معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 96

المقدمـــــة

الحمد لله الذي جعل الدنيا دار العلم إذ أكرم الإنسان بمصاحبة التنزيل له منذ أن هبط آدم عليه السلام بكنوز الجنة من المعرفة وأسباب الهداية والصلاح قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ] ( )، لتكون علوم آدم ذخائر إدخرها الله عز وجل له ولذريته من بعده، مما يملي على الناس الشكر لله عز وجل بالعمل بمصاديق هذا العلم الذي تجلى باستمرار التنزيل وبعثة الأنبياء يعقب بعضهم بعضاً، قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ).
أي أنه بشر إختاره الله عز وجل ليكون رسوله للناس، وقد بعث الله قبله أنبياء ورسلاً، فقاموا بتبليغ رسالاتهم، وانقضت أيامهم فمنهم من مات، ومنهم من قتل شهيداً لدعوته إلى الله.
ومع مجيء الآية أعلاه بتحذير المسلمين من الإرتداد بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا أن موضوعها أعم وفيه إشارة إلى بقاء الشريعة التي جاء بها، وتوثيق نبوة ومعجزات الأنبياء السابقين برسالته، والكتاب الذي نزل على صدره .
وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]. ومن مصاديق الشكر لله الإمتثال للأوامر وإجتناب النواهي التي جاءت في القرآن، ومنها النهي عن الربا .
ويحتمل هذا النهي وجوهاً:
الأول:إختصاص حرمة الربا بالمسلمين، لأن الخطاب التكليفي الذي إبتدأت به الآية خاص بالمسلمين لقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا).
الثاني: المنع من الربا خاص بزمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها للبركات والخيرات المصاحبة لها , وكثرة الأموال التي تدار بين الناس بعد بعثته.
الثالث:جاء كل الأنبياء بحرمة الربا.
الرابع: لأن الرسل أصحاب شرائع مبتدأة، فهم الذين جاءوا بحرمة الربا, وإتبعهم الأنبياء.
والصحيح هو الثالث، فليس من نبي إلا وتولى البلاغ بحرمة الربا وجاهد من أجل منعه .
وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتكون حرمة الربا دائمة متصلة، وتكون هناك أمة عظيمة تتنزه وإلى يوم القيامة عن الربا، وهم المسلمون .
وتدل على الإطلاق الزماني لحرمة الربا لغة الماضي في قوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ) .
وتدل حلية البيع على صحته، للملازمة بين الحلية والصحة، ليجتمع في النهي عن الربا حرمته وقبحه، وصحة ضده وهو البيع , وهذا التضاد والتباين سبب إضافي للنفرة من الربا.
ليرث المسلمون الأنبياء في تركة الصلاح والتقوى التي خلفوها للناس جميعاً، ويفوز المسلمون بالسلامة من الإبتلاء بنقص الأموال الذي يترشح عن الربا قهراً.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الربا وان كثر فان عاقبته تصير إلى قل) ( ).
ليكون النهي عن الربا رحمة خاصة وعامة، رحمة بالمسلم لإجتنابه الربا، ورحمة بالمسلمين لما في هذا الإجتناب من الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة.
ورحمة بالناس جميعاً وفيه أمور:
الأول: إظهار معاني التعاون والتعاضد بين الناس في باب التجارات والمكاسب.
الثاني: إشاعة روح القرض.
الثالث: إمهال المدين الذي يعجز عن الوفاء في الأجل.
الرابع: الإبتعاد عن الظلم مطلقاً، فمن يحترز عن الظلم الخفي خشية من الله عز وجل يجتنب الجور والظلم الظاهر.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال( أيها الناس اتقوا الظلم فانها الظلمات يوم القيامة) ( ).
لقد جاءت سبع آيات من القرآن بالنص على حرمة الربا، والنهي المطلق عن الفائدة الربوية، ومنها آية البحث .
وتجلى الإعجاز فيها بابتدائها بالثناء على المسلمين بالشهادة لهم بالإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لبيان حقيقة خالدة وهي أن المسلمين أهل للإكرام، الذي هو فضل من الله عز وجل يتلقونه بالشكر لله عز وجل بالعصمة العامة عن الربا، التي هي من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتتجلى مفاهيم الإتحاد والأخوّة بين المسلمين والمسلمات بالإيجاب والسلب، بأداء الفرائض والعبادات، وبالحصانة من المعاصي.
وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام، وزجر عن السعي للإضرار بالمسلمين.
وفي إجتناب المسلمين للربا أمور:
الأول: إنه جهاد في سبيل الله في باب المعاملات.
الثاني: إنه سعي لتنزيه الأسواق من البخس وشروط الغبن.
الثالث: إنه مناسبة لذكر الله عز وجل بلحاظ أن إجتناب المسلمين للربا طاعة لله وإحتراز من معصيته.
الرابع: إنه شاهد على حفظ المسلمين لأحكام التنزيل وتعاهدهم لها بالواقع العملي.
وأراد الله للمسلمين حفظ راية النبوة وإلى يوم القيامة.
لقد بدأ نزول القرآن في مكة المكرمة، قبل أن يهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وقد نزل عليه جبرئيل بآيات وسور من القرآن وهي التي أطلق عليه السور المكية،في مقابل السور المدنية وفق تقسيم إستقرائي .
وتتصف السور المكية بأنها تتضمن مبادئ دين التوحيد، وصيغ الإنذار والوعيد للكفار والتخويف بيوم القيامة والوقوف بين يدي الله للحساب، قال تعالى[إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا] ( )، وجاءت بالخطاب الشامل للناس على نحو العموم الإستغراقي(يا أيها الناس).
وجاءت الآيات والسور المدنية بخطاب الإكرام والعز للمسلمين والمسلمات(يا أيها الذين آمنوا) وبيان الأحكام والقواعد والسنن إلى يوم القيامة.
وحتى السور المدنية فيها تقسيم وترتيب موضوعاً وحكماً بما هو أعم من النسخ فقد ذكر لفظ الربا خمس مرات في سورة البقرة، منها ثلاثة في آية واحدة( )، وواحدة في الآية التي تليها لبيان أضرار حرمة الربا وسوء عاقبته، وإصرار الكفار في الجاهلية على تعاطيه.
وورد في سورة آل عمران مرة واحدة في آية البحث للبيان والتفصيل الموضوعي وثبوت ذات موضوع الحرمة وإن كان الربا (أضعافاً مضاعفة)، مع إبتداء الآية بالخطاب للمسلمين بالتشريف، وما فيه من الدلالة والبشارة بأن لهم دولة وأموالاً وتجارات.
وجاء مثله بخصوص أداء مناسك الحج، فقد ورد في سورة البقرة بلغة الإجمال[وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ]( ) لبيان وجوب الحج، ثم جاء التفصيل في سورة آل عمران بما يمنع من الحرج والإختلاف وتعدد الإحتمال في مقابل النص[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، بالتقييد بلحاظ الإستطاعة والزاد والراحلة.
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه لم تأت بصيغة الإستثناء(إلا من لم يستطع) بل وردت بلغة الملازمة بينها وبين الوجوب للندب إليه، وبقاء باب إستحباب الحج مفتوحاً، لتتجلى حقيقة من وجوه:
الأول: التداخل والملازمة بين سور القرآن.
الثاني: سورة آل عمران متممة للسنن والأحكام التي جاءت في سورة البقرة.
الثالث: تأكيــــد التوقيف في نزول سور القرآن، وأن ترتيبها في المصحف بأمر من عند الله عز وجل، وفيه دعوة لجعل موضوعية له في علم التفسير والتأويل.
وبعد أن جاء الجزء التاسع والثمانون والتسعون من هذا السِفر المبارك في تفسير وتأويل آية الربا من سورة آل عمران، جاء هذا الجزء في ذات الآية وإستقراء العلوم , وإقتباس الدروس , وإستنباط المسائل , وتأسيس القوانين من هذه الآية الكريمة في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً, وسيأتي الجزء التالي في تفسير هذه الآية، ويبدأ بتفسير قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا].
وفيه دعوة لعشاق القرآن وطلاب الحقيقة للتدبر في علوم القرآن، والغوص في كنوزه وإقتباس دروس الحكمة منه فليس في هذه الأجزاء خروج عن ذات ومضامين الآية الكريمة، قال تعالى[وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).

[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]الآية 130
اللغة
(الأَكْلة المرة الواحدة حتى يَشْبَع)( )، و(والأُكْلَةُ: اسم كاللقمة)( ).
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به”)( )، والآكل صاحب المال الذي يقبض الفائدة الربوية، والموكل المقترض الذي يدفع لغيره الربا.
ويقال: مأكول حمير خير من آكلها أي عامة أهلها خير من واليها، يقال: فلان يستأكل القوم، أي يأكل أموالهم.
وهذا الحديث يأكل الأحاديث أي يكون راجحاً عليها في البيان والدلالة وإنعدام المعارض، (وفي الحديث: إذا أَكلتم فرازِمُوا)( )، أي ناوبوا بين الأكل والحمد كما يكون الأكل من طعامين مرة من هذا، وأخرى من الطعام الثاني.
(وفي الحديث نهى عن المؤاكلة، قال ابن الأَثير هو أَن يكون للرجل على الرجل دين فيُهْدِي إِليه شيئاً ليؤَخِّره ويُمْسك عن اقتضائه سمي مُؤَاكَلة لأَن كل واحد منهما يُؤْكِل صاحبَه أَي يُطْعِمه)( ).
والربا في اللغة الزيادة، وفي الإصطلاح: فضل من دون عوض، يأتي شرطاً في العقد لصاحب المال.
وألف الربا منقلبة عن الواو، لأنه يقال: ربا يربو، وكتابته بالياء للإمالة.

  1. وعن أبي يوسف لو قال (علي لفلان دراهم مضاعفة ) فعلي ستة وإن قال (أضعاف مضاعفة) فعلية ثمانية عشر لأن ضعف الثلاثة ثلاث مرات تسعة ثم ضاعفها مرة أخرى لقوله مضاعفة ( ).
    ولكن المراد من المضاعفة في الآية أعم، ويفيد الإطلاق من غير تعيين لحد مخصوص من طرف القلة أو الكثرة، لأن الأصل للأضعاف في الآية مبهم ونكرة وليس جمعاً لماهية الأضعاف وأصلها.
    وهو من إعجاز الآية، والإشارة إلى تعاقب وتوالي المعاملات الربوية ويتجلى الإطلاق والتنكير أيضاً في لفظ الأكل لأنه أمر يومي متجدد متصل يعجز الإنسان عن حسابه، قال تعالى[ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ]( ).
  2. (قال الخليل: أضعفت الشَّيءَ إِضعافاً، وضعَّفتُهُ تضعيفاً، وضاعْفتُهُ مُضاعَفة، وهو أن يُزادَ على أصل الشَّيء فيُجعلَ مثلين أو أكثر)( ).
  3. وضعفتهم بقولي: أي كثرتهم، وصار عددهم أضعافاً، ويقال درع مضاعفة: أي منسوجة حلقتين حلقتين.
  4. (فلان ضعيف متضعف، وأخوه قوي مضعف)( )، والمراد من الأول أنه ذو قلة في نفسه وأهله وماله، أما أخوه فهو ذو منعة وقوة وكثرة في الأهل والمال والجاه.
  5. (ومن المجاز: هو في أضعاف الكتاب وتضاعيفه: في أثنائه وأوساطه، وكان يونس في أضعاف الحوت)( ).
  6. (وقيل كانت الكتب المنزلة لا تجمع حفظاً وإنما يعتمد في حفظها على الصحف بخلاف القرآن فإن حفّاظه أضعاف مضاعفة لصُحُفه).
  7. والضعيف من اللغات أي ما كان أقل مرتبة من الفصيح، والمنكر أضعف وأدنى منه، سمي منكراً لإنكار بعض أئمة اللغة له، وعدم معرفته له، والمتروك ما كان قديماً من اللغات ثم هجر وترك وأستعمل غيره.
  8. الفلاح والفلح البقاء على الخير، والفلاح: الخير مطلقاً.
    وفي الحديث:كلّ قوم على زينة من أمرهم ومفلحة من أنفسهم)( ).
  9. ومن فصول الأذان، حي على الفلاح، ويأتي بعد قول المؤذن حي على الصلاة،(أي هلموا إلى الفوز).
    والفلاح: الخير مطلقاً.
    لماذا لفظ(الأكل)
    الربا عقد بين طرفين بين بائع ومشتر، أو مقرض ومقترض، وجاء النهي عن الربا في الآية بصيغة الأكل، ويحتمل وجوهاً:
    الأول: جواز ما قبل الأكل من إجراء العقد والقبض.
    الثاني: إرادة تشديد الحرمة عند الأكل وجعل الزيادة الربوية من المؤونة، فالحرمة لا تشمل الكسب الربوي بل تختص بتوظيفه وإستعماله، وشراء الطعام له والإنفاق منه.
    الثالث: جاء لفظ الأكل مجازاً، وكناية عن تملك المال الربوي، ومطلق القبض.
    والصحيح هو الثالث، فحرمة الربا شاملة لعقده وكتابته، وقبض الفائدة الربوية، قال تعالى في ذم فريق من الذين هادوا[وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ]( )، مما يدل على حرمة أخذ المال الربوي على أهل الكتاب أيضاً.
    وجاء الإسلام ليقطع حبل تحريف التنزيل وإلى يوم القيامة.
    ومن مصاديق جهاد المسلمين أمور:
    الأول: الجهاد في تعاهد التنزيل والتأويل.
    الثاني: إقامة حدود الله.
    الثالث: التنزه عن أكل ما حرّم الله، قال تعالى في البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفته في التوراة[وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ]( ) .
    ومكتوب في السفر الخامس(إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك و أجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به و فيها أيضا مكتوب، وأما ابن الأمة فقد باركت عليه جداً جداً و سيلد إثني عشر عظيما و أؤخره لأمة عظيمة)( ).
    وبين الحرام والخبيث عموم وخصوص مطلق، فكل حرام هو خبيث وليس العكس، والربا جامع للحرمة والخبث.
    فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلواء حرمة الربا ليبقى هذا اللواء إلى يوم القيامة حرباً على الباطل، ودعوة إلى الحق والهدى.
    الرابع: إكتفاء المسلمين بأكل القليل مما أحلّ الله لهم.
    الخامس: المبادرة إلى الصدقة والإنفاق في سبيل الله، قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً]( ).
    بحث بلاغي إعجازي
    يحتمل المراد من الأكل وجوهاً:
    الأول: إرادة المعنى الحقيقي للأكل، وأن الطعام يكون ذاته ربا، كما لو كانت الزيادة الربوية مما يؤكل سواء دفعه المقترض مطبوخاً غير مطبوخ.
    الثاني: حصول الأكل بالواسطة أي يتم قبض الفائدة الربوية، ثم شراء الأكل والشرب من الفائدة.
    الثالث: إرادة المعنى المجازي للأكل.
    الرابع: المراد من الأكل كل إشتراط، وقبض الفائدة الربوية الزائدة على القرض.
    ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، إذ أنها تشمل الوجه الرابع أعلاه، وتكون الوجوه الأخرى في طوله، ولا تتعارض معه، وهو من إعجاز القرآن، وفيه دلالة على أمور:
    الأول: تعدد مضامين النهي المتحد في القرآن.
    الثاني: البيان والتفسير الذاتي للفظ القرآني فهو يفسر نفسه، بلحاظ موضوعه وحكمه، إذ أن الأكل لم يأت على نحو التنكير، بل جاء بالتعريف بإضافة الأكل إلى الربا، ليكون الربا هو المأكول.
    والمراد منه المنفعة الزائدة مطلقاً سواء كانت عروضاً أو جواهر أو نقوداً أو منفعة عرضية كالسكن في الدار مجاناً مدة القرض.
    الثالث: تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيماً إستقرائياً من خلال إستعمال وتوظيف اللفظ وما يدل عليه من المعاني، إذ أن إنتقال المعنى إلى المجاز لقرينة صارفة عن المعنى الوضعي، ويتجلى بالعقل واللغة والوجدان بأن المجاز ليس وضعاً إبتدائياً وتأسيساً.
    والتقسيم إلى حقيقة ومجاز غالباً ما يتلاشى في اللفظ القرآني مما يدل على مصاديق أخرى من الإعجاز لم يبلغها علم التفسير، وقواعد البلاغة والفصاحة.
    وفيه آية من جهات:
    الأولى: ثبوت قانون وهو أن معاني اللفظ القرآني أعم من المعنى اللغوي بقسمي الحقيقة والمجاز، وحتى المجاز فانه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قلة وكثرة والجامع لهما والذي يتصف هو الآخر بالتعدد بحسب اللحاظ والموضوع.
    الثانية: المعاني الإضافية للفظ القرآني بالدلائل والشواهد والقرائن، من وجوه:
    الأول:آيات القرآن ، ومجيء ذات اللفظ في آيات أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهو من عمومات قانون التفسير الذاتي للقرآن.
    وورد لفظ(كلوا) في القرآن سبعاً وعشرين مرة، كلها في معنى الأكل حقيقة، وورد في المعنى الأعم مثلاً في باب مهر المرأة قال تعالى[فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا]( )، أي إذا تركت المرأة جزءً من مهراً تكرماً وإحساناً وإعانة للزوج فيكون له، والهني الطيب المساغ، والمرئ الحسن العاقبة الذي ليس فيه ضرر أو أذى.
    الثاني: نظم الآيات ومعنى اللفظ بلحاظ موضعه في ذات الآية وموضوعها، والآيات المجاورة لها.
    الثالث: أسباب النزول، وما يترشح عنها من المعاني والمفاهيم للفظ القرآني.
    الرابع: التحقيق في أمهات كتب اللغة، ولغات العرب، وإستحضار الشعر العربي قبل الإسلام الذي يتضمن ذات اللفظ، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
    وفيه بيان لموضوعية اللغة العربية في إستقراء أسرار ودرر من كنوز ودلالات الآية القرآنية، ومنها مجيء آية البحث بلفظ الأكل المنهي عنه نهياً قطعياً مع أن المعاملة تجارية، وتتعلق بالمال لتشمل القبض والإدخار والكسب والنفقة من المال الربوي، ودخوله البيت بصفة الطعام والزاد، ليستحضر صاحبه حرمة الربا حتى ساعة الأكل.
    الخامس: الصدور عن السنة النبوية، وإستظهار معاني اللفظ القرآني منها بلحاظ أنها بيان وتفسير للقرآن، والمصدر الثاني للتشريع، وتتداخل في قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] الحقيقة مع المجاز لينتج عنها معنى إضافي مستحدث ليكون المعنى الإصطلاحي للفظ القرآني آية إعجازية في اللغة والعقائد، وباباً مفتوحاً للدراسة والتحقيق وإستنباط المسائل والسنن، وإستظهار الأحكام ورؤية ضياء من علل الأحكام، وإتخاذه مناسبة للهداية، والعمل بمضامين آيات القرآن.
    وهل يحتمل وجود معاني للأكل الوارد في قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] لم تستقرأ أو تدرك إلا بمستقبل الأيام وحدوث وقائع وشواهد تدل على إعجاز اللفظ القرآني، وما فيه من الأسرار والذخائر الموضوعية والحكمية.
    الجواب نعم، ليكون إستقراء هذه المعاني عوناً للسلامة من وجوه الإبتلاء المستحدث الذي يأتي مع تداخل الحضارات، وإنغماس الإنسان في الحياة اليومية، وتشعب معاملات البيع والشراء والرهن والقرض والإجارة، وكثرة المؤسسات المالية والمصرفية، وإختصاصها بوضع شروط وقواعد خاصة بها لجني الأرباح، ودعوة لإستحضار آيات القرآن في باب المعاملات، والعمل بمضامينها خشية من الله، قال تعالى[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
    ليكون من الإعجاز في الإطلاق في نهي الآية عن الربا(لا تأكلوا الربا) أنه حرز وواقية من مستحدثات المسائل، وأسباب الإفتتان، وفيه تخفيف عن المسلمين في كل زمان، فتجدهم لائدين بالقرآن عن هجوم كل فتنة عليهم، وفيه وجوه :
    الأول: إنه حجة على الناس، وتقريب لمنازل الهداية.
    الثاني: تضمن القرآن لسبل النجاة من الفتن وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
    الثالث: طرد الغفلة والجهالة عن المسلمين، وبعثهم على التعاون عند مستحدثات الأمور، ويتجلى هذا التعاون بالعمل بأحكام القرآن، ومنها الإمتناع عن الربا وإن ساد وإنتشر في المجتمعات، أو جاء متخفياً بعناوين جديدة.
    إعجاز الآية
    مع أن الآية تتضمن النهي والزجر عن فعل قبيح ومذموم، فـإنها إبتدأت بصيغة المدح والثناء بقوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
    وهو خطاب يشمل المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي ليكون من الكلي الطبيعي الجامع لهم بلحاظ إعلان التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    ويحتمل توجه الخطاب إلى المنافقين والمنافقات وجوهاً:
    الأول: دخولهم في عمومات الخطاب(يا أيها الذين آمنوا).
    الثاني: خروج المنافقين والمنافقات من الخطاب بالتخصص.
    الثالث: خروجهم من هذا الخطاب بالتخصيص.
    الرابع: شمولهم بمضامين النهي الوارد في الآية، وإن لم يشملهم خطاب التشريف والإكرام(يا أيها الذين آمنوا).
    الخامس: التفصيل فإذا كانوا بحال نفاق وإبطان للكفر حجب عنهم الخطاب، بخلاف ما إذا بينوا الكفر والضلالة.
    الجواب هو الأول، فالخطاب يشمل كل الذين نطقوا بالشهادتين، وهو رشحة من فضل الله عز وجل عليهم وإلا فإن الربا محرم في كل الملل السماوية.
    وفي هذا العموم في خطاب التشريف مسائل:
    الأولى: الملازمة بين النطق بالشهادتين وأداء وظائف مخصوصة ومعلومة في باب العبادات والمعاملات.
    الثانية: إنه حرب على النفاق الشخصي فتتوجه الفرائض وأحكام الأوامر والنواهي إلى الذي نطق بالشهادتين فتزيح النفاق ومفاهيم الربا على نحو دفعي أو تدريجي، لاسيما وأن النفاق ليس حالة مستقرة في نفوسهم، لذا توجهت لهم آيات الإنذار والوعيد، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
    الثالثة: إقامة الحجة على المنافقين والأخذ على الظاهر، والزجر عن خداع المسلمين، قال تعالى في ذمهم[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ).
    الرابعة: لو دار الأمر بين شمولهم بالخطاب وعدمه، فالأصل هو شمولهم لنطقهم بالشهادتين وإظهارهم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير الخطاب في الآية(يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد).
    وتلك آية وإعجاز في الأثر المترتب لتوجه أحكام متعددة لذات الإنسان وهي:
    الأول: الأوامر العبادية كالصلاة والصوم والحج، والتذكير بها في أوانها وقبله وبعده كما في إعلان الأذان للصلاة عند دخول وقتها والحث على أدائها وذكر أضرار تركها، قال تعالى[فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ]( ).
    الثاني: الوعد الكريم على إتيان ما أمر الله عز وجل به، وبيان منافعه في الدنيا والآخرة.
    الثالث: مجيء النواهي في القرآن والسنة، وإدراك المسلم لحقيقة وهي أن الدنيا دار التكاليف، وليس كل شيء فيها مباحاً، خصوصاً وأن بعض الأمور تتعلق بالذوات والأشخاص الآخرين كالربا وما فيه من أكل المال بغير حق.
    وجعل الله عز وجل الدنيا دار الرحمة بعباده، وجعل بعثة الأنبياء سبباً وطريقاً لتجلي وإستدامة هذه الرحمة، ومن أبهى صيغ الرحمة العامة في بعثة الأنبياء وما جاءوا به من النواهي حرمة الربا.
    وتعرضت أحكام الربا إلى التحريف لأمور منها:
    الأول: غلبة النفس الشهوية.
    الثاني: أسباب الطمع عند الإنسان.
    الثالث: إنغماس الإنسان في الدنيا ومباهجها، قال تعالى[أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ]( ).
    الرابع: سعي الإنسان لجمع الأموال من غير جعل موضوعية للحكم الشرعي.
    الخامس: طرو التبديل والتغيير على ما ورد من الأحكام في الكتب السماوية السابقة.
    فأنعم الله عز وجل على المسلمين والناس بآية البحث التي جاءت نصاً قاطعاً لا يحتمل تعدد وتباين التأويل، وجعلها معصومة من التحريف بسلامة الجزء بسلامة الكل وهو القرآن الذي قال الله تعالى فيه[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
    الرابع: التخويف والوعيد على المعصية ومخالفة الأوامر الإلهية، وإقتحام ما نهى عنه، ومنه الربا.
    ومن إعجاز القرآن أن المسلم وفي كل زمان ومكان يدرك مضامين الوعيد في القرآن، ويتجنب الوقوع في الهلكة والتعرض للعقاب.
    ولذا جاءت آية البحث بالأمر بتقوى الله بعد النهي عن أكل الربا لبيان الحاجة إلى الخشية من الله، وإتخاذها حرزاً من النفس الأمّارة وطغيان خصلة الطمع والشره.
    لقد إجتمع خطاب التشريف والإكرام مع النهي في آية البحث، ليكون على وجوه:
    الأول: إنه باعث على التقيد بأحكام النهي، إذ أن الثناء من الله أمارة على الأهلية لتلقي التكليف، والإمتثال الأحسن له.
    الثاني: بيان حقيقة وهي إختصاص المسلمين بالنهي عن الربا في القرآن لعظيم منزلتهم.
    الثالث: من يختار الإيمان يتوجه له الأمر والنهي الذي ينزهه عن السيئات وفعل القبيح.
    الرابع: المسلمون أمة واحدة يأتيها الأمر والنهي على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والشخصي، فكل فرد منهم مأمور بترك الربا، وهم كأمة مأمورون بإجتناب الربا، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
    الخامس: ترك الربا نعمة مصاحبة للإيمان، وباب للرشاد، وزيادة الإيمان والهداية، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
    السادس: إجتناب الربا تكليف وإمتناع عن ولوج باب لكسب الأموال ونمائها أضعافاً، فيحتاج إلى واقية ذاتية، وسلاح الإيمان، وتحتمل هذه الحاجة وجوهاً:
    الأول: الحاجة الشخصية، فيكفي تلقي المسلم النهي، وإمتناعه عنه.
    الثاني: الحاجة النوعية، فلابد وأن تتعاهد الأمة الإمتناع عن الربا.
    الثالث: المعنى الأعم، وإرادة الحاجة النوعية، وحصانة الإنسان لنفسه، وإحتراز الأمة مجتمعة، وهذا المعنى من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
    والصحيح هو الثالث، وأن المسلمين مأمورون كأمة وأجيال متعاقبة بإجتناب الربا، لذا جاء النهي عنه مطلقاً ليشمل آكله ودافعه وشاهده وكاتبه.
    لقد أطل على الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زمان تتغشى فيه أهل الإيمان صيغ الثناء من الله، وفيها مسائل:
    الأولى: إنها باعث للمسلمين على العمل الصالح.
    الثانية: بما أن أحكام القرآن باقية إلى يوم القيامة، ويعمل بها المسلمون فإن العدل والإنصاف يملأ الأرض.
    الثالثة: الثناء من الله على المسلمين فضح للباطل، وبيان لقبح المعاملات الربوية، ومانع من إتساعها وإنتشارها.
    الرابعة: إنه عون للمسلمين للإمتثال لقوله تعالى(وأتقوا الله) فمن إعجاز القرآن أنه يتضمن الأوامر والنواهي، وأسباب المدد للمسلمين للتوفيق في إتيان المأمور به، وإجتناب المنهي عنه، وفيه مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والنكات العقائدية التي تتجلى في قوله تعالى(أُخرجت) من جهات:
    الأولى: لا يُخرج جماعة وأمة للناس إلا الله عز وجل.
    الثانية: حينما يخرج الله عز وجل المسلمين للناس فإنه سبحانه يمدهم بأسباب التوفيق لهذا الخروج ليكون من معاني الآية أعلاه الوعد الكريم من الله للمسلمين بإصلاحهم للخروج المستديم والمتجدد.
    (روي عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حقا أقول لم يكن لقمان نبياً و لكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه و من عليه بالحكمة كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء:
    يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن عزم علي فسمعا و طاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني.
    فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان.
    قال لأن الحكم أشد المنازل و آكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وقى فبالحري أن ينجو و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة.
    ومن يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا.
    ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.
    فتعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها.
    ثم كان يؤازر داود بحكمته فقال له داود طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى)( ).
    الثالثة: تلي معاني ومصاديق من خروج المسلمين للناس، ومنها إمتناع المسلمين عن أكل الربا، ليكون للخروج مصاديق من الفعل، وأخرى بالإمتناع وحبس النفس عما حرّم الله.
    وحينما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فلاذ الملائكة بالعرش، وأظهروا التسليم بحكمته وعظيم قدرته[سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( ).
    فقد أخرج الله المسلمين براية القرآن وسنن التقوى بما يجعل الملائكة يرون الأرض تزدان بعبادتهم ووقوفهم المتكرر في كل يوم بين يدي الله.
    ويأتي الأمر من الله عز وجل للملائكة بالنزول مدداً للمسلمين في معارك الإسلام الأولى لتتنزه الأرض وأهلها من أكل الربا وما فيه من الظلم.
    ولا يعلم الغايات الحميدة والمنافع العظيمة من نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلا الله عز وجل، وهو من مصاديق إنحصار العلم المطلق بالله عز وجل.
    فالله سبحانه وحده الذي أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى[وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، ويعلم الله بإصلاح أهل الأرض بإخراج المسلمين لهم، وصيرورتهم حجة عليهم وهو من الدلائل على وجود أمة في كل زمان تؤمن بالله وتعمل الصالحات لقوله تعالى في الآية أعلاه من سورة آل عمران خطاباً للمسلمين(وتؤمنون بالله).
    وتحتمل صلة الإمتناع عن الربا بالإيمان وجوهاً:
    الأول:إنه فرع الإيمان بالله.
    الثاني: إنه حكم مستقل عن الإمتناع، ورد فيه دليل خاص من الكتاب والسنة والإجماع، ومنه قوله تعالى في آية البحث(ولا تأكلوا الربا).
    الثالث: إنه جزء من الإيمان بالله.
    ولا تعارض بين هذه الوجوه، وتداخلها من الإعجاز في الشريعة الإسلامية، وما فيها من أسباب اللطف والمدد من الله.
    فمن الإيمان بالله عز وجل العمل بما أمر به سبحانه، وإجتناب ما نهى عنه سبحانه.
    لقد نفخ الله عز وجل في روح آدم، قال سبحانه[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، وجعله خليفة في الأرض، لتظهر أسباب الصراع داخل النفس الإنسانية بين الصلاح وضده، قال سبحانه[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
    فجاءت آية البحث بالأمر العام والنهي الخاص، الأمر بتقوى الله، والنهي عن أكل الربا لتتجلى معاني الإستقامة في الأرض، ويستطيع معه الذي يريد الشكر لله الإنتماء إلى الإسلام.
    وهل الإمتناع عن الربا من الشكر لله، الجواب نعم، وهو من إعجاز الآية بأن يأتي النهي في الآية القرآنية فيتقيد المسلمون به شكراً له سبحانه، ويكون باباً لنيل المسلمين الثواب والأجر.
    حينما إبتدأت الآية بخطاب المدح والثناء على المسلمين يتبادر إلى الأذهان أن ما بعده يكون من ذات السنخية في الدلالة ومعاني المدح والثناء، فجاءت بعده صيغة النهي(لا تأكلوا الربا) وفيه وجوه:
    الأول: كان المسلمون يأكلون الربا وهو منتشر بينهم، فجاءت الآية بلغة اللوم والتوبيخ.
    الثاني: إرادة تكرار النهي عن فعل قبيح وهو الربا، والإخبار بالتضاد والتعارض بين الإيمان والربا أي كيف تتعاطون الربا وما فيه من الظلم وأنتم مؤمنون.
    الثالث: جاء النهي عن الربا إبتداءً وبياناً لحكم شرعي مستديم مصاحب للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
    والصحيح هو الثالث، من وجوه:
    الأول: كان الصحابة في حال من العوز والفاقة، ولم تكن عندهم أموال يتخذونها مادة للربا وتدل عليه الشواهد التأريخية، قال تعالى في خصوص معركة بدر[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
    والمراد من الذلة في الآية قلة العدد وقلة العدة والمؤونة، وحال الإستضعاف التي هم عليها من بين الأمم والدول آنذاك.
    الثاني: جاء الحكم بحرمة الربا خطاباً للأجيال المتعاقبة من المسلمين، ومن إعجاز الآية ورودها بصيغة المضارع(لا تأكلوا الربا).
    وفي الآية حذف وتقديره: لا تأكلوا الربا عندما تكثر أموالكم وتتسع أعمالكم , وتقوى شوكتكم).
    الثالث: لما نال المسلمون مرتبة الإيمان، وشهدت لهم آية البحث بهذه المرتبة بفضل من الله عز وجل في لغة الخطاب، فإن الأوامر والنواهي مصاحبة للإيمان ولا تنفك عنه.
    الرابع: لقد أراد الله عز وجل محافظة المسلمين على مرتبة الإيمان فدلهم على لزوم إجتناب الربا للتنافي بينه وبين الإيمان، وفيه شاهد على سمو مرتبة الإيمان، وأن المؤمنين لا يظلمون أنفسهم أو الناس، ويتجنبون الأضعاف المضاعفة من المال تنزهاً وطاعة لله عز وجل.
    ويدل تقييد الربا المنهي عنه بأنه أضعاف مضاعفة على حاجة المسلمين لأمور:
    الأول: التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام، قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( ).
    الثاني: الإرتقاء في سلم المعرفة الإلهية للإحتراز من أسباب الطمع واللهث وراء زينة الدنيا وقصد جمع الأموال بذاته.
    الثالث: التوقي بلباس التقوى لإستحضار موضوعية الحلال والحرام، عند قصد الكسب وجمع الأموال، والرضا بالقليل الزاكي والنفرة من الكثير الحرام، لذا جاء الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات كافة بقوله تعالى(وأتقوا الله) الذي ورد في آية البحث متعقباً للنهي عن الربا الكثير، والأضعاف المضاعفة منه.
    وهذا التعاقب مدرسة أصولية وأخلاقية وعون للمسلمين لإجتناب الربا، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ أخرج الله المسلمين بالإمتناع عن الحرام وصيرورته جزءً من خشيتهم من الله عز وجل، وإتخاذه مقدمة للتقوى.
    ومن إعجاز الآية تعقب الأمر العام للمسلمين بتقوى الله للنهي عن أكل الربا، وفيه وجوه:
    الأول: يحتاج موضوع الربا وأكل الربح الربوي إلى وجود أموال يستطيع صاحبها إقراضها للآخرين، وفرض شروطه الربوية عليهم، وليس كل المسلمين عندهم تلك الأموال.
    بينما جاء الأمر بتقوى الله لكل المسلمين كي يقوموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويزجرون أرباب الأموال وغيرهم عن أكل الربا، ويمتثل أرباب الأموال للزجر، وهذا الإمتثال من تقوى الله الذي أمرت به الآية الكريمة.
    الثاني: يمتنع صاحب المال عن أكل الربا، ولكن قد تراوده نفسه مرة أخرى بتعاطيه، والطمع بالأضعاف المضاعفة، فيأتيه الأمر بتقوى الله ليستمر على الإقامة على الإنزجار عن الربا.
    الثالث: رجاء صاحب المال المسلم الربح والرزق الكريم بتقوى الله، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
    ومن إعجاز القرآن الأمل ورجاء الثواب بطاعة الله عز وجل، فجاءت الآية الكريمة بالنهي عن الربا , ولم تتركه مجرداً بل أختتمت بالإخبار عن الفوز العظيم بترك الربا.
    وكان بينهما الأمر بالتقوى(وأتقوا الله) ليدرك كل مسلم ومسلمة بمنظار التقوى أن ترك الربا يأتي لهم بخير الدنيا والآخرة وأنه أعظم نفعاً وأثراً من المال الربوي وإن كان أضعافاً كثيرة.
    ومن مصاديق الإعجاز في الآية اللامتناهي في المصاديق الإنحلالية للخطاب القرآن (يا أيها الذين آمنوا) فهي في إزدياد وإتساع طردي مع تقدم أفراد الزمان الطولية، ففي كل طبقة وجيل من الناس يزداد عدد المسلمين الذين يتوجه لهم خطاب الإكرام ليكون على وجوه:
    الأول: إنه مادة لإستدامة الحياة الدنيا، ببقاء الإيمان في الأرض والشواهد على تجدد علة وموضوع خلق الناس، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
    الثاني: ترغيب الناس بالإسلام، والفوز بشرف تلقي خطاب الإكرام من الله فقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) وحده إكرام ورفعة وعز متجدد.
    الثالث: التذكير بالله عز وجل وحضور الخطابات الإلهية بالإكرام للمسلمين، والذم للكافرين.
    الرابع: نشر معاني الهداية بين الناس، وجعلهم يعلمون بوجود وإستمرار الصلة بين السماء والأرض، وأن التنزيل حاضر بينهم، وأن الله عز وجل لطيف بهم إذ يتفضل ويخاطبهم بمعاني الإكرام فيما هو واجب عليهم بالأصل وهو الإيمان.
    إن لغة الرجاء في الفلاح إعجاز في مضامين آية البحث، ودليل على كنوز القرآن وما فيه من المواعظ والعبر، وتفيد هذه اللغة بعث المسلمين على أداء الوظائف العبادية لتحقيق الفلاح، لأن الرجاء مع إستيفاء الأمر والنهي الواردين في الآية يدل على وجود أمور أخرى قد يتوقف عليها الفلاح والبقاء والنجاح.
    ليكون إجتناب الربا على وجوه:
    الأول: إنه باعث لفعل الصالحات.
    الثاني: وسيلة مباركة للثبات في منازل الإيمان.
    الثالث: الرضا بما قسم الله عز وجل.
    الرابع: اليقين بأن تلك الأضعاف الربوية برزخ دون حسن العاقبة والتوفيق الذي هو غاية أهل العقل والرشاد، قال تعالى[وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
    كما أن في القرآن البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، فإن فيه أمرين:
    الأول: الترغيب العام بالفعل الحسن.
    الثاني: الزجر العام عن الفعل القبيح.
    فتأتي الآية ببيان الحسن الذاتي لفعل مخصوص من الصالحات، فتكون باعثاً للمسلمين على فعله، وتذكر الفعل السيء بصيغة الذم فتجعل نفوس المؤمنين تنفر منه.
    وجاءت آية البحث بالأمرين معاً لتكون تلاوتها وسماعها في كل مرة على وجوه:
    الأول: إنه حصانة مستحدثة.
    الثاني: تجديد سنخية الإيمان , قال تعالى[وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى]( ).
    الثالث: إنه برزخ دون العادات المذمومة.
    وبكلمات قليلة جمعت الآية ما بين أمور:
    الأول: إرادة وتعيين المسلمين في لغة الإكرام.
    الثاني: الزجر عن فعل مذموم جاء الأنبياء والكتب السماوية بالنهي عنه، وهو الربا، قال تعالى[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ]( ).
    الثالث: الأمر بالخشية من الله، وهو كنز مدخر للمسلمين، بلحاظ أنهم ورثة الأنبياء وحملة لواء التوحيد الذي يتقوم بالتقوى.
    الرابع: البشارة بالفلاح والفوز بالمقامات السامية في جنة الخلود عاقبة للإمتناع عن الظلم والتعدي، وأكل أموال الناس بغير حق، فإن قلت إن الربا معاملة وعقد بين طرفين يتم بالتراضي بينهما والقبول والإيجاب، وليس هو من الغصب والنهب والسرقة وأسباب القهر.
    الجواب يترشح الظلم في الربا من وجوه:
    الأول: قبول المقترض بشرط الزيادة الربوية من دون رضا.
    الثاني: بذل المقترض الجهد الشاق لتوفير الزيادة الربوية، ودفعها إلى صاحب المال.
    الثالث: ظلم المرابي لنفسه لأكله ما نهى الله عز وجل عنه، قال تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا]( ).
    ومن إعجاز الآية إقتران النهي عن الربا بالإخبار عن الأموال الطائلة التي تجنى وتكسب من الربا.
    فالأصل حينما يأتي التحريم بيان أضرار الفعل المنهي عنه وبيان قبحه، وما يترتب عليه من المفاسد كي تنفر منه النفوس.
    ولكن الآية أخبرت عن حصول منافع مالية عظيمة من الربا، وهو طريق لجمع ومضاعفة الأموال، وفيه وجوه:
    الأول: إنه آية في إكرام المسلمين والثناء عليهم بابتداء الآية بالخطاب[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
    الثاني: الشهادة للمسلمين بالقدرة على التمييز بين الحق والباطل، وترك الحرام وإن كانت فيه منافع دنيوية عظيمة.
    الثالث:تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، وعزوفهم عن العروض والذهب والفضة التي تأتي من الحرام.
    الرابع: بعث المسلمين للجهاد وتحصيل الثواب، وإكتساب الغنائم، قال تعالى[وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ]( )، وكان المسلمون يخافون إن منعوا المشركين من دخول الحرم الفقر والحاجة وإنقطاع المتاجر.
    فجاءت البشارة في الآية أعلاه بحرف الإستقبال البعيد (سوف) لتأديب المسلمين على الصبر والتقوى، وفيه تحد , ودعوة لرجاء رحمة الله، وفي الغنى الوارد في الآية أعلاه وجوه:
    الأول: أسلم أهل نجدة وصنعاء وجرش من اليمن، وحملوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب وكفاهم الله ما كانوا يتخوفون عن مقاتل)( ).
    الثاني: يأتي الغنى للمسلمين بالجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب، قال تعالى[حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
    الثالث: قيام المسلمين بالتجارة، وولوج الأسواق، وكانت قريش تقوم بجلب البضائع من الشام واليمن، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
    وهذا الوجه يحتاجه المسلمون لمنع ولاية الكفار، ومزاولتهم الإحتكار على المسلمين، وإتخاذ الأسواق والتجارات لمحاربة الإسلام خصوصاً عند إنشغال المسلمين في ميادين القتال، وأسباب حفظ وسلامة الجبهة الداخلية وغلق الباب بوجه الكفار، ومنعهم من إثارة الفتنة الإقتصادية،وحصول نقص الطعام والمؤون بين عوائل المسلمين، مما قد يؤثر سلباً في عزائم المقاتلين.
    الرابع:بشارة فتح بلاد فارس، ووقوع خزائن كسرى غنائم بيد المسلمين, وجلبها إلى المدينة .
    الخامس: فتح بلاد الروم، وغنيمة أموال قيصر.
    السادس: إتساع بلاد الإسلام وتعدد أمصار المسلمين، ومجيء الغنائم من البلدان.
    السابع:إحياء وعمارة الأرض في بلاد المسلمين في العراق والشام ومصر، وغيرها من بلاد الإسلام، إذ أن الإخبار عن الغنى مطلق , وشامل للمسلمين جميعاً.
    الثامن: إزدهار التجارات في مكة، وقيام المسلمين بأداء الحج والعمرة، ومجيؤهم بالأموال، وإنفاقها في مكة والمدينة وحصول العمارة فيهما، وهو من عمومات ما ورد في التنزيل من دعاء إبراهيم[وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
    التاسع: إنبعاث النفط من أرض المسلمين، وصيرورته أعظم ثروة في زمان تداخل الحضارات، ومادة المندوحة بين الناس في المال والطعام واللباس والسكن ليكون المسلمون على حال من الغنى والثروة التي تكون مصداقاً وموضوعاً للآية أعلاه، وليشكروا الله على هذه النعم بأمور:
    الأول: التقوى وتعاهد الفرائض قال تعالى بلغة الأمر التي تدل على الوجوب[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( ).
    الثاني: إجتناب المعاصي ومنها الربا.
    الثالث: عدم توظيف المسلم إقبال الدنيا عليه بطلب الأضعاف المضاعفة من المكاسب المحرمة.
    وتقدير الجمع بين مضامين الآية على وجوه منها:
    الأول: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله.
    الثاني: يا أيها الذين آمنوا بتلقي الأوامر والنواهي من الله.
    الثالث:يا أيها الذين آمنوا بحرمة أكل الربا.
    الرابع: ياأيها الذين آمنوا بلزوم التنزه عن الأضعاف المضاعفة من الربا.
    ويدل الجمع بين النهي عن الربا والإخبار عن الأرباح العظيمة على أمور:
    الأول:بلوغ المسلمين مراتب الإرتقاء في سلم المعارف، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
    الثاني: إن الله عز وجل يعلم أن ذكر الأرباح الطائلة التي تأتي من الربا لم يمنع المسلمين من التقيد بأحكام النهي عنه.
    الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين، فهم يعرضون عن الدنيا وزينتها، والأموال الطائلة طاعة لله عز وجل، وفيه مسائل:
    الأول:عدم الإفتتان بما في أيدي الكفار.
    الثانية: عدم تخلف المسلمين عن الجهاد في سبيل الله.
    الثالثة:سعي المسلمين للفوز بما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب، قال تعالى[وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا] ( ).
    الرابع: بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يظهره المسلمون من التقيد بأحكام الشريعة، في العبادات والمعاملات والأحكام، فلذا إبتدأت الآية بالخطاب التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إذ يتجلى الإيمان بأبهى معانيه بترك الأضعاف المضاعفة للمال الشخصي والنوعي التي تأتي عن طريق محرم.
    الخامس: من مصاديق إيمان المسلمين في المقام إدراكهم للبدل والعوض من الله عز وجل لتركهم الربا.
    ويحتمل هذا العوض وجوهاً:
    الأول: إنحصار العوض في باب المال والكسب.
    الثاني: شمول العوض لميادين أخرى غير المال، وتتعلق بالبدن والعافية والجاه.
    الثالث:إختصاص العوض بالدار الآخرة لأنها دار الجزاء، قال تعالى[إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى] ( ).
    الرابع: لا ملازمة بين إجتناب الربا وبين الجزاء العاجل في الدنيا، سواء بالمال أو غيره.
    الخامس:تبين ذات آية البحث وجوه وماهية العوض باختتامها بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ].
    والصحيح هو الأخير وفيه مسائل:
    الأولى: إنه من إعجاز القرآن.
    الثانية: إنه من أسباب الترغيب بالعمل بأحكام القرآن.
    الثالثة: بيان مصداق لعظيم قدرة وسلطان الله، وأنه سبحانه الذي يعطي الكثير بالقليل , قال تعالى[فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ]( ).
    الرابعة: إدراك المسلم والمسلمة أن إجتناب الربا أفضل وأحسن لهما من الأضعاف المضاعفة التي تأتي منه، خصوصاً وأن تلك الأضعاف لا تأتي في معاملة واحدة، أو معاملات قليلة وفي مدة وجيزة.
    بينما يكون الثواب على الإمتناع عن الربا من وجوه:
    الأول:تلاوة آية الربا.
    الثاني:التدبر في آية الربا ومعانيها ودلالاتها.
    الثالث:إستحضار آية الربا في الوجود الذهني.
    الرابع: الإستماع إلى آية الربا.
    وهل يشمل الثواب سماع الآية أي من غير قصد، ولكن يأتي سماعها عرضاً كما لو كان شخص يتلوها مباشرة أو بواسطة آلة حاكية، الجواب المدار على النية والقصد، وعلى الإنتفاع من الآية، فاذا إلتفت إلى مضامينها عند السماع فهو فعل حسن ومحمود، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
    الخامس: قيام المسلم بالنهي عن الربا، والزجر عن أكله.
    السادس: إجتناب المسلم لمقدمات الربا، وإمتناعه عن المشاركة في عقده والشهادة عليه.
    وهل هذا الإجتناب من النهي عن المنكر أم أنه أمر عدمي القدر المتيقن منه السلامة الذاتية من أسباب الربا.
    الجواب هو الأول من وجوه:
    الأول: إنه درس وموعظة.
    الثاني: فيه تذكير للناس بلزوم إجتناب الربا.
    الثالث: إدراك الناس لعلة الإجتناب وهي الحرمة , ونهي الله عز وجل عن أكل الربا.
    الرابع: يأتي إجتناب الربا عن قصد القربة إلى الله عز وجل، وفيه سعي لمرضاة الله، وعمل على تنزيه الأرض من القبائح، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(فاكره ما كره الله وأحب لأخيك ما تحب لنفسك) ( ).
    فيحب المسلم للمسلمين والمسلمات محاكاته بالإمتناع عن الربا، كما أنه يميل للذين سبقوه في إجتناب المعاملات الربوية جملة وتفصيلاً.
    ومن الإعجاز في قوله تعالى(لا تأكلوا الربا) أنه دليل على تلف الأضعاف المضاعفة من الربا، لأن الأكل فناء للمأكول، فكل ما يأكل الإنسان والحيوان لا يبقى له أثر ولا رسم .
    وتفيد لغة الجمع في الأكل توكيد هذا المعنى بلحاظ أنه ما إجتمع جماعة على مأكول إلا أتوا عليه، خصوصاً وأن المراد من الأكل ليس الوجبة الواحدة بل المتكرر في الأيام والسنين (وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر أحد من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل) ( )، لذا فإن مجيء نعت الكسب الربوي بلفظ الأكل والنهي عنه في الآية الكريمة بعث للنفرة من الربا .
    وقد تبقى الأموال الربوية عند صاحبها , ولكنها سرعان ما تزول عندما تصل تركة إلى الورثة أي أن القل والمحق الذي يصيبها لا ينحصر بأوان كسبها ولا صاحبه، وهذا الإطلاق من مصاديق الفناء والتلف للمأكول.
    وتتجلى في باب الربا معاني التوكيد الوارد في القرآن والسنة على إقتران إحسان المسلم لوالديه بطاعته لله، قال تعالى[وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( ).
    ومن الإحسان لهما محاكاتهما بالإمتناع عن الربا، وإكرامهما لإجتنابهما عن الربا.
    ومن الآيات في حياة المسلمين ونيلهم لمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، أنه ليس من شاب أو شابة مسلمة يوجهان اللوم للأب أو الأم لعدم مزاولتهما الربا وتحقيق الأضعاف المضاعفة من الأموال.
    فان قلت لم نر المسلم يفتخر بأن أباه لم يزاول الربا .
    الجواب هذا الإفتخار موجود عند المسلمين بالعنوان الإرتكازي العام، وإمتلاء نفس المسلم بالسكينة والرضا لأن أبويه لم يطعماه من الربا، وفيه مسائل:
    الأولى: التخفيف عن المسلم وإعانته في باب التكاليف.
    الثانية:سعي المسلم في موارد الكسب الحلال على نحو الحصر والتعيين، والرضا بفضل الله عز وجل وما قسم له من الرزق الحلال.
    الثالثة: الحرص على الإمتناع عن الربا.
    الرابعة: جمع المسلم بين العبادة والسعي لطلب الرزق، قال تعالى[فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
    ليكون التقيد بأحكام الإمتناع عن الربا من الإحسان للوالدين، وسبباً لنيلها الثواب على حسن فعل إبنهما.
    ويمكن تسمية الآية آية(الربا)، وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثمان مرات، كلها في ذات المعنى والحكم وهو المنفعة الزائدة على القرض، وحرمتها ولزوم إجتنابها.
    وهذه الآية هي الوحيدة في سورة آل عمران التي ذكر فيها لفظ(الربا) لذا يمكن تخصيص التسمية بالقول آية الربا من سورة آل عمران للبيان والتمييز.
    ويمكن تسمية الآية أيضاً آية(أضعافاً مضاعفة) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة , وفيه توكيد للزوم الحذر من الربا والتعفف عن تلك الأضعاف والأموال الطائلة التي تأتي منه.
    الآية سلاح
    لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، ولا تتعارض هذه الحاجة مع إكرام بني آدم مطلقاً، والمسلمون على نحو الخصوص، قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا]( ).
    فقد جعل الله عز وجل الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، وهو من فضل الله على الناس والخلائق، والله عز وجل وحده الغني، وغناه مطلق فلا يحتاج إلى شيء.
    وجعل الله عبادة الجن والإنس له تعالى علة لخلقهم، وسبباً لبثهم في الأرض وتكاثرهم وتناسلهم، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، مما يدل على أن عبادة الناس لله نفع وخير محض لهم أنفسهم، من وجوه:
    الأول: ما في العبادة من الثواب والأجر والخلود في النعيم.
    الثاني: هداية الإنسان لعبادة الله رحمة ونعمة عظيمة إلى جانب النعم العظيمة التي تفضل ويتفضل بها الله عز وجل والتي تستحق الشكر، قال تعالى[وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
    الثالث: العبادة سلاح وواقية في ميادين الحياة المختلفة.
    الرابع: من أعظم النعم على الإنسان عبادته لله عز وجل وهو فضل من الله، ومنافعه في الآخرة أكبر وأعم منها في الدنيا، قال تعالى[أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
    وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة، ونزل القرآن بمصاديق العبادة التي أرادها الله عز وجل منهجاً مستديماً للناس جميعاً وإلى يوم القيامة.
    وقد فاز المسلمون بهذه النعمة ومنها الإمتناع عن الربا طاعة لله عز وجل، وترك جني الأموال الطائلة ومضاعفة الأموال بالمعاملات الربوية.
    وإختار المسلمون التسلح بالصبر في ميادين التجارة وتحصيل المال، قال تعالى[فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا] ( )، ويحتاج الإمتناع عن الربا إلى ملكة الصبر لتجدد الإفتتان بالربا.
    وهذا التجدد من جهات:
    الأولى: وقوع معاملات ربوية بين عموم الناس، من وجوه:
    الأول: الذي يستحل الربا ومعاملته.
    الثاني: من لا يلتفت إلى الحلال والحرام وموضوعيتهما في البيع والشراء والقروض.
    الثالث: الذين قاموا بتحريف الكتب السماوية السابقة.
    الرابع: غلبة النفس الشهوية وحب المال على النفس.
    الثانية: إجتناب الربا طاعة لله عز وجل، وتنزه عن الأرباح الربوية، مما يستلزم الصبر في جنب الله، والتعفف عن أكل الربا.
    (عن أبي بصير قال: قال رجل للإمام الباقر عليه السلام: إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالاً: فقال له: أي الإجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج) ( ).
    الثالث: موضوع الربا ليس مستقلاً بذاته، فهو فرع للمعاملة بين الناس، والحاجة المتبادلة بينهم، إذ جعل الله الناس بالناس، وهو من مصاديق الإبتلاء في الدنيا، والعصمة من إستحواذ حب المال وتكون هذه العصمة بالصبر وإستحضار سنن التقوى في الأخذ والعطاء.
    فجاءت آية البحث سلاحاً للبعث على التقوى في المعاملات، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : مما أخاف بعدي على أمتي شهوة البطن والفرج) ( ).
    ويدخل أكل الربا في الحديث أعلاه والتحذير الوارد فيه، ليكون على وجوه:
    الأول: بيان لمصداق واقعي للآية الكريمة.
    الثاني: لزوم الحذر من الأسباب الذاتية والنفسية التي تجعل الإنسان يميل إلى الربا.
    الثالث: التحذير من كسب المال بواسطة الربا.
    وتتضمن الآية أربعة أطراف وهي:
    الأول: الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان.
    الثاني: النهي عن أكل الربا.
    الثالث: الأمر بتقوى الله.
    الرابع: رجاء فلاح وفوز المسلمين في النشأتين، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
    وتحتمل الصلة بينها وإتخاذ بعضها سلاحاً للإمتثال في النهي والأمر وتحقيق الرجاء وجوهاً:
    الأول: كل طرف مستقل بذاته، ولا يكون سلاحاً للإمتثال في غيره وتحقيقه.
    الثاني: يكون التأثير بين هذه الأطراف على نحو الموجبة الجزئية.
    الثالث: يتخذ المسلمون كل طرف في الآية سلاحاً لتحقيق الأطراف الأخرى فيها.
    الرابع: التفصيل والتبعيض فيكون بعضها عوناً للتوفيق في الإمتثال للآخر، ويكون بعضها أثراً للأطراف الأخرى كما في قوله تعالى(لعلكم تفلحون).
    والصحيح هو الثالث، وهو من إعجاز الآية، والدلائل على الإستعانة ببعضها لتحقيق الأوامر والنواهي الواردة في ذات الآية كما في قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
    فتأتي الإستعانة في الآية بتقوى الله للإمتناع عن المعاملة الربوية، ويتخذ المسلم الإمتناع عن الربا لتعاهد وتنمية ملكة التقوى، وإظهار الخشية من الله عند الإبتلاء والإفتتان.
    ولقد أراد الله عز وجل للمسلم أن يكون داعية له سبحانه، وليس من حصر لصيغ الدعوة إلى الله، وأسلحتها ومنها ما يكون سلبياً بالإمتناع عن السيئات والمعاصي وأسباب الظلم والتعدي، قال تعالى[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ]( ).
    وتلك آية في خصائص المسلمين وإرتقائهم إلى مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن تكون دعوتهم لله عز وجل ظاهرة وباطنة، وبالفعل والترك، فإن الربا طاعة لله، ويحتاج إلى قصد ونية وعزم، ليكون سلاح الإيمان أقوى من سلاح الأضعاف المضاعفة، وأكثر منه تأثيراً على نفس وفعل المسلم.
    ويتلو المسلم آية البحث فيزداد إيماناً، وتمتلأ نفسه بالسكينة لأنه إمتثل للنهي الوارد فيها وإجتناب أكل الربا وجمع الأموال بواسطته.
    والآية الكريمة سلاح من وجوه:
    الأول: إصلاح الأسواق.
    الثاني: تهذيب النفوس.
    الثالث: إنها مانع من الظلم في الأسواق والمكاسب.
    وفي سلامة أبواب القرض والشركة والمضاربة أمور:
    الأول: عمارة الأسواق وإزدهار التجارات.
    الثاني: قلة أسباب الفاقة والفقر.
    الثالث: إخراج الناس للحقوق الشرعية , وظهور معاني الرحمة في المعاملات.
    الرابع: عموم حال الإستقرار في المجتمعات.
    الخامس: توجه المسلمين لأداء الوظائف العبادية والتفقه في الدين، قال تعالى[رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
    السابع: تدبر الناس في الآيات الكونية، وما فيها من الإعجاز والدعوة إلى التقوى، والتنزه عن الربا وعموم المعصية.
    وفي الوجوه أعلاه أمور:
    الأول: إنها من آيات الله، وبديع صنعه.
    الثاني: إنها من منافع وجود(خير أمة) بين الناس.
    الثالث: إنها شاهد على تعاهد المسلمين للأحكام الشرعية، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
    الرابع: بيان فضل الله العظيم على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الخامس: ترغيب الناس بالتقيد بأحكام الشريعة في المعاملات.
    وفيه آية بأن الإسلام يضبط مفاتيح سلامة المجتمعات من الفوضى العامة، ومن غلبة القوي على الضعيف، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( ).
    وقد لا يتورع بعض أرباب الأموال من البطش بالناس وإشاعة الرعب من أجل تحصيل أموالهم بالمعاملات الربوية، ويقومون لهذا الغرض بتسخير الأموال وتجنيد الرجال، ومزاولة ما فيه الحرج والعسر والقسوة مع الناس.
    فجاءت آية البحث لأمور:
    الأول: إنها سلاح رادع للنفس الأمارة بالسوء.
    الثاني: الآية مانع من إشاعة المعاملات الربوية.
    الثالث: تجعل آية البحث الذي يزاول الربا يتجنب السعي العلني وممارسة القسوة لإستحضار الأموال الربوية للنهي الصريح عن الربا، فهذه الآية جعلت النفوس تنفر من الربا وأهله.
    إن قوله تعالى(وإتقوا الله) سلاح للتنزه الشخصي والنوعي عن الطمع بجمع الأضعاف المضاعفة من الأموال، لتكون التقوى رسماً تاماً يميز المسلمين عمن سواهم من الناس في باب المعاملات، ويعطي رسالة لكل الملل والنحل بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
    إن إتخاذ التقوى سلاحاً للتنزه عن الربا إعجاز إختص به القرآن، فلا تقهر النفس الشهوية، ولا تصلح الأسواق إلا بالتقوى، فجاء الأمر للمسلمين جميعاً بإعانة بعضهم بعضاً للتنزه عن الربا.
    وهو من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم”أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”( )، بلحاظ أن من وجوه الظلم ظلم الإنسان لنفسه، ويكون الظلم في الربا على خمسة أقسام:
    الأول: أكل الربا.
    الثاني: إقتراض المال الربوي.
    الثالث: الشهادة على الربا.
    الرابع: كتابة العقد الربوي.
    الخامس: الوكالة في المعاملة الربوية.
    فتحضر التقوى لتكون واقية من ظلم النفس، ويأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح أحوال المسلمين، وإبتعادهم عن ظلم النفس في باب الربا لأنه ظلم محض وضرر ظاهر وخفي.
    وإذا إنعدم مقترض المال الربوي عجز صاحب المال عن إجراء المعاملة الربوية لأنها مفاعلة بين طرفين، وتتجلى معاني الوحي في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه وشمول اللعنة فيه للشاهد والكاتب للربا، بأن إمتناع الناس عن الشهادة على الربا يعرض أصل المال وما عليه من الربا إلى الضياع، سواء بالإنكار أو إنتفاء البينة مطلقاً وكذا بالنسبة للشاهد خصوصاً وأن إنعدام الشاهد والكاتب ليس عن عدم وجوده، إنما عن إمتناع عام خشية من الله، وفرار من اللعنة والطرد من رحمة الله.
    وأختتمت الآية بالرجاء بفوز المسلمين بمراتب الفلاح والبقاء بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) وفيه ترغيب للمسلمين بترك الربا ليكون وفق القياس الإقتراني:
    الكبرى: يتعاهد المسلمون السعي للفوز بالفلاح.
    الصغرى: ترك الربا من الفلاح.
    النتيجة: يتعاهد المسلمون ترك الربا.
    وجاءت آيات الوعيد لتكون عوناً وسلاحاً بيد المسلمين لإجتناب الربا بلحاظ أن أكل المال الربوي معصية وإثم، قال تعالى[وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا]( ).
    ليعلم المسلم حقيقة وهي أن الأموال الربوية الطائلة لا تدفع العذاب يوم القيامة، بل تكون هي ذاتها سبباً للحساب الشديد يومئذ، وحجة على آكلها في عذابه الدائم في نار جهنم.
    وأخرج البزار عن عبدالله بن عمرو « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من قريش وهم جلوس بفناء الكعبة فقال : انظروا ما تعملون فيها فإنها مسؤولة عنكم فتخبر عن أعمالكم ، واذكروا إذ ساكنها من لا يأكل الربا ولا يمشي بالنميمة)( ).
    مفهوم الآية
    إبتدأت الآية بخطاب التشريف للمسلمين المقرون بالشهادة لهم بالإيمان، وفيــه دعوة للنــاس جميــعاً لإكرام المسلمين بلحاظ أنه شهادة لهم من الله عز وجل بالصلاح ويتجلى الإكرام بوجوه:
    الأول: الإقرار بالمنزلة العظيمة للمسلمين إذ أن الله عز وجل يخاطبهم بصيغ الإكرام والثناء.
    الثاني: نيل المسلمين للمراتب الرفيعة بالإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
    الثالث: العموم في إكرام المسلمين لأن علة الإكرام هي النطق بالشهادتين وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه آية لأن التشريف بالخطاب السماوي وصيغته جامع مانع، جامع لكل المسلمين، ومانع من دخول غيرهم معهم.
    الرابع: فيه موعظة للمسلمين بلزوم التآخي والتواد، وإجتناب الخصومة والشقاق بينهم، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
    وهل قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) من مصاديق حبل الله الذي تدل عليه الآية أعلاه.
    الجواب نعم من جهات:
    الأولى: صبغة التنزيل للخطاب القرآني، وما فيها من الجامع المشترك ذي صفة الصلاح .
    عن أبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أيها الناس إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي ألا و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) ( ).
    الثانية: سنخية الإيمان والصلاح التي أهّلت المسلمين لتلقي خطاب الثناء من الله عز وجل .
    وفي حبل الله(ورد عن ابن عباس: إنه دين الله الإسلام) ( ).
    الثالثة: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع سنته، ويدل على أمور:
    الأول: تلك السنة من الوحي.
    الثاني: موافقة السنة النبوية لآيات القرآن.
    الثالث: السنة مصداق عملي مبارك لأحكام القرآن.
    الرابع: إنتفاء التعارض أو التزاحم بين السنة النبوية وبين آيات القرآن ليكون العمل بالسنة النبوية من مصاديق طاعة الله عز وجل، قال سبحانه[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
    ليتجلى الإعجاز بقوله تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، إذ تتبين حقيقة وهي التزكية والشهادة من الله بموافقة أفعال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت وتأتي بعد نزول الآية أعلاه لآيات وأحكام القرآن.
    الخامس: بقاء وإستدامة الخطاب القرآني(يا أيها الذين آمنوا) ووجود أمة تتلقاه إلى يوم القيامة من غير فترة أو إنقطاع، وهذا الإتصال من الشواهد على عصمة إمتناع القرآن عن التحريف، ومعاني الإيمان من التبديل.
    السادس: مضامين التشريف في الخطاب الذي إبتدأت به الآية الكريمة إنحلالي، وأفراده من اللامتناهي فهو بعدد المسلمين، ولا يعلم عدد أجيالهم المتعاقبة إلا الله عز وجل، ولا يحصي كثرتهم في كل جيل إلا هو سبحانه.
    وهل إنحصار الإحصاء هذا بالله عز وجل من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
    الجواب نعم، فهو من المصاديق الظاهرة للنعم الإلهية على المسلمين والناس جميعاً بلحاظ توالي وكثرة أجيال المسلمين، وعدم معرفة الناس لزمان إنقطاع الحياة على الأرض .
    وهل يكون مقدمة لقيام الساعة، أم ينتقل الناس إلى الكواكب الأخرى إلى آجال لا يعلمها إلا الله عز وجل، الثاني هو الأرجح والعلم عند الله.
    السابع: يفتخر المسلم بأن إبنه وإبنته يتلقيان ذات الخطاب التشريفي الذي تلقاه هو، مما يملي عليه إصلاحهما للعمل بالأوامر والنواهي التي خصّ الله عز وجل بها[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وهذا الإصلاح من خروج المسلمين برداء التقوى.
    ويحتاج الإمتناع عن الربا ملكة من الصبر والتقوى والخشية من الله، لذا جاءت الآية بتذكير المسلمين بإيمانهم ولزوم تعاهدهم له بإجتناب الفعل المنهي عنه شرعاً، وإن كانت فيه أرباح طائلة وكثيرة، وفيه أمور:
    الأول: الإشارة إلى تخلف الكفار عن ترك الربا.
    الثاني: تحذير المسلمين من الإقتداء والتأسي بغيرهم لأنهم يفتقرون إلى الإيمان الذي هو واقية وحرز من اللهث وراء المعاملات الباطلة التي تجلب الأموال الكثيرة.
    الثالث: مصاحبة سيادة الأخلاق الحميدة لوجود المسلمين بين الناس، وإجرائهم معاملات البيع والشراء والقرض والرهن ونحوها.
    وجاء تقييد الربا المنهي عنه بالوصف (أضعافاً مضاعفة) ويحتمل وجوهاً:
    الأول: تجنى من كل ربا أضعاف مضاعفة من الأرباح.
    الثاني: إختصاص الحرمة بما كان فيه أرباح كثيرة.
    الثالث: جاء ذكر الكثرة والأضعاف لتأكيد التنزه المطلق عن الربا.
    الرابع: إرادة الأضعاف من تراكم المعاملات الربوية في حياة الفرد والجماعة، فالذي يبدأ معاملاته الربوية في بداية دخوله السوق وأول شبابه لا يموت إلا وقد صارت عنده أموال كثيرة وطائلة تكون بالنسبة لرأس ماله الأول أضعافاً مضاعفة.
    وهو من أسرار مجيء لفظ(لا تأكلوا) في الآية الكريمة وإشارة إلى نماء العظم واللحم من المال الربوي.
    والصحيح هو الثالث والرابع الذي يكون في طوله وحجة قائمة بذاتها،وشاهداً على تعدد المضامين القدسية , وهو من إعجاز تأويل الآية مستقلاً بذاته، ومجتمعاً مع الوجه الثالث أعلاه.
    وفيه دليل على إستدامة ملكة التنزه عن الحرام وإن المسلمين يعلمون بأن الربا باب لجني الأرباح الكثيرة والأموال الطائلة التي تضاعف أموالهم وتزيد من ممتلكاتهم في العروض والنقود ومع هذا يجتنبونها طاعة لله، وجاء تعلق الحرمة بأكل الربا للإخبار بأن فيه مصدراً للمعيشة وهو سبب لجلب الزاد والأكل والشرب ما دام الإنسان يتعاطاه، ويقبضه على القرض والدين، فيتركه المسلمون من وجوه:
    الأول: الحرص النوعي العام على طاعة الله.
    الثاني: التوكل على الله، ورجاء الثواب العظيم، وقال تعالى في الثناء على المؤمنين[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
    الثالث: السعي لسلامة الأسواق من الظلم.
    الرابع: الطمع في الرزق الكريم من الله سبحانه وعدم الإفتتان بالمال، وفي التنزيل[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
    الخامس: تفقه المسلمين في الدين وجعل ملاك الكسب عندهم على الحلية والحرمة , وليس القلة والكثرة في الكسب.
    السادس: إتخاذ إجتناب الربا دعوة عملية صادقة للإسلام، وتوكيداً لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    إن تراكم وتعاقب الأرباح الربوية، وما يكون ربا يصبح رأس مال في معاملة ربوية أخرى أمر تميل له النفس الشهوية فجاءت آية البحث بالأمر بتقوى الله والحث على الخشية منه، وجعل طلب مرضاته هي الضابطة في الأكل والمعاملة.
    وأختتمت الآية بالوعد والترغيب، وبيان المنافع الدنيوية والأخروية لتقوى الله وإجتناب الربا.
    ويدل في مفهومه على أن الذي يأكل الربا يتخلف عن منازل الفلاح والبقاء، وأن عاقبة أكل الربا إلى خسارة وإنقطاع، لتتضمن خاتمة الآية في مفهومها أموراً:
    الأول: الوعيد للكفار الذين يأكلون الربا.
    الثاني: محاربة إشاعة الغبن والظلم والمعاملات الباطلة والمنهي عنها شرعاً في الأسواق ، قال تعالى[وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ).
    الثالث: توكيد حقيقة وهي أن الدنيا دار عبور للحياة الآخرة , وفيها مسائل:
    الأول: عجز الإنسان عن معرفة مدة أيامه في الدنيا .
    الثاني: كل فعل يأتي به الإنسان يكون محاسباً عليه في الآخرة، فهناك ملائكة يحصون عليه قوله وفعله، قال تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
    الثالث: ليس من سبيل إلى العودة إلى دار الدنيا بعد مغادرتها.
    الرابع: لا يأخذ الإنسان من الدنيا شيئاً عند مغادرته لها، وكأن الدنيا هي التي تركته وليس هو الذي غادرها.
    وجاءت آية البحث ليأخذ الإنسان معه كنوز العمل الصالح.
    الرابع: إن الذين يصرون على أكل الربا ظالمون لحجبهم حسن العاقبة عن أنفسهم، وتوريثهم تعاطي الربا وأكل الأموال منه، قال تعالى[وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ]( ).
    الخامس: بيان حقيقة وهي إنذار آيات القرآن للناس , وزجرهم عن الربا والمعاملات الفاسدة التي تجلب الإثم , وتكون عاقبتها وعقوبتها الخلود في النار.
    السادس: فضح صيغ التحريف التي طرأت على الكتب السماوية السابقة، وبيان حقيقة وهي أن الربا محرم في العقائد السماوية، لإتحاد سنخية التنزيل، ومضامين تصديق الكتب السماوية والنبوات بعضها لبعض , قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل للتصديق بنزول القرآن من عنده تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
    وهل إجتناب الربا من مصاديق هذا الإيمان، الجواب نعم، لذا جاءت بداية آية البحث بالخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) للدلالة على موضوعية الإيمان والتصديق في إجتناب الربا، خصوصاً وأنه مورد لكسب الأموال ومضاعفتها من غير جهد وعناء الكسب، فيجعل الإيمان الإنسان ينظر لهذا أموال ببصيرة تكون واقية من إرتكاب الحرام.
    وكانت قريش تصد الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يمنع الربا، وتلك آية في البعثة النبوية، فلم يكن الربا من الأحكام المؤجلة إلى حين قوة الإسلام، وثبات أركان دولته.
    ويتجلى الإعجاز بأن الناس لا يصغون لتحريض قريش عن النبي ولا يجعلون نهي التنزيل عن الربا برزخاً دون دخولهم الإسلام.
    (ذكر عمر بن شبة أن الأعشى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مدحه بقصيدته التي أولها
    ألم تغتمـــض عيناك ليلة أرمدا * وعادك ما عاد السليم المسهدا
    وما كان من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلة مهددا ويقول لناقته:
    فآليت لا أرثي لها من كلالة * ولا من حفا حتى لاقي محمـــــــدا
    بي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجـــــــــــــدا
    متى ما تناخي عند باب ابن هاشـم * تراحي وتلقي من فواضـله يـدا
    فبلغ خبره قريشاً فرصدوه على طريقه وقالوا هذا صناجة( ) العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع من قدره فلما ورد عليهم قالوا له أين أردت أبا بصير؟

قال أردت صاحبكم هذا لأسلم قال إنه ينهاك عن خلال، ويحرمها وكلها بك رافق ولك موافق، قال وما هن فقال أبو سفيان: الزنا فقال لقد تركني الزنا وما تركته وماذا قال: القمار.
قال: لعلي إن لقيته أصبت منه عوضا من القمار وماذا ؟ قالوا الزنا قال ما دنت ولا أدنت قط قال وماذا قال الخمر قال أوه ارجع إلى صبابة قد بقيت لي من المهراس فأشربها .
فقال أبو سفيان أبا بصير هل لك في خير مما هممت به؟
قال وما هو قال نحن وهو الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا وإن ظهر علينا أتيته . قال ما أكره ذاك؟ فقال أبو سفيان يا معشر قريش هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره فاجمعوا له مائة من الإبل ففعلوا وأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان بقاع منفوحة( ) رمى به بعيره فقتله فدفن هناك)( ).
ولم تأت حرمة الربا تدريجية، وبالنسخ وصيغ التخفيف، ولم تختص بما بعد الإسلام، بل جاءت على نحو دفعي ومرة واحدة، وبإسقاط ربا الجاهلية، ويدل الخبر أعلاه على أن حرمة الربا كانت قبل صلح الحديبية الذي جرى في السنة السادسة للهجرة( )، وتجتمع لغة النهي الواردة في آية البحث مع الإنذارات التي تحذر من النار في إصلاح الناس للإبتعاد عن الربا، وإن كانت فيه أضعاف وأرباح.
وفي الآية مسائل:
الأولى: في إختصاص المسلمين بخطاب التشريف وجوه:
الأول: ترغيب الناس بدخول الإسلام، والفوز بتلقي خطابات المدح .
الثاني: التعريض بغير المسلمين ممن منع عن نفسه نعمة التشريف بخطاب الإيمان والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، ليلوم الكافر نفسه على التخلف عن منازل التشريف والإكرام.
ومن فضل الله عز وجل على الناس إنعدام الوسائط بينهم وبين تلقي خطاب التشريف والإكرام وليس بينهم وبينه إلا النطق بالشهادتين.
الثالث: توكيد تفضيل المسلمين، ونيلهم مرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الرحمة) يرحم الله بها الناس، وتكون مرآة ومقدمة للرحمة العظيمة الواسعة التي يتفضل بها عليه يوم القيامة.
ومن رحمة الله عز وجل بالناس عامة والمسلمين خاصة حرمة الربا، والزجر عن أكل الأموال الربوية، وتلك آية في بديع الخلق بأن يأتي النهي والمنع عن جني الأرباح الطائلة، ليكون هذا المنع رحمة إختص الله عز وجل بها الأمة التي خاطبها بنداء التشريف والإكرام، فإن قلت ما الدليل على أن النهي عن الربا من الرحمة خصوصاً وأنه حجب لأموال طائلة وأرباح كثيرة.
والجواب من وجوه:
الأول: يعلم الله عز وجل المصالح والمفاسد، وما يأمر به تعالى فهو خير محض ونفع متجدد، وما ينهى عنه فهو قبيح وفاسد، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ]( ).
الثاني: من آيات الله في الخلق أن منافع الأوامر تتجلى بالحال، وكذا تتجلى أضرار المعاصي والذنوب، فما أن يمتثل العبد لأمر الله عز وجل حتى تتبين له مصاديق من النفع والبركة، ومنها السكينة التي تملأ النفس، وإذا فعل معصية فإنه يرى أسباب الأذى، وتفتح له أبواب من البلاء والإبتلاء.
ويمكن إعتباره من عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، بتقريب يتجلى في وجوه أربعة:
الأول: يمحو الله البلاء عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات، شكراً لهم وفضلاً من الله.
الثاني: يثبت الله النعم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات رحمة من الله عز وجل، وجزاء عاجلاً.
الثالث: يثبت الله عز وجل البلاء المكتوب على صاحب المعصية ومرتكب الكبيرة، وآكل الربا.
الرابع: قد يمحو الله عز وجل الفضل الذي يرجوه مرتكب الكبيرة , وآكل الربا تأديباً له، ومنعاً من تماديه في المعاصي، الإغراء عليها , لذا قال تعالى[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ]( ).
الثانية: تدعو الآية في مفهومها إلى التقيد بأحكام الحلال والحرام في الأسواق والمعاملات والأحكام، وأنها لا تنحصر في باب العبادات وأداء الصلاة والصوم بل تصاحب المسلم في جميع ميادين الحياة، وفيما يخصه وعياله وصلاته مع الناس .
فتتجلى موضوعية وأثر العيال في المقام بقوله تعالى(لا تأكلوا) وما فيه من التحذير عن إطعام الزوجة والأولاد من الربا، والصلات مع الناس بإجتناب ظلمهم , وإنتزاع الفائدة الربوية منهم.
ليكون منطوق ومفهوم الآية الكريمة شاهداً على تكامل الشريعة الإسلامية.
وهل تدخل آية البحث في عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( )، الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول: الإمتناع عن الربا حكم تكليفي فهو جزء من الدين والملة.
الثاني: إنه باب للهداية والصلاح، وعون على أداء الوظائف العبادية، سواء بذاته أو بالبدائل التي يتوجه إليها الناس عند الإمتناع عن الربا في باب المكاسب والتجارات.
الثالث: إجتناب الربا في باب القرض والدين من مصاديق الأخوة بين المسلمين، وإجتنابهم للظلم بينهم في باب المعاملات والمكاسب، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وفيه شاهد على تكامل مصاديق الأخوة بين المسلمين، وأنها لا تختص في الصلات الإجتماعية، وميادين القتال، بل تشمل الأسواق وأسباب الكسب.
ومن أكثر موارد الإبتلاء والحرص على جلب المنفعة للذات المكاسب والبيع والشراء، وموارد المغانم، فجاءت آية البحث لتجعل ضابطة الأخوة هي الحاكمة فيها.
الرابع: توكيد حقيقة وهي أن تكامل الشريعة لا ينحصر بالأوامر بل يشمل النواهي، وفيه مسائل:
الأولى: تلك آية في تنزيه المسلمين، وبيان لوجه من وجوه تفضيلهم.
الثانية: جمع المسلمين في الإمتثال بين الفعل والترك مع التمييز , وإدراك التضاد الموضوعي بنيهما، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الثالثة: التوكيد العملي لحقيقة وهي تعدد مصاديق وأفراد الإبتلاء والإختبار في الدنيا، وهي على شعب منها:
الأولى: ما هو خير، ويجب أن يسعى له الإنسان.
الثانية: ما هو قبيح، يجب أن يجتنبه ومنه الربا.
الرابعة: ما يكون منزلة بين المنزلتين، لا يكون فيها الفعل ذا مصلحة خالصة، وليس هو مفسدة محضة , وهو على ثلاثة وجوه:
الأول: رجحان المصلحة والمنفعة مع وجود الترخيص بالترك وهو المستحب.
الثاني: غلبة جانب المفسدة، ولكنها ليست ملزمة، فيجوز الفعل على كراهة.
الثالث: المباح الذي يتساوى فيه طرفا المصلحة والمفسدة.
وهل في إجتماع الأوامر والنواهي على المسلمين، وبلوغ النواهي لميادين التجارة والكسب تشديد على المسلمين، بحيث أن الله عز وجل ينهاهم عن أضعاف مضاعفة من الأرباح هي قريبة منهم، وتأتيهم من غير بذل جهد وعناء، ومخاطرة في الشراء، وإحتمال كساد التجارة، وتعرضها للتلف.
الجواب لا، من وجوه:
الأول: جاء النهي عن الربا لقبحه الذاتي، وما فيه من الظلم لذا قال تعالى[وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الثاني: يتضمن الربا ظلم الغير، وأخذ المال منه بالشرط الذي يقع تحت ضغط الحاجة، ولا إعتبار فيه للرضا، وهو من أسباب مجيء النهي بالمنع عن أكل الربا.
فلو كان المال الربوي حلالاً وملكاً طلقاً لما نهى الله عز وجل عن أكله.
وفي الفقه قاعدة تسمى أصالة الإباحة، وأن كل شيء لك مباح إلى أن تعلم حرمته وعائديته للغير، قال تعالى[وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الثالث: قد ضمن الله عز وجل للمسلمين الرزق الكريم.
الرابع: أراد الله للمسلمين التنزه عن ظلم بعضهم بعضاً، وعدم جعل ملاك الولاية بينهم قائماً على الظلم، فنهاهم عن الربا، لأمور:
الأول: بقاء معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين.
الثاني: إستدامة الصلات بينهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ]( ).
الثالث: نشر مفاهيم الصلاح في الأسواق وإشاعة مكارم الأخلاق.
وتترشح عن الربا طوعاً وقهراً النفرة من آكل الربا، فيعطيه المقترض الزيادة الربوية وهو في حال كآبة، من وجوه:
الأول: عدم الرضا على دفع الزيادة الربوية.
الثاني: تمني عدم إنتفاع المرابي منها.
الثالث: شعور المقترض بالحرمان من جهده وكسبه وسعيه لأن صاحب المال يأكله.
مما يتعارض مع إستدامة معاني المحبة والمودة بين المسلمين.
تضمنت الآية أطرافاً أربعة:
الأولى: الخطاب التشريفي لعموم المسلمين والمسلمات، وإذا أعطى الله عز وجل فأنه يعطي بالأتم والأوفى، فلم يقيد التشريف والإكرام لطائفة من المسلمين كالعلماء، وأهل التقوى واليقين أو أنه يكون في المقام على مراتب بلحاظ الجهاد، كما في قوله تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( )، بل يشمل التشريف في لغة الخطاب في الآية جميع الذكور والأناث من المسلمين، وهو كنز مدخر لكل من يولد من المسلمين، وتلك نعمة يختص بها الله المسلمين بأن يتلقى الخطاب المولود منهم حالما يخرج إلى الدنيا, وفيه أمور:
الأول: إنه باعث على الهداية والصلاح.
الثاني: فيه دعوة للناس لدخول الإسلام، وضمان التشريف لأبنائهم وبناتهم.
الثالث: حضور الخطاب القرآني بين الناس.
الرابع: حث الناس على إستنباط المسائل ومصاديق الحكمة في إكرام المسلمين في التنزيل.
الخامس: ندب المسلمين والمسلمات للإرتقاء إلى مراتب التشريف التي خصهم الله بها بتعاهد وإتيان ما أمر الله به، وإجتناب ما نهى عنه وهذا السمو والإرتقاء من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: توكيد حقيقة وهي النعمة العظيمة على المسلم بتصديقه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطقه بالشهادتين، قال تعالى[وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا]( ).
السابع: إستقراء مسائل بالفطرة ذات صبغة حميدة تترشح من الخطاب التشريفي وهي:
الأول: إنه باب لنزول رحمة الله.
الثاني: إنه دعوة لتعاهد نعمة هذا الخطاب.
الثالث: بعث المسلمين للشكر لله , وتعاهد منازل الثناء على الله، رجاء الزيادة من فضل الله، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الرابع: إدراك التقسيم السماوي للناس بلحاظ الإيمان وعدمه، وهو من عمومات الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار في القرآن.
الخامس: إنه بشارة الرزق الكريم , قال تعالى في خطاب ووعد للمســلمين[وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، أي مباحاً لذيذاً، وعن ابن عبــاس في الآية (يريد طيــبات الرزق اللحم وغيره) ( )، وكأنه رد على

الذي يقول: إذا كان الرزق من عند الله، فلماذا قيدته الآية بأنه حلال, فهذا التقييد على وجوه:
الأول: إنه توكيد للرزق، ونعته بأنه مباح.
الثاني: فيه وقاية من ولوج باب الربا.
الثالث: بيان فضل الله على المسلمين .
الرابع: دعوة المسلمين للشكر لله , وإتخاذ هذا الشكر غنىً وحرزاً من أكل الربا.
الخامس: بعث المسلمين للإنتفاع الشخصي من الطيبات , وإكرام الضيف.
وفي إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيوفه , ورد قوله تعالى [قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]( )، والعجل ولد البقرة سمي به للإشارة إلى قرب ميلاده.
والحنيذ المشوي(وقال الزجاج: الحنيذ المشوي بالحجارة)، (وعن ابن عطية: حنيذ يقطر ماؤه)( )، وعن ابن عباس ومجاهد: حنيذ نضيج بالحجارة المحماة في خد من الأرض)( ).
وقوله تعالى(ما لبث) أي لم يتوقف ولم يتأخر في تقديم الطعام، ومن السنة تعجيل الطعام للضيف.
ووردت الآية أعلاه من سورة المائدة بعد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ]( )، وفيه دلالة على لزوم الرجوع إلى القرآن في معرفة الحلال والتنعم به، والحرام وإجتنابه.
وفي الآية أعلاه إعجاز في نزول الآيات , وأن آيات القرآن تترشح عنها حوادث ووقائع، وتلك الوقائع تكون سبباً لنزول آيات أخرى , فتكون مباركة من وجوه:
الأول: إنها مدرسة في التفسير الصحيح للآيات , وواقية من الإختلاف في التأويل.
الثاني: إنها موضوع للهداية والصلاح.
الثالث: إكرام الضيف حسن ذاتاً وأثراً , و ليس من الإسراف والتفريط بالمال، وبالإسناد عن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركب الحمار ويلبس الصوف ويعتقل الشاة ويأتي مراعاة الضيف( ).
ومن إكرام الضيف عدم إطعامه من المال الربوي، ولا يرضى المسلم الذي يحل ضيفاً أن يأكل من المال الربوي، ويفيد الجمع بينه وبين الندب الإحتراز من الربا إكراماً للضيوف، وتنزهاً عن التعرض لموارد الغيبة إذ يجوز للضيف غيبة المضيف، وإن كان بيانه لتقصير المضيف ليس من الغيبة المنهي عنها بل يطلق عليه عنوان الغيبة مجازاً.
الرابع: إنها مادة للإقالة ومناسبة للتدارك، ومانع من التشديد على النفس.
وذكر أنه (جلس رسول الله يوما فذّكر الناس و وصف القيامة فرق الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي و هم علي و أبو بكر و عبد الله بن مسعود و أبو ذر الغفاري و سالم مولى أبي حذيفة و عبد الله بن عمر و المقداد بن الأسود الكندي و سلمان الفارسي و معقل بن مقرن .
و اتفقوا على أن يصوموا النهار و يقوموا الليل و لا يناموا على الفرش و لا يأكلوا اللحم و لا الودك و لا يقربوا النساء و الطيب و يلبسوا المسوح و يرفضوا الدنيا و يسيحوا في الأرض و همّ بعضهم أن يجب مذاكيره.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية و اسمها حولاء و كانت عطارة: أ حق ما بلغني عن زوجك و أصحابه ؟
فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وكرهت أن تبدي على زوجها , فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك.
فانصرف رسول الله فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو و أصحابه فقال لهم رسول الله ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا .
قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله : إني لم أومر بذلك ثم قال إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا و قوموا و ناموا فإني أقوم و أنام و أصوم و أفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء و من رغب عن سنتي فليس مني.
ثم جمع الناس و خطبهم وقال ما بال أقوام حرموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين و رهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتخاذ الصوامع و إن سياحة أمتي الصوم و رهبانيتهم الجهاد .
اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و حجوا و اعتمروا و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و صوموا رمضان و استقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية) ( ).
ويتجلى في أكل الطيبات وآداب إكرام الضيف الحث على الإنفاق على النفس والعيال، ويدل في مفهومه على الوعد الكريم بالسعة في الرزق،
الثامن: بعث اليأس والفزع في قلوب الكفار من الأجيال اللاحقة من المسلمين .
(مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب } فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود.
فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { الم ذلك الكتاب}.
فقالوا أنت سمعته؟ قال : نعم.
فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب } ؟ قال : بلى.
قالوا : قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال : نعم.
قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه ، وما أجل أمته غيرك , فقال حيي بن أخطب : وأقبل على من كان معه الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه احدى وسبعون سنة . أفتدخلون في دين نبي , إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة!
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟
قال : نعم . قال : ما ذاك؟
قال {المص} قال : هذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وأحدى وستون سنة.
هل مع هذا يا محمد غيره؟
قال : نعم . قال : ماذا؟ قال { الر } قال : هذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة.
فهل مع هذا غيره؟ قال : نعم {المر} قال فهذه أثقل وأطول. الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان.
ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أُعطيت ، أم كثيراً!
ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ، ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره)( ).
وحساب الحروف على الجمل هذا ليس بحجة وإن كان متعارفاً ولا ملازمة بينه وبين نزول القرآن الذي هو حق وصدق ، فقد شاء الله عز وجل أن يبقى العمل بمضامينه إلى يوم القيامة.
ويظهر الحديث أن حساب السنين جرى بين بعض كبراء اليهود، وليس مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه إكتفى بإجابتهم وإخبارهم عما يريدون من أخبار التنزيل وفيه شاهد بعدم إخفائه الآيات على أحد.
ثم أن سؤالهم جاء أثناء مدة نزول القرآن وقبل واقعة الخندق التي جرت في شوال سنة خمس للهجرة( ).
وفي تجدد الخطاب التشريفي لأجيال المسلمين، أمور:
الأول: شمول الخطاب للموجود والمعدوم.
الثاني: دعوة للناس للتدبر في الدلائل التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إنه زاجر عن التعدي على المسلمين، وإعانة الكفار المشركين عليهم.
ولما رجعت الأحزاب من قريش وغطفان خائبين من واقعة الخندق لم يكسبوا شيئاً، ورجع المسلمون ووضعوا السلاح.
أتى جبرئيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عند زينب بنت جحش وأمره بالتوجه إلى بني قريظة.
(ومرّ رسول الله صلّى الله عليه على أصحابه بالصورين قبل أنْ يصل إلى بني قريظة فقال : هل مرَّ بكم أحد؟ فقالوا : يا رسول الله لقد مرَّ بنا دحية بن خليفة الكلبي( ) على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج.
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذاك جبرائيل بُعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.
فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني قريظة , نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس , فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا يصلّين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه،ولا عنّفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحاصرهم رسول الله خمساً وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان) ( ).
وفتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحصن وقدم حيي بن أخطب وقتل يومئذ، ولم يتعظ من المعجزات التي كانت تترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وظهوره بعدد قليل من المؤمنين على جحافل المشركين وجيوشهم الزاحفة من مكة.
الثانية: لقد أثنى الله عز وجل على نفسه بأن جعل المسلمين أخوة، وجعل مادة هذه الأخوة نعمته سبحانه وعظيم إحسانه عليهم، قال تعالى[فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
فمن أسمى مراتب الرفعة والسمو للجماعة والأمة هي مرتبة الأخوة، وليس من حصر لمنافعها الإجتماعية والسياسية والعسكرية، وتستطيع الأمة المتآخية أن تقهر أعداءها وإن كانوا أضعاف عددها، وتستطيع البناء والعمل بنجاح وتوفيق، وأخوة المسلمين أعم وتشمل ميادين الدنيا والآخرة، لتكون على وجوه:
الأول:إنها قوة ومدد ومنعة ذاتية.
الثاني: فيها شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى , وإرتقاؤهم في سلم المعارف.
الثالث: إنها من أسباب بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وزجرهم عن التعدي على المسلمين، فمن يحارب أمة متآخية لا يلقى إلا الهزيمة والحسرة لذا ورد قوله تعالى في وصف وذم كفار قريش يوم أحد [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الرابع: فيها دعوة لإستقراء نعم الله عز وجل على المسلمين ومنافعها الخاصة والعامة، فتأتي النعمة في موضوع إجتماعي مثلاً ولكن منافعها تشمل الميادين الإقتصادية والعسكرية والسياسية بما يمنع من الفرقة بينهم وإدراك قانون ثابت هو أن كل فرد من أفراد الخير التي يفوز به المسلمون هو نعمة من الله عز وجل .
وتتجلى مفاهيم النعمة بنسبتها في القرآن أو السنة إلى الله سبحانه, ومنها نعمة الإمتناع عن الربا التي جاءت بنهي يفيد القطع ولزوم الترك بقوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا].
وفي القرآن مطلق ومقيد فما تجده في آية على نحو الإطلاق تجد في آية أخرى أو في السنة النبوية تقييداً له، كما في إطلاق وجوب الصلاة والزكاة والحج وتقييده، فمثلاً جاء الإطلاق في قوله تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] ( ).
فجاء التقييد في السنة النبوية بأن يكون القطع في سرقة ربع دينار أو أكثر، والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: الْقَطْعُ فِى رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا( ).
أما الربا فان حرمته جاءت مطلقة، فليس في القرآن أو السنة ما يفيد تقييده أو إستثناء فرد ومقدار منه، ولا حال مخصوصة تتعلق بها الحرمة أو تستثنى من حرمة الربا.
الثالثة: يستلزم الإمتناع عن المعاصي ملكة التقوى والخشية من الله خصوصاً إذا كانت المعصية تلائم الهوى، وفيها جهة ترغيب لنفع عرضي طارئ، فبالتقوى تنكشف للعبد حقيقة الفعل وتحضر أمامه عاقبته بما يتضاءل معها النفع العاجل.
ومن التقوى السعي لمعرفة أضرار الربا على النفس والغير، وما فيه من الظلم والكسب غير الشرعي، فقد لا يلتفت الإنسان لما في الفعل من المصالح والمفاسد، ولكن مع تسلحه بالتقوى يدرك ماهية الفعل وما فيه من النفع الدنيوي والأخروي، وما في الذنب والمعصية من الإثم والضرر العاجل والآجل .
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]، قال من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و شدائد يوم القيامة)( )، وفيه مسائل:
الأولى: أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن في غير أوقات الصلاة.
الثانية: إنه صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ شطراً من آية بلحاظ مناسبة الموضوع والحكم , وإرادة تفقه المسلمين.
الثالثة: يقوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير وتأويل الآية القرآنية إبتداءً من غير سؤال من أحد.
الرابعة: مجيء التفسير بما يتعدى موضوع الآية إذ أنها وردت في بيان أحكام الطلاق , فالآية التي قبلها هي[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ …..] الآية( ).
الخامسة: تجلي المعنى الأعم للآية في تفسيرها بما يشمل عالم الدنيا والبرزخ والآخرة.
السادسة: تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شدة ساعة النزع ومفارقة الأحبة، وهول المطلع.
السابعة: يدخل لزوم ترك الربا في الأفراد الثلاثة التي وردت في الحديث النبوي لأن من أفراد الإحتراز من الربا ومقدماته إبتعاد المسلم عن الشبهات وأن يستعد للموت والوقوف بين يدي الله بعدم أكل المال الربوي.
فيستحضر آية الربا عند طرو موضوعه أو الرغبة فيه، أو الظن بالحاجة إليه، ويعلم أن الله عز وجل حرمه فتنفر نفسه منه، وتتبين له بوضوح أضراره بما يبعث على الإمتناع عنه، ومعرفة حقيقة وهي أن الحاجة للربا شبهة بدوية، فليس ثمة حاجة لما نهى الله عز وجل عنه، والحق أن أبواب الكسب الحلال تسع الناس جميعاً، ويكون فيها النماء والرزق الكريم، قال تعالى[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ]( ).
وهل يمتنع الإنسان عن الربا من غير تقييد بآداب التقوى، على نحو السالبة الكلية.
الجواب قد تميل النفس إلى الربح الوفير العاجل، ولا يلتفت الإنسان إلى ما في الربا من الظلم أو تكون غشاوة على البصر بسبب الأضعاف المضاعفة من أرباح الربا تحول دون رؤية أضرار الربا على الذات والغير وإحتمال سعي المقترض للمال الربوي في سبل التجارة والعمل.
ليكون الأمر بالتقوى في الآية الكريمة رحمة إختص الله عز وجل بها المسلمين، قال تعالى[وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا] ( ).
لقد جاء النهي عن الربا حكماً مستقلاً قائماً بذاته بالنهي الصريح عن أكل الربا[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] وورد بعد خطاب الإكرام بصفة الإيمان لبيان لزوم تنزه المسلمين عن أكل الربا لعدم إجتماع الضدين.
ثم جاء الأمر بتقوى الله عز وجل ليكون إجتناب أكل الربا مقدمة للفلاح، وواقية من السيئات والذنوب الأخرى.
فإذا إستطاع المسلم أن يقهر غريزة الطمع عنده، ويخضعها لأحكام التقوى فانه يمتلك جوارحه، ويجعل الضابطة في قوله وفعله الخشية من الله عز وجل.
الرابعة: جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عمل وإختبار، قال تعالى[مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ] ( )، والحياة الدنيا بداية وليست نهاية .
فاذا كان بقاء الإنسان في الدنيا معلوماً على نحو الإجمال، فان مدة لبثه في عالم البرزخ غير معلومة ولكنها لابد وأن تختتم بالنشور، قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ]( ).
الخامسة: توكيد عالم الجزاء في الآخرة، وأن الناس فيها على قسمين:
الأول: المفلحون.
الثاني: الخاسرون غير المفلحين.
وتفضل الله عز وجل على المسلمين، وهداهم إلى سبل الفلاح في الآخرة، ولم تنحصر أسباب الهداية بالمسلمين فهي شاملة للناس جميعاً مباشرة وبواسطة المسلمين، ولكن الكفار حجبوا عن أنفسهم نعمة الهداية بسوء إختيارهم، وإصرارهم على الكفر والجحود، وظلم الغير بإنتزاع المال الربوي منه.
ولم يترك الله الناس في حيرة من أمرهم إذ تفضل ومنع من الخلط في المفاهيم، أو التداخل بين الفريقين، فقد جاء القرآن ببيان صفحة أهل الفلاح والهداية بآيات عديدة تذكر النهج القويم الذي يؤدي إلى الفوز في النشأتين، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
وتفضل الله عز وجل وذكر مصاديق الذنوب والفواحش التي تكون برزخاً دون بلوغ منازل البقاء والتوفيق والفلاح، لإقامة الحجة على أهل الجحود، وإنذارهم مما يقيمون عليه من المعاصي، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ]( ).
ومن منافع نفخ الروح في آدم أن كل إنسان يدرك حقيقة عدم دوام وجوده في الحياة الدنيا، فلابد أن يغادرها، ويرميه الله عز وجل بالشيب وأنواع المرض لتكون أمارة على دنو الأجل، وتذكيراً بالإنتقال الى الدار الآخرة.
ويودع من يموت وهو يدرك لحوقه القريب به، ويدب إلى نفسه الخوف، ويستحضر الموت قهراً وإنطباقاً عند وفاة من هو في سنه وطبقته، وتأتي آية البحث، وفيها أمور:
الأول: إضاءة دروب الفلاح في الآخرة.
الثاني: الزجر الصريح عن الربا.
الثالث: الأمر بتقوى الله عز وجل .
الرابع:الدعوة إلى الإيمان والصلاح، قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ]( )، وفيه أمور:
الأول: بشارة ظفر المسلمين بمرادهم في الآخرة باللبث الدائم في الجنة.
الثاني: دعوة المسلمين للثبات على الإيمان، ومن مصاديقه الحرص على التنزه عن الباطل، وإجتناب أكل الربا لما فيه من الحرمة الذاتية ولأنه ظلم للذات والغير.
الثالث:إنه واقية من الغفلة ومانع من دبيبها بين المسلمين، قال تعالى في بين عظيم منافع القرآن[وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، أي من قبل نزول القرآن، وجاء الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد الأمة، ورشحات نفع القرآن على الناس عموماً.
وتبين الآية أعلاه الملازمة بين الإيمان والفلاح، وحاجة الإنسان الذي يسعى للغايات النبيلة إلى إستحضار الهدى وسنن الإيمان.
وبخصوص الآية أعلاه ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(أنه أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال :”لو خشع قلبه خشعت جوارحه)( ).
إفاضات الآية
تبين الآية حب الله عز وجل للمسلمين، وصلاحهم لتلقي الأوامر الإلهية بالإمتثال والإستجابة.
ومن الآيات أن هذا الإمتثال لاينحصر بعالم الفعل كأداء الصلاة والحج والصيام ونحوه والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشمل الإمتثال الإمتناع عن الفواحش والسيئات بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي ملاكه الترك بقصد القربة والطاعة لله عز وجل.
وتتجلى معاني حب الله للمسلمين في نزول آية البحث بالخطاب لهم بلغة الإيمان[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي هو بشارة متجددة للمسلمين بالعز والرفعة لقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وهذه البشارة ومصداقها وتجلي معاني العز للمسلمين في الدنيا والآخرة من حب الله عز وجل لهم، فمن يحبه الله ينال الفلاح.
وجاءت آية البحث وما فيها من النهي عن الربا لتحصين هذا الفلاح، والظفر بحب الله وهو أعظم غاية يسعى إليها الإنسان، ويتحقق حصراً باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بآداب آيات القرآن التي جاءت لإنقاذ الناس في الدارين.
لتكون كل آية من القرآن فيضاً مباركة، وهبة خاصة للمسلمين، فهم يتركون أرباحاً كثيرة تجبى بمعاملات ربوية لينالوا هبة ومنحة عظيمة تعم أجيالهم المتعاقبة، وفيه آية في الأحكام التكليفية وأسرارها وهو مصداق لكون الآية القرآنية كنزاً وخزينة تترشح منها النعم الإلهية على الأحياء والمعدومين.
لقد حجبت آية البحث كسباً خاصاً بأرباب الأموال الكثيرة في باب معلوم وهو الربا، وقد إشترى الله عز وجل من المسلمين والمسلمات أنفسهم وكل ما يملكون بالبذل المطلق في سبيله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ] ( ).
ولا يجوز على الله عز وجل الإشتراء حقيقة، لأن الشراء حيازة ما كان في ملك الغير[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ولكنه تعالى يذكر لفظ الشراء فضلاً منه، وتلطفاً بالمسلمين، وترغيباً لهم بما أعد من الثواب العظيم، ليكون الثواب هو الثمن .
وطاعة العبد لله هي المثمن المشترى، والمشهور أن الثمن هو الجنة وفيه الغنى والكفاية، ولكن الثمن أعم لأن الشراء على أقسام:
الأول: الشراء بثمن حال ونقد.
الثاني: الشراء بالنسيئة بأن يشترط تأجيل الثمن(لابد في بيع النسيئة ان تكون المدة معينة ومحددة لا يتطرق اليها احتمال الزيادة والنقصان بالمقدار الذي يؤدي إلى الجهالة والغرر والضرر)( ).
الثالث: بيع السلف ويسمى بيع السلم، وهو إبتياع كلي مؤجل بثمن حال أي عكس النسيئة، كما لو دفع المشتري مائة دينار في الحال قيمة مقدار معلوم من الحنطة بعد شهرين.
ومن الإعجاز أن ثمن شراء الله عز وجل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم يشمل الوجوه الثلاثة أعلاه مجتمعة في موضوع وآن واحد , وأنشد الأصمعي للصادق (عليه السلام):
أثامن بالنفس النفيسة ربها
فليـــــــس لها في الخلق كلهم ثمن
بها نشتري الجنات إن أنا بعتها
بشيء ســـــواها إن ذلـــــكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها
فقد ذهب الدنيا و قد ذهب الثمن ( ).
والمراد من شراء الأنفس والأبدان الجهاد في سبيل الله، ويدخل فيه العناية بالبدن بعدم أكل الربا.
وتبين آية البحث معنى وماهية شراء الله لأموال المسلمين بالكسب الحلال، والتنزه عن الأرباح الربوية فهو شراء فيه نفع لهم في الدنيا والآخرة، إذ تكون أموالهم ذات بركة , وليس من بيع في الدنيا مثله أو أحسن منه.
ويكون الربا والنماء فيها وفق المكاسب الشرعية، وشراء أموال المسلمين عصمتها من الكسب الحرام من غير أن يؤثر على ما كتب الله لهم من الرزق، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ]( ).
وفيه بشارة ضمان الرزق الكريم للمسلمين مع تركهم الربا، وهذا الترك من الشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان وما يترشح عنه من التسليم بلزوم طاعة الله عز وجل.
لقد تغير التأريخ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ وجدت أمة تعزف عن الأموال الكثيرة حباً لله عز وجل، لأن تلك الأموال نهى الله عنها.
إن الشوق لمنازل الفلاح والبقاء في الآخرة , والعشق العام عند المسلمين لمرضاة الله يجعلهم معصومين من الربا وأكل المال الربوي.
لقد إختار المسلمون حب طاعة الله عز وجل على حب الأضعاف المضاعفة التي تأتي من الربا ليجزيهم الله عز وجل المال والجاه والرفعة، وتأتيهم البشارات بحسن العاقبة، قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
والأموال باب للفتنة والإفتتان، ولم يحرم الله عز وجل كسبها وجمعها ولكنه تعالى أمر بإخراج الزكاة وحق الفقراء فيها، قال تعالى[وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ]( ).
وفيه بشارة أن الأضعاف المضاعفة من الأموال تأتي بالبذل والإنفاق في سبيل الله، وتلك آية إعجازية، وشاهد على أن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل، وهو تعالى[عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، والله سبحانه ينهى عن الربا ليمنح المسلمين الأضعاف المضاعفة من الأموال بالتقوى والصلاح أي أن قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ] أي اتقوا الله فتأتيكم تلك الأضعاف المضاعفة حلالاً ورزقاً زاكياً.
وفي خطاب الإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مسائل:
الأولى: يبعث الشوق في النفوس لتلقيه والتزود بإفاضاته.
الثانية: التنعم برشحاته الكريمة من فضل الله، قال تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ]( ).
ومع أن الآية أعلاه جاءت في رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه سالمين في معركة أحد، وتحديهم للركب الذي دسه أبو سفيان لتخويفهم فقد ورد أن المراد بالنعمة (هاهنا الثبوت على الإيمان في طاعة الله و الفضل الربح في التجارة)( ).
الثالثة: إنه مائدة نازلة من السماء دائمة ومستديمة، وتتصف بالقرب من كل مسلم ومسلمة، في الأجيال التعاقبة، وتدعوهم للأكل والنهل من ثمارها، ثمار التشريف والتفضيل والشهادة لهم بالإيمان، وهي أفضل وأعظم من أكل الربا الذي نهت عنه الآية .
وفيه دعوة للجوء إلى الله، ورجاء الثواب العاجل والآجل للإيمان به تعالى والتصديق بأنبيائه وملائكته وكتبه.
روي عن ابن عباس أنه قال: آخر كلام إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل، وقال نبيكم مثلها، ثم تلا قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وهل يمكن الجمع بين الأمرين بين قطف ثمار الإكرام بالخطاب الإلهي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وبين أكل المال الربوي.
الجواب لا، ولا تصل النوبة إلى الهّم بالجمع، فيغرق المسلمون بمائدة الإيمان، ويفرون من الربا جملة وتفصيلاً، لذا جاء الحديث النبوي بالنهي عن أكل الربا وقبضه، وذم أطرافه والذي يتولى كتابته والشهادة عليه، والوكالة فيه.
إن الخطاب أعلاه كنز سماوي محفوظ للمسلمين.
وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم عليهم السلام خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، إحتج الله عز وجل عليهم بعلمه الذي أحاط بكل شيء، وقصور ما في أيديهم من الأخبار والعلوم عن الإنسان.
والخطاب أعلاه موجه للملائكة مجتمعين , ويحتمل وجهين:
الأول: يعلم الله عز وجل تخلف الملك الواحد عن علمه تعالى.
الثاني: إذا إجتمع الملائكة كلهم فانهم لا يحيطون بما يعلمه الله , ولو تعدد وكثر إجتماعهم.
ولاتعارض بين الوجهين، والوجه الأول في طول الثاني، ويدل عليه أنهم إحتجوا بما يفيد إجماعهم على إنكار وجود خليفة في الأرض يفسد فيها، فجاءت البشارة من الله للملائكة بما يبعث السكينة عندهم، ثم جاء مصداق عملي عظيم لهذه البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيام أمته بالتنزه عن المعاملات الربوية وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
والربا من الفساد والإفساد، وإمتناع المسلمين عنه طاعة لله عز وجل دليل على عدم تفشي الفساد بين أهل الأرض، ومن بديع صنع الله في موضوع الخلافة أن المسلمين يحثون أهل الكتاب والناس على ترك الربا، ولا يستطيع غير المسلمين حثهم على مزاولة الربا، والبقاء والدوام في منازل إجتناب الربا لوجوه:
الأول: وجود أمة تتقيد بحرمته , وهم[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الثاني: عدم حصول الفرقة والخلاف بين المسلمين في يوم من الأيام بحرمة الربا.
الثالث: النهي عن الربا واجب على المسلمين قال تعالى[الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله]( ).
ومن حفظ الحدود إجتناب الربا، وعدم إشاعة الظلم والغبن والغرر في الأسواق.
الرابع: عجز الذين يأكلون الربا عن الحجة والإحتجاج على فعلهم، إذ جاء التنزيل بقبح الربا ولزوم إجتنابه.
وإجتناب المسلمين للربا من علم الله عز وجل فهو سبحانه الذي نهى المسلمين عنه، وأعانهم وأمدهم بما يجعلهم قادرين على تركه والإبتعاد عنه وإن كانت فيه أضعاف مضاعفة من الأموال.
والله سبحانه يعلم بأن المسلمين آمنوا به رباً وإلهاً وخالقاً، ففتح عليهم خزائن الدنيا، وأمرهم بعبادته، ونهاهم عن الفساد في الأرض، ومنه الربا، فاظهروا أسمى مصاديق الطاعة والرضا بأمر الله.
الآية لطف
مما لايختلف فيه إثنان موضوعية صيغة الخطاب في الأثر والتأثير لموضوعه سواء كان أمراً أو نهياً أو خبراً.
لقد إبتدأت الآية بما يجعل المسلمين يفنون في مرضاة الله، ويجاهدون في سبيله تعالى، وإعلاء كلمة التوحيد فأكرمهم الله عز وجل بالخطاب[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
والخطاب إنحلالي، إذ يتوجه لكل مسلم وتقديره:يا أيها الذي آمن).
ويتوجه إلى كل مسلمة وتقديره:يا أيتها المسلمة.
إن الفوز بهذا الخطاب لطف خاص إنفرد به المسلمون من بين أهل الأرض، وفيه مدد لهم، ومن الآيات أن يأتي المدد السماوي في ذات الآية وقبل التكليف.
وهذا الخطاب التشريفي من ولاية الله عز وجل للمسلمين، لما فيه من البعث على الهداية والصلاح، وفي التنزيل[إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ]( )، إن النطق بالشهادتين وحده صلاح وسبيل إلى الصلاح.
فجاءت آية البحث لتثبيت المسلمين في مراتب الصلاح بعزوفهم عن الأموال الكثيرة التي تأتي عن طريق كسب يكون الصلاح بخلافه، مما يدل على أن ولاية الله للمسلمين في المقام أموراً:
الأول: تشمل مقدمات الصلاح.
الثاني: اللطف بهم في أسباب أفراد الصلاح.
الثالث: كيفية جذبهم لمنازل الهداية والرشاد بخطاب التشريف.
الرابع: الشهادة لهم بالإيمان.
الخامس: نهي المسلمين عن أموال كثيرة، لايكون لها إعتبار في مقابل الخطاب التشريفي النازل من الله والمصاحب لهم في أجيالهم ما تعاقب الليل والنهار.
السادس: التدبر الشخصي والنوعي العام في الملازمة بين تقوى الله وإجتناب الربا، وإستمرار هذه الملازمة إلى يوم القيامة.
السابع: دعوة المسلمين الناس للإسلام بالتنزه عن الربا، وما في هذه الدعوة من الأجر والثواب العظيم، وهو غير الثواب الذي يأتي على ترك الربا .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي لأن يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس) ( ).
إن الأمر الإلهي للمسلمين بترك الربا فضل من الله عز وجل ولطف من وجوه:
الأول: إنه شاهد على أهلية المسلمين لإمامة الناس في دروب الصلاح.
الثاني: فيه دليل على إستقامة وحسن سمت المسلمين , وأدائهم للوظائف العبادية.
الثالث:جعل الناس يقرون بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
بلحاظ أن خير أمة يأتيها الفضل العبادي في باب المعاملات بالتنزه عن أكل الربا، والله سبحانه يمدهم بأسباب إجتناب الربا، ويقرب لهم مصاديق الثواب العاجل والآجل
الرابع: تذكير أهل الكتاب والناس بما في الكتب السماوية السابقة من حرمة الربا , قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( )، وفيه دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً للإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنزول القرآن لأنه مصدق للكتب السماوية السابقة، ومضامينها وما فيها من الأوامر والنواهي، ومنها النهي عن أكل الربا.
ذكر (أن الميثاق أخذ على الأنبياء ليأخذوا على أممهم بتصديق محمد إذا بعث ويأمروهم بنصرته على إعدائه إن أدركوه , وهو المروي عن علي وابن عباس) ( ).
لقد أراد الله عز وجل بآيات القرآن ومصاحبتها للناس أموراً:
الأول: إستدامة الحياة.
الثاني: تفقه الناس في صيغ الكسب.
الثالث: بيان فضل الله عز وجل في نزول القرآن.
الرابع: التغيير التام الذي حصل بنزوله.
الخامس: تضمن القرآن أسباب طرد الغفلة وأسباب الضلالة عن الناس.
السادس: إقامة الحجة على الناس، قال تعالى[وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا]( ).
السابع: وجود أفضل وسيلة سماوية
وتعدد اللطف الإلهي بالمسلمين في آية البحث إذ جاءت بالأمر الصريح لهم بالخشية من الله، وبذل الوسع في مرضاته.
ومن التقوى أداء الصلاة وإخراج الزكاة، والصلاة واقية يومية من الربا، فالذي يؤدي الصلاة طاعة وإمتثالاً لأمر الله يحرص على ترك الربا لأن الله عز وجل نهى عنه، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
لتكون الصلاة في المقام من اللطف الإلهي في تحذير المسلمين من الربا، وهي زاجر يومي لهم مجتمعين ومتفرقين عن المعاملة الربوية، وهو من مصاديق تفضيلهم، ومدهم بأسباب التمكين والتنزه عن الربا، تلك الآفة ذات الإغراء في إكتناز الأموال الطائلة بواسطتها.
ودفع الزكاة إعلان للتنزه عن الربا , وهو بذل في سبيل الله وإمتثال لأمره سبحانه(جَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَوِيٌّ جَرِيءٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ الْهِجْرَةِ إِلَيْكَ أَيْنَمَا كُنْتَ أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ قَالَ فَسَكَتَ عَنْهُ يَسِيرًا ثُمَّ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ هَا هُوَ ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضَرِ)( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية الكريمة بخطاب الله عز وجل للمسلمين والمسلمات جميعاً وإلى يوم القيامة بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) فما أن يجتمع المسلمون في موضوع أو مصر إلا ويتوجه لهم هذا الخطاب ليتضمن الدعوة العامة والخاصة، العامة بالإتحاد والأخوة والإلتفات إلى الجامع المشترك السامي بينهم وهو الإيمان لتترشح عنه قهراً وإنطباقاً مفاهيم الأخوة بينهم التي ترتقي وتعلو بمراتب على الأخوة النسبية والصلات السببية والمواثيق القبلية، وقوانين المواطنة من غير أن تتزاحم أو تتعارض معها.
لقد شرّع هذا الخطاب قانوناً سماوياً ثابتاً إلى يوم القيامة، ووشائج قربى بين المسلمين عموماً تتصف بالإمتناع عن النسخ والتبديل.
فكما تعاهد المسلمون آيات القرآن، وحرصوا على سلامتها من التحريف بفضل من الله عز وجل قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، فإن الله رزقهم التآخي والود بينهم بخطاب قرآني من كلمتين يتضمن الشهادة لهم بالإيمان، ويؤكد تمييزهم عن غيرهم من الناس سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم.
وتبين مضامين الآية الكريمة عدم إنتهاء وظائف العباد عند النطق بالشهادتين فلابد من العمل بالأوامر والنواهي التي تأتي للمؤمنين على نحو الخصوص.
فبعد خطاب التشريف والإكرام جاء النهي عن الربا للمسلمين بما هم مؤمنين بالله ورسوله، والخطاب بصفة الإيمان مطلق وعام، وجاء بعده النهي عن فعل مخصوص ومذموم وهو الربا.
ولولا مجيء التنزيل بحرمة الربا هل يعلم الناس القبح الذاتي للربا.
فيه وجوه:
الأول: لا يعلم الناس قبح الربا، وما فيه من الأضرار لإنغماسهم في الدنيا، وشيوع المعاملات الربوية بينهم، ووجود أمة من الناس تجتهد في إدعاء عدم قبحه لأكلها المال الربوي، وإنتفاعها منه وتتصف هذا الأمة والطائفة بأنها ذات سطوة في الأسواق والمنتديات لأن الجامع بينهم هو كثرة الأموال وليس الملة.
الثاني: يعلم الناس قبحه وأضراره على نحو السالبة الجزئية، إذ تكون أضراره ظاهرة لهم، ويتدبرون فيها، ولكنهم لا يكفون عن الربا.
الثالث: يعلم الناس بقبح الربا لما يجلبه من الفساد وما فيه من أفراد الظلم والضرر.
الرابع: التفصيل فمن الناس من يعلم أضراره بالتجربة والوجدان وتعاهد الكتب السماوية، ومنهم من لا يعلمها، قال تعالى[وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ]( ) , فجاءت آية البحث رحمة بالناس جميعاً.
وكل هذه الوجوه ممكنة الوقوع للتباين بين المجتمعات، والأغلب هو الثالث إلا أن العلم بقبح الفعل أمر، وإجتنابه والكف عنه أمر آخر.
فلا يستطيع الناس الكف والإمتناع عن الربا طواعية، وليس من سلطان وقانون يحكم أفعال الناس، ويجعلها متشابهة متحدة إلا التنزيل، وتلك آية في بديع صنع الله، ومنافع حاجة الناس إلى الله.
إذ تفضل الله على الناس بنزول الكتاب، وأحكام الحلال والحرام، ليتلقاها الصالحون من الأنبياء بالقبول، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وإذ طرأ التحريف على الكتب السماوية السابقة، وطال موضوع الربا لأن فيه حجباً لمنافع خاصة لأرباب الأموال، إذ أن قوله (أضعافاً مضاعفة) أمر عام يتعلق بتعاطي الربا، والكسب الكثير منه، فتغلب النفس الشهوية على الناس في الأسواق ويزاولون الربا، ويعرضون عن التنزيل وما فيه من النص القاطع على حرمته.
فجاءت آية البحث بالخطاب التشريفي للمسلمين(يا أيها الذين آمنوا) الذي يدل بالدلالة التضمنية توارث المسلمين الإقرار بحرمة الربا وتنزههم عن التحريف.
وهو الذي تؤكده سلامة آية البحث من التحريف، أو التبديل في منطوقها أو تفسيرها أو تأويلها، ولا عبرة فيما يجري من الإحتيال في الأسواق من الربا لأن هذه الآية صرح عقائدي يشع بأنوار الهداية ويراه كل مسلم ومسلمة في أي بقعة من الأرض.
فكما تشرق على الناس الشمس كل يوم، فإن هذه الآية تطل بالبركة على المسلمين مرات متعددة في اليوم الواحد بكلماتها وقرآنيتها، ومضامينها القدسية التي يدركها ويفقه معانيها القارئ والمستمع والسامع لها.
وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن لا يختلفوا في فهم ومعرفة معاني الآية القرآنية والأوامر والنواهي الواردة فيها، ولم تفرق بينهم الألسنة والإنتماءات القومية، والتباعد في الوطن والسكن.
ليكون من معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين الإتحاد في معرفة مضامين الآية والفهم المشترك لماهية الأوامر والنواهي الواردة فيها، فأجماع المسلمين على حرمة الربا، وتعيين سنخيته بما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(إذ قال: كل قرض جر منفعة فهو ربا) ( ).
الصلة بين(يا أيها الذين آمنوا) وبين(لا تأكلوا)
لقد إبتدأت الآية الكريمة بالتباين والبينونة بين المسلمين والناس، بصبغة الإيمان الجامعة لكل المسلمين والمسلمات، والمانعة من دخول غيرهم في هذا العنوان التشريفي، والتفضيل السماوي، الذي لا يختلف إثنان بما فيه من الرفعة، وما له من المنافع ويحتمل أثر الخطاب(يا أيها الذين آمنوا) عند الناس وجوهاً:
الأول: فيه ترغيب بدخول الإسلام والفوز بمرتبة تلقي خطاب التشريف، قال تعالى[وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ]( ).
الثاني: يعترف الناس بأن هذا الخطاب خاص بالمسلمين، ويقفون بعيداً عنه لأسباب ذاتية تحجبهم عن الحق كالغفلة والجهالة والعناد.
الثالث: يرغب الناس في دخول الإسلام وتلقي هذا الخطاب، إلا أن التكاليف التي تصاحبه تجعلهم يرجئون هذا الدخول فهم مثلاً يريدون ربح الأضعاف المضاعفة من الربا، وهذا الخطاب تحريم له.
والصحيح هو الأول فأن هذا الخطاب دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام، وبعث للشوق في نفوسهم لتلقي هذا الخطاب، وما فيه من معاني الفخر والعز، فإن قلت ما بعد هذا الخطاب زجر عن أرباح طائلة من الربا ويزيد الناس جمعها وتحصيلها والجواب من وجوه:
الأول: لا تتوفر عند كل الناس رؤوس أموال تصلح أن تكون ربوية.
الثاني: التباين بين موضوع الإسلام، وبين أكل الربا، فدخول الإسلام حق وواجب، ويأتي الإكرام في الخطاب القرآني(يا أيها الذين آمنوا) للدلالة على أمور:
الأول: توكيد إختيار سبيل الفلاح بإختيار الحق.
الثاني: إنه بشارة السلامة في الدنيا والآخرة، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
الثالث: الإيمان واقية من المعاصي.
الرابع: إقرار المسلمين بأن إجتناب الربا حق وواجب لمجيء التنزيل بالنهي عنه.
الخامس: يدل الثناء على المسلمين على ذم الكفار، وقبيح فعلهم، فإذا كان الربا إلى نقص ومحق، فإن أموال الكفار عديمة النفع، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ]( ).
الثالث: في الإصرار على عدم دخول الإسلام الإثم والعقاب الأليم، وكذا في الإصرار على الإمتناع عن التقيد بأحكام الربا.
الرابع: الإستمرار بتعاطي الربا يؤدي إلى المحق والنقص وقلة المال، وفي دخول الإسلام النماء في المال والسعة في الرزق.
الخامس: دخول الإسلام خير محض، ونفع في النشأتين، وكذا الإمتناع عن الربا لتكون آية البحث نعمة تفضل الله عز وجل بها على أهل الأرض، ومناسبة لتقربهم إليه تعالى وإتخاذ الإمتثال لما فيها من الأمر والنهي بلغة للفوز بالعز والغبطة والسعادة.
وليس من كلمات وأوامر ونواهي بين الخطاب التشريفي وبين النهي عن الربا، وفيه مسائل:
الأولى: الحصانة من الربا من شرائط ومقومات الإيمان فلا يجتمع المتضادان وهما الإيمان وظلم الناس الذي يتجلى بالربا، وهذا الظلم ليس على نحو القضية في الواقعة الذي يحدث لمرة واحدة وعلى نحو شخصي وقضية عين، فيتصف الربا بأمور:
الأول: إنه آفة إقتصادية وإجتماعية تعم المجتمعات.
الثاني: مصاحبة الحرج والغبن للمعاملات الربوية على المعاملات.
الثالث: يبعث الربا ومعاملاته أسباب النفرة بين الناس.
بينما ينمي الإيمان صلات الود والمحبة والإحترام بين الناس قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )، وفي هذا الود مسائل:
الأولى: آية في نشر الإسلام.
الثانية: إشاعة للأخلاق الحميدة.
الثالثة: فيه نبذ للعادات المذمومة ومصاديق الظلم والتعدي.
الرابعة: إنه مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصغاء الناس للذي يأمر بالحق والهدى، وينهى عن المنكر ويدعو إلى نبذه وهجرانه.
الخامسة: موضوعية إجتناب المسلمين الربا في جعل مودة لهم في النفوس، فالذي يأكل الربا يعزف عنه الناس، ولا يميلون إليه، ويظهرون النفرة منه في منتدياتهم وميادين العمل والبيع والشراء، لأنه شريك لهم في أموالهم وأرباحهم من دون أن يبذل جهداً.
المسألة الثانية: يتصف أهل الإيمان بالحكمة والإرتقاء في ميادين المعرفة بفضل الله وآيات القرآن وأحكامها، وما فيها من بيان للحق والهدى، وفضح للباطل والضلالة .
وجاء التنزيل في دعاء إبراهيم والثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى الإنتفاع الأمثل من رسالته، ومضامين الحكمة التي جاء بها[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
ومن مصاديق الحكمة بيان قبح الربا وما فيه من الأضرار الخاصة والعامة، وهناك مسألتان:
الأولى: هل تعاطي المسلمين الربا يضرهم بالذات.
الثانية: هل إجتناب المسلمين للربا طاعة للربا سبيل لدخول الإسلام.
والجواب على الأولى هو الإيجاب، ففي إتيان المسلمين الربا فيما بينهم ضرر من وجوه:
الأول: إنه باب للفرقة والتشتت.
الثاني: إزدياد عدد الفقراء من المسلمين.
الثالث: ظهور للشح.
الرابع: وقد يكون فيه تعطيل للزكاة في بعض مواردها، فجاءت الآية لوجوه:
الأول: إنها رحمة بالمسلمين، قال تعالى [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الثاني: الآية واقية للمسلمين من ظهور أسباب العداوة والفرقة بينهم، قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ).
الثالث: توكيد التكامل الأخلاقي في البعثة النبوية الشريفة، وتثبيت مفاهيم الصلاح والإحسان بين الناس إلى يوم القيامة بالأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن.
وأما الثانية، فإن تنزه المسلمين عن الربا شاهد على إنفرادهم ببلوغ منازل من العلم لم تصل إليها أمة من الأمم، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام من وجوه:
الأول: يميل الإنسان بطبعه لمنازل الرفعة والإرتقاء.
الثاني: يدرك الناس جميعاً أن علة بلوغ المسلمين مراتب الرقي هو الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بمضامين آيات القرآن، وما فيها من الحكمة المتعالية.
الثالث: جاء القرآن بالتحدي للناس جميعاً في باب تفضيل المسلمين، والشهادة لهم بنيل أسمى مراتب بين أهل الملل والنحل، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فصحيح أن الخطاب في الآية أعلاه موجه للمسلمين، وهو مدح لهم، إلا أنه يتضمن التحدي لأهل الملل الأخرى، والإخبار بوجود دلالات باهرات تؤكد تفضيل المسلمين في إيمانهم وأفعالهم وصلاحهم، ومنها إجتناب المسلمين كأمة للربا، بقصد القربة إلى الله.
وهل يدخل قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) في مصاديق وأفراد هذا التحدي الجواب نعم، لأن الله عز وجل خصهم به من دون الناس، وفيه حث لهم للشكر لله تعالى على هذه النعمة، ويتجلى الشكر في المقام بالتنزه عن الربا.
وجاء قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، ليتحد الخطاب في جهته والمراد هم المسلمون، وفيه بعث للمسلمين للدعوة إلى الصلاح والرشاد سواء كانت هذه الدعوة فيما بينهم، أو مع غيرهم، ومن الخير الصدقة والقرض وإمهال المدين عن إعساره.
ومن الأمر بالمعروف في المقام الحث على أداء الوظائف العبادية , وفيه وجوه:
الأول: إنها واقية دون فعل المنكر.
الثاني: فيها برزخ دون الربا.
الثالث: إنها السبيل إلى الفلاح والبقاء واللبث الدائم في الجنة.
ومن النهي عن المنكر أمور:
الأول: الزجر عن الربا.
الثاني: الإمتناع عن أكل المال بالباطل.
الثالث: الإنذار من مقدمات الربا من كتابته والشهادة عليه ونحوها.
المسألة الثالثة: توكيد حقيقة وهي الملازمة بين الإيمان وترك الربا، وليس من فترة بين دخول الإسلام وإجتناب الربا، فما أن يدخل الإنسان الإسلام فإن النهي عن الربا يتوجه إليه.
فإن قلت وإن كانت له أموال ربوية في مال وذمة الآخرين، الجواب ليس له إلا رأس ماله، ويسقط الزائد الربوي لما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قال في خُطْبَتِهِ اليَوْمَ الثانِيَ من الفَتْح:” ألا كُلُّ رِباً فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُهُ رِبَا العَبَّاسِ) ( ).
وتتجلى في الحديث آيات العدل وجهاد أهل البيت في سبيل الله، وفيه شاهد بأنهم لم يتخذوا من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة للثراء والنفع الخاص كما تتخذه وأبناء وعوائل وأقارب كثير من الملوك والرؤساء، والشواهد كثيرة في هذا الزمان وأيضاً فإن الشواهد على كثيرة في هذا الزمان وأيضاً فإن الشواهد على تضحيات أهل البيت ثابتة في السيرة وكتب التأريخ.
وفي قوله قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه درس للملوك والسلاطين وأرباب القوة والجاه , فإن إسقاط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربا العباس حث ودعوة لإسقاط ما تعلق بذمة الغير بغير حق شرعي.
الرابعة: ندب المسلمين للتقيد بأحكام النهي لوروده بعد المدح والثناء عليهم، لما فيه من الدلالة على أهليتهم لمنازل الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، وهي أعظم المراتب التي يبلغها الناس، لذا نال المسلمون مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، لما فيه من دعوتهم الناس للإقتداء بهم ومحاكاتهم في إجتناب الربا.
الخامسة: بعث المسلمين للتآزر والتعاون بصبغة الإيمان في الإمتناع العام والخاص عن الربا.
وتلك آية في بديع خلق الإنسان وعمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، فبالإيمان يبلغ الإنسان مراتب عالية من العلم من وجوه:
الأول: إدراك أضرار الربا.
الثاني: الإحتراز من الربا.
الثالث: تعاون أسمى وأفضل الأمم في الإمتناع عن الربا.
الرابع: بيان موضوعية الإيمان في التنزه عن الربا، إن ترك الأضعاف والأرباح الطائلة أمر ليس سهلاً.
فتفضل الله عز وجل على المسلمين بالإنزجار عن الربا بواقية وسلاح الإيمان، هذا السلاح الماضي القاهر للرغبات غير الشرعية والمانع من طغيان النفس الشهوية.
السادسة: النسبة بين المسلمين وأهل الأموال منهم، هي العموم والخصوص المطلق، فليس كل المسلمين عنده أموال، ويستطيع أن يربي بأمواله، ويأكل الربا.
ومع هذا جاء الخطاب التشريفي للمسلمين ونهيهم جميعاً عن الربا، وفيه دلالة على وجوه:
الأول: تعاون المسلمين فيما بينهم للسلامة والنجاة من النار، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا]( ).
فإن قلت يكفي المسلم أن يجتنب أخذ المال الربوي وإطعام أهله منه.
والجواب من جهات:
الأولى: يدل إبتداء الآية بالخطاب لعموم المسلمين لقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثانية: صلاح وسلامة معاملات المسلمين من الربا مسؤولية الجميع، وهو من معاني صيغة الجمع في الخطاب التشريفي في الآية الكريمة.
الثالثة: المسلمون أئمة الناس في سبل الهداية والصلاح.
الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المسلمين، ويكون واجباً عينياً أو كفائياً بحسب الحال والمقال.
السابعة: لقد أنزل الله القرآن رحمة بالناس وهبة سماوية متجددة النفع، دائمة الضياء، تشع على القلوب المنكسرة فتنير لها دروب الفلاح، وتجذب النفوس المتحيرة إلى شاطئ الأمان، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وترك الربا من مصاديق الشفاء من وجوه:
الأول: إنه شفاء للصدور وبعث للسكينة في النفوس، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، بتقريب من وجوه:
الأول: ترك الربا طاعة لله.
الثاني: إرادة الإمتناع عن الربا مناسبة لذكر الله عز وجل.
الثالث: إستحضار آية البحث وتضمنها الزجر عن أكل الربا.
الثاني: إرادة المعنى الأعم للشفاء، ومنه إنتفاع المسلمين، وسلامة مجتمعاهم وأسواقهم من داء الربا(قال الخليل: سمعت بعض العرب يقول أَخْبَرَني فلانٌ خَبَراً اشْتَفَيْتُ به أَي انتَفَعْتُ بصحَّته وصدْقِه) ( ).
الثالث: فيه شفاء لصدور المسلمين من الغل والغيظ الذي تخلفه المعاملة الربوية.
الرابع: يدل نهي آية البحث عن أكل الربا على وجود آثار وضعية وبدنية للإستحواذ على المال الربوي وإتخاذه مؤونة للنفس والعيال.
الثامنة: يفيد الجمع بين قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) و(ولا تأكلوا الربا) البشارة للمسلمين بمصاحبة الثروة والمال الكثير للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من إعجاز القرآن، ومصاديق التحدي الواقعي والوجداني لآيات القرآن بأن تفتح خزائن الأرض، وتعمر أمصار الإسلام، وتخرج الأرض لهم كنوزها من النفط والمعادن إلى جانب الإعجاز البلاغي للقرآن.
وعن الإمام علي عليه السلام أنه ذهب في سرية من الجيش إلى بعض بلاد الحجاز المسمّى بالظهران فوقف في مكان فيه الرمل فجعل يجرّ الرمل وينحيه وينظر في الأرض وما تحت الرمل،فقيل له في ذلك فقال: إن في هذا المكان عين من النفط،قيل وما هو النفط؟ قال عين تشبه الزيت لو أخرجتها من هذا المكان لأغنيت جميع العرب منها.
لقد أراد الله عز وجل إستدامة الخير والثروة على المسلمين لتكون ملازمة لهم في الحياة الدنيا، ويصاحبهم الأمن في بلدانهم وغيرها من الأمصار.
وفي الحديث: أن من أتقى عاش قوياً، وسار في بلاد عدوه آمناً)( ).
وتتجلى ملازمة الثروة للإيمان بالعمل بمضامين التنزيل، وتعاهد آيات الكتاب، ومنع طرو التحريف عليها، قال تعالى في أهل الكتاب[وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ]( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على رفعة منزلة المسلمين وبشارة مجيء الرزق الكريم لهم لأنهم أقاموا آيات القرآن، وعملوا بأحكام آياته، وتجنبوا الحرام والفعل القبيح.
والأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم كناية عن السعة في الرزق، وتعدد جهاته من ثمار النخيل والأشجار والزروع وكنوز الأرض، كما يقال (فلان في الخير من قرنه إلى أخمص قدميه).
التاسعة: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين وإتحادهم في عمل الصالحات، والوقاية من السيئات، فليس من حاجز أو برزخ يفصل بين المسلمــين والمســلمات في جهادهم للإصلاح، بل يتعاونون فيما بينهم، وكل فرد منهم يرتدي ذات اللبــاس البهيج وهو لباس الإيمان ذو صبغة الإمتثال لله عز وجل في الأوامر والنواهي فما أن يأتي بعد خطاب(يا أيها الذين آمنوا) حرف النهي(لا) حتى يستعد المسلمون لإجتناب فعل منهي عنه.
وورد الخطاب التشريفي أعلاه تسعاً وثمانين مرة في القرآن، وجاء حرف النهي(لا) متعقباً له في خمس وعشرين آية، وفي كل فرد منها مسائل:
الأولى: إنها مدرسة عقائدية في النواهي القرآنية.
الثانية: فيه باب من العلم.
الثالثة: إنه باعث على الإنزجار عن فعل مذموم.
الرابع: بيان عدم الإنفكاك بين الإيمان والتنزه عن المعاصي والسيئات.
الخامس: توكيد قانون ثابت، وهو أن التصديق بنبوة محمد طريق للهداية والتقوى، وسبيل للأمن في النشأتين، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ]( )، لتكون مجتمعة ومتفرقة سبيلاً لإستدامة صلاح المسلمين، وبلغة لفوزهم بالفلاح والوصول إلى الغايات الحميدة التي يسعون إليها.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)( )، وفي الحديث وجوه:
الأول: بيان التكافل بين المسلمين في الوظائف العبادية، والمسائل العقائدية.
الثاني: توكيد الإرتقاء الفقهي عند المسلمين.
الثالث: منع المسلم من التكبر والتجبر، وتحذيره من الإمتناع عن قبول النصيحة من أخيه المسلم.
الرابع: إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل المسلم لا يتردد في الأمر والنهي في مرضاة الله.
الخامس: موضوعية قصد القربة في إرادة الإصلاح.
السادس: تعاهد المسلمين لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالحصانة الذاتية والتعاون في الصالحات.
السابع: تثبيت مفاهيم الصدق والأمانة عند المسلمين، وهما خصلتان حميدتان كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يُعرف بهما بين الناس حتى قبل البعثة النبوية .
فمن فضائله أنه حينما كان صلى الله عليه وآله وسلم في سن الخامسة والثلاثين كادت تحدث فتنة بين الملأ من قريش عندما هُدمت الكعبة بسبب سيل عظيم، وبادرت قريش بإعادة بنائها، وتنازع زعماء قريش فيمن يتولى وضع الحجر الأسود( ) في مكانه , وتعطل البناء خمسة أيّام، وكادت أن تنشب فيما بينهم بسببه فتنة وحرب .
فقام فيهم شيخ منهم وقال:يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أوّل من يدخُل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه. فقَبِلُوا رأيه فكان أوّلَ داخل عليهم محمّد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فهتفوا جميعاً على لسان رجل واحد: لقد دخل عليكم محمد الأمين ,رضينا به.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هلمَّ إليَّ ثوباً فأخذ الحجر ووضعه فيه و قال: لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ثمّ ارفعوه جميعاً. ثمّ وضعه صلى الله عليه وآله وسلم بيده في مكانه.
الثامن: بشارة تولي المسلمين مسؤوليات الحكم والقضاء.
التاسع: دعوة المسلمين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الحكم والسلطنة، والتصدي للطغاة والظالمين.
العاشر: توكيد الشورى بين المسلمين قال تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
العاشرة: تنمية ملكة الزهد عند المسلمين، وتذكيرهم بأن الإيمان طريق الإستقامة والفلاح، ومن أهم معاني الزهد الإعراض عن الدنيا، وعزوف النفس عن زينتها وبهجتها.
ويمكن تقسيم الزهد إلى شعبتين:
الأولى: الزهد عن الحرام، وما نهى الله عز وجل عنه.
الثانية: الزهد عن الحلال، والمباحات، وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام: ملك ينادي كل يوم: ابن آدم لد للموت واجمع للفناء وابن للخراب)( ).
ومن الإعجاز في آيات القرآن أنها تتضمن الإخبار عن ماهية الدنيا، وحقيقة الحياة فيها، وأنها مجاز إلى الآخرة، ومزرعة إلى مواطن الحساب، وهذا الإخبار السماوي مناسبة كريمة وعون للتفقه في الدين، ومعرفة فلسفة الأوامر والنواهي القرآنية ومنها الشرور الوضعية لذات الربا والأضرار المتفرعة عنه والتي تلحق كل طرف من أطرافه، مما يجعل إمتناع المسلمين عنه أمراً سهلاً، وخالياً من آثار الندم والحسرة على ما فات من الأضعاف المضاعفة التي قد تأتي منه، والتي لا تخص طرفاً واحداً منه، قال تعالى[تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ]( ).
وجاءت آية البحث بخصوص الشعبة الأولى أعلاه لينعدم الخلاف والإختلاف بين المسلمين في باب الربا، فليس من فرقة أو طائفة تقول بجوازه أو حليته حتى عند أوان الحاجة والضرورة، بل إجماع المسلمين على حرمة ما نهى الله عنه.
ليكون من معاني الزهد في الفقه الإسلامي العزوف عمّا حرم الله، والنفرة منه وإن كانت فيه منافع دنيوية ظاهرة.
ومن خصائص الإنسان إنتفاء الحزن الأسى عنده عن المفقود الذي لا يتعلق القلب به، قال تعالى[لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ]( ).
فجاءت آية البحث للبينونة بين قلب المسلم والمال الربوي، وفيه عون وسبب لإنصراف المسلم عن الكسب الحرام مطلقاً.
وتلك آية في الآداب المترشحة عن الآية القرآنية بأن تأتي في أمر مخصوص فتترشح بركاتها ومنافعها على المسائل المشابهة من ذات السنخية وغيرها، وهو من أسمى معاني المدد القرآني للمسلمين، والمنافع اللامتناهية للآية القرآنية.
الحادية عشرة: ورد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا] مرتين في القرآن، إحداهما في آية البحث من سورة آل عمران، والأخرى قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( )، وبين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: الإكرام والتشريف لعموم المسلمين والمسلمات.
الثاني: النهي عن فعل مذموم.
الثالث: مجيء الآيتين بلفظ الأكل، والمنع عنه.
الرابع: إرادة المعنى الأعم من الأكل، وأنه لا ينحصر بالزاد والطعام بل يشمل الكسب المحرم، والإنفاق في غير الأكل، وجاء ذكر الأكل لأنه المنفعة الأعظم والأكثر.
وأما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: بين الربا والباطل عموم وخصوص مطلق , إذ أن الباطل أعم من الربا.
الثاني: جاءت آية الربا بصيغة الإطلاق والشمول فلم تختص حرمته بما بين المسلمين، بينما جاء الزجر عن الباطل بالتقييد(بينكم) , وإذا ورد دليل من الكتاب والسنة على تقييد حرمة الربا بخصوص ما بين المسلمين دون أهل الذمة يؤخذ وإلا فإنه باق على إطلاقه .
ويدل عليه الحديث النبوي في لعن أهل الربا، وقوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]لا يصلح للإستدلال على هذا التقييد، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
(وعن الإمام الباقر عليه السلام والسدي في المراد من الباطل في الآية أعلاه أنه: الربا والقمار والبخس والظلم) ( ).
وذكر الحسن البصري معنى آخر للآية يفيد النسخ , ويحتاج إلى دليل من قرآن أو سنة أو خبر قال: كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعدما نزلت هذه الآية إلى أن نسخ ذلك بقوله في سورة النورلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ( ).
الثالث: مجيء النهي في آية الربا مطلقاً بينما جاء الإستثناء في أكل المال بالباطل بالتجارة التي تكون عن تراض، والمراد إمضاء العقد بعد البيع، وحصول الخيار فيه.
لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)( )، بعد العقد والتراضي، ولعله يشمل الصلح والإقالة والهدية.
الرابع: تختص آية الربا بالقرض ونموه، والزيادة الربوية فيه، أما قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( )، فمطلق في الأموال الخاصة للمسلمين.
وهل تشمل الأموال العامة وبيت المال.
الجواب نعم، وفيه إنذار وتحذير من التعدي على المصالح العامة، وما فيه من الفساد، وإشاعة الفوضى وتعطيل للأعمال، وتفريط بالمصالح، وأذى للناس.
صلة(يا أيها الذين آمنوا)بــ(واتقوا الله)
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين شطري الآية(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) وفيه دلالة على أن التقوى أعلى مرتبة من الإسلام والنطق بالشهادتين والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مسلم وليس العكس.
وفيه دعوة للمسلمين لبذل الوسع في مسالك الإيمان لبلوغ مرتبة التقوى السامية، ومنها إجتناب الربا والتنزه عن الدخول طرفاً في عقده، وفي القرآن ورد قوله تعلى[قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ]( )، ويحتمل الشفاء هنا وجهين:
الأول: الشفاء من الأوجاع والأدران.
الثاني: شفاء القلوب وسلامة النفوس من الشرك والريبة، قال تعالى في ذم أهل النفاق والريب[فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]( ).
الثانية: بيان موضوعية التقوى، والحث على إتخاذها سلاحاً شخصياً ونوعياً عاماً عند المسلمين للتغلب على النفس الأمارة، ولإجتناب ما حرّم الله عز وجل.
فلا يختص موضوع التقوى بإمتناع المسلم عن الربا، بل يشمل أموراً:
الأول: قيام المسلمين بالأمر بالإحسان.
الثاني: إشاعة المعروف والحث على القرض.
الثالث: النهي عن الربا وأكل المال بالباطل.
لذا جاءت الآية بصيغة الجمع(اتقوا الله) فلا يكتفي المسلم عند إمتناعه عن الربا، بل يتولى مسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها في المقام:
الأول: العمل لتنزيه المسلمين عن الربا.
الثاني: بيان أضرار الربا على المجتمعات والأسواق والنفوس، وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالث: تعاون وتعاضد المسلمين من أجل العصمة النوعية العامة من الربا.
الثالثة: ورد قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] ثمان مرات في القرآن ومن غير فاصلة بين خطاب التشريف والأمر بالتقوى , وفيه وجوه:
الأول: إنه حجة بلزوم تعاهد المسلمين للتقوى.
الثاني: دعوة المسلمين لإتخاذ التقوى سلاحاً مصاحباً في أمور الدين والدنيا.
الثالث: التقوى باعث للإمتثال للأوامر الإلهية، وبرزخ إيمان دون فعل المعاصي والسيئات.
الرابع: موضوعية التقوى في المواضيع والأحكام التي جاءت بخصوصها في القرآن.
وورد في آية البحث نهي واقع بين الخطاب التشريفي بصفة الإيمان وبين الأمر بتقوى الله، وهو أمر تكرر في آيتين من القرآن غير آية البحث وإن تباين الموضوع، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ …] إلى أن أختتمت الآية بقوله تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
وقال الإمام محمد الباقر عليه السلام في الآية أعلاه (نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم و قال السدي أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده و خلف خيله خارج المدينة فقال إلى ما تدعو و قد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلم بلسان شيطان.
فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أنظرني لعلي أسلم، ولي من أشاوره فخرج من عنده.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد دخل بوجه كافر و خرج بعقب غادر , فمر بسرح من سروح المدينة فساقه و انطلق به و هو يرتجز و يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل و لا غنم
و لا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما و ابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا فأراد رسول الله أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية)( ).
وتعقب الأمر بتقوى الله الإنذار والوعيد والتخويف لمن تعدى حدود الله، وتمادى في فعل المعصية ليفوز المسلمون بنعمة النجاة من النار يوم القيامة، بسلاح الإيمان، وواقية التقوى، ولبيان موضوعية التنزه عن قتال الذين يقصدون البيت الحرام لأداء المناسك، وقيل تشمل الآية الكفار لقوله تعالى في ذات الآية أعلاه[وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
أما الآية الثانية فهي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وفي الآية أعلاه أمور:
الأول: إكرام المسلمين بلغة التشريف بالخطاب(يا أيها الذين آمنوا).
الثاني: تأديب وإصلاح المسلمين للخلق الحميد.
الثالث: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم الإقتداء به , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الرابع: تفضل الله ببيان الأحكام بالتنزيل والسنة وإستغناء المسلمين بهما في أمور الدين والدنيا.
الخامس: لزوم صدور المسلمين عن القرآن والسنة، فظاهر الآية القرآنية العمل بالتنزيل، والسنة النبوية لقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وقيل:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل، إلا الثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة، فاعتزيا لهم إلى بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم ، فقتلوهما وسلبوهما.
ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بئسما صنعتم كانا من سليم، والسلب ما كسوتهما، فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت)( ).
أي لا تبادروا إلى فعل شيء من تلقاء أنفسكم فلابد من الرجوع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله، أو إستحضار آيات القرآن وما فيها من الأحكام.
الرابعة: ترغيب المسلمين والناس جميعاً بالتقوى، وجعل الخشية من الله حاضرة في الوجود الذهني، وزاجراً عن فعل المعصية مطلقاً، لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء تهاجم فيها المكلف مختلف أسباب الإفتتان.
لتكون التقوى هي الوسيلة والبلغة للثواب العظيم في الآخرة.
وفي الحديث(أكثر ما يدخل به الجنة تقوى الله)( ).
وهل الإيمان عون لبلوغ مراتب التقوى، الجواب نعم، سواء الإيمان بمعنى الإسلام، أو إرادة التصديق بالجنان والأركان، فإذا إختار الإنسان دخول الإسلام أو ورثه عن والديه فإنه يكون مؤهلاً بالذات والسنخية لأمور:
الأول: بلوغ مراتب التقوى.
الثاني: السياحة في عالم الملكوت.
الثالث: التنزه عن السيئات والمعاصي بملكة الإيمان.
الرابع: الإرتقاء في سلم الهداية، والبصيرة في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
الخامسة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التخفيف عن الناس عامة، والمسلمين خاصة.
ويتجلى التخفيف في آية البحث بذكر الأضعاف المضاعفة إذ يبدو للوهلة الأولى عظم وسعة الإفتتان في الإعراض عن الربا وما يجلبه من المنافع .
ولكنها شبه بدوية تزول بأدنى تدبر، وإدراك لموضوعية سلاح التقوى في حياة المسلم، وخياراته في عالم الأقوال والأفعال، فتتبدد أهمية تلك الأضعاف، وتنفر النفس منها وتتجافى عنها وتزداد أسباب السكينة بتركها، ولا يرضى المسلم عن نفسه إلا بترك تلك الأضعاف المادية التي تأتي من الربا، والإبتعاد عنها وعن مقدماتها، وقد تراه يموت فقيراً بعد السعة، وهو فخور بتنزهه عن الربا.
السادسة: مجيء شطري الآية بالثناء على المسلمين، وبصيغة العموم الإستغراقي الشامل لهم رجالاً ونساءً، ليكون ذريعة يتوصل بها المسلمون إلى سبل النجاة بالعمل بمضامين آية البحث وآيات القرآن الأخرى.
إن إجتناب الربا وترك الأضعاف المضاعفة جهاد مع النفس، كما أن الإعراض عن المعاملات الربوية وسط مجتمعات وأسواق تتعاطاها من غير حرج نوع جهاد آخر مع النفس ومع الناس، وفيه مسائل:
الأولى: صيرورة المسلمين بحاجة إلى تقوى الله، وإتخاذها واقية من الكيد والمكر، وإلى درجة من الصبر والمصابرة، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
الثانية: الثبات على العصمة من الربا لبلوغ النجح في الطلبة والفوز ببشارات القرآن والوعد بالفلاح واللبث الدائم في الجنة، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا]( ).
الثالثة: إمتناع المسلمين عن الربا دعوة ظاهرة إلى الإسلام، وإحتجاج على الناس في باب المكاسب والمعاملات، وتوكيد لإنقطاعهم إلى الله، لذا جاء الأمر بالتقوى متعقباً للنهي عن الربا.
الرابعة: ترغيب الناس في الإسلام، لما في إجتناب الربا من أسباب الهداية والصلاح، وأسباب نشر الأخلاق الحميدة بين الناس، وإفشاء القرض وإجتناب الظلم والتعدي في ماهية العقود، قال تعالى[وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وتحمّل صيغة الجمع في الآية المسلمين والمسلمات مسؤولية تعاهد الإنتهاء عن المناهي والزواجر والمعاصي، وتحثهم على عدم مفارقة سلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أبهى مصاديق التقوى النوعية العامة بلحاظ أنه ينفع الذات والغير، القريب والبعيد، فليس من حد أو رسم زماني أو مكاني للجهات التي يتوجه لها أمر ونهي المسلم.
وهذا العموم من تقوى الله والخشية منه، فقد يصدر الأمر والنهي من الصغير إلى الكبير، ومن الأنثى إلى الذكر، ومن العبد إلى السيد، ومن الفقير إلى الغني.
وإظهار المسلم التقوى في عمله حجة على الناس، فحينما يجد التاجر الكبير تاجراً صغيراً مسلماً يجتهد في الكسب الحلال، ويتنزه عن الحرام والمعاملة الربوية مع ما بها من الأضعاف المضاعفة فإنه يتعظ ويعتبر.
وهل الإمتناع عن الربا من عمومات الجهاد في الأموال بقوله تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ]( ).
الجواب لا، من وجوه:
الأول: القدر المتيقن من الجهاد هو بذل المال الخاص في سبيل الله، وإخراج الزكاة والصدقة.
الثاني: الربا إستحواذ على مال الغير، وتتعلق الآية أعلاه بالمال الخاص.
الثالث: الربا جلب للمال بمعاملة باطلة، أما الجهاد بالمال فهو إنفاق في سبيل الله، نعم هذا الإنفاق سبب للبركة ونماء المال.
الرابع: كل من الجهاد بالأموال، وإجتناب الربا من عمومات قوله تعالى في آية البحث(وأتقوا الله).
يفيد الجمع بين شطري الآية أن الإسلام دين متكامل، فأن جانب الإعتقاد يشمل ضبط الجوارح والأفعال وفق قواعد الإسلام، وما في القرآن من الأوامر والنواهي، وهو المراد من(تقوى الله) وفيه وجوه:
الأول: إنه آية في بديع صنع الله للإنسان، وأسرار خلقه، وهو من عمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
الثاني: إقامة الحجة على الناس بإمكان طاعتهم لله عز وجل، وخشيتهم منه , والتكليف بما لا يطاق قبيح , وواجب الوجود منزه عن القبيح.
الثالث: توكيد المنافع العظيمة للإسلام على النفس والبدن.
الرابع: تجلي معاني التكامل في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، بلحاظ أن تقوى الله من الدين الإسلامي.
الخامس: حاجة المسلمين إلى الصلاح، ولزوم قيامهم بفعل الخيرات، لذا وردت الآيات في تعليق الثواب الأخروي على إجتماع الإيمان مع عمل الصالحات، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وتلازمه الحاجة أيام حياته لا تفارقه، ولا يستطيع هو فراقها، وتأتي التقوى لبيان الوجه المشرق لحاجة الإنسان وتوكيد أنها أي الحاجة رحمة به، في الدنيا والآخرة ومن الآيات في حاجة المؤمن للتقوى أمور:
الأول: طلب التقوى لذاتها، فلا بد للعبد من خشية الله في السر والعلانية.
الثاني: التقوى كمال للإيمان، وتثبيت لمفاهيم الهداية في النفس.
الثالث: التقوى بلغة للفوز بالفلاح والإقامة الدائمة في الجنة.
وجاء القرآن بالبشارات لأهل التقوى، قال تعالى[إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا]( ).
والمفاز النجاة وبلوغ محل الفوز ودخول الجنة والأمن من عذاب النار، وفيه مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للتفقه في الدين.
الثانية: بعث المسلمين لمعرفة أحكام الحلال والحرام وإتخاذ تلك المعرفة وسيلة للإمتثال للأوامر الإلهي.
الثالثة: البشارة بالجنة للمتقين واقية من المعاصي والسيئات، وإتيان الفعل العبادي بقصد القربة إلى الله، والشوق إلى لقائه.
الرابعة: إخبار عن حقيقة الأمر حتمي، وبيان لفضل الله على المؤمنين في الدنيا والآخرة[يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
وتقوى الله واقية من الربا والمعصية مطلقاً، ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طلباً لمرضاة الله.
صلة(يا أيها الذين آمنوا) بــ(لعلكم تفلحون)
وفيها مسائل:
الأولى: بيان قانون ثابت وهو أن الإيمان طريق للفلاح والنجاح والبقاء، وفيه آية في الخلق ومصداق لإستدامة الحياة بالعبادة والصلاح، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس الفلاح والبقاء فبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم داعياً إلى طاعة الله، وهارباً إلى سبل الرشاد، وأنزل معه القرآن يضيء دروب الفلاح للناس جميعاً، ويزيح الغشاوة و(الران) الذي يكون على الأبصار بسبب الإنغماس في الحياة الدنيا.
ومن الوسائل السماوية لإزاحتها قانون حرمة الربا الذي جاءت به هذه الآية، وما فيها من البشارة بالفلاح والبقاء .
ويحتمل الفلاح هنا وجوه:
الأول: إنه ثواب من عند الله على التقوى وترك الربا.
الثاني: إنه أثر مترشح عن ترك الربا.
الثالث: لا ملازمة بين الفلاح، وترك الربا، لذا جاءت خاتمة الآية بصيغة الرجاء في بلوغ الفلاح.
الرابع: الفلاح نعمة وثواب من الله على الإيمان مجرداً من غير إنضمام ترك الربا له، وتقدير الآية(يا أيها الذين آمنوا لعلكم تفلحون).
وهل يمكن الإستدلال عليه بقوله تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ]( )، الجواب لا، لأن الآيات التي بعدها تبين صفات المؤمنين الذي يبلغون مرتبة الفلاح، ومنها قوله تعالى[وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( )، ومن الأمانة والعهد التنزه عن الربا.
الخامس: ترشح الفلاح عن التقوى على نحو الخصوص، لأن الفلاح جاء متعقباً للأمر بها بقوله تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] وبإستثناء الوجه الثالث أعلاه فإن الوجوه الأخرى بعضها في طول الآخر من غير تعارض بينها، ليكون التعدد في سبل الفلاح فضلاً ورحمة من الله.
الثانية: مع الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتوالى النعم والتي تتصف بأمور:
الأول: لا يقدر على تلك النعم إلا الله.
الثاني: مجيء النعم للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي، فقد يستطيع السلطان الإنعام على فرد أو جماعة، ولكنه لا يقدر على الفضل الواسع على أمة، ولا إدامة النعمة الشخصية، ولا يبلغ السائل وصاحب الحاجة رضاه إلا من الله عز وجل، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث: إن كل نعمة مما يتفضل به الله لا يقدر عليها سلاطين الأرض وإن إجتمعوا، وهم بحاجة متصلة إلى رحمة الله، وتتجلى عدم قدرتهم تلك في عجز الناس مجتمعين ومنهم أهل الثروة والجاه عن إحصاء نعم الله عليهم , قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الرابع: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الشكر) فيأتي الشكر من العبد ليكون فعلاً صالحاً وبلغة نحو مراتب الفلاح، ويشكر الله عز وجل العباد على فعلهم الصالحات، وليس من حصر لميادين وماهية الشكر الذي يتفضل به الله عز وجل، قال تعالى[وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ] ( ).
والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسنة، وتتجلى النافلة من الحسن بالنهي عن الربا، وتنزيه المســلمين عن الحرام، وفيه حســنة أخرى وباب للشــكر من الله عز وجل، ليكون شــكر الله عــز وجل للمسلم متصلاً(وأضعافاً مضاعفة) وهو خير له من أضعاف المال الربوي التي مدتها وأثرها في الحياة الدنيا، وهي إلى محق ونقص.
أما الأضعاف من الثواب والنعم التي يتفضل بها الله عز وجل شكراً للمسلم فهي دائمة وفي إزدياد وتتغشى أفراد الزمان الطولية الحياة الدنيا، والبرزخ، وعالم النشور والحساب، وعالم الجزاء باللبث الدائم في الجنة ومنه البشارة من الله بإنتفاء الخوف والحزن، قال تعالى[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
الثالثة: أخبرت الآية الكريمة عن أمرين:
الأول: جملة خبرية تفيد التصديق والقطع، وهو إيمان المسلمين بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا).
الثاني: جملة إنشائية، تتضمن الرجاء لبلوغ المسلمين أسمى مراتب الكمال الإنساني ودرجات الثواب البقاء بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) وفيه وجوه:
الأول: إنها مدرسة في المنافع العظيمة التي تترشح عن التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض، وباب للرزق الكريم وتوالي النعم، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ]( ).
وهل هذا الخير خاص بالدنيا أم هو شامل لها وللآخرة.
الجواب هو الثاني، وهو من مصاديق الفلاح والبقاء الذي أختتمت به آية البحث.
الثالث: من الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بآيات القرآن على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، ومنها آية البحث، وما فيها من البعث الأكيد على لزوم ترك المعاملات الربوية.
تلك الآفة التي تأتي على الأموال والأعمال، وتبث روح الفرقة في المجتمعات، وتجعل الظلم يتفشى بين الناس، وهي سبب لحبس الصدقات، وحسد الفقير للغني، ورغبته في زوال نعمته , ودبيب الحسد بين الناس .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب( ).
وفي هذا الإيمان أمور:
الأول: توكيد النعم الإلهية على الناس ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إنه دليل وجداني متجدد بأن التصديق بنبوته حاجة أخلاقية للناس.
الثالث: إنه مادة لديمومة أسباب الصلاح بين الناس، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الرابع: فيه واقية من الفتك بين الناس، الذي يتضاعف ويزداد ليصل إلى درجة السعي لفناء الآخر بالأسلحة الفتاكة.
بينما يضفي الإيمان على الصلات بين الناس صبغة الأخوة، ويملي عليهم تحكيم العقل في المنازعات، وأسباب الخصومة ويدرك العقل أضرار الربا الخاصة والعامة .
وجاءت الآيات بخطاب المسلمين بالإكرام بصفة الإيمان، ووصفهم بأنهم أرباب العقول، قال تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة: جاء الشطران من الآية الكريمة بصيغة الجمع ولغة الخطاب مع إتحاد الجهة التي يتوجهان لها وهم عموم المسلمين والمسلمات، وفيه وجوه:
الأول: إنه آية من الإكرام الخاص للمسلمين.
الثاني: إنه شاهد على إرتقائهم في مراتب العز والرفعة.
الثالث: بيان منافع الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: ترغيب الناس في الإسلام للفوز بالثناء والمدح والبشارة والتكليف على نحو مجتمع ودفعي، ليكون أداء الوظائف العبادية سياحة في عالم الملكوت، لتداخلها مع صيغ المدح، بالخطاب بصفة الإيمان، وأفراد البشارة.
وفي الآية طرد لليأس والقنوط من نفوس المسلمين، فلا يتسرب القنوط إلى بعضهم لإحتمال أنه قد يتخلف قهراً وإنطباقاً عن منازل الفلاح .
ومن طبيعة الإنسان وأسرار نفخ الروح في آدم عليه السلام بقوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا] ( )، ميل الإنسان إلى البقاء، وتعاهد أسباب وجوده .
فجاءت آية البحث لتأكيد رحمة الله بالناس، ومن أراد حسن العاقبة والبقاء فليسعى ويجتهد في العبادات وعمل الصالحات، قال تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( ).
الصلة بين(لا تأكلوا الربا) و(اتقوا الله)
وفيها مسائل:
الأولى: توكيد عدم التعارض بين الأمر والنهي في القرآن من وجوه:
الأول: تباين الموضوع، فما يأتي فيه الأمر غير الذي يأتي فيه النهي.
الثاني: إتحــاد جهــة صـــدور الأمــر والنــهي، ومجيؤها من الله عز وجل، وفي ذات الكتاب الذي جعله الله عز وجل هدىً[وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ]( ).
الثالث: إنتفاء التعارض في الأثر مع تعدده موضوعاً وحكماً.
الرابع: الإتحاد والتشابه في الغايات الحميدة للإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية.
وتتجلى هذه الوجوه بالصلة بين النهي عن الربا، والأمر بتقوى الله، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق، فالإمتناع عن الربا من تقوى الله، وأمر الله عز وجل بالتقوى شامل للأمر والنهي لما فيها من معاني الخشية من الله عز وجل.
ترى لماذا لم تقل الآية (اتقوا الله ولا تأكلوا الربا) بتقديم المعنى الأعم على الأخص .
والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( )، وهو سبحانه أعلم بأسباب جلب المصلحة، ودفع المفسدة.
الثاني: جاءت الآية لتوكيد حرمة الربا، فتقدم موضوعه، وفيه عون للمسلمين بالتدبر في أضرار الربا.
الثالث: إتصال التكليف وعدم إنقطاعه أو وقوفه عند إجتناب الربا، فلابد من السعي في مسالك الحياة بسلاح التقوى.
بالإسناد عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: “إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه”. ثم قال: “والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون”. ( )
وفيه بشارة الأمن ودعوة للصبر , ودليل على التخفيف عن أجيال المسلمين .
ومجيء الأمر بتقوى الله في باب المعاملات زاجر للكفار عن فتنة المسلم للإرتداد عن دينه , لأن الكف عن الربا شاهد على قهر النفس الشهوية وعدم الخشية من الفقر في قادم الأيام، وليس الربا وحده الذي يتقي المسلم فيه الله، بل تنبسط التقوى على العبادات والمعاملات اليومية.

الرابع: قد يمتنع الإنسان عن الربا، ولكنه يقع في أمر محرم آخر، فجاء التوكيد على التقوى مباشرة بعد النهي عن الربا، للسلامة من فعل المعاصي مطلقاً، قال تعالى[إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الخامس: بعث المسلمين على فعل الصالحات، ونشر مفاهيم الإحسان.
السادس: ندب المسلمين للسعي للمنازل العالية في الجنة الدائمة، وإكتناز الحسنات.
السابع: تقوى الله عون للمسلمين للإستمرار على إجتناب الربا، وعدم الإفتتان بالأضعاف المضاعفة التي تأتي منه.
الثامن: جاءت الآية بالنهي عن أكل الربا، وحرمته مطلقة، وأعم من أن تنحصر بقبض وأكل المال الربوي، بل تشمل دفع الربا وكتابة العقد والشهادة عليه.
فجاءت الآية بالأمر بتقوى الله للتنزه مطلقاً عن المعاملة الربوية، فيجتنب المسلم صاحب المال الربا من وجوه:
الأول: توظيف ماله في الربا.
الثاني: رفض الشهادة على عقد ربوي بين طرفين.
الثالث: الإمتناع عن كتابة عقد الربا.
الرابع: إقتراض المال الربوي، ودفع الزيادة لصاحبه.
فإن قلت إذا كان هو صاحب مال للتجارة , فكيف يقترض من غيره .
والجواب، قد يكون عنده مشروع وتجارة أكبر مما تحت تصرفه من المال الشخصي , أو أنه يعطي ماله بربح أكثر من الربح والفائدة التي يدفعها.
فجاءت آية البحث لتنزيه الأسواق من تلك المعاملات , وسلامة النفوس من درن المعصية والتلبس بأكل الربا، قال تعالى في الوعد الكريم للمؤمنين[وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى]( )، وقيل المراد بالإحسان في الآية أعلاه هو توحيد الله وأن المراد من الحسنى هو الجنة .
ولكن الآية أعم وفيه ندب للعمل الصالح، ووعد كريم بالثواب العاجل والآجل، وأسناه وأعظمه الخلود في الجنة العالية، قال تعالى[لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
التاسع: حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الأمن والسلامة العامة من الربا، وهذا الأمر والنهي من تقوى الله عز وجل .
الثانية: جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار , ورزق الإنسان العقل ليكون فيصلاً للتمييز بين الحق والباطل، وسبل النجاة ومسالك الضلالة.
ومن واسع رحمة الله عز وجل بالناس عدم وقوف الأمر عند العقل الشخصي والنوعي الذي يعني تعاون الناس وتعضيد بعضهم لبعض في طرق الخير والفلاح بل تفضل بمصاديق من الرحمة لا يقدر عليها إلا هو سبحانه منها:
الأول: بعثة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى[وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ]( ).
لقد كذبت الأمم الخالية الأنبياء، ولاقى الأنبياء الإستهزاء والأذى والكفر بنبوتهم ولم يؤمن بهم إلا القليل من قومهم، ونزلت أنواع العذاب بالكفار .
ويدل في مفهومه على حسن سمت المسلمين، وإرتقائهم في مراتب المعرفة، وتلقيهم النبوة وآياتها بالتصديق، وإستحقوا التفضيل والإكرام بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وأعرضوا عن الأضعاف المضاعفة من الربا لأنه محرم وقبيح، ولأنهم يرجون الثواب من عند الله عز وجل.
الثاني: مجيء الأنبياء بالمعجزات لتكون مقدمة وحجة على الناس لتلقي ما يأتي به الأنبياء بالقبول.
الثالث: نزول الكتب السماوية بالأوامر والنواهي، والإنذارات والبشارات، ومنها آية البحث التي جاءت في الكتاب الجامع للأحكام والسنن .
وتضمنت الآية الثناء على المسلمين، ونهيهم عن أكل الربا، وأمرهم بتقوى الله، وبشاراتهم بالفلاح والفوز .
وليس في الآية إنذار ووعيد، وفيه وجوه:
الأول: إنه توكيد للثناء على المسلمين.
الثاني: فيه إشارة إلى إمتثال المسلمين لما في الآية من الأمر والنهي.
الثالث: إكتفاء المسلمين بالأمر والنهي، ومبادرتهم للعمل بمضامين وأحكام الآية.
الرابع: مجيء آيات قرآنية أخرى بالإنذارات العامة للناس، والخاصة بالمسلمين، ونزول آيات بصيغة الجملة الشرطية وما تفيده من الندب إلى العمل الصالح، قال تعالى[فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا]( ).
وهل يفيد الجمع بين النهي عن الربا والأمر بتقوى الله الواردين في الآية في مفهومه الإنذار والتخويف.
الجواب نعم، فلا بد من العمل بأحكام القرآن، وفي الأمر بتقوى الله أمور:
الأول: الإنذار تحذير من الغفلة.
الثاني: لزوم الحيطة وإجتناب القصور والتقصير، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا]( )، والحذر هو الإمتناع عن فعل شيء خشية مما فيه من الضرر والأذى.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه الإطلاق في الحذر وعدم تقييد موضوعه، الذي يستقرأ من أول الآية وما فيها من الأمر بطاعة الله والرسول، وفيه مسائل:
الأولى: ما يدل عليه من وجوب إتيان ما أمر الله به .
الثانية: إجتناب ما نهى الله عنه .
الثالثة: الحذر من غضب الله عند المعصية، قال عطاء: يريد و احذروا سخطي)( ).
الثالث: المنع من المعصية وأسباب الضلالة.
الرابع: إجتناب محاكاة الكفار في المعاملات.
الثالثة: بيان إرتقاء حال المسلمين في مراتب الفقاهة، وتوارثهم معرفة قواعد السنن الحميدة، والجمع بين النهي والأمر، وبين الأمر والنهي .
فيعملون بالنهي والأمر في آن واحد، ويتخذون كلاً منهما طريقاً ومادة للإمتثال في مواضيع الأخر من غير أن يستلزم الدور أو التزاحم بينها، وهو من معاني ملكة التقوى، وملازمتها للمسلم في قوله وفعله.
ويفيد التدبر في مضامين كل من تقوى الله، وإجتناب الربا التداخل بينهما في الموضوع والحكم.
وتقوى الله حاجة لكل مسلم ومسلمة، للإمتثال لأحكام الشريعة، وللإحتراز من العذاب يوم القيامة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا]( )، وفيه دعوة للمسلمين للسلامة والحفظ والنجاة في الآخرة .
ومن إعجاز القرآن أن الخطاب فيه يتوجه للمسلمين بتكليفهم بالسعي لنجاتهم وأهليهم من الأزواج والأولاد بأمرهم بطاعة الله , والصبر في إتيان الفرائض، وحبسهم عن إتباع الشهوات وأكل المال الربوي ، وهل من تأديب الرجل لعياله تركه الربا، وعدم إطعامهم من المال الربوي .
الجواب نعم , وهل يتجلى في الجمع بينهما قانون وهو التخفيف عن المسلمين في كل من بابي التقوى وعدم تعاطي المعاملة الربوية، بأن تكون التقوى زاجرة عن الربا، ويكون الإمتناع عن الربا مادة للتحلي بالتقوى والخشية من الله في المعاملات الأخرى، وموارد الإبتلاء في الميادين المختلفة .
الجواب نعم، من وجوه:
الأول: تلك نعمة خص الله عز وجل بها المسلمين والمسلمات بتقيدهم بأحكام النهي عن الربا مع إستحضار التقوى والخشية من الله عز وجل.
الثاني: ترغيب الناس بالإسلام.
الثالث: توكيد الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتسلح أفراد أمته رجلاً ونساء في الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، قال تعالى[وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بخصوص نبي الله صالح عليه السلام ونجاته من القوم الكافرين الذي أرادوا قتله وأصحابه (روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فقالوا: زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث.
فخرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهِضَبّ حيالهم، فبادروا ، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب. فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلاً منهم في مكانه، ونجى صالحاً ومن معه.
وقيل: جاءوا بالليل شاهري سيوفهم ، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة: يرون الحجارة ولا يرون رامياً)( ).
وفي مضامين الآية أعلاه شاهد على قانون ثابت في نجاة الذين يصدقون بالنبي، ويتقيدون بسنن التقوى.
وهي وعد كريم للمسلمين جاء بالقرآن النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

صلة(لا تأكلوا الربا)بــ(لعلكم تفلحون)
وفيه مسائل:
الأولى: توجه شطري الآية إلى المسلمين جميعاً بصيغة البيان الخالي من التعدد في التأويل، أو المجاز والكناية، وفيه رحمة بالمسلمين فلا يأتيهم الخطاب بواسطة العلماء والأئمة منهم، إذ أن الآية خطاب بسيط ينحل بعدد المسلمين والمسلمات في كل زمان وهذا الإنحلال لا يتعارض مع بقاء موضوعية لصيغة الجمع، ومن خصائص هذه الصيغة أمور:
الأول: الشهادة من الله بأن المسلمين أمة متحدة من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: بعث الناس للإقتداء بالمسلمين، وإقتباس الدروس والمواعظ والعبر منهم .
الثالث: زجر الناس عن التعدي على المسلمين لأنهم أمة واحدة تتعاون في الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، وفيه تنمية لملكة التعاون بينهم حتى في ميادين القتال، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
الرابع: بعث اليأس في قلوب الكفار من المسلمين في باب المعاملات الربوية، فلا يستطيعون إغراء المسلم لولوج ميدان الربا لوجوه:
الأول: الأمة كلها تقف مع المسلم، وتمنعه من هذا الولوج بالتآزر والمساعدة وهو من عمومات قوله تعالى[تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثاني: موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين.
الثالث: تلقي المسلم التنزه عن الربا وراثة عن آبائه وعن الجيل السابق له.
الرابع: العجز عن إيجاد الأطراف الأخرى في المعاملة الربوية إذ أنه يستلزم طرفين يقوم بينهما العقد والقبول والإيجاب أحدهما صاحب المال، والآخر المقترض، ويستلزم شاهدين عدلين , والعدل يحرص على السلامة من اللعنة التي تأتي لأطراف الربا، والتنزه عن الإعانة في المنكر والقبيح، قال تعالى[وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
وفي الآية أعلاه نهي للمسلمين عن التعاون في الإثم، وترك ما أمرهم به الله من التقوى وإتيان الفرائض والصلاح، وفيها منع التآزر في إرتكاب المعصية الشخصية والنوعية، والتعدي والظلم، ومنه أكل الربا .
وورد عن ابن عباس في الآية: هو مجاوزة ما حدّ الله لعباده في دينهم وفرض لهم في أنفسهم) ( ).
الثانية: جاءت الآية بالزجر عن الربا، ولزوم ترك أضعاف مضاعفة من الأموال التي يجلبها صاحب المال الربوي، والإنسان بطبعه يميل إلى الطمع والسعي وراء المال.
فجاءت خاتمة الآية بتقديم الأهم للمسلم، وما يجعل له الأولوية في قاموس أعماله ألا وهو الفلاح وحسن العاقبة.
وهو أمر إنفرد به المسلمون بحيث ينظرون إلى الربا وتركه أولاً، فترجح كفة الترك لأن فوائده أكثر من أن تحصى.
وتدل الآية في مفهومها على أن الأمة التي تتعاطى الربا لا تصل إلى مراتب الفلاح، ليختص المسلمون بهذه الدرجة الرفيعة ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامة القرآن من التحريف، وتعاضد المسلمين في سبل الصلاح، قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى] ( ).
الثالثة: لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسنن التكاليف في باب العبادات والمعاملات، وواجبات لا يجوز تركها، ونواهي لابد من إجتنابها .
وحينما جاءت هذه الآية بالنهي عن الربا أختتمت بالرجاء لبلوغ المسلمين مراتب الفلاح، لأن وظائفهم أعم من أن تنحصر بترك الربا، وأكل الربا أمر لا يتيسر لكل إنسان، بينما تكون العبادات واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة.
صلة(واتقوا الله) بـــ(لعلكم تفلحون)
وفيها مسائل:
الأولى: توكيد الوظائف الجهادية للمسلمين مجتمعين ومتفرقين بلحاظ أن التقوى تتغشى فعل المسلم في أمور الدين والدنيا وما دامت التقوى حاجة للمسلم فإن الله عز وجل تفضل ببيان الأحكام الشرعية بما يطرد أسباب الغفلة والجهالة عنه، ويكون حجة على الناس من وجوه:
الأول: وجوب تقوى الله والخشية منه، وهذا الوجوب عام شامل للناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ] ( )، وفيه أمور:
الأول: التذكير بأهوال الآخرة.
الثاني: الدعوة لإستحضار يوم القيامة ومقدماته بالوجود الذهني، وروي أن الآية أعلاه والآية التي بعدها[يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ]( )، (نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق، فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ، ولم يطبخوا قدراً ، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر)( ).
ومع أن الآية أعلاه تتحدث عن حال المرأة صاحبة اللبن فإن الصحابة أدركوا المعنى، وما يلاقيه الناس من أسباب الفزع يوم القيامة من باب الأولوية القطعية.
ويدل تلقيهم نزول هذه الآيات بالحزن والبكاء الشديد على درجة الفقاهة التي بلغوها، وصدق الإيمان، وسرعة الإستجابة وهم في حال جهاد وإستعداد لبذل النفس وميدان معركة، وصاحب الشفاعة العظمى بين ظهرانيهم .
وكان ذات الوعيد موعظة ومقدمة لتلقي النهي عن الربا بالقبول والإنزجار، وتلك آية في لغة الإنذار والوعيد القرآني , وكونها عوناً للمسلم في العمل بأحكام وآداب القرآن، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ]( ).
أي نعم الشيء الذي يعظكم به الله من أداء الأمانات إلى أصحابها وعدم خيانها أو إنكارها لقوله تعالى في أول الآية أعلاه[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، والأمانات في المقام على قسمين:
الأول: أمانات الله وهي الأوامر والنواهي، ومنها قوله تعالى(لا تأكلوا الربا) ليكون أمانة في عنق ويد وفم كل مسلم بأن لا يطعم نفسه وعياله من الربا، ولا يقبض المال الربوي، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ).
الثاني: أمانات الناس التي يجعلها بعضهم عند بعضهم الآخر، ويتقوم الإسلام بحسن الخلق، ومنه ملكة الأمانة عند المسلم في عبادته ومعاملاته، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من خان أمانة في الدنيا ولم يردها إلى أهلها ثم أدركه الموت مات على غير ملتي ويلق الله وهو عليه غضبان) ( ).
ومن معاني الوعظ في قوله تعالى أعلاه[إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحسن الذاتي للمواعظ والأوامر والنواهي التي في القرآن.
الثالث: لزوم إدراك وجوب التوقي بالتقوى والخشية من الله، من تزلزل الأشياء.
ومن الفلاح الوارد في آية البحث الأمن من شدائد يوم القيامة والذي لا يتحقق إلا بتقوى الله والإمتناع عن الربا.
الثاني: حصول التبليغ للناس بلزوم الخشية من الله، وهو من أسمى وظائف الأنبياء والذين تحملوا من أجل تحقيقه الأذى، وتعرض شطر منهم بسببه للقتل من قبل قومهم الذين جاء الأنبياء لهدايتهم وصلاحهم .
وفي ذم قوم من أمم الأنبياء، قال تعالى[فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث: إنه مصداق عملي وشاهد صدق لقوله تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابع: من مصاديق الحجة على الناس قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوظائف النبوة، وجهاده في حث الناس جميعاً على تقوى الله .
فإن قلت بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في جزيرة العرب، ولم يصل بلاغه إلى أنحاء كثيرة من الأرض . الجواب من جهات:
الأولى: تقدير الآية يا أيها الناس هذا كلام الله بلغّه لكم رسوله محمد فأتقوا الله.
الثانية: لقد إجتهد النبي محمد بالتبليغ، ووصوله إلى أكثر عدد ممكن من المدن والقبائل والأفراد، ولم يتوقع أحد من قريش أن يرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى كسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم فيها للإسلام .
وتلك الرسائل مما أطلقنا عليه اسم السنة التدوينية وهو قسيم إستحدثناه للسنة القولية والفعلية والتقريرية, وهذا الإجتهاد والجهاد من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
وكان النبي محمد يبعث الأصحاب والسرايا ويلتقي الوفود من القبائل العربية ومن أهل الكتاب ليس بينه وبين الناس حاجب أو بواب، وقصة وفد نصارى نجران معروفة وتقدم شرحها( ).
وعن زيد بن أرقم قال جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون قال إي والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة , فقال الرجل فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى فقال له صلى الله عليه وسلم حاجة أحدهم رشح يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر) ( ).
الثالثة: قد جاء زمان العولمة والفضائيات هذا لتتجلى معاني التبليغ لعموم الناس في الخطاب القرآني وجث الأجيال المتعاقبة على تقوى الله والخشية منه.
وخطابات القرآن متجددة وباقية إلى يوم القيامة، ويكون ما يأتي من مستقبل الأيام والسنين شاهداً على إعجاز القرآن في بلوغ خطاباته للناس جميعاً، ويقوم المسلمون بتعضيد هذه الخطابات بالإمتثال الفعلي لها، ومنها تقوى الله والإمتناع عن الربا وإن كان أضعافاً مضاعفة.
ومن الأسرار المستقبلية في قوله تعالى(أضعافاً مضاعفة) زيادة نسبة الفائدة الربوية وجنس النفع على القرض، وقد تصير في حالات إلى مقدار ربع رأس المال ليكون من إعجاز القرآن وأسرار النهي عنه، وتلك الزيادة تحصل في كل الأزمنة وخاصة عند الضيق والحرج, أو الطمع .
الخامس: إجتماع الأمر بالتقوى والبشارات بالفلاح حجة على الناس، وترغيب لهم بالتقوى، ومن أسباب جذبهم لمصاديق عملية منها، ومنها النفرة من الربا.
السادس: دلالة مفهوم الآية على خسارة وعدم بقاء الذين يصرون على معصية الله، ولا يخشون الله بالسر والعلانية.
المسألة الثانية: تتضمن الآية الإخبار عن قانون ثابت وهو الملازمة بين التقوى والفلاح، وهو من الشواهد على كون القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
وفيه لطف بالناس وبعث للعمل الصالح، وعدم إنحصار الدعوة للإصلاح بالمسلمين والمسلمات، فإن قلت إن الفلاح أمر خاص بالمسلمين، ولا يستطيع الكفار بلوغ مراتبه .
والجواب إن تقوى الله تنفي الكفر وتدل على هجرانه لأن التقوى منزلة لا ينالها العبد إلا بعد دخول الإسلام، وليس بين أي إنسان ذكراً أو أنثى ودخول الإسلام إلا مبادرته إلى واجب النطق بالشهادتين، ليفوز بالفلاح .
وفي الخبر(أن القيامة عرس المتقين)( ).
المسألة الثالثة: جذب الناس لمنازل الإيمان والتقوى بالإخبار عن الثواب العظيم الذي ينتظر المتقين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وليس من كلمات ومواضيع بين الأمر بتقوى الله والبشارة بالفلاح, وكأن إنتفاء الكلمات بين(اتقوا الله)و(لعلكم تفلحون) مرآة للواقع، وأنه ليس بين المتقين والفلاح من مانع .
ومع أن عالم ما بعد الموت ومفارقة الروح الجسد يبدأ بعالم البرزخ , فهو لا يكون برزخاً بين المؤمن وبين الفلاح في عالم القبر، وعن النبي(قبره روضة من رياض الجنة)( ).

التفسير الذاتي
ورد خطاب [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( )، في سورة آل عمران سبع مرات، جاء أول خطاب منها في الآية المائة من السورة، وأخرها في الآية المائتين وهي آخر آيات السورة، وجاءت ثلاثة منها بصيغة النهي والزجر الذي يحمل على النهي والحرمة، وليس الكراهة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( ).
وفيه تحذير للمسلمين من جعل الكفار وليجة لهم، وإطلاعهم على أسرار المسلمين، وحاجاتهم التي تكون كالثغرات في عين العدو.
وتقوم تلك البطانة بتزيين الربا، وتدفع المسلم لمزاولة مصاديق خفية منه بذريعة عدم ثبوت أنها من الربا المحرم، وتسعى لجعل غاشية بين النهي القرآني عن الربا وبين المعاملات التجارية، لقوله تعالى في الآية أعلاه [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ]( ).
ليكون من وظائف وأسرار تقدم آية البطانة على آية البحث في نظم السورة تلقي المسلمين النهي عن الربا بالقبول، وإنتفاء المانع من العمل بمضامينها القدسية.
وهل يكون إجتناب المسلمين للربا عوناً لهم في التقيد بأحكام الوقاية من جعل الكفار بطانة ووليجة ومستشارين في أمورهم الخاصة والعامة.
الجواب نعم، من وجوه:
الأول: صدور المسلمين عن القرآن , وما فيه من الحكمة المتعالية وأسباب الصلاح .
الثاني: حرص المسلمين على سلامة أمور دينهم.
الثالث: إستغناء المسلمين عن البطانة من غيرهم , إذ جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابع: تجلي قانون ثابت وهو الملازمة بين النصيحة والحكم القرآني،.
الخامس: يفيد الجمع بين الآيتين تأكيد الإنذار من إتخاذ الكفار وليجة.
السادس: نفرة المسلمين ممن يتعاطى الربا، ويدعو إليه، لاسيما وأن اللعنة على أطراف الربا الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت مطلقة.
السابع: إتخاذ المسلمين بطانة ومستشارين من بينهم، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن الآيات في المقام عدم الإستقلال والفعل بين المستبطن _ بالكسر _والبطانة من المسلمين، فحتى البطانة والوليجة المسلمة تلجأ إلى من إتخذها بطانة لإستشارته في أمورها، والإقتداء به في حسن سمته.
ومن الشواهد عليه إختتام آية البطانة بقوله تعالى[قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
ومن أبهى مصاديق التعقل والحكمة الإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه ومنه إستبطان غير المسلم.
وفي الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى: عز ومنعة المسلمين بأنهم يستطيعون الإختيار في الصلات والمعاملات، فلا يقدر أحد أو جماعة أو أمة أن تفرض عليهم بطانة ووليجة.
الثانية: إستحقاق المسلمين للمدح والثناء بصفة الإيمان لتقيدهم بأحكام القرآن كأمة متحدة.
والبطانة في المقام على وجوه:
الأول: وجود بطانة ووليجة للأمة من غيرهم بجعل موضوعية لغير المسلمين في شؤون المسلمين.
الثاني: الذين يتخذهم الرؤساء والأمراء المسلمون بطانة ووليجة.
الثالث: الوليجة والبطانة الشخصية التي يتخذها المسلم في معاملاته وصلاته.
وجاء التحذير من البطانة مطلقاً للمنع من التأثير على المسلمين في باب حرمة الربا، لأن النهي عن الربا مطلق وشامل لكل أفراده، ولاينحصر أثر البطانة من غير المسلمين بموضوع الربا، وقد يؤدي الإنصات لها وطاعتها إلى الإضرار بالمسلم.
لذا جاء أول خطاب للمسلمين في سورة آل عمران بالتحذير بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( )، إن إمتناع المسلمين عن الربا إعلان لثباتهم في منازل الإيمان.
وجاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، لتوكيد موضوعية التقوى، ولزوم تكاملها عند المسلم بتغشيها لأقواله وأفعاله وإستحضاره لمعاني الخشية من الله عز وجل في السر والعلانية، ولمّا مدح الله عز وجل المسلمين، وشهد لهم بأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، جاءت الآية أعلاه لتوكيد عصمة المسلمين من المعاصي والسيئات.
لقد شاء الله أن تتصف أمة من بين أهل الأرض بالصلاح، وتكون أسوة للناس جميعاً يلحق بها المتأخر، ويرجع لها الغالي، وتلك الأمة هم المسلمون رجالاً ونساءً.
وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا “اتقوا الله حق تقاته، وقال : فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟”)( ).
ومن مصاديق تقوى الله حق تقاته إجتناب الربا، وتقدير الجمع بين الآيتين :ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته فلا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة.
وفي تمسك المسلمين التام بآداب وسنن التقوى أمور:
الأول: صيرورة التنزه عن الأضعاف المضاعفة من الربا ملكة ثابتة عند المسلمين.
الثاني: تعاهد المسلمين القرض فيما بينهم.
الثالث: إمهال المعسر طلباً لمرضاة الله، ورجاء الأجر والثواب، ومن غير طمع بزيادة وسجية، ونفع عرضي زائل، قال تعالى[وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
وجاء خطاب للمسلمين يتضمن النهي في ذات سورة آل عمران بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
ويتجلى الإكرام بصيغة الخطاب واللطف الإلهي بالمسلمين بتحذيرهم من محاكاة المنافقين والكفار الذين أرادوا صدّ المسلمين، ومنعهم من الخروج للجهاد.
وإذا كان المسلمون لا يلتفتون إلى محاولات منعهم من الجهاد والدفاع في سبيل الله من غير خشية من القتل، فمن باب الأولوية أنهم يمتنعون عن الربا ولا يصغون إلى أسباب الشك، ومعاني الطمع التي يثيرها أهل الضلالة وأتباع النفس الشهوية.
ومن خصائص أهل الإيمان التمسك بالحق والتنزيل عند ورود الشبهة، وإثارة الكفار الشك والريب، وهذا التمسك على وجهين:
الأولى: التمسك القولي، بأن يظهر المسلمون الإيمان على ألسنتهم، ويكثرون من التسبيح والشكر لله.
وهل تلاوة آيات القرآن منه، الجواب نعم، لذا تفضل الله عز وجل وجعلها واجباً في الصلاة، ويجب الجهر بها في صلوات يومية مخصوصة لأمور:
الأول: تأكيد إيمان المسلمين، وتسليمهم بنزول القرآن من عند الله.
الثاني: تعاضد المسلمين في حفظ القرآن، وتعاهدهم لسلامته من التحريف، فالقراءة الجهرية كاشف لذات اللفظ.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لأحكام التفسير، ودعوتهم للسؤال عن معنى ومضامين الآية، والإخبار عنها، أي منهم من يسأل ومنهم من يجيب، ومنهم من يخبر إبتداء عن معاني ودلالات الآية القرآنية.
الرابع: الإمتثال لأمر الله، لأن القراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ليست إختيارية، بل هي أمر واجب، قال تعالى[وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً] ( ).
الخامس: تعظيم شعائر الله، ودعوة الناس للإسلام.
السادس: جهر المسلمين بتلاوة القرآن في الصلاة نوع صبر وإستعداد للتضحية والبذل في سبيل الله، قال تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ).
السابع: بعث اليأس في قلوب الكفار.
الثاني: التمسك الفعلي بالإمتثال العملي بأحكام القرآن، وإتيان ما أمر الله عز وجل به، وإجتناب ما نهى الله عنه.
وورد لفظ(لعلكم تفلحون) مرتين في سورة آل عمران، إذ جاء مرة أخرى في آخر آية من السورة( )، وتعقب في كلا الآيتين الأمر الإلهي(واتقوا الله).
وفيه توكيد للملازمة بين التقوى والفلاح، وضرورة التقوى بلحاظ حاجة الإنسان إلى الفلاح والفوز في النشأتين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، ومن معاني الصبر والمصابرة أعلاه أمور:
الأول: الثبات على الإيمان.
الثاني: الإجتهاد في طاعة الله.
الثالث: أداء العبادات والمناسك.
الرابع: جهاد النفس والتنزه عن أولويات المقاصد الدنيوية.
الخامس: الوقاية من الربا، والإمتناع عن المعاصي.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال إسباغ الوضوء في السبرات و نقل الأقدام إلى الجماعات و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط) ( ).
من غايات الآية
لقد تفضل الله عز وجل وسخر ما في الأرض للإنسان، ورزقه الطيبات، وهداه إلى وظائفه العبادية التي خلقه من أجلها ومن أسماء الله الحكيم والحكم والحاكم، وهو الذي أحكم وأتقن الأشياء، وهو القاضي، والعالم بعواقب الأمور، والذي يجذب الناس لما فيه نفعهم وصلاحهم وفي التنزيل [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] ( ).
وتتضمن آية البحث اللطف بالمسلمين، ويتجلى هذا اللطف بصيغة الخطاب[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي تفضل الله عز وجل به، وهو من حكمته وعلمه سبحانه.
ومن الغايات الحميدة لهذا الخطاب وجوه:
الأول:دعوة المسلمين للإتحاد والتآزر والتعاضد لأن الخطاب الإلهي يشملهم على نحو العموم المجموعي.
الثاني: الشهادة للمسلمين بأن الجامع المشترك بينهم هو الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بعث المسلمين على التقيد بأحكام القرآن.
الرابع: إخبار الناس جميعاً بموضوعية الإيمان في التمايز والتفاضل بين الناس.
الخامس: بيان حقيقة وهي أن المسلمين متحدون، يلتقون تحت ظلال خيمة الإيمان تجمعهم التقوى، ويكونون قادة للناس ودعاة للهداية، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
السادس: بقاء الخطاب التشريفي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ووجود أمة تتلقى هذا الخطاب إلى يوم القيامة بلحاظ أن القرآن كتاب لايغادر الأرض إلى يوم القيامة.
السابع: بشارة الثواب العظيم على الإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل قال تعالى[لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
أما الغايات من قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] فهي على وجوه:
الأول: تجلي إكرام المسلمين الذي يدل عليه خطاب التشريف بمجئ النهي عن الربا .
فان قلت لماذا لم يكن إستمرار الإكرام للمسلمين بالإذن لهم بأباحة أكل الربا، ويكون تمايزهم عن الناس جميعاً بان الربا حلال عليهم، حرام على غيرهم.
والجواب من جهات:
الأولى: الناس شرع سواء في التكاليف.
الثانية: إنما نال المسلمون مراتب التشريف والتفضيل بحسن إمتثالهم للأوامر والنواهي الإلهية , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة: من مصاديق نيل المسلمين لمراتب الرفعة والسمو إجتنابهم المعاملات الربوية طاعة لله عز وجل.
الرابعة: الربا قبيح ذاتاً وأثراً، ومن حب الله عز وجل للمؤمنين تنزيههم عن الربا.
الخامسة: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً وكل مكلف مأمور بالإمتثال عن الربا وهو الذي جاء به الأنبياء السابقون.
الثاني: النهي عن الربا من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ مفاهيم الصلاح في هذا النهي، وتعلق إستدامة الحياة في الأرض بعدم إستدامة طغيان الظلم فيها، نعم قد يستحوذ الطواغيت والظالمون على الأمور في ميدان الحكم والتجارة والفلاحة.
ولكن الناس لايفقدون الأمل، ولايكفون عن السعي للتخلص من سلطانهم، وتكون مبادئ التوحيد والعبودية لله عز وجل ضياء ينير لهم دروب الطريق، ويمنع من صيرورة الظلام غاشية على أبصارهم، وتجعل تلك المبادئ الناس يدركون أن الظلم والقهر إلى زوال , قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
إن الإمتناع عن الربا مادة ووسيلة للتخلص من التعدي العام والشخصي الذي يقع على النفس والغير.
الثالث: تأكيد أن ما في الأرض لله عز وجل وأنه سبحانه هو الحاكم والملك والرب والخالق، وهو الذي ينهى عباده عن الظلم والفعل القبيح قال تعالى[قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ]( ).
الرابع: تحتمل الغاية الحميدة من النهي عن الربا وجهين:
الأول: المواد الإتحاد في الغاية .
الثاني: التعدد: وأن الغايات الحميدة من النهي عن الربا متعددة .
والصحيح هو الثاني وهو آية في الفضل الإلهي، وهذا التعدد من اللامتناهي لبيان العظمة في خلق الله عز وجل وأسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فيعجز الناس عن إدراك الغايات والحميدة من النهي عن الربا.
وتفضل الله عز وجل بتكامل الشريعة وإنبساطها على مبادين الحياة المختلفة، ومن هذه الغايات:
الأولى: النهي عن الربا من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في الحياة الدنيا، ويتلو كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب قوله تعالى[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) .
والذي يمتاز من بين القراءة في الصلاة أنه يتكرر في ذات الركعة الواحدة بأن يتلى في البسملة وفي الآية أعلاه من سورة الفاتحة، ومذهب الإمامية والشافعي وأحمد أن البسملة جزء من الفاتحة وتجب قراءتها معها، وقال الإمام أبو حنيفة ومالك بأنها ليست من الفاتحة وتجوز قراءتها، وقال الشافعي والإمامية بالجهر بها، وذهب أحمد للإسرار بها( ).
الثانية: ليس من حصر للرحمة في باب النهي عن الربا من وجهين:
الأول: أفراد ومصاديق الرحمة في هذا النهي والزجر.
الثاني: الذين تتغشاهم الرحمة بالنهي عن الربا.
وهل ينحصر الأمر بالمسلمين، الجواب لا، ولكن المسلمين ينتفعون من أغصان الرحمة في النهي عن الربا أكثر من غيرهم.
ويتجلى إنتفاء الحصر في رحمة الله عز وجل بالنهي عن الربا بأمور كثيرة منها:
الأول: تنزه المسلم عن أكل الربا.
الثاني: حرص المسلم اليومي على الإمتناع عن الربا، ففي كل يوم وكل ساعة يتوجه له النهي عن الربا أكلاً وتأكيلاً، وهو يظهر مصاديق الإمتثال العملي بالكف والإمتناع عن الربا ليأتيه الثواب في كل ساعة وهو يجتنب فيها الربا.
الثالث: تنزيه أسواق المسلمين من الظلم، وما يكون الربا مقدمة له من أسباب الخصومة والفتنة والبطش.
الرابع: إعانة الناس بعدم مشاركتهم في الربا وما فيه من الضرر والإضرار.
الخامس: إكتناز المسلم للحسنات بالإمتناع عن الربا، ومن الرحمة الإلهية في الحياة الدنيا أن الثواب يأتي على إتيان الفرائض والواجبات، ويأتي على الإمتناع عن المحرمات لأن هذا الإمتناع من مصاديق طاعة المسلم لله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
وصحيح أن موضوع حدود الله في الآية أعلاه هو المواريث، ولكنها أعم، وقد ورد لفظ(حدود) أربع عشرة مرة، وكلها مضافة إلى الله عز وجل وهو مدرسة عقائدية تستحق أن تخصص لها الدراسات وتؤلف فيها المجلدات باسم(مدرسة حدود الله) تستنبط في الموضوع والحكم منها أمور:
الأول: القوانين والأحكام والسنن.
الثاني: بيان علة الثناء على المؤمنين.
الثالث: أسباب ذم أهل المعصية والجحود.
الرابع: الشواهد المتجددة على إعجاز القرآن.
الخامس: الغايات الحميدة لنزول القرآن في إصلاح المجتمعات وتهذيب السلوك وتثبيت معاني التقوى وسبل الهداية , قال تعالى[إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ] ( ).
ويتجلى فيها حقيقة وهي أن كل حد وحكم من الله هو نعمة على الناس جميعاً، وأن المسلمين فازوا بالإغتراف من هذه النعمة بالتقيد بحدود الله، وفي معنى حدود الله وجوه:
الأول: أي الموضوعات والسنن التي لا يجوز تجاوزها.
الثاني: أنها طاعة الله، عن ابن عباس( ).
الثالث: الفرائض وأحكام الحلال والحرام.
الرابع:شروط الله، عن السدي( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وجاء لفظ حدود الله لتأكيد حقيقة وهي وجود ضوابط ثابتة تحكم العبادات والمعاملات والأحكام ولا يصح تجاوز ما حّد الله عز وجل للعباد من الطاعات.
وهل ترك الربا من حدود الله، الجواب نعم، وفيه آية في لزوم طاعة الله بالإمتناع عن الربا، قال تعالى[وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا] ( ).
ومن منافع(مدرسة حدود الله) إستقراء البحوث والمسائل منها , وتشريع القوانين الملائمة لأفراد الزمان الطولية.
ويحتمل المراد من المعصية في الآية أعلاه أمرين:
الأول: من يتعد حداً واحداً من حدود الله يخلد في النار على نحو الدوام.
الثاني: المراد من يتعد جميع حدود الله.
وعلى هذا التباين ذكرت مسألة وهي هل صاحب الكبيرة من أهل الصلاة مخلد في النار بناء على كفاية التعدي في حد واحد من حدود الله، أم أن الخلود في النار خاص بالكافر لأنه يتعدى حدود الله على نحو العموم الإستغراقي.
ولا تصل النوبة للبحث في مثل هذه المسألة بآية واحدة من القرآن بل لابد من الجمع بين الآيات.
والمختار هو إنعدام الدليل على خلود صاحب الكبيرة من أهل الصلاة في النار، بالإضافة إلى موضوعية الإستغفار الذي ندب الله إليه، وسعة رحمة الله بالمؤمنين، وشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي) ( ).
وتؤكد الآية موضوعية طهارة ونقاء ما يأكل الإنسان، وتجلي المائز بينه وبين الحيوان بجنس المأكول، ويلتقي الناس جميعاً في الرغبة بأكل الطيبات، ويختص المسلمون بأكل الطيب الحلال، وإجتناب ما فيه غصب وظلم ومعصية كأكل الربا والمال المسروق.
ليكون المسلمون مرآة للمبادئ التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مرور مئات أو آلاف السنين على بعثته.
ويكون القرآن حاضراً بين الناس في أحكامه وسننه ببركة وجهاد المسلمين، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
أي لا يعلم قوة وعزة ومنافع وكثرة عدد جنود الله إلا الله سبحانه، وهو آية إعجازية في عظيم وبديع خلق الله، وفيه تحد للناس جميعاً بجعلهم عاجزين عن معرفة عدد جنود الله من الملائكة والإنس والجن والطير والدواب.
ومع أن شطر الآية أعلاه جاء خاتمة للإخبار عن كون خزنة النار تسعة عشر ملكاً، إلا أنه أعم، وفيه بشارة وإنذار.
وسورة المدثر مكية وهي من أوائل السور التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع أن المشهور أن أول سورة نزلت هي[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ] ( )، فقد ورد قول بأن المدثر هي أول سورة نزلت.
وعن أبي سلمة قال(سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل قال: يا أيها المدثر، فقلت أو اقرأ.
فقال جابر أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الواد فنوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و شمالي فلم أر أحداً ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبرائيل فقلت دثروني دثروني فصبوا علي ماء فأنزل الله عز وجل:يا أيها المدثر.
و في رواية فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني فنزل،يا أيها المدثر) ( ).
وقد تجلت مصاديق البشارة والإنذار الواردة في الآية أعلاه[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] في معارك الإسلام الأولى إذ نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويكون من معاني وتأويل الآية أعلاه أن جنود السماء وهم الملائكة ينصرون جنود الأرض وهم المؤمنون في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، بإجتماع الجنود في موضع وميدان واحد هو معركة بدر وأحد والخندق .
لتكون فيه البشارة لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة، والإنذار للكفار إلى يوم القيامة، ولا دليل على إنقطاع هذه الآية وهي إجتماع جنود السماء والأرض لإعلاء كلمة التوحيد، وصيرورة أهل السماء مدداً وظهيراً وعوناً للمؤمنين، وإذا أنعم الله عز وجل نعمة على أهل الأرض فهو أكرم من أن يرفعها.
وهل يدل ترك المسلمين الربا على أنهم جنود الله في الأرض، الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، والصلة بين الخلافة وتسخير العبد نفسه وماله في سبيل الله، وإستجابته للأوامر والنواهي التي ينزل بها جنود الله من الملائكة كما في نزول جبرئيل بالقرآن من عند الله، وليكون العمل بآيات القرآن عنوان تجديد إنساني وأرضي للصلة بين جنود السماء والأرض، ومنه الإمتناع عن أكل الربا , طاعة لله سبحانه.
إن أكل الطيبات من المباح، ولكن عندما يكون إختياره عن قصد وحرص على إجتناب الربا والحرام فان الثواب يأتي للمسلمين حتى في المباح وتلك آية في خلق الإنسان وموضوعية الإيمان في الأرض.
وقد إختلف علماء الكلام والأصول هل يجب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المباح، ومحاكاته في سنته في الأكل ونحوه، ويتجلى في المعنى الذي ذكرناه أعلاه رجحان إتباعه فيه , لأن المباح ليس مجرداً ومستقلاً بذاته بل يخضع عند المسلمين لعناوين الإيمان والتقوى .
ويكون إختيار النوع والجنس والفرد من الأكل وفق ضابطة الحلال والحرام , وإرادة قصد القربة فيأتي الأجر والثواب فضلاً من الله، وفيه تأديب للمسلمين، وتنمية لملكة الحرص على إتباع سنن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فان قلت هذا في الأكل وبينه وبين المباح عموم وخصوص مطلق لأن المباح أعم منه فيشمل مثلاً اللباس.
والجواب إن محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اللبس وإختيار ما ورد فيه القرآن والسنة وإجتناب ماجاء النهي به من اللباس إنما هو من السعي لمرضاة الله، ومعاني حبه والشوق إليه فيلبس المسلم الجديد لقوله تعالى[يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( )، أو يلبسه ويستحضر الآية , ويشكر الله على نعمة اللباس الجديد، ويدعو الله لدوامها , ويأتيه الثواب في المباح ويكون قد إتبع السنة فيه[وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وجاءت الآية بتقييد أكل الربا المنهي عنه بكونه (أضعافاً مضاعفة) وتلك آية أخرى تدل على أن الآية القرآنية تتضمن آيات عديدة في المنطوق والمفهوم، والموضوع والمحمول، والذات والأثر، إلى جانب حقيقة , وهي أن إمتثال المسلمين لمضامين الآية القرآنية آية من آيات الله , ومصاديقها من وجوه:
الأول:الإمتثال لأحكام الآية القرآنية تعاهد عملي لها نصاً وحكماً وتفسيراً.
الثاني: إنه عون للمسلمين لحفظ آيات القرآن، والمنع من ضياعها أو تسرب التحريف لها.
الثالث: فيه دعوة متجددة للناس لدخول الإسلام، ففي كل مرة يمتثل فيها المسلم لفعل أو ترك وارد في القرآن يكون قد توجه للناس ببيان عملي شخصي على صدق بعثة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والإخبار بحضورها بين الناس، والدعوة للتدبر في معجزاته ودلالات رسالته من عند الله عز وجل.
الرابع: هذا الإمتثال من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العملي، وتلك آية عملية فتارة يأمر المسلم وينهى ، وأخرى يقوم بفعل المعروف، ويتجنب المنكر بما يجعل الناس يدركون أنه يتركه طاعة لله عز وجل كما في إمتناعه عن الربا قبضاً أو دفعاً، مع هروبه من الشهادة عليه أو كتابته لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لعن أطراف الربا , وهذا اللعن تحذير وباب للوقاية، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] ( ).
وأيهما أسهل على الإنسان إجتناب قبض ودفع الربا أم كتابته والشهادة عليه .
الجواب هو الثاني، إذ أن الكتابة والشهادة ليست عن حاجة، وعزم على توظيف المال الربوي في الغالب , إلى جانب التباين في الموضوعية في العقد , والذي يتقوم بالأصل بطرفين.
التفسير
قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
إشراقة سماوية كريمة تبدأ بها الآية الكريمة لتشع على القلوب بضياء الشهادة بالشأن والسمو للذين يتلقون الخطاب وهو من مصاديق العز والرفعة التي يتفضل بها الله عز وجل لقوله تعالى[وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ]( ).
ويدل الخطاب في مفهومه على حرمان غير المؤمنين من مراتب التشريف التي يتضمنها ذات الخطاب الذي يؤسس لأمة قائمة بذاتها، مستقلة عن غيرها بالجامع المشترك بين أفرادها , وهو الإيمان بالله سبحانه , والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونزول القرآن وحباً من عند الله عز وجل.
وهل لهذا الخطاب أثر وضعي في كثرة المسلمين, الجواب نعم , من وجوه:
الأول: إنه سور جامع لكل المسلمين وإن تباعدت أمصارهم.
الثاني: إدراك كل مسلم الصلات الأخوية والإتحاد في المبدأ مع كل المسلمين.
الثالث:إختصاص المسلمين بخطاب التشريف حث لهم للإرتقاء إلى مراتب الإمتثال للأوامر الإلهية.
الرابع: يجعل هذا الخطاب الفزع يدب في قلوب الكفار خوفاً من المسلمين، مما يساهم في إنتشار الإسلام، وتدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء هذا الخطاب مقدمة لتكليف ونهي يعم المسلمين والمسلمات في باب المعاملات، وأمر بتقوى الله، إلا أن ذات الخطاب مدرسة عقائدية تكون عوناً على الإمتثال لمضامين الآية الكريمة.
لقد توارث المسلمون إجتناب الربا، وهو أمر عظيم لم تقدر عليه أمة من المليين.
وهذا التوارث من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومنها الآية أعلاه توجه ذات خطاب المدح والثناء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلى أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل، وفي كل يوم من أيام المسلمين وليس من خطاب إكرام في الأرض ينحل بأعداد غير متناهية مثل هذا الخطاب التشريفي فهو عرس للمسلمين، وذخيرة مباركة تبعث السكينة [لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] ( ).
ويتجلى شرف التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله بالتساوي بين المسلمين وكونهم بعرض ورتبة واحدة في تلقي الخطاب التشريفي الذكر والأنثى، والكبير والصغير، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والسيد والعبد .
ويتجلى مصداقه على نحو متكثر ومتعدد بالوقوف بين يدي الله في صلاة الجماعة التي هي مستحبة إستحباباً مؤكداً، وقد ورد عن النبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين) ( ).
وحتى صلاة المنفرد من مصاديق التساوي بين المسلمين لوحدة أحكام الصلاة لعموم المسلمين والمسلمات، ولأن كل مسلم يعلم أن إخوانه وأخواته من المسلمين يؤدونها بذات الكيفية.
ولم تنحصر تلك المصاديق بالصلاة بل تشمل الصوم وما فيه من ترك للمفطرات لايعلمه إلا الله عز وجل، لذا ورد في الحديث القدسي(كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)( ).
وتشمل الحج، في عبادة معلنة وظاهرة للناس جميعاً، وينادي أهل الموسم بصوت واحد يملأ الآفاق ويسمعه أهل الأرض والسماء(لبيك اللهم لبيك , لبيك لاشريك له لبيك).
وقيد القرآن أداء الحج بشرط الإستطاعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، بينما منعت آية البحث الأضعاف المضاعفة من الربا.
فهل من تعارض بين الأمرين، الجواب لا، من وجوه:
الأول: المراد من الإستطاعة في الآية أعلاه على أقوال منها(الزاد والراحلة عن ابن عباس وابن عمر) ( )، ومنها إضافة نفقة واجب النفقة، والرجوع إلى كفاية مع صحة في البدن والأمن وتخلية السرب، يستلزم الأمر أضعافاً مضاعفة للمال الشخصي.
الثاني: إرادة الإستطاعة من الكسب الحلال، وتلك آية في الشريعة الإسلامية، فلا يحتاج الله عز وجل عبادة المسلمين والناس جميعاً، ولكنها خير محض لأنفسهم في الدارين، فكانت خاتمة الآية أعلاه [وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( )، والمراد من الكفر هنا (من جحد فرض الحج ولم يره واجباً عن ابن عباس) ( )، ولكنه لا يمنع من المعنى الأعم.
الثالث: الحج عبادة بدنية ومالية، وفيها إنفاق للمال، والجمع بينه وبين النهي عن الربا والأرباح الطائلة منه شاهد على الرزق الكريم والسعة التي يتفضل بها الله عز وجل على المسلمين(روي عن الإمام جعفر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحج و العمرة ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)( ).
وفيه حجة للإستدلال على قانون ثابت وهو مصاحبة المندوحة والسعة في الرزق للخطاب التشريفي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فان قلت ظاهر الحال وجود الفقر بين المسلمين، ويدل عليه قيد الإستطاعة في أداء الحج، والجواب إن حال المسلمين في المكاسب حسن بالقياس مع غيرهم، وان تعرضت أموالهم إلى النهب والإستحواذ وسوء التوزيع.
وقيد الإستطاعة لايدل على شيوع الفقر بين المسلمين، وعن أبي أمامة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: من لم يحبسه حاجة ظاهرة من مرض حابس أو سلطان جائر و لم يحج فليمت إن شاء يهوديا و إن شاء نصرانيا) ( ).
لقد جاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لتثبيت قواعد التساوي بين المسلمين بلحاظ أشرف فعل وهو إختيار الإيمان، وما فيه من الدلالة على توظيف المسلمين للعقل في أصل الإختيار وتدبرهم في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقرارهم بالحق الذي يملي عليهم العمل بمضامين التنزيل، وعدم الإكتفاء بالتصديق وحده، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ]( ).
ويتجلى التساوي بين المسلمين في التكاليف العينية والكفائية، وفيه مسائل:
الأولى: إنه درس في العدالة.
الثانية: هو سبب للهداية والصلاح.
الثالثة:فيه تخفيف عن المسلمين بالإمتثال الأحسن للأوامر والنواهي.
الرابعة: إنه موضوع للتآزر والتعاضد بين المسلمين في العمل بالأحكام الشرعية، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( )، إن إجتناب الربا أمر ليس بالسهل أو الهين .
ويستلزم العصمة من غلبة النفس الشهوية، والبرزخ دون الإفتتان بالحال وتعاطي الناس من حول المسلمين للربا، وأخذهم الزيادة والفائدة على القرض وكأنها حق لهم، فجاء النداء في آية البحث بصفة الإيمان لتأهيل المسلمين لتلقي النهي بالقبول والرضا، والتنزه الفوري عن الربا.

علم المناسبة
قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن مدرسة عقائدية متكاملة تشمل أمور الدين والدنيا، والعبادات والمعاملات والأحكام، وفي المواضيع التي جاء بخصوصها هذا الخطاب التشريفي غنى للمسلمين، ومنعة وقوة تلازمهم إلى يوم القيامة، ليكون هذا الخطاب مدداً سماوياً لنصرتهم في حال الحرب والسلم، والرخاء والشدة.
ومن إعجاز القرآن وجود الصلات والأثر والتأثير المتبادل بين مضامين آيات هذا الخطاب، وهو علم لم تستقرأ مسائله بعد .
وعن الحسن( كل مافي القرآن ياايها الذين آمنوا فانه نزل بالمدينة)( )، وفيه وجوه:
الأول: بيان الأحكام والقواعد والسنن.
الثاني: إصلاح المسلمين لإمامة الناس.
الثالث: إرادة سعي المؤمنين لمنازل الخلود في النعيم الأخروي.
الرابع: فيه مناسبة لإستنباط المواعظ والعبر.
الخامس:إنه دليل على التكامل في الشريعة الإسلامية , وتوكيد نعمة الله على المسلمين، ومن آخر ما نزل في المدينة قوله تعالى[أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ).
وأول خطاب بصبغة الإيمان في نظم القرآن , وترتيب سوره وآياته هو قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
لبعث المسلمين على طاعة الرسول فيما يأتي به من عند الله عز وجل، والإعراض عما يقوله اليهود وغيرهم من كلمات يراد منها النقيصة، وفي كلمة راعنا، ورد عن قتادة: انها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الإستهزاء) ( ).
لقد أراد الله سبحانه من المسلمين قبول ما يأمرهم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه إجتناب الربا، وأختتمت الآية أعلاه بالإنذار للجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووعيدهم بالعذاب الأليم الموجع، ومن مصاديق الكفر المذموم في المقام أكل المال الربوي عن عناد وإصرار.
ويدل إنذار الكفار في مفهومه على الثواب العظيم للذين آمنوا بنبوته، واتبعوه فيما جاء به من الأحكام، ثم جاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
ويحتمل الموضوع الذي يستعان له بالصبر والصلاة وجوهاً:
الأول:الجهاد في سبيل الله.
الثاني: جميع الطاعات ومنها ذات الصبر والصلاة، وورد أن المراد بالصبر هو الصوم.
الثالث: ذكر الله وعبادته، والإستعداد للآخرة.
الرابع:الإمتناع عن الربا، والتنزه عن أكل المال الربوي، لأن ترك الأضعاف المضاعفة من الأموال الربوية أمر وجودي يستلزم حبس النفس عنها واللجوء إلى العبادة والإستجارة بطاعة الله، لذا ورد في وصف الصلاة بأنها صفة الخاشعين.
والخشوع هو الخضوع والتذلل وظهور المسكنة على الجوارح بما يجعلها والحواس تنفر من المعصية وأكل الربا، فلا تمتد إليه اليد، ولا يدخل الفم، ولا تتذوقه حاسة الذوق، وتكره الآلة الباصرة النظر إليه، وتتجنب الأذن الإستماع إلى مقدمات وشرائط العقد الربوي، مع الإستعانة بالصبر لرجاء ماكتب الله من الرزق الكريم .
وعن الإمام عليه السلام(الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد)( ).
لذا أختتمت آية البحث بالخطاب بصفة الإيمان، ومن معاني الصبر ممانعة الهوى، ومقاومة النفس الإنصياع للذات.
ويحتاج الإنسان الصبر لدخول الإسلام وفي أداء العبادات والتقيد بأحكام الشريعة في المعاملات، ومنه عدم الأسى على المنافع والأموال التي يتركها الإنسان طاعة لله عز وجل.
وقد تتهيأ فرصة للإنسان للسرقة وجمع الأموال بالغش، ونهب بيت المال بالحيلة والتواطئ والعقود الزائفة، والحيلة القانونية والغطاء الدستوري، وتحميل المشاريع ونحوها أموالاً طائلة أكبر من قدرها وما يتم إنفاقه عليها، ولكنه يتخذ الصبر الإيماني حرزاً وواقية ليكتب له العز في الدنيا والآخرة، وتذكره الأجيال بالفخر ويكون أسوة للصالحين , ويكون داعية لله حتى بعد وفاته , مما يكون سبباً في توالي الحسنات عليه , وهو في عالم البرزخ , وفيه عز لذريته ومن عمل معه.
جاءت آية البحث لتنزيه المسلم عن الربا ليترك السرقة الظاهرة والخفية، والخاصة والعامة من باب الأولوية القطعية، ويتحلى بالأخلاق الحميدة ويحرص على تطهير النفس وتحمل الأذى في جنب الله.
ولما سئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان قال: (هو الصبر والسماحة)( ).
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث هو: يا أيها الذين آمنوا إستعينوا بالصبر والصلاة على عدم أكل الربا)، وفيه دلالة على تضمن علم سياق الآيات أموراً:
الأول: إنه رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لما فيه من بيان وتوكيد الأحكام.
الثاني: تقريب الخير وأسباب الصلاح للناس، وكل آية تيسير سماوي للعمل بمضامين الآية الأخرى.
الثالث: درء الأذى والشرور عن الأفراد والجماعات، وفيه شاهد بأن القرآن هو الحرز والملاذ للناس جميعاً.
قانون”الإعجاز في نظم الآية’’
تجلي الإعجاز في مدرسة(ياأيها الذين آمنوا) في القرآن، وما في هذا الخطاب من جلب للمصالح، ودفع للمفاسد.
ولاينحصر موضوع هذا الخطاب بذات الآية التي يرد فيها الخطاب التشريفي أعلاه بل يشمل الآيات التي بعدها مما تبدأ بحرف العطف وتكون معطوفة عليها، وتجمعها معها لغة الخطاب , وتوجهه للمسلمين الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذا بالنسبة للآيات التي قبلها التي تتضمن الخطاب التشريفي والتداخل الموضوعي والحكمي بينها .
ويتجلى في آية البحث بأمور:
الأول: صلة آية البحث بالآيات التي قبلها والتي يجمعها معها الخطاب الخاص بالمسلمين وهي إثنتا عشرة آية، تبدأ من قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( ).
نعم وردت آية واحدة وهي التي سبقت آية البحث لتوكيد الملك المطلق لله عز وجل بقوله تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
وهي مع إستقلالها تدخل في ذات خطاب الإكرام للمسلمين والمسلمات لبعثهم على التقوى والسعي لأسباب المغفرة وبيان مصداق التباين بين المسلمين وغيرهم بنيل المسلمين العفو والمغفرة لتصديقهم بالتنزيل وتنزههم عن الربا.
الثاني:صلة آية البحث بالآيات التي بعدها بلحاظ حرف العطف الذي يربطها بآية البحث، وإستمرار ذات لغة الخطاب وهي أربع عشرة آية تبدأ بالآية التالية[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ).
وفيه وعيد للذين يبيحون الربا، ويستحلون أكله، ولكن الآية تضمنت في مفهومها البشارة للمسلمين بأن النار التي يحذر الله عز وجل منها المسلمين إنما أعدت للكفار الذين يصرون على الجحود وإرتكاب المعاصي، ليكون من إعجازها وآية البحث الإنذار للناس جميعاً من الربا، وتوكيد سوء عاقبته وان الذي يأكل الربا تشهد عليه جوارحه يوم القيامة، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
ثم إبتدأت الآية التي بعدها بحرف العطف الواو أيضاً، وجاءت بصيغة الأمر والوعد الكريم وأختتمت بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ليتعدد الرجاء والأمل للمسلمين.
وكل فرد منه بشارة ونعمة في الدنيا والآخرة، ومع هذا الرجاء المتعدد وما فيه من معاني الوعد الكريم، فقد جاء بعده حث المسلمين على العمل الدؤوب في سبيل الله بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهل يدخل الإمتناع عن الربا بهذه المسارعة أم أنه أمر مستقل قائم بذاته، الجواب هو الأول، لما فيه من الطاعة لله عز وجل، وإجتناب للظلم، وترك للأموال التي ترد عن طريق المكاسب الربوية.
ومن نعم الله عز وجل على المسلمين تعقب الوعد الكريم للأمر والنهي، ليكون هذا الوعد على وجوه:
الأول: إنه مدد وعون من الله عز وجل.
الثاني:الوعد الإلهي الكريم إخبار عن حقيقة وقانون يتغشى أعمال المؤمنين في الحياة الدنيا، والقرآن فيه تبيان لأمور الدين والدنيا فلذا تضمن هذا الإخبار.
الثالث: إنه ضياء ينير دروب الحياة.
الرابع: تأكيد عاقبة تقوى الله، وأن الإيمان والعمل الصالح لن يذهب سدى, قال تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ]( ).
وقال بعض العلماء بتعلق موضوع الآية أعلاه بخصوص تحويل القبلة(وعن أبي القاسم البلخي: و ما كان الله ليضيع إيمانكم الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة)( ) .
وصحيح أن الآية أعلاه وردت بخصوص تحويل القبلة، ولكن موضوع الشطر أعلاه منها أعم، والمراد الإيمان مطلقاً، والإقرار بالعبودية لله عز وجل، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويدل على العموم أول وآخر الآية أعلاه إذ إبتدأت بقوله تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( )، وفيه آية في إكرام المسلمين، وبعثهم على فعل الصالحات وإجتناب المحرمات، ومنها الربا ولزوم تركه والإمتناع عن أكله .
وهل في هذا الإمتناع شهادة على الناس .
الجواب نعم، لأن هذا الإمتناع حجة بلحاظ أمور :
الأول: أنه طاعة لله عز وجل .
الثاني: فيه دليل على التصديق بنزول القرآن من عند الله .
الثالث: فيه حجة على الذين يصرون على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: فيه توكيد للقبح الذاتي للربا.
الخامس: إنه مصاديق إطلاق وعموم الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه شاهد بأن منافع نبوته تتغشى الناس جميعاً.
(وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال{الأشهاد} أربعة: الملائكة الذين يحصون أعمالنا، وقرأ[وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ]( ).
والنبيون شهداء على أممهم، وقرأ[فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ]( ).
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الأمم . وقرأ[لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
والأجساد والجلود، وقرأوَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ( ) .
ومن الآيات أن الملائكة والأنبياء والجوارح يشهدون للمسلمين بإمتناعهم عن الربا قربة لله.
وهل يشهد المسلمون لأنفسهم بالتنزه عن الربا .
الجواب نعم ، وتتصف هذه الشهادة بالسعي لمقدماتها وتهيئة أسبابها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الإعجاز التكامل في الشريعة الإسلامية , ومعرفة المسلمين بخواتيم الأعمال عند الهّم والشروع بها، فيدرك كل مسلم أن إجتناب الربا يطلب بذاته، ويكون مادة للثواب والفوز في الآخرة، وإستحضار المسلمين لعالم الثواب العظيم في الآخرة عند الإتيان بالفعل العبادي.
وجاءت آية البحث برجاء بلوغ مراتب الفلاح جزاء لتقوى الله , والإمتناع عن أكل الربا، وبعده بآيتين جاء الإخبار بأن الجنة أعدت لهم، وهي واسعة ودائمة.
وتحتمل النسبة بين الفلاح والجنة وجوهاً:
الأول:التساوي، والفلاح هو دخول الجنة.
الثاني:العموم والخصوص من وجه، وهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الثالث: الفلاح مقدمة لدخول الجنة، قال تعالى[فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، لإرادة الحساب والعدل يوم القيامة إذ توزن صحائف الأعمال(و قيل توزن نفس المؤمن و الكافر عن عبيد بن عمير قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة)( ).
والصحيح هو تعلق الوزن بذات الأعمال إذ تثقل الحسنات الميزان، فيعظم قدر المؤمن ويكون مفلحاً، ويخسر الذي يفعل السيئات إذ أنه لا وزن لها، والخسران فقدان رأس المال، وأعظم ما عند الإنسان نفسه وخسارتها وذهابها إرتكاب السيئات وسوء عاقبتها , وتكون برزخاً بين مرتكبها وبين الفلاح، وسبباً لدخول صاحبها نفساً وبدناً إلى النار .
وهل يثقل ترك الربا الميزان أم القدر المتيقن مما يثقل الميزان فعل الصالحات , الجواب هو:
الأول: هذا الترك من الصالحات وطاعة الله.
الرابع: العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى: الفلاح جزء وفرع من دخول الجنة.
الثانية:دخول الجنة جزء من الفلاح.
الخامس: الفلاح أمر خاص في الدنيا، ودخول الجنة أمر أخروي.
ومن الإعجاز في الآية التعدد في معاني لفظ الفلاح منها الفوز والبقاء والتوفيق والسلامة من الوقوع في الهلكة والضرر، مما يفيد إنطباقه على أغلب الوجوه أعلاه، فيشمل الوجه الثالث والرابع بشعبتيه، إلى جانب أفراد من الفلاح تأتي فضلاً من الله .
ومن اللطف الإلهي تقريب الناس لسبل الفلاح وهدايتهم لمسالكه، وجعلهم يلجون أبواب الإيمان والصلاح طوعاً وقهراً.
ولم يرد لفظ (المفلحون) في سورة آل عمران إلا في هذه الآية وقوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الأولى: بيان وظائف المسلمين في الحياة الدنيا وحسن سمتهم.
الثانية: ما ينتظر المسلمين من الثواب العظيم.
الثالثة: جعل الفلاح مصاحباً للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: ملازمة الفلاح للمؤمن عند دخوله القبر ليصير روضة من رياض الجنة، ويبلغ أعلى مراتبه باللبث الدائم في الجنة.
الثالث:مضامين آية البحث وهي بلحاظ الآيات المجاورة على قسمين:
الأول: موضوع جاء ذكره في الآيات المجاورة، وهو على شعب:
الأولى: مخاطبة المسلمين بالإكرام والتشريف.
الثانية: الأمر بتقوى الله.
الثالثة:رجاء الفلاح والبقاء، وإجتمعت هذه الشعب بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الثاني: موضوع لم يرد ذكره في الآيات المجاورة المذكورة أعلاه مما سبق آية البحث وما تأخر عنها، وهو نهي المسلمين عن أكل الربا .
وفيه مسائل:
الأولى: توكيد موضوعية حرمة الربا.
الثانية: بيان أهلية المسلمين للتقيد بأحكام مسألة إبتلائية , نزلت بكلمتين (لاتأكلوا الربا) وهذه الأهلية من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
نعم جاءت آيات أخرى في سورة البقرة تؤكد حرمة الربا.
الثالث: تأكيد آية البحث لزوم تعاون المسلمين في ترك الربا، وإجتنابهم أكل الفائدة الربوية.
بحث كلامي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا داراً لكرمه وفضله ولطفه على الناس وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
ويتجلى في كل آية كرم وفضل ولطف الله عز وجل على أهل الدنيا جميعاً، والمؤمنين على نحو الخصوص، ومن إعجاز الآية أعلاه أنها جاءت بحرف الإستقبال(السين) وإرادة المستقبل القريب وأنها آيات متجددة، يطل عدد غير متناه منها على الناس في كل زمان.
ومن معاني السين في المقام حاجة الناس المتصلة لرؤية تلك الآيات، وإتخاذها وسيلة مباركة للهداية والإيمان , ومن تلك الآيات[اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ]( )، وشروق الشمس وولادة الهلال، وهطول الأمطار ونحوها.
وتحتمل آيات القرآن بالنسبة للآية أعلاه وجوهاً:
الأول: آيات القرآن من عمومات آيات الآفاق المذكورة في الآية أعلاه ونزول الملك بالوحي من آيات الآفاق.
الثاني: الغيرية والتعدد، وآيات القرآن نعمة ومعجزة قائمة بذاتها.
الثالث: آيات الآفاق والأنفس مرآة لآيات القرآن، وشواهد عليها والصحيح .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهي مجتمعة ومتفرقة آية ونعمة من عند الله عز وجل.
فمن الآيات فتح المدن والقرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمدد ولطف من الله قال تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ] ( )، وهذا التعدد والكثرة من الدلائل على أن النعم الإلهية على الناس من اللامتناهي، وكل نعمة تدعوهم إلى التقوى.
وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول:توكيد وجود آيات الآفاق.
الثاني: إدراك الناس للآيات الكونية.
الثالث: نسبة الآيات لله عز وجل وأنها له ومنه، ولا يقدر عليها غيره سبحانه.
الرابع: مجيء الآيات للناس جميعاً، وعدم إنحصارها بالمسلمين أو هم وأهل الكتاب رحمة بهم وجزاء لهم على إيمانهم بالكتاب ولا تختص بالكفار كحجة بينة وظاهرة عليهم.
الخامـس: كل آية رحمة ونعمة على الناس جميـــعاً، فلما جعـل الله عز وجل خليفة في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فأنه تعالى رزق الخليفة وذريته ذكوراً وأناثاً الآيات الكونية وجعلها قريبة منهم، ومدركة بالحواس، لتكون رحمة عامة من وجوه:
الأول: كل آية من الآيات الكونية رحمة خاصة.
الثاني: قرب الآيات من الناس، وعدم وجود برزخ بينهم وبينها وإن بعدت المسافة كما ما بين السماء والأرض وتجلي الأفلاك للناس.
الثالث: نعمة إدراك تلك الآيات ودلالتها على بديع صنع الله، ولزوم عبادته، من مصاديق النعمة في المقام أن هذا الإدراك عقلي وحسي ومن غير واسطة الغير , قال تعالى[انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] ( ).
وهل لآيات الآفاق أثر في إصلاح المسلمين للإمتناع عن الربا.
الجواب نعم، لما فيها من الموعظة والإعتبار وأسباب الإنزجار عما نهى عنه جبار السماوات والأرض، قال تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]( )، وتفضل الله سبحانه بنزول القرآن ويبين فيه أفراد الفساد وكي يتجنبها المسلمون، ومنها أكل الربا.
السادس:حتمية رؤية الناس للآيات، وتحتمل هذه الرؤية سعة وضيقاً وجوهاً ثلاثة:
الأول: يرى الآيات المؤمنون على نحو التعيين.
الثاني: يختص الكفار برؤية الآيات لإقامة الحجة عليهم.
الثالث: لا يرى الآيات الكفار إلا الذين يعلم الله أنهم يعترفون بها، ويتوبون إلى الله، ويدخلون الإسلام.
الرابع:الناس جميعاً يرون الآيات.
والصحيح هو الأخير، فالناس شرع سواء في رؤية وإدراك الآيات بالحواس الخمسة، لتكون الوظيفة الأصلية لخلق حواس الإنسان هي معرفة الآيات والدلائل التي تؤكد وجوب عبادة الله.
لتكون نعمة تلك الحواس التي عند الإنسان من الآيات التي ذكرتها الآية أعلاه من سورة فصلت بقوله تعالى[وَفِي أَنْفُسِهِمْ] .
ومن الإعجاز وبديع خلق الله عز وجل أن آيات الآفاق بلغة لمعرفة أسرار وعظمة خلق الحواس، وأن الحواس بلغة لمعرفة بديع خلق السموات والأرض وما بينهما، وإدراك عائديتها في الملك لله عز وجل، قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ترى ما هي الآيات في الآفاق والنفوس بلحاظ آية البحث، الجواب من وجوه:
الوجه الأول: الآيات التي في الآفاق، والأصل في الآية أعلاه بديع صنع الله عز وجل في خلق السماوات والأرض، والآيات الثابتة والمتجددة في الكون والعالم المحيط بالإنسان، ولكنه لا يمنع من تجلي آيات تتصل بها، وتتفرع عنها بلحاظ آية البحث منها:
الأولى: وجود أمة مؤمنة بالله منقادة لأوامره، يتفكرون في خلق السموات والأرض، ويتخذون منها علة لزيادة الإيمان.
الثانية: يتضمن خطاب (يا أيها الذين آمنوا) الشهادة للمسلمين بأنهم يؤمنون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وأن خلقهما آية تدعو الناس للهداية والإيمان، قال تعالى في مدح المؤمنين[وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثالثة: نزول القرآن من الآيات في الآفاق، إذ ينزل الملك بالوحي من عند الله، ويلقيه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قلت هذا صحيح، ولكن أين رؤية الآيات في الآفاق بنزول الملك وأن القدر المتيقن من الرؤية في المقام الرؤية الحسية العامة لورود الآية بصيغة الجمع(سنريهم).
والجواب من وجوه:
الأول: نزول القرآن آية آفاقية دائمة، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ]( ).
وتلك آية إعجازية من دلالاتها أن كنوز وعلوم القرآن من اللامتناهي لأنه الكتاب الجامع للعلوم والبيان للوقائع والأحداث.
فلو إتخذت أشجار الأرض كلها أقلاماً، والبحر مداداً ويمده من بعده سبعة أبحر وكتبت بها كلمات الله لنفدت تلك الأقلام والمداد، ويبقى فيض من كلمات الله لم يكتب .
وعن ابن عباس: أن الآية أعلاه(أنها نزلت جواباً لليهود لما قالوا : قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة)( ).
وأختلف في الآية أعلاه هل هي مدنية نزلت بعد الهجرة أو مكية، وعلى الثاني قيل أنها رد وإحتجاج على المشركين إذ قالوا أن هذا الوحي سينفد.
وقد ظهر في هذا الزمان نظام الكومبيوتر وقابليته لخزن ملايين المعلومات والمجلدات فهل تشمله الآية أعلاه.
الجواب نعم من وجوه:
الأول: إن ذكر الآية للأقلام المراد منه اللامتناهي أيضا، ويدل في مفهومه على أن لو إجتمع أجيال من أهل الأرض على الكتابة لم تنفد كلمات الله.
الثاني: الشجر في نمو وإزدياد أيضاً.
الثالث: إصالة الإطلاق، وقانون صدق موضوع وحكم الآية القرآنية في كل زمان.
الرابع: مجيء الآية بما يجعل كل التقنية الحديثة والتي سوف تأتي متخلفة عن تدوين كلمات الله، لقوله تعالى[مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ]( ).
وكلمات الله عز وجل توليدية تتفرع عنها المسائل والأحكام ليكون فيه تحد متجدد ودائم دعوة للغوص في كنوز القرآن.
وفيه دليل على لزوم التوسعة في علوم التفسير وبيان مصداق من مصاديق الآية أعلاه.
وجاء هذا السِفر شاهداً على العصر وحجة على العلماء في الأجيال اللاحقة لبذل الوسع لإتمام المسيرة العلمية هذه بالإستعانة بالله عز وجل، قال تعالى[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ).
الثاني: إنه شاهد على الصلة والتداخل بين السماء والأرض.
الثالث: تتضمن آيات القرآن أسرار السموات والأرض، وتدعو الناس للتفكر فيها.
الرابع: من إعجاز القرآن أن لفظ(آفاق) لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه، وورد مرتين بصيغة المفرد، قال تعالى[وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ] ( )، أي رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل على صورته حيث تطلع الشمس وهو الأفق الأعلى من ناحية الشرق) ( ) عن مجاهد وقتادة.
الرابعة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا، دار موعظة وعبرة، ومنها هيئة الآفاق، وبهاء الخلق، الذي يكون له منافع منها:
الأول: إنه مادة وعون للإيمان.
الثاني: إنه سبب لجذب الناس لدخول الإسلام.
الثالث: فيه تذكير بالله عز وجل ولزوم عبادته [وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
الثاني: إنه مناسبة لفوز المسلمين بتلقي خطاب(يا أيها الذين آمنوا).
الخامسة: آيات الآفاق فضل من الله على المسلمين، كسبب وموضوع لإسلامهم، وزيادة إيمانهم.
السادسة: ترك الربا، وإجتنابه طاعة لله سبب لفتح أبواب السماء، ونزول الرزق الكريم من عند الله.
السابعة: في التفكر في آيات السماء أمور:
الأول: التدبر في بديع صنع الله زاجر عن أكل الربا.
الثاني: الإقرار بنسبة الآيات الكونية لله تعالى سبيل للتوبة والهداية.
الثالث: إنه وسيلة لرجاء الفضل والرزق من الله عز وجل.
الثامنة: لقد سخّر الله عز وجل آيات الآفاق للإنسان لينتفع منها في إستدامة الحياة، والرزق الكريم، وزيادة الإيمان، قال تعالى[أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
التاسعة: لقد تجلت بدائع الحكمة في خلق السموات والأرض، وظهرت واضحة أيضاً في فتح القرى والأمصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت هجرته من مكة إلى المدينة، وأسباب الفلاح فيها , وتغير وجه الأرض بسيادة مفاهيم الصلاح آية كونية عظمى.
ومن آيات الآفاق أمور:
الأول: موضوعية فتح مكة في تثبيت معالم الإسلام في الجزيرة، وتشتت وإندحار قوى الكفر التي كانت تجهز الجيوش على المسلمين, قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
ونزلت الآية أعلاه بعد رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.
وفي المراد من الفتح وجوه:
الأول: الآية بشارة لفتح مكة، لذا ورد(و عن جابر قال ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية)( ).
الثاني: المراد صلح الحديبية نفسه لأن الآية نزلت يومئذ، ولورود أخبار حملت الفتح على الحديبية بلحاظ أن الصلح مع المشركين كان مغلقاً مسدوداً حصل فتحه يوم الحديبية(قال البراء بن عازب تعدون أنتم الفتح فتح مكة و قد كان فتح مكة فتحا و نحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع عشرة مائة)( ).
الثالث: ما ترتب على الحديبية من الآثار(قال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية و ذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم و أسلم في ثلاث سنين خلق كثير فكثر بهم سواد الإسلام)( ).
الرابع: تعدد مصاديق الفتح من جهات:
الأولى: صلح الحديبية، والبيعة فيها.
الثانية: بلوغ الهدى محله.
الثالثة: إطعام النبي نخيل خيبر.
الرابعة: ظهور الروم على الفرس، وفرح المسلمين لأن الروم أهل كتاب إنتصروا على المجوس، وهو دليل صدق لقوله تعالى[وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
الرابع: الفتح هو النصر على الأعداء بالحجة والبرهان ودلائل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحيث صار أهل الشك والريب عاجزين عن الرد وصد الناس عن دخول الإسلام
وليس من تعارض بين هذه الوجوه، وفيه مسائل:
الأولى: تأكيد تعدد النعم الإلهية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثانية: إن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم، ومنه كثرة أفراد النصر والفتح، وتعدد معاني الفتح في موضوع واحد.
الثالثة: مع آية إتحاد اللفظ القرآني وتعدد معانيه، فهناك آية أخرى وهي تعدد المعجزات في الواقعة والحادثة الواحدة.
وهل في آية البحث مصداق من مصاديق الفتح.
الجواب نعم من وجوه:
الأول: الخطاب التشريفي يا أيها الذين آمنوا، وما فيه من الشهادة لأتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان.
الثاني: الإخبار عن وجود مؤمنة تجاهد لإعلاء كلمة التوحيد، وهم المسلمين.
الثالث: فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالفتح ببلوغهم مرتبة الإيمان.
الرابع: بعث المسلمين للجهاد والعمل في مرضاة الله، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ).
الخامس: نزول القرآن وآياته فتح عظيم ومتجدد إلى يوم القيامة.
السادس: النهي عن الربا، لما فيه من أسباب الصلاح، ومقدمات أداء العبادات، وشيوع الرحمة بين المسلمين، وظهور الحجة على الناس.
السابع: ترك المسلمين للأضعاف المضاعفة من الربا، طاعة لله، وعدم إمتناع المسلمين عن ترك تلك الأضعاف.
الثامن: الفلاح والتوفيق والخلود في النعيم للمسلمين، ونصر الإسلام من الفلاح، قال تعالى[وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ]( ).
الثاني: توجه المسلمين نحو التفقه في الدين، والحرص على التقيد بالأحكام الشرعية، ومنها حرمة الربا ولزوم الإمتناع عنه.
الثالث: تضاؤل النفوذ السياسي للقائلين بحلية الربا بعد فتح مكة، وحصول النقص الظاهر في الذين يزاولونه.
الرابع: توالي الفتوحات بعد فتح مكة، وإنتشار الإسلام في أقطار الأرض.
الخامس: بناء المساجد وأداء الصلاة في مشارق الأرض ومغاربها بعد أن كانت الغفلة والجهل شائعين بين الناس.
إذ جاء الإسلام بالدعوة إلى إستقراء دلائل التوحيد من خلق السماوات والأرض، وجريان الشمس والقمر، ومنافع البحار والجبال، ونزول المطر ونمو النبات والشجر.
العاشرة: من آيات الآفاق أضرار الربا على الأمم السالفة، وسوء عاقبة الذين لم يتقيدوا بما جاء به الأنبياء من لزوم الإمتناع عن الربا ونزول البلاء بهم .
إن الأموال نعمة من عند الله، فأراد سبحانه عدم كفران هذه النعمة ومن مصاديق هذا الكفران الربا فدعا الله الناس لإجتنابه، ووعد عليه العقاب قال تعالى[وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا]( )، والبور الهلاك وهو عاقبة دنيوية عاجلة لمن ينسى ذكر الله، ويعرض عن العمل بأحكام الشريعة وسنن الحلال والحرام.
الحادية عشرة: تجلي البراهين على حاجة الناس إلى نزول القرآن من السماء بالنهي عن أكل الربا .
وقيل(أن المراد بقوله(في الآفاق) وقائع الله في الأمم) ( ).
الثانية عشرة: آيات الآفاق سبب لتقوى الله، ومناسبة للخشية منه تعالى، وبرزخ دون المعصية.
الثالثة عشرة: لقد جعل الله آيات الآفاق والفتوحات مدداً للمسلمين في تقواهم، وسبباً لهداية الناس وعمارة الأرض بالعبادة.
وجاءت آية البحث بالنهي والأمر ليصبح كل منهما طريقاً لفلاح المسلمين، ويكون طريق الفلاح على وجوه:
الأول: ذاتي، وهو على أقسام بلحاظ آية البحث .
الأول: الإمتناع عن الربا.
الثاني: تقوى الله والخشية منه.
الثالث: إجتماع الخشية من الله، والتنزه عن الربا لبلوغ المسلمين مراتب الفلاح.
الثاني: أمر كوني وخارجي، وهو آيات الآفاق، وأسرار التوحيد في أقطار السماء والأرض، وكل فرد منها على وجوه:
الأول: إنه زاجر عن الربا.
الثاني: فيه دعوة للتقوى وحسن التوكل على الله، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
الثالث: رجاء الفلاح والتوفيق بطاعة الله وإتيان ما أمر به، وإجتناب ما نهى عنه ومنه الربا.
الوجه الثاني: الآيات التي في النفوس، وهي كثيرة ومتعددة، والتعدد في الموضوع، وفي المتحد منه للتباين في سنخية الإيمان كما في وجوه البلاء إذ يصيب الكفار والظالمين عقوبة، وينزل البلاء بالمؤمنين للتمحيص والأجر والثواب، قال تعالى[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]( ).
وقوله تعالى(سنريهم) فيه خمسة أطراف:
الأول: الفاعل هو الله، وهو الذي يري الناس الآيات والبراهين.
الثاني: ذات الآيات موضوعاً وحكماً.
الثالث: الظرف المكاني للآيات وهو الآفاق.
الرابع: الذين يرون الآيات، وبلحاظ نظم آية(الآفاق) فهم الكفار، ولكن مضامين الآية أعم من جهات:
الأولى: يرى الكفار الآيات في أنفسهم.
الثانية: رؤية المسلمين للآيات التي في نفوس الكفار، والفزع والحسرة التي تملأ صدورهم، والأضرار التي تلحقهم بسبب ظلمهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ]( ).
وهل رؤية الآيات في نفوس وحال الكفار مجردة بذاتها أم أنها درس وموعظة.
الجواب هو الثاني، فينتفع المسلمون والناس جميعاً من تلك الآيات على وجوه:
الأول: إنها مادة للإحتجاج.
الثاني: إقامة البرهان على ضلالة الكفار.
الثالث: دعوة الناس للتوبة ودخول الإسلام.
الرابع: بيان الحاجة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: فيها حجة على سلامة إختيار المسلمين، قال تعالى[فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي]( ).
وتقدير الآية على قسمين:
الأول: سنريهم آياتنا في أنفسهم ليتعظوا ويعتبروا.
الثاني: سنريهم آياتنا في أنفسهم لتدعوهم إلى الإسلام والسلامة في الدنيا والآخرة، وليكونوا من الذين[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالثة: رؤية المسلمين للآيات في أنفسهم، وإقتباس الدروس والصبر منها، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الرابعة: موضوعية الآيات الكونية ونزول القرآن في تهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات ونعمة الإسلام، قال تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ).
الطرف الرابع: رؤية أهل الكتاب والناس جميعاً للآيات في نفوس ومجتمعات المسلمين، من وجوه:
الأول: إتحاد المسلمين في مرضاة الله.
الثاني: نزع المسلمين لعصبية الجاهلية والعادات القبلية , وأبدالها بالضد الحقيقي له, قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالث: ترك المسلمين للمعاملات التي جاء القرآن بحرمتها، ومنها أكل الربا.
الرابع: إسقاط المسلمين الأرباح الربوية، وإكتفاؤهم بأصل المال.
ومن تلك الآيات ملكة الصبر عند المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: إتخاذ المسلمين الصبر سلاحاً ومدداً في أمور الدين والدنيا.
الثانية: تحلي المسلمين بملكة الصبر في جنب الله من أسرار بقاء الإسلام إلى يوم القيامة.
الثالثة: الصبر سبيل للفلاح.
الرابعة: فاز المسلمون بإتخاذ الصبر طريقاً لإجتناب الربا.
الخامسة: إتصف المسلمون بالجمع بين الصبر وتقوى الله، ليكونا مجتمعين ومتفرقين سبباً في عزوف المسلمين عن الربا، ونفرتهم من الأضعاف التي تأتي منه وإن كانت أرباحاً مضاعفة وكثيرة، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الوجه الثالث: الآيات العامة التي تكون في الآفاق وفي النفوس، فتارة تكون الآية في الآفاق وينعكس نفعها وأثرها على النفوس بالذات مثل جهاد المسلمين وصبرهم في جنب الله، وإلتفات الكفار إلى قبح الكفر والضلالة.
وأخرى تكون الآية في الآفاق والنفوس في ذات الوقت، ليكون تقدير الآية على هذا الوجه(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) ومنه:
الأول: نزول جبرئيل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتنتفي معه المسافات بين السماء والأرض فليس ثمة مسافة.
الثاني: نزول الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
وفيه بيان للملازمة بين الصبر والتقوى، وبين نزول الملائكة وتحقيق النصر للمسلمين.
وكما يحتاج المسلمون الصبر والتقوى في ميدان المعركة، فإنهم يحتاجون التحلي بهما في حياة السلم والحضر، وعند دخول الأسواق وإجراء المعاملات.
الثالث: هبوب الرياح وهطول الأمطار من السماء وعمارة وحياة الأرض بها، وصيرورته سبباً لرزق الناس، والمندوحة في معاشاتهم، قال تعالى[وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]( ).
ومن الإعجاز أن نزول المطر ومنافعه تأتي مصاحبة لآيات الآفاق، الأخرى لدعوة الناس للشكر لله عز وجل، قال تعالى[هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا]( ).
ليكون الإمتناع عن الربا من الشكر لله عز وجل على هذه النعم، ورجاءً لإستدامتها، ومادة لنمائها وزيادتها، وحصول البركة فيها وفي آثارها.
فإن قلت أن كل آية في الآفاق تتجلى على النفوس، وكذا العكس، فلماذا الوجه الثالث أعلاه وهو الآيات العامة.
والجواب هذا صحيح، ولكن الآيات العامة تؤثر في النفوس على نحو مركب، بالذات والعرض، لتعدد الآيات في إصلاح النفوس، وقهر القوة الشهوية، فالآية في النفوس.
ثم يأتي أثر إضافي على النفس من تجليات الآية في الآفاق.
وكأن النفس مرآة للآفاق، وما يحدث فيها ينعكس على النفوس بالتدبر والتفكر، والإرتقاء في مراتب العلم.
وإذا كانت آيات الآفاق سبباً للزجر عن أكل الربا، فهل النهي عن الربا سبب للتفكر في آيات الآفاق والنفوس.
الجواب نعم، وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل بأن يمتنع العبد عن المعصية، فيكون هذا الإمتناع على وجوه:
الأول: إنه برزخ دون الجهالة والغواية، قال تعالى[وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ]( ).
الثاني: إنه وقاية من غشاوة الضلالة، قال تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ]( )، وفي الآية أعلاه دلالة على أن التقوى شاهد على توظيف العقل في معرفة الواجبات، والخشية من الله عز وجل.
الثالث: إنه مانع من الإنشغال بزينة الدنيا.
الرابع: إنه سبب وموضوع لعدم إتخاذ أيام الدنيا موضوعاً للهو واللعب والتفريط.
الخامس: تنمية ملكة التقوى لتكون حرزاً من الربا وفعل السيئات الأخرى.
السادس: إنه باب لنيل الثواب العظيم في الآخرة، قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
لقد أراد الله عز وجل للدنيا أن تكون(دار الحجة)ففي كل فرد منها الثابت والمتجدد والمنقضي والحال والمستقبل برهان وحجة على وجوب عبادة الله والإمتناع عما نهى عنه، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
فإن قلت جاءت آية(الآفاق) بإرادة صيغة المستقبل القريب(سنريهم)، ولا تدل على إرادة المنقضي والفائت من الآيات.
والجواب من وجوه:
الأول: مضامين آيات القرآن تشمل تلك الآيات، وهي مع إنقضائها فإن أثرها باق ومتجدد في النفوس، إذ يتخذها الناس درساً وموعظة وضياء في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثاني: عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ففي آيات القرآن بيان ودلالة على المعجزات، والإشارة إلى الفائت والحاضر والقادم منها.
الثالث: إن قوله تعالى(سنريهم) شاهد على تقريب الآيات والمعجزات للناس لتكون حجة ووسيلة لجذبهم للإيمان وسبل الفلاح، والظفر بالمراد، قال تعالى[مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ]( ).
وتلك القصص على أقسام متعددة فمنها ما يتعلق بالأنبياء وأسباب سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ومنها ما يتعلق بالكفار ولحوق الأذى بهم.
ويمكن تقسيم آيات الآفاق والأنفس تقسيمات أخرى بحسب اللحاظ والموضوع، منها:
الأول: الآيات الدفعية التي تأتي جملة ومرة واحدة.
الثاني: الآيات التي تكون بالتدريج.
الثالث: الآيات التي تأتي على سبيل المرة الواحدة.
الرابع: الآيات المتكررة.
ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل إعانته الناس بالآيات وتجليها لهم في الآفاق , وظهور أثرها في النفوس لتكون على وجوه:
الأول: إنها وسيلة للهداية والصلاح.
الثاني: إنها حاجب دون الفساد في الأرض، وسفك الدماء.
الثالث: إنها من اللطف الإلهي في وقاية المسلمين من أسباب الظلم والجور، لأن تلك الآيات تلح على الإنسان بلزوم طاعة الله، والكف عن المؤمنين، وإجتناب إيذائهم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
ومن مصاديق هذه اللعنة في الدنيا نزول البلاء بهم، وجعلهم عاجزين عن مواصلة الضرر والإضرار بالإسلام والمسلمين، وفيه آية من التخفيف عن المسلمين وحجة وترغيب لهم للعمل بمضامين الأوامر وإجتناب الربا الذي نهى الله عز وجل عنه.
وكل آية سواء في السموات أو في الأرض أو في النفوس أمور:
الأول: إنها سبيل للهداية.
الثاني: إنها باعث وموضوع لتقريب الناس من منازل الفلاح، قال تعالى[وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ]( ).
الثالث: إنها بلغة نحو الغبطة والسرور الدائم يوم القيامة.
قانون”الخطاب التشريفي بشارة الإمتثال’’
من إعجاز اللفظ القرآني وجوه:
الأول: تعدد المعاني، وعدم إنحصارها بالحقيقة وفرد مخصوص من المجاز.
الثاني: تعدد الدلالات للفظ القرآني بأعم مما يكون في الواقع.
الثالث: تجدد معاني أخرى للفظ القرآني مع تقادم الأيام وتداخل البلدان، وكثرة الوقائع والأحداث.
وهو من مصاديق إحاطة القرآن باللامتناهي من الوقائع والحداث، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيوضات العلم التي تترشح على المسلمين ببعثته[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، ويتحقق النهي عن الربا بلحاظ الآية أعلاه، من وجوه:
الأول: إنه من آيات القرآن.
الثاني: من الزكاة في المقام طاعة الله والأخلاص له سبحانه، ومنها الإمتناع عن الربا والظلم.
الثالث: من أبهى معاني الطاعة الإمتناع عن الربا.
الرابع: ومن الحكمة التقيد بأحكام حلال وحرام القرآن، ومنه حرمة الربا.
الخامس: من معاني التزكية(أن الله يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت عن الأصم) ( ).
وفيه بشارة للمسلمين بالثواب العظيم على الإمتناع عن الربا، وتتجلى البشارة بالثواب العظيم في آية البحث من أول كلماتها، ولغة النداء والخطاب المتجدد لهم في كل زمان، إذ جاء بصيغ العز والفخر.
فان قلت أين هو العز في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الجواب قد ضمن الله عز وجل العز للمسلمين بالشهادة لهم بالإيمان وبقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وتأتي هذه العزة بالصلاح وطاعة الله، وإجتناب المعاصي ليكون إمتناع المسلم عن أكل الربا لبنة مضيئة في صرح العز والمجد للمسلمين الذي يصعد في السماء، وتراه الأمم والشعوب في كل زمان ومكان، وفيه حجة على الناس، ودعوة لهم للإسلام، والفوز بتلقي خطاب التشريف أعلاه الذي يتدلى من السماء ويدخل كل بيت يتمسك أهله بأغصانه ومنها غصن حرمة الربا والفوز بالبشارة التي في ثنايا ومفهوم قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بالذات والموضوع، الذي يحتمل في الآية وجوهاً:
الأول: يأتي الإكرام بوصف المسلمين بصفة الإيمان والشهادة لهم ببلوغ هذه المرتبة من غير دخل لموضوع حرمة الربا.
الثاني: بعث المسلمين لإجتناب الربا لأنه من مصاديق الإيمان ومفاهيم الحق، قال تعالى في الثناء على المسلمين[وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ]( ).
الثالث: مخاطبة المسلمين بصفة الإيمان في آية النهي عن الربا دليل على إمتثالهم لمضامين الآية وطاعتهم لله بالتنزه عن الربا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من إعجاز الآية، إذ أنها تتضمن الشهادة السماوية بأمور:
الأول:إمتناع أجيال المسلمين عن الربا.
الثاني: بقاء أسواق المسلمين سالمة من آفة الربا.
الثالث: تحدي أهل الملل الأخرى بصدق إيمان المسلمين، وأنه قول وفعل.
الرابع: ثناء الله عز وجل على كل جيل من المسلمين بأنهم يتعاهدون إيمانهم بعدم أكل الربا، ويرد عليه إشكال من جهتين:
الأولى: إنما جاءت الآية لبعث المسلمين على إجتناب الربا وليس الشهادة لهم بالإمتثال.
الثانية: القدر المتيقن من الخطاب التشريفي مناداة المسلمين بصفة الإيمان.
والجواب على الأولى أن مضامين آيات القرآن من علم الله عز وجل فهو سبحانه يعلم ما وقع وما سيقع قال تعالى[وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ] ( ).
ومثلاًَ جاء ذم أبي لهب في القرآن قال تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( )، ومع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان شديد العداء له، يجاهر بتكذيبه، ويصر على ايذائه.
وعن طارق المحاربي قال(إني بسوق ذي المجاز إذ أنا بإنسان يقول : ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت : من هذا ؟ فقالوا : محمد زعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب) ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه بقاء ذم أبي لهب إلى يوم القيامة لتلاوة سورة تبت التي جاءت خاصة به وبزوجه التي.
(كانت تبث و تنشر الشوك على طريق الرسول , فيطأه كما يطأ أحدكم الحرير) ( ).
وتدل الآية على أن الله عز وجل يعلم أنهما يموتان على الكفر والإصرار على إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله بالخروج من مكة والهجرة إلى المدينة ليشمل خطاب(ياأيها الذين آمنوا) المهاجرين والأنصار.
ومن علم الله عز وجل عند نزول الآية أن المسلمين يتلقونها بصفة الإيمان التي تعني الإعتقاد بالجنان والتصديق بالقلب، والتسليم بالجوارح والأركان.
وأما الثانية فمن إعجاز اللفظ القرآني عدم وقوفه عند معنى مخصوص ظاهر منه، بل يشمل الدلائل التي يدل عليها اللفظ، وأثره وما يترشح عنه، فقد شهدت الآية بأن المسلمين هم المؤمنون.
وجاءت آيات كثيرة في الثناء على المسلمين على نحو التعيين لحسن سمتهم وطاعتهم لله، ومبادرتهم لما يأمرهم به، وإجتنابهم لما ينهاهم عنه.
ولا تنحصر صفة الإيمان وأثرها على المسلمين بموضوع ترك الربا، بل تشمل البعث لأداء الفرائض والواجبات، فكل أداء لفرض من الصلاة اليومية حصانة من الربا، وكل إمتناع عن الربا أكلاً أو تأكيلاً أو شهادة على العقد بعث للسكينة في النفوس، ورغبة متجددة في أداء الصلاة.
قانون”الآيات الحسية للنبي (ص)
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا زاخرة بالآيات التي تدل على قدرته المطلقة، وربوبيته لعامة الخلائق، وتفوق تلك الآيات كماً وكيفاً التصور الذهني للإنسان، ومداركه العقلية، فمع أن العقل رسول باطني جعله الله عند الإنسان ليدرك به لزوم عبادة الله، فان هذا العقل يعجز أحياناً عن الإحاطة بالآيات القريبة منه والتي تلامس الحواس وتكون قريبة منها سواء إبتعدت الأخيرة عنها أو لا.
فكلما إنشغل الإنسان بلذات وزينة الدنيا، وأعرض عن وظيفة التدبر في الآيات الكونية والتنزيلية فانها تدنو منه، وتذكره بلزوم إستحضارها في الوجود الذهني، وإتخاذها وسيلة وسبباً للهداية والرشاد.
وكانت معجزات الأنبياء السابقين حسية، فمعجزة نوح عليه السلام السفينة أيام الطوفان، ومعجزة صالح عليه السلام الناقة وبأمر خارق في خلقها من غير أن تكون في رحم ومع كثرة سقيها وحلبها، فكان شرب الماء يوماً لها، ويوماً لدواب وأبل القوم، قال تعالى[لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُوم]( ).
ومن الإعجاز في آيات(الناقة) أن نبي الله صالحاً عليه السلام يخبر قومه بأن هذه ناقة الله، وينسبها له سبحانه [هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ]( ).
ولم يأتوا بما يفيد السخرية والإستهزاء، بل تلقوا الأمر بالقبول وفهموا أن المراد هو معجزة الله في تعضيد ونصر نبيه صالح.
مما يدل على أنهم على درجة من الفقاهة وينزهون مقام الإلوهية عن التشبيه، لأن الآية أخبرت بأن الأرض كلها لله عز وجل، مما يفيد بالدلالة الإلتزامية أن الناقة ملك له سبحانه.
ومعجزة موسى عليه السلام العصا لأن الزمان كان زمان غلبة السحر، ووجود طاغوت في الأرض هو فرعون، فجاءت العصا آية مركبة متعددة المنافع الإعجازية، وتتجلى فيها معاني التحدي وإفحام الظالمين.
وظهرت معالم الطب في زمن عيسى عليه السلام فجاء بمعجزات تبهر الناس وبما فيه نفعهم ودفع المفسدة والأمراض بالمعجزة، وفي التنزيل حكاية عنه [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى] ( ).
وفي أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كان العرب على درجة عالية من الفصاحة والبلاغة، ويقوم الركبان بتناقل القصائد الشعرية، ويحفظ العرب منها الكثير، وتقرأ في منتدياتهم، ويتخذونها شاهداً.
وتأتي قصيدة مدح لترفع منزلة فرد أو قبيلة، وتأتي قصيدة ذم لتكون سبباً للحوق العار بمن تذكره بسوء، مما يدل على أن العرب يومئذ لم يكونوا في جهالة وغفلة، بل كانوا بمرتبة من المعرفة، ورقي في الحضارة بلحاظ أن العناية بالأدب وتمييز الغث من السمين منه أمر يحتاج إلى رأي وذوق , وإدراك لمفاهيم التشبيه والأمثلة, والتدبر في القصيدة بلاغة ووزناً , وما فيها من التصريح وعذوبة الكناية والتلميح.
وكانت مجالسهم عامرة بأحاديث التأريخ وأخبار الوقائع والسياسة والأدب، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية التي تقهر الفصحاء، وتجعل البلغاء عاجزين مبهورين.
ومن المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكثير الطعام الذي بين يديه حتى يكفي الجماعة الكثيرة، ونبع الماء من بين أصابعه، وسلام الحجر عليه، وتسبيح الحصا، وسماع الناس لحنين الجذع قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب إلى خشبة كانت في المسجد فلما صنع المنبر فصعده رسول الله صلى الله عليه و سلم حنت الخشبة فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاحتضنها فسكنت) ( )، ومنها نسج العنكبوت على فم الغار عند هجرته من مكة إلى المدينة، والآيات الحسية في الحضر والسفر، وفي سوح المعارك التي تكون مقدمة أو أمارة على النصر على الكفار.
وفي واقعة الخندق وعندما واجهت الصحابة أثناء الحفر صخرة، فتولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضربها، فتفتت في ثلاث ضربات، وقال عند الضربة الأولى(الله أكبر . أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية ، فقطع ثلثاً آخر فقال : الله أكبر . أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصور المدائن البيض ، ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله . فقطع بقية الحجر وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء)( ).
ليكون كلامه هذا من آيات الله من وجوه:
الأول: إنه من الوحي.
الثاني: فيه بعث للسكينة في نفوس الصحابة في ساعة شدة وحرج والعدو يحيط بهم.
الثالث: بعث العلماء للتحقيق وإستنباط المسائل من وجوه الصلة بين أمور:
الأول: الحصار الشديد من العدو، والبشارة بالنصر على الدول العظمى.
الثاني: تفتت الصخرة وقبض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمفاتيه الشام وفارس.
الثالث: رؤية النبي لمعالم تلك البلدان من خلال الصخرة.
ومن الآيات أن الصحابة الذين حضروا الخندق أمد الله في أعمار كثير منهم إلى أن رأوا فتح المسلمين لبلاد الشام وفارس ومنهم من شارك بهذا الفتح، وكانت روايته للحديث للغزاة والمجاهدين مدداً وعوناً لهم.
وحينما وقعت أحد وكان المشركون أكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين، همّ فريق من المسلمين بالإنسحاب، قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، لتتجلى معاني الولاية في معركة الخندق على وجوه كثيرة منها:
الأول: بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفتح الأمصار له.
الثاني: هزيمة الدول العظمى أمامه.
الثالث: ثبات المسلمين، وتحليهم بالصبر في مجاهدة العدو.
الرابع: جعل المسلمين يستعدون للغنائم الكثيرة التي تأتي من بلاد الروم وفارس بالتقوى والإمتناع عن الربا.
الخامس: إنه من عمومات إنتفاء الخوف والفزع عن المسلمين في الدنيا، ومقدمة وبشارة الأمن في الآخرة بفضل من الله، وفي التنزيل[فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا]( ).
السادس: إصابة الكفار بالخيبة واليأس لما يرونه من مرابطة المسلمين في مواقعهم وثقتهم في تحقيق النصر، وليس العزم على ملاقاة الحتوف، فهذا العزم وإن كان مرتكزاً وثابتاً عندهم، إلا أن البشرى التي نطق بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساعة العسرة والشدة جعلتهم يتطلعون إلى النصر والظفر على الأعداء القريب منهم والبعيد، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا]( ).
وذكر في أسباب الآية أعلاه (عن السدي لما ارتحل أبو سفيان و المشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة قالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به)( ).
ولكن الآية أعم لاسيما بلحاظ ما ذكرته من علة قذف الخوف والفزع في قلوب المشركين وهو الشرك بالله، وقولهم بالند والشريك مع ظهور الحجة ودلائل الوحدانية للناس جميعاً، ومنها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية أعلاه مسائل:
الأولى: إلقاء الرعب في قلوب الكفار من تعدد أفراد نصر المسلمين.
الثانية: ثبات المسلمين في منازل الإيمان، وخروجهم للقتال من أسباب بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين.
الثالثة: إبتلاء المشركين بالخوف المقرون باليأس والعجز عن تحقيق أي مكسب في معركة الخندق.
وليكون فتح الشام آية أخرى ومصداقاً عملياً، وكذا بالنسبة لملك كسرى والروم.
لقد كان المسلمون يوم الخندق في حال حصار يحيط بهم عشرة آلاف من جيوش الكفر والبغي، وهم يحتمون بأخدود في الأرض صغير.
ومع هذا يخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن بشارات لم تخطر على بال أحد من المسلمين والكفار فتلقاها المسلمون بالقبول والرضا، وكانت بشارة ساهمت في تثبيت أقدامهم في ميدان المعركة، وتحليهم بالصبر في مرضاة الله إلى جانب المدد الملكوتي لهم , مما جعل الكفار ينسحبون خائبين، قال تعالى[وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ]( ).
وتجلى المصداق الحاضر في مجيء الأحزاب سبباً وعوناً للمسلمين في تلقي بشارة فتح خزائن قيصر وكسرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك البشارة ومواساة لهم في تحمل العناء والمرابطة وتعطل الأعمال والزراعات أيام حصار الخندق.
قال ابن هشام(فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقام عليه المشركون بضعاً وعشرين ليلة، قريباً من الشهر لم تكن بينهم حرب إلا الرمياً بالنبل والحصار) ( ).
وكانت قريش تسأل معجزات حسية مخصوصة منها:
الأول: تسيير الجبال.
الثاني: تقطيع الأرض.
الثالث: تسخير الريح.
الرابع: تكليم موتى مخصوصين.
الخامس: جعل جبل الصفا ذهباً.
وفي أسباب نزول قوله تعالى[وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا]( )، ورد عن ابن عباس (نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أُمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أُمية : إن تشرك نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تُفتح. فإنها ضيّقة، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أُمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا. فقد كان سليمان سخرت له الريح، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود. وأحيي لنا جدك أيضاً ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل؟
فإنّ عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى[ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ])( ).
أي أن الآيات التي يريدون إنما هي تعود لله وهو الحكيم المالك لما في الأرض، ولا يقدر عليها غيره، وفيه دعوة للكفار لدخول الإسلام
والتوجه إلى الله بالدعاء وسؤال الحوائج، وحث لهم على ترك الشرك والضلالة.
ولو جعل الله جبل الصفا ذهباً لتناثر الذهب وتقاسموه وتبدد , ولم يبق منه إلا الذكر المقرون بجدال وإنكار أهل الشك والريب الذي يزداد مع تقادم الأيام.
ولكن تفضل الله عز وجل وجعل الصفا ذهباً كل عام، وثروة لا تنضب، تتجدد في موسم الحج ووفود الملايين لأداء مناسك الحج، وزحفهم للبيت الحرام طيلة أيام السنة لأداء العمرة.
وينتفع أهل مكة أيام الموسم بما لم ينتفع مثلهم أحد من أهل الأرض، إلى جانب إنفرادهم بأمور:
الأول: عدم الخشية من إنقطاع الزوار، فالمسلمون يأتون من كل صوب بشغف ولهفة.
الثاني: إتصاف الذين يأتون إلى البيت الحرام بالسعة في الرزق، وعدم التسكع، لأن الله عز وجل قيد الحج بالإستطاعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
الثالث:إزدياد وفد الحاج، والكسب لأهل مكة عاماً بعد عام، خصوصاً مع سرعة المواصلات، وتقارب البلدان، وكثرة الأموال والعروض والعملات الورقية.
فبينما كانت قريش تسافر لجلب البضائع من الشام واليمن كما في قوله تعالى بخصوص قريش[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، صارت مكة مركزاً للتبادل التجاري.
وستأتي أعوام على مكة يكون فيها موسم الحج مناسبة لإقامة أكبر وأعظم المعارض التجارية في العالم في أطرافها من غير أن يتعارض مع أداء المناسك.
إن تحويل جبل الصفا إلى ذهب أمر مباين للتكاليف , لما له من الوظائف والموضوعية في مناسك العبادة، لذا ورد قوله تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( ).
ولم تقل الآية أعلاه إن السعي بين الصفا والمروة، بل ذكرت الصفا والمروة على نحو التعيين، وحمل المعنى على إرادة اللازم وقصد ذات السعي تؤكده السنة النبوية .
ومع هذا فإن ظاهر الآية يدل على موضوعية جبل الصفا وجبل المروة بالذات، فلا يكون ذهباً تنهبه الناس ويتقاتلون عليه.
ثم أن الذهب متاع زائل، ولا ينفع الكفار في الحياة الآخرة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ] ( )، بينما يكون الإيمان على وجوه:
الأول: إنه سبب للرزق وإكتناز الذهب والفضة.
الثاني: إقترانه بإخراج الزكاة ونيل الثواب العظيم عليه.
الثالث: الإيمان واقية من العذاب يوم القيامة، وسبيل للنجاة في النشأتين.
الرابع: التوجه إلى الله عز وجل بالشكر على نعمة الهداية , قال تعالى[بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
وجاءت معجزة القرآن العقلية لجذب الناس لمسالك النجاة في الآخرة، وعدم اللهث وراء زينة الدنيا.
ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين تداخل المعجزات العقلية والحسية، وإنعكاس أثر بعضها على موضوع بعضها الآخر، فحرمة الربا معجزة عقلية من وجوه:
الأول: جاءت الحرمة بالتنزيل والوحي.
الثاني: الإطلاق في حرمة الربا، وعدم إستثناء حال مخصوصة كالضرورة.
الثالث: تعدد الآيات التي تدل على حرمة الربا بالذات( ).
الرابع: مجيء آية البحث بلزوم التنزه عن الربا وان كانت فيه مضاعفة رأس المال أضعافاً كثيرة.
الخامس: تقييد عمل أرباب الأموال بضابطة شرعية، وحرمة الربا معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدل على صدق نبوته من وجوه:
الأول: نزول آيات تحريم الربا في زمان يقاتل فيه المسلمون لتثبيت مبادئ الإسلام، فليس من دين غير الإسلام إقترن فيه نزول الأحكام الشرعية بتثبيت مبادئ وسنن التوحيد، وفي زمان يهجم فيه المشركون على المؤمنين، وليس للنبي وأنصاره إلا بلدة واحدة هي المدينة المنورة، فلا غرابة أن يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر(اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد) ( ).
الثاني: شمول أحكام الشريعة الإسلامية لميادين التجارة والمكاسب.
الثالث: دعوة عامة الناس للتفقه في الدين، فليس من أحد إلا ويحتاج المعاملة ويجري العقود.
الرابع:إستدامة حكم ثبوت حرمة الربا في الأرض، وحسن إمتثال المسلمين له، وإمتناعهم عن أكل الربا.
الخامس: سلامة آيات الربا من طرو التحريف عليها، وهي آية حسية وعقلية في آن واحد.
بحث أخلاقي
في الجمع بين مضامين هذه الآية وبعث المسلمين على تجرع الغيظ وعدم الإنتقام ممن يسبب في إيذائهم بما تقدم من قوله تعالى[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]( )، يتجلى تأديب المسلمين وإصلاحهم للثبات في منازل الإيمان، وجعلهم أئمة يدعون الناس إلى الإسلام.
لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته، فتفضل وجعل عمل المسلم مناراً لهداية للناس، وسبباً في تذكيرهم بلزوم عبادة الله، بالتحلي بكظم الغيظ عند الأذى طاعة لله عز وجل، فيدرك الناس جميعاً أن المسلمين يتجرعون الغيظ، ويستولون على النفس الغضبية، ويقهرون الحدة طلباًَ لمرضاة الله، وطمعاً بما عنده من الجنة .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما سمي المتقون، لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس( ).
إن عدم لجم جماح النفس عند الغيظ والغضب قد يؤدي بالإنسان إلى الظلم والإضرار بالنفس والغير، فجاءت آية السياق لتنزيه المسلمين عنه، وجعلهم يعتنون بوظائفهم الشرعية، ويلتفتون إلى واجباتهم العبادية، ومنها الإبتعاد عن الربا، لأن هذا الإبتعاد أمر وجودي يستلزم النية والقصد والعزم، ونهج يتطلب اليقظة والحيطة والحذر، ويستلزم العفة ، وهي أمور يستحضرها المسلم عند كظم الغيظ أيضاً، وكل فرد منها يتضمن منع النفس عن الخصال المذمومة كالشهوة والغضب.
وجاء كظم الغيظ في بيان صفة من صفات المتقين في الآية من سورة آل عمران الذين أعد الله لهم الجنة، وتحتمل النسبة بينه وبين الإيمان وجوهاً:
الأول: التساوي، وان كظم الغيظ هو الإيمان.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وإن كظم الغيظ فرع الإيمان.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، وان هناك مادة للإلتقاء، ومادة للإفتراق بين الإيمان وكظم الغيظ.
الرابع: التباين الموضوعي بين الإيمان وكظم الغيظ.
والصحيح هو الثاني، فان تجرع الأذى في جنب الله ورجاء الثواب من الإيمان.
وصحيح أن آية السياق جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تندب إلى كظم الغيظ، وترغب المسلمين به بجعله من مصاديق التقوى، والسبل الكريمة المؤدية إلى دخول الجنة، وفيه دلالة على أمور:
الأول: العموم في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني ربي فأحسن تأديبي( ).
الثاني: توكيد الإعجاز في مدرسة القرآن التأديبية، فالأنبياء سادة الأمم، وأصحاب السمو في الأخلاق.
الثالث: حضور سنن القرآن في المعاملات والإختلاط بين الناس.
ويدل الحديث أعلاه على أن قواعد التأديب الإلهية أمر خارق للعادة، وفيه بلوغ مراتب الكمال، فلا تنحصر مضامين الحديث أعلاه بمنافع وآثار التأديب الحميدة بل تشمل كيفية التأديب وماهيته وموضوعه.
ومن التأديب الإلهي للمسلمين الإخبار عن تهيئة الجنة للمتقين وبيان صفاتهم، وهذا البيان مدرسة في التأديب لم ولن يشهد تأريخ الإنسانية لها مثيلاً، وفيه موعظة ومناسبة للتدبر في إعجاز القرآن، وكيف أن كل آية منه صفحة مشرقة في التأديب وبناء الأخلاق الحميدة في ذاتها، وبالإنضمام إلى غيرها من الآيات.
وليس من مدرسة في علم الإجتماع سوى القرآن تدعو إلى كظم الغيظ على نحو مستمر، ويمفرد المسلمون بالتقيد بهذه الدعوة، والوقائع التأريخية والوجدان تشهد عليه، ولو تنزلنا وقلنا بوجود تلك المدرسة، ووجود أتباع لها يتقيدون بسننها , وفي حال السراء والضراء , فإنها قصيرة الأجل , محدودة الأثر.
ولكن التأديب القرآني مطلق في سلطانه وعام في أثره، ومتجدد في أفراد الزمان الطولية، وكلما أستحدثت أمور في ميادين الإجتماع والأخلاق تجد القرآن الإمام والهادي فيها، والسبيل إلى النجاة في ظلماتها، فلا غرابة أن جعل الله عز وجل تلاوة المسلم لقوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، عدة مرات في اليوم الواحد على نحو الوجوب، وليكون مصداقاً متجدداً لتأديب المسلمين في اليوم والليلة.
وهل لصلاة الجماعة موضوعية في تأديب المسلمين، وجذبهم إلى منازل التقوى والإمتناع عن الربا ومطلق الذنوب.
الجواب نعم , لأن صلاح الجماعة عون للفرد منهم على الثبات على مناهج الصلاح.
ومن الإعجاز مجيء الآية أعلاه بصيغة الجمع، وفيه أمور:
الأول: إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين.
الثاني: إتخاذ صيغة الجمع مناسبة للهداية، وبلغة لمراتب من التقوى، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: مناجاة المسلمين لإجتناب صغائر الذنوب وكبائرها، قال ابن المعتز:
خل الذنــــــــــوب صغـــــــــــيرها
وكبيــــــــــــــرها ذاك التــــــــــــــــقى
وأصنع كمــــــــــــــــــــاش فوق أر
ض الشــــــــــــــــــــــــوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صـــــــــــــــــــــــــــــغيرة
إن الجبال من الحــــــــــــــــــــــــــصى( )
ومن تأديب الله للمسلمين تفقههم وإرتقاؤهم في سلم المعارف الإلهية بحيث يميزون بين الخير والشر، ويجتنبون الشهوات المرجوحة قولاً وعملاً، ويتنزهون عن الأضعاف المضاعفة من الأموال إذا كان طريق كسبها حراماً كالربا.
وهل هذا التنزه من التأديب الإلهي للمسلمين.
الجواب نعم، لما يستلزمه من ملكة العصمة من السعي جمع الأموال بالباطل، والنفرة من تلك الأموال، وإن كانت قريبة ومضمونة الكسب والتحصيل.
الثانية: يدل تعدد مفاهيم الصلاح في الآيتين على مصاحبة التكاليف وأحكام الشريعة لعمل المسلم وعدم الإنفكاك بينهما، فالأصل أن يكون مع النهي عن كسب الأموال بالربا الحفاظ على رأس المال، وتعاهد ما في اليد، ولكن آية السياق جاءت بالحث على الإنفاق، والإخبار بأنه طريق الإقامة الدائمة في الجنة.
ولولا هذه الآية لقال بعضهم بحصر الإنفاق في حال السراء وحده، وإستدل بأمور منها أن الزكاة لا تكون إلا في نصاب معلوم بأعيان مخصوصة من النقدين والأنعام والغلات الأربعة وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ولا تجب الزكاة في غيرها وإن أستحب إخراجها من كل ما تنبت الأرض مما يكال أو يوزن من الحبوب( ).
وربما إستدل بقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وقاعدة نفي الحرج في الدين، وقاعدة كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر وغيرها، ولكن آية السياق جاءت بالإطلاق في الإنفاق، وأن حال الضراء والعسر وقلة المال والخوف من الحاجة والفاقة بعرض واحد مع السراء.
نعم جاءت آيات أخرى بالبيان والتفصيل، كما في قوله تعالى[وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] ( ).
ومن إعجاز نظم وسياق الآيات أن البعث على الإنفاق في كل الأحوال جاء بعد النهي القاطع عن مضاعفة المال بالربا، وتوكيد حرمة الربا وفيه شاهد بأن الله عز وجل يعلم أن المسلمين قادرون على الإمتثال للأمرين معاً، العصمة من الربا، والقيام بالإنفاق في آن واحد.
ويمكن إستقراء البشارة في أمور ثلاثة مجتمعة وهي:
الأول: النهي عن الربا.
الثاني: الأمر بالإنفاق.
الثالث: حال المسلمين أيام نزول الآيات، وما كانوا عليه من الضيق وقلة المال، وقتال الكفار لهم.
وتلك البشارة مطلقة تتعلق بالحياة الدنيا والآخرة، وهذا الإطلاق من فضل الله على المسلمين والناس جميعاً، فهو سبحانه يعطي بالأتم والأوفى، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
ومن الإعجاز في الأوامر والنواهي القرآنية بعث المسلم على العمل بها بشوق ورغبة مع ما فيها من الكلفة والعناء وعدم وجود إحتجاج من طائفة وفرقة من المسلمين عليها.
ولم يرجع نفر من المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسؤال التخفيف والإستثناء بخصوص إجتناب الربا، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وقيل في الفلسفة(ما من عام إلا وقد خص) ولكن هذه القاعدة تنعدم في موارد من القرآن إذا كان الحكم عاماً، ومنها حرمة الربا مطلقاً حتى في حال الحاجة والضرورة، ولو ظهرت أمارات ربحية لطرفي المعاملة الربوية بوجود عمل يسخر به المقترض المال الربوي، ويعود عليه بأرباح كثيرة وسريعة، تكون أضعاف الزيادة الربوية فهل تصح المعاملة الربوية، الجواب لا، لأمور:
الأول:ليس المدار على مقدار الربح في التجارة والصناعة، بل أصل المعاملة فاسد.
الثاني: من الإعجاز أن النهي في آية البحث جاء لصاحب المال بأن لا يقبض الزيادة الربوية ولا يأكلها، وهي ليست له.
نعم جاءت آيات أخرى بتعلق الحرمة بالربا مطلقاً، ولا تكون من المطلق والمقيد بخصوص جهة الخطاب، بل المراد نهي المسلمين عن إجراء العقد الربوي وكتابته والشهادة عليه.
الثالث: لقد جعل الله سبحانه الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ومنه الربا معاملة وإمتناعاً، إذ أن إمضاء المعاملة الربوية معصية، وفيه أضرار خاصة وعامة، والإمتناع عنها طريق للسعادة الأبدية.
الرابع:الرزق كماً وكيفاً بيد الله، وليس كل ما يظنه الإنسان من الكسب يحصل واقعاً، أو ما يأتي من الربح من الكسب الحلال يتصف بالبركة والنماء والكثرة، قال تعالى[اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( ).
وجاء نهي المسلمين عن الربا بعد أن كانوا فقراء مستضعفين ليصبحوا أئمة وولاة وحكاماً وأصحاب أموال وتجارات.
ولا تنحصر موارد توظيف الأموال، وأسباب المكاسب، بحصول النفع لأصحابها على نحو الحصر، بل يشمل أفراداً وجهات عديدة.
وقد يحصل في الربا غيظ وغضاضة، وخصومة وتعد لإمتناع المقترض عن دفع الزيادة الربوية أو تعذر دفعه له، أو تأخره في الدفع عند حلول الأجل، أو أنه يراها كثيرة وشاقة.
فجاء النهي عن الربا لسلامة المسلمين من الغيظ، وإعتنائهم بقهره ودفعه فيما يواجههم من الأذى في مرضاة الله، وما يصدر من أعداء الإسلام وأهل الشك والريب من المكر والكيد.
الثالثة: في قوله تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ] ( ) أمور:
الأول: إنه دعوة لمنع إستيلاء الغضب على النفس.
الثاني: فيه زجر عن الهم بالبطش.
الثالث: إنه واقية من الإنتقام، لأن الغيظ أثر ورد فعل لفعل سيئ وقبيح من الطرف الآخر .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(مامن جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله) ( ).
وفيه دلالة على ترتب الثواب على قصد القربة في الحلم وكظم الغيظ وعدم رد الأذى.
فجاءت الآية الكريمة للحث على الصبر والتأني، والتحلي بالحلم.
وتتجلى معاني الحث الدعوة إلى الصبر في المقام بأمور:
الأول: ذات الآية والتذكير بكظم الغيظ.
الثاني: توكيد الحسن الذاتي لكظم الغيظ.
الثالث: دلالة الشواهد والوجدان على ما يترشح من المنافع من كظم الغيظ.
الرابع: ذكر الكاظمين للغيظ كصفة للمتقين الذين يطيعون الله عز وجل في الأوامر والنواهي باعث للصبر في الإمتثال، وتحمل الأذى في مرضاة الله والإستعانة بسلاح التوكل، قال تعالى[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
الخامس: توكيد آية السياق بأن كظم الغيظ سبيل إلى دخول الجنة.
ومن الإعجاز أن الآية أخبرت عن حتمية وجود المؤمنين الذين يكظمون الغيظ لأن الله عز وجل خلق الجنة من أجلهم، والله عز وجل منزه عن العبث، فلا يمكن القول بانعدام وجودهم بين الناس.
وتحتمل الصلة بين كظم الغيظ والإمتناع عن الربا وجوهاً:
الأول: كظم الغيظ مقدمة للإمتناع عن الربا لما فيه من الصبر والتدبر، وإمامة العقل للجوارح(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِى أَيِّ الْحُورِ شَاءَ)( ).
الثاني: الإمتناع عن الربا طريق لكظم الغيظ، لأن هذا الإمتناع دليل على الحكمة، وعدم اللهث وراء الشهوة المرجوحة والطمع.
الثالث: تبادل الأثر والنفع، وكل فرد منهما عون للآخر.
الرابع: كل فرد منهما من مصاديق التقوى والصلاح.
الخامس: لا ملازمة أو صلة بين الأمرين، إذ أن الربا مفاعلة بين طرفين تتعلق بالمال والمكاسب.
أما كظم الغيظ فهو حالة نفسانية، ومنع للنفس الغضبية من الإستيلاء على اللسان والجوارح.
وباستثناء الوجه الخامس أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة.
وفيه آية ومعجزة في نظم آيات القرآن، وإشتراكها في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وهناك مسألتان:
الأولى: إذا كان المتقون كاظمين للغيظ فهل يغيظون غيرهم.
الثانية: ما هي جهة وأسباب الغيظ، وهل هي من المسلمين أنفسهم أم من غيرهم، أم منهما معاً.
أما الأولى فالمسلمون لا يغيظون غيرهم بدليل وصفهم بالمتقين والعافين عن الناس مطلقاً، فان قلت إن الدعوة للإسلام تغيظ الكفار، والجواب هذا الغيظ بسبب سوء إختيار الكفار، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
وفي إغاظة الكفار ثواب وأجر للمسلمين.
الرابعة: أختتمت آية البحث بالرجاء ورجحان بلوغ مراتب الفلاح والبقاء إن تقيد المسلمون بأمرين:
الأول: إجتناب الربا.
الثاني: تقوى وطاعة الله .
وفيه دلالة على حرمان الكفار أنفسهم من بلوغ مراتب الفلاح والبقاء من جهات:
الأولى: مجئ الآية بالخطاب للمسلمين بصفة الإيمان.
الثانية: لزوم طاعة الله عز وجل.
الثالثة: ذكر إجتناب الربا من باب المثال الأمثل لبلوغ الفلاح.
الرابعة: جاءت آيات القرآن بحرمان الكفار من منازل الفلاح بما كسبت أيديهم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ]( ).
الخامسة: مع إيمان المسلمين وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم لا يصلون إلى مراتب الفلاح إلا بالتقوى وطاعة الله والإبتعاد عن معاصيه، وهناك مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل هو الرؤوف الرحيم، فلماذا لا يكون الإسلام كافياً لبلوغ مراتب الفلاح، وهو سبحانه القائل[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الثانية: هل في إجتماع شرائط التقوى والإمتناع عن الربا تشديد على المسلمين.
الثالثة: هل هذه القيود والشرائط مانع من دخول الكفار الإسلام، لرغبتهم باختيار العافية، وعدم إجهاد النفس بالتكاليف.
أما الأولى أعلاه فان من رحمة الله عز وجل بالمسلمين فرض الواجبات العبادية عليهم، وإعانتهم عليها بالتوفيق والسعة في الوقت , والمندوحة في الأجل .
وتقوى الله ذاتها من الفلاح وكذا بالنسبة لإجتناب الربا.
والمراد من الإسلام في الآية أعلاه بشرطه وشرائطه وأحكامه وسننه التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، وهو المائز الذي تسمو به[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وأما الثانية فليس من تشديد لأن التكاليف رحمة بالمسلمين والناس، وبعضها عون للإمتثال للبعض الآخر، إلى جانب التداخل الموضوعي بينها، واللذة في الجمع بينها.
وأما الثالثة فان مصاديق وأسباب السعي لمراتب الفلاح لا يصدق عليها قيود، بل هي وظائف العبودية لله عز وجل.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلق وسبل المعيشة وإستدامة الحياة، وفرض عليهم فرائض تنفعهم في الدنيا والآخرة.
وهناك تباين عظيم بين منافع الدنيا والآخرة، لأن الأولى كالقطرة في البحر بالنسبة للثانية، وكله فضل من الله .
ومع هذا فان أداء الفرائض لا يعادل جزءً يسيراً من النعم الدنيوية، وهو باب لنمائها وزيادتها، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( )، وتحتمل النسبة بين دوام النعمة وزيادتها كما في الآية أعلاه وجوهاً:
الأول: التساوي وأن زيادة النعم هو دوامها بلحاظ أن كل فرد متجدد منها زيادة ونافلة.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وأن دوام النعم جزء من زيادتها.
الثالث: التباين، وعدم وجود صلة بين الأمرين، فدوام النعم أمر،وزيادتها أمر آخر.
والصحيح هو الثاني فان الدوام من الزيادة وهي أعم موضوعاً وأثراً، إذ أن إستدامة حياة الفرد نعمة وخير محض، وهي من الزيادة في النعم الإلهية على الإنسان.
وأداء الفرائض شكر فعلي وقولي فاز به المسلمون وهو باب لزيادة النعم بخصوص الأفراد والأرزاق والجماعات والأمة.
فيشكر المسلم الله عز وجل فتزداد النعم عليه وعلى المسلمين كأمة وأفراد، قال تعالى[وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).
وهل إجتناب الربا من الحكمة , الجواب نعم , لأمور:
الأول: مجيء النهي عن الربا من الله عز وجل، وهو سبحانه الحكيم الذي يعلم مصالح العباد، وما فيه الفساد.
الثاني: آيات القرآن كلها حكمة بالذات والأثر.
الثالث: التنزه عن الربا مرتبة من التفقه في الدين.
الرابع: الإبتعاد عن أكل الربا، والمناجاة بإجتنابه من مصاديق الحكمة والصلاح.
الخامس: يجتنب المسلم الربا طاعة لله عز وجل فتدوم النعم عليه وعلى المسلمين، ويكون هذا الإمتناع طريقاً إلى الجنة.
بحث كلامي
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التوفيق في الدنيا والآخرة، والتزين برداء العفو، ليكون ملازماً للإيمان، وسمة وشارة خاصة يُعرف بها المسلمون بين الناس، مثلما يعرفون بالتنزه عن الربا، وإجتناب أكل المال بالباطل، قال تعالى[وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( ) .
والآية أعلاه خطاب للمسلمين والمسلمات بما يفيد بناء صرح الأخلاق الحميدة وتوارثه عند المسلمين بلحاظ أن تنزه وإحتراز المسلم عن الإستحواذ على مال أخيه من معاني الأخوة الإيمانية.
ومن إعجاز الآية أعلاه الإجمال التفصيلي في المعنى إذ ذكرت أكل المال وقيدته بالباطل , وهو سور جامع تدخل تحته مصاديق عديدة لذا وردت فيه أقوال بيانية كلها من التفسير والتأويل، بما يفيد الزجر عن أكل مال المسلم بغير حق، ومنه المال الربوي.
وبين الآية أعلاه وآية البحث عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول:توجه الخطاب لعموم المسلمين.
الثاني:مجئ لفظ الأكل.
الثالث:تعلق موضوع الآيتين بالنهي عن الباطل.
الرابع:جاءت الآيتان بلفظ[وَلاَ تَأْكُلُوا].
وأما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول:إبتدأت آية البحث بالخطاب ياأيها الذين آمنوا، بينما جاءت الآية أعلاه معطوفة على آيات يخاطب بها المسلمون، إذ ورد قبلها بخمس آيات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( ).
الثاني: إختصاص آية البحث بعدم أكل مال الربا، وورد النهي في الآية أعلاه عن أكل الباطل وبينه وبين أكل الربا عموم وخصوص مطلق، فالربا جزء من الباطل.
الثالث: تقييد الآية أعلاه بلفظ(بينكم) أي بين المسلمين , بينما وردت حرمة أكل الربا مطلقة.
الرابع: جاء النهي عن أكل الربا بالذات أما الباطل فورد علة وموضوعاً لأكل المال، وجاءت(الباء) في(بالباطل) للإضافة.
الخامس: الإطلاق في النهي عن أكل الربا، بينما وردت حرمة أكل المال بالباطل بإضافة[وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ]( )، وأختلف النحويون في الواو على قولين:
الأول: الواو حرف يفيد الجمع.
الثاني: إفادة الجمع والترتيب .
وإستحدثت قسيمين جديدين لتكون أربعة , والقسيمان هما :
الثالث : التفصيل بأن تكون الواو تارة للجمع , وأخرى للجمع والترتيب معاً بحسب القرينة واللحاظ .
الرابع : تأتي الواو في القرآن بالمعنى الأعم الجامع للوجوه الثلاثة أعلاه في موضع واحد , وهو من إعجاز القرآن , وباب لإستقراء المسائل وإستنباط العلوم من اللفظ القرآني , وعدم الوقوف عند صناعة مخصوصة .
ولا يكتفي المسلمون بالأخلاق الحميدة بل يتجنبون الظلم بأنواعه، ومنه جمع الأموال بالمعاملات الفاسدة، بل إنهم يسعون في سبل الفلاح، ويبنون صرحاً من الحسنات إدخاراً ليوم القيامة، وإحترازاً من النار، ومن مصاديق التقوى تجليها على الجوارح، وظهورها على عالم الأفعال.
ومن معانيها إخلاص الطاعة لله، وأداء المناسك والعبادات بجلباب الخوف والخشية من الله من منازل الذل والخشوع لله عز وجل.
وهناك ملازمة بين الخشية من الله عز وجل وبين التقوى، بل هذه الخشية من أفراد التقوى وهي مادة وأصل في مضامين آية البحث والسياق من وجوه:
الأول: دخول الإسلام، والتصديق بنزول القرآن من عند الله، لذا فان إفتتاح آية البحث بخطاب الإكرام (ياأيها الذين آمنوا) إشارة إلى سعي المسلمين في سبل للتقوى في مراتبها المتعددة.
الثاني: جاء النهي عن أكل الربا للتضاد بينه وبين التقوى، ومما ثبت في الفلسفة عدم إجتماع المتضادين، فان قيل النقاش في الكبرى وهي كيفية إثبات التضاد في المقام.
والجواب، من أوليات قواعد التقوى طاعة الله وإجتناب الظلم، الظاهر منه والخفي.
وجاء النهي عن الربا في الآية الكريمة ليؤكد أن أكل الربا ظلم للنفس أيضاً مثلما هو ظلم للغير، ويحرص المتقون على التنزه عن الظلم جملة وتفصيلاً، فجاءت آية البحث رحمة بالذين آمنوا وإعانة لهم للإرتقاء في سلم التقوى.
الثالث: ليس من فاصلة بين النهي عن الربا والأمر بالتقوى الواردين في آية البحث وفيه مسائل:
الأولى: إنه من عطف العام على الخاص.
الثانية: بيان حقيقة وهي أن وظائف المسلمين لاتنتهي عنه إجتناب الربا، بل عليهم الخوف من الله، والإحتراز من العقاب الأخروي، قال تعالى[إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ] ( ).
وهل في قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] إنذار أم أنه نهي مجرد خال من لغة الإنذار.
والصحيح هو الأول فصيغة النهي تتضمن الإنذار من الإقتراب من الربا، لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وأن المنهي عنه فيه أضرار خاصة وعامة.
وهل من تعارض بين إجتماع التقوى والإنذار في ذات الآية والحكم، الجواب لا، فالإنذار سبيل للتقوى، والإحتراز من المفاسد والسيئات من صفات المتقين وهما ما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إجتمعا.
من مصاديق عموم الرحمة في الإنذار مجيؤه بالإنذار العام والخاص، العام للناس جميعاً، أما الخاص فهو متعدد بحسب الموضوع والحكم، ويكون الخاص على وجوه:
الأول: الإنذار للمسلمين، قال تعالى[إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ] ( ).
الثاني: الإنذار لأهل الكتاب، لما عندهم ،من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولزوم إظهارها وبيانها، وإعانة الناس لدخول الإسلام.
ويأتي الإنذار بصيغة الجملة الإنشائية والخيرية، وبلغة القصة والتذكير بما أصاب الأمم السالفة منهم، قال تعالى [يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] ( ).
الثالث: إنذار بني إسرائيل على نحو الخصوص، وتحذيرهم من تكذيب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الإنذار الذي يأتي بلحاظ الفعل المذموم، ومصاديق المعصية وأسباب الضلالة، ويأتي بيان سوء عاقبة الظالمين.
وهل جاء القرآن بالإنذار والتخويف للذين يأكلون الربا، الجواب نعم، وهو على أقسام:
الأول: الإنذار العام من أكل المال بالباطل.
الثاني: الإنذار من الربا على نحو التعيين، قال تعالى[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ] ( ).
الثالث: ذات النهي عن الربا إنذار وتخويف من جهات:
الأولى: ذات الربا وقبحه الذاتي.
الثانية: الأضرار الكثيرة المترشحة عن الربا.
الثالثة: لزوم التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( ).
ومن الآيات أن النهي عن الربا من العدل، ومن الإحسان فمع إفادة الآية أعلاه التباين الموضوعي بين العدل والإحسان لمجيء حرف العطف الواو بينهما الذي يدل على التعدد والتمايز بينهما، وللإختلاف الموضوعي في السنخية بينهما.
إن المصاديق العملية في عالم الأقوال والأفعال تجمع بينهما في ذات الفعل من غير تزاحم أو تعارض.
فمن العدل إجتناب ما في الربا من الظلم والتعدي، ومن الإحسان في الإمتناع عن الربا وجوه:
الأول: الإحسان للنفس والذات بعدم أكل ما حرّم الله، والتنزه عن الخبيث، وهذا الإحسان على شعبتين:
الأولى: في الدنيا بإختيار الحلال الطيب، وفيه كفاية وغنى، قال تعالى[إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثانية: الإحسان في الآخرة، بالأمن من العذاب الأليم الذي يحل بالذين أكلوا الربا.
الثاني: الإحسان للعيال والذرية بالتنزه عن أكل الحرام، قال تعالى[قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
الثالث: إحسان العبد لمن يصير معه طرفاً في المعاملة الربوية، فإذا إجتنب الإنسان الربا فإن آخرين يسلمون من الوقوع فيه وهم المؤكل والكاتب والشاهد والوكيل.
وورد في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، إن خشية القصاص تجعل الإنسان يتجنب القتل العمد فيكون قرب وتدلي حكم القصاص سلامة وحياة للمقتول والقاتل، لذا ورد في الآية(لعلكم تتقون القتل بالخوف من القصاص عن ابن عباس و الحسن و ابن زيد)( ).
ومع أنه قياس مع الفارق إلا أنه يمكن القول أن في إمتناع المسلم عن الربا سلامة من وقوعه وترتب العقاب عليه للأطراف المرشحة للعقد معه، سواء كان الممتنع صاحب المال أو المقترض أو غيرهما كما لو تعذر عليه الكاتب والشاهد على الربا، ومن العصمة إمتناع المعصية.
قانون(كلوا)
تضمنت آية البحث النهي عن أكل مخصوص وهو الربا، وأستعمل فيها الأكل مجازاً وكناية عن المعنى الأعم وشموله للأخذ والكسب.
وجاءت آيات قرآنية عديدة بالندب إلى الأكل من الطيبات والرزق الكريم، وهي على أقسام:
القسم الأول: توجه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات، ودعوتهم للأكل من الحلال، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
وفي الآية أعلاه مسائل:
الأولى: السعة والكثرة في رزق الله لإفادة حرف الجر في(من الطيبات) التبعيض.
الثانية: تفضيل المسلمين بإمكان التخيير بين الطيبات فعندما يدخل المسلم السوق أو يأتي أوان الأكل يختار في الشراء والأكل بين أنواع الطعام، وقد يشبع وهو لم يأت على أنواع الطعام التي على المائدة لذا جاءت الأوامر الإلهية بالشكر والثناء على الله.
الثالثة: في الآية بشارة المندوحة وزيادة الرزق الحلال للمسلمين، مما يدل في مفهومه على لزوم التعفف والعزوف عن الأضعاف المضاعفة التي تأتي من الربا.
الرابعة: قيام المسلمين بالإدخار والتوفير لأن الأكل يكون لجزء يسير من الطيبات التي رزقهم الله، لتأتي آية الربا لتحذير المسلمين من إستعمال الفائض والزائد من الأموال والرزق الكريم في الربا والمعاملات الباطلة.
وجاءت الآيات الأخرى بالحث على الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ).
فمن إعجاز القرآن أن تأتي آيتان، كل واحدة منها خطاب للمسلمين بصيغة المدح والثناء(يا أيها الذين آمنوا) وتتضمن واحدة الأمر بالأكل، والأخرى النهي عن الأكل، مع التباين والتضاد في المأكول، بما يكون الخير كله مع الأكل من الطيبات وإجتناب الخبائث والمحرمات.
القسم الثاني: مجيء الأمر بالأكل إلى الناس جميعاً، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا]( )، وفيه مسائل:
الأولى: بيان رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً.
الثانية: إن الله الذي خلق العباد لم يتركهم وشأنهم، بل تفضل بإدامة رزقهم وجعل أسبابه قريبة منهم، لإلتصاقهم بالأرض في كل آنات العمر، وإمكان زراعتها، والسعي والتجارة في أطرافها.
الثالثة: تقييد الأكل بأنه من الحلال لبيان لزوم الإباحة، وإنتفاء الحظر، وفيه تحذير من الربا لأنه من حق ومال الغير.
الرابعة: تقييد الأكل بأنه طيب إشارة إلى ما فيه من اللذة وإختيار الأنواع التي يرغبون بها.
الخامسة: في الآية حجة على الناس، وتوكيد عظيم قدرة الله عز وجل.
السادسة: إن الكفر والجحود ليس مانعاً من الرزق الحلال للناس، وليس سبباً لدفع الناس لأكل الحرام، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ]( ).
السابعة: فيه حجة على الناس في لزوم عبادة الله، والتنزه عن أكل الربا.
الثامنة: دعوة الناس لشكر الله عز وجل على النعم التي تفضل بها، وهي في الآية على وجوه:
الأول: توجه الخطاب الإلهي إلى الناس جميعاً.
الثاني: تلقي كل فرد من الناس مضامين الآية، وما فيها من البشارة.
الثالث: مجيء الأكل للناس في الآية بصيغة الأمر، مع أن هذا الأكل نفع محض لهم.
الرابع: التبعيض في الآية وأن الذي يأكله الناس ليس كل ما في الأرض بل بعضه وجزء منه، وهذا التبعيض من جهات:
الأولى: إرادة سنخية واحدة للمأكول وغير المأكول.
الثانية: ما يبقى من الطيبات أكثر مما يأكل لأن المستثنى أقل من المستثنى منه، ولأنه نعمة من الله، قال تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ]( ).
الثالثة: بعث السكينة في نفوس الناس جميعاً.
الخامس: مصاحبة الرزق والقدرة على الأكل الناس في ليلهم ونهارهم لتقييد الرزق والأكل بأنه من الأرض مطلقاً، مشارقها ومغاربها.
السادس: في الآية بشارة المعادن من الثروة من باطن الأرض لإفادة قوله تعالى(في الأرض) ما على الأرض وما في باطنها.
السابع: إباحة الأكل للناس عموماً.
وهل في الآية زجر عن الإضراب عن الطعام في السجون وغيرها، بلحاظ أن الأمر بالأكل إنحلالي موجه إلى كل إنسان، وأن الآية تخبر بأنه حلال طيب، وهبة وفضل من عند الله الذي جعل الأكل حاجة للبدن، وبلغة في العبادة وإتيان الفرائض.
الجواب لا دليل عليه، مع التسليم بأن الأكل من الطيبات حق ونعمة من الله لكل إنسان، وهو سبحانه الذي ينتقم من الظالمين، والذي يفرج الكرب، ويبدل الحال، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
فالآية ليست دليلاً كافياً لحكم عام، وهو عدم جواز الإضراب، والأمر بالأكل في الآية مطلق يتحقق مصداقه العام في كل آن، والإضراب أيام معدودات عنوان ثانوي، لبيان مرتبة الظلم الذي لا يطاق والعلم عند الله.
الثامن: من عظيم قدرة الله عز وجل وسعة رحمته أنه جعل في الأرض ما يكفي للناس من الرزق الحلال وليس حراماً لقوله تعالى(حلالاً طيباً) وفيه حجة على الناس بلزوم إجتناب الربا، وأكل المال بالباطل.
وعن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، حسب الآدمي لقمات يقمن صلبه فإن غلبته نفسه ثم ذكر كلمة معناها فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس خالفه بقية بن وليد)( ).
وفي الآية أمور:
الأول: زجر الظالمين من التعدي.
الثاني: إنذار الكفار من الإصرار على الجحود.
الثالث: الإخبار بأن ما يأتي الناس من الرزق الحلال كاف لهم ولذراريهم من بعدهم، لأن الله عز وجل يكفل رزق الذرية، والخطاب في الآية الكريمة يشمل الموجود والمعدوم.
ولم يقيد الرزق في الآية بسن البلوغ أو التأهل بالزواج، بل جاءت الرزق الكريم للناس جميعاً ذكوراً وأناثاً، كباراً وصغاراً.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سيكون من بعدي سنة يأكل المؤمن في معاء واحد ويأكل الكافر في سبعة أمعاء)( ).
التاسع: في الآية إعجاز يتجلى بوصف الأكل بأنه طيب بعد وصفه بأنه حلال، وفيه مسائل:
الأولى: الإشارة إلى أسباب العافية التي تأتي من الرزق الحلال.
الثانية: سلامة النفس من الدرن، ومن نماء الشرور فيها.
الثالثة: إقتران الطيب والحسن الذاتي بالحلال وهل يدل في مفهومه على أن الحرام ومن الربا ليس يطيب.
الجواب نعم، وجاء في أكل أموال اليتامى بالباطل قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا]( ).
وجاء ذكر أموال اليتامى من باب المثال الأمثل، ولبيان تغليظ المثوبة فيه، لعجز اليتامى عن إنتزاع حقوقهم، وبيان الله عز وجل يبتلي الذين يقومون بظلمهم بدبيب المرض والداء في أبدانهم وأن لم تظهر إماراته عاجلة.
وهل يشمل الإنذار في الآية أعلاه أكل المال الربوي الجواب نعم، وهو الذي تدل عليه معاني النهي الوارد في آية البحث، وما فيه من مفهوم الإنذار الذي تتجلى مصاديق الحجة فيه بالجمع مع آيات الرزق الكريم والحلال الطيب الذي جعله الله قريباً من الناس، سهلاً عليهم تناوله، بدليل قوله[كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ]( )، فليس من جهــد ومشــقة زائدة فيما يكفي الإنسان من الأكل الطيب، ولا يعني قعــود الإنســان عن العــمل والكسب , وفيه وجوه :
الأول: لبيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً .
الثاني: دعوة الناس عموماً لعبادة الله, ونبذ الشرك وقد تكرر في القرآن على لسان الأنبياء[يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ]( ).
الثالث: عدم جعل السعي في الدنيا برزخاً وراناً دون ذكر الله والتوجه إليه بالشكر.
القسم الثالث: الخطاب بالرزق الكريم للأنبياء، ليكون شاهداً على المنزلة الرفيعة التي خصهم الله عز وجل بها، فيشملهم خطاب الرزق الحلال للمؤمنين والناس الذي تدل عليه والآيات السابقة، وجاء خطاب إكرام تشريفي خاص لهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا]( )، وفيه مسائل:
الأول: زهد الأنبياء بالدنيا وزينتها.
الثاني: إجتهادهم في طاعة الله حجة على الناس.
الثالث: فيه دعوة للمسلمين وأهل الكتاب والناس عموماً للتنزه عن الربا، والمعاملات الباطلة.
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء أسوة للناس، وأنعم عليهم بالخيرات، ولم يفتتنوا بالدنيا ورضوا منها بالقليل لإنقطاعهم إلى طاعة الله(وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: آخر نبي يدخل الجنة سليمان بن داود عليه السلام وذلك لما أعطي في الدنيا)( ).
وقد أنعم الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة، وجعل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موثقة، تنقلها طبقة جماعة عن جماعة، وطبقة عن طبقة، وتضمنتها كتب السيرة والمغازي والتأريخ لتكون موعظة وعبرة.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبادر إلى إنفاق ما يصل إليه وبمرأى ومسمع من أهل البيت والصحابة , وقال: مالي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إنقطاع متصل إلى عز وجل، وهو الإمام في الصلاة والجهاد في سبيل الله والصوم ومنه إختصاصه بصوم الوصال( )، قال تعالى[مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى] ( ).
ويحتمل الخطاب التشريفي في الآية أعلاه من سورة المؤمنين وجهين:
الأول: شمول الآية للأنبياء جميعاً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وقد ورد في الخبر أن عددهم هو(مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي)( ).
الثاني: إختصاص الآية بالرسل جموداً على النص وبلحاظ النسبة بينهم وبين الأنبياء وهي العموم والخصوص المطلق، فكل رسل هو نبي وليس العكس، وعدد الرسل هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً.
والصحيح هو الأول، لأن الآية جاءت بصفة الرسالة من عند الله بالتبليغ والبشارة والإنذار.
وفي الآية نكتة عقائدية وبيان لأمور:
الأول: الرسل من البشر، ويأكلون الطعام ولا يستطيعون الإستغناء عنه.
الثاني: الزجر عن عبادة الأنبياء، قال تعالى[وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ]( ).
الثالث: غلق باب الغلو بالأنبياء، وإعانة المسلمين للإحتجاج على أهل الكتاب بمرتبة الإنسانية والعبودية لله الجامعة للأنبياء، وحاجتهم لله عز وجل وفي التنزيل[وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ]( ).
الرابع: بيان عظيم فضل الله عز وجل على الأنبياء خاصة، وتسخيرهم له في سبيل الله.
الخامس: مع إخبار الآية عن الرزق الكريم للأنبياء فإنها تضمنت الأمر لهم بفعل الصالحات بقوله تعالى[وَاعْمَلُوا صَالِحًا]( ).
القسم الرابع: مخاطبة أهل الكتاب بما أنعم الله عز وجل عليهم من الرزق الكريم، وأمرهم بأكل الطيبات قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل[وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ]( )، وفيه آية بنزول الرزق لهم من السماء، وعدم الحاجة إلى نبات الأرض، والشقاء في الكسب.
وعن ابن عباس في المن المذكور في الآية أعلاه: أنه المن الذي يعرفه الناس يسقط على الشجر والسلوى طائر أبيض يشبه السماني)( ).
وتدل نسبة الرزق إلى الله على أن الله هو الذي أعطى الناس الطيبات، وأمرهم بالأكل من الحلال المذكى، وهو الذي حرم عليهم الربا، ويفيد الجمع بين الأمرين عدم حاجة الناس للربا، والمال الربوي .
ومن الآيات في سعة رحمة الله، والنعم المتصلة والمتتالية على الناس أن الأمر بالأكل يأتي مطلقاً ويتصف بالسعة والإستدامة وإنتفاء الحاجة لغيره.
أما النهي فإنه يأتي عن الزيادة الخبيثة والضارة، كما في الزيادة الربوية التي تضمنت آية البحث النهي عن أكلها، فإن قلت قد يحتاج الإنسان الزيادة في الأمور الإضافية والتوسعة على النفس والعيال، والجواب إن مجيء آيات الأكل من الرزق الحلال الطيب شاهد على دخول التوسعة فيه.
والزيادة من الطيبات فيما سخّر الله عز وجل من أسباب النعم والإنتفاع المتعدد، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ]( ).

حديث القرض( )
لقد أنعم الله عز وجل على الناس، وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وتفضل سبحانه بالوحي الذي يأتي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تتجلى رفعة مقامه عند الله، وتفضيله على الأنبياء السابقين أن العناية والوحي الإلهي له لم ينحصر بما يجري على لسانه فيشرق على السنة الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والتدوينية والتقريرية.
ثم جاءت آية أخرى مستقلة وقائمة بذاتها وهي الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، في آية لتشريفه وإكرامه بين أهل السماء والأرض، وإكرام المسلمين الذين اتبعوه ويتبعونه.
ولما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض لما يظهره من الفساد والقتل بغير حق، جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فلجأ الملائكة إلى التسبيح[قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( )، وفيه وجوه:
الأول:إنه درس وموعظة للمسلمين بالإستجارة بالتسبيح والإستغفار عن الذنب والخطأ والقصور والتقصير , بل مطلقاً لأنه أمر ممدوح وحسن ذاتاً، وشاهد على عجز الخلائق على الإحاطة بشطر يسير من علم الله عز وجل.
الثاني: فيه دليل على فضل عظيم من الله على الناس في الحياة الدنيا.
الثالث: البشارة بأفعال حميدة للناس في الأرض بما لا يحصر موضوع الخلافة بفساد فريق منهم.
ليكون من معاني إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، دعوتهم للنظر إلى أهل الإيمان، والخصال الحميدة التي يتصفون بها، وإنزجارهم عن فعل الموبقات ومنها أكل الربا.
وقد تفضل الله عز وجل وأسرى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ليرى الملائكة كيف إرتقى الإنسان في مراتب الكمالات الإنسانية وإصطفاه الله للصعود في السماء ويعود من بعدها للأرض.
فقد هبط آدم وحواء من الجنة قال تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا] ( )، لينعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيصعد إلى السماء ثم يهبط تشيعه الملائكة بالإكرام والبشارات له ولأمته , وفي الحديث(تَلَقّتْنِي الْمَلَائِكَةُ حِينَ دَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا)( ).
وذكر أن إدريس إتصف بأمور:
الأول: إنه أول من عرج به إلى السماء.
الثاني: هو أول من خط بالقلم.
الثالث: إنه أول من نظر في النجوم.
الرابع: كان يرفع لإدريس من العمل الصالح ما يرفع لأهل الأرض , وورد إسمه في القرآن مرتين، قال تعالى[وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا]( ).
وقام الملك الذي يصعد عمل إدريس بسؤال الله عز وجل بأن يزور إدريس، فاذن الله له، فقام الملك بحمل إدريس على جناحه، فصعد به إلى السماء.
وقيل أن ملك الموت هو الذي زاره، وأراه النار، ثم أدخله الجنة بأمر من الله ثم قال أخرج لنرجع فقال[وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ] ( )، فلا أخرج منها، فقال الله سبحانه للملك دعه يلبث فيها.
ورفع الله سبحانه نبيه إبراهيم على صخرة بيت المقدس وأنه(أشرفَ على أهل الأرض، فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم.
فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ أو يُرجِعوا) ( ).
أما إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففيه مسائل:
الأولى: إنه معجزة توليدية تتفرع عنها معجزات كثيرة.
الثانية: إنه مناسبة لتشريع الأحكام.
الثالثة: إنه مصداق عملي لأمور منها:
الأول: معرفة عواقب الأمور.
الثاني: بيان خواتيم الحياة الدنيا.
الثالث: توكيد الجزاء الأخروي على الأعمال.
وإختلف المتكلمون هل الجنة والنار مخلوقتان الآن، أم أنهما غير مخلوقتين، والمشهور والمختار هو الأول.
وأستدل عليه بآيات منها قوله تعالى في الجنة[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، وما ورد بخصوص النار منها قوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، وصيغة الماضي التي وردت بها.
كما أستدل بقوله تعالى [يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( )، والذي خالف المشهور قال بأنهما لم يخلقا بعد، وإستدل بآيات منها قوله تعالى[كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ]( )، وأن الجنة لو كانت مخلوقة الآن لوجب هلاكها.
ولكن هذا الإستدلال لا يتعلق بالزمن الحال، بل بموضوع مستقبلي آخر، وقد يكون المراد من الهلاك هو موت الخلائق الحية من الملائكة والناس والجن، وما عداها فيحتاج إلى دليل آخر، كما في السماء والأرض، قال تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ]( ).
ويمكن خروج الجنة والنار من موضوع الهلاك أعلاه بالتخصص لأنهما خلقا لعالم الآخرة وأوان الجزاء.
ولاينحصر الإستدلال في المقام بآيات القرآن مع تجلي الحجة والبرهان فيها، فيستدل بالسنة النبوية , التي هي تفسير وبيان للقرآن، وحجة بالغة وميسرة.
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)( ).
وقد وردت أخبار الجنة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها حديث الأسراء، الذي يمكن إستخراج عدة أحاديث منه، كل واحد منها يدل على وجود الجنة الآن.
ومنها حديث القرض هذا إذ يتضمن الإخبار عن وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء إلى باب الجنة وأنها في السماء، وورد في الخبر (أن في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخلها إلا الصائمون) ( ).
وتحتمل كتابة حديث القرض وجوهاً:
الأول: إنه مكتوب على كل باب من أبواب الجنة الثمانية.
الثاني: الحديث مكتوب على عدد من أبواب الجنة وليس كلها.
الثالث: تفضل الله عز وجل وجمع للنبي كل ما مكتوب على أبواب الجنة الثمانية عند الباب الذي دخل منه، وإن لم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل ما مكتوب.
الرابع: عندما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجنة كان لها باب واحد، وتكون يوم القيامة ذات ثمانية أبواب، ولا دليل عليه، والأصل أن الجنة خلقت بثمانية أبواب.
الخامس: هذا الحديث مكتوب على الباب الذي دخل منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص ولعله الباب الذي يدخل منه الذين يقرضون الناس قربة إلى الله.
والقدر المتيقن من الحديث هو الأخير، لبيان فضل القرض، والحث عليه، وما فيه من الثواب العظيم، ولكنه لا يمنع من العموم، ووجود هذا الحديث مكتوب على أبواب الجنة الأخرى.
وحينما يدخل المسلم يوم القيامة من أي باب من أبواب الجنة يرى هذا الحديث ويقول[هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ] ( ).
ويتضمن حديث القرض أموراً:
الأول: البشارة بالحنة.
الثاني: بعث المسلم إلى إستحضار الجنة في الوجود الذهني، والسعي لدخولها.
الثالث: جعل المسلمين يتشوقون للفوز في الآخرة بقراءة ما مكتوب على باب الجنة مما أخبرهم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تفقه المسلمين في الدين، وإقرارهم بالمعاد.
الخامس: إدراك موضوعية القرض في صالح الأعمال، وبعث الرحمة والرأفة في النفوس.
السادس:حث المسلمين على فعل الصالحات، والسعي في قضاء الحوائج، والمبادرة إلى إقراض المحتاج.
ومن الإعجاز في القرآن ورود مادة(قرض) في القرآن إثنتي عشرة مرة كلها في إقراض الله، قال تعالى[وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] ( ).
وليس هو قرض حاجة، والله عز وجل الغني الذي ينفرد بعدم الحاجة فالمراد من القرض الإنفاق في سبيل الله، والسعي في طاعته سبحانه , قال تعالى[وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
فورد ذكر القرض في السنة النبوية ليفيد الجمع بينهما أولوية البذل والدفع في سبيل الله، ورجاء البدل والعوض منه تعالى في الدنيا والآخرة.
فمع كتابة القرض على باب الجنة، وتقديمه في مقدار الثواب على الصدقة فانه لم يذكر في القرآن باسمه بين الناس، وجاء ذكر إقراض الله متعدداً فيه.
وهل يدخل إقراض المؤمن في عمومات الآية أعلاه من سورة المزمل.
الجواب نعم إذا إتصف بأمور:
الأول: قصد القربة.
الثاني: تعظيم شعائر الله.
الثالث: الإعانة على إقامة الفرائض وإتيان المستحبات.
الرابع: حفظ أهل الإيمان وقضاء حوائجهم.
نعم جاء الحديث مطلقاً من غير تقييد بخصوصية معلومة، لما في الإطلاق من نشر لسبل المعروف، والحسن الذاتي للإحسان والبر.
وقد ورد في الحديث ما يدل على دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجنة في الإسراء، وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وعائشة والإمام جعفر الصادق عليه السلام :
“قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقعت على شجرة من اشجار الجنة لا أحسن منها ولا أبيض ورقاً ولا أطيب ثمرة فتناولت من ثمرتها فاكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما هبطت الى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة رضي الله عنها، فاذا إشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة”( ).
وتعددت طرق الحديث من الطبقة الأولى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه شاهد بأن الإسراء حدث بالجسد والروح، وليس بالروح وحدها، وقد بيناه تفصيلاً( ).
ويدل الحديث على دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجنة ليرزقه الله ما رزق آدم من دخول الجنة والأكل من شجرها ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قرأ حديث القرض الذي على باب الجنة ويحتمل وجوهاً:
الأول: الأصل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقرأ ولا يكتب , ولكن رزقه الله القراءة في السماء لإختلاف نواميس السماء.
الثاني: لم يقرأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، ولكن جبرئيل قرأ له وصار نوع وحي له خصوصاً وأنه قال:رأيت ليلة اسري بي، ولم يقل قرأت…).
الثالث: قرأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، وفيه شاهد بأنه يقرأ الكتاب.
والصحيح هو الثالث، ففي الحديث دلالة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ ولم يكن أمياً، وقد ورد أنه كان يقرأ ولا يكتب.
ومن الآيات أنه لم يشكل أحد من الصحابة على الحديث , ويقول كيف قرأ النبي الحديث على باب الجنة وهو أمي، وهل تعلم القراءة ليلة الإسراء، مما يدل التسليم بأنه كان يقرأ، ويدل عليه ما جرى في صلح الحديبية من محوه لكلمة , وسيأتي بيانه إن شاء الله .
فأن قيل ولم يحتج عليه المشركون من قريش بموضوع القراءة ليلة الإسراء عندما أخبرهم بالإسراء به , في تحد عظيم .
والجواب جاء الإخبار عن الأكل من ثمر الجنة بعد الهـــجرة لأنه ورد بصيغة الماضي(واقعت خديجة فحملت بفاطمة) وبيان علة شـــمه لريح فاطمة وإستحضار ريج الجنة شكراً لله عز وجل , وما فيه من معاني الشكر لله عز وجل .
(قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه،
وقيل له : يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى الله عليه وسلم أفلا أكون عبداً شكوراً) ( ).
ومع عظمة وهيبة الحال والمقام فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بقراءة ما مكتوب على باب الجنة، بل بادر لسؤال جبرئيل عنه.
وعن علة التمايز والتفاصيل فيه، لأن الصدقة تعطي هبة وقربة إلى الله ولايستردها صاحبها، بينما يعطى القرض ويتطلع صاحب المال إلى حلول أجله لقبضه وإعادته إلى ملكه.
وعندما سمع جبرئيل السؤال لم يقل لا أعلم، ولم يسكت عنه، بل بادر إلى الجواب، وذكر العلة التي تجعل القرض أفضل في الثواب من الصدقة بلحاظ أمور:
الأول: قضاء حاجة المقترض.
الثاني: إدخال السرور على نفس المسلم.
الثالث: إتاحة الفرصة للمقترض للكسب.
الرابع: الإقراض بقصد الثواب والأجر.
ومع أن مضاعفة القرض في الثواب تتعلق بصاحب المال الذي يقرضه لغيره، فان العلة جاءت بخصوص المقترض، وحاجته للقرض، وتلك آية في مصاديق الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وأن المسلم يخرج المال من يده، ويعطل الإنتفاع منه مدة القرض ليقضي حاجة أخيه المسلم فينال الثواب العظيم.
وورد في الحديث ذكر أضعاف الثواب وأنها ثمان عشرة مرة لمقدار القرض ويحتمل هذا العدد وجوهاً:
الأول: إنه مصداق للأضعاف المضاعفة للبدل.
الثاني:إنه أمر خاص بالثواب، أما المضاعفة الواردة في آية البحث فانها تتعلق باسترداد القرض الربوي أضعافاً من المقترض، وليس الثواب.
الثالث: إن ثواب القرض المكتوب على باب الجنة أعم من أن ينحصر بالآخرة، فيشمل الحياة الدنيا أيضاً.
الرابع: إن الثمانية عشر ضعفاً للقرض خاصة بالآخرة، أما في الحياة الدنيا فان أضعافاً آخرى يتفضل بها الله عز وجل.
والصحيح هو الأخير [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، وقد وردت نصوص عديدة بالثواب على قضاء حاجة المؤمن.
إن حديث القرض عون للمسلمين والمسلمات للتنزه عن الربا، والعزوف عن الأرباح الربوية والأضعاف العديدة التي تأتي من الربا، لتشترك السماء مع التنزيل والسنة في إجتناب المسلمين الربا، وسلامتهم مما فيه من الأضرار في النشأتين.
وهذا الإشتراك لطف من الله عز وجل إختص به المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( )، ومنه دوران الأمر بين القرض والصدقة بالحث على إجتناب الربا، لما في من إجتماع الأمرين من الحسن وأسباب الصلاح.
فحديث القرض لم ينف منافع الصدقة بل ذكر ما لها من الثواب والأجر وأنها بعشر أمثالها، وهو من مصاديق قوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
ومع أن القرض حسنة أيضاً إلا أنه ورد دليل خاص بأن ثوابه أكثر من عشر حسنات ليكون من فضل الله عز وجل إنعدام النقص في الوعد الإلهي لهم، وإنتفاء الحد من طرف القلة، بينما تكون فيه مندوحة وسعة من جهة الكثرة والزيادة.
وجاءت الأضعاف اللامتناهية بقوله تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
وهل في حديث القرض ترغيب للمسلم بالإقتراض عند الحاجة الجواب نعم، فقد يتردد المسلم عن سؤال الغير، واللجوء إليه لأسباب منها:
الأول: ما في السؤال من الحرج والغضاضة.
الثاني:الخشية من الرد، وعدم الإستجابة للسؤال.
الثالث:إحتمال العجز عن الوفاء عند حلول الأجل.
فجاء الحديث للترغيب بالإقراض، وفيه تحفيف عن المقترض لترجيح إحتمال الإستجابة لسؤاله القرض لأن الطرف الآخر يرجو الثواب العظيم، أما بالنسبة لإحتمال التخلف عن الوفاء في الأجل فهو أمر يدركه صاحبه، وهو أعلم بنفسه قال تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( )، ومع هذا فاذا إستدان وعجز في الأجل فلن يكون هناك ربا على القرض، لأن الله حرّم الربا، بل يمهل وفي الإمهال ثواب متجدد للمقرض.
بحث أصولي
“بين القرض والربا’’
القرض لغة هو القطع، وسمي به لأن المالك قطع للدائن من ماله وجعله يتملكه ويتصرف به.
وبين الدين والقرض نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل قرض هو دين وليس العكس، إلى جانب التباين في ذات المسمى إذ أن اسم القرض يتعلق بالمال الذي يكون بين المقرض والمقترض، أما الدين فهو ما إشتغلت به الذمة للدائن.
وعن أنس قال: قَالَ : مَاتَ رَجُلٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّى عَلَيْهِ؟ فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ :َفَيَضْمَنُهُ مِنْكُمْ أَحَدٌ حَتَّى أَصَلِّىَ عَلَيْهِ؟ قَالُوا : لاَ قَالَ : فَمَا يَنْفَعُكُمْ أَنْ أَصَلِّىَ عَلَى رَجُلٍ مُرْتَهَنٍ فِى قَبْرِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُحَاسِبَهُ)( ).
وفي الحديث أمور:
الأول: التحذير من الإستدانة , وإستدامة إنشغال الذمة به .
الثاني: إنه دليل على كراهة الإستدانة.
الثالث: البعث على السعي لقضاء الدين، قبل نزول مصيبة الموت.
الرابع: أولوية الإستعداد للموت.
وتضمنت آية البحث النهي عن الربا، وتحتمل في مفهومها وجوهاً:
الأول: الأمر بالضد الحقيقي للربا، أي ما يكون بينهما غاية البعد والتنافي ويسمى الضدان حينئذ الحقيقين كالسواد والبياض.
الثاني: الضد العام: وهو الذي يعني ترك الربا مطلقاً كضد للقرض الخالي من النفع.
الثالث: الضد الخاص: وهو الذي يتضمن البديل والمنافي أي الأمر الوجودي المباين من ذات الجنس.
ويكون الضد الحقيقي للربا إنعدام القرض وعدم التداين، وهو أمر جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بخلافه قال تعالى[إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]( ).
وتدل الآية أعلاه على إمضاء الدين بين المسلمين بالإضافة إلى الأمر بكتابته الدال على حسنه وجوازه في الوقت الذي جاء النص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذم ولعن كاتب الربا , والذي يدل في مفهومه على الزجر عن كتابته.
الرابع: الضد المشهور وهو كالأول أعلاه لا يجتمع مع ضده في محل واحد ووقت واحد، وليس بينهما تباعد وتناف، كالتنافي بين النهار والليل مثلاً، إنما الضد أعلاه كالليلة البيضاء في منتصف الشهر القمري والليلة الظلماء.
ويكون الضد المشهور في المقام الدين الخالي من الربا، وكل منهما مشهور ومعروف بين الناس وأحدهما محبوب وهو الدين، والآخر مذموم وهو الربا ولا ينطبق معنى الضد على الدين والربا، إذ أن كلاً منهما أمر مركب وفيه أكثر من طرف، والنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: إقراض المال.
الثاني: وجود طرفين، دائن ومدين.
الثالث: إنشغال ذمة المدين بالمال.
الرابع: تعلق القضاء بأجل معين أو معلوم إجمالاً وإرتكازاً، وقيل إذا لم يكن هناك تعيين للأجل فهو شهران.
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: التباين في الأحكام ودلالاته , وإرادة الزيادة على القرض في الربا بخلاف الدين.
الثاني: بقاء مقدار القرض على حاله من غير زيادة تعدد وتعاقب الأجل، بينما تحصل الزيادة الربوية في الربا.
الثالث: القرض إحسان محض، والربا أّذى وظلم للذات والغير ،(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ ” مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ” .
قال: قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ اللهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ .
قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي. وَحَائِطٌ لَهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهُ، فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ، فَقَالَ: اخْرُجِي، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي)( ).
الرابع: حلية وجواز القرض، وحرمة الربا.
الخامس: القرض أمر محمود ومندوب إليه، نعم قد يكون مكروهاً للمدين، كما تقدم.
ويدل الخطاب التشريفي في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( )، على إستحباب الدَين بين المسلمين، لأن الخطاب جاء لهم بصفة الإيمان وصيغة الإكرام.
السادس: القرض سبب وعلة لنيل الثواب العظيم، وفي الربا إثم وهو سبب للعقاب الأليم في الآخرة.
السابع: يلقى الذي يقرض المال الإكرام والثناء من المقترض وغيره لما في فعله من قضاء للحاجة، وتيسير للأمور، أما صاحب الربا فإن النفوس تنفر منه، ومن صيغ أخذه المال الربوي.
الثامن: مع تقادم الأجل يبقى القرض على حاله من غير زيادة، أما المال الربوي فإنه مع العجز عن الوفاء بالدين يزداد مقدار القرض الربوي.
وهل يعني قوله تعالى(لا تأكلوا الربا) في مفهومه الأمر بالقرض من غير منفعة ربوية.
الجواب لا ملازمة بين الأمرين كبرى وصغرى.
أما الكبرى فلعدم ثبوت ما ذكر في علم الأصول بأن النهي عن الشيء أمر بضده.
وأما الصغرى فإنه لا دليل أو أمارة على أن الدَين ضد الربا.
والقدر المتيقن لضد الربا هو الإمتناع عنه، وقد يكون هذا الإمتناع سبباً لتوظيف الأموال في التجارات والزراعات والصناعات والشركة والمضاربة والإجارة والرهن.
لتتجلى آية في الحكمة الإلهية في المنع عن الربا بإنفتاح أبواب من الكسب المتعدد من الناس، فإن قلت في الربا أيضاً باب للكسب لآكل الربا وللمقترض الربوي الذي يأخذ المال بشرط دفعه الزيادة، ويقوم بتوظيفه في موارد وتجارات وقروض يكون ربحه فيها أكثر من نسبة الزيادة التي يدفعها، فجاء النهي السماوي عن ذات المعاملة الربوية لقبحها الذاتي، ولأن المدار ليس على مقدار الربح والخسارة، بل على سلامة المعاملة شرعاً، ولزوم تنزيه الأسواق من أكل الباطل وتسلسله، وتركه يفتح أمام العبد أبواباً من الكسب تتصف بالحلية والبركة.
بحث عرفاني
من الآيات الإعجازية في القرآن إبتداؤه بآية الحمد، وقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، وجاءت عبادات المسلمين لتكون مرآة لنزول القرآن، وما فيه من الكنوز العقائدية والأسرار الإعجازية.
إذ يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى أعلاه كل يوم عدة مرات وعلى نحو الوجوب واللزوم، ولا يتلوه بمفرده بل بلحاظ أنه جزء من سورة الفاتحة التي يجب أن تقرأ بتمامها فينسى المسلم ما زهد به من الأضعاف المضاعفة من الربا، ولكنه لا ينسى كلمات وحركات وآيات سورة الفاتحة لأنها مصاحبة له بالنهار والليل، ويتلوها في حال من الخشوع والإنقطاع إلى الله عز وجل لتكون تلاوتها على وجوه:
الأول: إنها واقية من أكل الربا، للتضاد بين الحمد والمعصية، وعدم إجتماع المتضادين ولأن إنشغال العبد بالحمد والثناء على الله حصانة للجوارح من إقتراف السيئات.
الثاني: إنها من مصاديق الشكر لله على نعمة إجتناب الربا.
الثالث: تلاوة الفاتحة باعث على التقيد بأحكام حرمة الربا، ورجاء لفضل الله عز وجل بالرزق الكريم.
الرابع: إنها مدد وعون ومواساة للمسلم لتركه الأضعاف الربوية.
الخامس: تلك التلاوة سياحة في عالم الملكوت.
السادس: إنها ثناء على الله وتعظيم له لإنعامه على الفرد والجماعة في كل آن وإخبار عن إستمرار وإتصال الحاجة إلى رحمة الله عز وجل وبشارة تغشيها للعبد , قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وتلاوة كل مسلم لقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] عدة مرات كل يوم من الشواهد على نيل المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فلم تستطع أمة غير المسلمين بلوغ وتعاهد مرتبة الحمد هذه والبقاء في منازلها الرفيعة، وما تدل عليه من أدب العبودية والتسليم بالربوبية لله عز وجل، ويمكن تقسيم الحمد تقسيماً إستقرائياً عقلياً إلى وجوه:
الأول: الحمد اللغوي: وهو ما يجري على اللسان من الوصف الحسن بقصد التعظيم والتبجيل، ومنه التسليم بأن الله عز وجل يعلم الأضرار التي تأتي من الربا، وأن تحريمه خير محض للإنسان والجماعة والأمة، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثاني: الحمد العرفي: وهو الإتيان بفعل يكون معروفاً عند الناس بأنه عنوان للحمد والثناء، وهو أعم من النطق باللسان، وقد يكون صريحاً وظاهراً، وقد يكون وجدانياً أو كناية، بحيث يتبادر إلى الأذهان أنه شكر.
وكيف يكون الشكر العرفي من المسلمين على النهي عن المنكر، الجواب إنه متعدد ومتباين في موضوعه ومنه جهات:
الأولى: تلاوة آية البحث وآيات النهي عن الربا الأخرى.
الثانية: إعانة الناس لإجتناب الربا.
الثالثة: السعي في سبل القرض وتيسيره، والترغيب بامهال المدين عند العجز عن القضاء في الأجل.
الرابعة: ذكر الثواب العظيم لترك الربا، والعقاب الأليم لمن يزاول الربا، ويصر على المعصية.
الخامسة:الرضا بنهي الله عن الربا.
الثالث: صرف الطبيعة من الحمد، وهو الإكتفاء بالمسمى من الحمد سواء باللسان، أو الأركان، فيشكر المسلم الله عز وجل على حرمة الربا بالقول[الْحَمْدُ لِلَّهِ].
ولو لم يخصص المسلم حمداً لترك الربا على نحو التعيين، فهل يجزيه قوله في الصلاة[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، أم لابد من الشكر على كل نعمة وذكرها وإستحضارها في الذهن.
الجواب هو الأول، والله واسع كريم، إن تلاوة المسلمين لآية الحمد أعلاه في الصلاة نعمة من عند الله ليجعلها شكراً عاماً على النعم الخاصة، وشاهداً على إنتفاء الغفلة عن المسلمين لما رزقهم الله من النعم الظاهرة والباطنة.
ترى ما هي النسبة بين الشكر والحمد، الجواب هو العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق ويمكن القول أيضاً إنهما مما إذا إجتمعا إفترقا، واذا افترقا إجتمعا من غير تعارض بين القولين أعلاه، للتقارب بين الشكر والحمد.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده) ( ).
الرابع:الحمد الفعلي: وهو الذي يأتي بالفعل والعمل، ويظهر على الأركان والجوارح، ومنه إتيان الواجبات، والتنزه عن الربا وأكله والإمتناع عن الإشتراك في مقدماته، وصيغة عقده، شكراً لله عز وجل على نعمة الخلق والرزق الكريم وإستدامة الحياة.
ومن الحمد الفعلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الربا وغيره، ليكون هذا الوجه من الحمد غير متناه ولا يختص بميدان وموضوع معين.
الخامس:الحمد الحالي: وهو التحلي بالأخلاق الحميدة، وإظهار معاني الكمال الإنساني، والتدبر في عظمة خلق الله، وان الرزق كله بيده، قال سبحانه[أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ]( ).
ومنه التسليم بأن الربا فعل مبغوض شرعاً وعقلاً، وأن الله عز وجل رؤوف بالمسلمين إذ أنعم عليهم بآية البحث وما فيها من حرمة الربا، وأمرهم بالتقوى والخشية منه تعالى، وأن الفلاح والتوفيق قريب منهم، ويترشح إنطباقاً عن الإمتناع عن الربا.
وجاء النهي عن الربا على لسان الأنبياء، ولم تتقيد به الأمم السابقة، وتفضل الله وأنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتقيد بأحكامه المسلمون، وإعتصموا من الربا بتقوى الله، وتوجهوا إليه سبحانه بالحمد والشكر على نعمة النهي عن أكل المال الربوي.
قال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لله عز و جل مائة رحمة و أنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون و يتراحمون و أخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة)( ).
قانون”خير أمة في الأسواق’’
لقد أمر الله عز وجل آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض والسكن فيها هما وذريتهما قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( )، ومن بديع صنع الله عز وجل القدرة على الإنجاب عن كل من آدم وحواء، ولو كان أحدهما مثل بعض الناس ممن يكون عقيماً لما حصل التناسل وكثرة الخلق، قال تعالى[وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( ).
ومن الآيات أن إبليس عاجز عن حجب التكاثر والتناسل بين الناس، ليؤدي هذا التناسل مع كثرة النعم في الأرض إلى نمو الملكية الشخصية والمقايضة والبيع والشراء بين الناس، ولعل الكسب للذات والإستقلال في الإختيار والعمل من عمومات رحمة الله في قوله[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فجاءت آيات القرآن بأسباب التنزه عن الظلم في الكسب والتجارة، وهو أمر شاق وصعب على الناس عند تداخل الأعمال وتعدد المصالح والتنافس في جمع المال .
فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، يحرص أفرادها على التقيد بتلك الإسباب بدخول الأسواق بسلاح التقوى، والصدور عن القرآن، في معاملات البيع والشراء.
ويرى الناس إستحضار المسلمين لأحكام الحلال والحرام أثناء المعاملة معهم، فتزداد هيبتهم، ويعلو شأنهم، ويتدبر الناس في سنن الدعوة إلى الإسلام وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث لهم جميعاً، وما فيه صلاحهم، قال تعالى [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
وتدل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأحكام التي جاء بها من عند الله عز وجل على حقيقة وهي أن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم، ولم يجعل لهم الخيار التام في ماهية العمل في الحياة الدنيا، بل جعلها محكومة بقوانين تتغشى أفعال الإنسان في الليل والنهار، وفي البيت والشارع والسوق والمنتدى .
وهذه القوانين غير مطلوبة بذاتها بل تكون مادة للحساب في الآخرة، وفيه دليل بأن الدنيا مزرعة للآخرة، وهي دار مجاز.
ومن بديع صنع الله فيها أن الناس لم يخلقوا على نحو الدفعات، وأن كل دفعة تموت مرة واحدة، فكل إنسان له أجله واليوم الذي يغادر فيه الدنيا، وما من مكلف إلا ويرى بعض أقرانه يرحلون عن الدنيا بلا عودة، ليكون له إنذاراً وتذكيراً بأن إقامته في الدنيا قد تنحزم في آية ساعة مما يملي عليه اللجوء إلى التقوى من وجوه:
الأول: إنها وظيفة كل إنسان في الحياة الدنيا، ومن إعجاز القرآن أن يأتي الأمر بتقوى الله مرتين في آية واحدة في خطاب قرآني ينحل بعدد الناس جميعاً إلى يوم القيامة مرة بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ( )، ليكون المسلمون هم الذين يمتثلون لأمر الله عز وجل بالتقوى ويقومون بتبليغ الناس بلزوم التقوى والخشية من الله.
الثاني: التقوى منسأة في الأجل، وواقية من البلاء والفتن، ووسيلة لصرف الآفات التي تأتي على الفرد والجماعة.
الثالث: بالتقوى يأتي الرزق الكريم، ويصلح الحال، وتدرك أسباب النجاة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا]( )،، ويطمع الفرد والجماعة بالظفر، ونيل الأماني، والوصول إلى شاطئ السلامة والأمان، فتفضل الله عز وجل وهدى الناس إلى التقوى لتكون بلغة للسعادة الأبدية.
وعن مجاهد في الآية أعلاه(يجعل لكم مخرجاً في الدنيا و الآخرة)( ).
الرابع:ورد النص بكراهية تمني الموت وإستعجال مغادرة الدنيا، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنيا الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي) ( ).
فتجعل التقوى الدنيا حديقة ناضرة مع ترك الأضعاف المضاعفة من الأموال الربوية للتسليم بالثواب العظيم في تركها.
لقد جاءت آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )، مطلقة من غير تقييد للميادين التي يكون فيها المسلمون(خير أمة) مما يفيد أصالة الإطلاق وتفضيلهم في كل ميدان وموضوع، وهو أمر يستقرأ من وجوه:
الأول: المضامين القدسية لآيات القرآن.
الثاني: تقيد المسلمين بسنن الإيمان التي تجعلهم أفضل الملل.
الثالث: إنفراد المسلمين كأمة مجتمعة من بين الناس بنشر معاني الرأفة الإحسان في الأسواق.
الرابع: جهاد المسلمين لإزاحة مفاهيم الظلم والغبن والضرر منها.
ومن وجوه الإبتلاء فيها عدم إنقطاع الربا في الأسواق إلى الأبد، فقد يختفي في بعض الأسواق التي يتولى فيها المسلمون أمور التجارات والمكاسب ولكنه يكون موجوداً في أسواق أخرى، ولا يلبث أن يعود في ذات الأسواق التي يبذل المسلمون الوسع في سلامتها من الربا لعصمتهم منه ليستمر جهادهم مع الرغائب في الكسب الخالي من الجهد، والمرتكز على الشرائط الربوية.
لقد شاء الله أن تكون الدنيا دار عناء وتعب، يبذل فيها الإنسان الوسع في أمور دينه ودنياه لينال بغيته، ويصل إلى غايته، وتلك الغايات في باب الكسب والتجارة متجددة ومتكثرة، وكلما إزدادت أموال الإنسان إتسعت آماله، وسعي لمضاعفتها والإستحواذ على الكثير منها.
ويفيد الجمع بين آية البحث وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الإمتناع عن كثرة الآمال التي تجعل الربا والأضعاف المضاعفة كالعلة لها، فيرضى المسلمون بالقليل من الربح الحلال، وينفرون من الكثير منه إذا كان حراماً.
ولا يتعارض هذا الرضا مع خصلة الجمع وحب الزيادة عند الإنسان، ولكن المسلم يدرك أن الزيادة والكسب العظيم في الرضا بالحلال.
وهل من ملازمة بين الحلال والقليل، وملازمة بين الربا والكثير , الجواب لا، بل العكس هو الصحيح، فالكسب الحلال هو الذي يجلب الكثير، وأن عاقبة الربا إلى نقص وقلة، وهو من إعجاز قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا] وما في الأكل من الإتلاف، وقد جعل الله عز وجل في الحلال كفاية.
ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أنها تتخذ الأسواق محلاً لنشر مبادئ الإسلام، وتأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتقيد التام بمضامين آيات القرآن، وترك الكثير الذي يأتي بطريق كسبي منهي عنه في القرآن، ليكون عمل المسلمين في الأسواق على وجوه:
الأول: إنه إمتداد وفرع لأدائهم الفرائض في المساجد.
الثاني: إنه مرآة لملكة التقوى التي تصاحبهم في الميادين المتعددة.
الثالث: إتخاذ المسلمين الأسواق ميداناً لدعوتهم للإسلام، وتتجلى هذه الدعوة بالتنزه عن الحرام والكسب بالباطل.
الرابع:إنه مناسبة لجني المسلمين الحسنات، لتجلي معاني الطاعة لله في حسن سمتهم، ومعاملتهم، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( )، والعدل الإستقامة في المعاملة والحكم، وإجتناب الميل والظلم والتعدي، والإحسان فعل الخير والتفضل والرحمة في المعاملة وقصد الإصلاح في القول والفعل (و قيل العدل التوحيد و الإحسان أداء الفرائض عن ابن عباس و عطاء) ( ).
الخامس: توكيد حقيقة وهي أن المسلمين في جهاد مستمر ومتصل، وأنهم دائبون على تعظيم شعائر الله في كل آن ومكان، وإظهار معاني الشكر لله، في القول والفعل.
بحث أصولي
تحتمل صيغة النهي(لاتفعل)وجوهاً:
الأول: إرادة الفورية، دلالة النهي على لزوم المبادرة إلى إيجاد الإمتناع عن الفعل، ولعدم ورود تقييد، ويدل عليه قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الثاني: معنى التراخي.
الثالث:إفادة التوقف.
الرابع:الإشتراك بين الفورية والتراخي.
الخامس: عدم وجود موضوعية للفور أو التراخي، وليس من دليل على الفور أو التراخي.
السادس: تقديم الإمتناع، لأن الإشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ولكن قاعدة الإشتغال لا تدل على الفورية، والقدر المتيقن من هذه القاعدة في النهي تحقق الكف والإمتناع من المكلف، ولاتدل على أكثر من الطبيعة المهملة سواء في الأوامر والنواهي.
السابع: يكون المكلف في مندوحة في وقت الإمتثال، فله أن يمتثل في الزمن الأول، وله أن يؤخر إلى الزمن الثاني والثالث.
الثامن:تعلق الفورية باقتران النهي بالبيان من المولى لمنع الجهالة والغرر بلحاظ أن الفورية قيد زائد على أصل طبيعة الأمر أو النهي.
التاسع: القدر المتيقن إرادة الكراهة ومطلق النهي كما في الأوامر الإرشادية.
العاشر: ورود دليل آخر خارج الصيغة يدل على الفورية يكون كالبرهان الخارجي، ويأتي هذا الدليل متمماً لأصل الفورية إلا أن يرد دليل آخر خارج الصيغة يدل على التراخي.
الحادي عشر: التخصيص في الفورية بخصوص المستحبات والمكروهات، فرد السلام مثلاًَ فوري.
وفي الآية بلحاظ الفورية وجوه :
الأول: إرادة الفورية في الإمتثال من قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا].
الثاني:الأثر الرجعي لمضامين الآية باسقاط الربح الربوي المتعلق في أموال الناس، ويتجلى هذا الأثر الرجعي بالسنة النبوية كدليل, وإسقاط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما لعمه العباس بن عبدالمطلب من ربا في الجاهلية.
الثالث: التنافي بين مضامين الهداية والصلاح في الإسلام، وبين القبح الذاتي للربا.
الرابع: إفادة المعنى الفورية فيما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودلالة الفاء عليه في قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ] ( )، أي أخذه والعمل به على الفور ومن غير إبطاء بلحاظ أنه نعمة وحكم نافذ.
الخامس:فهم الصحابة والمسلمين عموماً المباردة إلى إجتناب الربا، وامتناعهم عن الربا.
وقيل أن أصالة الطلاق في الأمر والنهي تدل على جواز التراخي، والصحيح هو العكس، فالإطلاق يدل على لزوم الفورية والمبادرة إلى المأمور به .
وأستدل على الفورية في الواجبات بقوله تعالى[فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]( )، إذ تبعث الآية على الإسراع في إتيان الصالحات والواجبات والإمتناع عن الظلم وما نهى الله عز وجل عنه.
السادس: من أسباب الفورية في الإمتناع عن الربا أنه ظلم للنفس والغير وأراد الله عز وجل للمسلمين التنزه عن الظلم الخاص والعام.
السابع: جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً، ومنها منع إشاعة الربا بين الناس، وفي فورية هذا المنع دلالة على إنعدام وجود التراخي بين مبادئ الإسلام وضدها، وتجلى إنعدام التصالح بين الإيمان والكفر في بدايات الدعوة الإسلامية عندما نزلت سورة الكافرون، والتي أختتمت بقوله تعالى[لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ( ).
تلك السورة التي نزلت في قوم من كبار قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والأسود بن عبد يغوث الزهري جاءوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(اتبع ديننا ونتبع دينك ، ونشركك في ديننا كله تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة) ( ).
واستعاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قولهم ومن الشرك بالله، فتنازلوا، وعرضوا عليه أمراً يسيراً بظنهم قالوا(فاستلم بعض الهتنا نصدقك و نعبد إلهك فقال حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فنزل[يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ]) ( )( ).
ومن آيات الجهاد في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما نزلت السورة أمور:
الأول: لم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول السورة عليه.
الثاني:لم ينتظر حتى يسأله هؤلاء الكفار عّما أوحى له الله، ومثل هذا السؤال حجة عليهم لما فيه من الإقرار بالوحي، ومن دهائهم أنهم لم يسألوه عن وقت مخصوص يأتي به بالجواب .
وظاهر الآية أن الجواب لم يتأخر كثيراً، لما تقدم في الخبر(فنزل قوله تعالى) وإفادة الفاء التعقيب وإنتفاء الفترة.
الثالث:حالما نزلت سورة الكافرون(عدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش( )، فقام على رؤوسهم وقرأ عليهم السورة حتى فرغ منها عندئذ أيسوا منه(فآذوه و آذوا أصحابه) ( )، قال ابن عباس : وفيهم نزلت قوله[قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( ).
وتدل سورة الكافرون وموضوع نزولها على لزوم الثبات على التوحيد، ومخالفة الكفار ورفض إرادتهم المداهنة للتضاد والتناقض بين الإيمان والكفر، ولأن الله عز وجل أراد نصر الإسلام ودحض الكفر قال تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
وإجتناب الربا من مصاديق النصر الذي تتزين به الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن منافعه أعم من أن تنحصر بموضوعه أو بالإشخاص الذين يتركونه ويكفون عنه، ومن الإخلاق في عبادة الله إجتناب أكل المال الربوي وما فيه من معاني الظلم، وترك الربا على نحو الفورية، ليكون الإمتناع عنه من أسباب الصلاح في الأرض.
ولا يجب على من يدخل الإسلام قضاء ما عليه من الصلاة والصوم فيما مضى من حياته، لأن(الإسلام يجّب ما قبله) ( )، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر الذين يدخلون الإسلام بقضاء ما فاتهم من العبادات للمدة من سن البلوغ إلى يوم دخول الإسلام.
وتضمن النهي عن الربا إسقاط الأرباح الربوية التي لم يتم قبضها لتكون الآية تأسيساً لحال جديدة في التجارات والمكاسب تتقوم بالتنزه عن الربا، ودلالاته في لزوم الإبتعاد عن الظلم والتعدي في المكاسب ليعم الآمن الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن ينتفع الناس جميعاً منها، كما ينتفعون من غيث السماء الذي هو من رحمة الله ويصيب البر والفاجر .
وإذ جاءت آية البحث بالخطاب التشريفي الخاص للمسلمين (يا ايها الذين آمنوا) جاءت خطابات قرآنية أخرى للناس جميعاً تدعوهم للفوز بتلقي الخطاب أعلاه والجزاء الحسن المترتب على تلقيه بالمنطق بالشهادتين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
ومن معاني الحق في الآية أعلاه الشريعة الباقية إلى يوم القيامة وما فيها من الأوامر والنواهي التي لا تقبل النسخ والتبديل وهي التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها حرمة الربا.
إن القول بالفورية في إجتناب الربا يلزم المبادرة إلى تركه فوراً ففوراً، ولو زاول المكلف الربا أكلاً أو تأكيلاً أو شهادة أو كتابة فانه يؤثم لأن فعله هذا معصية من غير أن تصل النوبة إلى وحدة أو تعدد الموضوع.
وقد يقال أن مسألة فورية الإمتناع عن الربا ليست إبتلائية في هذا الزمان لأن حكم النهي أصبح سائداًًًً بين المسلمين، إنما يرد هذا المبحث في بدايات الإسلام وأوان نزول آيات الربا.
والجواب من جهات:
الأولى: وردت أسباب نزول الآيات لبيان الأحكام، ومنع الإجمال.
الثانية: جاءت السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية لتوكيد الفورية في حرمة الربا، وتدل بالدلالة الإلتزامية على أمور:
الأول: حسن سمت المسلمين.
الثاني: مبادرة المسلمين للإمتثال.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم إرادة الفورية من النهي عن الربا والتنزه عنه على نحو الإستدامة والدوام.
الرابع: تأكيد قانون ثابت وهو أن القبول الحسن للسنة النبوية من خصائص الأجيال المتعاقبة للمسلمين، والشواهد المتجددة لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة:الإبتلاء بالربا أمر متجدد ومستديم، ومن خصائص الفورية القطع والتسلح بالفقاهة والثبات على الإيمان للوقاية من الربا عند هجومه برداء جديد وإفتتان أشد، وهو من إعجاز قوله تعالى[أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] أي قد يأتي الربا أولاً بمبالغ ربحية قليلة، ثم يأتي بما يفيد جني أضعاف رأس المال منه، فيكون الحكم واحداً ويستحضر المسلم فورية إمتناعه عن الربا طاعة لله عز وجل فيبادر للمواظبة عليها وتعاهدها.
ومجئ النهي بصيغة الأكل، كفاية عن إقتران السلامة بالإبتعاد عن الربا وأكله، وفي الخطاب التشريفي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فصل للمسلمين عن غيرهم من الناس في باب العمل بالسنن، ومنع من الغرور وتسرب الشك إلى النفوس لما فيه من الدلالة على حقيقة وهي أن المسلمين خصهم الله عز وجل بنعمة النهوض بأعباء التكليف وأن غيرهم من الناس يعجزون عنها فلذا جاءهم الثواب العاجل بالخطاب التشريفي هذا ليكون مادة لتعاهد التكاليف والواجبات والإنزجار عن أسباب التهاون والتفريط فيها.
ومن خصائص صيغة الجمع في الآية نهي المسلمين عن الشركة الربوية، والديون العامة التي تجر نفعاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بحيث يجتنب كل مسلم الربا، ويتنزه المسلمون مجتمعين عن وجوه الربا.
إن إبتعاد المسلمين كأمة عن الربا طاعة لله سبب لنشر مفاهيم الإستقرار في الأسواق الخاصة بالمسلمين، والمشتركة العامة التي تجمع بينهم وبين أهل الملل الأخرى، خصوصاً في زمان التداخل بين الأمم والأمصار كما في هذه الأيام، لبيان سر من أسرار إختيار المسلمين لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: حصانة الأسواق من الأنهيار.
الثاني: سلامة التجارت من الكساد.
الثالث: المنع من إقتتال الناس فيما بينهم لإتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وإزدياد عدد الفقراء بسبب أكل أصحاب رؤوس الأموال الربوية، لما يكسب المقترض، حتى يعجز عن الوفاء.
ولما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الإحتجاج من الله عز وجل الذي جعلهم يلوذون بالعرش بالتسبيح وتنزيه مقام الربوبية، قال تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجود أمة عظيمة تتبعه إلى يوم القيامة، ولا تنحصر وظائفها بذات أفرادها بل تتوجه إلى الناس جميعاً لقوله تعالى[أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
ترى ماذا يكون لو تباطئ وتراضى المسلمون ولم يعملوا بحرمة الربا على الفور.
الجواب من وجوه:
الأول: فوات ثواب عظيم للمسلمين، بلحاظ آنات الزمان وأفراد المعاملات.
الثاني: حصول الإختلاف في زمان ترك الربا، ومنهم من يقول أنتظر قبض مالي.
الثالث: من إعجاز الآية أنها جاءت بالنهي عن أكل الربا، والأكل فعل يومي متجدد , والإمتناع عما ياضمن جنس وماهية الربا يستلزم الفورية في ترك الربا بلحاظ أنه مصدر الأكل.
الرابع: منع التعدد والتأويل والفرقة في باب الإمتثال لأحكام التنزيل.
الخامس: مع إنعدام القرينة على التراخي والإبطاء فإن الفتور والتردد في العمل بأحكام الآية مادة ينفذ منها أهل الشرك والريب.
قانون”الإنزجار عن الربا شكر لله’’
جعل الله عز وجل الدنيا ميداناً للعمل وندب للناس لفعل الصالحات، وقربهم من منازل الهداية والرشاد ببعث الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية التي تتضمن أحكام الحلال والحرام، ونبذ القبيح، ومنه حرمة الربا إذ جاهد الأنبياء لدفع الناس عن المعاملة الربوية، وبيان أضرار الربا في الدنيا والآخرة، ليأتي القرآن بالإنذار الدائم المستديم من الربا، قال تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
وفي الآية أعلاه شاهد على سلامة القرآن من التحريف لأنها تخبر عن إنذار القرآن للناس جميعاً في الأجيال المتعاقبة وإلى يوم القيامة بدليل قوله تعالى[لِلْعَالَمِينَ] وإرادة العموم منه.
ومن إنذارات القرآن النهي عن الربا، والإخبار عن أضراره وسوء عاقبته كمعصية وفعل مذموم يتضمن الظلم والتعدي، قال تعالى[تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا] ( ).
وهل يقف الأمر عند الإنذار من المعصية، وتختص البشارة القرآنية بالفعل الحسن .
الجواب لا، فان البشارة تتغشى ترك المعصية , وتتودد إلى المسلم ليجتنب الربا، وفيه مسائل:
الأولى:فوز المسلم بثواب إجتناب الربا.
الثانية:توكيد معاني الرحمة في الأحكام الشرعية، بترتب الثواب العظيم على الإمتناع عن المعصية.
الثالثة: فتــح أبواب الرزق الكريم على من يبتعد عن المعصية طاعة لله عز وجل، وهذا الرزق لا ينحصر بذات الموضوع كالكسب والمال لمن إجتنب الربا.
ويدل على العموم إختتام آية البحث بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] لتبادر معاني الإطلاق من الفلاح وأسباب البقاء.
الرابعة: إنعدام الحسرة عند المسلم بسبب ترك الأضعاف المضاعفة التي تأتي من الربا.
وتلك آية إختص الله عز وجل بها المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فلا تجد عدداً من المسلمين يتناجون بذكر الأرباح الكثيرة التي تأتي من الربا لو فعلوه ظلماً، بل يتباهون بفخر بإجتنابهم للربا وعزوفهم عنه.
الخامسة: بعث الشوق في نفوس المسلمين للثواب العاجل والجزاء الآجل على الإمتناع عن الربا.
فمن أسرار لغة الإنذار في القرآن عدم مجيئه مستقلاً ومنفرداً، بل تصاحبه البشارة وتتفرع عنه، وفيه دعوة إضافية للمسلم للتقيد بآداب الإنذارات القرآنية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
لتكون النعمة في المقام من وجوه:
الأول: الإنذار القرآني.
الثاني: البشارة من الله عز وجل.
الثالث:مصاحبة البشارة للإنذار نعمة وفضل من الله.
الرابع: ترشح البشارة عن الإنذار
وهذا التعدد مناسبة ليتدبر المسلمون القرآن، وأفراد في آياته من النعم في منطوقها ومفهومها وأحكامها وسننها، ومن النعم الواردة في منطوق الآية:
الأولى: الخطاب الإلهي للمسلمين[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثانية: لغة التشريف والإكرام التي جاء بها الخطاب القرآني.
الثالثة:النهي عن الربا.
الرابعة: المنع الصريح من أكل الربا.
الخامسة: وجوب قيام المسلمين بتقوى الله.
السادسة: بعث المسلمين والمسلمات للسعي في مسالك الفلاح والعز والبقاء، وفيه بشارة وثناء على المؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين ثبتوا في منازل الإيمان والتقوى , وأعرضوا عن الكفار والمشركين مطلقاً ولو كانوا ذوي قربى، قال تعالى [أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السادسة: مبادرة المسلمين للشكر والثناء على الله عز وجل لهدايتهم لسبل الرشاد طاعة الله، والإمتناع عن المعاصي والسيئات ومنها الربا، والإنزجار عنه.
إن ملكة النفرة من الربا وأهله نعمة من الله عز وجل تستلزم التوجه اليه تعالى بالشكر، لما فيها من رشحات الفضل الإلهي، ومنها:
الأول:إنها سبب للصلاح والرشاد.
الثاني: الإمتناع عن الربا مناسبة ومقدمة للإمتناع عن المعاصي والذنوب الأخرى.
الثالث: إستدامة قهر النفس الشهوية، والحيلولة دون غلبة خصلة الطمع على اللسان والجوارح.
الرابع: نقاء وسلامة المسلمين من أعباء الذنوب وشدة أوزارها.
ويجتنب المسلمون أكل الربا بقصد القربة إلى الله عز وجل، وقد تعددت الأقوال في المراد من قصد القربة .
منها( الإتيان بالفعل شكراً لله تعالى على نعمة الخلق والإيجاد والرزق والصحة وغيرها من النعم) ( ).
ليتخذ المسلم إمتناعه عن الربا بلغة للفوز بمنازل الثواب والجزاء في الآخرة، قال تعالى[وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
ومن مصاديق ودلالات الشكر معرفة المنعم، والإقرار بفضله، فالله سبحانه هو الذي رزق الإنسان المال والخير الكثير، ثم نهاه عن طريق مخصوص من الكسب لما فيه من الأضرار على الذات والغير، ليكون الإمتناع عن الربا من الشواهد على التفاني والإخلاص في عبادة الله، وعدم الإنقطاع إلى قوانين الأسباب والمسببات , فلابد من جعل موضوعية للأوامر والنواهي الإلهية.
وثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب، ويكون بين العبد وخالقه بحسن العبادة والإمتثال للأوامر الإلهية، وإجتناب ما نهى الله عنه، لذا فان ترك أكل الربا من الشكر لله عز وجل.
بحث بلاغي
الإنسجام لغة جريان الماء، وفي إصطلاح البلاغة هو مجئ الكلام متصفاً بصفات من البديع:
الأولى: خلوه من التعقيد في اللفظ والمعنى.
الثانية:أن يكون بسيطاً جلي الألفاظ.
الثالثة: ليس فيه تعسف، أو إبتعاد عن التكلف والتصنع.
الرابعة: ينحدر برقة كما ينحدر الماء المنسجم لعذوبة ألفاظه وظهور معانيه.
ومنهم من سماه الإنسجام أو السيولة، لسهولة المعاني مع جزالتها ولكن الإقتصار على لفظ الإنسجام هو الأنسب.
يأتي الكلام على صيغ شتى من حيث السهولة والإنحدار أو الإطناب والتعقيد، ومن علوم البديع(الإنسجام) وهو تجلي مفاهيم اليسر والتداخل والترابط في مفردات الكلام، وسهولة التركيب، ويدرك السامع عذوبة اللفظ وجزالة المعنى، ويتحقق الفهم عنده للكلام لرقته وبيانه، ومعاني الوزن فيه من غير قصد إنما يكون الوزن رشحة من رشحات الملائمة والإنسجام بين الكلمات.
وآيات القرآن مدرسة الإنسجام بمعناه الإصطلاحي والأعم منه، وفيه أمور:
الأول: حفظ العربية ومفرداتها.
الثاني: تعليم للناس كيفية الكلام وإختيار المناسب الذي تتذوقه الأسماع.
الثالث: وصول المعنى إلى القلوب بما يساعد في فهم المقصود.
ومن الإعجاز في التنزيل أن نعمة التعلم هذه خاصة بالمسلمين لأنهم الذين يتلون القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فينتفعون بها من وجوه:
الأول: الثبات على الإيمان.
الثاني: التسليم بإعجاز القرآن، وأنه فوق كلام البشر وهو أمر أدركه أهل الفصاحة من العرب، وكان سبباً لدخول الكثير منهم الإسلام إلا من غلب عليه العناد والشقاء. (عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : ياعم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا قال : لم، قال : ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له أو إنك كاره له قال : و ماذا أقول فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني و لا أعلم برجز و لا بقصيدة مني و لا بأشعار الجن و الله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا والله إن لقوله الذي يقول حلاوة و أن عليه لطلاوة و أنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله و أنه ليعلو و ما يعلى و أنه ليحطم فاتحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال : فدعني حتى أفكر فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا.
الثالث: إتخاذ انسجام ألفاظ القرآن حجة وشاهداً على نزوله من عند الله سبحانه .
الرابع: بعث الشوق في النفوس لتلاوة القرآن، وطرد السام والملل اثناء قراءته أو سماعه.
إن الإنسجام في الكلام وصيرورته كالماء المنسجم المتساوي في سطحه وصفائه دليل على بلاغته وعنوان لعذوبته، وهو في القرآن أمر أكثر إرتقاء ودلالة وتجلياً لموضوعية الإعجاز، فترى فيه أنواع الوزن الشعري وليس هو بشعر( )، ولكنها شذرات إعجازية وفرائد سماوية بلسان أهل الأرض من العرب ليكون على وجوه:
الأول: إنه مصدر لإقتباس المسائل والقواعد والقوانين.
الثاني: إنه مناسبة للرضا عن الله والتوجه له بالشكر والثناء على نعمة التنزيل.
الثالث: فيه بعث للشوق إلى عبادة الله والمبادرة إليها، قال تعالى[بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ]( ).
الرابع:
إنه حجة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنتفاء الشك والريب في رسالته.
قانون”الزهد وترك الربا’’
الزهد في الشئ تركه والإعراض عنه يقال (زهد- بالكسر- في الشئ زهداً وزهادة)( )، فهو زاهد والجمع زهاد، وزهد بفتحتين لغة، والزهد في الشئ ضد الرغبة فيه.
وعن الأمام علي عليه السلام :أفضل الزهد إخفاء الزهد) ( ).
ويبعث الكلام عن الزهد السكينة في النفس لما فيه من أسباب الورع، ومعاني التقوى.
ومن إعجاز القرآن أن تجد مفاهيم الصلاح في آيات القرآن , فتتعدد التعريفات لإصطلاح مخصوص، بينما تجد معناه الحقيقي يتجلى في آية قرآنية وبصيغة الجملة الإنشائية أو الخبرية .
ويتجلى الزهد في آية البحث من وجوه:
الأول: الخطاب التشريفي للمسلمين (ياأيها الذين آمنوا) ودلالته على الإيمان بالله والتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لما فيه من اليقين الذي هو أعلى مرتبة من الزهد، وبين اليقين والزهد عموم وخصوص مطلق، فكل يقين هو زهد وليس العكس.
الثاني: الإنزجار عن ربح الأضعاف المضاعفة من الربا، وما في هذا الزجر من الزهد في الذهب والفضة فلايحتاج المسلم تقدير الأرباح التي تأتيه من الربا ثم يزهد فيها .
فأخبرت آية البحث عنها بوصف مبالغة غير محدود[أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] فيتركها المسلم زهداً وتعففاً، وتلك آية في صلاح المسلمين لوراثة الأرض بالإيمان والتقوى، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الثالث: الأمر الإلهي بتقوى الله، والتقوى رأس الزهد، وتجعل الزهد بالدنيا أمراً يسيراً وفيه لذة، ولايتعارض هذا الزهد مع التنعم بالطيبات والكسب الحلال الذي هو من التقوى أيضاً.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لارهبانية في الإسلام) ( )، وأصل الرهبة الخوف، والرهبانية عبادة خاصة بالنصارى جاء القرآن بتوثيق أصلها وأنها بدعة، قال تعالى[وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ]( ).
ومن وجوه تفسير الآية أعلاه(أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه فاتخذوا أسرابا و صوامع) ( ).
لذا ورد بيان وتفسير وضياء هدى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما رواه عبد الله بن مسعود قال :
(كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على حمار , فقال يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية , فقلت الله و رسوله أعلم , فقال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله.
فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهُزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا و لم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام يعنون محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فتفرقوا في غيران الجبال و أحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه و منهم من كفر ثم تلا هذه الآية، و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، إلى آخرها .
ثم قال يا ابن أم عبد أ تدري ما رهبانية أمتي قلت الله و رسوله أعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج و العمرة) ( ).
فان قلت لم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترك الربا في مصاديق رهبانية المسلمين.
والجواب جاء ذكر العبادات والفرائض وفروع الدين التي يكون ترك الربا فرعاً منها وقد هاجر المسلمون الأوائل إلى المدينة المنورة وتركوا أموالهم ودورهم، وفروا بدينهم ولم يكن عندهم مال ليربو بين الناس، وكانت أيامهم في المدينة جهاداً في سبيل الله.
وتوارث المسلمون حال الصلاح والزهد في الدنيا، وتلك التركة الباقية في أجيالهم إلى يوم القيامة وإن ولم يلبسوا الخشن ولم يأكلوا الحشف( )، ومن مصاديق توارثهم للزهد تركهم الربا، وإعراضهم بقصد القربة عن الأضعاف المضاعفة من الأرباح الربوية.
وقال أحد العلماء الزهد يتكون من مجموع الحروف الأولى في مواضيع ثلاث يلزم تركها هي الزينة، والهوى ، والدنيا، والزهد أعم فهو فرع التقوى التي أمر الله عز وجل بها في هذه الآية.
إن ترك الربا فرع ومصداق لحرمة الربا، ومن الزهد ما يكون في ترك الزائد والنافلة من الحلال، والزهد في الشبهات وعدم ولوجها، وليس من الزهد تحريم الحلال أو التفريط بالمال.
ويتجلى الزهد برجاء فضل الله، والرضا بحكمه والشكر على ما قسم، وسؤال المزيد من فضله دون سواه إظهاراً للعبودية له سبحانه، وإقراراً بأن الرزق بيده وعشقاً للرجوع إليه والوقوف بين يديه للحساب , قال تعالى[لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] ( ).
ومن مصاديق الزهد والتوقي من الربا المواظبة على عمارة المسجد , والإحتراز بالذكر من الإفتتان بعالم الأسواق .
عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله اي البقاع خير قال لا ادرى قال فأى البقاع شر قال لا ادري قال فاتاه جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل أي البقاع خير قال لا ادرى قال أي البقاع شر قال لا ادرى قال سل ربك قال فانتقض جبريل انتقاضة كاد يصعق منها محمد صلى الله عليه وسلم فقال ما اسئله عن شئ فقال الله سبحانه لجبريل عليه السلام سألك محمد اي البقاع خير فقلت لا ادري وسألك اي البقاع شر فقلت لا ادري فاخبره ان خير البقاع المساجد وان شر البقاع الاسواق)( ).
بحث كلامي
تقدير الجمع بين شطرين من الآية: يا أيها الذي آمنوا بالله إتقوا الله) وفيه نكتة عقائدية إختص الله بها المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: إنه حجة على الناس بتقيد المسلمين بأحكام التقوى من بين أهل الأرض.
الثانية: فيه بعث لليأس في قلوب أعداء الإسلام من المسلمين في الأسواق والمعاملات التجارية، فلا يشترك المسلمون في المعاملات الربوية أكلاً أو تأكيلاً أو شهادة أو كتابة.
الثالثة: تذكير الناس بما طرأ على الكتب السماوية السابقة من التحريف، وعدم تقيد أتباع الأنبياء السابقين بأحكام التنزيل في المعاملات .
الرابعة : إنفراد المسلمين بالعمل بأحكام التنزيل , قال تعالى[وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ]( ) .
والنسبة بين الآيتين أعلاه الإطلاق والتقييد، فجاءت الآية أعلاه مطلقة من غير تعيين لصفات تلك الأمة , وجاءت آية(كنتم خير أمة) بالحصر والتعيين لأن الإنفراد بالهداية إلى الحق، والحكم به من خصائص(خير أمة).
روى ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الآية أعلاه من سورة الأعراف : هي لأمتي بالحق يأخذون و بالحق يعطون و قد أعطي القوم بين أيديكم مثلهاوَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ( ) .
أي في زمانهم، وهو من مصاديق تفضيلهم أيام بعثة موسى عليه السلام , قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية أن النهي والذم في باب الربا جاء متعدداً وشاملاً للمقترض للمال الربوي والشاهد عليه وكاتبه، وفيه إيذاء للكفار بتمام اليأس من المسلمين لإجتنابهم للعقد الربوي على نحو السالبة الكلية.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً]( ).
وتلك آية في التداخل بين المعاملات وميادين الجهاد، وبين المعــاملات والعبادات، فمتى ما كان المســـلم مديناً إلى الكافــر والأربــاح الربوية تـــزداد عليه فإنه يكون ضعيفاً أمامــه.
فأراد الله عز وجل للمسلم العز والرفعة فنهاه عن قبض المال الربوي من الكافر بتحريم العقد الربوي من طرفيه، وفيه علم قائم بذاته من كنوز القرآن وهو مجيء النهي في باب التجارة.
قانون” الملازمة بين التقوى والتنزه عن الربا’’
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الفقه والفهم، يتفقه فيها الإنسان بالأمور التي تخصه وغيره من الناس، و يهتدي لأسباب جلب المصلحة فيسعى اليها، وموارد حصول المفسدة فيمتنع عنها.
ويستطيع الإنسان بذاته أن يدرك هذه الأمور بالتجربة والوجدان، ولكنه طريق شاق يتحمل فيه الخسارة والضرر، وهذا الضرر خاص وعام أي يكون الإنسان سبباً للإضرار بالجماعة أيضاً.
فتفضل الله عز وجل , بتقريب الناس من مصاديق السلامة من هذا الإفتتان إذ أنزل الكتب السماوية , وبعث الأنبياء والمرسلين لهدايتهم إلى سبل الصلاح والفلاح.
فما أن يبلغ العبد سن التكليف حتى تتوجه له الأوامر والنواهي، وما عليه إلا أن يمتثل لها فيعمل بالأمر، ويجتنب ما نهُى عنه , فتتبين له معالم النجاة، وأسباب الإرتقاء وتتقوم النجاة بعبادة الله عز وجل، قال تعالى[قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وفيه تأكيد للدلائل والعلامات التي جعلها الله شواهد عقلية وحسية على توحيده، ولزوم عبادته، وحث على إتخادها سبلاً تؤدي إلى الصلاة والفلاح والتوفيق، وبيان لزوم التوكل على الله عز وجل، وتفويض الأمور إليه سبحانه .
ومن أهم مصاديق الهداية الإلهية آيات القرآن والأحكام التي يتضمنها، والعلوم التي تقترن بها وتتجلى منها، ليكون الوجدان والتجربة شاهدين على صدق نزوله من عند الله، والنفع العظيم بالعمل بهذه الأحكام وهي أفضل ما أطل على الأرض من العلوم.
ومن إعجاز أحكام القرآن أن الناس جميعاً يدركون منافعها، الذي يعمل بها، والذي يؤمن بنزولها من عند الله والذي يصر على الجحود والعناد، لذا جاء الخطاب القرآني بالبشارة والإنذار للمكلفين جميعاً، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
أي أن الأوامر والنواهي التي جاء بها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي نزل بها القرآن هي الدين الذي أراده الله عز وجل للناس، ولابد من التصديق بها، والعمل بمضامينها.
ومن يكفر يلحقه الضرر والبلاء فان السماوات والأرض ملك لله عز وجل وهو غني عن العالمين، والتكذيب بالتنزيل لاينقص من ملك وسلطان الله عز وجل شيئاً.
وبين التكذيب بالتنزيل وأكل الربا عموم وخصوص مطلق، فقد يؤمن الإنسان بالتنزيل , ولكنه يصر على أكل الربا طمعاً وإنقياداً للنفس الشهوية وإصراراً على الباطل، فجاءت آية البحث بأمور:
الأول: مخاطبة المسلمين بصفة الإيمان[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] للتذكير بأن الإيمان يملي على الإنسان العمل بما آمن به وان التسليم بنزول القرآن من عند الله بجعل الإنسان مسلماً، ويلزمه الإمتناع عن الربا لمجئ النهي الصريح عنه بآية البحث وآيات أخرى من القرآن.
وهذا التعدد شاهد على موضوعية إجتناب الربا في الإسلام ليكون نزول كل آية من القرآن تثبيتاً لمضامين الآية السابقة التي هي بشارة وتصديق للآية اللاحقة سواء في ذات الموضوع والحكم أو غيره، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً وما فيه من الإعجاز، قال تعالى[وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ] ( ).
وكان بين أول وآخر نزول القرآن نيف وعشرون سنة، وفيه دعوة للتدبر في الأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن، وإستحضار آياته عند الوقائع والحوادث، وإستقراء المواعظ والعبر منها.
وعن ابن عباس قال: لئن أقرأ سورة البقرة و أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذاً) ( ).
وتحتمل الصلة بين التقوى والتدبر في قراءة القرآن وجوهاً:
الأول:التدبر في قراءة القرآن مصداق للتقوى.
الثاني: التدبر فرع ورشحة من رشحات التقوى.
الثالث: بالتدبر في القرآن تحصل ملكة التقوى عند المسلم، أو أنها تنمو وتترسخ عنده.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها صحيحة، وهو آية في خلق الإنسان، وإصلاح المسلمين لأسباب الهداية والرشاد، وجاء خطاب الإكرام للمسلمين في بداية آية البحث لبعث المسلمين والناس جميعاً للتدبر في أمور:
الأول:ماهية خلق الإنسان.
الثاني:الأسباب التي يتقوم بها تفضيل الإنسان , قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ]( )، وفيه شاهد على صدق نزول القرآن بأن يأتي بالإخبار عن تشريف وإكرام كل إنسان ومنهم الكفار الذين يحاربون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، لأن الإكرام والنعم ظاهرة على الناس جميعاً منها أمور:
الأول: بديع خلق الإنسان، قال تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الثاني: صحة الأبدان والعقل.
الثالث: ما سخر الله عز وجل للناس من الخيرات والطيبات.
الرابع: آيات التنزيل.
الخامس: نعمة العقل وإدراك علل الأحكام ومنها أضرار الربا على الذات والغير، وبعث الإنسان لفعل الصالحات رجاء ثواب الآخرة.
السادس:عمارة الأرض بعبادة الله عز وجل.
السابع: وسائط النقل وأسباب تسخير الأرض للناس , وهو الذي تدل عليه آية الإكرام أعلاه من سورة الإسراء.
الثامن: وجوه ومصاديق عديدة لتفضيل الناس على غيرهم من أجناس المخلوقات.
وعن جابر بن عبدالله :أكرموا بالأصابع ليعملون بها مايشاءون)، وعن ابن عباس : بالقوة والعقل والنطق والتمييز)، وعنه أيضاً(إنهم يأكلون باليد و كل دابة تأكل بفمها) ( )، وعن محمد بن كعب بان جعل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منهم).
ويعجز الناس عن إحصاء مصاديق إكرامهم من عند الله في الدنيا، ويتخلفون إنطباقاً وقهراً عن تصور أفراد إكرامهم في الآخرة، وهذه الإكرام فرد من النعمة الإلهية التي وردت بقوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين أعلاه عجز الناس عن إحصاء مصاديق فرد واحد من النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم، والتقوى من مصاديق النعم التي تذكرها الآية أعلاه، فان قلت التقوى لباس خاص بالمسلمين، وتشمل الآية أعلاه أفراد النعم التي تتغشى الناس جميعاً.
والجواب من جهات:
الأولى: الأصل هو توجه الأمر بتقوى الله للناس جميعاً , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ]( )، وصحيح أن واو العطف في قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ] تفيد المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، إلا انها في المقام تتضمن أيضاً التداخل بينهما، من وجوه:
الأول: إنه من عطف العام على الخاص، وبين التقوى وعدم أكل الربا عموم وخصوص مطلق، إذ أن إجتناب الربا من التقوى.
الثاني: تجلي مصداق التقوى في سيرة المسلمين اليومية في الأسواق والمعاملات ولاتنحصر معاني التقوى عندهم في أوقات الصلاة ودخول المساجد، بل هي مصاحبة لهم في أشد الأماكن وأكثرها إفتتاناً وهي الأسواق.
الثالث: جاء ذكرى التقوى بصفة الزاد واللباس قال تعالى[وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( )، وفي اللباس في الآية أعلاه أقوال عديدة منها:
الأول: ما ورد عن ابن عباس( هو العمل الصالح) ( ).
الثاني: هو الإيمان، عن قتادة.
الثالث: خشية الله عن عروة بن الزبير( ).
الرابع: ثياب النسك والتواضع إذا إقتصر عليه كلباس الصوف والخشن من الثياب عن الجبائي.
الخامس: لباس التقوى الدرع والمغفر والساعدان والساقان يتقى بهما في الحرب عن زيد بن علي ( ).
ويمكن أن يضاف لها وجه آخر وهو : ذات التقوى هو اللباس ) كما تقول لباس الصوف، قال تعالى في وصف أهل الجنة[لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ] ( )، لتكون عاقبة وثواب لباس التقوى في الدنيا هو لباس الحرير في الآخرة، مع أن لباس التقوى نوع مجاز وتلبس بالعمل الصالح، فان الثواب يكون حقيقة لباساً من الحرير.
وقد يقال اللباس أمر وجودي، وترك الربا أمر وجودي، وليس عدمياً، وهو سعي وجهاد في سبيل الله، ويمكن الجمع بين الآيتين بتقدير(لباس التقوى خير من الربا أضعافاً مضاعفة).
بحث أصولي
ينقسم اللفظ بلحاظ المعنى المقصود منه إلى قسمين:
الأول:الحقيقة وهو كل لفظ يفيد معنى مخصوصاً وضع له في أصل اللغة وتكون العلقة الوضعية بينهما ظاهرة وبيّنة لنسبة لغوية أو شرعية أو عرفية.
ومعنى الحقيقة في علم الكلام هي نفس الشئ، وما يفسره.
ومن الصعب القطع بالملازمة بين اللفظ ومعناه الحقيقي وإثبات أنه وضع له بالأصل، ولكنه يذكر على نحو التقريب والمتعارف.
الثاني: المجاز وهو اللفظ الذي يراد منه معنى آخر غير الذي وضع له في الأصل، على جهة التبع للأصل بلحاظ وجه للشبه بينهما ومعنى المجاز واحد في اللغة وعلم الكلام والأصول.
وقد أضفنا قسيماً ثالثاً لهما وهو اللفظ الجامع للحقيقة والمجاز في آن واحد.
وتلك آية في أسرار اللفظ القرآن، وتعدد معانيه، وترشح إستنباط المسائل والأحكام والدلالات منه.
وعلامات الحقيقة هي :
الأولى: التبادر، بأن يتبادر إلى الذهن عند سماع اللفظ المعنى الذي وضع له أصلاً، من غير قرينة حالية أو مقالية.
الثانية:عدم صحة السلب، فلا سلب للفظ من ذات المعنى فهو ملازم له.
الثالثة: الإطراد: والمراد منه عدم إختصاص صحة إستعمال اللفظ بحال دون آخر لذات المعنى، ولا بهيئة ومقام دون آخر، بل هو مطرد في كل أحوال الموضوع.
فيستعمل لفظ(الأكل) حقيقة في إدخال الطعام في الجوف عن طريق الفم، يقال:أكلت الطعام أكلاً ومأكولاً، ويستعمل مجازاً في موارد عديدة، فيقال(أكلت النار الحطب) ( ).
ويقال (ما هم إلا أكلة رأس) ( )، أي قليل يكفيهم رأس واحد.
ومن الآيات في قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] إرادة المعنى الجامع للحقيقة والمجاز بذات اللفظ المتحد للأكل، إذ يطعم المرابي نفسه وعياله من الربح الزائد على القرض مباشرة كما لو كانت الزيادة من القمح والتمر ومطلق الحبوب والثمار، أو بالواسطة كما لو إستلم المال الربوي وإتخذ به مؤونة له ولعياله.
ويكون إستعمال الأكل في الآية من باب المجاز والمراد الإستحواذ والتملك والجمع يقال(هذا الحديث يأكل الأحاديث) ( ).
وإلا فان نفقة الأكل قليلة بالنسبة للأضعاف المضاعفة التي تأتي من الربا، ويموت صاحبها ويترك وراءه ثروة عظيمة، ولكنها قد لا تستمر في النماء والمضاعفة.
ومن خصائص المجاز صدق نقيضه، كقولك جارنا حاتم، إذ أخبرت عن كرمه ثم يصدق القول وليس هو بحاتم لنفي الحقيقة، عنه لأن حاتماً شخص مات قبل الإسلام إنما هو مثال للكرم والجود.
ولفظ (الأكل) في الآية تستطيع مرة إيجاد النقيض له بلحاظ المعنى المجازي للإستحواذ على مال الغير بالمعاملة الربوية، وأخرى لاتستطيع إيجاده لأنه أكل حقيقي.
وفي هذا المعنى الجامع للفظ في الآية القرآنية تحذير من ولوج باب الربا، وإخبار بأن أضراره تلحق النفس والغير.
بحث بلاغي
من ضروب البديع(الإدماج) وهو مبحث لطيف بان يقوم المتكلم بدمج بديع في بديع، أو مفهوم في موضوع، أو غرض بعيد في غرض ظاهر ومتعارف، وأستدل عليه بقوله تعالى[لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ] ( ).
فمع المطابقة أدمجت في الآية المبالغة في الحمد، لأن الله أفرد نفسه بالحمد وأنه وحده يستحق الحمد ولا يحمد سواه، ويستدل على الإنسجام في السنة بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وصف القرآن.
(إن الله أنزل علي القرآن آمراً وزاجراً، وسنةً خالية، ومثلا مضروبا، فيه نبأكم وخبرما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الحق ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاء النافع، عصمةٌ لمن تمسك به، ونجاةٌ لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب) ( )، أمور:
الأول: تجلت في الحديث معاني البديع من غير قصد أو تكلف في إختيار كلام موزون.
الثاني:لم يأت الحديث عن تفكير ورواية بل هو مسترسل .
الثالث:إنه شاهد بأن كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع من الوحي والإدماج في القرآن آية إعجازية ينفرد بها من بين كلام البشر وكتب التنزيل، فلايستطيع العرب وغيرهم بلوغ معشار ما في اللفظ القرآني من الإدماج وتعدد الغايات له.
الرابع: يمكن إستقراء مرتبة من البلاغة والفصاحة تتصف بها السنة القولية عن الدخيل والموضوع.
ويمتاز الإدماج القرآني بأن الأغراض والغايات منه متجددة وتوليدية، ففي كل زمان تتجلى غايات جديدة، ومواضيع مستحدثة للغايات الموجودة قبلها، والمستقرأة من اللفظ القرآني ومن موافقة الوقائع والحوادث لأحكام القرآن.
ولم يعلم أحد أن الأمم والشعوب تتغير بسرعة، وأن الموازين تتجدد وتنسخ وتأتي قواعد مستحدثة في المقاصد الإنسانية وحركة الشعوب، ومصادر القرار وصيرورته من العامة كظاهرة متكررة متعدد .
ليكون الناس بحاجة إلى القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي، والبرزخ دون أسباب الغي والطغيان والضلالة، وفي باب الربا جاء النهي عنه صريحاً في القرآن وحمله عدد من الفقهاء على الكيفية التي كانوا يربون بها قبل الإسلام.
وعن ابن عباس: كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه له زدني في الأجل و أزيدك في المال فيتراضيان عليه و يعملان به فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع و الزيادة فيه بسبب الأجل عند محل الدين سواء فذمهم الله به و ألحق الوعيد بهم( ).
وظاهر الحديث أعلاه أن المعاملة أحياناً تبدأ صحيحة خالية من الربا والزيادة الربوية، ولكن عند عجز المدين من القضاء في الأجل يعرض على صاحب المال زيادة القرض وإطالة الأجل.
ولكن المعاملات إتسعت كثيراً وأخذت صبغة الربا في أول العقد، وصارت صيغه ظاهرة ومشكوفة لتتجلى بعض غايات اللفظ القرآني وهي الإحاطة بالصنوف المستحدثة للموضوع الواحد.
والربا زيادة من غير بدل إنما هي مقابل النسيئة في أجل الدين، أو في أصل الدين، بحيث لا يتم عقد القرض إلا مع شرط الزيادة.
الرابع:يبين الحديث أعلاه عشق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، وتعلقه بآياته وتسليمه بنزوله من عند الله، وتكامله موضوعاً وحكماً وبيان فضل الله على المسلمين، وغنى المسلمين بالقرآن.
الخامس: إستيعاب أحكام القرآن لما يأتي من الأحداث، وأسباب النمو والتغيير إلى يوم القيامة.
السادس: تأكيد الفصاحة التي كان عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم مرتبة إعجاز وبلاغة القرآن أرقى درجة , وهو شاهد على نزوله من عند الله، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم(أَنا أَفصح العرب بَيْدَ أَنِّي من قريش ونشأْت في بني سعد) ( ).
السابع: الحديث من مصاديق جوامع الكلم( )، التي تفيد مع قلتها معاني كثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم)( ).
وسمي الإدماج لأن المتكلم يأتي بكلام لغاية مقصودة ومناسبة جلية، ولكنه دمج معه غرضاً آخر لم يصرح به، وهو من ضروب الإيجاز، والبديع وبهاء لغة القرآن، وما فيها من الكنوز والذخائر.
بحث منطقي
يصح استعمال اللفظ فيما وضع له بالأصل وما يكون بالطبع، وما يستعمل فيه مجازاً لمناسبة وعلاقة بينه وبين ما أستعمل له، سواء كانت المناسبة عقلائية أو موضوعية أو شرعية، ومعنى العلاقة في علم الأصول المناسبة بين المعنى الحقيقي للفظ والمعنى المجازي المنقول إليه( ).
وتتعدد وتزداد الأعيان والعروض التي يستعمل وينتقل إليها اللفظ، وقد يكون اللفظ متعدداً في دلالته ومفهومه، فيحصل إضطراب في فهمه وربما يحدث الخلاف في التفسير والنزاع في الحقوق بلحاظ تعدد تفسير المجمل، وكل فرد أو فريق يأوله بما فيه نفعه.
ومن إعجاز القرآن بيان الإجمال، وعدم حصول الخلاف في معاني ودلالة ألفاظه، وترى دستوراً وقانوناً من مفردات قليلة، يكثر الخلاف في تأويله، ويشتد النزاع عند الإبتلاء بمصداق عملي لحكم ومادة منه، وفيه حجة على الناس في صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، لسلامته من التباين.
ولاينحصر إنتفاء الخلاف في اللفظ القرآني، بل يشمل موضوعه وحكمه، قال تعالى[وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ]( ).
والكتاب في الآية أعلاه هو القرآن ومن معاني(فصلناه) بيّناه وقسمناه وفسرناه، و(على علم) أي على علم من الله بالوقائع والأحداث التي ستأتي بما يكون فيه القرآن جامعاً، ومحيطاً بلامتناهي منها، ولا يقدر على هذه الإحاطة إلا الله عز وجل.
وقد تقع بسبب الخلاف في تفسير ومعنى لفظ مخصوص نزاعات تستمر لسنوات، وقد تكون هناك حروب، وخسائر في الأنفس والأموال مع إنحصار موضع وموضوع الخلاف .
وتتغشى آيات القرآن العبادات والمعاملات والأحكام، فإذا كان فيها إجمال خال من البيان فان الخلاف يتجدد ويتسع عرضاً وطولاً، أي في مواضع وأمصار أخرى في ذات الوقت، وطولاً في أزمان لاحقة، وتؤلف المجلدات في موضوع الخلاف، وتتعدد المذاهب، وتنشطر في ذاتها بما يسبب الضرر للإسلام .
فخفف الله عن المسلمين، وبين المضامين والمقاصد السامية لآياته لذا أختتمت الآية أعلاه ببيان علة نزول القرآن وتفصيله وبيانه بقوله تعالى[وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وجاءت الأسماء والأحكام في القرآن بالتعريف التام الجامع المانع، الجامع لمصاديق المراد والمقصود من اللفظ، والمانع من دخول غيرها لعلها، وهو إعجاز بذاته وبلحاظ بقائه غضاً طرياً صالحاً للأزمنة المتعددة وأفراد الزمان الطولية اللاحقة.
والتعريف هو المعلوم اللفظي الذي يوصل إلى مجهول تصوري، والذي يقع جواباً ل(ما) ويقسم التعريف إلى حد ورسم، ويتم تمييز المعرف والمعنى المخصوص المقصود من اللفظ بالحد التام الذي يقع بالجنس والفصل القريبين بما يفيد التساوي بين قصد المعرف، بضم الميم، ومصداقه العملي، ولذا سمي حداً تاماً.
فاذا قيل(ما الربا) يكون الجواب هو القرض الذي يجر منفعة) وهذا الجواب ليس إجتهاداً أو إستنباطاً من علماء اللغة أو الفقه أو الأصول، وإنما جاء على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات في تثبيت هذا المعنى أنه ورد في كتب المسلمين عموماً لمنع الإختلاف فيه، ولتوكيد الحجة والبرهان في معاني التكليف بالإمتناع عن الربا وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، فان قلت إن التعريف بجميع ذاتيات الربا جاء على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يكون من مصاديق الآية أعلاه، والجواب من وجوه:
الأول:لقد أمر الله عز وجل باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبول ما جاء به من الوحي والتنزيل، قال تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ] ( ).
الثاني: شهد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانه مصدق بالكتب السماوية السابقة وما فيها من الأحكام , قال تعالى[وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ]( ).
الثالث: جاءت آيات القرآن ببيان تعريف ومفهوم الربا، وأخبرت عن حرمته في الكتب السماوية السابقة وان فريقاً من أتباع الأنبياء يأخذونه وهم يعلمون أنه منهي عنه، قال تعالى[وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ] ( ).
وبينما جاء نهي المسلمين عن أكل الربا إبتداء ، أخبرت الآية أعلاه عن أخذ فريق من أهل الكتاب الربا وبصيغة الماضي التي تفيد الوقوع والثبات ولم تقل(وأكلهم الربا) بل ذكرت الأخذ , وبينه وبين الأكل عموم وخصوص مطلق، إذ ان الأخذ أعم، وذكرته لأنها أخبرت عن أكلهم أموال الناس بالباطل .
والباطل أيضاً أعم من الربا، لذا ورد ذمهم لحيانة أمانة المسلمين , ليدل قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] في مفهومه على تنزه المسلمين من الربا وأكل الباطل.
وتدل الآية أعلاه على المغايرة بين الربا وأكل المال بالباطل والذي يدل عليه حرف العطف الواو في الآية أعلاه وفيه مسائل:
الأولى: إنه من عطف العام على الخاص.
الثانية: فيه بيان لموضوعية حرمة الربا ولزوم إجتنابه.
الثالثة: تأكيد قبح الربا الذاتي.
ولو جاء التذكير بحرمة أكل الباطل وحده لإحتجوا بوجوه:
الأول: الربا معاملة تجارية وعقد يتضمن القبول والإيجاب ويتقوم بالتراخي.
الثاني: في الربا نفع متبادل للدائن والمديون.
الثالث: ورود النهي في القرآن على نحو الخصوص وطرو التحريف في الكتب السابقة.
فجاءت الآية أعلاه لبيان حقيقة وهي أن الربا ممنوع ومحرم عند أهل الكتاب وأنهم يعرفونه بحده التام وأن الأنبياء جاءوا بالنهي عنه، وفيه نكتة بخصوص تعريف الربا، وهي عدم طرو شك وريب في معنى ومفهوم الربا المنهي عنه، وفيه مصداق للغة البيان في القرآن، وأن تعريف الربا وقع بالجنس والفصل القريبين للربا وهو المسمى بالحد التام وأنه نفع وزيادة على القرض من غير عوض أو بدل.
ويدل الحد التام على المحدود بالدلالة المطابقية، وتعريف الربا بالحد وبالرسم التام من عمومات التخفيف عن المسلمين، من وجوه:
الأول: التقيد التام بمضامين أحكام حرمة الربا.
الثاني: التفقه في الدين، وطرد الغفلة والجهالة، فلايعتذر أحد بالقول لم أعلم المراد من الربا، ولم يختلف الفقهاء فيه فيختار فريق من الناس المعنى الذي يلائمهم والذي يأتي ببعض ذاتيات الربا كما لو جاء التعريف بالحد الناقص الذي لايفيد تصور الربا في الوجود الذهني بحده ورسمه التامين فيقال مثلاً : الربا قرض فيه مال زائد).
لأن هذه الزيادة تحتمل أن تكون من صاحب المال أو من المقترض، وتحتمل أنها هبة وهدية من المقترض.
ولا يصح تعريف الربا بالرسم الناقص كما لو قيل (جر منفعة) لأنه من التعريف بالعرضي وحده كما لو عرف الإنسان بأنه(كاتب) أو (ضاحك) فهو إخبار عن حال مخصوصة عرضية تطرأ على الإنسان ولكن المراد هو تعريف ماهية الربا وذات الإنسان.
الثالث: إقامة الحجة والبرهان على صدق أحكام القرآن، ومجيؤها بلغة التفصيل والبيان.
الرابع:السلامة من جدال أهل الشك والريب، والسعي للصدود عن التزيل بإثارة الشبهات، قال تعالى[وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ]( ).
والمراد من الشياطين في الآية أعلاه هم رؤساء وعلماء الكفار والإيحاء هنا الإشارة والإيماء والتوجيه، وأولياؤهم هم أتباعهم من الكفار.
وقال عكرمة (إن قوما من مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش و كانوا أولياءهم في الجاهلية أن محمدا و أصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوه حلال و ما قتله الله حرام فوقع ذلك في نفوسهم فذلك إيحاؤهم إليهم) ( ).
ولو تنزلنا عن ضعف الخبر سنداً فانه يدل على الصلات بين قريش وبعض رجالات المجوس في فارس إلى جانب إتصالهم ببلاد الروم وذهابهم للتجارة والكسب، كما في خبر إستدعاء هرقل لأبي سفيان وأصحابه من مشركي قريش عندما وصل إلى هرقل كتاب الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعوه إلى الإسلام، مما يدل على أسرار ومضامين عقائدية في توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة للإسلام إلى كسرى وأن سلطانه وملكه كانا معروفين في الجزيرة.
بحث تفسيري
قيل المراد من قوله تعالى(أضعافاً مضاعفة) من الضعف والنقص وليس من المضاعفة والكثرة، وأستدل عليه بقوله تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( )، أي ينقض الربا، ويُرد هذا القول من وجوه:
الأول: التباين بين الأضعاف والضعف لفظاً ووزناً ودلالة.
الثاني: مجيء مضاعفة صفة وتوكيداً للأضعاف، وبياناً لحقيقة وهي أن المضاعفة توليدية بالربا، فالأموال التي تجبى من الربا تقع فيها المضاعفة والزيادة هي الأخرى، فإذا كان القرض مائة دينار، وربح خمسين ديناراً بواسطة الربا فإن هذه الخمسين تتضاعف هي الأخرى لأن صاحب المال سيعطيها بالمعاملة الربوية، وتأتي الأرباح منها خاصة إلى جانب إستمرار جني الأموال من المائة الأولى.
وهكذا بالنسبة للأرباح التي تأتي من تلك الخمسين فما أن تصل إلى يد المالك حتى تكون أصلاً ربوياً.
وفي الآية نكتة وهي بخل المرابي وإمتناعه عن الإنفاق في سبيل الله لأن همّه يقع في جني الأرباح الربوية وتحويلها إلى أصول.
الثالث: الجمع بين آية البحث والآية أعلاه إعجاز قرآني خارق وجامع للنظريات الإقتصادية، وحجة متجددة على الناس في مصاديقها العملية، فتجتمع الأموال الطائلة والأضعاف المضاعفة من الربا ثم لا تلبث أن تزول لإبتلاء خاص أو عام، أو بهلاك صاحبها وتقاسم الورثة لها، وإندثارها، وظهور الحاجة والعوز على أبناء صاحب تلك الأضعاف المضاعفة، بينما الذي يخرج الزكاة، وينفق المال في سبيل الله فإن الله عز وجل ينعم عليه بأمور:
الأول: حصول البركة في رزقه.
الثاني: نزول الفضل الإلهي عليه وعلى عياله , وهو من عمومات قوله تعالى(لعلكم تفلحون).
الثالث: ترتب الثواب العظيم على الإنفاق بفضل من الله عز وجل لما فيه من الإمتثال لأمر الله، وهو مصداق عملي للإيمان، والإقرار باليوم الآخر، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
الرابع: ظهور النماء في المال، وهو من أسرار تسمية الزكاة، والذي يعني النماء والزيادة، مع أنها إخراج للمال ودفعه للفقير(الزَّكاء: ممدود النَّماء والرَّيْعُ زَكا يَزْكو زَكاء وزُكُوّاً)( ).
الخامس: مجيء العوض والبدل بلطف ظاهر من الله، قال تعالى[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( )، ترى لماذا العوض وظهوره.
الجواب فيه وجوه:
الأولى: إنه من اللطف الإلهي، ورحمته بالمؤمنين والناس جميعاً فإن قلت العوض والبدل أمر خاص بالمؤمنين، فكيف يكون رحمة بغيرهم والجواب من جهات:
الأولى: إنه حجة وتذكير بلزوم دخول الإسلام.
الثانية: فيه برهان حاضر في منافع الزكاة.
الثالثة: تأكيد حقيقة وهي أهلية المسلمين لمراتب التفضيل وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة: التذكير بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه.
الخامسة: العوض من الشكر العاجل من الله، وهو بشارة الثواب العظيم في الآخرة على دفع الزكاة، وترغيب للناس في دخول الإسلام، وهذا الترغيب من مصاديق الرحمة.
ويصيب النقص أموال المرابي حتى في حال زيادتها ومضاعفتها، وفيه مسائل:
الأولى: بعث الحزن في صاحب المال الربوي.
الثانية: تجلي حقيقة وهي أن النقص في المال الربوي لم يأت من الإنفاق في الأكل.
الثالثة: إنه مانع من الفرح في تلك الأموال لأن سيف النقص والمحق قريب منها، قال المتنبي:
زيادةُ شَيْبٍ وَهْيَ نَقْصُ زِيادتي… وقُوةُ عِشقٍ وَهْيَ مِنْ قُوَّتي ضَعْفُ( )
أي أن الشيب أمارة دنو الأجل وعنوان النقص في أيامه من الدنيا.
الرابعة: بيان عظيم قدرة الله، وسرعة إنتقامه من الذي يصر على إرتكاب المعصية.
الرابع: من إعجاز القرآن مجيء مفاهيم البشارة مع النهي والإنذار، إذ يدل المنع عن الربا على زيادة وكثرة أموال المسلمين وإتساع بلادهم وعدم خشيتهم من غيرهم من أهل الملل في جلب المكاسب، وتحقيق الأرباح والأضعاف المضاعفة، فيستطيعون إنتزاع أموالهم منهم، قال تعالى[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( ) .
ولكن المسلمين يتقيدون بأوامر الله ونواهيه، ومنها حرمة الربا، وعدم خيانة الأمانة، وهذا التقيد من وظائف[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وقيامهم بنشر مفاهيم الصلاح بين الناس والتحلي بالأخلاق الحميدة، والإمتثال لأحكام التنزيل، فلا بد لمن يتولى شرائط الإمامة بين الناس متحداً أو متعدداً المبادرة إلى الإلتزام بشرائطها وسننها ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وتدل الآية الكريمة على تحقق الأرباح من الربا، وحصول الزيادة والنماء فيه، ولكن أضراره العامة أشد، وفيه تعطيل للمكاسب، وحجب لمنافع عديدة على الأمة والأفراد.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الأمن الإقتصادي ومنع الفتن وتجمع الثروات بيد الأغنياء، لذا جاء المنع واللعنة في الشهادة والوكالة على عقد الربا وكتابته وأخذه مع أن هذه الأطراف غير مستفيدة منه، ولكنه من الإعانة على الظلم الإجتماعي والإقتصادي العام.
وفي مجيء اللعنة لأطراف المعاملة الربوية على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي[مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، على المذكورين أعلاه توكيد للأضرار العامة في شيوع المعاملات الربوية، وعلى فرض تساوي الضرر والنفع يقدم المنع لأولوية دفع المفسدة على جلب المصلحة, والربا ضرر محض، فجاء النهي عنه صريحاً.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn