معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 99

المقدمة
الحمد لله رب السماوات والأرض وما بينهما الذي أثنى على نفسه وجعل الحمد في أول سورة من الكتاب السماوي ذي المكث الدائم في الأرض وهو القرآن، وليكون هذا الجعل من مصاديق حفظ النوع الإنساني, وعمارة الأرض بذكر الله, ومن عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وينطق كل مسلم ومسلمة بالحمد لله مرات متعددة في اليوم والليلة بهداية وفضل من الله، ليتغشى الحمد له سبحانه مشارق ومغارب الأرض، ولا تمر ساعة من أفراد الزمان الطولية إلا ويصعد الحمد من أهل الأرض إلى أرجاء السماء، وهو مصداق لعلة خلق الإنسان , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ويتجلى الحمد بالثناء على الله بصيغة العبادة الواجبة، وما تتضمنه من الخشوع والخضوع لله عز وجل، وهو من صفات المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة.
فالحمد لله الذي هدى الناس لوجوب حمده، وجعله سبيلاً لنزول رحمته في الدنيا , ومدخلاً للفوز بعفوه في الأرض، قال تعالى[وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( ).
الحمد لله الذي لا يبقى في الأرض حمد وثناء إلا له سبحانه، إذ تدوم النعم الإلهية على الخلائق الموجودة والمعدومة، ومنها نعمة الحمد لله, وهو سبحانه الذي يتعاهد العباد ويحفظهم بالذات وأسباب الصلاح، فتفضل الله سبحانه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنزال القرآن لهداية الناس إلى سبل الرشاد في الدنيا والآخرة .
ومن منافع تلاوة المسلمين الحمد لله بقصد القرآنية ومطلقاَ رفع وإنتفاء المشقة في إمتثالهم لمضامين آية البحث من الإنفاق في سبيل الله وحبس الغيظ، وصيرورة العفو ملكة عندهم فتتغشى منافعها الناس جميعاً، لتكون رحمة وآية من الله في أنماط سلوك المسلمين، وشاهدا بأن منهاج المسلمين بلطف وعناية وفضل من الله , الأمر الذي يستلزم منهم حمداَ متجدداَ، وهذا الحمد آية منه تعالى في بديع خلق، الإنسان، وإصلاحه للخلافة في الأرض.
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يوما ونحن نقترئ، فقال: الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأسود، أقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقومونه كما يقوم السهم، يتعجل أحدهم أجره ولا يتأجله)( )، وفي رواية(ولا يجاوز تراقيهم)( )، جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأحاديث الواردة بخصوص القرآن وتلاوته والعمل بأحكامه , لتكون هذه الأحاديث على وجوه:
الأول: إنها مدرسة جامعة لكل المسلمين.
الثاني: إنها وسيلة مباركة لإتحاد المسلمين.
الثالث: السنة القولية بخصوص القرآن ضياء ينير دروب الهداية.
الرابع: بعث الشوق في نفوس المسلمين لقراءة القرآن , وتعاهد آياته وسننه , ومنها مصاديق التقوى التي جاءت بها آية البحث.
الخامس: بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى: إنتفاء التعارض بين المضامين القدسية للقرآن والأحاديث النبوية.
الثانية: إستنباط الدروس والشواهد من السنة النبوية بما يبعث على العمل بأحكام القرآن.
الثالثة: تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الأحاديث النبوية بيان للقرآن، وقواعد تأسيسية لتفسيره.
ليكون القرآن إمام المسلمين في وحدتهم وصلاحهم، والصرح الذي تتقوم به قوتهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
ويتصف المسلمون بخصوصية كريمة وهي الوحدة في مرضاة الله، والإجتماع على العمل بأحكام الشريعة السماوية الباقية إلى يوم القيامة، وصحيح أن الإعتصام في الآية أعلاه جاء بصيغة الأمر الذي يدل على الوجوب , ولكن الله عز وجل تفضل بأسباب الإعتصام والتمسك بالقرآن وجعلها قريبة من كل مسلم , ومنها:
الأول: تلاوة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب، قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثاني: حاجة المسلمين والناس إلى القرآن , وإتخاذه إماماً في المعاملات والأحكام.
الثالث: تجلي منافع القرآن والعمل به في جلب الرزق والبركة , ودفع الضرر.
الرابع: ترشح الثواب العظيم في الآخرة عن قراءة القرآن في الدنيا، وهل يختص هذا الثواب بصاحبه.
الجواب إنه أعم وتلك رحمة من عند الله بالناس جميعاً، إنتفع منها المسلمون، وصاروا دعاة للناس جميعاً للنهل من فيضها، والإدخار من الحسنات التي تتولد وتتضاعف بأسباب ومقدمات التمسك بالقرآن وتعاهد مبادئ التوحيد، والتصديق بالنبوة والتنزيل.
وبالإسناد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ القرآن ، وعمل بما فيه أُلبس والده يوم القيامة تاجا ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا وكانت فيه، فما ظنكم بالذي عمل به)( )، أي أن ثواب الذي يتلو القرآن ويعمل به أعظم وأكبر من ثواب والده , لأن ثواب الوالد يترشح عليه بالعرض، أما الابن العامل بالقرآن فإن الثواب يأتيه بالذات .
ترى ما هي أضعاف الثواب التي تأتي لمن يقرأ القرآن ويعمل به ويخلّف ولداً على نهجه في الصلاح والتقوى ؟.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن سنته القولية والفعلية بعث للعمل بمضامين آيات القرآن، وضياء ينير دروب الهداية والرشاد , فلا غرابة أن يأتي القرآن بالإخبار بأن هذه السنة حجة وطريق عمل وصراط مستقيم بقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لتكون الآية أعلاه دعوة للعمل بأحكام جميع آيات القرآن، والأخذ بمضامينها , وبرزخاً دون التفريط بها، لأن السنة مرآة لها وترجمان للقرآن وإن كان القرآن قريباً من مدارك الناس وأفهامهم وهو بذاته ترجمان لآياته , ومنه قانون التفسير الذاتي للقرآن الذي أسسناه في تفسيرنا.
وبهذا تتجلى منافع السنة النبوية في العمل بأحكام آية البحث والمبادرة إلى الإنفاق والبذل، وحبس الإنفعال، ومنع بلوغه مرتبة الغضب والسيطرة على الجوارح , وتنمية ملكة العفو والصفح والمغفرة عن الآخرين، وتدعو لإتخاذ سنة النبي وسيلة مباركة ومادة للعمل بأحكام آيات القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون مصاديق الرحمة والفضل الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اللامتناهي، وتشمل تلقي القرآن وتبليغه، وأفراد السنة النبوية التي جاءت تفسيراً للقرآن وباعثاً للعمل بأحكامه، وكل فرد من أفراد السنة القول، الفعل، التقرير، التدوين( )، عون للعمل بمضامين آيات القرآن، ومناسبة لتفقه المسلمين في الدين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ إستمرار إرتقاء المسلمين مجتمعين ومتفرقين في سلم المعرفة .
ويتجلى هذا الإرتقاء بأبهى مصاديقه بآية البحث تلاوة وحفظاً وعملاً وإستحضاراً لمضامينها عند طرو موضوعها المتحد أو المتعدد، وهذا الإستحضار عام، ويشمل:
الأول: القضية الشخصية كما لو تعلق الإنفاق بالمسلم من ماله الخاص أو يكون بين أمرين في حال مخصوص، أما أن يكظم غيظه، وأما أن يظهره على اللسان والجوارح, ومن بديع خلق الإنسان أن كظم الغيظ يتقوم بإرادة وسيطرة على اللسان والجوارح وكبح جماحها عند هجوم أسباب ثورتها.
فجاءت آية البحث ليختص المسلمون بهذه الخصلة التي تغبطهم عليها الخلائق, وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما رد سبحانه على الملائكة وإحتجاجهم بجعل آدم خليفة في الأرض بلحاظ أن تقيد المسلمين بأحكام آية البحث صلاح للنفوس، وبعث للنفرة من الفساد في الأرض، وحرب على سفك الدماء، وهو أمر مدرك بالحس والوجدان فإن الإيمان والتقيد بالسنن الواردة في آية البحث واقية من الظلم والتعدي.
الثاني: القضية النوعية التي تشمل الجماعة من المسلمين , كما لو كان الأمر يستلزم قيام الأمة بالإنفاق من بيت المال، والمال العام، أو أن الأمر يقتضي العفو وحبس الغضب، وتحمل الأذى والتعدي الذي يلحق المبادئ والعقيدة والأمة.
الثالث: حال الفرد ضمن الجماعة، كما لو وقع على الفرد من المسلمين جزء من المسؤوليات العامة في باب الإنفاق وغيره، فمن منافع تقيده بأحكام آية البحث أمور:
الأول: صيرورة المسلم أسوة لغيره من المسلمين , وجاء زمان العولمة لتتجلى للناس الأخلاق الحميدة التي يتصف بها المسلمون إقتباساَ وإستقراءً من القرآن، فمن الإعجاز في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن المسلمين دعاة إلى الله بأخلاقهم ومنها أحكام آية البحث من الإنفاق في حال الرخاء والضراء، وكظم الغيظـ، والعفو عن الناس، وإظهار مصاديق الإحسان في المعاملات والصلات بل وحتى العبادات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن أداء المسلم الفرائض دعوة للناس للإقتداء به.
الثاني: تحقيق الفرد من المسلمين المصداق العملي في زمانه ومكانه لمضامين آية البحث فقد نزل القرآن الكريم في مكة والمدينة ليتغشى العمل به جميع أرجاء المعمورة، وهو من المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن خصائص هذه المعجزة أنها تتحدى الكفار على نحو متجدد، فيقومون بالتعدي على الإسلام وحرماته، فتأتي آية البحث إنضباطاً دائماً لسلوك المسلمين، وإخباراً بأن تحلي المسلمين بخصال كظم الغيظ والعفو ليس عن ضعف بل هو إمتثال لأمر الله عز وجل فيكون حسن سمت المسلمين على وجوه:
الأول: فيه دعوة للناس لدخول الإسلام.
الثاني: إنه سبب لإشاعة معاني الرأفة والرحمة بين الناس، أفراداً وجماعات وأمما ومللاً.
الثالث: إنه مانع من البطش عند المقدرة.
فإن قلت ماذا ينتفع المسلمون من كتمان الغيظ والعفو عن الناس.
الجواب النفع في المقام على قسمين:
الأول: النفع الدنيوي, ومنه تنمية ملكة إشاعة المعروف والإحسان وأسباب الصلاح عند المسلمين، ورفعهم لواء الأخلاق الحميدة، والإنقطاع إلى العبادات وفعل الخيرات، والإمتثال للأوامر الإلهية , وما تتضمنه من المصالح ودفع المفاسد وطرد الكدورات.
الثاني: اللبث الدائم في النعيم، وليس من جزاء أعظم وأفضل منه، ومن الآيات أن هذا الجزاء غير ممتنع عن الناس، بل أن آية البحث ترغيب لهم جميعاً للعمل بمضامينها والسعي إلى الخلود في الجنة التي أعدّها الله للمتقين, والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
وجاء القرآن أيضاً بالإنذار والوعيد للكفار الذين يتخلفون عن وظائفهم العبادية التي خلقهم الله عز وجل من أجلها، قال تعالى[وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا]( ).
فمن إعجاز القرآن إقتران الأمر فيه بالوعد الكريم بالثواب العظيم ومنه أن أفراد آية البحث كلها إحسان محض وخير عام غير خاص، ويتصف بالإستدامة مع التباين والإختلاف في الحال، كما في قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، ليكون البذل والعطاء في حال العسر والشدة صفةَ كريمة يمتاز بها المسلمون، وعنواناً لقهر النفس الشهوية، ويأتي كظم المسلمين لغيظهم ليكون شاهداً على سيطرة العقل على جوارحهم، وعدم إتباعهم الهوى، وفيه إنذار للكفار وأعداء الإسلام , وإخبار عن تحمل المسلمين للأذى من مصاديق الصبر ومقامات العز، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وقد يشعر الإنسان بالإجهاد والملل عند مواصلة الإنفاق في الرخاء والشدة، ولا يرضى أن يكظم غيظه أيضاً، ويعزم على الإكتفاء بالإنفاق دون العفو عن الناس بإعتبار أنه أدى ما عليه أزاءهم، فجاءت الآية لتخبر عن لزوم الجمع بين هذه الخصال الحميدة، وهو من أسرار إمتلاء النفس بالإيمان وصيرورته باعثاً على الفعل الصالح المتعدد، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين خاصة والناس عامة.
لقد حصل في هذا الزمان تقسيم البلاد الإسلامية إلى دول مستقلة لها شأنها المستقل، لتكون آية البحث معجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح أمته حتى عند صيرورتهم دولاً مستقلة بقرارها، وإقامة شعوبها على حب الوطن، مع ترسيخ هذا التقسيم، ليكون من مصاديق الإعجاز في آية البحث منع الخصومة والخلاف والإقتتال بين المسلمين من بلدين مسلمين متجاورين أو غير متجاورين، وكل مسلم يدرك عموم وشمول المسلمين جميعاً بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ويكون من وجوه الصلة بين مضامين الآية الكريمة أن الأمر بالإنفاق فيها عام لا يختص بأهل الوطن الذي ينتمي إليه المنفق، سواء كان الإنفاق على نحو القضية الشخصية وإعانة الفقراء أو بالمدد والمساعدة للدول الإسلامية الفقيرة، وشعوبها.
ومن الآيات أن المسلمين في باب الإنفاق لا ينظرون للحدود الوضعية المستحدثة التي تعلن عن تقسيمهم إلى أمصار مستقلة وهو من الإعجاز في إستدامة الإطلاق في الآية الكريمة، ولا يتعارض مع أولوية المحتاج في ذات بلد المنفق لأن هذه الأولوية ثابتة بلحاظ المدينة والمصر وان لم تقسم بلاد المسلمين إلى دول مستقلة، وأي إنفاق في أي دولة إسلامية إنما هو عز وقوة للمسلمين في بلادهم المتعددة، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن الآية تدعو إلى وحدة المسلمين، وتماسكهم وتعاضدهم في مرضاة الله، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
وهذا الجزء هو التاسع والتسعون من تفسيرنا للقرآن(معالم الإيمان ويقع في تفسير الآية(134) وكله علوم تتعلق بذات الآية تفسيراً وإستنباطاً وإستدلالاً بلحاظ أنها خزينة تترشح عنها العلوم، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).

قال تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]الآية 134

الإعراب واللغة
الذين: اسم موصول مبني في محل جر صفة للمتقين الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ينفقون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل.
في السراء: جار ومجرور متعلق بــ(ينفقون) على تقدير حذف مضاف أي حال السراء.
والضراء: الواو: حرف عطف، الضراء: معطوف على السراء والكاظمين : معطوف على الاسم الموصول، مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم، الغيظ : مفعول به لاسم الفاعل(الكاظمين) منصوب بالفتحة.
والعافين عن الناس: الواو حرف عطف، العافين معطوف على الكاظمين، وهو مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
والله: الواو حرف إستئاف، اسم الجلالة مبتدأ مرفوع بالضمة، يحب: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، يعود على الله عز وجل.
المحسنين: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
وجملة(يحب المحسنين) في محل رفع خبر المبتدأ وهو اسم الجلالة.
ويقال نفقت الدراهم، وأنفقتها: نفدت وأنفدتها، وأنفق الرجل على عياله وإستنفق، وخذ هذه الدّراهم فأستنفقها، ونفقت نفقة القوم ونفقاتهم ونفاقهم)( )، النفاق ضد الكساد، يقال نفق ينفق فهو نافق.
والنسبة بين الإعطاء والإنفاق هي العموم والخصوص المطلق، لأن الإنفاق خروج المال من الملك، والإعطاء أعم منه.
وقيل في وصف مراتب حال العبس وشدة وسوء الحال (إِذَا زَوَى مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَهُوَ قَاطِبٌ وَعَابسٌ ,فإذا كَشَرَ عَن أنْيَابِهِ مَعَ العُبُوسِ فَهُوَ كَالِحٌ
فإذا زَادَ عُبُوسُهُ فَهًوَ باسِرٌ ومُكْفَهِرَّ , فإذا كَانَ عُبوُسُهُ مِنَ الهَمِّ فَهُوَ سَاهِمٌ , فإذا كان عُبُوسُهُ مِنَ الغَيْظِ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُنْتَفِخاً فَهُوَ مُبْرْطِمٌ عَنِ اللَّيْثِ عَنِ الأصْمَعِيّ)( ).
في ترتيب أحوال الغضب ذكر أن أول مراتبها السخط، وهو خلاف الرضا ثم الآخر نطام، وهو الغضب مع تكبر ورفع رأس ثم البرطمة، وهي غضب مع عبوس وانتفاخ، عن الليث ثم الغيظ وهو غضب كامن للعاجز عن التشفي. ومنه قوله تعالى: ” وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم ” ثم الحرد بفتح الراء وتسكينها، وهو أن يغتاظ الإنسان فيتحرش بالذي غاظه ويهم به ثم الحنق وهو شدة الإعتياظ مع الحقد ثم الاختلاط وهو أشد الغضب قال ابن السكيت: اهمأك الرجل وأرمأك وأصمأك إذا امتلأ غيظاً)( ).
ولكن ليس كل غيظ عن عجز , ويتجلى هذا التقييد في ورود آية البحث بالثناء والوعد الكريم لكاظمي الغيظ , والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على قدرتهم على إنفاذ الغيظ وإظهار أثره في الخارج .
وأصل الكظم: حبس الشيء عن إمتلائه، يقال: كظمت القربة إذا ملأتها وشددت رأسها، ويقال: أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه)( )، وفي الحديث: إذا رأيت مكة بعجت( ) كظائم وساوى بناؤها رؤوس الجبال فأعلم أن الساعة قد أضلت)، وفي بعض الأخبار: فأعلم أن الأمر قد أظلّك)( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهي على شعبتين:
الأولى: صلة هذه الآية بالآية السابقة، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ…..]( ).
الصلة بين أول الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، أما آية السياق فإبتدأت بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب، فما هي النسبة بين وجوب المسارعة إلى المغفرة في الآية السابقة، وبين الإنفاق في السراء والضراء , فيه وجوه:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق وكون أحدهما فرع الآخر، وجزء منه.
الثاني: نسبة العموم والخصوص من وجه بلحاظ وجود وجوه للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بينهما.
الثالث: نسبة التساوي بينهما.
الرابع: نسبة التباين.
والصحيح هو نسبة العموم والخصوص المطلق فقوله تعالى(سارعوا إلى مغفرة) أعم لأنه يتضمن الأمر بالمسارعة والتعجيل بطلب المغفرة، ومنه الإنفاق في سبيل الله بإعتباره من مصاديق القربة إلى الله , قال تعالى[إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ]( )، ومن رحمة الله بالعباد أن جعل فضله عليهم بالرزق الكريم مناسبة لإقراضه بإعانة الفقراء من عباده ليضاعف الله عز وجل المال، ويحصنه من الآفات ويغفر لصاحبه، و(عن ابن عباس: أن المراد بالقرض في المقام هو الصدقة)( ) وتلك آية إعجازية في علوم القرآن من وجوه:
الأول: تعدد مصاديق المغفرة، وإمكان المبادرة إليها، ولو على نحو الموجبة الجزئية , وإذا تعذر على العبد المبادرة إلى سبل المغفرة بالفعل والتمكين فمن اللطف الإلهي قدرة العبد على توظيف اللسان ,كما في قول: أستغفر الله.
الثاني: قد لا يتمكن المسلم من الإنفاق في الحال، فجاءت آية البحث على نحو الجملة الخبرية , وليكون الإنفاق سنخية ثابتة يُعرف بها المسلمون, وصفة تبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثالث: بعث المسلمين للمسارعة إلى الإنفاق في سبيل الله في حال الشدة والرخاء، وهذا البعث مستقرأ من صيغة العطف الواردة في الآية الكريمة، وكأن تقدير العطف والجمع بين الآيتين هو(سارعوا إلى الإنفاق في السراء والضراء).
الرابع: من مصاديق الإستغفار وطلب العفو من الله الإنفاق والبذل في سبيل الله.
الثانية: إتحاد جهة الخطاب وموضوع الآية، فالنسبة بين المقصودين في الآيتين هم المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة، وتلك آية في إكرام المسلمين، وهي من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ الإختصاص المتكرر في الخطاب في الآيتين المتعاقبتين من وجوه:
الأول: إستحقاق الذين يعملون بمضامين كل من الآيتين للمدح والثناء.
الثاني: كل من الآيتين هداية ورشاد إلى سبل الصلاح والفلاح، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثالث: تبعث آية السياق والبحث على العمل الصالح، وهما مجتمعتين ومتفرقتين مدرسة لنشر الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة.
الثالثة: كل آية منهما عون للمسلمين ومقدمة للعمل بمضامين الآية الأخرى، والتقيد بأحكامها , وهل يعني هذا التشابه الدور , الجواب لا، للتباين بين المقدمة وأسباب توقف الشيء على غيره، بالإضافة إلى التعدد الموضوعي للآيتين.
الرابعة: لقد أمرت الآية السابقة بالمسارعة إلى المغفرة، وتستلزم المسارعة المبادرة وعدم التواني أو التسويف مما يعني وجود مقدمات هذه المسارعة، ومنها معرفة المسلمين لسبل المغفرة وطرق إحرازها والتوفيق في مسالكها، إذ تحتمل الآية أموراَ:
الأول: الإبتداء بالتفقه في الدين، ومعرفة سبل المغفرة ثم العمل في ميادينها ومضامينها.
الثاني: المبادرة فوراً إلى المغفرة وسبلها.
الثالث: التداخل بين الأمرين أعلاه.
والمستقرأ من الآية هو الأخير، فليس من فترة بين نزول آية البحث والعمل بمضامينها، وتلك حجة في الثناء على المسلمين، وبيان صلاحهم لمرتبة الإمتثال لأوامر الله، ومسارعتهم للعمل بالسنن الواردة في القرآن والسنة.
الخامسة: بيان حقيقة وهي إمكان الفوز بالمغفرة مع التباين في الحال من الشدة والرخاء، فالسعي للمغفرة أمر متيسر ومفتوح للمسلم في حال الشدة والرخاء بالإنفاق فيهما.
ومن دلالات الجمع بين الآيتين إزاحة الموانع التي تحول دون الرزق الكريم الذي يكون مصدراً وأصلاً للإنفاق , وثواباً وجزاء عاجلاً عليه.
وعن أنس بن مالك قال: أَتَتِ الأَنْصَارُ النَّبِيَّ بِجَمَاعَتِهِمْ، فَقَالُوا: إِلَى مَتَى نَنْزَعُ مِنْ هَذِهِ الآبَارِ، فَلَوْ أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ فَدَعَا اللهَ لَنَا، فَفَجَّرَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْجِبَالِ عُيُونًا، فَجَاؤُوا بِجَمَاعَتِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ، فَلَمَّا رَآهُمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً، لَقَدْ جَاءَ بِكُمْ إِلَيْنَا حَاجَةٌ؟ قَالُوا: إِي وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَنْ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا إِلاَّ أُوتِيتُمُوهُ، وَلاَ أَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَانِيهِ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: الدُّنْيَا تُرِيدُونَ؟ فَاطْلُبُوا الآخِرَةَ، فَقَالُوا بِجَمَاعَتِهِمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لَنَا أَنْ يَغْفِرَ لَنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ، وَلأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، وَلأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ)( ) وفيه وجوه:
الأول: تفقه الصحابة في الدين، وإدراكهم لأولوية المغفرة والحاجة إليها، وقد سألوا المغفرة لهم فأكرمهم النبي بسؤال المغفرة لهم ولأبنائهم.
الثاني: فوز الأنصار وأبنائهم بدعاء النبي وإستغفاره لهم، الذي هو أمن وواقية من العذاب عما تقدم من الذنوب وما يأتيه الأبناء منها، ودعوة لهم جميعاً للإستغفار والمواظبة عليه بفضل الله عز وجل، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
فإن قلت قيدت الآية أعلاه المغفرة بمجيئهم إلى النبي واللاحق من أبناء الأنصار لم يدرك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجواب يظهر الحديث رحمة خاصة بالأنصار وأبنائهم تتجلى بإدخار كنز إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وأن آبائهم تركوا لهم تركة عظيمة تنفعهم في الدنيا والآخرة وهي إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأجيالهم المتعاقبة.
الثالث: لقد سأل كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في أيام الدعوة الإسلامية الأولى في مكة أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً بينما سأل الأنصار المغفرة، مع مجيء سؤالهم في أيام تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور دولة الإسلام، وجهاد الأنصار وبذلهم الأموال والنفوس دفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن بيضة الإسلام بينما كان سؤال قريش للإمتحان وإثارة الريب والشك بالنبوة.
ويدل إستقراء التأريخ على ترشح معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإنتفاع قريش من الصفا أضعافاً مضاعفة من جعله ذهباً، فلو صار ذهباً في زمانه لتم نهبه وحصلت الخصومة والإقتتال بينهم، وإنشغلوا عن التدبر في آيات النبوة , وغزتهم قبائل العرب الذين كانوا يتصفون بالإغارة والغزو بعضهم على بعض.
وجاء من يشكك بهذه المعجزة الحسية، ولكن في كل سنة وإلى يومنا هذا يتجدد إنتفاع أهل مكة من وفد الحاج وهذا الإنتفاع ليس مادياً فقط بل هو عقائدي وأخلاقي وتربوي، وتجدد هذا النفع طيلة أيام السنة بالعمرة ومجيء المسلمين من كل أصقاع الأرض إلى مكة، بالإضافة إلى أن طلب كفار مكة مخالف لسنة الله في الأرض للخصوصية التي يتصف بها جبل الصفا في العبادات، قال تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( )، بلحاظ أن الآية أعلاه ذكرت جبل الصفا والمروة كشعيرة ومعلم من معالم التوحيد في الأرض، وليس أداء المسلمين لمنسك السعي بينهما، وكأن قريشاَ أرادوا تعطيل منسك عبادي[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ).
فمن الآيات أن القرآن لم يسم السعي بين الصفا والمروة بأنه من الشعائر بل ذكر جبل الصفا والمروة على التعيين، وإرادة السعي بينهما في المناسك , لا يتزاحم أو يتعارض مع موضوعية كل من الجبلين , ومن معاني(شعائر الله) إنها معالم الله التي جعلها لعباده أمراً شاخصاً وجلياً وظاهراً، ومنه قول الكميت:
نقتّلهم جيلاً فجيلاً تراهُمُ
شعائر قربان بها يُتَقَرَّبُ)( ).
فذات الصفا شعيرة، وكذا الإبتداء به في الطواف، إن السعي بين الصفا والمروة ذهب يضيء بريقه بسنا الإسلام، ويجذب قلوب الناس من عموم الأمصار كل عام إلى أحكام الإسلام خصوصاً في زمن العولمة وإطلاع الناس على أعظم إجتماع عبادي يرتدي فيه المسلمون جميعاً لباساً واحداً، ويرددون كلمة واحدة هي : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
لتكون التلبية إعلانا للتوحيد، وشهادة وحجة على الكفار. ولما جاء الأنصار ليسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نهراً كما تقدم في الحديث أخبرهم بأنهم ما يسألون حاجة إلا سأل الله بها وإستجاب الله تعالى له بقضائها وتحقيقها، والمتبادر أن يصعّد ويزيد الأنصار من مسألتهم فبدل النهر يسألون أنهاراً وذهباً وفضة، ولكنهم لم يسألوا إلا العفو والمغفرة من الله مع سابقتهم وجهادهم في سبيل الله، ففازوا بخير الدنيا والآخرة وهو المغفرة، ويحتمل دعاء النبي لأبناء أبناء الأنصار وجوهاً:
الأول: إرادة الأحفاد وأبناء الأبناء الصلبيين على نحو الحصر والتعيين.
الثاني: أبناء الأنصار وإن نزلوا ممن كان في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأوان الدعاء.
الثالث: إرادة الإطلاق، والمراد ذراري الأنصار إلى يوم القيامة.
الرابع: خصوص من يحفظ نسبه من ذراريهم ويعلم أنه في الأصل من الآوس والخزرج.
والصحيح هو الثالث، ليكون في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا إتصال لبركته وبقائها إلى يوم القيامة، وتتغشى تلك البركة المسلمين والناس جميعاً بالمغفرة التي تدرك أبناء الأنصار وتكون باباً لنزول الرحمة وسبباً للترغيب بالإستغفار، وليتجلى مصداق من مصاديق رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عمومات قوله تعالى في الآية السابقة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، بأن يسارع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه للإستغفار لجيل عظيم من أمته وإستدامة نفع ومصداق هذا الإستغفار بالأجيال اللاحقة.
السادسة: يتضمن أول آية البحث العطاء والدفع في سبيل الله، أما آية السياق فإنها تتضمن الجلب والكسب من فضل الله، وتلك آية تتجلى بعدم وجود فاصلة بين الأخذ والعطاء في آيات القرآن ليسعى المسلم للثواب والأجر بالبذل والكسب في آن واحد من غير تعارض بينهما.
ومن آيات وخصائص جعل الإنسان خليفة في الأرض تفضل الله بقرب وتعدد مصاديق الكسب منه، سواء الكسب للدنيا أو الكسب للآخرة.
وكل من آية البحث والسياق عون للإمتثال لمضامين الآية الأخرى، ومادة ومصداق لها، فالإنفاق في سبيل الله طريق مبارك لنيل العفو والمغفرة من عند الله، والمغفرة مناسبة للرزق وتقريب للعبد من منازل الإنفاق، وفي التداخل بين الآيتين في الأثر والتأثير أمور:
الأول: إنه من اللطف الإلهي بالمسلمين والمسلمات، وتقريبهم إلى منازل التقوى وأسباب دخول الجنة، قال تعالى[وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثاني: بيان خصائص الإسلام، والفرائد التي يتصف بها بنزول الأحكام والآداب الحميدة.
الثالث: ترغيب الناس بالإسلام، لأن دخوله خير محض, وباب لتوالي النعم الدنيوية والأخروية.
الرابع: زجر أهل الملل والنحل عن التعدي على المسلمين، ومن إعجاز القرآن مجيء الأوامر والنواهي فيه لتكون وظائفها ومنافعها عامة، ولا تنحصر بالمسلمين وإمتثالهم لها , بل تشمل أموراً:
الأول: إنها وقاية وحصن، وفي رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بلحاظ إستدامة التقوى في الأرض مسائل:
الأولى: طاعة الله أمن وحرز مركب من الفساد وسفك الدماء.
الثانية: إنقطاع المسلمين لطاعة الله علة لدوام الحياة في الأرض، وإنتفاع الناس جميعاً من هذه النعمة ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من شآبيب الرحمة واللطف الإلهي.
الثالثة: وجود أمة تدعو للصلاح وإجتناب الفساد وهو من عمومات قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الرابعة: إجتناب المسلمين التعدي على الغير خشية من الله، وتقيداً بأحكام الشريعة السماوية، قال تعالى[وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، ومناسبة لتدبر الناس في ماهية ومنافع النبوة وضرورة الإيمان في نفوس الناس، وهو من رشحات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني: جذب الناس للتدبر بإعجاز القرآن، والتبصر في أمور الدين، ومصاديق العبرة والموعظة في الحياة الدنيا، وإستحضار حتمية الموت والإنتقال إلى العالم الآخر، قال تعالى[اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ]( ).
الثالث: مجيء التنزيل بالأوامر والنواهي برزخ دون إثارة أسباب الشك والريب، لما فيها من الخضوع والخشوع لله عز وجل.
الخامس: يميل الإنسان بالفطرة والتجربة المترشحة عن الإبتلاء المتكرر إلى حب المال وإقتنائه, وقد تضمنت آية البحث الندب إلى الإنفاق في سبيل الله كشاهد ومصداق للتقوى، وطريق سالكة إلى الجنة والمغفرة، ليكون من تجليات وإعجاز آيات القرآن أمور:
الأول: غلبة أسباب الهداية والصلاح على الميل الفطري عند الإنسان في حال حصول تعارض بينهما بالعرض, والأصل إنتفاؤه.
الثاني: غبطة وسعادة المسلم عند الإمتثال لأمر الله من غير إعتبار للحاجة الدنيوية الآنية، مع إدراكه لحقيقة وهي تحقق تلك الحاجة في عرض طاعة الله، قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
الثالث: التبدل النوعي في القيم وعالم الأخلاق وسيادة مفاهيم الصلاح وسنن الإيمان بنزول القرآن، فبعد أن كان العرب يغزو بعضهم بعضاً، ويولون أولوية للثأر وإستئصال الخصم، صاروا إخواناً في مرضاة الله، قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
السابعة: يدل الجمع بين الآيتين على إختصاص المسلمين بمصاديق من رحمة الله، منها الإطلاق في الإنفاق في سبيل الله وإتخاذه طريقاً لنيل المغفرة والعفو منه تعالى، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيه من الحجة والترغيب بدخول الإسلام.
الثامنة: أخبرت آية البحث عن صفة من صفات المتقين الذين أعدّ وأصلح الله لهم الجنة وأكرمهم بالبشارة بالنعيم الدائم, وتضمنت آية السياق الأمر بالتعجيل إلى المغفرة، والمبادرة إلى الفوز بمرضاة الله، ليفيد الجمع بينهما تفقه المسلمين في الدين وإدراكهم لترتب دخول الجنة على الإنفاق في حال الرخاء والشدة ترتب المعلول على علته.
التاسعة: إتخاذ الغاية في الصالحات المذكورة في الآيتين، مع الإظهار في آية السياق(سارعوا إلى مغفرة من ربكم).
فأخبرت الآية بأن المغفرة من الله عز وجل، وجاءت آية البحث بصيغة الإشارة والدلالة المستقرأة من ذات الآية والآيات المشابهة لها, قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، بالإضافة إلى الجامع المشترك بين الآيتين في بيان صفات المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة في عالم الآخرة.
العاشرة: بعث المسلمين على إستحضار قصد القربة في فعل الصالحات، والإنفاق، وفيه وجوه:
الأول: إرادة الأجر والثواب العظيم.
الثاني: المبــادرة والمســـارعة إلى فــعــل الخــيرات رجــاء مرضــاة الله عز وجل.
الثالث: شيوع مفاهيم الصلاح بين الناس.
الرابع: صيرورة الإنفاق دعوة إلى الله، ومادة لهداية الناس.
الخامس: إقتداء ومحاكاة المسلمين بعضهم لبعض في الإنفاق والبذل في سبيل الله ليكون من خصائص[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تعلم وإكتساب أحدهم من الآخر أفراد الصلاح، وفيه مسألة وهي تعاهد ملكة التكافل بينهم، وفيه مسائل:
الأولى: إرادة مرضاة الله بقضاء حاجة المسلم: وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قضى حاجة المسلم فى الله كتب الله له عمر الدنيا سبعة آلاف سنة صيام نهاره وقيام ليله)( ).
ويتجلى التقييد المبارك في الحديث أعلاه بأن قضاء الحاجة يكون بقصد القربة إلى الله، وإرادة الإمتثال لأوامره والفوز بحبه وثوابه وهو القائل في خاتمة آية البحث[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
الثانية: إدراك الذي تقضى حاجته بأن قضاءها ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: تكافل المسلمين في تيسير وقضاء الحاجات من الإعجاز الغيري للقرآن، ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: في هذا التكافل وإطلاقه بين المسلمين إمتثال للأحكام الإلهية الواردة في آية البحث , وإعلان عن إنتفاء الفوارق والحواجز بينهم .
السادس: تثبيت معاني الإيمان في النفوس، وتعاهد سنن التقوى في المجتمعات، وجعل الإنفاق في سبيل الله صفة حميدة تتوارثها أجيال المسلمين.
السابع: بعث الفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام.
الثامن: بيان حقيقة وهي إقرار المسلمين باليوم الآخر، والوقوف بين يدي الله للحساب، وهذا الإقرار مقدمة ومدخل للسلامة والأمن يوم القيامة، قال تعالى[أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، ولا تنحصر منافع هذا الإقرار بعالم، بل تشمل الحياة الدنيا بالتصديق بالنبوة والتنزيل والمسارعة للخيرات والمبادرة إلى الإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ والعفو عن الناس رجاء الفوز بعفوه تعالى، لتكون هذه الخصال ملكة ومنهاجاً وسبباً للثواب في الآخرة.
التاسع: إستدامة موضوعية قصد القربة في عالم الأعمال، وتوارث أجيال المسلمين له.
العاشر: قصد القربة سبب للمسارعة إلى المغفرة والمبادرة إلى الإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة، لما يبعثه رجاء مرضاة الله من الشوق في النفوس للفوز بمرضاة الله عز وجل.

صلة(سارعوا إلى مغفرة)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يحتمل كظم الغيظ وحبس الحنق وجوهاً:
الأول: كظم الغيظ من مصاديق العشرة الحسنة، ولكنه ليس من المسارعة إلى المغفرة وطلب العفو من الله.
الثاني: فيه تفصيل فإذا كان كظم الغيظ بقصد القربة فهو من المسارعة إلى المغفرة بخلاف ما إذا كان لأسباب دنيوية أو أحوال ومنافع خاصة.
الثالث: كل فرد من أفراد كظم الغيظ هو من المسارعة إلى المغفرة.
والصحيح هو الثاني، من وجوه:
الأول: صدور كظم الغيظ بقصد القربة تنمية لملكة الأخلاق الحميدة، أما إذا كان لأغراض وغايات خاصة، فإنه يكون متزلزلاً غير مستديم، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة)( ) أي ظفر ونال.
ومن خصائص ومنافع حسن الخلق إعتدال قوى النفس، والثبات على ملكة التقوى، والتنزه عن الرذائل، والترفع عن البطش والثأر والإنتقام.
الثاني: إرادة المسلم الأجر والثواب بكظم الغيظ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة)( ).
الثالث: إدراك المسلم لحقيقة وهي أن حبس الغضب من المسارعة إلى المغفرة، وفيه طاعة لله عز وجل فصحيح أن آية البحث جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تفيد البعث والترغيب بكظم الغيظ بإعتبار أنه وسيلة إلى الجنة.
الرابع: جاء ذكر كظم الغيظ في بيان صفات المتقين، وهو من ذكر الله عند القول والعمل.
الخامس: إتصاف المسلم بخصلة وهي بذل الوسع لنيل المغفرة والعفو من الله عز وجل، وقد يأتي كظم الغيظ مع ذي القربى فيكون ثوابه مضاعفاً لما فيه من صلة الرحم طاعة لله ورسوله.
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله تعالى للرحم خلقتك بيدي، وشققت لك إسماً من إسمي وقربت مكانك مني، وعزتي وجلالي لأصلن من وصلك ولأقطعن من قطعك، ثم لا أرضى حتى ترضين)( ).
الثانية: لما تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين في الآية السابقة بالمبادرة إلى أسباب المغفرة، تعقبتها هذه الآية بمصاديق من طلب المغفرة وبلحاظ أن كظم الغيظ من أفراد التقوى ومجيؤه بعد الأمر بالمبادرة إلى المسارعة في الخيرات تتجلى موضوعية كظم الغيظ، ولزوم تعاهد المسلمين له لحسنه الذاتي والعرضي، وتعدد موضوعات نفعه.
وفي الجمع بين الآيتين شاهد على بناء صرح الأخلاق الحميدة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة: بيان خصلة كريمة يتصف بها المسلمون من بين أهل الأرض وهي كظم الغيظ قربة إلى الله، ورجاء نيل مغفرته، وقد تقول هناك من الأمم الأخرى من يكظمون الغيظ، ويمتنعون عن إظهار الإنفعال وأسباب البطش.
والجواب يختص المسلمون بقصد القربة، وآثار ومنافع هذا القصد عليهم في اليوم والليلة مجتمعين ومتفرقين أكثر من أن تحصى.
وهل له منافع على غيرهم، الجواب نعم فإن الناس يستفيدون من إتصاف المسلمين بكظم الغيظ وإظهارهم الأخلاق الحميدة من وجوه:
الأول: السلامة والأمن من المسلمين فلا يأتي للناس أذى أو ضرر من المسلمين، فإن قلت قاتل المسلمون الكفار، وفتحوا الأمصار عنوة، والجواب هذا القتال لنفع الكفار أنفسهم في النشأتين.
الثاني: تفشي وإنتشار الخلق الكريم بين الناس، وإشاعة روح التسامح بينهم، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وبلحاظ أن المسلمين يقتدون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعون سنته فإن الثناء الوارد في الآية الكريمة يترشح على المسلمين بالتبعية والإلحاق .
وجاءت الآيات بلزوم إقتداء المسلمين بالنبي الأكرم والعمل بأحكام الشريعة، قال تعالى[وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ]( ).
ومن الشواهد على إتباع المسلمين لنهج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى(والكاظمين الغيظ) وموضوعيته في طلب المغفرة من الله عز وجل، من جهات:
الأولى: فيه بعث للمسلمين لكظم الغيظ وحبس الحنق.
الثانية: مدح المسلمين وبيان إنفرادهم بخصلة كريمة هي إخفاء الغضب، ومنع ظهوره على اللسان والجوارح، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، للملازمة بين الأفضلية وحسن الخلق، وقد فاز المسلمون بهذه النعمة العظيمة بفضل من الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
الثالثة: تأسي المسلمين بالأنبياء، ووراثتهم للسنن الرشيدة من تحمل الأذى، والصبر على الإساءة، وهذا الصبر من مصاديق ورشحات قصد القربة إلى الله، ودليل على منافع هذا القصد المبارك بصيرورته مدداً للمسلم في كظم الغيظ وتحمل الأذى، والسعي في مسالك العفو والمغفرة.
الرابعة: بيان معجزة عقلية حسية عامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبدل وتغيير عادات وسجايا الناس إلى الضد الأحسن عما كانت عليه قبل البعثة النبوية، فقد كان العرب يغزو بعضهم بعضاً، وتحصل بينهم المعارك الضارية لمسائل وأسباب شخصية لا تساوي شيئاً.
فجاء القرآن بكظم الغيظ، كصفة من صفات المتقين ليصير التبدل بأخلاق الناس نوعياً ومن جهات متعددة، ويكون درساً وموعظة لهم جميعاً، ومناسبة للتدبر في صدق نبوة محمد ولزوم إتباعه، وهذا التبدل وتجليه للناس من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( )، خصوصاً وأن الآية أعلاه إبتدأت بحرف السين الذي يدل على المستقبل القريب أي أن الآيات ستكون عاجلة وظاهرة في أنفسهم بسرعة ووقت محدود.
وفيه نكتة وهي حصول أسباب الهداية وتثبيت معالم التوحيد وسنن الإسلام وإقامة دولة الحق والهدى قبل مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إل الرفيق الأعلى وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية إذ أن هذه التغيير والتثبيت إنما تم بلطف ومدد من عند الله كما في معركة بدر وأحد والخندق، لذا حينما نزل قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
ليدل العطف في الآيات أعلاه على المغايرة والتعدد بين أمور ثلاثة:
الأول: نصر الله.
الثاني: الفتح.
الثالث: دخول الناس الإسلام على نحو الدفعات , وتأتي القبيلة ووفدها مسلمين مرة واحدة (قال جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك، كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل مما فيها)( ).
وفيها دلالة عل موضوعية الإختيار في هذا الدخول، فهو ليس أمراً قهرياً مترتباً على نصر المسلمين والفتح ترتب المعلول على علته، بل هو أمر إختياري نعم لابد من أسباب وعلة لهذا الإختيار منها:
الأول: نصر الله آية ومعجزة، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، أي أن أسباب ومقدمات النصر غير متوفرة عند المسلمين , ولكنه المدد الملكوتي من عند الله.
الثاني: ترشح الآيات الباهرات عن نصر الله.
الثالث: إدراك الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: عفو المسلمين عن الناس إمتثالاً لأمر الله عز وجل، ورجاء المغفرة ودخول الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردوية عن أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان أنه لما نزلت الآية أعلاه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(إن الله لم يبعث نبياً إلا عمر في أمته شطر ما عمر النبي الماضي قبله، وإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل، وهذه لي عشرون سنة وأنا ميت في هذه السنة، فبكت فاطمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت أول أهل بيتي لحوقاً بي فتبسمت)( ).
ومن رشحات هذا التبدل كف العرب عن قتل بناتهم، والذين كانوا يزاولونه خشية نهب الغزاة لهن وقيامهم بوطئهن، ومن الآيات مجيء القرآن بالنهي عن هذا الفعل القبيح وتوثيقه بقوله تعالى[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
وهل يصدق على هذا الكف أنه من رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، الجواب نعم من جهات:
الأولى: إمتناع المسلمين عن سفك الدماء، لأصالة الإطلاق في إحتجاج الملائكة وأن مرادهم أعم من حصول القتل في الحروب والتعدي فيها.
الثانية: تنزه المسلمين عن الفساد والغزو الذي كانت العرب تزاوله.
الثالثة: إكرام الإسلام للمرأة بنتاً وزوجة وأختاً وأماً.
الرابعة: رؤية الناس للحلم وسعة الصدر التي صار عليها المسلمون كدليل على أمور:
الأول: إتصاف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير العادات والطباع على نحو الموجبة الكلية ليؤسس صرح الأخلاق الحميدة الذي تشع أنواره من القرآن والسنة إلى يوم القيامة، وقد ورد في الخبر أن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، أي أنه يعفو عمن ظلمه، ويحسن العشرة، ويتجاوز عن المسيء، ويصبر على الأذى، ويبذل ما في يده في ذات الوقت الذي يجاهد وأمته فيه لتثبيت وإعلاء كلمة التوحيد، وينقطعون إلى عبادته ويتوكلون عليه في أمورهم كلها مع الشكر له سبحانه، وفيه درس وشاهد بأن الجمع بين التقوى والخلق الكريم أمر ميسور، وليس هو من التشديد على النفس.
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كُسِرَتْ لَهُ رُبَاعِيَّتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَدِيدًا، وَقَالُوا لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ فَقَالَ إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنِّي بُعِثْت دَاعِيًا رَحْمَةً لَهُمْ اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ })( ).
الثاني: إمتثال المسلمين والمسلمات للأوامر الإلهية، وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية.
الثالث: قوة ومنعة المسلمين التي تترشح من الإتصاف النوعي العام بالأخلاق الحميدة، إستجابة لأمر الله، ورجاء الفوز بالمغفرة والعفو، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الرابع: تجلي معاني شكر المسلمين لله على نعمة الإيمان، والإرتقاء في مراتب التقوى بكظم الغيظ ومقابلة الأذى بالصبر.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الإنسان يميل بطبعه إلى الإحسان، فجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملائمة للفطرة التي جبل الله الناس عليها، لتبقى الخصال الحميدة ثابتة في الأرض.
الخامسة: تقدير الجمع بين الآيتين: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس) وفيه بعث للدعوة إلى الله بالمال وحسن الخلق مع الناس مطلقاً.
ومن يعوزه المال ويتخلف قهراً وإنطباقاً عن الإنفاق والبذل في سبيل الله سواء في حال الشدة أو الرخاء يحرص على التحلي بالخلق الكريم، ويجتنب إظهار الغيظ على اللسان والجوارح، وهو يرجو أن يكون عنده ما ينفقه في سبيل الله.
وعن أبي كبشة الأنماري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمتي أربعة: رجل أعطى مالا ونفقة في طاعة الله، فرآه رجل، فقال: لو كان لي مثل ماله صنعت فيه مثل ما صنع، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطي مالا فخبط فيه وأفسده، فرآه رجل فقال: لو كان لي مثل هذا لصنعت فيه مثل هذا، فهما في الوزر سواء) ( ).
وفي الحديث ترغيب للمسلمين بحب الخير، والقدرة على البذل والعطاء في مرضاة الله، وفيه دلالة على رؤيتهم للوازم وآثار هذا البذل بقوة الإسلام، وعزّ المؤمنين، وسيادة أحكام الحلال والحرام.
وفيه منع لتغشي أسباب الخصومة بين الناس، وهل يشمل كظم الغيظ الإمتناع عن الثأر بقسميه الخاص والعشوائي، أي بالإنتقام من الجاني، والبطش بأحد أخوته وأفراد عشيرته حمية وعصبية، الجواب نعم، فإن الآية مطلقة وتبعث على عدم التعدي , وهي من خصال ملاقاة الإساءة بالإحسان، قال تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( ).
وبين الآية أعلاه وكظم الغيظ عموم وخصوص مطلق إذ أنها أعم من حبس الغيظ والغضب نعم يكون كظم الغيظ مقدمة للإحسان.
السادسة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التآخي، ونشر معاني الفضيلة والمودة بينهم، ولتكون الأخلاق الحميدة صبغة وعلامة يُعرف بها المسلمون بين الناس، لذا جاء قوله تعالى(والكاظمين الغيظ) مطلقاً من غير تقييد بفعل أو جهة مخصوصة، فيكون كظم الغيظ مع المسلمين وغيرهم من جهات:
الأول: كظم غيظ المسلم وتحمل إساءة أخيه المسلم.
الثاني: تحمل المسلمين الأذى من أهل الملل الأخرى.
الثالث: صبر وتحمل المسلمين للإساءة التي قد تصدر من أحدهم.
الرابع: كظم المسلم غيظه عما يأتيه من الأذى من أهل الملل الأخرى.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإمتياز والإختصاص بين الأمم بإمتلاك الجوارح وعدم غلبة النفس الغضبية، وتحليهم بإتخاذ هذا الإمتلاك طريقاً ومادة للعفو والمغفرة.
السابعة: من صفات الله عز وجل(الرحيم) وهو سبحانه رحيم بالناس جميعاً في الدنيا ، برهم وفاجرهم، وجاء قوله تعالى(والكاظمين الغيظ) رحمة بهم من وجوه:
الأول: إرتقاء المسلمين إلى منازل التقوى.
الثاني: بيان شاهد عملي متجدد يدل على صلاح المسلمين، وأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
وقد يطرأ على الإنسان أمر عرضي يجعله يغادر خصال الحسن الواردة في آية البحث في باب المعاملات والأخلاق كالفاقة والمرض وحال الغضب وفقدان النعمة.
فجاءت الآية لتؤكد أن ترك الأخلاق الحميدة هو فقدان إختياري لنعمة أخرى تجلب نعماً عديدة، وفيه وقاية وتحصين للمسلمين من هذا الترك، وهذه الحصانة من مصاديق الآية أعلاه، والشواهد على إختصاصهم بإستدامة الخلق الكريم والإنفاق في حال السراء والضراء، والسلامة الدائمة من الصفات المذمومة.
الثالث: إرشاد الناس إلى الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة.
الرابع: رأفة ورحمة المسلمين بالناس جميعاً لأن الله عز وجل أمرهم بهذه الرأفة، ومن مصاديقها كظم الغيظ، وتحمل الأذى.
فصحيح أن كظم الغيظ والصبر حبس للنفس الغضبية والشهوية، إلا أن منافعه تتعدى صاحبها، وتشمل الذي يكظم عنه الغيظ مسلماً كان أو غير مسلم، وهو من عمومات قوله تعالى[مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا]( ).
بلحاظ أن الآية تفتح أبواباً من الرحمة بين الناس في باب المعاملات، وتجعل النفوس تميل إلى الصلاح وتنفر من أسباب الخصومة والشحناء.
الثامنة: بيان حقيقة وهي تحمل المسلمين الأذى بأمر من الله عز وجل، وفيه سعي للجنة واللبث الدائم في النعيم، وليس من حد لهذا التحمل لأنه صار بالأمر الإلهي ملكة ثابتة عند المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: إشعاع ضياء الإيمان على القلوب المنكسرة وعن رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخير عادة والشر لجاجة) ( ).
الثانية: صيرورة صبر المسلمين وسيلة لجذب الناس للإسلام.
الثالثة: فيه دعوة للتدبر في علة وأسباب كظم الغيظ، فيدرك الناس أن العلة في المقام مركبة من أمرين:
الأول: مجيء الأمر الإلهي من جهتين:
الأولى: مجيء آية البحث بالندب إلى كظم الغيظ.
الثانية: إخبار آية السياق عن إعداد الجنة للذين يحبسون غيظهم وحنقهم.
الثاني: تقيد وإمتثال المسلمين للأوامر الإلهية، وتحليهم بالصبر، وإجتنابهم الغضب ورد الأذى، وهذا الإجتناب مناسبة لإختيار الأحسن في المعاملة.
التاسعة: تقدير الجمع بين الآيتين (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض بالعفو عن الناس) وفيه بيان لأمور:
الأول: موضوعية العفو في صلاح المجتمعات.
الثاني: نشر مفاهيم الإيمان بين الناس.
الثالث: الملازمة بين التقوى والعفو، وفي الحديث: تخلقوا بأخلاق الله)( ).
ومن أسماء الله عز وجل(العفو) وليس من حد أو رسم( ) للذنوب والمعاصي التي يعفو عنها الله عز وجل ومن فضله أنه يبدل السيئات حسنات.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم: يا كريم العفو، فقال له جبرئيل عليه السلام تدري ما تفسير يا كريم العفو هو أنه عفا عن السيئات برحمته ثم بدلها حسنات بكرمه.
العاشرة: صيرورة العفو عن الناس طريقاً للهدى، ووسيلة لجذب الناس للإسلام، إن الدعوة إلى الإسلام باب للجهاد مفتوحاً إلى يوم القيامة وليس من حصر لصيغه وأسبابه، ومنها تحلي المسلمين بعرض ثابت هو العفو عن الناس.
وتدل شواهد تأريخية كثيرة على دخول أعداد من الناس الإسلام بتحلي المسلمين بالعفو والصفح عمن يسيء إليهم متحداً كان أو متعدداً، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو مكة في السنة الثامنة للهجرة وسارعت القبائل العربية لدخول الإسلام، وسار مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرة آلاف مقاتل أكثرهم دخل الإسلام بعد صلح الحديبية الذي عقد في السنة السادسة للهجرة.
الحادية عشرة: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، ومصاديق وأوان الحاجة أعم من أن ينحصر بالحياة الدنيا فتشمل عالم الآخرة.
وينفرد الموحدون بإدراك حقيقة وهي أن حاجتهم للعفو من الله في الآخرة أكثر منها في الحياة الدنيا، فيأتي عفو المسلمين عن غيرهم ليؤكدوا حاجتهم إلى عفو الله بالصفح عن الناس فيكون درساً للناس جميعاً بلزوم الإستعداد للآخرة بالتوبة والإنابة ومحاكاة المسلمين والإقتداء بهم بالعفو عن الناس، فتسود لغة العفو في المجتمعات وتكون محبوبة ومطلوبة بالذات ووسيلة للظفر بمرضاة الله، ورجاء الإقامة الدائمة في الجنة، قال تعالى[وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ]( ).
والمراد من العفو في الآية أعلاه إنفاق الزائد عن الحاجة بما ليس فيه حرج، إلا أن هذا لا يمنع من إرادة الترغيب في الآية بالعفو والمغفرة والتجاوز عن الإضرار والأذى من الغير، لذا ورد قوله تعالى في القصاص[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، بإعتبار أن العفو تنازل عن حق.
الثانية عشرة: تحتمل النسبة بين العفو والمغفرة وجوهاً:
الأول: التساوي وأن العفو هو المغفرة.
الثاني: العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين:
الأولى: المغفرة أعم وأوسع من العفو لأنها محو للذنوب.
الثانية: العفو هو الأعم.
الثالث: نسبة العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق، والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني، أن العفو ترك المؤاخذة على الظلم والذنب والتعدي، أما المغفرة فتشمل أيضاً الستر والرحمة والطمع بالإنعام، فتأتي المغفرة على الذنب وتمحو تبعاته وآثاره وكأنه لم يكن من طرف العقوبة والحساب، ومن أسماء الله عز وجل العفو والغفور، قال الله سبحانه[إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ]( ).
وفي قوله تعالى[فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ]( )، ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه الرضا بغير عتاب)( ) وفيه أقوال أخرى:
الأول: إنه الإعراض من غير جزع.
الثاني: إنه صفح المنكر عليهم بكفرهم، المقيم على وعظهم قاله ابن بحر( ).
الثالث: أنه العفو عنهم بغير توبيخ ولا تعنيف، ولكن ورد عن عكرمة ومجاهد (لقد جئتكم بالذبح، وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة)( )، ولا دليل على هذا القول، ولم يثبت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله بالإضافة إلى حجية أحاديث العرض , بعرض السنة على القرآن.
(عن سفيان بن عيينة، في قوله:(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) قال: كان هذا قبل أن ينزل الجهاد. فلما أمر بالجهاد قاتلهم فقال: “أَنَا نَبِيُّ الرِّحْمَةِ ونَبِيُّ المَلْحَمَةِ، وبُعِثْتُ بالحصادِ وَلمْ أبْعَثْ بالزِّرَاعَةِ”)( )، والحديث مرسل مثل سابقه والإرسال من مصاديق الضعف.
وتدل الآية أعلاه على الصفح الذي لا يتعقبه إنتقام أو بطش، بالإضافة إلى معارضة الحديث أعلاه لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، والنسخ لا يأتي على أصل سنخية الرحمة التي تتصف وتتقوم بها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي زرعت شجرة الإيمان في الأرض لتضيء أغصانها على جميع بقاع الأرض، وتبقى خضراء نضرة إلى يوم القيامة .
الثالثة عشرة: دخول الجنة عنوان المغفرة والعفو ودليل على تفضل الله بمضاعفة حسنات أهلها، والتجاوز عن سيئاتهم (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من أحد يدخل الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)( ) فجاء التأكيد على صفة العفو، وترشحها عن التقوى لبذل المسلم الوسع في طلب العفو والمغفرة من الله عز وجل.
فإذا إعتاد المسلمون إختيار العفو وترك العقوبة، فأنهم يدركون حاجتهم إلى عفو الله والعكس صحيح أيضاً أي أن إقرارهم بالحاجة إلى العفو من الله طريق وسبيل للعفو عن الناس.
لتكون الدنيا دار(العفو) موضوعاً وحكماً وإبتلاء، يتنافس المؤمنون فيها لولوج سبل العفو.
وهل ترغيب بعضهم لبعض بالعفو من الأمر بالمعروف , الجواب نعم ليترشح ثواب العفو الشخصي على الجماعة من المسلمين، ويكون العفو ملكة ثابتة عندهم، ورجاء للظفر بعفو الله عنهم، ومغفرته لذنوبهم.
الرابعة عشرة: لقد وصفت آية السياق الجنة بالإعجاز في الوصف من حيث سعتها إذ ذكرت عرض الجنة وأنه كعرض السموات والأرض، ولم تذكر طولها مع أنه أزيد وأطول من العرض لتبقى من جهة السعة تفوق التصور الذهني، وفيه ترغيب إضافي بالسعي إلى الجنة ومن مصاديق هذا السعي العفو عن الناس والتجاوز عن سيئاتهم فإستحضار سعة الجنة سبب وسبيل إلى التحلي بالأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة، ومنها الصبر والسماحة والرفق.

صلة(أعدت للمتقين) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تتجلى الصلة بين الآيتين بمجيء هذه الآية تفصيلاً لصفات المتقين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ترى ما هي النسبة بين نعت(المتقين) الذي أختتمت به آية السياق وبين الصفات التي ذكرتها هذا الآية والآية التالية، وجهان:
الأول: نسبة التساوي وأن الصفات التي ذكرت في المقام هي مصاديق التقوى التي يدخل بها المسلم الجنة.
الثاني: العموم والخصوص المطلق فالتقوى أعم من هذه الصفات.
والصحيح هو الثاني، فليس من حصر لمصاديق التقوى التي هي ملكة تظهر على الجوارح والأركان وتكون سبباً لإكتناز الصالحات، وواقية من السيئات، وتتجلى في آيات القرآن معاني ومفاهيم التقوى التي تتغشى الميادين المختلفة سواء في فعل المسلم أو في أدائه للعبادات وقيامه بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه ما ورد في الآية السابقة من الحث على الإستغفار.
الثانية: كل آية من القرآن مدرسة عقائدية متكاملة بذاتها، وتترشح معاني قدسية أخرى بالجمع بينها وبين كل آية من آيات القرآن الأخرى وهو من اللامنتهي في إعجاز القرآن خصوصاً وأن العلوم المستقرأة من كل فرد من أفراد الجمع بين الآيات توليدي بالأصل والتجدد بلحاظ مستحدثات المسائل والأحوال، ومنه الصلة والتداخل بين هذه الآية والآيتين السابقة واللاحقة إذ يتجلى بالتداخل الموضوعي بينها، فتخبر الآية السابقة عن إعداد الجنة للمتقين ثم تبين الآيتان اللتان بعدها صفات المتقين، وفيه مسائل:
الأولى: صيرورة الحياة الدنيا(دار التقوى) إذ تتبين معاني ومفاهيم التقوى على المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم.
الثانية: إرشاد المسلمين لسبل الصلاح والتقوى.
الثالثة: بيان منافع التقوى وأنها طريق إلى الجنة الواسعة.
الرابعة: ترشح الإستغفار عن التقوى، وتبيان حاجة الناس للإستغفار، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّهُ لَيُغَنُّ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ)( ).
الخامسة: التقوى طريق للتحلي بالصفات المذكورة في هذه الآية والآية التالية، وكذا فإن هذه الصفات وسيلة مباركة لبلوغ مرتبة التقوى والخشية من الله بالسر والعلانية.
السادسة: لما أخبر القرآن عن علة خلق الناس جميعاً بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، جاءت هذه الآيات لبيان حسن عاقبة الذين يعبدون الله ويمتثلون لأوامره بالخلود في النعيم الدائم.
السابعة: تفقه المسلمين في الدين، ودعوة الناس للعمل بمضامين التنزيل، وضرورة التقوى في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
الثامنة: بيان التباين بين المؤمنين وغيرهم في الآخرة، بلحاظ تقيد المؤمنين بالسنن المذكورة في هذه الآيات طاعة لله عز وجل وبقصد القربة، وطمعاً بالثواب الدائم الذي هو فضل من الله عز وجل، قال سبحانه[وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
وفي خاتمة الآية أعلاه حجة ودعوة للناس للإعتبار من التباين في السنخية بين الدنيا التي هي لهو ولعب، وبين الآخرة التي هي دار كرامة المتقين.
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث تأكيد لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، من جهات:
الأولى: إنها واقية من اللهو واللعب.
الثانية: فيها إحتراز من الغفلة والجهالة.
الثالثة: تبعث آية البحث على التدبر في الحياة الدنيا، وإنقطاع زينتها ومغادرة الإنسان لها على نحو قهري وحتمي.
الرابعة: الترغيب بإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة.
ترى لماذا لم تذكر المسارعة إلى المغفرة ضمن هاتين الآيتين اللتين تبينان صفات المتقين الذين أعدّ لهم الله الجنة، الجواب: جاء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة خطاباً للمسلمين والمسلمات جميعاً لأنه معطوف على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، والمقصود جميع الذين نطقوا وينطقون بالشهادتين، وبين النطق بالشهادتين والتقوى عموم وخصوص مطلق.
وهل دخول الإسلام والنطق بالشهادتين مقدمة للتقوى أم أحد مصاديقها؟
الجواب هو الثاني، فمن خشية الله والسعي إلى الجنة دخول الإسلام، نعم هو مقدمة لإتيان الفرائض والواجبات وأفراد الصلاح، ومصاديق التقوى الأخرى، والسعي الحثيث للظفر بمرضاة الله، إذ أن الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، يترك ويهجر المسلم فيها اللهو واللعب، ويطرد الجهالة، ويعتصم من الغفلة.
لذا جاء الخطاب في الآية للمسلمين جميعاً بالمبادرة إلى الإستغفار وسؤال العفو من الله، ومن الإعجاز في الآية أن الإستغفار مطلوب بذاته مما يدل على موضوعيته ومنافعه، وجاءت هذه الآية وما تتضمنه من صفات المتقين لبعث المسلمين على الإستغفار والمسارعة والتقيد بما فيها من السنن، وكأن صفات المتقين وفعل الصالحات إستغفار عملي وتقرب إلى الله سبحانه لتكون كل من هذه الآية والآية التالية، نوع طريقية للإستغفار ومقدمة له.
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة الإستغفار في الإسلام لتتغشى أعمال المسلمين في الليل والنهار، وهي بيان وتفسير لآيات الإستغفار والمغفرة في القرآن، وأمارة على التقوى والصلاح.
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم كان إذا أنصرف من صلاته استغفر ثلاثا قال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)( )، وفيه مسائل:
الأولى: الهداية إلى عدم مغادرة أفعال الصلاة إلى الدنيا وزينتها.
الثانية: حال الخشوع والخضوع لله عز وجل بالإستغفار بعد التسليم، ثم الذكر والثناء على الله عز وجل.
الثالثة: الإستغفار عقب الصلاة شاهد بأن أداء الصلاة عن شوق لله وتسليم بوجوب طاعته، وتلك الطاعة سبيل مبارك لدخول الجنة، قال تعالى[وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ]( ).
الثالثة: كل آية قرآنية لطف إلهي، وتتضمن مصاديق توليدية من فضل الله، قال تعالى[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]( )، وفي إختيار المسلمين للعمل بأحكام القرآن ووظائف التقوى عنوان فخر وإكرام لهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بلحاظ تعلقها بالآية أعلاه من سورة فاطر من وجوه:
الأول: تشريف المسلمين بتسمية الله عز وجل لهم عباده , وجعلهم أمة وسطاً، وإختيارهم للإنتساب إلى سيد الأنبياء.
الثاني: إختيار المسلمين لمسؤوليات وراثة الكتاب، وحمل أمانة السماء، وهو غير موضوع قوله تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( )، لأن تلقي المسلمين لآيات القرآن وسنن العبادات برحمة وفضل من الله، ومــن خصــائص هذا الإختيار إعــانة المسلمين ونزول المدد من الله عز وجل لهم.
الثالث: وراثة المسلمين للتنزيل، ومضامين الكتب السماوية السابقة، الأمر الذي يدل بالدلالة التضمنية على تعاهد المسلمين لآيات القرآن، وعملهم بأحكامها.
وعن ابن عباس في الآية أعلاه: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أورثهم الله كل كتاب أنزله)( ).
الرابع: صدق اسم المصطفين على أجيال المسلمين المتعاقبة، ليكونوا شهداء على الناس وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: دعوة الناس لدخول الإسلام والظفر بصفة الإصطفاء والإجتباء من الله عز وجل.
السادس: من خصال المصطفين التحلي بالتقوى، والمسارعة إلى المغفرة، والسعي الحثيث إلى الجنة والإنفاق في سبيل الله في الرخاء والشدة، وحبس الغيظ، والعفو، فهم أئمة الناس في الصالحات، فيحتمل قوله تعالى[وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ) وجوهاً:
الأول: إرادة موضوع النزول وهو قصة بني أبيرق وأن الآية نزلت فيهم(كانوا ثلاثة إخوة بشر و بشير و مبشر و كان بشير يكنى أبا طعمة و كان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم يقول قاله فلان و كانوا أهل حاجة في الجاهلية والإسلام فنقب أبو طعمة على علية رفاعة بن زيد و أخذ له طعاما و سيفا و درعا فشكا ذلك إلى ابن أخيه قتادة بن النعمان و كان قتادة بدريا فتجسسا في الدار و سألا أهل الدار في ذلك فقال بنو أبيرق والله ما صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجل ذو حسب و نسب فأصلت عليهم لبيد بن سهل سيفه و خرج إليهم و قال يا بني أبيرق أترمونني بالسرق و أنتم أولى به مني و أنتم منافقون تهجون رسول الله وتنسبون ذلك إلى قريش لتبينن ذلك أو لأضعن سيفي فيكم فداروه.
وأتى قتادة رسول الله فقال يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل بيت سوء عدوا على عمي فخرقوا علية له من ظهرها و أصابوا له طعاما وسلاحا فقال رسول الله انظروا في شأنكم فلما سمع بذلك رجل من بطنهم الذي هم منه يقال له أسيد بن عروة جمع رجالا من أهل الدار ثم انطلق إلى رسول الله فقال إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا لهم حسب و نسب و صلاح وأبنوهم بالقبيح و قالوا لهم ما لا ينبغي وإنصرف.
فلما أتى قتادة رسول الله بعد ذلك ليكلمه جبهه رسول الله جبها شديدا و قال عمدت إلى أهل بيت حسب و نسب تأتيهم بالقبيح و تقول لهم ما لا ينبغي.
قال فقام قتادة من عند رسول الله و رجع إلى عمه و قال يا ليتني مت و لم أكن كلمت رسول الله فقد قال لي ما كرهت فقال عمه رفاعة الله المستعان فنزلت الآيات[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ……….إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ]( ) فبلغ بشيرا ما نزل فيه من القرآن فهرب إلى مكة و ارتد كافرا فنزل على سلافة بنت سعد بن شهيد و كانت امرأة من الأوس من بني عمرو بن عوف نكحت من بني عبد الدار فهجاها حسان فقال: فقد أنزلته بنت سعد و أصبحت ينازعها جلد استها و تنازعه:
ظنَنتمْ بأنْ يخفى الذي قد صنَعتُمُ وفينا نبيٌّ عندهُ الوحيُ واضعهْ( )
فحملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح و قالت ما كنت تأتيني بخير أهديت إلي شعر حسان هذا قول مجاهد و قتادة بن النعمان و عكرمة و ابن جريج إلا أن عكرمة قال إن بني أبيرق طرحوا ذلك على يهودي يقال له زيد بن السهين فجاء اليهودي إلى رسول الله و جاء بنو أبيرق إليه و كلموه أن يجادل عنهم فهم رسول الله أن يفعل و أن يعاقب اليهودي فنزلت الآية و به قال ابن عباس.
وقال الضحاك نزلت في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها فخونه رجال من أصحاب النبي فغضب له قومه فقالوا يا نبي الله خون صاحبنا و هو مسلم أمين فعذره النبي وكذب عنه و هو يرى أنه بريء مكذوب عليه فأنزل الله فيه الآيات واختار الطبري هذا الوجه قال لأن الخيانة إنما تكون في الوديعة لا في السرقة)( ).
الثاني: إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل الله إذ أكرمه بالنبوة، وليس من فضل وشرف ورفعة أعظم منها.
الثالث: هداية الناس على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة أمته[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: تجدد فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما إختلف الجديدان بحفظ القرآن من التحريف، ووراثة أمته للكتاب، وتجلي معاني التقوى الواردة في آية البحث على جوارحهم وفي أفعالهم.
ومن إعجاز القرآن أن الجمع بين كل آيتين يتضمن مصاديق أخرى من اللطف من غير ما في أي من الآيتين، وكل فضل ولطف من الله عز وجل عظيم وكبير، فأخبرت آية السياق بأن الجنة أعدت للمتقين من غير تعيين لأشخاص المتقين، ولكن آية البحث جاءت بأربع صفات حميدة للمتقين، كل واحدة منها إحسان محض.
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) لتكون دلالات قوله تعالى(أعدت للمتقين) بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول: البشارة بالسعة في المال لدلالة الأمر بالإنفاق عليه بالدلالة التضمنية.
الثاني: البعث على الإنفاق في سبيل الله.
الثالث: إتخاذ السعة في المال والأمن مناسبة للبذل في سبيل الله.
الرابع: تهيئة المسلمين لحالات من الشدة والضيق قد يتعرضون لها، وهو المستقرأ من قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] وفي ذكر حال الضراء دلالة على مجيء حالات بؤس وعوز يصيب المسلمين، وهذا العوز لن يحول دون تعاهدهم للإنفاق في سبيل الله.
وفي إستدامة الإنفاق مع حال الشدة مسائل:
الأولى: عدم بلوغ المسلمين لحال الفقر المدقع والحاجة الشديدة، لأن الإنفاق في الشدة يدل على إستدامة القدرة على الإنفاق ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثانية: إستمرار معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وعدم مصاحبة اليأس والقنوط للفقر الذي قد يصيب بعضهم، إذ يمد له المسلمون يد العون .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى)( ).
الثالثة: الدعوة للتوكل على الله، وذكره في حال الرخاء، وعدم الخشية من طرو العوز والحاجة، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ومن معاني آية البحث الوعد الكريم للفقير والمحتاج بوجود أمة من المتقين لا تنقطع عن الإنفاق حتى في حال الشدة التي تصيب الأمة، أو التي تصيبهم شخصياً.
الرابعة : تحلي المسلمين بالإحسان والإعانة فيما بينهم ومع الناس جميعاً حتى في أشق وأشد الأحوال ، وهو من الشواهد على لزوم إجتناب المسلم الإرهاب والإضرار بالآخرين .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثلاثون بعد المائتين من هذا السِفر.
الخامس: إقتران مصاديق الإعانة والتكافل بين المسلمين بالتقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما في إجتماع التقوى والإنفاق من نشر لمعاني الفضيلة بين الناس.
الخامس: مجيء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة، وهي إقتران العفو عن الناس بالخشية والخوف من الله عز وجل، ليكون هذا العفو على وجوه:
الأول: إنه طريق للهداية والإيمان.
الثاني: إختيار المسلمين العفو شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: مبادرة المسلمين إلى العفو عن الناس طاعة لله عز وجل، وإرادة قصد القربة.
الرابع: إنعدام الخصومة والخلاف بين المسلمين عند إرادة العفو عن الناس، فلا يقول شطر منهم بلزوم الإنتقام والبطش وبيان علة هذا القول، بل تجعل الآية السابقة المسلمين في حال من التقوى والخشية من الله للعمل بمضامين هذه الآية وإختيار العفو, (الأحنف بن قيس. قيل له: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري( )، رأيته قاعداً بفناء داره محتبياً بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أتي بمكتوف ورجلٍ مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك؛ قال: فوالله ما حلّ حبوته ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال: يا بن أخي أثمت بربك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمك؛ ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فواري أخاك وحل كتاف ابن عمك وسق إلى أمك مائة ناقة ديّة ابنها فإنها غريبة.
وقد ساق أبو هلال هذه القصة بسند وزاد فيها زيادة حسنة نذكرها، فقال: إن قيس بن عاصم لما فرغ من حديثه التفت إلى بعض بنيه، فقال: قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه فبدأ بإطلاق القاتل قبل دفن المقتول)( ).
الخامس: توجه المدح والثناء من المسلمين للذين يختار العفو، وهو أمر ظاهر للعيان، إذ يتوارث المسلمون الأخبار التي تتضمن العفو بالقبول والرضا.
السادس: إمتلاء النفس بالسكينة عند العفو، لما فيه من الحمد وحسن العاقبة وإنتفاء الندم ولذة العفو أطيب من لذة البطش والإنتقام.
السابع : إختتام آية البحث بالترغيب بالمعروف والإنفاق ومصاديق الإحسان إلى الغير.
وتحتمل النسبة بين التقوى والإحسان وجوهاً:
الأول: الإحسان فرع التقوى، ورشحة منها.
الثاني: بين الإحسان والتقوى عموم وخصوص مطلق، فالتقوى من الإحسان.
الثالث: نسبة التساوي بينهما، فالتقوى هي الإحسان.
الرابع: نسبة العموم والخصوص من وجه، ووجود مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بينهما.
والصحيح هو الأول والثاني، فإن قيل إنه يستلزم الدور لتوقف أحدهما على الآخر، والجواب ليس من دور في المقام لكثرة المصاديق الخارجية لكل من التقوى والإحسان والتعدد الجهتي لأثر كل منهما في الآخر وبما يؤدي إلى الصلاح، فكل فرد من التقوى والإحسان طريق إلى الجنة، وسبب للسعادة في النشأتين، فلا غرابة أن تختتم الآية السابقة بقوله تعالى(أعدت للمتقين).
وتختتم هذه الآية بالإخبار عن حب الله للمحسنين مع بيان صفاتهم التي هي مصداق للتقوى.
فلما أخبرت الآية السابقة عن إكرام المتقين , وأن الله عز وجل أعدّ لهم الجنة، جاءت هذه الآية ببيان صفات إضافية للمتقين تتجلى في المعاملات والدفاع عن بيضة الإسلام , وسلامة المسلمين ببذل المال ونشر الأخلاق الحميدة طاعة لله عز وجل ورجاء الثواب منه سبحانه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا يعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)( ).
بعد العفو عن الناس أختتمت الآية الكريمة بقانون كلي يتغشى أيام الحياة الدنيا بقوله تعالى[اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، وفيه مسائل:
الأولى:إنه درس عظيم للمسلمين والناس جميعاً.
الثانية:فيه ثواب متقدم موضوعاً وحكماً على الإمتثال لأحكام هذه الآية فالإخبار عن حب الله عز وجل للمحسنين بشارة الفلاح والنجاح والثواب.
الثالثة:يدل هذا القانون بالدلالة التضمنية على أن العمل بأحكام هذه الآية من الإحسان، وأن العاملين بها يستحقون صفة(المحسنين).
الرابعة:تفضل الله بالجزاء الحسن والثواب العظيم على عمل الصالحات وفعل الخيرات، قال تعالى[هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( ).
ويحتمل ذكر المحسنين وإخبار الآية عن حب الله عز وجل لهم أموراً:
الأول: صدق اسم المحسن على الذي يجمع بين الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس.
الثاني:الإجزاء بالإتيان بخصلة حميدة من خصال التقوى أعلاه التي ذكرتها آية البحث.
الثالث:كفاية قيام عدد وشطر من المسلمين بمضامين هذه الآية في إستحقاق المسلمين لصفة المحسنين خصوصاُ وأن إحسان بعضهم لبعض يصدق عليه أنه إحسان عام، ولكنه لايعني أن الإحسان عند المسلمين واجب كفائي، بل هو أمر مندوب ومحبوب ذاتاً.
الرابع:الإحسان صفة زائدة على الخصال التي ذكرتها آية البحث، أي أن الآية الكريمة تذكر خمس خصال للمتقين الذين أعدً الله لهم الجنة وهي:
الأولى:البذل والعطاء في سبيل الله في حال اليسر والرخاء.
الثانية:الإنفاق في سبيل الله في حال العسر والشدة، وفيه رسالة للناس جميعاً بأن المسلمين يسخّرون ما يملكون طاعة الله وتعظيماً لشعائره وتثبيتاً لأحكام التوحيد، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ] ( ).
الثالثة:حبس الغيظ، وإجتناب الإنفعال والغضب.
الرابعة:الصفح عن المتجاوز والمسئ، متحداً كان أو متعدداً.
الخامسة:إتخاذ الإحسان صفة وخلقاً مصاحباً , وهل يكون ترك وإجتناب المعاصي والسيئات من عمومات قوله تعالى[اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، الجواب نعم لما في هذا الترك من الإحسان للنفس في الدنيا والآخرة.
الخامس:لما ذكرت الآية خصال المتقين أختتمت بالدلالة والبعث على المعنى الأعم منها، ليكون بين الإحسان وهذه الخصال عموم وخصوص مطلق، فكل صفة وفعله هي إحسان وحسنة، ولها حسن ذاتي وعرضي إلا أن الإحسان أعم ويشمل خصالاً وصفات أخرى منها أداء الواجبات العبادية وفعل الصالحات والسعي في الخيرات بإصلاح ذات البين , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإختيار الصبر،وأسباب وصيغ طلب النفرة واللجوء إلى الله وورد في الآية السابقة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
السادس: إختتام الآية بالإخبار عن حب الله للمحسنين للبعث على الإكثار من الإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ في الإساءة والتعدي ذي القبح الظاهر، والمبادرة إلى العفو عن القريب والبعيد، وكما يكون الإنفاق في السراء والضراء فكذا العفو فيكون من حال القدرة والسلطان ومختلف الأحوال الأخرى، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الإطلاق[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ].
وتحتمل النسبة بين المحسنين والمتقين الذين أعّد الله لهم الجنة وجوهاً:
الأول: نسبة التساوي , فالمتقون هم المحسنون بلحاظ أن التقوى إحسان للذات والغير، قال تعالى[إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثاني:العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى:المتقون أعم، فقد يكون الإنسان من المحسنين ولكنه لم يبلغ مرتبة التقوى التي جعلها الله عز وجل قيداً وشرطاً لدخول الجنة.
الثانية:الإحسان هو الأعم من التقوى، فقد يبلغ المسلم مرتبة التقوى والخشية من الله ولكنه لايبادر إلى فعل الخيرات والإحسان إلى الناس، وفيه منع إذ أن التقوى والخشية من الله إحسان للذات والغير بالدلالة المطابقية والتضمنية والإلتزامية.
الثالث:نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإبقاء بين التقوى والإحسان، وأخرى للإفتراق بينهما.
ولا تعارض بين هذه الوجوه للإطلاق والعموم في مصاديق كل من التقوى والإحسان وتارة يكون الفعل بذاته حسناً وأخرى يكون الإحسان بمراتب , ودرجات الكمال منه ومنها أداء العبادات على أحسن وجه، وطاعة الوالدين، وحسن الجوار وتحمل أذى الجار، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( ).
وتلك آية في خلق الإنسان وعمومات قوله، ومفاهيم الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا بأن جعل الله عز وجل السعة والمندوحة في فعل الخيرات مع الثناء على أهلها والفاعلين لها، بينما تكون أفراد الذنوب والمعاصي من سنخية واحدة تنفر منها النفس الإنسانية، وجاءت الكتب السماوية والأنبياء بذمها والزجر عنها.
وأختتمت آية البحث بالإخبار عن حب الله للمحسنين الذي يدل في مفهومه على بغض الله تعالى للكفار والظالمين والفاسقين ليس إجتماع الضدين وحده، بل للآيات الصريحة التي تؤكد حقيقة أن الله عز وجل أعد لهم النار والعذاب الأليم في الآخرة وانه سبحانه لا يحبهم .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وليس منا من لا يألف ولا يؤلف( )ز
ومن إشراقات الحديث أنه بيان للتعدد الموضوعي، فحسن الخلق صفة زائدة على الإيمان.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ( )، وأستدل عليه بأن ترك السيئات أوجب ن فعل الحسنات، وهذا الإستدلال غير تام لأن النهي عن السيئات جاء بالإضافة إلى فعل الحسنات لوجوبها بالذات وتقدير الحديث: إتق المحارم مع أدائك العبادات تكن أعبد الناس.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين رؤية الأشياء بعين البصيرة،وإتخاذ الدنيا وسيلة لجذب الناس لأسباب الصلاح،فهداهم إلى سلاح مبارك وهو قهر النفس الغضبية والشهوية ومنه إجتناب الميل إلى اللذات، ومنه تنمية ملكة إظهار الصبر في القضية الشخصية والنوعية.
وجاءت هذه الآية بالإخبار عن قانون ثابت من اللطف الإلهي وهو حب الله للمحسنين، والذي يدل بالدلالة التضمنية على الجزاء العاجل والآجل من الله عز وجل للمتقين الذين ينشرون معاني الرأفة والإحسان وبما يدرك معه الناس أن هذا الإحسان، هو بقصد القربة إلى الله، لتتجلى لأبصارهم وبصائرهم حقيقة وهي أن البر والفاجر، والمؤمن والكافر ينهلون من قصد القربة وينتفعون منه , وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
مع التباين في هذا النفع كماً وكيفاً، فينتفع منه المؤمن بالذات والعرض، وفي الدنيا والآخرة، أما الكافر فينتفع منه في الدنيا وبالعرض، ويكون حجة عليه في الآخرة.
وفي الخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العافين عن الناس: قال أن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله و قد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت( ). وفيه ترغيب بالعفو، وعلى فرض صحة سند الحديث فانه لا يرقى إلى الدلالة على كفاية الخصلة الواحدة من الخصال التي ذكرتها الآية الكريمة لصدق إنطباق صفة التقوى والصلاح لدخول الجنة.
ويمكن إستقراء قاعدة كلية وهي لو دار الأمر بين الشرط المتحد والمتعدد للفوز بفضل الله عز وجل، فالصحيح هو الأول أي المتحد إلا مع القرينة الصارفة إلى الثاني بقاعدة وهي بفضل الله ينال اللامتناهي من فضل ونعم الله، ليكون من معاني الإحسان في الآية أمور:
الأول:الجمع بين الخصال الثلاثة المذكورة فيها وهي الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس .
الثاني:تكرار إتيان كل خصلة من هذه الخصال الحميدة، وعدم الوقوف عند حد معين منها.
الثالث:الإكثار من الإنفاق وإختيار كظم الغيظ والعفو بسخاء، وجاءت النصوص بالحث على الكرم والسخاء وصيرورته ملكة عند المسلم .
روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: السخاء شجرة من شجر الجنة , أغصانها متدليات في الدنيا , من أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة ، والبخل شجرة من شجر النار, أغصانها متدليات في الدنيا , من أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى النار( ).
الرابع:إنتفاء القيد والشرط للإنفاق وكظم الغيظ والعفو،وإن تكرر موضوع الإنفاق، أو صدور الإساءة من ذات الجهة التي تم العفو عنها، وفيه آية في الخلق االكريم، ودعوة للطرف الآخرة للكف عن إيذاء المسلم،والتعدي على الإسلام.
لقد أخبرت الآية السابقة عن إعداد الجنة للمتقين، ثم ذكرت هذه الآية صفاتهم، لتكون التقوى الواردة في الآية السابقة صفة قائمة بذاتها وهي الأصل للدلالة على إرادة إعداد الجنة للمتقين،ثم ذكرت هذه الآية صفاتهم،لتكون التقوى الواردة في الآية السابقة صفة قائمة بذاتها وهي الأصل للدلالة على إرادة إعداد الجنة للمتقين الذين يؤمنون بالله ورسوله ويقيمون الصلاة ويؤدون الفرائض الأخرى، ولتكون خصال الإحسان الواردة في هذه الآية من عمومات قوله تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( )، وروي أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية إن الله تعالى يقول: و الكاظمين الغيظ فقال لها : قد كظمت غيظي , قالت: و العافين عن الناس، قال قد عفا الله عنك , قالت: و الله يحب المحسنين ، قال: إذهبي فأنت حرة لوجه الله( ).
الثاني: صلة قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، بهذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان تعدد وظائف المسلمين في باب العبادات والمعاملات، وهو من الشواهد على تفضيل المسلمين، وإرتقائهم في سلم المعرفة الإلهية.
الثانية: تقدم الأمر بطاعة الله والرسول على الأمر والبعث على الإنفاق في نظم القرآن، وفيه دلالة على تقييد الإنفاق بأنه في سبيل الله.
الثالثة: لما جاءت آية السياق بالأمر بطاعة الله جاءت آية البحث بالحث على الإنفاق والإخبار بأنه من صفات المتقين الذين يطيعون الله في السر والعلانية.
الرابعة: تقدم الأمر بطاعة الله ورسوله على الأمر بالإنفاق بعث للشوق في النفوس للإنفاق والبذل، وإستحضار قصد القربة قبل وأثناء وبعد البذل والعطاء.
الخامسة: في الجمع بين الآيتين وعد كريم من الله عز وجل بالعوض والبدل على الإنفاق في سبيل تعالى بلحاظ أنه طاعة لله ورسوله، قال تعالى[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ]( )، ليكون من صفات المتقين التصديق بالعوض من الله، والتطلع إليه في الدنيا والآخرة، ومن فضل الله أن مجيء العوض في الدنيا لا يحجب مجيء مصاديق أخرى له في الدنيا والآخرة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)( ).
السادسة: بيان حقيقة وهي أن طاعة الله لا تختص بالفرائض العبادية كالصلاة والصوم بل يشمل الإنفاق الواجب كالزكاة والإنفاق المستحب كالصدقات، وتدخل الكفارات في الصدقة الواجبة بالعرض كما في كفارة إفطار شهر رمضان والكفارات في مناسك الحج وكفارة اليمين، أما من لا يقدر على الكفارة للعوز والحاجة، فالإستغفار أعظم كفارة.
السابعة: تعقب الثواب للإنفاق لأنه بقصد القربة إلى الله عز وجل.
الثامنة: لقد أراد عز وجل للمسلمين العز والرفعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وفي طاعة الله عز وجل وقوة ومنعة، وكذا بالنسبة للإنفاق في سبيل الله فهو عز ورفعة من وجوه:
الأول: في الإنفاق طرد لشبح الفقر والجوع عن المحتاج من المسلمين.
الثاني: إنه سبب لنشر معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين، ومنع للتحاسد، والنفرة بينهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالث: فيه إعانة للفقراء لأداء الفرائض والواجبات العبادية.
الرابع: الإنفاق في سبيل الله تفقه في الدين ومقدمة للتفقه ودعوة للصلاح والرشاد.
الخامس: إنه دليل على بلوغ مراتب اليقين والتجارة مع الله، وفي الإنفاق والبذل بعث للسكينة في النفس، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: الروح والراحة في الرضا واليقين، والهم والحزن في الشك والسخط)( ).
التاسعة: صحيح أن آية البحث جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تدل على الأمر والوجوب للملازمة بين التقوى والصفات الواردة في الآية، ومنها كظم الغيظ طاعة لله عز وجل، وتتجلى معاني الطاعة في المقام بمجيء هذه الآية بلزوم كظم الغيظ قربة إلى الله عز وجل وإظهاراً للخلق الحسن الذي يكون مرآة للتقوى، وشاهداً على الإيمان.
الثامنة: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) ترى ما هي النسبة بين طاعة الله والإحسان، الجواب من وجوه:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على شعبتين:
الأولى: طاعة الله أعم من الإحسان.
الثانية: الإحسان أعم من طاعة الله.
الثاني: نسبة العموم والخصوص من وجه، ووجود مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بينهما.
الثالث: التساوي بين طاعة الله والرسول وبين الإحسان، وطاعة الله عز وجل إحسان محض للذات والغير، وحتى العبادة الشخصية فيها نفع وصلاح للغير الموجود والمعدوم لأنها تركة كريمة وإحسان وبعث للأخلاق الحميدة.
التاسعة: من أسباب تسمية الإنسان لأنسه بغيره وأنس غيره به، فجاءت مضامين آية السياق والبحث ليتصف الأنس والألفة بين الناس بأمور:
الأول: تجلي معاني الإيمان بين الناس.
الثاني: ظهور الخصال الحميدة بين الناس، وصيرورتها سجية ثابتة، ومعروفة، قال تعالى[وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، ليتجلى الإعجاز بالآية أعلاه من وجوه:
الأول: التكليف بحسن الخلق مع وجوب الصلاة والزكاة.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن العبادات موضوع لتهذيب السلوك.
الثالث: جاءت الآية أعلاه خطاباً لبني إسرائيل ضمن ميثاق متعدد الأوامر يبدأ بوجوب عبادة الله.
الرابع: إقامة الحجة على أهل الملل الأخرى بالقرآن , وبعثهم للعمل بمضامين التوراة والإنجيل.
الخامس: بيان حاجة الناس وأهل الكتاب لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
الثالث: شيوع الإحسان والمعروف بين الناس.
الرابع: سيادة قانون دائم بين أهل الأرض وهو محاربة الفقر والجوع، وهذه المحاربة ليست بالعطف والإحسان المقرون بالمنة والشفقة فحسب، بل هو واجب تعبدي يتعلق بصاحب ومنفق المال نفسه، قال تعالى[إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام و جارية لهم تسمى فضة و هو المروي و القصة طويلة جملتها أنهم قالوا (مرض الحسن و الحسين عليهما السلام فعادهما جدهما صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه العرب و قالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله سبحانه و نذرت فاطمة عليها السلام كذلك وكذلك فضة فبرءا وليس عندهم شيء فإستقرض علي عليه السلام ثلاثة أصوع من شعير من يهودي و روي أنه أخذها ليغزل له صوفا و جاء به إلى فاطمة عليها السلام فطحنت صاعا منها فأختبزته وصلى علي المغرب و قربته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم فأعطوه و لم يذوقوا إلا الماء .
فلما كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته و خبزته و قدمته إلى علي عليه السلام فإذا يتيم في الباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته وأختبزته وقدمته إلى علي عليه السلام فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم أتى علي عليه السلام ومعه الحسن والحسين عليهما السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبهما ضعف فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل جبرائيل عليه السلام بسورة هل أتى.
وذكر علي بن إبراهيم أن أباه حدثه عن عبد الله بن ميمون عن الإمام الصادق عليه السلام قال : كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال المسكين رحمكم الله فقام علي فأعطاه ثلثها فلم يلبث أن جاء يتيم فقال اليتيم رحمكم الله فقام علي عليه السلام فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال الأسير رحمكم الله فأعطاه علي عليه السلام الثلث الباقي وما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز و جل)( ).
أي أن مضامينها القدسية عامة، وهي ودعوة للمسلمين جميعاً لإقتفاء أثر أهل البيت في الصالحات والإنفاق في حال الرخاء والشدة.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إجتماع حال السراء والضراء عند أهل البيت عند الإنفاق والإطعام أما الرخاء فالعز والرفعة بسيادة أحكام الإسلام وظهور دولة الإسلام في المدينة.
وأما الضراء فقلة ما في أيديهم من المال وقيامهم معها بكثرة الإنفاق وطيهم اليوم من غير زاد بعد الإنفاق، ويتجلى الإجتماع أيضاً يتغشى قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) لأهل البيت والصحابة.
وقد يقال إنه قياس مع الفارق، لأن النصر ناسخ للذلة والضعف، والجواب تضمنت الآية أعلاه إعجازاً بالإخبار عن الذل الذي عليه

المسلمون بصيغة الجملة الحالية، وجاء الإنفاق في زمان تدفق وتعاقب الغنائم على المدينة المنورة , ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة يبادرون إلى الإنفاق والبذل في كل الأحوال عملاً بمضامين آية السياق والبحث، بلحاظ أن هذا الإنفاق طاعة لله عز وجل، وكأنه عهد من أهل البيت لله عز وجل لتعاهد الإنفاق في حال السعة والضيق، والرخاء والشدة، ومدرسة وأسوة للمسلمين في الإنفاق طاعة لله عز وجل لذا نزلت الآية توثيقاً وتثبيتاً لتكون موعظة متجددة للأجيال المتعاقبة من المسلمين، وتفسيراً عملياً لآية السياق والبحث مجتمعتين ومتفرقتين.
التاسعة: تقدير الجمع بين أول آية السياق وخاتمة آية البحث: وأطيعوا الله والرسول والله يحب المحسنين) بلحاظ أن طاعة الله والرسول إحسان محض وبما أن المسلمين هم الذين يطيعون الله والرسول ففيه أمور:
الأول: طاعة الله ورسوله إحسان محض.
الثاني: المسلمون محسنون إلى أنفسهم بطاعة الله والرسول، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ]( ).
الثالث: المسلمون أئمة الناس في سبل الهداية والرشاد، وهم محسنون إلى الأجيال المتعاقبة من الناس بإختيارهم طاعة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الرابع: يتجلى إحسان المسلم بوراثته للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل هذا التصديق تركة حميدة لأبنائه، ومن الآيات إتصاف هذه التركة بخصوصية وهي تسليمها وتلقيها في حياة الموُرث، ليعمل هو والوارث بأحكامها وسننها بزمان واحد ومتعدد , قال تعالى[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ]( ) .
ويتجلى التداخل بالعمل بوراثة العلم والحكم والسنن والنبوة بينهما بقوله تعالى[وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا]( ).
الخامس: بشارة إستدامة حكم الإسلام بوراثة مبادئ الإسلام والعمل بسنن القرآن، وقيل لكسرى: بم دام ملككم؟ فقال: لأننا نعاقب على قدر الذنب، لا على قدر الغضب)( )، وفيه مسائل:
الأولى: الإخبار بأن عقوبتهم على قدر الذنب يحتاج إلى دليل.
الثانية: العقوبة على قدر الذنب ليس علة كاملة لدوام الملك.
الثالثة: لم يدم ملك الأكاسرة وقد تعرض لهزات ,منها هزيمتهم أمام الروم، قال تعالى[غُلِبَتْ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ). ومنها أخذ الابن السلطان من أبيه وقتله في السجن، كما في كسرى أبرويز الذي طغى في البلاد وأسرف في القتل وإستعمل على الخراج من عسف بالناس وظلمهم فأحضروا ولده شيرويه وملكوه، ثم قتلوا أبرويز)( ).
الرابعة: ليس من دوام لسلطان الشرك والضلالة، وهو الذي تدل عليه الوقائع التأريخية والوجدان، لتؤسس قوانين العفو ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتشمل سلطان الأكاسرة والروم، وتمتلأ أرض إيران وما خلفها بالمساجد التي تتلى فيها آية البحث بكرة وعشياً لتنمي ملكة العفو عند المسلمين وتكون مرآة لسمتهم وحسن خلقهم.
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بحثهم على العفو ليكون العفو سبباً لإستدامة ملك وسلطان المسلمين برفع راية لا إله إلا الله، وهو طريق إلى الجنة بلحاظ أنه صفة للمتقين.

صلة(لعلكم ترحمون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: كل آية من القرآن رحمة بالمسلمين والناس جميعاً وتترشح الرحمة أيضاً بجمعها مع كل آية من آيات القرآن، وجاءت آية بصفات المتقين وفيه تأكيد لحقيقة وهي أن التلبس بخصال التقوى رحمة بالذات والعرض أي إختيار نهج التقوى رحمة وكذا إتيان مصاديق التقوى، وتتجلى معاني الرحمة ونزولها بالمسلمين بلحاظ آية البحث من وجوه:
الأول: الإنفاق في السراء دليل الإيمان وتثبيت لأركانه ودعوة عملية للصلاح ونشر لمفاهيم الإحسان.
الثاني: الإنفاق في حال الشدة والضراء مبرز خارجي لزيادة الإيمان، وسبب لجلب المصلحة وسؤال عملي لرجاء الرحمة من الله، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه إعجاز بأن المسلمين يرون عمل الصالحات ويتخذونه أسوة حميدة ويكونون شهوداً عليه في الدنيا والآخرة، ومن مصاديق العمل في المقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فجاءت آية البحث للحث على الإنفاق والدعوة إليه، والترغيب فيه، وهو سبب لنزول رحمة الله وتغشيها لأهل الإنفاق في الدنيا والآخرة.
الثالث: إدراك المســلم لإنقطاع الحيـــاة الدنيـــا، وقرب ملاقـــاة الله عز وجل واقية من إظهار الغيظ، والإتيان بأفعال تنم عن الغضب والسخط.
الرابع: العفو عن الناس رجاء وإقرار بالحاجة إلى رحمة الله.
الخامس: الفوز بمرتبة حب الله بالإحسان والصلاح، وهذه المرتبة بشارة الأمن من العذاب فمن يحبه الله عز وجل ينجو من أهوال القيامة، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس: إرادة قصد القربة في فعل الصالحات.
بحث أصولي
قصد القربة رحمة مزجاة إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد أدائهم للعبادات بنية وقصد وطاعة لله عز وجل مع إدراك وجود ملاك الحسن والمحبوبية في ذات الأفعال العبادية والتي ندب إليها الكتاب والسنة( ) .
ومن معاني قصد القربة نية العبد إتيان العمل تقرباً إلى الله تعالى، وهو على وجوه:
الأول: قصد الأمر الإلهي.
الثاني: قصد الله عز وجل الذي هو غاية كل مقصد.
الثالث: الإتيان بالواجب التعبدي إمتثالاً لأمر الله عز وجل( ).
الرابع: إرادة المصلحة التي صارت سبباً للأمر.
الخامس: موافقة طاعة الله عز وجل.
السادس: ما يكون موجباً لمرضاة الله.
السابع: المراد من قصد القربة هو التشبيه بالقرب المكاني، وما فيه من البعث على الفعل، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا أبا ذر ا عبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فانه يراك)( ).
ولا يعني التشــبيه بالقرب المكـــاني: إرادة الجهة والمكــان لواجب الوجود، بل هو إحساس وشـــعور يلازم العبد عند أداء العبــادة يتجلى بإدراك القرب من الله عز وجل.
الثامن: قصد القربة شرط لإنطباق العنوان المأمور به.
التاسع: الحسن الذاتي للفعل المأتي به، وترشح النفع عنه على الذات والغير.
العاشرة: رجاء الثواب من عند الله، والطمع في بلوغ منازل النعيم في الآخرة.
الحادي عشر: الخوف من عقاب الله سبحانه، والحرص على إجتناب عذاب النار.
الثاني عشر: قصد القربة شرط لإنطباق العنوان المأمور به.
الثالث عشر: إتيان الفعل العبادي بقصد القربة رجاء الفوز بنعم إضافية مستحدثة ومتجددة.
ترى أي من هذه الوجوه يصدق على الإتيان السنن القدسية التي تضمنها آية البحث.
الجواب إن مضامين الآية من مصاديق قصد القربة أعلاه وهي رجاء للظفر برحمة الله عز وجل، ومناسبة للشكر لله قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا]( ).
قال الآمدي: إذا لم يظهر في فعل النبي قصد القربة فإنه لا يدل الوجوب أو الندب، وإنما يدل على رفع الحرج.
أما الشوكاني فقال أن فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يظهر فيه قصد القربة فأنه يفيد الندب، ورد هذا القول بأن جمهور الصحابة لم يعلموا بفعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في العادات والمباحات، وأنهم كانوا يفرقون بين الفعل العبادي والعادي، وأن الإباحة ليست إهمالاً لفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي أحد الأحكام التكليفية الخمسة وبه قال الأصوليون عدا المعتزلة.
ولكن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المأكل والمشرب والعادات أمر حسن ذاتاً، وتجلت وتتجلى منافع سنن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من دفع للآفات والأمراض.
(وقال الفخر الرازي إن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب لم تصح عبادته، وذلك لأن المتكلمين فريقان: منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية، فكونه إلهاً لنا وكوننا عبيداً له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً، وهذا قول أهل السنة .
ومنهم من قال: التكاليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح؛ وهذا هو قول المعتزلة إذا عرفت هذا فنقول: أما على القول الأول: فوجه وجوب بعض الأعمال، وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه ونهيه عما حرمه، فمن أتى بهذه العبادات صحت
أما من أتى بها خوفاً من العقاب، أو طمعاً في الثواب، وجب أن لا يصح، لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها، وأما على القول الثاني: فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح، فمن أتى بها للخوف من العقاب، أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها، فوجب أن لا تصح، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب، والطمع في الثواب، وجب أن لا يصح)( )، (فإنه لو قال أصلي لثواب الله، أو للهرب من عقابه فسدت صلاته)( ).
ويكون الرد على كلامه من وجوه:
الأول: لا دليل على إتفاق المتكلمين بعدم صحة العبادة التي يؤتى بها خوفاً من العقاب أو طمعاً في الثواب.
الثاني: المدار على الكتاب والسنة في الحكم الشرعي ظهوراً وإستنباطاً وإستدلالاً، قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ]( ).
الثالث: تحقق الإمتثال بأداء التكاليف.
الرابع: الذي يخاف من العقاب أو يطمع بالثواب ليس كالذي يأتي بالفعل العبادي رياءً، بل أن الخوف من الله ولله، وكذا الطمع.
الخامس: الملازمة بين المشيئة الإلهية وإرادة الصلاح.
السادس: قد ورد الخوف والطمع من الله في باب العبادات في آيات عديدة، قال تعالى[يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، كما يكون الخوف مقدمة للهداية إذ أن الدنيا دار الإنذار والوعيد قال تعالى[فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( )، وفي الطمع برحمة الله ورد قوله تعالى[وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ]( ).
السابع: ولو تنزلنا وقلنا بإتفاق المتكلمين فإنه إذا حصل تعارض بين إتفاقهم والكتاب والسنة فيعمل بالكتاب والسنة وليس من أمر لم يرد في القرآن والسنة , ونحتاج الرجوع فيه إلى المتكلمين، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
السابع: قول الرازي(وقد ثبت بالدليل فساده) ليس من دليل على الفساد خصوصاً وإن في الخوف من الله والطمع بثوابه أموراً:
الأول: إنه من ذكر الله عز وجل، واللجوء إليه سبحانه.
الثاني: فيه تصديق بالعالم الآخر، والوقوف بين يدي الله للحساب.
الثالث: فيه رجاء الأمن والسلامة من عند الله، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فأداء الصلاة مثلاً عمل صالح، وإقترانها بالخوف من النار، والطمع بالجنة عرض مصاحب وقد جاءت الآية بكفاية الأداء من غير ذكر لهذا الغرض، وليس من دليل ونص مقيد أو مخصص من الكتاب والسنة.
التاسع: الخوف والطمع رشحة من رشحات الإيمان، وهو أيضاً مقدمة ومادة لثبوت الإيمان في النفس، ومرآة تدل على صدق صفة الحسن والصلاح على الفعل العبادي الذي يكون واقية من الخوف في الآخرة، قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ]( ).
العاشر: قبول العبادة فضل من الله، الذي يقبل القليل ويعطي الكثير وهو أمر يدركه ويستحضره الفقيه عند الفتوى فيجتنب التشديد ويمتنع عن أسباب الحرج.
الحادي عشر:: ما ذكره الرازي من الجواب إنما هو من مصاديق الآية وأفراد الخوف والطمع وهي أعم منه موضوعاً وحكماً، ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في معنى ودلالة الآية، فالأصل هو الإطلاق.
الثاني عشر: قوله بالتوفيق بين ظاهر الآية وبين ما ذكره من المعقول لا أصل له، ويجب البقاء عند مضامين الآية، والمعقولات كثيرة ومتزاحمة وقد تتعارض بحسب الجهة والمبنى.
الثانية: من الإعجاز في آية السياق ذكر تغشي الرحمة الإلهية للمسلمين على نحو الرجاء عند طاعتهم لله والرسول لقوله تعالى(لعلكم ترحمون).
وفي لغة الرجاء هذه بعث لعمل الصالحات والإجتهاد في طاعة الله، والإرتقاء في منازل التقوى في السر والعلانية لذا جاءت آية البحث بالبعث على الصالحات وعلى نحو متعدد، إذ ذكرت خصالاً حميدة تدل على التقوى وطاعة الله والرسول، وكل خصلة منها تقرب المسلم إلى رحمة الله.
وحينما تجتمع طاعة الله والرسول وإتيان مصاديق التقوى هل يكون الرجاء حقيقة، فبدل(لعلكم ترحمون) يفوز المسلمون بالرحمة على نحو القطع واليقين.
الجواب على وجوه:
الأول: قيل أن (لعل) من الله قطع ويقين، ونسب إلى ابن عباس القول بأن لعل من الله واجب ولم يثبت، إنما ورد هذا القول عن عون بن عبد الله بن غنية( )، وعن أبي بكر محمد بن عمر الوراق( )، ونسبه الطوسي إلى الحسن وجماعة( )، ونسبه عدد من المفسرين إلى القيل وهو تضعيف له وهذا التضعيف هو الأصح، إذ أنه قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ][ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ) [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ) [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( )، ونحوها يفيد وجوهاً:
الأول: بعث الناس عامة والمسلمين خاصة للسعي في مسالك طاعة الله.
الثاني: الدعوة السماوية للمواظبة على العبادات , والتقيد بشرائطها الزمانية والمكانية وإتيانها بأجزائها.
الثالث: الإجتهاد في الدعاء والإستغفار.
الرابع: اليقظة والإتعاظ والوقاية من الغفلة والجهالة، وقد ورد أن الصلاة لا تترك بحال فيؤديها المكللف في كل الأحوال وإن كان لا يستطيع القيام يؤديها عن جلوس، وإن تعذر عليه الجلوس يؤديها وهو مستلق لما فيها من إحياء للقلوب وذكر لله عز وجل وإقامة على طاعته وسلامة يومية متجددة من الغفلة ومفاهيم الضلالة، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( )، ومن خصائص الصلاة أنها تبعث على العمل بمضامين آية البحث، وترغب في فعل الصالحات، وكل آية من القرآن إقتراب من رحمة الله.
الخامس: الترغيب بفعل الصالحات.
السادس: بعث المسلمين للتفقه في الدين والإرتقاء في مراتب التقوى، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
السابع: الإكثار من فعل الصالحات كماً وكيفاً، وتكرار مصاديقها ومنها ما ورد في الآية البحث بكثرة الإنفاق، وتعاهد ملكة كظم الغيظ، وملازمة العفو عن الناس.
وقيل أن عسى ولعل من الله واجب لأن حقيقة الترجي مبنية على الجهل وهو ممتنع على الله تعالى، ولكن الترجي في المقام يتعلق بالمكلفين بإعتبار أن الدنيا دار إمتحان وإختبار ، ولتأكيد حقيقة وهي أن الإبتلاء فيها والحساب في الآخرة عالم يأتي على أفعال الإنسان في الدنيا مطلقاً.
الثاني: بقاء مضامين آية السياق على حالها.
الثالث: إستقراء الفوز برحمة الله من آيات أخرى، كما في آية البحث إذ ذكرت صفات المتقين بلحاظ إعداد الجنة لهم.
الرابع: من صفات الله(الرحمن)(الرحيم)(أرحم الراحمين) ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يجعل برزخاً وحاجباً بين الناس ورحمته، ولم يجعلها بعيدة عنهم قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الخامس: من رحمة الله عز وجل في المقام أن الإنفاق في سبيله تعالى سبيل لدخول الناس للإسلام، والتخفيف عن المؤمنين في باب القتال والجهاد، فيرى الناس حسن سمت المسلمين وبذلهم الوسع في مرضاة الله بالإنفاق وحبس النفس الغضبية فيدخلون الإسلام، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
لتكون معاني الرحمة في المقام متعددة، ومنها ما يأتي مباشرة، ومنها بالواسطة، إذ أن هداية شطر من الناس ودخولهم الإسلام عز ومنعة للمسلمين، وواقية من الضعف وإمتناع عن القلة والذلة وفيه نكتة عقائدية وإعجاز في الإنفاق في مختلف الأحوال من الرخاء والشدة، إذ أنه واقية من القتل وكثرة حروب المسلمين سواء كان الإنفاق للتكافل بين المسلمين، أو قيام الغازي نفسه بالإنفاق في سبيل الله .
وهل يحتسب تعطيل العمل وفوات الربح الراتب بالخروج للجهاد أو المرابطة في الثغور من الإنفاق في سبيل الله الجواب نعم، قال تعالى[مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين فوز المسلمين بنعم عظيمة منها:
الأولى: تلقي رحمة الله، وتغشيها المسلمين والمسلمات جميعاً.
الثانية: نعت المسلمين بصفة المحسنين وما تدل عليه من الثناء والإكرام.
الثالثة: حب الله للمسلمين، الذي يدل بالدلالة التضمنية والإلتزامية على الوعيد الكريم.
الرابعة: البشارة بالفضل الإلهي على المسلمين لقوله تعالى[وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بحرف الإستقبال القريب (السين) وفيه وعد كريم وتحد ظاهر بتجلي الفضل والنعم الظاهرة والباطنة على المسلمين.
الخامسة: لما أختتمت آية السياق بقوله تعالى(لعلكم ترحمون) نزلت آية البحث مصداقاً لرحمة الله بالمسلمين من وجوه:
الأول: بيان صفات المتقين التي تدخلهم الجنة.
الثاني: هداية المسلمين إلى سبل الصلاح والفلاح، قال تعالى[الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث: بعث المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، ولا يعلم ثواب هذا الإنفاق في النشأتين إلا الله عز وجل، ليكون الأمر به رحمة من الله إدّخرها للمسلمين .
وتلك آية في فلسفة وعلة خلق الإنسان فقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، يدل بالدلالة التضمنية على أن خلق الإنسان رحمة به، وأن عبادته لله رحمة وخير محض وسبب للخلود في النعيم.
لقد هبط آدم وحواء من الجنة بعد الإبتلاء بالأكل من الشجر المنهي عنها بسبب إغواء إبليس كما في قوله تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ) .
لتأتي هذه الآية وتخبر عن عودة المتقين إلى الجنة بفضل من الله من وجوه:
الأول: الخلود واللبث الدائم في الجنة.
الثاني: الجنة سكن خالص للمتقين، وليس فيها وسوسة وإغواء.
الثالث: الإطلاق في التنعم بها في الجنة من الثمار والأشجار، وما يشتهون من النعم، بينما يكون الكفار في العذاب عاجزين عن تخفيفه قال تعالى[وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ]( )، فيحرمون من العودة إلى الدنيا والتوبة والإيمان والإنفاق في سبيل الله.
الرابع: بشارة إرتقاء المسلمين إلى مرتبة المحسنين، ونشرهم لمفاهيم الإحسان بين الناس.
الخامس: ملازمة الإحسان للحياة الإنسانية بوجود أمة مسلمة تعمل بأحكام القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: بيان حاجة الناس للإحسان من وجوه:
الأول: إحسان الله عز وجل لهم وعليهم، قال تعالى[فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ).
ليكون معنى الحسن في الآية أعلاه أعم من الخلق , فيشمل الخلق والسلوك والصبغة والنهج، ومنه ميل الإنسان الفطري إلى الإحسان.
الثالث: صلة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا…]( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بين لغة الخطاب في الآيتين عموم وخصوص مطلق إذ توجه الخطاب في آية السياق للمسلمين والمسلمات، لما فيه من قيد الإيمان، والمراد التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنطق بالشهادتين، وهل يشمل الخطاب أعلاه المنافقين.
الجواب نعم خصوصاً وأنهم ليسوا أمة منفصلة لها خصائص ظاهرة، كما أنهم في تناقص متصل أي أن كثيراً منهم يتخلون عن النفاق ولا يعودون إليه لتنزيه عموم المسلمين والمسلمات من النفاق، وهم مشمولون بالعبادات كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) .
بلحاظ أن التكليف بالعبادات يقترن ويترشح عن النطق بالشهادتين، والمنافق دخل الإسلام بلسانه .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي الآية أعلاه أن أداء الصيام طرد للنفاق من الصدور، وتنزيه لمجتمعات المسلمين من إخفاء غير الإيمان .
والصيام سبيل إلى التقوى كما تدل عليه خاتمة الآية أعلاه أي أنه وسيلة للإنفاق في سبيل الله وكظم الغي والعفو عن الناس وبعث للشوق في النفس لدخول الجنة .
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به)( ).
وتلك آية من عمومات وصف الله تعالى بأنه سبحانه[أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( )، بتقريب الناس إلى منازل الطاعة، وأسباب الثواب، والسلامة من النفاق، وإذا كان النفاق إخفاء للكفر وإظهار للإيمان، فإن الربا مثلاً أمر ظاهر فمن يرتكبه لا يستطيع أن يخفيه، والذي يحرص على إجتنابه طاعة لله يبين بالمصداق العملي براءته من النفاق، وكذا بالنسبة لمضامين آية البحث وما فيها من الأمر التضمني بالإنفاق في سبيل الله عند سعة أو ضيق المنفق، وحبسه غيظه، وعفوه عن الناس القريب والبعيد.
وجاءت آية البحث ببيان صفات المتقين الذين هم أعم من المسلمين بلحاظ الأمم السابقة والمتقين فيها من أتباع الأنبياء ليختص المسلمون بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصفات الكريمة الواردة في آية البحث، وتكون أمارة وعلامة تميزهم عن غيرهم من أهل الملل والنحل، وفيه آية في بديع صنع الله عز وجل بأن تكون الأفعال الواردة في آية البحث مصداقاً لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن ضروب هذا الخروج في المقام أنهم حجة على الناس جميعاً من وجوه:
الأول: تصديق وتلاوة المسلمين للقرآن، وإقرارهم بنزوله من عند الله.
الثاني: إمتثال المسلمين للأوامر الواردة في آية البحث.
الثالث: تجلي المنافع الآنية والعاجلة لعمل المسلمين بأحكام الآية، منها الإنتصارات المتلاحقة للمسلمين وإتساع دولتهم، وزيادة قوتهم، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثانية: جاءت آية السياق بالنهي عن أكل الزيادة على القرض، بينما تضمنت آية البحث الحث على الإنفاق في سبيل الله، وبين أكل الربا والإنفاق تضاد وتناقض، من وجوه:
الأول: حسن ووجوب الإنفاق، وحرمة أكل الربا.
الثاني: الحسن الذاتي والعرضي للإنفاق في سبيل الله، والقبح الذاتي والعرضي للربا.
الثالث: ترشح النماء والزيادة على الإنفاق، بينما تكون نتيجة الربا التلف، ومن إعجاز القرآن جمع هذا المعنى وما يتضمنه من التباين في كلمتين بقوله تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( ).
(وقال البلخي: محقه في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه وتسميته بالفسق)( ) أي المربي، ولكن المعنى أخص، والمراد تعلق المحق بالمال الربوي ومعاملته، بأن ينقصه على نحو التدريج وحالاً بعد حال، وتتجلى فيه معاني العدل الإلهي، وبقاء باب التوبة مفتوحاً للمربي وغيره، أما سقوط العدالة فهو حكم آخر لا تدل الآية أعلاه عليه نصاً، لتعلق المحق والتلف بذات الربا معاملة ومالاً بقرينة حصول النماء والزيادة في الصدقات كما يدل على الحديث التالي.
الرابع: الإنفاق إخراج وبذل للمال من غير عوض أو بدل معاملاتي، أما الربا فإنه قبض غير مشروع للمال.
الخامس: خروج الإنفاق من أصل المال وبالإختيار، أما الربا فهو زيادة جرها قرض بحكم الشرط الربوي بين آكل الربا ودافعه.
السادس: الأجر والثواب في الإنفاق، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله تعالى يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد)( ).
أما الربا ففيه الإثم والعقاب الأليم، قال تعالى[وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ]( ).
السابع: يقوم المسلمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتلاوة الآيات التي تأمر وتبعث وترغب بالإنفاق وثوابه، والآيات التي تزجر عن الربا والوعيد عليه.
ومن خصائص المسلمين التمييز بين الأمرين، والمبادرة إلى الإنفاق، وإجتناب أكل الربا.
الثالثة: الجمع بين الآيتين من مصاديق قوله تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( )، إذ أن محق الربا أعم من إنعدام البركة فيه، فيشمل إزاحته من المعاملات والأسواق، وإعراض كثير من التجار عنه، فالمسلمون أمة عظيمة وهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فيمحق الله الربا بتنزههم عن الربا، ودعوتهم الناس لهجرانه والإبتعاد عنه.
ومن خروج المسلمين للناس في المقام وجوه:
الأول: التنزه عن أكل الربا طاعة لله عز وجل.
الثاني: صيرورة المسلمين في حال من الغنى والسعة من غير مزاولة للربا، وفيه حجة على الذين يظنون الحاجة إلى المعاملات الربوية لتيسير أمور التجارة.
الثالث: خروج المسلمين للناس بالإنفاق في سبيل الله، والثبات على الإيمان، والحرب على الربا والمعاملات الباطلة، وأكل أموال الناس بغير حق، ومن الظاهر للعيان بخصوص أطراف المعاملة الربوية أن أصحاب الأموال الربوية قليلون، والذين يقومون بدفع الفوائد الربوية ويعيشون تحت وطأة وقسوة المربين هم الأكثر والأعم منهم .
حرمة الربا في الإسلام مصداق لصحة تنزيل أحكامه من الله، ومرآة لسلامة نهجه، وشاهد على تمسك المسلمين بأحكام التنزيل من غير تحريف أو ميل لأرباب الأموال وفي الحديث: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيئ غيره)( ).
الرابعة: إتحاد سنخية مواضيع الآيتين إذ يؤتى بها بقصد القربة إلى الله عز وجل وفيه نوع إكرام للمسلمين، وبعث لهم للمسارعة في الخيرات وإجتناب السيئات.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين وجوب الإمتناع عن الأضعاف المضاعفة من أرباح الربا ووجوب الإنفاق في سبيل الله، ليكونا مجتمعتين ومتفرقتين طريقاً للبذل , وإخراج المال من اليد، بينما يسعى الكفار في جمع الأموال بواسطة الربا والكسب الحرام، ولا يدل هذا التباين على نماء وكثرة أموال الكفار أوقلة ونقص أموال المسلمين.
والشواهد العملية والقرائن تدل على إزدياد ومضاعفة أموال المسلمين ببركة جلية، وفيه آية إعجازية ودليل على أن مقاليد الأمور وأسباب الرزق بيد الله، قال سبحانه[اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( ).
وهذه المضاعفة من عمومات خاتمة آية البحث(والله يحب المحسنين) بلحاظ أن حبه تعالى له مصاديق عملية بتوالي فضله تعالى على الذين يحبهم ويرضى عنهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( ).
بتقريب وهو من معاني الآية أعلاه أن إحسان العبد لغيره سبب لإحسان الله عز وجل له، وتوالي النعم عليه، فليس المسألة من الفعل ورده بين طرفين، بل يقوم المسلم بالإحسان ولو لنفسه فيحبه الله ويجازيه بالإحسان والإفضال، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السادسة: مع مجيء آية السياق بالنهي عن الربا فإنها تضمنت الأمر بالخشية من الله بقوله تعالى(وأتقوا الله) وجاءت آية البحث ببيان صفات المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة.
وهل إجتناب الربا من التقوى، الجواب نعم، لبيان حقيقة وهي أن مع التقوى يأتي الرزق الكريم، ويحصل النماء في المال، ويدفع الله عن المؤمن الآفات وأسباب البلاء، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
السابعة: ترك الربا مقدمة للإنفاق في سبيل الله، وإصلاح للنفس للبذل والعطاء.
الثامنة: من إعجاز آية البحث البيان والتفصيل في حال الإنفاق، ووقوعه في حال السعة والضيق، والرخاء والشدة، وفيه تنزيه للمسلمين من الربا، وواقية من أكل المال الحرام، لصيرورة قصد القربة ملكة عند المسلمين في المعاملات والمكاسب.
التاسعة: قد ثبت في الفلسفة عدم إجتماع الضدين، ومن المصاديق إمتناع أكل الربا مع الإنفاق في سبيل الله مع إدراك حرمة أكل الربا وجمع الأموال منه، ليفيد الجمع بين الآيتين معرفة وتمييز المسلمين عن غيرهم بإجتماع أمرين:
الأول: الإنفاق في سبيل الله.
الثاني: التنزه عن أكل الربا.
العاشرة: إجتماع تعاهد المسلمين للإنفاق وإمتناعهم عن أكل الربا جهاد في سبيل الله بالمال ومقدمة للجهاد بالنفس وبذل الغالي والنفيس لإعلاء كلمة التوحيد وهو من صفات المتقين.
ومن غايات كل من آية السياق والبحث إصلاح المسلمين لإمامة أهل الأرض في سبل الخير والصلاح وهو من رحمة الله عز وجل بالناس بأن تتقوم الإمامة بالقرآن والعمل بأحكامه، وحينما إحتج الملائكة على خلافة آدم في الأرض، كما في ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، رد الله عز وجل عليهم بأنه سبحانه يعلم ما لا يعلمون من أمر خلافة الإنسان في الأرض ومنه في المقام أمور:
الأول: ثبوت أحكام وسنن الشريعة الإسلامية، وسلامة آيات القرآن رسماً وتلاوة وتأويلاً من التحريف.
الثاني: قيام المسلمين بالإنفاق في سبيل الله قال تعالى في الثناء على المسلمين وجمعهم بين العبادة البدنية والمالية[وَالْمُقِيمِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]( ).
الثالث: دعوة المسلمين الناس لترك الربا.
وتتجلى هذه الدعوة من جهات:
الأولى: تلاوة آية السياق، بلحاظ أنها تنزيل من عند الله.
الثانية: التذكير بالقبح الذاتي للربا.
الثالثة: ظهور الأضرار الخاصة والعامة من المعاملات الربوية، وسيادتها في الأسواق.
الرابعة: تلاوة المسلمين لآية السياق في الصلاة أو بقصد القرآنية مطلقاً أي حتى خارج الصلاة، وقراءتها على الناس لتأكيد الإعجاز الغيري للقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثبوت الأضرار الفادحة لما نهى عنه القرآن والسنة.
(عن المقداد بن الأسود الكندي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لا يبقى على ظهر الأرض من بيت مدر ولا وبر إلا أدخل الله عليهم كلمة الإسلام بعز عزيز، أو بذل ذليل، يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فلا يدينوا لها)( ).
الخامسة: قيام المسلمين بالإنفاق والبذل في سبيل الله دعوة عملية للناس للتنزه من الربا، وتلك أيضاً من الإعجاز الغيري للقرآن والنبوة بأن يتقيد المسلمون بأحكام آية البحث , فتترشح منافع هذا التقييد على الناس جميعاً بمعرفة الملازمة الأمر الإلهي في القرآن والنفع العامة، والملازمة بين ما فيه من النواهي والضرر العام .
وهل فيه مقدمة لدخول الناس الإسلام , الجواب نعم , لأنه برهان وحجة على صحة التنزيل وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة الخير والصلاح في أحكامها.
ومن الإعجاز أن الواقع والوجدان والشواهد تؤكد للناس جميعاً أنها تنزيل.
الرابع: إجتهاد المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ومع الناس جميعاً، وليس من سلاح وسبب للإصلاح مناسب لكل الأزمنة والأمكنة مثله , قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الخامس: من خصائص إمامة المسلمين أنهم أسوة للناس في إجتناب المعاملات الربوية.
السادس: رؤية الناس للتكافل العام بين المسلمين وإشاعة روح القرض بينهم، وهل القرض من الإنفاق الجواب لا، لأن الإنفاق يتقوم بإنتفاء البدل والعوض .
أما القرض فهو(عقد يجري فيه إعطاء احد الطرفين للآخر مالاً مع ضمان إعادته بمثله أو بقيمته، ويقال للذي يعطي المقرض، وللذي يمتلك المقترض أو المستقرض .
وقد وردت نصوص مستفيضة على فضله والحث عليه لا سيما في إقراض المؤمن منها خبر جابر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أقرض مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه”)( ).
ليكون بين الإنفاق والقرض عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي أن كلاً منهما خير محض وموضوع للصلاح.
أما مادة الإفتراق فهي على وجوه منها:
الأول: الإنفاق واجب، والقرض مندوب، ومستحب مؤكد خصوصاً للمؤمن ذي الحاجة وبما يؤدي إلى قضاء حاجته وكشف كربته.
الثاني: الإنفاق نوع هبة، أما القرض فهو عقد جائز يحتاج إلى إيجاب وقبول، كقول المقرض أرضتك وما يؤدي معناه وقبول دال على الرضا بالإيجاب.
الثالث: لا يصح إقراض الدين ولا المنفعة، ولكن يجوز إنفاق أي منهما.
الرابع: يحصل القرض بين الأشخاص في الغالب، أما الإنفاق فهو أعم أن يكون في باب الجهاد والمرافق العامة وحاجات الإنفاق، ليكون هذا الإطلاق مناسبة لجني الحسنات.
الحادية عشرة: لقد أراد الله عز وجل لأحكام القرآن الثبات في الأرض ويتجلى هذا الثبات بالعمل بالأوامر والنواهي القرآنية، فجاءت آية السياق بالنهي عن الربا وآية البحث بالإنفاق ليبقى العمل بمضامينها دائماً متجدداً في الأرض بجهاد[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية عشرة: أختتمت آية السياق بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) وجاءت آية البحث بمصاديق الفلاح على نحو الأمر والبعث إلى أفراد جلية مخصوصة منها ومن أسباب الصلاح لتكون عنوان الفلاح والطريق إلى البقاء والخلود في دار النعيم، فكل من الإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ والعفو عن الناس من سبل الفلاح والنجاح.
الثالثة عشرة: جاءت آية السياق بصيغة الأمر المتعدد من وجوه:
الأول: الخطاب التشريفي للمسلمين(يا أيها الذين آمنوا).
الثاني: النهي عن أكل الربا والذي جاء بصيغة الخطاب أيضاً، وفيه أمارة على موضوعية إجتناب المؤمنين الربا والمحرمات وهذا الإجتناب من خصال المتقين الذين يدركون أن الله عز وجل يريد منهم الصلاح والتقوى , وأنه سبحانه أعدّ لهم الثواب العظيم , وجاء القرآن بالإقتران لزوم ترك الربا، بوجوب التقيد بسنن التقوى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا]( ).
الثالث: الأمر الإلهي بتقوى الله، وفيه بيان لتعدد الوظائف العبادية للمسلمين وأنها لا تنتهي عند الإمتناع والتنزه عن الربا (وقيل يا رسول الله مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابن نَبِيِّ اللَّهِ ابن نَبِيِّ اللَّهِ ابن خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا)( ).
وفيه شاهد بأن التقوى رفعة وعلو شأن، وينال صاحبها المقام الكريم بين الناس، يهابه الملوك والأعيان، ويخشاه أعداؤه، ويحبّه أصحابه، ويرفق به الناس جميعاً.
الرابعة عشرة: الأمر بتقوى الله الوارد في آية السياق تنمية لملكة الخشية من الله عز وجل لتكون هذه الخشية مقدمة ومرتكزاً للإنفاق والبذل في سبيل الله عز وجل ومنع النفس من الغضب والإنتقام والثأر، وباعثاً للعفو عن المسيء من الناس، وهذه الأفعال مقدمة لدخول الناس الإسلام، لإدراكهم بأن الأخلاق الحميدة للمسلمين من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية لإمتناع حصول التغيير النوعي في المجتمعات بإتجاه الصلاح وعلى نحو دفعي إلا بمعجزة ومدد من الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة عشرة: يلجأ الناس إلى إقتراض المال بالزيادة الربوية عند حال الشدة والضراء، أما المسلمون فإنهم يواظبون على الإنفاق والبذل في تلك الحال، وفيه زجر عن المعاملة الربوية من وجوه:
الأول: إجتناب المسلم صاحب المال طلب الزيادة والمنفعة على القرض، لأن يبذل أمواله في سبيل الله ومن دون عوض.
الثاني: تطلع المحتاج من المسلمين إلى الصدقة والهبة والزكاة.
الثالث: إجتناب المسلمين الشهادة على المعاملة الربوية أو كتابتها بل يقومون بالترغيب بالإنفاق والسعي إليه، وهذا القيام من عمومات قوله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكل من الأمر بالإنفاق والنهي عن الربا من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ]( )، لنفرة النفوس من زخرف الدنيا والميل إليها، ولترغيبها بالثواب العظيم في الآخرة، والمبادرة إلى الإنفاق في فعل الصالحات مطلقاً وإجتناب المعاصي ومنها أكل الربا وإجتناب معاملته، وقد ورد عن ابن مسعود قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه)( ).
السادسة عشرة: الإنفاق في سبيل الله حرب عملية عامة على الربا، وبرزخ دون لجوء المحتاجين من المسلمين والناس جميعاً إلى أرباب الأموال الربوية وتلك آية في أهلية المسلمين لإمامة الناس، وبيان يومي متجدد في باب الإعتقاد والإقتصاد والإجتماع على حاجة الناس لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتجدد منافعها بين الناس من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية: أختتمت آية البحث بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) وفي إجتناب وترك الربا إحسان من وجوه:
الأول: إنه دليل الإيمان لإتيانه بقصد طاعة الله، وإمتثال أمره بالنهي عن الربا.
الثاني: تنزيه الأسواق من الربا والفساد الذي يترشح عنه زيادة عدد الفقراء وإتساع ثروة الأغنياء، وما يسببه هذا التباين من حال النقمة والهيجان عند الفقراء، والغرور والتكبر عند فريق من الأغنياء، فجاءت آية السياق للحيلولة دون هذه النقمة وأسباب الغرور.
الثالث: دعوة الناس جميعاً لدخول الإسلام بتحريم الربا.
ومن الآيات أن المستضعفين والفقراء هم الذين بادروا إلى دخول الإسلام في السنن الأولى من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبالإسناد عن عبد الله بن عباس في حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه مع دحية الكلبي( )، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر، فدفعه عظيم بصرى، وكان قيصر لما كشف الله عز وجل عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيليا، على الزرابي تبسط له.
قال عبد الله بن عباس: فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي من قومه من أسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان صخر بن حرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا تجاراً وذلك في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش.
فقال أبو سفيان: فأتى رسول قيصر، فانطلق بي وبأصحابي، حتى قدمنا إيليا فأدلجنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه، عليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أقربهم إليه نسباً، قال: ما قرابتك منه؟ قال: قلت: هو ابن عمي.
قال أبو سفيان: وليس في الركب يومئذ من بني عبد مناف غيري. قال: فقال قيصر: أدنوه مني، ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذب فكذبوه.
قال أبو سفيان: فوالله لو لا استحيائي يومئذ أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني، ولكني استحييت أن يأثروا عني الكذب، فصدقته عنه، ثم قال لترجمانه قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قال قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال: قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت بل ضعفاؤهم، قال: فيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قال: قلت لا، ونحن الآن منه في مدة، ونحن نخاف ذلك)( ).
ولم تمر الأيام والليالي حتى صار هؤلاء الضعفاء المستضعفون أرباب أموال وعقارات فتوجه لهم الخطاب في آية البحث بالإنفاق في سبيل الله وتضمنت آية السياق ترغيبهم بالصالحات وزجرهم عن الربا، فإن قلت لماذا لم يكتب النبي في دعوته لقيصر لزوم ترك الربا بلحاظ عمومات النهي عنه وذكره في آية السياق.
والجواب إنه دعاه إلى التوحيد وعبادة الله، وترك الربا من الفروع والأحكام التي تترشح عن التوحيد والدعوة إلى الإسلام، لتتضمن هذه الدعوة وجوب العمل بالأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن ومنها ترك الربا.
وقد قرئ كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر بحضور أبي سفيان وأصحابه، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين وفي معنى الإريسيين الذين ذكرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه إلى هرقل وجوه:
الأول: إثم الإريسيين أي أتباع هرقل وأهل مملكته والداخلون في طاعته والمنقادون لأمره وسلطانه إذا دعاهم إلى الإسلام إستجابوا لدعوته , كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن أهل النار[وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ]( ).
الثاني: هم الأكارون الذين كانوا يحرثون أرضهم كانوا مجوساً، بينما الروم أهل كتاب أي عليك مثل وزر المجوس إذا لم تؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو لتذكير هرقل بحقيقة وهي أن المجوس لا يؤمنون وحجتهم : أنكم أهل كتاب وتأبون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بينما إذا دخلتم الإسلام فأنهم يسلمون.
الثالث: إنهم فرقة في رهط هرقل تسمى الأروسية فجاء النسب إليهم( ).
الرابع: إنهم أتباع عبد الله بن أريس رجل كان في الزمن الأول قتلوا نبياً بعثه الله إليهم( ).
الخامس: الإريسيون أي الملوك واحدهم أريس.
السادس: هم العشارون.
السابع: إرادة مذهب نصرانية يدعو إلى التوحيد ويقول بنبوة عيسى عليه السلام، وصاحب المذهب هو أريوس قس من الإسكندرية بمصر، ورفض هو وأتباعه نحو سنة 318م عقيدة التثليت: الأب،الإبن، روح القدس، فلم يقولون بأن عيسى مخلوق ذو شأن عظيم، وينكرون إلوهيته, فهم كما يقول الإسلام بنبوته، وطهارة مولده، وإجتباء أمه قال تعالى[الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ] ( )، ومع أن مجمع نيقية رفض وتصدى لتعاليم آريوس سنة 325م، ووصفها بأنها هرطقة، وقال المجمع بألوهية المسيح، فإن الإمبراطورية الرومانية الشرقية ظلت تقول بأن المسيح ليس إلهاً وإنتشرت تعاليم آريوس، ودخلت أسبانيا وبريطانيا وغيرها، وفي عهد ثيود وسيوس الثاني وفي سنة 428م صدر الأمر بإستئصال أفكار الآريوسية)( ).

ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون “)( ).
وفي خبر أن هرقل كتب جواباً فيه: إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى من قيصر ملك الروم: أنه جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك واغسل قدميك.
فقال رسول الله: يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم)( ).
الرابع: التقيد بالسنن الواردة في آية البحث إحسان للنفس والغير لأنه إصلاح للنفوس والمجتمعات وبرزخ دون وقوع المفاسد كالسرقة والفتن التي تكون مُسبباً لنهب الأغنياء أموالهم بقوانين وقواعد ليس لها أصل في الشريعة وسنن الإنصاف، (وسئل الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لم حرم الله الربا قال: لئلا يتمانع الناس المعروف)( ).
الخامس: إشاعة مفاهيم التعاون وصيغ القرض بين الناس، وتعضيد بعضهم بعضاً.
السادس: تنشيط الأسواق وإتساع التجارات ووفرة فرص العمل.
السابع: إجتناب الربا وحرب على التغرير بالناس، والمكاسب المحرمة.
الثامن: النهي عن الربا والإمتناع عنه دعوة للرحمة والرأفة بين الناس،قال تعالى[وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ]( ).
التاسع: تجلي مصاديق البركة في المعاملات، وسيادة الأخلاق الحميدة في الأسواق، إذ أن ترك الربا تنزه عن أكل المال بالباطل، ودعوة للرأفة والرحمة في التجارات، وبالإسناد عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا إشترى، سمحاً إذا أقضى) ( ).
العاشر: في ترك الربا إحسان للذات بالأمن والسلامة من العقاب في الآخرة، وقد تقدم ذكر الأذى والعذاب الذي يلحق آكل الربا في عالم البرزخ بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء( ).
وفي حديث كعب بخصوص مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: إلهي فما جزاء من أكل الربا فلم يتب منه؟ قال: يا موسى أطعمه يوم القيامة من شجرة الزقوم)( ) .
وفي الحديث شاهد على حرمة الربا في الملل والكتب السماوية السابقة وتبليغ الأمم به.
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية التالية[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: جاءت آية السياق معطوفة على آية البحث إذ إبتدأت بحرف العطف الواو في(والذين إذا فعلوا) لبيان وحدة موضوع الآيتين، ترى لماذا هذا التفصيل في صفات المتقين.
الجواب من وجوه:
الأول: الإخبار الصادق عن الذين ينالون الإقامة في الجنة ثواباً لأعمالهم في الدنيا، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الثاني: بيان تعدد المسؤوليات العقائدية للمسلمين والمسلمات في باب العبادات والمعاملات، وبعثهم على إتيان الصالحات وفعل البر، وبين التقوى والبر عموم وخصوص مطلق بقيد أن فعل البر طاعة لله وقربة إليه، (وعن مجاهد قال: هذا ذنبان (فعلوا فاحشة) ذنب، و(ظلموا أنفسهم) ذنب)( ).
وعن جابر بن يزيد في قوله تعالى(والذي إذا فعلوا فاحشة) قال: زنا القوم ورب الكعبة)( ).
ولكنه أعم، وبين الفاحشة والزنا عموم وخصوص مطلق، ولا تخصص آية وكلمات عامة في خطاب ووصف للمؤمنين بإرادة زناهم , والواقع يشهد بندرته أو إنعدامه بينهم إنما أراد عز وجل في الآية إكرام المسلمين، وبيان سعة رحمته وأن الإستغفار أعظم سلاح وهو كفارة للذنب المتحد والمتعدد في جنسه وماهيته
وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه ذكر عنده بنو إسرائيل وما فضلهم الله به فقال: كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح وقد كتبت كفارته على أسكفة بابه ، وجعلت كفارة ذنوبكم قولاً تقولونه تستغفرون الله فيغفر لكم . والذي نفسي بيده لقد أعطانا الله آية لهي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها { والذين إذا فعلوا فاحشة . . . })( ).
وهل الإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ من التوبة عن فعل الفاحشة، الجواب لا، ولكن كل فرد وفعل منها حسنة تمحو بفضل الله عز وجل الفاحشة وظلم النفس قال تعالى[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( )، وصحيح أن الآية أعلاه جاءت عند ذكر إقامة الصلاة في أوقاتها إلا أنها أعم بلحاظ أنها قانون كلي قائم ومتجدد إلى يوم القيامة، تعمل به الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم .
(رُوي أن رجلاً قََبّل إمراة، قلتُ: هو نبهان التمار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة، فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ فقال: ها أنا ذا، فقال: قد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا فقال الرجل: أَلِيَ خاصَّةً، أو للمسلمين عامة؟ فقال: للمسلمين عَامَّةً)( ).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا إجتنبت الكبائر)( ).
ويبين الحديث أعلاه إرادة العبادات مطلقاً , وثوابها في محو السيئات التي تقع بينها، ومما يدل على العموم في ترتب الأثر والنفع على الحسنة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: إتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)( ).
وجاء في الخبر أن أكل الربا من الكبائر، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الكبائر أولهنّ : الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والإنقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع)( ).
لذا فإن آية البحث تتضمن فعل الحسنات التي تمحو السيئات من جهات:
الأولى: الإنفاق وإخراج الزكاة والحقوق الشرعية في السراء.
الثانية: البذل والعطاء في حال الشدة.
الثالثة: كظم الغيظ، وحبس الغضب والإنفعال.
الرابعة: العفو عن المسيء.
ومن الإعجاز في المقام إختتام آية البحث بالإخبار عن حب الله للمحسنين، وفيه دلالة على أن مضامين الآية إحسان وخير محض، وقد جاء القرآن بالبعث على فعل الحسنات لتكون ماحية للسيئة وبرزخاً دون ترتب الأثر عليها في الدنيا أو الآخرة , قال تعالى[وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( ).
وقال ابن عباس وعبد الله بن مسعود في الآية أعلاه: بشهادة أن لا إله الله الشرك)( ) , وبلحاظ المعنى أن الحسنة تأتي على الكبائر.
ونسب إلى عبد الله بن سلام القول: يدرءون بالعلم الجهل، وبالكظم الغيظ)( ) .
ولكن معنى الآية هو التعدد والتعاقب بين السيئة والحسنة , ودرء الغيظ بالكظم والحبس جهد إضافي يبذله المسلم ليمنع الغيظ وثورة الغضب , والغيظ أعم من السيئة , فقد يكون غيظ المسلم بسبب التعدي عليه , وهو الفرد الأهم المقصود في المقام بلحاظ أن الكظم في آية البحث صفة للمتقين .
بالإضافة إلى التباين في طرفي المثال لأن لكل العلم والجهل مبرزا ومصداقا خارجيا ، أما الغيظ فحبسه كتمانه وعدم إظهاره فلا يكون له مبرز خارجي.
وفيه إعجاز في نظم الآيات وهو مجيء الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس قبل الإخبار في الآية التالية عن ظلمهم لأنفسهم كيلا يقال أنهم يفعلون الصالحات لتدارك الذنوب, ويحتمل حال المسلمين في المقام وجوها :
الأول: الذين يعملون بمضامين آية البحث إبتداءً ومن غير إقترانها بفعل الفاحشة أو ظلم النفس.
الثاني: الذين يجمعون بين العمل بمضامين آية البحث والسياق إلا أنهم يستغفرون الله عز وجل كما جاء في الآية التالية.
الثالث: الــذين يأتون الفاحشـــة ويظلمون أنفسهم ثم يتوبون إلى الله عز وجل ويعملون بمضامين آية البحث ,
الرابع : الذين يواظبون على عمل الصالحات , ومنها مضامين آية البحث , وقد يرتكب بعضهم الفاحشة فيبادر إلى التوبة .
والصحيح هو الأول والرابع , والمسلمون في حال لجوء دائم إلى الله وإستعانة بالإستغفار كما ذكرت آية السياق، لذا جاءت بصيغة الجملة الشرطية.
والإنفاق في سبيل الله واقية للمسلمين من الفحشاء وظلم النفس في حال السراء والضراء، وهو من الإعجاز في نظم الآيات، وفلسفة بعث المسلمين على المواظبة على فعل الصالحات في كل الأحوال.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أذنب ذنباً فأوجع قلبه عليه، غفر له ذلك الذنب وإن لم يستغفر منه)( ) .
الثالث: إقامة الحجة على الناس في علة تفضيل المسلمين ولزوم الإنقياد للأوامر الإلهية، قال تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابع: تفقه المسلمين في الدين، وبعثهم لمعرفة أسباب الفلاح والتوفيق، وطرد الجهالة والغفلة عنهم، ومن خصائص التقوى أمور:
الأول: شرح الصدر وملأ القلب بضياء الإيمان، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني: زيادة في العلم والمعرفة.
الثالث: تكون واقية من السيئات.
الرابع: التقوى باعث على التوبة والإنابة.
الخامس: آية البحث بصيغة في خصوص الإنفاق وحبس الغيظ والعفو، إما ذكر الفاحشة والمعصية فأنه ورد بصيغة المفرد لقوله تعالى[إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً].
وفيه نكتة عقائدية لإحتمال إرادة أن إستغفار أحدهم يجزي عن الجماعة في ذات الفعل والمعصية المتحدة، كما في السلام، فإن رده واجب، على نحو الكفاية وليس العين، فالسلام على الجماعة يجزي ويكفي فيه رد الواحد منهم، وإن كان قياساً مع الفارق.
السادس: مجيء هذه الآية والآية التالية في ذكر خصائص وصفات المتقين , وفيه وجوه:
الأول: إنه إصلاح لمجتمعات المسلمين.
الثاني: فيه تنزيه من الكدورات الظلمانية، وأمراض النفس الشهوية والغضبية.
الثالث: ذكر هذه الخصائص موعظة وحرب على أهل الشك والريب.
المسألة الثانية: ذكرت آية البحث أربع صفات للمتقين، أما آية السياق فجاءت بصفات أخرى للمتقين، وهي:
الأولى: لجوء المتقين إلى الله عز وجل عند فعل الفاحشة وإرتكاب المعصية.
ومن إعجاز القرآن أنه جمع الزجر عن فعل الفاحشة وظلم النفس، وعطف بينهما، وكـأن الفاحشة هو الظلم الذي يتعدى إلى الغير، أما ظلم النفس فهو يخص كالتقصير في الواجبات، ولكن العطف من عطف العام على الخاص، وأن ظلم النفس يأتي بفعل الفاحشة وبالذنوب الخاصة والإضرار بالنفس بما يخالف أحكام الشريعة، قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
وفي آية البحث بيان لحقيقة وهي أن المسلم يلجأ في كل الأحوال إلى الله فيذكره، ويستحضر ثوابه العظيم على التوبة وفعل الصالحات، وعقابه الأليم على فعل السيئات، فيبادر إلى التوبة والإنابة، بينما جاء القرآن بذم الكفار بتعليلهم لفعل الفاحشة والإعتذار بتقليد ومحاكاة آبائهم، لقوله تعالى[وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا]( ).
الثانية: مبادرة المسلمين إلى ذكر الله عند ظلمهم للنفس.
الثالثة: تعقب إستغفار المتقين لذكر الله عند إرتكاب المعصية، وتلك آية في الصلاح، وعندما إحتج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض، كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) وأجابهم الله عز وجل بأنه يعلم ما لا يعلمون من وجوه:
الأول: تقوى الإنسان وعمارته الأرض بالصلاح.
الثاني: جاءت هذه الآيات لبيان مصاديق عملية لعلم الله , ومضامين إحتجاجه على الملائكة قبل خلق آدم وهبوطه إلى الأرض.
الثالث: تجدد الشواهد على علم الله بتقوى الله إلى يوم القيامة، وذكر الله عز وجل لعلمه في الرد على إحتجاج الملائكة من الدلائل على بقاء القرآن سالماً من التحريف، وعلى إستدامة العمل بأحكام الشريعة الإسلامية إذ أنها واقية وبرزخاً دون تغشي الفساد في الأرض وسفك الدماء.
الرابع: وجود صلة مباركة مستديمة بين الله عز وجل والناس تتجلى ببعث الأنبياء وتنزيل الكتب السماوية، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
لتكون النبوة والتنزيل نعمة متجددة على الأجيال المتعاقبة من الناس إلى يوم القيامة، ففي كل يوم يطل القرآن وآياته على الناس بالتلاوة الواجبة التي يأتي بها المسلمون بشغف وشوق وتسليم وتدبر.
الخامس: من علم الله عز وجل إنقطاع النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أحكام نبوته باقية إلى يوم القيامة تتجلى في وجود أمته التي تتصف بالتقوى، والصلاح وكظم الغيظ والعفو عن الناس طاعة لله وهو من مصاديق إستدامة تفضيل المسلمين ومصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: يدل رد الله عز وجل على الملائكة بالدلالة التضمنية على حدوث الفساد وحصول القتل في الأرض والذي إبتدأ بقتل ابن آدم الصلبي قابيل لأخيه هابيل، ليكون من علم الله عز وجل فتح باب التوبة للناس جميعاً، فإن قلت جاءت آية السياق بخصوص توبة المتقين، بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( ).
والجواب من جهات:
الأولى: وردت آيات عديدة تتضمن بعث الناس إلى التوبة والإنابة، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ]( )، ومن مفاهيم الآية أعلاه الوعد الكريم من الله بقبول التوبة من الناس مطلقاً إلا أن يرد تقييد وإستثاء منفصل , كما في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين أعلاه أن الخطاب فيهما موجه للموجود من الناس والذي لم يولد بعد، أما الذين ماتوا على الكفر فلا يشملهم الخطاب الحاضر والمتجدد، بلحاظ أنهم غادروا الدنيا ولم ينتفعوا منه , ومما فيه من المواعظ والإنذارات .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . }إلى آخر الآية. فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم قال: إلا ومن أشرك ثلاث مرات)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام وعبد الله بن مسعود: هذه أرجى آية في القرآن.
وأختلف في سبب نزولها على وجوه:
الأول: نزلت الآية في وحشي قاتل حمزة، فلما أراد أن يسلم خشي أن لا يغفر له، لأنه قتل حمزة يوم أحد( ).
الثاني: نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا فأفتتنوا ثم ندموا، وظنوا أن الله لا يغفر لهم لأنهم إفتتنوا بعد الإيمان.
الثالث: نزلت في قوم من أهل الجاهلية، قال ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا، وقتلنا النفوس، فنزلت الآية فيهم.
الثانية: جاء القرآن بالأمر للناس جميعاً ببلوغ مرتبة التقوى، بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
ويحمل الأمر أعلاه على الوجوب ولزوم المبادرة إلى التقوى والخشية من الله، والتوبة مصداق من مصاديق التقوى ومقدمة لها.
الثالثة: ليس من برزخ بين الناس والتقوى، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً فلم يجعل الله سبحانه بينه وبين العبد حاجباً وقوله تعالى[وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ) رحمة بالإنسان مطلقاً، وإخبار بإنتفاء موضوع وموضع للحاجب والبرزخ.
الرابعة: السنة النبوية باعث على الإستغفار والتوبة بنصوص ليس لها حصر في دلالتها ومضمونها وحثها على التوبة , وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذ عنك، إن الله تبارك وتعالى باسط يده بالليل لمسيء النهار ليتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وباسط يده بالنهار لمسيء الليل ليتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وإن الحق ثقيل كثقله يوم القيامة، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة، وإن الجنة محظور عليها بالمكاره، وإن النار محظور عليها بالشهوات)( ).
ومعنى ( باسط يده )ليس التشبيه ولكن لبيان تعدد سبل الترغيب وضروب اللطف الإلهي التي تجذب الإنسان للتوبة، وتطل عليه الآيات بالليل والنهار لجذبه للهداية والإنتساب بالقول والفعل للمتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
السابع: تجلي معاني التقوى والخشية من الله في أقوال وأفعال المسلمين.
الثامن: يدل حسن سمت المسلمين وعمارتهم الأرض بعبادة الله أنه سبحانه جعل فيها أهل العصمة من الذنوب، الذين يحاربون الفساد والفسوق في الأرض بمدد ونصر من الله، وليس من حصر وحد ورسم لهذا المدد .
وتجلى إطلاقه في معارك الإسلام الأولى إذ أمد الله المسلمين بالملائكة ونصرهم , وتجلت فيها حقيقة وهي صيرورة الإسلام شريعة متبعة وله دولة وريح , لا يقدر الكفار على التعدي عليها , مع بعث الفزع والخوف في نفوسهم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى بخصوص معركة أحد[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
التاسع: وجود أمة من المتقين بين الناس تعمل بطاعة الله، ليكون عملها هذا حجة على الكفار،، وزاجراً عن الفساد.
العاشر: تفضل الله بهداية المسلمين إلى سنن التقوى بهذه الآيات من سورة آل عمران، وترغيبهم بالثواب العظيم بدخول الجنة.
الحادي عشر: مجيء الإنذارات للكفار، وتحذيرهم من العذاب الأليم في الآخرة إذا ما أصرّوا على الكفر والفساد، قال تعالى[الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ] ( ).
الثاني عشر: مـلازمة إنفتاح باب التوبة للإنســان في الحياة الدنيا، وعــدم مفارقتها له إلى أن يغـادر الدنيا، فمتى ما شاء الإنابــة والتــوبة فان الله عــز وجل يتفضــل بالقبول, (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر خطبة خطبها : من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه ثم قال و إن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه
ثم قال : وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه ثم قال و إن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ثم قال و إن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته و قد بلغت نفسه هذه وأهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه( ).
وروى الثعلبي بإسناده عن عبادة بن الصامت عن النبي هذا الخبر بعينه إلا أنه قال في آخره و إن الساعة لكثيرة من تاب قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه)( ).
ومن فضل الله عز وجل الإطلاق في فتح باب التوبة، وعدم إنحصارها بالمؤمنين أو بخصوص نوع ومرتبة من الذنوب، وليس من حصر لمصاديق التوبة القولية والفعلية، فمنها قول العبد: أستغفر الله والنطق بالشهادتين.
ومن التوبة الفعلية أداء الفرائض والواجبات، وذكر أن حج آدم عليه السلام للبيت الحرام كان لأجل قبول توبته.
الثالثة: إتحاد موضوع الآيتين بذكر صفات المتقين على نحو التعدد والتفصيل، فلم تنحصر صفات المتقين بآية واحدة من القرآن، بل جاءت آيتان متعاقبتان بذكرها وبيانها إلى جانب آيات أخرى كثيرة، وفي هذا التفصيل , وتعدد آيات صفات المتقين في القرآن تأكيد لأمور:
الأول: بلوغ مرتبة التقوى جهاد في سبيل الله.
وعن الرضا عن آبائه قال: رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم في بعض غزواته فقال: من القوم؟ قالوا: مؤمنون يا رسول الله، قال: ما بلغ من إيمانكم؟ قالوا: الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء، والرضاء بالقضاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حلماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء، إن كنتم كما تقولون فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون)( ).
وفي الحديث دليل على تفقه المسلمين في الدين، وإرتقائهم إلى مراتب التقوى في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الجماعات وليس الأفراد، وهو شاهد على التغيير النوعي والصلاح الحاصل في المجتمعات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والفقه هو الفطنة والفهم وتدقيق النظر، وقد شاع إستعماله في الإصطلاح بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستقرأة من أدلتها التفصيلية، وتسمى الضوابط المستقرأة (القواعد الفقهية) والتي تكون أشبه بالقوانين لإستنباط الأحكام الشرعية في الوقائع والمصاديق.
الثاني: قد يخطأ المتقي، ويرتكب ذنباً، ولكنه يتداركه بالإستغفار.
فإن قلت لماذا خصّ الله عز وجل المتقين بنعمة التدارك هذه، الجواب، لقد جعل الله الإستغفار نعمة، وكذا تلقينه للناس لترغيبهم فيه وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
بلحاظ أن المبادرة إلى الإستغفار نعمة ورحمة من الإنسان لنفسه، وهو باب مفتوح للناس جميعاً، ولكن الآية جاءت في الثناء على المتقين وبيان خصلة حميدة من الخصال التي تصلحهم لدخول الجنة.
الثالث:التباين الموضوعي والحكمي بين الذنوب التي يرتكبها الكفار وما يحتمل أن يفعله بعض المسلمين من الذنوب والذي هو أمر عرضي.
الرابع:تدارك المسلم للذنب بالإستغفار وسؤال العفو بينما يصر الكافر على الذنب والمعصية.
الخامس: جاء ذكر إحتمال إرتكاب المسلم الذنب على نحو الإحتمال والجملة الشرطية، بقوله تعالى في آية السياق[إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً]( )، أمّا الكفار فان المعصية والذنب متأصلان عندهم، والكفر أصل الذنوب والكبائر، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ومع هذا فإن كلاً من آية البحث والسياق لم يتركا الكفار ومستنقع الضلالة الذي هم فيه، بل يتضمنان أمورا :
الأول : بعث الناس عامة ومنهم الكفار على التدبر في حال العز والفخر التي عليها المسلمون .
الثاني : الدعوة للإقتداء بالمؤمنين ودخول الإسلام .
الثالث : الإنصات للقرآن وأخبار السنة النبوية .
الرابع : رؤية الإرتقاء الدفعي للمسلمين في سلم التقوى , وموضوعية الإبتداء بالإستغفار والتوبة فيه.
وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن مسعود: يا ابن مسعود لا تقدم الذنب ولا تؤخر التوبة ولكن قدم التوبة وأخر الذنب فان الله تعالى يقول في كتابه ” بل يريد الانسان ليفجر أمامه)( ).
السادس: بشارة الثواب العظيم للمتقين في الآخرة، بما يبعث الشوق في النفوس إلى خصال التقوى التي ذكرتها هذه الآية كشرط للفوز بالجنة.
وعن النعمان بن سعد قال: كنا جلوسا عند علي بن أبي طالب فقرأ[يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا]( )، قال: لا و الله ما على أرجلهم يحشرون و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالهم الذهب و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة)( ).
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين تأديب المسلمين والناس جميعاً وإرشادهم لأحكام سنن التقوى، وبعث الحرص في نفوسهم على الفوز بهذه المرتبة ولا يختص هذا الحرص بالقضية الشخصية، وإرادة حرص المسلم على بلوغه درجة التقوى بل يشمل وجوهاً:
الأول: سعي المسلمين مجتمعين ومتفرقين إلى مراتب التقوى، فهم الأمة المتقية، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فإن قلت كيف يجتمع السعي إلى التقوى والنعت به، فكون المسلمين هم الأمة المتقية يعني بالدلالة التضمنية على أنهم بلغوا الغاية.
والجواب إن التقوى على مراتب متعددة، وأن المسلمين حازوا صفة المتقين بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، وأداء الفرائض والعبادات.
ويرتقي المسلم في هذه المراتب في النهار والليلة بالعمل بأحكام القرآن وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، بلحاظ إتصال سبل الهداية للمتقين بالقرآن، ومنه عمل المتقين بأحكام آية البحث والسياق، واللجوء إلى الإستغفار، وهذا اللجوء ترغيب للناس بالإستغفار والإنابة، فمع هداية وإيمان المسلمين فإنهم يبادرون إلى الإستغفار عن صغائر الذنوب.
فمن باب الأولوية القطعية لزوم مبادرة الكفار والفاسقين إلى التوبة، وتلك المبادرة ورشحات هذه الأولوية عليها من عمومات خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ يخرج المسلمون للناس بالسنن الحميدة والإمامة الرشيدة , والفزع إلى التوبة مع أدائهم الفرائض والواجبات , وحرصه على صيرورة باطنهم كظاهرهم.
الثاني: بذل المسلمين الوسع لجعل الفرد منهم يبلغ مرتبة التقوى فتسعى وتتعاون الجماعة لهداية الواحد منهم، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثالث: جهاد المسلمين في سبيل الله، ودعوتهم الناس إلى مسالك الهداية والإيمان.
الرابع:سعي المسلم لإصلاح نفسه، وإرتقائه وتعاهده لمرتبة التقوى.
الخامس:إعانة المسلم لأخيه في سبل الإيمان، والسعي لتهيئة مقدمات بلوغه مرتبة التقوى.
الخامسة: أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، ومن مصاديق إحسان المسلم بلحاظ آية السياق وجوه:
الأول: الإقامة على ذكر الله وعدم تركه في حال الشدة والرخاء.
الثاني: لجوء المسلم إلى ذكر الله عند إرتكاب معصية، مما يدل على أن هذا الذكر ملكة ثابتة عند المسلم.
الثالث:إقرار المسلمين والمسلمات بالنشور , والوقوف بين يدي الله للحساب,ويدل عليه في الآية وجوه:
الأول: عدم إرتكاب المسلم المعصية إلا على نحو الإحتمال والفرد النادر بدليل الثناء على المسلمين في آية البحث وذكر الصفات الكريمة التي يتحلون بها.
الثاني: تقدم الخصال الحميدة للمسلمين في آية البحث على الإخبار في آية السياق عن إحتمال إرتكابهم للمعصية.
وفيه بيان لقانون ثابت من جهات:
الأولى: إن فعل الحسنات ملكة دائمة عند المسلمين، وأن فعل الفاحشة أمر عرضي قد يطرأ عليهم فيأتيه الإستغفار فيمحوه بفضل من الله عز وجل، لذا ورد ذكر فعل الفاحشة والتقصير بأداة الشرط[إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
وتقدير الآية: إذا فعلوا فاحشة أو إذا ظلموا أنفسهم) فجاء ظلم النفس في الآية أيضاً على نحو الشرط والإحتمال، وإقتران الإستغفار به كعلاج من درن الذنب وتبعاته.
الثانية: موضوعية الإيمان في الهداية إلى الإستغفار عند فعل الفاحشة وإرتكاب المعصية.
الثالثة: تفضل الله عز وجل بالجزاء العاجل على التقوى والصلاح بالمغفرة حال الذنب والإرشاد إلى ذكر الله، قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ]( )، فظاهر الآية أعلاه التعدد وأن الجزاء بالأحسن والأفضل في الدنيا والآخرة، مع بشارة الأمن والسلامة يوم القيامة.
وفي معنى الخير في الآية أعلاه ورد عن ابن عباس أي فمنها يصل إليه الخير( )، وعنه أيضاً يعني الثواب لأن الطاعة فعل العبد والثواب فعل الله سبحانه( ).
وبالإســناد عن أبي داود الســـبيعي عن أبي عبد الله الهزلي قال: دخلت على علي بن أبي طالب، فقال: يا عبد الله ألا أنبّئك بالحســـنة التي من جاء بها أدخله الله الجنّة، والســـيّئة التي من جاء بها أكبّه الله في النــار، ولم يقــبل معـــها عمــل؟ قلت: بلى، قال: الحســنة حُبّنا والســيّئة بُغضنا {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أي فله من هذه الحســـنة خير يوم القيامة)( ).
الثالث: مبادرة المسلمين إلى فعل الخير قربة إلى الله تعالى، كما في الإنفاق في حال الرخاء والشدة.
السادسة: الإستعاذة بالله من الذنب المرتكب والآثار المترتبة عليه.
السابعة: إنعدام الفترة بين أمور ثلاثة:
الأول: فعل الذنب في حال وقوعه.
الثاني:ذكر الله.
الثالث: الإستغفار من الذنوب مطلقاً.
فلو فعل المسلم الذنب فانه يبادر إلى ذكر الله وإلى الإستغفار من الذنوب مطلقاً، ليكون من خصائص المتقين الإستغفار من كل معصية عند فعل ذنب مخصوص، فيأتي الإستغفار العام والشامل من الذنوب جميعاً عند إرتكاب فاحشة أو ظلم النفس، وفيه مدرسة في الفضل الإلهي على المسلمين، والحلم الإلهي بهم وبالناس جميعاً، بالتذكير بالتوبة مع إرجاء العقوبة، وعدم التعجيل بها.
وروى المنذري بالإسناد عن عبد الرحمن بن جبير قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدعم على عصا حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة” أي صغيرة ولا كبيرة ” إلا أتاها، (وفي رواية: إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم ” أهلكتهم”.
فهل لذلك من توبة؟ قال:” فهل أسلمت؟” قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .
قال:” تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن”، قال: وغدراتي وفجراتي. قال: ” نعم! ” قال: الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى”).
الثامنة: عدم الإصرار على المعصية والذنب، وتلك خصلة حميدة، نالها المسلمون بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام، لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَهُمْ يَعْلَمُونَ] .
وفيه شهادة للمسلمين بالعلم والتحصيل ومعرفة قبح الذنوب ولزوم التنزه منها، وورد في دعاء وإستعاذة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك)( ).
الثاني: صلة[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، بآية البحث:
الأولى: النسبة بين آية البحث والسياق نسبة الفعل والجزاء، وفيه رحمة من الله عز وجل من وجوه:
الأول: مجيء القرآن بالأوامر والنواهي، وذكر الثواب على الأفعال، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثاني: بيان فضل الله العظيم على المسلمين بفوزهم بالمغفرة , والثواب العظيم في الآخرة باللبث الدائم في النعيم.
الثالث: الإخبار عن عالم الجزاء في الآخرة، وبعث المسلمين للسعي والعمل في سبل مرضاة الله , والتي جعلها بينة ظاهرة , ومنها مضامين آية البحث والسياق.
الثانية: لما ذكرت آية البحث صفات المتقين، وجاءت آية السياق بالوعد الكريم على فعل الصالحات، ليفيد الجمع بينهما الترغيب بكل من التقوى والصالحات، وتأكيد الملازمة بينهما.
الثالثة: تؤكد خاتمة آية السياق حقيقة وهي أن التقوى وفعل الصالحات المذكورة في آية البحث من العمل والسعي في سبيل الله، وفيه بعث للعمل الصالح والمسارعة في الخيرات.
الرابعة:الترغيب بالإستغفار، وبيان منافعه في الدنيا والآخرة، وإرشاد المسلمين إلى سبله ومسالكه , قال الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل ( ).
وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها.
الخامسة: فوز المسلمين بنعمة عظيمة وهي إنتفاء الفاصلة بين العمل الصالح والوعد الكريم بثوابه، وفيه دعوة سماوية لبذل الوسع في عمل الصالحات، والمبادرة إلى كنز الإستغفار، والسعي لمحو المعاصي والسيئات بالتوبة والصلاح .
وقد ورد تحذير للكفار والمنافقين في الخطاب الإلهي المتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ]( )، وهذا التحذير من الإعجاز الغيري للقرآن، بأن تأتي الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون في مفهومها إنذاراً ووعيداً للمنافقين والكفار، ودعوة لهم لنبذ الكفر والضلالة.
وفي الآية دلالة على حجب الكفار عن نيل المغفرة، ومحو السيئة ورفع العقوبة عنها، وبيان علة حجب المغفرة وهو الكفر بالله ورسوله.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبلغه كلام وأذى من المنافقين فيقوم بالإستغفار لهم، وإن مات أحد منهم يصلي عليه كما يصلي على باقي المسلمين ,في آية للعفو والصبر وتفويض الأمور إلى الله عز وجل , ودعوة لهم للتوبة , وهجران النفاق وما يترشح عنه من الإيذاء والإضرار.
(روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية:”أسمع ربي قد رخص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة، لعل الله أن يغفر لهم! فقال الله من شدة غضبه عليهم: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ})( ).
وتبعث الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين على الإستغفار واللجوء إليه، وتحقيق شرائطه التي تتقوم بالتوبة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن للقلوب صدأ كصدأ الحديد وجلاؤها الإستغفار)( ).
السادسة: تجلي الثواب العظيم في الدنيا والآخرة على القليل من العمل الصالح , ومنه الإنفاق في سبيل الله في حال السعة والشدة، إذ أن موضوع آية السياق وما فيها من الثواب العظيم أعم من أن ينحصر بآية البحث , فيشمل الآية السابقة التي تذكر شطراً من خصائص المتقين وهي:
الأول: البذل والإنفاق في حال الرخاء.
الثاني: العطاء والتصدق في حال الشدة والعسر، والبذل في المال الحلال رجاء الثواب، قال تعالى[قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى]( ).
الثالث: حبس الغضب، والإمتناع عن البطش والإنتقام.
الرابع: إختيار العفو عن المسيء، رجاء فضل الله عز وجل , والمراد من [أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ] الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة , ويفعلون في الدنيا الصالحات ويبادرون إلى فعل الخيرات أعلاه.
السابعة: ورد قبل آيتين ذكر سعة الجنة، وجاءت آية السياق لبيان ما فيها من الأشجار والأنهار التي تتصف بالدوام والخلود لقوله تعالى[خَالِدِينَ فِيهَا]
أي في الجنان بأوصافها وماهيتها التي ذكرت في القرآن، فاذا كانت أمصار كثيرة في الدنيا لا يمر عليها نهر، وأمصار تجف أنهارها مع تقادم الأيام، فان الأنهار في الجنان دائمة , لا يصيبها نقص في العدد أو الماء أو قوة جريانه، وهو من عمومات الخلود فيها , وفيه بعث للسعي لبلوغ مراتب الثواب التي وعدت بها آية السياق بالإمتثال لأمر الله في آية البحث.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتم عليه)، ثم قرأ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ).
بله ما أطلعتم عليه: أي دعوا ما علمتم وعرفتم من نعيم الجنة , فإنه أمر يسير وقليل بالنسبة لما أبقاه وخبأه الله لكم من النعم .
وقال الفراء بله يُنصب بها ويُخفض فمَنْ نصب بها جعلها بمنزلة دَعْ ومَنْ خفض بها جعلها بمنزلة الصفات الخافضة وأنشد في النصب : يمشي القَطوف إذا غَنّى الحُداة ُ به مشيَ الجوادِ فَبَلْهَ الجِلّة َالنُجُبا)( ).
الثامنة: لما أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] جاءت آية السياق ببيان وتفسير حب الله عز وجل للمحسنين، وكيف أنه سبحانه أعدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، إن واجب الوجود بسيط لا يقبل التغيير ولا يطرأ على الذات المقدسة حب أو كره، ولكن حب الله يتجلى بالمدد والعون إلى جانب البشارة بالثواب.
ومن إعجاز القرآن تعقب الجزاء والثواب العظيم للأمر والنهي الإلهي، فما أن تأتي آية بالأمر والبعث لفعل الصالحات حتى تأتي آية أخرى تتضمن ذكر الثواب العظيم الذي أعدّه الله عز وجل للذين يمتثلون للأمر.
التاسعة: أختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ] وفيه بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: ثناء الله عز وجل على نفسه بتفضله بالثواب العظيم على أهل التقوى والصلاح.
الثاني: الشهادة من الله عز وجل للمسلمين بالعمل الصالح.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن المتقين عاملون، باذلون للوسع في مرضاة الله عز وجل.
الرابع: اللجوء إلى ذكر الله عند إرتكاب الفاحشة والذنب.
الخامس: الإستغفار وإظهار الندم والتوبة.
السادس:تنزه المسلمين عن الإصرار على الذنوب، وهذا التنزه من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من أسباب الصلاح والإلتجاء إلى الله عز وجل.
الثانية: من رشحاته الإستعاذة من العودة والرجوع إلى الذنوب.
الثالثة: صيرورة التوقي من الذنوب ملكة عند المسلم والمسلمة.
(عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن رجلا سأله عن الكبائر السبع، قال: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلاّ أنه لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)( ).
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الأولى: جاءت آية السياق أعلاه مطلقة في موضوعها وحكمها، وشاملة لآيات القرآن كلها، ولكن مضامينها إنحلالية، فكل آية من القرآن بيان وهدى وللناس ودعوة للإيمان , وتحتمل بلحاظ آية البحث وجوهاً:
الأول: آية البحث بيان وإخبار عن خصائص المتقين والثواب العظيم الذي أعده الله عز وجل لهم.
الثاني:بيان قبح إستيلاء النفس الغضبية على الجوارح.
الثالث: هداية المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة.
الرابع:جعل العفو محبوباً عند المسلمين، وإشاعة أسباب المغفرة بين الناس.
ومن إعجاز القرآن بعث المسلمين إلى فعل الصالحات التي يتضمنها، وجعل نفوسهم تنفر من القبائح التي جاءت آيات القرآن ببيان العقاب الشديد عليها، ويتجلى هذا القانون بصيغة الجملة الخبرية الواردة بها أحكام الحلال والحرام , والبشارات بالجنة والإنذار والوعيد بالنار.
ومن الآيات أن لغة القرآن تخاطب العقول، وتتوجه إلى الناس جميعا بلغة المحسوس، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
الثانية: أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وفيه بلحاظ آية السياق أمور:
الأول: إنه بيان لقانون ثابت في الأرض، وسر من أسرار خلق الإنسان والنفخ فيه من روح الله، قال تعالى في خلق آدم[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( )، بتقريب وهو أن الله عز وجل يحب الذين يحسنون للعباد قربة وطاعة له سبحانه.
وقد تجلى حب الله للإنسان حال خلق آدم من جهات:
الأولى: النفخ في آدم من روح الله.
الثانية: تعليم آدم الأسماء كلها بعد أن إعتذر الملائكة عن عدم معرفتهم بها، قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَاْ]( ).
وفيه آية إعجازية تبين أن هذه الأسماء علم خاص تفضل وجعله عند آدم لتعرفه الخلائق بواسطته، وفيه دلالة على أن علم الله أعظــم من أن تحيــط به الخلائق مع كثرة ما يتفضل به الله تعالى من العلوم التي تتطلع عليها.
إذ أن علم الخــلائق من المتنـــاهي، أي أنه غير ممتنع عن الإضافة والزيادة عليه , بينمــا علم الله عز وجل من اللامتناهي، وهو سبحانه أحاط علماً بالكليات والجزئيات، والموجود والمعدوم , السابق واللاحق من النفوس والأعمال والجواهر والأعراض والأحداث ليس فقط لأن الله مبدع لها وهو سبحانه الذي أوجدها، وقانون العلم بالسبب يقتضي العلم بالمُسبَب بل لأن الأشياء كلها ومنها الجزئيات حاضرة عند الله سبحانه[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، وهي مستجيبة له، لا تتخلف عن أمره وإرادته، والله سبحانه الذي أصلح المسلمين بعلمه للعمل بأحكام آية البحث، وقرّبهم بلطفه من منازل الطاعة في الليل والنهار.
الثالثة: تفضل الله عز وجل برزق آدم نعمة العقل، وملكة الحفظ والإمتثال وتجلتا مجتمعتين ومتفرقتين في تعليم آدم عليه السلام لأسماء الملائكة لأنه حفظها حالما سمعها من الله عز وجل وإمتثل لأمره سبحانه بإخبار الملائكة بها.
وفي ذات الآية أعلاه من سورة البقرة والخاصة بتعليم آدم الأسماء تجلت الحجة في حفظ وإمتثال أدم إذ قال الله للملائكة[أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، وفيه تفسير وبيان لإحتجاج الله عز وجل المتقدم على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أي من علم الله عز وجل الذي لا يعلمه الملائكة ملكة الحفظ والإمتثال التي جعلها الله عز وجل عند الإنسان ونعمة التمييز بين الأشياء بالعقل والحواس.
ومن الآيات في الآية أعلاه أنها لم تقل(فلما علّمهم) بل وردت بلغة النبأ وعلى نحو متكرر[يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]وفيه إكرام للملائكة، ودرس آخر لهم ببيان وظيفة النبوة وإخبار الملائكة بأن آدم لا يهبط إلى الأرض إلا بصفة النبوة , والنبي منزه عن الفساد وسفك الدماء، يقال(أتاني نبأ من الأنباء، وأنبئت بكذا وكذا، ونبئت، وإستنبأته: إستخبرته، ونبّيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأستنبيء)( ).
الرابعة: سجود الملائكة لآدم وما يدل عليه من الإكرام في السماء, وكأن هذه السجود مقدمة لإقامة آدم الدائمة في الجنة , قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ]( ).
الخامسة: تفضل الله عز وجل بخلق حواء زوجة لآدم , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( ) .
لتخبر الآية أعلاه عن وظيفة المرأة وهي الزوجية وحسن التبعل، وهل في نعت المرأة من أول خلقها بأنها زوجة إخبار بأن المرأة لا تكون نبية , الجواب لا دليل على هذه الملازمة والإمتناع ، ولكنه يستفاد من أدلة أخرى , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ]( ).
هذا الإمتناع لا يمنع من بلوغ بعض النساء مرتبة سامية بالتقوى والصلاح والمقام الرفيع مثل فاطمة بنت محمد وخديجة زوج النبي, ومريم بنت عمران التي خاطبتها الملائكة كما ورد في التنزيل[يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ).
السادسة: تفضل الله عز وجل بإكرام حواء حال خلقها كزوجة لآدم ليألف إليها ويستأنس بها , قال تعالى[وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا]( )، وكانت حواء تتنعم مع آدم بالعيش الرغيد في الجنة، والأكل من ثمارها، وحينما هبطا إلى الأرض تولى آدم الإنفاق عليها، قال تعالى[فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى *إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى *وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى]( ).
وأستدل بهذه الآية على أن نفقة الزوجة الواجبة على الزوج هي:
الأول: الطعام.
الثاني: الشراب.
الثالث: الكسوة.
الرابع: المسكن.
ولكن لا ملازمة بين الآية أعلاه وبين النفقة الواجبة للزوجة لأنه معارض بما ذكرته الآية من الشقاء عند الخروج من الجنة، نعم قد يستفاد من دليل آخر خصوصاً وأن بها تتقوم المهجة.
وقال سعيد بن جبير: أُهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فهو شقاؤه الذي قال الله سبحانه)( ).
ولم تقل الآية أعلاه فتشقيا وإرادة جمع حواء مع آدم في الشقاء في المنطوق، وورد قولان:
الأول: مناسبة رؤوس الآيات.
الثاني: غلبة الذكر في الخطاب.
ولكن الآية أعم في مضامينها من وجوه:
الأول: تأكيد الخطاب الإلهي لآدم بعدم الأكل من الشجرة، والتذكير بعداوة إبليس له وكيف أنه يضمر له الشر.
الثاني: التغليظ والتشديد في تحذير آدم من وسوسة إبليس.
الثالث: مجيء الآيات بتوجه الخطاب التحذيري من الله عز وجل إلى آدم وحواء بعرض واحد، كما في قوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
الرابع: إرادة التباين الرتبي في الشقاء في الدنيا بين الرجل والمرأة، وأن الرجل يتحمل القسط الأكبر منه.
الخامس: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، إذ أن إخبار الآية عن شقاء آدم يدل بالتبعية والإلحاق والتشابه في الزوجية والحال على أن حواء تشقى هي الأخرى.
السادس: الخروج من الجنة ذاته شقاء وأذى.
السابع: بيان حقيقة وهي أن تعب وعناء آدم في الدنيا أكثر من تعب وعناء حواء.
الثالثة: ليس من ثمة فترة بين خلق آدم وبين حب الله عز وجل له، وهو من الشواهد على أن حب الله نفع وخير محض يفوز به الذين يحبهم الله عز وجل.
فإن قلت إن سجود الملائكة لآدم جاء مطلقاً من غير تقييد بصفة الإحسان الواردة في الآية.
والجواب إن الله عز وجل يعلم أن آدم نبي، فهو من أئمة المحسنين وأبوهم جميعاً، وهذا المعنى لا يتعارض مع سجودهم له لنفح الله فيه من روحه، ولأن في صلبه النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني:تبعث آية البحث على الإحسان للناس، ونشر مصاديقه وبيان معانيه وفي إشاعة مفاهيم الإحسان هدى لكل من:
الأول: الذي يحسن إلى الناس، ويقوم بالإنفاق أو يحبس غيظه، أو يعفو عن الناس.
الثاني: في الآية هدى للذي يتلقى الصدقة والإعانة، والذي يقابله المسلم بالصبر والعفو والإعراض عن إساءته.
الثالث: الآية هدى للناس جميعاً الذين يرون حسن سمت المسلمين، وسعيهم بين الناس في مرضاة الله عز وجل.
الرابع: الفعل الحسن مناسبة لتعلم الناس له، والإقتباس منه ومن الفضائل مطلقاً.
الثالثة:الجمع بين الآيتين موضوع ومناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي لتهذيب النفوس وجذب الناس لفعل الخير، وبعث النفرة في نفوسهم من الشر والفسوق.
وتتضمن آية السياق الترغيب بفعل الصالحات، وحث المسلمين على الإنفاق في سبيل الله لما فيه من الخير وأسباب الرشاد.
الرابعة: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، تلازمه الحاجة إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة.
فجاءت كل آية من القرآن رحمة بالمسلمين خاصة، والناس عامة، وتترشح عن الجمع بين كل آيتين رحمة إضافية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ومن مصاديقه تعدد أفراد الرحمة بالجمع بين آية البحث والسياق ببيان صفات المتقين، وتكون مصاديق الرحمة في الآية القرآنية على وجوه مباركة متعددة منها:
الأول: الآية القرآنية مدرسة للأجيال المتعاقبة من الناس.
الثاني: الآية القرآنية برزخ دون الجهالة والغرر، ووسيلة للفصل والتمييز بين أهل التقوى والكفار، ودعوة لنبذ العادات المذمومة كالبخل والشح، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ومصاديق الرحمة عامة وتشمل حال السلم والحرب , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد عليها حتى في حال قتال العدو وعند النصر والغلبة عليهم.
ومن الرحمة أن النبي محمداً صلى الله وآله وسلم كان يوصي أمراء السرايا ألا يبادرون إلى قتال العدو بل يبدأون بنصحه ووعظه، مع بيان علة قتال المسلمين وأنهم لا يطلبون سلطاناً أو مالاً ولكن يأمرون بدخول الإسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله، وأنزل الله في كتابه)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يولي عناية بشؤون الأسرى، ويأمر باللطف والرأفة بهم إمتثالاً لأمر الله عز وجل، وجاء القرآن بالترغيب في إطعامهم والرأفة بهم، قال تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
وجاءت السنة بإظهار مفاهيم العفو والرحمة وشمولها الرجل والمرأة، قال ابن إسحاق: ولمّا افتتح رسول الله (عليه السلام) القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفية بنت حي بن أحطب، وبأُخرى معها، فمرّ بهما بلال، وهو الذي جاء بهما على قتلى ممن قُتل من اليهود، فلمّا رأتهما التي مع صفية، صاحت، وصكّت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أغربوا عنّي هذه الشيطانة وأمر بصفية، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه، فعلم المسلمون أنّ رسول الله قد اصطفاها لنفسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى: أَنُزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟
وكانت صفية قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أنّ قمراً وقع في حجرها، فعرضت رؤيتها على زوجها، فقال : ما هذا إلاّ أنّك تمنين مَلِك الحجاز محمّداً، فلطم وجهها لطمة اخضّرت عينها منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها.
فسألها : ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر)( ).
الخامسة: ورد ذكر الناس في كل من الآيتين، وبلغة الرحمة والتخفيف عنهم، ففي آية البحث ورد الحث على الصفح والعفو عن الناس عامة، فبينما جاء تعيين الذين يعفون عن الناس وهم المتقون، ورد ذكر الذين يعفى عنهم على نحو الإطلاق والعموم ليشمل العفو المسلم والكتابي وغيرها، والملاك في العفو هو الخشية من الله، ورجاء القرب إلى رحمته، ليكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يعفون عن الناس هم المتقون .
الصغرى: المسلمون يعفون عن الناس.
النتيجة: المسلمون هم المتقون.
السادسة:يدل الجمع بين الآيتين على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل لما فيهما من نشر لمفاهيم الرحمة بين الناس، بما تعجز عنه الملوك والحكومات المتعاقبة، وتلك آية حسية وعقلية تتجلى في الجمع بين آيات القرآن ودلالاتها، لما في آية البحث من البيان والهداية إلى النجاة في النشأتين بالإمتثال للأوامر الإلهية.
السابعة:في تأكيد آية السياق على حقيقة وهي أن القرآن هدى وموعظة شاهد على أن الإنفاق في سبيل الله هدى للمسلمين وغيرهم، أما المسلمون فان الإنفاق دليل إيمانهم، وهو سبيل لزيادة الإيمان، قال تعالى[الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: جاء الكتاب متعقباً لحال التقوى فلم تقع الهداية بالقرآن على المعدوم أو الفطرة، بل وقعت على حال التقوى والخشية من الله.
الثاني: كل من التقوى والهداية بالقرآن وإنما جاءت الآية لبيان تعدد وتجدد ومضاعفة أسباب الهداية بالقرآن، فبه يحصل الإيمان بالله والتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض، ومنه يصدر المسلمون في معاملاتهم وأحكامهم، وهذا الصدور من الهدى الذي يأتي بآيات القرآن، ومن أسرار نزول القرآن نجوماً بتعاقب الأيام والليالي.
الثالث: التفصيل، فمن الناس من كان على درجة من التقوى عند نزول القرآن، أو عند دخوله الإسلام، فزاده القرآن هدىً، ومنهم من صار متقياً بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن الذي ينقله أيضاً إلى مراتب الهداية.
والصحيح هو الثاني، وتلك آية من إعجاز القرآن الغيري في إجتماع التقوى والهداية عند المسلمين ببركة آيات القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم أنزل إلى الأرض نجوماً ثلاث آيات وخمس آيات وأقل وأكثر، فقال: {فلا أقسم بمواقع النجوم}( ))( ).
وفيه آية وهي كثرة صرف ومجيء جبرئيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون الصلة مع السماء متصلة ومتجددة في كل حين، وهذا المجيء من الإعجاز في أسباب نزول آيات القرآن بخصوص الوقائع الحادثة، أو الأسئلة التي ترد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو مطلق كلامهم وأفعالهم، مع التسليم بأن المدار على عموم اللفظ وليس خصوص موضوع النزول .
ويستقرأ من لفظ(نجوماً) في الآية أعلاه التعدد والكثرة في نزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالنجوم المتقاربة المنتشرة في السماء والتي تتصف كل واحدة منها بحسن ذاتي وهي مجتمعة لها حسن أعظم بالإضافة إلى الدقة في سير النجوم لبيان أن نزول جبرئيل المبارك هذا وفق حساب دقيق من أجل تثبيت دعائم الإسلام لتضيء آيات القرآن النفوس وتشع على القلوب كما تجذب نجوم السماء الأبصار، ويتخذها الناس للهداية في البراري، قال تعالى[وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ]( ).
ومن مصاديق الهداية بآية البحث المسارعة إلى الإنفاق وفعل الصالحات قربة إلى الله تعالى , ويكون الأثر المترتب على إنفاق المسلمين عند غيرهم على وجوه:
الأول: بيان صدق إيمان المسلمين، وبذلهم الأموال في طاعة الله.
الثاني:إتعاظ الناس من جهاد المسلمين بأموالهم، وإستقراء الدروس والعبر منه.
الثالث: بيان المائز بين المسلمين وغيرهم في الإنفاق والبذل في سبيل الله عز وجل.
ليكون هذا المائز برهاناً وحجة في إستحقاق المسلمين للجنة بفضل من الله عز وجل، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: أعدُ الله الجنة للذين ينفقون في سبيل الله.
الصغرى: المسلمون هم الذين ينفقون في سبيل الله.
النتيجة: أعدّ الله الجنة للمسلمين.
الرابع: تأكيد حسن عاقبة المسلمين بانصياعهم للأوامر الإلهية في العبادات والمعاملات، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
الخامس:دعوة الناس لدخول الإسلام لما فيه من الأخلاق الحميدة التي تتجلى بسيرة وسنن المسلمين بالإنفاق، وحبس الغضب والعفو عن الناس.
ليكون من وظائف المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة أمور:
الأول: جذب الناس للإسلام.
الثاني: بيان مصاديق التقوى، وهذا البيان على شعبتين:
الأولى: تلاوة آيات القرآن، والذكر باللسان لخصائص التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخبار عن قصص وسيرة الأنبياء والمتقين، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثانية: إتيان المسلمين لمصاديق التقوى، لذا جاءت آية البحث بدعوة المسلمين إلى إمامة الناس في سبل التقوى، ومن الخصال التي يتصف بها المسلمون التسابق فيما يتضمنه القرآن من الأوامر والنواهي سواء كان بالإرادة التكوينية أو التشريعية , وهذا التقسيم للإرادة إستقرائي مستحدث لم يرِد فيه نص، ومن إعجاز القرآن أنه أعم من التقسيمات الإستقرائية الكلامية والنحوية والبلاغية وغيرها , لأن علومه من اللامتناهي، ومصاديقه متجددة إلى يوم القيامة وفيه نكتة ووجوه :
الأول : تحذير العلماء من إتخاذ هذه التقسيمات قوانين وأصولاً مستقلة لإستنباط الحكم الشرعي .
الثاني : ذات القرآن واقية وبرزخ دون ترتب الأثر على مثل هذا الفعل في حال حدوثه .
الثالث :في القرآن والسنة كفاية وسلامة , قال تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالثة: بعث الخشية من الله في نفوس المسلمين ، وإصلاحهم لفعل الخيرات.
الرابعة: صد الناس عن التعدي على الحرمات، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فالمسلمون خير أمة لتقيدهم بسنن وأحكام التقوى، وخروجهم بها إلى الناس، وهذا الخروج أعم من أن يكون مقصوداً بذاته، إذ أن تحلي المسلمين بخصال التقوى من الإنفاق في سبيل الله وحبس الغضب مع قيامهم بالعفو عن الناس إشراقات أخلاقية تطل على القلوب المنكسرة، فتبعثها للتدبر في أسرار هذه النهج الكريم من وجوه:
الأول: صلاح المسلمين بهداية من الله عز وجل.
الثاني: مصاحبة القرآن للمسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم، فهم لا يصدرون إلا عنه وعن السنة النبوية الشريفة(عَنْ أَبِي جُرَيٍّ ، جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ ، قَالَ :
(( رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ ، لاَ يَقُولُ شَيْئًا إِلاَّ صَدَرُوا عَنْهُ ، قُلْتُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا رَسُولُ اللهِ ( ، قُلْتُ : عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ ، مَرَّتَيْنِ ، قَالَ : لاَ تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلاَمُ ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ ، قُلِ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ ، قَالَ : قُلْتُ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ( ؟ قَالَ : أَنَا رَسُولُ اللهِ ، الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ ، أَوْ فَلاَةٍ ، فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ. قُلْتُ : اعْهَدْ إِلَيَّ ، قَالَ : لاَ تَسُبَّنَّ أَحَدًا. قَالَ : فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلاَ عَبْدًا ، وَلاَ بَعِيرًا وَلاَ شَاةً ، قَالَ : وَلاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ)( ) .
جاءت الموعظة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إبتداء لإرشاد السائل والسامعين إلى صيغة السلام وعلة ترك الصيغة التي تلفظ بها(عليك السلام) وضمن له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلغة التحدي الإستجابة بكشف الضر , وبنبات الأرض في عام القحط والجدب.
والسنة والحول بمعنى واحد، وجمعهما سنون وسنوات، وبين السنة والعام عموم وخصوص مطلق، فكل عام هو سنة وليس العكس، لأن العام حول يأتي على شتوة وصيغة كاملتين، أما السنة فهي من يوم إلى مثله من السنة التالية، وقد تبدأ السنة في نصف الصيف أو نصف الشتاء (قال الليث:العام:حول يأتي على شَتْوة وصيفة ويجمع أعواما)( ).
الثالث: سعي المسلمين بسلاح الصالحات لبلوغ الغاية الحميدة باللبث الدائم في الجنة.
السادس: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار لبذل المسلمين الأموال في طاعة الله وجهاد أعدائه.
إذ أن الإنفاق نوع طريقية لتحصيل مرتبة من القوة والقدرة على الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( )، ولا يتقوم هذا الإعداد إلا بالإنفاق والبذل، ولو جهز المقاتل نفسه، وخرج بسلاحه وفرسه فهل يصدق عليه أنه أنفق في سبيل الله.
الجواب نعم، وكذا من خلّف ضارباً في أهله وتولى نفقتهم وإعانتهم، وعن زيد بن ثابت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلف غازياً في أهله بخير وأنفق على أهله كان له مثل أجره)( ).
وجاء الإنفاق بالمعنى الأعم في أحاديث أخرى ليشمل إغاثة الغارم وعتق الصبر، وإعانة عيال الغازي في سبيل الله، وعن سهل بن حنيف قال: من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في عسرته، أو مكاتباً في رقبته، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)( ).
الثامنة: أخبرت آية السياق عن كون القرآن بياناً وعلماً، ومن البيان في آية البحث السعة والغنى عند المسلمين الذي يؤكده الأمر الإلهي بالإنفاق في حال السعة والضيق، وما يدل عليه بالدلالة الإلتزامية من البشارة بكثرة أموال المسلمين ، وهو من الآيات العقلية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وجود مصداقها العملي في مجئ الغنائم من الذهب والفضة إلى المسلمين بالمعارك والفتح ودخول أهل القرى والأمصار الإسلام، قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ]( ).
التاسعة: ذكرت آية البحث صفات المتقين، وذكرت آية السياق الناس بلحاظ أن الآية بيان لهم، وبين الناس والمتقين عموم وخصوص مطلق إذ أن المتقين شطر من الناس، وفيه وجوه:
الأول:إنعدام البرزخ بين الناس والتقوى.
الثاني:ترغيب الناس بالتقوى والخشية من الله عز وجل.
الثالث:جاء البيان في آية السياق بلحاظ حال المتقين، والجزاء الحسن الذي ينتظرهم في الآخرة، وسوء عاقبة المكذبين، ليكون من خصائص بيان القرآن العموم والشمول، وتأكيد التباين في الدنيا والآخرة بين المتقين والكفار.
الرابع: من خصائص الحياة الدنيا إختيار الإنسان لقوله وفعله وان لم يكن هذا الإختيار مطلقاً لفضل الله في تقريب العباد من الفعل الصالح، ومن مصاديق هذا التقريب آية البحث وآية السياق مجتمعتين ومتفرقتين، فقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] رحمة وسبيل هداية للناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن بيان القرآن عام وليس خاصاً بالمسلمين، ولم ينحصر بأهل زمان التنزيل، بل هو متجدد في كل زمان.
ولو تردد الأمر بين إعتبار الألف واللام للجنس أو للعهد فالصحيح هو الأول إلا مع القرينة على إرادة العهد والخصوص، وتتجلى لغة الإطلاق في لفظ(العالمين) في الآية بإنتفاع الناس في كل زمان من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إتساع هذا الإنتفاع بلحاظ أسباب التقارب والتداخل بين الأمصار في النقل ووسائل الإعلام.
لتكون من معاني الرحمة في المقام درء الفتن، ومنع غلبة حمية الجاهلية، والعصبية على مختلف مصاديقها، وتتجلى معاني الرحمة في المقام يبذل المسلمين المال وصبرهم في جنب الله، وكـأن الآية أعلاه حصانة سماوية للناس وأهل الإيمان خاصة في زمان العولمة مع موضوعيتها وبركاتها في أفراد الزمان الطولية من أيام التنزيل وإلى يوم القيامة وفيها ترغيب للناس بالإسلام، والإنفاق في سبيل الله بإعتباره السبيل إلى الإقامة الدائمة في الجنة، والآية أعلاه حجة على الناس في كل زمان.
وعن أبي عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً: بُعثت إلى الأحمر والأسود، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئاً)( ).
العاشرة: بين المسلمين والناس بخصوص الإنتفاع من آيات القرآن عموم وخصوص مطلق، فيشترك المسلمون مع عموم الناس بالبيان الوارد في القرآن، وينفردون بالهداية والموعظة من آياته، وفيه إشارة إلى إمتثال المسلمين لمضامين آية البحث، وإنتفاعهم الأمثل منها، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفيه بيان للمائز الذي يتصف به المسلمون وأن آيات القرآن تزيدهم تقوى، وتجعلهم أكثر خشية من الله، ويستحضرون ذكره عند الهمّ بالحسنة أو السيئة فيأتي بالحسنة طاعة لله، ويتجنب المعصية فراً منها سبحانه، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ]( ).
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ولا ينحصر الإبتلاء فيها بخصوص موضوع أو أوان معين بل هو مطلق في جميع آنات الزمان، فجاء القرآن سلاحاً وسبيل نجاة في أمور الدين والدنيا، وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل وأسباب التخفيف عن الناس، وليس من حصر لهذه الأسباب بل هي توليدية، وكل آية من القرآن سلاح وتخفيف، ومنها آية البحث وفيها نجاة من وجوه:
الأول: هداية المسلمين إلى منازل التقوى.
الثاني:إصلاح المسلمين للبذل والعطاء في سبيل الله.
الثالث:إقامة الحجة على الناس في أهلية المسلمين لمرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالإنفاق والعفو عن الناس.
الرابع: بيان قانون ثابت في الحياة الدنيا، وهو تلقي المسلمين لمناهج السلوك وسنن الأخلاق من الله عز وجل بكتاب سماوي سالم من التحريف والتغيير والتبديل، قال تعالى في الثناء على القرآن[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
الخامس: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين، لأن مبادرة المسلمين للإنفاق أمارة القوة وسبب للمنعة والرفعة، ومن الإنفاق ما يكون في شراء السلاح وتوفير المؤون والمدد للمقاتلين في سوح القتال، وإعانة عوائلهم عند غيابهم في السرايا والرباط في الثغور، تعاهد الأمن والإستقرار في الداخل أخرج البيهقي عن أبي إمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة ، ونفقة الدينار والدرهم منه أفضل من سبعمائة دينار ينفقه في غيره)( ).
السادس: من منافع آية البحث طرد الشح من النفوس، ومنع البخل من الطغيان في المجتمعات.
ويأتي الغيظ مترشحا ومتعقبا ومعلولاً لسبب وعلة وأذى صادر من الغير , فلماذا يتم حبسه , والجواب من وجوه:
الأول: هذا الحبس خصلة من خصال المتقين الذين يخشون الله بالغيب.
الثاني: إختيار كظم الغيظ قربة إلى الله عز وجل.
الثالث: إرادة الطمع بالفوز بالجنة التي أعدها الله للمتقين كما تدل عليه الآية السابقة.
الرابع: الإمتثال لأمر الله عز وجل في نشر شآبيب الرحمة بين الناس.
الخامس: المسلمون أئمة الناس في سبل الخير والصلاح، وجاءت هذه الآية لإصلاحهم للإمامة وتعاهدهم لها , فقد بعث الله ثلاثمائة وإثني عشر رسولاً قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أن الرسل قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وهو رابع أربعة عشر والأول أصح وكان للأنبياء والرسل أنصار وأتباع وأمم تعمل بالأحكام والسنن التي جاءوا بها، ولكن هذا العمل لم يستمر وفق تمام تلك الأحكام، وطرأ التحريف على بعض منها , قال تعالى[ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ]( ).
فأخرج الله عز وجل المسلمين للناس بصفة التعاهد التام للأحكام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تحريف أو تغيير وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فيكون معنى خير أمة في المقام من جهات:
الأولى: إنفراد المسلمين بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي , وفي التنزيل[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى…… مِنْ رَبِّهِمْ]( ).
الثانية: تلقي المسلمين آيات القرآن وما فيها الأوامر والنواهي بالقبول والتصديق، والعمل، ليكون المسلمون الأمة التي جمعت العلم والعمل.
الثالثة: تعاهد المسلمين بأجيالهم المتعاقبة لأحكام الشريعة من غير تبديل ولا تحريف، ليكون المسلمون الأمة التي أوقفت التحريف، وجعلت له حداً، ومنعت من إستدامته، وهذا المنع مستمر إلى يوم القيامة، لذا فإن المسلمين يستحقون صفة(خير أمة) على نحو التجدد والدوام، وهي خصلة تستحق الأمة التي يفوز بها صفة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: حبس الغيظ مطلوب بذاته وهو مقدمة للإمتثال الأمثل للأحكام الشريعة.
السابع: حبس الغيظ برزخ دون التعدي والتفريط أو الإفراط، وهو مناسب لإستدامة فلسفة الوسط في الإسلام.
الثامن: لقد أراد عز وجل للحياة الإنسانية على الأرض أن تستمر وتدوم مصحوبة بالعبادة والخضوع له سبحانه، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فإن قلت ليس من ملازمة بين العبادة وكظم الغيظ، الجواب جاءت آية السياق لتدل على أنه من العبادة ومصداق لمصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل.
لذا فمن أسباب حبس الغيظ أنه عبادة لله عز وجل ورجاء الثواب من عنده تعالى، ومن إعجاز القرآن إخبار الآية السابقة عن تفضل الله بإعداد الجنة للمتقين الذين يحبسون الغيظ , ومنه بعث آياته المسلمين على المحافظة عليها , رسماً وموضوعاً وحكماً .
إعجاز الآية
يبعث إخبار الآية السابقة عن إعداد الجنة للمتقين الشوق في النفوس لأمور:
الأول: بلوغ مرتبة التقوى.
الثاني: صيرورة العبد بالإيمان من الذين أعد الله لهم الجنة، قال تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
الثالث: الفوز بالنعيم الدائم والإقامة في جنة عرضها السموات والأرض، إذ تؤكد الآية السابقة أموراً:
الأول:الملازمة بين التقوى ودخول الجنة.
الثاني:إنعدام الحاجب والبرزخ بين الإنسان والتقوى.
الثالث: تجلي البلاغ والبيان للناس جميعاً عن حتمية النشور، ووقوفهم بين يدي الله للحساب.
ومن الآيات أن المتقين أئمة الناس بالإستعداد للبعث والحساب بتقيدهم بأحكام آية البحث وإخراجهم المال من ملكهم، وصبرهم وإختيارهم العفو عن الناس طاعة الله عز وجل، ورجاء ثوابه والوقاية من عذابه.
الرابع:دخول الجنة جزاء وثواب للعمل الصالح في الدنيا.
ومن خصائص القرآن منع الترديد وطرد الوهم والغفلة، فعندما ذكرت الآية السابقة إعداد الجنة للمتقين , جاءت هذه الآية والآية التالية في بيان وتفصيل صفات المتقين، وتلك آية في الحكمة ولغة البرهان العالية التي يختص بها القرآن والتي تتجلى في كل آية من آياته لتكون رحمة إضافية للناس، وسبباً لإرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة، فكل آية في القرآن تأخذ بأيدي المسلمين إلى الدرجات الرفيعة في التحصيل، وكأنها إجتياز لفصل ومرتبة من المعارف لما فيها من العلوم وظهور تلك العلوم وخلوها من الإجمال والإبهام.
فان قلت: إن في القرآن مجملاً ومبينا، والجواب إن المبين يوضح المجمل ويمنع من الإبهام والخصومة والإشكال، والقرآن يفسر بعضه بعضاَ فما من مجمل في القرآن إلا وقد بيّن في الآيات الأخرى.
وجاءت آية البحث مبينة بذاتها ولذاتها وغيرها من آيات في الموضوع المتحد، ومن وجوه البيان في المقام أمور:
الأول: الإنفاق شرط لبلوغ مرتبة التقوى، فان قلت وإن كان المسلم فقيراً عاجزاً عن البذل والعطاء في سبيل الله، الجواب من جهات:
الأولى: الفقر أمر متزلزل غير مستقر، ومن يكون فقيراً في يوم فانه قد يكون في غيره غنياً وذا سعة، وهو من الإعجاز في مجيء آية البحث بصيغة الجمع [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين ينفقون في السراء والضراء هم المتقون.
الصغرى: المسلمون ينفقون في السراء والضراء.
النتيجة: المسلمون هم المتقون.
الثانية:الإنفاق أعم من بذل المال، فيصح بالسعي في تهيئة مقدماته والترغيب فيه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دعوة الناس.
الثالثة : ليس من حد القلة للإنفاق , فيصدق على الصدقة وإن كانت قليلة .
الثاني : جاءت الآية خطاباً للمسلمين جميعاً، ومن كان منهم فقيراً غير قادر على الإنفاق فهو معذور، وكل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر.
الثالث:من إعجاز الآية أنها لم تحصر صفات المتقين بالإنفاق والبذل بل تضمنت مسائل بمقدور كل إنسان فعلها وهي:
الأولى:كظم وحبس الغيظ.
الثانية: العفو عن الناس، وفيه مواساة للفقير، ودعوة له للإرتقاء في درجات التقوى بالإحسان وإفشاء معني العفو والرأفة وأسباب المودة.
الثالثة: الإحسان إلى الناس بقصد القربة إلى الله تعالى وشكراً له سبحانه على إجتماع نعمة الإيمان والرزق، قال تعالى[وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا]( ).
الرابع:إن ذكر الإنفاق في سبيل الله كصفة ثابتة للمتقين تذكير بوجوبه، وهل يجب تحصيل مقدماته بالكسب والسعي من أجل جمع المال ثم إنفاقه في سبيل الله، الجواب لا، من وجوه:
الأول: القدر المتيقن من الآية الكريمة هو القيام بإخراج المال من الملك والموجود.
الثاني: قاعدة نفي الحرج، وإجتناب المشقة في التحصيل، قال تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الثالث: ما ذكر في علم الأصول بأن السعي لتحصيل مقدمة الواجب ليس بواجب، وقيل ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولكن من حيث ما هو فعل لا من حيث هو حكم.
ومن الإعجاز في المقام أمور:
الأول: من لا يقدر على الإنفاق يتجه نحو الدعاء لنفسه ولغيره.
الثاني: الإستغفار باب للرزق والسعة التي هي مقدمة ودعاء للإنفاق، وعن أبي ذر قال: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الملح من الطعام)( ).
الثالث: جاءت آية البحث بمضامين قدسية إضافة للإنفاق كسبيل للفوز بمرتبة التقوى، وطريق للسعي الحثيث لدخول الجنة.
الرابع: مجيء الآيات والنصوص بالتخفيف عن المسلمين، وسعة وتعدد مصاديق الإنفاق الذي يأتي بسببه الأجر والثواب، وفي المرسل عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنفقتم على أهليكم في غير إسراف ولا إقتار فهو في سبيل الله)( ).
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تكتف بذكر الإنفاق بل بينت لزوم الإنفاق وإن تباينت حال المسلم أو المسلمين من السعة والضيق، وفيه تفقه للمسلمين وإخبار بأنهم سوف يمرون بأحوال من السعة وأخرى على الضد منها، فيجب عليهم التعاضد في سبل تعاهد الإنفاق في سبيل الله، وفيه مسائل:
الأولى: التحلي بالصبر في جميع الأحوال، قال تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ).
الثانية: المواظبة على الإنفاق دعوة للثبات في منازل الإيمان.
الثالثة: فيه طرد لليأس والقنوط من نفوس المسلمين.
الرابعة: تعاهد الإنفاق من مصاديق التقوى، وبيان لصلاح المسلمين لرفع كلمة التوحيد في الأرض، ومائز عقائدي لهم.
وجاء القرآن بذم فريق من الناس لموضوعية الكسب والمصلحة الدنيوية في عباداتهم، وتقومها على النفع والسعة حتى إذا اصيبوا بالبأساء والإبتلاء قنطوا وجحدوا.
وتظهر آية البحث معجزة متجددة ومستديمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله في ميدان الأخلاق والسلوك الحسن، مما يدل على تعدد معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم موضوعاً وحكماً وأثراً، فقد حصلت بعد البعثة النبوية الشريفة أمور كريمة مباركة من جهات:
الأولى: حدوث تغيير نوعي في السلوك بما فيه الصلاح والإصلاح.
الثانية: تجلي الأخلاق الحميدة بأبهى صيغتها.
الثالثة: إحياء سنن الأنبياء ونبذ للعادات المذمومة.
ليبدأ بناء صرح الأخلاق الحميدة الذي يلازم المسلمين ويشع برشحاته على الناس جميعاً إلى يوم القيامة، وهو من أسرار حفظ القرآن وحضوره بين الناس سالماً من التحريف إلى يوم القيامة فليس من أمة أو قوم إلا وينهلوا ويقتبسوا من سنن الأخلاق التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلاَقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب الأخلاق والسلوك بلحاظ آية البحث أمور:
الأول: بدأ دورة حياة جديدة ببيان صفات المتقين والترغيب فيها.
الثاني: جهاد المسلمين لمنع زحزحتهم عن التقوى والخشية من الله.
الثالث:المسلمون أسوة حسنة للناس في الأخلاق الحميدة.
الرابع: إقرار المسلمين بعالم الثواب في الآخرة بسعيهم في منازل التقوى.
الخامس: دعوة المسلمين والناس للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )، ومن الآيات تعاهد المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدوينها وإمتلاء نفوسهم بالرغبة في العمل بمضامينها، فليس ثمة مسافة وفاصلة بين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأي جيل من أجيال المسلمين لتشع أنوار الهداية من آيات القرآن، والتركة الأخلاقية التي خلّفها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات لتكون شاهداً على المدد الإلهي له وللمسلمين إلى يوم القيامة، وفيه مسائل:
الأولى: إنه مدرسة في صلاح المجتمعات.
الثانية: فيه حرب على الظلم والتعدي.
الثالثة: إنه برزخ دون شيوع الفواحش.
الرابعة: هدم أركان الكفر وإستئصال دولته , قال تعالى في منافع المدد الإلهي للمسلمين، والأثر المترتب عليه[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الخامسة: تأديب المسلمين على مصاديق التقوى التي تقودهم إلى النعيم الدائم , ومن فضل الله عز وجل إجتماع القرآن والسنة على تأديبهم وإصلاحهم وحسن المثوى والأمن يوم الفزع الأكبر.
وعن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خلقان يحبهما الله وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبها الله فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، فإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله على قضاء حوائج الناس)( ).
ومن السنن العقائدية في الإسلام التدارك والإنابة لذا جاء في الآية التالية[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ] ( )، ليكون في الإستغفار أمور:
الأول: الإحسان للنفس.
الثاني: إستحضار ذكر الله.
الثالث: فيه زاجر عن الإنغماس في المعصية.
الرابع: الإستغفار سعي إلى الجنة، وسبب لطلب الرزق قال تعالى[اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ]( ).
ليكون الإستغفار مدرسة المعرفة، وشاهداً على تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا.
لقد أطل على الأرض عهد جديد من السنن الأخلاقية بالإنفاق في حال الشدة والعسر، وهو أمر إنفرد به المسلمون من بين أهل الأرض، ليكون رسالة يومية متجددة تدل على الخصال الحميدة التي تترشح عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تعم منافعها الناس جميعاً، فإن قلت قد يأتي الإنفاق وسيلة للجهاد والقتال مع أعداء الإسلام، والجواب إن هذا الإنفاق مقدمة للإصلاح، وجهاد المسلمين لجعل الناس من الذين أعدّ لهم الله الجنة بدخولهم الإسلام، بالإضافة إلى أن هذا الإنفاق سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، ومنعهم من التعدي عن الإسلام.
وصحيح أن الإنفاق جاء في بيان صفات المتقين إلا أنه يدل بالدلالة الإلتزامية على ثبات مبادئ التوحيد في الأرض، وإنحسار الكفر ومفاهيم الضلالة، والمنع من ظهور دولة الشرك.
ولم يكن المسلمون أوان نزول هذه الآية أغنياء، ومع هذا جاءت الآية ببعثهم على الإنفاق مطلقاً في حال الرخاء والشدة، وفيه مسائل:
الأولى: المبادرة إلى الإنفاق حال نزول هذه الآية لعدم وجود قسيم ثالث لحال السراء والضراء، فلابد أن المسلمين أيام نزول الآية قادرون على الإنفاق، على نحو الموجبة الجزئية النسبية كما تجلى في إعانة الأنصار للمهاجرين وأهل الصفة خاصة.
الثانية: عدم إستدامة حال الضراء فلابد من مجيء حال الرخاء، قال تعالى[فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
الثالثة: الإخبار بأن أياماً عصيبة سوف تمر على المسلمين، ويجب عدم التوقف فيها عن الإنفاق والبذل في سبيل الله، الذي هو نوع طريق للنجاة من تلك الأيام .
ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تلقي الأمر بالأنفاق بالقبول مع أنهم في حال من العوز والفاقة، وإدراك حقيقة وهي أن الآية تتضمن معاني البشارة بالغنى والسعة .
وبالإسناد عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا عدي، أسلم تسلم” فقلت: إني من أهل دين قال: “أنا أعلم بدينك منك”، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: “نعم ألست من الرَّكُوسِيَّة( )، وأنت تأكل مرباع قومك؟” قلت: بلى قال: “فإن هذا لا يحل لك في دينك” قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: “أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له، وقد رَمَتْهم العرب.
أتعرف الحيرة؟” قلت: لم أرها، وقد سمعت بها قال: “فو الذي نفسي بيده، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعِينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد .
ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز” قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: “نعم، كسرى بن هرمز، وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد”
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها)( ).
وكذا بالنسبة للعفو عن الناس فان فيه إشارة لغلبة المسلمين، وظهور دولتهم، وإمكان البطش والإنتقام من أعدائهم والذين قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم، ولكن الأمر الإلهي نزل بالعفو العام عن الناس على نحو الإطلاق والعموم ، وفيه حجة بأن دين الإسلام لم ينتشر بالسيف، وفيه مسائل:
الأولى: بعث وإشاعة الأخلاق الحميدة بين أهل الأرض.
الثانية: إنتشار وسيادة لروح التسامح والعفو بين الناس إذ يقتبس الناس من علوم القرآن وسنن الإسلام وأخلاق المسلمين.
الثالثة: فيه مناسبة لتدبر الناس بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية.
الرابعة: بعث الشوق في النفوس لدخول الإسلام لأنه دين الإنفاق وحبس الغيظ والعفو عن الناس.
ولم تجتمع هذه الصفات الحميدة في أمة مثل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا فاز المسلمون بصفة[خَيْرَ أُمَّةٍ] وتتجلى علة هذا التفضيل، بوجوه:
الأول: حاجة الناس إلى المسلمين.
الثاني: حسن سمت المسلمين وما فيه من أسباب الجذب.
الثالث: نشر المسلمين مفاهيم الصلاح والود وهي بذاتها جهاد في سبيل الله , قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] أن المؤونة والنفقة على الذات والعيال من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة، فتصير قليلة في حال الضراء بحيث يكون هناك زائد للإنفاق لأنه سبب للسعة وزوال الضيق.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخذ البيعة يوم العقبة من الأنصار بالنفقة في حال الرخاء والشدة مع ملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها وبشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار بأن الثواب هو اللبث الدائم في النعيم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( )، لبيان حقيقة وهي الملازمة بين الإيمان والإنفاق وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ دخول المسلمين في الإسلام مع أنه يأمر بالبذل والعطاء، ويحرم الربا والمكاسب الباطلة، ولكن البذل في الإسلام ليس من غير عوض بل له عوض في الدنيا والآخرة، وعاجل وآجل.
وورد بالإسناد عن جابر بن عبد الله أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتَّبِعُ الْحَاجَّ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ وَبِمَجَنَّةٍ وَبِعُكَاظٍ وَبِمَنَازِلِهِمْ بِمِنًى مَنْ يُؤْوِينِي مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ الْجَنَّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَيُؤْوِيهِ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ مِنْ الْيَمَنِ أَوْ زَوْرِ صَمَدٍ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ وَيَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ فَيُؤْمِنُ بِهِ فَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى دَارٌ مِنْ دُورِ يَثْرِبَ إِلَّا فِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ ثُمَّ بَعَثَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَّا
فَقُلْنَا حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ فَدَخَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ يَا ابن أَخِي إِنِّي لَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وُجُوهِنَا قَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ
قَالَ تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنَّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ
فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ)( ).
ومن إعجاز الآية تضمنها البشارة بالجنة للذين يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس قربة إلى الله، لأن ذكر الجزاء والثواب العظيم للعفو سبب لقهر النفس، ومنعها من الغضب والعقاب طمعاً بالثواب وخشية فواته، ووقوع الذم والعقاب، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(ينادي مناد يوم القيامة من له أجر على الله عز وجل فليقم، فيقوم العافون عن الناس ثم تلا قوله تعالىفَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ( ).
وقد ورد لفظ(يحب) و(لا يحب) إحدى وأربعين مرة في القرآن كلها في حب الله تعالى ، بإستثناء واحدة وردت على نحو الإستفهام الإستنكاري بقوله تعالى[أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ]( )، وجاء ثلاثاً وعشرين مرة بالنفي(لا يحب) في بيان بغض الله عز وجل للكافرين والظالمين , وقد بدأ هذا اللفظ في نظم القرآن بقوله تعالى[وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
إن إختصاص لفظ(يحب) بالله في القرآن إعجاز يدل على أنه كتاب الله النازل منه سبحانه، وأن الإعجاز عن حبه تعالى ونفيه له موضوعية في النشأتين .
وفيه ترغيب للناس بالسعي إلى مواطن حب الله، وإجتناب أسباب بغضه وعدم حبه، فإن قلت إن لفظ(لا يحب) ورد في القرآن أكثر من(يحب الله) والله عز وجل هو الرؤوف الرحيم، (عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما خلق الله آدم عطس، فألهمه الله ربه أن قال: الحمد لله قال له ربه: يرحمك الله، فلذلك سبقت رحمته غضبه)( ).
والجواب من وجوه:
الأول: جاءت آيات أخرى بذكر حب الله عز وجل للمؤمنين وأهل الصلاح بصيغة الجملة الخبرية والإنشائية والشرطية منها، قوله تعالى[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ]( )، ومن يحببه الله عز وجل يجعل له القبول في الأرض فترى الناس تميل إليه وتنصت له ليكون هذا الميل مقدمة لنشر أحكام الشريعة، ومن أسماء الله(الودود).
ومن معاني الودود أنه تعالى يتحبب إلى العبد الذي يعرض عن طاعته، ولم يلتفت إلى التنزيل وما فيه من الأوامر والنواهي، وقيل من معاني الودود(المحب لأوليائه)( ).
ولما بينت هذه الآية خصال المتقين أختتمت بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، لبيان حقيقة وهي الملازمة بين أمور:
الأول: الملازمة بين التقوى والإحسان.
الثاني: الملازمة بين الإحسان وحب الله.
الثالث: الملازمة بين التقوى وحب الله.
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بأن الإنسان يفسد فيها ويسفك الدماء، جاء الرد من الله سريعاً بأنه يعلم ما لم يعلمه الملائكة من أسرار الغيب ومراتب تقوى المسلمين وأنه سبحانه يحب المحسنين وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، بلحاظ ترتب حبه تعالى للعبد على فعل وإحسان وصلاح العبد , ومن مصاديق هذه الحجة البالغة والقاطعة , وفوز المسلمين بمرتبة حب الله لهم أمور:
الأول: تحلي المسلمين بمفاهيم التقوى.
الثاني: إخلاص المسلمين العبادة لله، ومنه مسارعتهم إلى الإستغفار وفعل الصالحات التي وردت في آية البحث بقصد القربة إلى الله سبحانه .
الثالث: تعاون وتعاضد المسلمين لنيل مرتبة حب الله لهم، وترشح بركات هذا النهج على أهل الأرض على نحو متجدد إلى يوم القيامة، وهو من أسرار وفلسفة بقاء القرآن سالماً من التحريف ما دامت الدنيا، وثبات المسلمين في مسالك الهداية والرشاد وسنن التقوى من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الإعجاز شمول الإنفاق لحال الضراء والشدة، وفيه نكتة عقائدية من جهات:
الأولى: بعث اليأس في قلوب الكفار من لحوق الضعف والوهن بالمسلمين لأن الأمة التي تواظب على الإنفاق حتى في حال الشدة والبأس لن تصاب بالضعف.
الثانية: منع الكفار من السعي لإلحاق الأذى بالمسلمين وقصد إصابتهم بالضراء والشدة كمقدمة لمنعهم عن الإنفاق، لتكون آية البحث من عمومات قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثالثة: حصانة المسلمين من الضرر الذي يأتي من الكفار، بالتعاون والتكافل بالإنفاق حتى في حال الشدة والعسر، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابعة: الأمر الإلهي للمسلمين بالإنفاق وبصيغة الإطلاق موضوع للوحدة ونبذ للفرقة، وواقية لهم من الهلكة والضعف، كما يتجلى بيانه بقوله تعالى[وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
ومن إعجاز الآية بعث المسلمين على الإنفاق حال نزول الآية وإنعدام الفترة في العمل بأحكام الآية بين كل من:
الأول: أوان نزول الآية وإبتداء العمل بها.
الثاني: الأفراد الطولية لأزمنة العمل بأحكام الآية.
الثالث: إتصال العمل بأحكام الآية الكريمة في عموم الأمصار والآفات , فليس من قسيم ثالث لحال السراء والضراء، ولكن لكل واحدة منهما مراتب متباينة وهو ما يسمى بالكلي المشكك.
وأراد الله عز وجل تأديب المسلمين في التقيد بقوانين التقوى وإن تباينت صروف الزمان، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا من فتنة السراء أخوَف عليكم من فتنة الضراء إنكم قد ابتليتم في فتنة الضراء فصبرتم و إن الدنيا خضرة حلوة)( ).
ويجمع الحديث أعلاه البشارة والإنذار بصيغة التداخل الموضوعي بينهما، وهو من الإعجاز في السنة النبوية، إذ يخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن إقبال الدنيا على المسلمين ويدعوهم إلى تعاهد الإنفاق والصبر والأخلاق الحميدة.
وآية البحث مصداق لفلسفة الإبتلاء والإمتحان في الحياة , وسفير سماوي للترغيب بالصالحات منطوقاً ومفهوماً وإخباراً ووعداً، قال تعالى[الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
ومن منافع الآية الكريمة أمور:
الأول: دفع الجهالة والغفلة عن المسلمين.
الثاني: إختيار المسلمين كظم الغيظ، وإتيانه عن رضا وقصد القربة إلى الله عز وجل.
الثالث: رجاء المسلمين الثواب العظيم بحبس الغيظ، وترك الإنتقام بلحاظ أن هذا الترك طاعة لله عز وجل.
الرابع: إستيلاء المسلم على جوارحه في مرضاة الله، وإجتنابه الإضرار بالذات والغير، إذ أن إظهار الغيظ، وإطلاق العنان للسان والجوارح في صيغ الإنتقام أمر قبيح ولا يخلو من أضرار.
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأشبح عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة)( ).
وصحيح أن الحديث أعلاه جاء على نحو القضية الشخصية إلا أنه يتضمن مسائل:
الأولى: بيان حب الله عز وجل للحليم والمتأني وأن كلاً من الحلم وطول الأناة من صفات الرشد وطرق الهداية وأسباب الصلاح.
الثانية: ترغيب المسلمين بكل من الحلم والصبر والتأني، وبعث الشوق في النفوس لإحراز حب الله، وهو من خصائص التقوى وبلوغ مراتبها , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة: تجلي حقيقة وهي تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين أشخاصاً متفرقين، وأمة مجتمعة، وحثهم على مكارم الأخلاق , وهو من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)( ) .
بلحاظ ترشح هذا التأديب على المسلمين، فيكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسطة بين الله والمسلمين، في باب التأديب والصلاح مثلما يقوم بإخبارهم بالوحي والتنزيل وتكون سنته الشريفة مرآة لمكارم الأخلاق.
الرابعة: إمكان تحلي المسلم بالحلم والأناة وأن إجتماعهما عنده أمر ليس بالعسير.
الخامسة: كظم الغيظ فرع الحلم، مما يدل على أن صفات المتقين التي ذكرتها آية البحث قريبة من المسلمين وغير متعذرة عليهم أصولاً وفروعاً، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ)( ).
السادسة: تأكيد قانون ثابت وهو أن الحلم عز ورفعة، والأناة مصداق للحكمة والمعرفة، وأن سرعة الغضب والتعجل في الأمور ذل وشين وباب للوقوع بمستنقع الندم ومشقة التدارك.
ترى لماذا ذكرت الآية حال السراء والضراء، فيه وجوه:
الأول: الإطلاق الزماني والمكاني للإنفاق، فليس من حال أو زمان يفتر أو يتعطل فيه الإنفاق.
الثاني: يمكن تسمية الدنيا بأنها(دار الإنفاق) لأن الإنفاق في سبيل الله يصاحب المؤمنين والناس في جميع أحوالهم، أما ملازمته للمؤمنين فلمبادرتهم للإنفاق في كل الأحوال، وأما الناس فإن قيام أغنياء المسلمين بالإنفاق رحمة بهم جميعاً مع إختلاف مذاهبهم ومشاربهم، خصوصاً وأن الآية لم تقيد أو تحصر الجهة التي يتم الإنفاق عليها فإن قلت من الإنفاق في سبيل الله البذل على قتال الكفار، وشراء السلاح والمؤن لقتالهم.
والجواب من جهات:
الأولى: هذا الإنفاق نفع وخير محض لهم في الدنيا والآخرة لأنه دعوة عملية صادقة لجذبهم إلى منازل الإيمان.
الثانية: إقامة الحجة على الكفار بوجود أمة مؤمنة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: بيان المائز الذي يتصف به المسلمون، وإدراك حقيقة وهي حتمية ظهور الإسلام لأن البذل والإنفاق من مقدمات وأسباب النصر.
الرابعة: حمل الكفار على دخول الإسلام، والتخلي عن الكفر، ومن الأحكام الشرعية في باب اللباس، حرمة لباس المسلم الغني وبحبوحة العيش، وفيه ترغيب للكفار في الإسلام.
الخامسة: سلامة مجتمعات المسلمين من الأخلاق المذمومة كالبخل والشح، وعصمتهم مما يأمر به الشيطان , قال تعالى[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ]( ).
ليتجلى اللطف الإلهي في إطلاقات الإنفاق في هذه الآية ولزوم المبادرة إليه في الشدة والرخاء.
ومن إعجاز الآية الوعد الكريم من الله بالرزق في حال الشدة والرخاء إذ أن الأمر بالإنفاق يدل بالدلالة الإلتزامية على الرزق الكريم والعوض من عند الله، قال تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ومن إعجاز آية البحث أمور:
الأول: تضمنها لعدد من مصاديق التقوى مع قلة كلماتها، لتكون كل كلمة منها مدرسة في الفقه والأخلاق الحميدة، وواقية من الكدورات.
الثاني: ذكر الآية لمصاديق التقوى بصيغة البعث إليها وإستحضار قانون سماوي بأنها طريق إلى الجنة الواسعة إن ذكر عرض الجنة بما يفوت التصور الذهني يغني عن ذكر الطول.
الثالث: مجيء الآية بلغة النص الذي يفيد الوضوح، ويخلو من الإجمال، ويمنع من الترديد واللبس والإيهام.
الرابع: بيان قانون ثابت من رحمة الله، وهو الفوز بالكثير الدائم بإتيان القليل المنقطع.

الخامس: إقامة الحجة على الناس بأن الجنة قريبة منهم، وليس من برزخ وحاجز بينهم وبينها، نعم قد يجعل الإنسان هذا الحاجز بإختياره الكفر والضلالة، وإمتناعه عن التحلي بالتقوى ومصاديقها، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
ومن فضل الله عز وجل في هذا الباب أن هذا الحاجز متزلزل وغير ثابت فقد تهجم عليه التوبة بأي لحظة لتجده سراباً لا أصل له، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
السادس: إرادة سعي المسلمين مجتمعين ومتفرقين في أبواب الخير والصلاح.
السابع: بيان حقيقة وهي لزوم مصاحبة الإحسان للتقوى، وأن الإسلام نظام متكامل من عبادات ومعاملات وأحكام وسنن في باب الأخلاق والإقتصاد والصبر.
الثامن: الإتيان بمصاديق الآية شاهد على التسليم بالمعاد واليوم الآخر وعالم الثواب والعقاب، وقد وردت الآيات بلزوم إعلان الإيمان باليوم الآخر كما في قوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وجاءت آية البحث لتؤكد حقيقة وهي إتيان المسلمين المصاديق العملية التي تؤكد إيمانهم هذا , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسع: مجيء الآية بلغة الترغيب بالعمل بمضامينها من جهات:
الأولى: تعقب الآية لذكر الجنة، والإخبار عن سعتها لقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ].
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه ذكرت عرض الجنة وهو أقل من الطول مما يدل على أنها أوسع وأكبر من السموات والأرض، وفيه تحد للذين يكتشفون معالم وطرقاً في السماوات، وإخبار الناس في الأزمنة السابقة واللاحقة بأن سعة الجنة من اللامتناهي وما يترشح عن العلوم التقنية والإكتشافات المستحدثة تأكيد لهذه الحقيقة, وهو نوع ترغيب إضافي بما يزيد الإيمان من وجوه:
الأول: إتخاذ العلم وسياحة العلماء في عالم الفلك وأسرار في الأجرام السماوية وسيلة عقلية وحسية على التوحيد.
الثاني: إستدامة الإعجاز في بيان القرآن لسعة الجنة، بما يعجز معه العلماء في أفراد الزمان الطولية عن درك كنه وعرض الجنة، فضلاً عن طولها.
الثالث: تأكيد حقيقة عدم التعارض بين الإيمان والعقل والعلم.
الثانية: البشارة بالعوض والخلف من عند الله عز وجل على الإنفاق، فإذا أمر الله سبحانه بالإنفاق فإنه سبحانه كفل مادته وموضوعه وهيئ مقدماته وهو الضامن للخلف والبدل، ويكون هذا البدل موضوعاً جديداً للإنفاق، ليستقرأ قانون دائم وهو: بالإنفاق يدوم ويتجدد الإنفاق.
الثالثة: صبغة الثناء والوصف الحسن للعاملين بأحكام هذه الآية.
الرابعة: دعوة المسلمين للتسابق والتنافس في الإنفاق، وحبس الغيظ، ومراتب العفو عن الناس، قبل ضيافة هادم اللذات القهرية.
وورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يقول العبد يا ملك الموت! أخرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي وأتوب وأتزود فيها صالحاً لنفسي ، فيقول : فنيت الساعات فلا ساعة)( ).
فجاءت آية البحث ليفعل المسلم الصالحات في حياته، بالإنفاق وعند طرو أسباب الغيظ، وإختيار العفو، والمبادرة إلى سبل الإحسان، لإختتام آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]، ويحصل كل فرد من أفراد الآية أعلاه في اليوم والليلة وفي السوق والعمل والبيت والمسجد، ليستوفي المسلم أسباب الثواب في الدنيا ويسوق أمامه إلى الآخرة كنزاً من الصالحات يكون مفتاحاً وطريقاً إلى الجنة.
الرابعة: سهولة ويسر الإمتثال للسنن الواردة في هذه الآية، وإنتفاء الحرج فيها، ومن الإعجاز فيها قدرة كل مسلم على الإمتثال لأحكامها، فإن قلت سلّمنا بقدرة المسلم والإنسان مطلقاً على كظم الغيظ والعفو عن الآخرين، ولكن الإنفاق يحتاج إلى مال لبذله وإعطائه، والأصل أن يكون هذا المال زائداً عن المؤونة والضروريات للذات ولواجبي النفقة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله)( ).
والجواب من جهات:
الأولى: من أسباب الترغيب في الآية الإطلاق في الإنفاق، وصدق إنطباقه على القليل والكثير، قال تعالى[لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
الثانية: الفوز بالأجر والثواب على السعي في الإنفاق، وصيرورة الإنسان واسطة فيه، وترغيب الناس بالبذل والعطاء في سبيل الله، عن الإمام الصادق، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وآله قال: الدال على الخير كفاعله)( ).
الثالثة: إنفاق المسلم على عياله بمنزلة الإنفاق في سبيل الله، لما فيه من تنمية لملكة الإيمان، وطرد لشبح الجوع والحاجة .
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَفْضَلَ دِينَارٍ دِينَارٌ أَنْفَقَهُ رَجُلٌ عَلَى عِيَالِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)( ).
ومن الإعجاز في الحديث أعلاه التعدد في وجوه الإنفاق، فلم يحصره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بباب مخصوص بل شمل الإنفاق على العيال، ومؤونة المسلم على نفسه في مرضاة الله، أو على أصحابه .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (في سبيل الله )، أعم من أن ينحصر بالقتال والدفاع في سبيل الله بل يشمل نشر معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين والتمسك بأحكام الشريعة وإتيان الفرائض والمناسك، كما لو كان الإنفاق على الدابة أو الأصحاب في طريق الحج وجاء ذكر الدابة لإرادة المعنى الأعم من واسطة النقل كالسيارة، ومستلزمات ومقدمات أداء الطاعات.
العاشر : إختتام الآية بالإخبار عن حب الله للمحسنين، وفيه مسائل:
الأولى: المتقون محسنون.
الثانية: كل فرد من أفراد آية البحث إحسان وخير محض.
الثالثة: حث المسلمين على التقيد بأحكام هذه الآية في كل الأحوال، وإجتهادهم في تحقيق مصاديقها.
الرابعة: تأكيد قانون من رحمة الله وهو أن منافع مصاديق التقوى تشمل الدنيا والآخرة، وهو من الشواهد على أن التقوى أعم من مضامين هذه الآية المباركة، وأن ذكر المتقين في الآية السابقة بقوله تعالى(أعدت للمتقين) يدل على وجوب سعي المسلمين مجتمعين ومتفرقين لمراتب التقوى بإتيان الواجبات العبادية.
وهل مضامين هذه الآية من أصل ومصاديق التقوى، أم أنها أفراد إضافية للتقوى.
الجواب هو الأول، وفيه مسائل:
الأولى: المندوحة والسعة في مصاديق التقوى.
الثانية: التداخل بين أفراد التقوى وإن إختلف حكمها بين الوجوب والإستحباب، وتباين موضوعها بين العبادات والمعاملات والأحكام والأخلاق.
الثالثة: بيان فضل الله عز وجل ولطفه بالناس في تقريبهم إلى منازل التقوى، ودنوها منهم، وإنتفاء العسر والحرج في بلوغها، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، وجاءت الآية أعلاه بنعت الرحمة التي هي(مؤنثة) بصيغة التذكير(قريب) وهو أمر قليل نادر في القرآن، ولا بد له من دلالات وتأويل إلى جانب تفسيره لغة وصرفاً الذي ذكرت فيه أكثر من عشرة أقوال، منها:
الأول: إرادة معاني المسافة كما يقال: المحلة قريب منا، قال تعالى[وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ]( ).
الثاني: قوله تعالى(قريب) صفة لموصوف محذوف، أي أنه أمر قريب من المحسنين.
الثالث: التذكير بإعتبار المعنى، وأن الرحمة مصدر بمعنى الرحم.
الرابع: المراد من رحمة في المقام الإحسان , وتقدير الآية: إن إحسان الله قريب من المحسنين) .
والقرب عنوان الدنو المكاني والمجاورة , ويطلق على الرجاء على نحو المجاز، وجاءت الآية أعلاه لإرادة المعنى الحقيقي والمجازي للفظ.
وهو من الأمثلة على القسيم الثالث الذي جعلناه للحقيقة والمجاز، وقلنا بالمعنى الأعم الشامل لهما بأن يأتي اللفظ القرآني جامعاً للحقيقة والمجاز، ويتجلى في المقام بالإطلاق في فضل الله وسعة رحمته بالمسلمين، وبعثهم على فعل الخيرات، ومنها مضامين آية البحث والمراد من لفظ(المحسنين) هم المسلمون لإحسانهم لأنفسهم ولغيرهم، بإختيارهم الإيمان وسعيهم في طاعة لله.
الرابعة: لما كانت الجنة في سعتها من اللامتناهي فإن الله عز وجل جعل السعي إليها مطلقاُ وغير مقيد في ماهيته وموضوعه زماناً ومكاناً.
الخامسة: الترغيب بالإجتهاد في سبل التقوى.
السادسة: منع طرو الشك والتردد في مصاديق التقوى، فقد يحول الشك في المقام دون إغتنام الفرص المؤاتية لإتيان بعض الصالحات، أو يسبب في تأخيرها وهو خلاف قوله تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
السابعة: الحصانة من أهل الجدال والريب الذين يسعون لصد المسلمين عن وظائفهم في التقوى، وإجتهادهم للفوز بالجنة، ومن إعجاز آية البحث أنه بعد بيان الآية السابقة لسعة الجنة وبما لا يخطر في التصور الذهني قبل إخبارها وبعده، فكل شيء في عالم الإمكان يصبح موجوداً في الذهن بعد الإخبار عنه وبيان معالمه بالعلم التفصيلي أو العلم الإجمالي الملحق به، إلا ما يخبر عند الله من اللامتناهي الذي تعجز عقول البشر عن إدراك كنهه، ومنه سعة الجنة، بدليل ترك الآية السابقة للبعد الأطول في مساحتها وهو الطول من غير ذكر له في هذه الآية أو الآيات الأخرى من القرآن , وهو من كرم الله عز وجل وعظيم وعده الكريم للمؤمنين، إذ أنه تفضل بذكر البعد الأقصر للجنة وبيّن أنه من اللامتناهي، ليعجز الناس عن إستحضار طول وسعة الجنة في الوجود الذهني.
وفي قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا]( )، قال ابن كيسان : عنى به جنّة واحدة من الجنان)( ).
ومن وجوه البيان في المقام أمور:
الأول: ذكر القرآن لعرض الجنة مرتين دون ذكر طولها.
الثاني: ورود ذكر عرض القرآن على نحو التشبيه، في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الثالث: الإخبار عن إعداد الجنة للمتقين من الناس دون غيرهم.
الرابع: الإشارة إلى أن الجنة مخلوقة، وهو مشهور العلماء والمختار، إذ تأمر الآية بالمسارعة إلى الجنة وتخبر عن تقدم زمان إعدادها.
ترى ماذا يفيد إجتماع الإخبار بلغة التشبيه عن عرض وسعة الجنة كما في الآية أعلاه، والإخبار بلغة الأصل الخالي من التشبيه، فيه وجوه:
الأول: نسبة التساوي والتماثل بينهما.
الثاني: غلبة التشبيه للتباين في أفراد العوالم الطولية، فالسموات والأرض في الحياة الدنيا، والجنة في الآخرة، قال تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
الثالث: إرادة الإخبار عن صيرورة الجنة في الفضاء الذي كانت فيه السموات والأرض، قال السدي : كعرض سبع السموات وسبع الأرضين)( ).
الرابع: ذكر عرض الجنة من تقريب القرآن للمعقول بلغة المحسوس، لأن الناس يرون الأرض والسماء وما يفيد الإتساع، والتقدير: كعرضها السموات والأرض وطولها أعظم).
الخامس: من إعجاز القرآن ذكر المعقول بلغة الحسي القريب، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )،فجاء الإخبار عن التساوي بين عرض الجنة وعرض السموات والأرض، وفيه مسائل:
الأولى: تقريب المعنى ومفهوم سعة الجنة إلى أذهان الناس عامة والمسلمين خاصة.
الثانية: ترغيب الناس بالجنة والسعي إليها.
الثالثة: بيان فضل الله عز وجل على الناس في الآخرة، فلم يخبر القرآن عن كون الجنة تسع المتقين، أو أنها تتسع مع كثرتهم، بل جعل الله عز وجل سعتها من اللامتناهي قبل أن يخلق آدم وهو من عمومات إحتجاجه تعالى على الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض وقولهم أن هذا الجعل سبب لفساد الإنسان وسفك للدماء، إذ رد الله عز وجل عليهم بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله في المقام أمور:
الأول: خلق الجنة قبل خلق آدم.
الثاني: إخبار القرآن عن سعة الجنة، وإن عرضها السموات والأرض.
الثالث: إن موضع سكن الجنة وهو السموات مع سعته سيكون مثوى دائماً لآدم وذريته من المتقين.
الرابع: صيرورة الإخبار القرآني عن سعة الجنة ترغيباً للناس بالعمل الصالح، وبعثاً للنفرة في نفوسهم من الفساد وسفك الدماء.
ومن إعجاز الآية التحلي بالآداب الحسنة والأخلاق: جمع خُلُق وهو ملكة نفسانية تصدر عنها الأقوال والأفعال بسهولة ويسر من غير تدبر وتفكر وتأمل، وتعزف معها النفس عن العادات الذميمة، والأفعال القبيحة.
روي أن لما نزل على النبي محمد صلى عليه وآله وسلم قوله تعالى[خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، سأل جبرائيل عن ذلك فقال لا أدري حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك)( ).
ومن إعجاز الآية الكريمة أنها شاهد سماوي على صبغة الأخلاق الحميدة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، فإن أظهر أحد المسلمين الشح أو الغضب وحب الإنتقام فإن الآية تدعوه للعودة إلى خلق القرآن، وتعلن تبرأ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل من الأخلاق المذمومة، وتحث الناس على دخول الإسلام، وتعاهد هذه الأخلاق، والقيام بوظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصدق هذه التسمية على المسلمين في كل زمان، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تدرون ما يقول الأسد في زئيره يقول اللهم لا تسلطني على أحد من أهل المعروف)( ) أخرجه الطبراني, وفي الحديث مسائل:
الأولى: إبتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث وسؤال أصحابه عن موضوع لم يطرأ على التصور الذهني، وهو مضمون كلام الأسد.
الثانية: قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجواب على سؤاله، وفيه غاية التأديب والإرشاد للمسلمين إذ يصدر السؤال والجواب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الوقت.
الثالثة: الإخبار عن معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلام السباع وهذه المعرفة تحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة القضية الشخصية كما لو أخبر جبرئيل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عما يقوله السبع وقد وردت أخبار عديدة عن بعض الأئمة والصالحين أنه يمر على السبع بسلامة وأمن.
الثاني: إرادة الإطلاق في معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأقوال السباع مطلقاً.
الثالث: موضوعية الوحي وإخبار الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحيوان والنبات والحجر.
الأمر الخامس: صدق تسمية المسلمين بالمنفقين على نحو العموم الإستغراقي الشامل لهم جميعاً.
الأمر السادس: قيام المسلمين بالإنفاق على نحو العموم المجموعي وبذلهم في سبيل الله مجتمعين ومتفرقين.
الأمر السابع: توارث المسلمين لهذه التسمية وتعاهدهم لها، وهو من العلم والعمل الذي يتوارثه المسلمون.
الأمر الثامن: إتخاذ المسلمين الاسم والمسمى(للمتقين) وسيلة وطريقة للبث الدائم في الجنة، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الأمر التاسع: تأكيد المسلمين بأنهم المتقون بمسارعتهم في الخيرات والإنفاق في السراء والضراء.
الأمر العاشر: عدم صيرورة الضراء والشدة والضيق سبباً لمغادرة اسم (المنفقين) للمسلمين، إذ أنهم يحرصون على البذل والإنفاق في أشد الأحوال مثلما ينفقون في حال الرخاء والسعة.
ويمكن تسمية الآية الكريمة بآية (الكاظمين الغيظ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
مفهوم الآية
كل آية من القرآن مدرسة أخلاقية، وواقية من الرذائل والعادات المذمومة، وتتجلى هذه المعاني في منطوق ومفهوم الآية، ويرتقي المسلمون بآيات القرآن إلى مرتبة معرفة أحكام الآية ودلالات المنطوق، والإشارات والمعاني التي يدل عليها المفهوم، وفيه مسائل:
الأولى: الملازمة بين الإسلام والإنفاق، فمن يختار الإسلام يتوجه له الخطاب الإلهي باخراج الصدقات الواجبة والمستحبة، وقد يظن بعضهم أنه سبب لصد وإعراض فريق من الناس عن الإسلام، ولكنها شبهة بدوية والواقع بخلافها، ويدل عليه قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
الثانية: مع دخول الإسلام تأتي التكاليف البدنية كالصلاة والصوم، والمالية كالزكاة والخمس، والبدنية المالية كالحج والعمرة، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الإمتثال للأوامر الإلهية في العبادات والمعاملات لا ينحصر بالمرة أو التكرار، بل لابد من الإمتثال المتعدد والمتجدد كما في الصلاة اليومية وأدائها خمس مرات في اليوم، والزكاة الواجبة التي تؤدى كل عام بقيد تحصيل النصاب.
نعم قد يرد دليل خاص بالإكتفاء بالمرة الواحدة كما في الحج، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، وورد الإجزاء بالمرة الواحدة بالنسبة للمكلف المستطيع النص والإجماع.
وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس .
فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ .
قال: لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فتطوّع)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شوق المسلمين للتكاليف، وأداؤهم لها برضا وإستبشار لمعرفتهم بوجوبها وعظيم نفعها في النشأتين.
الثالثة: تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول: المتقون.
الثاني: غير المتقين.
وجاءت آيات أخرى تقسم الناس بلحاظ الإيمان والعلم، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )، وبينما ينحصر موضوع التقوى، ويستبين المتقون بعملهم وإنفاقهم في سبيل الله، فان غير المتقين سور السالبة وموضوع تدخل تحته عناوين متعددة، وجاءت الآية ليثبت المتقون في مراتبهم ويزدادوا يقيناً، وينجذب فريق من الناس إلى منازل التقوى، فمن إفاضات القرآن أن المتقين في إزدياد، ليصاب غيرهم من الملل الأخرى بالنقص والوهن.
وتتجلى الزيادة في عددهم، بلحاظ سعة الجنة في الآية السابقة بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابعة: مع إمتياز المسلمين بالإيمان والتصديق بالنبوات فانهم لا يختلفون عن عموم أهل الأرض بالإبتلاء بحال الشدة والضيق لقوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ].
وفيه إصلاح للمسلمين لتحمل حالات الشدة والعسر، والإرتقاء لمراتب الصبر في مرضاة الله.
إن إقتران التذكير بالآخرة والترغيب بالجنة في التنزيل مع سلامته من التحريف أمر إختص به القرآن، ويبعث على التفكر في ماهية الحياة الدنيا، وتقلبها بأهلها، وضروب الإبتلاء على قاطنيها وكيف أنها تتخلى عن الأكابر والأصاغر، وتخرجهم من رحابها وظاهرها إلى باطنها بلا عودة، ولكن الله عز وجل هو رب الدنيا والآخرة الذي يبقي الذكر الحسن للمؤمن في الدنيا وهذا الذكر باب للأجر والثواب الإضافي.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا خضرة حلوة؛ من إكتسب فيها مالاً من غير حله وأنفقه في غير حله، أحلّه دار الهوان، ورُبَّ متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش)( ).
الخامسة: بيان التنافي بين الإيمان والبخل، ودعوة المسلمين إلى البذل والعطاء في سبيل الله، وهل يدخل في الآية إقراء الضيف الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الإنفاق في آية البحث هو إخراج الحقوق الشرعية والجهاد بالمال في سبيل الله إلا أن يدخل إكرام الضيف بقصد تعظيم شعائر الله، والأمر بالمعروف، ومقدمات الصلاح ودرء الفتنة قال تعالى[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
وقد جاء الترغيب في إطعام الطعام وبيان حسن عاقبته وجزيل ثوابه بما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الناس إفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)( ).
وقد ورد ذكر دخول الجنة في الحديث أعلاه، وبينه وبين إعداد الجنة وجهان:
الأول: نسبة التساوي بين الذين أعدّ الله لهم الجنة والذين يدخلونها.
الثاني: نسبة العموم والخصوص المطلق وإن الذين يدخلون الجنة بفضل الله أعم من المتقين الذين أعد الله لهم الجنة، ولا يدل الحديث النبوي أعلاه على الوجه الثاني لأن الحديث موجه بصيغ الخطاب إلى المسلمين مما يدل على أنه تفسير وتفصيل لآية البحث، وبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في تعدد سبل دخول الجنة , قال تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
وتتجلى معني التباين بين الإيمان والبخل من وجوه:
الأول: يبادر المسلم إلى الإنفاق إمتثالاً للأمر الإلهي.
الثاني:يرجو المسلم الجزاء والبدل في الإنفاق، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالث: رؤية المسلمين المصاديق القريبة للجزاء والثواب العاجل على الإنفاق في كثرة المال وصرف البلاء.
الرابع: تجلي المنافع والمصالح العديدة بالإنفاق في سبيل الله.
الخامس: إتخاذ الإنفاق مقدمة ومادة للمنعة والقوة، ووسيلة لدفع الأذى والضرر، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
السادس: تفقه المسلمين ومعرفتهم للقبح الذاتي والعرضي للبخل، وتلك المعرفة واقية منه.
لقد جاء القرآن والسنة بذم الدنيا، والتحذير من صرف الوجه إليها، وإعطائها الأولوية في الهمّ والفعل، ليكون هذا الذم واقية للمسلمين من الإنشغال عن ذكر الله، والوظائف العبادية، ومنها الإنفاق في سبيل الله، والسعي الحثيث للجنة وتولي المسلمين الإمامة للناس في الصلاح والرشاد، ومقدمة للأمر بالمعروف والنهي أن المنكر.
وعن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيها الناس أقبلوا على ما كلفتموه من إصلاح آخرتكم و أعرضوا عما ضمن لكم من دنياكم و لا تستعملوا جوارحا غذيت بنعمته في التعرض لسخطه بمعصيته و اجعلوا شغلكم في التماس مغفرته و اصرفوا همتكم [هممكم] بالتقرب إلى طاعته من بدأ بنصيبه من الدنيا فإنه نصيبه من الآخرة و لم يدرك منها ما يريد و من بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا و أدرك من الآخرة)( ).
السادسة: تبين الآية حقيقة وهي أن التقوى جهاد متصل مع النفس، وحرب على الأخلاق المذمومة، وهذا الجهاد طاعة وقربة إلى الله عز وجل، لذا تفضل الله عز وجل وأعدّ لهم الجنة واللبث الدائم في النعيم.
لقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض وبينوا علة وموضوع هذا الإحتجاج، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
فأخبرهم الله عز وجل بأنه سبحانه يعلم ما لا يعلمون، ومن علم الله في المقام أمور:
الأول: إعداد الجنة للمتقين من الناس، فيكون جعل الخليفة في الأرض مقدمة للإقامة الدائمة في الجنة، فخلافة الأرض ليست دائمية بل هي مادامية تنقطع بأوان معلوم عند الله، قال تعالى[وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( )، وتطوى الأرض والسماوات ولكن المؤمنين يبقون مشغولين بالتسبيح والذكر وهم خالدون في النعيم، فمع نفخ الروح في آدم يبدأ تسبيح ودعاء وذكر المؤمنين لله، ولا ينقطع أبداً، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض , قال تعالى في إتصال ثناء وشكر أهل الجنة على الله[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني: تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وهي حرب على الفساد وزاجر عن سفك الدماء، فإن قلت إن الأنبياء أنفسهم تعرضوا للقتل، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
والجواب من جهات:
الأولى: هذا القتل من أهم المصاديق الواقعية لإحتجاج الملائكة، وكأنهم فزعوا وإستغاثوا بالله لتعدي الظالمين على الأنبياء.
الثانية: قتل الأنبياء شاهد على جهاد الأنبياء في سبيل الله.
الثالثة: جاءت آيات قرآنية، ووقائع تأريخية تدل على إنتصار الأنبياء، وغلبة الحق وإقامة أحكام الله، ودحر الباطل، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الرابعة: عندما يقتل نبي فإن أمة من المؤمنين تبقى على عهده وإتباع نهجه، وتسعى لمحاربة الفساد والبغي , ويأبى الله إلا أن يكون ما أوحاه للأنبياء ملكاً للأجيال المتعاقبة , وتجلى بنزول القرآن الجامع للأحكام.
الثالث: إخبار الله عز وجل عن إعداد الجنة للمتقين بعث للنفرة في النفوس مما يناقض التقوى كالفساد وقتل النفس.
الرابع: إن الله عز وجل يعلم بإنزال القرآن , وفيه بيان صفات المتقين، ونشرهم لأسباب الصلاح التي تكون واقية من الفساد وسفك الدماء.
السابعة: تتقوم خلافة الإنسان في الأرض بالإختبار وإختيار غلبة العقل على الشهوة، وتؤكد آية البحث إجتياز فريق من الناس هذا الإمتحان وفوزهم بمرتبة التقوى والخشية من الله والتوفيق للإقامة الدائمة في الجنة , وفي المرسل عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس وما يستغني رجل عن مشورة , وان أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة وإن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة( ).
الثامنة: شيوع مكارم الأخلاق بين الناس، وإمتناع المسلمين عن العادات المذمومة، وإقتباس الناس من الأنبياء والصالحين وورثتهم من المسلمين السنن الحميدة.
فصحيح أن فريقاً من الناس يختارون الكفر ويفسدون في الأرض إلا أن دعوتهم للإسلام مستمرة والحرب عليهم متجددة، تتجلى بأمور:
الأول: لغة الإنذار والوعيد في القرآن، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثاني: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: مجيء آيات البشارة للمتقين وبيان صفاتهم وسمتهم الحسن، وعن النعمان بن سعد قال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ وَلَكِنْ عَلَى نُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ)( ).
الرابع: الترغيب بالإيمان والصلاح والنفرة من الفساد في الأرض وسفك الدماء.
التاسعة: بعثة الأنبياء والمرسلين ونزول الكتب السماوية، وإختتام النبوات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية، ومنها بيان صفات المتقين وما يدل عليه من البعث والتشويق لها، قال تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
العاشرة: بيان موضوعية قصد القربة في عالم الأفعال وأسباب الصلاح، ورسوخ مبادئ الإسلام في الأرض، إذ يجتهد المسلمون في بذل الأموال طاعة لله، وهذا البذل حاجة لهم وللناس جميعاً، وطريق للنصر والغلبة على الكفار، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فالفساد في الأرض لم ولن يدوم، وسفك الدماء يواجه بالرد والعقاب ، بالإنفاق في سبيل الله، ومنعة المسلمين، وسيادة أحكام الإسلام، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وكما تدل آية البحث على كثرة أموال المسلمين، فان الآية أعلاه تدل على ولاية وحكم المسلمين بين الناس بما يستأصل الفساد في الأرض ويمنع من كثرة القتل وسفك الدماء.
الحادية عشرة:تبين آية البحث التنافي بين التقوى والأخلاق المذمومة، وتدعو المسلمين ليكونوا أسوة للناس في الأخلاق الحميدة وإشاعة العفو والتجاوز عن المسيء، وفيه مناسبة لسؤال الرحمة من الله عز وجل.
الثانية عشرة: الثناء على المسلمين ونعتهم بالمحسنين، والإخبار عن حب الله عز وجل لهم لتقيدهم بآداب وسنن التقوى، ومن يحبه الله عز وجل ينعم عليه ويزيد عليه من فضله.
الثالثة عشرة: وراثة المسلمين للأنبياء في نهجهم , وتتقوم هذه الوراثة بتصديق المسلمين بالأنبياء على نحو العموم المجموعي وتجديد الدعوة للإسلام إلى أهل الكتاب والناس جميعاً , قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
وفي الآية أعلاه دعوة للمسلمين للإحتجاج على أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو التوحيد، ومواجهة قوى الشرك والضلالة.
وإذ جاء القرآن بماهية ومضامين دعوة المسلمين لأهل الكتاب، فإن السنة النبوية جاءت بكيفية تلقي جدال وإحتجاج أهل الكتاب , وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم”)( ).
الرابعة عشرة: لقد فاز المسلمون بمرتبة المتقين بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، وأداء الصلاة وإتيان الزكاة والفرائض الأخرى، فجاءت آية البحث لوجوه:
الأول: حث المسلمين على الأخلاق الحميدة.
الثاني: تثبيت معالم الدين.
الثالث: الإخبار السماوي عن كون التقوى منهاج عمل متكامل شامل للعبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق.
وتدخل التقوى والخشية من الله عز وجل في أمور الحياة كلها، فتكون سبباً للصلاح وعمارة الأرض بذكر الله ونشر مفاهيم الفضيلة ’ وإستئصال الفساد.
وبلحاظ مضامين آية البحث القدسية يمكن تلمس صفات إكرام يختص بها المسلمون وهي:
الأول: صفة (المتقين) إذ تترشح صفات الحسن , والخلق الكريم التي جاءت بها هذه الآية عليهم قولا وسيرة ومنهاجاً وصبغة بين الناس.
الثاني: إسم(المنفقين في السراء) فالمسلمون هم الذين يواظبون على البذل والعطاء وإخراج الزكاة والحقوق الشرعية في حال السعة والرخاء.
الثالث: إسم(المنفقين في الضراء) للإطلاق في قوله تعالى في أول هذه الآية[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] .
فإن قلت وردت الآية بلحاظ ذكر الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة , والجواب قد وردت صفات المتقين في آيات أخرى وبما يفيد إنطباق هذه التسمية على المسلمين، قال تعالى[الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
الثالث: اسم (الكاظمين الغيظ) إذ يتصف المسلمون بالصبر، ومن أهم مصاديقه الدفاع في سبيل الله اضطرارا وما فيه من الألم المترشح عن حر السيف، وبالإضافة إلى الشدة والأذى في مقدمات القتال، وما بعده على المقاتلين وأسرهم والبنى التحتية والإقتصادية عامة.
فقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة بالناس بالسور القصار تخفيفاً عنهم .
ورد أنس بن مالك قال كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخله فدخل المسجد ليصلي مع القوم فلما رأى معاذا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله ليسقيه فقال إنه لمنافق يعجل من الصلاة من أجل نخيله فجاء حرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ عنده
القوم فلما طول معاذ تجوزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه فزعم أني منافق فأقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال أفتان أنت لا تطول بهم اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوها)( ).
وقد ورد الخبر بتفصيل يتضمن الدرس والموعظة , جاء بالإسناد عن جابر قال: كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصلي بأصحابه فرجع ذات ليلة فصلى بهم وصلى خلفه فتى من قومه فلما طال على الفتى صلى وخرج واخذ بخطم بعيره وانطلق , فلما صلى معاذ ذكر ذلك له فقال أن هذا به لنفاق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي صنع , وقال الفتى وأنا لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي صنع فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره معاذ بالذي صنع الفتى فقال الفتى يا رسول الله يطيل المكث عندك ثم يرجع فيطيل علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتان أنت يا معاذ وقال للفتى كيف تصنع أنت يا ابن أخي إذا صليت قال اقرأ بفاتحة الكتاب واسأل الله الجنة وأعوذ به من النار واني لا ادري ما دندنتك( ) ودندنة معاذ , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أني ومعاذ حول هاتين أو نحو ذا , قال فقال الفتى ولكن سيعلم معاذ إذا قدم القوم وقد خبروا إن العدو قد أتوا , قال فقدموا فاستشهد الفتى , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لمعاذ ما فعل خصمي وخصمك ؟
قال يا رسول الله صدق الله وكذبت استشهد)( ).
لقد بدأ الخبر بعدم صبر الفتى على طول الصلاة ثم قال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: وأني لا أدري دندنتك) بعد إخباره بقراءة الفاتحة.
ولقد أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كظم الغيظ من جهات:
الأولى: لم يوجه اللوم لمعاذ على نعته الفتى بالنفاق ولكنه لامه على إطالة الصلاة لمنع الإضرار العام بالمسلمين.
الثانية: إستماع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدعوى معاذ، ورد الفتى وحجته.
الثالثة: سهولة ويسر وصول عامة شباب المسلمين إلى رسول الله من غير حاجب أو تأخير وتأجيل.
الرابعة: عناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بموضوع صلاة الجماعة، وما يحدث فيها.
الخامسة: وجود جماعات أخرى غير الجماعة التي يقيمها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده.
السادسة: موضوعية الصلاة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فمعاذ يصلي مع النبي ويطيل الجلوس عنده، ثم يأتي يصلي بقومه ويطيل الصلاة مع أن العدو يهددهم، وأخبار هجومه على المدينة شائعة على الألسن، كما يبدو من كلام الفتى.
وفيه دلالة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أقام صلاة الجماعة وجعل أصحابه يأمون قومهم داخل المدينة وخارجها في حياته، وقبل مغادرته إلى الرفيق الأعلى.
السابعة: إكتفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفتى بقراءته الفاتحة وسؤاله الجنة وإستعاذته من النار، ومع أن القراءة في صلاة المغرب والعشاء جهرية فإن الفتى سماها دندنة.
الثامنة: يظهر من كلام الفتى أنه قد صلى خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستمع إلى تلاوته وتعجله في صلاته خلف معاذ أمارة على معرفته بأن صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه خفيفة , وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يقرأ بالسور الطول.
التاسعة: أنصت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الفتى بحلم، ولم يغضب حينما نعت تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدندنة بل قال له إنها قريبة مما تأتي به أيها الفتى من قراءة الفاتحة والذكر .
العاشرة: بيان الفتى لمرتبة إيمانه بإستعداده لملاقاة العدو، وفيه آية وهي أن عموم المسلمين والمسلمات في المدينة يعلمون أن العدو سيغزيهم في عقر دارهم، وأنهم مستعدون للتضحية والفداء.
الحادية عشرة: سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الفتى بعد حين.
الثانية عشرة: إختتام الفتى حياته بالشهادة والقتل في سبيل الله، وهو شاهد على صدق إيمانه، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقود المسلمين صوب جبهات الدفاع، ويخرج معهم ويأمرهم بالصبر في سبيل الله، فإن قلت إن خروج المسلمين للقتال مناقض لكظم الغيظ، فكيف يسمى المسلمون الكاظمين الغيظ وهم يحملون السيوف.
والجواب من وجوه:
الأول: التباين الموضوعي بين موارد القتال وموارد كظم الغيظ، ومع إختلاف الموضوع تنتفي مسألة التزاحم أو التعارض، وكذا التضاد والتناقض من باب الأولوية القطعية لأن من شرائط التعارض إتحاد الموضوع.
الثاني: من خصائص المسلمين إمتثالهم لأوامر الله عز وجل، وإن إجتمع المتباين في موضوع واحد للإختلاف الجهتي بينها، ومن إعجاز الآية حضور صفة إلى الكاظمين الغيظ حتى في ساحة المعركة وأوان القتال.
الثالثة: كل من القتال وكظم الغيظ مقدمة للآخر، وعون على الإمتثال فيه، من وجوه:
الأول: القتال والغلبة فيه مناسبة لإظهار المسلمين حبس الغيظ، وعدم الإنتقام من العدو عند النصر والفتح، كما يتجلى في حسن معاملة المسلمين للأسرى، ومع ضراوة القتال بين المسلمين والكفار، وشدة عداوة الكفار للمسلمين فإن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أمر بفداء أسرى قريش يوم بدر .
ومن لم يكن عنده فداء أمره بأن يعلم الصبيان، وتلك آية في موضوعية العلم والتحصيل في الإسلام، ودعوة لأولي الأمر لبذل الوسع في نشر التعليم وتهيئة مستلزماته .
وعن ابن عباس: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ قَالَ فَجَاءَ يَوْمًا غُلَامٌ يَبْكِي إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ ضَرَبَنِي مُعَلِّمِي قَالَ الْخَبِيثُ يَطْلُبُ بِذَحْلِ بَدْرٍ( ) وَاللَّهِ لَا تَأْتِيهِ أَبَدًا)( ).
وفي الحديث نكتة عقائدية تتعلق بآية البحث، وهي تجلي معاني كظم الغيظ عند المسلمين من جهات:
الأولى: لم يبطش المسلمون بالأسرى ويجتمع في عدم الإنتقام من الأسرى كظم الغيظ والعفو.
الثاني: تشريع الفداء للأسرى، مع أنهم يرجعون إلى فئة وقد يزحفون مرة أخرى على المسلمين، ومنهم من عفى عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلا فداء وجاء للقتال مع قريش يوم أحد.
الثالث: إرادة بيان حقيقة للأسرى وهي قوة الإسلام ودولته في المدينة المنورة، وليقوم هؤلاء الأسرى بنقلها إلى المشركين للإتعاظ وبعث الرعب في نفوسهم.
فإن قلت لم تظهر مفاهيم الموعظة وأسباب الرعب على الكفار بل زحفوا في السنة الثانية فكانت واقعة أحد، ثم جاءوا في معركة الخندق، بعدها .
والجواب لقد تجلت معاني الموعظة على قريش بإسلام شطر منهم خصوصاً الشباب ذكوراً وأناثاً، وظهر الرعب عليهم فلم يقاتلوا يوم الخندق، وإكتفوا بحصار المدينة مع كثرتهم وقلة عدد المسلمين.
وظهر الرعب على الكفار بهيئة جلية في صلح الحديبية تم فتح مكة، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ليكون الفتح ومقدماته عبر معارك الإسلام الأولى بفضل ومدد من الله عز وجل.
الرابع: تولى الأسرى تدريس أبناء المهاجرين والأنصار وأطلقوا عليهم اسم المعلمين، فلم تصاحبهم صفة الأسر.
الخامس: لما إعتدى الأسير على ابن الأنصاري لم ينتقم منه، هو أو أبوه، ولكن إكتفى أبوه بمنع إبنه من الذهاب إليه مرة أخرى.
الرابعة: من مصاديق تسمية المسلمين(الكاظمين الغيظ) في المقام أمور:
الأول: لا يبدأ المسلمون قتال العدو إلى أن يقوم هو بالتعدي.
الثاني: قيام المسلمين بالنصح والوعظ قبل القتال، وحث العدو على التدبر والتبصر والإنابة.
الخامسة: كظم الغيظ سبب لإنحسار وقلة قتال المسلمين لغيرهم، لأنه سبيل لهداية الناس للإسلام فعندما يرى الناس تحلي المسلمين بكظم الغيظ والأخلاق الحميدة فأنهم يميلون لنبذ قتالهم، ويختارون الإمتناع من التعدي على ثغور المسلمين.
لقد جاءت آية البحث حرباً من السماء على الأخلاق المذمومة مثل البخل والكبر والحقد والحسد والظلم والجور والخروج عن الحدود والقواعد , قال تعالى[تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا]( ).
وتتضمن الآية في مفهومها التحذير الشح والغضب والبطش لأن آثارها تضر بالمسلمين أنفسهم وقد تجعل غاشية دون تدبر شطر من الناس بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهل فيها تحذير إنتزاع الحق والعدل والقصاص .
الجواب لا، فقد ذكر القرآن النفع العام لحكم القصاص بقوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، ولكن آيات القرآن جاءت بالترغيب بالعفو عن القصاص، وبيان تقدم العفو رتبة، وأنه يتضمن الإحسان للجاني، بقوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، وهو من مصاديق إختتام آية البحث بصيغة الإطلاق والعموم في المحسنين الذين يحبهم الله، ووعدهم بالجنة.

الصلة بين أول وآخر الآية
تتصل مضامين هذه الآية بالآية السابقة، إذ تبدأ بالاسم الموصول[الذين] في إشارة إلى المتقين الذين أختتمت الآية السابقة بذكرهم والإخبار عن إعداد الجنة لهم ثواباً في دار الجزاء، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ] ( ) .
وبين الذين توجه لهم الأمر في الآية السابقة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ] وبين المتقين الذين أعد الله لهم الجنة عموم وخصوص مطلق بلحاظ أن المتقين أعم، وعنوان شامل للمؤمنين قبل وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما جاء الخطاب أعلاه خاصاً للمسلمين والمسلمات، ليكون فيه بعث عام لسنن التقوى، وإخبار عن كون الحياة الدنيا جهاداً متصلاً لبلوغ مراتب التقوى وتحصيل مرضاة الله بالأخلاق الحميدة، والتفاني في سبيل الله.
ومن إعجاز القرآن لغة البيان والتفصيل التي جاءت بها آية البحث في ذكر صفات المتقين.
وإبتدأت الآية بصفة الإنفاق مما يدل على أمور:
الأول: موضوعية الإنفاق في سبيل الله في مقامات التقوى والصلاح.
الثاني:المنافع العظيمة للإنفاق، ومنها تثبيت مفاهيم التقوى في الأرض، وجذب الناس إلى الإيمان، ويدل الواقع العملي على حاجة المسلمين إلى البذل والإنفاق في أمور القتال والدفاع عن بيضة الإسلام، وفي إعانة الفقراء ودفع العوز والحاجة عن عموم المسلمين.
الثالث:الإنفاق مدخل لمضامين الآية الأخرى من كظم الغيظ والعفو عن الناس، إذ يتعلق الإنفاق بأصحاب الأموال وأهل المقدرة من المسلمين، أما حبس الغيظ والعفو عن الناس فهو عام يقع موضوعه لكل مسلم الغني منهم والفقير، والذكر والأنثى.
الرابع: في الإنفاق بذل وإخراج للمال ودفعه إلى الغير من دون عوض أو بدل، الأمر الذي يحتاج إلى مرتبة من الإيمان وقصد وإرادة، ويتصف المتقون بأولوية خشية الله عندهم، وسعيهم لمرضاته تعالى بالإمتثال لأوامره، والبذل مما في أيديهم.
وذكر الإنفاق على نحو التفصيل في حال المنفق من الرخاء والشدة ولم تذكر الآية حال المنفق عليه، ولكنه مستقرأ من مضامينها القدسية وصيغة الإطلاق فيها لأن الإنفاق عام يشمل البذل في سبيل الله، وإعانة الفقراء، وصلة الرحم، وإخراج الحق الشرعي الواجب، قال تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] ( ).
فيكون الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ الصدقات وسيلة للإنفاق وإمتثال المسلمين لأحكام هذه الآية، وما مذكور فيها من السنن، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فيؤمر المسلمون بالإنفاق والبذل في سبيل الله، وإعانة المحتاجين، ويؤمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأخذ من أموالهم على نحو الوجوب والندب فيتحقق إمتثالهم لأمر الإنفاق بواسطة أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم الصدقات.
ومع أن الآية أعلاه من سورة التوبة أمرت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالأخذ من أموال المسلمين، إلا أنه يبادر إلى إنفاقها في سبيل الله عند قبضها.
ترى لماذا قدمت آية البحث الإنفاق في السراء على الإنفاق في الضراء، فيه وجوه:
الأول:اليسر وإنتفاء الحرج بالإنفاق في حال السعة، لبقاء كفاية ووافر من المال للذات وحاجات العيال ومؤونة العمل.
الثاني:في هذا التقديم بشارة طول وغلبة الأيام التي يكون فيها المسلمون في سعة من الحال والشأن،إذ أن صفة السراء الواردة في الآية أعم من أن تنحصر بالمال بل تشمل السلطان والشأن والجاه والمنعة، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالث: بيان ضرورة إخراج الحقوق الشرعية من المال ذي النصاب، قال تعالى[وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( ).
الرابع:الإنفاق في حال اليسر تنمية لملكة البذل والعطاء، وشكر لله عز وجل على نعمة المال.
الخامس: بيان حقيقة وهي أن قيام المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله لن يغير من حال السعة التي يتصفون بها، فترى المؤمن ينفق وهو في حال السراء، ويبقى على ذات الصفة حتى بعد الإنفاق.
وأخبرت الآية عن الإنفاق والبذل في حال الشدة والضيق أيضاً، وعدم حصر الإنفاق في حال الرخاء والسعة، وتلك مدرسة في التقوى، فصحيح أن الآية جاءت لبيان صفات المتقين إلا أنها تتضمن مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين والمسلمات إلى الإرتقاء إلى مراتب التقوى.
الثانية:تعاهد المسلمين للتقوى في مختلف الأحوال، ومنها حال الشدة والعسر والضيق.
الثالثة:صيرورة التقوى ملكة عند المسلمين عموماًَ، وعرضاً دائماً غير متزلزل.
الرابعة: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار بتأكيد حقيقة وهي أن المسلمين منقطعون إلى الله، طائعون لأوامره في حال الشدة والرخاء، وفيه مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن المسلمين لم يعبدوا الله على حرف، ولم يقفوا عند الإنفاق في حال الرخاء، بل يقومون بالإنفاق في حال الشدة والضيق أيضاً، ترى ما هي النسبة بين الإنفاق في حال الرخاء والإنفاق في حال الشدة من جهة الكم والكيف، فيه وجوه:
الأول: نسبة التساوي بالمقدار والكيف.
الثاني: نسبة العموم والخصوص المطلق، وأن الإنفاق في حال الرخاء أكثر وأعم كماً وكيفاً.
الثالث: الإنفاق في حال الشدة هو الأكثر بلحاظ أنه وسيلة لجلب الرزق.
والصحيح هو الثاني، وإن كان القليل في حال الشدة يبدو كثيراً بذاته أو بنفعه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، لذا فمن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة الإطلاق من غير ترجيح أو تقييد لأحد طرفي الإنفاق،السراء والضراء، وفيه وجوه:
الأول: المندوحة والتخفيف عن المسلمين في باب الإنفاق.
الثاني: الإنفاق خير محض، والإكثار منه حسن على كل حال.
الثالث: ورد الإطلاق لجعل المسلمين يتنافسون في الإنفاق في حال الرخاء والشدة، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ).
الرابع: نفي الحرج عن المسلمين في باب الإنفاق، وعدم مغادرتهم له خصوصاً وأنه من مصاديق التقوى والصلاح مع موضوعية الإلتفات إلى حاجتهم الذاتية وعوائلهم، وعن أبي يزيد الأنصاري: أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ، عِنْدَ مَوْتِهِ، لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْتَقَ اْثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً).
وفي رواية: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ، عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَجَزَّأَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اْثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ: لَوْ شَهدْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ، لَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ)( ) .
وظاهر الحديث أن الإنفاق ليس في سبيل الله، ويحتمل أن العبيد ليسوا مسلمين، بالإضافة إلى ترك الميت لورثته من غير ميراث، وهذا الميراث والتركة حق معلق لهم، يتحقق عند مغادرة المورث الحياة الدنيا، لذا جاءت الشريعة الإسلامية بحق الميت بالوصية بثلث أمواله أو أقل، أما الأكثر من الثلث فلا ينفذ إلا مع رضا الورثة لأنه من حقهم ومالهم .
الخامس:صدق الإنفاق علي القليل والنزر اليسير الذي يتصدق به المسلم في حال الرخاء والشدة، نعم ورد التقييد بخصوص نوع الإنفاق مطلقاً في قوله تعالى[وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ] ( )، وهو شامل للمقام أيضاً لتكون في الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث مسائل:
الأولى: إنه وثيقة سماوية تشهد للمسلمين بالبذل والعطاء في حال الشدة من أطيب ما يملكون، قال تعالى[أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ]( ).
الثانية: سلامة المسلمين من الأخلاق المذمومة كالبخل والشح.
الثالثة: في الإمتثال لأمر الله عز وجل في الآيتين دليل على حب المسلمين لله عز وجل وطاعتهم له، وتسليمهم بالثواب العظيم من الله على الإنفاق وتصديقهم بمضامين الآية السابقة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، بلحاظ أن إعداد الجنة للمتقين على نحو الحصر والتعيين إرادة تكوينية لا يتخلف عنها ما يراد منها.
الرابعة: تأكيد التساوي في الإنفاق بين حال الرخاء والشدة كما تقدم ، والتساوي هنا من جهة نوع وماهية الإنفاق وأنه من الطيبات للإطلاق في الأمر بالإنفاق من الطيبات.
الخامسة: جاء الأمر أعلاه خطاباً للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي، بينما وردت آية البحث بذكر الإنفاق كصفة للمتقين ليكون التقييد بانفاق الطيبات من باب الأولوية القطعية لتقدم التقوى مرتبة على النطق بالشهادتين.
السادس: كما جاءت الآية السابقة بالمسارعة إلى المغفرة، فان الإطلاق في حال الإنفاق باعث على المسارعة إلى الإنفاق والبذل في مختلف الأحوال.
السابع: تجلي معاني الأخوة بين المسلمين بالإنفاق من الطيبات في حال الشدة والرخاء، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وفيه آية من الإيثار عند المسلمين تتجلى في تقديم مصالح الإسلام،وحاجات المؤمنين على الحاجة الشخصية.
الثامن:الإنفاق في السراء أيسر وأخف على الإنسان , لأنه يعطي عن ظهر غنى، وفضل من المال بحيث يبقى في سعة ولا يخشى الإملاق في غد.
وبعد عطف الإنفاق في الضراء والشدة على الإنفاق في اليسر والسعة، ذكرت الآية حبس الغضب، ومنع ظهور الإنفعال على الجوارح والأركان.
وبين الإنفاق والحبس تباين جهتي فالإنفاق إخراج للمال، وبذل لما في اليد، أما حبس الغضب فانه قهر للنفس الغضبية، ومنع من إظهار الرد على الإساءة على اللسان والجوارح، وهو ليس من الجمع بين المتباين في السلوك، بل من المتحد بلحاظ أن كل فرد منهما خلق كريم، وجهاد مع النفس وعمل صالح . وقد يتفق الإتحاد من الطرفين بخصوص الإنفاق وكظم الغيظ، كما لو أنفق مسلم على غيره، وأساء هذا الغير لذات المسلم فكظم غيظه وتلقي إساءته بالصبر والإستمرار بالإنفاق قربة إلى الله وتحلياً بصفات التقوى والخشية من الله عز وجل، وفيه إلحاح بالدعوة إلى الله، وإظهار للصبر في جنب الله ليكون من خصائص الجنة التي أعدّها الله للمتقين تلقي الملائكة لهم بالإكرام لخصال الصبر التي إتخذوها مقدمة ووسيلة للإقامة في النعيم، قال تعالى في هذا التلقي[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
إن ذكر كظم الغيظ في صفات المتقين ومجيئه بعد الإنفاق في الشدة والضراء آية إعجازية في بيان موضوعيته في تثبيت أحكام الشريعة الدين، ويحتمل كظم الغيظ وجوهاً:
الأول: القضية الشخصية، وإرادة حبس الفرد من المسلمين غيظه، وعدم إظهار حنقه وغضبه.
الثاني:المراد كظم غيظ المسلمين، وتحملهم الأذى على نحو العموم المجموعي كأمة، كما لو جاءهم كمسلمين ضرر وأذى.
الثالث:إرادة المعنى الأعم، وشمول القضية الشخصية والنوعية.
الرابع:حبس الغضب الذاتي، وإرادة تحمل المسلمين أذى بعضهم بعضاَ.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفي جعل كظم الغيظ من صفات المتقين شاهد على حب الله عز وجل لعباده، وإرادة نشر معاني الرحمة بين الناس، وأن المسلمين هم أئمة الخلق الحميد، وقادة نشر معاني المودة ودفع العادات المذمومة بين الناس.
وكظم الغيظ مطلوب بذاته، وهو مقدمة لنشر مبادئ وأحكام الإسلام، ودعوة للناس لإجتناب إيذاء المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، بلحاظ أن كظم الغيظ يمنع الطرف الآخر من الإمعان في إيذاء المسلمين والإنتقام منهم.
وهل من موضوعية ومنافع إضافية لكظم الغيظ حينما يكون مجتمعاً مع الإنفاق في سبيل الله، الجواب نعم من وجوه:
الأول: حصول كظم الغيظ بقصد القربة إلى الله عز وجل.
الثاني: بيان ماهية الإسلام بتعدد الوظائف العبادية والأخلاقية للمسلم.
الثالث:التأكيد العملي لإنتفاء المنّ في صدقات المسلمين بأن يلحقوا الإنفاق بحبس الغضب، قال تعالى[قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( ).
وقد أراد الله عز وجل للمسلمين الجمع بين القول المعروف والصدقة وتحمل الأذى، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وأمارة جلية على إبتداء عهد إيماني جديد أطل على الأرض ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسود بين الناس السخاء والكرم المقترن بالصبر وتحمل الأذى وإجتناب رد التعدي بمثله.
وكما يصدر كظم الغيظ من الفرد من المسلمين فانه يتجلى في سنن ومنهاج الأمة وخروجهم للناس مجتمعين متحدين ، وفي خصوص أمور عظيمة تخص الإسلام وأحوال المسلمين في أمصار الأرض.
وقد يقال بأن كظم الغيظ في بعض حالاته تهاون ويؤدي إلى تمادي الطرف الآخر في الغي والتعدي، الجواب جاءت الآية مطلقة في حكمها، والبعث فيها على كظم الغيظ عام وشامل للقريب والبعيد، والصديق والعدو، والبر والفاجر.
ومن الإعجاز في الآية ورود قوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] عقب كظم الغيظ لتأكيد العموم في مضامينها القدسية، نعم لو جاء تخصيصه بآية قرآنية أخرى فلا بأس به، ويمكن تأويل معنى الآيات التي تدل على القصاص، ورد التعدي على معاني أخرى غير معاني إظهار الغيظ، كما في قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( )، ولبيان التفصيل والسعة في الحكم وأن موضوع التعدي يختلف عن كظم الغيظ، بالإضافة إلى حقيقة، من وجوه:
الأول: إمكان الجمع بين كظم الغيظ، ورد التعدي على نحو طولي متصل، فلا تعارض بين الأمرين، وأحدهما في إمتداد وطول الآخر.
الثاني: موضوعية كظم الغيظ حتى في حال رد التعدي، وتتجلى بمثلية الرد وعدم الإنتقام أو البطش.
الثالث: الأمر في الآية بكظم الآية دعوة للمسلمين للتأني والحلم والتريث حتى في رد التعدي، وتلك خصوصية فاز بها المسلمون وهي من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع: في كظم الغيظ درء للفتن، ومنع من تأجيج الخلاف والخصومات.
الخامس: تحلي المسلمين بصيغة حبس الغيظ طرد للكدورات الظلمانية ومقدمات الفتن، سواء فيما بين المسلمين، كأفراد وجماعات، أو بينهم وبين غيرهم من أهل الملل والنحل.
السادس: صيرورة السلاح المتعدد عند المسلمين من كظم الغيظ ورد التعدي وما بينهما.
السابع: بقاء المسلمين في حال يقظة وحذر حتى عند كظم الغيظ.
الثامن: إدراك الجميع أن رد المسلمين للتعدي يتضمن كظم الغيظ والخلو من التشفي والإنتقام، ولو كان رد المسلمين التعدي بمثله لكان الضرر الذي يلحق بالمعتدي أكبر وأكثر فدحاً( ) , لذا فإن رشحات كظم المسلمين غيظهم مادة لإستدامة الحياة على الأرض , وتجديد لدعوة الناس للإسلام.
وجاءت الفرائض الزمانية كالصوم والمكانية كالحج لتؤكد إستدامة وحدة المسلمين رغم التقسيم المتعدد لبلاد المسلمين، وقواعد الحكم اللامركزية، ونظام الأقاليم في كثير من الأمصار، فيأتي موسم الحج مثلاً ليزيل الفوارق التي تضعها الحدود الوضعية بين أمصار الإسلام( )،ويكون حج بيت الله في كل سنة مناسبة للعمل بمضامين آية البحث من وجوه:
الأول: الإنفاق على الذات بلحاظ أن الحج عبادة مالية بدنية، ويحتاج فيها الحاج الزاد والراحلة وإتخاذ الواسطة للوصول إلى البيت الحرام والإنفاق أثناء الحج، لذا قيد فرض الحج في القرآن بالإستطاعة قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثاني: بيان إنتفاء البرزخ والحاجز بين المسلمين في بلدانهم المختلفة، وفيه منع للحرج في إعانة بعضهم بعضاَ , وإن كان بينهما تباعد في الأمصار.
الثالث: إتخاذ الإنفاق وسيلة لتثبيت دعائم الدين، وبيان أحكام الشريعة، وبعث الشوق في النفوس للعمل بمضامينها.
الرابع:إدراك المسلمين للحاجة إلى الإنفاق في سبيل الله، وهو من إعجاز الآية بأن يكون الواقع العملي شاهداً وبرهاناً حاضراً على صدق نزول القرآن.
الخامس:الحج من أبهى معاني التقوى، قال تعالى في مناسك الحج[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
السادس:أداء الحج من صفات المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة، وفيه دلالة على أن المراد من المتقين هم المسلمون، فان قلت ليس كل مسلم يستطيع أداء الحج.
والجواب من إعجاز هذه الآيات أنها لم تذكر في صفات المتقين فعلاً مشروطاً يتعذر على شطر من المسلمين أداؤه، فجاء ذكر الإنفاق على نحو الإطلاق في موضوعه وكيفيته ومقداره.
وبينت الآية الإطلاق في حال الإنفاق ليشمل السعة والضيق، والرخاء والشدة، ويتعلق موضوع الرخاء والشدة في الإنفاق بخصوص حال المنفق، وقد تكون حال المنفق عليه الشدة والعسر، فيوظف المسلمون رخاء بعضهم لدفع عسر بعضهم الآخر، وتلك آية في التكامل والتكافل الإجتماعي، ومدرسة في الصلات العقائدية مبنية على المحبة في طول الهداية والصلاح.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: وأحب لاخيك ما تحب لنفسك)( ).
وكل من الإنفاق وكظم الغيظ نوع طريق ومقدمة للآخر وهل يلزم الدور بينهما؟
الجواب لا للتباين الجهتي ولأن الطريقية أعم من التعلق في الإيجاد والموضوع، وفيه أمور:
الأول: إطاعة المسلمين الأوامر الإلهية، وإتيانهم الواجبات والمستحبات تخفيف عنهم، وكأن تسمية الفرائض بالتكاليف وما تدل عليه من المشقة والكلفة إنما هو من المجاز.
الثاني:تداخل الإمتثال لمضامين الآية القرآنية، وإمكان إتيان الفعل المركب في معاني الإمتثال وإن كان متحداً في ذاته وموضوعه.
الثالث:بيان وحدة السنخية في الأحكام الشرعية، وما فيها من معاني الصلاح والفلاح، ودرء المفاسد.
الرابع: دعوة العلماء للقيام بوظائفهم في بيان أحكام الحلال والحرام التي تتغشى الأمور العامة والخاصة بما فيها شؤون الأسرة وبعثهم الناس على التفقه في الدين بالجمع بين الصالحات وإستحضار قصد القربة في سبل الطاعة أو فيما يجب إجتنابه مما حرم الله عز وجل وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم، ولا أبالي”)( ).
الخامس: تأكيد إعجاز القرآن، وصدق نزوله من عند الله بتداخل الإمتثال للأحكام الواردة في الآية القرآنية، وتعدد النفع المترشح عن الإستجابة والطاعة في الحكم الواحد منها , وإذ ورد التفصيل في حال الإنفاق فانه لم يرد تفصيل في الحال التي يكظم بها المسلمون الغيظ, ويحتمل وجوهاً:
الأول: كفاية صيغة الإطلاق في الآية، إذ لم تحدد الآية حال المسلمين التي يحبسون فيها الغيظ، ويمنعون ظهور الغضب على الجوارح مما يدل على عموم الحال وإطلاق الحكم.
الثاني: عطف كظم الغيظ على الإنفاق بما يشبه عطف البيان، وإرادة التداخل الموضوعي، وإعتبار القرينة المقالية، فكما يكون الإنفاق في حال الرخاء والشدة فكذا كظم الغيظ بلحاظ إنبساطه على كل الأحوال وكظم الغيظ من مصاديق الحلم وأسباب تنمية ملكته في النفس وعند المجتمع، وهو أمارة على قدرة المسلم على كسر قوة الغضب .
وجاءت آية البحث للبعث على التعقل، ومجاهدة الغيظ وإخضاع الجوارح ساعته إلى العقل ومنطق الحكمة.
الثالث:موضوعية البيان والتفصيل في الإنفاق فلو لم يبين لظنَ شطر من المسلمين أن القدر المتيقن من الإنفاق في حال الرخاء، وإمكان التصدق بجزء من الزائد على المؤونة لأولوية حاجة النفس والعيال، ولأن الإحتياط حسن على كل حال.
الرابع:التباين الموضوعي بين الإنفاق وكظم الغيظ من حيث الكيفية والتفصيل، إذ أن الإنفاق إخراج للمال من غير عوض أو بدل، أما كظم الغيظ فيتقوم بالصبر، وقهر النفس الغضبية، ومن منافع كظم الغيظ إستدامة الإنفاق من وجوه:
الأول: حبس الغيظ مناسبة للتدبر في الأمور، وإستحضار الوظائف العبادية , وقد يحصل الغيظ من إجتماع حال وفعل طارئ، كما لو كان الإنسان في ضائقة أو فاقة، ويأتيه أذى إضافي يجعله يتذمر أو تنفر نفسه، فجاءت هذه الآية لضبط النفس والجوارح، والإرشاد إلى اللجوء إلى ذكر الله، وإستحضار الثواب العظيم الذي أعدّه الله للصابرين قال تعالى[أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثاني:مع كظم الغيظ يلجأ المسلم إلى آيات القرآن والإنصات لها، والعمل بمضامينها فيبادر إلى الإنفاق.
الثالث:يشكر المسلم الله عز وجل على فوزه بنعمة كظم الغيظ باعتباره طاعة لله عز وجل، ومن مصاديق الشكر البذل والإنفاق في سبيل الله.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن مصاديق هذه الآية في المقام كظمهم الغيظ , ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: خير أمة التي تكظم الغيظ طاعة لله تعالى.
الصغرى:المسلمون هم الذين يكظمون الغيظ طاعة لله.
النتيجة:المسلمون خير أمة.
وقد يقال إنما نال المسلمون مرتبة(خير أمة) بالإيمان والعبادة والجواب هذا صحيح ويأتي كظم الغيظ صفة إضافية ينفرد بها المسلمون ليصير بينهم وبين أهل الملل الأخرى بون كبير، وفارق جلي ظاهر للعيان، يدركه الناس جميعاً بحواسهم.
فيكون كظم الغيظ حجة للمسلمين، وحجة على الكافرين ومن بديع صنع الله وتفضله بإكرام المسلمين من بين الناس أن جعلهم يمتازون ويغبطون بخصلة كظم الغيظ، وبها يعرفون من بين الناس.
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث(كنتم خير أمة تكظمون الغيظ وبه أخرجتم للناس).
لقد أراد الله عز وجل أن تكون كل خصلة وصفة من صفات المسلمين في هذه الآية على وجوه:
الأول: إنها آية في الخلق الكريم، ولقد أمر الله عز وجل المسلمين بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وأثنى الله عز وجل عليه بقوله[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ولفظ الآية لغة على وجوه منها:
الأول: العلامة والأمارة, وأستدل عليه بقوله تعالى[إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، وأن المراد من الآية في قوله تعالى أعلاه هي العلامة.
ولكن المراد من لفظ الآية في قوله تعالى (آية ملكه) أعم من المعنى اللغوي، فيشمل المعنى الإصطلاحي، وإرادة حقيقة وهي أن الدلالة على ملكه معجزة من الله عز وجل.
ولكن علامة ملك طالوت النبي معجزة، وآية من عند الله وهي إحضار الملائكة للتابوت وجعله في بيت طالوت، وذكر أن التابوت أنزله الله على آدم عليه السلام , وفيه صور الأنبياء عليهم السلام كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم، فغلبتهم العمالقة على التَّابوت، فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال: إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم، فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت، وقوله: {فيه سكينة من ربكم}( ) أَيْ: طمأنينةٌ كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك، ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك، وكان ذلك من أمر الله تعالى)( ).
وآية التــابوت من النعــم الكثيرة والبراهين الظــاهرة التي رزقهــا الله عز وجل بني إسرائيل، (قال ابن عباس: إنّ التابوت وعصا موسى في الجيزة الطبريّة وأنّهما يخرجان قبل يوم القيامة)( ).
وتحتمل كيفية هذا الخروج وجوهاً:
الأول: أيام حكم المهدي من آل محمد، وقيامه بإخراجها.
الثاني: توصل الإكتشافات العملية وأسباب المسح الأرضي الدقيق من الجو للآثار والقرى المندثرة والأراضي الواسعة والصحراء، والتي تتصف في هذا الزمان بالدقة والكشف الواضح.
الثالث: حدوث زلازل وهزات وتغييرات في الأرض.
الرابع: الكشف عن التابوت والعصا على نحو الإتفاق والصدفة، كما لو عمرّت أو حرثت أرض في طبرية.
الخامس: خروجها بآية غيبية، أو بعلم مستحدث، قال تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، ولابد أن موضوع خروجهما آية، وفيه نفع عظيم للإنسانية، ومادة للصلاح ونصر المؤمنين، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثاني: العبرة والموعظة، والأمر العجيب.
الثالث: الجماعة كما يقال (خرج القوم بما فيهم أي بجماعتهم)( )، ولم يتركوا خلفهم شيئاً، ليكون معنى آية من القرآن: جماعة حروف منه .
الرابع: الأمارة والبرهان.
أما معنى الآية في الإصطلاح فهي الطائفة والكلمات من السورة القرآنية ذات المطلع والإستقلال بفاصلة، وتتضمن بذاتها التحدي والإعجاز، بالإضافة إلى اللامنتهي من الدلالات ومصاديق الإعجاز في صلتها مع آيات القرآن الأخرى، كما يتجلى شطر قليل منه في تفسيرنا والصلة بين آيات القرآن( )، وشاء الله أن تكون آياته في العوالم الكونية وفي الناس مجتمعين ومتفرقين وفي كل شيء، وأن يأتي التنزيل والنبوة آيات متجددة في كل زمان ومكان.
وحدّث الخليل بن أسد قال: أتانا أبو العتاهية إلى منزلنا فقال: زعم الناس أنني زنديق، والله ما ديني إلا التوحيد، فقلنا له: قل شيئاً نتحدث به عنك، فقال من المتقارب:
أَلا إِنَّنَـــــــا كـــلَّنا بائـــدُ … وأيُّ بــني آدمٍ خالـــِـــدُ
وبَدؤُهُـــم كانَ من رَبِّهم … وكُــــلٌّ إلى رَبِّهِ عَائــدُ
فَيا عَجَباً كيفَ يُعصي الإلهُ أم كيفَ يجحدهُ الجاحد
وفي كلِّ شـــــــيء له آيةٌ … تَـــدُلُّ على أَنهُ واحــــدُ
وقيل (كان من أبخل الناس مع يساره وكثرة ما جمعه من الأموال)( )، وجاءت آية البحث حرباً على البخل والشح، ولو أجريت إحصائية ودراسة عالمية لتبين أن المسلمين أسخى الناس، وأن نفوسهم تنفر من البخل , وفيه آية في إصلاح المسلمين للوظائف العبادية، فالإنفاق مقدمة كريمة وتأديب للتنزه عن الربا، وإجتناب المعاملات الباطلة، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الثاني: فيه دعوة إلى الله وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( )، بلحاظ أن تلك الصفات أمر ظاهر ومحسوس ، في مصاديقها المتجددة ذات صبغة الصلاح والهداية والموعظة.
الثالث:إنه شاهد على منع إستحواذ النفس الغضبية على الناس وفي المعاملات والصلات الإجتماعية.
الرابع:إنه مناسبة لبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلغة البرهان، والإحتجاج بالدلائل العقلية والشواهد الحسية كما في كظم غيظ المسلم عن أخيه المسلم وسيلة للتعاون بين المسلمين في ميادين متعددة منها التفقه في الدين، وأداء الفرائض، وتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنمية ملكة الصبر وجعلها مصاحبة لهم، وفيها الأجر والثواب .
وعن أنس بن مالك قال: دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكْتُبَ لَنَا بِالْبَحْرَيْنِ قَطِيعَةً قَالَ فَقُلْنَا لَا إِلَّا أَنْ تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا فَقَالَ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً( ) فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي قَالُوا فَإِنَّا نَصْبِرُ)( )، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
ويحتمل كظم الغيظ بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً:
الأول:إنه من مصاديق الإعتصام والتمسك بالقرآن والسنة.
الثاني:إنه مقدمة للإعتصام بالقرآن والسنة باعتبار أن كظم الغيظ مناسبة للتعاضد.
الثالث:حبس المسلمين غيظهم أثر مبارك مترشح عن إعتصامهم بحبل الله.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف بدليل الإعجاز في تعدد منافع الآية القرآنية منطوقاً ومفهوماً، وطرداً وعكساً،وتخلف كلام البشر وصيغ البلاغة والفصاحة والبديع عن ترتب معشار منافع الآية على كلامهم، وقيدت الآية كظم الغيظ بأنه من صفات المتقين، مما يدل على أمور:
الأول: كظم الغيظ كيفية نفسانية، وإرادة تتجلى بحبس ظهور الغيظ على اللسان والجوارح بالبطش والقسوة.
الثاني:إنقسام كظم الغيظ إستقرائياً إلى شعبتين:
الأولى:عام مطلوب بذاته.
الثانية:الإتيان به بقصد القربة إلى الله وإطاعة أوامره ورسوله، ليكون كظم المسلمين غيظهم من عمومات ما ورد قبل آيتين[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث: تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على ملاقاة المسلمين الأذى في جنب الله، وهل هو أمر خاص بالصحابة وأهل البيت أم أنه عام يتغشى أجيال المسلمين .
الجواب هو الثاني لعمومات أحكام القرآن، ومن أسراره تقدم السراء على الضراء في الآية.
ومن الآيات في سنن التقوى أن الأمر بكظم الغيظ لم يأت مجرداً بذاته، بل هو في طول واجبات وفرائض عينية على كل مسلم ومسلمة منها إقامة الصلاة، وما فيها من وجوب السجود مرتين في كل ركعة منها وهو عنوان الخشوع والخضوع لله عز وجل، وفيه تأديب يومي متجدد للحث على كظم الغيظ وإتخاذه سنة ثابتة، ومنهجاً أخلاقياً، وصاحباً في القوة والضعف مثلما يكون الإنفاق في حال الرخاء الشدة.
وأخرج البيهقي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه، وحمرة عينيه؟ فمن حس من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليقعد، وان كان قاعداً فليضطجع)( )، وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا غضبت فاسكت)( ).
بلحاظ أن السكوت مظهر لكظم الغيظ ومصداق له، ودليل على إلجام الغضب، ومنعه من الإستحواذ على اللسان والجوارح .
ويداهم المسلم سبب للغيظ وإثارته، ويظن من حضره أنه سيظهر غيظه وإنفعاله على الجوارح وباللسان، وفق طبيعة وسنخية الإنسان، ولكنه يستحضر آية البحث ويلتجأ إلى ذكر الله ويرجو ثوابه سبحانه ليكون داعية إلى الإسلام والأخلاق الحميدة.
ولو أمضى المسلم غضبه على شخص متحد أو جماعة فهل ينزل الله عليه من أسباب غضبه بإستحقاقه.
الجواب لا، لأن الله عز وجل هو الحليم الذي يمهل العباد عامة ويرأف بالمسلمين خاصة ، وآية البحث من لطف الله بالمسلمين من وجوه:
الأول: الآية باعث على الخشية من الله بالغيب.
الثاني: في الآية تقريب للمسلمين لمنازل التوبة والإنابة.
الثالث: في الآية جلب للمصلحة، ودفع للمفسدة، ليكون من خصال التقوى نشر مفاهيم الرحمة فيما بين المسلمين خاصة، والناس عامة، وفيه آية بالملازمة بين الرحمة والسنن السماوية، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون الآية أعلاه قانوناً سماوياً منبسطاً على كل آيات القرآن، فكل آية منه رحمة خاصة وعامة، وهل الرحمة في الآية متحدة أم متعددة .
الجواب هو الثاني بلحاظ تعدد مضامين الآية القرآنية ودلالاتها وما فيها من الأجر والثواب.
وتتجلى في آية البحث المضامين القدسية والوظائف الأخلاقية للمسلمين، فعليهم الإنفاق في حال الشدة والرخاء، وإن حصل أذى وتعد عليهم يأتيهم الخطاب في هذه الآية بلزوم كظم الغيظ وحبس الغضب، وأن لا يقف الأمر عنده فلابد من إختيار العفو عن الناس مطلقاً، ترى ما هي الصلة ووجوه الشبه الموضوعية بين كظم الغيظ والعفو عن الناس, فيه مسائل :
الأولى: العفو عن الناس إحسان محض.
الثانية : كل من العفو وكظم الغيظ دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ.
الثالثة: كل فرد منهما مناسبة كريمة لإستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن الإنتقام والبطش سبب لبعث النفرة في النفوس، وإثارة الشحناء، بينما يجعل العفو الآخرين ينصتون إلى الحق وسبل الصلاح.
الرابع: إجتماع كظم الغيظ والعفو تنمية للأخلاق الحميدة عند الناس وفيه مناسبة لبيان معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنصات الناس لآيات القرآن وما فيها من البراهين الساطعة التي تدل على صدق نبوته.
وهل إظهار الغيظ،وإنتزاع الحق وعدم العفو عن الناس من المنّ والأذى في قوله تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( )، الجواب لا، لمجئ الآية بالندب إلى كظم الغيظ والعفو على نحو مستقل في موضوعه وان لم يكن إنفاق في البين، نعم موضوع الآية أعلاه في طول آية البحث، والجمع بينهما حث على ضبط النفس وعدم التعيير في موضوع الإنفاق والإعانة، وان جاء الأذى من الغير، خصوصاً وأن المنّ الذي تحذر منه الآية أعلاه وتبين ضرره في حجب الثواب الأخروي أعم من القضية الشخصية موضوعاً وأثراً.
وهناك تباين بين المنّ وحال الرضا والعز التي يصير عليها المسلم عند الإنفاق في سبيل الله، وهو أمر محمود، وبالإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من الخيلاء ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يكره، فأما الخيلاء التي يحب الله، فاختيال الرجل بنفسه عند الصدقة وعند القتال، والخيلاء التي يكرهها الله عز وجل في البغي والفخر)( ).
فالآية أعلاه تنهى في دلالتها التضمنية عن المنّ على الأمة والأفراد عند الإنفاق في المصالح العامة وتجهيز الجيوش ونحوها , وعن أنس قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل البراء بن عازب فقال : يا براء كيف نفقتك على أمك؟ – وكان موسعاً على أهله – فقال : يا رسول الله ما أحسنها . قال : فإن نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقة، فلا تتبع ذلك مناً ولا أذى( ).
إفاضات الآية
جاءت آية البحث فيضاً إلهياً هبة للذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقربهم إلى منازل العصمة المكتسبة والبصيرة النافذة، وتبعثهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي لتحري الخير، وإجتناب الشر، وتوجههم مضامين الآية والغايات الحميدة منها نحو الصالحات بشوق ورغبة إلى فعل الصالحات، وإدخار الحسنات لتكون جواز عبور إلى النعيم السرمدي.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله عزّ وجلّ يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلاّ الطيّب ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم مهره أو (فصيله) حتّى أن اللقمة لتصير مثل أحد)( ).
وكما أن الآية الكريمة فيض نازل من عند الله، فإن الإنفاق هو الآخر فيض وفضل وإمتنان من الله عز وجل فهو شكر لله على النعم ويستلزم من العبد الشكر(وورد عن أبي الجلد أن داود عليه السلام قال: إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني أرضى بذلك منك شكراً)( ).
(وعنه قال: قال موسى عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟ قال: فأوحى الله تعالى إليه يا موسى الآن شكرتني)( ).
وروي هذا الخبران عن أبي فروة أبي الجلد، الذي قال فيه ابن حبان(ويقال أن ابن فروة( ) كان يقرأ الكتب)( )، وعن إبنته ميمونة بنت أبي الجلد قالت: كان أبي يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ويختم التوراة في ستة يقرؤها نظرا فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يقال: تنزل عند ختمها الرحمة)( ).
ولم يؤمر المسلمون إلا بقراءة القرآن وتلاوة آياته، والنهل منه ومن السنة الشريفة، ومن فضل الله عز وجل أنه جعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومن المسلمات أن الشكر لله سنة الأنبياء، وهم أئمة الناس جميعاً بالإنقطاع إلى شكر الله عز وجل .
والظاهر أن ما ذكره أبو الجلد في الحديثين أعلاه أخذه عن الكتب السابقة وما طرأ عليها من التغيير، ومنه قول موسى عليه السلام: إلهي كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي…).
وفيه أنه ليس من نعمة من نعم الله صغيرة فإن قلت المراد أنها صغيرة بلحاظ النعم العظيمة التي تفضل بها على موسى عليه السلام، فإن هذا الإنصراف يحتاج إلى قرينة، خصوصاً عند الحديث على شكر ودعاء الأنبياء.
الآية لطف
ومن معاني اللطف الإلهي في الآية وجوه:
الأول: تقريب العباد إلى فعل الطاعات.
الثاني: جذب العباد لميادين الصلاح، وحملهم على إتيان الصالحات.
الثالث: البيان والوضوح في الأسباب التي تقرب المسلم إلى الجنة،.
الرابع: إقامة الحجة على الكفار الذين يحجبون عن أنفسهم نعمة فعل الصالحات في الدنيا، ويحرمونها من ثوابها في الآخرة.
وجاءت آية البحث بمصداق آخر من مصاديق اللطف الإلهي وهو بيان حب الله لأهل الإحسان، وما فيه من الترغيب بفعله، والمسارعة في موارده ومنه الإحسان إلى الذات كما ورد في الآية السابقة[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
بلحاظ تعدد طرق المغفرة ومنها الإحسان إلى الآخرين، ونشر شآبيب الرحمة بين الناس، وتعاهد صرح التقوى الذي بعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لسيادتها في الأرض لطفاً منه تعالى بهم لحسنها الذاتي وآثارها الحميدة على النفوس وفي المجتمعات، ولأنها الطريق المتعين والبلغة لبلوغ مراتب النعيم الدائم.
لقد أراد الله عز وجل بالقرآن دفع الغفلة عن الناس وتبديد الغشاوة التي تحاول أن تتسلل إلى القلوب، فنزل القرآن وفتح باب الإنفاق الذي هو واقية من أمراض النفس لذا تفضل الله وجعله في حال الرخاء والشدة، وجعله وسيلة وطريقاً إلى الجنة لما فيه من معاني الإيمان من وجوه:
الأول: تغشي شآبيب الرحمة والرأفة معاشر المسلمين، وسيادة لغة التراحم بينهم.
الثاني: تجلي معاني العبرة والإمتنان بين المسلمين، وإنتفاء الغيظ والحسد الذي قد يظهر عند الفقراء على الأغنياء.
الثالث: إشراقة أنوار اليقين في قلوب المسلمين ليس فقط بالإمتثال ولكن بما هو طاعة لله عز وجل فيكون إنفاق المسلم إحساناً منه لنفسه أولاً , ويدفع إتيانه بقصد القربة إلى الله عرضاً شديداً زائداً كالفقر، وقيدها بأنه نازل لمنطوق آية البحث بالجمع بين آية حال السراء والضراء وما فيه من الدلالة على مجيء السعة بعد الضيق , ويعطي المؤمن صدقة إلى فقير سواء كانت واجبة أو مندوبة فيكون في حال حصاد مستمر لثمار هذه الصدقة بالثواب المتجدد.
الرابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين، بأنهم يزفون إلى الجنة لإنفاقهم في سبيل الله لأن آية البحث تتضمن الوعد الكريم عل فعل الصالحات.
الخامس: الفوز بالمغفرة والعفو من عند الله للإمتثال لأوامره في هذه الآية.
السادس: إعانة فقراء المسلمين للتنزه من الحرام، وسلامة البطون والفروج، لإكتفائهم بما يأتيهم من الزكوات والصدقات ولأن الإنفاق تأديب لهم ودرس للتأسي بالمنفقين في باب الآداب والسلوك وطاعة الله، أي أن المنفق يطيع الله في ماله ويمد يد المساعدة للفقير، فيكون موضوع المساعدة أعم من الصدقة والبعد المالي، فيشمل الأخلاق والصلاح والإعتبار.
إن الإنفاق في سبيل الله لطف إختص الله به المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )، ورسم المحبة أنها الشوق في النفس للمحبوب كأنها السراج الذي يضيء على اللسان والجوارح فيكون وسيلة لتمثل المحبوب وما يصدر منه في الذهن بصورة حسنة مع الألفة والرغبة بالقرب منه، وكراهة منافرته وإيذائه.
ومن مصاديق حب الله عز وجل للعبد فهو اللطف به، وتقريبه من منازل الطاعة، وجعل حجاب بينه وبين المعصية وإن همّ بها.
وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، وصحيح أن يوسف عليه السلام نبي، ورؤيته البرهــان من مقامـــات النبــوة، ولكــن هذا البــرهان نعمــة أنزلها الله عز وجل للأرض بجنسه وليس بمصداقه وحده، وإذا أنزل الله نعمة فهو أكرم من أن يرفعها .
والبرهان في المقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة بلحاظ قرب العبد من الله، ويتجلى قربه بالعمل بمضامين آية البحث، وحرصه على السعي إلى الجنة.
ونعمة البرهان سابقة لزمان يوسف ومتأخرة عليه , ويمكن القول أنها من ميراث الأنبياء الذي تلقاه المسلمون تركة كريمة ليكون آية ينتفع منها الناس جميعاً وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وحينما توعد قابيل هابيل بالقتل، أظهر هابيل خوفه من الله وحبه له كما وورد في التنزيل[لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
وقيل إن ترك دفع القاتل كان واجباً عندهم أو أنه ترك الدفع تورعاً عن مجاهد( ).
ولكن القدر المتيقن من الآية هو أن هابيل تنزه عن الغدر بأخيه، أو الشروع بقتله إبتداء وغيلة، فلم يقل أني لم أدفع عن نفسي، وكأنه قال ولكني لا غدر بك ولا أباغتك بالقتل.
وكان هابيل أقوى من قابيل ولم يحصل بينهما قتال وإجتنب هابيل الغدر والقتال فراغ في رؤوس الجبال، فأتاه قابيل يوماً من الأيام(فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات.
وقال ابن جريج: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلّمه القتل، فوضع رأس أخيه على حجر ثم شدخه بحجر آخر)( ).
والأول أرجح وهو أن هابيل كان نائماً ساعة شدخ رأسه .
ومن معاني اللطف المحبة والقرب فأختتمت الآية بالإخبار عن حب الله للمحسنين بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) وفيه دلالة بأن الله عز وجل يريد أن يقرّب عباده له، وأن يسكنوا جنته.
وتتجلى هذه الإرادة بالإخبار عن كون سعة الجنة من اللامتناهي، ويركب الإنسان السيارة والطائرة والباخرة فيرى الصحارى الشاسعة، والبحار التي يتعدى عرضها مدّ البصر وكلها غير مأهولة ولا مسكونة، لتكون يوم القيامة جزءً يسيراً من الجنة سواء بذاتها أو بما يشبهها، لقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( )، لذا فإن إخبار الآية عن سعة الجنة ترغيب للناس بالتقوى وسوف تكون هذه السعة حسرة في قلوب الكفار يوم القيامة، قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بعث المسلمين للسعي الحثيث إلى اللبث الدائم في الجنة، والنعيم الأبدي بذكر الآية لصفات الذين أعدّ الله لهم الجنة.
الثانية: تقسيم الناس إلى قسمين:
الأول: المتقون.
الثاني: غير المتقين .
وقد أخبرت الآية عن إقامة المتقين في الجنة.
أما الثاني أعلاه فإنه عنوان واسع تدخل تحته مصاديق متعددة ومختلفة، وجاءت الآية لنقل الناس إلى مرتبة التقوى وبعث السكينة في النفوس بإتيان ما فيها من الخصال طاعة لله عز وجل وطمعاً في ثوابه، قال تعالى[وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ]( ).
وهذا التعريف لطف وفضل من الله، ومن مصاديقه بيان الأعمال التي تقود إلى الجنة بما يمنع الجهالة ويطرد أسباب الغفلة عن النفس ببركة القرآن .
وهل قوله تعالى في الآية السابقة[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]والخصال التي تضمنها هذه الآية من مصاديق المعنى الأعم لتعريف الله للجنة .
الجواب نعم لما تتضمنه من وصف الجنة، والهداية إلى طريقها في الآخرة، ولبعث السرور والغبطة في نفس المسلم عند الإمتثال لأحكام هذه الآية لأنه يدرك أنه خطى خطوة مباركة إلى اللبث الدائم في الجنة.
وإذا كان الترقي إلى مراتب التقوى يشمل المسلمين، فكيف تكون النسبة بين المتقين والمؤمنين التساوي، الجواب إن التقوى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وإلا فإن آية البحث لم تذكر الصلاة من صفات المتقين مع أنها أولى وأهم من الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس، وهي دعاء وأصل لهذه الخصال .
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خبر مستفيض قال: الصلاة عمود الدين( ).
الثالثة: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وكل ممكن محتاج، ولم يتركه يتلمس بالتجربة والوجدان والحواس حاجته وإختيار الأصلح، بل تفضل بالقرآن كتاباً جامعاً، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على أن القرآن يطرد الجهالة والغرر، ويحول دون الضــلالة والغفلة، وهذا المفــهوم معجزة من معجزات النبي محمــد صــلى الله عليه وآله وســـلم العقلية والحسية التي إختصه الله عز وجل بها، لتفوز أمته بمصاحبة نعمة النباهة والفطنة لهم متحدين ومتفرقين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
إذ أن تلاوة آية البحث والإنصات لها موعظة وباعث على مكارم الأخلاق لتضمن الآية السنن الحميدة التي تقود إلى الخلود في النعيم، والإنسان محتاج لهذه السنن سواء الذي يبذلها ويقوم بها أو الذي يتلقاها ممن كان متصدقاً عليه أو معفواً عنه .
وليكون من خصائص القرآن وآياته قضاء حاجة الإنسان لأمور النشأة الأولى والآخرة بالهداية إلى سبل الصلاح بالبيان والوضوح والتيسير، وهل في فعل الصالحات التي ذكرتها الآية إضرار بالذات والجماعة، كما لو قيل بأن الإنفاق إخراج للمال من غير عوض وأن العفو باب لتهاون المعفو عنه وغيره في التعدي.
الجواب لا، فإن الأجر على الإنفاق عظيم , ويتصف بأنه على قسمين حال في الدنيا وآجل في الآخرة , من غير تزاحم أو تعارض بين الأمرين، قال تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
أما العفو فإن المسلم يختاره ويأتي به قربة إلى الله تعالى، وفيه دلالة على صلاحه وتقواه مما يترك الأثر الحسن عند الله، ويدعو إلى التوبة والإنابة ونشر مفاهيم الرأفة والرحمة بين الناس، قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ]( ).
الرابعة: بيان مرتبة الفقاهة التي عليها المسلمون والمسلمات بحيث تنزل الآية من السماء بصيغة الجملة الخبرية فيعلمون أنها أمر وبعث للمضامين القدسية التي تتضمنها، فلم تأت الآية بلغة الجملة الأمرية(إنفقوا في السراء والضراء وأكظموا الغيظ وأعفوا عن الناس).
ولكنها جاءت ببيان صفات الذين أكرمهم الله عز وجل قبل خلقهم بأن أعد لهم الجنة بما يفعلونه من الصالحات ليسعى المسلمون بقوة في موارد الخير والصلاح.
الخامسة: بيان موضوعية الإنفاق في تعيين المتقين، وإطلاقه ليشمل حال الضراء والشدة على النفس بحيث يعطي المؤمن الأولوية لتعظيم شعائر الله، قال تعالى[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( )، وإن كان الإنفاق معدوداً ومتناهياً ظاهراً فإن ثوابه من اللامتناهي في النشأتين، لتكون حقيقة الإنفاق في الضراء النفع الأتم والأجر الأكمل.
وإذا كانت هناك حال برزخ بين السراء والضراء يكون فيها المسلم فهل تشملها عمومات الإنفاق، الجواب نعم، لإرادة الإطلاق في ذكر السراء والضراء.
ومن إعجاز الآية صعوبة تعيين مثل هذا البرزخ، فالإنسان إما أن يكون في حال سعة وبحبوبة من العيش، وأما في حال ضيق وعسر، وقد تجلت هذه الحقيقة في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، بلحاظ إنتفاء البرزخ والواسطة بين الإستطاعة وعدمها.
وهل الحج من الإنفاق في السراء , الجواب نعم، إذ أنه عبادة بدنية مالية ومن الآيات في تشريعه جواز الحج في خدمة الحاج بحسب الشأن ذكرتُ في هذا الباب مسألتين:
الأولى: لو آجر نفسه للخدمة في طريق الحج بأجرة صار مستطيعاً، ووجب عليه الحج، لأن الحج عبارة عن أداء المناسك والطريق مقدمة توصلية بل ويصح الحج لو كانت الخدمة أثناء المناسك ولا تتعارض مع أدائها، كما لو كان يقوم بخدمة شخص مقعد ودفع عربته أو قيادة أعمى ونحوهما وينوي الأداء عن نفسه في الوقوف بعرفة والمشعر والطواف ونحوه.
الثانية: من لم يكن مستطيعاً يجوز له أن يؤجر نفسه للنيابة عن الغير، وأن حصلت الإستطاعة بمال الإجارة، بمعنى أن ما جاءه من مبلغ الإجارة للحج جعله قـادراً على الحـج نيابـة والحـج عن نفسـه وإن كان بضم ما عنده أصلاً اليه، فيجب تقديم حج النيابة في هذه الصورة وإن بقيت الإستطاعة إلى العام القابل وجب عليه لنفسه( ).
السادسة: تنمية ملكة الإنفاق والبذل في سبيل الله عند المسلمين، وبعثهم على دفع الزكاة الواجبة والصدقات المستحبة , ودفعها إلى أهلها قال تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ).
ليكون من معاني التطهير والزكاة في المقام الأهلية لبلوغ مراتب الجنة والفوز بدعاء وإستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في الدنيا.
ومثلما جاءت آية البحث بأربع صفات للمتقين وأخبرت بأن الله يحب المحسنين فإن الآية أعلاه جاءت بثلاث خصائص مباركة للزكاة والصدقة وهي:
الأولى: الطهارة والنقاء ومحو السيئات.
الثانية: تزكية المسلمين ونماء أموالهم والزيادة في حسناتهم ونزول الفضل الإلهي عليهم.
الثالثة: دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والذي هو سكن وطمأنينة ورحمة بالمسلمين وذراريهم , وعون لهم للتحلي بالأخلاق التي تقود إلى الجنة.
وفي العفو عن الناس سكينة أيضاً لإنتفاء الكدورات، وإنعدام الحيطة والحذر والخوف من الضرر والإستدراج والثأر، والجمع بين الآيتين دليل على أمور:
الأول: ذات الصدقة من التقوى من جهات:
الأولى: إنها من مصاديق قوله تعالى في آية البحث[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
الثانية: أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصدقة من المسلمين.
الثالثة: حصول أخذ الصدقة بأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل في مفهومه على لزوم تقيد المسلمين به، وإمتثالهم له.
الرابعة: مجيء آية الصدقة أعلاه على نحو الإطلاق في حال السراء والضراء، ولكن التقييد ولغة التبعيض تتجلى لفظياً من ذات الآية بقوله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ]( ).
ومن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الآية أعلاه لم تحدد مقدار الزكاة وما يأخذه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أموال المسلمين بل تركت له تحديده وتقييده، فجاء المقدار قليلاً تضمنت السنة بيان نسبة الزكاة ومواردها والأصناف التي تجب فيها الزكاة من الحبوب والأنعام والنقدين على نحو التعيين والحصر , ولم تتجاوز فيها النسبة ربع العشر 2,5 % في الأعم الأغلب من تلك الأصناف وبما يمنع من الفتنة والظلم والتفريط في موارد الصدقات والإنفاق في سبيل الله، فلا يستطيع الحاكم المسلم أن يفرض جباية وخراجاً أكثر من الذي جاء بالنسبة الشرعية أعلاه ولا يحق للمسلم التخلف عن الزكاة لأنها ضرورة من ضرورات الدين.
المسألة السابعة: إستحضار المسلم لأمور عقائدية عند إقدامه على قول أو فعل وهي:
الأول: حتمية البعث والجزاء في عالم الآخرة.
الثاني: أن الجنة والنار حق.
الثالث: إختصاص المتقين بالنعيم الدائم في الجنان بوعد وفضل من الله سبحانه , قال تعالى[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً]( ).
الرابع: خصال التقوى وتجليها على اللسان والجوارح.
الخامس: الرغبة بالإحسان للآخرين لأنه طريق لجلب حب لله ورضاه.
المسألة الثامنة: عدم كفاية حبس الغيظ في تحقيق مرتبة التقوى فلابد من تعقبه بالعفو والسماحة، وترك المؤاخذة مستقبلاً، ويتصف العرب قبل الإسلام بالثأر والرصد للخصم لحين الإنتقام منه، ولا يختص هذا الرصد بذي الدم، بل يشمل القبيلة كلها، وكذا بالنسبة للإنتقام فكل فرد من قبيلة الجاني هو هدف مشروع وفق الأعراف القبلية , فجاء الإسلام في هذا الباب بأمور متداخلة:
الأول: حصر القصاص بالجاني.
الثاني: الزجر عن التعدي على غير الجاني بقوله تعالى[وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
الثالث: بعث النفرة من الجناية والتعدي مطلقاً كما تدل عليه آية البحث في مفهومها.
الرابع: الترغيب بالعفو عن الناس مطلقاً، وفيه نكتة وهي بعث السكينة في النفوس، فلا يخشى المسيء ومقترف الذنب التعدي والإنتقام والبطش .
ترى لماذا أطلقت الآية العفو وذكرت أنه(عن الناس) ولم تقل عن الجاني , فيه وجوه:
الأول: تأديب المسلمين، وهدايتهم إلى سبل الرشاد وطرق التقوى.
الثاني: جاءت الآية لبيان صفات المتقين الذين يستحقون دخول الجنة جزاء لهم بأن يكون العفو مصاحباً لهم في حياتهم وحالاتهم المتباينة.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن العفو لا ينحصر بحال دون أخرى، فكما أن الإنفاق في السراء والضراء كذا العفو في حال القدرة والقوة، والضعف والمسكنة والحاجة.
الرابع: عدم إنحصار العفو بالجاني، فيشمل المسبب-بضم الميم وكسر الباء- للجناية والذي هيئ مقدمات الجناية ونحوه.
الخامس: تأديب المسلمين على الإطلاق والعموم في الصالحات، كيلا يأتي المقيد على المطلق، ولا الخاص على العام، بل بالعكس، فإن تنمية ملكة العموم في الإنفاق والعفو وكظم الغيظ باب للتوسعة في الخاص، كما لو نظر المسلم لمفهوم ذي القربى والجار والمسكين واليتيم والعشيرة بالمعنى الأعم وبما فيه هايتهم صلاحهم وإعانتهم قربة إلى الله تعالى، قال تعالى في خصائص البر إلى جانب الإيمان[وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ]( ).
السادس: إستدامة العفو، وعدم ترتب الأثر على الإساءة والذنب، خصوصاً وأن المتقي يكظم غيظه، فلا يأتي يوم تتجدد عنده نية الإنتقام والبطش.
المسألة التاسعة: قد يقال بتعلق كظم الغيظ بساعة الحدث، وأوان وقوعه، ويأتي العفو متأخراً عنه رتبة، ومتعقباً له، ولا دليل على هذا التفصيل، والأصل إجتماعهما في الفرد الواحد من أفراد الزمان، مثلما يجتمع الغضب والإنتقام في آن واحد، فجاءت الآية الكريمة لأمور:
الأول: تنزيه المسلمين من الرذائل، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في ذم الغضب ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ، والحاكم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في سننه ، عن أبي وائل قال : رأيت عبد الله أتاه رجل برجل نشوان فأقام عليه الحد .
ثم قال للرجل الذي جاء به : ما أنت منه؟ قال : عمه . قال :: ما أحسنت الأدب ولا سترته {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم…} ( ) ثم قال عبد الله: إني لأذكر أول رجل قطعه النبي صلى الله عليه وسلم أتى رجل فلما أمر به لتقطع يده كأنما سف وجهه رماداً( ).
فقيل: يا رسول الله كان هذا شق عليك قال: لا ينبغي أن تكونوا للشيطان عوناً على أخيكم، فإنه لا ينبغي للحاكم إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه، وإن الله عفو يحب العفو، ثم قرأ {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)( ).
الثاني: أخلاق المسلمين الحميدة وسيلة متجددة لدعوة الناس للإسلام.
الثالث: إشاعة روح المودة وإستدامة الأخوة بين المسلمين، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فمن إعجاز القرآن أن تضمنه للإخبار بإعداد الجنة للمتقين باب لأخوة المسلمين بعضهم لبعض , وصبرهم في جنب الله، قال تعالى[وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابع: إستدامة كل من كظم الغيظ والعفو في الموضوع المتحد والمتعدد وعدم إنقطاع أحدهما بالمنّ والجفاء والإنتقام.
التاسعة: ترغيب المسلمين والناس جميعاً بالإحسان وأسباب المودة والرحمة لأن الله عز وجل يحب المحسنين، ومن الفطرة الإنسانية السعي لحب الله، وكأن هذا السعي من رشحات نفخ الروح في آدم بقوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، ليبقى العبد منجذباً إلى حب الله وما فيه من الدلالات على مراتب الفوز برحمته، فالذين يحبهم الله[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
العاشرة: بيان عظيم فضل الله، بأنه أكرم المؤمنين بلحاظ أنهم متقون فأعدّ لهم الجنة، وأنعم عليهم , وأخبر عن حبه لهم لإحسانهم وكل نعمة من هاتين النعمتين توليدية متجددة ليس لفروعها وما يترشح عنها من النعم حد ومنتهى.
ترى ما هي النسبة بين إعداد الجنة للمتقين وبين حب الله للمحسنين، فيه وجوه:
الأول: التساوي فمعنى حب الله للمحسنين هو إعداد الجنة لهم.
الثاني: العموم والخصوص من وجه، أي هناك مادة للإلتقاء بينهما، وأخرى للإفتراق.
الثالث: نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين:
الأولى: إعداد الجنة للمتقين جزء من حب الله عز وجل.
الثانية: حب الله عز وجل للمحسنين فرع إعداد الجنة.
الرابع: نسبة التباين الموضوعي بين الأمرين، بلحاظ أن إعداد الجنة للمتقين، بينما يتعلق حب الله عز وجل بالمحسنين.
والصحيح هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث أعلاه بلحاظ أن التقوى إحسان محض للذات والغير، ترى لماذا لم تقل الآية الكريمة(والله يحب المتقين) خصوصاً وأن الآية تذكر صفات التقوى التي تؤهل صاحبها لبلوغ المرتبة السامية بأن يكون من الذين أعدّ وهيئ الله عز وجل لهم الجنة.
والجواب من وجوه:
الأول: تأكيد الإعجاز في كلمات ونظم القرآن , والدعوة إلى التدبر بمضامينها، قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثاني: بيان سعة رحمة الله عز وجل وأنها لا تختص بعالم الآخرة، وما فيه من الثواب العظيم، بل تتغشى الناس في الحياة الدنيا بلحاظ أن حب الله عز وجل للمحسنين رحمة بهم، وباب لترشح معاني الرأفة والإحسان إليهم.
الثالث: ترغيب الناس بفعل الصالحات، وبعثهم على الإحسان، قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الرابع: بيان فضل الله وأنه أعم من أن يختص بأمور ونعم محدودة ومعينة، فمع حب الله للعبد تتابع وتوالى النعم عليه ظاهرة وباطنة.
الخامس: الدلالة على حقيقة وهي عدم إنحصار صفات المتقين بما موجود في هذه الآية، ويدل عليه قوله تعالى(أعدت للمتقين) الذين ينفقون في السراء والضراء، بلحاظ أن التقوى صفة قائمة بذاتها وهي الخشية من الله وإتيان الفرائض، وكأن ذكر الصفات في آية البحث من عطف الخاص على العام.
لقد ذكرت الآية تقلبات الزمان بذكر حالات السراء والضراء التي تأتي على المسلمين، وتمر عليهم في أفراد الزمان الطولية من أوان التنزيل وإلى يوم القيامة، وفي أمصارهم المتعددة والمنتشرة في أصقاع الأرض .
ولا يعني هذا الإتحاد الزماني والمكاني في حال السراء أو الضراء فقد يكون هناك إختلاف وتباين في الزمان الواحد، فتجد أهل مصر من المسلمين في سعة وغنى، وآخرين في شدة وضيق، فجاءت الآية لبعث معاني الأخوة والود وأسباب النصرة والإعانة بينهم.
ومن غايات الآية الكريمة أنها تبعث المسلمين متحين ومتفرقين على الحمد والشكر لله في حال السراء والضراء، وعدم الغرور في حال الغنى، ولا الجزع في حال الضراء، إذ تدل هذه الآية بالدلالة التضمنية على عدم بقاء الضراء، وتدعو للتعاون فيها، وتبشر الذين ينفقون فيها بالجزاء الحسن .
وعن عقبة بن عامر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقال: يجمع الناس في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، فينادي مناد: سيعلم أهل الجمع لمن الكرم اليوم ثلاث مرات ثم يقول: أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع: ثم يقول: أين الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم يقول: أين الحمادون الذين كانوا يحمدون ربهم)( ).

التفسير الذاتي
تكررت مادة(نفق) ومشتقاتها ومنها(أنفق،أنفقوا،تنفقوا،نفقة) ونحوها مرات كثيرة في القرآن وإرادة البذل والعطاء، وأكثرها عدداً لفظ(ينفقون) وهو الذي إبتدأت به آية البحث[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ] وجاء في بدايات القرآن بقوله تعالى[الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( )، وفيه ترغيب بالتقوى وإخبار بأن من خصائص المتقين إنفاق المال، وإخراجه من ملكهم بلا عوض.
وبالإسناد عن ابن عباس في الآية أعلاه قال:زكاة أموالهم( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الآية أعلاه قال:مما علمناهم ينبئون ومما علمناهم من القرآن يتلون) ( ).
وفي الجمع بين الآيتين أعلاه بيان لتعدد مواضيع الإنفاق والبذل، وأنه باب للأجر والثواب، والعلم من مصاديق الرزق وهو مقدمة وسبب للصلاح، وورد عن رسول الله أنه قال: يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء( )، مما يدل على أولوية إظهار العلم وعدم كتمانه، وبيان منافع إفشاء العلم , وأنه طريق وموضوع مبارك للإنفاق.
وتبين الآية موضوعية التنزيل في إصلاح المجتمعات وتنزيه النفوس من النفاق، بأن يقبل المسلمون على طاعة الله بالبذل والعمل الصالح الذي يكون من مصاديق الأخلاق الحميدة مثل كظم الغيظ والعفو عن الناس، وإلى جانب الأوامر والبعث إلى الصالحات جاء القرآن بذم الذين تمتلأ صدورهم بالشك والريب، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ] ( ).
أي يعبد الله على ضعف وشك كالقائم على حرف وطرف مضطرباً فيه، فاذا أصابته نعمة وإستمر في حال الصحة والعافية فانه يرضى ويطمأن إليه، ويبقى على عبادته، أما إذا أصيب ببلاء في جسمه وصحته، أو ذهب ماله ولحقته خسارة فانه يجزع، ويبقى متحيراً وقد يرتد ويرجع إلى الضلالة، ولم يلجأ إلى الله , ويستحضر الصبر وأسباب الرضا, ومصاديق التقوى كما في قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
فجاءت آية البحث للحث على الإنفاق حتى في حال الشدة والعسر لأنه عنوان الخشوع لله والتسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله سبحانه، وفيها مسائل:
الأولى: إنها حرب على عبادة الله على حرف ومنفعة حاضرة.
الثانية:الإيمان واجب على الناس.
الثالثة: الإنفاق حاجة للمسلمين وشاهد على الصلاح والهداية , والحاجة ملازمة لعالم الإمكان , والإنسان ممكن.
الرابعة: الإنفاق في سبيل الله واقية من الشك والريب، ومن التكاسل في العبادات وأداء الفرائض.
ويفيد الجمع بين آية البحث والآية التي ذكرناها آنفاً [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] أموراً:
الأمر الأول:تقييد الإنفاق في آية البحث بأنه من المال الخاص، والرزق الحلال،وقال المعتزلة بإن الرزق هو كل ما صح إنتفاع الحيوان به بالتغذي أو غيره،ولا يحق لغيره منعه منه، وعلى هذا لا يعتبر الحرام عندهم رزقاً، وملاك الرزق عند الأشاعرة إنتفاع الحي منه بالتغذي أو غيره، سواء كان مباحاً أو غير مباح .
والمراد من الإنفاق في الآيتين هو الرزق الحلال لقرينة أنه صفة للمتقين، ومن خصال التقوى التنزه عن الحرام وأكل المال بالباطل.
الأمر الثاني:بعث المسلمين لشكر الله عز وجل عند الإنفاق، لأنه سبحانه هو الذي رزقهم من فضله المؤونة والزائد عنها الذي يقومون بإنفاقه , قال تعالى[وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( )، وذات الإنفاق من الشكر لله عز وجل على نعم متعددة في المقام هي:
الأولى: السعي في مراتب الإيمان والتقوى.
الثانية :مجئ القرآن بالهداية للإنفاق والإخبار بأنه من خصال التقوى, وطريق مبارك للجنة.
الثالثة: الإمتثال للأوامر الإلهية بالإنفاق في حال الرخاء والشدة.
الرابعة: القدرة على الإنفاق والبذل في سبيل الله.
الخامسة: التسليم العملي باليوم الآخر،والإقرار بالجنة والنار، لإتخاذ الإنفاق طريقاً إلى الخلود في النعيم.
وظاهر الآية والنصوص الإطلاق في الإنفاق، وشموله لوجوه:
الأول:الزكاة الواجبة، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثاني:الصدقات المستحبة والمندوبة، وإذا كانت الزكاة الواجبة تتعلق، بنصب( ) مخصوصة في أجناس معينة كالحنطة والشعير والنقدين والأنعام الثلاثة فان الصدقات المستحبة أعم في موضوعها ومقدارها وجهة صدورها، والجهة التي تعطى لها، فقد لا تتعلق الزكاة الواجبة بالمكلف, ولكن آية البحث تحثه على الإنفاق والبذل من جهات:
الأولى: ما ورد في الآية الكريمة من الإنفاق في الضراء والشدة، لأن الزكاة الواجبة تتعلق بالمال المخصوص عند تحقق النصاب في المال الخاص.
الثانية: ما يتجلى في الآية الكريمة من الملازمة بين التقوى والإنفاق.
الثالثة:بيان حقيقة وهي إتصاف المسلمين بسنخية ثابتة وسجية دائمة هي الإنفاق، وعدم مغادرتهم لها في كل الأحوال، لأن بها دوام وثبات أحكام الشريعة، وسنن الحلال والحرام.
الثالث:الإنفاق في سبيل الله، وإعانة المجاهدين، وتحصين الثغور، ودفع الفقر والعوز عن المؤمنين وعوائلهم، مما لا ينحصر بالواجب المالي كالزكاة والخمس.
الأمر الثالث: الإنفاق الذي ذكرته آية البحث إنما هو جزء من المكاسب والرزق الذي يتفضل به الله عز وجل على المسلمين بدلالة التقييد بالتبعيض في قوله تعالى[وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( )، وكما أن القرآن تبيان لكل شئ فهو بيان لذاته، مبين لمضامينه، كاشف عن أحوال الإنسان في النشأتين، ومن مصاديق البيان في آية البحث أمور:
الأول: الإخبار عن خلق الجنة وأنها دار ثواب.
الثاني:بيان الخصال الحميدة التي توصل إلى الجنة.
الثالث:تأكيد حقيقة وهي أن السكن واللبث في الجنة دائم لأصالة الإطلاق في مضامين الآية السابقة، وذكر هذه الآية لصفات الحسن التي يتحلى بها أهل الجنان، قال تعالى[ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ]( ).
الرابع:بيان فضل الله عز وجل على الناس بعدم تركهم وشأنهم في باب العمل والمعاملات، فكما تفضل سبحانه ببيان الفرائض بصيغة الأمر، تفضل وذكر الخصال الحميدة في باب المعاملات والصلات، وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
والآية أعلاه مدنية بمعنى أنها نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة لبيان الأوامر والنواهي، وأحكام الحلال والحرام، وانقطاع النسخ في مضامين أحكام الشريعة، قالوا: ولم ينزل بعد هذا على النبي صلى الله عليه وآله شئ من الفرائض في تحليل شئ، ولا تحريمه وأنه (عليه السلام) مضى بعد ذلك بأحدى وثمانين ليلة( ).
ولم يأت في القرآن بما ينسخ محبوبية الإنفاق في حال السراء والضراء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ولقد أختتمت آية البحث بقانون كلي يدل على إمتناع آية البحث عن النسخ لقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، بقرينة أنها جاءت متعقبة لمضامين الآية التي هي إحسان محض، لتكون خاتمتها وعداً من عند الله عز وجل بالعوض، والجزاء العظيم بالجنة الدائمة.
وأخرج ابن مردويه عن الإمام علي عليه السلام سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :إن لكل يوم نحساً ، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة ، ثم قال : اقرأوا مواضع الخلف ، فإني سمعت الله يقول [وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ]( )، إذا لم تنفقوا كيف يخلف( ).
التفسير
قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]
يدل إبتداء الآية بالاسم الموصول(الذين) على تعلق وإتصال مضامين هذه الآية بالآية السابقة، وهو من بديع نظم آيات القرآن، وأسرار فضل تقسيم السورة إلى آيات بينها فواصل تقبل الترقيم والبيان الذي يتضمنه ويدل عليه هذا الترقيم.
ومن إعجاز هذا التقسيم كفاية الآية السابقة في معرفة صفات أهل الجنة، لقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]، بلحاظ أن التقوى أم المكارم، وعنوان أداء الفرائض، والفيصل الذي يميز أهل الإيمان، وهل يمكن القول بالتقسيم الآتي:
الأول: مجيء الآية السابقة للدلالة على أداء الواجبات والفرائض.
الثاني: مجيء هذه الآية بالمستحبات والمندوبات وأن المراد من الإنفاق في السراء والضراء هو الصدقات المستحبة .
الجواب لا دليل على هذه الحصر والآية أعم موضوعاً وحكماً، وتبعث المسلمين على الإنفاق، وترغبهم بالصدقة الواجبة والمندوبة، ويتجلى هذا الترغيب بالبشارة بالثواب العظيم , وما ينتظرهم من النعيم الذي لا إنقطاع له.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثل الذي ينفق أو يتصدق عند الموت مثل الذي يهدي إذا شبع)( )، وفي الحديث زجر عن التسويق في الصدقة، والتأخير في إخراجها، وتحذير من جعل الخشية من الفقر والفاقة برزخاً دون المسارعة في الخيرات.
الثالث: ذكر الآية التالية للتروك التي يتجنبها المتقون.
الجواب لا دلالة على هذا التقسيم , خصوصاً وأن الواجب ينبسط على بعض مضامين هاتين الآيتين كما في الإنفاق وذكر الله، والإستغفار، والتنزه من الإصرار على فعل المعصية، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)( ).
وتدل آية البحث على أمور:
الأول: نسبة التساوي بين المتقين والعاملين بأحكامها لإنتفاء التخصيص والإستثناء إذ تترشح التقوى على الإرادة والفعل، وتظهر في المبرز الخارجي بإفشاء الصالحات وإظهار حسن السمت في المعاملات والعقود، والسخاء الذي هو شعبة الخلق الكريم، وأمارة عليه، ومن يكون سخياً يطمع الناس في كظمه الغيظ وعفوه عنهم، وهل يتجرأون عليه بسبب هذا السخاء وسماحة الأخلاق، الجواب لا، لأنها تزيده هيبة في النفوس، وتجعل الناس يميلون إليه ويلجأون إليه في المهمات، ويكون مثالاً وأسوة يقتدى، بإعتباره السخاء ميزان للصلاح بالإضافة إلى أن السخاء باب للرزق الواسع.
وأخرج ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الرزق إلى بيت فيه السخاء أسرع من الشفرة إلى سنام البعير)( )، وروي بطرق وصيغ أخرى مشابهة، (الْخَيْرُ أَسْرَعُ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُغْشَى مِنَ الشَّفْرَةِ إِلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ)( ).
ومن خصائص الإنسان مصاحبة الحاجة له بلحاظ أنه ممكن وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: كل ممكن محتاج.
الصغرى: الإنسان ممكن.
النتيجة: الإنسان محتاج.
ومن بديع صنع الله عز وجل أنه جعل الناس بالناس، يحتاج ويساعد ويعضد بعضهم بعضاً، وليس من مقام ثابت لأفراد أو جماعات منهم في هذه الباب، فلا ترى بعضهم في مقام العوز والحاجة دائماً، ولا غيره له اليد الطولى دائماً، يساعد الآخرين، ويستغني عنهم.
لقد أراد الله عز وجل أن يكون الإنسان حجة بنفسه وغيره على نفسه والغير وهذا المعنى من مفاهيم تسمية الإنسان لأنه يألف غيره ويكون كل واحد من البشر موعظة وعبرة للآخرين، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
وفي الحاجة والتناوب فيها بين الناس مسائل:
الأولى: إنها نعمة من الله على الموجود والمعدوم، وفي قضاء حاجات الناس والسعي فيها، والإنفاق في حال السراء أو الضراء نعمة ونفع من وجهين:
الأول: ثواب للآباء لأنه عمل صالح يشمل أجره الآباء على حسن التأديب والإصلاح لعمل الصالحات.
الثاني: نفع للأبناء لأنه تركة كريمة، أما ترى ثناء الناس على الساعي في الخيرات حتى بعد وفاته.
الثانية: إنها طريق إلى الهداية والتقوى.
الثالثة: هي مناسبة للتدبر والتبصر في أمور الدين والدنيا.
الرابعة: إنها أمارة على لزوم إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة.
الخامسة: في تعلق حاجات الإنسان بغيره مناسبة للدعاء وسؤال الله عز وجل قضاءها , ويبذل الإنسان الوسع في سبيل مخصوص لإنجازها, ويتفضل الله عز وجل بتيسيرها من سبيل آخر , قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
السادسة: إنها ميدان مبارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابعة: فيها دعوة للناس للصلاح والرشاد، والتخلي عن الشح والأخلاق المذمومة، وليس من سبيل لهذا التخلي إلا التقوى ومن الآيات إنتفاع طرفي الحاجة وقضائها، وتغشي الثواب لهما وللواسطة ومن يهيئ مقدمات العون والمساعدة.
لتكون آية البحث نوع تحد متجدد لأجيال الناس بأن التقوى قوام الحياة الدنيا، وعلة إستدامتها، مما يملي على الناس تعاهدها، والعمل بسننها، وإذا كان الإنسان ذكراً أو أنثى يعشق البقاء في الدنيا بإنجاب الأولاد، فإن التقوى أصل بقائه وأولاده وجماعته.
فإن قلت الحياة مستمرة مع أن أكثر الناس غير متقين، قال تعالى[وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ]( )، والجواب إن تقيد شطر من الناس، وهم المسلمون بالتقوى سبب لإستدامة الحياة على الأرض، وعلة لنزول الرحمة على الناس، وباب للتوبة والإنابة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الآيات أن التقوى لم تأت من الناس إبتداءً، بل هي رشحة من فضل الله ببعثة الأنبياء وتنزيله الكتب السماوية، وآية البحث حجة في المقام، ومناسبة لشكر الله عز وجل على نعمة الهداية إلى التقوى ومصاديقها، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ومن مصاديق فضله تعالى في المقام تلاوة المسلمين لآية البحث على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية، فإن قلت ليس من تعيين في القراءة الواجبة لآية أو سورة مخصوصة من القرآن عدا سورة الفاتحة، فقد يمر عام كامل شتوة وصيفة، ولا يتلو المسلم هذه الآية إماماً كان أو مأموماً.
والجواب هذا صحيح ولكن الآية في معرض التلاوة، ومن أسرار وجوب القراءة هو أن كل آية وسورة في القرآن تحث على تلاوتها، وتدعو المسلم لقراءتها في الصلاة والفوز بثوابها، ليتجلى نفع عظيم من التكرار اللفظي والمعنوي في القرآن للمضامين القدسية لآياته، ومنها خصائص التقوى .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاته بمفرده السور الطوال وكان بعض الصحابة والتابعين يقرأون السور الطوال والمثاني في صلاتهم، وربما قرأها بعضهم في الجماعة، خصوصاً مع النصوص الواردة بذكر الثواب المخصوص لكل سورة من القرآن على نحو الإستقلال.
ومن رشحات وجوب قراءة آيات القرآن في الصلاة صيرورة كل آية قريبة من المسلم، يهم بوجوب تلاوة آيات القرآن على نحو الكلي في المعين، ويأتي الإخبار عن سعة الجنة وكون التقوى الطريق المؤدي إلى الخلود فيها للترغيب بتلاوتها في الصلاة، والشعور بالسكينة والرضا عند تلاوتها ولو خارج الصلاة، وعند سماعها وتفسيرها وحضورها في الوجود الذهني، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
إن قوله تعالى(الذين ينفقون) شاهد تأريخي متجدد على تقوى المسلمين، ويمكن تسمية المسلمين بإسم(المنفقون في السراء والضراء) وفيه أمور:
الأول: إختصاص المسلمين بهذه التسمية.
الثاني: يعرف المسلمون بين أهل السماء والأرض بهذه الصفة المباركة.
الثالث: إقامة الحجة على الناس بأن المسلمين هم[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: دعوة المسلمين لتعاهد هذه الصفة، وتوارث الموافقة والملازمة بين إسم(المنفقون) وبين مصاديقه العملية على نحو الإطلاق، من جهات:
الأولى: الإطلاق المكاني , وشموله لمشارق الأرض ومغاربها، ففي كل بلد ومصر ترى المسلمين وهم يتحلون بصفة وإسم(المنفقين في سبيل الله).
الثانية: الإطلاق الزماني بتوارث أجيال المسلمين للصفات والخصائص الكريمة التي تدل على هذه التسمية.
الثالثة: إعجاز القرآن، وتحديه للناس جميعاً.
وتؤكد الآية الكريمة مصاحبة الإنفاق للمتقين في أيام الحياة الدنيا على إختلاف أحوالهم فيها، وتقلب أيامها، وعجف الزمان، وهم على ذات السنخية من الكرم والبذل في سبيل الله .
وعن أنس قال: كان الرجل يسلم على الطمع اليسير فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها( ).
ومن أسباب حبه للإسلام ورشحات هذا الحب إنفاقه في سبيل الله، ومبادرته إلى العطاء لإدراك حقيقة وهي أن هذا الإنفاق وظيفة تعبدية، وفيه إمتثال لأمر الله، وهو شاهد على عشقه للجزاء والثواب العظيم من عند الله.
وإنفاق المال مقدمة للقتال، والإستعداد للشهادة في سبيل الله، من جهات:
الأولى:تجرد المسلم عن حب الدنيا وزينتها.
الثانية: الإنفاق تنمية لملكة البذل والعطاء في سبيل الله، وأسناه بذل النفس، لذا فان قوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ] ( )، أعم من القتل والشهادة في سبيل الله، إذ يتجلى شراء النفس أيضاً بأداء الفرائض، وإتيان القربات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسخير النفس لإعلاء كلمة التوحيد، وكأن نفسه وجهده مشروع مثمن ليس له من يقبله ويعطيه العوض إلا الله عز وجل، لذا جاءت بالتقييد بابتغاء مرضاة الله،والإبتغاء الطلب الشديد،وإتخاذ البلغة للوصول إلى المطلوب فجاءت آية البحث لتحث على طلب رضا الله عز وجل بالإنفاق في الرخاء والشدة.
الثالثة:يقوم المسلم بالإنفاق طاعة لله عز وجل، وتصديقاً بالثواب العظيم الذي أعدّه الله عز وجل على الإنفاق، الذي هو من خصال التقوى، وكذا فان بذل النفس في سبيل الله من طاعة الله وأبهى مصاديق التقوى.
ومن الآيات أن الثواب بالخلود في الجنة جاء في القرآن مترتباً على الشهادة والقتل في سبيل الله بوعد كريم من الله وكأنه من باب ترتب المعلول على علته والذي لا يتخلف عنها .
وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من أهل الجنة أحد يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشر أمثالها إلا الشهيد ، فإنه ود أنه لو رد إلى الدنيا عشر مرات فاستشهد لما يرى من فضل الشهادة( ).
ويفيد الجمع بين آية البحث والآيات التي تبين عظيم الثواب على الشهادة المندوحة والسعة في رحمة الله بالمسلمين وأن الثواب والأجر بالإقامة الدائمة في الجنة لا يتوقف على الشهادة وإنتظارها، بل إن أيام وليالي الحياة الدنيا كلها مناسبة للفوز بالجنة , وجاءت النصوص بنيل مرتبة الشهادة بالدعاء والصلاح، لذا فان آية البحث تدعو إلى الإرتقاء لأسمى معاني الإيمان.
من خصائص الإنسان أنه يحرص على ماله لوجوه:
الأول: حب التملك، وإرادة السعة في المال.
الثاني:الجهد والكيفية التي جمع بها المال مما يجعله يتجنب أسباب التفريط به.
الثالث:إدراك الإنسان لمحبوبية المال عند طرو الحاجة له.
الرابع: الحيطة والحذر من تقلبات الزمان، إن تعاهد المال والسعي لزيادة الثروة أعم من البخل والشح.
الخامس:قد يتجافى الإنسان عن البخل , وهو في نفس الوقت يتجنب البذل والعطاء من غير عوض , فجاءت آية البحث بياناً سماوياً بأن البذل والعطاء في سبيل الله أفضل للمسلم , وأنه يحتاج إليه في الدنيا والآخرة, قال تعالى[وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ]( ).
فالإنفاق مناسبة لجمع المال لأنه باب لنمائه ومضاعفته مع زيادة بلحاظ أنه حسنة وفعل صالح.
وبالإسناد عن سهل بن معاذ، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف( ).
ليكون الإنفاق مناسبة لجلب الخير في الدنيا , وزيادة الثواب في العبادات البدنية التي ليس فيها إنفاق كالصلاة والصيام.
وهل يضاعف ثواب الإنفاق والبذل مع الصلاة والذكر , الجواب نعم لذا جاء تقييد مضاعفة الثواب على الإنفاق بأنه في سبيل الله ، وبالإسناد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا تسارعتم إلى الخير فامشوا حفاة ، فإن الله يضاعف أجره على المنتعل( ) .
ولا يختص الحديث بمنطوقه بلحاظ المائز في الثواب بين الحافي والمنتعل ، خصوصاً وأن من الذين يسارعون إلى الخير ذوي شأن وجاه، وأنه تأتي على المسلمين أزمنة تتدافع فيها النعم عليهم، وفيه أخبار من السنة، فجاء الحديث أعلاه للحث على المبادرة إلى المسارعة إلى الخيرات وعدم التأخير أو التواني فيها إلى حين تهيئة المستلزمات الشخصية لإتيانها.
وفي الحديث أعلاه دعوة للمسلمين للفوز بالجنة التي أعدّها الله عز وجل للمتقين،ومن مصاديق التقوى التعجيل بالعمل الصالح،وعدم التسويف فيه.
وجاءت السنة النبوية ببيان وتعضيد القرآن , وتثبيت أحكامه في النفوس والواقع العملي، لقد أراد الله عز وجل لصفات المتقين التي تذكرها آية البحث الثبات في الأرض، والظهور على الجوارح والأركان، ويتوارثها المسلمون جيلاً بعد جيل، وتأكيد حقيقة وهي أن هذه الصفات لم ولن تغيب عن الأرض منذ أن هبط آدم للإقامة فيها وإلى يوم القيامة ، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
وتجلت التقوى بصبر هابيل عند إرادة أخيه قابيل قتله كما ورد في التنزيل[لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ]( )، أي أن تقوى هابيل لم تنحصر بقبول القربان , بل بالمصداق العملي والشاهد الواقعي على التقوى حتى بعد قبول القربان بالصبر والتنزة عن إستباق التعدي , وإظهار كظم الغيظ واضحاً جلياً في صبر آدم.
وعن مقاتل بن الضحاك عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكّة إشتاك الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه وأمرّ الماء واغبرّت الأرض.
فقال آدم (عليه السلام) : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول،وهو أوّل من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها ووجه الأرض مغبر قبيــح
تغير كل ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه الصبيح( )
ولكن روى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب على اللّه ورسوله ورمى آدم بالمآثم، إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم صلوات اللّه عليهم في النهي عن الشعر سواء .
قال اللّه تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ} ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلّم بالعربية فلمّا قال آدم مرثية في إبنه هابيل، وهو أوّل شهيد كان على وجه الأرض. قال آدم لإبنه شيث : وهو أكبر ولده ووصيّه : يا بني إنّك وصيي، إحفظ هذا الكلام ليتوارث، فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية , وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع، فقال إن هذا ليقوّم شعراً فرّد المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم , فوزنه شعراً وما زاد فيه ولا نقص حرفاً من ذلك في قصيدة طويلة , وكيف أن إبليس أجابه في جوف الليل شامتاً ( ).
وتبين واقعة القتل بين أبناء آدم الصلبيين حاجة الإنسان ومن الأيام الأولى لعمارته الأرض إلى حبس الغيظ، وترك إعمال السيف حسداً وثأراً الذي يأتي على كثير من الناس، ويبيد أقواماً وأمماً، مما يدل على أن آية البحث حاجة للإنسانية، وعمارة الأرض بعبادة الله، وهو من إعجاز القرآن السابق لزمان نزوله.
والمراد من إعجاز القرآن السابق لزمانه هو إنطباق مضامين وأحكام آياته على الأزمنة السابقة واللاحقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لذا فقد جاءت الآية السابقة بالإطلاق في إعداد الجنة بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وأن المراد من المتقين من أيام أبينا آدم عليه السلام , ويدل عليه ما ورد في التنزيل على لسان هابيل في الرد على أخيه [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( )، وفيه دعوة لقابيل بالسعي لبلوغ مراتب التقوى، ولكنه أبى إلا الجحود والتعدي والقيام بأول سفك للدم على الأرض .
فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتدخل الملايين من البشر ببركة نبوته في الإسلام، ويرتقون إلى مراتب التقوى بالتقيد بأداء الفرائض والعبادات مع أنهم يسعون إلى الوعد الكريم من الله بالجنة، أما قابيل فكان ابن أول نبي على الأرض، ويرى بعينه الآيات الحسية وقبول القربان، ووقائع لبث أبيه وأمه في الجنة حاضرة عنده بالسماع منهما، ومع هذا أصر على الجحود.
وجاءت الآية أعلاه بحصر قبول القربان والعمل بقيد التقوى والخشية من الله، فغير المتقي لا يقبل منه، وفيه وجوه:
الأول:إختصاص الحكم بشريعتهم،ثم نسخ بقبول العمل الصالح من المسلم وموارد العفو والتخفيف في العقاب في تعاقب شرائع عديدة، منها ما ورد في أسباب نزول الآية التالية لآية البحث [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، روي أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل( ).
الثاني: المراد من التقوى المعنى الأعم، وإرادة صدق السريرة، لذا ذكر بأن هابيل قدم قربانه (روي أن قابيل كان صاحب زرع فقرب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرب أحسن كبش عنده وكانت العادة حينئذ أن يقرب الإنسان قربانه إلى الله ويقوم يصلي فإذا نزلت نار من السماء وأكلت القربان فذلك دليل على القبول وإلا فلا قبول فنزلت النار فأخذت كبش هابيل ورفعته وتركت زرع قابيل فحسده قابيل فقتله إنما يتقبل الله من المتقين)( ).
الثالث:إرادة قضية في واقعة، ومسألة عين خاصة بولدي آدم عليه السلام , وتقدير الآية : إنما يتقبل الله القربان من المتقين ).
الرابع:قبول القربان أخص من قبول الحسنات والعمل الصالح.
الخامس:من خصائص القبول في الآية أعلاه أن تأتي النار على القربان بينما يؤدي المسلمون أفعالهم العبادية والمندوبة رجاء القبول بفضل من الله عز وجل الذي لا تضيع عنده الودائع، وهو الذي تدل عليه آية البحث التي ذكرت الخصال التي تدخل المسلم الجنة، وليس فيها قربان حسي ظاهر، بل تتضمن التصدق بالمال، وحبس الغضب والعفو عن الناس.
وقد فتح الله عز وجل باب التوبة للمسلمين، وجعل الإستغفار باباً لقبول الصالحات، وكذا التجاوز عن الخطأ ونحوه، وأخرج ابن ماجة عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه( )، والحديث مستفيض، ومروي بطرق وإسانيد متعددة في كتب المسلمين مع توسعة في أفراد التخفيف فيه.
وهذا اللطف الإلهي بالمسلمين من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فان قيل لقد نال المسلمون هذه المرتبة بفضل ولطف من الله , الجواب نعم، وهذا اللطف عام وشامل للناس جميعاً بلحاظ إمكان دخولهم الإسلام، فلم يجعل الله عز وجل برزخاً دون دخولهم الإسلام، ولم يعلق هذا الدخول على إذن من أحد من الخلائق أمس واليوم وغداً .
وذات النطق بالشهادتين توبة وهو أيضا طريق للتوبة والإستغفار من الذنوب.
وذكر أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: واذنوباه واذنوباه مرتين او ثلاثا، فقال له عليه السلام قل اللهم مغفرتك اوسع من ذنوبى ورحمتك ارجى عندى من عملى ، فقالها ثم قال : عد فعاد ثم قال :عد فعاد ثم قال:قم فقد غفر الله لك( ).
وقد جاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دخول الناس للإسلام بما فيهم الذين آذوه وحاربوا المسلمين وقتلوا منهم كما في وحشي الذي قتل الحمزة عم النبي يوم أحد، إذ يروي بنفسه قصة إسلامه بقوله (حَتّى إذَا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ هَرَبْتُ إلَى الطّائِفِ ، فَمَكَثْت بِهَا ، فَلَمّا خَرَجَ وَفْدُ الطّائِفِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُسْلِمُوا تَعَيّتْ عَلَيّ الْمَذَاهِبُ فَقُلْت : أَلْحَقُ بِالشّأْم ِ أَوْ الْيَمَنِ ، أَوْ بِبَعْضِ الْبِلَادِ فَوَاَللّهِ إنّي لَفِي ذَلِكَ مِنْ هَمّي ، إذْ قَالَ لِي رَجُلٌ وَيْحَك إنّهُ وَاَللّهِ مَا يَقْتُلُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ دَخَلَ فِي دِينِهِ وَتَشَهّدَ شَهَادَتَهُ، فَلَمّا قَالَ لِي ذَلِكَ خَرَجْتُ حَتّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَلَمْ يَرُعْهُ إلّا بِي قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ أَتَشَهّدُ بِشَهَادَةِ الْحَقّ فَلَمّا رَآنِي قَالَ أَوَحْشِيّ ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ اُقْعُدْ فَحَدّثْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ قَالَ فَحَدّثْته كَمَا حَدّثْتُكُمَا ، فَلَمّا فَرَغْتُ مِنْ حَدِيثِي قَالَ وَيْحَك غَيّبْ عَنّي وَجْهَك ، فَلَا أُرَيَنّك . قَالَ فَكُنْتُ أَتَنَكّبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ كَانَ لِئَلّا يَرَانِي ، حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ خَرَجْت مَعَهُمْ وَأَخَذْت حَرْبَتِي الّتِي قَتَلْتُ بِهَا حَمْزَةَ فَلَمّا الْتَقَى النّاسُ رَأَيْت مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابَ قَائِمًا فِي يَدِهِ السّيْفَ وَمَا أَعْرِفُهُ فَتَهَيّأْتُ لَهُ وَتَهَيّأَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ النّاحِيَةِ الْأُخْرَى ، كِلَانَا يُرِيدُهُ فَهَزَزْتُ حَرْبَتِي حَتّى إذَا رَضِيت مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِيهِ وَشَدّ عَلَيْهِ الْأَنْصَارِيّ فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ فَرَبّك أَعْلَمُ أَيّنَا قَتَلَهُ ،كُنْت قَتَلْته ، فَقَدْ قَتَلْت خَيْرَ النّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ قَتَلْت شَرّ النّاسِ) ( ).
وتتجلى في ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوحشي ثم قتله لمسيلمة معجزة حسية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنه لا يثأر لنفسه وأهل بيته، بل يعمل بالوحي وقوانين العفو الإلهية, فيرغب عدوه بدخول الإسلام , ليصبح له ما للمسلمين وعليه ماعليهم بنطقه بالشهادتين؟
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الإسلام يجب ما قبله( ).
وتتوجه للمسلم آية البحث تحثه على الإنفاق فيمتثل لأمر الله بشوق ورضا، ويعتبر هذا الإنفاق مغنما لا مغرماً وهو من رشحات النطق بالشهادتين ودخول الإيمان إلى القلب، ولأن هذا الآية تبين المنافع الأخروية للإنفاق وكيف أن الله عز وجل جعله طريقاً إلى الخلود في النعيم , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ]( ).
والآية نوع عهد من المسلمين مع الله عز وجل بأن يجاهدوا في سبيله، ويبذلوا الأموال في سبل الجهاد وإعانة الفقراء.
وروي عن ابن عباس أنه لما نزلت الآية أعلاه أتى رجل من المهاجرين, فقال:يارسول الله وان زنى وإن سرق وإن شرب الخمر فانزل الله فقالالتائبون العابدون الحامدون ( ).
وتدل آية البحث على صدق الجمع بين الآيتين أعلاه لأنها لم ترد إلا لذكر صفات المتقين،الذين يخشون الله عز وجل بالغيب، ويأتون الواجبات ويجتنبون المحرمات.
وهو من إعجاز آية البحث إذ أنها ذكرت خصالاً متعددة , وهي الإنفاق وحبس الغيظ والعفو عن الناس بلحاظ أنها صفات المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة .
لتكون التقوى سور الموجبة الكلية الزاجر عن الضد من مضامين آية البحث، وفيه تنزيه للمسلمين من الجمع بينها وبين إرتكاب المعاصي، وشاهد على سلامتهم من شيوع الرذيلة والأخلاق المذمومة, وهذه السلامة من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويدل الأمر الإلهي للمسلمين بالإنفاق بالدلالة الإلتزامية على حال اليسر والغنى عندهم على أمرين:
الأول: السعي للكسب وطلب الرزق، وحكي عن الغزالي في قوله تعالى[لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ]( )، على أن الرزق لا يزيد في الطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضوع، إذا هو قصرّ وتوانى حتى فاته، وشمرّ وجد حتى حصّله)( ).
ولا دليل في الآية أعلاه على هذا المعنى، إنما موردها هو حال المسلمين والأثر المترتب عندهم على ما فاتهم، وما ينتظرهم ويتطلعون إليه، لأن المسلمين يسلمون بأن كل ما يحصل لهم هو بأمر وإرادة الله عز وجل , وليكون إنشغالهم بذكر الله والدعاء , وبناء صرح دولة التوحيد , وهمّهم مرضاة الله والقربة إليه، قال تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( ), وهو سبحانه يقيل العثرة , وينعم بالأحسن.
ومن الخلق الكريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صبره على رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول عندما إنخزل بثلث جيس المسلمين وهم في طريقهم إلى معركة أحد , وكان يقول(علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس)( ).
وقد صلى عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه قبل أن ينزل قوله تعالى[وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ]( ), وحتى هذه الآية تتعلق بما بعد موت المنافق، وليس فيها إيذاء له وإضرار به في حياته.
ثم نزلت آية في ذمه قال تعالى [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، قال إبنه عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله! أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له! فأعطاه قميصه , وقال: إذا فرغتم فآذنوني)( )،
وجاءت آية البحث لطلب الرزق والمواساة بالإنفاق في حال اليسر والعسر.
الثاني: العوض والخلف الذي يأتي من عند الله ينفقه المسلم، ليكون مادة للإنفاق بلحاظ أن الأمر بالإنفاق الوارد في الآية متجدد ومصاحب للمسلم في كل أيام حياته.
وجاءت آية البحث في باب صفات الذين يدخلون الجنة , وفيه آية من اللطف الإلهي بأن العبد حينما يشرع بأسباب ومقدمات دخوله الجنة فإن الله عز وجل يمده بما يجعله يستمر في سعيه المتصل نحو الجنة واللبث الدائم فيها.
علم المناسبة
لقد جاءت آيات القرآن بالحث الأكيد على الإنفاق الواجب والمندوب والترغيب في البذل والعطاء في سبيل الله، وإعانة الفقراء، ومن إعجاز القرآن مخاطبة الناس بأنهم جميعاً فقراء بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( )، لينفرد الله عز وجل بالغنى وعدم الحاجة، ولتأكيد حقيقة وهي أن كل إنسان محتاج وإن كان ملياً وصاحب ثروة وأموال لأن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان.
ومن إعجاز القرآن أن الإنفاق حاجة إلى أطرافه جميعاً وهم:
الأول: الذي ينفق المال.
الثاني: الذي يتلقى ويقبض الصدقة.
الثالث:الذين ينتفعون من الإنفاق في سبيل الله كما في تجهيز الغزاة، أو عمارة المساجد أو إصلاح الطرقات.
الرابع:الذي يأمر بالإنفاق ويحث على إخراج الزكاة والواجبات المالية، وينهي عن التخلف عن أدائها، وهو من عمومات قوله تعالى في الثناء على المسلمين[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
وما تدل عليه صيغة المضارع في الآية أعلاه من الإستدامة والتجدد، وجاءت آية البحث لتأكيد حاجة المسلمين والناس للإنفاق بلحاظ أنهم فقراء إلى رحمة الله عز وجل، وأن الإنفاق باب للثواب العظيم واللبث الدائم في الجنة، وفيه نكتة عقائدية في ماهية فقر الناس لرحمة الله عز وجل , وسنخيةالإطلاق في الفقر الذي يتغشى الناس في الدنيا والآخرة، وتقدير الآية أعلاه من سورة فاطر:يا أيها الناس أنتم الفقراء لله في الدنيا والآخرة).
ليفيد الجمع بينها وبين آية البحث أن مضامين آية البحث غنى للناس ودفع لحال الفقر والفاقة عنهم في الدنيا والآخرة بما جعل الله عز وجل عندهم من نعمة المال والعقل وملكة الصبر، أما المال فهو لدفع الفقر عن الذات والغير، وإرادة تلمس أسباب الغنى بالهداية والرشاد.
وأما العقل فيتخذ آلة لكبت آفة الغضب ومنعها من البروز على نحو دفعي على الجوارح والأركان.
وأما الصبر فهو وسيلة للتحلي بالحلم، ومقابلة الإساءة بالإحسان.
ولما سأل الإمام علي إبنه الحسن عليه السلام عن أشياء من المروءة، قال له :ما الحلم، قال: (كظم الغيظ، وملك النفس) ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أيضاَ أن تشريع الإنفاق لأجل مصلحة العباد أنفسهم وليس لمصلحة تعود إلى الله عز وجل لأن غناه مطلق، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا , يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا( ).
لقد أراد الله عز وجل للدنيا أن تتزين بمصابيح التقوى التي يوقدها المسلمون بأموالهم، فتنير لهم طرق الهداية في النشأتين، وهو من سبل النجاة من الهلكة ولغة الإنذار والتحذير من الشح والبخل.
علم المناسبة
ورد لفظ السراء في القرآن مرتين، إقترن فيهما بلفظ الضراء مع تقدم السراء في آية البحث، وتقدم الضراء في قوله تعالى[وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ] ( )، في ذم الذين كفروا إذ تعاقبت صنوف البلاء والإبتلاء وأصابتهم الشدة تارة والسعة والرخاء أخرى، ففسدوا في الأمرين جميعاً، وأقاموا على المعاصي كما كان يفعل آباؤهم ولم يتوبوا أو يتعظوا لا في حال الشدة والبلاء، ولا في حال الغنى والسراء فنزل بهم العذاب[وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ].
فجاءت آية البحث للإخبار أن التغيير النوعي الحادث في الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامة أمته من الغفلة وأسباب الفساد، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، عندما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، فآية البحث من علم الله عز وجل من جهات:
الأولى: قيام المسلمين بالإنفاق في سبيل الله.
الثانية:إستمرار إنفاق وبذل المسلمين حتى في حال الشدة والضراء.
الثالثة:الإنفاق في سبيل الله عنوان الشكر لله عز وجل.
الرابعة:تضمنت آية البحث ضروباً أخرى من طاعة الله إلى جانب الإنفاق.
الخامسة:الإنفاق حرب على الفساد، وبرزخ دون آفة الحسد، وما يترشح عنها من الضرر.
السادسة:قيام المسلمين بالإنفاق في سبيل الله في حال الرخاء والشدة أمارة ودلالة على إتيان الوظائف العبادية من باب الأولوية القطعية لأن ظاهر الإنفاق في حال الشدة والضراء أنه الصدقات المستحبة وليس الزكاة الواجبة التي تجب عند النصاب في أجناس مخصوصة وهي:
الأول: الأنعام الثلاثة وهي الإبل والبقر والغنم.
الثاني:الغلات الأربعة الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وأوجب شطر من الفقهاء الزكاة في الأقوات سواء من الثمار أو الحبوب، باستثناء ما لم يكن قوتاً غالباً كالتفاح والتين والجوز.
الثالث:النقدان وهما الأكثر أهمية،لأن بهما نظام المعايش، وقضاء حاجات بخلاف الأنعام والحبوب.
وفي تقديم آية البحث السراء على الضراء، وتقديم الآية أعلاه من سورة الأعراف الضراء، وجوه:
الأول:إكرام المسلمين بتقديم السراء.
الثاني:التباين الموضوعي بين الآيتين، إذ جاءت آية البحث بخصوص الإنفاق والبذل في سبيل الله، أما الآية من سورة آل عمران فذكرت الحال وتقلبات الزمان.
الثالث:في تعقب السراء للضراء التي أصابت الكفار حجة عليهم، ومناسبة للإقامة والمواظبة على شكر الله عز وجل على النعم.
الرابع:قيام المسلمين بالإنفاق في حال السراء بجعله سجية ثابتة، خصوصاً وأنهم يبذلون أموالهم في سبيل الله أي أن الغاية الحميدة للإنفاق باعث كريم على المواظبة عليه في مختلف الأحوال.
الخامس:تأكيدالتباين بين المسلمين وغيرهم بحرص المسلمين على طاعة الله والثناء عليه،وجحود الكفار , وهو من علل إعداد الجنة في الآخرة للمتقين، قال تعالى[أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ]( ).
إن تقلبات أحوال الناس في السراء والضراء وما بينهما من مصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا، وكل فرد منهما مناسبة لطاعة الله وشكره والثناء عليه، وليس من قانون كلي في مراتب الإمتحان في تقلبات أحوال الإنسان، إذ يكون الناس على ضروب:
الأول: الذين يطيعون الله في السراء والضراء، ويشكرونه سبحانه على الغنى وعلى الفقر، وعن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا تَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَفَانِى وَآوَانِى وَأَطْعَمَنِى وَسَقَانِى وَالَّذِى مَنَّ عَلَىَّ فَأَفْضَلَ وَالَّذِى أَعْطَانِى فَأَجْزَلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِكَ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَهَ كُلِّ شَىْءٍ وَلَكَ كُلُّ شَىْءٍ أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ( ).
الثاني:الذي يطيع الله في حال الغنى، أما في حال الفقر فانه يقصر في واجباته العبادية، ويتخلف عن مراتب الشكر.
الثالث:الذي يواظب على العبادات وسبل الطاعات في حال الفقر، أما إذا أصابه الغنى فانه ينشغل بالدنيا وزينتها، ويلهث وراء أمواله تعاهداًَ وحفظاً وسعياً في نمائها.
عن الإمام الباقر عليه السلام قال: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفة، وكان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند مواقيت الصلاة كلها، لا يفقده في شئ منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يرق له وينظر إلى حاجته وغربته، فيقول: يا سعد لو قد جاءني شئ لاغنيتك، قال: فأبطأ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله فاشتد غم رسول الله صلى الله عليه وآله لسعد، فعلم الله سبحانه ما دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله من غمه لسعد، فأهبط عليه جبرئيل ومعه درهمان فقال له: يا محمد إن الله عزوجل قد علم ما قد دخلك من الغم بسعد أفتحب أن تغنيه ؟ فقال: نعم، فقال له: فهاك هذين الدرهمين فأعطهما إياه، ومره أن يتجر بهما، قال: فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله ثم خرج إلى صلاة الظهر، وسعد قائم على باب حجرات رسول الله صلى الله عليه وآله ينتظره، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا سعد أتحسن التجارة ؟ فقال له سعد: والله ما أصبحت أملك مالا أتجر به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله الدرهمين وقال له: اتجر بهما وتصرف لرزق الله تعالى، فأخذهما سعد ومضى مع النبي صلى الله عليه وآله حتى صلى معه الظهر والعصر، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: قم فاطلب الرزق فقد كنت بحالك مغتما يا سعد، قال: فأقبل سعد لا يشتري بدرهم شيئا إلا باعه بدرهمين ولا يشتري شيئا بدرهمين إلا باعه بأربعة، وأقبلت الدنيا على سعد فكثر متاعه و ماله وعظمت تجارته، فاتخذ على باب المسجد موضعا وجلس فيه وجمع تجارته إليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أقام بلال الصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا لم يتطهر ولم يتهيأ كما كان يفعل قبل أن يتشاغل بالدنيا، فكان النبي صلى الله عليه وآله يقول: يا سعد شغلتك الدنيا عن الصلاة، فكان يقول: ما أصنع اضيع مالي ؟ هذا رجل قد بعته فاريد أن أستوفي منه، وهذا رجل قد اشتريت منه فاريد أن اوفيه، قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله من أمر سعد غم أشد من غمه بفقره،فهبط عليه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد علم غمك بسعد، فأيما أحب إليك ؟ حاله الاولى أو حاله هذه ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل بل حاله الأولى قد ذهبت دنياه بآخرته، فقال له جبرئيل عليه السلام: إن حب الدنيا والاموال فتنة ومشغلة عن الآخرة، قل لسعد: يرد عليك الدرهمين اللذين دفعتهما إليه، فإن أمره سيصير إلى الحال التي كان عليها أولا، قال فخرج النبي صلى الله عليه وآله فمر بسعد فقال له: يا سعد أما تريد أن ترد علي الدرهمين الذين أعطيتكهما ؟ فقال سعد: بلى ومأتين فقال له: لست اريد منك يا سعد إلا الدرهمين، فأعطاه سعد درهمين، قال: فأدبرت الدنيا على سعد حتى ذهب ما كان جمع وعاد إلى حاله التي كان عليها( ).
الرابع:المقيم على المعصية الذي يصر على الغفلة ويعرض عن الذكر والعبادة، وقد أصلح الله عز وجل المسلمين للوجه الأول أعلاه أي طاعة الله في السراء والضراء .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب فريضة الصلاة اليومية، وإنبساطها على اليوم والليلة بآية إعجازية تتخلف عقول البشر عن تقسيمها وإدراك كنهها ومنافعها، فيهب المسلم مع الخيوط الأولى للفجر لأداء صلاة الصبح وهي أقل الصلوات اليومية الخمسة عدداً في ركعاتها، وكان المسلمون الأوائل أيام التنزيل يبكرون في الإستيقاظ وتغيرت أحوال الناس في هذا الأزمنة وأخذ شطر من الناس يسهر الليل , ويستغرق في النوم في النهار، ولكن الحكم الشرعي في تعيين أوان صلاة الصبح هو نفسه، ويتلقاه المسلمون مع إختلاف أمصارهم وأزمنتهم بالرضا والغبطة، وفيه إصلاح لهم في الإنتفاع من الوقت للعمل والكسب، وعدم تضييع آنات الزمان .
والأولى أن يبين علماء الأبدان والإجتماع والإقتصاد والسياسة المنافع العظيمة والأسرار الملكوتية لصلاة الصبح والإستيقاظ المبكر , وأضرار كثرة وإطالة النوم في النهار من تضييع الفرص , والتخلف عن منافسة الأقران , وسرعة الشيب وغيرها.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِى فِى بُكُورِهَا( )، وكان إذا أرسل سرية فانه غالباً ما يبعثها في الصباح.
ومن الآيات أن لطاعة الله عز وجل موضوعية في حال الإنسان من السعة أو الفقر، فانها سبب لإستدامة السراء والغنى، ودفع ورفع للفقر والفاقة.
إن مجئ الآية بالإطلاق في الإنفاق في حال السراء والضراء حث للمسلمين لتعاهد مقامات السراء، والإجتهاد في دفع الفقر والفاقة عن أنفسهم وعوائلهم، وهو المستقرأ من منطوق الآية بلحاظ أن الإنفاق من الزائد على المؤونة، والتنزه عن اللهث وراء المال وجمعه.
قال عبد الله بن الشخير : إنتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم و هو يقول: (ألهاكم التكاثر ) ( )، قال يقول ابن آدم مالي مالي و ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت( ).

بحث بلاغي
من ضروب الكلام الحشو، وهو اللفظ الذي يجعله العرب مقام الصلة والزيادة، ويأتي في نظم الكلام ويكون جزء منه، وهو على أقسام:
الأول: الحشو الردئ وأستدل عليه بأبيات من الشعر منها قول الشاعر من الطويل:
إذا لم يكن للمرء في دولة إمرىء … نصيب ولا حظّ تمنّى زوالها( )
بلحاظ أن الحظ هو النصيب من الفضل والخير.
الثاني: من الحشو ما يكون محموداً لما فيه من بيان المعنى وتفخيم اللفظ كما في قول النابغة من الطويل:
لعمري وما عمري علي بهين … لقد نطقت بطلا علي الأقارع( )
الثالث: الحشو الحسن الذي يفيد تمام المعنى ولا يدفع الإبهام، كما في قوله عوف بن محلم من السريع:
إن الثمانين وبلغتها … قد أحوجت سمعي إلى ترجمان( )
فقوله وبلغتها حشو ولكنه جاء لتأكيد المعنى، ورفع الإجمال, وللإخبار عن حاله بالذات، وتزيين الكلام والشعر ومع أن المتتبع للكلام العربي وغيره يجد الكثير من الحشو, فإن القرآن منزه من الحشو بأنواعه لأن كل لفظ منه فريدة لها موضوعية في ذات الآية تلاوة وموضوعاً وحكماً بالإضافة إلى موضوعيتها في نظم الآيات وصلة آيتها بكل آية من القرآن، وهو من صبغة اللامتناهي في إعجاز القرآن وإرتقائه مراتب كثيرة على كلام البشر وبلاغة العرب.
والقرآن خال من الحشو، ولا تجد لفظاً منه إلا وله موضوعية , وتتعدد دلالات اللفظ القرآن المتحد، ويتجلى في إختتام آية البحث بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]من جهات:
الأولى: إنه قانون كلي يبين فضل الإحسان.
الثانية: فيه وعد كريم للمسلمين على إصلاحهم وإحسانهم.
الثالثة: تأكيد حقيقة وهي أن كل فعل من الأفعال التي تضمنتها الآية الكريمة هي إحسان وخير محض، وفيه طرد للأخلاق المذمومة من الحسد والبخل والشح.
الرابعة: من خصائص خاتمة الآية دفع الحشو والكلام الزائد في تلك الخصال الحميدة التي تتضمنها الآية، وفيما إذ جاء بها المسلم، فلا يستطيع أحد منعه من الخير ولومه على الإنفاق أو تعييره بسبب كظمه الغيظ، أو توبيخه على إختياره العفو، وترك العقوبة.
الخامسة : أختتمت الآية الكريمة بوعد كريم هو فضل من الله عز وجل على العباد , وكأن معاني آيات القرآن تسابق ألفاظها، وكذا العكس فإن الألفاظ تسابق المعنى، وكل منهما يفتح كنوزاً من الدلالات والسبل للعمل الصالح، والبراهين على نزول القرآن من عند الله ويدل على إنتفاء الحشو حتى الحسن منه في القرآن بخصوص .
السادسة : جاءت الآية ببعث المسلمين لفعل الصالحات أما خاتمة الآية فأخبرت عن حب الله عز وجل للذين يفعلون الصالحات، ويحسنون للناس.
السابعة : بين مضامين الآية وخاتمتها عموم وخصوص مطلق، إذ أن الإحسان أعم من مضامين هذه الآية، ومن الإعجاز في المقام بعث المسلمين لعمل الصالحات والإحسان في موارد أخرى غير التي تضمنتها الآية الكريمة، فإذا طرأ على المسلم فعل , وتردد في الشروع فيه، فإنه ينظر إليه بلحاظ ماهية الإحسان، فإذا كان إحساناً محضاً أو أن الإحسان فيه الراجح فإنه يقوم بفعله ويبادر إليه، وكذا بالنسبة لأصحاب المشورة والرأي، لذا ورد قوله تعالى[ لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( )، بلحاظ أن الكفار يصدون المسلمين عن الإحسان وفعل الصالحات.
علم المناسبة
ورد لفظ(الضراء) في القرآن تسع مرات وتباين موضوعها بين المدح والذم، ولغة الجمع والمفرد، وجاءت جميعاً بصيغة الجملة الخبرية، وإذ جاء لفظ(الضراء) في آية البحث معطوفاً على(السراء) والسعة، مع التضاد والتباين الموضوعي بينهما وإن إتحدت الجهة فانه جاء معطوفاً على الشدة في الإنفاق، فقد ذكرت آية أخرى الضراء، في باب الصبر والجهاد وخصال المؤمنين، ومصاديق البر والإحسان قال تعالى[وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ] ( ).
وأخرج الطستي عن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق سأله عن البأساء والضراء قال : البأساء الخصب ، والضراء الجدب . قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول زيد بن عمرو :
إن الإِله عزيز واسع حكم …….. بكفه الضر والبأساء والنعم( ).
وتجتمع عند المسلمين خصلتان وهما الإنفاق والصبر، ولايغادرون أية واحدة منها، ويتجلى عدم تركهم لهما، بصيغة الإطلاق في كل من الآية أعلاه وآية البحث، وتعاهد المسلمين للإنفاق والصبر في كل الأحوال من الأسباب التي تصلحهم لتعاهد مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، التي فازوا بها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقهم لنبوته والآيات الباهرات التي جاء بها.
ومن معاني اللطف الإلهي في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة نفي الحرج، وأحكام الضرورة وكل واحدة منها مسألة سيالة من باب الطهارة إلى باب الديات، قال تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، ولكن جاء الأمر بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو والصبر مطلقاً، فهل يقيد كل من الإنفاق والصبر بمقيد ومخصص منفصل ، الجواب من جهات:
الأولى: لا تقييد في موضوع الصبر لأن الآية أعلاه من سورة البقرة ذكرته بأشد الأحوال بما فيها الحرب والقتال.
الثانية:تجلي التقييد أيضاَ في آية البحث بالقيام بالإنفاق في حال الضراء والشدة والضيق.
الثالثة:يفيد الجمع بين الآيتين عدم حصول التقييد بمعنى التعطيل والتوقف، سواء في الإنفاق أو الصبر وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله( ) .
ترى ما هي منافع الملازمة بين كل من الإيمان والإنفاق والصبر، الجواب من وجوه:
الأول: الإيمان وعاء عقائدي وسبب للقيام بالإنفاق والصبر.
الثاني:بالصبر يزداد المسلم إيماناً، والعكس صحيح فبالإيمان يتسلح المسلم بالصبر ويتخذه وسيلة للسعي نحو جنان الخلد.
الثالث:تجلي معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وتعاهدهم لأسباب الصلاح، ومفاهيم التقوى.
وعن سهل بن سعد يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لأَهْلِ الإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ( ).
الرابع:مما يتصف به الإسلام تعدد الوظائف العبادية والتكاليف على المسلم ذكراً كان أو أنثى، فما أن يبلغ أحدهما سن التكليف حتى يتوجه إليه أداء الصلاة والصيام والعبادات الأخرى على نحو الوجوب، وبما لا يجوز معه الترك أو التفريط، والصبر هو السلاح لجعل النفس تتعاهد هذه العبادات في مختلف الأحوال، وأداء العبادات ذاته من مصاديق الصبر , لذا ورد قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، في بيان موضوعية الإيمان في الإقامة على العبادات وضروب الصبر.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى: يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره( )، ويقال صبرت على ما أكره. وصبرت عما أحب( ).
وإنه ليصبرني عن حاجتي: أي يحبسني، واستبصر الشئ إذا اشتد.
الخامس:يحتاج المسلم العبد لإخراج المال من ملكه ودفعها بدون عوض معاملاتي، ويستلزم التجهز والإعداد للآخرة الصبر في بناء صرح الحسنات،قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( )، وقد تنازع المسلم نفسه لإبقاء المال في يده وعدم إنفاقه في سبيل الله، ويرجو أن يتكفل غيره القيام بالإنفاق خصوصاً إذا كان الواجب أو المستحب كفائياً.
فجاءت الآية لبعث المسلم على الصبر في إخراج المال من يده، وهو من مصاديق الصبر على طاعة الله.
وإذ تعلق موضوع آية البحث بالإنفاق فانها وردت بصيغة الإطلاق في حال المسلمين من الرخاء والشدة، أما موضوع الصبر فان الآية من سورة البقرة ذكرته بخصوص البأساء والضراء أي في حال الشدة والأذى، وعن ابن مسعود في قوله تعالى[وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، قال : البأساء الفقر ، والضراء السقم،{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي القتال( ) .
وقال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ]( )، أي يصيبهم القحط ونقص الأموال والأمراض، وتأتيهم الآفات وتحصل الحروب لعلهم يتذللون إلى الله، إذ أن تقدير الآية وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها، فلا يأتي القحط والفقر والأمراض إلا عند تكذيب النبي، والإعراض عن المعجزة التي جاء بها، ولأن المسلمين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تضمنت آية البحث أمورا:
الأول: البشارة بالجنة وبيان تهيئتها، وذكر صفات الذين أعدّ الله لهم الجنة فضلاً منه تعالى.
الثاني:بعث المسلمين على البذل وإلعطاء في سبيل الله، والذي يدل على إنتفاء القحط والفقر العام عندهم.
الثالث: الأمر إلى المسلمين للإنفاق والبذل في حال الشدة.
الرابع:تقديم الإنفاق في حال السراء والرخاء والسعة، وفيه بشارة وأمل , فمن منافع الإنفاق أنه تعاهد لحال السعة، ونشر لمفاهيم الفضيلة وما يترشح عنها من تنشيط الأسواق ودفع الكدورات.
وذكرت الآية أعلاه بعثة بعض الأنبياء إلى قرى , وتشمل القرية المدينة فقد تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )، لذا لازمت الرحمة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم .
نعم لحق القحط والجوع كفار مكة , وتعطلت تجارتهم لجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق , فبعد أن كانوا يذهبون إلى الشام واليمن للتجارة، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )،إنشغلوا بالطواف والدوران بذل على القبائل، وتجهيز الجيوش للإجهاز على النبوة ودولة الإسلام في المدينة المنورة .
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كفار قريش فقال: اللَّهم أشدد وطأتك على مضر وإجعلها عليهم سنين كسني يوسف ” فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ( ).
ترى لماذا دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قومه وهو المرسل رحمة للعالمين جميعاً , الجواب جاء هذا الدعاء لكفاية المسلمين ضرر وأذى قريش بعد أن أخذوا يواصلون الإعداد للهجوم على المدينة المرة بعد الأخرى، وتدخل أخبار تجهيزهم الجيوش إلى بيوت المدينة بما يبعث الفزع والخوف في قلوب الأسر والعوائل والأفراد الصغير والكبير والذكر والأنثى يساعدهم وجود المنافقين في المدينة وما يتحدثون به من غزو قريش وحلفائها للمدينة وأن النصر سيحالف قريشاً لكثرة عددهم ومؤنهم، ونحوها من الإشاعات الكاذبة التي يريدون بها تثبيط عزائم المؤمنين، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عدم مجاورة وبقاء المنافقين في المدينة، من وجوه:
الأول:إنقطاع الشطر الأعظم منهم من النفاق بالتوبة والصلاح.
الثاني:إنحسار أثر المنافقين، وإعراض الناس عنهم مع تعاقب وتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إتصال نزول آيات القرآن، وتفقه المسلمين في الدين، ومحاربتهم للنفاق وأهله.
الرابع: هلاك عدد من المنافقين مع تقادم الأيام ولحوق الخزي بهم، ومنهم رأس النفاق عبدالله بن أبي سلول.
الخامس: التخويف والوعيد للمنافقين ومنه هذه الآية.
السادس: إنحسار الكفر وإصابة الكفار بالذل والهوان بعد تعدد المعارك التي هزموا فيها، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).

قوله تعالى[الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]
عندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، تفضل الله عز وجل ورد عليهم بلغة البرهان والإحتجاج[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ويتجلى في هذا الإحتجاج اللامتناهي من جهة الأسباب والحجج لجعل الإنسان خليفة في الأرض فكانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبهى معانيه، وأسنى مصاديق إستدامة الإيمان وخصاله، ومنها كظم المسلمين غيظهم طاعة لله مجتمعين ومتفرقين وعلى نحو متجدد، ورشحات كظم الغيظ هذا ومنافعه عليهم وعلى الناس جميعاً وصيرورة الحياة الدنيا به ذات بهجة والزمان وعاء للتدبر في ماهية خلق الإنسان وموضوعية العبادة في حياته إذ أنها علة خلقه، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتجرع الغيظ بقصد القربة من العبادة وهو أيضاً من مقدمات العبادة ورشحاتها.
وجاء كظم الغيظ في الآية معطوفاً على الإنفاق في سبيل الله فهل يفيد هذا العطف الترغيب به والندب إليه بقيد الإنفاق بحيث لا يكون إلا بعد الإنفاق في السراء والضراء، الجواب لا، فإن هذا العطف لا يدل على التأخر الزماني والرتبي بل جاء العطف للبيان ولقواعد اللغة واللسان، فقد يحصل كظم الغيظ قبل الإنفاق، نعم من أسرار تقديم الإنفاق في سبيل الله أمور:
الأول: موضوعية الفرائض المالية في أحكام الشريعة الإسلامية , وسنخية الإيمان، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الثاني: حاجة المسلمين والناس إلى الإنفاق في كل زمان ومكان , وفي الميادين المختلفة كبناء الدولة وإصلاح الحال وأسباب المعاش ودفع الفتن، بينما يتعلق كظم الغيظ بتعدي طرف آخر، وخروجه عما يجب عليه من الآداب والوظائف العامة , ومنها لزوم إكرام المسلمين لأنهم إختاروا الطريق الحق، وإن قلت قد يجعل حبس المسلمين غيظهم الكفار يتمادون في التعدي.
والجواب لا، من وجوه:
الأول: حبس الغيظ محبوب ذاتاً وعرضاً وأثراً.
الثاني: حبس الغيظ لا يتعارض مع رد التعدي , وعمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: إقامة الحجة على الناس ببيان التباين في السنخية بين المسلمين وغيرهم في باب البذل والسخاء لإعلاء كلمة التوحيد , ويظهر التباين النسبي في المقام بين عموم المسلمين أيضاً , قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( ).
الرابع: لقد جعل الله عز وجل العقل عند الإنسان رسولاً داخلياً ليكون عوناً للإنسان في التدبر في ماهية الأشياء، فيتجنب عامة الناس إتباع ونصرة الكافر الظالم، فيمتنع عن التمادي في التعدي.
علم المناسبة
ورد لفظ(الكاظمين) مرتين في القرآن، إلى جانب هذه الآية، ورد قوله تعالى[وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ]( )، وبين الآيتين تباين جهتي من وجوه:
الأول: موضوع آية البحث هو الحياة الدنيا، أما موضوع الآية أعلاه فهو عالم الآخرة.
الثاني: جاءت آية البحث للثناء على المسلمين، أما الآية أعلاه فهي إنذار للكفار.
الثالث: قيدة آية البحث الكظم بأنه حبس للغيظ والغضب، أما الآية أعلاه فجاء ذكر الكظم مطلقاً من غير تقييد بالحنق، لإفادته معنى الإمتلاء بالغم والحزن والخوف.
الرابع: آية البحث بشارة الأمن من الفزع للمؤمنين يوم القيامة للخصال الحميدة التي يتصفون بها كما أخبر القرآن , وجاءت الآية أعلاه في ذم الكفار والإخبار عن سوء عاقبتهم، قال تعالى[وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
وورد لفظ (الغضب) في القرآن ثماناً وعشرين مرة ، كلها في غضب الله عز وجل على الكافرين، وبيان سوء عاقبتهم بإستثناء قوله تعالى في غضب موسى[وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ]( ).
وفي الآية أعلاه إعجاز إذ جعلت الغضب أمراً طارئاً وكأنه حال من خارج الإنسان وليس من ذاته، وأن الغضب يلح على موسى(ونسب إلى عكرمة : إن هذا من القلب وتقديره: ولما سكت موسى عن الغضب)( ).
وهذا التقدير على فرض القول به لا يمنع من التفكير بالإعجاز العقائدية والبلاغية في اللفظ القرآني، وهو الأصل الذي تقتبس منه مسائل:
الأولى: الغضب أمر خارج عن سنخية الإنسان وأصل خلقه، وهو طارئ على ماهيته , والنبي أسوة كريمة وغضبه في الله , قال تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الثانية: بيان حقيقة وهي لا بد من مغادرة الغضب للإنسان، وعودة الإنسان إلى حال السكينة، وإختيار الراجح من الأقوال والأفعال.
الثالثة: ترشح الحدة عن الغضب وقد تتعقبه فتنة، فقد يهجم الغضب أيضاً على الطرف الآخر فتكون فتنة وأضرار يتعقبها ندم وأسى، فأراد الله عز وجل للمسلمين الإتعاظ من سيرة الأنبياء، وكيف أن غضب موسى عليه السلام كان في الله ولله، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
ومن الإعجاز في القرآن طرو الغضب , كما في موسى عليه السلام وكأنه يأتي للإنسان من الخارج، بينما جاءت آية البحث للإخبار عن حبس الغيظ الذي هو من داخل الإنسان، لتكون النسبة بين الغيظ والغضب العموم والخصوص , فالغيظ أعم وقد يترشح من الغضب، وبسكت الغضب، وتسكن ثورته ولكن الغيظ قد يبقى عند الإنسان مدة أطول، فجاءت آية البحث لمنع بروزه على الجوارح والأركان في أفراد الزمان المتعقبة والمتأخرة عن أسبابه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون النبوة وكظم الغيظ
لقد جعل الله عز وجل النبوة مرآة السنن السماوية في الأرض، والوسيلة العملية لهداية الناس إلى سبل الرشاد والصلاح، وكل نبي إمام للناس في الخلق الحميد مثلما هو إمام في الفرائض والعبادات، قال تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
لقد كانت النبوة مدرسة كظم الغيظ، ليتلقى المسلمون الدروس ومصاديق كظم الغيظ من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إعجاز إضافي لنبوته، وأن وظائف السنة لا تنحصر ببيان وتفسير القرآن بل هي عون للإمتثال لأحكام القرآن، ومدد من صيغ الوحي في تلقي الأوامر والنواهي.
وعن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: “لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”. قال: “فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا( ).
وتتجلى في الحديث أعلى مراتب الصبر التي كان يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي من الدلائل على صدق نبوته، وبيان معنى حبه لقومه بارادة هدايتهم إلى الإسلام، وجهاده من أجل نشر كلمة التوحيد، ولا أحد كان يظن أن إيمان هؤلاء الأعراب في وسط جزيرة العرب نواة وأصل من أصول ظهور الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وفيه موضوعية لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقومه وتحمله الأذى منهم.
ومن خصائص نبوته أن هذا التحمل لم ينحصر بأيام النبوة الأولى بل إستمر حتى في حال قوة الإسلام وظهور دولته , قال أنس: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ جَبْذَةً حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَ أَوْ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ( ).
فلم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسكوت عن الإعرابي والإعراض عنه، بل قضى له حاجته من غير أن يوجه له لوماً على غلظته وجفائه مع النبي، وقد جاء القرآن بإكرام النبي في لغة الخطاب بما يميزه عن غيره كما فضله الله عز وجل بالنبوة والوحي من بين الناس، قال تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( )، وهناك نوع ملازمة بين النبوة وكظم الغيظ.
وفي قصص الأنبياء الواردة في القرآن ما يدل على هذا المعنى لما لاقاه الأنبياء من قومهم، كما في نبي الله نوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهو موضوع يصلح لمجلدات عديدة، ومواضيع متعددة بلحاظ الجهة والخصوص، وكما كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة في كظم الغيظ فإنه كان يقص على المسلمين أخبار الأنبياء في هذا الباب , ليكون بياناً إضافياً من السنة النبوية لقوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
وهل أخبار الأنبياء التي يقصها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين من الوحي الذي تفضل به الله عز وجل أم أنها من الأخبار التي كان يسمعها النبي من أهل الكتاب وغيرهم.
الجواب هو الأول، وتلك آية في نبوته بإحياء سيرة الأنبياء ليعمل المسلمون بهديها، ويتخذوها سنة ثابتة بينهم، قال ابن مسعود: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء قد ضربه قومه وهو يمسح الدم عن جبينه ويقول : اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)( ).
فلم يكتف النبي بكظم غيظه بل إختار الدعاء لقومه بالمغفرة، وإعتذر لهم بأنهم لا يعلمون، وهل المغفرة طريق إلى العلم، الجواب نعم، وهو من بديع صنع الله في خلق الإنسان وتركيبه من العقل والشهوة، لأن تكرار الفعل القبيح سبيل إضافي لإكتشاف قبحه والنفرة منه، أما تكرار الفعل الحسن فهو طريق لتثبيت الإيمان وإستدامة التقوى والفلاح.
وفي التوراة (ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق)( ).
لقد أراد الله للمسلمين أن يكونوا ورثة الأنبياء، وتتجلى معاني الوراثة بإتقان سنن كظم الغيظ وصيرورته نهجاً ثابتاً عند المسلمين ليلتقوا مع الأنبياء بالتقوى , وملكة ثابتة إكتسبوها بالتحصيل والإغتراف من مناهل التنزيل والسنة , وإتخذوها طريقاً إلى الجنة للوعد الذي جاءت به الآية السابقة في بيان صفات المتقين.
وفي صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما إنتقم لنفسه قط في شيء إلا أن تنتهك حرمات الله عز وجل فينتقم لله عز وجل.
وفي غضب الأنبياء في الله ولله، ورد شاهد في قوله تعالى[وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا]( )، فيما يخص إبتلاء قوم موسى عليه السلام بعبادة العجل عندما ذهب لميعاد ربه، وذُكر أن عددهم كان ستمائة ألف، فأفتتنوا بعبادة العجل كلهم (ما نجا منهم إلا إثنا عشر ألفا)( )، وطرأ الأسف الحزن والجزع على موسى لما لحق قومه من الضلالة بسبب فتنة السامري رغم المعجزات الحسية الباهرات التي جاء بها بمرأى ومسمع منهم جميعاً.
(وأخرج عن محمد بن كعب قال: الأسف: الغضب الشديد)( )، ونسب إلى أبي الدرداء ولكن بمعنى أعم وأحسن تفسيراً : بأن الأسف منزلة وراء الغضب أشد منه)( ).
وقد ورد ما يدل على أن الناس أربعة أقسام:
الأول: سريع الغضب سريع الرضا.
الثاني: سريع الغضب بطيء الرضا.
الثالث: بطيء الغضب سريع الرضا.
الرابع: بطيء الغضب بطيء الرضا.
وإن خيرهم هو الثالث أعلاه، وشرهم الثاني .
ولقد جاءت الآية الكريمة بما هو أعم وأسمى من الوجه الثالث أعلاه، بتحلي المسلمين بكبت وصرف الغضب , وبما يجعلهم يتنزهون كأمة عن الغضب وغلبة النفس السبعية، ويتسابقون في مقامات هذا التنزه وهم يستحضرون مضامين هذه الآية ويأمر بعضهم بعضاً بالإمتثال لأحكامها وسننها رجاء مرضاة الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما تَجَرَّعَ عبد من جُرْعَةٍ أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها إبتغاء وجه الله”)( ).
وأن الغضب أمر مذموم، وأشده ما يأتي للإنسان سريعاً، وقد تتباين حالة الغضب عند الإنسان بلحاظ منزلته، وشأنه ومرتبة الذي يغضب عليه، فقد يكون سريع الرضا إذا كان في منزل الأعلى أو أن الذي يغضب عليه في مرتبة أدنى، وكذا يكون موضوع غضبه من الكلي المشكك الذي على مراتب متفاوتة، فيسرع إليه الغضب مع الأدنى، ويتجلى الصبر والتحمل مع من هو أعلى، وقد يدخل الرياء في الإنفاق والغضب وكيفيته .
فجاءت الآية لتنزيه المسلمين من الرياء , وهدايتهم لجعل عملهم خالصاً لوجه الله، وفي الحديث القدسي: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه)( ).
وقد جاءت الآية مطلقة في كظم الغيظ , ولزوم إظهار الحلم في المعاملة مع الأعلى والأدنى، وترك البغضاء والشحناء، وإظهار الصبر مع الناس مطلقاً بلحاظ أن إظهاره رسالة إجتماعية وأخلاقية يؤديها المسلم في نهاره وليله , وفي البيت والعمل والميادين المختلفة، فأينما يحل يكون كظم الغيظ ملازماً له، والصبر ظاهراً على جوارحه وأركانه، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وقال تعالى[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ).
وفيه تأكيد على تحلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بملكة كظم الغيظ وإمتناعه عن الغضب لنفسه، ودلالة عصمته من الغلظة والقسوة، والفظاظة , وغلظة القلب في القول والفعل .
وورد عن قتادة أنه قال: ذكر أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخوب في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح)( ).
ومن إعجاز القرآن تجلي المصاديق العملية لأطراف الآية أعلاه بتضمن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاسن الأخلاق، وإنجذاب الصحابة إليها، وتزايد عددهم بسرعة فائقة , وليس منهم إلا وهو يشتاق لرؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحرص على تعاهد صحبته، ومنه جاءت صفة الصحبة والصحابة، للذين إختاروا صحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقيد إيمانهم وتصديقهم بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
وتتجلى مسؤوليات المسلمين العقائدية، ووظائفهم الأخلاقية في صلاح المجتمعات بمجيء صفة ثالثة لهم وهي عفوهم عن الناس، في طول صفة الإنفاق في سبيل الله وحبسهم الغيظ وعلى نحو الإجتماع والتداخل بين هذه الصفات , فإن قلت قد لا يستلزم الواقع العملي من المسلم هذه الصفات مشتركة.
الجواب نعم، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين وباب تخفيف للإمتثال وفعل خصال التقوى الواردة في هذه الآية , وتنمية ملكة إتيانها مجتمعة.
وتبين الآية صبغة العموم في أطراف العفو وهي:
الأول: إرادة عموم المسلمين في موضوع عفوهم، وعدم تخلف بعضهم عن هذا القانون.
الثاني: صبغة الإطلاق في موضوع العفو، الذي جاء على نحو القضية المهملة ولم يقيد موضوعاً وحكماً.
الثالث: الإطلاق في الذين يتغشاهم عفو المسلمين , وإنتفاء وجود قيد أو خروج لطائفة أو جماعة بالتخصص أو التخصيص من هذا الإطلاق.
الرابع: البعد الزماني والمكاني لعفو المسلمين , فهو لم ينحصر بزمان النبوة والتابعين بل هو قانون مصاحب لهم وللحياة الدنيا بلحاظ أن أحكام شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي السائدة في الأرض إلى يوم القيامة.
وهو من الشواهد على حاجة المسلمين والناس جميعاً إلى عصمة القرآن من التحريف، وسلامته من سوء التأويل.
الخامس : العموم في الثواب العظيم للعفو , وشموله للذي يختاره قربة إلى الله , ومن يدعو إليه ويشفع لأجله ويأمر به, ويبين حسنه , وقبح ضده بما فيه الترغيب بالعفو والصفح.

وروي أن المأمون كان له مجلس قبل أن يصبح خليفة (فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة : فتكلم فأحسن الكلام والعبارة , فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له : إسرائيلي ؟ قال نعم , قال له : أسلم حتى أفعل بك وأصنع ووعده فقال : ديني ودين آبائي ! وانصرف , فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما , فتكلم على الفقه فأحسن الكلام فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال : ألست صاحبنا بالأمس ؟ قال له : بلى قال : فما كان سبب إسلامك ؟ قال : انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان وأنت تراني حسن الخط فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت , وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني , وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت , وأدخلتها البيعة فاشتريت مني, وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ , وزدت ونقصت وأدخلتها الوراقين , فتصفحوها فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها , فعلمت أن هذا كتاب محفوظ , فكان هذا سبب إسلامي)( ).
أي أنه عاد وتكلم في الفقه مما يدل على إسلامه وتفقهه في الدين خلال مدة أقل من سنة، وهو من الشواهد على قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
والحفظ في الآية أعلاه على وجوه:
الأول: السلامة من التحريف.
الثاني: بقاء وإستدامة القرآن في الأرض، لمجيء الحفظ في الآية متعقباً للتنزيل.
الثالث: عدم حصول الزيادة أو النقيصة في القرآن , وقال قتادة: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا , فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا)( ).
ولكن الآية أعم والمراد حفظ القرآن أوان التنزيل وبعد التنزيل وبين الناس وإلى يوم القيامة لأصالة الإطلاق ولأن الإخبار عن حفظ القرآن جاء بعد الإخبار عن تنزيله ونسبته إلى الله عز وجل.
فجاءت آية البحث على نحو النص الجلي الخالي من الترديد، بالإضافة إلى الآيات المشابهة في المقام، قال تعالى[وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ]( )، فالعفو مناسبة لجني الصالحات، وإطلاقه وعمومه وشمول عفو المسلمين الناس جميعاً جلب للمغفرة ورجاء لعفو الله في الدارين.
والعفو الوارد في الآية الكريمة حاجة لجهات:
الأولى: العفو والصفح حاجة للمسلمين، وفيه قوام الدين , وإستدامة الألفة بينهم وإمامتهم للناس في سبل المعروف وأسباب الصلاح .
الثاني: العفو حاجة لأهل الكتاب لما فيه من صفح المسلمين عنهم، وقبولهم الجزية منهم، وإعراضهم عن صيغ الجدل والشك وأسباب الريب التي يثيرونها بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعبادات المسلمين .
الثالث: إنه حاجة للكفار والمشركين، لأن العفو عنهم باب لتدبرهم في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصلاح المسلمين وعفوهم عن الناس، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)( ).
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الحلم وكظم الغيظ والإحتمال والعفو من المترادفات، والمفاهيم المتعددة لموضوع واحد، ولكنها في الحقيقة متباينة في مراتبها وإن كانت متحدة السنخية، لذا جاءت الآية الكريمة بعطف العفو على كظم الغيظ، لإفادة العطف التعدد بين المعطوف والمعطوف عليه، وفيه ترغيب وتأكيد لكل منهما.
ومن إعجاز الآية أنها قيدت العفو بأنه عن الناس، ولكنها ذكرت كظم الغيظ على نحو الإطلاق، وفيه آية بلحاظ أن كظم الغيظ عنوان للتحمل , وتلقي الأذى بالصبر وعدم الرد أو الجزع.
أما العفو فهو أمر يتحقق مع القوة والقدرة على العقوبة والإنتقام، وفيه بشارة قيام الدولة الإسلامية، وإنذار للذين كانوا يؤذون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن كظمهم الغيظ طريق للنصر والغلبة , وأن الله عز وجل يظهر الإسلام ويكون بمقدور المسلمين البطش والإنتقام، ولكنهم يختارون العفو والإحسان، رجاء مرضاة الله تعالى .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ينادي مناد يوم القيامة: لا يقوم اليوم أحد إلا أحد له عند الله يد، فيقول الخلائق: سبحانك، بل لك اليد، فيقول ذلك مرارا، فيقول: بلى من عفا في الدنيا بعد قدرة)( ).
وجاءت هذه الآية ليكون هذا الإختيار عن عناية وتوجيه وتأديب قرآني للمسلمين، وفيه نكتة فقد تنسى الأجيال اللاحقة من المسلمين صبر وكظم الغيظ الذي كان عليه السابقون من المهاجرين والأنصار، فيلجأون إلى الإنتقام من منازلهم في الحكم والسلطان، وتوجيه العقوبات إلى من يؤذيهم.
وتضمنت الآية أموراً:
الأول: التذكير بصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتحمله الأذى في جنب الله، وهل هذه الصبر من عمومات قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الجواب نعم بلحاظ أن الصبر سجية أخلاقية، ومرتبة سامية لا يرقى الإنسان إلى مراتبها إلا بتوفيق وفضل من الله عز وجل.
الثاني: بعث المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الكريمة، خصوصاً وأن الدعوة إلى الإسلام باب مفتوح إلى يوم القيامة، وللخلق الكريم موضوعية فيها.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً،الذين يألفون ويؤلفون)( ).
الثالث: بيان حقيقة وهي أن الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس سبل ووسائط لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وفيها مجتمعة ومتفرقة سكينة للنفس .
وكم من إنسان عاقب وإنتقم ثم ندم على فعله، وتمنى لو أنه ترك العقاب، أو إنكشف له أن العقاب كان أكثر من اللازم، فجاءت الآية رحمة بالمسلمين ولمنع حصول مثل هذا الندم عندهم، وهو من إعجاز الآية القرآنية والشواهد على أن خصال التقوى رحمة بصاحبها وغيره من الناس.
الرابع: بعث الطمأنينة في نفوس الناس من المسلمين، وشعورهم بالأمن من حكم الإسلام لما فيه من حبس الغيظ وصيغ العفو، وفي قوله تعالى: [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ) ورد عن عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ جَهْدَكَ)( ).
وتدل آية البحث في مفهومها على حقيقة وهي أن المسلمين يتعرضون إلى الظلم، ولقد صاحب التعرض للظلم والأذى الدعوة الإسلامية من أيامها الأولى، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في تحمل الظلم والأذى، وورد عنه أنه قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
وفيه دعوة للمسلمين لتحمل الأذى، والصبر على الأذى، ومن مصاديق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم أن عفو المسلمين عن الناس مناسبة كريمة لأمور:
الأول: إنه نشر لمعاني الرحمة بين الناس.
الثاني: فيه إرتقاء أخلاقي، وتنمية لملكة العفو بين الناس.
الثالث: تأكيد قاعدة في اللطف الإلهي وهي أن العفو ليس ضعفاً بلحاظ أنه يصدر عن منازل الإيمان، والثبات على التقوى، لأن الآية لم تذكره إلا بكونه صفة للمتقين أي أن المسلمين لا يغادرون بالعفو منازل الإيمان والصلاح والمنعة قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتقدير الآية: (أعد الله الجنة للمتقين الذين يعفون عن الناس) ليتصف المسلمون بخصائص ملكوتية بلحائظ أنها من الله , وذات حسن ذاتي وغيري تتعلق بالعفو والجزاء بأمور:
الأول: التقوى والخشية من الله.
الثاني: العفو عن الناس الذين يظلمونهم.
الثالث: المسلمون من المتقين الذين أعدّ الله لهم جنة عرضها السماوات والأرض.
الرابع: إختيار المسلمين محاسن الأخلاق إمتثال لأمر الله ووراثة كريمة عن آبائهم إذ إن صفات الحسن المذكورة في آية البحث يتوارثها المسلمون في أجيالهم المتعاقبة، ويتلقاها الابن من الأب، وهذا التوارث من طاعة كل جيل لله عز وجل , وهو من أسرار تجدد الخطاب القرآن في كل يوم وتوجهه للمكلفين من المسلمين، نعم في تقيد السابق والأب بأحكام الآية القرآنية أمور:
الأول: إنه تخفيف عن اللاحق والابن للعمل بمضامين وأحكام الآية القرآنية.
الثاني: إنه نوع هداية إلى سبل التقوى.
الثالث: بيان تعاهد أجيال المسلمين لسنن التقوى، وفيه بعث لليأس والقنوط في قلوب الكفار، لأنه عنوان ثبات المسلمين على الإيمان.

الرابع: تقيد كل جيل من المسلمين بأحكام التقوى شهادة وأمارة على تسليمهم باليوم الآخر وعالم الثواب، وتوارثهم السعي نحو الجنة التي أعدّها الله للمتقين.
وتبين الآية تعدد التكاليف الأخلاقية والسنن الإجتماعية على المسلمين مضافة إلى الفرائض والواجبات العبادية، ولكن الأوامر التي تتضمنها آية البحث جاءت بصيغة الصفات التي يتحلى بها المتقون الذين أعدّ الله لهم الجنة، فكأن الآية نوع عرض وترغيب للمسلمين بفعل الصالحات، ويقبل المسلمون على إتيانها بشوق ورضا لأنها طريق إلى السعادة الأبدية، وهذا الترغيب والإقبال من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الآيات أن المسلم يشعر بالغبطة والسعادة عند إتيانها مما يجعله لا يلتفت إلى تركة الإنتقام والثأر، لقد نزلت الآية الكريمة وما فيها من تعدد الوظائف العقائدية والأخلاقية للمسلمين في زمان قحط في الجزيرة، وعادات مذمومة من الثأر والغزو والتفاخر بالسلب والنهب والسطو، وبلغ الأمر بالعرب بقتل بناتهم خشية أخذهن من قبل الغزاة من القبائل العربية الأخرى.
فصارت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس، ورحمة بهم، وجاءت بالخصال الحميدة التي تقضي على الأدران والكدورات الظلمانية، وتؤسس لمجتمعات قوامها التكافل والتعاون والتسامح، وتسعى جاهدة لإكتناز الصالحات التي تؤهلها لمراتب التقوى وتتخذها بلغة لدخول[جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وتلك ثورة وتغيير نوعي لم تشهد له الأرض مثيلاً.
ومن الآيات أنه جاء ليبقى ويستمر ما دامت السموات والأرض لحاجة أهل الأرض له، ولو لم يبق لعاد الناس إلى تلك العادات القبيحة، ولتعدى بعضهم على بعض وصار التعدي حسناً في عيونهم لتناجيهم بالإثم والبغي، والتسابق بالظلم والإنتقام، فكانت آية البحث على وجوه:
الأول: إنها برزخ دون هذه الأخلاق المذمومة.
الثاني: إنها زاجر عن التمادي في الغي والفجور.
الثالث: فيها بيان لسنن الإيمان، وترغيب بالتقوى، فلإن كظم المسلمون غيظهم أو عفوا عمن يؤذيهم فأنهم يفعلون هــذا طاعة لله عــز وجل، ورجاء الجزاء في النشأتين ولا يزيدهم إلا قوة ومنعة، وكم من جماعة وأمة إمتنعت عن الرد على عدوها، وصبرت على تطاوله وتعديه وهي مستثمرة بالبناء ورص الصفوف والإعداد للمواجهة، فلم تستنزف مواردها، ولم تضعف شوكتها إلى حين الوقت الملائم للدفاع أو الهجوم، وقد يبتلى العدو بما يشتت قوته ويضعفه ويجعله عاجزاً عن التعدي بل والبقاء بذات الشأن، قال تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وقال سبحانه[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، وآية البحث من عمومات الآيتين أعلاه بلحاظ أن الإنفاق منعة وعز وقوة وعلة لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، وموضوع للترغيب بدخول الإسلام لملائمة مضامين الآية للفطرة الإنسانية، وحب إعانة الآخرين، مع خصوصية في أحكامها وهي أنها باب للأجر والثواب.
فيأتي الإنفاق بقصد القربة إلى الله، وهو مناسبة لإستحضار ذكره تعالى والتحدي بهذا الذكر وبيان منافعه العاجلة والآجلة، فإن قلت إذا كانت هذه المنافع العظيمة في الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس فمن الممكن أن تقتبس بعض الأمم هذه الخصال، وتعمل بها من أجل علو شأنها ومنافسة المسلمين خاصة وأن آيات القرآن جلية وظاهرة للناس جميعاً.
ومن إعجاز القرآن أنه كتاب تعلن آياته يومياً وبصيغة التعدد والوجوب على المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها بقراءة آياته في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب.
والجواب إن الدعوة للعمل بمضامين هذه الآية من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأن المسلمين أئمة الدعوة إلى الصلاح والفلاح , ولكن الأمم الأخرى تتخلف عن اللحوق بالمسلمين في هذا الباب لإنفراد المسلمين بأمور:
الأول: إدراك المسلمين بأن هذه الآية ومضامينها القدسية نازلة من عند الله عز وجل.
الثاني: إتيان المسلمين خصال الإنفاق والكظم والعفو إمتثالاً لأمر الله عز وجل.
الثالث: إرادة المسلمين قصد القربة إلى الله.
الرابع: سعي المسلمين الدائم لنيل الأجر والثواب.
الخامس:تعاضد المسلمين في سبل الخير، وإحترازهم من الأعداء بالتقوى , قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، ودخول الجنة بشرت به الآية السابقة، وآيات أخرى عديدة , قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ] ( ).
ومن الإعجاز في نظم آية البحث الإطلاق في الإنفاق وفي حبس الغيظ، بينما ورد التقييد في العفو بأنه(عن الناس) وهذا التقيد إنما هو تأكيد للغة الإطلاق لأنه جاء بصفة العموم وإرادة الناس بما هم خلق الله من غير إعتبار أو موضوعية لإنتمائهم المذهبي والعرقي.
وكما يعطي الله عز وجل بالأعم والأوسع فانه سبحانه أراد للمسلمين أن يقوموا بالحسنات ويفعلوا الصالحات بالأعم والشامل للناس جميعاً.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تخلقوا بأخلاق الله تعالى( )، فليس من أمة يصاحبها سلاح الإنفاق وحبس الغيظ والعفو عن الناس في أيام حياتهم إلا المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فلا يكون فعل المسلمين وفق الفطرة الإنسانية بخصوص حب رد التعدي، والتشفي أحياناً من الخصم والعدو عند القدرة عليه بعد تعديه وصدور الضرر منه، بل يستحضر المسلمون آية البحث عند القدرة والتمكن من الرد فيحبسون غضبهم، ويعفون عن المسئ لهم، وهل ينفقون عليه الجواب نعم، إذا كان هذا الإنفاق مقدمة لهدايته، وسبباً لرشده، وبرزخاً دون إقامته على المعصية.
وقد يغلب على الفرد أو الجماعة الظن بأن الخصم يتقوى، ويعد العدة من جديد فيجهزون عليه لصده عن إكتساب أسباب القوة مرة أخرى، فجاءت الآية لمنع هذا الظن عند المسلمين، ولبيان حقيقة عدم ترشح الأذى والضرر عن كظم الغيظ والعفو عن الناس، وهل هذا القانون عام أم هو خاص بالمسلمين، أي أن كل من يحبس غيظه ويعفو عن الناس يأمن من الضرر ممن يعفو عنه أم أن المسلمين إختصوا بهذه النعمة لأنها رشحة من فيوضات هذه الآية.
الجواب هو الأول إلا أن رشحاته عامة وينتفع منه الناس على نحو الموجبة الجزئية في الحياة الدنيا , وحينما تفضل الله وأمر المسلمين بالإنفاق والكظم والعفو عن الناس مطلقاً فانه سبحانه ضمن لهم السلامة من الأذى والضرر المستحدث من الجهة التي يعفو عنها المسلمون، وإن جاء هذا الأذى فانه قليل ومحدود، وما يدفعه الله عز وجل أعظم وأكبر , قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
ومن إعجاز الآية تقديم كظم الغيظ على العفو , وفيه مسائل:
الأولى:العفو مرحلة لاحقة لحبس الغضب.
الثانية:تأكيد مسألة متجددة , وهي أن عفو المسلمين عن الناس لم يأت بعد إيذائهم والإضرار بهم، وإطلاق المسلمين العنان للسان والجوارح للتوبيخ والإنتقام منهم , بل يأتي عفو المسلمين متعقباً للأذى وبعد الإضرار بهم ، وتلك آية في إصلاح المسلمين في ميادين الأخلاق والآداب والسنن.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين تعاهد العبادات والفرائض والإنقطاع إليها بالذكر والدعاء، فنجاهم من الكدورات والضغائن التي تهجم على القلوب فتشغلها عن الذكر , وتستحوذ على الجوارح لتكون آلة لها، فيأتي كظم الغيظ باعتباره طاعة لله عز وجل ليكون من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الرابعة:منافع كظم الغيظ أعم من العفو عن الناس، وتتعلق باصلاح الذات وتنمية ملكة التقوى التي أخبرت الآية السابقة عن كونها الطريق إلى الجنة , وهل هي الطريق الوحيد إلى الجنة أم هناك طرق وسبل أخرى.
الجواب هو الأول، إلا أن يرد دليل من الكتاب والسنة يدل على الخلاف، وهو معدوم.
الخامسة: كظم الغيظ إحتراز من الشيطان ووسوسته، وبرزخ دون الخروج عن الأحكام الشرعية، وفي الحديث إن الغضب من الشيطان، وان الشيطان خلق من النار وإنما تطفئ النار بالماء، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ( ).
السادسة: بين كظم الغيظ والعفو عن الناس عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي حبس الغضب، وإجتناب الإنتقام، ومادة الإفتراق وهي أن كظم الغيظ حالة نفسانية تتقوم بضبط الجوارح، وحبسها عن البطش والإنتقام.
وجاءت الآية الكريمة لتجعلها ملكة متوارثة عند المسلمين، وصفة دائمة يمتاز بها المسلمون من بين الناس، أما العفو عن الناس فهو نوع مفاعلة مع الغير لأن فيه أطرافاً وهي:
الأول:الذي يعفو، ويتنزه عن إستيفاء حقه، ويترك عند المقدرة الرد على التعدي.
قانون النسبة بين الحلم وكظم الغيظ
الحلم من الخصال الحميدة ومن يتصف به ينال الحظوة والذكر الحسن بين الناس، وليس من أمة أو أهل ملة إلا وتكرم الحليم وتثني عليه وتجعله أسوة، ولما كان المسلمون[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فلا بد أنهم يحتلون المرتبة الأسمى في الحلم والصبر والصفح عن الآخرين بلطف من الله عز وجل.
وورد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، من يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه)( ) .
والحليم من صفات الله عز وجل في التنزيل[إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، وهو سبحانه الذي يمهل العباد، ولا يتعجل بالمؤاخذة على الذنب , وهو الذي تفضل وفتح باب التوبة لهم، ودلهم على الإستغفار ليكون نوع طريق لمحو السيئات وجلب الحسنات .
وورد لفظ الحليم في حكاية خطاب الملأ من قوم شعيب الذين إختاروا الإصرار على بخس المكيال والميزان، ومنع الناس حقوقهم، والإعراض عن دعوة شعيب لهم للتوبة والصلاح، كما ورد في التنزيل[قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ]( ).
وعن الحسن وابن جريج وابن زيد أنهم قالوا ذلك على وجه الإستهزاء)( ).
والأرجح بخلافه، إنما جاء قولهم وتوثيقه حجة عليهم، وشاهدا على معرفتهم بالفطرة للحق وإنحرافهم عنه طمعاً بمتاع قليل من الدنيا، لقد إحتجوا بأنهم يتصرفون بأموالهم كما يشاءون، ليكون مثله في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجة الناس إلى نبوته وجهاده, لقوله تعالى[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
ومن آيات النبوة إقرار الكفار بصبر الأنبياء وحسن سمتهم، وطول أناتهم، وإمهالهم الناس، وعدم طلبهم الرد والإنتقام مع إنهم يبعثون من أوسط قومهم في الغالب، قال تعالى[وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً]( ).
وفي حديث أبي أيوب الأنصاري قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله , وقال: عدة أصحاب طالوت)( ).
وأخرج عن البراء بن عازب قال: وكانت المهاجرون يوم بدر نيفا على الستين والأنصار نيفا على المئتين وأربعين)( ).
ولقد أراد الله العزة والرفعة للمسلمين بين الناس , وهو من الجزاء العاجل على إختيار التصديق بالتنزيل , والإنفراد بالتصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي , ومقدمة للدعوة إلى التوحيد .
فإن كانت العزة والشأن على نحو القضية الشخصية والنسبة للقبيلة تتصف بالتزلزل بلحاظ العز والذل والغنى والفقر عند العرب، والوقائع وصروف الدهر , فإنها صارت بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاملة لأمة كاملة بين الأمم، وهذا الشمول من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ولعظيم منزلة المسلمين بين الناس رزقهــم الله عز وجل كظـــم الغيظ والحـــلم في المعاملة والدعوة إلى الله عز وجل، وتحمل الأذى مع القدرة على الرد والبطش.
والنسبة بين الحلم وكظم الغيظ هي العموم والخصوص المطلق، فالحلم أعم موضوعاً وحكماً، وحبس الغضب ومنع المبرز الخارجي له فرع من الحلم، وهو من الشواهد على وراثة المسلمين لأخلاق الأنبياء، وسيرتهم في قومهم، وما قتل شطر منهم إلا ليتعظ المسلمون ويتخذوا من صبرهم وطول أناتهم دعوة إلى الله، وسبيل سكينة وإستقرار في المجتمعات , وإمامة الناس نحو طرق الهداية بالحكمة والموعظة الحسنة، إذ تتجلى مفاهيم الملازمة بين الإمامة وكظم الغيظ سواء كانت شخصية أو نوعية .
وتستغرق إمامة المسلمين للناس الوجهين أعلاه وعلى نحو مستديم فلم تختص بزمان أو طبقة من الناس أو بلد مخصوص، وجاء زمان العولمة لتزداد وتتضاعف مسؤولياتهم وتكون حاجتهم للإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ متجددة ومتصلة.
ومن الإعجاز أن آية البحث تجمع صفات أربعة إختص بها المسلمون من بين أهل الأرض فإن قلت إنها جاءت نعتاً للمتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة وأنه يدل على شمولها للأجيال السابقة من أتباع الأنبياء، فهو صحيح .
وقد فاز المسلمون بالشريعة المتكاملة التي تتجلى فيها معاني التقوى على نحو الموجبة الكلية , لقوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).

قوله تعالى[وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ]
وفي نزول هذا الشطر من الآية ذكرت وجوه:
الأول: قال القفال: يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركون في أكل الربا، فنهي المؤمنين عن ذلك، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين ، فإنه تعالى قال عقب قصة الربا والتداين: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}( )، وقال{ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}( ) ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة، وقال: لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ) ( ).
الثاني: العافون عن المملوكين سوء الأدب)قاله الكلبي( ).
الثالث: قال زيد بن أسلم ومقاتل العافين عمن ظلمهم وأساء إليهم، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه)( ).
والآية عامة وتشمل هذه الوجوه وغيرها، ويدل عليه أمور:
الأول: إختتام آية البحث وما فيها من الفضائل ومكارم الأخلاق بالإخبار عن حب الله للإحسان في إشارة بأن العفو إحسان محض.
الثاني: لغة العموم في المعفو عنهم إذا جاء بلفظ (الناس) وهو أوسع وأعم لفظ يشمل المسلمين وأهل الكتاب وعموم أهل الملل والنحل.
وبين الناس وبني آدم وعموم وخصوص مطلق، إذ أن الناس هم الأكثر بلحاظ أن آدم وحواء من الناس وليسا من بني آدم , ولورود لفظ الناس نكتة في المقام وهي إنعدام القيد العفو، فهو بلا شرط , ولا يجعل على أساس الترجيح وأسبابه من الإيمان والعلم والصلاح , فالعفو عام يلازم إيمان الذي يعفو, ويتعلق بذات المسلم الذي يشتري به حسن العاقبة .
وفي لغة العموم هذه تأديب للمسلمين بعدم التمييز في العفو، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام بلحاظ أنه من مكارم الأخلاق وسنن الأنبياء.
الثالث: تجلي معاني الإطلاق في سياق الآيات، وورود آية البحث في ذكر خصال المتقين الذين أعد الله لهم الجنة.
وكأن مضامين آية البحث تجتمع بقوله تعالى[إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا]( )، فإبداء وإظهار الخير والإنفاق في سبيل الله في حال السعة والشدة، والخير الذي يخفونه هو حبس الغيظ وعدم إظهار الحنق , وذكرت الآية أعلاه العفو بالنص، ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن كظم الغيظ والعفو عن سوء وتعد وظلم أعم من القضية الشخصية.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (العافين) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة ولم يرد فيه بصيغة المفرد (العافي) أو صيغة المثنى، أو صيغة الجمع المرفوع , لتكون صيغة الجمع ( العافين ) كصفة للذين خلق وأصلح الله لهم الجنة شاهدا على المرتبة الرفيعة التي فاز بها المسلمون في التقوى والخشية من الله عز وجل .
ومن الآيات فيه أنه ورد على نحو الإطلاق بالعفو والسماحة والمغفرة للناس جميعاً.
ترى لماذا يعفو المسلمون عن الناس، الجواب من جهات:
الأولى: بيان الخلق الكريم الذي يتصف به المسلمون.
الثانية: إخبار آية البحث بأن العفو عن الناس طريق إلى الجنة.
الثالثة: العفو محبوب بذاته.
الرابعة: ليس من حصر لمنافع العفو في الدنيا، أما في الآخرة فجزاؤه قوله تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( ).
الخامسة: في العفو إمتثال لأمر الله عز وجل ورجاء لنيل ثوابه، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “قال موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر”)( ).
وكما جاءت الآية بالإخبار عن حب الله عز وجل للذين يعفون عن الناس، جاءت آيات أخرى بحث المسلمين على بلوغ ما يحبون، وهو العفو والمغفرة من الله عز وجل الأمر الذي يستطيعون نيله بالعفو والصفح عن الناس، قال تعالى[وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ]( ).
وأخرج ابن النذر عن أبي سلمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقص مال من صدقة قط تصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عزا، فاعفوا يعزكم الله، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة يسأل الناس إلا فتح الله له باب فقر . إلا أن العفة خير)( ).
ويرد الحديث النبوي بصيغة الجملة الخبرية لما فيها من البعث على الفعل ولكن الحديث أعلاه جاء بصيغة الجملة الخبرية والإنشائية , للتسالم بين المسلمين بتلقيه بالعمل بمضامينه لأنه من مصاديق الوحي.
فقد بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً ثابتاً وهو عدم نقصان المال بالصدقة، وعدم النقص هذا وعد وفضل الله عز وجل.
قانون موضوعية العفو في السنة النبوية
لقد أنعم الله عز وجل على الناس جميعاً بالقرآن كتاباً نازلاً من عنده سبحانه فتضمن أحكام الحلال والحرام، وسنن الشريعة في أبواب العبادات والمعاملات والأخلاق، ليكون الدستور الدائم الذي يصدر عنه الناس، ويلجأون إليه في المهمات، والسد المنيع الذي يحول دون الإسراف والقتل وإستدامة الحروب، ونزوله من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، عندما أنكروا جعل خليفة في الأرض , وجنساً من الخلق [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ومن علمه تعالى مجئ السنة النبوية معضدة ومؤازرة لأحكام القرآن والعمل بسننها في الأرض.
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية أن المسلمين يتعاهدون بالقول والفعل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية فمن خصال [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، أنهم يستحضرون السنة النبوية ويقتدون بها بقولهم وفعلهم وتقريرهم ومدوناتهم أي يكون عملهم مرآة لأقسام السنة النبوية، ليكون هذا التطابق من عمومات قوله تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكرم الناس، وفي دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً( )، أي بقدر حاجتهم من الأكل والملبس، وكان ترده الغنائم الكثيرة فيوزعها في يومها، وهو الأسوة والإمام في كظم الغيظ والعفو عن الناس، وتؤكد مصاديق السنة النبوية تنزهه عن الرذائل والنقائص، وكان البون شاسعاّ بينه وبين كفار قريش الذي أصروا على الجحود , قال تعالى[وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ] ( ).
ليشرف على الأرض زمان مكارم الأخلاق لتصاحب الناس إلى يوم القيامة، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أراد الله عز وجل لأحكام القرآن البقاء في الأرض يعمل بها المسلمون , ويشع ضياؤها على الناس جميعاً بالموعظة والإعتبار والزجر عن الإفراط والتفريط في باب الأحكام والسنن والأخلاق، وتفضل الله عز وجل وجعل مكارم الأخلاق ملازمة للعمل بالقرآن، ومرآة لما فيه من الحكمة ، وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى: تجلي الأخلاق الحميدة في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتحمله الأذى، وإحسانه للمسيئ، والبذل وحسن الصحبة والمعاشرة، والعفو عن التعدي مع طلاقة الوجه , قال تعالى[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( ).
الثانية:السماحة واليسر ومصاديق الرفق سواء في العبادات أو المعاملات، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: لتعلم يَهودُ أن في ديننا فُسْحَةً، إني أرسلت بِحَنيفيَّة سَمْحَة( ).
أي أن الشريعة الإسلامية متقدمة بالتوحيد مع إقتران التخفيف والسهولة العمل معها، فلا يعني الإقرار بالتوحيد التشديد بالعمل على الذات والغير , وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الأمراء بالتيسير والتخفيف وترك العسر، وهو تفسير وبيان بالمعنى الأعم لقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، وعدم إنحصار اليسر بافطار المريض والمسافر خصوصاً، وأن الآية أعلاه جاءت عامة في خطابها متوجهة للمسلمين والمسلمات جميعاً .
فان قلت إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد يأتي بالعمل العبادي الشاق، يقوم الليل , والجواب نعم وهذا العمل يكون متعيناً، وهو من مختصاته لبيان عظيم منزلته في مراتب اليقين بما يمنع من اللبس والإبهام، كما في صوم الوصال، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه يصومه، وهو وصيام يومين متعاقبين مع الليلة التي بينهما، أو ثلاثة أيام مع الليلتين اللتين بينها , فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: ( إني لست مثلكم ؛ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني( ).
فهل يدل الحديث أعلاه على التعارض بين السنة القولية والفعلية، وأن اليسر والتسهيل في السنة القولية الجواب ليس من تعارض للتباين الموضوعي في المقام وحصر صيام الوصال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم شمول التكليف أو الندب به المسلمين والمسلمات جميعاً بل توجه لهم النهي عنه.
لقد كانت النصوص الواردة في السنة بخصوص العفو مدرسة في الطب النفسي، ووسيلة مباركة لطرد الآفات التي تهجم على النفس ساعة الحنق والغضب والبأس.
عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا وَأَقْلِلْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ قَالَ لَا تَغْضَبْ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَغْضَبْ( ).
ليكون حبس الغضب من مصاديق كظم الغيظ، ومقدمة للعفو وإشاعة روح التسامح، وهو مناسبة كريمة لذكر الله وإتيان العبادات والتدبر في بديع صنع الله لأن ترك الغضب إمتلاك للعقل، وإحتراز من الغفلة والجهالة , وورد في أسباب نزول قوله تعالى[وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ] ( )، وأخرج عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف ، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً، فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء . فقال له أصحابه : ويحك، ولا على موسى؟ قال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

بحث بلاغي
البديع علم تعرف به ضروب تحسين الكلام وإنطباقه على الحال والواقع بما تتجلى معه الدلالة، ومنه(الطباق) وهو الجمع بين متضادين, وقد يكون الطباق بلفظين من نوع واحد، كما في قوله تعالى[وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ]( )، وقال الأعشى من الطويل:
تبيتون في المشتا ملاءً بطونكم … وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وجاءت آية البحث لتتضمن الإنفاق وكظم الغيظ مع التضاد بينهما من جهة خروج المال من اليد بلا عوض، وحبس الغيظ وكتمه، ويبدو للوهلة الأولى أن كلاً منهما فيه أذى للنفس، ولكن العكس هو الصحيح، ففيهما سكينة للنفس، وسلامة من الأدران، فلا غرابة أن يقترن كل فعل منهما بالشكر لله عز وجل.
وهذا الشكر موضوع لإستقراء السكينة والطمأنينة في النفس، مما يبعث الشوق إلى المواظبة على الإنفاق وحبس الغيظ، وظهور الأسى والحسرة في النفس عند التخلف في بعض المواضع عن أحدهما، قال تعالى[لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
فجعل الله عز وجل النفس اللوامة بعرض واحد مع يوم القيامة في القسم، والحلف بها لبيان موضوعيتها وأثرها في الصلاح الذاتي والغيري، ولوم النفس أعم من أن ينحصر بالقبائح بل يشمل ترك الأولى، والتخلف عن التنافس في الخيرات، والتسويف في الصالحات, وهو مناسبة للتدارك .
(وعن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الندم توبة)( ).
إن صبغة التضاد الظاهري في فعل الصالحات مناسبة للتفقه في الدين، والإحاطة بالواجبات، والتمييز بين الحلال والحرام، ومن خصائص المسلمين الجمع بين التضادين في الفصل مع إتحادهما في الماهية والحسن الذاتي، لتكون الدنيا مزرعة للآخرة، وطريقاً لبلوغ مراتب الخلود في النعيم.
وقد يكون الطباق بفعلين، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع)( ).
وقد لا يصدق على الآية أنها من الطباق والمتضادين في الإصطلاح الفلسفي، لأن التضاد يكونا بين فردين لكل واحد منهما طبيعة خاصة وهو معقول بنفسه، فإذا أطبق إلى غيره وقورن معه صار ضداً له، بقيد التعاقب على موضوع واحد كالسواد والبياض، والليل والنهار، فهما لا يجتمعان على الصدق في آن واحد بينما يأتي إخراج المسلمين للمال، وحبسهم الغيظ في زمان واحد، وقد يجتمعان في موضوع متحد، فيقابل المسلم الإساءة بالحسنة بأن يكظم غيظه , ويعطي من أساء إليه، قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
قوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]
تحتمل اللام في المحسنين وجوهاً:
الأول: أن تكون للعهد والمراد الذين ذكرتهم الآية الكريمة من المنفقين والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.
الثاني: إرادة الجنس فتشمل الآية كل محسن.
الثالث: إرادة المعنى الأعم الشامل للعهد والجنس.
والصحيح هو الثالث لإرادة الإطلاق ولورود آيات تتضمن الندب إلى الإحسان والإخبار عن حب الله للمحسنين عامة من غير تقييد بضرب مخصوص من مصاديق الإحسان، قال تعالى[وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) .
وفي هذا الجمع آية إعجازية بتخلف التقسيمات الإستقرائية النحوية والبلاغية عن مضامين آيات القرآن ودلالات اللفظ القرآني فإن قلت إن إعتبار اللام للجنس يدخل فيه العهد لأن بين الجنس والعهد عموم وخصوص مطلق.
والجواب هذا صحيح، ولكن المقصود من قولنا إرادة المعنى الأعم هو إختصاص العهد باللفظ في ذات الوقت الذي يراد منه المعنى الأعم الشامل , وبيان نكتة لغوية وهي أن اللفظ القرآني لا تحيط به القسيمات النحوية والكلامية.
ويمكن تسمية الدنيا(دار الإحسان) لأمر الله عز وجل المسلمين بالإحسان ولأنه سبحانه يحب المحسنين، ومن خصائص الإحسان أنه يبعث البهجة والسكينة في النفوس، سواء نفس المحسن أو المحسن إليه، أو الذي يرى ويسمع الإحسان سواء كان في بلده وزمانه، أو في زمان سابق يكون إحسان السابق تركة لللاحق سواء كان مسلماً أو غير مسلم، وفيه ترغيب للناس بالإحسان.
وفي خاتمة الآية تأكيد لمضامينها، وبعث سماوي إضافي للإنفاق في حال السراء والرخاء التي قد تدعو الإنسان إلى الظن بالمال , والظن بأنه جزء من الشأن الإجتماعي والمنزلة في السوق وبين الناس، فجاءت الخاتمة لبيان أن الإنفاق علة للمنزلة الرفيعة بين الناس بلحاظ أن هذه المنزلة من رشحات حب الله للعبد الذي يتحقق بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو.
وإذا كان الإنسان يسر ويفرح بالمال الوفير فإن حب الله له باب للفرح والسعادة، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، (قيل فضل الله هو القرآن، ورحمته هو الاسلام ” خير مما يجمعون” من الذهب والفضة. ذكره ابن عباس وأبو سعيد الخدري والحسن وقتادة ومجاهد)( ).
وقد جاء الثناء على المسلمين لفرحهم بفضل الله بينما جاء الذم للفرحين بقوله تعالى[اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( )، مما يدل على أن الفرح على قسمين:
الأول: الفرح المحمود وهو الذي يكون بفضل من الله , وأثراً مترتباً على نعمته.
الثاني: الفرح المذموم، وهو الذي يكون عن جحود وتخلف عن الوظائف العبادية، وإنقطاع إلى الدنيا أي أنه عن جهل وبطر كما في قوله تعالى[فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ]( )، والفرح لذة في النفس عند نيل المشتهى وتحقيق الغاية أو البلغة.
لقد جاءت هذه الآية ببيان صفات المتقين الذي أعدّ الله عز وجل لهم الجنة كما يظهر في الصلة الموضوعية بينها وبين الآية السابقة ( وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، ثم أختتمت هذه الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
وفي الجمع بين خاتمتي الآيتين تأكيد للمنزلة العظيمة للمؤمنين الذين يعملون بأحكام هذه الآية، وأنهم يفوزون في الدنيا بنزول البركات فأبى الله عز وجل أن يكون ثواب مصاديق التقوى منحصراً بعالم الآخرة مع أنه حياة الأبدية وجزاء محض , والآية السابقة تؤكد عدم الإنحصار هذا، من جهات:
الأولى: إبتداء الآية بالأمر بالمسارعة إلى المغفرة من الله والإستغفار طريق للسعة في الرزق.
الثانية: الإنفاق طاعة لله، وجهاد في سبيله ,وسبب لصرف البلاء.
الثالثة: مضامين آية البحث توثيق وتقوية للأخوة الإيمانية بين المسلمين.
الرابعة: لقد جاءت آيات القرآن بحث المسلمين على الأمر بالطاعات والحث على القربات والزجر عن القبائح والمعاصي، وعن عبيد بن رفاعة قال: قدمت روايا خمر فأتاها عبادة بن الصامت فحرقها وقال : إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم ، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب بما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة . فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعناه عليها)( ).
ويظهر الحديث إتخاذ اليد والقطع واللسان وسيلة للعهد والمبايعة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يكتف عبادة بذم الخمر وذكر الآيات والأخبار التي تؤكد حرمته، وتنهى عن شربه.
الخامسة: بالإمتثال لمضامين آية البحث فوز بحب الله ونزول رحمته، وإفاضة البركات والنماء في المال والجاه والعمر، وطرد الآفات والأدران، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn