تفلحون) أو (يا أيها الذين آمنوا لعلكم ترحمون).
فهل الإيمان وحده يكفي لرجاء الرحمة من الله , أم لابد معه من العمل بمضامين وأحكام آيات القرآن، ويحتمل حكم الإيمان في المقام وجوهاً:
الأول: إنه سبب للرحمة فمن آمن بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأتيه الرحمة من الله، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الثاني: إنه جزء علة للرحمة الإلهية، فاذا نطق الإنسان بالشهادتين صار مسلماً، ويحتاج إلى أسباب أخرى لتحقق الرحمة , وتدل عليه آية البحث بتعليق الرحمة الإلهية على طاعة الله ورسوله.
الثالث: النطق بالشهادتين مقدمة لنزول الرحمة الإلهية، ولا يكفي وحده لنزولها.
الرابع: الرحمة الإلهية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فتنزل على المسلمين بالنطق بالشهادتين , وإعلان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة من الله، ولكنها ليس مثل مراتب الرحمة التي تأتي بطاعة الله ورسوله.
والصحيح هو الأول والرابع من غير تعارض بينهما، فالأول في طول الرابع، وهذا التداخل بينهما لا يمنع من تعدد مصاديق الرحمة المستحدثة التي تأتي مع عمل الصالحات، تلك المصاديق التي ليس لها حد من جهة الكثرة.
فمع كل فعل عبادي وقصد القربة تأتي وجوه متجددة من الرحمة، وتكون من وجوه كثيرة منها:
الأول: ما يأتي مع الإمتناع عن الربا.
الثاني: الرحمة الفاصلة والعامة في قيام المسلمين بالنهي عن الربا وبيان أضراره.
الثالث: مع كل فرد من طاعة الله ورسوله تأتي مصاديق كثيرة من رحمة الله عز وجل.
الرابع: تلاوة المسلم آيات الربا رحمة بالذات والغير, قال تعالى[هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
وتقدير خاتمة آية السياق(لعلكم ترحمون أكثر) ولا يعلم الكثرة في المقام إلا الله عز وجل لأنها تفوق حد التصور الذهني، وتشمل عالم الدنيا والآخرة.
وإن قلت: آية السياق ظاهرة بحصر رحمة الله بطاعته تعالى وطاعة رسوله.
فالجواب إن كل فعل لفرد من الصالحات طاعة لله ورسوله، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الرحمة) وجعل ثمة ملازمة بين تعاقب نزول المصاديق المتكثرة من الرحمة وبين فعل الصالحات ومن خصائص النطق بالشهادتين أمور:
الأول: إنه عمل صالح وفعل الخير.
الثاني: إنه مقدمة لعمل الصالحات.
الثالث: إنه رحمة وسبب لنزول رحمة الله قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ]( )، ليكون الإيمان وسيلة لاكتناز الصالحات، وطريقاً إلى اللبث الدائم في الجنة.
وتحتمل الرحمة الإلهية في المقام وجوهاً:
الأول: مجئ الرحمة من الله للمسلمين على نحو العموم المجموعي نتيجة طاعتهم جميعاً لله ورسوله أي تأتيهم الرحمة كأمة واحدة وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني: طاعة فرد واحد من المسلمين لله عز وجل ولرسوله سبب لنزول الرحمة عليهم جميعاً.
الثالث: مجئ الرحمة على نحو العموم البدلي، فكل فرد من المسلمين والمسلمات يطيع الله ورسوله تأتيه الرحمة من عند الله.
الرابع: يطيع فرد واحد من المسلمين الله عز وجل فتنزل شآبيب الرحمة عليهم جميعاً وتكون مناسبة لجذبهم لسنن الطاعة ومنازل التقوى.
الخامس: قيام الجماعة والطائفة من المسلمين بطاعة الله , فتأتي الرحمة لهم جميعاً.
السابعة: تقدير الجمع بين الآيتين(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة لعلكم ترحمون).
ترى ما هي وجوه ومصاديق الرحمة التي تأتي للمسلمين بإمتناعهم عن الربا، وطاعة الله بالتنزه عن الإستحواذ على المال كزيادة قرضية وربوية.
الجواب من جهات:
الأولى: في إجتناب الربا توكيد عملي لتقيد المسلمين بأحكام الحلال والحرام التي في القرآن، وهذا التقيد سبب لنزول الرحمة لأنه من مصاديق الطاعة لله.
الثانية: إثبات الإيمان الفعلي للمسلمين وأن قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الوارد في أول آية البحث أعم من التصديق باللسان، فيشمل ترك كسب الأضعاف المضاعفة من الأموال بغلق باب الربا، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة: وفي تفسير قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( )، (وعن ابن عباس: أنهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر فالرحمن الرقيق و الرحيم العطاف على عباده بالرزق و النعم)( ) .
والله عز وجل محيط بأفراد العوالم الطولية، الدنيا، البرزخ، المحشر، دار جزاء الناس بالجنة أو النار، وورد في الدعاء (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) ( ).
ليفوز المسلمون بالرحمة المتعددة وفي الدنيا والآخرة، لأن الإمتناع عن الربا مصداق للإيمان، فالله عز وجل رحمن بالمسلمين، ورحيم بهم لأنهم عباده الذين يعملون بأوامره، وينتهون عما نهى عنه.
بحث أخلاقي
لقد جُبل الإنسان بطبعه على حب المال، والسعي لجمعه لتحقيق أمانيه التي يكون المال بلغة لها، فهو أمر مرغوب بالذات والعرض، ويكون مناسبة للجاه ومقدمة لتحقيق الرغائب، قال الله تعالى[وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ] ( ) .
وورد لفظ(شديد) في الآية أعلاه وصفاً لحال الإنسان وتعلقه بالمال وإقتنائه (وعن الحسن: يقال للبخيل شديد ومتشدد) ( ).
وجاءت آية البحث لبيان أن الإيمان أقوى من تلك الشدة في حب المال، وهو قاهر للميل الفطري عند الإنسان لحب المال وزينة الدنيا، فترى المسلم يبذل نفسه في سبيل الله.
ويحتمل موضوع الآية، وأثره على المسلم وجوهاً:
الأول: نفرة المسلم من المال الربوي.
الثاني: التخيير والتردد بين أخذ أو ترك المال الربوي.
الثالث: ترك المال الربوي مع بقاء نفس المسلم تحبه حباً شديداً، أي أن إمتناع المسلم عن الربا لم يمح حبه وميل نفسه له، فحب الإمتناع عما نهى الله عنه ليس ضداً لحب المال، ولكنه أقوى درجة منه، قال تعالى[وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
ومع أن الخطاب في الآية أعلاه لبني إسرائيل ودعوتهم للتصديق بنزول القرآن من عند الله، فقد فاز المسلمون بالإمتثال للأمر والنهي الواردين في الآية أعلاه وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفيه تنمية لملكة الإيمان عند عموم المسلمين، ووسيلة لإحترازهم من أكل الربا.
وكأنه من باب الورود في علم الأصول وهو ورود دليل راجح ومتقدم يصير سبباً لإنعدام حكم دليل آخر في موضوع مخصوص فمثلاً، موضوع البراءة العقلية هو: عدم البيان وغياب الدليل.
علة التخيير هو عدم وجود المرجح لأحد الطرفين , أما الإحتياط فموضوعه الخوف من العقاب الأخروي , فاذا ورد دليل على أحد هذه الأصول ينتفي الحكم بالأصل كما في قاعدة لاضرر ولا ضرار إذا كان في البراءة أو التخيير أو الإحتياط ضرر لا يحتمل.
والأصل هو عدم التعارض بين الميل الفطري عند الإنسان لطاعة الله، والميل الفطري لحب المال، إلا أن الأول مقدم على الثاني عند المسلم، وهو ضابطة للثاني وسبيل لتسخيره في طاعة الله , قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ]( ).
الرابع: بقاء التضاد عند المسلم بين الحب الشديد للمال وترك الأرباح الربوية، لأن الحب أعم من الفعل وعدمه.
وقد ترى مسلماً غنياً يجري عمليات حسابية في التصور الذهني لمقادير الأرباح التي تأتي من الربا لو كان يتعاطاه وتوظيف المال في المعاملات الربوية، ويتعامل به ولكنه يجتنبه وإن كان في ميسوره، وآخر محتاجاً يتحسر على حرمانه من مشاريع عديدة لإمتناعه عن أخذ المال بالسلف والربح القرضي والربوي , كما في العروض المصرفية الكثيرة، وما فيها من الإغراء وأسباب الإفتتان.
الخامس: تقييد إطلاق حب المال الشديد الوارد في الآية أعلاه من جهتين مجتمعتين:
الأولى: دخول المسلم الإسلام ونيله شرف تلقي الخطاب القرآني[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الوارد في أول آية البحث.
الثانية: تنزه المسلم عن خصوص مال الربا وهو على وجوه:
الأول: أخذ الفائدة الربوية على المال قرضاً أو إطالة في الأجل.
الثاني: إقتراض المال الربوي، وطلب تأجير أجل الدين مع الزيادة الربوية.
الثالث: الشهادة على العقد والقرض الربوي، كتابة أو سماعاً.
الرابع: كتابة العقد الربوي إبتداءً أو إستدامة، أما الإبتداء فهو العقد الأول.
أما الإستدامة فهي الإطالة في مدة الأجل، المقترنة بالزيادة في مقدار القرض، وإلا فان الإطالة في الأجل وحدها أمر محمود، قال تعالى[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ).

بحث كلامي
قانون الخيار المقيد
من رحمة الله بالمسلمين أن الإمتناع عن الربا مقدمة وعون لهم في الإنتفاع الأمثل من مضامين آيات الأخوة والإيمان الواردة في القرآن، وهي على وجوه بلحاظ الآيتين منها:
الأول: الخطاب الوارد في أول آية البحث [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من وجوه:
الأول: تلقي المسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي خطاب التشريف.
الثاني: توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان.
الثالث: تجلي مصاديق فوز المسلمين بمرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بشهادة الله عز وجل لهم في القرآن بالإيمان، لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الرابع: غبطة وسعادة المسلمين بتلقي أبناءهم وذراريهم ولآلاف السنين ذات خطاب التشريف والإكرام، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على تعاهدهم لذات الفرائض والعبادات التي يؤدونها كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعملهم بمضامين الأحكام والسنن التي جاء بها لتصاحب المسلمين في أجيالهم المتعاقبة , ومنها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي( ).
ويحتمل ذكر الصلاة في الحديث أعلاه وجوهاً:
الأول: إرادة أداء الصلاة على نحو الخصوص والتعيين.
الثاني: ورد ذكر الصلاة في الحديث من باب المثال الأمثل، والمقصود الفرائض كلها.
الثالث: إرادة إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع: إرادة الخصوص وإرادة العموم بمعنى ذكر الصلاة لأهميتها وموضوعيتها، مع الحث على العبادات الأخرى.
ولا تعارض بين الوجوه الثلاثة الأخيرة، وكلها من مصاديق الحديث النبوي الشريف.
الخامس: إدراك المسلمين لإنفرادهم بصفة الإيمان من بين أهل الأرض، وهو موضوع إضافي للتشريف، وعلة لبعثهم لتعاهد الإيمان وصبغة التقوى.
السادس: مجيء النداء مقدمة للأوامر والنواهي، ومواضيع الأحكام.
الثاني: ترك الأرباح الكثيرة التي تأتي من الربا، ويعلم أهل الأرض أن هذا الترك طاعة لله عز وجل، وإنزجاراً عما نهى عنه.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الخيار، يختار فيها الإنسان القول والفعل الذي يراه مناسباً مع السعة والمندوحة في النية والعزم , قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
نعم هذا الإختيار مقيد وليس مطلقاً، لأن الإنسان ممكن، ومن خصائص الممكن إتصاف إختياره وفعله بالحد والحصر في حد الكثرة، فلا يستطيع تحقيق آماله، ورغائبه إلا بالقدر المحدود الذي يقدر عليه وهذه الصفة قاعدة جديدة نؤسسها في علم الكلام، إذ أنها غير مذكورة في الكتب الكلامية، ولكنها ظاهرة ومعلومة.
وهذا الإختيار على وجوه منها:
الأول: الإختيار بين المتضادين، كما في الخيار بين الخير والشر، والصلاح والفساد، وصلة الرحم وقطعها، والعمل للكسب والمعاش أو تركه وغيرها من الوجوه التي لا تحصى.
الثاني: الخيار بين الأهم والمهم، وتقديم الأهم على المهم، أو إختيار المهم وهو الذي يسمى في علم الأصول بالترتيب والذي أختلف في صحته وبطلانه كما في ترتب العقاب على إتيان المهم وترك الأهم أو في التزاحم بين واجيين، أحدهما مطلق والآخر مشروط، وسيأتي بيانه في بحث أصولي مستقل إن شاء الله.
الثالث: الخيار بين المتساويين.
الرابع: الخيار بين أمرين بينهما عموم وخصوص من وجه بمعنى أنهما يلتقيان في مادة، ويفترقان في مادة.
وهل الإنسان في خياره مختار على نحو الإستقلال.
الجواب لا، فمن فضل الله عز وجل على الإنسان سلب الإطلاق والإرادة التامة في التخيير ليكون إختياره مقيداً إذ يتقدمه ويصاحبه ويتأخر عنه اللطف الإلهي باعانة الإنسان لإختيار الحسن والأحسن، وما فيه الصلاح والنفع في الدنيا والآخرة، وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
وجاءت آية البحث بالنهي عن الربا لتكون شاهداً على قدرة الإنسان على الإختيار، وإعانته على إختيار الفعل الحسن وترك القبيح، وتتجلى هذه الإعانة بأبهى صيغة في القرآن لأنه تنزيل من عند الله عز وجل.
ليكون اللطف الإلهي في المقام على وجوه:
الأول: مجيء القرآن بالبيان والفصل في الأحكام.
الثاني: كل آية من القرآن لطف من الله.
الثالث: آيات القرآن مجتمعة لطف إضافي بلحاظ أن مفهوم كل آية تعضيد لمنطوق الأخرى.
الرابع: موافقة إدراك العقل لمضامين آيات القرآن ليكون هناك زاجر داخلي عند الإنسان عن المنكر، وحجة دائمة عليه.
الخامس: صيرورة عواقب الأمور شواهد على حكمة القرآن، وصدق نزوله من الله عز وجل وأنه برزخ دون إختيار المعصية والفعل القبيح، قال تعالى[وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه دعوة للمسلمين لدراسة أحوال وعاقبة الأمم السالفة، قال تعالى حكاية عن الظالمين منهم[إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( )، وإتصفت أسواقها ومعاملتها بالربا الظاهر الصريح، وأبتليت بالمحق والمحو التدريجي.
ليكون من عمومات قوله تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( ).
إصابة الذين يتعاطون الربا بالضرر نتيجة لمحقه ومحوه، وأن النقص الذاتي للمال الربوي بلاء يدعو الناس لإختيار البيع والمعاملات الصحيحة وفق أحكام الشريعة.
فلم تأت الآية أعلاه بخصوص المسلمين بل جاءت مطلقة ومتعلقة بذات المعاملة الربوية سواء كان طرفا العقد مسلمين أو أحدهما مسلماً أو أنهما غير مسلمين.
قانون (منافع إجتناب الربا)
إحتجت الملائــكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بســبب فســاده في الأرض، وإقدامه على القــتل كمـا ورد في التنــزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وكــان الرد والإحتجاج والبيان مـن الله عــز وجل بعلمه المطلق، وحكمته في تدبير الأمور، وأنه سبحانه تفضل على الإنسان بالعقل ثم بعث الأنبياء ليجاهد المسلمون في سبيل إصلاح الأرض والزجر عن الفساد، والربا من مصاديق الفساد في الأرض، من وجوه:
الأول: الظلم للمقترض، وأخذ الزائد عن القرض وعن رأس المال من غير بدل وعوض.
الثاني: ظلم المرابي لنفسه بأكله مال الغير.
الثالث: شيوع الكسب الحرام في الأسواق.
الرابع: تعطيل التجارات والمكاسب الحلال، وظهور الفتور في عقود البيع والشراء، وإعراض أصحاب رؤوس الأموال عن الصناعات وما فيه إحتمال الخسارة، لأن الربا مضمون الربح.
الخامس: إستيلاء الأغنياء على الثروات، ولحوق الحيف الفقراء وغيرهم من أرباب المكاسب الذين يُحملون على دفع أرباحهم وبدل جهدهم إلى الأغنياء بصورة ربا.
السادس: ترك الضعفاء في حال حسرة, والأسواق موطن للشيطان، وباعث للنفس الشهوية للنهم وجمع الأموال، والإستزادة منها مع غض الطرف عن الكيفية وأسباب الحرج، وإيذاء الطرف الآخر.
فجاء القرآن بأمر المسلمين بالجهاد والقتال في سبيل الله، وبذل الأنفس والأموال في سبيل الله، وإقترن هذا الأمر بالمعجزات الباهرات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي جعلت الناس[يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
وبعد أن كانت الآيات المكية تنزل بلغة الإنذار والوعيد والتذكير بالبعث وعالم الآخرة قال تعالى[إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا]( )، وبعد الهجرة وإنتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك آيات ضبط الأسواق، كان جزاء المسلمين لجهادهم وبعد إنتصارهم منعهم من أنواع عديدة من المكاسب ذات الخباثة، والتي تدر أرباحاً طائلة، وتجعل أموالهم(أضعافاً مضاعفة).
فجاءت آية البحث بالنهي الصريح عن الربا مطلقاً، من غير تقييده بما يسمى(ربا الجاهلية) لأن مضامين آية البحث تتغشى مصاديق المكاسب والأمصار العرضية، وأفراد الزمان الطولية وإلى يوم القيامة.
وتحتمل الصلة بين ميادين القتال والأسواق وجوهاً:
الأول: إنتفاء الصلة بين الأمرين، فيجري القتال بالسلاح، وبين طرفين بينهما عداوة وتضاد في المبدأ والعقيدة، أما الربا فهو كسب وعقد بين طرفين.
الثاني: النهي عن الربا فرع جهاد المسلمين في ميادين القتال،لأنه حرب على المعاملات الباطلة، التي تؤدي إلى ضعف المسلمين.
الثالث: الإمتناع عن الربا جهاد في عالم التجارة والأسواق، فهو نوع آخر من أنواع الجهاد.
والصحيح هو الثاني والثالث في آية تبين حقيقة وهي أن الجهاد مصاحب للإسلام، وملازم للمسلمين، ولا ينحصر بميادين القتال بل يكون بترجيح المسلمين لنداء القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي سبب لنماء قوتهم وإزدهار التجارات في مجتمعاتهم ودولهم.
لقد أراد الله للأغنياء من المسلمين السعي للنهوض في الواقع الإقتصادي لخير أمة والمساهمة في محاربة البطالة، ودفع أمراض اليأس والقنوط عن النفوس، فقوله تعالى(لا تأكلوا الربا) رحمة مزجاة للمسلمين، إمتازوا بين الأمم في الإنتفاع الأمثل منها فنالوا مرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن مصاديق خروجهم في المقام أمور:
الأول: إصلاح الأسواق.
الثاني: نشر معاني المودة والرحمة في عالم التجارات والمكاسب.
الثالث: حضور الحكم التكليفي في القصد التجاري، فيدرك الناس أنهم ليسوا مخيرين على نحو الإطلاق في الدنيا، بل لابد من الرجوع إلى أحكام الحلال والحرام.
ومن فضل الله عز وجل على الناس أن رزقهم العقل، وجعله وسيلة للتمييز بين الأشياء، والتدبر في ماهيتها، ليدركوا معه قبح الربا وأضراره الخاصة والعامة، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سماوية قوانين حرمة الربا.
الرابع: إمامة المسلمين للناس في الأسواق والتجارات بدرء المفاسد، ومنع المظالم في المعاملات.
وهل يمكن أن يدخل بعض الناس الإسلام بسبب الإعجاز والإصلاح في حرمة الربا.
الجواب نعم، فقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في زمن جدب، وبلاد فقر وكان محتاجاً للرجال وكثرة دخول الناس في الإسلام.
ولم يقم بترغيبهم بدخوله بالإذن لهم بالربا وإمضاء القول الذي يحكيه التنزيل[إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ).
ولم يسكت عن هذه المسألة، ويترك الناس وشأنهم في التجارات والمكاسب خصوصاً كان في المدينة تجار من اليهود، ويتعاطون الربا وهم أهل كتاب.
وفيه حجة من وجوه:
الأول: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ آيات حرمة الربا للناس، وتلاوتها عليهم.
الثاني: مجيء آيات القرآن بالنص الجلي على حرمة الربا، والإنذار منه.
الثالث: بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته لتفاصيل أحكام حرمة الربا، وإعانة أجيال المسلمين للعمل بها.
الرابع: تلاوة المسلمين لآيات حرمة الربا، وتلقيهم لها بالقبول وحسن الإمتثال، وفي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا]( )، ورد بالإسناد عن ابن عباس: بلغنا والله أعلم أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنو المغيرة يربون لثقيف.
فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة.
فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا وضع عن الناس غيرنا.
فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها[فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( ).
فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله، يقول الله تعالى [وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( )، (فتأخذون أكثر ولا تظلمون فتبخسون منه) ( ).
الصلة بين هذه الآية، وآية[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع: يا أيها الذين آمنوا سارعوا إلى مغفرة من ربكم).
الثانية: إتحاد جهة الخطاب في الآيتين، وعدم وجود تعارض بين الوصف بالإيمان والدعوة للمسارعة لبلوغ مراتب المغفرة، فلا يصح الظن بأن الخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا)كاف وبدل عن الإستغفار، والسعي لرجاء العفو والمغفرة من عند الله.
الثالثة: إذا كان المسلمون محتاجين للمغفرة وطلب العفو من الله، فمن باب الأولوية القطعية أن غيرهم من أهل الملل والنحل محتاجون إليها قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: إنها آية في تعلم الناس من المسلمين أسباب الحكمة والهداية.
الثانية: إقامة الحجة عليهم إذ يرون تضرع المؤمنين إلى الله بطلب العفو والمغفرة مع إنقطاعهم إلى عبادته، وإتباعهم لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: توكيد قانون مصاحبة الإستغفار للإنسان في الحياة الدنيا، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمام المسلمين والناس في سبل الإستغفار.
الرابعة: إشاعة فلسفة الإستغفار بين الناس، وبيان موضوعيتها في الحياة الدنيا، وكيف أنها سلاح في الآخرة.
وهل تصح مخاطبة الكفار بالمسارعة إلى مغفرة من الله سبحانه.
الجواب نعم، إذ أن الأمر الإلهي إلى المسلمين بالمسارعة بالمغفرة رحمة بهم وبأهل الأرض جميعاً، وهناك تباين في كيفية وطريق المغفرة بين المسلمين وغيرهم، فلا بد من دخول الإسلام أولاً، وهو سبيل النجاة ومصداق الإيمان، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
وفيه آية وهي أن دعوة المسلمين إلى السعي الحثيث إلى المغفرة ترغيب للناس بالإسلام، وأمارة على أن الإسلام دين الصلاح، وفيه أمور:
الأول: نزع رداء الإستكبار، ودعوة الناس لإقتباس دروس العبودية لله من المسلمين.
الثاني: منع المسلمين والناس جميعاً من الغلو بالأنبياء والأئمة.
الثالث: طرد خصال التجبر، ومفاهيم الظلم والتعدي والجور فالأمة التي تنشغل بالإستغفار تتجنب ضده من الذنوب والمعاصي التي تجلب الآثام، ومنها الربا ليس فقط لقاعدة إستحالة إجتماع الضدين، وإنما لنفرة نفوسهم من الباطل والمعاصي، ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، التحلي بالتقوى والصلاح.
الثالثة: جاء لفظ(يا أيها الذين آمنوا) تسعاً وثمانين مرة في القرآن، وكل واحدة منها مدرسة في فلسفة الإيمان بالذات وموضوع الخطاب.
وجاء مبحث(الصلة بين الآيات) في هذا السِفر وهو أعظم وأهم وأوسع مبحث في تأريخ الإنسانية، وفيه وجوه:
الأول: فتح آفاق من العلم تفوق حد التصور.
الثاني: إنه مرآة للنعم والفضل العظيم الذين أعده الله للأمة التي يخاطبها سبحانه بالنداء(يا أيها الذين آمنوا).
الثالث: تبيان حقيقة وهي أن موضوعات ومصاديق هذا النداء من اللامتناهي.
الرابع: إنه دعوة للتدبر والسياحة في كنوز القرآن، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]( ).
ويتجلى في المقام بحرف العطف(وسارعوا) إذ أنه يدل على إتحاد الخطاب في هذه الآية والآيتين السابقتين، ومنها الآية محل البحث.
الرابعة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التنزه عن الربا، وليس من حصر لصيغ منعهم عنه، ومنها في المقام أمور:
الأول: النهي الصريح الوارد في آية البحث (لا تأكلوا الربا) وما يتضمنه من إطلاق المنبع عن الربا.
الثاني: إكرام المسلمين بخطاب(الذين آمنوا) وما فيه من البعث على التقيد بأحكام الحلال والحرام الوارد في التنزيل.
الثالث: حث المسلمين على تقوى الله، ومن مصاديقها الإبتعاد عن الربا موضوعاً وحكماً، ومن مصاديق التقوى الخشية من الله.
الرابع: مبادرة المسلمين إلى طلب المغفرة من الله، وهذه المبادرة على وجوه:
الأول: إجتهاد المسلم على نحو الإستقلال والقضية الشخصية لنيل المغفرة من الله عز وجل.
الثاني: ســعي المسلمين مجتمعين لسؤال العفو والمغفرة من الله عز وجل.
الثالث: دعاء المسلم لأخيه المسلم، وسؤال العفو والمغفرة له، وفي الحديث القدسي(ادعني بلسان لم تعصني به)( ).
الرابع: دعاء الحي من المسلمين للميت منهم، كما في دعاء الابن لأبيه وأمه.
الخامس: سؤال ودعاء اللاحق من المسلمين للسابق منهم، وفي التنزيل[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ]( ).
وهل يشمل الدعاء أعلاه الذين أخذوا الربا أم أنه خاص بالسبق بالإيمان بدليل القيد الوارد في الآية.
الجواب الأصل هو تنزه المسلمين عن الربا، وإمتناعهم عنه، إلا أنه على فرض وجود فرد قد أخذ الربا فإن الدعاء وسؤال المغفرة يشمله والله واسع كريم لكفاية صرف الطبيعة من الإيمان، وفيه آية في تفضيل المسلمين وبلوغهم مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بأن ينقطع الفعل من العبد قهراً بإنتقاله إلى عالم الآخرة ودار الحساب بلا عمل، ولكن حكم وأثر الإستغفار وسؤال العفو له لم ينقطع لأن المسلمين يدعون له طوعاً وإنطباقاً بتلاوة آيات القرآن التي تؤكد على التوبة وتدعو إلى العفو.
وهل في الإستغفار للميت من المسلمين دعوة للتمادي في المعاصي، لأن المسلم يدرك حقيقة وهي مجيء أجيال المسلمين اللاحقة بالإستغفار له.
الجواب لا، من وجوه:
الأول: وظيفة المسلم الإستغفار وهو زاجر ذاتي عن الذنوب، وسبب للنفرة منها.
الثاني: يقوم المسلم بالإستغفار للذين سبقوه من المسلمين، ليدرك معه الحاجة للتنزه عن المعاصي، وأنه وسيلة لقبول الدعاء.
الثالث: مع إدراك الشاب المسلم سن البلوغ تتوجه له أحكام التكليف ومنها الإمتناع عن الربا.
الرابع: دعوة المسلم للمسارعة إلى المغفرة واقية من أكل الربا، وبعث للصلاح وتهيئة مقدمات وأسباب الإستغفار.
الخامسة: تحتمل الصلة بين الإيمان وسؤال المغفرة وجوهاً:
الأول: دخول الإسلام ذاته سؤال ورجاء للمغفرة، وسبب للفوز بها، قال تعالى[وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى] ( ).
الثاني: دخول الإسلام مقدمة وطريق مبارك للمغفرة، ولكنه ليس علة تامة، فيجب معه عمل الصالحات.
الثالث: لابد من سؤال المغفرة من المسلم كشرط لنيل المغفرة.
الرابع: الفوز بالمغفرة أعم من السؤال لطلبها، فإنه أمر بيد الله عز وجل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من سبل طلب مرضاة الله عز وجل.
وجاءت آية العفو والمغفرة بالتقيد بعمل الصالحات بالإضافة إلى الإيمان، وتوكيد الملازمة بينهما التي تدل على لزوم قصد القربة في فعلها، قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
السادسة: جاء في أول آية البحث الفعل الماضي(آمنوا) بينما إبتدأت آية السياق بفعل الأمر(سارعوا).
مما يدل على أن الموضوع الذي يجب أن يسارع إليه المسلمون غير الإيمان، إذ تدل صيغة الماضي على الوقوع والثبوت، بينما فعل الأمر يبعث على الفعل، وتحتمل النسبة الموضوعية بينهما وجوهاً:
الأول: التساوي بينهما، فجاء كلا الفعلين بموضوع متحد.
الثاني: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الثالث: العموم والخصوص المطلق، فالفعل المأمور به فرع الإيمان بلحاظ أن الإيمان هو الأصل.
الرابع: التباين والتنافي بين الموضوعين.
والصحيح هو الثالث، فقد أحرز المسلمون مرتبة الإيمان فتوجهت لهم التكاليف وجاءت الأوامر الإلهية بما فيه خير الدنيا والآخرة.
وفي تفسير قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ](قيل سارعوا إلى الإسلام عن ابن عباس و قيل إلى أداء الفرائض عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)( ).
وفيها وجوه وأقوال أخرى نتعرض لها إن شاء الله في تفسير الآية وكلها ذات ودلالات عقائدية منها:
الأولى: البعث على طاعة الله.
الثانية: طلب مرضاة الله.
الثالث: السعي في سبيل الله عز وجل.
الرابع: إجتناب المعاصي التي هي سبب للآثام والأوزار ، ومنها أكل الربا.
الخامس: ذات الإستغفار طاعة لله عز وجل، ومناسبة لذكر الله قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
فإن قلت لو كان المسلم لم يتعاط الربا ولم يأكل الأموال الربوية، فهل يبادر إلى المغفرة.
الجواب نعم، فإن تلك المبادرة جاءت مطلقة من غير تقييد بفعل، ولا تترتب المسارعة إلى الإستغفار على حال مخصوصة.
فإن قلت أن ظاهر الجمع بينها وبين آية البحث تقييدها بالإيمان، وأن المسارعة للمغفرة تكون مع الإيمان، والجواب من وجوه:
الأول: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ومن مصاديق وتفسير الآية أعلاه: (سارعوا إلى التوبة)، وكل إنسان مدعو للتوبة وطلب المغفرة.
الثاني: إذا كانت المبادرة إلى التوبة وطلب المغفرة واجباً على المسلمين، فهي واجب على غيرهم من أهل الكتاب والكفار من باب الأولوية القطعية.
الثالث: المغفرة منزلة عظيمة لا يفوز بها إلا من رحمه الله، وكل إنسان مدعو للسعي لها، نعم، لا يتحقق مصداق هذا السعي إلا بالإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإجتناب الربا الذي هو آفة وسبب لإرتكاب آثام أخرى منها:
الأول: أخذ المال بالباطل.
الثاني: إشاعة الظلم والجور في المعاملات وأبواب المكاسب.
الثالث: الإنغماس بالمعصية وأكل المال الحرام.
بحث منطقي (في الربا)
من القواعد الفطرية عند العقلاء إستحالة تخلف المعلول عن علته، فإذا وجدت العلة فإن المعلول يكون موجوداً على نحو قهري وإنطباقي، فإذا طلعت الشمس حلّ النهار، وإذا أطلّ على الأرض هلال شهر رمضان وجب الصيام، قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
وتقسم العلة إلى أقسام أربعة، وهذه الأقسام ليست بعرض واحد، فالأول هو الأصل وباقي الأقسام فروع، لأن الخلق رشحة من بديع صنع الله، وهو سبحانه[عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) والأقسام هي:
الأول: العلة الفاعلية، وهي سبب وجود الشيء ويطلق عليها(ما منه الوجود) والله عز وجل هو الخالق والبارئ، وليس من شيء في الوجود إلا منه تعالى.
وهناك فرع آخر من العلة الفاعلية، وهو الذي يكون سبب وجود الشيء، كما في البنّاء للدار، والنجار للكرسي ونحوه، ويسمى(ما به الوجود) لأنه ليس علة تامة لوجود الشيء بلحاظ أن أجزاءه موجودة أصلاً فهو لم يأت بها من العدم، ولكنه جمعها، وهو ذاته ممكن محتاج إلى العلة في وجوده إبتداء وإستدامة، ففي كل أوقات بناء البنّاء وعمل العامل، هو محتاج للعلة الفاعلية في وجوده، وحركة أعضائه، لإستحالة إستدامة وجود الممكن بلا علة.
وبالنسبة لمضامين آية البحث فإن الله عز وجل بيده بقاء المال عند المسلم وغيره وهو الذي خلقهم وما يملكون، هو الذي حرّم الربا، وتوعد عليه العذاب الأليم.
وهل من العذاب تعجيل العقوبة للذي يأكل الربا الجواب نعم، وهو من مفاهيم قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب أن الله عز وجل لطيف بعباده يبعدهم عن منازل المعصية.
فجاءت آية البحث لتوكيد سلامة المسلمين من العذاب العاجل، والعقاب الدنيوي بتنزههم عن الربا وإن كان يجلب الأموال الطائلة والأرباح الكثيرة.
وهل تتعلق آثار العذاب العاجل بذات الشخص الذي تنزل بساحته لأنه يأكل الربا، أم تشمل غيره أيضاً بلحاظ أن أكل للربا إضرار بالغير، ونوع برزخ عن عبادتهم لله، الجواب على وجوه:
الأول: تتعلق آثار العقاب والعذاب العاجل بصاحب المعصية الذي يصر على أكل الربا، لتكون تلك الآثار والعواقب إزاحة للبرزخ الذي قد يشغل الناس عن عبادة الله عز وجل، وطرداً للغشاوة التي تكون على بصر وبصيرة الإنسان وتمنعه من رؤية أضرار الربا.
وهو من مصاديق وجوه الرحمة الإلهية التي تصاحب الإبتلاء الذي تتصف به الحياة الدنيا، فمع كل إبتلاء تكون مصاديق الرحمة آلة تجذب الإنسان إلى إختيار العمل الصالح والأمر الحسن، وتبعده عن المعصية والأمر السيء ومنه أكل الربا، وإجراء عقوده.
الثاني: العلة المادية: وهي الماهية والذات التي يتكون منها الشيء، ويكون قابلاً للصورة والهيئة، وتسمى(ما فيه الوجود) كالخشب للباب، والخيط للثوب، والآجر للبناء، ومادة هذه الأشياء من المركب والأجزاء المتعددة.
ومادة الربا هي الأموال فهي التي تكون موضوعاً للقرض، ويترتب على طلب الزيادة فيه حكم الربا، فإذا لم تكن هناك أموال تكون سالبة بإنتفاء الموضوع، ولا يكون هناك موضوع للربا، لذا يدل نهي الله للمسلمين عن الربا على بشارة مجيء الأموال الكثيرة لهم، مع فرص العمل وأسباب الكسب في التجارات والصناعات.
وهل من ملازمة بين الأموال والربا حيث وجد المال، الجواب ليس من برهان على هذه الملازمة فلا يصح القول بلغة اللوم: لولا المال لما حصل الربا، أو يقال: لم يحصل الربا فيقال: لوجود المال).
فالمال نعمة من عند الله على صاحبه وغيره من الناس، والربا معصية، نعم المال مادة للإفتتان، قال تعالى[وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
ويتجلى الإعجاز في الآية أعلاه بإقتران الأجر والثواب بالأموال والأولاد، والتذكير والترغيب بهذا الأجر، والندب إليه والذي لا يتحصل إلا بأمور:
الأول: الإمتناع عن المعاملات الربوية على نحو الإطلاق، أخذاً وإعطاءً وشهادة كتابة.
الثاني: الحرص على عدم أكل الأولاد ذكوراً وإناثاً من أموال ربوية.
الثالث: تأديب الأولاد على التنزه عن الربا والإبتعاد عنه.
الرابع: إستحضار ذكر الله، والتطلع إلى فضله تعالى، والرضا برزقه قد يقال إذا لم يكن المال هو مادة الربا فما هي مادته.
الجواب المال جزء مادة أما الجزء الآخر فهو العزم على العناد، والإصرار على المعصية.
الثالث: العلة الصورية: وهي الصورة التي تتجلى بها المادة، ليعرف ذات الشيء بإجتماع المادة والصورة، فقد تتشابه الصورة، ولكن المادة مختلفة، كما في المركبتين من ذات النوع، وقد يكون العكس بأن تتشابه المادة ولكن الصورة مختلفة كما في الصناعة الواحدة من جنسين مختلفين كصناعة الكرسي من الخشب والحديد وقد توهم الكفار إتحاد صورة ومادة البيع والربا، وورد في التنزيل[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
فصحيح أن الآية جاءت بذكر التمايز بينهما بالحلية والحرمة، بحلية البيع وحرمة الربا إلا أنه أعم في موضوعه لأن الآية جاءت لذم قولهم بالتشابه بينهما، الأمر الذي يدل في مفهومه على الإختلاف والتباين بينهما في المادة والصورة، ولا تأخذ الأموال في البرهان على وجود الربا، لا يقال(لم صار الربا بين الناس فيقال جواباً: لأن بعضهم غني وبعضهم محتاج).
فالله الذي حرم الربا هو الذي قسم الأرزاق بين الناس وذات الأرزق وقسمتها رحمة بهم جميعاً، إنما صورة الأموال هي الزينة وهي مادة لبعث البهجة في النفوس، وقضاء الحوائج، ونشر معاني التعاون والإعانة فيما بينهم، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
ومن خصائص الزينة أنها ظاهرة جلية، وتبعث السرور والسكينة في النفس، مما يدل على أن الربا ليس من خصال ونعوت المال، لحرمة الربا، ودلالة حرمته على قبحه الذاتي والعرضي للملازمة بين التحريم والقبح، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الزيادة الربوبية ليست من أموال الشخص التي هي زينة، لأنه أكل لمال الغير بالباطل، قال تعالى في لطف وتحذير للمسلمين[وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( ).
الرابع: العلة الغائية: وهي الغاية من وجود الشيء، ويقال لها(ما له الوجود) أي الذي لأجله صار الشيء كما في بناء الدار للسكن، والمركبة للنقل.
وليس الربا علة غائية للمال وجمعه، بل هو سبب للنفع الخاص والعام، والربا ضرر على الذات والغير، لذا وردت اللعنة على نحو متعدد ودفعي للذين يتعاطونه ويشاركون فيه، فليس من موضوعية للبرهان في جمع المال، فإذا قيل لصاحب المال: لم جمعت هذا الأموال، فلا يجيب لكي أتعاطي الربا.
وهناك مســألة ما هي الصلة والنسبة بين العلة الغائية للأموال والعـلة الغائية للــربا، الجواب بينهما تناف وتباين فلقد جعل الله عز وجل الأموال نعمة ورحمة للناس، ونشر معاني الود والمحبة بين الناس، وإيجاد ضوابط وقوانين من المعاملات تحكم الصلات بينهم، وهي باب لجني الحسنات والأجر والثواب من وجوه:
الأول: دفع الزكاة والحقوق الشرعية.
الثاني: إتخاذ الأموال مادة ووسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: الإنفاق طاعة لله عز وجل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
الرابع: إتخاذ الأموال عوضاً وبدلاً لحاجات البدن والنفس.
الخامس: الأموال مادة للإمتحان والإبتلاء، ليفوز المسلمون بجمعها من وجوه شرعية، والتصرف فيها بما أحل الله عز وجل.
السادس: السلامة من المعصية في نعمة الأموال بإجتناب الربا، وعدم جعلها بلغة للربا والمعاملات الباطلة.
ترى هل يتخذ الربا علة لأمر آخر، الجواب الربا سبب لجمع الأموال والأرباح الكثيرة، ولكن بالباطل والمعاملة الفاسدة، والربا محرم ذاتاً مما يدل على حرمة ما يتفرع عنه وإتخاذه وسيلة لجمع الأموال.
وتبقى الأموال الربوية على ملك أصحابها، مما يدل على أن الأصل هو عدم إعتبار الربا علة لجمع الأموال، لأن الأرباح الربوية باقية على ملك أهلها، وفيه مسائل:
الأولى: فيها زجر إضافي عن الربا.
الثانية: الحكم ببقاء المال الربوي على ملك صاحبه دعوة للناس عامة للنفرة من التصرف بهذا المال، ولذا جاء النهي عن أكل المال الربوي.
وهل في الزيادة الربوية فتنة بالمال الربوي، الجواب ليس من فتنة في المقام ولكنه من الحكم بالحق وفي التنزيل[يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( )، فأكل المال الربوي لا ينحصر موضوعه بصاحبه، بحيث إذا أصر على الباطل يترك وشأنه، بل يأتيه الذم واللوم من الناس، ويدرك أن صاحب المال الربوي يشعر بأنه ملحق بالمغصوب.
الثالث: السعي في موارد الكسب الحلال لأن قوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
ويتضمن الوعد الإلهي الكريم بأن عقود البيع والشراء الخالية من الربا تأتي بالأرباح الكثيرة والأموال الزاكية النامية، والتدبر في العلة الغائية للأموال، ولزوم تسخيرها في طاعة الله وإتخاذها بلغة للفوز بمنازل السعادة والغبطة في الآخرة، قال تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ويمكن تقسيم العلة تقسيماً آخر وهو:
الأول: العلة الخارجية وهي العلة الفاعلية، والعلة الغائية.
الثاني: العلة الداخلية: وهي مادة الشـــيء وصــورته، وبــدون العلة الخــارجية لا يكون للممكن وجود خــارجي، ويتجلــى موضوعها بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فإن خلق الإنســـان بمشـــيئة الله عز وجل، وأن العلة الغائية هي العبادة.
ومن أهم مصاديق العبادة طاعة الله فيما أمر به، وطاعته بإجتناب ما نهى عنه، والإبتعاد عن المحرمات ومنها أكل الربا، ليفوز المسلمون بتنزههم عن الربا وإجتنابهم الذنوب بالمغفرة والرضا من الله عز وجل.
صلة (وسارعوا إلى مغفرة) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: لا تأكلوا الربا وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.
الثاني: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وأتقوا الله.
الثالث: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم لعلكم تفلحون.
الثانية: جاءت آية البحث بالنهي الصريح عن أخذ الزيادة الربوية بينما جاءت آية السياق بالأمر بالمبادرة إلى التوبة، والسعي للفوز بالمغفرة.
وكل من الآيتين جاءت بصيغة الجمع، وتوجهت إلى المسلمين والمسلمات جميعاً، ومع التباين في صيغة التكليف في الآيتين إذ جاءت الأولى بالنهي، والثانية بالأمر فإن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فالإمتناع عن أكل الربا من المسارعة إلى المغفرة.
فإن قلت القدر المتيقن من المسارعة العزم وإتيان الفعل والمسارعة والمسابقة فيه، والجواب من وجوه:
الأول: المسارعة للمغفرة أعم من الفعل فتشمل الإمتناع عما يكون سبباً لحجب المغفرة، وبرزخاً دون ولوج أبواب العفو.
الثاني: من أهم أســــباب المغفرة إجتنــاب المعاصــي طاعة لله عز وجل قال تعالى في وصف المؤمنين والثناء عليهم[وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ]( ).
الثالث: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإبتلاء، وهي مملوءة بأسباب الإمتحان، فجاءت الأوامر والنواهي من عند الله للسلامة من الإبتلاء والعصمة من الإفتتان وليكون الإمتثال لها وسيلة لنيل المغفرة.
الرابع: ترك الربا أمر وجودي يســتلزم القصد وإرادة طاعة الله وفيه إعــلان لحبه والإقرار بعالم الآخــرة، والشوق للقاء الله عز وجل.
الثالثة: لما أمر الله عز وجل المسلمين للمسارعة إلى مغفرة منه تعالى فلابد أنه يتفضل ويجعل سبل المغفرة في القرآن، وتحتمل تلك السبل وجوهاً:
الأول: ورودها في القرآن على نحو الإجمال.
الثاني: مجيء شطر من تلك السبل في القرآن.
الثالث: ورود مصاديق من سبل المغفرة على نحو المثال والمسمى وصرف الطبيعة.
الرابع: ذكر مصاديق المغفرة في القرآن.
والصحيح هو الرابع من وجوه:
الأول: لقد تفضل الله عز وجل وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني: الملازمة بين العبادة والسعي إلى المغفرة، وكل فعل عبادي من صلاة أو صوم أو نسك هو طلب ورجاء للعفو والمغفرة.
الثالث: تلاوة آيات القرآن طلب للمغفرة، وكذا التدبر في مضامينها القدسية.
وكل من آية البحث وآية السياق من المسارعة إلى المغفرة، وهو من إعجاز القرآن بأن تكون الآية التي تأمر المسلمين بالمسارعة إلى العفو والمغفرة هي نفسها مسارعة في المغفرة، ومناسبة للعفو وكذا بالنسبة لآية البحث فإنها وسيلة مباركة للعفو والمغفرة من وجوه:
الأول: تلاوة الآية والتدبر في مضامينها القدسية.
الثاني: التفقه في الدين عند تلاوة الآية، ومعرفة أن الربا والزيادة القرضية محرمة.
الثالث: عزم المسلمين على العمل بأحكام الآية، وإجتناب أكل المال الربوي.
الرابع: ترك المسلمين للأرباح الربوية مع كثرتها.
الرابعة: إن الفوز بالمغفرة من الله عز وجل باب للرزق الكريم، ومجيء الأموال الطائلة بالكسب الحلال، وفي التنزيل حكاية عن نبي الله نوح[فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( )، وكذا ورد عن هود عليه السلام( ).
ترى ما هي النسبة بين المسارعة إلى المغفرة وبين الإستغفار، فيه وجوه:
الأول: التساوي بينهما، فالإستغفار هو نفسه المسارعة للمغفرة.
الثاني: نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى: الإستغفار فرع المسارعة إلى المغفرة.
الثانية: المسارعة إلى المغفرة فرع الإستغفار.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء بينهما، ومادة للإفتراق.
الرابع: التباين بين الإستغفار والمسارعة إلى المغفرة.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني، فالإستغفار سؤال باللسان، ويتجلى بقول المسلم: أستغفر الله، أو: أستغفر الله ربي وأتوب إليه.
أما المسارعة إلى المغفرة فهي المبادرة إلى فعل الخيرات والصالحات.
ومن مصاديق الإمتحان في الحياة الدنيا أن الله عز وجل ينهى عن باب من الكسب الحرام ليدعو الناس إلى أبواب كثيرة من الرزق الحلال، والتنعم بالحلال، قال تعالى[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ]( ).
ومن اللطف الإلهي أن تلك الأبواب قريبة منهم، وذات نفع عام وشامل لهم جميعاً، وهو من مصاديق رحمة الله في الدنيا بالناس برهم وفاجرهم ويكون طلب الرزق بالنسبة للمسارعة إلى المغفرة على وجوه:
الأول: السعي للرزق الحلال هو سعي إلى المغفرة.
الثاني: سؤال الرزق من الله إقرار بربوبيته المطلقة، وتسليم بأن مقاليد الأمور كلها بيده تعالى، وهذا الإقرار من سبل المغفرة.
الثالث: يدل طلب الرزق على الحاجة إلى الله عز وجل، وكل ممكن محتاج، قال تعالى[وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]( ).
والإنسان من عالم الممكنات، لذا يجب عليه التنزه عما نهى الله عز وجل عنه، ومنه الربا.
الرابع: إن المسارعة إلى المغفرة طلب للرزق الكريم، وواقية من الربا والمكاسب المحرمة.
الخامسة: هل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذه المسارعة الجواب نعم من وجوه:
الأول: من مصاديق الخير والصلاح الأمر بهما، والدعوة لهما وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ) ( ).
الثاني: جاءت آية السياق بصيغة الجمع(وسارعوا) ليتعاون المسلمون فيما بينهم في سبل المغفرة، ومن أسمى مصاديقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الثواب فيه مركب ومتعدد من جهات:
الأولى: الأمر بالمعروف من سبل المسارعة إلى المغفرة.
الثانية: إمتثال المسلم للأمر بالمعروف من المسارعة إلى المغفرة.
الثالثة: إشاعة مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس من المسارعة إلى المغفرة، ودعوة جلية وظاهرة للإصلاح وزجر عن الفساد، والتجاهر بالفسق، ومنها أكل الربا وتعاطي معاملاته علانية.
الرابعة: كل فرد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سعي في مرضاة الله وسلاح ضد أكل الربا، وإن لم يكن بخصوص موضوعه، وتلك آية في فلسفة التكاليف، وتقريب الناس من سبل الطاعة.
فقد لا يستحضر المسلم حرمة الربا على نحو الدوام، ولكنه محترز من الغفلة والجهالة، ويعلم أن الربا محرم ولابد من إجتنابه، ويأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليذكره بحرمة الربا وإن كانا، أي الأمر والنهي، في موضوع آخر يتعلق بالعبادات أو المعاملات أو الأحكام.
السادسة: جاءت آية البحث بالأمر للمسلمين بتقوى الله، والخشية منه.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حُرِّمتْ الجنةُ على الأنبياء حتى أدخلها أنا ، وحُرّمتْ الجنة على الأُمَمِ حتى تدخلها أمتي) ( ).
والنسبة بين التقوى وبين المسارعة للمغفرة على وجوه:
الأول: المسارعة إلى المغفرة من مصاديق تقوى الله.
الثاني: بين التقوى والمسارعة إلى المغفرة عموم وخصوص مطلق، وهو على شعبتين:
الأولى: المسارعة إلى المغفرة فرع التقوى.
الثانية: التقوى فرع المسارعة إلى المغفرة.
الثالث: بين التقوى والمسارعة للمغفرة عموم وخصوص من وجه، وبينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع: التساوي بينهما.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني، ليكون عطف المسارعة إلى المغفرة بحرف العطف الواو في(وسارعوا)من عطف الخاص على العام، وكل فرد من تقوى الله هو مسارعة إلى المغفرة، سواء كان هذا الفرد فعلاً أو تركاً، ومن الترك الإمتناع عن الربا.
لتكون التقوى ملكة ثابتة عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين تكون واقية ذاتيــة من الفواحــش وضروب الظلم، ومنها الربا وأكل المــال بالباطل .
قال تعالى في وصف القرآن , والترغيب في تلاوته والعمل بمضامينه، وحسن عاقبة المؤمنين [هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ]( ).
إن تقـــوى الله علة تامة لإجتناب الربا لأن الله عز وجل هو الذي نهى عن الربا، فلا تصل التوبة إلى إستحضار أضرار الربا، والتوصل إلى حرمته من خلال ذكر هذه الأضرار، والشواهد تؤكد الضرر العام والخاص الذي لحق بالناس من المعاملات الربوية.
فحينما قال تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] فلا بد للمتقين من إجتناب الربا جملة وتفصيلاً، وأخذاً وإعطاءً وبيان أضرار الربا، وفلسفة النواهي القرآنية، وأنها سبيل للصلاح وتنمية للأخلاق الحميدة.
الثامنة: ذكرت آية البحث اسم الجلالة(الله) وأمرت المسلمين بالتقوى والخشية منه، أما آية السياق فذكرته باسم الرب، وأنه رب المسلمين(ربكم).
وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فالله عز وجل رب ومالك الناس والخلائق جميعاً، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وجاءت الآيات بحث الناس على الخشية من الله وهو ربهم جميعاً قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، وورد لفظ(الرب) وهو من أمهات الأسماء الحسنى في آية السياق لأمور:
الأول: بعث السكينة في قلوب المسلمين بالإخبار بأن الله ربهم، وهو الذي يهديهم لسبل الفلاح.
الثاني: بيان حاجة المسلمين للمسارعة إلى المغفرة.
الثالث: قرب رحمة الله عز وجل من المسلمين لأنه سبحانه ربهم وخالقهم والذي تتوالى نعمة عليهم، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابع: بعث الأمل في نفوس المسلمين لنيل المغفرة، فمن معاني الربوبية في المقام الرحمة والعفو.
الثامنة: النهي عن الربا من مصاديق الــدعوة إلى المغفــرة ليكــون إمتناع المســـلمين عن الربا من المســـارعة في ســــبل المغفــرة قال تعــالى[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ]( )، وفيـــه آية مـــن الله عــز وجل بأن يجعل الثواب على ترك الربا عظيماً، ومتصلاً ويتغشى أيام الدنيا والآخرة.
وفيه شاهد بأن مضامين آية الربا رحمة بالمسلمين، ومن مصاديق فوزهم بالإختصاص بنيل مراتب المغفرة ومن رحمة الله عز وجل بالمسلمين أنه يأمرهم بالمسارعة إلى المغفرة، وقد جعلهم مسارعين لها بالفعل عند الإمتثال لأوامره ونواهيه لتكون مصاديق المسارعة إلى المغفرة على وجوه:
الأول: كل أمر من الله في الواجبات والمستحبات.
الثاني: كل نهي من الله عز وجل، ومنه النهي عن الربا.
الثالث: كل إمتثال للمسلم في أي فرد من أفراد الأوامر الإلهية، كما في تعدد الصلوات الخمسة في اليوم الواحد، فكل فرد منها علة ومادة للفوز بالمغفرة، ليكون من فضل الله عز وجل تجدد مصاديق المسارعة إلى المغفرة في اليوم والليلة.
وتكون الحياة الدنيا للمسلمين(دار المسارعة إلى المغفرة) وليس من أمة نالت هذه المرتبة من بين أهل الأرض إلا المسلمين، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: كل إجتناب من المسلم لأمر نهى الله عز وجل عنه هو مسارعة إلى المغفرة، وفي آية السياق أمور:
الأول: الترغيب بالتنزه عن الربا.
الثاني: إنها برزخ دون الإنغماس في المعاملات الربوية.
الثالث: تبعث الآية الحذر والحيطة في نفس المسلم من الربا، لأنه يتعارض مع سبل المسارعة إلى المغفرة التي تمتلأ نفس المسلم بالشوق لإنتهاجها وولوج سبلها.
بحث تجاري
قد يقال إن المعاملة الربوية لا تخلو من منافع في بعض الحالات كالذي يأخذ القرض الربوي .
ويقوم بتأسيس مشروع، وتوظيف القرض في البناء والكسب والتجارة والصناعات، كما لو إشترى آلات للعمل، وهو أفضل له من البطالة والقعود عن العمل .
ويكون النفع فيه عاماً لا ينحصر بشخصه، فبدل أن يجلس عن العمل فإنه يزاول العمل، وقد يقوم بتشغيل آخرين معه، وفيه تخفيف من البطالة، وحرب على الفساد والعادات المذمومة التي تترشح عن البطالة كالغيبة والسرقة، وحدوث الجناية، والجواب من وجوه:
الأول: جاء النهي عن الربا من عند الله عز وجل وهو سبحانه يعلم ماهية الأشياء، وعواقب الأمور[إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثاني: لا تنحصر مواضيع وآثار الربا على الجانب التجاري والبيع والشراء وتنشيط السوق، بل تشمل العقائد والإقتصاد والأخلاق.
الثالث: أثر الربا أعم من أن يختص بأفراده وزمانه، بل يتعدى أطرافه لتنعكس سلباً في المجتمع بصيغ الكسب واللجوء إلى الفوائد الربوية.
الرابع: إذا كان الربا بعثاً للمقترض للعمل فإنه سبب لتعطيل الطرف الآخر وهو صاحب المال لأنه يأخذ المال الربوي من غير أن يبذل الوسع في الكسب، وهو أهم من الطرف الآخر، لأنه صاحب أموال، والأمة تحتاج توظيفها في المكاسب والمصالح والصالحات، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الخامس: إذا كانت بعض حالات الربا سبباً لقيام أحد أطراف المعاملة الربوية وهو المقترض بالسعي والكسب، فإن الله عز وجل تفضل على الناس جميعاً والمسلمين خاصة بأبواب من العقود والمعاملات الشرعية تبعث أطراف المعاملة جميعاً على السعي والكسب، وهو كسب حلال ومبارك، ومنها:
الأول: العمل بالأجرة عند صاحب المال.
الثاني: المضاربة بأن يكون المال من شخص، ليضرب العامل في الأرض للتجارة، ويكون الربح بينهما , قال تعالى في وصف طائفة من المؤمنين [وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
الثالث: الإقتراض والسلف، ويقال لمن إشتغلت ذمته المدين، والمديون، ولصاحب المال الدائن والغريم، ولا تصل النوبة إلى الصدقة والإعانة لأن المقام يتعلق بالعمل والكسب مع جواز توظيف الصدقة للعمل، وشراء آلة للكسب.
ولو إنحصر الأمر بين قبول الصدقة وأخذ المال الربوي، فيجب الأول، لأن الربا محرم على أطرافه، ليس فقط على الذي يأكل المال الربوي بل حتى على الذي يقترض بشرط دفع الزيادة القرضية.
الرابع: جاءت اللعنة والذم لأطراف عديدة في الربا ومنهم الشاهد والكاتب والوكيل لبيان أن أضرار الربا وموارد الإبتلاء فيه شديدة ومتعددة , بينما جاءت البشارة بالثواب في القرض والكسب للعيال، وبالإسناد عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :كل قرض صدقة) ( ).
وهل يتنافى تلقي الصدقة مع عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، الجواب لا، فالصدقة من مصاديق العزة لما فيها من أسباب قضاء الحاجة، والمنع من الذل والظلم، وليس في الصدقة إلا الأجر والثواب.
أما الربا ففيه الإثم والوزر في الدنيا والآخرة، والصدقة يمتلكها الفقير وتكون وسيلة للثبات في منازل الإيمان، وقد تصير باعثاً على العمل والسعي للإكتفاء.
أما أخذ المال الربوي فإن الربح الذي يأتي منه خاص بصاحب المال، من غير أن يبذل جهداً في تحصيله.
وقد لا يكون في القرض الربوي ربح وكسب ولكن صاحب المال لا يعذر المدين، ويريد الزيادة الباطلة بكل الأحوال مما يسبب الأذى ويحدث الضرر.
بحث تأريخي
من إعجاز الآية أنها وردت بلفظ (أضعافاً مضاعفة)، لإرادة بقاء رأس المال مع ورود زيادة ونماء عليه، لتدل الآية على خصوصية في الربا وهي بقاء أصل المال وطرو زيادات عليه، بخلاف التجارة والبيع والشراء فقد تصيب المال فيه خسارة، وقد يبيع الإنسان السلعة بأقل من سعر الشراء أو تتعرض للتلف قبل بيعها.
أما الربا فإن المال باق على أصله مع مضاعفته، ليكون مادة للإبتلاء والإمتحان.
وقد إبتلى الله عز وجل أهل القرية من بني إسرائيل بالكسب المنهي عنه في زمان مخصوص، قال تعالى[إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا]( )، إذ أن الصيد محرم عليهم يوم السبت، فإبتلاهم الله بمجيء الحيتان والسمك الكبار في السبت مثل الكباش البيض، ثم تغوص في الماء لا تخرج إلا في السبت، وكأنها أدركت الأمن يؤمئذ، فعمدوا إلى الإحتيال في إصطيادها.
(عن ابن عباس اتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها و لا يمكنها الخروج منها فيأخذونها يوم الأحد) ( ).
أما الربا وأرباحه فهو إبتلاء عام يشمل أهل الملل كلهم، ففاز المسلمون بالتعفف عن الأضعاف والأموال الطائلة التي تأتي من الربا، وبذا نالوا مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد لازم المعاملات الربوية النهي عنها بل هو متقدم عليها زماناً، بلحاظ أنه حكم شرعي يعلمه الأنبياء، وآدم عليه السلام أول من وطأ الأرض، وهو نبي رسول وجاء بالنهي عن الربا ثم إستمر الصراع بين الربا والنهي عنه، بين الذين يستحلون الربا ويقولون أنه كالبيع، إلى أن بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتتعاهد أمته حرمة الربا قولاً وفعلاً .
وتكون تلاوة آية البحث تجديداً لهذا التعاهد ونوع ميثاق بين الله عز وجل والمسلمين.
وهل إمتناع المسلمين عن الربا كاف لتنزيه الأرض منه.
الجواب إن الدنيا دار إمتحان، وإمتناع المسلمين عن الربا كاف لإصلاح الأرض، وإقامة الحجة على الذين يتعاطون الربا، وهو دعوة لدخولهم الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
والثابت نقلاً وعقلاً أن عالم الآخرة حق، والبعث حق، ولابد أن يقف الناس بيد يدي الله عز وجل للحساب، وجاء الأنبياء جميعاً بأمور كريمة منها:
الأول: الدعوة إلى الجنة والردع عن دخول النار , قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الثاني: بيان أحكام الشريعة ولزوم العمل بها.
الثالث: السعي في مقدمات دخول الجنة، والإمتناع عن المقدمات والمسالك التي تؤدي إلى ولوج النار، ومنها أكل الربا، فقد حرّمه الله على المسلمين، فأمرهم بترك الأموال الكثيرة التي تضاف لأموالهم عن طريق الربا ليفوزوا بالجنة.
ومن فلسفة خلق الجنة والنار، وكثرة ذكرهما في القرآن مجتمعتين ومتفرقتين أمور:
الأول: إستحضار ذكر نعيم الجنة وشدة حر النار عند حلول أوان العبادة.
الثاني: معرفة عواقب الأمور عند إجراء العقد والمعاملة.
الثالث: يجعل ذكر النار النفوس تنفر من الربا، وتكره نماء المال الذي يكون عن طريقه، وتدرك أنه برزخ دون المغفرة والعفو.
الرابع: ذكر الجنة وتلاوة الآيات التي تتضمن البشارة بها زاجر عن الربا، وواقية من الإقتراب منه، لأن الشوق إلى الغاية الحميدة وحسن العاقبة حرز من الموانع، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] ( ).
ويبعث السعي والعمل من أجل المغفرة والعفو على ترك الضد الخاص له، ومنه أكل المال الربوي، فكيف إذا كان السعي للمغفرة على نحو المسارعة، وبصيغ وكيفيات متعددة، فإنه يمنع من الإنشغال بالربا وأسباب المعصية، وهو من الدلائل على قانون تعضيد كل آية قرآنية للأخرى، سواء كانت مجاورة لها وفي ذات السورة، أم في سورة أخرى.
وقيدت آية السياق المغفرة بأنها من الله بقوله تعالى(من ربكم) وفيه بيان ومنع للإنقياد والإفتتان بالظالمين والطواغيت، ودليل على أن المسلمين يعبدون الله عز وجل ولا يشركون به، فهم يلجأون إلى الله في المهمات ويدركون أن المغفرة بيده سبحانه، ولا يقدر عليها غيره لذا فإنهم يتوجهون له مجتمعين ومتفرقين بسؤال الإستغفار، وبالعمل الصالح الذي يجلب المغفرة ويمحو الذنوب، قال تعالى[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
ومن أسرار القرآن تعذر تحقق الخلط بين العمل الصالح والسيء لذا جاءت الآيتان بالأمر والنهي، الأمر بالعمل الصالح، وهو المسارعة إلى المغفرة من الله، والنهي عن الفعل القبيح وهو أكل المال الربوي.
وتتكامل الأوامر فيما بينها، لتكون جامعة مانعة، جامعة للصالحات، مانعة من السيئات التي تبينها النواهي القرآنية لتكون الدنيا دار غبطة وسعادة ومحلاً لعبادة الله عز وجل وهي علة خلق الناس، وإنتشارهم في أرجاء الأرض.
وأراد الله عز وجل منع المانع دون العبادة فجاءت آية البحث بالنهي عن الربا وأكل المال بالباطل عوناً ومدداً للناس جميعاً، والمسلمين خاصة في سبل العبادة وطاعة الله عز وجل قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، ويحتمل الإمتناع عن الربا وجوهاً:
الأول: إنه سبيل للفوز بالمغفرة.
الثاني: التباين الموضوعي بين المغفرة وإجتناب الربا.
الثالث: الإمتناع عن الربا سؤال عملي للمغفرة.
والصحيح هو الأول، قال تعالى[إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
صلة (وجنة عرضها السموات والأرض) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، والناس في الحياة الدنيا في حال إبتلاء وإختبار وسفر حتمي إلى عالم الحساب والجزاء.
ليكون الناس على قسمين بينهما تباين وتضاد:
الأول: الخالدون في النعيم، وهم أصحاب الجنة.
الثاني: أهل النار من الكفار والظالمين.
ترى لماذا يكون في الآخرة حساب، والله عز وجل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، والجواب من وجوه:
الأول: الحساب شاهد على عظيم قدرة الله عز وجل وأن ملك السموات والأرض له سبحانه، وهو الذي يحشر الناس في موطن واحد في عرصات يوم القيامة، قال تعالى[وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ] ( ).
ليكون التنزه عن الربا على وجوه:
الأول: إنه بلغة كريمة للفوز بالأمن والسكينة أوان الحشر يوم القيامة.
الثاني: إنه سبب للفزع والخوف للذين أصروا على الإقامة على الربا وأكل الأرباح الربوية ظلماً وتعدياً على الناس، وعلى حدود الله، لأن الأنبياء والكتب السماوية جاءت بالنهي عن الربا، والزجر عنه.
الثالث: توكيد المسلمين العملي على موضوعية الإحتراز من الربا والمعاصي كافة لنيل اللبث الدائم في النعيم.
الثاني: إقامة الحجة على الناس، ومنع الكفار من الإحتجاج على خلودهم في النار وجعل جوارحهم تشهد عليهم، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ]( ).
الثالث: بيان عدل الله عز وجل وأنه سبحانه وحده الحاكم، فليس من إنسان إلا وهو محكوم يتطلع إلى فضل الله عز وجل في نيل المغفرة .
فجاءت آية السياق تدعوهم جميعاً إلى إحراز المغفرة في الحياة الدنيا بما تكون واقية لهم في الآخرة، وطوبى لمن إجتنب ما نهى الله عز وجل فإن هذا الإجتناب طريق إلى الجنة التي عرضها السماوات والأرض.
الرابع: بيان عظيم منزلة المؤمنين عند الله وحسن مقامهم في الآخرة من بين الناس، وكأن مواطن الحساب أوان الفراق الأبدي بين المؤمنين والكفار.
الخامس: تجلي التباين بين الفريقين يوم الحشر أما أهل الجنة فقد قال الله تعالى فيهم[َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، وأما أهل النار فهم في العذاب خالدون.
السادس: بيان عظيم فضل الله عز وجل في فتح باب الشفاعة يوم القيامة وأنه لا ينحصر بإخراج العبد من النار، فتقع الشفاعة أولاً عند الحشر وساعة الحساب لينجو من دخول النار أصلاً، قال تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( ).
السابع: بيان مصاديق من الوعد الإلهي للمسلمين والناس وليس من حصر لمنافع ودلالات حشر الناس للحساب قبل دخولهم إلى منازل الجزاء وخلودهم فيها.
ومن الآيات تعدد مواطن الحساب يوم القيامة، ليكون الممتنع عن الربا في مأمن من الحساب عنه، أما الذي يأكل الربا فإن جوارحه وجوانحه تفضحه، وتكون سبباً لخزيه أمام الخلائق.
وهل يشهد لسانه أم أنه يبقى مختوماً مكتوماً يومئذ.
الجواب هو الأول، إنما هو يختم في حال شهادة الأعضاء والجوارح فإذا كان اللسان هو العضو الذي يخبر عن الإنسان فإن الأمر مختلف يوم القيامة وإذا كانت الأعضاء تتكلم وتشهد على ما كان الإنسان يفعل بها، فأن أكل الربا أو عدمه من تلك الأفعال التي تشهد الأعضاء عليها.
ليكرم المسلم أعضاءه يوم القيامة بالتنزه عن الربا، ويجعلها تنجو من العذاب والعقاب الذي يأتي بسبب الربا وجمع الأضعاف المضاعفة من الزيادة الربوية.
الثانية: خاطبت آية البحث المسلمين بصيغة الإيمان، وهو خطاب إنفردوا به بين الناس، وبالإسناد عن الإمام علي عليه السلام قال: ليس في القرآن [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلاّ وهي في التوراة، يا أيّها المساكين)( )وروي عن ابن عباس أيضاً( ).
ومن مصاديق إيمان المسلمين تصديقهم بأن الجنة حق، وأن عرضها السموات والأرض.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فإن الله عز وجل رد على الملائكة في الحال وقال سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علمه تعالى أنه يبعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، ليؤمن أتباعه بأن الجنة عرضها السموات والأرض، وهذا الإيمان برزخ دون غلبة المعاملات الربوية في الأسواق لأنه يبعث على السعي للفوز بالجنة واللبث الدائم فيها.
ويدرك العقلاء جميعاً لزوم إجتناب الموانع التي تحول دون هذا اللبث، ومنها أكل المال الربوي لذا فإن آية البحث وما فيها من النهي دعوة لدخول الجنة في الآخرة.
فالإمتناع عن الربا مطلوب بغاياته الحميدة في الدنيا والآخرة ليدل على الإرتقاء الفكري عند المسلمين، إذ يسعون إلى تلك الغايات بأمور:
الأول: جهاد النفس الشهوية.
الثاني: قهر الطمع والشره، وجعله خاضعاً لضوابط الشريعة.
الثالث: التقيد بأحكام الحلال والحرام التي جاءت في القرآن والسنة النبوية، قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى]( ).
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين بعث المسلمين للتفقه في الدين، والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، والسعي إلى الجنة بالتنزه عما حرم الله عز وجل من الربا وأكله بالباطل.
وإذا جاء قوله تعالى(لا تأكلوا الربا) بصيغة الجملة الإنشائية والنهي الذي يفيد الترك وعدم جواز الفعل، فإن آية السياق جاءت في أولها بصيغة الأمر والجملة الإنشائية ثم ذكرت الجنة بصيغة الجملة الخبرية .
وفيه دعوة للناس جميعاً للسعي في الدنيا إلى الجنة لذا جاءت خاتمة الآية بذكر الذين أعدّ الله لهم الجنة بصفاتهم وأفعالهم، وليس بأشخاصهم لبعث الناس جميعاً على السعي إلى الجنة والإقامة فيها بالتقوى والخشية من الله عز وجل.
الرابعة: قد يقال لماذا لم ينزه الله عز وجل الأرض من الربا معاملة وأكلاً للمال، أو يرمي الذي يأكل الربا بآفة ظاهرة تكون عبرة وموعظة ودرساً.
الجواب لقد جعل الله عز وجل الحياة داراً لنزول رحمته على الناس ليتخذونه محلاً لعبادته والخشية منه تعالى، قال سبحانه[اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ]( ).
وتفضل الله ورزق الناس الأموال لتكون واسطة للمعاملة وسبباً لإستدامة أنظمة المعيشة في الأرض وفق أحكام الشريعة.
وبيّن سبحانه سنن الحلال في باب الأموال من البيع والشراء والإجارة والمضاربة والرهن، والقرض والهبة ونحوها، ونهى عن أكل المال بالحرام ومن غير مسوغ شرعي، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( ).
ووردت الآية أعلاه بالتقييد (بينكم) بينما وردت آية البحث بالنهي عن أكل الربا على نحو الإطلاق، ويحتمل الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: الإطلاق والتقييد، وإرادة حرمة الربا بين المسلمين على نحو الخصوص وتقدير آية البحث: لا تأكلوا الربا بينكم).
الثاني: ورد القيد(بينكم) بلحاظ سياق الآيات، ووحدة موضوعها في إصلاح أمور المسلمين فيما بينهم.
الثالث: إن أكل المال بالباطل أمر قبيح ومذموم مطلقاً، وجاء في ذم بعض الأمم السالفة[وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ]( ).
الرابع: بقاء إطلاق آية الربا على حاله، فهو حرام مع المسلمين وغيرهم، إلا مع الدليل الثانوي والمخصص.
وليس من ملازمة بين التقييد الوارد في الآية أعلاه وآية الربا، وبين أكل المال بالباطل وأكل الربا عموم وخصوص مطلق، والمصالح ملاك الأحكام.
والله أعلم بموارد جلب المنفعة، وأسباب دفع المفسدة والثانية مقدمة على الأولى، والله سبحانه هو الذي نهى عن الربا، وجعل[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) هي التي تمتثل لهذا النهي، وتتنزه عنه وإن كان سبباً لمضاعفة أموالهم أضعافاً كثيرة، لأن العزوف عن هذه الأموال يستلزم ملكة من التقوى، وإيماناً بالله والنبوة وعالم الحساب والجزاء.
الخامسة: من وجوه الإبتلاء في الدنيا الذهب والفضة والأموال مطلقاً، وهي رحمة ونعمة من الله، إلا أن الناس في الإنتفاع منها على أقسام:
الأول: الذين يسخرون الأموال في مرضات الله، وينفقونها في طاعته.
الثاني: الذين يوظفون الأموال في معاداة الله والنبوة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثالث: الذين يبخلون بالأموال، ويمتنعون عن إخراج الزكاة وإعانة الفقراء.
وجاءت آية السياق لتذكر بعالم الآخرة وأن الله عز وجل جعل الجنة دار مقام للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويمتنعون عن الربا وأكل المال بالباطل.
وفي إستحضار ذكر الجنة أمور:
الأول: إنه باعث للشوق إليها.
الثاني: فيه ترغيب بالعمل الذي يوصل إلى الإقامة الدائمة في الجنة، قال تعالى[وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا]( ).
الثالث: إنه دعوة للتفقه في الدين، ومعرفة البلغة التي تقود إلى الجنة.
لتتجلى حقيقة وهي أن الأموال الربوية مهما كثرت فهي قليلة وزهيدة أزاء الغاية العظيمة وهي الخلود في النعيم، وقد ذم الله عز وجل الذين إختاروا الإنقطاع إلى الدنيا بقوله تعالى[الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ]( ).
ليحمل المسلمون لواء التقوى , ويسعون في سبل الهداية إلى الجنة بخطى الصلاح والتنزه عن الربا، وبثبات وسكينة بفضل الله، ويعملون بالأوامر والنواهي التي في القرآن، ليشتري المسلمون الجنة بالتنزه عن الربا .
وهذا التنزه لم يأت إلا بفضل من الله، ونعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو وسيلة مباركة لزجر الناس عن تسخير أموالهم في معاداة الله ورسوله.
فمن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وهم المسلمون أنهم أسوة وأئمة للناس في سبل الهداية والرشاد، فيراهم الناس كيف يعزفون عن مضاعفة أموالهم بواسطة الربا مع رغبتهم وكل إنسان بزيادة ماله، إلا أن المسلمين يقدمون الوظيفة الشرعية، ومناط التكليف في أفعالهم وأقوالهم ومعاملاتهم، وهم ينفقون الأموال في سبيل الله، ويؤدون العبادات , وهي على ثلاثة أقسام:
الأول: العبادات البدنية كالصلاة والصوم، قال تعالى[َالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ]( ).
الثاني: العبادات المالية كالزكاة والخمس.
الثالث: العبادات البدنية المالية كالحج، لما فيه من تحمل مشاق السفر، وبذل المال.
ومع أداء المسلمين للعبادات ومنها الزكاة، وإنفاقهم في سبيل الله وإعراضهم عن جمع الأموال بالأرباح الربوية، تجد أموالهم في نماء وزيادة، وفيه مصداق للبركة التي يجعلها الله عز وجل في سعي ومال الذين يعملون بطاعته، ويجتنبون معصيته، أما الكفار فإن الله يبتليهم بما يصيب أموالهم بالنقص، وتجاراتهم بالكساد، ولو بعد حين .
قال تعالى في ذم الكفار وما يلحقهم من الخسارة[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ]( ).
السادسة: جاءت آية البحث بأمر المسلمين بتقوى الله، وهذا الأمر شامل للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي .
أي أن كل فرد منهم ذكراً أو أنثى يجب أن يخشى الله عز وجل ويسعى في طاعته وطلب مرضاته، وعلى نحو العموم المجموعي بحيث أنهم يتقون ويخشــون الله عز وجل كأمة، ومن التقوى الحــرص على وحدة المسلمين بــرداء التقــوى، ونبذ أســباب الفرقة والشــقاق، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ) .
والله عز وجل هو الكريم الذي ليس من حد لجوده وفضله وإحسانه، ومنه الملازمة بين الأمر بالتقوى والبشارة بالجنة الواسعة التي عرضها السموات والأرض .
وفي هذه البشارة مسائل:
الأولى: بعث المسلمين لمنازل التقوى.
الثانية: حث المسلمين على التفقه في الدين، ومعرفة سنن التقوى والخشية من الله، بغية الإمتثال الأحسن والذي يكون بلغة للفوز بالجنة.
الثالثة: إدراك حقيقة وهي حاجة الإنسان في الآخرة للإمتناع عن الربا في الحياة الدنيا فدخول الجنة لا يكون إلا بالتنزه عن الأموال الربوية.
الرابعة: جعل المسلمين يرغبون عن الأضعاف المضاعفة رغبة في الجنة، لذا جاءت الآية بذكر سعة الجنة وأن مساحتها تشمل السموات والأرض، في إشارة إلى إنقطاع التكليف والشقاء والعناء الذي يجري على أهل الأرض في الحياة الدنيا.
السابعة: أختتمت آية البــحث بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) ومن أهم مصاديق الفلاح دخول الجنة في الآخرة، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أن الذي يدخل الجنة لا يغادرها، قال تعالى[لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( ).
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين:لعلكم تفلحون بجنة عرضها السموات والأرض).
وأصل الفلاح البقاء، وليس من بقاء دائم للإنسان إلا في الآخرة، والإقامة في النعيم الدائم أو في الخلود في النار.
لقد نهى الله عز وجل المسلمين عن أكل الربا لا عن حاجة لهم، وهو سبحانه الغني عن العالمين ولكنه أراد للمسلمين الفلاح والإقامة في الجنة بالإمتناع عن المعاملة الربوية وهو من عمومات قوله تعالى[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فإن قلت لقد خص الله المسلمين بهذه النعمة دون عموم الناس، والجواب من وجوه:
الأول: هذه النعمة فرع دخول الإسلام والنطق بالشهادتين، والدعوة إلى الإسلام متوجهة إلى الناس جميعاً، وليس بينهم وبين دخول الإسلام واسطة أو حاجب أو برزخ، فالإنسان لا يحتاج في دخول الإسلام إذناً من أحد، سلطاناً أو حاكماً أو عالماً.
الثاني: لا يختص النهي عن الربا بالمسلمين وحدهم، بل هو حكم سماوي جاء به الأنبياء السابقون أيضاً.
الثالث: إنفرد المسلمون بالتقيد بأحكام الربا، والإمتناع عن أكل الزيادة القرضية والعينية، وتعاهدوا النهي والمنع عنه، وقوله تعالى(لعلكم تفلحون) مطلق في أفراده، وشامل لأيام الحياة الدنيا والآخرة.
فمنافع إجتناب الربا لا تختص بالحياة الآخرة، مع أنها الأهم والأعظم، فالفلاح الذي يترشح عن ترك الربا يتغشى أيام الحياة الدنيا أيضاً لتكون مصاديقه سبباً للسعادة والغبطة وتفقهاً في أسرار الحياة الدنيا، ومدرسة في شآبيب الرحمة الإلهية فيها، ويكون البدل الذي يأتي في باب الرزق والكسب عوضاً عن الأموال الربوية التي يتركها المسلمون مباركاً.
ليتخذ المسلمون ما يأتيهم من الفلاح في الدنيا بلغة إلى الآخرة، وهو من مصاديق التفرع والتعدد في الفرد الواحد من الفضل الإلهي، وصرف الطبيعة منه.
وتقدير خاتمة آية البحث(لعلكم تفلحون في الدنيا والآخرة) ويحتاج كل إنسان الفلاح في الدنيا، ويكون أكثر حاجة له في الآخرة حيث الحساب والجزاء مع غلق لأبواب العمل والكسب، وهو أمر خاص بالحياة الدنيا، قال تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
فجاءت آية البحث رحمة بالمسلمين بطلب الرزق الحلال، والتنزه عن الربا والأرباح التي تأتي بواسطته طاعة لله عز وجل، وشوقاً للجنة التي عرضها السموات والأرض.
بحث أخلاقي
تتضمن كل آية في القرآن تأديباً وإرشاداً للمسلمين، ويحتمل هذا التأديب في موضوعه وجوهاً:
الأول: إتحاد موضوع التأديب في الآية القرآنية.
الثاني: تعدد وجوه التأديب في الآية القرآنية.
الثالث: التفصيل، من الآيات ما ليس فيها إلا تأديباً واحداً، ومنها ما يكون التأديب فيها متعدداً.
والصحيح هو الثاني، فليس من حد لمصاديق التأديب في الآية القرآنية، وهي متعددة في موضوعها وحكمها، وتستقرأ من أمور:
الأول: منطوق الآية القرآنية.
الثاني: الأحكام الواردة في الآية القرآنية.
الثالث: مفهوم الآية وما فيها من معاني البشارة والإنذار، قال الله تعالى في الثناء على المؤمنين الذين ضحوا بأنفسهم في سبيله[لأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
الرابع: أسباب نزول الآية القرآنية.
الخامس: المصاديق العملية للآية القرآنية، والشواهد التي تؤكد صدق مضامينها.
السادس: أحاديث السنة النبوية، وأفراد السنة الفعلية، وما فيها من الدروس والمواعظ، وكل فرد منها منهاج كريم، ومدخل إلى الثواب العظيم.
وفيها دعوة لعلماء المسلمين لإستنباط الدروس التأديبية من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحث للمسلمين والمسلمات للإقتداء بسنته الشريفة.
السابع: الدروس والمواعظ المقتبسة من الآية القرآنية، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الثامن: الضابطة والقاعدة التي تؤسس من مضمون الآية القرآنية.
التاسع: الصلة بين الآيات، والجمع بين الآيتين، وما فيه من العلوم والمواعظ.
العاشر: لغة المدح للأنبياء والمؤمنين من الأمم السابقة، والتي تبعث المسلمين على العمل الصالح، وتجذبهم إلى منازل التقوى ومحاكاة الأنبياء في سيرتهم وسننهم، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الحادي عشر: صيغ الذم والتبكيت للكافرين والظالمين، وإتخاذها مادة للإحتجاج , وإقامة البرهان على لزوم الإيمان.
الثاني عشر: مدرسة قصص القرآن، وما فيها من المواعظ والعبر، ومصاديق الحكمة، قال تعالى[فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
والخطاب في الآية أعلاه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل المراد من القصص في الآية وجوهاً:
الأول: المراد قصص القرآن.
الثاني: في الآية أمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوسعة والإخبار عن أحوال الأمم السابقة.
الثالث: لغة العموم والمراد قصص القرآن، وقصص تتعلق بالأمم السابقة لم تذكر في القرآن، كما في موضوع الأنبياء، فقد وردت أسماء القليل منهم في القرآن , وفيه آية بإستيفاء الموعظة والعبرة من قصصهم وجهادهم في سبيل الله.
والصحيح هو الأول، فالمراد ما جاء في القرآن، قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ]( )، والله عز وجل يأمر بالحق، ولا يجري على لسان نبيه إلا الحق، ولا يتعارض معه البيان والتفصيل الذي يأتي في السنة النبوية بلحاظ أن السنة بيان وتفسير للقرآن.
وهل هذا البيان والتفصيل من مصاديق قوله تعالى(فأقصص القصص) أم أنه فرد آخر خاص بالسنة لبيان ولزوم الأخذ بها.
الجواب هو الأول، وتقدير الآية أعلاه(فأقصص القصص التي نقصها عليك في القرآن).
وقيد في القرآن لأن السنة النبوية في المقام من الوحي الذي يوحيه الله إلى النبي، وهو من مصاديق اللطف الإلهي قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )، ليكون هذا البيان على وجوه:
الأول: إنه تأديب إضافي للمسلمين.
الثاني: إنه عون لهم للإرتقاء في ميادين المعرفة.
الثالث: هو مناسبة لتعاهد السنة النبوية والتفقه في وجوه الصلة بين آيات القرآن وبينها بلحاظ قانون وكنز وهو أن السنة بيان وتفسير للقرآن.
الثالث عشر: التأديب المترشح من الآيات التي تبين أحوال المسلمين أيام نزول القرآن، وتجلي معاني الصبر والتقوى في سيرتهم وجهادهم.
الرابع عشر: لغة الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار في القرآن، وهي من أعظم مفاهيم التأديب في التأريخ، وتتجلى موضوعيتها في بقائها حية غضة طرية إلى يوم القيامة، تدعو الناس إلى التوبة والعمل بالفرائض.
الخامس عشر: الأمثال الواردة في القرآن، وما فيها من الحكمة والدروس، قال تعالى[وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] ( ).
ليس من حصر لوجوه التأديب في القرآن، ويستقرأ الإطلاق من آيات القرآن ذاتها وتفسيرها وتأويلها، وموافقة الواقع في كل زمان لمضامينها القدسية، وكل جيل من المسلمين يرى الآية وكأنها نزلت لزمانه.
السادس عشر: أحكام الحلال والحرام في الآية الكريمة، ودلالات كل فرد منهما، وعلة الحلية أو الحرمة، وكيف أن المصالح الدنيوية والأخروية ملاك الأحكام.
السابع عشر: المنافع العظيمة التي تجلبها طاعة الله، والعمل بمضامين آيات القرآن، وكل آية من القرآن خير محض سواء بتلاوتها أو العمل بأحكامها أو حتى النظر إليها.
وقد ورد في الخبر عن الإمام جعفر الصادق: النظر في المصحف عبادة) ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث تعدد مصاديق التأديب فيها، وهي على وجوه:
الأول: إبتداء الآية بالنداء والخطاب للمسلمين بصيغة الإيمان، وفيه ثناء عليهم، ودعوة لهم لتعاهد هذا الثناء، وما فيه من معاني الإكرام والتفضيل.
وهل في هذا الخطاب التشريفي للمسلمين(يا أيها الذين آمنوا) تأديب لغير المسلمين من أهل الكتاب والكفار، الجواب نعم من جهات:
الأولى: ترغيب الناس بالإسلام لأنه مادة المدح، وسبب الثناء على الذين دخلوه طائعين لله ورسوله.
الثانية: دعوة الناس للتفكر في ماهية العقائد والملل وأسرار الثناء على المسلمين، وعلة إستحقاقهم للتشريف والإكرام.
الثالثة: إدراك الناس جميعاً أن من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهم المسلمون، تلقي التأديب من الله عز وجل بالتنزيل، وبقاء هذا التأديب مصاحباً لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة لأمور:
الأول: سلامة آيات القرآن من التحريف والتبديل.
الثاني: حسن تلقي المسلمين لدروس التأديب القرآنية، ويدل عليه تجدد الشهادة لهم من الله بالإيمان بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا).
الثالث: مواظبة المسلمين على التفقه في الدين.
الرابع: المناجاة بين المسلمين بلزوم التقيد بالسنن السماوية وقد ورد قوله تعالى[وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( )، في الثناء على المسلمين الذين يعملون الصالحات، وإستثنائهم من الخسران الذي يلحق الناس في الآخرة، ومن التوصية بالحق إجتنابه الربا، ولزوم الإمتناع عن أكله والشهادة على معاملته .
ومن مصاديق التوصية بالحق الإمتناع عن الباطل، ومنه الربا وأكله (وعن الحسن: الحق القرآن)( ).
الثاني: تنبيه المسلمين إلى آيات الأحكام في القرآن، وتوكيد كونه جامعاً لأحكام الحلال والحرام، وأن أكل الربا من أشد أفراد الحرام التي يجب أن يتجنبه المسلمون في حال الرخاء والشدة، وحتى عند الضرورة.
وليس من تأديب أعظم من ترك أمة عظيمة لأضعاف مضاعفة من الأموال طاعة لله عز وجل، وإمتثالاً لنهي ورد في القرآن من كلمتين(لا تأكلوا الربا).
الثالث: دعوة المسلمين لإستقراء الدروس الأخلاقية من النهي عن الربا، والتدبر في البلاء الذي يلحق الأمم التي تنغمس بأكل الربا وتجعله بعرض واحد مع البيع في الجواز والحكم.
نعم ليس من ملازمة بين البلاء وأكل الربا، فالمقصود البلاء الذي تكون أمارات على ترشحه عن الربا، بالإضافة إلى البلاء الخفي الذي يصيبهم بسبب إصرارهم على أكل الباطل.
الرابع: بعث المسلمين على الشكر لله على نعمة التنزه عن الربا، وإدراك ما يصرف عنهم من البلاء لصبرهم وتركهم للأموال الربوية.
الخامس: حث المسلمين على الدعاء وسؤال الرزق الكريم من الله، والإعانة لتعاهد الإمتناع عن الربا.
السادس: مجيء آية البحث بالأمر إلى المسلمين بتقوى الله.
ومن مصاديق التقوى حسن أدب العبودية، والخشية من الله في السر والعلانية، إن قوله تعالى(واتقوا الله) دعوة للمسلمين للتحلي بالأخلاق الحميدة، والسنن الرشيدة.
كما ورد في الخبر(التقوى رأس الإيمان) ( )، والتقوى منبع مبارك للأخلاق الحميدة، وأمن من إستحواذ النفس الشهوية.
السابع: مجيء خاتمة الآية ببعث المسلمين على السعي في مسالك الفلاح، وإرادة التوفيق، وإختيار سبل الهداية وأسباب البقاء في حال العز والرفعة، والذي يكون بالإيمان والصلاح، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).

صلة (أعدت للمتقين) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية البحث بالخطاب(يا أيها الذين آمنوا) والمراد المسلمون والمسلمات جميعاً، وبين التقوى والإسلام عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مسلم، والتقوى رتبة رفيعة في سلم الإيمان.
ويفيد الجمع بين الآيتين بعث المسلمين لبلوغ مراتب التقوى بعمل الصالحات، وإرادة قصد القربة في أعمالهم، وإجتناب المعاصي وما فيه سخط الله.
ويدل الجمع بينهما على أن الإسلام إرتقاء متصل، في سلم الصلاح والتقوى، فلا يقف المسلم عند مرتبة من مراتبه بل هو في جهاد مع النفس، وسعي في سبيل الله ليصل إلى أسمى مراتب التقوى، ويفوز بالجنة التي جعلها الله خاصة للذين يخشونه بالغيب.
الثانية: من خصائص المتقين الشوق إلى الثواب، والفزع من العقاب، الأمر الذي لا يتحقق إلا بالإسلام، والإنقياد لأوامر لله، والإحتراز ليوم والحساب قال تعالى[كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا]( ).
فحينما يرى الناس أهوال الآخرة تصغر الدنيا في عيونهم في مدتها وما فيها من أسباب البهجة وكأنهم قضوا فيها مقدار ساعتين من النهار بحسب توقيت أهل الدنيا، ساعتين من الضحى، أو ساعتين من العصر.
وهل يدل التباين أعلاه على أن أهل الجنة يظنون أنهم لبثوا وقت الضحى لأنه عنوان إشراقة الشمس وساعة العمل، وأن الكفار يرون أنه العشي والمساء عنواناً للغروب والظلمة الجواب لا فقد ورد إكرام المسلمين من هذا الظن الذي هو مصداق للفزع الذي يلحق الكفار .
أما المسلمون فقد ورد إكرامهم في الآية السابقة بقوله تعالى[إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا]( )، ليكون الإنذار القرآني واقية من الفزع يوم القيامة، بالإضافة إلى عمومات قوله تعالى[وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وبين التقوى والإيمان عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مؤمن بالمعنى الأخص، ومن المسلمين بالمعنى الأعم الذين خاطبتهم آية البحث بلفظ(يا أيها الذين آمنوا) فلا بد من دخول الإسلام والنطق بالشهادتين لبلوغ مراتب التقوى وفيه أمور:
الأول: بعث للمسلمين للإجتهاد في عبادة الله.
الثاني: تلقي التنزيل من الله عز وجل.
الثالث: عمارة الأرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه من خصائص المتقين، وواقية لكل مرتبة من مراتب الهداية وهي:
الأول: الإسلام والنطق بالشهادتين.
الثاني: الإيمان، والإقرار بالقلب بصدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
الثالث: التقوى والخشية من الله، بالتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، والحذر من عقابه.
الرابع: اليقين وهو(العِلْم وإزاحة الشك وتحقيقُ الأَمر) ( )، واليقين لطف من الله عز وجل، وجذب للعبد لمنازل الهداية قال تعالى[وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ]( )، إنه معرفة المسلمين بأن الله أعد الجنة للمتقين تجعلهم يجتهدون في طاعة الله عز وجل، ويتجنبون ما نهى عنه.
ويفيد الجمع بين الآيتين الملازمة بين إجتناب الربا وبين دخول الجنة، فمن شاء الفوز بالثواب العظيم يوم القيامة عليه أن يجتنب المعاملة الربوية، وأكل المال الروي.
ومن إعجاز القرآن أن بشاراته مع كثرتها حقيقة ووعد كريم، وهي واقية من المعصية مطلقاً، والربا معصية وكبيرة لابد من إجتنابه.
وتتجلى في الجمع بين الآيتين فلسفة الحديث النبوي(روي عن علي عليه السلام أنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الربا خمسة آكله و موكله و شاهديه و كاتبه) ( )، لأن الجنة أعدها لله للمتقين.
ومن خصائصهم عدم أخذ الربا أو الشهادة عليه، أو الوكالة فيه، أو كتابة عقده، فمن أوليات التقوى المبادرة إلى التوبة والأمر بالمعروف وعدم فعل ما ينهون عنه ومنه الربا الذي يدل على حرمته الكتاب والسنة والإجماع.
الثالثة: يبين الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: حرمة الربا.
الثاني: ترك الأضعاف المضاعفة من الأموال التي تأتي من الربا.
الثالث: الخشية من الله وسيلة لقضاء حوائج الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
الرابع: الترغيب بالمغفرة والجنة.
الخامس: بيان صفة أهل الجنة وهم المتقون.
وفي الآية توكيد للتباين بين ربح الأموال الطائلة من الربا وبين الإقامة في الجنة للتنافي بين أكل الربا والتقوى، الأمر الذي يبعث كل مسلم ومسلمة على ترك الربا، والتناهي عنه، وليس من ضرر في الآخرة أكبر من ضرر أكل الربا , لأنه برزخ دون دخول الجنة وهي أعظم غاية وأحسن مستقر.
لقد أراد الله للمسلمين النفرة من الربا، وعدم الطمع في الأضعاف الكثيرة التي تأتي منه، فذّكرهم بالجنة وخصال أهلها والذي خلقها الله من أجلهم وهي التقوى والصلاح.
ومن إعجاز القرآن أن لفظ(أعدت) ورد فيه أربع مرات مرتين بخصوص النار، والتي جعلها الله مثوى لهم، قال تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
وورد مرتين بخصوص الجنة قال تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( )، وفيه آية من التخفيف والبشارة للمسلمين.
والتقسيم الوارد أعلاه في مراتب الإيمان تقسيم إستقرائي، ونعمة البشارة بالجنة وإعدادها إنما تتعلق بالذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقوا بنبوته , وهو دعوة وترغيب للناس جميعاً بها وبمقدماتها وبلغتها.
وفي الآية أعلاه إعجاز وهو أن الإيمان لم يأت بخصوص المسلمين بل هو أعم فيشمل الذين آمنوا بالرسل على نحو العموم المجموعي والإستغراقي من الموحدين وأهل الملل السابقة.
وتتجلى معاني إطلاق صفة المتقين على الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه شاهد على موضوعية النطق بالشهادتين، وعلو مرتبة المسلمين عند الله، وتتجلى في الأمر للمسلمين بإجتناب أكل الربا بلحاظ أنهم بلغوا مراتب التقوى فيجب عليهم إجتناب ما حرّم الله، وما فيه الضرر بأنفسهم وبالناس.
والربا ظلم ظاهر، وإستيلاء على مال الغير بعقد باطل، وإستغلال لحاجته في حال مخصوص , قال تعالى[بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( )، والمتقون هم أئمة الناس في سبل الهداية، وأهل التنزه عن الظلم والتعدي.
الرابعة: من أسرار الجمع بين الآيتين ورود مادة (التقوى) في الآيتين، فورد ذكر التقوى في آية البحث بصيغة الأمر(واتقوا الله)، وجاء بصيغة الجملة الإنشائية في آية السياق(أعدت للمتقين)، وفيه أمور:
الأول: حث المسلمين للسعي في منازل التقوى، قال تعالى[وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى]( )، لبيان حضور عمل الإنسان في الآخرة، ونيله الجزاء عليه وأختلف في الآية أعلاه على قولين:
الأول: الآية منسوخة وهو المنقول عن ابن عباس، وعن عكرمة في الآية أن ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعى غيرهم نيابة عنهم) ( ).
ولكن هذا المعنى ليس من النسخ بمفهومه الإصطلاحي.
الثاني: الآية غير منسوخة، وتدل على منع النيابة في الطاعات إلا ما ورد فيه دليل خاص كالحج(عَنِ ابن عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ امرأة جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِى أَدْرَكَ الْحَجَّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَعِيرَ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ :حُجِّي عَنْهُ)( ) .
ويجب ألا يمنع هذا الإختلاف من بيان المضامين القدسية في الآية الكريمة، وما فيها من الوعد والترغيب بأوفى وأعظم الجزاء في الآخرة سواء على فعل الصالحات , أو إجتناب السيئات , وعلى العلماء عند الإختلاف ألا يقفوا عند الإستدلال بدليل واحد .
فمن عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) تعدد الأدلة في الموضوع الواحد بما يجعل الحكم جلياً واضحاً، ويمنع من الإختلاف والخصومة.
الثاني: إنه وعد كريم وبشارة بأن عاقبة إيمانهم وتقواهم وصبرهم عن أرباح الربا هي الجنة، وهو من عمومات قوله تعالى[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا]( )، بلحاظ أن الإمتناع عن الربا فعل بنية وقصد.
الثالث: فيه تنزه عن الطمع بالأموال الربوية , وبيان لحسن الثواب على هذا التنزه.
الرابع: تأكيد قانون دائم وهو أن الجنة غاية يجب أن يترك الإنسان من أجلها الأموال التي تأتي بالباطل.
وقد فاز المسلمون بإدراك هذا القانون، والعمل بمضامينه وسننه، فإن قيل إن الله عز وجل هو اللطيف بالمسلمين، وهو الذي قربهم إلى منازل الطاعة، ورغبهم في التقوى، وبيّن لهم الثواب العظيم على ترك الربا.
فهذا صحيح وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً، إذ أن الدعوة إلى الإسلام خطاب سماوي موجه إلى كل إنسان في جميع آنات حياته، وليس من مانع يحول بينه وبين النطق بالشهادتين والسعي في منازل التقوى والفوز بالجنة , قال تعالى[وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ومن مصاديق الحجة في المقام أن الآيات لم تقل(والعاقبة للمسلمين) بلحاظ الإنتماء للإسلام وإن كان أمراً عظيماً، بل جاء بلحاظ الصفة والفعل، ولزوم خشية العبد من الخالق، فلا بد للإنسان من التنزه من آفة الحسد والإصرار على الجحود.
ومن أهم مصاديق الخشية من الله التصديق برسله، وما أنزل من الكتب، وجاءت النبوة والكتاب بحرمة الربا، ولزوم التنزه عنه وإتخاذ هذا التنزه طريقاً إلى الجنة.
الخامسة: تقدير الجمع بين خاتمتي الآيتين هو(أعدت للمتقين لعلكم تفلحون) فهل يكون المعنى هو نفسه الوارد في خاتمة آية البحث(واتقوا الله لعلكم تُفلحون) .
الجواب بينهما عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: البعث على التقوى والخشية من الله.
الثاني: بيان حاجة الناس إلى التقوى.
الثالث: التقوى طريق الفلاح والبقاء، قال تعالى[وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
أما مادة الإفتراق فهي على وجوه:
الأول: جاء موضوع التقوى في آية البحث بصيغة الأمر، أما آية السياق فذكرته على نحو الجملة الخبرية.
الثاني: ورد الإطلاق في موضوع التقوى في آية البحث، أما آية السياق فذكرت التقوى كصفة لأهل الجنة.
الرابع: تقوى الله عز وجل تنفع العبد في الدنيا والآخرة، وذكرت آية السياق خصوص الجنة، وأن الله خلقها وأصلحها لأهل التقوى، ويدل قوله تعالى(لعلكم تفلحون) على أن الجنة ثواب وفضل من الله عز وجل، وليس عن إستحقاق بسبب الصلاح والتقوى، ولكنه من اللطف الإلهي بالعباد، والرحمة بالمؤمنين في الآخرة.
وتحتمل النسبة بين الخشية والتقوى، وجوهاً:
الأول: التساوي وأن التقوى هي ذاتها الخشية لغة وإصطلاحاً.
الثاني: العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الحذر وقال ابن منظور الخشية من الله الكراهة، ومن الآدميين الخوف، بخصوص قوله تعالى[فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا]( ).
الثالث: العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين:
الأولى: التقوى فرع الخشية من الله.
الثانية: التقوى أعم، وأحد مصاديقها الخشية.
الرابع: التباين بين التقوى والخشية.
والصحيح هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث، فمن معاني التقوى الحذر والحيطة، والسلامة والستر من الأذى، وطلب الحماية، ويقال(وقاه اللهُ وِقاية بالكسر أَي حَفِظَه)( ).
وتقوى الله تعاهد الفرائض، وحفظ الواجبات، وعدم مغادرة منازل العبودية والرق له سبحانه.
وعندما تجتمع التقوى والخشية يكون العموم للتقوى من الله قال تعالى[اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا]( ).
والتعدد في معاني التقوى آية إعجازية في دلالات اللفظ العربي، ومناسبته للمقام، وتفرع مسائل عديدة عن كل آية بحسب موضوعها، وأسباب النزول، ونظم الآيات وحكمها، لأن الحكم تابع للموضوع.
فحينما تتعدد الموضوعات تتعدد الأحكام من غير تعارض بينها، فكل فرد منها في طول الآخر، وهذا التعدد من إحاطة كلمات القرآن المتناهية باللامتناهي من الواقع والأحداث، لتكون كل آية ضياء مباركاً ينير دروب السالكين نحو الجنة , ومنها تقوى الله بلزوم إجتناب الربا، والحذر من أكل الأموال الربوية.
إن إجتماع الأمر بتقوى الله وترغيب الناس بالجنة بقيد التقوى يجعل النفوس تنفر من الربا وتكون في حذر منه.
فمن إعجاز الآية أنها تأمر بتقوى الله، ليحذر المسلمون من الربا ويتخذوه موضوعاً دائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس من حصر لموضوعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك الموضوعات على مراتب متفاوتة في الإعتبار والأثر والموضوعية في الأمر والنهي، ومنها ما يكون موضوعاً يومياً متجدداً في سعي المسلمين ومناجاتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه النهي عن الربا.
ومن خصائص المسلمين وأسرار فوزهم بمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن التنزه عن الربا ملكة عند كل واحد منهم، وأن الرجال والنساء، والصغار والكبار يعلمون حرمة الربا، ويدركون أن الإمتناع عنه من مصاديق التقوى.
وتدعو كلمات السياق مجتمعة ومتفرقة المسلمين لتقوى الله وإجتناب الربا، والتنزه عن أكل المال بالباطل، وفيه آية في نظم الآيات القرآنية بأن كل آية مدد وعون وتعضيد للعمل بأحكام الآية الأخرى وما فيها من الأوامر والنواهي.
فصحيح أن آية البحث جاءت بالأمر والنهي معاً إلا أن النهي في طول الأمر، فمع التضاد بين صيغة الأمر والنهي إلا إنهما يشتركان في إصلاح حال المسلمين، وهدايتهم إلى النهج القويم، وهو من عمومات قوله تعالى[أهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
صلة آية[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الأمر للمسلمين، بينما إبتدأت آية السياق بالجملة الخبرية لتجتمع صيغ الجملة المتعددة في إكرام المسلمين وإعانتهم على تعاهد سنن الإيمان، وجاءت صيغة الخبر الذي لا يحتمل إلا الصدق والحق، بعد ثلاث آيات كلها بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الأمر.
فقد إبتدأت الآيتان اللتان بين آية البحث وآية السياق بحرف العطف(الواو) للدلالة على أن القرآن هداية للمسلمين قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وهل لغة الخبر في آية السياق في طول لغة الإنشاء في الآيات الثلاثة السابقة لها من جهة بعث المسلمين جميعاً للعمل بمرضاة الله، والسعي إلى الجنة.
الجواب نعم لأنها جاءت في وصف المتقين الذين أختتمت الآية السابقة لها بالإخبار عن تهيئة الجنة لهم، والبشارة بأنها في إنتظارهم وإستقبالهم، وليس بينهم وبينها إلا مغادرة الدنيا عند الموت، ومفارقة الروح الجسد، فان قلت هناك عالم البرزخ، ولا يعلم مدته وزمانه إلا الله عز وجل , قال تعالى[وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
والجواب إن حال الناس متباين في البرزخ، وأن المؤمنين في أفضل حال لأنه من عالم الآخرة والجزاء، ليجد المؤمن بشارات ومقدمات السعادة الأبدية، كما يلقى الكافر الأذى وإنذارات العذاب، قال تعالى في فرعون وقومه[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا] ( ).
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ)( ).
المسألة الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين: يا أيها الذين آمنوا الذين ينفقون في السراء والضراء)، وفيه تشريف للمسلمين، وشهادة لهم بالإنفاق في سبيل الله مع تباين الحال.
فان قلت وردت آية السياق في وصف المتقين على نحو التعيين وليس المسلمين عامة، وتقديرها بلحاظ الصفة والموصوف:أعدت للمتقين المنفقين في السراء والضراء، والجواب من وجوه:
الأول: إن الله أثنى على المسلمين، وهو الذي يقربهم بلطفه إلى منازل التقوى.
الثاني: الإسلام أداء للفرائض وإجتناب للمعاصي، وطريق للإستغفار، وإستجارة بالله مما يخالف سنن التقوى والصلاح، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
الثالث: تبعث آيات القرآن المسلمين على الإنفاق بلغة الأمر وصيغة(أفعل) التي تحمل على الوجوب، وعدم جواز الترك، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( )، وجاءت آية البحث بحث المسلمين على تقوى الله.
الرابع: من مصاديق الإيمان أمور:
الأول: الإنفاق في سبيل الله.
الثاني: إخراج الزكاة.
الثالث: إعانة المحتاجين قربة إلى الله عز وجل.
الخامس: جاءت آيات كثيرة تبين أن صفات المتقين أعم مما ورد في آية السياق لأنها جاءت للبيان، وإلا فان قوله تعالى [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] يتضمن الدلالة على صفات أهل الجنة في موارد الإيمان، وفعل الصالحات، والتنزه عن المعاصي.
وإذا كان إجتناب الغني وصاحب المال المسلم لأكل الربا من مصاديق التقوى، فهل إقرار وتسليم المسلم الفقير بحرمة الربا من مصاديق التقوى، أم أنه خارج بالتخصيص منها، لأن القدر المتيقن من آية السياق هم الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله في الشدة والرخاء.
الجواب هو الأول، من وجوه:
الأول: مجيء النداء في آية البحث بصيغة العموم (يا أيها الذين آمنوا) الشامل للمسلمين والمسلمات جميعاً، والله عز وجل يعلم بعدم إمتلاك كل مسلم المال ليقرضه ويفرض عليه زيادة ربوية، أو يعمل بالتجارة فيبيع بالآجل مع الربا.
الثاني: نزلت آية البحث والمسلمون في حال ضيق وعسر ونقص في المؤون، لتتجلى معاني التقوى بإظهار المسلمين القبول والإستجابة، والفزع على الإمتناع عن الربا.
الثالث: للنية والعزم موضوعية في الأجر والثواب، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إنما الأعمال بالنيات)( ).
الرابع: الفقر ليس حال ثابتة، بل أمر غير مستقر، وقد يعقبه الغنى خصوصاً مع الإيمان والتقوى، وحال المسلمين في أيام الدعوة الأولى أفضل شاهد، وقد يتعذر حدوث مثله في تأريخ الإنسانية مما مضى وما يأتي، فان قيل كثيرة هي الشواهد باستيلاء قبيلة أو حزب على الحكم وصاروا بين عشية وضحاها من أصحاب الثروة والجاه، وليس بالتدريج والجهاد المتصل للمسلمين وتحليهم بالصبر والتقوى، والجواب من جهات:
الأولى: إن الآية في تبدل حال المسلمين من الفقر والغنى المقيد والمقرون بتقوى الله عز وجل، وليس فيه ظلم وتعد.
الثانية: العموم والكثرة في التحول إلى الغنى، إذ أنه أصاب أمة كاملة وليس أفراداً أو قبيلة، وهو من البرهان والحجة لكي يجتنب المسلمون الربا وأكله شكراً لله عز وجل على نعمة الغنى، ويكون هذا الإجتناب بذات سلاح التقوى.
الثالثة: بقاء وتوارث حال الغنى وإتساعها، وملازمتها للمسلمين في كل زمان ومكان.
الرابعة: تعاهد المسلمين لحال الغنى والمال بإجتناب الربا والمعاصي وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن تحفظ مقامات العز والرفعة والسعة بالتقيد بأحكام الأوامر والنواهي الإلهية.
الخامسة:من مصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم السعة، وأكل المسلمين وغيرهم الطيبات، لذا فمن مفهوم آية البحث وما فيها من النهي عن الربا بشارة أكل الطيبات والإكتفاء بها، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ]( )، ومن مصاديق الشكر على أكل الطيبات والوعد من الله عز وجل بتحققها مسائل:
الأولى: الشكر لله بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورجاء إستدامة النعم، قال تعالى[وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).
الثانية: إجتناب الربا والمعاملات الباطلة.
الثالثة:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة: إتيان الصالحات، ونشر معاني الرحمة والرأفة بين الناس.
الخامسة: إقامة الحجة على الناس في لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تلاوة المسلمين لآية البحث، والتدبر في مضامينها، وبذلهم الوسع قربة إلى الله، قال تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ).
السادس: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وجود موانع دون أمر ونهي الفقير للغني عن الربا وغيره من المعاصي، وقوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] ( )، خطاب موجه للمسلمين جميعاً من غير تقييد بشرط أو رتبة مخصوصة.
السابع: مناجاة المسلمين بالتقوى، ولزوم الإمتناع عن الربا، وإجتماعهم في الوقوف بين يدي الله في الصلاة اليومية جماعة وإنفراداً، وهذا الوقوف واقية من الربا وأكله، وجاء في خطاب وأمر للمسلمين قوله تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
المسألة الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان علة الإنفاق والدلالة على موضوعه، أما العلة فهي الإيمان بالله ورسوله، ولباس التقوى وإتخاذها متاعاً للآخرة، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )، ويتعقب الثواب الإنفاق إذا كان في مرضاة الله، وطاعة له سبحانه.
وتبين آية السياق أن المسلمين لا يقفون عند مرتبة النطق بالشهادتين، بل يبادرون إلى أداء العبادات البدنية والمالية، وتعاهد الإيمان ومواجهة الكفار بالإنفاق حال الشدة والضيق.
وأما موضوع الإنفاق فهو في سبيل الله، وطلب رضاه وحبه، والشوق إليه سبحانه.
ومن أهم موارد الإنفاق إعانة المسلمين المحتاجين، ودفع سلطان الفقر عنهم والدفاع عن الإسلام.
وتقدير الآية(الذين ينفقون في سبيل الله في السراء والضراء) وتبعث الشهادة السماوية للمسلمين في سبيل الله في كل الأحوال الفزع والخوف في قلوب الكفار، وتجعلهم يمتنعون عن المناجاة لقتال المسلمين، وهذا من أسرار المدد القرآني للمسلمين، وأنه قوة عظيمة متجددة، وجزء علة لسلامة ثغورهم.
فجاءت آية البحث بالزجر عن الربا، والدعوة إلى التقوى ليكون الإنفاق من منازل التقوى، ومن أموال زاكية، ومكاسب شرعية ليس فيها بخس أو ظلم.
ويحتمل المراد بالإنفاق وجوهاً:
الأول: المعنى الحقيقي وإرادة بذل المال، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
الثاني: إرادة المعنى المجازي وكل ما يبذله المسلم من الجهد بالقول والفعل في سبيل الله، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعفو عن الناس، قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ]( ).
الثالث: أداء الفرائض والعبادات البدنية والمالية، والإتيان بمقدماتها وترك طلب المعاش وقت الصلاة، وفي أداء الحج، وعند النفير للجهاد، قال تعالى[إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
والصحيح هو الأول، فالقدر المتيقن من الآية هو إخراج الأموال في طاعة الله، نعم تدخل فيه العبادات المالية كالزكاة والإنفاق في العبادة البدنية المالية كالحج لما فيه من تحمل عناء السفر، وبذل الجهد لأداء المناسك، والوقوف في عرفة ومزدلفة والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وبذل المال لأداء الحج تعظيماً لشعائر الله.
وفي الجمع بين الآيتين ترغيب للمسلمين بالإنفاق، وتنزه عن كسب المال بالباطل والعقد الفاسد كعقد الربا.
وهل فيه وعد للمسلمين بالبدل والعوض الجواب نعم، لأن الإيمان باعث على التسليم بأن الله يخلف الإنفاق في سبيله، وأنه يثيب عليه بالجنة لذا جاءت الشهادة لهم من الله عز وجل بالإنفاق المتصل، وفي كل الأحوال باعتبار أنهم أهل الجنة بالإسناد عن(صعصعة عن أبي ذر قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَدَرَتْهُ( ) حَجَبَةُ الْجَنَّةِ) ( )، والمراد من الزوجين، فرسان من خيله، أو بعيران من إبله، أو شاتان من غنمه وهكذا بحسب الحال والزمان.
صلة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من إعجاز القرآن إعانة الأوامر التي فيه للنواهي والتقيد بها، وكذا العكس أي إعانة النواهي للمسلمين للإمتثال لأوامره.
فقد جاءت آية السياق ببعث المسلمين والمسلمات للإنفاق في سبيل الله، والتوكيد بأنه من صفات المتقين لتكون زاجراً إضافياً عن الربا، فهم يبذلون أموالهم الخاصة وفيه أمور:
الأول: فيه شاهد على طاعة المسلمين لله عز وجل.
الثاني: إنه من مصاديق الدفاع عن الإسلام.
الثالث:إستدامة أداء المسلمين للفرائض والسنن، وبلحاظ هذه الغايات السامية، والمقاصد الحميدة تتجلى معاني التنزه عن جمع المال بالحرام، وقد فرض الله عز وجل الزكاة على المسلمين لسلامتهم وطهارة مكاسبهم، ونماء أموالهم.
ويدل عليه موضوع الإنفاق ذاته لأنه يتعلق بأموالهم بالذات، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ]( ).
ووصف مادة الإنفاق بصفة الحسن من جهة الطيبات والكسب شاهد على سلامة سعيهم، وتنزههم عن الربا.
وقد يقال المراد بالآية أعلاه تقييد مصدر الإنفاق وانه في حال كون أموال المسلم من الحلال والحرام فيجب ألا ينفق من مال الربا، والجواب من وجوه:
الأول:إرادة تنزيه وتزكية أموال المسلمين.
الثاني: حث المسلمين على إخراج الزكاة والصدقات الواجبة التي هي تطهير ونماء للمال، وتهذيب للنفوس، وطرد للكدورات، قال تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ] ( ).
الثالث: لقد تضمنت آية البحث النهي عن جمع الأضعاف المضاعفة من الربا، مما يدل على أنها تكون جلّ مال الإنسان الذي يعمل بالربا ولا يستطيع الإنفاق إلا منها، وتفيد صيغة[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] المنع من إتخاذ الأموال الربوية مصدراً للمعيشة وإطعام العيال.
وهل الإنفاق من الأكل المذكور في آية البحث، الجواب لا، لأن الإنفاق إخراج للمال وبذل له، وإعطاؤه للغير من غير بدل ليكون فيه دليل على أن المسلمين يتنزهون عن أكل الحرام، ولا يكسبون إلا الحلال ومع هذا يسخرونه في سبيل الله.
فبعد الجهد والمشقة في الكسب، والحذر من المعاملة الربوية، والإبتعاد عن المكاسب المحرمة مطلقاً فانهم ينفقون شطراً من أموالهم في سبيل الله , ويأكلون الباقي من الكسب الطيب، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية: إنه دليل على تفقه المسلمين في أحكام الشريعة.
الثالثة: معرفة المسلمين لسبل وكيفية الكسب الحلال.
الرابع: مع إستغناء وتنزه المسلمين عن الأضعاف المضاعفة التي تأتي عن طريق الربا طاعة لله، فهم لم يقولوا بأن الأرباح والأضعاف الكثيرة حجبت عنهم للنهي عن الربا، والمنع من أكله وجعله مورداً للكسب وتوفير المؤونة للعيال، ولا يقولون هلا أذن لنا بالربا لتسخير الأضعاف المضاعفة التي تأتي عن طريق الربا في الإنفاق في سبيل الله، بل يقومون بالإنفاق مما في أيديهم من الأموال مع الإقرار والتسليم بأن الله عز وجل هو[الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
فحينما يمتنع الفرد والجماعة عن مورد من الحرام، فان الله يرزقه موارد أخرى متعددة من الكسب الحلال، وفي الأمر بالإنفاق مع النهي عن جمع الأضعاف المضاعفة من الربا إبتلاء ووعد كريم، فالله الذي يأمر بالإنفاق وينهى عن الربا هو الذي يجعل المسلمين في غنى عن الكسب الحرام، وقادرين على الإنفاق الكثير من غير أن يصاب كسبهم ورزقهم بالنقص والتلف.
الثانية: يأتي كسب الأموال وجني الأرباح في حال السراء والسعة والأمن، والنهي عن الربا مطلق في كل الأحوال، وكذا بالنسبة للإنفاق الذي جاءت آية السياق بالنص الجلي على الإطلاق في حال الشدة والعسر، وكثرة المال وقلته وينفقون في حال الخشية من القلة وكساد التجارات وإنقطاع الموارد.
وفيه آية إعجازية وهي أن المسلمين لا يلجأون عند كساد التجارات إلى المعاملات الربوية لزيادة أموالهم، ولا يقولون : الربا في هذه الحال ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات بقدرها، ولا يتأولون الأحكام الشرعية بما فيه الربح الحرام.
فلا يقولون إن موارد قاعدة(لا ضرر ولا ضرار) عدم الإستسلام لكساد والتجارات، وتلف رؤوس الأموال وجواز الكسب الحرام، بل ترى المسلمين في كل زمان يدركون حقيقة وهي حرمة الربا في حال السعة والضيق والحاجة، ولا تكون الضرورة علة لإباحة أكل الربا.
وتلك خصلة من خصال التقوى التي يتصف بها المسلمون، وأمارة على إقترابهم من الجنة واللبث الدائم فيها.
وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، تفضل الله عز وجل بالرد عليه بالحجة والبرهان وقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وفيه حجة دامغة على الملائكة فأدركوا معه الحكمة الإلهية في جعل آدم خليفة وأن الله عز وجل لايفعل إلا بعلم وحكمة وتدبير، فلاذوا بالتسبيح ثم بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتكون بعثته حجة عملية ومصداقاً لعلم الله عز وجل في صلاح الإنسان لخلافة الأرض بأن يتوارث المسلمون أمرين متلازمين وهما:
الأول: الإمتناع عن الربا في حال السراء والضراء.
الثاني: الإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة.
وفي هذه السنة المتوارثة شاهد على وجود أمة تعمل الصالحات، وتحارب الفساد، وتدعو لعمارة الأرض بعبادة الله وسنن التقوى.
الثالثة: تدعو النفس الشهوية وخصلة الطمع الإنسان إلى جمع الأموال، وقبض اليد عن الإنفاق، والتردد في المؤونة عن الذات.
والنفقة على خمس درجات:
الأولى: الضرورة وما يدفع به الهلاك، قال تعالى[وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ]( ).
الثانية: الحاجة التي لا يمكن الإستغناء عنها.
الثالثة: ما فيه النفع والمصلحة الخاصة.
الرابعة: الزينة وما فيه الغبطة وإظهار النعمة كأكل الطيبات، وإستعمال العطر.
الخامسة: النافلة، والأمر الزائد وأسباب الترف.
وجاءت آية البحث بإعطاء الأولوية للحلال والحرام في الكسب، فلا تكون موضوعية لدرجات وأسباب النفقة في فعل ونهج المسلمين.
فالملاك هو الأوامر والنواهي التي أنزلها الله عز وجل في القرآن، ومنها النهي عن الربا وجمع الأموال الطائلة بالعقود الربوية، وفيه شاهد على تحرر المسلمين من سلطان النفس الشهوية، وداء الطمع.
ثم تأتي آية السياق لتؤكد تنزه المسلمين عن الشح والبخل بل وإقدامهم على التضحية بالأموال في سبيل الله، بلحاظ حقيقة وهي أن الإنفاق جهاد وشجاعة، وإعلان للإقرار بالعبودية لله عز وجل، واللذة في إطاعة أوامره، وبذل النفس والمال حباً له، ورجاء الفوز بالمراتب الرفيعة التي أعدها الله للذين يخشونه بالغيب، قال تعالى[وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ] ( ).
وفيه مسائل:
الأولى: الآية إنذار للكفار.
الثانية: زجر لهم من التعدي على المسلمين وأمصارهم.
الثالثة: إستدامة تقديم رفعة وعز المؤمنين في أفعالهم، وبذلهم الأموال في طاعة الله.
وما فيه من الدلالة على المنعة التي يتصف بها المسلمون لأنهم لايلهثون وراء المال، بل يقومون بإنفاق شطر من أموالهم بسخاء في حال الرخاء والضيق دفاعاً عن دينهم ونفوسهم ودولتهم.
وهل إمتناع المسلمين عن الربا من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، الجواب نعم، لأن المسلمين يتنزهون عن الربا لأمور:
الأول: حسن التوكل على الله.
الثاني: الإنصياع لأوامر الله ونواهيه.
الثالث: الطمع لما عند الله من الثواب، قال تعالى[يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
الرابعة: لما جاءت آية البحث بالأمر الإلهي(واتقوا الله) وندبت المسلمين إلى جعل طاعة الله ملكة ثابتة تتغشى عالم الأقوال والأفعال، جاءت آية السياق لبيان مصداق من مصاديق التقوى، وهو الإنفاق في سبيل الله، وما يستلزمه من إخراج وبذل للمال وفيه منافع ومقاصد سامية منها:
الأول: طلب مرضاة الله.
الثاني: السعي لتثبيت أحكام الإسلام (قال النبي صلى الله عليه و سلم لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)( ).
الثالث: إعانة المسلمين للتنزه عن الربا.
ويترشح هذا الإخراج من وجوه
الأول: إيمان وتقوى.
الثاني: إرادة زكاة النفس والمال.
الثالث: قصد القربة إلى الله.
وهي أمور يتنافى معها أخذ الربا، وإنتزاع الزائد عن القرض بغير حق وإن جاء بصيغة العقد، لأمور:
الأول: بطلان العقد الربوي بدلالة آية البحث، والنصوص والإجماع.
الثاني: لم يأت الربح الربوي عن جهد مبذول، ومرابحة.
الثالث: لم يقم صاحب المال الربوي بالتجارة والتي من خصائصها الربح والخسارة، ولم يجر صفقات الشراء وعقود البيع.
الرابع: من التباين بين البيع والربا، أن البيع[تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ]( )، وعرض وطلب، وقبول وإيجاب.
أما الربا فان الرضا من طرف الذي يعطي الزيادة الربوية، وفيه شائبة الإكراه والحاجة، بدليل أنه يدفع أموالاً إضافية ليست عوضاً عن شيء.
فصاحب المال يستوفي رأس ماله ثم يستمر بأخذ الزيادة الربوية لذا وصفته الآية وبإعجاز بأنه آكل للربا،لإرادة إستحواذه على المال، وإضافته إلى أمواله بالعقد الربوي.
وجاء الأمر بالتقوى في آية البحث لأن الجنة أعدها الله عز وجل للمتقين الذين يتصفون بالإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة.
ويفيد الجمع بين الآيتين(اتقوا الله بالإنفاق في السراء والضراء) فمن الشواهد على أن المسلمين أهل الجنة قيامهم بالإنفاق في سبيل الله في كل الأحوال، ويقترن به إجتناب الربا في كل الأحوال أيضاً.
وهذا الجمع بين الأمرين، وعلى نحو الإطلاق الزماني والمكاني والحالي من مصاديق التقوى، ودليل على إمتثال المسلمين لقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] في باب من أبواب الجهاد، قال تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ] ( ).
الخامسة: أختتمت آية البحث بالإخبار عن كون التقوى سبيلاً مباركاً للفوز بالفلاح والتوفيق، ثم جاءت آية السياق لتخبر عن مصداق واحد متحد للبلغة والغاية المذكورتين في آية البحث، وهو الإنفاق في سبيل الله، ويتصف بأمور منها:
الأول: إنه من أفراد التقوى وطاعة الله.
الثاني: إنه من وجوه الفلاح وأسباب البقاء.
الثالث: إنه صفة الذين أعد الله عز وجل لهم الجنة.
وإعداد الجنة للأنبياء والصالحين في كل الأزمنة ومنذ أيام أبينا آدم، والإنفاق صفة لأهلها مما يدل على أنه قديم ومصاحب للإنسان ودليل على عمارته للأرض بالتقوى وهو من مصاديق الخلافة في الأرض.
وإن سّبب الأمر الأذى والضرر للمؤمنين , وإبتدأ بقتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل بخصوص القربان، وفي التنزيل[إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ).
لبيان أن التقوى أصل في قبول النفقة، ولابد من دخول الإسلام من أجل الفوز بثواب الإنفاق، وإقتطاف ثماره العاجلة في الدنيا، والآجلة في الآخرة.
قانون سلامة أحكام القرآن من التحريف
المراد بالسلامة هنا مصاديق العمل بمضامين آيات القرآن، ورد المتشابه إلى المحكم، وعدم التحريف عند التطبيق، وعدم تقديم المنسوخ على الناسخ، أو المجمل على المبين، أو الأخذ بالمندوب وترك الواجب الذي لا يجوز تركه .
وجاءت آية البحث بالأوامر إلى جميع المسلمين والمسلمات بطاعة الله لقوله تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ] وتجلت مصاديق طاعة المسلمين لله في ذات الآية بامتثالهم مجتمعين ومتفرقين عن أكل الربا، وقيامهم بإخراج الزكاة، وبذل المال في سبيل الله.
فان قلت هناك مصارف يمتلكها مسلمون تجري معاملات ربوية.
والجواب في حال ثبوت الربا في هذه المعاملات فان آية البحث تحاصرها وتمنع من جعلها أمراً متعارفاً ومقبولاً بين الناس .
فتطل هذه الآية على الناس كل يوم، وتدخل إلى تلك المصارف من الأبواب والنوافذ ومع الذين يدخلون إلى تلك المصارف، وتهجم على أرباب المصارف والعاملين في معاملاتها الربوية في بيوتهم ومضاجعهم ومنتدياتهم.
وهو من الشواهد على أن كل آية قرآنية رحمة , ومن خصائص آيات القرآن في أثرها ونفعها، المتصل والدائم، وشاهد بأن الآية القرآنية غضة طرية في رسمها وتلاوتها ومضامينها القدسية ومنافعها.
وليس من حصر لميادين نفعها، وأسباب الصلاح التي تحدثها الآية القرآنية، والبركات التي تترشح عنها.
ويلاحق قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] أولئك الذين يتجرأون ويتمادون في المعصية، وتصاحبه نداءات القرآن بالتوبة والإنابة، قال تعالى[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتحتمل الصلة الموضوعية بين الآية محل البحث، وبين الذين يعتدون ويأخذون الربا وجوهاً:
الأول: أثر الآية على هؤلاء الأشخاص، وزجرها لهم عن الربا.
الثاني: الضرر الذي يأتي من هؤلاء على التقيد العام بمضامين الآية الكريمة، ومنه النهي عن الربا.
الثالث: الأثر المتبادل، فالآية تؤثر بهؤلاء زجراً وتحذيراً، وتنبيهاً، وهم يؤثرون بالناس ويدعون في السيرة الفعلية إلى ترك العمل بمضامينها.
الرابع: ليس من أثر لكل منهما على الآخر، فهم أشخاص خارجون بالتخصيص عن النهي الوارد في الآية الكريمة.
والصحيح هو الأول، فتتصف الآية القرآنية بالحصانة في رسمها والفاظها ومضمونها، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
فكما أن آيات القرآن خالية من التحريف، فانها سالمة في مصاديقها الخارجية وتأويلها في ميادين العمل، وهو حاجة للناس لبعثهم على التقيد بالفرائض.
لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم)( ).
وفيه ضبط فعلي لأحكام الصلاة الإمتثال لقوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( )، ومنع من التحريف في التأويل والمصاديق العملية لها، خصوصاً وأن الصلاة عبادة يومية متجددة، وهي عمود الدين، فجاء أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الإتحاد في أفعال الصلاة للحث على تعاهد وحدة المسلمين، ونبذ مقدمات الفرقة والخلاف.
وقد يقال إن موضوع تعاهد صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاكاته فيها إنما أمر خاص بالسنة النبوية، وموضوع هذا القانون هو القرآن وآياته.
والجواب من وجوه:
الأول: أداء الصلاة وتعيين أوقاتها من المصاديق العملية لآيات القرآن، والسنة النبوية بيان وتفسير قولي وعملي لها.
الثاني: في التقيد بأحكام الصلاة دعوة للمسلمين بالتقيد بكل أحكام القرآن، ومنها قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( ).
الثالث: ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السنن هو من الوحي، ويجب الأخذ به بحسب ما فيه من وجوه العزيمة والرخصة، قال تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع: تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة على نحو الوجوب، ويجاهد المسلمون على نحو دائم ومتجدد من أجل المحافظة على السلامة الفعلية لآيات القرآن، والتصدي لأي إعتداء يراد منه تعطيل العمل بأحكام آيات القرآن، والتهاون في سنته.
وهذا الجهاد من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما رجع من معركة تبوك قال (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)( )، لبيان بذل المسلمين الوسع في أداء التكاليف وإجتناب الفواحش والسيئات ومنها الربا.
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين في إعانتهم في سلامة مصاديق العمل بآيات القرآن تلاوتهم لها على نحو الوجوب والتكرار في كل صلاة، والذي هو متكرر في ذاته من جهات:
الأولى: عدد الفرائض التي تصلى في اليوم والليلة.
الثانية: عدد الركعات التي يتلى فيها القرآن في كل صلاة يومية.
الثالثة: تعدد السور والآيات التي تقرأ في كل ركعة من الصلاة.
الرابعة: التكرار المتجدد لسورة الفاتحة بالذات في كل ركعة، لتصاحب المسلم والمسلمة في كل يوم إلى آخر عمره، ومدة أجله، السورة التي تتضمن الثناء على الله، والتسليم له بالربوبية المطلقة والدعاء، والمسألة، والرجاء، والإقرار باليوم الآخر وعالم الحساب وان[الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
إن جهاد المسلمين في حفظ القرآن، وسلامة أحكامه من التحريف وظيفتهم جميعاً على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي وهم يقومون به خير قيام ويولونه عناية خاصة، وتلك آية في خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي هذه السلامة أمور:
الأول: إستدامة للحياة على الأرض.
الثاني: إنها مانع من إنتشار الفساد في الأرض.
الثالث: إستدامة أحكام القرآن دفع لأسباب إثارة الفتن بين الناس.
الرابع: إنها دعوة للناس في كل زمان للتفكر في الخلق، ودلائل النبوة، وأسرار التنزيل قال تعالى[وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ]( ).
لقد أراد الله عز وجل لأحكام حرمة الربا موضوعاً وعلة مادية لبعث أسباب المودة بين الناس بالقرض والصدقة، وآية في الزجر عن الظلم والإستيلاء على مال الغير تحت ضغط الحاجة والأمل في توظيف المال للمقترض والمديون.
وهذه الأحكام دليل على وجود أمة وهم المسلمون يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، يتلقون التنزيل بالتصديق والمصاديق العملية والأفعال التي تمنع من تحريف التنزيل رسماً ومضموماً وحكماً، لتكون مناسبة لنزول الرزق الكريم على المسلمين والناس جميعاً.
ليتجلي الإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية في الواقع اليومي في كافة أمصار المسلمين، بل وفي غيرها من أرجاء الأرض لتتجلى مصاديق جديدة من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتتبين بوضوح في تداخل الأمم، وتقارب الأمصار، وتلاقح الأفكار وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
فقد إنتشر المسلمون في كل أنحاء الأرض، وهم متمسكون بحرمة الربا، وفيه مسائل:
الأولى: تحدي أعداء الإسلام.
الثانية: إنه شاهد على قوة ومنعة مبادئ الإسلام.
الثالثة: تعاهد المسلمين لأحكام الشريعة، وثباتهم عليها.
الرابعة: إعراض المسلمين عما يخالف سنن القرآن.
الخامسة: فيه بعث للأمن بين الناس.
السادسة: الدعوة للتنزه عن الربا مطلقاً.
وفي تقيد المسلمين بحرمة الربا وعزوفهم عن الأضعاف المضاعفة من الأموال أمور:
الأول: إمامة الناس في فعل الصالحات.
الثاني: بث مفاهيم الرحمة والرأفة بين الناس.
الثالث: إنه تذكير بحقيقة وهي أن تحريف الكتب السابقة ضرر بأهله، وإنقطع أثره عن غيرهم بنزول القرآن , وأن الله عز وجل تفضل وأنزل القرآن ليبقى سالماً عن التحريف في كلماته وأحكامه، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ]( ).
صلة (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: ياأيها الذين آمنوا والكاظمين الغيظ.
وفيه مدح إضافي للمسلمين، وبيان سمو أخلاقهم، وعلو همتهم، وحسن توكلهم على الله، وتحملهم الأذى في جنب الله.
فمع الإيمان يأتي الإبتلاء والحسد قال تعالى[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ]( )، فيقابل المسلمون الأذى بالصبر، ويظهرون أسمى معاني التحمل من غير تفريط بمبادئ الإسلام، أو تكاسل عن أداء الوظائف العبادية، لإفادة الواو في (والكاظمين) الجمع، فهم مع كثرة إنفاقهم في سبيل الله، يتحلون بالصبر.
وهل هذا الصبر من مصاديق التقوى، الجواب نعم، فهو وسيلة وسبيل إلى الفلاح، والفوز بالجنة.
وفي حديث أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من كظم غيظه و هو قادر على إنفاذه ملأه الله يوم القيامة رضا، و في خبر آخر ملأه الله يوم القيامة أمنا و إيمانا)( ).
وأبهى مصاديق الرضا يوم القيامة الجنة، وان كان يوم القيامة أعم إذ يشمل مواطن الحساب، والناس محتاجون فيها إلى رحمة ورضا الله ليكون من عمومات الرضا الأمن من عذاب وأهوال الآخرة , قال تعالى في وصف الذين آمنوا وعملوا الصالحات[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ترى ما هي صلة كظم الغيظ بالإيمان والعمل الصالح الجواب من وجوه:
الأول: يأتي كظم الغيظ وتحمل الأذى بقصد القربة إلى الله.
الثاني: صدور كظم الغيظ عن إيمان، وتقوى وطاعة لله.
الثالث: كظم الغيظ عمل صالح.
الرابع: يستحضر المسلم ندب القرآن لكظم الغيظ، والترغيب فيه فيملك نفسه، ويمنع الغضب من الإستحواذ عليه، قال تعالى في الثناء على المسلمين[وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
الصلة بين [وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: ذكرت آية السياق صفة كريمة أخرى من صفات المتقين، ويتفق العقلاء على الحسن الذاتي لهذه الصفة، وأن صاحبها يكون محموداً بين الناس، فما من إنسان يعفو عن الإساءة إلا ويشكر له الناس صنيعه.
ومن يترك الثأر والإنتقام مع قدرته عليه يثني عليه الناس، ويذكرون خصاله الحميدة، وكأن هذا الثناء من مصاديق ورشحات قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا] ( )، بحيث يلاقي الناس بالإحسان والقبول والرضا العفو وتحمل الأذى.
وهل لهذا الثناء أثر على الناس أم هو أمر مجرد.
الجواب هو الأول، فان العفو عن الناس دعوة إلى الله، لأنه خصلة من خصال الإيمان سواء كان بقصد القربة إلى الله ورجاء الثواب أم لا.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا تتصف بأمور:
الأول: إنها مدرسة الأخلاق لذا تفضل الله وجعل قصص الأنبياء قريبة من الناس، لتكون سبباً للإتعاظ والصلاح.
الثاني: هي منبع الهداية وسر التقوى.
الثالث: الدنيا طريق البقاء والخلود في النعيم.
ففاز المسلمون بالتوفيق والصلاح، قال الله تعالى في مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ومن خصائص المسلمين الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية، وتقدير الجمع بين الآيتين (يا أيها الذين آمنوا العافين عن الناس).
وفيه دعوة للمسلمين لرفع لواء العفو عن الناس، وصدق هذه الصفة عندهم باعث للطمأنينة في النفوس من المسلمين وما يأتون من الدعوة إلى الله عز وجل ومنه توكيد حرمة الربا، وإمتناعهم عنه، فمع أنهم يتنازلون عن حقوقهم في رد الإساءة والإعتداء، تراهم يتنزهون عن المكاسب المحرمة، ومنها أكل الربا.
وفيه آية من حسن الخلق، والأدب الرفيع الذي لا يقدر عليه الفرد والجماعة لولا فضل الله الذي يتجلى بالقرآن كتاباً نازلاً من السماء يتضمن قواعد الخلق الحميد الذي يكون أساساً لبناء المجتمع الإسلامي الذي تشع منه معاني الإيمان وضياء الهدى الذي يجذب الناس لعقائد الإسلام، وحاجة العصمة من الربا إلى الصبر وكذا بالنسبة للعفو عن الناس.
لذا جاء القرآن بالتوكيد على الصبر، ولزوم صيروته ملكة عند المسلمين في المعاملات والتعامل مع الناس، قال تعالى[وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور]( ).
وهل المراد من العفو خصوص ما يصدر من المسلمين أزاء الكفار وتحمل أذاهم، أم أنه شامل بما يحصل بين المسلمين.
الجواب هو الثاني، فالمراد من الناس في الآية المعنى الأعم، وإن كانت الدلالة في العفو عن الظلم الحاصل من عموم الناس ظاهرة وبينة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اذا كان يوم القيامة ناد مناد: من كان له على الله أجر فليقم . قال : فيقوم خلق ، فيقال لهم : ما أجركم على الله، فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله( ).
ومنهم من قيد العفو الوارد في الآية أعلاه، قال الزمخشري(ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال ، فيرجع ترك العفو مندوباً إليه ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى)( ).
ولكنه مستقرأ من ذات الآية الكريمة إذ أنها تدل على صدور العفو من مقامات العز والمنعة والشأن، فليس هو عفو من منازل الإستضعاف والذل , ومن الجمع بين هذه الآية وآيات أخرى، قال تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ).
لذا تدل آية السياق على قوة المسلمين، وأنهم يحاربون الظالمين بالعفو، ويقهرون النفس الغضبية بالمغفرة والعفو عن الناس، ليكون هذا العفو واقية للمسلمين من الظلم والتعدي.
الثانية: تحتمل النسبة بين هذا الشطر من آية السياق وبين قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] وجوهاً:
الأول: التساوي بين العفو عن الناس والإمتناع عن الربا.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، فاجتناب أكل الربا جزء وفرع من العفو عن الناس.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع: التباين الموضوعي بين العفو عن الناس والإمتناع عن أكل الربا.
والصحيح هو الثالث أعلاه فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول:الإمتثال لأمر الله عز وجل.
الثاني: قصد نيل الثواب من الله سواء بالعفو أو بإجتناب الربا.
الثالث: كل فرد منها من الخلق الحميد، وشاهد بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: جاء النهي عن أكل الربا بصيغة الجملة الإنشائية، أما العفو عن الناس فقد ورد بلغة الجملة الخبرية.
الثاني: ورد المنع من الربا خطاباً للمسلمين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما العفو عن الناس فهو صفة للمتقين الذين خلق الله الجنة لهم.
الثالث: العفو عن الناس أعم في موضوعه إذ يشمل الصفح عن الظلم والتعدي، أما إجتناب الربا فانه إمتناع ذاتي عن الظلم.
الثالثة: جاءت آية البحث بالأمر بتقوى الله وفيه وجوه:
الأول: الأمر بالتقوى عام يتغشى أحكام الشريعة من باب الطهارة إلى الديات.
الثاني: بيان حاجة المسلم للتقوى في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى]( ).
الثالث: يبعث الأمر بالتقوى في النفس البهجة والغبطة، ويجعلها تسع الناس على إختلاف مشاربهم، وتعرض صفحاً عما يأتيها من الأذى حباً لله وإمتثالاً لأوامره.
الرابع: توكيد ما ندب الله إليه من الخصال الكريمة التي تكون مرآة للتقوى.
الخامس: التقوى حجة على الناس في صلاح المسلمين، وصيرورتهم دعاة إلى الله بالفعل والترك، أما الفعل فهو قهر النفس الغضبية وإظهار السماحة والعفو.
وأما الترك فهو العزم على إجتناب أكل أموال الناس بالباطل والمعاملة الفاسدة، والعقد المنهي عنه شرعاً، وتفضل الله ووعد المسلمين بالجنة وأخبرهم عن تهيئتها لهم ومادتها مصاديق التقوى التي تؤهلهم للإقامة الدائمة فيها، ومنها تجرّع الغيظ والحنق الذي يترشح عن تعدي الطرف الآخر، قال تعالى[فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]( ).
ترى لماذا تعقبها العفو كظم الغيظ , الجواب من وجوه:
الأول: إرادة بيان تعدد الصفات الكريمة للمسلمين.
الثاني: منع المسلمين من الإنتقام والبطش بعد كظم الغيظ، وإنتهاء الواقعة.
الثالث: الإخبار عن حقيقة وهي أن الصبر ملكة ثابتة ودائمة عند المسلمين.
الرابع: إتصال الحجة على الناس بحسن خلق المسلمين، وأن هذا الحسن رشحة من الإيمان والتقوى .
فالإسلام تغيير وإصلاح للنفوس، وبرزخ دون العادات الذميمة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )، بلحاظ أن الدين الطريقة والشريعة والأحكام التي تستغرق ميادين العبادات والمعاملات والأخلاق.
الخامس: رجاء العفو والفضل من الله عز وجل ومحو السيئات , قال تعالى[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وبين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق، فالمسلمون جزء وشطر من الناس، ولفظ الناس عام شامل للمسلمين وأهل الكتاب والكفار، فجاء إطلاق العفو لبناء الشخصية المسلمة المتميزة عن الناس جميعاً بالعفو عند المقدرة، وإتخاذ العفو وسيلة لترغيب الناس في الإسلام، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها الإعجاز في ذات المسلم، والتغيير الحاصل في أخلاقه وسلوكه وعمله، وأمن الناس منه، بلحاظ أن العفو يدل على إجتناب الظلم من باب الأولوية القطعية، لأن العفو إسقاط لحق، ومن يسقط حقه عن ملكة، لا يظلم الناس ولا يأكل أموالهم بالباطل.
الرابعة: لقد ندب الله المسلمين للعفو عن الناس والصفح عن الأذى، وجعل ثوابه الجنة بقيد صدوره من منازل التقوى وحب الله، مما يدل على موضوعية وإعتبار العفو عن الناس في قصد القربة، الذي لا يكون في خصوص النية والعزم، بل بقصد ترتب الأثر عليه بين الناس بما ينفع في تثبيت معالم الدين وسنن الهداية.
فالمتقون هم الذين يتحملون الأذى من الناس، ليكون هذا التحمل دعوة لهم للإسلام، ولا تنحصر هذه الدعوة بمصدر الأذى، بل تشمل غيره، بالإسناد عن علي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين؟
قال: قلت: بلى يا رسول الله .
قال: تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك) ( )، (ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له: لم دام ملككم؟فقال:لأننا نعاقب على قدر الذنب لأعلى قدر الغضب) ( ).
وتدل الشواهد والوجدان بأن هذا ليس علة تامة لإستدامة الحكم، فتحكم الحكومات بالقوانين والأنظمة العامة، ومع هذا تسقط وتتلاشى.
وهل العفو عن الناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب لا، فهو أمر وإحسان آخر، ويكون مقدمة للأمر والنهي، ودرساً في لزوم إجتناب الأذى، وبرزخاً دون تكراره وصيرورته أمراً متبادلاً بصيغ الإنتقام والرد.
ليكون العفو سبيلاً إلى الفلاح والفوز بالثواب في الآخرة، والآية وإن جاءت بصيغة الحملة الخبرية إلا أنها تحث المسلمين على العفو وتدعوهم إلى التحلي بالصبر للفوز بالجنة.
وفي الآية شاهد على حب الله لعباده، وإمهاله لهم، ودعوة للمسلمين للتحمل منهم في الدنيا، أما الظلم والأذى الذي يصبر عليه المسلمون , ففيه مسائل:
الأولى: التخفيف عن المسلمين في تلقي الأذى، لأن المسلم يتجنب آثاره وأضراره النفسية، ومضاعفاته، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
فالعفو عن الناس سبب لدفع الزائد من الأذى عن المسلمين أنفسهم وتذكير بالله ورحمته، لأن المسلمين لم يبلغوا مرتبة العفو عن الآخرين إلا طلباً لمرضاة الله , وإستحضاراً لعالم الحساب , ورجاء العفو من الله.
الثانية: الصبر على الأذى مناسبة لمعرفة العدو وسجاياه، وعلة تعديه وسبب ظلمه.
الثالثة: ليس من حصر للشواهد التي تؤكد ندم وأسف المعتدي.
الرابعة:يرجو المسلم الأجر والثواب بالعفو عن الناس، وحينما يعفو الكافر هل يرجو الثواب.
الخامسة: العفو مناسبة كريمة لتذكير الناس بحاجتهم للعفو والمغفرة من الله يوم القيامة، قال تعالى[وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] ( ).
الجواب لا، لأن الآية تدل على ترتب الثواب على صدور العفو من منازل التقوى، وموضوع إعداد الجنة لأهل الصلاح، الذين يتصفون بطاعتهم لله عز وجل، ويدل بالدلالة التضمنية على إختصاص الثواب بهم، وأن الكفار حجبوه عن أنفسهم باختيارهم الجحود والعناد.
السادسة: يحتمل العفو الوارد في الآية وجوهاً:
الأول: ما يأتي إبتداء وحالاً، ويكون مصاحباً لكظم الغيظ بأن ينعدم الرد سواء كان بشدة التعدي أو أكثر أو أقل.
الثاني: العفو الذي يأتي لاحقاً، وبعد حين من التعدي.
الثالث: مايكون متعقباً للإعتذار من المعتدي.
وهل يختص المراد من العفو في الآية بالوجه الأول أعلاه، أم يشمل الوجهين الآخرين.
الصحيح هو الثاني، وهو من المندوحة في عمل الصالحات واللطف الإلهي بالمسلمين، وتقريبهم إلى منازل الفلاح، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ] ( ).
صلة (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين، على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا الله يحب المحسنين.
الثاني: لا تأكلوا الربا والله يحب المحسنين.
الثالث: واتقوا الله والله يحب المحسنين.
الرابع: والله يحب المحسنين لعلكم تفلحون.
الثانية: لقد خاطبت آية البحث المسلمين بصفة الإيمان وهي شهادة سماوية للمسلمين وبشارة لهم، ودعوة للناس جميعاً لأمور:
الأول:إقتفاء أثر المسلمين.
الثاني: إتباع المسلمين في نهجهم.
الثالث: الفوز بما ناله المسلمون كأفراد وأمة، قال تعالى [وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ] ( ).
ودخول الإسلام إحسان وخير محض، ويكون بلحاظ خاتمة آية السياق على وجوه:
الأول: دخول الإسلام إحسان للذات.
الثاني: إنه إحسان للأبناء الصلبيين والآتي منهم ومن الأحفاد، لوراثتهم الإسلام وجوباً، وحرمة إرتدادهم.
الثالث: في دخول الإسلام إحسان للمسلمين أنفسهم من جهات:
الأولى: ما فيه من القوة والمنعة لهم.
الثاني: زيادة عدد المسلمين.
الثالث: بعث الفزع في نفوس أعدائهم.
الرابعة: إنه شاهد على رجاء المسلمين لثواب الله، وتسليمهم بأنه أعظم من الإنتقام من المعتدي.
الرابع: فيه إحسان لأهل الكتاب لما فيه من توكيد الشهادة بصدق نبوة موسى وعيسى عليهما السلام، فنزول التوراة والإنجيل من عندالله، وواقية لهم من الكفار.
الخامس: فيه إحسان للناس جميعاً، لأنه خير دعوة لدخولهم الإسلام، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأسرار القرآن فمع ما في الإسلام من التكاليف، ومنها الإمتناع عن الربا وترك الأضعاف المضاعفة والأموال الطائلة طاعة لله عز وجل فإن الناس يدخلون فيه بأعداد متزايدة، ويفتخر كل مسلم ومسلمة بالإنتماء إلى الإسلام.
لقد جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وأسوة للمسلمين، قال سبحانه[ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( )، ويكون المسلمون أسوة حسنة للناس، بخصوص الدعوة إلى الإسلام، والعمل بأحكامه، والتنزه عن الربا لما فيه من الظلم.
الثالثة: أختتمت آية البحث بالإخبار عن حب الله عز وجل للمحسنين، وأكل الربا برزخ دون الإحسان، لما فيه من تعطيل للقرض، ومنع من إنتشاره وإشاعته، وهو إحسان وموضوع سيادة معاني الرحمة والمودة بين الناس، وجاء قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، بصيغة الجمع ليشمل المسلمين جميعاً لإسلامهم وإمتناعهم عن الربا وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه أمور:
الأول: حث المسلمين بعضهم بعضاً على الإحسان فيما بينهم.
الثاني: الإحسان إلى غيرهم بتعاهد أحكام الشريعة.
الثالث: مناجاة المسلمين للهروب من الربا ، والتناهي عنه , والإعراض عما فيه من الإغواء.
الرابع: إقامة الحجة على الناس بتلقي أوامر ونواهي القرآن بالقبول والإستجابة.
الخامس: ترغيب الناس بالإسلام لأنه علة الفوز بحب الله، وهو أغلى وأعظم ما يسعى إليه الإنسان في الحياة الدنيا والآخرة.
السادس:الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين لنشر الإحسان بإجتناب الربا.
السابع: قهر النفس الشهوية , والتغلب على خصلة الطمع والشح ونحوه من الأخلاق المذمومة.
الرابعة: كل فرد من أفراد آية السياق إحسان، سواء الإنفاق أو الصبر على الأذى، أو العفو عن المسيء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، لتوكيد أن مصاديق الجملة الخبرية في آية السياق أوامر وبعث للفعل إمتثالاً وطاعة لله عز وجل، ورجاء الثواب.
ويأتي جمعها مع آية البحث وما فيها من النهي والأمر لتعدد والمطلوب وتنمية ملكة الإيمان والطاعة لله عند المسلمين.
فالأمة التي تحرص على حبس النفس عن الرد، والإنتقام عند الحزن المترشح عن الأذى، ويمنع الفرد منها هيجان الطبع، ويدفع أسباب الحدة، طاعة لله عز وجل، وحباً له هي التي فازت بالخطاب من الله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وتولت مسؤولية إمامة الناس في الأسواق، وصيغ العقود والمعاملات باجتناب الربا عقداً ومعاملة وأثراً.
وهذا الإجتناب نهج الأنبياء السابقين، وتحملوا من أجله الأذى والصدود والتكذيب من قومهم، ولم يثبت هذا الحكم في الأرض، وتعرض للتحريف بذات الآيات والنواهي التي جاء بها الأنبياء، أو في عالم الفعل والواقع الخارجي بتقادم الأيام.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون أتباعه محسنين مع أنفسهم والناس، ومن إحسان المسلمين في المقام الدفاع عن الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنبوة مطلقاً، وتقيدهم بأحكام وسنن الشريعة، وتقوى الله والإمتناع عن أكل الربا قيل(التقوى العفاف عما حرم الله) ( ).
لقد أراد الله عز وجل إستئصال الربا من الأرض، ومعرفة الناس أنه فعل مذموم ومحرم، وإدراكهم للزوم خلو الحياة الدنيا من الظلم، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )، أخبرها الله أنه هو الذي يعلم أحوال الخليفة وذريته وكيفية إصلاحهم، وتقريبهم إلى منازل الطاعة ويعلم عواقب أمورهم وأنه سبحانه يتفضل ويبعث النبي محمداً وينزل عليه القرآن وتكون أمته أعظم الأمم، وأكثرها عددها.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلاَّ أُعْطِىَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ( ).
ومن خصائص أمة محمد إجتناب الظلم مطلقاً، ومن الدلائل عليه مفهوم ذم الظالمين، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( )، والمسلمون هداهم الله للإيمان، وجاءت لغة الإنذار والوعيد وما أعده الله عز وجل للظالمين قال سبحانه[أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ]( ) .
وقد جاءت البشارات للمسلمين بالجنة والخلود في النعيم، ويكون الظلم على وجوه:
الأول: الظلم الظاهر.
الثاني: الظلم الخفي.
الثالث: المصداق من الظلم الذي يكون ظاهراً وخفياً في آن واحد بلحاظ تعدد جهاته وآثاره.
الرابع : ظلم الغير، قريباً كان أو بعيداً.
الخامس: ظلم النفس، وجعلها تبوء بأوزار وأعباء في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
ويتصف الربا بانطباق الوجوه الثلاثة أعلاه عليه.
ومن الإعجاز في الأوامر والنواهي الإلهية تعدد المصاديق في كل زمان والتي تصح أن تكون بياناً وإنذاراً ودعوة لترك الربا، والتنزه عن عقوده.
الخامسة: مثلما أن كل فرد من أفراد آية السياق إحسان، فان كل فرد من أفراد آية البحث إحسان وخير محض، وهي تتضمن أربعة أطراف:
الأول: الخطاب التشريفي للمسلمين والمسلمات.
الثاني: النهي التنزيهي عن الربا.
الثالث: الأمر بتقوى الله.
الرابع: رجاء الفلاح والتوفيق للمسلمين مجتمعين ومتفرقين.
ليكون العمل بمضامين آية البحث سبيلاً للإرتقاء، وباباً للثواب، وكنزاً في النشأتين تنهل منه أجيال المسلمين، وتساهم في تعاهده، والإ ضافة إليه، فليس من جيل إلا ويعمل في بناء صرح وكنوز الإيمان من وجوه:
الأول: ترسيخ مفاهيم التقوى في الأرض.
الثاني: البعث على النفرة من الربا.
الثالث: دفع الناس للتفقه في الدين، ومعرفة وجود أمة تعمل بالضوابط الشرعية في الأسواق.
الرابع:التذكير باليوم الآخر، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب وفوز المسلمين بالإستعداد والتزود للحساب، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
السادسة: ورد اسم الجلالة في الآيتين، وجاء في آية البحث بصيغة الجملة الإنشائية(اتقوا الله) في خطاب عام للمسلمين، ويحتمل وجوهاً:
الأول: الخطاب الإنحلالي لكل فرد من المسلمين والمسلمات ، وتقدير الفرد منه(اتق الله).
الثاني: توجه الخطاب للمسلمين على نحو العموم المجموعي كأمة متحدة.
الثالث: الجامع المشترك للوجهين أعلاه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكل فرد منها في طول الآخر.
وجاء في آية السياق بصيغة الجملة الخبرية والفاعلية لله عز وجل في حبه للمحسنين، والتقوى من الإحسان، ليكون هذا الحب على وجوه:
الأول: إنه جزاء للمسلمين على التقوى وفعل الخيرات، قال تعالى[وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني: بعث المسلمين للسعي في مقدمات ومصاديق التقوى في آن واحد.
الثالث: إرتقاء المسلمين في سلّم المعارف الإلهية بمعرفة مصاديق الإحسان وإتيانها، ومعرفة ضد الإحسان وإجتنابه.
ويتجلى الإحسان بترك الربا، مما يدل على أن الإحسان أعم من الفعل، وبصدق على الترك بقصد القربة وطاعة الله، ولو لم يكن عند المسلم مال وموضوع للربا فهل يصدق عليه أنه من المحسنين في هذا الباب أم أنها سالبة بإنتفاء الموضوع.
الجواب هو الأول، لأن مصاديق الإحسان في موضوع الربا متعددة منها:
الأول: النية والعزم على ترك الربا.
الثاني: النفرة من الربا، لأن الله عز وجل نهى عنه، وتلك النفرة كيفية نفسانية، وإعتقاد في قلب الإنسان.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خصوص الربا، وإرشاد الناس إلى لزوم إجتناب الربا معاملة وكسباً.
الرابع: التحلي بالتعفف والإمتناع عن المعاملات الباطلة، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ] ( ).
لقد مدحت آيات القرآن المسلمين، وهم الأمة التي ورثت مبادئ النبوة، وتولت تعاهد عمارة الأرض بالعبادة والصلاح، وإتخذت الجهاد سبيلاً لتثبيت أحكام التوحيد، وهي تسعى بنهج مستقيم نحو السعادة الأبدية في جنة الخلد.
ليكون هذا المدح والنهج مجتمعين ومتفرقين حجة على الناس في الدنيا والآخرة، ووسيلة مباركة لهدايتهم وإرشادهم لوظائفهم التي خلقهم الله وسخر لهم ما في الأرض من أجلها.
وورد ذكر اسم الجلالة في الآيتين أمراً وجزاء، فالأمر هو التقوى وإجلال مقام الربوبية بالحرص على طاعة أوامر الله، واللذة في إستحضار ذكره عند كل فعل وفي كل آن، ليأتي المدد من الله بالتوفيق في سبل التقوى والسلامة من آفة الشك والكسل، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] ( ).
وإذا كانت التقوى تحتاج إلى الصبر في مجاهدة النفس، وإكراهها على ترك الشهوات المرجوحة، ومنعها من الإنغماس في زخرف الدنيا، فهل يحتاج الإحسان الصبر.
الجواب نعم لأنه مادة في سعي المؤمنين من وجوه:
الأول: بذل الوسع في ميادين الصلاح وأسباب الرشاد، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثاني: نشر مفاهيم الود والوئام بين الناس.
الثالث إنفاق المال وتسخير النفس والوقت في السعي لقضاء الحوائج.
ومن يكون هذا دأبه يتنزه عن الظلم وأكل مال الناس بالربا والزيادة القرضية.
وتحتمل الآية أعلاه أموراً:
الأول: لزوم إجتماع التقوى والإحسان عند المسلمين كي يكون الله معهم قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
الثاني: كفاية أحد الأمرين، التقوى والإحسان.
الثالث: يدل حب الله للمحسنين على أنه سبحانه معهم أينما كانوا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن الله عز وجل هو الواسع الكريم الذي ليس من حد لرحمته وفضله.
والصلة بين الآيتين، فيها مسائل:
الأولى: بشارة المسلمين بالعفو والرحمة، وبعثهم على العمل للفوز بالرحمة، ولا يعلم أحد معاني الرحمة في المقام إلا الله، وفي الحصر بالعلم بأسرار ومضامين الرحمة الإلهية بالله عز وجل، أمور:
الأول: تشريف وإكرام المسلمين.
الثاني: بيان عظيم شكر الله عز وجل للمسلمين على دخولهم الإسلام وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهدايتهم لسبل الإيمان.
الثالث: عجز عقول البشر عن الإحاطة برحمة الله، والوعد الكريم بها، قال تعالى[فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ]( ).
وفيه ترغيب للمسلمين بإجتناب الربا وبعث للنفرة في النفوس من الأرباح الربوية، فتلك الأرباح محدودة وإن كانت أضعافاً مضاعفة، أما رحمة الله في الدنيا والآخرة فهي أكبر من التصور الذهني.
الرابع: كما جاء الخطاب التشريفي للمسلمين(يا أيها الذين آمنوا) بصيغة الجمع، جاء قوله تعالى(لعلكم ترحمون) بصيغة الجمع أيضاً، وفيه أمران:
الأول: فوز المسلم برحمة الله.
الثاني: تغشي الرحمة لعموم المسلمين كأمة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن تأتيهم الرحمة مجتمعين ومتفرقين.
بحث قرآني
بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لدعوتهم لعمارة الأرض بذكره سبحانه، وأداء الوظائف التي خلقهم من أجلها من الصلاة والصيام وإتيان المناسك.
وتفضل الله عز وجل وأنزل القرآن ليكون على وجوه مباركة منها:
الأول: إنه الدستور الشامل لأمور الدين والدنيا.
الثاني: القرآن بيان سماوي للأحكام.
الثالث: إنفراد القرآن بالسلامة من التبديل والتحريف والتغيير , قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوكيد إعجاز القرآن [رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ] ( ).
وهل في شطر الآية أعلاه مدح للمسلمين، الجواب نعم، لأن الله عز وجل شرّفهم بأمور ثلاثة:
الأول: نزول الآيات من الله عز وجل.
الثاني: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين الآيات لذات النص واللفظ الذي نزل به جبرئيل.
الثالث: تشرف المسلمين بتلقي آيات القرآن , ولا بد أن ينعكس هذا التلقي على أفعال المسلمين ويكون سبباً لصلاحهم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن وجوه الصلاح في المقام الإمتناع عن الربا، لأن النهي عنه آية بينة من عند الله، وفي هذه العصمة أمور:
الأول: إنه إعجاز متجدد للقرآن، يطل على الناس في كل زمان ومكان.
الثاني: إنه مائز يفصل القرآن عن الكتب السماوية السابقة، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
الثالث: بيان حاجة الناس للقرآن.
الرابع:عجز الكفار عن قهر المسلمين في ميدان الكتاب والتنزيل، فقد يستطيعون الإستيلاء على ثغر من ثغور المسلمين إلى حين، ولكنهم لن يستطيعوا تغيير وتحريف القرآن ومعانيه.
فان قلت هذه الحال منذ أيام البعثة النبوية وإلى الزمن الحاضر، ولا يعني أنه سيستمر خصوصاً مع هذا التداخل السريع بين الأمم وإشتداد الهجوم على الإسلام، وظهور الإبتلاء ومداهمة شك أهل الجحود إلى عامة الناس، والجواب من وجوه:
الأول: حفظ القرآن إرادة سماوية، وأمر كوني، وآية من عند الله.
الثاني: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ومنه جهاد المسلمين في حفظ القرآن.
الثالث: تعاهد المسلمين لأحكام القرآن سبيل لسلامته من التحريف، وصد الأعداء عن التعدي عليه، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع: حرص المسلمين على إجتناب الربا وسيلة مباركة لحفظ القرآن، وباعث للفزع في قلوب الكفار، وقد يقال إن الله عز وجل هو الذي حفظ القرآن بدليل الآية أعلاه، فما هي موضوعية الإمتناع عن الربا في المقام.
الجواب من وجوه:
الأول: ليس من حصر لمصاديق حفظ الله عز وجل للقرآن، ومنها إمتثال المسلمين للأوامر والنواهي.
الثاني: إمتناع المسلمين عن الربا مصداق عملي لحفظ القرآن لينفرد المسلمون بخصوصية وهي التعاهد العملي لآيات القرآن وما فيها من أحكام.
الثالث: أراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات الأجر والثواب في حفظ آيات القرآن.
الرابع: توكيد حقيقة وهي حاجة المسلمين والناس لحفظ القرآن.
وهل هذا الإمتثال موضوع متحد في حفظ القرآن أم أنه متعدد.
الصحيح هو الثاني فكل فرد من إمتثال المسلم للأوامر أو النواهي في الليل أو النهار هو حفظ القرآن، وقد تكون تلك الأفراد مركبة كما في الصلاة اليومية، فيساهم المسلم والمسلمة في حفظ القرآن بأداء الصلاة من وجوه:
الأول: كل أداء لفرض.
الثاني:كل ركعة من الصلاة.
الثالث:النية وقصد القربة في الصلاة.
الرابع:تكبيرة الإحرام.
الخامس: قراءة سورة الفاتحة.
السادس: قراءة السورة والآيات التي بعد الفاتحة.
السابع: كل ركوع هو حفظ للقرآن، قال تعالى[وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
الثامن: الإتيان بالسجدتين.
التاسع:التشهد والتسليم.
العاشر: تجلي أبهى معاني الخضوع والخشوع لله في الصلاة.
الخامس:يبقى المسلمون في جهاد متصل لحفظ القرآن رسماً وتلاوة ومصحفاً ما بين الدفتين، وفيه الأجر والثواب.
وهل يدخل بذل العلماء الوسع في باب التفسير والتأويل في مصاديق هذا الجهاد.
الجواب نعم، وهو من الواجبات الكفائية في كل زمان بلحاظ قانون دائم وهو تجلي أسرار مستحدثة، وظهور كنوز متجددة من معاني دلالات آيات القرآن، لتساهم علوم التفسير بأبوابها ومواضيعها المتعددة الثابتة والمستحدثة في حفظ القرآن في زمن العولمة وما بعده.
فان قيل قد يزداد الهجوم على القرآن بأجيال لاحقة وأزمنة مختلفة عما نحن فيه الآن، خاصة وأن قرائن عديدة تدل على المجهول في مستقبل العالم السياسي بعد قرون من الزمان، وزيادة سكان الأرض والتقارب بين الأمصار، وإشتراك أهل الأرض في الإطلاع على الوقائع , وإقتباس المسائل منها.
والجواب إن زيادة السكان رحمة من الله، وهي أقرب لتثبيت الأنظمة والشرائع السماوية، ومناسبة لبذل المسلمين الوسع والجهاد في سبيل الله، والشواهد على ملائمة الخطاب القرآني للناس في حال إنعدام الحد الظاهر في طرف كثرتهم.
ومن إعجاز القرآن كثرة الآيات التي تدل على إستمرار الرزق في كل الأحوال، قال تعالى[وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] ( ).
وستبقى الأوامر والنواهي الواردة في آيتي البحث والسياق شاهداً على إستمرار النعم على المسلمين، وتوكيداً بأنهم في حال من السعة.
ولو طرأ عليهم ضيق وشدة فأنهم يستمرون بالإنفاق طاعة لله عز وجل، ويجتنبون الربا تقرباً إليه سبحانه.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالبشارة وجعل نفوسهم تمتلأ سكينة بقوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، والذي ورد بصيغة الإطلاق الزماني من غير تقييد بحال دون آخر.
ومن الآيات أن حفظ القرآن وسلامته من التحريف عون للمسلمين في مواجهة التعدي والتحدي من الكفار، وسلاح لتعاهد المسلمين الجهاد اليومي في الذب عن القرآن وأحكامه.
إن كل مرة يجتنب فيها المسلم الربا مساهمة في حفظ القرآن، وزجر للكفار عن التعدي على القرآن وأهله.
وحال العولمة ومن في المشرق يتصل مع أهل المغرب وكأنهم جيران هل يملي على المسلمين وظائف إضافية في حفظ وتعاهد القرآن.
الجواب نعم، وهم مدعوون لإستثمار وسائل الإعلام، وأسباب الإتصال والتقارب لبيان إعجاز القرآن , قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وجاءت كل من آية البحث والسياق توكيداً على الجدال بالأحسن، ومنه كظم الغيظ، وإظهار العفو، في ذات الوقت الذي يتقيدون فيه بالأوامر والنواهي، ويمتنعون عن أكل الربا ولو كانا مصدراً للربح الكثير، ليكون هذا التقييد عنوان الثبات على الإيمان، وتعاهد آيات القرآن بالإمتثال الفعلي لمضامينها، والسنن المذكورة فيها والتفقه في الدين، ومعرفة حدود الربا حتى في حال إختلاط المفاهيم.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل قرض جر منفعة فهو ربا ( )، وصح الحديث عند إمام الحرمين والغزالي، كما ورد عن الأئمة عليهم السلام، ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وكذا عن عبد الله بن سلام موقوفاً عليهم.
جاء قوله تعالى(واتقوا النار) وما فيه من التحذير والإنذار من النار بين أمرين في ذات الآية( ):
الأول: تقوى الله.
الثاني: طاعة الله ورسوله.
ومع أن ذكر النار يبعث الفزع والخوف في النفوس فان الله عز وجل رحيم بالمسلمين، ومن رحمته نظم الآيات ومضامينها، إذ أخبرت الآية عن العلة الغائية من خلق النار، فذكرت بالنص الجلي والصريح سوء عاقبة الذين يصرون على الكفر والجحود، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
ولكن هذا لا يمنع من لزوم أخذ المسلم الحيطة والحذر في أمور دينه ودنياه بدليل أن الآية الكريمة جاءت بصيغة الأمر والإنذار(واتقوا النار).
وهل في الآية إخبار عن حقيقة وهي أن الذين يدخلون النار أعم من الذين أعدت لهم، وبين الفريقين عموم وخصوص مطلق، فكل من أعدت له النار يدخلها، ولكن دخولها لا يختص بهم فلذا وردت آية السياق بتحذير المسلمين بالذات من النار خشية أن يدخلوها.
الجواب لا دليل على هذه النسبة إلا بدليل وقرينة أخرى كما في الإخبار القرآني عن سوء عاقبة المنافقين، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
نعم النفاق شعبة من الكفر بلحاظ أن المنافق يخفي الكفر ويكذب بالآيات في قرارة نفسه، والله عز وجل يعلم السرائر.
وهل في الإمتناع عن الربا وقاية من النار، الجواب نعم، لما في هذا الإمتناع من طاعة الله، وخشية من النار.
وكما أن النسبة بين التقوى والكفر هي التباين والتضاد، فان أهل التقوى الذين يمتنعون عن الربا في مأمن من النار، وتلك بشارة عاجلة للمسلمين لحرصهم على إجتناب الربا، والتنزه عنه طاعة الله عز وجل، وسعياً في دروب الفلاح، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
بحث منطقي
القضية في علم المنطق هي الخبر أي المركب التام الذي يجوز وصفه بالصدق أو الكذب بحسب موضوعه، ويستثنى منه الخبر القرآني، والخبر الوارد في السنة فهو لا يصح عليه إلا الصدق، وليس من عوارضه الكذب، قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ] ( ) .
أما الإنشاء فان الأصل فيه الحقيقة كما في الإستفهام لإرادة التعلم، والسؤال للحاجة، والشكوى نتيجة الأذى إلا أن يكون عن تكلف وعمد كما في الذي عنده مؤونته ويسأل الناس.
وقوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] من الإنشاء وليس الخبر، وهو يفيد الصدق بالذات والعرض، من وجوه:
الأول: إنه نص قرآني نازل من السماء، قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ] ( ).
الثاني: إنه إنشاء يفيد الأمر.
الثالث: دلالة الآية القرآنية على وجود موضوع لها بإصابة المسلمين الأموال والذهب والفضة بالغنائم والمكاسب والزراعات والصناعات، ولا تختص الآية بزمن النبوة والتنزيل بل هي شاملة لأيام الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة، ويدل على الموضوع الواقع والوجدان.
فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا وكان عدد من المسلمين من أرباب الأموال، بالإضافة إلى حقيقة وهي وجود الربا في مجتمعات قريش قبل الإسلام لأنهم كانوا أهل تجارة.
وتقسم القضية إلى قسمين:
الأول: القضية الحمليّة، وهي التي تتكون من موضوع ومحمول يصح السكوت عليهما كخبر، فتكون من طرفين مع وجود نسبة ظاهرة بينهما، وهي على شعبتين، وهذا التقسيم نستحدثه هنا:
الأولى: ما يتحد فيها الطرفان، ويثبت المحمول للموضوع، مثل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(الصيام جنة) ( )، الربا حرام ، تقوى الله واجب.
الثانية: ما ينتفي الإتحاد بين الطرفين، ولا يثبت المحمول للموضوع مثل الربا لا يجوز، فهناك تناف بين الربا والجواز، الظالم غير محبوب، لأن المحبة كيفية نفسانية تتجلى بالميل إلى المحبوب، وتنفر النفوس من الظالم ونهجه.
ومع التباين بين الشعبتين إلا أن كل واحدة منهما تسمى حملية لأن الكلام فيها لم يبق معلقاً على أمر آخر، بل يتضمن الثبوت أو النفي بذاته.
الثاني: القضية الشرطية: وهي التي لا تكون النسبة فيها بين طرفي القضية الثبوت أو النفي، بل تكون النسبة بينهما على شعبتين:
الأولى: النسبة بين الطرفين الإتصال والملازمة والتعليق مثل [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ] ( )، وتأتي القضية الشرطية في العلة والمعلول، وعدم تخلف المعلول عن علته، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
فجاءت الآية أعلاه بالقضية الشرطية على نحو متكرر، ثم أختتمت بالقضية الحملية بثبوت المحمول وهو التوكل على الله للموضوع وهم المؤمنون، وتسمى هذه الشعبة بالقضية المتصلة.
الشعبة الثانية: تكون النسبة بين طرفي القضية التباين والإنفصال وتسمى الشرطية المنفصلة كما في قوله تعالى[إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ] ( ).
وبلحاظ التقسيم أعلاه للقضية جاءت آية البحث بالقضية الحملية بنعت المسلمين بالمؤمنين الذين صدّقوا بالله عز وجل ونبوة محمد، وهو مركب تام يقطع بوصفه بالصدق لأنه شهادة وإخبار من الله عز وجل , قال سبحانه[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( )، وبحرمة الربا على نحو الإطلاق.
فصحيح أن صيغة النهي من الجملة الإنشائية إلا أنها تتضمن في دلالتها على الحمل والخبر القاطع بحرمة الربا على نحو الإطلاق وجاء الفلاح في قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] بصيغة الجملة الشرطية المتصلة وتعليق الفلاح الخاص والعام على تقوى الله، وفيه توكيد للزجر عن الربا، وبيان حجبه للنعيم الأخروي.
بحث إعجازي
ظاهر آية السياق أن خاتمتها بشارة الرحمة لقوله تعالى(لعلكم ترحمون).
ومن خصائص القرآن أن بشاراته باعث على العمل الصالح، ووقاية من السيئات، وهو من إعجاز القرآن الذي لم يتم كشف علومه بعد، فتأتي البشارة بصيغة الجملة الخبرية عن حال المسلمين في الآخرة، وفوزهم بالنعيم الخالد، لتكون هذه البشارة مدداً وإماماً للمسلمين يهديهم إلى سبل الفوز بمضامين تلك البشارة، وبرزخاً دون إتيان الموانع التي تحول دون تحقيقها.
ومن الآيات أن تأتي البشارة بلغة الإجمال والإطلاق، ولكن آيات القرآن الأخرى تتضمن تفصيلها وبيانها بما يجعلها قريبة من المسلمين، وحاضرة في الوجود الذهني في أحوال كثيرة منها:
الأول: عند إتيان الفعل الذي تتعلق به البشارة.
الثاني: حال الشوق لتلك البشارة ومضامينها القدسية.
الثالث: في مواطن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وليس من حصر للغة البشارة في القرآن.
فتارة تأتي بالتصريح كما في قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( )، وفي هذا التصريح من البيان أمور:
الأول: إنه من فضل الله عز وجل على المسلمين.
الثاني: توكيد رحمة الله عز وجل بالمسلمين، وتعدد النعم الإلهية بلحاظ أن البشارة بالجنة ذاتها نعمة عظيمة، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثالث: نفي الجهالة والغرر، وطرد الغفلة بخصوصية ماهية البشارة.
الرابع: منع الفرقة والإختلاف في موضوع البشارة لتكون البشارة تامة في ذاتها وموضوعها وأثرها.
الخامس: إقامة الحجة على الكفار، وحثهم على التوبة والإنابة، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، ولتكون البشارة حسرة في قلوب الذين يعصون أمر الله.
السادس: دعوة المسلمين لإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه شوق للبشارة، وحباً له سبحانه، وطمعاً بفضله ومنه إجتناب أكل الربا، للتسليم بأن أكل الربا مانع من البشارة والفوز بها.
وتأتي البشارة تارة أخرى بصيغة الإستقراء ولغة الشرط، والتعليق على العمل كما في خاتمة كل من آيتي البحث والسياق(لعلكم تفلحون) (لعلكم ترحمون) لتكون البشارة باعثاً على عمل الصالحات وزاجراً عن فعل السيئات.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإختبار، ولم يترك الإنسان يواجه الإبتلاء بنفسه من غير إعانة ومدد منه تعالى، بل تفضل وجعل البشارات السماوية عوناً للإنسان في إختيار سبيل الهدى.
وصاحبت هذه البشارات الإنسان من حين أوان نزوله إلى الأرض كما في قوله تعالى في آدم وحواء[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ولم تنقطع تلك البشارات ولم تفارق الإنسان، بل إستمرت على لسان الأنبياء في تعاقبهم وتوارثهم الكتاب إلى أن جاءت في القرآن على نحو دفعي متعدد في صيغته وموضوعه وبيانه وظهوره.
ولو جمعت البشارات في الكتب السابقة لرأيتها أقل عدداً ومضموناً من بشارات القرآن، قال تعالى[مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: إنه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثانية: بيان حاجة الناس للقرآن، وما جعل الله فيه من البشارات ومصاديق الرحمة.
الثالثة: إنه من مصاديق إكرام وتفضيل المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة: جذب الناس لمنازل الهداية والإيمان بتعدد وكثرة البشارة، وظهورها بالتصريح والتوكيد ولغة الشرط، وهل تدل مفاهيم إنذارات القرآن على البشارات وموضوعها , الجواب نعم، للتسليم بأمور:
الأول: مجيء الأنبياء والتنزيل بالإخبار عن خلق الجنة والنار.
الثاني: حضور معاني البشارة عند ذكر الإنذار للملازمة بين البشارة والإنذار، وجاء لفظ(مبشراً) خمس مرات في القرآن وهي على قسمين:
الأول: جاء هذا اللفظ أربع مرات خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقترناً مع قوله تعالى نذيراً، قال سبحانه[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الثاني: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وتقدير الآية بلحاظ الجمع مع الآية أعلاه(إسمه أحمد مبشراً ونذيراً).
وهل يتعارض ذكر الإنذار في القرآن مع البشارة وعظيم أثرها.
الجواب لا، لأن أثره في طول نفع وبركات البشارة، وهو طريق إليها وللتدبر في مضامينها القدسية خصوصاً وأن صبغة التنزيل تشمل الإنذار مما يدل على إتصافه بالبركة، وهو نعمة من عند الله، وزجر عن الطريق الذي لا يوصل إلى البشارة، لتوكيد أن الحياة الدنيا(دار البشارة) تصاحب فيها البشارة الإنسان، وتدعوه إلى قبولها والتصديق بها، وعدم الغفلة عنها.
ويكون القرآن مرآة لهذه البشارة وشاهداً سماوياً على صدقها ولزوم عدم تضييعها.
الصلة بين خاتمتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تكررت لغة الرجاء في الآيتين مع إتحاد الجهة التي يتوجه لها الخطاب وهم المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة، ويتوارث الناس الذهب والفضة، ولكن المسلمين يتوارثون قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ][لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]، وكل منهما كنز يضيء دروب السالكين في الدنيا والآخرة.
وحرف الترجي(لعل) في المقام شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله، فلم تقل الآية(وأتقوا الله فأنكم ترحمون)بل جاءت بصيغة الترجي(لعلكم ترحمون) لوجوه:
الأول: تعليق رحمة الله عز وجل على المشيئة، قال تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثاني: بعث المسلمين على فعل الصالحات وإجتناب السيئات.
الثالث: الإخبار عن حقيقة وهي تجدد الإمتحان والإفتتان بالدنيا في كل ساعة من ساعات ابن آدم في الحياة الدنيا، قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
الرابع: التذكير بحاجة المسلمين والناس جميعاً، وهو من صيغ التخفيف عن المسلمين وتذكيرهم بلزوم تقوى الله، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الخامس: دعوة المسلمين للإستغفار والإنابة واللجوء إلى الله.
الثانية: توكيد فضل الله عز وجل على المسلمين بتعدد أسباب الرجاء التي يسعون في مسالكها، ويأملون توالي النعم من عند الله، إذ تتضمن الآيتان البشارة بفلاح ونجاح المسلمين، وبتغشيهم برحمة الله.
فإن قلت إن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، والمسلمون فازوا بهذه الرحمة، فكيف تقول الآية لعلكم ترحمون؟
والجواب من وجوه:
الأول: ليس من تعارض بين الآيتين، وخاتمة آية البحث وما فيها من رجاء الرحمة في طول الآية أعلاه، وإخبارها عن رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قوله تعالى(لعلكم ترحمون) من مصاديق نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا النزول من عمومات الآية أعلاه.
الثالث: يفيد الجمع بين الآيتين تعدد مصاديق الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن منها ما هو عام للإنس والجن، ومنها ما هو عام للناس، ومنها خاص لأهل الإيمان كنيل المراتب العالية في النعيم الدائم.
ومن رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرمة الربا والتقيد العام من المسلمين بهذه الرحمة، فإن قلت جاء الأنبياء السابقون بذات الأمر.
والجواب من وجوه:
الأول: بعثة الأنبياء السابقين رحمة من الله، ولا تنحصر مصاديق الرحمة بزمن النبي وأهله بل تشمل السابق، واللاحق، ومن مصاديقه أنهم بشروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتعظ الأجيال اللاحقة، وتتخذ من البشارة مناسبة وحجة لدخول الإسلام.
الثاني: معاني ومصاديق الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم وأوسع.
الثالث: تنفرد أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها تقيدت وتتقيد إلى يوم القيامة بأحكام حرمة الربا، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة: بين الرحمة والفلاح عموم وخصوص مطلق، فكل فلاح هو رحمة وليس العكس.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن المعنى الأعم وهو(لعلكم ترحمون) لبعث الناس على طاعة الله والتقيد بأحكام حرمة الربا لأن فيها نظام المعايش وضبط الأسواق، وفي إحتناب الربا منافع عظيمة منها:
الأول: إستدامة غنى أصحاب الأموال.
الثاني: إتساع طائفة الأغنياء وأهل الأموال، لأن الكسب يعود لأهله، فمن يكسب ديناراً لا يضطر لدفع نصفه لآكل الربا، وينفق النصف الباقي على مؤونته وعياله.
الثالث: سلامة الأغنياء من حسد أهل الفسوق والفجور.
الرابع: تنزيه الأسواق من الغش والتدليس والغرر الذي يتفرع عن المعاملات الربوية.
الخامس: منع الغبن والتعدي في العقود.
السادس: شيوع مفاهيم المودة والرأفة بين الناس، وظهور معاني السماح في البيع والشراء.
السابع: تعاهد أداء الزكاة ودفع الصدقات.
بحث أصولي
تتجلى معاني التكامل في الشريعة الإسلامية في مصاديق الأحكام التشريعية، وما فيها من الضبط والدقة، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
ليكون هذا التكامل على وجوه:
الأول: إنه حجة على الناس جميعاً.
الثاني: فيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث:إنه برزخ دون إشاعة الفساد في الأرض.
الرابع: الثناء على المسلمين لتلقي الشريعة المتكاملة.
الرابع: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة التكامل في الأحكام، وكل فرد من هذه الأفراد الخمسة من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لإرتقاء المسلمين في سلم منازل الإيمان والتقوى والشكر.
وقد أسس علماء الإسلام علوماً عديدة منها في المقام:
الأول: علم أصول الحديث: ويتعلق بعلم الفقه والروايات والأخبار والتراجم والرجال، وصحة سند الحديث، ودلالته.
الثاني: علم أصول الفقه: وهو يتعلق بالتشريع، والأحكام والأنظمة، وأدلة الفتوى والقضاء.
وتعريفه: معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى إستنباط الأحكام(قال ابن خلدون: واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة) ( ).
الثالث: علم التفسير: وفيه شرح وتأويل لآيات القرآن، وبيان الأحكام والدلائل، وهو علم متجدد ومن اللامتناهي، لأنه غوص في كنوز وذخائر من العلوم والقواعد.
وقد شرعنا في تفسيرنا بعلم (الصلة بين آيات القرآن) والذي يقع في أكثر من ثلاثة ملايين جزء على العلماء في الأجيال اللاحقة إتمامه.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إختبار وإمتحان، ومن أهم مصاديق الإختبار فيها الأحكام الشرعية، وعمل العبد وفق أحكام التنزيل.
وتنقسم الأحكام الشرعية تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين ولم يرد هذا التقسيم في الكتاب أو السنة، وهو ممما أسسه علماء الأصول، لذا فإنه قابل للتفصيل والنقض والإبرام، وإعادة القسمة وفق ضوابط أخرى، والقسمان هما:
الأول: الأحكام التكليفية: وهي الأحكام الصادرة من الشارع بداعي الأمر أو النهي أو الترخيص، وسميت التكليفية لما فيها من المشقة والعناء في إتيان المأمور به أو إجتناب المنهي عنه.
وقد يرد إشكال على تسميتها بالتكليفية، لعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وإنتفع المسلمون من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه بأبهى وأفضل الوجوه، وصار ترك الفرائض والعبادات التي جاءت في القرآن بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مشقة وعناء.
ويجوز رد هذا الإشكال بآيات قرآنية التي تتضمن الإشارة إلى التكليف، ومنها قوله تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
والتكليف على خمسة وجوه:
الأول: الوجوب: وهو ما أمر الشارع المكلف بفعله، وجاء الوعد بالثواب عليه، والعقاب على تركه.
الثاني: المندوب: وهو ما أمر به الشارع مع جواز تركه، ومنهم من عرّفه: ما يحمد فاعله، ولا يذم تاركه.
وأختلف هل المندوب مأمور به أم لا، والأرجح الأول لأنه طاعة وسعي في مرضاة الله، وقيل أن الأمر بالمندوب مجاز، لأن تارك الأمر حقيقة عاص، ولا يقال لتارك المندوب عاص.
وأستدل عليه بحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(ولولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)( ).
ولا دليل على تقسيم الأمر في المقام إلى حقيقة ومجاز، ولكنه من الحقيقة، ويكون على مراتب تشكيكية متفاوتة .
ومع تزاحم المندوبات والمستحبات يقدم الأهم والأكثر توكيداً لقاعدة تقديم الأهم على المهم، ويكون الفعل مستحباً بماهيته ودليله، أما الثواب على إتيانه فيتعلق بقصد القربة، وهو المشهور وقيل(لا دليل للمشهور من عقل أو نقل على هذا الإختصاص وأن الثواب مترتب على مطلق فعل المحبوب لله تعالى ما لم يقصد الرياء)( ).
ولكن الخلاف صغروي إذ تتعدد وجوه ومعاني قصد القربة، ويكفي أدناها وصرف الطبيعة من نية وقصد القربة، والله واسع كريم.
وهل يمكن الإستدلال بقوله تعالى[وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ] ( )، على كفاية فعل المسلم وإن لم يقصد القربة فيه، الجواب لا، من وجوه:
الأول: مجيء المسلمين بالفعل بما هم مؤمنين.
الثاني: جهادهم ونيلهم من العدو الكافر وهم لم يحاربوا لمنافع شخصية بل لطلب مرضاة الله.
الثالث: لحاظ سياق موضوع الآية أعلاه لبيان قصد القربة في الآية بالنص لقوله تعالى[لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا….]( ).
لذا قسم المندوب إلى ثلاثة أقسام، ويطلق على المستحب أحياناً السنة، ولكنها أعم في الإصطلاح والمعنى.
الثالث: الإباحة وتأتي لتساوي المصلحة والمفسدة في الفعل أو لعدمها، أو لوجود المصلحة مع مانع من الإلزام بالفعل أو العكس، وتأتي في الأمور التي جعلها الله عز وجل رحمة وباباً للرزق وسبباً للشكر لله، وإختيار العبد.
وجعل بعض الأصوليين( ) أقسام الحكم التكليفي سبعة، إذ قسموا الكراهة إلى قسمين:
الأول: الكراهة التنزيهية.
الثاني: الكراهة التحريمية.
وقسموا الواجب إلى قسمين:
الأول: الفرض، أي أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً.
الثاني: الواجب.
والفرض ما طلبه الشارع طلباً كثيراً كالصلاة والزكاة وفعله واجب، ومنكره كافر، وتاركه بدون عذر فاسق.
وأما الواجب فهو ما طلبه الشارع على نحو غير جازم بدليل ظني الثبوت أو ظني الدلالة كصلاة الوتر، ولا يحكم بالكفر على منكر هذا الواجب، ولا بالفسق على تاركه إلا إذا كان تركه إستخفافاً.
ويقسم الواجب في الصلاة إلى شعبتين:
الأولى: الواجب الركني، وهو الذي تقتضي زيادته عمداً أو سهواً بطلان الصلاة، إلا في صلاة الجماعة بالنسبة لحال السهو دون العمد، ومنه تكبيرة الإحرام، والركوع، والسجدتان.
الثانية: الواجب غير الركني، والذي تبطل الصلاة بزيادته عمداً، أما إذا كان سهواً فلا تبطل بسببه الصلاة، ومنه القراءة والتشهد، والسلام( ).
الثاني: الأحكام الوضعية: الوضع لغة ضد الرفع(وضَعَه يَضَعُه وَضْعاً ومَوْضُوعاً) ( ).
وفي الحديث: يَنْزِل عيسى بنُ مريمَ فيَضَعُ الجِزْيةَ)( )،وفي علة وضعها وجهان:
الأول: دخول الناس الإسلام، وإنتفاء موضوع الجزية لعدم بقاء ذمي.
الثاني: عدم وجود فقير محتاج لأن الناس في مندوحة وسعة من العيش.
وأشكل على الوجه الثاني أعلاه لأن الفرائض لا تعلل، والحكم الوضعي خطاب الله المتعلق بجعل الشيء مادة وموضوعاً لفعل المكلف، وهو حكم مجعول منشأ وليس بحكم تكليفي ومنه الملكية والزوجية.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn