معالم الإيمان في تفسير القرآن – سورة البقرة ج7

 الجزء السابع 

الآيات (29-34) سورة البقرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة

 
الحمد لله الذي جعل آياته قريبة من الناس عقلا وحساً بالقرآن فتنفذ الى قلوبهم ويملأ ضياؤها جوانحهم، وإذ جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء فانه سبحانه لم يخّل بين الإنسان وبين وجوه الإبتلاء فيها، بل رزقه سلاح العقل وجعل القرآن ينير له دروب الحياة ، وإماماً يهديه الى سبل الرشاد ، والسلامة من أسباب الغواية والضلالة.
ومن الآيات إنعدام الموانع بين الناس والقرآن، فآياته قريبة من كل إنسان وليس من حصر لمصاديق وأسباب هذا القرب، ومن اللطف الإلهي بالناس وجوب تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية ، ومنها القراءة الجهرية في أطراف النهار والليل . قال تعالى[ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ]( ) لتكون مضامينها دعوة للتفكر في الخلق والتدبر ببديع صنع الله.
 ومن آيات القرآن ما تحكي قصة خلق آدم وهو أبو البشر، ولولا هذه الآيات وما ورد مثلها في الكتب السماوية السابقة لجهل الإنسان أصل بداية خلقه، ولتعددت الأقوال والأساطير، وتضمن بعضها الكفر والجحود والإستكبار والغرور.
ويدل قوله تعالى[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( )، الذي يبدأ به هذا الجزء  على حاجة الناس لرحمة الله إبتداء وإستدامة،  وقد يحتاج الإنسان تهيئة مقدمات حاجته ولكنه ليس من عمومات مقدمة الواجب واجب، فيعتني الإنسان بما سخّر الله عز وجل من خزائن الأرض، ويحافظ عليها فمثلاً قد يقوم بزراعة بعض النباتات التي لا تطلب بذاتها بالأصل ولكنها تصلح التربة لزراعة المأكول من القمح والشعير، أو يقوم بإنشاء السدود، وبذل الأموال والجهود للمحافظة على الموارد المائية التي يجب أن تقترن بالشكر لله عز وجل الذي يتجلى الفعلي منه بالتقوى وأداء الفرائض , قال تعالى [فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ]( ).
وجاءت الثانية من هذا الجزء من التفسير وهو الجزء السابع بإخبار الله للملائكة بجعل آدم خليفة في الأرض , يسخر له الله عز وجل الأشياء، ليعمرها بالعبادة والذكر، وإحتجاج الملائكة عليه بالبينة التي تكون قاصرة ومتخلفة عن علم الله عز وجل والبرهان الحاضر الذي أظهره لهم بتعليم آدم الأسماء، وما يدل عليه من إرتقاء الإنسان في المعارف الإلهية كفرع لنفخ الله عز وجل فيه من روحه وإتخاذ المعرفة والعلوم الوهبية والكسبية لدفع الفساد ومقدماته.
 وأخبرت الآيات عن فضل الله على آدم وحواء بالمكث في الجنة ولو لآن ما، وفيه بيان لإغواء إبليس لهما في قصة تؤكد خلق الله تعالى لآدم وحواء من غير أن يكونا في رحم امرأة أو زجاجة بل بمشيئته وإرادته تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وتبين الآيات بداية وجود الإنسان في الأرض وهو فرع وجوده في السماء، فليس من خلق في الأرض انما كان التناسل والتكاثر لان أبوي البشر خلقا في الجنة ، وهو نوع تفضيل وإكرام لبني آدم، وبدأ هذا التفضيل قبل أن يخلق آدم بآلاف السنين بتهيئة ما في الأرض للناس رحمة وفضلاً من الله سبحانه ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ]( ).
ولم يحتج الملائكة على خلق آدم أو على خلافته في الأرض، بل كان إحتجاجهم على جعل ووجود المفسدين في الأض مما يدل عل خروج آدم والأنبياء والصالحين والمسلمين جميعاً بالتخصص من موضوع إحتجاج الملائكة، ويمكن إستقراء مسألة من قول الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا]( )، أن الخلافة لا تشمل الكفار والمفسدين، وأن الملائكة أرادوا الأرض خالصة للخليفة والمؤمنين الذين يذكرون الله ويؤدون الفرائض والعبادات، ويدل عليه الثناء الواردة على المسلمين في القرآن، ومنه قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]. 
 
 
 
 
 
قوله تعالى[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ فَسَــوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَــاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]الآية29.
 
الإعراب واللغة
(هو الذي خلق لكم)
هو: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ .
 الذي: اسم موصول في محل رفع خبر، خلق: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، عائد إلى الله تعالى، لكم: جار ومجرور متعلقان بخلق.
 ما: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، في الأرض : جار ومجرور .
جميعاً: حال للمفعول به، وقيل هو توكيد له.
(ثم إستوى) ثم: حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، إستوى: فعل ماض معطوف على خلق، إلى السماء: جار ومجرور متعلقان بإستوى.
(فسواهن سبع سماوات) الفاء: حرف عطف، سوى فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف، الفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
   الهاء: ضمير متصل في محل نصب مفعول به.
سبع سماوات: سبع حال منصوب، وقيل بدل من الضمير في سواهن، سماوات: مضاف إليه.
(وهو بكل شيء عليم) الواو: إستئنافية، هو: مبتدأ، بكل شيء: جار ومجرور متعلقان بعليم، عليم: خبر هو.
من أسماء الله تعالى (الخالق) وهو المقدر لما يوجد، وكل ما يخرج من العدم إلى الوجود محتاج إلى تقدير الله تعالى وإيجاده، والخلق هو التقدير والجمع والضم والإختراع.
وإستوى: قصد وعمد.
والسماوات: جمع سماء يذكر ويؤنث،(وعن ابن الأنباري أن التذكير قليل)
وتدل معاني الســماء على الإرتفاع والعلو والسمّو، وقال نفر من اللغويين: أن سقف البيت يطــلق عليه اسم سماء، والأنسب أن يقال له سماء البيت، (وبه أي التقييد قال ابن الإعرابي. 
في سياق الآيات
يعد موضوع هذه الآية والخطـاب فيها عام ويتعلق بالإرادة التكــوينيــة فترى الآيات في ســياقها متــعددة الوجوه بتنسـيق ونظم بديع يطرد السأم عن النفوس ولتأخذ كل طائفة ما ينفعها وما تحتــاج إليه سـواء كان الخطــاب متوجـهــاً اليها أو إلى غيرها أي أن النفــع عام سواء كان بالمنطــوق أو بالمفهوم أو بهـمــا معاً.
وبعد أن جاء موضوع الآية السابقة متعلقاً بالنعم الإلهية على الإنسان في نفسه وقوامه وحاجته حياً وميتاً وإبتداءً وإستدامة لرحمة وفضل الله تعالى جاءت هذه الآية لبيان الإرادة التكوينية وبديع صنعه.
وبين هذه الآية والآية السابقة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الإخبار والإحتجاج بعالم الخلق والتكوين، ومادة الإفتراق أن الآية السابقة تتحدث عن خلق الإنسان وبعثه بعد الموت، وهذه الآية عن خلق السماء والأرض وما سخر الله للإنسان.
وإذ جاءت الآية السابقة بذكر النعم الإلهية على الناس في العوالم الطولية مما قبل الحياة وبعدها، والعالم الآخر، جاءت هذه الآية لبيان النعم الإلهية عليهم في الأرض والسماء.
ويمكن أن نسمي النعم في الآية السابقة بالنعم الذاتية.
 والنعم في هذه الآية بالنعم الغيرية.
 لتجتمع كلها في نفع الإنسان وتكون مقدمة وعوناً له في العبادة.
والصلة بين هذه الآية والآية التالية من وجوه:
الأول: بيان قانون ثابت وهو أن الله عز وجل هيئ للناس رزقهم قبل أن يعمروا الأرض.
الثاني: من خصائص خليفة الله في الأرض أن يهيئ الله تعالى له النعم الأرضية والسماوية.
الثالث: جاء ذكر تسخير ما في الأرض للإنسان للتذكير بوجوب قيامه بشكر الله تعالى على تلك النعم.
إعجاز الآية
الخلق والنعم المسخرة لبني آدم ، ليست للمؤمنين فقط فمن إعجاز الآية لغة العموم في الرزق الإلهي والنعم السماوية لتصيب الناس جميعاً، وهي ذات شعبتين:
الأولى: توبيخ وحجة على الكفار.
الثانية: الجزاء العاجل والرحمة للمؤمنين , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ]( ). 
وفي الآية توكيد لإنعدام الشريك في الخلق، ولوم للكفار بإتخاذهم الأنداد لله، وفي الآية دعوة للتدبر في منافع الآيات الكونية وعدم الإفتتان بها وقد ظل قوم بعبادة الشمس، وآخرون عبدوا القمر فجاءت هذه الآية لتؤكد أن الكائنات جميعاً من خلق الله.
ويمكن تسمية  هذه الآية الكريمة بآية (فسَوَّاهُنَّ) ولم يرد هذا اللفظ  في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
الآية بشارة ورحمة وإخبار عن توالي النعم الإلهية ومناسبة للشكر والثناء والإنخراط في مسالك العبادة، فالنعم والإفاضات وتسخير جنس الحيوان والنبات والمعدن وغيرها للإنسان إنما هي عون له على العبادة، وحجة ودعوة للهداية.
جاءت هذه الآية بموضوع عام بعد خطاب خاص إذ تتضمن الآية السابقة ذم الكفار وجحودهم للنعم الإلهية، وجاءت هذه الآية بالخطاب والإخبار عن الرزق الواسع الكريم، وبحسب قاعدة اللف والنشر البلاغية فان الآية مدح وثناء على المسلمين لأنهم آمنوا بالله تعالى، وأقرّوا بالنعم التي تفضل بها على الناس جميعاً.
 وتدعو الآية إلى الخشية من الله تعالى سبحانه عليهم بكل شئ ومن علمه تعالى أن المؤمنين يشكرون الله على النعم ويتخذونها وسيلة لعمارة الأرض بالعبادة، وهو سبحانه يمهل الكفار في الحياة الدنيا ليكون مصيرهم إلى النار.
لقد أراد الله عز وجل للإنسان الإستغناء عن الحاجة لغيره سبحانه، لينقطعوا إلى عبادته، وليعلموا أنه ليس من أحد له الفضل على بني آدم إلا الله تعالى، فهو خالقهم ورازقهم وحافظهم.
ومن الآيات أن جاء خلق ما في الأرض للإنسان قبل أن             تسوى السماوات إلى سبع، وفيه إكرام إضافي للإنسان وبيان لمنزلته بين الخلائق.
مفهوم الآية 
من أسماء الله تعالى اللطيف فهو الذي يقرب عباده إلى الطاعة ويهديهم إليها ويحبب إليهم الإيمان وهذه الآية من اللطف الإلهي سواء بما فيها من صيغة الخطاب العام الإستغراقي الشامل لجميع الناس أو في ذكر عظيم مخلوقاته أو تفضله بتسخيرها للناس.
ومن مفاهيم الآية التوكيد على تعاهد الله سبحانه للخلائق وتهيئة أسباب الحياة وإستدامتها بأفضل حال فإنه سبحانه خلق الإنسان بأحسن هيئة وصورة ، وقيض له مستلزمات الحياة الكريمة والسعادة في الدنيا.
والآية وعد ووعيد لما فيها من إحاطة الله سبحانه علماً بكل شيء , ومن الوعد الإخبار عن علمه سبحانه بإيمان المسلمين، ومن الوعيد إحاطته علماً بجحود الكافرين ومحاربتهم للإسلام وإختيارهم طرق الضلالة ونقضهم للمواثيق وإفسادهم في الأرض.
ومن فضل الله تعالى أن يعدد نعمه على بني آدم ويلفت أنظارهم إلى أفرادها مما لا يقدر عليه إلا الله، لتتبين لهم حاجتهم إلى تلك النعم وعجزهم عن الحياة بدونها، وهذا البيان مقدمة لإدراك وجوب عبادته تعالى والإمتثال لأوامره، شكراً له سبحانه وخوفاً منه ورجاء لرحمته ونيل المزيد من النعم، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ). 
وتمنع الآية من عبادة الأنداد من وجوه:
الأول: كل شيء في الوجود مخلوق تفضل بخلقه الله تعالى.
الثاني:  هذه الموجودات العظيمة مسخرة للإنسان بدليل قوله تعالى [خلق لكم] فهي مصيرة لجنس الإنسان على تعاقب أجياله.
الثالث:  عظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعه برهان في لزوم عبادته سبحانه.
ولم تقل الآية (على الأرض) بل قالت (في الأرض) وتفيد (في) الظرفية، وفيها إخبار عن كنوز الأرض وما في باطنها من النعم والمعادن، ودعوة للتنقيب والبحث عنها.
وجاءت الآية بسور الجمع والشمول (جميعاً) للتوكيد ومنع نسبة الخلق لغير الله تعالى أو الإعتماد على الأسباب وحدها، لأن الخلق قد يكون في ظاهره أحياناً وفق قوانين الأسباب والمسببات، والعلة والمعلول.
 وفي الآية تحذير من الجحود والكفر لأن الله عز وجل عليم بكل شيء، وكل الأشياء حاضرة عنده ما دق منها وما كبر، والخلق أمارة على علم الخالق بمخلوقاته.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الثناء على الله تعالى.
الثانية: بيان خلق الله عز وجل الأرض وما فيها.
 الثالثة: خلق الله عز وجل للسماوات وجعلها سبع سماوات بعضها فوق بعض.
الرابعة: إحاطة الله علماً بكل شيء.
الآية لطف
تتضمن الآية دعوة الناس للتدبر في خلق السماوات والأرض وما فيهما من الدلائل على وجود الصانع، ووجوب عبادته وطاعته، وتمنع الآية من الشرك بالله تعالى في عالم الخلق، فمتى ما أدرك الإنسان أن كل شيء في الوجود هو من خلق الله فإن أسباب الشرك تكون معدومة عنده.
ومن فضل الله على الناس أن ينزل هذه الآية لإقامة الحجة عليهم ودعوتهم للإيمان بالبرهان الواقعي الملموس.
إن خلق السماوات والأرض أمر عظيم لا يقدر عليه غير الله، فجاءت الآية لزجر الكفار عن الكفر ودعوتهم للإيمان بالإخبار عن قانون العلة والمعلول في الكائنات، وإنها ترجع جميعاً في وجودها إلى مشيئة الله تعالى.
إفاضات الآية
تبعث الآية على حب الله تعالى ، ورسوخ حبه في نفوس العباد، فكل شيء منه تعالى فلا شيء عند العبد إلا الحب والعشق للقائه تعالى، والفناء في طاعته والإمتثال لأوامره، فالآية السابقة أخبرت عن خلقه تعالى للإنسان.
 وجاءت هذه الآية لتخبر بأن الله عز وجل لم يخلق الإنسان ويجعله في حاجة إلى غيره تعالى ، ولم تكن حاجة الإنسان معلقة على أوانها أو مقيدة بشرط العبادة بل جعل الله قضاءها سابقاً لخلق الإنسان، وهيء له أسباب النعم قبل أن يخلق، وفيه دعوة للشكر والثناء على الله عز وجل، قال تعالى[وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد أن جاءت الآية الحادية والعشرون في خلق الله للناس جميعاً، ولزوم عبادة الله تعالى جاءت هذه الآية بالإخبار عن خلق الله تعالى لما في الأرض، لتكون الآيتان مجتمعتين شاهداً على إكرام الله تعالى للإنسان وانه سبحانه لم يخلقه ويتركه يواجه مشاق الحياة الدنيا، بل سخّر له ما يحتاجه وهذا التسخير مقدمة للعبادة، وحجة على الانسان في لزوم عبادة الله تعالى، لتكون العبادة بالنسبة للخلق كالمعلول الذي لا يتخلف عن علته.
وبدأت الآية بالضمير (هو) الذي يعود إلى الله تعالى، وفيه توكيد على لزوم إستحضار الناس للنعم الإلهية، والتدبر في عظمتها وكثرتها وأنها من اللامتناهي الذي يعجز الناس عن إحصائه، ثم أخبرت الآية عن تفضل الله تعالى بتسوية السماء ، وتدبير شؤونها ، قال تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى].
 وتفيد (ثم) الترتيب والتراخي، مما يدل على أن الله عز وجل خلق ما في الأرض للإنسان ثم سوى أمور السماء، وفيه إكرام إضافي للإنسان بلحاظ أن آدم خلق في الجنة، مما يدل على أن الله تعالى هيئ للإنسان ما يحتاجه في الأرض قبل أن يخلق آدم، فقوله تعالى في الآية السابقة [كُنتُمْ أَمْوَاتًا] يدل على أن الله تعالى يكرم الناس أحياءً وأمواتاً، وفيه بشارة نيل رحمة الله تعالى بعد الموت.
 وإذ ذكرت الآية خلق كل ما في الأرض للناس، فهل خلق الله تعالى السموات من أجل الناس فيه وجوه:
الأول: لم يخلق الله تعالى السماوات للإنسان وحده.
الثاني: ينتفع الانسان من السماء على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث: خلق الله تعالى السماوات للناس كما خلق الأرض.
والصحيح هو الأول والثاني، فإن الإنسان ينتفع من السماء، وتلك المنافع ظاهرة للحواس وخلق السموات أعم من حاجة الإنسان، وهي مسكن الملائكة، قال تعالى [أَلَمْ تَرَوْا أن اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض] ( ).
ومن المنافع الأرضية ما يتعلق بالسماء وما ينزل منها، وتقدم قوله تعالى [وَانزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ]( )، وجاءت هذه الآية جامعة للفظ السماء بصيغة المفرد والجمع، وفيه وجهان:
الأول: خلق الله السماء قبل أن يتفضل ويجعلها سبع سماوات.
الثاني: السماء لم تكن موجودة، وذكر السماء بالاسم في قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ] للإخبار عن صيرورتها سماء وسقفاً مرفوعاً.
 وعلى الوجه الأول يكون خلق السماء على مرتبتين:
الأولى: خلقها على نحو العموم.
الثانية: جعلها سبع سماوات. 
وقد جاءت آيات عديدة بتقديم السموات على الأرض قال تعالى [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرض بِالْحَقِّ] ( )، وجاءت آية بتقديم الأرض، قال تعالى [تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرض وَالسَّمَوَاتِ الْعُلاَ]( ).
ولم تخبر الآية محل البحث عن خلق الأرض قبل السماء، بل أخبرت عن خلق ما في الأرض للإنسان ومنفعته في أجياله المتعاقبة، وخلق الأرض بعد لما فيها من أسباب الرزق والمعاش ويتجلى هذا البيان وإبتداء خلق السماء وهي دخان بقوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَأن فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا] ( ).
إن تقديم خلق ما يحتاج إليه الإنسان على جعل السماوات سبعاً، وقبل أن يخلق الله آدم عليه السلام نعمة عظيمة ورحمة بلناس وحجة عليهم , وجاءت في المقام بصيغة التذكير المقرون باللوم للكفار على جحودهم وكفرهم، ويدل في مفهومه على التخويف والوعيد من الحساب يوم القيامة.
 ومع أن الآية جاءت لتوبيخ الكفار على ما إختاروه من الجحود والعناد فإنها تبين بديع صنع الله تعالى للسموات والأرض وإنها جميعاً من ملك الله تعالى، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] في دلالة على أنه سبحانه يتعاهد الخلائق ويمهل الكفار على جحودهم مع دوام النعم على الناس جميعاً في الدنيا.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بالضمير (هو) ويعود إلى الله عز وجل، وفي تلاوة الآية والإستماع إليها نوع تعظيم لمقام الربوبية، ودعوة للإقرار بالعبودية لله عز وجل، إذ نسبت الآية السابقة الحياة والموت وعلى نحو متكرر لله عز وجل، وجاءت هذه الآية لبيان فضله على الناس في خلق السماوات والأرض، وتطرد الآية معاني الشرك من النفوس وتدعو إلى الهداية من وجوه:
الأول: إن هذه الكواكب والكائنات من خلق الله عز وجل .
الثاني: سخر الله ما في الأرض للناس في أجيالهم المتعاقبة، فيذهب جيل ويأتي جيل والنعم تترى عليهم من عند الله، فهي كالميراث العام الذي يتصرف فيه الناس جميعاً ليتركوه لمن بعدهم من غير أن يصيبه النقصان.
الثالث: منع إفتتان الناس بالكواكب والشمس والقمر، والزجر عن عبادتها.
 الرابع: دعوة الناس للشكر لله عز وجل على هذه النعم، والذي يتجلى بالإقرار بالنبوة والكتب السماوية المنزلة.
الخامس: القرآن هدى للناس، وباب للتفقه في أمور الدين والدنيا، ووسيلة سماوية للإرتقاء في المعارف، وحرب على الجهل والوثنية.
 وجاءت آيات كثيرة تخبر عن خلق الله للسموات والأرض من غير تقييد بالخلق للناس الذي جاء في هذه الآية (خلق لكم) وفيه تقييد للإطلاق ونكتة عقائدية من وجوه:
الأول: حث الناس على الدعاء للإنتفاع الأمثل والأحسن من النعم التي أودعها الله الأرض.
الثاني: دعوة الناس للدعاء لإستثمار وإستخراج خزائن الأرض، ولا يقبل الدعاء إلا مع الإيمان، وقد سأل بنو إسرائيل الله عز وجل ليخرج لهم مما تنبت الأرض كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ] ( )، فاستجاب لهم الله عز وجل مع أنهم تركوا الأولى ومنه المن والسلوى [اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]( )، مما يدل على أن الخلق المذكور في الآية لا ينحصر بالظاهر والباطن من خزائن الأرض بل يشمل ما يوجد من العدم كالنبات والحيوان المتكثر، ليكون مصاديق من رحمة الله وشواهد على تجدد الرزق للناس.
الثالث: عدم مجئ جنس آخر غير الإنسان يستولي على خيرات الأرض والمياه ويمنع الإنسان من الوصول إليها، لأن الآية تقول [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ] ولا ينزل الملائكة من السماء لمنافسة الإنسان في الأرض، نعم نزل آلاف من الملائكة في معركة بدر وأحد والخندق لإعانة الإنسان على الإنتفاع من كنوز الأرض، بالقتال إلى جانب المؤمنين لتبقى كلمة التوحيد صرحاً راسخاً في الأرض ، ويستمر الناس في عبادة الله عز وجل فتكون العبادة موضوعاً ومادة لإستمرار الحياة في الأرض، وتوالي النعم، قال تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتبين الآية رحمة الله بالناس إذ هيئ لهم ما يحتاجون إليه في الدنيا والآخرة، وآيات الآفاق حجة على الناس، ودعوة عقلية وحسية لهم للهداية والإيمان، وإذ جعل الله عز وجل الناس يتصرفون في الأرض ويتملكون ويتوارثون فيها، ويتقاسمون خيراتها فانه سبحانه (إستوى) إلى السماء لإرادة الإستيلاء والملكية المطلقة لله في السموات، فليس من مالك ومتصرف فيها إلا الله لتكون شاهداً على ملكية الله للسموات والأرض يوم القيامة , ومصداقاً حاضراً بين الناس لقوله تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
 
 
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: توجيه اللوم والذم للكفار على جحودهم.
الثانية: ضرورة التدبر في أصل الخلق وإتخاذه وسيلة للإيمان ومادة للإعتبار.
الثالثة: بيان بديع قدرة الله، وعظيم سلطانه.
الرابعة: حضور الأشياء جميعها عند الله.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا]
الأول: بعد تفضل الله تعالى ببيان الحجة والبرهان للناس في أنفسهم وأن آية خلقهم وبعثــهم توجـب إلتزامهم بعبادته وطاعته جــاءت هذه الآية الكريمة للإحتجاج بآياته في المنافع، وفي الآفاق [ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي انفُسِهِمْ]( ).
الثاني: إن قدرة الله تعالى تتعلق بكل المقدورات كائنة ما كانت وأنها عامة ومطلقة لتجردها عن الزمان والمكان والجهة لتساوي نسبتها إلى الإيجاد لما تتصف به من الإمكان وما يلازمه ضرورة من الحاجة إلى واجب الوجود، نعم لا يلزم من التعلق الحدوث العام، فالله تعالى قادر على فعل الشيء وضده ولكنه منزه عن القبيح والظلم ونحوهما.
الثالث: في الآية زجر عن عبادة غير الله فكل له مخلوق منقاد، والخلائق ماهيات متصـفة بالإحتياج والحدوث وإن كان لها وجود خارجي.
الرابع: في الآية توبيخ للمشركين فكيف يعبدون ما خلقه الله لهم وســخّره لحاجــتـهم نعمة منه تعالى وفضلاً على الناس وحجة.
الخامس: ورد في الخبر عن الامام علي في الآية: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً لتعتبروا به ولتوّصلوا به إلى رضوانه وتتوقوا به من عذاب نيرانه، ثم إستوى إلى السماء وأخذ في خلقها وإتقانها فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم، ولعلمه بكل شيء علم المصالح فخلق شرع ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم).
السادس: الآية بيان للترتيب في خلق الأرض والسماء وما فيه من إعجاز ودلالات كما أن (ثم) الواردة في الآية تفيد الترتيب والتراخي، 
(وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات} قال : إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً قبل الماء، فلما أراد أن يخلق أخرج مي الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء ، فسما سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً فتقها واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين. في الأحد والإِثنين،
فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله (ن*والقلم) والحوت من الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان؛ ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال،
 فالجبال تفخر على الأرض. فذلك قوله{وجعل لها رواسي أن تميد بكم} وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها ، وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين : في الثلاثاء، والأربعاء، وذلك قوله {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} إلى قوله {وبارك فيها} يقول: أنبت شجرها، وقدر فيها أقواتها، يقول لأهلها {في أربعة أيام سواء للسائلين} يقول: من سأل فهكذا الأمر {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، ثم جعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين : في الخميس ، والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض {وأوحى في كل سماء أمرها}  قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والخلق الذي فيها، من البحار، وجبال، البرد، وما لا يعلم. 
ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظاً من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش)( ).
السابع: تبين الآية أن الله عز وجل لم يخلق الإنسان ويتركه سدى بل تكفل رزقه وهو نوع إكرام ، ومن عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا]( ).
بعد أن أنكر المشـركون البعث والنشأة الآخرة جاءت هذه الآية بالتذكير  بالشواهد الظاهرة للحواس والمدركة بالعقل والوجــدان التي تدعــوهــم إلى الإيمان.
فمن آيات الله سبـحــانه أن جعل ما قبل خلق الانسان وأثناء حــياتــه وبعد مـوته آيات تدعوه للإقرار بالربوبية والإيمان، وهذه الآية جامعة ومســـتوعبة للمراتب الثـلاث لما فيها من آيات الخلق والرزق المستديم، ودوام الحياة وتجدد وتعاقب الأجيال والأمم.
الثامن: تفتح الآية آفاقاً علمية وتبين أن الإنسان لم يوظف بعد الشطر الأكبر مما سخّره الله عز وجل له، فهذه الآية من أعظم النعم على الإنسان لما فيها من إطلاق للتسخير وعدم التقييد، إلا أن يرد دليل في آية قرآنية أخرى أو من السنة على التقييد والظاهر انه معدوم، وبعض أفراد الواقع الخارجي لا تصلح أن تكون حجة بمعنى أن ما يظنه الانسان اليوم خال من النفع فإنه قد يكون في الماضي أو المستقبل ذا نفع عظيم.
التاسع: من إعجاز القرآن أن الآية في مقام الإستخبار والتوبيخ ولكنها تحمل البشارات وتحث على الإنتفاع الأمثل من خزائن الأرض ومن الآيات التطبيقية والشــواهـد على عموم الخطاب في هذه الآية أن الناس جميعاً مؤمنين وكفاراً منتفعون من كنوز الأرض والثروات التي جعلها الله ذخيرة وزاداً ومتاعاً للإنسان.
وقد ترى الكفار هم الأكثر إنتفاعاً من هذه الثروات والنعم الدنيوية كجزء من عموم رحمته في الدنيا وليكون مصداقاً لإطلاق الخطاب في هذه الآية وإستدراجاً لهم، وحجة عليهم يوم القيامة.
العاشر: الآية دعوة لإستثمار الأرض وإحيائها والبحث والتنقيب فيها ولزوم عــدم التفريط بثرواتها لأنها ملك للأجيال المتعاقبة، وقد ذكــرت في تفسـير سورة يوسف في قوله تعالى [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض]( ) أن الآية دعوة لتأسيس وزارة خاصة بشؤون الأرض وتنظيم الإنتفاع من كنوزها.
الحادي عشر: من الإعجاز أن الآية الكريمة جاءت بحرف (في) الذي يفيد الظرفية، ولم تأت ب(باء) السببية أو (على) التي تفيد الإستعلاء، وربما فسرت لما فوق الأرض،  وتتعلق (في) بالأرض وما عليها وما فيها من الكنوز.
 وفي الآية إشارة لرحمة الله تعالى بما جعل في الأرض من كنوز مستورة من الذهب والنفط والماس ونحوها التي تتحكم في هذه الأزمنة بالإقتصاد العالمي، بالإضافة إلى الزراعة كنعمة وحاجة مستديمة، وكنز عام قريب متجدد.
الثاني عشر: تبين الآية شرف الإنسان وعظيم منزلته عند الله عز وجل بما سخر الله له وأكرمه به، فلو أعان إنسان إنساناً آخر على شؤون حياته وقيض له مسكناً، وأجرى له عطاءً شهرياً، ثم قصّر الذي يتلقى العون في الشكر على النعمة ورد الإحسان وقابله بالجحود لرأيت الناس برهم وفاجرهم يوجهون اللوم له على جحوده وتقصيره.
فكيف وأن الله عز وجل قد أنعم على الناس مجتمعين ومتفرقين نعماً نعجز عن إحصائها وعدها ، وهي مستديمة ومنبسطة وقريبة مع جحود أكثر الناس، فلا غرابة أن تستغرب الملائكة من الإنسان إرتكابه المعصية، أو انها تسأل عن إستحقاقه الخلافة مع جحوده وعدم شكره بقولهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الثالث عشر: [جَمِيعًا] حال وتوكيد لما سخر الله عز وجل للإنسان في الأرض لبيان لطفه وإستمرار توالي نعمه.
الرابع عشر: تطرد الآية الخوف من شبح الجوع أو نقص الغذاء، ففي كل زمان يدرك الإنسان أن نعم الأرض أعم وأكثر من حاجة الناس.
الخامس عشر: لم تتعلق الآية بالتسخير بل في أصل الخلق وأنه للإنسان.
السادس عشر: تدل الآية على أن الأصل في الأشياء الإباحة كما مبين في الفقه، وأن الحيازة والملكية الخاصة تحتاج إلى دليل.
السابع عشر: وفي جهة الخطاب وجوه: 
الأول: إنه موجه للمؤمنين خاصة.
الثاني: موجه للمسلمين بالأصالة ولغيرهم بالعرض والتبعية.
الثالث: إرادة الناس جميعاً من الخطاب.
 والصحيح هو الثالث، بقرينة الخطاب في الآية السابقة وبالقرائن الحالية ولإقامة الحجة وبيان عظيم إحسان الله سبحانه، وأنه يرزق البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وحتى الكافر قد تدركه التوبة والإنابة.
 وهذه الآية من مصاديق الحث على التوبة والدعوة إلى الهداية، وقد يخرج من ذرية الكافر من يؤمن بالله ويتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، ويمتثل لأحكام الشريعة الإسلامية.
الثامن عشر: لا تدل الآية على أن الإنسان علة تامة لخلق الأرض ولكن الله عز وجل سخر النعم الأرضية له.
التاسع عشر: إثبات شئ لشئ لايدل على نفيه عن غيره، فاللام في قوله تعالى [خَلَقَ لَكُمْ] وإن وردت للإختصاص، إلا أن منافع خلق الأرض أعم من أن تنحصر بالإنسان.
وفي قوله تعالى[خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا]، وفيها دعوة للناس للإستفادة مما في الأرض من الموجودات والخزائن والذخائر اللامتناهية وإستظهار بركاتها.
وفيها بيان بان الله تعالى لا يفعل لغرض وأنه غير محتاج.
(وأستدل بالآية الكريمة على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض)( )، ولكن الإستدلال بالآية الكريمة غير تام وكذلك التعليل اذ أن الخلق اعم من الاكل وغيره وإن جاء النص والإجماع على حرمة أكل الطين.
قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إلى السمَاءِ]
ذكرت في الآية أقوال منها:
الأول: قصد السماء لتسويتها.
الثاني: إستولى الله عز جل على السماء بالقهر.
الثالث: ثم إستوى أمر الله وصعد إلى السماء لأن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الأرض .
الرابع: ما روي عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل عن معنى الإستواء في صفة الله عز وجل فقال: الإستواء: الإقبال على الشيء وقال الفراء : معناه أقبل عليها.
 والآية دليل على عظيم سلطان الله تعالى وقدرته وعلو شأنه وليس في منطوقها أو مفهومها ما لا يليق به من معاني الإنتقال والإرتفاع بالمسافة.
وواجب الوجود منزه عن صفات الأجسام، لأنها حادثة لا تنفك عن المكان، وانما المدح في القدرة والشــأن، وأن قدرة الله تعالى أعظم من أن تحيط بها الأوهام كما ان الله لا يوصف بالعجز، وهو برهان إني للإنتقــال من المعلول إلى العـلة والإقرار له سبحانه بالربوبية، ونبذ الكفر والشــرك، ليبقى مناسبة للشكر على النعم.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: جاء خلق ما في الأرض متأخراً زماناً لخلق الأرض، للتعدد والتباين بين خلق الأرض، وخلق ما فيها.
الثاني: الإتحاد بين خلق الأرض وخلق ما فيها، ليكون أول هذه الآية مصداقاً وتفسيراً لقوله تعالى [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ] ( ).
الثالث: الإستواء إلى السماء بعد خلقها، لأن ظاهر الآية يدل على وجود السماء قبل أن يسويهن الله سبع سماوات.
الرابع: الإتحاد بين خلق السماء وبين جعلها سبع سماوات، أن القول بالتعدد ورجحان الوجه الأول والثالث على الظاهر دليل على آية إعجازية.
بحث فلسفي
لقد ثبت في الفلسفة أن السماء حادثة، وكل حادث مسبوق بالعدم فالسماء خلقها الله بعد أن لم تكن أي أن إطلاق اسم السماء عليها قبل خلقها إقتضائي تعليقي، وليس فعلياً، وفيه بيان لعظيم قدرته تعالى وعلمه بخلقها، وإن كان ظاهر الآية الإخبار عن خلقها.
وفي الآية وجوه:
الأول: إستحقت السماء صدق اسم السماء بالنسبة للأرض عند خلقها.
الثاني: إنها خلقت أولاً سماء واحدة ثم جعلها الله سبع سماوات من غير لحاظ للأرض.
الثالث: انها خلقت سبع سماوات ولو على نحو التدرج المتصل.
 الأقرب الأخير لبيان بديع خلقه وأن التقسيم وحده آية كونية معجـزة مع ظهور قدرة الله عز وجل في قوله تعالى [ ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَأن فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ]( )، وأن السماء في الأصل دخان.
ومعنى سواهن: أي خلقهن وهيأهن وجعلهن.
قال الأخفش: السماء جنس يدل على القليل والكثير، وقال الرماني: السماوات غير الأفـــلاك، لأن الأفــلاك تتحــرك وتــدور واما السماوات لا تتحرك ولا تـدور، لقـوله تعالى [أن اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرض أن تَزُولاَ]( ).
ولكن الآية لا تنفي حركة السماء والأرض في نظام متناسق وانما تعني أنها لا تتهاوى أو تسقط، فالزوال ليس مرادفاً للحـركة أو الدوران وإنما يعني الذهاب والإستحالة والإضمحلال والتنحي في مقابل الثبات والبقاء.
و(ثم) في الآية الكريمة هل هي للترتيب والتراخي كما هو معروف صناعة وعرفاً أم جاءت للبيان وتعداد النعم وبديع الخلق كما قيل.
ولا تعــارض بين الوجهين وكلاهما من مصاديق الآية، وهو شاهد على بديع صنع الله، قال تعالى [أَانتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُـحَاهَا * وَالأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا]( ).
إذ لا تعارض في القرآن وأن الآية تشير إلى أن خلق السماء قبل خلق الأرض، ولكنه لم يميز بين خلق السماء وبين تسويتها وكذا بين خلق  الأرض وبين دحوها وهو تسويتها فقد تكون تسوية ودحو الأرض متأخــرة عن خلق السماء بينما خلق الأرض قبله، ولتظـهر الآية أن دحــو الأرض وحده آية مسـتقلة لخلقها كعظيم جرمها وانه لا يمكن تسويتها إلا بالقدرة الإلهية.
وهل بامكان الذين في قلوبهم مرض أن يقولوا بأن في الآية أو تأويلها ما يخالف النتائج العلمية الحديثة في حركة وسير ودوران الكواكب والنجوم والموجودات السماوية الأخرى . 
الجواب لا، لأن دلالة الآيــة مطابقة لتلك النتائـج، ولإعجاز القرآن في منع أمثال هؤلاء عبر القرون من التعرض له بعد ثبوت خلوه من التناقض ووجوه الباطل، وتصدى العلماء في حينه إلى قول الرماني لتفريقه بين السماوات والأفلاك ونعتوه بالضعف تارة وبانه غير صحيح تارة أخرى.
تفسير قوله تعالى [فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ]
تبين الآية عظيم قدرة الله تعالى، في الخلق الإبتدائي واللاحق ومشيئته تعالى في إنشطار وإنقسام المخلوقات وخضوعها لحكمه وأمره سبحانه، وورد لفظ (سبع) في القرآن أربعاً وعشرين مرة بصيغة التذكير والتأنيث وهو من أكثر الأعداد ذكراً في القرآن بعد الواحد، والواحدة، وفيه تشريف لهذا العدد وهو عنوان الكثرة والتعدد.
والتعدد في السماوات دليل على كثرة العوالم في السماوات، وحسن النظام والضبط فيها وبيان للقدرة الإلهية في تعاهدها وإستدامة بقائها وما فيها من الملائكة والكواكب والأفلاك، ولا زال العلم قديماً وحديثاً يطل على الناس بأسرار عجيبة من عالم السماء.
 
تفسير قوله تعالى [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ]
آية في الربوبية فالله سبحانه يتعاهد الخلق لأن السماوات والأرض محتاجة له على نحو مستديم، وأنه تعالى عالم بالجزئيات والكليات على حد سواء.
 وفي الآية دلالة على أن خلق السماوات والأرض موضوعاً ومحمولاً وما يتفرع عنه من أحكام ونتائج وكيفية تسخيرها للإنسان ومدى إنتفاعه منها وتهيئة أسباب هذا الإنتفاع إنما هو بعلمه تعالى، والآية حث على علوم الفلك والجيولوجيا وإستظهار بعض الأسرار والعجائب المكنونة في أصل مادتهما.
والآية قاعدة كلية ثابتة مستوعبة لكل الحوادث والوقائع والعقائد، ومجيؤها مقترنة بعالم الخلق والتسخير يدل على حلم الله سبحانه، وانه يرزق الإنسان مع جحوده ولو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين شاكرين.
إنه جزء من الإمتحان والإختبار في النشأة الدنيا، وما دام الخطاب في الآية إنحلالياً يشمل كل إنسان، وفي كل زمان فإن الآية بشارة ووعد كريم وتبعث السكينة والطمأنينة في النفوس بضمان رزق الإنسان وذريته من بعده، خصوصاً وأن خطاب الخلق لا ينحصر بالمكلفين وحدهم بل يشمل غير المكلفين أيضاً مثلما أنه لا ينحصر بالمؤمنين وحدهم.
وبعد أن بينت الآية عظيم قدرة الله، جاء رأس الآية ليبين علمه تعالى مما يدل على أنه لم يخلق الأرض والسماوات موضوعاً وسبباً الا عن حكمة وعلم، فهو سبحانه منزه عن العبث، وفيها توكيد بأن الخلق تم على وجه الإتقان.
 وفي الآية دفع وهم وإخبار بأن الله عز وجل يرى ما يفعل الكافرون وانه عالم بجحودهم منذ أن خلق الأرض وما عليها، خصوصاً وأن علمه تعالى ليس له زمان سابق يحده سواء كان الزمان على نحو التحقيق أو التقدير، قال تعالى[وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
بحث كلامي
من أسماء الله تعالى (العليم) وأن خلقه سبحانه للسماوات والأرض دليل على علمه لما فيها من الإتقان والأحكام وبديع الصنع، وغير العــالم يتعــذر عليه إتيــان الفعل المحكم، والله تعالى ليس بجسم ولا جسماني، وعلمه سبحانه يعم الأشياء جميعاً، ما كان وما يكون، إذ أن كل الموجودات ممكنات ، وكل ممكن مستند إلى واجب الوجود مباشرة أو بالواسطة، وعلم واجب الوجود بذاته دليل على علمه بغيره لأن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.
وفي الآية بيان لصفتين من صفات الله عز وجل الثبوتية، فقد بدأت الآية ببيان أنه تعالى قادر مختار ويمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، وأن عظيم صنعه يدل على وجوب وجوده ، وأن العالم حادث مصنوع ليس بقديم بدليل إيجاد وإحداث أعظم مكوناته السماوات والأرض، وختمت الآية ببيان علم الله تعالى وإحاطته بكل الأشياء، قال تعالى[أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
ولا يعني علم الله تعالى حصــول صــور تلك الأشياء في ذاته لأنه تعالى ليس محلاً للحوادث، فهو تعالى لا يفتقر إلى تلك الصور أو تعددها أو تضاعفها، بل أن الأشياء جميعاً حاضرة عنده مستجيبة لأمره وعلمه تعالى حضوري، وليس حصولياً أو إنطباعياً.
وقوله تعالى [خَلَقَ لَكُمْ] دليل على أنه تعالى غني غير محتاج لغيره إذ أن واجب الوجود غير مفتقـر في ذاته، والإفتقار يستلزم الإمكان فهو سبحانه لم يخلق الأرض لحاجة منه اليها، بل خلقها رحمة وفضلاً وإحساناً وباباً للشكر ، وسبيلاً للتفكر بعظيم صنعه وبديع خلقه، وعوناً على الهداية والإقرار له بالعبودية والتســليم وإتباع ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى، وهي وعاء ومحل لأداء الفرائض والمناسك.
إن التدبر في المخلوقات ومشاهدة الكائنات يؤكد بالعقل والحس والوجــدان أن الله تعالى فاعل مختــار عالم ، وأن نســبة جميع المعلومات متساوية لديه، وتلح على الناس جميعاً بضرورة الإستجابة للدعوة الإسلامية ، والإنخراط في صفوف أهل الإيمان وجماعة المصلين طاعة لأمر الله تعالى.
 
قوله تعالى[ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ اني جَاعِلٌ فِي الأرض خلِيفَةً قَالُوا أَتَجْـعَــلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِــدُ فِيهَا وَيَسْــفِكُ الدِّمَــاءَ وَنَحْنُ نُسَــبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ] الآية 30.
اللغة والإعراب
وإذ: الواو: إستئنافية، إذ: ظرف لما مضى من الزمان في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره أذكر، وردّ ابن حبان هذا القول، وقال فيه إخراج (إذ) عن بابها.
قال: فعل ماض، ربك: رب: فاعل مرفوع، وهو مضاف والضمير الكاف مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة الظرف (إذ) إليها، للملائكة: جار ومجرور متعلقان بقال.
اني: حرف مشبه بالفعل، والياء إسمها . جاعل: خبر إن مرفوع بالضمة.
في الأرض: جار ومجرور، خليفة: مفعول به لجاعل لأنه اسم فاعل.
قالوا: فعل ماض مبني على الضم لإتصاله بواو الجماعة، الواو: فاعل، والجملة لامحل لها من الإعراب لأنها إستئنافية.
أتجعل: الهمزة للإستفهام التعجبي، تجعل: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، فيها: جار ومجرور.
من: اسم موصول في محل نصب مفعول به، يفسد: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والجملة لا محل لها من الإعراب لانها صلة الموصول، فيها: جار ومجرور .
 ويسفك: الواو حرف عطف، يسفك: فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره، الدماء: مفعول به منصوب بالفتحة، ونحن: الواو حالية، نحن: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية (نسبح) في محل رفع خبر نحن.
(ونقدس لك)
الواو: حرف عطف، نقدس: فعل مضارع مرفوع بالضمة معطوف على نسبح .
 لك: جار ومجرور.
(قال اني أعلم ما لا تعلمون)
قال: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو.
إني: إن واسمها، أعلم: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر تقديره انا، عائد إلى الله تعالى.
ما: اسم موصول في محل نصب مفعول به، لا: نافية، تعلمون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول، وجملة (اني أعلم) في محل نصب مقول القول.
الملائكة: جمع ملك وأصله مالك، تركت الهمزة لكثرة الإستعمال، وأكثر اللغويين على أنه مشتق من الألوكة، وهي الرسالة لأنها تولك في الفم وتنقل بعناية لسـانية زائدة وتحتاج إلى بيان، ولا يعني هذا أن الملائكة جميعهم رسل، بل هو اسم جنس جاءت الصفة لتلبس كثير منهم بالرسالة، لقوله تعالى [ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ..]( ).
والملائكة أجســام نورانية لطــيفة وهو المشهور، لها القدرة على تغيير أشـكالها وهيئاتها بصور مختلفة، وهي دائبة على الطاعة ومسكنها السماوات ولكنها قد تنزل إلى الأرض لأمر ما، ويكون نزول الملائكة على قسمين:
الأول: القضية الشخصية، بأن ينزل ملك في رسالة، ووظيفة عبادية كما في نزول جبرئيل المتكــرر وظـهوره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً بصورة دحية الكلبي.
الثاني: النزول النوعي المتعدد كما في نزول الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر وأحد قال تعالى[ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( )
ومن وظائف الملائكة العبادية وطاعتهم انهم رسل لله أمناء، فهم يقومــون بتبليغ الأنبياء بالوحــي من غير تحـريف أو سهو أو غفلة، وعن الإمام جعفر الصادق عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ما من شيء خلقه الله أكثر من الملائكة…”( )الحديث.
وقيل أن الملائكة والجن والشياطين متحدون في النوع ومختلفون بالأفعال.
فالملائكة لا يفعلون إلا الخير.
والجن منهم من يفعل الخير ومنهم من يفعل الشر.
أما الشياطين فلا يفعلون إلا الشر.
ولكن الإتحاد والتباين الجهتي في الفعل لايدل على الإتحاد في         النوع.
والملائكة مع عظيم خلقهم فإنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، 
فغذاؤهم التسبيح ونســيم العرش لانهم دائبون على العبادة، منقطعون إلى الله تعالى، سائحون في آفاق آياته.
والجعل: الخلق والإحداث والفعل.
والخليفة: الذي يكون خلفاً لغيره في تدبير الأمــور، ثم شاع في العرف التأريخي انه خلف لمن كان قبله، وهو أيضاً نوع من الغيرية.
والسفك: الإراقة والإجراء لكل مايع (وفي الدعاء: وأمطرت بقدرتك الغيوم السوافك)( ) وسفك الدم: صبه وإهراقه.
والتسبيح: التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص، ومعنى نســبح بحمدك: أي ننزهــك عما لا يليق بك متلبســين بحمـدنا لك.
ومن أسمائه تعالى (القدوس) وهو المنزه عن النقائص والعيوب.
بعد توجيه اللوم على الكفر، وبيان أصل الخلق والتكوين وتشريف الانسان كجزء علة لخلق الأرض وسبب كريم لما فيها من النعم، جاءت هذه  الآية بياناً لنعمة عامة وهي خلق الانسان وبداية تكوينه وكلام الملائكة في جنس الانسان، وما يرتجى من الناس في الأهلية للخلافة، ففي الآية وبلحاظ نظم الآيات توبيخ ووعيد لأهل الضلالة والجحود لانهم لم يعملوا لما خلقوا له.
وجاء خلق الانسان وجعله خليفة في الأرض بعد أمور هي:
الأول:  تفضل الله تعالى بخلق ما في الأرض للإنسان مطلقاً، لتكون له الأرض سكناً ورزقاً وكنزاً وذخيرة.
الثاني: صيرورة السماء سبع سماوات قال تعالى[ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ] ( ).
الثالث: إخبار الله تعالى للملائكة عن خلق آدم وجعله خليفة في الأرض.
ومن الإعجاز أن الآية تضمنت الإخبار وحده، ولم تتضمن الأمر الإلهي إلى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام.
وجاءت الآية التالية بتفضله تعالى على آدم عليه السلام وجنس الإنسان مطلقاً بتعليم آدم الأسماء كلها، ليكون مؤهلاً لعبادة الله، وللخلافة في الأرض.
وبعد الآيات التي جاءت في ذم الكفار، وذكر النعم الإلهية على الإنسان جاءت آية الخلافة في الأرض، لتكون إخباراً إضافياً بالنعم الإلهية، وذماً للكفار والمنافقين، وتذكيراً لهم بوظيفتهم التي خلقوا لها، وحثهم على الإرتقاء إلى المنزلة التي جعلهم الله فيها من بين الخلائق، إذ أن الخليفة هو الذي يخلف غيره، ويقوم مقامه، ويسكن الانسان الأرض، ويعمرها لا ينافسه أو يزاحمه أي جنس من الخلائق.
وقد فضل الله عز وجل الإنسان على الحيوانات والدواب بأنه يمشي على رجليه قائماً، ويتناول طعامه بيديه، وغيره يتناوله بفمه، وشرفه الله بالنطق ليكون آلة مباركة لتلاوة كلام الله، وعمارة الأرض بذكره سبحانه، ووسيلة للهداية ونشر الصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الإعجاز أن تأتي آية الخلافة في الأرض، بعد الإخبار عن فضل الله تعالى بخلق ما في الأرض من أجل الناس جميعاً رحمة  بهم، لتكون هذه الآية وما فيها من مضامين الخلافة دعوة للناس للعدل والإحسان، وإجتناب الظلم والتعدي والأخلاق المذمومة.
وبعد إحتجاج الملائكة إنتقلت الآية التالية إلى تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء، وذكرت ما أعقب هذا التعليم من التحدي للملائكة، وإبطال إحتجاجها يتخلفها عن العلم بما يعلمه آدم، وفيه إشارة إلى أن الخليفة يحتاج إلا الله عز وجل في باب العلم ونبذ الفساد، وفي قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
حينما جمع نمروذ وقومه الحطب لإحراق إبراهيم وأشعلوا ناراً عظيمة حتى الطير تكاد تقع فيها من شدة لهيبها، ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً ورموا به في النار فقال له جبرئيل حين رموه: هل لك حاجة، فقال أما إليك فلا، قال : فسل ربك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنما نجا بقوله : حسبي الله ونعم الوكيل ( ).
وفي هذه الواقعة مرآة لإحتجاج الملائكة الواردة في الآية محل البحث ورد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] فمن علمه تعالى أنه نجا إبراهيم من النار، وكبث المفسدين، وصاروا هم المقلوبين بالجدال، إلى جانب مالحقهم من الخزي بسلامة إبراهيم من النار، ومن أعظم الشواهد والمصاديق على قوله تعالى أعلاه نزول الملائكة أنفسهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ودحر المفسدين وأقطاب الكفر، ليكون هذا الدحر مستديماً وبرزخاً دون بلوغ الطواغيت مراتب السيادة إلى يوم القيا مة ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد المسلمين، وهو من عمومات قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
إعجاز الآية
بيان موضوع خلق الانسان وما صاحب الخلق من نعم عظيمة الشأن والمنزلة والخلافة في الأرض، وفيها إخبار عن أهلية المسلمين لإقامة الأحكام والسنن السماوية في الأرض ونيلهم لهذه المرتبة العظيمة، وتتضمن إشراقات وإفاضات قدسية لأشرف محاورة وخطاب تلقته الملائكة بخصوص خلق الإنسان.
وتبين الآية المنزلة العظيمة للإنسان بين الخلائق والتي نالها دفعة واحدة بفضل الله تعالى، ومن إعجاز الآية أن الملائكة لم تسأل عن خلافة الانسان مطلقاً، أو خلافة آدم بالذات بل سألت عن وجود من يفسد في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ].
لقد سأل الملائكة الله عزوجل أن يكون المؤمنون وحدهم سكنة الأرض، وأن تنزه من  الكفرة المفسدين الذين ذكرتهم الآيات السابقة، ليكون معنى الآية بلحاظ سياق الآيات ذكر التوبيخ والتقبيح الذي وجهه الملائكة إلى الكفار، والإخبار عن فضل الله عزوجل بخلقهم وإمهالهم وتوجيه اللوم لهم في هذه الآيات لعلهم يتوبون إلى الله، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم” أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع”( ).
فالملائكة لم يسألوا سؤالاً استنكارياً عن جعل آدم خليفة في الأرض، وهم الذين يفعلون ما يأمرهم الله وليس من عمل عندهم إلا طاعة وعبادة الله ويعلمون أن الأرض ملك لله تعالى، وأنه خلق مافيها رزقاً للإنسان[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، كما أن مسكنهم السماء.
ولكنهم سألوا الله عز وجل أن يكون أهل الأرض كأهل السماء في العبادة والصلاح والهداية ليكونوا مثلهم كما ورد في الآية [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ]وأن لم يبلغوا ذات الرتبة والخلقة بأن يكونوا عقلاً محضاً، فأرادوا أن تكون الأرض سكناً للموحدين وحدهم، وقد نزل الملائكة لنصرة المسلمين في بدر وأحد فضلاً من عند الله تعالى على  المسلمين وهم منزهون من داء الحسد وأسبابه.
ويدل على هذا المعنى المصداق الخارجي بأن الأنبياء والأولياء والمؤمنين والصالحين من الناس يعمرون الأرض بالعبادة وينشرون مفاهيم التقوى، ويتوارثون الإسلام وسنن الإيمان، ويراهم الملائكة في الصلاة اليومية.
وفي قوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( )، ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا ، ويجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر ، أورده البخاري في الصحيح) ( ).
أي أن الملائكة تشهد عبادة المسلمين، وتوديع الليل واستقبال النهار كل يوم بالصلاة والخضوع والخشوع لله تعالى، وهو من عمومات قوله تعالى [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] بأن المسلمين سيتعاهدون الذكر والعبادة إلى يوم القيامة، وإنكم أيها الملائكة ستشهدون عبادتهم في أكثر الساعات سكوناً، فلا تسمعون حينها في الأرض إلا ذكر الله.
فلابد أن الملائكة يقصدون غير المسلمين، ويريدون بالذم الكفار الذين نعتتهم الآيات السابقة بانهم المفسدون.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (الخليفة) وقد ورد لفظ الخليفة في القرآن مرتين قال تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( )، وفي الجمع بين الآيتين مسائل:
الأولى: أول خليفة في الأرض آدم عليه السلام.
الثانية: منزلة الخلافة مرتبة تشريفية، ووظيفة شرعية ومنَصب يأتي على نحو التعيين من عندالله عز وجل.
الثالثة: الملازمة بين النبوة والخلافة، إذا كان النبي مبسوط اليد، لتكون هذه الملازمة.
الرابعة:لم يذكر لفظ (خليفة) في القرآن إلا مرتين وفي خلافة الإنسان في الأرض، وفيه تشريف وبيان موضوعية وقدسية هذه الخلافة.
الخامسة: موضوع الخلافة في الأرض مناسبة لتثبيت أحكام الدين، وصلاح المجتمعات، ونبذ الكفر والشرك والضلالة وجاءت الآيات بصيغة الجمع (خلائف) (وخلفاء) في بضع آيات من القرآن قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ]( ).
وفيه بشارة سيادة أحكام الإسلام إلى يوم القيامة في الأرض ناسخ وان المسلمين خلفوا الأمم السابقة، ويتوارثون الخلافة وتعاهد عبادة الله في الأرض والحكم بما أنزل الله، وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الآية سلاح
في الآية إكرام لبني آدم من جهتين، من جهة الخلق، ومن جهة موضوع الخلافة في الأرض وإن كان على نحو القضية الشخصية وأنه خاص بالأنبياء، وهي بشارة للمسلمين ودعوة للإلتزام بأحكام الشريعة.
وتبعث الآية في نفس المسلم العزم على تعاهد وأمانة ووظائف الخلافة في الأرض، وتجعله حريصاً على إجتناب أمرين:
الأول: الإفساد في الأرض.
الثاني: سفك الدماء بغير حق.
وتحذر الآية من الظلم والتعدي لأنهما من مصاديق الفساد الذي ذكره الملائكة إذ تقع تحته مصاديق عديدة من الأفعال.
لقد أراد الله عز وجل للناس التنزه عن الكفر والشرك بالإخبار عن خلق الله تعالى للإنسان وجعله خليفة في الأرض، وتتضمن الخلافة معاني العز وقد فاز به المؤمنون بالصلاح والتقوى قال سبحانه [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، وهو من وجوه الشكر الإلهي للمؤمنين لتعاهدهم منصب الخلافة الرفيع في الأرض.
وتدعو الآية المسلمين للإقتداء بالملائكة في عبادتها وانقطاعها إلى الذكر والتسبيح والدعاء، وفي الآية عون للمسلمين للإيمان بالملائكة وهم رسل الله إلى أنبيائه في تبليغ الوحي، ووسائط التنزيل بين السماء والأرض.
الآية لطف
تدعو الآية الناس إلى الصلاح ونبذ الفساد والأخلاق المذمومة بادراكهم لمنزلتهم بين الخلائق والمسؤوليات العظيمة التي تحملها الإنسان إذ أن الخلافة أمانة تحملها لتكون سبيلاً لدخول المؤمنين الجنة، وحجة تدخل الكافر النار يوم القيامة.
وتنقل الآية للمسلمين والناس جميعاً ماجرى بين الله تعالى وبين ملائكته يوم خلق آدم، وهذا النقل من خصائص القرآن لأن ما فيه من القصص والأخبار لاتنحصر بقصص الأنبياء والأمم السالفة، بل تشمل أخبار السماء وعالم البرزخ والآخرة , وما ينفع الإنسان ويجعله يعتبر ويتعظ منه، ليكون يوم خلق آدم يوماً مشهوداً في السماء، وذكراً دائماً في الأرض إلى يوم القيامة لفضل الله.
وهذه الآية من عمومات قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، وهي من أشرف وأعظم القصص في تأريخ الإنسانية، لأنها تجمع أموراً:
الأول: الإخبار الإلهي للملائكة بجعل خليفة في الأرض.
الثاني: تشريف الملائكة بهذا الإخبار.
الثالث: بيان إحتجاج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض , بسبب ما يفعله بعض من ذريته .
وهو الإحتجاج الوحيد من الملائكة في القرآن، فليس فيه إخبار عن إستنكار الملائكة لأمر إلهي، ويتضمن القرآن أبهى مصاديق الطاعة التي يتحلى بها الملائكة ومنه سجودهم لآدم طاعة لله، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى]( ).
وهذه الآية وثيقة تشهد بعظيم منزلة الانسان بين الخلائق وأن الله عز وجل شرّفه وأكرمه بأن أخبر الملائكة عن خلقه وإختياره خليفة في الأرض والله عزوجل غني عن الملائكة والخلائق جميعاً.
فجاء بعد أربع آيات الإخبار عن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم، وهو أمارة وقرينة على أن سؤال الملائكة لم يكن عن آدم وخلافته في الأرض إلا أن يقال أن الأمر بالسجود جاء بعد إقامة الحجة عليهم في أهليتهم للسجود له بأمر الله وهو بعيد لسور الموجبة الكلية في فعل الملائكة وهو إمتثالهم للأمر الإلهي مطلقاً، قال تعالى  [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( ).
مفهوم الآية
في الآية بيان لعظيم منزلة الإنسان في الخلائق وإشعار عن أهليته لعبادة الله، ولزوم تنزهه عن الكفر والشرك ، ومع الرتبة العالية للملائكة في سلم العبادة واليقين وأنهم سكان العرش والسماء فانهم يتلقون الأمر والإخبار الإلهي بأن الإنسان هو الخليفة في الأرض، وتحذر الآية من الإفساد في الأرض وتدعو الإنسان للإرتقاء إلى مسؤوليات ومهام الخلافة والمنزلة اللائقة به بين الخلائق.
وفي الآية أمل ورحمة لما تدل عليه بالدلالة التضمنية من إستعداد الإنسان لإحياء الأرض بالعبادة ولو على نحو الموجبة الجزئية الذي يتجلى بأداء الفرائض وتعاهد المسلمين للصلاة والصيام، وأداء مناسك الحج والإنقياد التام لأحكام القرآن.
وتبين الآية سراً من أسرار الخلق وأن الله سبحانه يجعل خليفة له في الأرض ولم يجعل خليفة في السماء مع تعددها وعظيم أجرامها وخلقها وإنفراد الانسان في موضوع وأحكام الخلافة تشريف خاص له، ودعوة لتقيده بأحكام العبادة ومسؤولية عظيمة لم تلق على عاتق صنف أو جنس من الخلائق، لذا إنبهرت الخلائق من موضوع الخلافة على نحو مركب من وجوه:
الأول: وجود خليفة لله تعالى، وحصر موضوع الخلافة في الأرض.
الثاني: أهلية بعض الخلائق لأن يكون خليفة، قال تعالى[َلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا] ( ).
الثالث: تشريف الإنسان بأعظم مرتبة وعنوان وهو الخلافة.
الرابع: أهلية الإنسان لهذا الشرف العظيم.
الخامس: عدم التعارض بين الخلافة وبين الوقوف بين يدي الله للحساب والجزاء يوم القيامة لذا ورد قوله تعالى [إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا]( )، أي يسوى ما عليها من الجبال والقصور والبناء والشجر يفعل بها مرة بعد مرة، وكأن زلازل شاملة للمناطق المأهولة أو حروب مدمرة تأتي على الحرث والنسل والبناء .
 وعن ابن عباس دكت الأرض أي مدت يوم القيامة مد الأديم( ).
   فلا يكون أمر إلا أمر الله لتكون المعرفة بالتوحيد يومئذ ضرورية، لجميع الناس، ليس معها شك أو ريب أو شبهة لذا جاءت الآية التي بعد الآية أعلاه [وَجَاءَ رَبُّكَ] أي أمر ربك، وتجلى الله سبحانه لخلقه بعظيم قدرته، وسلطانه، وإختصاص الملك به، وليس من ملك يومئذ لغيره بخلاف عالم الدنيا، ويقف الناس جميعاً للحساب بعد آية البعث والنشور، وإلا فان الله عز وجل منزه عن الجسمية والمكان. 
السادس: إنسباق الملائكة إلى المقارنة بينهم وبين الإنسان وموضوع الأهلية لدرجة الخلافة ، وهذه المقارنة ليست من بين الأسباب التي أدت إلى تساؤلهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا].
وكأن الملائكة سألوا الله بما لهم من المنزلة عنده، وإنقطاعهم للعبادة أن ينعم على أهل التوحيد بالأمن والسلامة والقيام بوظائف الخلافة.
لقد أخبرت الآية عن قانون يحكم الأرض إلى يوم القيامة وتتفرع عنه عدة مسائل، والواقع والوجدان يشهدان بقيام الإنسان بالتصرف المطلق بشؤون وموجودات الأرض وكانه المالك لها إلا أن قيد الخلافة يلزمه الرجوع إلى الله تعالى في كيفية التصرف ولزوم عبادته سبحانه كما أكد الملائكة بأن المدار في الخلافة على العبادة، والثناء على مقام الربوبية.
وإخبار الملائكة عن أحوال الإنسان السابق لخلقه ونفخ الروح فيه بيان لما يجري في عالم السماوات وإرشاد للمسلمين في معرفة أحوال البشر وما يفعله الكفار وإشارة إلى ما سيلاقيه المسلمون من الأذى، ودعوة لهم للصبر والتحمل والجهاد في سبيل الله تعالى، والإرتقاء إلى درجة الخلافة، وما يترشح عنها من الوظائف الشرعية والعبادية والأخلاقية.
وتبين الآية في مفهومها علو مرتبة الملائكة من وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى بإخبارهم عن خلق الانسان، وانه سيكون خليفة له في الأرض.
الثاني: تهيئة وإصلاح الملائكة للقيام بإعانة الانسان في خلافته، ومنه القيام بالرسالة بين الله وبين الأنبياء،وتولي وظيفة الوحي، والأمانة في التنزيل ليقوم  الخليفة بعمله أحسن قيام، ويدرك الناس وجود الملائكة وأمانتهم وإنقطاعهم إلى العبادة،وتولي الملائكة مسؤولية النزول بالوحي عون للمسلمين للإيمان بهم قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ].
الثالث: علم الملائكة بما سيفعله الانسان في الأرض.
الرابع: إنحصار عملهم بالعبادة والتسبيح.
الخامس : طاعة الملائكة المطلقة لله عز وجل .
إفاضات الآية
تبين الآية عظيم منزلة الانسان بين أهل السماوات والأرض، وتؤكد فضل الله تعالى في تقديمه رتبة مما يستلزم الإقبال على العبادات والإرتقاء إلى درجة الخلافة بالإنقياد التام لأوامره تعالى وخشية مخالفتها، لأن معصية الخليفة أكثر ضرراً، كما أن عقوبتها أشد وأقسى، ولم تبين الآية موضوعية لإختيار الانسان وقبوله للخلافة، وفيه وجوه:
الأول: الإنسان عبد صاغر لله عز وجل.
الثاني: الخلافة تشريف عظيم.
الثالث: جاءت الخلافة إبتداء من الله تعالى، من غير أن يسألها الانسان فلابد ان الملائكة سبحانه يصلحه لها.
الرابع: إنها جزء من بديع خلق الله وصنعه تعالى، وشاهد على القواعد والانظمة والضوابط التي تحكم الخلائق بلطف من الله تعالى.
الخامس: الخلافة كلها خير محض فلا موضوعية لإختيار الانسان فهي رحمة مزجاة وفضل منه تعالى، وهل من إختبار لآدم في الخلافة . 
 الجواب نعم، من وجوه:
الأول: جاء الإحتجاج الإلهي على الملائكة بتعليم آدم الأسماء كلها.
الثاني: حفظ آدم للأسماء وتعليمه إياها الملائكة.
الثالث: الحياة الدنيا كلها دار إمتحان وإختبار.
الرابع: الخلافة نعمة من عندالله على آدم والمؤمنين من ذريته، ليس لهم إلا أن يقبلوها ويتلقوها بالشكر لله سبحانه ، مع إظهار معاني العبودية والخضوع له تعالى.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد أن جاءت الآيات السابقة في ذم الكفار والمخادعين ، والإخبار عن النعم الإلهية على الناس، وبديع خلق السموات والأرض، انتقلت الآية إلى مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِذْ قَالَ رَبُّكَ] وهي أول آية من القرآن تأتي بهذه الصيغة من الخطاب لبيان عظيم قدرة الله، ويدل موضوعها على الصلة بين خلق آدم عليه السلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فجاءت الآية بموضوع خلق آدم ليكون خليفة في الأرض، وفيه إشارة إلى خلافة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ونبوته ولزوم إتباعه وظهور الإسلام لأن الله تعالى هو الذي أراد وجود الخليفة في الأرض، ولا راد لأمره سبحانه.
وتبين الآية أن قصص القرآن لاتنحصر بقصص الأنبياء بل تشمل أخبار السموات والأرض، والصلة بينهما، وذكرت سؤال الملائكة بخصوص الذين  يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء دون الخليفة وسائر المؤمنين، أي انهم تلقوا موضوع الخليفة بالقبول والرضا، ولكنهم سألوا الله عز وجل أن تكون الأرض خالصة لأهل الإيمان والتقوى، وأن يكون الأنبياء في الأرض هم أهل الأمر والنهي، وأتباعهم هم أهل الحل والعقد.
وإذ ذكر الملائكة خصلتين مذمومتين لأهل الفساد، فإنهم ذكروا خصلتين حميدتين مما يتصف به الملائكة وهما:
الأولى: مواظبتهم على النطق بالحمد لله.
الثانية: تنزيه مقام الربوبية عما لا يليق به من النقص.
وعلى المبنى الجديد الذي نذهب اليه في تفسير هذه الآية بأن الملائكة أرادوا الأرض خالصة لأهل الإيمان فيحتمل مدحهم لأنفسهم نوع توسل إلى الله تعالى لقبول مسألتهم هذه، إلا انه بحاجة إلى دليل من قرآن أو سنة خصوصاً وأن الملائكة [يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( )، وهو لايتعارض مع إحتجاج الملائكة ورغبتهم بأن تكون الخلافة في الأرض علة ووسيلة لعمارتها بالعبادة، وفيه حجة على الإنسان إذ جعلها الله مسخرة له مع إنقطاع الملائكة للعبادة، ليشكر الناس جميعاً الله تعالى على هذه النعمة والفضل العظيم ، والملائكة عقل من غير شهوة، منقطعون إلى التسبيح والتهليل .
وأختتمت الآية بقول الله تعالى للملائكة [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] في بيان أنه تعالى أهل للتسبيح بحمده والتقديس له، من الملائكة والناس جميعاً، والله سبحانه القادر على كل شئ.
 وتبين خاتمة الآية الحكمة الإلهية في خلق آدم وإتخاذه خليفة في الأرض وأنه سبحانه يعلم خفايا وعواقب الأمور، وما فيه إصلاح الأرض وتفضله تعالى بنصرة المسلمين، وتعاهد الإيمان.
ولم تذكر الآية أن الخليفة هو آدم على نحو التعيين أو المعنى الأعم، ولكنه المستقرأ من هذه الآيات وآيات أخرى،  قال تعالى [يَادَاوُودُ انا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض] ( ).
لقد جاءت هذه الآية والآيات الثمانية التي بعدها في الكلام والإحتجاج الإلهي على الملائكة في خلق آدم، وكل آية منها ذكرت مادة (قال) إلا في آية واحدة ورد القول بصيغة الإلقاء [فَتَلَقَّى آدم مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ] ( ).
وهذه هي الآية الوحيدة من بينها التي تأتي فيها مادة (قال) ثلاث مرات وهي:
الأول: قول الله تعالى للملائكة  بانه جاعل في الأرض خليفة.
الثاني: إستفهام الملائكة بأن الله يجعل في الأرض من يفسد فيها.
الثالث: رد الله تعالى على الملائكة بانه سبحانه يعلم ما لا يعلمون.
وتتصف هذه الآية بأن مضامينها كلها من جنس القول والمخاطبة، وفي موضوع واحد هو خلق آدم، وليس لآدم فيها كلام أو قول، لتأتي الآية التالية وتخبر عن تلقي آدم التعليم من الله، وهو أرقى مصاديق التعليم بين الخلائق، ويدل على شرف ومنزلة آدم عند الله تعالى.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بالخطاب التشريفي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [إِذْ قَالَ رَبُّكَ] والضمير الكاف يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه،  بيان لمنزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله عز وجل خصه بقصص الأنبياء والأمم السابقة وأخبر به بما جرى بين الله وبين الملائكة من الحديث والحوار ساعة خلق آدم وبيان وظيفته في الأرض، وفيه مسائل:
الأولى: إنه من مصاديق أحسن القصص التي وردت في القرآن، فمن الحسن الذاتي لتلك القصص شمولها لبدايات خلق الإنسان.
الثانية:فيه دلالة على أن القرآن بيان لكل شئ وأنه يتضمن أخبار السماوات، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثالثة: الإخبار عن منزلة الملائكة عند الله عز وجل، وأن ما يجري في الأرض يعلم به أهل السماء، وفي رواية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً)( ).
وهل في لغة الخطاب في الآية إشارة إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الخليفة في الأرض وأنه الذي يواجه أهل الفساد لتهبط الملائكة لنصرته وإعانته الجواب نعم إلا أنه لا يمنع من إرادة آدم عليه السلام في موضوع الخلافة وكذا الأنبياء الباقين كما في قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ).
لقد جاء الخطاب قبل آيات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] ( )، ثم عادت هذه الآية بذات الصيغة من الخطاب [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ] .
  وفيه تشريف وإكرام إضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن بيّن الله عز وجل إبتداء خلق الإنسان، ومن الآيات أن جاء ذكر خلق آدم بعد رزق الناس وأنه أمر مدخر لهم إلى يوم القيامة، وعدم إستثناء أحد من البشر من قوله تعالى في الآية السابقة [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ] ( )، إذ أن كل إنسان من الأولين والآخرين ينتفع مما في الأرض من النعم والخزائن، ليكون مناسبة للشكر والإتعاظ.
وجاءت الآية السابقة بالإخبار عن خلق كل شئ في الأرض للناس، أما هذه الآية فجاءت بجعل الإنسان خليفة لله عز وجل في الأرض والخلافة نعمة أخرى على الناس جميعاً، وان كانت خاصة بآدم والأنبياء، ومن يشاء الله من أوليائه، قال تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن موضوع الخلافة بحديثه مع الملائكة فلم تقل الآية (وإذجعل ربك خليفة في الأرض) بل ذكر الملائكة وردهم على قول الله عز وجل.
لقد إبتدأ ذكر الإنسان في السماء قبل الأرض، فمع أنه خليفة في الأرض جاء إخبار الله عز وجل للملائكة،  لبيان منزلة الإنسان بين أهل السموات، وجاء رد الملائكة على قسمين:
الأول: بيان الفعل السئ والقبيح الذي يفعله الإنسان في الأرض، وهو على شعبتين:
الأولى: الفساد في الأرض.
الثانية: القيام بالقتل وإزهاق الأرواح بغير حق.
الثاني: بيان حسن سمت وفعل الملائكة، وهو على شعبتين:
الأولى: قيامهم بالتسبيح والتحميد، وهم شاكرون لله عز وجل لهدايتهم للتسبيح.
الثانية: تنزيه الملائكة لمقام الربوبية.
وتبين الآية لغة الحوار  بين الله وبين أهل السماء، بينما تكون الصلة مع أهل الأرض النبوة والكتاب المنزل في قوس النزول، أما قوس الصعود فيتجلى بالدعاء والإمتثال للأوامر الإلهية، وقد أعد الله عز وجل للمؤمنين جنات النعيم خالدين فيها، لقد إبتدأت الآية بقول الله عز وجل [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ].
وأختتمت بقول الله عز وجل مع إتحاد الجهة التي يتوجه لها الخطاب الإلهي وهي الملائكة بأن الله عز وجل أعلم بالمصالح وأسباب دفع المفاسد، فجاء نزول هذه الآية من مصاديق علم الله عز وجل الذي جاءت به خاتمة الآية بأن ذكر الحوار الإلهي مع الملائكة كموضوع لإصلاح الناس، ومانع من الفساد، وليس من حصر لأسباب وصيغ تنزيه الأرض من الفساد، وسلامة المجتمعات من القتل بالباطل.
ومن أهمها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وتثبيت أحكام الشريعة في الأرض فالصلاة واقية من المعاصي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب مفتوح للصلاح والإصلاح وتتضمن الأحكام الثواب والعقاب، ومنها قوانين القصاص , قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ] ( )، والتي تتضمن الزجر المستديم عن القتل، إلى جانب ما جاء به الأنبياء والكتب السماوية من أحكام الجنايات وعقوبات الفساد والنهي عنه والتحذير من مقدماته.
لقد فتح الله عز وجل للناس باب التوبة والإستغفار، وجعل العاقبة للتقوى والصلاح، وهو سبحانه يمد المؤمنين بأسباب النصر والغلبة، وينزل الملائكة الذين إحتجوا على خلافة الإنسان لنصر المؤمنين وتثبيت أحكام التوحيد في الأرض.
وهل في هذا النزول تأديب للأئمة والقادة بأن من يحتج على عمل وتولي غيره مسؤولية ووظائف الإذن له بالعمل لتعضيده وإعانته في مسؤوليته، وجعله يعرف بنفسه الأسباب وكيفية العمل والغايات، الجواب لا دليل عليه، وهو قياس مع الفارق.
لقد أنعم الله عز وجل على آدم عليه السلام بالفضل والإكرام بخلافة الأرض مدة حياته وإبتداء من هبوطه من الجنة الذي هو إمتحان وإبتلاء لذريته، لتتغشى الرحمة الإلهية أهل الإيمان منهم، ويكونوا في نعيم دائم.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: أن الله عزوجل يخاطب الملائكة ، ويخبرهم عن أحوال الخلائق، وتبين الآية موضوعية خلق الانسان وصيرورته خليفة في الأرض وانه أمر يهم أهل السماء.
الثانية: جاء أمر الله عزوجل على نحو القطع والجزم فلم يخبر الملائكة على نحو السؤال أو الإختبار وهو سبحانه لايشاور أحداً فيما يفعل، قال سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
وتؤكد لغة القطع بجعل الإنسان خليفة في الأرض على أن الملائكة يتلقون الإخبار بالرضا والتسليم والقبول وأن سؤالهم لا يخص الخليفة بالذات، بل جاء في ذم الكفار والمجرمين الذين يعيثون في الأرض فساداً.
الثالثة: مدح الملائكة، وذكرهم لخصالهم الحميدة في طاعة الله، ليرى الإنسان في أول ساعات خلقه كيف أن الملائكة دائبون في طاعة الله، وهو من أسرار خلق آدم في الجنة، وعدم نزوله إلى الأرض إلا بعد أن رآى عبادة وتسبيح الملائكة، ومخالفته لهم، ولشرائط السكن في الجنة بأكله وحواء من الشجرة التي نهيا عنها.
الرابعة: جاء مدح الملائكة لأنفسهم لبيان فضل الله عليهم في خلقهم لطاعته وعبادته، ليؤكد قولهم انه سبحانه غني عن عبادة الناس له، ويعبده في السماء جميع الملائكة، ولا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وكلهم منقطعون إلى العبادة.
الخامسة: أختتمت الآية بالإخبار عن علم الله تعالى المطلق وعجز الملائكة عن بلوغ علمه وإرادته التكوينية بالإحاطة بأسرار خلق الانسان وعاقبته ونصرة الله للمؤمنين، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  التي تحفظ كلمة التوحيد والعبادة في الأرض إلى يوم القيامة.
وفي خاتمة الآية إشارة إلى بشارة ظهور الإسلام وإنتصار جنوده وعلو كلمته، وإزاحة المفسدين ومحق الباطل لما فيها من بعث السكينة في نفوس الملائكة.
التفسير
قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ اني جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً]
لقد تفضل الله عز وجل بإخبار الملائكة باتخاذه خليفة يتخذ الأرض مسكناً ويدير أمور أهل الأرض ويتولى صلاحهم، وقد ثبت أن الله عز وجل غني غير محتاج لغيره، وهو الحكيم الذي اتقن بديع صنعه وقد تقدم بيانه، وفي هذا الإخبار مسائل:
الأولى :  يدل على أن الملائكة لا تعلم إلا ما علمها الله، وانها لا تعلم من الغيب إلا أن يشاء الله.
الثانية: تؤدي الملائكــة وظــائفــهــا أزاء هذا الموضـوع وما يجري على الأرض من تغيير أو تبدل أو ما يتعلق بمستحدثات الأمور.
الثالثة:  إطلاع الملائكة على العوالم الأخرى من بديع خلق الله تعالى.
الرابعة: إنه مناسبة ولطف لدوام الملائكة على الطاعة بالإستجابة والرضا ساعة الأمر وما يحتمل فيه من الإبتلاء.
الخامسة ينظر الملائكة إلى هذا الخلق الجديد المغاير في الهيئة والفعل إذ أن الناس خلقوا من الطين ، وأنهم مختلفون في أفعالهم بين الصلاح والفساد أو الجمع والخلط بينهما.
وموضوع الآيـة أعم من آدم وحــده وإن دأب أكثر المفسرين على القول بأن الله عز وجل أراد بالخــليـفــة آدم، والعموم لا يتعارض مع المنسوب إلى ابن عباس وابن مسعود( ).
ووردت كلمة (خليفة) في القرآن مرتين، والثانية قوله تعالى [ يَادَاوُودُ انا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض… ]( ). ووردت بلغة الجمع [ خُلَفَاءَ ] ثلاث مرات( ) كما وردت ايضاً بلفظ خلائف جمعاً على الأصل مثل كريمة وكرائم أربع مرات( ).
ولعل المقصود في الآية محل البحث أهل الإيمان والتقوى، والأنبياء أئمة المتقين، ولفظ الخليفة أعم من النيابة، وإن ورد بما يشبه هذا المعنى في خصوص داود لأنه يحكم بما أنزل الله، أما على المعنى الأعم أي الإنسان مطلقاً فإن الخلافة عنده بما رزقه الله العقل والتمييز به، والقدرة على إتيان الأفعال مع الإبداع وإمكانية الإستحواذ والتملك وروح الإرادة المقترنة بالقصد والإدراك و ولكن الكافر يخرج بالتخصيص من هذه الخلافة بإختياره الكفر والجحود، وعدم تقيده بشرائط وسنن الخلافة , والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار , قال تعالى[وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا]( ) .
 وموضوع الخلافة وصدورها من الباري عز وجل دليل على إستدامتها إلى إجل ولا تكون محصورة بذات شخصية معرضة للموت , وإذا أنعم الله بنعمة على أهل الأرض فإنه أكرم من أن يرفعها , 
نعم يمكن أن تكون خلافة آدم نوعية شخصية (وقال قوم سمى الله تعالى آدم خليفة لانه وذريته خلفاء الملائكة الذين كانوا سكان الأرض، وعن ابن مسعود: خليفة يحكم بين الخلق وهو آدم ومن قام مقامه من ولده، وقيل انه يخلفني في إنبات الزرع وشق الانهار ونحوها) ( ).
وورد عـن الامــام عــلــي في حــديث: “قـال الله تعالى [اني جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً]( ) فكانت الأرض بأسرها لآدم، ثم هي للمصطفين الذين إصطفاهم الله وعصمهم فكانوا خلفاء في الأرض، فلما غصبهم الظلمة على الحق الذي جعله الله ورسوله لهم وحصل وصار في أيدي الكفار على سبيل الغصب، بعث الله رســوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرجع له ولأوصيائه فما كانوا غصبوا عليه، أخذوه منه بالسيف فصار ذلك مما افاء الله به أي مما ارجعه الله اليه”( )، فالخلافة خاصة مستديمة غير منحصرة بالقضية الشخصية بل هي متجددة في كل زمان بالنبي والرسول.
وعن علي بن ابراهيم بإسناده عن الامام محمد الباقر  عن الإمام علي قال: “أن الله تعالى لما اراد أن يخلق خلقاً بيده وذلك بعد ما مضى من الجن والنســناس في الأرض سبعة الآف سنة فكشف عن اطباق السماوات وقال للملائكة أنظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس، فلما رأوا ما يعملون فيها بالمعاصي عظم ذلك عليهم، فقالوا ربنا انت العزيز القادر وهذا خلقك الضعيف يعيشــون برزقك ويعصــونك ولا تنتقم لنفســك، فلما سمع ذلك من الملائكة (قال اني جاعل في الأرض خليفة يكون حجة في أرضي، فقالت الملائكة سبحانك تجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت بنو الجان فاجعل ذلك الخليفة منا فإنا لا نعصيك ونسبح بحمدك ونقدس لك.
فقال عز وجل أني أعلم ما لا تعلمون، أريد أن أخلق خلقاً بيدي وأجعل من ذريته انبياءً وعباداً صالحين وأئمة مهديين أجعلهم خلفاء على خلقي في أرضي، وأطهر أرضي من النسناس وانقل مردة الجن العصاة عن خلقي وأسكنهم في الهواء وفي أقطار الأرض، وأجعل بين الجن وبين خلقي حجاباً، فقالت الملائكة يا ربنا إفعل ما شئت فباعدهم الله من العرش مسيرة خمسمائة عام فلاذوا بالعرش وأشاروا بالأصابع.
فنظر الرب اليهم ونزلت الرحمة، فوضع لهم البيت المعمور، فقال طوفوا به ودعوا العرش فطافوا به وهو البيت الذي يدخله كل يوم سبعون الف ملك ولا يعودون إليه ابداً، فوضع البيت المعمور توبة لاهل السماء ووضع الكعبة توبة لاهل الأرض – إلى أن قال – ثم قبض الله سبحانه طينة آدم وأجرى فيها الطبايع الأربع الريح والدم والمرة والبلغم، فلزمه من ناحية الريح حب النساء وطول الأمل والحرص، ولزمه من ناحية البلغم حب الطعام والشراب والبر والحلم والرفق، ولزمه من ناحية المرة الغضب والســفه والشــيطنة والتجــبر والتمرد والعجلة، ولزمه من ناحية الدم حب النساء واللذات وركوب المحارم والشهوات”( ).
والآية وثيقة سماوية خالدة تحكي بدايات خلق آدم وما رافقه من تعجب الملائكة وطلبهم البيان ليكون مدرسة عقائدية يدرك من خلالها الانسان اكرام الله تعالى له في خلقه، وتوليه عمارة الأرض بالعبادة والصلاح ولزوم قهره للشيطان، في المقارنة الإيمانية التي ذكرها الملائكة بين إفساد الانسان وانقطاعهم إلى العبادة إخبار عن عدم تأثير إغواء الشيطان عليهم بخلاف بني الإنسان.
وهذه الآية مدرسة عقائدية يحتاج الإنسان التزود منها، فالملائكة هم الذين يقومون بنقل الوحي إلى الأنبياء وهم الواسطة بين الله عز وجل وبين الأنبياء، ومن المسائل الكلامية في هذه الآية : ما المراد من الملائكة المخاطبون فيها، وفيه وجوه منها:
الأول : عموم الملائكة، وهو المنسوب إلى المشهور والمختار، لأصالة الإطلاق، وقد عــرّف الإطــلاق بانه ما دل على شـائع في جنسـه، واصله من المعنى اللغوي وهو الإرسال، فكما تكون الدابة في اللغة تارة مرسلة واخرى مقيدة، فكذا الاطلاق يقابله التقييد، فالمطلق يكون له معنى شامل لأفراده ومصاديقه، ومع عدم وجــود دليل على التقييد يحمل الكلام على إطلاقه.
الثاني: إنهم الملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجــوهم من الأرض والحقــوهم بجــزائر البحـر , فقال تعالى لهم [اني جَــاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ]، رواه الضــحاك عــن عبدالله بن عباس أي أن الملائكة إستصحبوا فعل الناس ممن سبق آدم عليه السلام.
ويناقش من وجـوه:
الأول: كيف يحكمــون على المعـــدوم ويقيســونه بالموجود،
وارسـال الملائكة مع إبليس يحتاج إلى دليل ، وإن كان عابداً متنسكاً في الجنة.
الثالث: جاء قوله تعالى [اني جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً] أمراً تأسيسياً، وليس فيه دلالة على تعلقه بخلق سابق في الأرض.
الرابع: ورد في الآية السابقة قوله تعالى [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا]( )، في خطاب لبني آدم، وهو  مقدمة لخلق الانسان ، ومع هذا فإن الحديث أعلاه ممكن من حيث الدلالة.
الخامس : الخطاب الإلهي موجه إلى جماعة من الملائكة.
السادس : الخطاب لجميع الملائكة ولكن الذي رد جماعة قليلة منهم وهو الأظهر، فلقد أراد الله عز وجل بخلق آدم آية للملائكة ولجميع الخلائق، والأكثر من الملائكة تلقوا الأمر بالتسليم ، ولكن جماعة منهم قاموا بالرد إستخباراً.
وكما أختــلف في المقصــود من الخليفة، وهل هو آدم، أم ذريته، أم الأنبياء، أختلف في عائدية الخلافة ومعناها على أقوال:
الأول : إن آدم عليه السلام خليفة لله في أرضه يحكم بالحق إلا انه تعالى كأن أعلم ملائكته أن يكون من ذريته من يفسد فيها، عن ابن عباس وابن مسعود( ).
الثاني: آدم خليفة للجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله، نسب إلى ابن عباس.
الثالث: يخلف  آدم الله في الحكم بين المكلفين من خلقه، روي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي، وقال الرازي وهذا الرأي منا يتأكد بقوله [ يَادَاوُودُ انـا جَعَـلْــنَــاكَ خَــلِيـفَــةً فِي الأرض فَاحْــكُمْ بَيْنَ النَّــاسِ بِالْحَقِّ ]( )( ).
ولكن الآية تدل على أن الحكم بين الناس أحد افراد ومصاديق الخلافة في الأرض، وقد تكون خلافة آدم أعم من خلافة داود كما يمكن الجمع بينهما ليس بتقييد إطلاق خلافة آدم بموضوع خلافة داود، بل بالجمع وإفادة التعدد لسعة رحمة الله تعالى وللإستقراء من مضمون إحتجاج الملائكة، بالاضافة إلى إرادة ذكر فرد من أفراد خلافة داود وهو الحكم بين الناس بالحق، فهو لايتعارض مع عموم الخلافة، خصوصاً وأن داود كان نبياً ويوحى اليه، كما جاهد في سبيل الله وتولى الملك، والخلافة الشخصية لآدم ظاهرة في أيامه لأن أبناءه منقادون له في الجملة أباً ونبياً ، وأن حدث خلاف هذه القاعدة وقيام قابيل بن آدم بقتل أخيه هابيل ، وهو قضية في واقعة لا تضر بأصل القاعدة.
وقاتل داود النبي في أيامه بنفسه وخاض المعارك، وهو لا يمنع من صدق الخلافة للنص القرآني الثابت ، ولكنه يدل على عدم الإنطباق التام في أفرادها أو ذكر بعض أفراد الخلافة كما تقدم وهو لأرجح.
الرابع : عني بالخليفة ولد آدم لأن الناس يخلف بعضهم بعضاً، على القول بانه المراد من الخلافة، وهو قول الحسن البصري( )( ).
تضاف لها أقوال:
الخامس : الخلافة في الأرض بعنوانها المجرد من غير صفات إعتبارية زائدة.
 السادس : الخلافة على الناس في الأرض وما على ظهر البسيطة من الدواب والأشجار والجواهر والنبات.
السابع : نال الانسان الخلاف بالنبوة ونزول الوحي من السماء الذي هو شاهد على الصلة بين الله تعالى والانسان .
ويأتي نزول القرآن ليكون حبلاً متصلاً ودائماً بين الله تعالى والناس ، لذا ورد الخطاب الإلهي للمسلمين بالتمسك بالقرآن[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثامن : الخلافة للعبادة والتقوى لكي لا يكون هذا الجرم والخلق العظيم وهو الأرض خالياً ممن يعبد الله ، وجعل الله تعالى الملائكة يعبدونه في السماء، وللتباين بين السماء والأرض فإن الله سبحانه خلق خلقاً آخر مغايراً للملائكة وهم الناس ليعبدوه في الأرض ،  وإختلفوا عن الملائكة بانهم من نفس واحدة بالتوالد والتكاثر ، وأن الأرض لهم دار إبتلاء وإمتحان ، وأعد الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات جنات النعيم، وللكفار العذاب الأليم.
والصحيح هو الأول، وهو المتبادر من اللفظ والمنسبق إلى الأذهان ولأمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، وما أنعم الله تعالى به على الإنسان من السعي والإجتهاد والتصرف في الأرض،مع التقييد بالتقوى والصلاح، وإلحاق الأنبياء والصالحين به في موضوع الخلافة لإفادة ظاهر الآية الإستدامة في موضوع وأحكام الخلافة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
والأقوى أن الخلافة في الأرض على ثلاث شعب:
الأولى: شخصية وهي خلافة آدم عليه السلام.
الثانية: خاصة وهي خلافة الأنبياء .
الثالثة: نوعية عامة وهي خلافة الانسان مطلقاً إكراماً له لأن الله عز وجل نفخ في آدم من روحه وجعل الانسان مؤهلاً للتكليف والعبادة ولتكون الخلافة حجة.
وهذه الخلافة من الكلي المشكك فالخلافة الخاصة مختلفة عن النوعية العامة وكل واحدة منهما يصدق عليها انها خلافة ، والثانية في طول الأولى وليس في عرضها.
لذا ورد قول الملائكة [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]  وهم يعلمون عصمة آدم والأنبياء، ويمكن أن يقال أن قول الملائكة لا يتعلق بشخص الخليفة بل بمن سيسكن الأرض، لأن موضوع الجعل الذي إستخبروا وسألوا عنه أعم من الخلافة ، فهم لم يعترضوا على أصل الخلافة بل عما يرافقها من المفاسد العرضية، أي انهم يسلمون بأمر الخلافة وعظيم حكمة الله عز وجل فيها، ولعلهم سألوا الرحمة للإنسان باعانته على التخلص من الإفساد في الأرض ليكون مرآة لعالم الملكوت ، ولتتنزه الأرض من الخطايا كما تنزهت السماء منها، إنه عالم الرحمة والعفو والفضل الإلهي.
ومن الإعجاز إنفراد الإنسان بالخلافة، فالملائكة مع عظيم خلقهم لم يكونوا خلفاء الله في الأرض ولا في السماء.
والخلافة وردت في الآية للدلالة على الإكرام والتشريف وعظيم المسؤولية في تعاهد التوحيد في الأرض، وهي فضل عظيم تغبط الخلائق الإنسان عليه، وموضوع وحكم يملي على الإنسان عمارة الأرض بالتقوى.
ترى هل خلافة الإنسان في الأرض تتعلق بالنشأة الأولى أم تشمل معها النشأة الآخرة، ظاهر الآية انها تتعلق بالأولى أي الحياة الدنيا ولكن هذا لا يمنع من تجلي أسباب الخلافة في الآخرة بإكرام الأنبياء والمؤمنين بالدرجات العلى في الجنة، خصوصاً وأن الجنة [عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض]( ).
ومن مفاهيم الخلافة في الأرض أصالة الإباحة، وعدم وجود حواجز قاهرة دون إنتفاع الإنسان من الأرض، وإستثمار كنوزها، لذا تراها تعطي كل شئ من غير أن تأخذ من الإنسان شيئاً إلا عند إنقطاع أيامه فيها وحلول الأجل فانها تسترده ليدفن فيها وتحفظه إلى يوم النشور.
ويحتمل هذا الحفظ وعودة الإنسان الى الأرض عند الموت وجوهاً:
الأول: إنه من عمومات الخلافة في الأرض.
الثاني: خلق الله الإنسان من الأرض، ويعيده لها بعد الموت.
الثالث: إنه من اللطف الإلهي بالإنسان حياً وميتاً كما في قتل قابيل لأخيه هابيل وبعث الله عز وجل غراباً قال تعالى[لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ] ( ).
الرابع: دفن الإنسان في الأرض مقدمة لبعثه يوم النشور.
الخامس:الدفن مناسبة للحساب الإبتدائي في عالم البرزخ.
والصحيح هو الثاني والثالث، قال تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ) .
 لتكون الإعادة من الإرادة التكوينية ولكنه لا يتعارض مع الوجوه الأخرى إذ تدل مجتمعة على الحكمة الإلهية ومن وجوه الخلافة في الأرض السياحة فيها، فليس من حواجز بين الإنسان وبين بقاع الأرض المترامية الأطراف والإنتفاع الأمثل منها، وإستخراج كنوزها، لبيان الفضل الإلهي على الإنسان، وأنه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم، ولإتمام الحجة على الإنسان، وتجلي معاني اللطف الإلهي عليه ليكون مقدمة وسبباً لتوجهه إلى عبادة الله والإخلاص في العبادة.
الخليفة فعيلة بمعنى فاعل ومن مصاديقها في الآية وجوه:
الأول : صيرورة آدم خليفة للجن الذين كانوا يعمرون الأرض قبله.
الثاني : الناس خلفاء الجن في الأرض وعمارتها، فلفظ خليفة مفرد والمراد منه الجمع لأنه اسم جنس، كما في قوله تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]( ) أي أنهار.
الثالث : إذ ا مات آدم يخلفه من بعده أبناؤه وذريته، فهو فعيله بمعنى مفعول.
(وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له ، فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من الأمور فأسّر ذلك إلى هاروت وماروت ، فلما قال تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} قال : ذلك استطالة على الملائكة)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ خليفة في القرآن بصيغة المفرد مرتين ، وبصيغة الجمع (خلفاء) ثلاث مرات، و(خلائف) أربع مرات كما تقدم، وكلها تتعلق بالإنسان، وهذا الحصر تشريف إضافي، وتوكيد بأن الله عز وجل لم يتخذ خليفة من بين الخلائق إلا الإنسان، وهو من أسرار فلسفة نفخ الله تعالى في آدم من روحه.
ولابد من تدبر الدروس والعبر من هذا النفخ القدسي المبارك، ومنها أنه تأهيل للخلافة في الأرض، والإتصاف بالعقل والقدرة على إتيان الأفضل والأحسن، والتغلب على الشهوة والغضب، وإختيار الصبر والشهادة في سبيله تعالى وإدراك حتمية الرجوع إليه سبحانه.
وبإستثناء الآية محل البحث فإن الآيات الثمانية الأخرى جاءت كلها بصيغة الخطاب للناس، والمفرد جاء لخطاب داود في بيان ودلالة على الخلافة الشخصية من غير تعارض بينها وبين الخلافة النوعية، لأن موضوع الخلافة لا يخرج عن سنن الإمتحان والإختبار لبني آدم في الحياة الدنيا، بل هو من مصاديق الخلافة.
بحث بلاغي
من ضروب البديع (المراجعة) وهو بيان لمحاورة بين المتكلم وغيره بأعذب الألفاظ، واوجز عبارة كما في قوله تعالى [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ]( ).
وجاءت الآية محل البحث لأسمى وأبهى حوار لأنه بين الله وملائكته بخصوص الإنسان وفي موضوع الخلافة إذ يتضمن الإخبار والمشيئة والإستفهام، وبيان علة الإستفهام والتي تتعلق بذات الموضوع، وثناء الملائكة على أنفسهم بخصوص طاعتهم وعبادتهم لله، فليس من ثناء في حضرة القدس إلا بالطاعة والإخلاص في العبادة، والرد والبيان من عندالله بالحجة والبرهان القاطع، وإبتدأت الآية بالخطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِذْ قَالَ رَبُّكَ] وفيه تشريف وإكرام له، وإشارة إلى أنه خليفة في الأرض .
وتنحل جهة الخطاب بعدد المسلمين والمسلمات وتقديره (إذ قال ربكم للملائكة) في بيان المنزلة العظيمة التي جعلها الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الخلائف وهو خاتم النبيين.
تفسير قوله تعالى [ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ]
جعل من أفعال التحويل وأفعال القلوب، ولكن أصل الجعل حسي يقال: جعل الشيء يجعله جعلاً أي وضعه، وجعله صنعه وجعله صيره، يقال جعل الطين خزفاً أي صيره، والمراد في المقام الوضع.
ترى لماذا هذا الإستفهام من الملائكة [ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا ] وهل هو إستفهام إستنكاري أم انه إستعلامي وسؤال إستخبار ومعرفة وجه المصلحة؟ الجواب: هو الأخير ، للأصل الثابت أن الملائكة دائبون على الطاعة والتسبيح، ولكنه لا يمنع من القول بأن ما جعله الله لآدم من المنزلة السامية هال وأفزع الملائكة، مع علمهم انه تعالى عالم لا يفعل الا الأفعال المحكمة ، كما انهم يحسون ويشاهدون آياته ومخلوقاته، فقالوا ذلك على وجه الإقرار والإيجاب وإن خرج مخرج الإستفهام.
ولم يكن قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا] إنكاراً ورد خلافاً لآداب الطاعة الملازمة لهم والظاهرة دائماً على أفعالهم بل انه لم يخرج عن صيغ العبودية ، ويؤول على وجــه من وجــوه الطــاعة وفيه سعي لتحصــيل الصيغة المناسبة منها، وطلب بيان وسؤال إستفهام كي لا يقصروا في دأبهم على الطاعة والتسـبيح، وهو الظاهر عقلاً وسمعاً.
وكلام الملائكة وما فيه من الإستفهام والتعجب: [ أَتَجْعَلُ فِيهَا منْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) يفيد إرادة المعنى الأعم للخلافة، فكان آدم عليه السلام نبياً، نزل إلى الأرض بتوبته معصوماً منزهاً عن الخطأ، وليس في وجوده في الجنة سفك للدم.
وفي هذا السؤال وعلته مسائل:
الأولى : إن الملائكة إطلعوا على ما ستفعله ذرية آدم من المعاصي إجمالاً فسألوا رجاء الإطلاع على وجوه الحكمة وأسرار الخلق.
الثانية: روي عن عبدالله بن مسعود وغيره انه لما قال الله تعالى للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] قالوا ربنا وما يكون الخليفة، قال تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، فعند ذلك قالوا: [أَتَجْعَلُ فِيهَا…..] الآية أي أنهم سألوا عن الذي يفسد من ذرية آدم.
الثالثة: قال الإمام الرازي: لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك ( )، وأصل الإطلاع على اللوح ليس من الممتنع، والله هو الواسع الكريم، الا أن الإطلاع وحده يصلح أن يكون سبباً لهـذا القول والإســتفهام وتعرضهم للســؤال عن الأسماء، بل بالعكــس أن طول الملابسـة للأمر تجعلهم أكثر ميلاً للقبول.
الرابعة : أنهم قاسوه على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض ، وهو المروي عن ابن عباس( )، وظاهر كلامهم انه يتعلق بمستقبل الأيام، وخاص بمن يجعله الله خليفة خصوصاً مع علو منزلة الملائكة، ومن المستبعد أن يقيسوا الغائب بحاضر ليس من جنسه، كما أن وجود الجن في الأرض أعم من الخلافة فليس من دليل على خلافة الجن، والأصل هو عدم الخلافة، لأن الخلافة أعم من السكن والإقامة في الأرض.
الخامس : أن الخليفة للحكم والتنازع وفك الخصومة ، وهذا يعني بالدلالة الإلتزامية وقوع الخلاف والفساد.
السادسة: إن الله تعالى تفضل بإخبار الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء.
السابعة : إن الله سبحانه (لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعراً شديداً وقالوا : ربنا لم خلقت هذه؟ قال : لمن عصاني من خلقي)( )، ولم يكن يومئذ خلق غير الملائكة، فلما قال [ اني جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ] عرفوا أن المعصية منهم، والنصــوص تؤكـد أن خلق الجن كان قبل خلق آدم وكان إبليس موجوداً يوم خلق آدم وهو من الجن.
الثامنة :  القائل هو إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإن الله تعالى أسكنهم الأرض وبعد أن افسدوا فيها بعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجبال والجزائر، نسب إلى ابن عباس( ).
وأخبرت هذه الآية عن قول للملائكة ثم انهم أعقبــوه بالإعتــذار والتلطف والتقرب إلى الله عز وجل، وإبليس بادر إلى المعصية حينما شمله خطاب السجود.
التاسعة : أن الملائكة نظروا إلى آدم وهو لا زال جسداً لم تنفخ فيه الروح وأدركوا بالنظر الملكوتي إجتماع العناصر الأربعة في صفات بشرية.
وقال بعض الحشوية بأمور:
الأول: جواز صدور الذنب من الملائكة.
الثاني: إعتبروا قولهم هذا إعتراضاً على الله، وعدّوه من أعظم الذنوب.
الثالث: قالوا بأن نسبة بني آدم إلى القتل والفساد من الكبائر لأنه غيبة.
الرابع: مدح الملائكة أنفسهم بقولهم [ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ].
أما الأول فلا دليل على ذنب الملائكة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد وردت الآيات بمدح الملائكة وعصمتهم من الذنب والزلل مطلقاً[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( ) .
وأما الثاني فإنصيغة الإعتراض لم تثبت في كلام الملائكة لإحتمال الوجوه الأخرى من مقاصد السؤال كما تقدم، ولإستصحاب طاعتهم في المقام.
وأما الثالث فإنه لم تثبت الغيبة في كلامهم لوجوه:
الأول : الناس لم يوجدوا بعد، ولاغيبة لمن لم يوجد إلا أن يدل دليل على الخلاف.
الثاني : من الناس من يكون متجاهــراً بالفســق والفســاد.
الثالث : إطلعت الملائكة على  أفعال الذين يفسدون في الأرض من بني آدم.
الرابع : جاء كلام الأنبياء على سبيل منع حدوث الفساد.
وهل قيد وجود سـامع بقصد إخباره منجز في المقام اذ انه ليس من مكلف يسمع القول فيه وجهان، الأقوى عقلا وشرعا صحة القيد ولكن السامع أعم من المكلف، والآية أجنبية عن موضوع الغيبة، وخارجة عنه بالتخصص.
وأما الرابع فإن مدح الملائكة لأنفسهم إقرار بعظيم فضل الله عز وجل عليهم، ورضاهم به ولعل في مدحهم لأنفسهم مقدمة لشفاعتهم للذين يلومونهم على مدح أنفسهم.
ولم تعلم الملائكة أن الله سيصطفي نفراً من خلقه، يتعاهدهم بالنبوة والوحي والتنزيل لتنقاد لهم الأمم، وإن كان ظاهراً من لفظ (خليفة) لعمومات ومضامين الخلافة، وإن جاء السؤال عن أهلية الإنسان لمنازلها ولكن الإصطفاء إصلاح له .
 وينزل الملائكة على الأنبياء بالبشارة المباركة من عند الله تعالى، كما في البشارة بإسحاق ويحيى وتحديث الأنبياء والأولياء ومنهم مريم مع أنها إمرأة، ولكن لها منزلة عظيمة لشأنها وعبادتها، ولولادتها لعيسى عليه السلام , قال تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ).
ويتضمن سؤال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا] الرجاء بسماع ومعرفة الحكمة الإلهية في تعيين وإختيار آدم عليه السلام خليفة في الأرض كي يكون الرد الإلهي حجة عليهم وعلى الخلائق في أهلية آدم خليفة في الأرض، وكأنهم أرادوا السجود لأدم عن إدراك لإستحقاقه للخلافة وللسجود له، مما يعني أن قولهم أتجعل فيها ليس إحتجاجاً، إنما هو سؤال وتوسل لمعرفة علة هذا الجعل، وما فيها من الحجة والأسرار العظيمة، في بديع قدرة الله، وكان تقدير الأمر بالسجود لأدم هو: إسجدوا لمن تعلمون أنه يعمر الأرض بالعبادة والصلاح.
بحث بلاغي
قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا] الهمزة للإستفهام وجاءت هنا للإسترشاد، أي انهم سألوا طالبين الرشاد والهداية والفهم، وقيل انها هنا للتعجب.
ومنهم من ضعفه، وقيل للدعاء، وانهم لم يستفهموا لأن الله تعالى قال [اني جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً]، ولكنه لا يمنع من تعلق كلامهم بفعل الانسان، وليس بأصل الخلافة.
وقيل أن المعنى: (أتجعلهم فيها أم تجعلنا)، وهذا القول بعيد لأن ظاهر الكلام يدل على معرفتهم بأن المراد من الخليفة غيرهم، وهذه المعرفة جزء من علمهم بوظائفهم وعظيم منزلتهم وسمو مقامهم بأن كانت السماء مسكناً لهم.
ولا مانع من إجتماع الأمرين للدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، وعجز الملائكة عن الإحاطة ببديع صنعه وسعة رحمته وفضله على الإنسان، ليكون حجة على بني آدم في لزوم الطاعة وحسن الإمتثال.
وبذا تتجلى في بلاغة القرآن علوم كلامية ومسائل عقائدية تجعل من بلاغتــه معجزة مستقلة لا تنحصــر بالفصاحة والألفاظ فقط، بل تشمل الوجوه المتعــددة والمتكثرة والمتفرعة عن بلاغته مما ينفـرد به ويفوق قــوانــين وثــوابت وضــع الألفاظ أزاء معانيها.
والملائكة دائبون في التسبيح ولابد انهم إستبشروا بخلق آدم وحصول انعطاف تكويني وتشريعي بتأسيس عبادته تعالى في الأرض وإمتلئوا غبطة بقرب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وملأ الأرض بنداء التوحيد، لذا يحتمل سؤالهم الإصلاح للإنسان أي أن نصب الخليفة لا يليق به إلا بمن تنزه عن الذنوب والخطايا، وانهم سألوا الله عزو جل ذلك للإنسان مطلقاً .
 وتقدير الآية: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فاجعلهم كلهم مؤمنين عابدين مثلنا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).
تفسير قوله تعالى [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]
لقد أخبرت الملائكة عن طاعتها لله عز وجل عندما نظرت إلى أفعال بني آدم وغلبة الشهوة عند بعضهم، في بيان لعظيم فضله تعالى عليهم وفي الآية مسائل:
الأولى : بيان حسن سمت الملائكة ومواظبتهم على التسبيح بدأب وتسليم.
الثانية: الإخبار بأن التسبيح والتقديس وعموم وجوه الطاعة تستحق الجزاء ومن حق صاحبها أن يتطلع إلى الثواب.
الثالثة: يمكن توجيه المسألة على نحو آخر أيضاً وهو أن الملائكة ذكرت طاعتها لله فهي وسيلة للشفاعة لبني آدم بالتقرب في المسألة بالشكر له تعالى على ما هداهم، وانهم سألوا الله عز وجل الهداية والعصمة لهذا الخليفة في الأرض كي تكون أعمال بني آدم في الأرض مشابهة لأعمال الملائكة في السماء.
الرابعة: تسبيح الملائكة فيه وجوه:
الأول : النطق بالحمد لله.
الثاني : الإتيان بالتسبيحات سواء التسبيحات الأربعة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر) أو التسبيحة الصغرى (سبحان الله) أو صيغ أخرى للتسبيح.
الثالث : الصلاة والإنقياد لله عز وجل.
الخامسة : بعد أن جاء التسبيح من الملائكة عنواناً للذكر والثناء على الله، ومتضمناً معاني التنزيه والإجلال , ونفي صفات النقص عنه سبحانه، جاء إستفهامهم , ولا يعني هذا بالضرورة ان الملائكة أرادوا الخلافة لأنفسهم كما قال بعضهم لتسليمهم بأن الله تعالى منزه عن العبث وانه الحكيم بدليل ما قدموه من الثناء وصدق العبودية ومراتب الذل والخضوع لله تعالى . ويعلم الملائكة أن الله شرّفهم وأكرمهم بأن خصهم بالإخبار عن إتخاذه خليفة في الأرض .
السادسة: وكما يمكن أن تكون هذه الكلمات من الملائكة شفاعة لبني آدم فإنها تصلح أن تكون إعتذاراً وأدباً وخضوعاً لمقام الربوبية وتوكيداً، بانهم لم يستفهموا إعتراضاً أو إنكاراً، لقد بادروا إلى الإقرار بصفة العبودية والعجز عن معرفة كنه علمه سبحانه.
السابعة: لم يذكر الملائكة خلق آدم من الطين، ولم يحتجوا بأن مادة خلقهم أفضل منها بمرتبة أو مراتب، لوجوه :
الأول: لا مدخلية لأصل الخلقة  في التفضيل .
الثاني: علم الملائكة بأن الله عز وجل له أن يكرم ويعز من يشاء من خلقه، من غير أثر للأصل .
الثالث:  يجهل الملائكة أصل خلقتهم ، وأنهم خلقوا من النور.
الرابع: يعلم الملائكة أن أصل خلقتهم لا تختلف في المرتبة عن أصل خلقة آدم.
الخامس: جاء قول الملائكة بعد آيتين [لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( )، وموضوع المقارنة في أصل الخلقة ، والتفضيل بينه وبين أصل خلق آدم مما لا تعلمه الملائكة.
السادس: إنقطاع الملائكة للتسبيح والتقديس لمقام الربوبية، كما تدل عليه هذه الآية , وقوله تعالى بعد آيتين حكاية على لسانهم ( سبحانك). والصحيح هو الأول والثاني والخامس والسادس.
الثامنة: الإعتراف الضمني بتفضيل الإنسان في باب الخلافة في الأرض وعمارتها بالهدى.
التاسع: [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] جملة حالية ، أي اننا حال تلبس الإنسان بالمعصية، دائبون في التسبيح لا نغادر منازل التقديس والتنزيه لمقام الربوبية، وبه يمكن معرفة الإستفهام على التأذي من فعل ذرية آدم حال إشتغال الملائكة بالتسبيح والتقديس.
العاشرة: إعلان الملائكة بأن ذكرهم لله تعالى مستمر في كل الأحوال وانه سبحانه تفضل عليهم، وجعلهم منقطعين إلى عبادته، لم يرتكبوا معصية، ولم يبتلوا مثل الإنسان بالإمتحان في الأرض.
وتلك مقدمة للإستعداد والتهيؤ للسجود لآدم.
وفي الآية عبرة وموعظة بخصوص السؤال عن علل الخلق وأسرار الخليقة والحكمة التي تجري في أهل الأرض , وما يصيبهم من الخير أو الأذى جماعــات وأفـــراداً، لذا تــرى أسئلة المسلمين التي وردت في القرآن بلفظ [يَسأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في ثلاث عشرة آية مدرسة في الهداية والإرتقاء العلمي.
وقيل : كان في الأرض خلق يقال لهم الجان فافسدوا فيها فبعث الله ملائكة أجلَتهم من الأرض، وكان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم، وأن الملائكة حينما قالوا: [أَتَجْعَلُ فِيهَا…] قاسوا الغائب بالشاهد.
   ونسب إلى ابن عباس القول: (كان في الأرض الجن فافسدوا فيها وسفكوا الدماء فاهلكوا فجعل آدم وذريته بدلهم)( ).
وهو لا يتعارض مع إعتــبـار الوجــوه الأخرى في تفســـير الآية مع وجود دليل أو قرينة عليها، وأن قول الملائكة جاء بعد أن أطلعهم الله عز وجل على ما يفعل بنــو آدم من المعصــيـة والإقدام على القتل بغير حق.
 وقول الملائكة هذا فيه مسائل ودلالات:
الأولى: الإستفهام على وجه التعجب الإستعلامي وسؤال الإستخبار ورجاء البيان ومعرفة المصلحة في خلافة الإنسان لا الإستفهام الإنكاري، خاصة وأن الملائكة تعلم أن الله عز وجل عالم لا يفعل إلا الأفعال المحكمة المتقنة، ومخلوقاته عندهم مشاهدة ومحسوسة بما فيها ذات الملائكة.
الثانية:  وعن أبي عبيدة والزجاج انهم قالوا ذلك على وجه الإيجاب وأن خرج مخرج الإستفهام( )، وهو حسن، ولابد من التحقيق  في أسبابه والمقاصد الشريفة منه والمناسبة لمقام الملائكة ، وتشرفهم بحضور خلق آدم، ونفخ الروح فيه ، وقيامهم بالسجود له ، طاعة وإمتثالاً لأمر الله عز وجل.
الثالثة: الانسان مركب من البدن والروح وقوى الشهوة والعفة، والصلاح والفساد، والخير والشر، ونحوها من الأخلاط المتنافية المتضــادة فيه تكويـنــيـاً، فيكون عرضة للفسـاد وإرتكاب المحرمات، بينما الملائكة عقل من غير شهوة.
الرابعة: لعل خلق الإنسان هو الوحيد الذي جرت فيه مثل هذه المحاورة لأهمية خلقه، وما سيحتله من المنزلة في الأرض أن الملائكة تدرك بأن خلق الإنسان فيض من رحمته تعالى.
وفي أهلية آدم والإنسان مطلقاً للخلافة في الأرض وجوه:
الأول: لطاعته لله عن تكليف وإمتحان.
الثاني: جهاده للنفس الشهوية والغضبية.
الثالث: لنفخ الله عز وجل فيه من روحه.
الرابع: لوجود محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والأنبياء بين الناس ، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خليفة الله في عموم الأرض بعد بعثته ، وفاز بالإرتقاء وبلوغ المقام المحمود.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : إن الله تعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً للخلافة مسح يده على ناصيته)( )، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده،) ( )، فقد شرف الله عز وجل آدم بخلقه بيده وقال تعالى[َنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، وهو وحده من هذه الثلاثة يصدق عليه موضوع الخلافة، ويرتبط التنزيل والخلود في النعيم بآدم وذريته وتعاهدهم لسنن وأحكام الخلافة.
تفسير قوله تعالى [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]
في الآية مسائل:
الأولى: أن الله عز وجل يعلم وجوه المصلحة وأسـباب الحكمة في إتخاذ خليفة في الأرض.
الثانية: الآية إشارة إلى عجز الملائكة وقصورهم عن الإحاطة بالغيب.
الثالثة: إن الله تعالى لا يفعل إلا الأصلح والأتم والأكمل، وهو سبحانه منزه عن القبيح.
الرابعة: إن خلق آدم إمتحان وإبتلاء للملائكة، ومن معهم وليكون خلقه إستدراجاً وإظهاراً لما يضمره إبليس من البغضاء والحسد.
الخامسة: إن الملائكة لم ينظروا أو يقفوا في إستفهامهم إلا عند أهل الفسوق والشر من بني آدم على فرض إطلاعهم المتقدم عليها.
السادسة: إن الله عز وجل يعلم أن التوبة تدرك ابن آدم، وأن المدار في الخلافة على بقاء كلمة التوحيد في الأرض عن إختيار، وغلبة للقوى العقلية  على القوى الشهوية والغضبية.
السابعة: إن علم ومعرفة الملائكة لفلسفة الخلافة في الأرض لم تكن تامة وكاملة , أي أن جوانب عديدة خفيت عليهم منها ، وهو ظاهر هذه الآية الكريمة ، لذا يمكن القول بأن أسرار الإرادة التكوينية لا يعلمها إلا الله عز وجل.
الثامنة: في الآية بشارة ودلالة على سيادة الهداية والرشاد ، وإنتشار الإسلام.
التاسعة : لا تتعلق الخلافة بالإفساد وانما تتعلق بمعناها الأخص بالأنبياء والأئمة وأهل الصلاح.
العاشرة:  قد وردت الخــلافــة في القرآن بهــذا المعـنى في قـولـه تعالى [يَادَاوُودُ انا جَــعَــلْنَــاكَ خَــلِـيفَةً فِي الأرض فَاحْــكُــمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ]( ).
الحادية عشرة: في الآية تأديب للناس بعدم السؤال عما غاب عن مدارك أوهامهم وأن يكتفوا برد علمه إلى الله عز وجــــل مــــع الإقـــرار بأن أفعـــــاله تعالى كلها حكيمة وخالية من النقص والعيب.
سجود الملائكة
الملائكة خلق عظيم وكل واحد منهم آية وحجة تدل على عظيم قدرة الله تعالى وبديع صنعه، وليس لهم من عمل الا العبادة والتســبيح , قال تعالى [ يُسَــبِّحُــونَ اللَّيْلَ وَالـنَّهَــارَ لاَ يَفْتُرُونَ ]( ) ولا يتخلل أوقاتهم على مرّ الأزمان سـكون أو قنوط أو وهن أو فراغ، دائبين بإستبشــار على العبادة والذكــر مع إحساس بالتقصير أزاء مقام الربوبية لما عرفوه من مقتضيات الشكر للخالق.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد، فاذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، إلا أنّا لم نشرك بك شيئاً( ).
وفي الصحيفة السجادية دعاء في الصلاة على حملة العرش وكل ملك مقرب ، يجسد عظيم خلقهم وكبير وظائفهم والمسالك المنتظمة لأعمالهم وعبادتهم.
وهيئات الملائكة مختلفة وبين بعضها البعض تباين كثير، ومن الملائكة ما تبلغ عظمته ما بين السماوات والأرض، كما ورد في حديث الإسراء ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم رأينا ملكاً قد إفترقت رجلاه من الأرضين السفلى، وإفترق رأسه من السماء السابعة العليا، غلظ كل جناح من أجنحته مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل جناحين مسيرة خمسمائة عام للراكب المسرع، ومن لدن رأسه إلى منتهى قدميه ممتلئ وجوهاً ونوراً، وفي كل جزء منه وجوه كثيرة يسبح كل لسان في هذه الوجوه بلغة أخرى، لا يشبه وجه وجهاً ولا لغة لغة، ولا عين عيناً.
ليس فيه عين إلا وفيه من البرق والنور ما لا يحصى، وفي جانب منه نور أحمر، وفي جانب نور أصفر، وفي جانب نور أخضر، وفي جانب نور أبيض وليس في جسده وفي أعضائه وريشه وبشرته وشعره جزء الا وهو يسبح بتسبيح آخر، فيخرج كل يوم من تسبيحه بعدد ما خلق الله من الملائكة يسبحون، لو أراد أن يلتقم السماوات والأرض بلقمة واحدة لأطاق، لا يستطيع أحد من الملائكة أن ينظر إليه من نوره، لا جبرئيل ولا ميكائيل ولا الكروبيون.
وفي وصف إسرافيل ورد عن ابن عباس أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وســلم: أن ملكاً من حملة العرش يقال له إسرافيل، زاوية من زوايا العرش على كاهله قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى، ومرق رأسه من السماء السابعة العليا( ).
هؤلاء الملائكة على عظيم خلقهم ومنزلتهم القريبة من العرش، وتسبيحهم الدائم وطاعتهم المتصلة، توجه لهم الأمر الإلهي بالسجود لآدم [ وَإِذْ قُلنَا لِلْمَلاَئكَةِ اسجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَأن مِنْ الْكَافِرِينَ ]( ).
لقد جاء هذا التشريف العظيم والإكرام البالغ بعد أن تفضل الله سبحانه بخلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وتدارك الملائكة وإعتذارهم وثبوت قصورهم عن الإحاطة بالغيب وأسرار الحكمة في الخلق، لذا ورد عن الإمام الصادق انه قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسـجدوا له، فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقاً أكرم عليه منا، فنحن جيرانه، ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر الجان، وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.
( وورد مثله عن علي بن الحسين وزاد فيه: فلما عرفت الملائكة انها وقعت في خطيئة، لاذوا بالعرش وانها كانت من عصابة من الملائكة وهم الذين كانوا حول العرش لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال عليه السلام: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة( ).
والسجود لغة الخضوع والتطامن والتذلل، وفي الإصطلاح وضع الجبهة على الأرض عبادة وطاعة لله عز وجل.
وفي سجود الملائكة وجوه :
الأول: كان  سجود الملائكة بهيئة نوعية واحدة ، كما هو سجود المسلمين ، بوضع الجباه على الأرض طاعة لله عز وجل .
الثاني:  إختلاف سجود الملائكة بعضهم عن بعضهم الآخر.
الثالث:كان سجودهم على المعنى اللغوي وهو الخضوع والإنقياد والتذلل.
الرابع: سجود الملائكة على المعنى الإصطلاحي والشرعي وهو وضع الجبهة على الأرض.
الخامس: مسمى السجود وما يرمز إليه من حركة أو فعل.
وظاهر الآية انه جاء بالمعنى الشرعي وبما يؤكد الخضوع والإنقياد، إلا انه لا يستبعد إختلاف سجود بعض الملائكة عن بعض لإختلاف هيئاتهم، والمندوحة في بيانهم لمعاني الخشوع والخضوع لله، والإجتهاد فيه.
 لقد أدى الملائكة عليهم السلام السجود بأحسن كيفية ، ويدل عليه قوله تعالى ( فسجدوا).
ولقدرة الملائكة على التلبس بأي هيئة حسنة يمكن القول أن سجودهم كان متشــابهاً، إلا ما خرج بالدليل مثل الملك الذي يقوم بوظيفة كونية تستلزم هيئة مستديمة خاصة، والتشابه في سجودهم تعليم لآدم لكيفية السجود. وإظهار أسمى معاني الخضوع لله تعالى، وورد الســجود في القــرآن بالمعنى الأعــم من وضــع الجبهة على الأرض، كما في قوله تعالى[ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض ]( ) ، وقوله تعالى [ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان ] ( ).
وورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: ســجدت الملائــكة لآدم ووضعوا جباههم على الأرض تكرمة من الله( ).
وفيه بيان لما بلغه تشـريف وإكرام آدم من الدرجة والرفعة ووضع الملائكة جباههم على الأرض أي على الوضع الموازي لموضع القدمين، وحيث المستوى الذي يقفون، والظاهر إرادة الجنس في الألف واللام في لفظ الملائــكــة الوارد في الـحديث فيكون عندئذ مجموع الملائكة إلا من خرج بالدليل.
ترى ماذا يعني سجود الملائكة لآدم، إنه طاعة وإنقياد لأمر الله ,  فالملائكة لا يعبدون الا الله عز وجل ويندرج سجودهم لآدم ضمن مصاديق عبادتهم لله عز وجل اذ انهم سجدوا له طاعة لله عز وجل وإمتثالاً لأمره بعد أن تفضل سبحانه وأراهم الآيات في خلق آدم، وهو أمر يدل على بلوغهم مقامات الكمالات النفسية فمع دأبهم على التسبيح والذكر آلاف السنين إنقادوا للسجود للمخلوق الجديد مع ما يحمله معه من أحوال ذريته وسـوء فعلهم في الأرض، ولم يكن الإنقياد في مثل هذه الحال أمراً هيناً لولا ملكة الطاعة وإلتزام العبادة .
 وفيه درس للمؤمنين وحجة على الناس في ضرورة إتيان الفرائض والعبادات بغض النظر عن العلة أو الحكمة فيها، أو ما يتخللها من مشقة أو جهد.
وفي النصوص مجتمعة ومتفرقة بيان وتفصيل وتوكيد لطاعة الملائكة المطلقة لله سبحانه , وفي وصف الملائكة والثناء عليهم على نحو الموجبة الكلية والعموم الإستغراقي والمجموعي قال تعالى[لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، وفيه دفـع وهم ، وزجر عن تأويل سجودهم بغير سنن ونواميس الطاعة لله سبحانه , 
وعن يحيى بن أكثم ( ) أن موسى بن محمد سئل عن مسائل فعرضت على علي بن محمد  ومنه قال له: أخبرني أن يعقوب وولده سجدوا ليوسف وهم انبياء فأجاب : أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف انما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية ليوسف، كما أن السـجود من الملائكة لآدم كان طاعة لله وتحية لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله لإجتماع شملهم، ألا ترى انه يقول في شكره في ذلك الوقت[رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ]( ).
ومما عليه الإجماع انه لا يجوز السجود لغير الله على وجه العبادة لأنه شــرك، إذن لابد من تأويل الســجود في المقام وتفسيره بما يتناسب وهذه القاعدة الكلية ومنه أن آدم كان قبلة لهم.
وكما روي عن الإمام الحسن بن علي في تفسيره عن آبائه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: لم يكن له سجودهم، يعني الملائكة لآدم، انما كان آدم قبلة لهم، يسجدون نحــوه لله عز وجــل وكان بذلك معظماً مبجلاً ولا ينبغي لأحد أن يسـجد لأحد من دون الله، يخضع له كخضوعه لله ويعظمه بالسجود كتعظيمه لله)( )، وبه قال أبو علي الجبائي وجماعة.
وقيل أن السجود في المقام كان بمعناه اللغوي أي الانقياد والخضـوع لآدم وربما قواه مفهوم خــلافة آدم في الأرض، ولكن المتبادر من السجود هو وضع الجبهة على الأرض بالإضافة إلى انه ليس من إنقياد وخضوع في الظاهر بين الملائكة وبين آدم وذريته، فكل له تكليفه ووظائفه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، ومع هذا لم تنزل الملائكة لنصرته في بدر وأحد إلا بأمر من الله عز وجل، وبعد إجتهاده في الدعاء.
ترى هل يمكن فهم معنى آخر للسجود غير مذكور قد يستفاد من رفض إبليس السجود لآدم وقيامه باغوائه وإيذائه والتسبب بإخراجه من الجنة بعكس الملائكة اذ واظبوا على إكرام آدم وذريته أي أن معنى السجود هنا هو الوفاق وكف الأذى وإجتناب المكر؟ هذا ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام وليس له دليل أو مدرك وهو خـلاف المفهوم والثابت والمتبادر، وانما طرحت هذا التساؤل هنا على طريقة الإستدلال غير المباشر، ولإقــامة الدليل على أن السجود من الملائكة كأن فعلاً وخضوعاً.
لقد كان موضوع سجود الملائكة باب إبتلاء للناس حيث إحتج به المشركون في تعديهم إلى عبادة الأصنام ، وفي إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مشركي العرب انه قال لهم: لم عبدتم الأصنام من دون الله؟ قالوا نتقرب بذلك إلى الله.
وقال بعضهم، إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا له تقرباً لله كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقرباً إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم بأيديكم في غير ذلك البلد محاريب فسجدتم إليها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أخطأتم الطريق وضللتم ( إلى أن قال ) أخبروني عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم له أو صليتم ووضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود بها فما الذي بقيتم لرب العالمين؟ أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي عبيده؟ أرأيتم ملكاً أو عظيماً إذا سويتموه بعبيده في حق التعظيم والخشوع والخضوع أيكون في ذلك وضع من حق الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير ؟ قالوا: نعم.
قال: أفلا تعلمون انكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون على رب العالمين إلى أن قال والله عزوجل حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه؟ لانكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون، إذ لم يأمركم به؟.
ثم قال: أرأيتم لو أذن لكم رجل بدخول داره يوما بعينه، ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره؟ أو لكم أن تدخلوا له داراً أخرى مثلها بغير أمره؟ قالوا لا قال فالله أولى أن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه فلم فعلتم؟ ومتى أمركم أن تسجدوا لهذه الصور؟( ).
 ولقد جاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان موضوع السجود وانه طاعة لله مما دون الفهم الخاطئ له وما يترتب عليه من آثار في عبادات الناس ومعاملاتهم فيما بينهم، وسجودهم بعضهم للبعض الآخر مخالف للشريعة كما انه يؤدي إلى إتخاذه صيغة معتادة في التودد إلى الملوك والكبراء من باب الأولوية , مما قد ينتج عنه حالة من الكبرياء والتجبر عند المسجود له، وذل وخضوع عند الساجد مقرون بالإنقياد له، ونسيان ضرورة التوجه إلى الباري عز وجل في العبادة, وفي نمروذ وذمه وإحتجاج إبراهيم عليه ورد قوله تعالى[إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( ). 
وكان هذا الجهاد على شعب:
الأولى : تعليم الناس السجود لله وحده إلهاً وخالقاً ومعبوداً .
الثانية: النهي عن السجود لغير الله.
الثالثة : نهي الناس عن السجود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنه أشرف الكائنات وسيد المرسلين، وفيه مسألتان:
الأولى: التوكيد للأجيال أن السجود لغيره من الناس والخلائق أيضاً لا يجوز لقاعدة الأولوية ، وإنتفاء المقتضي، ووجود المانع.
الثانية: بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وإخلاصه في العبودية لله تعالى، وجهاده في إمامة الناس من منازل الخضوع، والخشوع لله تعالى.
بالإسناد عن عبد الرحمن بن كثير عن الإمام جعفر الصادق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً قاعداً في أصحابه إذ مرّ به بَعير، فجاء حتى ضرب بجرانه الأرض ودعا، فقال رجل: يارسول الله أَسجدَ لك هذا البعير؟ فنحن أحق أن نفعـل، فقال: لا، بل إســـجــدوا لله، ثم قال: لو امرت احــداً أن يســجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، وفي رواية الحسـن بن موسى الخشاب زاد أن هذا الجمل يشكو أربابه.
ولقد كانت صلة آدم مع الملائكة صلة ود إيماني خاصة وأن الله عز وجل أنعم على آدم بتعليمه الأسماء كلها، وفي العلل عن وهب قال: لما اسجد الله الملائكة لآدم وابى إبليس أن يســجد قال له ربه عز وجل: أخرج منها، ثم قال عز وجل: يا آدم انطلق إلى هؤلاء الملأ من الملائكة فقل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فسلم عليهم، فقالوا: وعليك الســلام ورحمة الله وبركـــاته فلما رجــع إلى ربه، قال له ربــه تبارك وتعالى هذه تحيتك وتحية ذريتــك من بعــدك فيما بينهم إلى يوم القيامة.
وصلة هذه الآية بالآية التالية[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا…]( )، على وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بمشتقات مادة(علم) وإبتدأت بها الآية التالية، وكلها في علم الله عز وجل وتفضله به، لأن علم الملائكة من فضل الله , ومنه علمهم بصيرورة خليفة لله في الأرض , الذي هو علم كسبي فلم يعلموا به إلا باخبار الله لهم به .
 ولما قال الله في الرد على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] أخبرت الآية التالية عن تعليم الله آدم الأسماء .
 وفي الصلة بين خاتمة هذه الآية وبداية الآية التالية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل يتفضل برزق أهل الأرض العلم.
الثانية : تعليم آدم الأسماء أصل ومادة لإكتساب المعارف، وصيرورة الإنسان قادراً على التمييز بين الصلاح والفساد.
الثالثة : صحيح أن إحتجاج الله عز وجل بعلمه بما لا يعلمه الملائكة أعم موضوعاً من تعليم آدم الأسماء، إلا أن الجمع بين الآيتين يدل على تشريف آدم بالعموم في الأسماء التي تعلمها لمجيء الآية بسور الموجبة الكلية(كل) في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
الرابعة: تعلم الملائكة أن الله يعلم ما لا يعلمون، ولكن الله تفضل وعرض ذات المسميات على الملائكة ليقيم عليهم الحجة من وجوه:
الأول: دعوة الملائكة للنظر إلى الخليفة من وجوه أخرى عظيمة غير مسألة إفساد بعض ذريته.
الثاني: صيرورة خلق جديد يعلم ما لا يعلمه الملائكة.
الثالث: منع الإفتتان بعلم الإنسان لأن هذا العلم فضل ورشحة من عند الله عز وجل , وشاهد على بديع صنعه وعظيم قدرته.
الرابع : سينزل الخليفة إلى الأرض متسلحاً بالعلم وهو واقية من إشاعة الفساد.
الخامسة: الصلة والتداخل بين العالم العلوي والسفلي، بين أهل السماء والأرض، ولم تقم هذه الصلة على تفضيل الملائكة على نحو الإطلاق، بل أهل الأرض عندهم الخليفة وهم يعلمون ما لا يعلمه الملائكة إلا بفضل من الله عز وجل.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان منزلة النبوة والشأن العظيم للنبي عند أهل السموات.
السابعة: جاء تعليم آدم الأسماء أصلاً ومثالاً لفتح باب التعليم لآدم وذريته من عند الله، ويدل عليه قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، وحينما صعد الإنسان في عالم الأفلاك بالنبوة والإعجاز كما في قوله تعالى في إسراء النبي محمد [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا]( )، وصعد ويرحل الإنسان بالمركبات الفضائية فان الملائكة يستحضرون تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء على نحو العموم والإطلاق ويدركون أن هذا الصعود من رشحات نفخ الله الروح في آدم وتعليم الله عز وجل له الأسماء وتجلي مصاديق إحتجاج الله عز وجل عليهم وهي ذات كلمة التنزيه لمقام الربوبية التي ذكرها الملائكة في هذه الآية(ونحن نسبح بحمدك) وذكروها لجوءً إلى الله في الآية بعد التالية(قالوا سبحانك). 
ومن الإعجاز في المقام إبتداء آية الإسراء بالتسبيح والتقديس لله وثناء الله على نفسه وبديع صنعه بقوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى].
الثامنة: تقدير خاتمة الآية هو: أني أعلم بخلافة الإنسان في الأرض ما لا تعلمون).
التاسعة: تنبيه الملائكة إلى حقيقة وهي أن الله عز وجل لم يهبط آدم إلى الأرض إلا بعد تعليمه، والعلم واقية من إشاعة الفساد، قال تعالى[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ).
العاشرة: إخبار الملائكة والخلائق بأن فضل الله عز وجل متجدد وغير منقطع وأنه يشمل إيجاد خلق جديد ومدّه بأسباب العيش الكريم والتقوى وتقريبه من منازل طاعة الله.
والصلة بين هذه الآية والآية بعد التالية[قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا…..]( )، على وجوه:
الأول: بعد  الإستفهام الإنكاري من جهة الملائكة في هذه الآية إتجهوا في الآية أعلاه إلى التسبيح والتقديس لمقام الربوبية وبخصوص الموضوع وهو جعل خليفة في الأرض.
الثاني: لقد إنشغل الملائكة بأنفسهم، وكأنهم إستدركوا فعادوا إلى وظيفتهم التي خلقوا من أجلها وجبلوا عليها وهي التسبيح والتقديس والإنقطاع إلى طاعة الله، وفي الثناء عليهم ورد قوله تعالى[يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( ). 
الثالث: تقدير الجمع بين الآيتين هو: وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) فيدخل إخبار الله عز وجل لهم بجعل خليفة في الأرض فيما علمهم الله مع تلقيهم له بالتسليم.
الرابع: مع أن الكلام في الآية بين الله والملائكة، فإنها ذكرت النبي محمد بلغة الخطاب(وإذ قال ربك) أي وإذ قال ربك يامحمد، وفيه غاية التشريف والإكرام للنبي , وهل المقصود في الخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين والقضية الشخصية أم يشمل الخطاب المسلمين بالإلحاق.
الجواب هو الثاني وهو من مصاديق إكرام المسلمين وعمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فهم أفضل الأمم بإشتراكهم على نحو العموم المجموعي في تلقي الخطاب الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعلوم الغيب ووقائع خلق آدم في السماء، ويخرجون للناس بآيات القرآن وأسرار التنزيل ورشحات الهداية والتقوى وإشراقات الإيمان التي تشع منها على القلوب، وتتجلى على الجوارح والأركان بأداء المسلمين الفرائض والواجبات , والحرب على الفساد والقتل بغير الحق , وهو من علم الله الذي إحتج به على الملائكة في قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]. 
 
 
 
 
 
 
قوله تعالى[ وَعَلَّمَ آدم الأسماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ انبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء أن كُنتُمْ صَادِقِينَ ] الآية 31.
الإعراب واللغة
وعلم: الواو حرف عطف، علم: فعل ماض والفاعل ضمير مستتر يعود إلى الله عز وجل.
آدم: مفعول به أول، الأسماء: مفعول به ثان، كلها: تأكيد للأسماء، والضمير مضاف اليه.
ثم: حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي.
عرضهم: عرض: معطوف على جملة (وعلم) والفاعل ضمير مستتر يعود إلى الله عز وجل، و(هم) ضمير في محل مفعول به.
على الملائكة: جار ومجرور، فقال: الفاء حرف عطف يفيد الترتيب المعنوي، قال: فعل ماض.
انبئوني: فعل أمر، مبني على حذف النون، لأن مضارعه من الأفعال الخمسة.
الواو: فاعل، النون: للوقاية.
الياء: ضمير متصل في محل نصب مفعول به، باسماء: جار ومجرور.
هؤلاء: اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر مضاف اليه.
إن: حرف شرط جازم.
كنتم: فعل ماض ناقص، في محل جزم فعل الشرط.
والتاء: إسمها.
صادقين: خبر كان منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم، وجواب الشرط محذوف.
آدم: أبو البشر، وأختلف في إشتقاق إسمه، على أقوال:
الأول: لأنه خلق من أدمة الأرض ولونها، وما فيها من مشربة سواد ، وكان آدم أسمر اللون.
وفي العلل عن الصادق عليه السلام: أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آدم لم سمي آدم؟ قال: لأنه خلق من أديم الأرض( ) وهو المروي عن سعيد بن جبير( ) .
وعن ابن عباس قال بعث رب العزة عز وجل إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم ومن ثم سمى آدم لانه خلق من أديم الأرض ، ومن ثم قال إبليس [أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا] أي هذه الطينة أنا جئت بها( ).
ولم يثبت مجئ إبليس بطينة آدم والمشهور بخلافه وورد عن ابن عباس نفسه ما يعارض الحديث أعلاه بالإسناد (عن الضحاك عن ابن عباس قال أمر الله تبارك وتعالى بتربة آدم فرفعت فخلق آدم من طين لازب من حمإ مسنون ، قال وانما كان حماً مسنوناً بعد التراب قال فخلق منه آدم بيده قال فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت ، قال : فهو قول الله تبارك وتعالى [مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ] ( )، يقول كالشئ المنفرج الذى ليس بمصمت قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ويدخل في دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشئ ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك) ( ).
(وهم اسم أعجمي كآزر وغابر ممنوع  الصرف للعملية والعجمة ومن زعم أنه فعل مشتق من الأدمة وهي كالسمرة أو من أديم الأرض وهو وجهها فغير صواب لأن الإشتقاق لا يكون في الأسماء العجمية وقيل هو عبري من الأدام وهو التراب ومن زعم أنه فاعل من أديمالأرض فالهمزة الثانية عنده زائدة بخلاف الأول فعنده الأولى وهي الزائدة فخطأه ظاهر لعدم صرفه وأبعد الطبر في زعمه أنه فعل رباعي سمي به)( )، ولكن النقاش في الكبرى وهي على شعبتين:
الأولى: إثبات أن آدم اسم أعجمي.
الثانية: كون عجمة الاسم علة تامة للإمتناع عن الصرف وعدم موافقته للأوزان الصرفية، وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: أتدرون لم سمي آدم؟ لأنه خلق من أديم اللأرض) ( ).
وعن ابن سلام انه قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: خلق آدم من الطين كله أو من طين واحد، قال: بل من الطين كله ولو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضاً، وكانوا على صورة واحدة، قال: فله في الدنيا مثل؟ قال: التراب فيه أبيض وفيه أخضر وفيه أشقر، يعني شديد الحمرة، وفيه أزرق، وفيه عذب، وفيه ملح، فلذلك صار الناس فيهم أبيض، وفيهم أصفر، وفيهم أسود وعلى ألوان التراب..الخ( ).
الثانية: من الأدم بمعنى الألفة والإتفاق ، في إشارة إلى ما بين الناس من الود، واستئناس بعضهم ببعض.
الثالثة: إنه اسم أعجمي لا إشتقاق له كآزر.
الرابعة: هو اسم سرياني أصله آدام بوزن خاتام، عُرب بحذف الألف الثانية.
الخامسة: وقال الثعلبي: التراب بالعبرانية آدام فسمي آدم به
(وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض( ).
السادسة: وقال الصدوق: اسم الأرض الرابعة أديم وخلق منها آدم فلذلك قيل من أديم الأرض( ).
(وقال الجواليقي: أسماء الأنبياء كلها أعجمية إلا أربعة آدم وصالح وشعيب ومحمد)( )، وآدم عند العجم والهنود هو كيومرث، مما يدل على الإتفاق بين أهل الملل والنحل على أن الناس لهم أب واحد.
والأسماء جمع إسم، والمعنى أسماء المسميات بحذف المضاف اليه لدلالته .
 والكل: اسم يجمع الأجزاء (الجوهري كل لفظه واحد ومعناه جمع قال: فعلى هذا نقول: كل حضر، وكلُّ حضروا)( ).
والكل خلاف الجزء، وهو سور جامع ، ولفظ عام مركب من أجزاء، ويفيد الإستيعاب، ويتقوم بأجزائه التي تتناهى بدليل، قوله تعالى [ثُمَّ عَرَضَهُمْ..].
وعرضت الشيء عرضاً من باب ضرب: أظهرته وأبرزته، وقال الزجاج: العرض أصله في اللغة: الناحية من نواحي الشيء، فمن ذلك العرض خلاف الطول( ).
والإنباء: الإعـلام والإخبار وإظهار الأمر، وأكثر القراء همزوا (انبئوني) ونسب إلى الأعمش ترك الهمز فيه، وهي لغة قريش.
في سياق الآيات
بعد إخبار الله تعالى للملائكة بجعل خليفة في الأرض وبيانهم لإخلاصهم في طاعته تعالى وإستعراض ما يفعله الإنسان في الأرض من الفعل القبيح , جاءت هذه الآية لتؤكد فضل الله تعالى على الناس بتعليم آدم ومن خلاله جميع أبنائه بالواسطة، و في الآية توبيخ لأهل الضلالة الذين لم ينتفعوا من العلم ، ولم يجعلوه في مرضاة  الله .
وتبين الآية تفضل الله تعالى بإصلاح الإنسان لخلافة الأرض، بفتح باب العلم أمامه بتعليم الله تعالى لآدم من غير واسطة ملك في إشارة إلى إستمرار نزول الوحي على الإنسان إلى جانب إنتفاع الإنسان وإلى يوم القيامة مما تعلمه آدم من الأسماء.
وفي فضل الله بتعليم آدم الأسماء رد على الملائكة بأن وظيفة الإنسان ليس الإفساد في الأرض ، وانه يحترز بالعلم الذي علّمه الله تعالى به.
وهو سبحانه أعلم بالمصلحة والمنفعة، إنما يأتي الفساد بالعرض من فريق من الناس ممن يجحد بالعلم والوحي، ويتخلف عن الإيمان ومبادئ التوحيد، قال تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرض] ( ).
وعلى ما بيناه بأن سؤال الملائكة لم يكن عن آدم والمؤمنين مطلقاً، بل جاء يوسلاً لإجتثاث الفساد والمفسدين في الأرض، وعدم إمهالهم، فجاءت الآية لتؤكد فتح باب التوبة بالكسب والتعلم، فما دام الإنسان يمتلك آلة  التعلم ووسائل إكتساب المعرفة، فإنه يصل إلى إدراك قبح الفساد والإفساد، ويمتنع ويكف عنه، ومن أصر على إرتكاب المعاصي يلقى العقاب الأليم في الآخرة.
لقد بينت الآية أن الله تعالى زوّد الخليفة في الأرض بما يحتاجه، ويأتي تعليم الأسماء مقدمة وتهيئة لنزول الكتب السماوية، ومنها القرآن وهو المهيمن على الكتب كلها.
وتبين الآية التالية أهلية آدم لخلافة الأرض بما علّمه الله تعالى، وعجز الملائكة عن معرفة ما إختصه الله به من العلم إلا أن تلقوه من آدم بالواسطة، وأن آدم عليه السلام لم يقم بإخبارهم بالأسماء إلا بعد أمر الله تعالى له ، لبيان طاعته لله تعالى ، وأن التعلم والتعليم ليس من جنس الفساد بل من أسباب القضاء على الفساد.
وتبين الآيات موضوعية الحجة والبرهان في بديع صنع الله وانه تعالى لم يغضب على الملائكة بل بيّن لهم أموراً هي:
الأول: يتعاهد الله سبحانه الإنسان في الأرض، وأن الذي يكون خليفة في الأرض لا ينقطع عن السماء بل يتلقى التعليم منها، ومنه نزول الملائكة بالوحي من عند الله تعالى، بإعتبار عدم إنحصار صفة الخلافة بآدم عليه السلام وحده، قال تعالى [يَادَاوُودُ انا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً] ( ).
الثاني: حاجة الخليفة في الأرض إلى التعلم، ومن وجوهها التعليم من عند الله وليس بالكسب، فتفضل الله سبحانه بهداية آدم إلى ما يحتاجه.
الثالث: تعليم الأسماء باب تنفتح منه أبواب كثيرة للعلم والمعرفة.
الرابع: إن الله تعالى إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، إذ علّم سبحانه آدم كل الأسماء ليكون التعليم له عوناً وسلاحاً في خلافة الأرض.
الخامس: تقدّم آدم على الملائكة رتبة بما علمه الله تعالى، وفيه شاهد على حاجة الملائكة لله تعالى، ولم تقل الآية “وعرضها” ونسبة الضمير إلى الأسماء بل ذكر ضمير جمع الغائب المذكر “هم” في إشارة إلى المصاديق الواقعية والمسميات لتلك الأسماء.
وجاءت الآية الثالثة لتبين إقرار الملائكة بعدم علمهم بما أصبح آدم يعلمه بفضل الله، وإعترافهم بالحاجة إلى الله تعالى، وفيه دليل على أن موضوع الخلافة في الأرض يتم بتوفيق منه تعالى، وانه سبحانه يهدي الإنسان إلى ما فيه  عمارة الأرض بالعبادة.
السادس: بينما ذكر الملائكة تسبيحهم وتقديسهم لله تعالى، فان الله عز وجل لم يباههم بتسبيح وتقديس آدم له، بل جاء التحدي بالعلم والمعرفة، وتلك آية إعجازية في خلق الإنسان ، وانه نزل للأرض ليعمرها بالعلم, ولتأكي حقيقة وهي أن عبادة الناس لله عن علم وتوظيف للعقل .  
وتترشح التقوى والصلاح ومحاربة الفساد من العلم والتحصيل للتباين والتضاد بين العلم والجهل، وبين الصلاح والفساد، والملازمة بين العلم والصلاح من جهة، وبين الجهل والفساد من جهة مضادة، فمتى ما علم الإنسان بالوظائف التي خلق ونزل إلى الأرض من أجلها فإنه يتنزه عن الفساد، ويتجنب الكفر والنفاق.
ولم يقف الرد الإلهي على الملائكة بقوله تعالى [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] مع ما فيه من الكفاية  والحجة والبيان، فإن الله سبحانه توجه إلى آدم وعلمه الأسماء ليعرضها على الملائكة لتكون الحجة في خلق آدم شاملة لخلقه وعمارته للأرض التي تتقوم بالعلم والهداية والصلاح من عند الله .
ولم تذكر الآية السابقة اسم آدم بل أخبرت عن جعل الله خليفة في الأرض ويدل جواب الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] بأن الملائكة تعلم أن الخليفة ليس منها.
وجاءت هذه الآية بذكر اسم آدم، وأول ما ذكر إسمه بالتعلم ومعرفة الأسماء وهي سر من كنوز العرش، مما يدل على وجود صلة بين أول فعل قام به آدم وهو التعلم من الله تعالى، وبين أول سورة نزلت من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ).
وأختتمت الآية السابقة بقوله الله تعالى للملائكة [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] بلغة التنبيه وبيان عظيم قدرته وسلطانه تعالى، وإحاطته علماً بالأشياء جميعاً الموجود منها والمعدوم .
وبعد هذه الخاتمة وخطاب الله تعالى للملائكة، إبتدأت هذه الآية بتعليم الله تعالى لآدم الأسماء من غير فاصلة بينهما، مما يدل على إكرام الله تعالى لآدم وأن تعليمه الأسماء من علم الله تعالى بالأشياء وعواقب الأمور.
إعجاز الآية
تبين الآية عظيم منزلة آدم بتعليم الله تعالى له، وموضوع التعليم وحتمية الإنتفاع منه على نحو دائم مبارك، وفي الآية تفضيل وتشريف للإنسان ليس فقط في خلقته , بل في تعلمه وإيمانه وهدايته، والملازمة الشريفة بين أمور:
الأول: خلق الإنسان والنفخ فيه من روح الله.
الثاني: إكرام آدم ودبيب الحياة فيه بالنفخ فيه من روح الله.
الثالث: سجود الملائكة لآدم إقراراً بأهليته للخلافة في الأرض وتسليماً بموضوعية النفخ فيه من روح الله وعدم وجود فترة وفاصلة بين النفخ والسجود، قال تعالى[وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
الرابع: تعليم آدم الأسماء وما فيه من دلائل المعرفة، ومقومات الخلافة في الأرض وورد في الآية عن ابن عباس أنه قال: عَرَضَ عَلَيْهِ أَسْمَاءَ وَلَدِهِ إِنْسَانًا إِنْسَانًا، وَالدَّوَابَّ، فَقِيلَ: هَذَا الْحِمَارُ، هَذَا الْجَمَلُ، هَذَا الْفَرَسُ( )، وفي الحديث أعلاه مسائل:
الأولى: الحديث تفسير ومصداق من مصاديق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ عظيم منزلة المسلمين في عالم الذر، وإرادة تعيين المسلمين كأمة قبل خلق آدم عليه السلام.
الثانية: بقاء نعمة تعليم آدم الأسماء بوراثة النبي لها ويحتمل علم النبي بها وجوهاً.
الأول: بالوحي وإخبار الملائكة.
الثاني: العلم الهبة من عند الله كما في الحديث: عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن روح القدس نفث في روعي: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ( )، وعن جابر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: روح القدس جبريل.
الثالث: التعليم بغير واسطة ملك لدلالة حرف التشبيه الكاف في الحديث(كما علم آدم).
الرابع: علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأسماء التي علمها الله آدم بتأويل آيات القرآن وأسرار التنزيل.
الخامس: لا يعلم كيفية تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسماء إلا الله عز وجل ورسوله، بقرينة تمثل المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الماء والطين وهو شرف عظيم لم ينله آدم عليه السلام.
السادس: التعدد في صيغ وكيفية تعلم آدم للأسماء وعدم حصره بكيفية وطريق مخصوص، والله واسع كريم.
الثالثة: دعوة المسلمين لعناية بالسنة النبوية والأخذ من علومها وعدم التفريط بها، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه( ).
الرابعة: وراثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء إبتداء من آدم الذي كلمه الله قبلاً.
الخامسة: بيان فضل الله عز وجل وأن نعمة تعليم الأسماء لم تغادر الناس، لأنها من خصائص الخلافة.
السادسة:  يمكن إستقراء مسألة من الحديث وهي أن قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ]( )، أعم من أن ينحصر بالقضية الشخصية وخلافة آدم على نحو التعيين، وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها، والخلافة في الأرض من أعظم النعم.
السابعة: ترغيب الناس بدخول الإسلام، والتزود من علومه.
ومن إعجاز الآية بيان سعة الكرم الإلهي فإن الله سبحانه علم آدم كل الأسماء، ولم تستطع الملائكة معرفة اي واحد منها، ولابد أن الملائكة لم يكونوا حاضرين تعليم الله تعالى لآدم الأسماء.
ومن الإعجاز أن الآية السابقة ذكرت أمر الخلافة ، ولم تذكر اسم آدم مما يشير إلى المعنى الأعم فيها، أما هذه الآية فذكرت آدم  بالإسم، ولم تذكره إلا بعد أن قدمت تعليم الله تعالى له لتكون له صفة لآدم يعرف بها هي: المتعلم من الله تعالى .
 وهذه  الخصوصية والصفة وحدها تستحق الإكرام من قبل الملائكة , والإقرار بأهليته لخلافة الأرض.
ومن الآيات أن الله تعالى لم يعلم آدم شطراً من الأسماء، بل علمه كل الأسماء، وجاءت الآية بتوكيد هذه الحقيقة لبيان عظيم فضل الله تعالى عليه، وإصلاحه للخلافة في الأرض، لينزل إلى الأرض بسلاح العلم، وهذا السلاح هو الذي إنتشر به القرآن وأحكامه إذ أنه مدرسة في العلوم المختلفة، ليكون مصاحباً للإنسان يدعوه للإيمان وإستثمار العلم والإنتفاع منه في الحجة والبرهان وإتيان العبادات، ونيل خير الدنيا والآخرة.
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة بآية (وعلّم آدم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، كما انها الآية الوحيدة التي يتكرر فيها لفظ الأسماء بصيغة الجمع  ،  وقد تكرر لفظ(أسمائهم) بعد آيتين.
الآية سلاح
في الآية إخبار عن كمال إحسان الله تعالى على الناس، وفضل وشرف آدم أبي البشر، وهذا الشرف مركب من أصل الخلقة والإيمان ليكون مدرســة يعرف بها المسلم عظيم قدره عند الله وعند الملائكة ومكانته السامية التي ينفرد بها بين الخلائق، وهي دعوة سماوية للطاعة، والإنقياد للنبوة.
ولم يجعل الله تعالى آدم خاضعاً للملائكة، أو تابعاً لغيره، ومن الآيات أن الانسان ينفرد بصفة الخليفة مع أن الملائكة خلق روحاني عظيم ومنقطعون إلى العبادة، ودعا الله الناس إلى الإيمان بهم، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ] ( )، فإنهم ليسوا خلفاء في السماء، وحصر الخلافة بالإنسان في الأرض تفضيل له، بخصوص مسألة الخلافة .
وتحث الآية الإنسان على السعي في ميادين العلم والتحصيل والإكتشاف، وتكون عوناً له في سعيه.
الآية لطف
لقد أنعم الله عز وجل على الانسان أن خلقه وجعله خليفة في الأرض، وتفضل على الملائكة وأطلعهم على آية خلق الانسان وما جعل له من المنزلة العظيمة بين الخلائق.
ومن الآيات أن الملائكة لم يحتجوا على ذات خلق الإنسان، ولكن جاء الإحتجاج على جعله خليفة في الأرض بخصوص من يفسد فيها وفيه توبيخ للكفار والفاسقين , فبسببهم جاء الرد الملكوتي على جعل الإنسان خليفة مع ما شرف الله عز وجل به الأنبياء بالنبوة والتنزيل ، مما يدل على إضرار المفسدين بالناس جميعاً وبجنس الإنسان بين الخلائق , ولكنه ليس مستديما والمؤمنون في حرز من شدته , قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
لقد جاءت الآية وثيقة سماوية تبين أول ساعات خلق آدم وما له من الشأن العظيم بين الخلائق، وفيه دعوة لكل إنسان لمعرفة منزلته ولزوم شكر الله تعالى على هذه النعمة بالإيمان بالله والتصديق بالنبوة والعمل بأحكام التنزيل.
لقد بدأ اللطف الإلهي بالإنسان قبل أن يخلق، وتلك نعمة عظيمة تدل على سعة رحمة الله وعظيم إحسانه وكرمه، ومن الآيات عدم إنحصار اللطف الإلهي بالإنسان في ذاته وخلقته ونشأته، بل جاء شاملاً لبيان منزلته بين الخلائق بسجود أشرف وأعظم خلق الله له.
 ولم يأت السجود على نحو القضية الشخصية، فلم يكن الذي سجد ملكاً واحداً بل الملائكة والمراد من الألف واللام في الملائكة، الجنس والإستغراق لأصالة الإطلاق إلا أن يرد دليل مخصص كما في بعض الأخبار.
وبينت هذه الآية لطف الله تعالى ورحمته بالإنسان بجعله عالماً من أول ما خلقه ليكون العلم مصاحباً له في الحياة الدنيا، وهو حجة عليه في الدنيا والآخرة ويتخذه وسيلة لعبادة الله والتدبر في بديع صنعه تعالى، وإجتناب المحرمات التي نهى عنها.
وفي الآية بيان لفضل الله على آدم عليه السلام وذريته فالمراد بالتعليم ليس آدم وحده بل الإنسان مطلقاً، فيشمل حواء وذرية آدم إلى يوم القيامة.
ترى ما هي كيفية تعليم الله عز وجل لآدم عليه السلام , فيه وجوه:
الأول: القذف في قلبه.
الثاني: جعل الأسماء على اللوح المحفوظ فيقرأها آدم.
الثالث: الوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ). 
الرابع: بواسطة ملك غير الملائكة الذين قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] كما لو كان جبرئيل عليه السلام، وأن الله أكرم جبرئيل بتنزيل القرآن أيضاً.
الخامس: عن طريق الكسب والتعليم.
والصحيح هو الثالث، فإن التعليم يأتي على نحو الوحي، وفيه وجهان:
الأول: الوحي المباشر، وتكليم الله عز وجل لآدم عليه السلام خصوصاً وانه في الجنة، ونواميس الجنة تختلف عن نواميس الأرض.
الثاني: الوحي والإخبار أو بواسطة حجاب، قال تعالى [وَمَا كَأن لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ( ).
والصحيح هو الثاني، فإن وجود آدم عليه السلام وتفضل الله تعالى بالنفخ فيه من روحه لا يمنع من شموله بعمومات الآية أعلاه وانه تلقى الوحي من عند الله عز وجل، ولكن هذا الوحي لم يكن بواسطة ملك من الملائكة بل هو فضل من عند الله خص به آدم عليه السلام لم يطلع عليه أحد من الملائكة وهو فضل آخر على الإنسان، وإخبار بانعدام الواسطة بين الله عز وجل وبين الإنسان.
 ويمكن إستقراء هذا المعنى في قوله تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] ( )، أي لم يجعل واسطة ملكوتية بينهما، وقد خص الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشرف العظيم في ليلة الإسراء.
مفهوم الآية
الآية حجة على الناس جميعاً، وحث على تدبر عظيم منزلة الإنسان بين الخلائق ، وما يترشح عنها من لزوم إتباع الأنبياء ، وتعاهد الفرائض فكما أن آدم أبو البشر فهو نبي أي أن التعليم الجامع عند الأنبياء يتوارثونه ويتخذونه وسيلة للدعوة إلى الله سبحانه، وتبين الآية فضل الله تعالى على الإنسان، وتظهر قرب الملائكة من حضرة القدس وتكليم الله عز وجل لهم.
وفي إخبار الله تعالى للملائكة بتصيير آدم خليفة وتعليمه الأسماء مسائل منها:
الأولى: المسؤوليات الكبيرة التي تنتظره وهو أمر يدل عليه بالدلالة الإلتزامية إستفهام الملائكة وكيفيته إلى جانب مضامين عنوان الخلافة.
الثانية: إنفراد آدم وجنس الإنسان بإكرام خاص ومرتبة في العلم لم يبلغها غيرهم.
الثالثة : إقامة الحجة على الملائكة ، وبيان الحكمة الإلهية في جعل خليفة في الأرض.
الرابعة: الإشارة إلى وجود أمة مؤمنة في كل زمان تتعاهد العلم وتتوارث الصلاح والتقوى ، الأمر الذي تجلى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهد المسلمين للتنزيل لفظاً ورسماً وتلاوة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة: لم ينزل الخليفة في الأرض إلا بعد أن تزود بالعلم وعمل به، ويظهر مصداق العمل بتعليم آدم الملائكة الأسماء.
السادسة: بيان حقيقة وهي حاجة الإنسان في الدنيا إلى العلم والمعرفة، وتفضل الله عز وجل بقضاء حاجة الإنسان بتعليم آدم وهو مقدمة وبشارة لنزول الكتب السماوية على الأنبياء.
وتبين هذه الآية بدايات العون الإلهي للخليفة في الأرض وأن الله عز وجل جعل الإنسان خليفة ليتعاهده وذات موضوع الخلافة، ويحفظه ويصلحه لوظائفها ويجعله صالحاًً بالتقوى ، وفيه حجة وآية أمام الخلائق الأخرى وأشرفها الملائكة.
وفي الآية بيان لعظيم قدرة الله سبحانه، ودعوة لنبذ الغرور وطرد الزهو بالعبادة، وأن الله تعالى يخلق من العدم ما يكون ذا شأن ومنزلة، لقد أراد الله سبحانه بيان أهلية آدم وجنس الإنسان للخلافة بأنه يمتلك العلم، وهذا التعليم آلة للخلافة.
لقد جاءت الآية بتحد الملائكة وبيان الفقر والحاجة الملازمين للممكن، وكل مخلوق هو ممكن.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تتضمن الآية أسرار ووقائع خلق آدم، وتفضل الله تعالى بإخبار الملائكة عن خلقه، وجعله خليفة في الأرض.
الثانية: بيان عظيم منزلة آدم بين الخلائق.
الثالثة: رد الملائكة على جعل آدم خليفة، وكيف أن الإنسان يقتل أحياناً أخاه، ومنهم من يفسد في الأرض، فهؤلاء الذين أخبرت الآيات السابقة عن فسقهم ونقضهم الميثاق وأنهم يفسدون في الأرض قد أخبرت عنهم الملائكة يوم خلق الله تعالى آدم، وفيه إخبار بأن المفسدين مبغوضون في الأرض والسماء.
الرابعة: تضمن رد الملائكة أدب العبودية بمدح أنفسهم في طاعتهم لله تعالى.
الخامسة: إجراء الملائكة مقارنة بينهم وبين بني آدم، وإنحصار هذه المقارنة بالذين يفسدون من بني آدم، مما يدل على إكرام الملائكة للمسلمين وإفتخارهم بهم ويدل بالمفهوم على أن المسلمين أهل لخلافة الأرض، ويدل قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، على أن الملائكة لم يقصدوا المسلمين الذين يعملون الصالحات , ويتجنبون سفك الدماء والفساد في الأرض.
السادسة: توسل الملائكة إلى الله تعالى بالمسألة بأن يكون أهل الأرض كلهم مسلمين، يسبحون بحمد الله ويقيمون الصلاة ومناسك الطاعة الأخرى حباً لله تعالى ليكون سؤال الملائكة لنجاة الإنسان من الضلالة وعذاب النار سابقاً لخلق آدم عليه السلام، ولكن لابد من إيجاد الصلة بين هذا القصد من الملائكة وبين الرد الإلهي عليهم [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
وفي الرد الإلهي وقول الملائكة هذا مفاهيم كلامية منها:
الأول: سعة المغفرة والرحمة الإلهية يوم القيامة.
الثاني: تقلل بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية من إفساد الإنسان في الأرض، وحوادث القتل بين الناس، كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، ويؤدي القصاص إلى زجر الناس عن القتل، فمتى ما علم الإنسان أنه يقتل بجنايته إذا قتل غيره فإنه يتجنب القتل والهمّ به.
الثالث: فتح باب التوبة للانسان ما دام في الحياة الدنيا، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ). 
الرابع: الخلف والعوض لمن يقتل مظلوماً.
الخامس: بقاء الإسلام وأحكامه في الأرض ليكون منار هدى للناس جميعاً.
السادس: آدم عليه السلام نبي ، وهو أول الأنبياء.
السابعة: تفضل الله تعالى بالرد على الملائكة بانه أحاط بكل شيء علماً، ومن علم الله تعالى أنه خلق الإنسان بأحسن تقويم، ليكون من بديع خلقه، وآية من آيات حسن صنعه وتفضل وجعله خليفة في الأرض , ومعاني ودلالات هذه الخلافة في الإرادة التكوينية.
إفاضات الآية
يدل لفظ الخليفة على الإصلاح لهذه المرتبة، ويكون الإصلاح على وجوه وكيفيات مختلفة، وليس هناك أفضل من إصلاح آدم للخلافة إذ أنه جاء من وجوه:
الأول: أن الله عز وجل علّمه بنفسه من غير واسطة ملك، ويدل هذا التعليم على أمور:
الأول: كمال هذا التعليم.
الثاني: انه أفضل تعليم في تأريخ الخلائق من جهات:
الأولى: الله عز وجل هو الذي تفضل به.
الثانية : الإحتجاج به على الملائكة.
الثالثة : عدم معرفة الملائكة لمضامينه إلا بعد أن أخبرهم آدم، اي أن هذه الأسماء بقت آناً من الزمان لم يعلمها إلا الله عز وجل وآدم من بين الخلائق، فإذا لم يعلمها الملائكة فمن باب الأولوية أن لا يعلمها غيرهم.
الثاني: العموم والإطلاق في تعلم آدم لتلك الأسماء بلفظ “كلها” وهو سور الموجبة الكلية الشامل للأسماء جميعاً , وفيه مسائل :
الأولى : هل فيه دلالة على صعود الإنسان إلى أفلاك السماء .
الثانية : القدر المتيقن هو تعليم الأسماء, وليس المسميات .
الثالثة : ورد التعليم بخصوص آدم على نحو التعيين . والأرجح هو الأول.
الثالث: تأهيل آدم للخلافة في الأرض قبل أن يهبط اليها.
الرابع: الآية بشارة نزول الوحي على الأنبياء، وتدل في مفهومها على بقاء القرآن وأحكام الإسلام إلى يوم القيامة، فإذا كان آدم        تلقى التعليم من عند الله تعالى، وتلقى الأنبياء وهم في الأرض الوحي والتنزيل من عند الله، فإن المسلمين وصفهم الله بخلائف الأرض بقوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ]( ).
وتتجلى بالتعليم والوحي الملازمة بين الخلافة والتعليم وإذ إنقطع الوحي بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  إلى الرفيق الأعلى، فإن المسلمين يتلقون التعليم بآيات القرآن، وما فيه من الأحكام وما بينّه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  في سنته القولية والفعلية بإعتبار انها من مصاديق الوحي والتعليم، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *أن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وهل يشمل ما عند المسلمين الأسماء التي علمها الله آدم عليه السلام، أم انه محصور بما بين الدفتين.
الجواب لا تعارض بين الوجهين لأن الأسماء التي تلقاها آدم هي في القرآن بلحاظ كونه [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين وفيه عون لهم على التفقه في أمور الدين والدنيا، ومدد إلهي للإقبال بشوق على العبادات والفرائض.
الصلة بين أول وآخر الآية
لما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] في بيان بديع صنع الله تعالى، وعظيم قدرته وسلطانه، وانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( )، إبتدأت هذه الآية بمصداق من مصاديق علم الله تعالى بما لايعمله الملائكة بإن تفضل وعلّم آدم الأسماء كلها، وفيه وجوه:
الأول: بيان عظيم فضل الله تعالى على آدم وذريته بأن علّمه الأسماء، ولم يجعله أبكم أو أصم.
الثاني: يدل تلقي التعليم على إمتلاك الحواس والقدرة الفعلية على الفهم والحفظ.
الثالث: تعليم الأسماء واقية من غلبة أهل الفساد والفجور.
الرابع: جاء تعليم الأسماء على نحو العموم من غير تقييد أو شرط، وفيه توكيد لفضل الله تعالى على آدم.
الخامس: تبين الآية تأهيل آدم للخلافة في الأرض، وجعله قادراً على العناية بالمخلوقات الأخرى فيها.
السادس: من منافع تعليم الأسماء لآدم شيوع الرأفة والرحمة بين الناس في الحياة الدنيا، لأن التعليم وسيلة للتفاهم ومقدمة للعمل النافع.
السابع: جاء ذكر الأسماء لإرادة المعنى الأعم،و بيان معاني وخواص الأشياء، وهذا التعليم فرع الخلافة وأحد مقوماتها.
الثامن: تعليم الله لآدم الأسماء نوع إختبار وإمتحان.
وجاءت الآية بصيغة جمع العقلاء (عرضهم) وفي المسميات على الظاهر من يعقل وما لايعقل، لغلبة من يعقل ولبيان الكثرة والتعدد في الأسماء والمسميات، وتوكيد بديع خلق الله تعالى، وأختتمت الآية بأن عرض الله تعالى الأشياء والأعيان التي علم آدم أسماءها على الملائكة وأمرهم بأن يخبروه بأسمائها.
والعلم أمر وجودي، والوجود أشرف من العدم .
والعالِم أشرف من الجاهل، وتتعدد منافع العلم لتشمل صاحبها وتترشح على الغير بفوائد لاحصر لها، وفي كسب العلوم إضاءة للطريق وطرد لظلمة، وبعث للسعي النافع، وهو مصدر للأمل، وواقية من الجهالة والغفلة, قال تعالى[هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ). 
وتدل الآية ومعاني التعليم على إمتلاك آدم العقل والحواس، من غير تعارض بينهما، ليكون طريقاً وآله للعبادة، وحجة على الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، ويساعد تعليم الأسماء في نشر الأخلاق الحميدة بين الناس.
وفي تعليم الله لآدم عليه السلام الأسماء وجوه:
الأول: انه لمنفعة آدم عندما كان في الجنة.
الثاني: لمنفعة آدم عندما يهبط إلى الأرض.
الثالث: تعليم آدم الأسماء لمصلحة آدم وذريته في الحياة الدنيا.
الرابع: تعليم آدم الأسماء نفع وسلام لآدم في الحياة الدنيا، وطريق إلى السعادة في الآخرة.
الخامس: جاء تعليم آدم الأسماء للإحتجاج به على الملائكة لقوله تعالى [انبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء].
السادس: جاء تعليم آدم الأسماء لتكون واقية من الفساد في الأرض.
السابع: إعمار الأرض بالعبادة وذكر الله تعالى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الفضل الإلهي على آدم وذريته ، فالنفع من تعليم الأسماء مطلق، وهو رحمة ونعمة من عند الله انعم بها على آدم وذريته.
أن أول أمر تلقاه آدم بعد خلقه هو التعليم والمعرفة ، وهو آية في إكرام الله للانسان , وحجة عليه في النشأتين .
التفسير الذاتي
ورد ذكر (آدم) في القرآن خمساً وعشرين مرة، كلها في خلقه، وسجود الملائكة له، والأوامر التي جاءت لذريته كما في قوله تعالى[يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ).
وهذه الآية أول آية في نظم القرآن يذكر فيها آدم بالأسم، وجاءت بالإخبار عن تعليم الله عز وجل له من غير واسطة، وفيه حجة على الكفار في نزول القرآن، وتعليم الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء من قبله بالوحي والتنزيل.
وقد جاءت الآية السابقة بذكر الخليفة في الأرض، أما هذه الآية فجاءت بذكر آدم عليه السلام على نحو التعيين، وبينهما عموم وخصوص مطلق بلحاظ أن الخليفة أعم من آدم عليه  السلام قال تعالى[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( )، وما ناله داود من الرتبة ناله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سيد المرسلين وإمام الناس.
ومن إعجاز القرآن ذكر آدم عليه السلام وإرادته بالذات وليس ذريته (بني آدم) ست عشرة مرة في القرآن منها خمس مرات في سبع آيات متتاليات من سورة البقرة، وذكرخمس مرات في سبع آيات متتاليات في سورة طه( ).
أي أن أربع عشرة آية متعاقبات من سورة البقرة وطه ذكرت قصة آدم عشر مرات، وباقي آيات القرآن ست مرات، وفيه توكيد لقصة خلق آدم وسجود الملائكة له،ودعوة الناس لإقتباس الدروس والعبر منها، ولم يرد لفظ (عرضهم) وموضوع عرض الأسماء على الملائكة في القرآن إلا في هذه الآية مما يدل على ما لها من الخصوصية وكيف أنها حجة على الملائكة في لزوم إكرام آدم، ومقدمة لتلقي أمر السجود له بالقبول والإمتثال، وهو نوع تخفيف عن الملائكة وشاهد على أن مصاديق اللطف الإلهي تشمل الملائكة أيضاً من غير أن يتعارض مع تعاهدهم لمنازل الطاعة لله عز وجل، قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]( ).
وجاء لفظ (ان كنتم صادقين) في القرآن سبعاً وعشرين مرة، ليس فيها خطابّ للملائكة إلا في هذه الآية الكريمة، وفيه بيان لموضوعية خلق آدم في السماوات والأرض، وما لموضوع وأحكام خلافته في الأرض من الشأن في العالم العلوي، والذي يجب أن يقابله بنو آدم بالشكر لله عز وجل بالطاعة والإمتثال للأوامر الإلهية، وإكتساب المعارف والعلوم التي تساهم في تثبيت كلمة التوحيد في الأرض، والإنتفاع العام الأمثل من كنوز السموات والأرض التي جاءت قبل آيتين [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
من غايات الآية
في الآية وجوه:
الأول: بيان خلق الإنسان وأوانه وانه من العدم، وأن الله عز وجل الذي خلقه وأن الملائكة سابقون لوجود الإنسان.
الثاني: حضور الملائكة خلق آدم عليه السلام.
الثالث: إقتران خلق آدم بالخلافة في الأرض، وأن صفة الخليفة للإنسان ملازمة له، وتدل على عظيم منزلته بين الخلائق، وفيه غاية التكريم والتشريف.
الرابع: الزجر عن الفساد والمعصية والقتل بغير حق.
الخامس: بيان الضرر العظيم من القتل وسفك الدماء.
السادس: يشمل سفك الدماء المنهي عنه الحروب المدمرة والقتل الجماعي، والتعدي على الأبرياء والعزل وسبيهم وقتلهم.
السابع: صحيح أن الآية جاءت بصيغة المفرد “يسفك الدماء” إلا أن المراد منه الجنس، فتدخل في الآية المعارك والقتال بين الجماعات والفرق والأمم، ويخرج بالتخصص القتال في سبيل الله فإنه ليس من سفك الدماء المذموم والمذكور في هذه الآية.
الثامن: الإخبار الإلهي عن حال الملائكة، وأنهم منقطعون إلى التسبيح وذكر الله والثناء عليه تعالى، فلقد مدحوا أنفسهم في كلام مع الله عز وجل، ونزل به القرآن مما يدل على أنه حق وصدق بالإضافة إلى ورود آيات أخرى تمدح الملائكة ، وتبين إخلاصهم في العبادة وإنقطاعهم إلى التسبيح وطاعتهم المطلقة لله تعالى.
التاسع: عدم علم الملائكة بخصائص الإنسان إبتداء وإستدامة فهم لم يعلموا بخلقه إلى أن أخبرهم الله عز وجل كما أنهم لا يعلمون كل شيء عن الإنسان ووجوه الحسن فيه، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَعلم آدم  الأسماء]
بعد الإخبار عن صيرورة خليفة لله عز وجل في الأرض على نحو الحصر والتعيين , جاءت هذه الآية لتبين خلق آدم وأن الله عز وجل علّمه الأسماء، فقول الملائكة لم يكن له موضوعية في خلق آدم وجعله خليفة في الأرض .
 والآية تبين أهمية العلم بالنسبة للإنسان وأن فضله ومنزلته تظهر به، وتدل على إستعداد الإنسان لقبول العلوم وأنواع المدركات.
وتخبر الآية أن علم آدم والملائكة علم كسبي، وهو مانع من الغرور وتدعو الآية إلى التواضع وإظهار معاني الخشوع والخضوع لله عز وجل.
ومع أن ما ورد في الآية السابقة كاف للإحتجاج على الملائكة وجعلهم يقرون ويسلمون بصيرورة خليفة لله عز وجل من البشر في الأرض إلا أن الله سبحانه لكرمه ولطفه وسعة رحمته وعظيم قدرته تفضــل على الملائكــة فأبان وأظهر لهم بديع صــنعه بوجود خليفة في الأرض وإستحقاق آدم لمراتب الخلافة والأهلية لها.
وهل تلك الأهلية نوعية لما نفخ فيه من روحه تلك النعمة المتوارثة، أم شخصية لأن التعليم تم مباشرة من عنده تعالى، بينما المعرفة نوعية من حيث القدرة البشرية وإمكانية الفهم والتلقي خاصة مع الإطلاع على الأقوال المعتبرة في تفسير تلك الأسماء وضميمة قول الملائكة بالإفساد وسفك الدماء.
الأقوى أنها نوعية مخصوصة، ومع هذا يبقى الشرف لآدم في المقام لتلقيه التعليم مباشرة والذي هو وحي كريم، ويمكن القول أنه لا تعارض بين الأمرين، فالأهلية كانت نوعية ظهرت بخلافة آدم في أحسن مصاديقها وليس حصراً.
إن تعليم الله تعالى لآدم الأسماء وعد إلهي كريم للإنسان وأمام الملائكة بأن الله تعالى يبقي العلم ملازماً للإنسان في وجوده في الأرض سواء على القول بأن الخلافة شخصية أو نوعية، فنعمة تعليم الأسماء باقية في الأرض، وتتجلى بأمور:
الأول: نعمة العقل عند الإنسان، وقدرته على التمييز بين الأشياء، والخير والشر، والحسن والقبيح.
الثاني: بعثة الأنبياء، ونزول الكتب السماوية، وما فيها من العلوم، وهي حصانة لأتباع الأنبياء من الأمم السابقة.
الثالث: نزول القرآن من عند الله كتاباً جامعاً للأحكام، ودستوراً باقياً إلى يوم القيامة، وإماماً يقود الناس نحو الخير والفلاح والفوز في النشأتين، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، تعاهد المسلمين لما علّمه الله عزوجل لآدم عليه السلام، وحفظ كلمة التوحيد في الأرض التي هي أسمى مراتب العلم.
خلق آدم
خلق آدم أمر يهم الناس جميعاً لأنه أبوهم مطلقاً، وأصل الإنسانية ومنه تفرعت هذه الأمم وتكاثرت على مر العصور، وهو نوع آية إعجازية تدل على وجود الصانع في إبتداء الخلق وتعاهد النسل وكثرة الذرية [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي انفُسِهِمْ]( )، ولم يكن خلق آدم منفصــلاً عن المخلوقات الأخرى وانما كان جزءً من الموجودات التي شاء الله أن تكون بعالم مترابط، ونظام متناسق.
لذلك روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: إن الله خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الشجر والماء والعمران والخراب يوم الأربعاء فتلك أربعة أيام، وخلق الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم( ).
إنه أمر يدل على الشأن العظيم خلق آدم وإفراده بذكر خاص ومتميز من بين الخلائق.
وورد عن عبدالله بن سلام: فخلق فيها آدم، أي آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة( ).
إنه نوع ملازمة بين بداية خلق الإنسان ونهاية وجوده على سطح الأرض وما سخره الله له.
بالإسناد عن سعد بن عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن في الجمعة خمس خصال: فيه خلق آدم،، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها ربه شيئاً إلا أعطاه الله إياه، ما لم يسأل إثماً أو قطيعة، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرّب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا رياح ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة)، وفي الخبر عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا سلمان أتدري ما الجمعة فيها جمع أبوك آدم ( ).
ولم يكن خلق آدم دفعة واحدة وإن كان الله عز وجل قادراً على ذلك ولكنه كان تدريجياً وعلى مراحل، كما تفضل سبحانه بخلق السموات والأرض في ستة أيام مع قدرته بخلقها دفعة واحدة لحكمته في الخلق، وليتعلم الناس الصبر من غير أن يتعارض هذا التدريج مع قوله تعالى [ انمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ]( ) فكل مرحلة منها تخلق وتظهر للوجود بالكاف والنون.
وبدأ الخلق التدريجي من ساعة إختيار طينة آدم، وروي عن الامام جعفر الصادق أنه قال: إن القبضة التي قبضها الله عز وجل من الطين الذي خلق منها آدم أرسل اليها جبرئيل أن يقبضــها، فقالت الأرض: أعوذ بالله أن تأخذ مني شــيئاً، فرجع إلى ربــه وقال يا ربّ تعوذت بك مني، فأرســل اليها إسرافيل فقالت مثل ذلك، فأرسل اليها ميكائيل، فقالت مثله، فأرسل اليها ملك الموت فتعوذت بالله أن يأخذ منها شيئاً، فقال ملك الموت واني أعوذ بالله أن أرجع إليه حتى أقبض منك( ).
وتظهر الرواية عزم ملك الموت على انجاز ما أمره الله تعالى به وإعطاءه الأولوية، ولكن ذلك لا يعني قصور الملائكة الذين رجعوا بسبب إستعاذة الأرض، وورد في الرواية أن أمر الله تعالى لملك الموت على الحتم، أي أن أمر الله تعالى إلى من تقدمه من الملائكة لم يكن على وجه الحتم والوجوب، وروي أيضاً عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالت الملائكة ” أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، يعنى من شأن إبليس .
فبعث الله جبرائيل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض أني أعوذ بالله منك أن تنقص منى شيئاً وتشينني فرجع ولم يأخذ وقال يا رب انها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها فرجع فقال كما قال جبرائيل.
فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وانا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لازباً، واللازب هو الذى يلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتى تغير وانتن وذلك حين يقول [مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ]( ) قال منتن( ).
وذات الطينة لم يخلق منها آدم عند إقتطاعها وانتزاعها من الأرض، إنما مرت بمراحل من التغيير من غير إستحالة أو تحول نوعي أو إستهلاك في مادة أخرى , ومقدمات للخلق.
 ( روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأسود، والأبيض، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب، ثم بُلَت طينته حتى صارت طيناً لازباً، ثم تركت حتى صارت حمأً مسنوناً، ثم تركت حتى صارت صلصالاً، كما قال الله تعالى [ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسأن مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ]( )( ).
وهذا الإختلاف الظاهر بين الناس في أعيان أشخاصهم وما يلحقها من الأعراض هو العلة التكوينية في إختيار طينة آدم من عموم الأرض لحكمة في الخلق، روى الصدوق عن ابن سلام انه قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خلق آدم من الطين كله أو من طين واحد ؟ قال : بل من الطين كله، ولو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضاً ، وكانوا على صورة واحدة . قال : فلهم في الدنيا مثل ؟ قال : التراب فيه أبيض وفيه أخضر وفيه أصفر وفيه أغبر وفيه أحمر وفيه أزرق ، وفيه عذب وفيه ملح وفيه خشن وفيه لين وفيه أصهب ، فلذلك صار الناس فيهم لين وفيهم خشن وفيهم أبيض وفيهم أصفر وأحمر وأصهب وأسود على ألوان التراب( ).
وبالإسناد عن حبة العرني عن علي قال: إن الله عز وجل خلق آدم من أديم الأرض فمنه السباخ ومنه الملح ومنه الطيب، فكذلك في ذريته الصالح والطالح( ).
وورد في الخبر أن الماء الذي صب على تلك الطينة كان مختلــفــاً بالعرض لأمــور تتعلق بخــلــقــة آدم لأن الله عز وجل أراد له أن يكون في أحسـن صورة وهــيـئــة، ومؤهــلاً للخــلافـــة في الأرض ، وقـادراً على العبادة بمصاديقها العقائدية والبـدنية والمالية.
قال تعالى [ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ]( ).
ومن الحسن وبديع الخلق التعدد في الهيئة واللون مع وحدة الجنس والسنخية.
والتقويم: الإستقامة وجعل الشيء على أفضل ما يكون من التأليف والهيئة.
وموضوع الآية حجة محل البحث على الإنسان وآية في نفسه وأصل خلقته تملي عليه ضرورة الشكر وإتخاذ دروب الطاعة، وعدم تسخير الأعضاء والأجزاء والجوارح في معصية الله، عن الإمام علي أن الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل وأمره أن يأتيه من أديم الأرض بأربعة طينات طينة بيضاء وطينة حمراء وطينة غبراء وطينة سوداء، وذلك من سهلها وحزنها، ثم أمره أن يأتيه بأربع مياه، ماء عذب وماء ملح وماء مر وماء منتن، ثم أمره أن يفرغ الماء في الطين، فجعل الماء العذب في حلقه، وجعل الماء المالح في عينيه، وجعل الماء المر في أذنيه، وجعل الماء المنتن في أنفه.
وفي علته وبيان منافعه جاء عن الامام جعفر الصادق انه قال: انما جعل الماء العذب في الحلق ليسوغ له أكل الطعام، وجعل الماء المالح في العينين إبقاء على شحمة العين لأن الشحم يبقى إذا وضع عليه الماء، وانما الماء المر في الأذنين فلئلا تهجم الهوام على الدماغ ومن ذلك انها إذا وصلت إلى الماء المر في الأذنين ماتت، فلو تعدى الماء المر وصل إلى الدماغ( )، والحديث بيان لسر من أسرار الخلق وإخبار عن آيات بديع صنعه تعالى وتفسير للآية الكريمة أعلاه.
وفي الحديث: (إن الله خلق آدم بيده ثم سواه قِبَلا)( )، أي بلا واســطة ومن غير أن يولي أمر خلقه أحداً من الملائكة، انه نوع إكرام للانسان ولكن الذي يجب أن لا يغفل عنه هو لزوم الشكر لهذا التشريف وإبرازه خارجاً بالإرتقاء في سلم العبادة والطاعة.
إن خلق آدم دليل على وجود واجب الوجود، ففي خلقه من طين برهان على أن الأسباب القريبة لخلقه حادثة وانه حادث يفتقر إلى الحيز والحركة والتغيير كما يؤكد التدرج في مراحل خلق آدم حقيقة أن الله عز وجل فاعل مختار بإعتبار أن المؤثر الموجب يستحيل تخلف أثره عنه، وأن سبق خلق آدم بوجود الأرض والطين يثبت أن آدم ممكن مسبوق بالعدم وليس بقديم، مثله مثل غيره من الخلائق، وورد: أن الله تعالى خلق ألف ألف آدم.
وقد جاءت آيات القرآن لتــؤكــد أن خلق الانسان من طين، ليكون أصــل الخلقة مدخــلاً كـريماً لإثبات حقيقة البعث والنشور.
وفي باب علة حــرمة أكــل الطــين ذكر أن آدم خلق منه، قال تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ).
وقد يسأل بعضهم عن حال الذين يموتون في الكواكب الأخــرى في حال هــجــرة الناس اليها وكيف يعادون إلى الأرض.
وقد لا تكون تلك الإعادة فورية بعد الموت ويمكن الإستشهاد بأمثلة موجودة منها ما يتعلق بحال الوفاة كالذي لا يدفن عند موته، وخروجه عن المألوف، أو بسبب سنن ملته أو يموت غرقاً ولا يخرج جسده من الماء، كذلك أولئك الذين قد يدفنون في غير الأرض فإنهم لابد وأن يعادون اليها قبل النشور ليكون منها بعثهم بالإضافة إلى وجود الملائكة النقالة الذين ينقلون بعض الموتى عند دفنهم، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَانا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا انا كُنَّا فَاعِلِينَ]( ).
أي أن أحكام النشور شاملة لسكان السماوات والأرض ، والإنتقال وإتخاذ غير الأرض مسكناً ثم مدفناً لا يمنع من إمتزاج العناصر وإعادة الأجزاء إلى أصولها.
ومن صــفات الله تعالى أنه مـريد أي أنه عالم بما يشتمله الفعـل من المصــلحة الداعـيــة إلى إيجاده وبما يخصص إيجاده في وقت دون آخـر، وجــهة دون أخرى، من غير تأثر بمولدات تلك الإرادة أو الإنفعــال بها كما عند الناس إذ ينالهم شوق أو نحوه يبعث إلى تحصــيل الفعل لأن علمهم كســبي إنطــباعـي، أما علم الله تعالى فهو حضوري ذاتي، وسابق للمعلوم.
وقيل لما نفخت الروح في آدم أتــتـه من قبل رأسه، ولعله لوجوه:
الأول: تشريف الرأس لمكان العقل.
الثاني: صلاح الرأس لبداية الحياة وجريانها في البـدن.
الثالث: قابلية الرأس لتلقي الروح.
الرابع: لأنه مركز الاحســاس العصبي.
وروي بالإســناد عن ابن مسـعود وغير ه من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه لما بلغ الحين الذي أراد الله عز وجــل أن ينفخ فيــه الروح، قال للمــلائكــة: إذا نفخت فيه من روحي فأسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله عز وجل له: رحمك ربّك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه إشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة.. الحديث( ),
 ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إبتداء ترتيب آيات القرآن بالمد لله بعد البسملة للدلالة على وراثة المسلمين للأنبياء.
وفي قوله تعالى [خُلِقَ الانسان مِنْ عَجَلٍ]( )، ورد عن ابن عباس انه قال: أراد بالإنسان آدم وانه لما بلغ الروح صدره أراد أن يقوم.
وفي إشارة إلى سجايا الإنسان وظهور العجلة على سلوكه وانه مجبول عليها، قيل أن العجل هنا هو الطين بلغة حميّر، ولكن معنى العجلة يحمل على ظاهره من غير نفي لإحتمال وجود ملازمة بين العجلة والخلق من الطين.
وقد ورد في الخبر انه مما أوحى الله إلى أبينا آدم عليه السلام: (أن المســتنبطين للعلوم عنــدي أفضــل من عمّار الأرض بالصنائع ومن إستنبط علماً ودوّنه في كتاب فهو بمنزلة آدم الصفي)( ).
وورد ايضاً أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام: (روحك من روحي وطبيعتك على خلاف كينونتي)، ولم يذكر الســند في كلا الخبرين ولا جهة الصدور، وهو أمارة ضعف فيهما.
صفة آدم
لسبق وتقدم زمان آدم عليه السلام يوصف جماله بأن يستحضر موضوع خلق الله تعالى له بيده، كما يتم تشبيه حسن نبي الله يوسف عليه السلام بحسن وبهاء آدم عليه السلام.
ومما لا يختلف فيه المليّون حسن وجمال يوسف وفيه كموضوع جرت قصص وأحاديث هي مدرسة في الموعظة، ويعتمد التشبيه الحسي والعقلي عندما يُراد وصف جماله وتقريبه إلى الأذهان، والتشبيه باب معروف في البلاغة باعتباره أول طريقة لبيان المعنى والدلالة على الطبيعة.
وهو في الإصطلاح مماثلة بين إثنين أو أكثر من خلال الإشتراك بصفة ما، يتحقق منها الغرض وقصد الإفهام، ويجري بين طرفين، المشــبه الذي يراد تمثيله وإلحاقه بغيره، والمشبه به الذي يراد أن يلحق به المشبه من خلال الوصف الذي يكون فيه المشبه به أظهر وأقرب إلى الأذهان منه بالمشــبه، عندما يراد وصف جمال يوسف يُشبّه بآدم ، بلحاظ البهاء والحسن الذي إمتاز وإتصف به آدم من بين البشر بأن خلقه الله عز وجل بيده، وجعله آية عظمى بين الملائكة وسكان السماوات.
وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم مع فاطمة عليها السلام في وصف علي عليه السلام: وأما ما قُلتِ أنزع عظيم العينين فإن الله خلقه بصفة آدم( ).
أي أن صفة آدم والتمثيل بها محط فخر وإعتزاز، ولعل في الشبه الظاهري دلالات عرفانية عديدة.
وفي حديث هشام بن العاص قال: بعثت انا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام إلى أن قال: فأقمنا ثلاثاً فارسل – أي هرقل – إلينا ليلاً، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتاً وقفلاً، فإستخرج حريرة سوداء فنشرناها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين، عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله، فقال أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعراً( ) إلى أن قال: ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة كصورة آدم كأن وجهه الشمس، فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف عليه السلام…الحديث( ).
ولقد كان آدم طويل القامة بما يفوق كثيراً المتعارف في هذه الأزمان، بالإسناد عن الإمام جعفر الصادق قال:” ما بكى أحد بكاء
ثلثة ، آدم ويوسف وداود ، فقلت : ما بلغ من بكائهم ؟ قال : اما آدم فبكا حين أخرج من الجنة وكان رأسه في باب من ابواب السماء فبكى حتى تأذى به أهل السماء ، فشكوا ذلك إلى الله فحط من قامته” الحديث( ).
وفي رواية وكان يتأذى بالشمس فحط من قامته( )، أي أن النقص في طوله كان لمنفعته بل وحاجته ويتناسب مع وجوده على سطح الأرض، وربما كان الطول الزائد ملائماً لأحوال المعيشة والإقامة في الجنة.
وبالإسناد عن أبي بن كعب قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أباكــم آدم كان طُوالاً كالنخــلة السَّحوق، ستين ذراعاً، كثير الشــعر، موارى العــورة، وانه لما أصاب الخطيئة بدت له سوءته فخرج هارباً في الجنة، فتلقاه شجرة، فأخذت بناصيته، وناداه ربّه، أفراراً مني يا آدم، قال: لا والله ياربّ، ولكن حياءً منك مما قد جنيت، فأهبطه الله إلى الأرض…..” الحديث( ).
وبالإسناد عن مقاتل بن سليمان عن الامام جعفر الصادق انه قال سُئل عن طول آدم وحواء حين هبطا إلى الأرض، فقال: وجدنا في كتاب علي أن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض، أن رجليه كانا بثنية الصفا ورأسه دون أفق السماء وانه شكا إلى الله.
لقد ورد في الحديث أن الله عز وجل خلق آدم على صورته، ولا بد من إعادة الهاء في (صورته) إلى غير الله عز وجل لانه ليس بجسم ولا يوصــف بكيف وإن إشتبه على قوم بهذا الحديث ، وهي تعود إلى آدم الذي لم يتدرج في الخلق من نطفة ثم علقة ثم مضغة مروراً بمراحل النمو الأخرى بما فيها سن الطفولة والصبا قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، مما يدل على أنه خلق بديع.
وسئل الإمام الرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله خلق آدم على صورته، فقال: لقد حذفوا أول الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول لصاحبه قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك، فقال: يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فان الله تعالى خلق آدم على صورته.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: انها صورة محدثة إصطفاها الله وإختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة والروح إلى نفسه فقال: [وَنَفَختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي]( )، وقد ذكرت وجوه عديدة للحديث، بلغت في الأصول المهمة عشرين وجهاً.
كما تظهر الآية الكريمة المنزلة السامية للعلم وما يُنال به من المراتب ذات العز والرفعة وإستحقاق الإكرام، وفي الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم أقوال منها:
الأول: إن الله سبحانه علمه جميع الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين والأطعمة والأودية، وإستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا، وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير( ).
الثاني: إن الله تعالى علمه أسماء الملائكة وأسماء ذريته، عن الربيع وابن زيد( ).
الثالث: بالإسناد عن ابن عباس قال علم الله تعالى آدم الأسماء كلها وهى هذه الأسماء التى يتعارف بها الناس انسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها( ).
الرابع: إن الله تعالى علّمه القاب الأشياء ومعانيها وخواصها، وهو أن الفرس يصلح لماذا، والحمار يصلح لماذا ( ).
الخامس: روي عن الإمام جعفر الصادق انه سئل عن هذه الآية فقال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط مما علمه) ( )، وعنه ايضاً في الآية قال: أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض.
وورد عن داود بن سرحان قال: كنت عند الإمام الصادق فدعا بالخُوان فتغذينا، ثم دعا بالطشت والدستشان( ) فقلت: جعلت فداك، قوله تعالى [ وَعلم آدم الأسماء كُلَّهَا ] الطست والدستشان منه؟ فقال: الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا.
السادس: عن ابن عباس قال: علمه اسم كل شئ( )، وعن الامام الصادق قال: علمه أسماء الأشياء كلها.
وتفيد الآية أن اللغة جاءت بتعليم مباشـر من الله تعالى وأنها من أول ما رزق الله عز وجل آدم: (وقال الشيخ الطوسي: وظاهر الآية وعمومها يدل على انه علمه جميع اللغات وبه قال الجبائي والرماني)( ) فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا، تكلم كل قوم منهم بلسان ألفوه وإعتادوه وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه).
وعن الرازي: قال الأشعري والجبائي والكعبي اللغات كلها توقيفية، بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني)( ).
ولكن ظاهر الآية لا يدل عليه، والقدر المتيقن هو تعليم آدم ما يصح به التعبير عن المعنى من الالفاظ المناسبة وباللغة التي إعتادها الملائكة وما يتخاطبون به، ويمكن أن تكون تلك اللغة هي العربية، وهي لغة أهل الجنان.
وقيل أن اللغات جميعاً انما سمعت من آدم، وعنه أخذت، وهو أمر يحتاج إلى دليل أو أمارة، خاصة وأن الإستقراء التأريخي بخلافه وفيه زيادة عن الحاجة وإن كان كفضل من الله تعالى على عبده ونبيه الذي خلق بيده والناس أمراً غير مستبعد.
وفي الآية إعجاز وهو أن الله عز وجل علم آدم لغة الخطاب وأسماء الأشياء وجعله يعيها ويحفظها، وقال البلخي: ويجوز أن يكون أخبره بها فوعاها في وقت قصير بما أعطاه الله من الفهم والحفظ.
ولكن ليس في الآية ما يدل على أن وقت التعليم كان قصيراً، وفيه أيضاً إشارة إلى أهمية الاسم وموضوعيته في العلوم وفي حقائق الأشياء وأن كان الاسم غير المسمى، فالآية تأسيس لعلم خاص بالأسماء .
ومن الآيات تعدد أسماء القرآن في القرآن، إذ ورد ذكره باسم القرآن والكتاب والفرقان والذكر والروح وغيرها.
بحث أصولي
من النعم الإلهية على الإنسان وضع الألفاظ أزاء معاني خاصة بها، ليكون بينهما إرتباط خاص يترشح عن التخصيص وكثرة الإستعمال والرسوخ في الوجود الذهني، للدلالة على أن هذا الإرتباط رشحة من رشحات نعمة العقل التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان.
ومن الآيات في خلق الإنسان إقتران وضع الألفاظ للمعاني بساعة خلقه، وعدم تخلفه عنه، مما يدل على حاجة الإنسان للوضع والإرتباط بين اللفظ والمعنى والعلقة بينهما، وهذه الحاجة مصاحبة للإنسان إلى يوم القيامة.
فمن فضل الله تعالى على الأجيال المتعاقبة من الناس وضع الألفاظ أزاء معانيها، وتعليم آدم الأسماء كلها، وإن نفذ إبليس من هذه الجهة وأغوى آدم وحواء على الأكل من الشجرة، فلولا لغة التخاطب والتفاهم بينهم قد لايستطيع إبليس إغواء آدم وحواء بذات الموضوع، مما يدل على لزوم تعاهد حفظ نعمة الوضع بذكر الله والعبادة والإحتراز من اغواء الشيطان، ومنع طغيان وشيوع الألفاظ التي يترشح عليها القبح من معانيها.
لقد أراد الله تعالى بتعليم آدم الأسماء أن يكون هذا التعليم مناسبة لذكره ، لذا كانت أول كلمة نطق بها آدم هي [الْحَمْدُ لِلَّهِ]، فقد ورد عن ابن مسعود وغيره فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله، فقال الحمد لله، فقال الله عزوجل رحمك ربك( ).
مما يدل على أن آدم تعلم أيضاً من الملائكة معاني الثناء والشكر لله تعالى ومناسبته، ولكن هذا التعليم معارض بما ورد عن ابن عباس أن قول آدم “الحمد لله” كان بإلهام من الله إذ ورد عنه انه قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال الحمد لله رب العالمين بإلهام الله فقال يرحمك الله يا آدم( ).
 وكذا ورد عن محمد بن اسحق قال:انه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس، فقال الحمد لله.ومع هذا فإن آدم تعلم من الملائكة، ولا تعارض بين الإلهام والتلقي من الملائكة، وقد يتحدان وهو من أسرار سكنه في بداية خلقه في الجنة.
ولا تصل النوبة لقاعدة: مع التعارض يكون التساقط) إلا مع وجود مرجح، لأن الأصل هو الإلهام والفضل من عند الله تعالى، ولأن هذه الأخبار ثروة علمية كالوقف لكل المسلمين .
لقد أراد الله عز وجل من وضع الألفاظ إمضاء الجزاء والثواب ، فمع اللفظ والنطق الذي يفيد معنى مخصوصاً عند السامع يأتي الفضل الإلهي ، والوضع من وجوه الإبتلاء والإختبار في الحياة الدنيا، وهو من مقومات الخلافة في الأرض وقد ذكرنا في الجزء الأول نظرية جديدة في الإعجاز القرآني بالملازمة بين الفاظ القرآن والوجود الذهني( ).
وأختلف في إبتداء وأصل وضع الألفاظ أزاء معانيها على أقوال:
الأول: إن الله تعالى هو الواضع، وقال به جماعة منهم أبو الحسن الأشعري ، وهو على وجوه:
الأول: إن الله تعالى لقّن آدم اللغات، ويمكن أن يستقرأ هذا القول من قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] وأن اللغات تفرعت من آدم، ولكنه لم يثبت، خصوصاً مع تعدد اللغات , ومنها ما ظهر وشاع بعد آدم بـأجيال.
الثاني: إن الله تعالى وضع الإلفاظ أزاء معانيها، كما وضع الأحكام على متعلقاتها وضعاً تشريعياً.
الثالث: هداية الله تعالى للناس باظهار تعاهدهم بالألفاظ وثبوت نسبتها وعلاقتها بالمعاني ، وهو من اللطف والحكمة الإلهية ومن عمومات قوله تعالى [ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )، خصوصاً مع لحاظ المعنى وإرادة الجنس والإستغراق بالألف واللام في (الناس) من غير أن يتعارض مع إرادة القضية الشخصية، وخلق الإنسان في بدنه وجسده ونفعه، إذ أنعم الله تعالى على الإنسان بنعمة النطق، والتفاهم والإستئناس وقضاء الحوائج الفردية والعامة بالوضع والإرتباط الخاص بين الألفاظ ومعانيها، قال الأخطل:
        إن الكلام لفي الفؤاد وانما
            جعل اللسان على الفؤاد دليلاً( ).
الرابع: تفضل الله بوضع الألفاظ أزاء معانيها بالوحي إلى الأنبياء الذي يتضمن البيان وتعيين المعاني المقصودة من الألفاظ بما يمنع اللبس والترديد.
الخامس: يأتي الوضع بالهام من الله تعالى إلى البشر، والمراد من الإلهام أعم من الوحي للأنبياء، بل هو الهداية والتوفيق للجماعة والأمة، وقد أنعم الله تعالى على النحل وعلّمها كيفية المعيشة فكانت ولا زالت تعيش بنظام دقيق يقتبس منه القائد والسياسي والملك مسائل في شؤون التدبير، قال تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أن اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا] ( ).
السادس: إيداع اللغة في طباع الناس، وجعلهم مؤهلين بالفطرة للوصول إلى لغة للتفاهم بينهم، والله تعالى لاتستعصي عليه مسألة.
الثاني: الواضع لكل لغة هو شخص من البشر بمبادرة شخصية أو نتيجة للشأن والمقام الخاص له بين قومه إذ يتبعونه في الوضع ويقومون بتثبيت الألفاظ أزاء معانيها بالمزاولة والإستعمال، وقيل واضع اللغة العربية هو يعرب بن قحطان ، ومنه إشتق إسمها .
ويجتهد الواضع بوضع ألفاظ مخصوصة أزاء معاني معينة حتى يشيع هذا الوضع وينشره بين قومه، وإذا ما إحتاجوا إلى وضع لفظ أزاء معنى وموضوع آخر رجعوا اليه كما يرجع في هذا الزمان أحياناً إلى المجمع اللغوي والعلمي لإيجاد المناسب من الألفاظ الإصطلاحية أزاء معاني مستحدثة.
الثالث: جاء وضع اللغة بجهود وتعاون نفر من الناس يجمعهم المكان أو النسب إذ جعل الله عز وجل عندهم القدرة على التخاطب وأنعم عليهم بنعمة النطق، ويدركون الحاجة إلى الجماعة والإتحاد وفك الخصومة بلغة للتفاهم بينهم، وقد يقوم أكثر من واحد منهم بإختيار لفظ مخصوص لذات المعنى مما يجعل معه التعدد في الألفاظ ولكن أحد تلك الألفاظ هو الذي يبقى في الإستعمال بسبب وجود راجح وعلقة مناسبة للمعنى، أو أثر منزلة وشأن الذي وضعه، أو كثرة الذين بادروا إلى إستعماله وغيرها من الأسباب.
الرابع : دلالة الألفاظ على معانيها بالذات ومن غير وضع واضع، كدلالة الدخان على النار، وضياء النهار على طلوع الشمس، ولكنه خلاف الواقع ومايحصل من التباين في اللغات خصوصاً عند تعاقب الأجيال.
الخامس: التعدد في الوضع فمن الألفاظ ماتوارثته الأمم من الوحي والتنزيل، وهو على وجوه :
الأول : وضع لأسماء الأشياء والمعاني وضعه شخص معين.
الثاني :  ما وضع من قبل أشخاص متعاقبين.
الثالث : ما تفاهم وتعاضد على وضعه جماعة.
السادس: التفصيل في الألفاظ ومعانيها، فكان تعليم الله تعالى لآدم عليه السلام لخصوص الأعلام الشخصية، وهذا التعليم قاعدة لإشتقاق الأفعال والحروف.
السابع: جاء الوضع نتيجة الحاجة والتجربة والوجدان، ولم ينحصر بزمان أو شخص أو جيل مخصوص.
الثامن: إن اللغة التي علمها الله تعالى لآدم عليه السلام هي لغة توليدية تتولد عنها اللغات الأخرى، والله واسع كريم، أو أن تلك اللغة أساس للتفاهم وهي قابلة لدخول ألفاظ عليها في ذات المعاني ليس من باب المجاز والنقل، بل للسعة في الوضع بما يحصل معه إستقرار اللغات، فتكون اللغة التي علّمها الله لآدم هي اللغة الأم، وتفرعت عنها اللغات الأخرى.
وتحتمل اللغة التي علمها الله عزوجل آدم عليه السلام من جهة البقاء والأثر وجوهاً:
الأول:بقاؤها موجودة بين لغات الأمم، فهي كل طبيعي ومقسم لا بشرط يتغشى اللغات الأخرى.
الثاني: تفضل الله تعالى وعلم آدم اللغات كلها، ثم أخذت كل أمة واحدة منها، لتكون اللغة عنوان الصلة بين آدم عليه السلام وبين الأمم ويكون نفع وأثر تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء ظاهراً على الناس كلهم في اللغات التي يتخاطبون ويتفاهمون بها والتي تم وضعها على نحو تدريجي.
الثالث: إنقراض اللغة التي علمها الله تعالى آدم عليه السلام، وحلت بديلاً لها لغات من وضع البشر.
الرابع: تلقي الأنبياء بالوحي لذات الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم عليه السلام فضلاً منه تعالى.
الخامس: بقاء ذات اللغة التي علم الله تعالى الأسماء بها، لتبقى لها قدسية وشأن خاص.
والصحيح هو الخامس، فاذا أنعم الله تعالى نعمة على الانسان فإنه سبحانه أكرم من أن يرفعها، وتفضل الله تعالى بحفظ هذه اللغة بالقرآن وهو الكتاب الباقي إلى اليوم القيامة .
 ومن إعجازه حفظه اللغة التي نزل بها، إذ يشتاق ويسعى الناس من مختلف الأجناس لتعلم اللغة العربية بإعتبارها لغة القرآن، والتي يحتاجها المسلم عدة مرات في اليوم في صلاته، وليس من لغة يحتاجها الإنسان مثل حاجته إلى اللغة العربية سواء على القول بأن الكفار مكلفون بالفروع وهو المشهور والمختار ، أم ليسوا مكلفين بها، لبروز الحاجة العملية المتجددة للمسلمين لتعلم العربية والتلفظ بها، ومنها تلاوة الآيات على نحو الوجب في الصلاة اليومية .
 والقرآن يمنع من نسيان هذه اللغة بعد تعلمها، وهو مدرسة يومية متجددة لتلقي الدروس في اللغة العربية.
ومن الآيات أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة في الآخرة، وذكر أن اللغة التي تعلم بها آدم الأسماء هي اللغة السريانية، وورد أن أول كلمة نطق بها آدم هي [الْحَمْدُ لِلَّهِ] وفي رواية ابن مسعود أن الملائكة لقنته هذه الكلمة عندما عطس ، وهي كلمة عربية إلا أن يراد من النصوص ذكر الترجمة والمعنى لها بالعربية، ومع الشك في إرادة ذات اللفظ أو ترجمته ومعناه، فالأصل هو ذات اللفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ] وباللغة العربية.
لقد جاء تعليم الله تعالى آدم عليه السلام الأسماء بلغة مخصوصة، وكانت هي لغة التخاطب عندما هبط الأرض، وتوارثها منه أبناؤه، إلا أن كثرة النسل وتعدد الأمصار والتباعد بين الناس والأمم، جعل الأمم تخترع لنفسها لغات، وهو لايتعارض مع أصل اللغة بل أن تعليم الأسماء لآدم آية من بديع صنع الله، ولعل فيه بشارة عودة الناس إلى التكلم بلغة واحدة ، خصوصاً مع حلول زمان العولمة ،لتكون لغة القرآن هي الأرجح لحاجة الناس إليها وإمكان الإستغناء عن أي لغة إلا العربية، إذ أن حاجة كل مسلم ومسلمة لها متجددة في اليوم والليلة .
في سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية، وفيها وجوه منها:
الأول: الصلة بين آية [فَسَوَّاهُنَّ] ( )، وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية أعلاه بالضمير (هو) وإبتدأت هذه الآية (وعلم آدم) والفاعل في الآيتين هو الله عز وجل.
الثانية: بيان تعدد النعم الإلهية على آدم وذريته.
الثالثة: بيان إكرام الله عز وجل لآدم وذريته بأن جعل خلق ما في الأرض من أجلهم وقبل أن يخلقوا، ثم تفضل وعلم آدم الأسماء كلها.
الرابعة: لم تنحصر النعم الإلهية التي تنتظر الإنسان بما في الأرض، بل في السماء أيضاً بأن جاء خلق آدم في السماء وبعلم من سكانها وهم الملائكة.
 الخامسة: إن الله عز وجل يعلم بخلق آدم قبل ان يخلقه وأن ذريته ستعمر الأرض لأنه سبحانه جعل الناس ومعاشهم وعبادتهم العلة الغائية لخلق الأرض قبل أن يسوي السماء سبع سماوات , وفيه نوع إكرام لهم .
السادسة: جمعت الآية أعلاه خلق السموات والأرض، وجاءت هذه الآية في موضوع يخص سكانهما معاً.
الثاني: الصلة بين آية [خَلِيفَةً]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: ليس من فترة بين إخبار الله عز وجل الملائكة بجعل خليفة في الأرض وبين تعليم آدم الأسماء.
 ويحتمل الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: جاء إخبار الله للملائكة بجعل خليفة في الأرض قبل خلق آدم ونفخ الله فيه من روحه.
الثاني: جاء الإخبار عن الخليفة بعد خلق آدم.
الثالث: الملازمة بين خلق آدم وإخبار الله للملائكة بجعله خليفة في الأرض.
 الظاهر هو الأول لأن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم جاء متقدماً على خلقه قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
الثانية: تعليم الله عز وجل آدم الأسماء، من مصاديق خلافته الأرض.
الثالثة: جاءت هذه الآية بذكر (آدم) بالإسم، بينما ذكرته الآية أعلاه بصفة (خليفة) وهو تشريف عظيم لآدم، بأن تسبق صفته إسمه.
الرابعة: التباين الموضوعي بين قول الله وقول الملائكة في الإنسان، فقد نظر الملائكة للفساد وسفك الدماء الذي يفعله شطر من ذرية آدم.
فبين الله عز وجل للملائكة تعلم آدم الأسماء ومرتبته في الكسب والتحصيل، وما تدل عليه من إزاحة أسباب الغشاوة وآثار النفس الغضبية والشهوية عند ذريته.
الخامسة: تكرار لفظ الملائكة في الآيتين ، فهم شهود لخلق آدم وإكرامه من الله عز وجل.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية [قَالُوا سُبْحَانَكَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى:ذكرت هذه الآية قول الله للملائكة، وذكرت الآية التالية رد الملائكة.
الثانية: بيان لغة الخضوع والخشوع التي يتصف بها الملائكة (قالوا سبحانك).
الثالثة:إشتراك آدم والملائكة بالتعليم من عند الله عز وجل، فهو الذي يتفضل ويعلم أهل السماوات والأرض.
الرابعة: تقدم آدم في العلم مرتبة على الملائكة مع تأخر زمان خلقه عن خلقهم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( )  وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد موضوع الآيتين بخصوص أسماء الأشياء التي سأل الله عز وجل عنها الملائكة.
الثانية: بيان الوظائف الغيرية لتعليم آدم الأسماء، وأن منافعها أعم من أن تنحصر بقضية عين شخصية، أو أبناء آدم الصلبيين أو ذريته مطلقاً، بل تشمل الملائكة أيضاً.
الثالثة: ثناء الله عز وجل على نفسه وأنه يعلم الغيب , وتجلى في المقام بقيام آدم بتعليم الملائكة الأسماء.
الرابعة: بيان نعمة العقل وأثر نفخ الروح عند آدم بين حفظ الأسماء وقام بالنطق بها وتعليمها الملائكة.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [اسْجُدُوا لآدَمَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: بعد تعليم آدم الملائكة الأسماء، جاء أمر الله لهم بالسجود له، وكأن من نواميس السماء سجود المتعلم للمعلم.
الثانية: يحتمل هذا السجود وجهين:
الأول: ترك الملائكة لإنكار جعل خليفة في الأرض.
الثاني: عدم التعارض بين الإنكار والسجود لجهات:
الأولى: التباين في المتعلق، فالإنكار خاص بشطر من ذرية آدم الذين يفسدون في الأرض، وأما السجود فهو خاص لآدم، وجاء إمتثالاً لأمر الله عز وجل.
الثانية: جاء إنكار الملائكة لأن الجملة خبرية، بإخبار الله عن جعل خليفة في الأرض، أما السجود فهو جاء لجملة إنشائية وصيغة الأمر من عند الله الذي يحمل على الوجوب.
الثالثة: الآية من عمومات قوله تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، ولا تعارض بين الوجهين.
الرابعة : بعد تعليم آدم الأسماء وقيامه بتعليم الملائكة بها جاء الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم، وفيه بيان لمنافع نعمة العلم، ودعوة الناس للتحصيل والكسب، والإرتقاء في المعارف الإلهية.
فضل العلم
ورد الفعل (علّم) بصيغة الماضي في القرآن أربع مرات، كلها منسوبة في فعلها إلى الله تعالى، ويقع الفعل على الإنسان أي أن التعليم جاء من عندالله تعالى إلى الإنسان وهو على قسمين:
الأول: القضية الشخصية، والذي جاء في تعليم الله تعالى لآدم الأسماء كما في هذه الآية.
الثاني: القضية النوعية، إذ جاء التعليم لجنس الإنسان، وجاءت به الآيات الثلاثة الأخرى وهي:
الأولى: قوله تعالى [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القرآن] ( )، وفيه آية بأن الله عزوجل أنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وعلّمه إياه، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  على الأنبياء الآخرين.
والتعليم غير التنزيل، والتعليم التبين وما يصير به الإنسان عالماً، وجاء بعد تعليم القرآن ذكر خلق الإنسان وإخراجه من العدم إلى الوجود(عن ابن عباس: والمراد بالإنسان هنا آدم) ( ) .
 فمع تقدم زمان خلق آدم على نزول القرآن، فقد جاء في الآية متأخراً عنه، لبيان موضوعية تعليم القرآن.
وهل يفيد الجمع بين الآيتين أعلاه أن المراد من الأسماء في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] أنه تعليم القرآن وآياته، الجواب لا دليل عليه، والأخبار بخلافه لأنها تشير إلى أسماء الأشياء والأعيان والأشخاص، نعم يدل الجمع بينهما على إتحاد موضوع التعليم فما علّمه الله تعالى آدم هو في القرآن، لبيان فضل القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعظيم رحمة الله تعالى بالناس.
الثانية:قوله تعالى [الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] ( )، أي أن الله تعالى علم الإنسان الكتابة بالقلم، ولم يرد في القرآن أن الله تعالى علّم انساناً غير تعليمه لآدم وإن كان الوحي والتنزيل كله تعليم، ولعل فيه إشارة إلى تعليم الله تعالى لآدم الكتابة، بلحاظ أن المراد من القلم وسيلة كتابة الإنسان، وليس المراد القلم كآلة للكتابة.
بتقدير حذف , والمراد (الذي علم الكتابة بالقلم) لتكون كتابة الإنسان بالقلم نعمة عظيمة لما فيها من البيان والحفظ والتوثيق، بالإضافة إلى أصل خلق الإنسان بحيث يستطيع أن يوظف يده في الكتابة، ويجد الصلة بين لفظ الحرف ورسمه ومعناه.
ففي الوضع تكون هناك علقة بين وضع الألفاظ وبين معانيها، أما في الكتابة فيضاف أمر ثالث وهو رسم الحروف والكلمات من غير إخلال بالوضع بل هو في طوله.
وفي الكتابة منافع دنيوية وأخروية، وفي المراد من الكاتب في المقام  وجوه:
الأول: آدم عليه السلام أول من كتب، عن كعب.
الثاني:المراد إدريس، وهو أول من كتب، عن الضحاك.
الثالث:كل نبي كتب بالقلم، لأن الكتابة بتعليم من الله تعالى( ).
وقال الطبري: وكان آدم مع ما كان الله عزوجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه وجعله رسولاً إلى ولده وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم عليه السلام بخطه علمّه إياها جبرائيل عليه السلام( ).
وقد وردت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن آدم كان نبياً، وبالإسناد عن أبى ذر الغفاري قال : دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده فجلست إليه فقال يا أبا ذر إن للمسجد تحية وأن تحيته ركعتان فقم فاركعهما فلما ركعتهما جلست إليه.
فقلت يا رسول الله إنك أمرتنى بالصلاة فما الصلاة قال خير موضوع إستكثر أو إستقل ثم ذكر قصة طويلة قال فيها.
قلت يا رسول الله كم الأنبياء.
قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قال قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك، قال ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً يعنى كثيراً طيباً قال قلت يا رسول الله من كان أولهم قال آدم، قال قلت يا رسول الله وآدم نبى مرسل قال نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلاً.
ونسب الطبري إلى القيل إنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة( ).
وفيه إشارة إلى أن آدم عليه السلام قد تعلم الكتابة وانه تلقى من الله الصحف، وذكر الطبري بالإسناد عن أبى ذر الغفاري قال قال لى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يا أبا ذر أربعة يعنى من الرسل سريانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو أول من خط بالقلم وأنزل الله تعالى على خنوخ ثلاثين صحيفة.
ولكنه ذكر بذات الإسناد وعن أبي ذر الغفاري قال:  قلت يا رسول الله كم كتاب أنزله الله عزوجل قال مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة( ).
إلا أن يقال أن التنزيل أعم من الكتابة ويكفي فيه القراءة، ولا يتعارض وصف آدم بالسريانية بمعرفته وتكلمه العربية سواء بالجمع بين اللغتين وأن لغة العلم هي العربية، أو أن الوصف غير اللسان، بالإضافة إلى التقارب بين تلك اللغات آنذاك كما يظهر في اسم شيث بن آدم، فقد ورد عن ابن عباس قال ولدت حواء لآدم شيثاً وأخته حزورا فسمى هبة الله إشتق له من هابيل قال لها جبرائيل حين ولدته هذا هبة الله بدل هابيل.
وهو بالعربية شث.
وبالسريانية شاث.
وبالعبرانية شيث.
وإليه أوصى آدم وكان آدم يوم ولد له شيث ابن ثلاثين ومائة سنة( ).
ومن الآيات أن يأتي قوله تعالى [وَعلّم]مرة في سورة البقرة، وثانية في سورة الرحمن، ويأتي مكرراً في آيتين متعاقبتين في سورة العلق لتتضمن الحث على القراءة وبيان نعمة القراءة على الإنسان، وموضوعية أحكام الدين والقواعد الشرعية، ليكون أصل العلوم كلها من عند لله، مثلما خلق الله تعالى ما في الأرض للناس لقوله تعالى [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ]( ). وجعل الآخرة دار الجزاء، فإنه سبحانه علّم الإنسان أمور الدين والدنيا، لينتفع من الدنيا بالعلم، ويتخذه وسيلة لجني الثمار في الآخرة بالإقامة الدائمة في النعيم .
 وسخّر الله القلم نعمة إضافية، غيرية ، إذ أن القلم ليس جارحة من جوارح الإنسان بل هو آلة خارجية يستعملها الإنسان لتكون بديلاً عن الكلام وأطول منه عمراً، وبه تكتب الوصايا وتحفظ العهود، وتدون الديون والمواثيق وتذكر الآجال، وتختم الشهادة، وقال أبو تمام في أبيات في وصف القلم عند مدح أحد الأمراء:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
                                     وأري الجنى اشتارته أيد عواسل( ).
والآرى: ما لزق من العسل في جوف الخلية، واشتارته استخرجته، وعواسل: جمع عاسلة، أي مستخرجة العسل، وقال الشريف المرتضى: وأجمع العلماء أن هذه الأبيات أحسن وأفخم من جميع ما قيل في القلم( ) .
 ولكن الأحسن والأفضل ما يبيّن فضل الله تعالى في نعمة القلم على الناس بأن يأتي الشعر حاكياً ومبيناً بعذوبة ونظم وجوهاً من هذه النعمة العظيمة على الناس ، والنقاش في قوله ( أجمع العلماء ) فلا دليل على ثبوته، كما هو في عدد من إجماعات السيد المرتضى في الفقه التي لا يؤخذ بها لإرادة معنى خاص منها، كما لو كان يريد إجماع علماء زمانه.
لقد أكرم الله تعالى آدم بأن جعله خليفته في الأرض، وأول ما منحه العلم لتتجلى فيه معاني الرحمة والقدرة الإلهية، فالله تعالى يهب خليفته أفضل شئ في الوجود، وهو العلم وهو نوع وجود، والموجود أشرف من المعدوم، إذ ينقسم الناس بلحاظ القضية الشخصية إلى قسمين :
الأول:العالم.
الثاني:الجاهل.
ومن البديهيات أن العالم أشرف وأفضل من الجاهل، ولا تنحصر منافع العلم بحامله، بل هو ضياء ينير الطريق للآخرين، ويدرأ عنهم ظلمة الجهل، ويحجبهم عن المهالك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جعلها الله عز وجل واجباً، وبالأسوة الحسنة وإقتداء الناس بالعالم.
ومن الآيات في خلق الإنسان أن منحة العلم لا تنحصر بآدم عليه السلام، بل هي نعمة أنعم الله تعالى بها على الناس سواء فيما توارثوه من آدم عليه السلام، أو ما تلقاه الأنبياء من عند الله تعالى بالتنزيل والنبوة، قال تعالى [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، وقال الله تعالى في يوسف [وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ] ( ).
فجاء علم يوسف عليه السلام بتأويل الرؤيا ليكون سبباً لخروجه من السجن، ومقدمة لتوليه الحكم واللقاء بالأهل، ومناسبة لنجاة الناس من الموت جوعاً لتكون لهم عبرة وموعظة، وحجة في دعوتهم للإسلام.
وعلّم الله تعالى داود صناعة الدرع، قال تعالى [وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ]( )، والمراد الدرع، وقال قتادة: (كانت صفائح فأوّل من سردها وحلقها داود ، فجمعت الخفة والتحصين) ( )، وعلّم الله تعالى سليمان منطق الطير، وفي التنزيل حكاية عن سليمان [وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْر]( ).
فكان سليمان يفهم المعاني والقصد من صوت الطير وإن ظهر للناس بوتيرة واحدة ليكون كلام النملة وتوثيقه السماوي في القرآن مدرسة في المعارف وبشارة معرفة الإنسان بشطر من كلام الطير لذا جاء القول على لسان سليمان [عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْر] ولم تقل الآية (علمناه منطق الطير).
ومن الإعجاز في كلام النملة انها نادت بحرف النداء والتنبيه (يا أيها) وجاء كلامها بصيغة العموم الإستغراقي المتوجه إلى النمل جميعه من غير إستثناء مما يدل على أن النمل يسمع صوتها، وأظهرت الدراسات الحديثة أن النملة تقوم بتضخيم الإشارة الصوتية القادمة إليها كما هو الحال في أجهزة الإستقبال الحديثة.
وإبتدأت كلامها بالأمر لأن الخطر داهم النمل بسرعة وبينت مضمون الأمر وما يكفي للسلامة [ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ] ( )، ثم نهت وبينت الضرر من عدم الإمتثال للأمر [لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ]وجاءت بالخاص (سليمان) لبيان مسؤولية ووظائف الملك والقائد وأن ما يفعله جنوده ينسب له، ثم جاء بصيغة العموم [وَجُنُودُهُ] لمنع الإستخفاف بالأمر أو الظن بأن القضية شخصية ، وأخبرت عن إقرارها بعدل سليمان ولكن هذا العدل لايمنع من تلف النمل تحت حوافز الخيل عند مرور الجيش على وادي النمل، فقالت [ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] فلم يعلمون بانكم أمة تهلكون لما فعلوه ، لإرادة تنزيه مقام النبوة ورضا عالم الحيوان عن العدل والإنصاف عند الأنبياء وأهل التوحيد ، وقد يكون معناه أن الجنود لا يلتفتون في سيرهم إلى هلاك النمل، كما هو متعارف عند الإنسان.
وقيل أن سليمان سمع كلام النملة على مسافة ثلاثة أميال، وفيه دليل على أن النمل تتخاطب بلغة مفهومة بينها، وقد أظهرت الدراسات الحديثة كما قيل أن الترددات الصوتية التي تصدر من النمل مختلف من نملة إلى أخرى ومن جنس إلى آخر، وأن هناك إثني عشر الف نوع من النمل في العالم.
لذا جاءت الآية بذكر الموضع بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ] وهو في بلاد الشام، وأخبرت الدراسات بأن النمل يطلق إشارات صوتية خاصة عندما يداهمه خطر، فتطلق النملة تحذيراً، يتلقاه النمل بالفهم والإستجابة، وأن النمل يتكلم بعضه مع بعض أثناء العمل ويقوم بتنقية الأصوات، وفصلها والتمييز بينها.
وتدل الآية على الإرتقاء في موضوع حقوق الحيوان والحشرات في علوم القرآن، وفيه بشارة إلى إكتشاف أسرار في لغة الطير والنمل وتعلم الناس منه المسائل والشواهد التي تدل على بديع خلق الله ، قال سبحانه [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ]( )، وعن ابن عباس خير سليمان بين المال والملك وبين العلم، فاختار العلم فأعطي الملك والمال معاً، وطلب سليمان الهدهد لعلمه .
وعن نافع بن الأرزق قال لابن عباس كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء قال ابن عباس لأن الأرض كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها فقال نافع فكيف بأوقات الفخ يغطي له بأصبع من تراب فلا يراه بل يقع فيه فقال ابن عباس إذا جاء القدر عمي البصر ( ).
وعن الإمام الرازي ( عن كميل بن زياد قال أخذ علي بن أبي طالب عليه السلام  بيدي فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع, أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ، يا كميل العلم خير من المال ، والعلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو بالإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله ، يا كميل معرفة العلم زين يزان به يكتسب به الإنسان الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكم ، والمال محكوم عليه، عن عمر بن الخطاب: أن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة فإذا سمع العلم وخاف واسترجع على ذنوبه انصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء فأن الله لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء( ).
وقد أثنى الله تعالى على أهل العلم ، قال سبحانه [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )،وتفضل الله تعالى وجعل القرآن آية في الحكمة والموعظة وآلة الفهم والتدبر، وسلاحاً يطرد الجهل والغفلة عن الفرد والجماعة، ودعوة سماوية للناس جميعاً لنيل مرتبة العلم بدخول الإسلام، وأداء الفرائض وتلاوة آيات القرآن فمن أهم أفراد العلم هو علم التوحيد، ولايناله إلا من نال مرتبة من العلم كما انه باب للإرتقاء في ميادين العلم والمعرفة، قال تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )، وتفيد (إنما) الحصر، للدلالة على الملازمة بين العلم وبين الخشية من الله تعالى.
وقال الرازي والمراد من أولي الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس( ).
 وجاءت نصوص مستفيضة في فضل العلم، وطلبه وعظيم أثره ونفعه في الدنيا والآخرة، وفيه آية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ومنزلة العلم في الإسلام، وبشارة بناء دولة الإسلام على العلم وكسبه وتعلمه وتعليمه.
فمع إنشغال المسلمين في كتائب الدفاع عن الإسلام، وتثبيت الأحكام الشرعية، وتعليم الناس العبادات والفرائض، والتصدي لأهل الريب والشك، فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم  يدعو إلى العلم ويحث عليه، ويبين منافعه بما يبعث الشوق في النفوس إلى طلبه والإرتقاء في منازله.
وورد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فو الذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ، وبنى الله بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفوراً له ، وشهدت الملائكة أنهم عتقاء الله من النار( ).
وفي الخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى خلف عالم فكانما صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
وفيه نكتة وهي أن صلاة الجماعة فعل عبادي يومي متكرر يتولى فيها الإمام القراءة عن المأمومين، ولكن إختيار العالم للإمامة شاهد للتسليم له بالإمامة والرياسة، ودليل على الإستعداد لتلقي الأحكام والقبول منه، وقصد العناية بالصلاة ، والإلتفات للقراءة الصحيحة ، والحرص على سماعها وسلامة الصلاة وأدائها ، ونيل الثواب الأتم ، وهو عنوان إكرام للعالم  لما يحمله من العلم، ودعوة نوعية عامة لطلب العلم ، والإرتقاء في مراتبه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فضل العالم على العابد سبعون درجة ، بين كل درجتين حضر( ) الفرس  سبعين عاما ، وذلك لأن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها ، والعابد يقبل على عبادته ( ).
فيمنع العالم طرو التحريف على العبادة وكيفيتها ويكون سبباً في إستدامة العبادة وفق قواعد وأحكام الشريعة، فيتعاهد العلماء مثلاً قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي( ).
ويتولى العالم ضبط وتوارث أحكام الصلاة، وتأليف الكتب وتثبيت القواعد، وتوجيه مستحدثات المسائل، ودرء أسباب الفتنة ومنع الغواية وحينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام إلى اليمن قال “فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم”( ).
وقال عليه السلام العلم أفضل من المال بسبعة أوجه.
 أولها : العلم ميراث الأنبياء ، والمال ميراث الفراعنة .
 الثاني : العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص .
 والثالث : يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه.
 والرابع : إذا مات الرجل يبقى ماله والعلم يدخل مع صاحبه قبره.
 والخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر , والعلم لا يحصل إلا للمؤمن.
 والسادس : جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال.
 السابع : العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه( ).
ومن الآيات في خلق الإنسان رجوع الناس إلى العالم، وإكرامهم له، وشفقتهم عليه، وإنصاتهم في الجملة لقوله، ويتجلى هذا الأمر عند المسلمين رجالاً ونساءاً، وتأتي فريضة الصلاة لتكون مناسبة يومية متكررة لإكرام المسلمين للعلماء، وإخبار الناس جميعاً بمنزلة العالم في الإسلام وعند المسلمين، وفيه بعث للشوق في قلوب الناس لمعرفة العلوم التي جاء بها الإسلام، كما أنه يلقي الفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام، ويمنعهم من التعدي على الإسلام بالإفتراء وأسباب الشك والمغالطة، أو بالسلاح والهجوم على الثغور الإسلامية.
ويحكى أن سليمان مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله ونبيه أعلم : قال يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس، فقال يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد ، فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين.
وصاح طيطوى فقال : يقول كل حي ميت وكل جديد بال.
وصاح خطاف فقال : يقول قدموا خيرا تجدوه.
وصاحت رخمة فقال : تقول سبحان ربى الأعلى ملء سمائه وأرضه.
وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربى الأعلى ، وقال الحدأ يقول: كل شئ هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين ، والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول : سبحان ربى القدوس”( ).
قوله تعالى [كُلَّهَا]
لم يرد ذكر الأسماء على نحو القضية المهملة التي لم يتبين فيها مقدار عدد الأفراد بل جاء تعليم الأسماء على نحو القضية الكلية التي يكون فيها الحكم على الكلي بملاحظة أفراده وشمول جميع الأفراد وليست جزئية، بل على نحو الموجبة الكلية والتي جاء (كل) سوراً لها للدلالة على الإطلاق.
ومن الفاظ سور الموجبة الكلية (كل)، (جميع)، (كافة)، (مطلق) ونحوها.
لقد اصبح آدم عالماً من أول خلقه وهو نبي، ويمكن الإســتدلال بالآية على أن الأنبياء أعلم البشر، لأن هذا العلم واقية من المعصية، وحرز ومرتبة من مراتب الكمال.
ولقد ورد لفظ (الأسماء) بصيغة الجمع تسع مرات في القرآن، مرتين في هذه الآية وأربع مرات بلفظ (الأسماء الحسنى) لله تعالى، وثلاثة في الشرك وأسماء الأوثان.
لقد تحمل آدم بتعلمه الأسماء مسؤولية مؤلفة من قسمين:
الأول: الإخلاص في التوحيد.
الثاني: محاربة الشرك والوثنية والكفر.
فتعليم آدم للأسماء بيان وتعليم للملائكة بالوظيفة المركبة للأنبياء والمؤمنين التي يستحقون معها الخلافة في الأرض.
علم المناسبة
ورد ذكر آدم في القرآن خمساً وعشرين مرة، منها تسع مرات بقوله تعالى [بْنَيْ آدَمَ]، وست عشرة مرة بلفظ [ آدَمَ] وفيه مدرسة تبين إكرام الله تعالى(لآدم) من ساعة خلقه، وسجود الملائكة له، وسكنه الجنة هو وحواء.
كما ذكر الله عز وجل آدم مثلاً في البيان والإحتجاج في خلق عيسى عليه السلام، قال سبحانه [أن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ] ( ).
فذكرت الآية محل البحث خلق آدم خليفة في الأرض وإكرامه بتعليم الله تعالى له، وسجود الملائكة له، أما الآية أعلاه فجاءت بذكر أصل خلقه وأنه من تراب.
وجاءت الآيات بتفضل الله تعالى بتحذير آدم وهو في الجنة من إبليس إذ امتنع إبليس عن السجود لآدم فأمره الله تعالى باجتناب إبليس والحذر منه قال تعالى [فَقُلْنَا يَاآدَمُ أن هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ]( )، وتلك رحمة وفضل على آدم وحواء، وعلم جديد أنعم الله تعالى به على (آدم) بعد تعليمه الأسماء، فهو لم يعلم أن إبليس عدو له، وأنه يأبى السجود له ، ولكن الله تفضل على آدم وأخبره بعداوته وحذره منه.
ولم يحذره من الملائكة وإن قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] من وجوه:
الأول: لا يفعل الملائكة إلا ما يأمرهم الله.
الثاني: جاء قول الملائكة بصيغة السؤال.
الثالث:تعلق سؤال الملائكة بخصوص الخلافة في الأرض.
الرابع: إمتثال الملائكة لأمر الله تعالى بالسجود لآدم.
وحتى على القول باتخاذه قبلة، فإن الأمر بالسجود والإمتثال له، بداية كريمة لأوثق وأحسن الصلات بين الملائكة وآدم، وكأن السجود يتضمن العهد إلى الله تعالى بإعانة آدم وذريته في الخلافة في الأرض ونصرة المؤمنين.
وقد نزل الملائكة مسومين لنصرة المسلمين يوم أحد وتولى الملائكة وظيفة النزول بالوحي بأمانة وصدق وإخلاص وقد حضرت الملائكة كتابة آدم الوصية وشهدت موته (عن ابن عباس أن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره وأخرج ذريته كلهم كهيئة الذر فأنطقهم فتكلموا وأشهدهم على أنفسهم وجعل مع بعضهم النور، وأنه قال لآدم هؤلاء ذريتك أخذ عليهم الميثاق ، أنى أنا ربهم لئلا يشركوا بي شيئا ، وعلي رزقهم .
قال آدم فمن هذا الذى معه النور قال هو داود قال يا رب كم كتبت له من الأجل: قال: ستين سنة ، قال كم كتبت لي : قال ألف سنة، وقد كتبت لكل إنسان منهم كم يعمر وكم يلبث قال يا رب زده قال هذا الكتاب موضوع فاعطه أن شئت من عمرك قال نعم وقد جف القلم عن سائر بنى آدم فكتب له من أجل آدم أربعين سنة فصار أجله مائة سنة فلما عمّر تسعمائة سنة وستين سنة جاءه ملك الموت فلما أن رآه آدم قال ما لك: قد إستوفيت أجلك، قال له آدم إنما عمرت تسعمائة سنة وستين سنة وبقى أربعون سنة.
 فلما قال ذلك للملك قال الملك قد أخبرني بها ربي .
قال فارجع إلى ربك فسله فرجع الملك إلى ربه قال ما لك قال يا رب رجعت اليك لما كنت أعلم من تكرمتك إياه قال الله عز وجل ارجع فاخبره أنه قد أعطى ابنه داود أربعين سنة( ).
وعن ابن اسحاق انه قال: لما كتب آدم الوصية مات صلوات الله عليه واجتمعت عليه الملائكة من أجل أنه كان صفى الرحمن فقبرته الملائكة، وشيث وإخوته في مشارق الفردوس عند قرية هي أول قرية كانت في الأرض وكسفت عليه الشمس والقمر سبعة أيام ولياليهن فلما إجتمعت عليه الملائكة وجمع الوصية جعلها في معراج ومعها القرن الذى أخرج أبونا آدم من الفردوس، لكيلا يغفل عن ذكر الله عزوجل( ).
وعن الحسن في المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما توفى آدم غسلته الملائكة بالماء وتراً وألحدوا له ، وقالت هذه سنة آدم في ولده( ).
وفيه شاهد على إكرام الملائكة لآدم، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، إذ عمّر آدم الأرض بالعبادة والتقوى، ونال مرتبة النبوة وما تدل عليه من الشرف العظيم بين الخلائق، وحضرت الملائكة الصلاة عليه وفيه شاهد على تركه العبادة والصلاة سنة ومنهجاً في ذريته، ولتكون آخر مايودع به الإنسان عند مغادرته الدنيا.
عن ابن عباس قال : لما مات آدم عليه السلام قال شيث لجبرائيل صلى الله عليهما صل على آدم ، قال : تقدم أنت فصل على أبيك ، وكبر عليه ثلاثين تكبيرة ، فأما خمس فهى الصلاة وأما خمس وعشرون فتفضيلاً لآدم صلى الله عليه وسلم( ).
تفسير قوله تعالى [ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ]
وفي قراءة ابن مسـعود: ثم عرضهن، وفي قراءة أبي: عرضها( )، وعلى هاتين القراءتين يمكن القول بعرض الأسماء على الملائكة؟ المنصرف إلى الذوات والأعيان والجواهر، بغض النظر عن القول بأن الاسم هو المسمى أم غيره ، بعد أن علّم الله عز وجل آدم الأسماء عرض مسمياتها من الذوات على الملائكة وأبرزها اليها في إحتجاج كريم ولتوكيد عجز الملائكة عن إدراك أسرار الخليقة، وما لله عز وجل فيها من الحكمة وحسن التدبير.
ترى ماذا قالت الملائكة أو إدعت حتى خاطبهم الله عز وجل بخصـوص أمر خبري لا يحتمل إلا الصدق ، فيه عدة وجوه محتملة , منها ما يتعلق بالمقام:
الأول: كان الخليفة من الملائكة فهو أهل للخلافة ووراثة الأرض ولم يفسد ولم يسفك الدماء بدلالة دأبهم على التسبيح والعبادة.
الثاني: إعتقاد الملائكة بالأعلمية والأفضلية على الخلائق، ولم يكونوا يظنون أن هذا الانسان الذي خلقه الله عز وجل بهيئته وحجــمه وأصــل خلقته من الطين سينتزع منهم تلك الأولوية.
الثالث: لم يتوقعوا أن الله عز وجل يجعل خليفة في الأرض، وأن أراد ذلك فهم أي الملائكة الأجدر والأنســب، وآدم في خلقه، وذريته في أفعالهم لم يؤثروا في رجائهم وظنهم أو يلغوه.
الرابع: أن الذي قال [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ] إثنان من الملائكة لا جميعهم، وليس من المستبعد أن يكون القائل بعضاً من الملائكة، ولغة الجمع في الخطاب [ انبِئُونِي ] تدل على عموم الإستفهام منهم، ويمكن مخاطبة الإثنين بلغة الجمع، والأقرب إرادة مخاطبة جميع الملائكة وإن كان المستفهم منهم إثنين لبيان الحجة وعموم اللطف وسعة الرحمة.
وقد تقدم ذكر وجوه أخرى تفيد سعيهم وشفاعتهم للإنسان كما في قوله تعالى [ يَوْمَ نَقُولُ لِجهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ]( ).
وعن الإمام الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو إستفهام لأن الله وعد النار أن يملأها فتمتلي النار فنقول لها هل إمتلأت وتقول هل من مزيد على حد الإستفهام، أي ليس فيّ مزيد، قال: قال فتقول الجنة يا رب وعدت النار أن تملأها ووعدتني أن تملأني فبم تملأني وقد ملأت النار؟ قال: قال: فيخلق الله يومئذ خلقاً يملأ بهم الجنة، قال فقال الإمام الصادق طوبى لهم لم يروا هموم الدنيا وغمومها( ).
أي أن النار تسأل التخفيف والعفو عن الناس ولا تسأل إلا باذنه تعالى.
وبالآية الكريمة إستدل الاشعرية في أن الاسم هو المسمى، لأن الضمير في عرضهم عائد إلى المسميات إتفاقاً، ولم يجر ذكر الأسماء فدل على انها المسميات.
ولكن الآية تحتمل المعنى الظاهر على وجوه:
الأول: تعليم الألفاظ الموضوعة أزاء المعاني وما يدل على لغة منتظمة.
الثاني: الدلالة على العلم بحقائق الأشياء.
الثالث: انها عنوان للمعرفة والأهلية للإكتساب.
الرابع: تعليم الأسماء وسيلة لإدراك المعقولات والمحسوسات، والقدرة على التمييز بينها.
الخامس: جاء التعليم للتغليب وفق الإصطلاح البلاغي بتغليب الأسماء على المسميات، والمراد منه وضع الألفاظ أزاء معانيها.
السادس: في الكلام حذف للمضاف إليه لدلالة المضاف عليه، ولا يعني انه نفسه بل أن الحذف في حال ثبوته يدل على المغايرة، ومع ورود الإحتمال وتعدده يبطل الإستدلال.
وعن مجاهد قال: عرض أصحاب الأسماء)( )، أي اراد الله سبحانه منهم معرفة الأسماء بعرض الأشياء والمسميات.
ويلاحظ في الآية أن الله عز وجل علّم آدم تلك الأسماء ثم سأل الملائكة عنها ليكون إنحصــار موضوع التعــليم بآدم عنوان تفضــيل وفرداً من أفراد الإكرام وإســتحقاق الخــلافة في الأرض.
وفي تلك الذوات ما لا يعقل، ولكن الآية جاءت بتغليب من يعقــل وأختـلف في كيفيــة عرضها وإبرازها للملائكــة على أقوال:
الأول: إن الله تعالى خلق معاني الأسماء التي علّمها آدم حتى شاهدتها الملائكة.
الثاني: صور في قلوبهم هذه الأشياء، فصارت كأنهم شاهدوها، أي انها لم تخلق بعد، إذ أن علم الخلائق تابع والمعلوم متبوع وأن العلم بالممكنات تصوير خارجي لها، ولكن الله تعالى يعلم بها قبل حدوثها كعلمنا بها بعد حدوثها.
الثالث: عرض عليهم من كل جنس واحداً، تعجيزاً وإتماماً للحجة، وهو الأنسب أي أن الله عز وجل عرض على الملائكة الذوات التي علم آدم أسماءها [ فَقَالَ انبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء أن كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، سؤال تعجيز وتبكيت لا لتكليفهم ما لا يستطيعون كما ظن نفر من المفســرين وأورد فيه إشـكالاً، بل انه رحمة ولطف منه تعالى بالملائكة.
انه برهان يقيني يستلزم القبول موضوعاً وصورة بالمشاهدة والحس والعقل، وآلة للإدراك وباب للرضا والإستجابة، وهو إكرام للملائكة لمواظبتهم على العبادة , فأراد الله عز وجل لهم الإطلاع على ما خفي عنهم كي لا يغادر أي منهم منازل التسليم والرضا.
لقد تخطى آدم من أول ساعة خلق فيها مراتب عديدة في العلم والرفعة وعلو المنزلة، فإستجابت الملائكة مذعنة، بينما أصاب قلب إبليس الحسد والأنانية، ولعل عدم إستجابة إبليس في السجود لما للحسد والغيظ والغيرة التي ملأت قلبه من أثر قبيح بسبب ما ناله آدم من الفضل الإلهي والمن الجسيم.
تفسير قوله تعالى [ فَقَالَ انبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء]
تظهر الآية عجز أعظم الخلائق وأقربها إلى العرش عن معرفة الغيب، ودقائق الأمور وحقائق الأشياء النوعية والصور المجردة إلا أن يشاء الله، فهو سبحانه فاعل كل شيء وهو المعطي لكل خير  سواء بالواسطة أو بغير واسطة.
والآية ترغيب بالعلم وإظهار لفضائله، وحث على معرفة ماهية العلوم، وهذا السؤال ليس تكليفاً لأن الله سبحانه لا يكلف بالمحال والمتعذر ولكنه إظهار لموضوعية العلم في التفضيل والتشريف.
وهذه هي الآية الوحيدة التي يأتي فيها لفظ (انبئوني) وجاء الخطاب بصيغة الجمع المستغرقة للملائكة ولغيرهم من الخلائق بالأولوية القطعية، فاذا كان الملائكة  يعجزون عن معرفة الأسماء، فمن باب أولى أن تجهلها الخلائق الأخرى، وفيه حجة ملكوتية وتأريخية على تشريف آدم والإنسان مطلقاً ، وبيان للفيض الإلهي الذي ينعم به الله على الإنسان.
وهل جاء ذكر الأسماء من باب الحصر أم المثال، الجواب إنه تأسيس للعلوم وبيان لأهلية الإنسان للعلم الوهبي والكسبي، الوهبي خاص بالأنبياء، والكسبي شامل للناس جميعاً.
وفي الآية إخبار بأن الأرض ستعمر بالعلم، والوحي أهم أفراد العلم، أي أن الله عز وجل أخبر الملائكة بأنه سيتعاهد خلافة الإنسان بالوحي والتنزيل، وهو حجة في عدم طرو التحريف على القرآن باعتباره خاتمة الوحي والتنزيل، وإشارة إلى احتوائه قواعد وسنن الخلافة وأن السنة النبوية المباركة تتضمن مفاهيم هذه الخلافة.
وجاءت الآية إختباراً للملائكة لأنهم إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض، ومن الإعجاز مجئ الإختبار بأمور:
الأول: لغة الجمع والتعدد في الأسماء، فلم يأت الإختبار بصيغة المفرد والإتحاد، بل جاء بصيغة الجمع، وفيه مسائل.
الأولى: التخفيف عن الملائكة.
الثانية: بيان تمام الحجة على الملائكة.
الثالثة: إعطاء درس للمسلمين والناس جميعاً، بالتخفيف في المدرسة وميادين العمل ومضامين الإحتجاج وإقامة البرهان بالتعدد والكثرة في وسائل الإختبار ويسر الإختبار، خصوصاً وأن الذي يكتسب من ميادين العمل الأمر الكثير، فحينما يدخل الإنسان ميادين العمل يكتسب المهارة والخبرة، ويصلح نفسه للعمل بطول المزاولة وبالنسبة للملائكة فإنهم يرون الأنبياء يبلغون رسالات الله، والكتب السماوية تنزل أنواراً من السماء لتملأ الأرض بضياء الهدى الذي يجذب الناس إليه، ويشهدون إعمار المسلمين الأرض بالعبادة والتقوى وجهادهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجلب المصلحة ودفع المفسدة.
الرابعة: قرب ويسر موضوع الإختبار، فليس فيه عمل وجهد كبير، بل هو سؤال عن أسماء لمسميات حاضرة، وجاء موضوع الإمتحان بسيطاً محصوراً بالإخبار عن أسماء أعيان حاضرة وموجودة، فلم يسأل الله تعالى الملائكة عن أمور وأشياء غائبة عن الملائكة بل عن أمور وأشياء ظاهرة للعيان بدليل قوله تعالى [أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء] فمع عظيم منزلة الملائكة وعلو مرتبتهم، وطول أعمارهم، ومعرفتهم بالأمور الكثيرة في السماء والأرض بفضل الله فإن إمتحانهم جاء بسيطاً ومتعدداً في موضوع واحد.
تفسير قوله تعالى [ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ]
الصدق خلاف الكذب، ترى ماذا قالت أو إدعت الملائكة كي يخاطبهم الله تعالى عن أمر خبري ويسألهم عن موضوع معين، فيه أقوال ووجوه منها:
الأول: لو كان الخليفة من الملائكة فهو أهل لها، ولم يفسد ولم يسفك الدماء بدلالة دأبهم على التسبيح والعبادة.
الثاني: يعتقد الملائكة بانه ليس ممن خلق لله عز وجل أفضل منهم وأجدر بمقام الخلافة فيكون هناك محذوف تقديره إن كنتم صادقين في ظنكم.
الثالث: روي عن ابن عباس وابن مسـعود: أن كنتم صادقين في قولكم انه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به( ).
الرابع: أنهم يعتقدون بالأعلمية على المخلوقات الأخرى فهم سكان الســماوات، وخلقتهم وهيئــاتهـم العجيبة الهائــلة تساعد عليه.
الخامس: هم الأصلح للخلافة بما امتازوا به من التسبيح والتقديس خاصة وأن الله عز وجل عنده حسن الثواب.
السادس: لم يتوقعوا صيرورة خليفة في الأرض، وكما أن معرفة الأسماء من علم الغيب فكذلك الأمر (اي كما لم تعلموا أحدهما لا تعلمون الآخر عن ابن عباس)( )، أي جاء تعليم آدم الأسماء مقدمة لتفضل الله تعالى بسؤالهم عنها، لتكون حجة وبرهاناً.
السابع: ما قــاله الأخفش والجبـائي وعــلي بن عيسـى وهـو أن المراد [أن كُنتُمْ صَادِقِينَ ] فيما تخبرون به من أسمائهم فأخبروا بها وهذا كقول القائل لغيره (أخبر بما في يدي إن كنت صادقاً)( ) .
الثامن: الذي قال [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا.. ] إثنان من الملائكة لا جميعهم كما تقدم ذكره أي أن القائل بعض الملائكة دون جميعهم، ولغة الجمع في الخطاب [ انبِئُونِي ] لا تدل على المعارضة اذ يمكن مخاطــبة الإثنين بلغة الجمــع، والاقـرب هو مخاطبة جميع الملائكة وأن كان المستفهم منهم إثنين لبيان الحجة وعموم اللطف وسعة الرحمة.
ومما يؤيد هذا القول ما روي عن – الإمام الباقر عليه السـلام – انه سئل عن إبتداء الطــواف فقال: “إن الله تبارك وتعالى لما اراد خلق آدم قال للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة، فقال ملكان من الملائكة أتجعل فيها من يفســد فيها ويسفك الدماء فوقعت الحجب فيما بينهما وبين الله عز وجل، وكان الله تبارك وتعالى نوره ظاهر للملائكة فلما وقعت الحجب بينه وبينهما علما انه سخط من قولهما فقالا للملائكة: ما حيلتنا وما وجه توبتنا؟ فقالوا: ما نعرف لكما من التوبة إلا أن تلوذوا بالعرش، فلاذا بالعرش، حتى أنزل توبتهما، ورفعت الحجب فيما بينه وبينهما، وأحب الله تبارك وتعالى أن يعبد بتلك العبادة ، فخلق الله البيت في الأرض وجعل على العباد الطواف حوله، وخلق البيت المعمور في السماء( ).
لقد أصبح آدم عالماً منفرداً مستقلاً ذا نفس مطمئنة، ألهمه الله معرفة الأجناس وأحوال الأشياء ولوازمها وآثارها.
والعلم عبارة عن صورة موجودة بوجود عقلي ومجردة عن مادتها، فليس فيه شر ولا ضرر ولا آفة، وجعله الله سبيلاً إلى ذكره وطاعته، فتعليم آدم الأسماء يعني إحياء ذكر الله تعالى في الأرض، وأن تسبيح الملائكة في السماء يعضده، وهو مؤازر له من مقام الذل والعبودية في الأرض.
 وعلة خلق آدم عليه السلام الإنقطاع إلى التسبيح والتقديس له تعالى، فتسبيح الملائكة لا يتعارض مع خلق الإنسان بل هو إتمام مكاني لعبادته تعالى في الأرض، ويدل عليه قوله تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
لقد شاء الله أن يخلق الإنسان ليتدبر بإختياره في نظام الملك وعظيم القدرة الإلهية وصفاته الحسنى، لذا علم آدم الأسماء كلها، ويتنافس الناس في مقامات ومراتب العلم بالسياحة في عالم الملكوت، وتغمرهم السعادة بمصاديق المعرفة الإلهية.
إن تعليم الله عزوجل آدم  الأسماء بشارة دخول الصالحين الجنة، وجاء عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: ” يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة : يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم قوموا فإني قد غفرت لكم “( ).
أي أن العلم ومعرفة أسمائه تعالى سبيل إلى المغفرة والعفو، وأن خلق الإنسان لإكرامه وإختباره بعد تشريفه بسلاح العلم والمعرفة.
آدم والملائكة
سيبقى خلق آدم آية في العالمين، ودليلاً على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه وحكمته وعلمه لفعله المتقن، وآدم الذي تتجسد فيه آثار الحكمة هو الكائن الصغير من بين مخلوقات الله تعالى العظيمة كالسماوات والأرض والكواكب والنجوم والجبال والباقية إلى يوم القيامة يفوز بخلافة الله عز وجل في الأرض، وتتعاقب الأجيال من ولده على وراثتها.
لقد ثبت في مباحث علم الكلام أن الله تعالى واجب الوجود وأن كل شيء غيره ممكن مسبوق بالعدم، وحادث غير قديم، ومستند إليه تعالى اما مباشرة أو بالواسطة وهو تعالى عالم، كذلك فإن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول، وهو سبحانه عالم بذاته فيكون عالماً بكل معلوم جزئياً كان أو كلياً، ذاتاً أو عرضاً، له وجود خارجي أو ذهني على خلاف ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إنعدام الوجود الذهني، فإنه تعالى يعلم الخاطرة التي تخطر على قلب الإنسان ثم ينساها، ولكن الله عز وجل لا ينساها، قال تعالى[ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ]( ) وهو عالم بها قبل طروها على قلب الإنسان وقبل خلقه وخلق آبائه، وخلق آدم وسجود الملائكة له.
وهو خالق الآيات السماوية، ويعلم حركة المخلوقات والأفلاك ونضدها وأوضاعها وخواصها، والمخلوقات الأرضية وما في موجوداتها ومركــباتـهـا كالتركـيب العقلي من الجنس والفصل أو التركيب الخارجي كتركيب الجسم من المادة والصورة، أو تركيب المقادير، وإشتراكها جميعاً في الإفتقار والحاجة، وهو جزء من بديــع صنع وحكـمة الله عز وجل، ودليل على ربوبيته ووحدانيته.
تفضل الله عز وجل سبحانه بتزيين تلك المعالم بالإنسان هذا المخلوق الصغير جسماً، الكبير بلحاظ الشأن والأهمية ، بما جعل الله عز وجل فيه من خواص عجيبة وخلق منتظم دقيق ووظائف أخلاقية وكونية عظيمة تتعلق بماهية الخلافة في الأرض، وما فيها من وجوه الإبتلاء وأسباب الرفعة.
والملائكة أجسام نورانية دائبة على الطاعة والتسبيح، وتسكن السماء وقد ينزل بعض منها إلى الأرض لأمر ما كما في نزول جبرئيل المتكرر وظهوره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً بصورة دحية الكلبي( ).
لقد ثبت أن الله تعالى غني غير محتاج، فوجوب وجوده يعني بالضرورة إستغناءه عن كل شيء فإن كل ما عداه ممكن محتاج بما في ذلك الملائكة، فلماذا إذن هذا الإخبار والخطاب الخاص إلى الملائكة بخلافة آدم، فيه وجوه:
الأول: أهمية موضوع خلق آدم في الخلائق.
الثاني: أن الملائكة لا تعلم إلا ما علّمها الله، ومنه أنباء الغيب.
الثالث: أراد الله أن تطلع الملائكة على العوالم الأخرى من بديع مخلوقاته.
الرابع: لتؤدي الملائكة وظائفها أزاء هذا الأمر، وما يجري على الأرض من تغيير.
الخامس: انه سبيل لدوام الملائكة على الطاعة بالإستجابة والرضا ساعة الأمر، وما يحتمل فيه من الإبتلاء.
السادس: أن يطلعوا على بديع صنع الله تعالى، بخلق مغاير لهم في الهيئة والفعل ومادته وهى الطين.
السابع: فيه لطف بالملائكة ومقدمة لما يأمروا به كالسجود لآدم.
الثامن: يستعد الملائكة لعملهم وما يأمرهم الله به بخصوص بني آدم من كتابة الحسنات وتدوين السيئات ونحوها.
التاسع: إنه مقدمة وحجة لنزول الملائكة لنصرة المؤمنين يوم بدر وأحد قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
ولم يعرف عن الملائكة إلا الطاعة، ويؤكد القرآن هذه الحقيقة وهي ظاهرة جلية في آياته، قال تعالى [ وَيُسَبِّحُ الرَّعْـدُ بِحَــمْدِهِ وَالْمَــلاَئِــكَـــةُ مِنْ خِيفَتِهِ ]( ) [ وَلِلَّهِ يَسْــجُدُ مَا فِي السَّـمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ]( )، فاذا كان الملائكة يسجدون لله تعالى خوفاً وخشية منه ، فلابد أنهم لم يسألوا عن موضوع جعل خليفة في الأرض إستنكاراً، خصوصاً وأن أمر الخلافة جاء على نحو القطع والإمضاء (اني جاعل) والله سبحانه لا يستشير أحداً من خلقه في أمره وفعله [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
***********
 
 
 
قوله تعالى[ قَالُوا سُـــبْحَانكَ لاَ عِــلْمَ لَنَــا إِلاَّ مَــا عَلَّمْتَنَا انــكَ انـتَ الْعَلِيمُ الْحَكـيمُ]الآية 32.
 الإعراب واللغة
قالوا: فعل ماض والواو: فاعل، سبحانك: مفعول مطلق جاء مضافاً منصوباً ويعني نسبحك سبحانك تسبيحاً.
وقال الكسائي: هو منصوب لأنه لم يوصف، ويكون منصوباً على أنه نداء مضاف( ).
لا: نافية للجنس، علم: اسم لا، مبني على الفتح.
لنا: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا.
إلا: أداة حصر، ما: اسم موصول بمعنى الذي في موضع الرفع على البدلية من محل لا وإسمها.
علمتنا: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت يعود لله عزوجل، والضمير (نا) مفعول به.
إنك: إن وأسمها، أنت: ضمير فصل.
العليم: خبر إن الأول مرفوع، الحكيم: خبر إن الثاني.
سبحت الله تسبيحاً: أي نزهته تنزيهاً، وفي التهذيب، سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً بمعنى واحد، فالمصدر تسبيح، والاسم سبحان يقوم مقام المصدر.
(عن ابن شميل: رأيت في المنام كأن انساناً فسر لي سبحان الله فقال أما ترى الفرس يسبح في سرعته، وقال: سبحان الله السرعة اليه والخفة في طاعته) ( ).
ولكن علوم القرآن وأسرار كلماته ومضامينها القدسـية أعم وأدق من أن تؤخذ من أخبار عن منام، وفي اللغة وعلم التفسير والتأويل مندوحة وسعة وغنى عن اللجوء إلى توثيق منامات قد تبتعد في بيانها عن الإحاطة بجلالة المعنى القدسي المبارك للفظ القرآني بالإضافة إلى انعدام التثبت من صحة المنام ومن ثم الوصول إلى تحديد القسم الذي تنتمي اليه من أقسام الرؤيا وهل هي صادقة ام لا، ومن جلالة علوم القرآن وأحكام الشريعة انها خالية من المنامات وإعتبارها في الحجية، نعم رؤيا الأنبياء وحي , ولفظ سبحان يتعلق باله عز وجل وليس بالمسرع إليه.
وعن الأزهري: قيل أن العرب تقول: سبحان من كذا اذا تعجبت منه وزعم أن قول الاعشى في معنى البراءة أيضاً:
اقول لما جاءني فخرة
 
سبحان من علقمة الفاخر( ) 
 
وسبحان معرفة لانه علم للبراءة كما تقول شتان اسم علم للتفرق ولو كان نكرة لانصرف، وقد اجتمع فيه الالف والنون مثل عمران وعثمان مما يمنع من صرفه، ولا يضر باصل القاعدة وروده منوناً نكرة في بيت شعر كما في قول أمية:
سبحانه ثم سبحانا يعود وله
 
 
وقبلنا سبحّ الجودي والحمد جاءني( ) فخرة جاءني فخرة
 
ويقال سبح الرجل” أي قال سبحان الله، وفي التنزيل [  كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ]( ) ، وأختلف في سبحان هل هو مصدر سبح أم سبح بالتشديد، والأقوى هو الثاني.
ومن صفات الله تعالى ( السبوح، القدوس ) وهو المنزه عن كل نقص وسوء، والقدوس المبارك، وقيل: ليس في كلام العرب بناء على فعول بضم أوله غير هذين الإسمين الجليلين.
وسبحات وجه الله: أنواره وعظمته وقال جبرئيل عليه السلام: (لله دون العرش سبعون حجاباً لو دنونا من أحدها لأحرقتنا سبحات وجه ربنا( )، وفي حديث: (أن سبحات وجهه النار والنور) . 
في سياق الآيات
بعد تساؤل الملائكة عن أسرار إختيار الإنسان للخلافة مع عظيم مرتبتها وسوء ما يفعله الإنسان من قبيح الأفعال، وتفضله سبحانه بتعليم آدم الأسماء أظهر الملائكة عجزهم عن درك درجة آدم، والعلة الغائية من خلقه وبادروا إلى تعظيم مقام الربوبية بصيغ التضرع والخشوع.
وبعد أن سأل الملائكة عن خلق إنسان ينشر الفساد في الأرض، ومدحوا أنفسهم بإنقطاعهم إلى عبادة الله تعالى، بينّت هذه الآية الكريمة إنشغالهم بالإعتذار وإظهار تخلفهم وقصورهم عما لم يعلمهم الله إياه.
وفي الآية مصداق تقديسهم لمقام الربوبية كما ورد قبل آيتين [وَنُقَدِّسُ لَكَ] إذ انهم لم يتكلموا إلا بلغة التسبيح والتعظيم والمدح والثناء على الله تعالى، ويحتمل حال الملائكة في الجواب أموراً:
الأول: التشاور فيما بينهم قبل الإجابة.
الثاني: تعدد الأقوال ثم الإتفاق على واحد منها.
الثالث: الجواب المذكور في القرآن أصح وأهم وأولى صيغ الإجابة بالذكر.
الرابع: جاء جواب الملائكة متحداً من غير ترديد.
والصحيح هو الأخير فليس من تشاور أو أخذ ورد فيما بينهم، ومن الشواهد على قولهم [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] أن هذه الآية كلها حمد وثناء وتسبيح وتدل بالدلالة التضمنية على سؤال التعلم ومعرفة وجوه الحكمة، وانهم يسألون الله بالحمد والثناء كما في خاتمة الآية [انكَ انتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] فمن حكمة الله تعالى أن يعلمهم الأسماء على لسان آدم عليه السلام نفسه، لتكون الحجة ظاهرة وبينة، فجاءت الآية التالية بالأمر الإلهي لآدم بأن يعلم الملائكة تلك الأسماء على نحو التعيين.
ولما جاء قول الملائكة قبل آيتين[وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] إبتدأوا كلامهم في هذه الآية بكلمة التنزيه التي إرتضاها الله لنفسه (سبحانك) وهو شاهد على إنقطاعهم إلى التسبيح، وهذا التسبيح وسيلة لطلب مرضاة الله تعالى، وإجتناب سخطه وغضبه، وفيه تأديب للمسلمين بالإنشغال بالتسبيح كمقدمة لطلب الرزق وبلغة للمطلوب.
وفي صلة هذه الآية بالآيات التالية وجوه:
الأول: إبتــدأت هذه الآية بلفظ(قالوا) العائد إلى الملائكــة وتمجيدهم لله عز وجل وإبتــدأت الآية التــالية بلفــظ(قال يا آدم) والخطــاب من الله عز وجل ليقيم آدم في الجنة، ويدل بالدلالة التضمنية على أن الإقامة في الجنة بأمر من الله عز وجل، وفيه ترغيب للناس بالعمل الصالح كطريق إلى الجنة، والإجتهاد بالدعاء والمسألة وسؤال المغفرة، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثاني: تضمنت هذه الآية إقرار الملائكة بعدم إحاطتهم بماهية وأسرار خلافة آدم في الأرض، فجاءت الآية التالية وفيها مسائل:
الأولى: إضافة علوم جديدة لعلم الملائكة من وجوه:
الأول: يخاطب الله عز وجل آدم مثلما يخاطب الملائكة من غير واسطة.
الثاني: يفقه آدم الكلام الذي يكلمه الله عز وجل به، وقوله تعالى[قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ]، من الأسماء التي علمها الله عز وجل آدم.
الثالث: تعلم آدم الأسماء وحفظها والرابطة بينها وبين معانيها، وأن كل اسم يصدق على معنى مخصوص.
الرابع: إمتثال آدم لأمر الله، وعبادته لتعليم الملائكة.
الثانية: إدراك الملائكة لحقيقة وهي تعليم آدم لأبنائه وتوارث ذريته التعليم وفق ما أمره الله، لأنه علم الملائكة ذات الأسماء التي علمه الله من غير تحريف أو تبديل، وهل فيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف بلحاظ مسائل:
الأولى: أهلية الإنسان للتعلم والتعليم.
الثانية: ورود الأسماء التي علمها الله عز وجل آدم الملائكة في القرآن لعمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالثة: تعلم آدم الأسماء نعمة من عند الله، وهو سبحانه أكرم من أن يرفع نعمة يمن بها.
وصحيح أن القرآن سالم من التحريف وعليه الإجماع إلا أن الملازمة بينه وبين تعلم آدم الأسماء تحتاج إلى دليل، نعم هذا التعلم مقدمة وعون على حفظه وسلامته من النقص والتحريف.
إعجاز الآية
تؤكد الآية بأن مصدر العلوم ومنبعها من عند الله تعالى فهي من الخزائن التي ينّزل منها الله سبحانه بقدر، وإن قرب المنزلة لا يعني بالضرورة التفوق العلمي على من هو أبعد لأن الممكنات جميعها حاضرة عند الله تعالى مستجيبة لأمره، وليس ثمة مسافة، أو قل أن السبق في الخلق والإيجاد لا يفيد التقدم والإرتقاء في العلوم بل إن التقرب والعلم يأتي بفضل من الله تعالى وبحكمته ولطفه، سواء على نحو الهبة أو الكسب دفعة واحدة أو تدريجياً.
وفي الآية بيان عظيم النعمة بخلق آدم، وكيف انه كان سبباً في زيادة المعارف عند الملائكة وليس هذا عيباً فيها بل هو مناسبة للعلم والتعلم والإقبال على الطاعة والإمتثال لاسيما وأنهم أذعنوا وأقروا وأعلنوا بأن كل ما عندهم من الله عز وجل.
ومع قلة عدد كلمات الآية فإنها تضمنت ثلاثة أمور على لسان الملائكة:
الأول: مبادرتهم إلى تسبيح الله تعالى، وحتى حينما سألوا عن جعل الانسان خليفة في الأرض، فإنهم لم يتخلوا عن التسبيح بل ذكروه بلفظ [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] ( ).
الثاني: الإعتراف بأن كل ما عندهم هو من الله تعالى [لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( )، والإقرار بالتخلف عن الإحاطة بأسرار السماوات والأرض.
الثالث: التسليم بأن تعليم آدم للأسماء، وعجزهم عن معرفتها هو من حكمة الله وانه لا سبيل إلى معرفة الأسماء إلى بفضل ولطف من عند الله تعالى.
 ترى ما هي النسبة والحجة بين معرفة الملائكة لإفساد الإنسان في الأرض وعدم علمهم بالأسماء الا أن علّمهم آدم بها، الجواب من وجوه:
الأول: لم يعلم الملائكة بفساد شطر من بني آدم وسفكهم الدماء إلا أن علمهم الله تعالى به لأنه من عمومات [لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]، وفيه حجة بجعل الإنسان خليفة في الأرض مع وقوع الفساد، وعدم التعارض بين الخلافة وهذا الفساد لأن أهل الخلافة هم الأنبياء والصالحون وورثة الأنبياء من المسلمين .
 أما أهل الفساد فهم الكفار الذين ينذرهم ويمهلهم الله تعالى إلى حين[أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ]( ).
الثاني: تعليم آدم للأسماء سلاح لزحزحة الفساد , ومنع إستحواذه وسلطانه في الأرض.
الثالث: سؤال الملائكة المزيد من العلوم والمعارف عن وظائف الخليفة في الأرض ورجاء البشارة والسكينة بأن الخليفة يعمر الأرض بالعبادة والصلاح والتقوى، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ويمكن تسمية  هذه الآية الكريمة بآية (قالوا سبحانك).
الآية سلاح
الآية مناسبة للشكر وإدراك منزلة الإنسان وعظيم شأنه عند الله الأمر الذي يستلزم الشكر بالعبادة والإقرار بالربوبية والتطلع إلى النبوة كمصدر لنزول العلوم، وإلى آيات القرآن كذخائر علمية في الأرض، وتأديب للمسلمين بكيفية التقرب بالإعتذار، وترغيب للمسلمين باللجوء إلى الله.
وفي الآية درس للمسلمين بتعلم لغة الإنابة وصيغ الخشوع والخضوع، وإمكان التدارك باللجوء والإستجارة بالله عزوجل.
وتنزه الآية الملائكة، وتبين قانوناً ثابتاً في عالم السماء وهو أن الملائكة يسبحون الله ويقدسونه، وأن جعل خليفة في الأرض لم يؤثر في إنقطاعهم إلى العبادة وتعظيمهم لمقام الربوبية، بل يزيدهم خضوعاً وخشوعاً لله، وتسليماً لأوامره.
وأكدت هذه الآية أن الله تعالى إله في الأرض والسماء، وبيده مقاليد الأمور وتدعو الآية في مفهومها المسلمين للإقتباس والتعلم من الملائكة صيغ التوسل والتضرع إلى الله، وهو عون لهم في الإحتجاج والجدال وإستنباط الأحكام من القرآن والسنة بلحاظ أن القرآن كلام الله والسنة النبوية شعبة من الوحي , قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
 ويمكن تأسيس قانون وهو كل آية قرآنية تعليم للمسلمين ودرس قائم بذاته , وسيأتي في أجزاء التفسير أن كل آية تأديب للمسلمين لتكون المنافع والعلوم المترشحة عن الآية القرآنية من اللامنتهي وهو من الإعجاز الغيري للقرآن.
مفهوم الآية
تحث الآية المسلمين على مفاهيم أدب العبودية وعدم الغرور والزهو والعتو بسبب نيل المراتب العالية من الخلافة في الأرض والإرتقاء في منازل العلم الوهبي والكسبي.
وترشد الآية الإنسان إلى الأخلاق الحميدة بالإعتذار بحسن البيان والتدارك الجميل، وتقديم لفظ التقديس والتنزيه “سبحانك” في الخطاب والجواب والإعتذار دعوة للهداية والإيمان ونبذ الجحود والكفر وفيه مسألتان:
الأولى: هل في قول الملائكة (سبحانك) تعليم لآدم.
الثانية: هذا التعليم جزء ومصداق من مصاديق تعليم الله لآدم أم لا.
الجواب هو الإيجاب في المسألتين , وفيه تعليم آخر للملائكة من عند الله، من غير أن يستلزم الدور بين تعلم الملائكة من آدم وتعلمه منهم للتباين في موضوع التعلم , ويتجلى التعليم في المقام من وجوه:
الأول: بيان حقيقة وهي أن آدم تعلم الأسماء لتكون مقدمة لعبادته لله عز وجل وتنزيه الأرض من الفساد وسفك الدماء.
الثاني: تعلم الأسماء ليس مطلوباً لذاته فقط، بل هو وسيلة ومقدمة وسلاح في أمور الدين والدنيا,
الثالث: معرفة الناس الأسماء حجة عليهم، ووسيلة لتلقي التنزيل.
لقد أكدت الآية إنقطاع الملائكة إلى العبادة والذكر، وحاجتهم إلى رحمة الله وإقرارهم بعدم وجود علم عندهم إلا منه تعالى، وفيها زجر عن عبادة الملائكة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل تفضل على آدم وعلّمه الأسماء، وفيه وجوه:
الأول: تلقي آدم عليه السلام التعليم من الله عز وجل من غير واسطة، وتلك آية من الإكرام والتفضيل.
الثاني: العموم في تسمية الأسماء إذ جاءت الآية بالإطلاق[وَعلم آدم الأسماء كلها] فقيدت الآية بسور الموجبة الكلية (كلها).
الثالث: تعقب التعليم لتحدي الملائكة بما عند آدم عليه السلام من العلوم.
الثانية: أصبح الانسان عالماً من أول ساعة خلق فيها.
الثالثة: في الآية حث للإنسان للرجوع إلى الله، وهو الغني الكافي لعباده.
الرابعة: تدل الآية على أن الإنسان كائن محتاج، وأن الله عز وجل هو الكافي له في قضاء حوائجه.
الخامسة : تبين الآية كرم الله تعالى وأنه الغني الذي يكفي عباده حوائجهم.
السادسة: نصرة الله عز وجل للإنسان بالإحتجاج على الملائكة.
السابعة: عجز الملائكة عن معرفة الأسماء التي عرضها الله عز وجل عليهم.
إفاضات الآية
الآية من مدارس المعرفة الإلهية، وتأديب جعل الانسان يفنى في ذات الله، ويرجو رحمته ويسعى لنيل درجات العلم والإرتقاء في سلم المعارف والقيم.
وتطرد الآية الغفلة والغرور عن الإنسان، فمع عظمة الملائكة وقربهم من العرش أظهروا عجزهم عن تحصيل ما لم ينعم به الله عز وجل عليهم، مع مجيء خاتمة الآية بالإقرار بإطلاق علمه تعالى وحكمته البالغة ومنها تعليم الخلائق بقدر معين من غير تقييد له بحد محدود بل إنه يتسع بالعمل الصالح والدعاء والسعي والكسب.
ومن الإعجاز أن الملائكة يتعذر عليهم كسب العلوم إلا أن يمنّ الله عليهم لذا نسبوا جميع ما عندهم إلى ما علّمهم الله تعالى، وفيه تأديب للإنسان، وإخبار بأن الإرتقاء العلمي في هذا الزمان إنما هو بإذن وفضل منه تعالى.
وفي الآية تذكير للناس بوجوب إقتران العلم بالتقوى، وترشحها عنه لأنه طريق للهداية والإيمان.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاء الجواب بصيغة الجمع الذي يدل على صدوره من الملائكة جميعاً وعدم تخلف واحد منهم عن تنزيه مقام الربوبية، وهل كان إبليس من ضمن القائلين في هذه الآية الأقرب نعم ، للإطلاق وتمام الحجة عليه ،  وقد ورد انه من ضمن الملائكة في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلاَّ إبليس] ( ).
والأصل هو عدم شمول إبليس في الخطاب إلا مع القرينة الدالة على شموله كما في قوله تعالى [فَسَجَدُوا إِلاَّ إبليس كَان مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ] ( ).
ويدل على الأصل وعدم شمول إبليس بلفظ الملائكة بعد إظهاره العناد والإستكبار  آيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى في الذين ماتوا على الكفر [أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( )، وقوله تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ] ( ).
وإبليس مع الذين تذكرهم هذه الآية بلحاظ وحدة الموضوع، وهو خلق آدم ثم الأمر الإلهي بالسجود به.
لقد كان كلام الملائكة جواباً على سؤال الله لهم الذي جاء بصيغة الشرط [أن كُنتُمْ صَادِقِينَ] وإبتدأوا بتنزيه وتقديس الله تعالى، وانه سبحانه وحده الذي يعلم الغيب، وأن الملائكة لا يعترضون على حكمه في الأرض أو في السماء، قال تعالى [وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ]( ).
وجاءت الآية بكلام الملائكة هذا لتكون وثيقة تتضمن الإخبار عن أدب العبودية في كلام الملائكة، وفيه إرشاد لآدم عليه السلام وحواء وذريتهما فلذا تضمنت أدعية وخطابات الأنبياء تنزيه مقام الربوبية وتدل عليه آيات كثيرة في القرآن، وقال تعالى في مدح المؤمنين [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وتدل لغة الإطلاق في الآية السابقة [وَعلم آدم الأسماء كُلَّهَا] على أن كلمة التنزيه والتقديس لمقام الربوبية “سبحانك” مما علمه الله تعالى لآدم، فنطق الملائكة بها للتوكيد على موضوعيتها وحاجة آدم وذريته إلى تعاهد تنزيه مقام الربوبية وليصدق على آدم عليه السلام أنه أخذ وتعلم من الملائكة.
إن إفتتاح الملائكة خطابهم وجوابهم بالتقديس لمقام الربوبية أدب في العبودية، ودليل على طاعة أهل السماء لله تعالى، ليرقى المؤمن الذي يتضرع إلى الله تعالى بالتوسل والدعاء والمسألة إلى مراتب السمو والرفعة.
ويتضمن كلام الملائكة مسألتين:
الأولى: علم الملائكة مما علمهم الله تعالى، وهل يستقرأ منه أن الملائكة لا يستنبطون حكماً مما جعل الله عندهم من العلم، الجواب لا، فالقدر المتيقن منه هو إخبار الملائكة عن عدم معرفتهم بأسماء المسميات التي عرضها الله تعالى عليهم، وهو باب للعلوم.
ولم يقف الملائكة عند الإخبار عن عدم معرفتهم بالأسماء، ولكنهم قيدوا كلامهم بثلاثة أمور:
الأول: ليس عندهم من العلم الا ما علمهم الله تعالى.
الثاني: إن الله تعالى هو “العليم” الذي لا يخفى عليه شيء، ومن علمه تعالى انه يعلم بأنهم لا يعرفون تلك الأسماء.
الثالث: الله تعالى هو الحكيم، وأفعاله كلها تتصف بالحكمة، ومنها جعل آدم خليفة في الأرض.
الثانية: جاءت خاتمة الآية في إقرار الملائكة بإحاطة الله تعالى علماً بكل شي، وفيها توسل ورجاء بمعرفة تلك الأسماء وسؤال الله تعالى لهم عن الأسماء، وحينما قال الملائكة كلامهم هذا هل كانوا يعلمون أن آدم تعلم تلك الأسماء، لا دليل عليه، والأصل عدم معرفتهم به، بينما جاء الوحي للأنبياء في الأرض بواسطة بعض الملائكة وكان قول الملائكة في هذه الآية مقدمة لنقلهم الوحي، لأن النقل يأتي بعد الإخبار عن عدم العلم به إلا أن يأمر الله تعالى بمعرفة أو نقل الملائكة للوحي وأخبار التنزيل.
وتتضمن مخاطبة الملائكة الله تعالى بلغة العبودية [انكَ انتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] الرجاء والتوسل للتفضل عليهم بمعرفة تلك الأسماء، فلذا جاءت الآية التالية بتعليمهم الأسماء بواسطة آدم عليه السلام.
وبعد أن أختتمت الآية السابقة بقول الله تعالى إلى الملائكة [أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء أن كُنتُمْ صَادِقِينَ] إبتدأت هذه الآية بقول الملائكة الذي يتضمن إعتذاراً وإخباراً عن عدم معرفتهم بتلك الإسماء، ويستقرأ منه معنى الذي تعلق الشرط به في صدقهم بقوله تعالى [إن كُنتُمْ صَادِقِينَ].
ولكن عجز الملائكة لايعني انهم غير صادقين بما يفيد الضد للصدق وهو الكذب، بل فيه أمور:
الأول: بيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته.
الثاني: ان الله تعالى يفعل ما يشاء.
الثالث: إرادة الصدق بإحراز ما في جعل خليفة في الأرض من الأسرار والمنافع.
الرابع: إقامة الحجة على الملائكة.
فاذا كان الملائكة عاجزين عن معرفة الأسماء التي بحضرتهم، فمن باب الأولوية انهم عاجزون عن معرفة مايفعله الإنسان في الأرض من الصالحات وإعمارها بالتقوى والذكر والتسبيح والتقدير: إن كنتم صادقين بأن الخليفة يفسد فيها ويسفك الدماء).
 مع بيان التنافي بين علم آدم بالأسماء وفعل السيئات، لأن العلم برزخ دون الجهالة والغفلة، بالإضافة إلى مجئ العلم من عند الله تعالى، وهو حرز وواقية ويفيد صبغة الثبات في معاني العلم، وتجلي آثاره العملية على الجوارح والأركان.
لقد أراد الله تعالى أن يكون تعليم آدم الأسماء مدرسة فقهية عبادية باقية في الأرض بأحكام وسنن الإسلام وآيات القرآن، لذا فمن خصائص آياته إحاطتها باللامحدود من الوقائع والأحداث وكما أظهرت الملائكة عجزها عن معرفة الأسماء التي علّمها الله عز وجل آدم، فإنها والخلائق الآخرى تعجز عن الإحاطة بكنه آيات القرآن ودلالاتها إلا أن يطلعهم الله تعالى، وتكشف الوقائع عن شطر منها ، وبما يؤكد القدرة الإلهية في جعل خليفة في الأرض، وأن هذا الخليفة لايفسد في الأرض بل يجتهد في إصلاحها وتنزيهها من الفساد.
وقد ذكرت مادة (علّم) في الآية السابقة مرة واحدة بقوله تعالى [وَعلم آدم] أما في هذه الآية فقد جاء ذكرها مرتين بالإضافة إلى ورود اسم الله تعالى (العليم) كما تكرر لفظ (أعلم) في الآية التالية مرتين، كلاهما في علم الله تعالى، وفيه دلالة على أمور:
الأول: هذه الآيات آيات العلم.
الثاني: إقتران خلق آدم بالعلم.
الثالث: بيان إحاطة الله تعالى علماً بكل شيء ، وعجز أهل السماوات عن معرفة أسرار خلق الإنسان، وما في خلافته في الأرض من الحكمة.
وجاءت هذه الآية كلها كلاماً للملائكة وخطاب إعتذار منهم إلى الله تعالى، ومن آيات خلق آدم أن تتوجه الملائكة بالإعتذار إلى الله عز وجل صاغرة مذعنة معترفة بتخلفها عن الإحاطة بعلمه تعالى والإقرار بما أنعم به على الملائكة من العلم، وأن كل الذي عندهم رشحة من رشحات فضله وإحسانه، ومنه الإخبار عن جعل خليفة في الأرض، فلولا إخباره تعالى لهم لما علموا بانه سيكون خليفة في الأرض.
وجاء جواب الملائكة تعظيماً وتنزيهاً وثناء على الله تعالى ، ويتألف من ثلاثة أطراف:
الأول: كلمة التنزيه (سبحانك).
الثاني:إقرار الملائكة بانه ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله، وانهم لايعلمون تلك الأسماء لأنها ليست مما علمهم الله تعالى.
الثالث:الإقرار بأن الله تعالى هو العليم الحكيم، فهو سبحانه وحده العالم بكل شئ، وأن أفعاله كلها حكمة وصواب، وتحتمل الآية في مفهومها أموراً:
الأول: شوق الملائكة لمعرفة الأسماء والمسميات والمعاني المقصودة منها.
الثاني: إنعدام الشوق لمعرفة تلك الأسماء.
الثالث:تفويض الأمر إلى الله تعالى.
والصحيح هو الأول والثالث، فإن الملائكة أخبرت عن إنحصار علمها بما علمها الله، وأثنت على الله تعالى من وجهين:
الأول: علم الله تعالى بكل شئ، ومنه هذه الأسماء.
الثاني:إنه تعالى الحكيم الذي يعلم ما في تعلم الملائكة للأسماء من المنفعة والحكمة.
وتبين الآية مصداقاً من مصاديق الحكمة على وجوه:
الأول:إقامة الحجة بالسؤال التعجيزي.
الثاني: عدم طرح السؤال إلا مع معرفة جوابه.
الثالث:ذكر الجواب، وعدم ترك السؤال كالمعلقة، مادام في الجواب منفعة وله رجحان.
وهل كان أحد من الخلائق يعلم تلك الأسماء قبل أن يعلمها الله تعالى آدم، الجواب لا دليل على الإيجاب والأصل هو إختصاص الله تعالى بها، فمن علم الله تعالى أنه وضع تلك الأسماء ولم يطلع عليها أحداًً إلا بعد أن أخبر بها آدم عليه السلام لتكون في فوزه بالعلم بها قبل الغير منزلة رفيعة له عليه السلام بين الخلائق، وفيه دليل على تفضيله على من سواه، ودعوة للإنسان أن يشكر هذه النعمة بتعاقب العلم، ومن أهم مصاديقه طاعة الله، والتصديق بالكتب السماوية والعمل بأحكام الشريعة.
وتتضمن الآية في منطوقها تنزيه مقام الربوبية، وتدل في مفهومها على تنزيه الملائكة لأنفسهم، مع التباين في مقامات التنزيه، فتنزيه الله يعني تعظيمه وتمجيده والإقرار بربوبيته، أما تنزيه الملائكة لأنفسهم فيعني إقرارهم بالعبودية لله عز وجل وتجديد العجز والحاجة إلى رحمة الله تعالى، بإخبارهم بأنه ليس عندهم إلا ما علّمهم الله تعالى، مما يدل على ثباتهم في منازل الطاعة والخضوع والخشوع لله تعالى، وغبطتهم بما علمهم الله عز وجل.
وهذا التنزيه والإعتراف هو تنزيه آخر في الآية لمقام الربوبية، وثناء على الله تعالى، وإقرار بنعمة التعليم من عند الله، وفيه تأديب لآدم وذريته في الشكر لله تعالى على نعمة التعليم، ورجاء المزيد من فضله بالتقيد بسنن التقوى , قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ). 
التفسير الذاتي
لجأ الملائكة إلى الله عز وجل بالتسبيح والتقديس، في مقدمة للإعتذار وإظهار حسن العبودية والخضوع، ويحتمل واو الجماعة في (قالوا) أموراً:
الأول: صدور الكلام من جميع الملائكة.
الثاني: إنحصار القول بعدد من الملائكة.
الثالث: صدور الإستفهام من عدد قليل من الملائكة، ولكن السؤال الإلهي بمعرفة الأسماء توجه للجميع.
الرابع: صدور الإستفهام من عدد خاص من الملائكة، وتوجه السؤال لهم بالخصوص، ولكن التعظيم والتقديس لمقام الربوبية (سبحانك) جاء منهم جميعاً.
والصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق، وإرادة العموم المجموعي، إلا أن يقال أن أصل الإستفهام (أتجعل فيها) صدر من عدد من الملائكة فيحتمل الحصر، وقد جاء قوله تعالى [قَالُوا سُبْحَانَكَ] في القرآن ثلاث مرات ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان حاجة الإنسان.
الثانية: فوز الانسان المنزلة العظيمة بين الخلائق بأمور منها:
الأول: نفخ الله في روحه.
الثاني: إنفراده بمرتبة من العلم لم ينلها جنس من الخلائق قبله.
الثالثة: بيان عظيم فضل الله عز وجل على الانسان.
الرابعة: نعمة العلم هي أعظم النعم، ومن كان عنده نصيب من العلم فقد فاز وأحرز مرتبة وسبق وإرتقاء في المعارف، وقد انعم الله عز وجل على المسلمين بالهداية إلى الإيمان والتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من أعظم مصاديق العلم.
الخامسة: دعوة الإنسان إلى الإنتفاع مما عنده من العلم، وفي إنحصار أو تعدد العلم الذي رزقه الله آدم عليه السلام وجهان:
الأول: إنحصار العلم بآدم عليه السلام.
الثاني: إطلاع آدم عليه السلام وذريته من بعده على العلم الذي علّمه الله.
والصحيح هو الثاني، وهو على وجوه:
الأول: إختصاص العلم بالأنبياء على نحو الخصوص بالتوارث بينهم، فكل نبي يورث العلم إلى النبي الذي من بعده.
الثاني: شمول العلم لأصحاب الأنبياء، إذ يطلع النبي في كل زمان أصحابه على مضامين العلم، وفيه وجهان:
الأول: يطلع النبي أصحابه على كل ما تعلمه من النبي الذي سبقه.
الثاني: يخبر النبي أصحابه بشطر مما تعلمه من النبي السابق، ويبقي شطر منه يدخره لنفسه لأنه من مختصات النبوة.
الثالث: إطلاع النبي أتباعه المسلمين على ما تعلمه وراثة من الأنبياء السابقين عن آدم عليه السلام.
الرابع: ما علّمه الله عز وجل آدم علمه لحواء ولأولاده من بعده  الصلبيين منهم والأحفاد، ليبقى إرثاً مباركاً في ذرية آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، نعم للأنبياء المنزلة الرفيعة في توارثه وحفظه وتعاهده.
 ولا تعارض بين هذه الوجوه، لأن العلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وتلك نعمة عظيمة على الناس جميعاً وحجة عليهم في لزوم الإيمان بالله والتصديق بالأنبياء، وجاءت الآية بخصوص تعليم أسماء الأشياء والأعيان والعروض، وفيه دليل على تكامل اللغة عند آدم وإقتران معرفة الحروف والكلمات عنده بالخلق والنفخ فيه من روح الله.
إن معرفة لغة التخاطب أمر صعب وليس باليسير، فلو ولد طفلان ولم يجر مع كل منهما أي كلام أو حديث أو إشارة إلى شيء، وعندما يكبران يجمع بينهما فهما لم يعرفا النطق باي لغة ولم يسمعا كلاماً مفهوماً، مما يستلزم تعاقب أجيال من ذريتهما كي تكون هناك لغة للتخاطب بينهم، وقد أنعم الله عز وجل على آدم، وجعله يعلم الأسماء كلها وبما يعرف معه لغة مخصوصة، وهو أمر مستقرأ من أمور:
الأول: تشريف آدم بالنفخ فيه من روح الله.
الثاني: تعيين آدم بمنصب الخلافة في الأرض، فلا يمكن أن يكون الخليفة جاهلاً للغة التخاطب والتفاهم.
الثالث: التحدي الإلهي بآدم بين الملائكة وعجزهم عن مجاراته بما رزقه الله عز وجل من فضله.
الرابع:لقد أنعم الله تعالى على الإنسان وخلصه من الحاجة إلى لغة الإشارة، لأن وظائف الخلافة تقتضي القيام بالعبادة والتلاوة وتوارث العلم ، وهي أمور لاتحصل إلا بالنطق واللغة.
الخامس: تعلم آدم الأسماء مقدمة لنهيه عن الأكل من الشجرة، وهو حجة عليه حينما أكل منها, وإن كان التسبيب والوزر على الشيطان الذي أغواه وأغراه وكذب وإفترى عليه.
السادس:حينما أنكر الملائكة خلافة الانسان في الأرض لم يذكروا عجزه عن معرفة الكلام واللغة، ومع هذا إكتفوا بذم الانسان لإفساده في الأرض وسفكه الدماء، والجواب من وجوه:
الأول: إعتنى الملائكة بأكثر أفعال بني آدم قبحاً.
الثاني: علم الملائكة بأن الناس سيتعملون لغة للتخاطب.
الثالث: معرفة الملائكة أن الله عز وجل سيعلم آدم وذريته لغة أو لغات للتخاطب.
الرابع: إمتلاك آدم لغة للتخاطب، لأن الله عز وجل خلقه بتمام الخلقة.
ولم تذكر هذه الآية إلا تعليم الأسماء، ويدل هذا التعليم بالدلالة التضمنية على أن آدم عليه السلام يتحدث لغة مخصوصة قبل أن يعلم الأشياء.
والصحيح هو الثاني والرابع، فالظاهر أن تعليم اللغة متقدم زماناً، وهو مقدمة لتعلم آدم عليه السلام الأسماء, وورد في الخبر أن أول كلمة قالها آدم هي الحمد لله.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ سبْحانكَ ]
سبحان كلمة تنزيه وتقديس لله عز وجل من كل ما لا ينبغي له من الصفات وما يتعلق بالمقام وفق القرائن، ففي الآية الكريمة يكون المعنى تنزيه الله تعالى وتعظيمه والإقرار والإعلان بأن الغيب لا يعلمه غيره، وأن الملائكة لم يقصدوا في الإستفهام سوى التعظيم والتقديس والتسليم للقدرة الإلهية المطلقة.
فهذه الآية تبين أن إستفهامهم [ أَتَجْعَلُ فِيهَا ] لم يكن على سبيل الإنكار، وأن سؤالهم كان على وجه التعجب فيما لا يعلمونه من عظيم قدرته تعالى وما تعنيه إرادته في تصيير خليفة له في الأرض.
ومن صفات الله تعالى انه مريد أي عالم بما يشـتمله الفعل من المصلحة الداعية إلى إيجاده وهو المخصص لإيجاده في وقت دون آخر وحال دون آخر،  من غير تأثر بمولدات تلك الإرادة أو الإنفعال بها كما عند الناس اذ يحصل عندهم شوق أو نحوه يبعث إلى تحصيل الفعل لأن علمهم كسبي إنطباعي، أما علم الله تعالى فهو حضوري ذاتي وسابق للمعلوم، وعلم الناس والملائكة لاحق وتابع للمعلوم ووجوده صورة وجسماً.
نعم يمــكن القول أن تعــظـيم الملائــكــة لله عز وجل بقولهم [سُبْحَانكَ] مناسبة للتدارك والإعتذار والبيان وتجديد الإخلاص في العبودية والخضوع لأمره تعالى والقبول بالحادث من الأمر النازل، وفيها بالدلالة التضمنية تطلع ورجاء لمعرفتها، وتفضل الله سبحانه بالإخبار عنها.
وأختلف في قول الملائكة [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفسِدُ فِيهَا ] هل هو خطأ وتقصير، وجاءت هذه الآية لبيان ندمهم وتوبتهم، وانهم أظهروا الإقرار بالعجـز والحاجة إلى فضل الله للتزود بالعلم وهـو أشــرف وجـــوه الرزق، وظاهـــر بعض الأخبــار يدل على إعتـذارهم وندمهم وهو أعم من الذنب بمعناه الإصطلاحي، وفيه نوع تقرب إلى الله وتعظيم لمقام الربوبية.
ويبدو أن نواميس وأحكام السماء تتصف بالدقة والإرتقاء في منازل العبودية والخضوع وكأنه من “حسنات الأبرار سيئات المقربين ” ( )، ولابد من حمل الآية على الوجه الأحســن لأصالة الصحة، وعدم إعتبار الشــك، ولورود الآيـات التي تفيد تنزيه الملائكة مطلقاً، ومنها قوله تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ]( ).
إن الله تعالى يقيم الحجة على أشرف مخلوقاته، ويظهر لها حاجتها المستديمة له، وفي الآية دعوة للناس جميعاً لتحصيل العلم والإجتهاد في طلبه وإكتسابه.
عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أول من لبى الملائكة قال الله {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قال : فزادوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذاراً إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن سابط: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دحيت الأرض من مكة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أوّل من طاف به ، وهي الأرض التي قال الله {إني جاعل في الأرض خليفة} وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتاها هو ومن معه ، فيعبدون الله بها حتى يموتوا فيها، وأن قبر نوح، وهود، وشعيب، وصالح، بين زمزم وبين الركن والمقام)( ).
تفسير قوله تعالى [ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ]
إقرار بالحاجة والإفتقار إلى رحمة الله تعالى وفضله للزوم الإمكان لماهيتها وعدم إنفصال الإمكان عن الإحتياج، ولازم اللازم لازم، ولم ينحصر إحتياج الملائكة إلى واجب الوجود بوجودهم بل يشمل بقاءهم وجوانبه المختلفة ومنه علمهم الإكتسابي والذي لا تستطيع الملائكة التوصل إلى فرد منه إلا بما ينعم به الله عليهم.
ومنه تفضل الله تعالى بإخبارهم بالخليفة في الأرض وأهليته لإستحقاق تلك الخلافة بما فضله الله تعالى به.
ويمكن الإستدلال أيضاً بأن سؤال الملائكة ليس إستنكارياً لانهم لم يستمروا بالإحتجاج ولم يذكروا مثلاً أن تعليم آدم جاء بفضل الله تعالى وانه لا يمنع من سفك الدماء، وربما وجه بعض البشر والملأ منهم العلم للفساد والشر، والملائكة دائبون في التسبيح بهذا العلم أو بدونه ولكنهم أدركوا أن الذي تعلمه آدم كاف للقضاء على الفساد في الأرض، فهذه الآيات بشارة سيادة العدل والحكم بالحق، وإعلاء كلمة التوحيد في الأرض، وإخبار بأن العلم واقية وحرز من الفساد وإستدامته.
لقد إنشغل الملائكة بكـيفيـة الرد الكــريـم والإعتذار الجـميــل وهو دعوة للمسلمين بطاعة أوامر الله تعالى لما فيها من المصــلحــة، وإجتنــاب نواهيــه لعلمه بما فيها من المفسـدة.
وإحتج الأشــاعرة بالآيـــة الكــريمة على أن المعارف مخلوقة لله تعالى، أما المعــتزلة فقد إعتبروا الواســطة في التــأويل فقالوا أن المراد لا عــلم لنا إلا من جــهتــه أما بالتعــليم واما بنصب الدلالة.
والخلاف بينهم صغروي ، ودلالات الآية أعظم , وهي مناسبة للإعتبار والإتعاظ وليس الإختلاف الذي يشغل الأذهان، ومن وجوه الإعتبار أن الملائكة توجهت مع العلم إلى التدارك والإعتذار، ولجأت إلى التسبيح والتقديس لمقام الربوبية.
وتتعلق الآية الكريمة بحال الملائكة في السماء والقدر المتيقن هو إدراك المغيبات.
وفي الآية إقرار بالنعـم وإعتراف من الملائكة بأن ما عندهم من العلم هو فضل من الله تعالى فلم يكتفوا بالقول [ لاَ عِلْمَ لَنَا… ]. ولعل فيها وفيما بعدها من التعظيم والثناء سؤالاً للعلم بتلك الأسماء.
بحث بلاغي
ترد (ما)  إسماً وترد حرفاً، وإذا وردت إسماً فقد تكون معرفة وقد تكون نكرة، وإذا أمكن مجيء (الذي) في محلها فهي معرفة، اما إذا حسن مجيء (شيء) محلها فهي نكرة، وقد يصلح الأمران معاً.
وهي هنا معرفة، وقد تكون خبرية أو إستفهامية، وفي المقام جاءت خبرية لانها جاءت بعد (إلا)، وتدل الآية على ضبط الملائكة لما علموه، وانهم متأكدون من أن هذه الأسماء ليست مما علّمهم الله سبحانه، ولم يترددوا في الجواب أو يجتمعوا فيتشاوروا للتذكر وإستحضار كل ما علموه , ولم يجعلوا لإحتمال النسيان نصيباً بل أكدوا عدم علمهم بها، مما يدل على شرف الملائكة، وعظيم خلقهم، وحسن أدبهم في حضرة القدس، الأمر الذي يؤكد بالدلالة الإلتزامية على شرف الإنسان بما رزقه الله من النعم ، والمنزلة الرفيعة التي جعله الله فيها بين الخلائق، ومنها انه علّمه ما لم يكن عند الملائكة.
تفسير قوله تعالى [ انكَ انتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ]
العليم على وزن فعيل للمبالغة، لقد أثبت الملائكة العلم المطلق لله تعالى بعد أن أعلنوا إقرارهم بالعجز والإحتياج، وأن الأشياء تستند إلى الله عز وجل ، وأنه مختار في مخلوقاته , ويجعل من يشاء خليفة ويُعَلم من يشاء، ويحجب فضله عمن يشاء لأنه فاعل مختار لا يفعل إلا مع القصد وكل فاعل مختار عالم .
 والنتيجة انه تعالى عالم، ومن أسمائه تعالى (العليم) و(الحكيم).
والحكمة لها معنيان:
الأول: معرفة الأشياء وتفاصيل الأمور وجزئياتها.
الثاني: صدور الأمر على الوجه الأتم والأكمل، والحكيم هنا فعيل بمعنى فاعل.
وعلى المعنى الأول فالله سبحانه ذو الحكمة الذي أحاط بكل شيء علماً، وعلى المعنى الثاني فهو سبحانه الذي يفعل ما هو غاية الكمال والإتقان والإحكام.
ويتضمن هذا الثناء والتعظيم في بعض مفاهيمه إقراراً بإســتحــالــة وقــوع الفعل المتقــن من الملائكة إلا بتوفيق من الله تعالى، وبأن خلق آدم وجعله خليفة في الأرض من الإتقان والحكمة واللطف الإلهي، كما تخبر الآية بالدلالة التضمنية على ما يكون للإنسان وخلافته من شأن في عالم التكوين والتشريع.
بحث روائي
في تفسير العياشي عن الامام الصادق قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقالت الملائكة في انفسها: ما كّنا نظن أن الله خلق خلقاً اكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق اليه، فقال الله: ألم أقل لكم اني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر الجان، وكتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.
وفي خبر محمد بن سنان عن الرضا أن الملائكة لما إستغفروا من قولهم أتجعل فيها من يفســد فيها وعلموا أنهم أذنبوا فندموا ولاذوا بالعرش وإستغفروا فأحب الله أن يتعبد بمثل ذلــك العبـادة فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يسمى الضراح، ثم وضع في سماء الدنيا بيتاً يســمى المعمور بحـــذاء الضراح ، ثم وضــع البيت بحذاء البيت المعمــور ثم أمر آدم فطـــاف به وتاب عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة( ) .            
قوله تعالى[ قَالَ يَاآدم انبِئْهُمْ بِأَسْـمَائِهِمْ فَلَمَّا انبَأَهُمْ بِأسْـــمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُــمْ اني أَعْلَمُ غَيْبَ السَّـــمَاوَاتِ وَالأرض وَأَعْلَـــمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]الآية 33.
الإعراب واللغة
قال: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى الله تعالى.
يا آدم: يا: حرف نداء، آدم: منادى مفرد مبني على الضم.
انبئهم: فعل أمر مبني على السكون، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، يعود إلى الله عزو جل، الهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
باسمائهم: الباء: حرف جر، أسماء: اسم مجرور، والجملة في محل نصب المفعول الثاني، والضمير الهاء: مضاف اليه.
فلما: الفاء: عاطفة على جملة محذوفة والتقدير فأنبئهم بأسمائهم وحذفت للبلاغة والوضوح والإيجاز غير المخل.
لما: ظرفية وتسمى الحينية وتتضمن معنى الشرط، انبأهم: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود لآدم، والجملة في محل جر بإضافة الظرف اليها، والضمير الهاء مفعول به.
بأسمائهم: جار ومجرور متعلقان بأنبئهم، والضمير (الهاء) في محل جر مضاف اليه.
قال: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى الله تعالى، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم.
ألم: الهمزة، للإستفهام التقريري، لم: حرف نفي وقلب وجزم.
أقل: فعل مضارع مجزوم بلم، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا.
لكم: جار ومجرور متعلقان بأقل، اني: أن وأسمها.
أعلم: فعل مضارع مرفوع، والجملة الفعلية خبر ان، وجملة أن وما في حيزها في محل نصب مقول القول.
غيب: مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف، السماوات: مضاف إليه مجرور بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، والأرض عطف على السماوات.
وأعلم: الواو حرف عطف، أعلم: عطف على أعلم الأولى، ما: اسم موصول في محل نصب مفعول به.
تبدون: فعل مضارع مرفوع، وجملة تبدون لا محل لها لأنها صلة الموصول، و(ما) عطف على (ما) الأولى.
كنتم: كان وأسمها، تكتمون: جملة فعلية في محل نصب خبر كنتم.
أنبئُهم بضم الهاء، لأن هاء الضمير في الأصل تكون مضمومة وقد كسرها قوم عند سبقها بكسرة أو ياء كما في بهم وعليهم، وبقي آخرون على ضمها حتى في هذه الحالة حملاً على الأصل، وروي أن ابن عامر كسر الهاء في أنبئهم، ربما على القياس إتباعاً لكسرة الباء، وعدم الإلتفات إلى الهمزة كحاجز ساكن.
والغيب: هو كل ما غاب عنك، وفي الإصطلاح ما خفي على الناس وجهلوا أمره من أسرار السماوات والأرض وقصص الأمم السالفة.
وبَدا الشيءُ يَبْدُو بَدْواً وبُدُوّاً وبَداءً وبَداً الأَخيرة عن سيبويه ظهر وأَبْدَيْته أَنا أَظهرته( ).
الكتمان: الإخفاء، ونقيض الإعلان، يقال كتم الشئ يكتمه كتماً.
تبدون: تظهرون وتعلنون.
في سياق الآيات
هذه الآيات بيان لعظيم فضل الله تعالى في خلق الإنسان والحجة في تعليمه وإعداده وجعله في منزلة يغبطه عليها الخلائق فليس من فترة بين الخلق والتعليم وما يعنيه من الرفعة، وفيه توبيخ لأولئك الذين لم يتخذوا العلم طريقاً للإقرار بالربوبية.
ويكون مضمون نظم هذه الآيات على وجوه:
الأول: إخبار الله تعالى للملائكة بأنه سيجعل خليفة له في الأرض.
الثاني: رد الملائكة بالسؤال عن الفساد الذي يحدثه ابن آدم في الأرض، وما فيه من الأذى للملائكة وهم منقطعون للعبادة والتسبيح، وذكر الملائكة أمرين:
الأول: الفساد في الأرض.
الثاني: سفك الدماء.
ولقد أراد الملائكة القول بأن وظيفتهم هي العبادة المحضة وأنهم لا يفعلون إلا ما يأمرهم الله وأنهم لم يعترضوا على جعل خليفة في الأرض، لأن هذا ليس من شأنهم ، وهم خلق مطيعون لله تعالى، ولكنهم سألوا عن عاقبة المفسدين ، فجاء الجواب من عند الله [اني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
الثالث: لم يترك الله تعالى كلام الملائكة من غير رد، بل أجابهم بما فيه حجة عليهم إلى يوم القيامة.
الرابع: تفضل الله عز وجل بتعليم آدم الأسماء كلها، وجاء هذا التعليم قبل أن يصبح آدم خليفة في الأرض.
الخامس: تفضل الله وعرض المسميات على الملائكة لإتمام الحجة والسؤال عن أسمائهم.
السادس: إظهار الملائكة عدم معرفتهم بالأسماء، لأنها ليست مما علمهم الله تعالى، مع التحميد والتمجيد لمقام الربوبية.
السابع: الأمر الإلهي لآدم بإخبار الملائكة عن الأسماء.
الثامن: قيام آدم بإخبار الملائكة عن الأسماء، وفيه شاهد على أمور:
الأول: قدرة آدم على حفظ الأسماء وهل ذكرها آدم أم ترك أو نسي بعضاً منها، الجواب هو الأول، لأصالة الإطلاق، وظاهر الآية الكريمة وما فيها من لغة العموم.
الثاني: إمتلاك آدم للذاكرة وإستحضار الأسماء.
الثالث: إستجابة آدم لأمر الله تعالى بالإجابة، وذكر الأسماء للملائكة، لأن الآية تقول [فَلَمَّا انبَأَهُمْ].
الرابع: بيان أهلية آدم للخلافة في الأرض، وتلقي الوحي والتنزيل.
التاسع: مجيء البيان من الله تعالى إلى الملائكة عقب تعليم آدم لهم الأسماء والإخبار عن إحاطته سبحانه علماً بكل شيء ما ظهر  وما بطن، والموجود والمعدوم.
العاشر: توجه الأمر الإلهي إلى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، فمن الآيات أن السجود لم يأتِ متصلاً مع الإخبار عن جعله خليفة في الأرض، فلم تقل الآيات “اني جاعل في الأرض خليفة فاسجدوا له” بل جاءت الآيات بأمور ومقدمات ومسائل في الإرادة التكوينية، وفيه إشارة إلى أن موضوع الخلافة أعم من شخص آدم عليه السلام وأن الأمر بالسجود لم يأتِ الا بعد البيان وإقامة الحجة على الملائكة، وهو لطف من الله تعالى بهم وبآدم، ولكن إبليس لم ينتفع من هذا اللطف بسبب عناده وجحوده.
الحادي عشر: إستجابة الملائكة لأمر الله بالسجود لآدم عليه السلام إلا إبليس الذي إستكبر جاحداً.
الثاني عشر: الإخبار عن الفضل الإلهي على آدم بالسكن هو وزوجته في الجنة، وهل هناك شواهد على إستحقاق آدم السكن في الجنة، فيه وجوه:
الأول: تلقي آدم معرفة الأسماء من عند الله تعالى من غير واسطة ملك.
الثاني: قيامه بتعليم الملائكة الأسماء.
الثالث: إمتثاله لأمر الله تعالى بتعليم الملائكة الأسماء.
الرابع: عدم سقوط بعض الأسماء منه.
الخامس: الأمر الإلهي بسجود الملائكة له.
السادس: قيام الملائكة بالسجود لآدم طاعة لله تعالى.
السابع: إمتناع إبليس عن السجود لآدم عليه السلام.
الجواب انه لا دليل على موضوعية اي واحد منها لإستحقاق سكن آدم وحواء في الجنة، بل جاء سكنهما فيها لطفاً وكرماً من عند الله تعالى، وفي سكنه مع الملائكة موعظة وعبرة له وللملائكة ، ومقدمة لسكن المؤمنين الدائم في جنة الخلد.
لقد جاء هذا التعليم على قسمين:
الأول: تعليم الله تعالى الأسماء لآدم، وفيه مسائل:
الأولى: حاجة آدم لتعلم الأسماء.
الثانية: أهلية آدم لإكتساب المعارف.
الثالثة: يحتمل تعلم آدم للأسماء وجهين:
الأول: انه جاء على نحو دفعي ومرة واحدة.
الثاني: جاء التعليم على نحو تدريجي، كنزول القرآن نجوماً.
والصحيح هو الأول لوجوه:
الأول: عمومات قوله تعالى [انمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثاني: جاءت الآيات في مقام الإحتجاج على الملائكة في بيان منزلة آدم عليه السلام، وما له من الشأن العظيم.
الرابعة: جاءت الآيات بإفادة صيرورة آدم خليفة في الأرض، وتبين الآية فضل الله تعالى على الخلائق بواسطة الخليفة، لأن تعلم آدم الأسماء وسيلة للعدل ونشر مفاهيم الرأفة.
الخامسة: تعليم الأسماء حجة ومناسبة للإحتجاج على الملائكة.
السادسة: من رحمة الله تعالى أن آدم لم ينزل إلى الأرض إلا بالعلم والمعارف الإلهية.
الثاني: تعليم آدم الأسماء للملائكة وفيه مسائل:
الأولى: الآية شهادة على نيل آدم للمعارف التي تؤهله لمنزلة الخلافة في الأرض.
الثانية: معرفة أهل السماوات بمنزلة آدم عليه السلام.
الثالثة: في الآية ثناء على الملائكة لأنهم يتلقون التعليم ممن لم تمر مدة على خلقه، وهو ليس من أهل السماء بل خلق ليكون خليفة في الأرض، وفيه دعوة للناس لتلقي التعليم وإن كان من البعيد والبلد النائي (لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إطلبوا العلم ولو بالصين( ).
الرابعة: إعطاء الملائكة درساً للناس بأن يتلقوا المعارف، ولو من الأدنى منهم.
الخامسة: إقرار الملائكة بأهلية آدم للخلافة في الأرض.
السادسة: لما كان الملائكة يخشون من أهل الفساد في الأرض كما في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاءت هذه الآية للدلالة على أثر العلم في تنزيه الأرض من إستدامة الفساد.
السابعة: تدل الآيات على مطابقة الأسماء للمسميات.
وإذ أكدت الآيات علم آدم بالأسماء فإنها لم تشر إلى تعلم الملائكة لها، ولكن الآية تدل عليه لكفاية تلقي الملائكة للأسماء في حفظهم لها ومطابقتها لمسمياتها لعظيم قدرهم، ولإتصافهم بالحفظ، قال تعالى [وَأن عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ] ( ).
الأول: الصلة بين آية(فسواهن) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تفضل الله عز وجل بخلق وتعيين رزق آدم وذريته قبل خلق آدم بقرينة أن خلق السموات جاء متأخراً زماناً عن خلق الأرض ومادة الرزق فيها , وأن خلق آدم وسجود الملائكة له كان في الجنة.
الثانية: من غيب السماوات والأرض التي يعلمها الله علة خلق الأرض وأقوات الناس فيها، إذ أن مقدمات موضوع الخليفة في الأرض سابقة لخلق آدم عليه السلام.
الثالثة: أختتمت الآية بالإخبار عن إحاطة الله علماً بكل شيء، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن علم الله عز وجل عن أمور:
الأول: علم الله بغيب السماوات.
الثاني: علم الله عز وجل بغيب الأرض وما يكون من شأن آدم وذريته، ويدل بالدلالة التضمنية على الرد على إدعاء الملائكة بأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، والإشارة إلى جانب الصلاح والهداية في الأرض.
الثالث: ما يعلن الملائكة.
الرابع: ما يخفيه الملائكة في نفوسهم بخصوص آدم أو مطلقاً.
الخامس: من علم الله عز وجل تعليم آدم الملائكة الأسماء، ومجيء هذا التعليم , ويحتمل الذي يخفيه الملائكة وجوهاً:
الأول: الذي يتفق عليه الملائكة فيما بينهم بخصوص آدم عليه السلام.
الثاني: ما يستحي الملائكة من إظهاره.
الثالث: ما ينوون قوله .
الرابع: يعلم الله برد الملائكة قبل أن ينطقوا به.
لقد جاءت الآيات بمدح الملائكة والثناء عليهم، وهم منقادون لأمر الله عز وجل، وجاءت الآية لإقامة الحجة على الملائكة وأن الله عز وجل يعلم بردهم وقولهم قبل أن يقولوه، وفيه تأديب لأهل السماء والأرض وبيان لإكرام الله عز وجل لآدم.
الثاني: الصلة بين آية[خَلِيفَةً] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين أن خلق الملائكة قبل آدم، ومع هذا صار آدم معلماً للملائكة.
الثانية: آدم هو الخليفة في الأرض.
الثالثة: إحتج الملائكة، بأن الخليفة يفسد في الأرض ويكثر من القتل بغير الحق، فجاءت هذه الآية لتبين إتصاف وقيام آدم بأسمى وظيفة وهي التعليم وتعليم الملائكة بالذات، ومن خصائص التعليم إحداث تغيير عند المتعلم، وهو في المقام أعم من موضوع التعليم لمعرفة المتعلم وأهليته  للخلافة في الأرض.
الثالث:الصلة بين آية [ وَعلم آدم الأسماء] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاء تعليم آدم الأسماء لنفسه وللملائكة مما يدل على أن خلقه رحمة وخير محض.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين تعلم آدم للأسماء، وقيامه بتعليمها، وهو مقدمة وشاهد لتلقي الأنبياء الوحي، وقيامهم بتبليغه من غير زيادة أو نقصان، ودعوة للناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وما يأتي به من القرآن من الوحي من عند الله عز وجل.
الثالثة: إن إبليس رأى آدم وهو يقوم بتعليم الملائكة، وفيه دعوة له لتلقي الأمر بالسجود لآدم بالقبول.
الرابع: الصلة بين الآية السابقة[قَالُوا سُبْحَانَكَ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تقديم الثناء على الله عند الجواب مطلقاً، والإعتذار خاصة.
الثانية: جاء التحدي للملائكة، أما آدم فقد علّمه الله عز وجل الأسماء إبتداء وفضلاً من عنده.
الثالثة: إبتداء مرحلة جديدة وهي تلقي الملائكة التعليم بواسطة آدم، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى في الآية السابقة[لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( )، بل هو في طوله، ويتضمن تشريف آدم، وهل فيه أمارة على صعود الإنسان إلى الكواكب الأخرى وإنتفاعه من سلطان العلم في الإنتفاع منها، الجواب لا، فان القدر المتيقن هو الصلة بين الملائكة والإنسان.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية آية [اسْجُدُوا لآدَمَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: بعد بيان علم آدم وأهليته للخلافة في الأرض جاء الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم.
الثانية: يدل سجود الملائكة لآدم على طاعتهم لله وإنقيادهم لأوامره.
الثالثة: قيام الحجة على إبليس، فهو أبى السجود مع رؤية العلم عند آدم، وقيام الملائكة بالإمتثال للسجود له.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية[يَاآدَمُ اسْكُنْ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: لم يسكن آدم في الجنة إلا بعد سجود الملائكة له.
الثانية: لزوم حذر آدم من إبليس لأنه أبى السجود له.
الثالثة: بعد سجود الملائكة لآدم في الآية السابقة جاء إخبار هذه الآية عن حواء وأنها تسكن مع آدم في الجنة.
الرابعة: يدل حرف العطف الواو في (وقلنا) على مجئ الأمر بسجود آدم في الجنة بعد سجود الملائكة له.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [فَأَزَلَّهُمَا]( )، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين  الآيتين بأن آدم وحواء أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها.
الثانية: عدم استدامة سكن آدم وحواء في الجنة بسبب إغواء إبليس.
الثالثة: مصاحبة العداوة للسكن في الأرض، لتكون عبادة الإنسان لله واقية من تلك العداوة، وسبيل نجاة من شرور إبليس.
الرابعة: جاء الأمر بالسكن في الجنة مطلقاً بلحاظ أفراد الزمان، أما السكن في الأرض فانه مقيد بقوله تعالى [إِلَى حِينٍ] ويفيد الجمع بين الآيتين وجود حياة أخرى تتصف بالخلود وهي السكن في الجنة، قال تعالى[لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ). 
إعجاز الآية
تعدد موارد الإكرام لآدم في مخاطبة الباري عز وجل له وتعليمه إياه وتولي آدم لوظائفه العلمية والعقائدية منذ بداية خلقه، ليصبح حجة، وفي الآية إشارة إلى وجود ما جعل الله عند آدم من العلوم في القرآن وأودعها آياته، وتدعو الآية الناس لينهلوا منه ليستحق الإنسان بالإيمان الخلافة في الأرض.
وأخبرت هذه الآية بأن الله تعالى قال للملائكة [اني أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] وليس في الآيات السابقة ذكر له، ولم يرد اللفظ أعلاه في اي آية من آيات القرآن مع مجيئها بذكر علمه تعالى بغيب السماوات والأرض، وفيه دلالة على أن الله عز وجل سبق وأن قال للملائكة هذا القول وتفضل وذكرهم به في خلق آدم، وهو شاهد على أن القرآن فيه تبيان كل شيء , ومنها أخبار السماوات والملائكة.
لقد علّم الله عزوجل آدم الأسماء كلها ليخبر الملائكة بها، وأخبر المسلمين بالقرآن عن كلامه مع الملائكة وأنه يعلم غيب وأسرار السماوات والأرض ليتلقاه المسلمون بالقبول والتصديق بالإيمان، وإدراك حقيقة وهي علم الله تعالى بما في نفوس المسلمين والناس جميعاً، وفيه حرب على النفاق ودعوة للتنزه منه، إذ جاءت الآيات السابقة بذم المنافقين.
فمن إعجاز الآية انه جاءت بالإخبار عن علم الله تعالى بالعام والخاص.
ويمكن تسمية الآية الكريمة بآية (أنبأهم بأسمائهم) ولم يرد لفظ أسمائهم في القرآن إلا في هذه الآية وعلى نحو متكرر ، فجاء فيها مرتين ، وتلك آية   وخصوصية  في  هذه الآية  تدل على موضوعية  هذه الواقعة ، وشرف آدم عليه السلام بين الخلائق.
وهو إعجاز إضافي لهذه الآية، وشاهد على موضوعية تعليم  وإخبار آدم  للملائكة  بالأسماء، ومافيه من الأسرار والمضامين القدسية التي تدل على منزلة الإنسان بين الخلائق، ومقام  آدم بين الملائكة والذي توارثه الأنبياء، ويتعاهده المسلمون  بأداء الفرائض والعبادات، وعمارة المساجد، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وتعاهدالمسلمين لهذه المرتبة بتقوى الله سبحانه.
الآية سلاح
تكشف الآية مراحل العز والإكرام في خلق الانسان لتكون حجة علينا في الشكر لله ووراثة العلم، وتثبت تخلف أهل الكفر والنفاق.
وتبين الآية عظيم المنزلة التي نالها آدم، وانه لم ينلها بسعيه، بل بفضل الله تعالى وما علمه إياه، لمنع الغرور عند الإنسان، وحثه على اللجوء إلى الله عز وجل.
لقد تولى آدم حال خلقه في الجنة مسؤولية تعليم الملائكة الأسماء وفيه شاهد على قيام الإنسان بوظائف الخلافة أحسن قيام، ولا عبرة بالمفسدين الذين تلاحقهم آيات التنزيل بالذم والتوبيخ والإنذار، لتكون عاقبتهم النار وبئس المصير، وذكرت الآية علم الله تعالى بأربعة أمور:
الأول: غيب السماوات.
الثاني: غيب وأسرار الأرض.
الثالث: ما يظهره ويعلنه الملائكة.
الرابع: ما يخفيه الملائكة.
وفيه إشارة إلى علم الله تعالى بما سوف يفعله الإنسان مطلقاً، وفعله  الصالح منه والطالح، وهو لايتعارض مع موضوع الخلافة، وإستحقاق المؤمنين لها.
ومن إعجاز الآية أنها لم تتضمن تعليم آدم للملائكة الأسماء فلم يقل الله تعالى “يا آدم علمهم الأسماء” بل قال سبحانه [انبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] وجاء متعقباً لهذا الشطر إنباء آدم للملائكة بالأسماء من غير إبطاء ولا إستعلاء ولا إستكبار بل بصيغة الإخبار عنها وما فيها من الإمتثال، أما تعليم الأسماء أصلاً فجاء من عند الله إلى آدم.
وتبين الآية جانباً من الصلة بين الإنسان والملائكة وأنها إبتدأت بموضوع العلم وإخبار آدم الملائكة بالأسماء التي علّمه الله تعالى، ترى هل من نسبة بين إخبار آدم الملائكة بالأسماء وبين نزول الملائكة بالوحي على الأنبياء.
الجواب نعم، فقد أراد الله عز وجل أن تكون الصلة بين الملائكة والانسان قائمة على العلم والإمتثال للأوامر الإلهية ليتلقى كل طرف مع الثاني العلوم والتبليغ بالقبول والرضا، فمع أن سكن الملائكة في السماء فإنهم يعرفون الأرض وعلموا بمن سيكون خليفة فيها.
ومن شأن الملوك والسلاطين أنهم إذا بعثوا والياً أو حاكماً في بلد أن يلتقوا به ويوصوه بما يجب عليه فعله، فهل يشبه هذا الفعل خلق الله عز وجل آدم وتعليمه الأسماء، وإختباره في إخبار الملائكة عنها، الجواب لا، وهو قياس مع الفارق، فالله عز وجل يجعل آدم مؤهلاً للخلافة وهو سبحانه قادر على أن يخلقه في الأرض ويرزقه الأهلية للخلافة من ساعة خلقه، وليس ثمة مسافة بين الله وبين خليفته، وقد شرفه الله الأنبياء بالوحي والتنزيل.
والله سبحانه لطيف بالملائكة والناس وأراد أن يرى الملائكة بديع خلقه، ويتعظ الناس مما دار بين الله تعالى وبين الملائكة في خلافة الإنسان في الأرض، لتكون هذه الآيات مدرسة عقائدية تساهم في إصلاح السرائر، ورسوخ معاني الإيمان في النفوس، وحرص المسلمين على المبادرة إلى فعل الصالحات وإجتناب المعاصي والسيئات.
مفهوم الآية
من مفاهيم الآية الإخبار عن إحراز الإنسان للعلوم والمعارف الإلهية، وفيه مدح وإكرام له ليكون دعوة لشكر الله تعالى وإجتناب توظيف العلم في الجحود والمعصية والضلالة .
وفي الآية ثناء على مقام الربوبية وبيان لإحاطة الله تعالى بأسرار الكون وخفايا الأمور، والنوايا والمقاصد الظاهرة والباطنة.
فالانسان الذي خلق وفي عالم غير عالمه، يتولى مسؤولية إخبار وإطلاع الملائكة، ولا يكون متعلماً إلا من عنده تعالى، وهذا شرف عظيم ينفرد به الإنسان من بين الخلائق، وفيه مسؤولية إضافية، فإلى جانب أمانة الخلافة تحمل آدم أعباء العلم وتبليغه، فاذا قام بإخبار الملائكة وهدايتهم إلى أسماء الأعيان والمسميات الحاضرة أمامهم، فالأصل أن ينذر الإنسان  نفسه لتبليغ الدعوة إلى الله والإنقطاع إلى عبادته تعالى شكراً له تعالى على النعم الواردة في هذه الآيات وهي:
الأول: خلق آدم.
الثاني: بعث الروح فيه.
الثالث: إختياره خليفة من ساعة خلقه.
الرابع: مباهاة الملائكة به.
الخامس: تعليمه الأسماء.
السادس: تولي آدم إخبار الملائكة بالأسماء.
السابع: حضور آدم إظهار الملائكة عجزهم عن معرفة الأسماء، وهذا العجز جاء من باب المثال، فقد أعلنوا حصر علمهم بما علمهم الله أي انهم لم يعلموا فلسفة وأسرار خلق آدم وإختياره خليفة في الأرض، مع حدوث القتل والظلم بين الناس.
لقد أراد الله عز وجل لخلق آدم مناسبة لإعلان إنفراده تعالى بعلم الغيب وإحاطته بشؤون الخلائق كافة، وجاء ذكر السماوات والأرض كوعاء ظاهري معلوم للخلائق، ولبديع خلقهما وما فيهما من العلوم التي يطل علينا العلم الحديث بكنوز وأرقام مذهلة عنها بين الحين والآخر.
ومن آيات الخلافة لآدم انه لاقى التأديب والتعليم حال خلقه لينتفع من الدروس والعبر التي جاءت في هذا الحوار الملكوتي وتفضل الله سبحانه بتعليم آدم والملائكة، ورجوع الجميع إليه تعالى لينهلوا مما يتفضل به عليهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل تفضل على آدم وعلمه الأسماء، وفيه وجوه:
الأول: تلقي آدم عليه السلام التعليم من الله عز وجل من غير واسطة، وتلك آية من الإكرام والتفضيل.
الثاني: العموم في تسمية الأسماء فلم تقل الآية [وَعلم آدم الأسماء] ( )، من غير إطلاق، بل بينت الآية إطلاقه بسور الموجبة الكلية (كلها).
الثالث: تعقب التعليم لتحدي الملائكة بما عند آدم عليه السلام من العلوم.
الثانية: أصبح الإنسان عالماً من أول ساعة خلق فيها.
الثالثة: في الآية حث للإنسان للرجوع إلى الله وهو الغني الكافي لعباده.
الرابعة: تدل الآية على أن الإنسان كائن محتاج، وأن الله عز وجل هو الكافي له في قضاء حوائجه.
الخامسة: تبين الآية كرم الله تعالى وأنه الغني الذي يكفي عباده حوائجهم.
السادسة: نصرة الله عز وجل للإنسان بالإحتجاج على الملائكة.
السابعة: عجز الملائكة عن معرفة الأسماء التي عرضها الله عز وجل عليهم.
الآية لطف
تبين الآية أن تعليم الله تعالى آدم الأسماء له غايات عديدة لا تنحصر بموضوع الخلافة في الأرض بالأصالة، بل يشمل إخبار الملائكة عنها ليكون هذا الإخبار شاهداً على منزلة آدم، والمسؤوليات التي يتحملها الإنسان في الأرض.
فبعد أن تعلم آدم الأسماء جاء الأمر الإلهي له بإخبار الملائكة عنها، ولم يتأخر آدم بل أسرع في الإمتثال لأمر الله تعالى ليسمع منه الملائكة الأسماء برضا وقبول.
وفي الآية حث للمسلمين على توارث علوم النبوة وتدارس آيات القرأن وما فيها من المعاني والدلالات، وتكرر الضمير “هم” المتصل أربع مرات في كلمات متتاليات، ولكن معناه على وجهين:
الأول: جاء إثنان منها لإرادة المسميات.
الثاني: جاء إثنان لخصوص الملائكة.
وقوله تعالى [انبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] اي أنبئ الملائكة بأسماء هؤلاء المسميات، وفهم آدم المقصود وبادر إلى الإجابة بأحسن جواب، وفيه دعوة للمسلمين للإرتقاء في المعارف الإلهية، وحسن الإجابة بما يكون حجة لهم وتثبيتاً لمعالم الإيمان في الأرض.
وتدل خاتمة الآية على تعدد الدلالات في الآية منها:
الأول: أن خلافة الإنسان في الأرض، وهو الأنفع والأحسن للخلائق.
الثاني: أن الله عز وجل جعل الانسان خليفة في الخلق، ليرى الملائكة والخلائق بديع صنع الله وعظيم قدرته.
الثالث: وجود صلة بين أهل السماوات وأهل الأرض.
الرابع: ليس من مخلوق يأتي غير الإنسان خليفة في الأرض أو ينافس الإنسان فيها، بدليل قوله تعالى فيما تقدم [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا]( ).
الخامس:خلافة الإنسان في الأرض ليست دائمة، بل هي مؤقتة ومتجددة، فلكل إنسان أجل وعمر معين، لتكون الإقامة في الأرض مقدمة وموضوع للحساب والجزاء.
إفاضات الآية
من الآيات التي يفتخر بها الإنسان في النشأتين تلقيه النعم المتعددة عند خلقه ومنها:
الأول: تلقي آدم التعليم ساعة الخلق من غير فترة، ومن غير واسطة أحد من الناس.
الثاني: قيام آدم بتعليم أهل السماوات.
الثالث : سكن أبوي الناس جميعا الجنة , ليكون من الكلي الطبيعي الذي يفتخر به كل إنسان ويكون حجة عليه , وتذكيرا بلزوم إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة .
ويتصف تعليم آدم بالأمانة بأمور : 
الأول: وهو من أهم شرائط الخلافة، فقد علم الملائكة كما علمه الله عزوجل من غير تبديل أو تغيير، كما يدل التعليم على الحافظة وحسن الذاكرة عند آدم، وانه لم يقم بخلط الأسماء أو وضع بعضها بدل بعض بل جاء بها كل اسم مطابقاً لمسماه كما هو ظاهر التقرير في الآية، وهي عناوين تشريف إضافية للإنسان.
لقد كان هذا التعليم إختباراً لآدم، وإظهاراً لبديع صنع الله تعالى وشاهداً على عظيم قدرته تعالى، وتوكيداً للملائكة باهلية آدم للخلافة وإمتثاله لأمره تعالى بالإستجابة في تعليم الملائكة من غير بخل أو شح في العلم والرزق الكريم.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاء الخطاب الإلهي في هذه الآية إلى آدم ليكون حجة وشاهداً على ما رزقه الله من العلم والمعرفة، فبعد أن خاطب الله تعالى الملائكة بصيغة السؤال، وردهم بأدب العبودية ورجاء تفضل الله تعالى عليهم، جاء الأمر الإلهي إلى آدم عليه السلام بأن يخبر الملائكة بالأسماء، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبل ليكون أول تكليف يتوجه إلى آدم هو القيام بتعليم الملائكة .
وجاء أول موضوع بعد خلق آدم هو تلقيه التعليم من عند الله تعالى، وجاءت هذه الآية ليكون آدم معلماً للملائكة مع انه خلق خليفة في الأرض، ليكون كل من فردي التعليم معجزة لآدم وإكراماً له ولذريته من بعده.
وهل يستقرأ من هذه المسألة أن الملائكة تتعلم من الأنبياء والمؤمنين مع بعد المسافة بين السماء والأرض، فيأخذون منهم الدروس والعبر والموعظة، الجواب لا يبعد هذا إذ يرون حيث يأذن الله لهم إجتهاد المؤمنين في العبادة والصلاح والتقوى، وتلاوتهم الآيات.
وإذ أختتمت الآية السابقة حكاية عن الملائكة في تضرعهم إلى الله تعالى [انكَ انتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( )، فمن علم وحكمة الله تعالى أن يعلم الملائكة بالأسماء، ويكون علمهم بها بواسطة آدم عليه السلام ، وفيه آية تدل على طاعة وإمتثال آدم لأمر الله تعالى، وحفظه للأسماء التي تلقاها، فضلاً من الله، وقدرته على تعليمها، وهو من بديع صنع الله تعالى في الإنسان، وفيه مسائل:
الأولى: انه حجة على ذرية آدم في لزوم تعاهد الكتب السماوية، وما علمه الله تعالى للأنبياء.
الثانية: فيه ثناء على المسلمين لجهادهم وسعيهم في سلامة القرآن من التحريف، ومنع يد التغيير أن تصل اليه.
الثالثة: بيان معجزة في خلق الإنسان، وقدرته على النطق والحفظ.
الرابعة: في الآية رد على قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] فإن العلم سيكون مصاحباً للأنبياء وأهل التقوى.
الخامسة: في الآية إشارة إلى توارث بني آدم للعلم والتعلم، وهو حرز من غلبة الجهالة والغفلة عليهم، وواقية من فعل السيئات.
السادسة:  الآية مدرسة عقائدية تبين للناس عظيم منزلتهم بين الخلائق فساعة خلق أبيهم آدم قام بتعليم الملائكة الأسماء، بلطف وفضل من عند الله, ومن رشحات هذا التعليم فوز الناس إلى يوم القيامة بالفخر, والمؤمنين خاصة بالعز , قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابعة: جاء تعليم آدم الأسماء للملائكة في الجنة وهي مسكن الملائكة.
الثامنة: لزوم تعاهد بني آدم للعلم.
لقد جاء تعليم آدم للملائكة والمسميات معروضة عليهم، في آية تدل على إقتران إكرام آدم بخلقه، وفيه حجة على الناس بلزوم الشكر، وجاء الشطر الثاني من الآية لبيان الحكمة الإلهية في خلق آدم وتعليم الله له الأسماء، وتعليم آدم الأسماء للملائكة.
فتضمنت الآية قولين لله تعالى:
الأول: أمر إلى آدم بأن يعلم الملائكة الأسماء.
الثاني: خطاب إلى الملائكة جاء حجة وموعظة ، وهو على أقسام:
الأول: إن الله تعالى يعلم غيب السماوات ، وليس في هذه الآيات ما يدل على إخبار الله تعالى للملائكة بانه يعلم غيب السماوات وما فيها  من الأمور والأسرار التي لايعلمها غيره، ومن غيب السماوات عدم معرفة الملائكة للأسماء إلا بعد أن أمر الله آدم بتعليمهم بها.
الثاني: إن الله عز وجل جعل في الأرض خليفة , وهو سبحانه يعلم ما سيؤول اليه أمر الخليفة والناس الذين يرجعون جميعاً إلى الله تعالى، ويقفون بين يديه للحساب، قال تعالى [قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
الثالث: إن الله عزوجل يعلم ما يظهر الملائكة من القول والفعل، ومنه ما يعلنونه وما يدور بينهم من القول وذكر الطبرسي قولاً وهو: أن الله أراد علم (ما تبدون) من قولكم (أتجعل فيها من يفسد فيها) ( )، ولكن الآية أعم لأن قولهم هذا جاء بصيغة الخطاب والسؤال لله تعالى، ولابد أن الغيب غيره , وإذا كانت لهذا القول مقدمات وأسباب فهي من علم الغيب الذي يعلمه الله تعالى.
الرابع: لقد أحاط الله تعالى علماً بما يكتم ويخفي الملائكة، وذكر قولان في تفسيره:
الأول:  مرت الملائكة على آدم قبل أن تنفخ فيه الروح، ولم تكن رأت مثله، فقالوا لن يخلق الله خلقاً إلا كنا أكرم منه وأفضل عنده.
الثاني: إخفاء إبليس المعصية، قال علي بن عيسى : وهذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة ، وليس إبليس منهم ، ولانه عام ، فلا يخص إلا بدليل( ).
والآية أعم خصوصاً وانها جاءت للإحتجاج على الملائكة بقول سابق قاله لهم الله تعالى [قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ] وإذ ابتدأت الآية بالأمر الإلهي لآدم بالكلام وبما يدل على التعلم ونيل المعارف على نحو الهبة من عند الله جاءت خاتمة الآية بالإحتجاج على الملائكة، لتكون بداية وخاتمة الآية الكريمة مقدمة لدعوة الملائكة للسجود لآدم وعوناً لهم في الإمتثال لهذا الأمر من غير تردد وخلاف، فمن فضل الله تعالى على الملائكة أن بيّن لهم أهلية آدم للخلافة، وأن الله عز وجل يعلمه، ويهديه لما فيه صلاح الأرض وعمارتها بالإيمان.
والوضع في علم الأصول هو إختصاص اللفظ بالمعنى ونوع إرتباط بينهما، بحيث يختص اللفظ بذات المعنى، وجاءت هذه الآية لتخبر عن التقاء أهل الأرض وأهل السماء في معرفة الأسماء كلها، وهي بلغة واحدة مما يدل على أن الواضع للأسماء هو الله تعالى، وبما أن لغة الملائكة هي العربية ، فالأقوى أن اللغة التي علّم الله تعالى بها آدم عليه السلام الأسماء هي العربية .
التفسير الذاتي
بعد تسبيح وتقديس الملائكة لله عز وجل، تفضل الله عز وآمر آدم بأن يقوم بإخبار الملائكة عن الأسماء التي سألهم عنها لبيان منزلة آدم، وما عنده من العلم والحافظة بفضل من الله كشاهد على أهليته للخلافة في الأرض، ومن بين خمس وعشرين مرة ذكر فيها اسم (آدم) في القرآن وردت خمس مرات بقوله تعالى [يَاآدَمُ] ثلاثة منها خطاب من الله عز وجل.
الأولى التي جاءت في هذه الآية.
والثانية والثالثة في سكن آدم [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( )،وفيه إكرام إضافي لآدم عليه السلام ليكون هذا السكن مقدمة لخلافته في الأرض.
أما الرابعة فقد جاءت في تحذير آدم وحواء من إغواء إبليس , قال تعالى [فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ]( )، وجاءت الخامسة حكاية عن إبليس [قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( ).
وفي كثرة الخطاب الإلهي لآدم إكرام له، وإرشاد وتأهيل وتأديب في وظائف الخلافة، وجاءت آية واحدة في تحذير آدم من إبليس، وآية واحدة في إغواء إبليس لآدم.
وتلك آية في نظم القرآن لم يرد في القرآن لفظ (انبئهم) إلا في هذه الآية ليكون أول عمل لآدم هو تعليم أهل السموات ليكون شاهداً على تعاهد المؤمنين للعبادة في الأرض، وتضحيتهم في سبيل الله، بما يكون درساً وموعظة للخلائق.
ولما أنبأ آدم عليه السلام بالأسماء أقام الله عز وجل الحجة على الملائكة وذكّرهم بأنه أحاط بكل شئ علماً، وأنه لاتخفى عليه خافية، وقد جاء الإخبار عن علم الله تعالى على قسمين:
الأول: عام وهو على شعبتين:
الأولى: علم الله عز وجل بما هو خفي في السموات.
الثانية: يعلم الله غيب وأسرار الأرض، وما فيها من الكنوز.
الثاني: علم الله عز وجل بأحوال الملائكة، وهو على شعبتين:
الأولى: علم الله بما يظهر ويقول الملائكة.
الثانية: إحاطة الله علماً بما يخفي ويكتم الملائكة في نفوسهم، وفيما بينهم وإضمار إبليس المعصية.
وهل موضوع خلافة آدم من علوم الغيب، الجواب نعم، لذا رد الملائكة بلغة الإستفهام، وهو على وجوه:
الأول: خلافة آدم من غيب السماوات.
الثاني: الخلافة من غيب وأسرار الأرض.
الثالث: العنوان الجامع وأن خلافة آدم من غيب السماوات والأرض معاً.
والصحيح هو الثالث من وجوه:
الأول: خلق آدم في الجنة.
الثاني: لغة الحوار التي ذكرتها هذه الآية بين الله والملائكة.
الثالث: سجود الملائكة لآدم وإمتناع إبليس إستكباراً.
الرابع:سكن آدم وحواء الجنة، قال تعالى [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ]( ).
الخامس: مجئ الأمر الإلهي لآدم وحواء بالهبوط من الجنة [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لسكن آدم وحواء أن يكون مقدمة لسكن المؤمنين الدائم في الجنة، وليسعى الإنسان في سبل الهداية التي تقوده للرجوع إلى الجنة للبث الدائم فيها من غير إغواء من إبليس، أو إحتمال الإخراج منها.
ولكن ما هي الصلة بين تعليم آدم الأسماء، وبين الإحتجاج بعلم الله عز وجل بغيب السماوات والأرض، والجواب أن خلق آدم خير محض ونفع بين أهل السماوات والأرض، وأن فتق لسان آدم ونطقه يكون وسيلة وآلة لذكره لله، وإعمار الأرض بالعبادة، ومع وجود أهل الفساد بين الناس، فان الإيمان والعلم هما اللذان يسودان في الأرض، ويمنعان أرباب الفساد من الإستحواذ والشيوع والدوام.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بينت الآية أن آدم يتكلم بلغة مخصوصة ويعرف العلة بين الاسم والمسمى، يعلم مسميات الأسماء التي سأله الله تعالى بها، وتدل الآية على عظيم النعمة التي رزقه الله عز وجل من تعليم اللغة، ومعرفة صيغ التخاطب والتفاهم بين الناس.
الثانية: الآية شاهد على عظيم علم الله تعالى، وانه سبحانه يعلم ما يظهره وما يكتمه الإنسان وغيره من الخلائق، وأن خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض من علم الله عز وجل الأزلي.
الثالثة: مبادرة آدم لطاعة الله عز وجل، وإستجابته له، فحالما أمره بأن يخبر الملائكة بأسماء الأشياء والأعيان قام بإخبارهم من غير تردد، لذا جاء مدح المسلمين والثناء عليهم من بين الناس لإستجابتهم لأوامر الله تعالى وتصديقهم بالقرآن، الذي أنزله وهو الجامع للعلوم، وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
الرابع: تشريف آدم عليه السلام بكلام الله عز وجل، وأمره تعالى له بالإحتجاج على الملائكة.
الخامس: دعوة المسلمين للإحتجاج وإقامة البرهان على وجود الصانع ولزوم عبادته , وفي التنزيل [ُكنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ…..] ( ).
السادس: من الإعجاز في الآية أن آدم لما أخبر الملائكة بالأسماء، تفضل الله عز وجل بالإحتجاج على الملائكة بما هو أعم وأوسع من موضوع تعليم الأسماء، وأخبرهم بانه سبحانه يعلم ما ظهر وما خفي من أمور السماوات والأرض، وفيه إشارة إلى الناس بأن الملائكة محتاجون إلى العلم، وأن الإحاطة بأسرار السماوات والأرض مما إختص الله به لنفسه, قال تعالى[عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا]( ). 
التفسير
تفسير قوله تعالى [ قَالَ يَاآدم انبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ]
بعد الإعتذار الجميل من الملائكة وإظهارهم العجز تفضل الله تعالى وإتماماً للحجة والبرهان فأمر آدم بإخبار الملائكة بأسماء الذوات التي تعذر عليهم معرفتها، وفي صيغة العموم الإستغراقي في الأسماء تتجلى معالم التفضيل، والمعلم أشرف من المتعلم وأعلى منه رتبة ولو بخصوص هذا الفرد الذي يتعلق به التعليم.
لقد كان الملائكة محتاجين إلى هذه الحصة من العلم والدرس العقائدي لأن الله عز وجل قد سألهم عن أسمائها، ثم أنه تعالى لم يعلمهم بالأسماء مباشرة كما علّم آدم وإنما تعلموها بالواسطة.
فإن قلت: ما هي الصلة بين تعلم الأسماء والخلافة في الأرض وسفك الدماء خاصة أن المقصود بالفساد وسفك الدماء هو غير شخص آدم.
قلت: في الآية بيان وإخبار بأن الله عز وجل يختار ما يشاء وليس للملائكة إلا التسليم، وأنه تعالى حينما يصّير ويجعل خليفة في الأرض يجعل عنده من المؤهلات ما يستحق معها التصدي للمسؤولية والمقام، أي أن الله عز وجل يرزقه ويعطيه إلى أن يجعل الملائكة تقر بأفضليته وشرفه وصلاحه للخلافة وإن كان المتلبس بذلك الإستحقاق فرداً واحداً في زمان ما، وإقرار الملائكة بشرف آدم وأهليته للخلافة جزء من فلسفة الخلق وأسرار التكوين ولوازمه.
وياتي التحقيق في موضوع السجود وكيفيته وهو علم شريف، وهناك أمر مهم آخر وهو الصلة بين خلق آدم والملائكة، ولماذا إقترن بسجود الملائكة له، وما هي علته والنتائج التي تترشح عنه في كل زمان في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وفي الآية إخبار عن التشريف الإلهي وما يترشح عن درجة الخلافة من العز بين الخلائق، وما يترتب عليها من الوظائف الشرعية بتحصيل العلم ونشر الإيمان، وتثبيت كلمة التوحيد في الأرض.
وما يقترفه بعض الناس من الشر والفساد والقتل بغير حق لا يضر في أصل موضوع الخلافة إجمالاً.
إنها آية في التفضيل لم يؤد الناس ما تستوجبه من الشكر والسعي في دروب المعرفة للإكرام والإستعداد للتعلم، وإكتساب المعارف الذي زرعه الله في النفوس، فجاءت الآية للبيان والتذكير والشكر.
لقد أظهرت الآية أهلية آدم لتلقي الأمر الإلهي والقيام بالتعليم وهو عنوان فاعلي يدل على التشريف وعلو الرتبة، فمع بدايات خلق آدم أصبح مصدراً للعلم بفضل الله تعالى وبما آتاه من العلوم.
وبذا يظهر الأثر والشأن العظيم للرزق الروحي , وتقدمه على الرزق المادي، والضمير في (انبئهم) يعود للملائكة، أما الضمير في (أسمائهم) فيعود إلى هؤلاء في قوله تعالى [ انبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء ].
(وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عطاء قال: لما سجدت الملائكة لآدم نفر إبليس نفرة ثم ولى مدبراً وهو يلتفت أحياناً ينظر هل عصى ربه أحد غيره. فعصمهم الله ثم قال الله لآدم: قم يا آدم فسلم عليهم فقام فسلم عليهم وردوا عليه، ثم عرض الأسماء على الملائكة فقال الله لملائكته: زعمتم أنكم أعلم منه{انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك} إن العلم منك ولك، ولا علم لنا إلا ماعلمتنا، فلما أقروا بذلك {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم} فقال آدم: هذه ناقة، جمل، بقرة، نعجة، شاة، فرس، وهو من خلق ربي. فكل شيء سمي آدم فهو اسمه إلى يوم القيامة، وجعل يدعو كل شيء باسمه حين يمر بين يديه حتى بقي الحمار وهو أخر شيء مر عليه. فجاء الحمار من وراء ظهره فدعا آدم: أقبل يا حمار. فعلمت الملائكة أنه أكرم على الله وأعلم منهم، ثم قال له ربه : يا آدم ادخل الجنة تحيا وتكرم، فدخل الجنة فنهاه عن الشجرة قبل أن يخلق حواء. فكان آدم لا يستأنس إلى خلق في الجنة، ولا يسكن إليه، ولم يكن في الجنة شيء يشبهه، 
فالقى الله عليه النوم وهو أوّل نوم كان، فانتزعت من ضلعه الصغرى من جانبه الأيسر، فخلقت حواء منه، فلما استيقظ آدم فجلس ، فنظر إلى حواء تشبهه من أحسن البشر، ولكل امرأة فضل على الرجل بضلع، وكان الله علم آدم اسم كل شيء، فجاءته الملائكة فهنوه وسلموا عليه فقالوا: يا آدم ما هذه؟ قال: هذه مرأة قيل له : فما اسمها؟ قال : حواء فقيل له: لم سميتها حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي . فنفخ بينهما من روح الله فما كان من شيء يتراحم الناس به من فضل رحمتها)( ).
بحث كلامي
الآية من عظيم النعم على الإنسان لما تحكيه من أفضليته وإرتقائه العلمي منذ أول خلقه، إنها بشارة الإبداع العقلي وتأسيس العلوم، وتحقق الإكتشاف على يد الإنسان، أن ما يحدث في هذا الزمان من الإبتكارات والثورة التقنية والمعلوماتية في عالم الإتصالات والمواصلات ، إنما هو ببركة هذه الآية وفرع منها.
فمهما كانت علوم الملائكة فإن الله عز وجل جعل عند الإنسان العقل قائداً علمياً وسبباً للهداية والرشاد، فما يتوصل إليه العقل من العلوم هو من عند الله موضوعاً ومحمولاً وتيسيراً وتوفيقاً، وما يحصل من الإستعمال الضار للعلوم والصناعات فهو لأسباب عرضية وشرور يبثها إبليس بآفات الحسد والبغضاء والكفر والأخلاق الذميمة التي تنشط في حالات الفراغ العقائدي وإلا فإن الأصل هو الملازمة بين العلم والهداية، ليكون الإكتشاف سبباً في رسوخ الإيمان.
وتصلح مناسبة تعليم آدم الأسماء للملائكة أن تكون (عيد العلم العالمي) بتعيين يوم مناسب والمدار فيها على الموضوع وقدسيته، ولأن تعليم آدم الأسماء لأنها عنوان الفخر والتحدي الإنساني لسائر المخلوقات، للأولوية وفحوى الخطاب بعد أن قام بتعليم الملائكة وهم أشرف الخلائق.
وجاء ذكر تعليم الله عز وجل الأسماء لآدم لمنع الغرور عند الإنسان وما يتولد عنه من الجحود والكفر والإستعلاء، فهذه النعمة تصلح أن تكون أيضاً مناسبة للتواضع والخشوع لله تعالى، وتوظيف العلم لأغراض الصلاح وتسخيره للمنافع العامة، وتؤكد الآية فضل الله تعالى على الإنسان فلم يخلقه فقيراً بل رزقه الثروة والغنى فاعطاه العلم وكساه من نوره، وجعله مرشداً للحق وهادياً للإسلام.
علم المناسبة
مع كثرة ورود مادة “نبأ” في القرآن فان قوله تعالى [انبِئْهُمْ] و[انبَأَهُمْ] لم تذكرا في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، ويتعلقان بذات الموضوع وهو إخبار آدم عليه السلام للملائكة بأسماء الأنبياء بحسب ما علّمه الله تعالى، وبعد أن علمهم آدم الأسماء أقام الله عز وجل عليه الحجة بتوكيد أهلية آدم للخلافة في الأرض بما علّمه الله تعالى، ليكون هذا التعليم مقدمة لأمور:
الأول: نزول القرآن الذي جعله الله (تبيانا لكل شيء )( ) وجامعاً لأحكام الحلال والحرام، وسبيل الهداية والتوفيق إلى مقامات الخلافة، والإصلاح في الأرض.
الثاني: نبوة آدم عليه السلام، وهبوطه إلى الأرض نبياَ، لتبدأ عداوة الإنسان للشيطان بعداوة النبي آدم له، فيكون أسوة لذريته في لزوم معاداة إبليس والتوقي والحذر منه.
الثالث: نزول الملائكة لنصرة المؤمنين في معركة بدر وأحد، فقد جاء الإخبار الإلهي عن نزول الملائكة مدداً للمؤمنين من غير أن يكون هناك إحتجاج أو رد من الملائكة.
وقد ورد في القرآن قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ]( ) في آيتين، وكلاهما في خطاب للمسلمين وإرشادهم إلى أحكام الشريعة وإعانتهم للإمتثال والعمل بمضامينها بصيغة الجملة الخبرية، أما هذه الآية فجاءت بصيغة الخطاب للملائكة من غير واسطة نبي، ويدل الجمع بين الآيات الثلاثة على عظيم منزلة المسلمين، وان الله عز وجل يخاطبهم بذات اللغة التي يخاطب بها الملائكة وفيه دليل على حسن منزلتهم وشأنهم، وإرتقائهم في المعارك الإلهية، وفيه دعوة لهم لإصلاح السرائر.
وإستحضار حقيقة ان الله عز وجل مع المتحد والمتعدد منهم مما يستلزم خشيتهم منه، وحرصهم على أداء ما يدل على أهليتهم لوراثة الأنبياء وخلافة الأرض، وإجتناب المعاصي وإرتكاب الذنوب.
تفسير قوله تعالى [ فَلَمَّا انبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ]
تظهر الآية إستجابة آدم عليه السلام لأمره تعالى بالإخبار عن أسماء ما عجز الملائكة عن معرفته، وهذه الإستجابة وجه من وجوه الطاعة وعلى قاعدة نفي إجتماع النقيضين، فإن هذه الإستجابة تؤكد إنتفاء الرذائل الأخلاقية عن الخليفة، وأن وجود فرد تتجلى فيه خصائص الخلافة هو فيض منه تعالى، وموضوع للذكر والعبادة في الأرض، فاحتمال وجود أهل الضلالة والفساد في الأرض لا يصلح أن يكون مانعاً لبركة وجود أهل الإيمان فيها، وكل بحسابه وجزائه.
لقد أدرك الملائكة أهلية الخليفة للتعلم والتعليم مما يعني انه سيتعاهد الإيمان في الأرض ويورثه لمن بعده من أبنائه وذريته، فكما علم آدم الملائكة الأسماء فإنه سيعلم ذريته من بعده أحكام الشريعة وهكذا يتوارث الإنسان سنن التوحيد والعبادة في الأرض.
لقد خشيت الملائكة على الإنسان إذ يفتتن بالدنيا، وينشغل في الأرض وأسباب المعيشة وعدم رؤية الآيات بالبصر وإدراكها بالحواس إلا بعد تدبر وتفكير مع ما عنده من الأخلاط وإجتماع النفس اللوامة والغضبية والشهوانية وبعده عن السماء وآياتها، بخلاف من في السماء الذي يرى الآيات، فلما أنبأهم إطمأنوا إلى أهليته للخلافة بمعنى إستعداده لتحمل مسؤولية حفظ الأمانة في الأرض وبقاء العبادة فيها ومحاربة الكفر والضلالة.
ولم يخبر آدم الملائكة إلا بأسماء بعض المسميات لإقامة الحجة والبرهان عن أهلية للخلافة بلباس التقوى، وفي عيسى  وحينما تكلم بالمهد لم يخبر الناس بأسمائهم، ولو فعل لكان حجة دامغة ولكنه أكد عبوديته ودعا بني إسرائيل إلى عبادة  وورد في التنزيل [قَالَ اني عَبْدُ اللَّهِ آتَاني الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ( ).
ويدل الإكتفاء بتعليم الملائكة بأسماء بعض المسميات على عدم خروج الملائكة عن صيغ الإيمان والطاعة ولم يحتاجوا من آدم تعليمهم التقوى والإنابة والرجوع إلى الطاعة ويمكن إستقراء مسألة منه وهي أن سؤال الملائكة كان لطلب البيان وتوكيد أهلية آدم للخلافة في الأرض وليس سؤالاً إنكارياَ.
وتتجلى في آدم معاني العبودية والخضوع لله تعالى، وإجتنابه للمراء والجدل، فهو لم يتباه بأسماء الأعيان التي عرضت عليهم فأظهر علمه مع التواضع والأدب والبراءة من الحسد في حضرة القدس ، وهو من مصاديق تعليم الله عز وجل به، والشواهد العملية على أهليته للخلافة وما تستلزمه من طاعة الله.
لقد أكدت الآية على حقيقة وهي مصاحبة العلم للإنسان في الأرض، وجاء الأنبياء بالعلم، ثم تفضل الله تعالى بالقرآن ليبقى العلم يضيء الأرض في الليل والنهار ويقود الناس نحو الإيمان والإقرار بالربوبية لله تعالى، والعلم حرب على الجهل والشرك والضلالة.
قوله تعالى [قال أَلَمْ أَقُلْ لكُــمْ اني أَعْلَمُ غَيْبَ السَّـــمَاوَاتِ وَالأرض]
الألف للتنبيه والإستفهام والإستحضار.
أي أن الله عز وجل يعلم ما غاب عن الملائكة من أسرار الكائنات وما جهلوه من ماهية الإنسان وخلقته التكوينية، وما سيفعله في الحياة الدنيا التي ستكون دار إمتحان وإبتلاء، وأن وظيفة المحتاج الذي لا يعلم هي السمع والإستجابة لله عزوجل الذي يعلم كل شيء.
وتظهر الآية فضل الإنسان في الكائنات، وقدرته على الإرتقاء في مراتب الكمال.
وتبين الآية اللطف الإلهي وما خص به الله الملائكة من الإكرام بالإحتجاج التأديبي الذي يتضمن دروساً في المعرفة الإلهية، وتدل على إستمرار تعليم الله تعالى للملائكة لأن خلق آدم وحده مدرسة في الإرادة التكوينية والتشريعية، ومعرفة الملائكة للأسماء بواسطة آدم مدرسة مستقلة في مراتب الكمال، وإرتقاء عقائدي وعلمي للملائكة.
ويتفرع علم مستقل عن كل اسم من هذه الأسماء فلابد أنها لا تنحصر بمعرفة الاسم على نحو مجرد بل هي أشمل وأعم، وكل اسم فيه سر من الأسرار الملكوتية نال آدم أبو البشر شرف إخبار وإطلاع الملائكة عليها.
وتبين الآية إنحصار علم الغيب بالله تعالى، وهي تأديب لآدم وللناس من خلال القرآن، وتؤكد بأن علم الإنسان محدود ومتناهي وانه محتاج لعلم الله تعالى، ويستطيع أن يغترف منه بالتقوى.
وقال الرازي: “إنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم”( )( ).
والظاهر أن هشام بن الحكم لم يخالف قول عامة علماء المسلمين بأن الله يعلم بالأشياء قبل حدوثها، ومذهبه أن علمه تعالى عين ذاته، مات هشام في سنة تسع وتسعين ومائة بالكوفة في أيام هارون الرشيد.
تفسير قوله تعالى [وَأَعْلَـــمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]
في الآية مسائل:
الأولى : هل العطف في الآية من عطف الخاص على العام لمناسبة المقام، أو انه يدل على التعدد والمغايرة بينهما إتماماً لبيان الحجة، وظاهر الآية هو التعدد.
الثانية: يعلم الله تعالى سر الملائكة وعلانيتهم، لا يخفى عليه من أمرهم شيء.
الثالثة: إن الله تعالى يعلم ما يضمره إبليس من المعصية والمخالفة، ولكن الخطاب موجه إلى الملائكة، وإبليس ليس منهم ولا قرينة على التخصيص.
الرابعة: يعلم الله عز وجل أنهم لا يكتمون إلا التسليم والرضا بأمره تعالى.
لذا يمكن القول: أن الآية تتضمن قبولاً لإعتذارهم، وتوكيداً لعلمه تعالى بحقيقة قصدهم.
الخامسة: لقد صدق الملائكة في عبادتهم وخضوعهم لمقام الربوبية والتزموا بالمواظبة على التسبيح، فجازاهم الله عز وجل بالقبول الفوري لإعتذارهم وثنائهم، وأن ذلك كله في علمه الأزلي.
السادسة: (روي عن الحسن أن الله تعالى لما خلق آدم مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح، ولم تكن رأت مثله قبل، فقالت: لن يخلق الله خلقاً إلا كنا أكرم منه وأفضل عنده( )، فزعم أن هذا الذي أخفــوه في نفوسهم وأن الذي أبـدوه قولهم [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ] ( ).
وهذا القول كما يبدو لم يرفع، وظاهر الآية أعم، وتظهر فضل الإنسان في الكائنات، وقدرته على الإرتقاء في مراتب الكمال.
السابعة: روي عن الشــعبي وعن ابن عــباس وابن مســعود أن قــوله تعالى [وَأَعْلَـــمُ مَا تُبْدُونَ] أراد به قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] وقوله [وَمَا كُنتمْ تَكْتُمُونَ] أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، وكيف انه أبى السجود.
ويفيد ظاهر الآية التذكير والإستحضار لإقامة البرهان والإستدلال، أي أن الله عز وجل يذكرهم بموثق أخذه عليهم، وعهد عهده إليهم، فهو سبحانه يعلم غيب السماوات والأرض وهو أعلم بالمصالح والغايات السامية في خلق آدم، وبما يبدي الملائكة وما يكتمون، وردهم هذا يعلم به قبل حصوله ولا يمنع من إمضاء المشيئة الإلهية في الخلق والتقدير وليس لهم إلا الطاعة والإمتثال، فمن بركات خلق آدم أن الملائكة إنتفعوا وإستفادوا وإزدادوا علماً وخشوعاً لله عز وجل.
لقد جعل الله عز وجل آدم مدرسة في الإرادة التكوينية والتشريعية وكان خلقه موعظة ومناسبة لتجديد الخلائق بما فيها الملائكة الخشوع والخضوع لله عز وجل.
بحث بلاغي
قد تكون (ما) إستفهامية أو خبرية وقد تحمل المعنيين معاً، فيما لو وقعت بين فعلين تقدم عليهما علم أو دراية، ومنه هذه الآية، لقد كان خلق آدم آية إعجازية في الخلق والتكوين والكيفية ومناسبة للتأديب والتعليم وإظهار عجز أشرف الخلائق عن درك رحمة وبديع أمر الله عزوجل في الخلق، فقوله تعالى [ اني أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرض ] إشارة إلى إحاطته بكل شيء علماً وأنهم لم يطلعوا إلا على جزء قليل منه مما يستطيعون إدراكه.
لقد بدأ خلق آدم بأن كان حجة وبرهاناً فالأولى أن يعتبر الإنسان من آية خلقه ولما كان في أخبار الماضين عبرة وموعظة قال تعالى[كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، فمن باب الأولوية أن يكون خلق آدم وسجود الملائكة مع عظمتهم ورفعة مقامهم وسمو مرتبتهم موعظة وعبرة، وهو حجة على نفسه ، ودعوة له للإمتثال للأوامر الإلهية التي جاءت بها الكتب السماوية ، والتي جاءت مجتمعة في القرآن، ولتكون تلاوة آياته وتعلمها شكراً لله تعالى على تعليم آدم الأسماء. 
               *************
 
 
 
قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَان مِنْ الْكَافِرِينَ ] الآية 34.
 
الإعراب واللغة
وإذ: الواو حرف عطف، إذ: ظرف لما مضى من الزمن، قلنا: فعل ماض، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر باضافة الظرف اليها.
للملائكة: جار ومجرور.
إسجدوا: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
فسجدوا: الفاء عاطفة، سجدوا: فعل وفاعل.
إلا: أداة إستثناء، إبليس: مستثنى، وفيه وجهان :
الأول : أنه مستثنى  منقطع
الثاني : مستثنى متصل . وسيأتي بيان القولين بلحاظ التفسير.
أبى: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف، والجملة الفعلية في محل نصب على الحال.
وإستكبر: الواو: حرف عطف، إستكبر: فعل ماض معطوف على أبى، وكان: الواو: حرف عطف، كان: فعل ماض ناقص، وأسمها ضمير مستتر تقديره هو.
من الكافرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان.
السجود: لغة الخضوع والتطامن والتذلل والإنقياد، وفي الإصطلاح وضع الجبهة على الأرض عبادة وطاعة لله عز وجل.
وإبليس: اسم عربي على وزن فعيل أي يائس من رحمة الله، يقال أبلس: يأس ، وقيل انه اسم أعجمي.
والإباء: الترك والإمتناع وعدم الطاعة، ورفض الإستجابة.
في سياق الآيات
الآيات الكريمة وثائق سماوية في تكريم الإنسان جاءت في المقام خاصة لبيان حسن إمتثال الملائكة، والعتو والجحود الذي قابل به إبليس معاني الإكرام والتشريف لآدم، وتتضمن التذكير والموعظة بعد إظهار آدم الأهلية للخلافة.
لقد جاءت الآية الثلاثون بإخبار الله للملائكة بانه جاعل في الأرض خليفة، ولم تذكر آدم بالاسم بل ذكرته الآية التي بعدها وبموضوع التعلم، ولكنه يدل على الخلافة، وانه من وظائفها التي خلقه الله تعالى لها، وهي من مصاديق عبادة الإنسان لله تعالى لعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
فتعلم آدم للأسماء وإخباره الملائكة بها من عبادته لله تعالى، ليكون أول فعل فعله آدم هو عبادة محضة وبما يكون حجة وبرهاناً عند الملائكة وهم سكان السماوات وأشرف الخلائق.
وهل من صلة بين إخبار آدم الملائكة بالأسماء وبين سجودهم له، الجواب نعم ، وتتجلى معاني الصلة باتحاد سياق الآيات وما في هذه الأخبار من الدلالة على منزلة آدم عند الله عزوجل، وجاء سجودهم طاعة لله تعالى، وبأمر خاص بالسجود كما يظهر في هذه الآية [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ] فالسجود كان بأمر الله تعالى.
وجاءت الآية التالية للإخبار عن فضل الله تعالى بأمر آدم وحواء بالسكن في الجنة بعد ان سجد له الملائكة، ويختص آدم وحواء بالأكل من شجر الجنة لأن الملائكة لا يأكلون، وغذاؤهم التسبيح.
ويبين سياق الآيات الإعجاز بمضامين القصة القرآنية من وجوه:
الأول: بيان وقائع حدثت في السماء  لايعلمها إلا الله تعالى.
الثاني: لم يعلم آدم عليه السلام ما جرى بين الله وبين الملائكة من الإخبار بجعله خليفة ورد الملائكة، فجاءت هذه الآيات لتبين للمسلمين تلك الوقائع ، ولتكون عبرة وموعظة.
الثالث: لغة الإيجاز الإعجازية التي لم تخل بمضامين القصة، وكل كلمة منها تفتح آفاقاً من العلم ، وتدعو الى إستنباط المسائل والدروس مما فيها من وجوه الحكمة.
الرابع: رد الملائكة على الإخبار الإلهي بالسجود لآدم ثم ما لبثوا أن سجدوا له، ولم يأت سجودهم له إلا بعد أمور هي:
الأول: إقامة الحجة على الملائكة بعلم آدم، وهذه الحجة من عند الله ولا يقدر عليها آدم أو غيره من الخلائق، فلم يقم بعض الملائكة بأمر بعضهم الآخر بلزوم التسليم بخلافة الإنسان في الأرض لعدم وصول النوبة إليه ، ولعلمهم بأن الله عزوجل وحده القادر على إقامة الحجة على الملائكة والناس والخلائق أجمعين.
الثاني: إخبار الله تعالى للملائكة عن إحاطته علماً بكل شئ، وعجز الملائكة عن درك علمه.
الثالث: إقرار الملائكة بانحصار علمهم بما علّمهم الله تعالى، وفيه تأديب للناس ، ومنع الغرور والطغيان في العلم، وحث لهم على الإقرار بان كل ما يتوصلون إليه من العلم هو من عند الله، وان تعددت الوسائط لأن مادة العلم هي العقل وفعل الإنسان ، وهما من فضل الله تعالى عليه.
الرابع: إمتحان وإختبار الله تعالى للملائكة بأمر يسير وقريب منهم ، وهو وبسيط غير مركب، وهو معرفة أسماء مسميات معينة،ويدل عليه ورود اسم الإشارة (هؤلاء)في الآية الكريمة.
وصلة هذه الآية بالآيات التالية على وجوه:
الأول: إبتدأت هذه الآية بقوله تعالى(وإذ قلنا) وإبتدأت الآية التالية بــ(وقلنا) مع إختلاف الجهة التي توجه لها كلام الله , ففي هذه الآية توجه الخطاب إلى الملائكة , وفي الآية التالية إلى آدم وحواء.
ترى لماذا جاء ظرف الزمن الماضي إذ في هذه الآية ولم يأت في الآية التالية , الجواب لصيغة العطف بالواو الذي إبتدأت به الآية التالية وتقديره: وإذ قلنا يا آدم إسكن أنت وزوجك …..) ولكن هذا المعنى لا يمنع من إستقراء دلالات للتباين بين الآيتين بخلو الآية التالية من ظرف الزمن الماضيي ومنها:
الأولى: سكن آدم وحواء الجنة على نحو مؤقت، وسوف يسكنان فيها على نحو الدوام، وعن ابن عباس قال: ما سكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)( ).
وعن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا)( ).
الثانية: سكن آدم وحواء الجنة نعمة مستديمة على الناس وإن إنقطعت بهبوطهما إلى الأرض كما في قوله تعالى[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( ).
الثالثة: جحود إبليس وإمتناعه عن السجود ليس حائلاً دون توالي النعم العظيمة على آدم وحواء، وكذا بالنسبة للناس فإن البلاء والعذاب الذي ينزل بالكفار لا يكون برزخاً دون إتصال النعم والبركات على المؤمنين في أمصارهم وأشخاصهم وذراريهم.
الرابعة: جاء قول الله عز وجل للملائكة بصيغة الأمر بالسجود وتعدى باللام، بينما جاء الخطاب الإلهي إلى آدم بصيغة النداء وما فيها من معاني الإكرام.
الخامسة: لا يسكن الجنة إلا من شاء الله وأمره بدخولها والإقامة فيها، ويحتمل دخول المؤمنين الجنة وجوهاً:
الأول: كفاية رجحان كفة العمل الصالح.
الثاني: تولي الملائكة الإذن والتصريح بدخول الجنة.
الثالث: لابد من أمر الله عز وجل بخصوص كل فرد يدخل الجنة.
والصحيح هو الثالث، ويكون الوجه الأول والثاني في طوله، وكذا ما يتعلق بالشفاعة.
السادسة: بعد إختتام هذه الآية بالإخبار عن إستكبار وجحود إبليس ومعصيته الظاهرة لأمر الله عز وجل إبتدأت الآية التالية بإكرام آدم وحواء بالإقامة في الجنة، وفيه دلالة على إستدامة التضاد والتباين بين إبليس وكفره وبين آدم وتقواه .
 فإن قلت جاء الأمر الإلهي لآدم بالسكن في الجنة إبتداء من فضل الله عز وجل، الجواب نعم، وهذا الفضل دليل على إكرام الله عز وجل له ولزوجه ولذريتهما.
لقد تضمنت هذه الآية أموراً:
الأول: الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم.
الثاني: إمتثال الملائكة وقيامهم بالسجود لآدم طاعة لله عز وجل.
الثالث: إمتناع إبليس عن السجود , قال تعالى[فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
الرابع: ذم إبليس ونعته بالكفر، وفيه شاهد بأن المعصية فعل قبيح لا يتركه الله عز وجل سدىً بل يذكره بالذم للتنبيه والإنذار، وهو من الشواهد على قوله تعالى في بيان إحاطة القرآن بالعلوم والوقائع [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وتضمنت الآية التالية أموراً:
الأول: فضل الله عز وجل على آدم وحواء بالسكن في الجنة.
الثاني: إباحة التنعم والأكل في الجنة بإستثناء شجرة مخصوصة.
الثالث: الإنذار من الأكل من الشجرة لأنه ظلم بقوله تعالى[فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
والظلم هنا أعم من القضية الشخصية لأصالة الإطلاق ولترتب الأثر على الذرية لذا فمن إعجاز القرآن أن الآية التي بعدها نسبت سبب أكلهما من الشجرة إلى إبليس بقوله تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا]( )، وفيه آية بعدم تحقيق الظلم من آدم، وأن أكله للشجرة لم يتعارض مع عصمة الأنبياء وإن كانت لنواميس السماء أحكامها الخاصة , والأصل في الفعل والجناية النسبة إلى المباشر إلا مع القرينة التي تبين موضوعية السبب وأثره في إتيان الفعل وحصول الجناية.
 ولكن هذه الآية تبين اللطف الإلهي على آدم وحواء ونسبت الفعل إلى المسبب.
إعجاز الآية
إلتزم الملائكة جانب الطاعة والإمتثال حين توجه لهم الأمر بالسجود مع ان موضوع الخلافة في الأرض قد لا يتعلق بهم مباشرة فحينما أمروا بالسجود بادروا إليه.
وفي الآية دلالات على أرقى مراتب التشريف الإلهي للإنسان , وتجمع الآية بين فعلين متغايرين، طاعة الملائكة وجحود إبليس، وكان الواجب عليه أن ينصاع لأمره تعالى ويقتدي بالملائكة.
وقد وردت مادة (سجد) في مواضع كثيرة من القرآن، وجاءت بلفظ (اسجدوا) تسع مرات، أربعة في الأمر بالسجود لله تعالى، وخمسة في أمر الله عز وجل للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، مما يدل على موضوعية وأهمية سجود الملائكة لآدم، وما فيه من الإكرام للإنسان، والدروس والأحكام المستنبطة منه، ومبادرة الملائكة للسجود طاعة لله تعالى، وإقراراً بمنزلة آدم ، ويتجلى هذا الأقرار بوجوه:
الأول: ترشحه عن الأمر الإلهي بالسجود لآدم.
الثاني: مبادرة الملائكة الى السجود.
الثالث: الصلة بين جعل آدم خليفة وبين سجود الملائكة له، وإن لم ترق إلى الملازمة.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (اسجدوا لآدم)
 
 
 
الآية سلاح
الآية دعوة للطاعة والإمتثال وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو البشير المبلغ من عند الله من غير واسطة أحد من البشر، وتبعث الآية العز في نفس المسلم وتجعله يدرك عظيم درجته وشأنه، وفضل الله تعالى عليه.
وتبين الآية إنعدام الواسطة بين الإيمان والكفر، فأما الإستجابة وأما الكفر والجحود، وتظهر رجحان كفة الإيمان والإستجابة، ليرى آدم عليه السلام إمتثال الملائكة لأمر الله تعالى، وفيه دعوة للناس للتحلي بالتقوى والمبادرة الى الإمتثال لأوامر الله تعالى إقتداء بالملائكة، وشكراً لله تعالى لعظيم المنزلة التي نالوها منذ أول يوم خلق الله الإنسان.
وتمنع الآية من الغلو بالأنبياء فقد سجد الملائكة لآدم , وأسكنه الله في جنته، وكان عبداً مطيعاً لله تعالى شرّفه بالخلافة والنبوة.
الآية لطف
في الآية إخبار عن إكرام الله عز وجل للإنسان والإنعام عليه بما لم ينله أحد من الخلائق من قبله، فلم يطلب الله السجود لآدم من بعض الخلائق والأعيان الموجودة في السماء والأرض ومنهم الجن.
بل توجه الأمر الإلهي بالسجود لآدم الى سكان السماء والمقربين من العرش وهم الملائكة، ويحتمل بخصوص الخلائق الأخرى وجهين:
الأول: شمولها بالسجود لآدم، بإعتبار ان ذكر الملائكة جاء من باب الفرد الأهم والأمثل، فيشمل الخلائق الأخرى من باب الأولوية القطعية.
الثاني:إنحصار الأمر بالسجود بالملائكة، وهو القدر المتيقن في المقام خصوصاً وانهم من أشرف جنس العقلاء، وجاء الأمر في السماء.
والصحيح هو الثاني، ولكن هذا الحصر لا يمنع من شمول أفراد من غير الملائكة معهم إذا ورد فيه دليل، كما في شمول إبليس بالأمر الإلهي بالسجود لآدم مع انه ليس ملكاً بل هو من الجن، قال تعالى [إِلاَّ إبليس كَان مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ] ( ).
لقد بينت الآية حقيقة خالدة تدل على تشريف الإنسان وإكرامه من بين الخلائق، وتحتمل الصلة بين سجود الملائكة لآدم وبين خلافته في الأرض وجوهاً:
الأول: الملازمة بين الخلافة في الأرض وبين سجود الملائكة لآدم، فالذي يكون خليفة في الأرض تسجد له الملائكة على نحو الإقتضاء .
الثاني : جاء سؤال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] لسؤال صلاح الناس وتنزيه الأرض من الفساد , وفيه نكتة وهي علم  الملائكة بقدرة الله على نع الناس من الفساد , والحيلولة بينهم وبين القتل بغير حق.
الثالث: لا ملازمة بين خلافة آدم في الأرض وسجود الملائكة بل ان السجود لآدم أمر مستقل.
الرابع: جاء سجود الملائكة لآدم إمتثالاً لأمر الله تعالى، إذ قال الله [اسْجُدُوا لآدَم].
الخامس: مبادرة الملائكة للسجود لآدم يدل على ان سؤالهم عن كيفية جعل الإنسان خليفة في الأرض لم يكن إحتجاجاً أو إنكاراً بل هو جزء من إقرارهم بقدرة الله وعظيم سلطانه وانه سبحانه [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع والخامس ، ولا دليل على الأول، وتبين الآية لآدم والناس طاعة أهل السموات لله تعالى، في إشارة وإخبار بان الجنة لايدخلها إلا الذين يقيمون الصلاة، ويتعاهدون عبادة الله تعالى.
مفهوم الآية
تبين الآية منزلة آدم بين الخلائــق وما أعــد الله عز وجل للإنسان من منازل الرفعة وما خصه به من سجود أشرف المخلوقات له، ولم تستوف الدراسات الكلامية والفلسفية مسائل الســجود لآدم وما له من الــدلالات العقائدية والمضــامين الأخــلاقية وهو من العلم الذي تفتح منه أبواب ومسائل ومعارف متشعبة.
ومن مفاهيم الآية انها تدعو الى الإستجابة والإمتثال في التكاليف من غير إصرار على معرفة العلة او الحكمة في الحكم كما انها تحذر من المعصية بما تبينه من قبح فعل إبليس ومعصيته أي ان الآية من آيات الإعتبار والإتعاظ، وتبين سوء أثر الإستكبار والأخلاق الذميمة وتنهى عن مضامين الكفر والجحود.
وفي الآية مسائل:
الأولى:  الإخبار عن أمر الله تعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فلولا هذه لشك كثيرمن الناس بموضوع سجودالملائكة لأدم ولإختلف علماء الكلام فيه إختلافاً كبيراً، فجاءت الآية رحمة بالناس، ودعوة إلى عبادة الله وتعاهد الركوع والسجود ومضامين الخشوع لله تعالى  وزجراً لهم عن الجدال والخصومة.
الثانية: مبادرة الملائكة للإستجابة لأمر الله تعالى وقيامهم بالسجود لآدم عليه السلام، وفيه شاهد بانهم لم يحتجوا ويعترضوا على جعل آدم خليفة في الأرض ولكنهم سألوا للبيان والإطلاع وتزكية أنفسهم عند الله عز وجل لمواظبتهم على العبادة والذكر.
الثالثة: ظهور معصية إبليس ليكون خلق آدم حجة على الخلائق، وكشفاً لرفعة وإيمان الملائكة، وفضحاً لإبليس، وإخباراً عن قبح فعله وذنبه.
الرابعة: بيان علة إمتناع إبليس عن السجود وهذه العلة ذاتية، وليس عن قصور بأهلية آدم للسجود له، خصوصاً وان السجود له طاعة لله، بل لان إبليس كان من الكافرين.
الخامسة: لغة التبعيض في موضوع الكفر والتلبس به شاهد على وجود الكافرين بين الناس والخلائق، ولزوم الحذر والحيطة منهم خصوصاً مع إحتجاج الملائكة بإفساد الإنسان في الأرض.
السادسة: في عدم سجود إبليس لآدم حجة وبيان عملي للملائكة، ورد آخر على إستفهامهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فكأن الآية تقول للملائكة: إبليس الذي هو معكم في الجنة ويتلقى الخطاب الإلهي في السجود لآدم مثلكم عصى وإستكبر وأبى طاعة الله.
ولم تؤثر هذه المعصية على إستحقاق الملائكة للسكن في السماء ونيل درجة القرب إلى الله تعالى والتشريف العظيم الذي يحظون به لأن المعصية شخصية وصادرة من إبليس على نحو الحصر والتعيين.
فكذا بالنسبة للإنسان وخلافة الأرض، ونيل المسلمين لمرتبة الخلافة وتعاهدهم لها فانه لا يؤثر عليهم فساد وإفساد الكفار.
ولم تظهر لنا الآيات تقبيح الملائكة لفعل إبليس، او قيامهم بطرده من الجنة وليس لهم طرده، وعدم الإيجاد أعم من عدم الوجود، فلعلهم ذموه وطردوه من جماعتهم، إلا ان الآيات لم تذكر هذا الذم، بل ذكرت الآيات إخراج الله عز وجل له من الجنة وفيه شاهداً أن الجنة ملك خلق لله عز وجل، لامشيئة فيها إلا له سبحانه.
 وأيهما أشد معصية إبليس لأمر الله وعدم سجوده لآدم، أم معصية الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، الجواب كل فرد منهما معصية، ولكن معصية إبليس أشد وأكبر، وهي نواة ومقدمة لقيام شطر من الناس بالمعصية، لما يقوم به إبليس من إغواء الناس واغرائهم بالمعصية.
 وكما تتضمن الآية حقيقة وهي الرد على الملائكة بوجود الكافر بين ظهرانيهم فانها تدل على أن إفساد الإنسان ليس بسبب كونه خليفة في الأرض، بل بخروجه عن معاني الخلافة وبوسوسة وإغواء إبليس له، وإذ أصر إبليس على الجحود، فان باب التوبة لم يغلق عن الإنسان إلى يوم القيامة.
إفاضات الآية
في الآية تأديب للمسلمين وإرشاد لسبل الطاعة وحسن الإمتثال بالأولوية، فاذا كان الملائكة إستجابوا للأمر بالسجود للمخلوق الجديد والتسليم بانه خليفة الله في الأرض، فأولى بالإنسان ان يسجد لله طاعة وشكراً وإمتثالاً لأوامره، ولم يجعل الله سجود الإنسان إلا له سبحانه، وهذا تشريف إضافي للإنسان.
وتبعث الآية على النفرة من إبليس، وتبين التنافي وروح العداء بينه وبين الإنسان، وتحدد من يحب الإنسان وهم الملائكة اذ سجدوا له، ومن هو عدوه وهو إبليس الذي إختار الجحود والكفر.
وبلحاظ كثرة منزلة الملائكة وموضوعية دعائهم للإنسان فان عداوة من طرد من رحمة الله وهو إبليس لن تضر الإنسان مطلقاً.
 
 
 
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت هذه الآية لبيان ما لآدم عليه السلام من المنزلة الرفيعة بين الخلائق، وتبدأ الآية بالأمر الإلهي المتوجه إلى الملائكة جميعاً بالسجود لأمر الله، فهذه الآية لم تخرج عن نظم الآيات السابقة ولكنها تبين الدليل على الشأن العظيم الذي جعله الله تعالى لآدم.
ومن الإعجاز ما تدل عليه هذه الآيات من الرحمة الإلهية بالملائكة إذ جاءت هذه الآية بأمر الله تعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فلم يأت هذا الأمر إلا بعد إقامة الحجة على عظيم شأن آدم بتلقيه التعليم من الله، وقيامه بتعليم الملائكة الأسماء، وما في هذا التعليم من المنافع العظيمة، ومع توجه الأمر الإلهي إلى الملائكة جاءت الإستجابة والإمتثال متعقبة له من غير إبطاء أو تردد، فليس من سؤال إستنكاري في المقام.
فحين أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعل خليفة في الأرض قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، مع ان الخليفة بعيد عنهم، وسكنه في الأرض، وهم يسكنون في السماء ولن يصلهم منه ضرر، ولكن حينما أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم بادروا إلى الإمتثال والإستجابة، وتلك آية تدل على طاعة الملائكة لله تعالى، وانهم لايفعلون إلا ما يأمرهم سبحانه.
فتتضمن الآية الثناء والمدح للملائكة، وتدعو الناس الى إكرامهم الى تعلم آداب العبودية والإمتثال لأوامر الله تعالى، فاذا كان الملائكة بسجدون لآدم بأمر من الله، فانه سبحانه أكرم بني آدم فلم يجعل سجودهم إلا له، فلا يجوز السجود لغير الله سواء سجود عبادة أو تعظيم، فوضع الإنسان جبهته على الأرض بقصد الخضوع والخشوع لايصح إلا لله تعالى، وتلك كرامة للإنسان، ومن مصاديق الخلافة، إذ خص الله تعالى الإنسان، وجعل سجوده له سبحانه على نحو الخصوص، وهي منزلة عظيمة بان يعلم الإنسان ماهية ومعاني السجود وانه لايصح إلا لله، ويأتى به بقصد القربة والطاعة له سبحانه.
وبعد ان بينت الآية الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم  أكدت أنهم إمتثلوا جميعاً لأمر الله وبادروا الى السجود ، وفي آية أخرى قال تعالى [فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إبليس أَبَى]( ).
وبينما جاءت الآية في مدح الملائكة وإكرام آدم، وبيان عظيم قدرة الله، ذكرت الآية إبليس بصيغة الذم من وجوه:
الأول: رفض إبليس الإمتثال لأمر الله بالسجود لآدم.
الثاني: انه إستكبر وإستعلى بغير حق، وقد جاءت آيات أخرى ببيان وجه إستكباره بانه قال، [خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ).
الثالث:نعت إبليس بالكفر والجحود.
ولعل في نعت إبليس بالكفر عندما أبي السجود لآدم إخباراً عن حقيقة وهي ان الناس خلقوا على الفطرة والإيمان وان الكفر يأتيهم على نحو عرضي، والآية الكريمة موعظة لآدم وحواء وذريتهما، وتحذير لهم من وجوه:
الأول: الحيطة والحذر من إبليس.
الثاني: إجتناب المعصية والإمتناع عن الإمتثال لأمر الله.
الثالث: بيان القبح الذاتي والعرضي للكفر، ان وصف إبليس بالكفر بصيغة الماضي [وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] إشارة الى صدور الإمتناع عن السجود من الكفر والإقامة على الجحود، بخلاف الملائكة الذين [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ] ( ).
التفسير الذاتي
ورد لفظ [قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ] أربع مرات في القرآن كلها في الأمر بالسجود لآدم عليه السلام، وفيه آية في إكرام آدم، وبيان عظيم منزلته بين الملائكة في أول ساعات خلقه كما تذكر هذه الآية إمتناع إبليس من بين الملائكة عن السجود لآدم، وللملائكة وظائف عظيمة في السماوات، وهي منقطعة إلى العبادة والتسبيح.
وجاء إخبار الله عز وجل لها بخلق آدم وإمتثالها للأمر الإلهي بالسجود له شاهداً على حسن عبوديتها وطاعتها لله عز وجل، إذ يخلق الله عز وجل خلقاً ليكون خليفة في الأرض، ولكنه لم يهبط لها إلا بعد أن يسجد له الملائكة، ليكون آدم الخليفة الذي نال مرتبة سجود الملائكة له.
وجاءت الآية بوصف الملائكة بحال واحدة وهي السجود وكان السجود والإمتثال أمر بسيط وسهل قريب، فحينما أخبر الله الملائكة عن إتخاذ خليفة في الأرض أظهروا الإنكار بلغة الإستفهام، أما حينما أمرهم بالسجود فانهم بادروا إليه مع فيه من الإقرار بعظيم المنزلة والشأن الرفيع لآدم، وإذ جاء وصف الملائكة بأمر حسن ذاتاً وعرضاً، فان الآية ذكرت إبليس بثلاثة صفات ذات قبح ذاتي وعرضي وهي:
الأولى: إنه أبى وإمتنع عن السجود، وأبى في المقام بمعنى ترك وإمتنع نقيض أجاب، وليس بمعنى الإباء بمعنى الكراهة والترفع، قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
وجاء لفظ (أبى) بصيغة الفعل الماضي سبع مرات في القرآن، ثلاثة منها في ذم إبليس، وأربعة في ذم الكفار والظالمين، وإمتناعهم عن سبل الطاعة والهداية.
الثانية: الإستكبار والأنفة بغير حق، لأن الخضوع لله واجب، لقد رفع إبليس نفسه إلى منزلة أكثر مما يستحقها، ونسي أنه عبد مخلوق لله عز وجل، وأن وظيفته الطاعة والإمتثال، والكبر والعظمة لله عز وجل، وينال العبد المنزلة الرفيعة والشأن بالطاعة لله عز وجل، كما في الملائكة فإنهم لم يختاروا إلا طاعة الله فبقوا في منازل الرفعة، وسكنهم في السماء بجوار العرش بفضل الله.
وهل الإستكبار متحد في معناه في المقام مع الإباء، وأنه من عطف البيان، أم أنه من عطف النسق، وان الكبرياء غير الإباء.
الجواب هو الثاني لأن الأصل في واو العطف التعدد والمغايرة فيكون المعنى أبى السجود وإستكبر عن طاعة الله، بلحاظ أن السجود لآدم ليس مطلوباً لذاته بل هو شاهد على الإمتثال لأمر الله عز وجل، وفيه إشارة إلى أن آدم سيواظب على السجود لله وطاعته والإمتثال لأوامره.
الثالثة: نعت إبليس أنه من الكافرين والجاحدين لنعمة الله عز وجل وتفضله بسكنه مع الملائكة في الجنة، بل أن توجه الخطاب له بالسجود لآدم نعمة أخرى من عند الله عز وجل.
وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي [كَان مِنْ الْكَافِرِينَ] وفيه شاهد على أن جحوده لم ينحصر بعمل الجوارح وإمتناعه عن السجود، بل أن الشك والريب يساوره ولو في الأمر الإلهي بإتخاذ آدم خليفة في الأرض، والحكمة منه.
لذا تراه يسعى في إغواء بني آدم لإظهار أن الإنسان غير مؤهل للخلافة في الأرض، ولمنعه من إعمارها بالذكر والتسبيح، فجاء نزول القرآن ليجعل الأرض مظهراً من مظاهر قدرة الله عز وجل في إنقطاع أهل الإيمان للتسبيح والذكر، ومع كثرة وشدة الإبتلاء بإبليس وإغوائه فانه لم يذكر في القرآن إلا إحدى عشرة مرة منها تسع مرات في إمتناعه عن السجود لآدم، وهذه النسبة في موضوع واحد، تدل على أهميته وموضوعيته، ولزوم إستنباط المسائل والدروس منه.
وهذه أول آية في نظم القرآن يذكر فيها اسم إبليس، إذ جاء بعد أن ذكر الله عز وجل الملائكة وأخبر عن خلق آدم وإتخاذه خليفة في الأرض، وقيامه بتعليم الملائكة، الأسماء، ليكون هذا التعليم حجة على إبليس، ودعوة له للإمتثال لأمر الله عز وجل بالسجود له، ولما أبى السجود جاءت هذه الآية بنعته بأنه من الكافرين، لأنه لم يتخذ من تعليم آدم الملائكة الأسماء عبرة وموعظة ولم ينتفع منه كدرس ولطف إلهي كما إنتفع الملائكة . 
وورد لفظ (الكافرين) ثلاثاً وتسعين مرة في القرآن، منها مرتان [كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] ( )، وكلاهما في إبليس وذمه.
وفي لفظ إبليس وجهان:
الأول: إنه اسم أعجمي معرب، وإستدل عليه الزجاج وغيره بإمتناع صرفه.
الثاني: أنه عربي مشتق من الإبلاس وقال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
                                           قال نعم أعرفه و أبلسا( ) .
وعلى هذا القول يكون عدم صرفه لإستثقاله، ولأنه اسم نادر وليس له نظير عند العرب، وتنفر الناس من التسمية به .
وكان أبو بكر السراج يرد على القول في إبليس أنه لفظ عربي، وان إسحاق من أسحقه الله تعالى إسحاقاً، وأيوب من أب يؤب، وإدريس من الدرس ونحوها بأنه كمن (زعم أن الطير ولد الحوت) ( ).
 ولكنه قياس مع الفارق،لإتحاد جنس الألفاظ، وإختلاط الألسن في الأزمنة المتفاوتة، والأصل في اللفظ القرآني عربيته، وإقتباسه من لغة العرب قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]( )،ولا يحكم على اللفظ بأنه أعجمي إلا بالقرينة والأمارة الصارفة، وحتى اللفظ الأعجمي قد يكون في الأصل عربياً، وأخذته الأمم الأخرى من العرب ثم عاد إليها بالقرآن ليكون من عمومات قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) مجئ الألفاظ العربية المندثرة والمستعارة من الأمم الأخرى في القرآن , وفيه حجة وشاهد على حفظ القرآن للغة العربية.
ترى لماذا ذكرت الآية قصة إبليس ومعصيته، ولم تكتف بذكر طاعة الملائكة وسجودهما لآدم، الجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل هو القوي القاهر لعباده.
الثاني: تحذير آدم وزوجه من إبليس.
الثالث: جعل الناس في حيطة ويقظة من إغواء إبليس.
الرابع: ترغيب الناس بمحاكاة الملائكة في طاعة الله، ولغة التخفيف عنهم، فهو لم يطلب من الناس السجود لغيره،بل أمرهم بالسجود له.
وكان إبليس مواظباً على السجود لله، ولكن الله سبحانه سخط عليه لأنه لم يسجد لآدم لما في هذا السجود من طاعة لله عز وجل، أما الإنسان فإنه لم ولن يسجد إلا لله عز وجل .
 وجاءت عقوبة إبليس على أقسام:
الأول: عقوبة عاجلة بالخروج من الجنة، قال تعالى [اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا]( ).
الثاني: العقاب المصاحب لأيام الحياة الدنيا، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ] ( )، بالإضافة إلى ما يلحق إبليس من الإثم بسبب إغوائه لفريق من بني آدم( ).
الثالث: جزاء المعصية الخلود في العذاب يوم القيامة.
من غايات الآية
تتضمن الآية في غاياتها مسائل عديدة منها:
الأولى: إخبار الإنسان عن عظيم منزلته عند الله.
الثانية: لزوم شكر الإنسان لله عز وجل على ما خصه به من الكرامة والإكرام.
الثالثة: إدراك بني آدم لحقيقة سجود الملائكة لأبيهم آدم، ومن الآيات ان الناس جميعاً يعلمون منزلة الملائكة عند الله.
الرابعة: لم يأتِ سجود الملائكة لآدم من عند أنفسهم بل ان الله عز وجل هو الذي أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام.
الخامسة: تحذير المسلمين خاصة، والناس عامة من إبليس، وكيفية ومضامين هذا التحذير آية من عند الله، اذ انه يظهر عداوة إبليس لله وللناس، وانكشاف هذه العداوة من أول خلق آدم عليه السلام، وهي نعمة عظيمة تفضل الله عز وجل بها على الإنسان اذ جعله يعرف عدوه ويتوقى منه من حين خلقه.
فمن الآيات ان بداية الإنذار من إبليس لم تكن في الكتب المنزلة لاحقاً بل بدأ التحذير والإنذار من أول خلق آدم عليه السلام ويتجلى هذا التحذير بوجوه:
الأول: معصية إبليس لأمر الله تعالى فان رؤية آدم للملائكة والخلائق مطيعين لله دعوة له ولحواء وأولادهما بالتزام الطاعة لله تعالى والنفرة المطلقة من المعصية، بينما جعلت معصية إبليس الإنسان يعلم بوجود من يعصي الله، وينفر من المعصية وصاحبها.
وليس لهذه السببية أثر سلبي على حياة الإنسان، بل هي تحذير من  إبليس ومكره ، وكانت سبباً لإحتراز أهل الإيمان من المعصية وأسبابها، والتوقي من إبليس وشروره.
الثاني: الإخبار عن علة معصية إبليس وهي كفره وجحوده بقوله تعالى [وَكَان مِنْ الْكَافِرِينَ] أي أن عدم سجوده لم يكن أمراً إبتدائياً ومستقلاً بل هو فرع ونتيجة لكفره، وفيه تحذير للمؤمنين من إبليس، ومن الكفار مطلقاً.
الثالث: التنبيه والتحذير من العناد والإستكبار.
السادسة: دعوة المسلمين الى الإمتثال للأوامر الإلهية، وأداء الفرائض والعبادات، واذا كان إبليس عصى الله عز وجل بأمر السجود لآدم ، فان المسلم يقوم بالسجود لله تعالى في صلاة الفريضة كل يوم أربعاً وثلاثين مرة بلحاظ سجدتين في كل ركعة.
السابعة: بيان فضل الله عز وجل على الإنسان في إكرامه، وإخبار الناس بان المسلمين هم الذين تعاهدوا الشكر لله،وحصنوا أنفسهم من إغواء إبليس،وأخذ الحيطة والحذر منه،قال تعالى[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ]
تحكي الآيات مجتمعة ومنفردة منزلة الإنسان السامية وما انعم الله عز وجل عليه به من التكـريم، وان الله تعالى خلقه بيده ثم تفضل عليه بالتشريف بالخلافة في الأرض، ويبلغ هذا الإكرام في هذه الآية غايته حيث يأمر الله عز وجل الخلَق الكريم من الملائكة لإظهار الخضوع والتطامن لآدم باعتباره خليفة الله في الأرض.
ولا تنحصر علة هذا السجود بتعليم الأسماء أو شخص آدم وحده بل هي أكبر، فهي شاملة لموضوع الخلافة في الأرض والمسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق الإنسان من بين الخلائق، كما تظهر الآية عظيم قدرة الله وإرادته في خلقه، وتدعو إلى إستخراج وجوه الحكمة من هذا السجود لأن الله سبحانه لا يفعل إلا الأمر المتقن.
وتبين الآية النعم الإلهية العظيمة على الناس جميعاً، وفيه حجة وتذكير بلزوم عبادة الله تعالى، ولا تتقوم العبادة إلا بالسجود لله تعالى طاعة وخضوعاً له سبحانه .
وهل يصح السجود لله تعالى شكراً له سبحانه لأنه أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، الجواب نعم ، فتأتي القصة القرآنية لتبين فضل الله تعالى على الإنسان، وإلتقاء أهل السماوات والأرض في طاعة الله، والقيام بالسجود والخضوع له سبحانه، ولم يأت الأمر الإلهي بالسجود لآدم إلى فرد واحد من الملائكة بل جاء لهم جميعاً، وهو ظاهر الآية مما يدل على المنزلة الرفيعة لآدم إذ نفخ الله تعالى فيه من روحه، وجعل هذا النفخ علة لإكرامه بسجود الملائكة له وسكنه في الجنة هو زوجه، وليكون سجودهم له مقدمة لإكرامه في إقامته القصيرة معهم وبعد هبوطه إلى الأرض، وترشح هذا الإكرام على الصالحين والمسلمين من ذريته الى يوم القيامة.
ومن الآيات عدم مجئ الأمر الإلهي للملائكة إلا بعد ان إحتج الملائكة على موضوع جعل خليفة في الأرض بمسألة الإفساد فيها، ليكون الأمر والإستجابة له حجة عليهم بان ضلالة شطر من البشر لا تمنع من موضوع الخلافة، وان الله تعالى سيجازي الذين أحسنوا بالثواب والأجر العظيم، ويجازي المفسدين في الأرض الذين يسفكون الدماء بالخلود في الجحيم.
وهل كان الأمر الإلهي بسجود الملائكة لآدم إختباراً لهم ، الجواب لا، فقد جاءت الآيات بمدحهم والثناء عليهم ، وتوكيد إخلاصهم العبادة لله عز وجل .
ويعتبر سجود الملائكة لآدم عليه السلام بداية عهد جديد من الصلة بين الملائكة والناس في أفراد الزمان الطولية والعوالم المختلفة من وجوه عديدة منها:
الأول: سجود الملائكة لآدم بأمر من الله تعالى.
الثاني: إكرام الملائكة لآدم  وحواء أثناء إقامتهما في الجنة، ورؤية الملائكة لأمر جديد في الجنة وهو وجود زوجين، والملائكة لا يتزوجون بل هم خلق عظيم منقطع الى الله تعالى بالعبادة، وفيه دعوة للإنسان بان يشكر الله تعالى على نعمة الزواج ، ويتعاهدها ويجعلها وسيلة لتثبيت معالم العبادة في الأرض.
الثالث: قيام الملائكة بالنزول بالوحي الى الأنبياء، ومن الآيات ان الملائكة الذين ينزلون بالوحي هم من أسمى وأعظم الملائكة مما يدل على قدسية الوحي، وشرف وظيفة الرسالة بالوحي.
الرابع: دعاء الملائكة للناس، وإستغفارهم  لهم أيام الحياة الدنيا ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( )،  وصلاة الملائكة إستغفار ودعاء ، قال تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرض]( ).
الخامس: قيام الملائكة بوظائف مباركة في الأرض، ونقل البشارات وتهيئة مقدمات وأسباب تعظيم شعائر الله في الأرض، وإصلاح الأنبياء لأداء الرسالة‘ وإعانة المؤمنين في أحكام إتيان الواجبات وإجتناب المحرمات، فقامت الملائكة بنقل البشارة الى مريم بولادة عيسى ، قال تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ]( )، وفيه نكتة عقائدية، وهي بعث السكينة في نفس مريم ومنع طرو الشك عندها من ولادة عيسى من غير أب، وجعلها تحترز من تركه أو إهماله أو وصول الضرر إليه، وكذا نقل الملائكة لأمر الله تعالى لأم موسى [فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي]( )، كمقدمة لحفظ موسى عليه السلام وبعثه إلى بني إسرائيل بالرسالة، والآيات المعجزات التي جاء بها من عند الله.
السادس:  قيام الملائكة بتوجيه اللعنة للمفسدين في الأرض، ووردت اللعنة مثلاً بخصوص الكفار الذين يموتون على الكفر، قال تعالى [أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] وكذا وردت آية آخرى في قيام الملائكة بلعن الكفار الجاحدين الظالمين( ).
السابع: نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والمسلمين في ميادين القتال، ومحاربة الكفار والمشركين , قال تعالى [ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثامن: دخول الملائكة على أهل الجنة بالسلام المبارك والبشرى ، قال تعالى[الْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ] ( ).
التاسع: تفضل الله تعالى وجعل الملائكة هم القائمون على النار، وعذاب الكفار فيها ، قال تعالى[وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً]( ).
وبينت آية أخرى وظيفة هؤلاء الملائكة ، بقوله تعالى [عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]( ).
ولم يذكر اسم آدم في آية الخلافة ، إذ ورد إخبار الملائكة بجعل خليفة في الأرض، وجاء الأمر بسجودهم لآدم في هذه الآية ، وفيه وجوه:
الأول: تسمية آدم بإسمه، وهي المرة الأولى التي يذكر اسم آدم في الخطاب مع الملائكة، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على ان الله تعالى هو الذي إختار له هذا الإسم.
الثاني: لم يمنع إحتجاج الملائكة في موضوع الخلافة دون إنقطاعهم إلى التسبيح والعبادة عن السجود لآدم عليه السلام، وقد  سجدوا لآدم مرة واحدة طاعة لله تعالى، وهم عاكفون على التسبيح والسجود لله دائماً وأبداً ، قال تعالى [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( ).
الثالث: توجه الأمر الإلهي الى الملائكة بالسجود لآدم لبيان منزلة آدم بين الخلائق، وتوكيد طاعة الملائكة لله تعالى، وعدم ترددهم في السجود لآدم عليه السلام ، والإقرار بمنزلته، وتعاهد إكرام المؤمنين من بني آدم، ونصرتهم.
تفسير قوله تعالى [ فَسَجَدُوا ]
بيان لإستجابة الملائكة لأمر الله تعالى، وموضوع الأمر بالسجود أكبر كثيراً من الإخبار عن إتخاذ خليفة في الأرض، إذ ان الإخبار لا يحتاج الى إستجابة او إظهار للرضا، نعم كان هذا الإخبار مقدمة كريمة لموضوع السجود ومناسبة تتضمن اللطف والرحمة في تهيئة حال الإستعداد والقبول لدى الملائكة بالإذعان والمبادرة الفورية للسجود من غير تردد او إستفهام او تأخير.
ترى ماذا يعني هذا السجود، إنه طاعة لله وإمتثال لأمره، وتكريم لمن شاء الله عز وجل ان يكرم من غير ان ينتقص من منزلة الملائكة شيء، بل يزداد مقامهم إرتقاءً في سلم العبادة والعلم إذ ان طاعة الله تعالى والإستجابة له أسمى منازل الإخلاص ، أي ان مرتبتهم إزدادت علواً بالسجود لآدم، لما فيه من مضامين الطاعة لله عز وجل، فكان سجودهم وتعظيمهم لآدم جزءاً من عبادتهم لله ، ودرساً له ولحواء وللناس جميعاً بلزوم طاعة الله والإمتثال لأوامره.
وكان سجود الملائكة لآدم تنبيه وتحذير له من الأكل من الشجرة، وتلك آية في الصلة المباركة بين الإنسان وبين الملائكة إستدامت وإتصلت بنزولهم بالوحي .
بالإسناد عن شريك  عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقاً فقال: إسجدوا لآدم، فقالوا: لا تفعل فبعث الله عليهم ناراً تحرقهم ثم خلق خلقاً آخر، فقال أني خالق بشراً من طين إسجدوا لآدم فأبوا فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: إسجدوا لآدم، فقالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم)( ). 
والحديث صعيف سنداً ودلالة.
وعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام: “ان يهودياً سأل الإمام علياً عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابلة معجزات الأنبياء عليهم السلام، فقال: هذا آدم أسجد الله له الملائكة فهل فعل بمحمد شيئاً من هذا.
فقال علي عليه السلام: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم الملائكة، فان سجودهم لم يكن سجود طاعة أو انهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن إعترافاً لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله جل جلاله صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذا زيادة له يايهودي”.
فان قلت: كيف كان سجود الملائكة لآدم.
قلت: انه يحتمل وجوهاً:
الأول: هو الخضوع والتذلل وفق المعنى اللغوي.
الثاني: هو السجود بالمعنى الإصطلاحي والشرعي أي وضع الجبهة على الأرض وما شابهها طاعة لله تعالى.
الثالث: مسمى السجود وما يرمز إليه من حركة أو فعل.
الرابع: الإنقياد والإتباع والتسليم له بالعلم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه للتباين في خلق الملائكة، وقد جاء السجود في القرآن بالمعنى اللغوي ، والأعم من وضع الجبهة على الأرض في دلالة على إعجاز القرآن.
ولا يمكن قياس سجود الملائكة لآدم على سجود المخلوقات الأخرى للإختلاف النوعي في الموضوع والمحمول.
ومن الملائكة من سجد السجود بالمعنى الإصطلاحي بأن أصلحه الله لكيفية السجود لتأديب آدم وحواء ، ولما للأمر من أهمية ودلالات تجعله ينصرف الى الفرد الأهم والمناسب والمتبادر للأذهان وهو السجود وفق الإصطلاح الشرعي وتؤيده النصوص , ولأن الأمر قضية في واقعة، وتدل عليه نفس الآية بقوله تعالى [فَسَجَدُوا] مما يدل على عدم إرادة معنى الخضوع والخشوع المستديم
وكان سجود الملائكة في الجنة إلا أن تكون من جنان الأرض، والأصح أنه في السماء  .
يمكن ان نطرح نظرية جديدة في علم الرجال، وهي تقسيم المرسل بلحاظ الوثاقة والضعف ورجال السند الى اقسام :
الأول: مرسل أعلى.
الثاني: مرسل متوسط.
الثالث: مرسل ضعيف.
والأول ما اذا كان راوي الإرسال الذي لم يذكر السند ثقة خصوصاً في الصدر الأول في الإسلام وأيام الصحابة والتابعين وكثرة المتقين، والثاني الذي يرسل الحديث ممدوح.
والمرسل الضعيف هو الذي يكون راوي الإرسال مجهولاً أو ضعيفاً أو لم يوثق.
لقد أجمع المسلمون على ان سجود الملائكة لآدم كان سجود محبة وتكرمة ولم يكن سجود عبادة، وقال الجبائي وأبو القاسم البلخي وجماعة ان الله جعله قبلةً لهم، فأمرهم بالسجود الى قبلتهم تعظيماً واكراماً.
وأشكل بعضهم على هذا القول باتخاذ آدم قبلة، لان الصلاة الى القبلة تتعدى بحرف الجر (الى) وليس اللام.
ولكن اللام قد تأتي مرادفة لحرف الجر (الى) كما في قوله تعالى[  كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ]( )، أي إلى أجل.
كما ورد في شعر حسان بن ثابت:
 
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
 
عن هاشم ثم منها عن أبي حسنِ
 
أليس أول من صلى لقبلتكم
 
وأعرف الناس بالقرآن والسننِ( ).
 
وقال الإمام الرازي في الآية جواز القول صليت للقبلة بآية من القرآن وبيتي الشعر أعلاه، قال (اما القرآن فقوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] والصلاة لله لا للدلوك، فاذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة)( ).
ولكنه قياس مع الفارق، فالقرينة ظاهرة في الآية أعلاه لإرادة الزمان ووقت الصلاة وليس جهة القبلة، والزمان متحرك ومتجدد، وسمت القبلة موضع ثابت، وقد يكون إستعمال اللام ضرورة شعرية.
تفسير قوله تعالى [ إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكبَرَ ]
إمتنع إبليس من بين الملائكة عن السجود لآدم إمتناع معصية ، وليس جحوداً، لقد إعتقد إبليس أفضليته على آدم في أصل الخلقة [ خلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ]( )، لذا ورد عن الامام الصادق ان الإستكبار هو أول معصية عُصي الله بها، قال عليه السلام: فقال إبليس: ربِ أعفني من السجود لآدم وانا أعبدك عبادة لم يعبدك بها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فقال جل جلاله لاحاجة لي في عبادتك، انما عبادتي من حيث أُريد لا من حيث تُريد( ).
وورد في الحديث ان إبليس كان بانياً على عدم السجود لآدم اذا دُعي له أثناء مدة تصوير آدم، خصوصاً ان نفسه كانت تنازعه بروح الإستكبار، وحصر أسباب التفضيل بأصل الخلقة فقط، وغفل عن الضرورة تقتضي أولوية الطاعة، وتفويض الأمر إلى الله عز وؤجل.
وبالإسناد عن أبي بصير عن الامام جعفر الصادق عليه السلام: ان أول من كفر بالله حيث خلق الله آدم كفر إبليس حيث ردّ على الله امره، وعن القمي: خلق الله آدم فبقي سنة مصوراً، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول: لامر ما خُلقت، وقال العالم عليه السلام: فقال إبليس لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته إلى أن قال ثم قال الله تعالى للملائكة أسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد).
ولقد أضل إبليس جماعة إذ شكروا له رفضه السجود لآدم وقالوا أنه جعل السجود مختصاً به تعالى وسموه سيد الموحدين.
لقد كان إمهال إبليس مع معصيته دليلاً على سعة رحمة الله عز وجل وحلمه ووجــود باب الإختيار، والمنزلة بين المنزلتين وفيه توكيد على يوم الحســاب، ولو شـــاء الله لوأد المعصــية في الحال.
وأختلف في موضوع إبليس هل كان من الملائكة أم لم يكن منها.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة انه كان منهم لإستثنائه من جملتهم في هذه الآية.
وعن ابن مسعود في قوله تعالى [ كَان مِنْ الْجِنِّ ]( )، أي كان خازن الجنة، وبالإسناد (عن أبى صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جعل إبليس على ملك السماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لانهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا( ).
وفي الحديث الشريف بيان لما لإبليس من الشأن والمنزلة بين أهل السماء قبل ان يهبط إلى الأرض لذا ورد عن ابن عباس أنه قال ( إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا وكان له سلطان الأرض.
 وقال الطبري حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الازهر عن شريك بن عبد الله بن أبى نمر عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس قال إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجن، فكان إبليس منهم وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما( ).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله عزوجل آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملأ من الملائكة فسجدوا له فجلس فعطس فقال الحمد لله فقال له ربه يرحمك ربك ائت أولئك الملأ من الملائكة فقل لهم السلام عليكم فأتاهم فقال السلام عليكم فقالوا له وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه عزوجل فقال له هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم فلما أظهر إبليس من نفسه ما كان له مخيفا فيها من الكبر والمعصية لربه وكانت الملائكه قد قالت لربها عز وجل حين قال لهم[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )،فقال لهم ربهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] تبين لهم ما كان عنهم مستترا وعلموا أن فيهم من منه المعصية لله عز وجل والخلاف لأمره( ).
بالاسناد عن الامام جعفر الصادق في حديث: (فقيل له: كيف وقع الأمر على إبليس، وانما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال عليه السلام: كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة، وذلك ان الله خلق خلقاً قبل آدم وكان إبليس فيهم حاكماً في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء وكان من الملائكــة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم)( ).
وعن الإمام الصادق عن إبليس اكان من الملائكة او كان يلي شيئاً من أمر السماء؟ فقال عليه السلام: لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى انه منها، وكان الله يعلم انه ليس منها ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء ولا كرامة، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فانكر، وقال كيف لا يكون من الملائكة؟ والله يقول للملائكة: إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، فدخل عليه الطيار فسأله وانا عنده فقال له: جعلت فداك قول الله عز وجل: ياأيُّها الذين آمنوا في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقــون؟ فقال عليه السلام: نعم يدخلون في هذه المنافقون والضلال، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة)( ).
وقال الحسن البصري وقتادة بان إبليس لم يكن من الملائكة وان الإســتثناء في الآيـــة (الا إبليس) إســـتثناء منقطــع، وبه قـال المعتزلة، وأستدل بقوله تعالى [ إِلاَّ إبليس كَان مِنْ الْجِنِّ ]، ولان إبليس له ذرية والملائكة ليس لها ذرية لقوله تعالى [ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ]( )، إلا ان يقال انه أهبط الى الأرض فصارت عنده الأهلية للذرية بدليل انه ليس في الجنة إنجاب ونسل.
 وللفارق في أصل الخلق فإبليس مخلوق من النار، وفي التنزيل [خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ]( ) والملائكة مخلوقون من النور.
والقائـلون بان إبليس من الملائكة تمسكوا بإطلاق هذه الآية [ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ] ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً وبعض الأخبار والنصوص مبينة للقرآن وللفارق الموجود بين الملائكة وإبليس في الإستجابة لأمر الله ، كما ان القواعد الكلية في تنزيه الملائكة تصــلح للحكم بان إبليس ليس من الملائكـــة وهو المســمى في علم المنطق بالبرهان الإني ويعني الإستدلال من المعلول على العلة.
وروى مجاهد وطاووس( ) عن ابن عباس انه قـال: كان إبليس قبل ان يرتكب المعصــية ملكاً من الملائكـة إسمه عزازيل وكان من سكان الأرض، وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن ولم يكن من الملائكــة أشــد إجتــهــاداً ولا أكثر علماً منه، فلما تكبر على الله وأبى السـجود لآدم وعصاه لعنه وجعله شــيـطــاناً وسماه إبليس( )، وفي روايــة كان إسمه الحارث.
وفي مجمع البيان في تفسير الآية قال: فقد جاء عن العرب ما يدل على انهم – أي الجن – لا يطعمون ولا يشربون، أنشد ابن دريد( ) قال أنشد أبو حاتم:
 
ونار قد حضأت بُعيدَ وهن
 
بدار ما أُريدُ بها مقـــاما
 
سوى ترحيل راحلة وعــين
 
أكالمّها مخافةَ ان تنـــــــامـا
 
أَتوا ناري فقلتُ منونَ انتـــم
 
فقالوا الجنّ قلتُ عموا ظـــــلاما
 
فقلت إلى الطّعام فقال منهم
 
زعيمٌ يحسدُ الانس الطعــامــــــا
 
لقد فضلتم بالأكل فينـــــــــــا
 
ولكن ذاك يعقبكم سقاما
 
 
فهذا يدل على أنهم لا يأكلون ولا يشربون لأنهم روحانييون( )
ولكن هذه الأبيات من الشـعر لا تصلح دليلاً على ان الجن لا يأكلون ولا يشربون، لأن المسألة تتعلق بعلم الكلام ولا حجة فيه لقول شاعر.
كما روي عن ابن عباس انه قال ان الملائكة كانت تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة فتعبد معها بالأمر بالسجود لآدم فسجدوا ، وأبى إبليس فلذلك قال الله تعالى إلا إبليس كان من الجن( ).
وهذا الحديث معارض لما ورد عن ابن عباس بان إبليس من الملائكة، إلا أن يقال بأن الجن ترقى بالإجــتهــاد في العبادة والنســك الى منزلة الملائكــة والإنخراط في صــفوفهم في الحياة او بعد الموت،والأهلية للتسمية بإسمهم، وليس من إمـارة تدل عليه لإختلاف السنخية إلا ان يشاء الله، فقد يلحق بهم بالرياضة والنسك والإجتهاد في العبادة والإنقطاع اليها، والحاق إبليس بالملائكة فضل ونعمة من الله عليه ، ولكنه جحدها ولم يشكرها.
لقد كان وجود إبليس بين الملائكة أمراً تقتضيه الحكمة الإلهية وهو سر من أسرار الخليقة، وبغض النظر عن سبب وأصل وجوده بين الملائكة فان الملائكة وهم خلق روحانيون إستجابوا لأمر الله تعالى بالسجود لآدم، وتخلف إبليس عن الإستجابة، لتفتح صفحة من الإبتلاء والإفتتان على بني آدم.
تفسير قوله تعالى [وَكَان مِنْ الْكَافِرِينَ]
أي صار من الكافرين، كما في قوله تعالى [ وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانتْ سَرَابًا ]( ).
فجاء لفظ الماضي لإفادة الحاضر بلحاظ القرينة، والعرب توقع (كان) موقع (صار) لما بينهما من التقارب في المعنى لان (كان) لما إنقطع وإنتقل من حال إلى حال.
(وقيل أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين)( ) ولكن كل شيء حادث هو في علم الله، والآية في مقام الوصف البياني لفعل إبليس وحقيقته وأصوله.
والأصل في (كان)إرادة الزمن الماضي ،وربما صدر من إبليس قبلها ما يفيد الكفر والجحود بالنعمة.
وتمسك بعضهم بهذه الآية وقال بان كل معصية كفر، وفيه مسائل:
الأولى: هذا القول خلاف إجماع المسلمين.
الثانية: لا ملازمة بين المعصية والكفر، خصوصاً وأن المعصية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الثالثة: الكفر على أقسام ودرجات، وفي حديث جميلة بنت عبد الله زوجة ثابت بن قيس: إني أكره الكفر) أي الزنا، ومنه(كفر النعمة وهو التقصير في الشكر)( ).
الرابعة: قوله تعالى(كان من الكافرين) خاص بإبليس وفضح له، وإخبار عن ماهية فعله، وفي هذا الإخبار ونزوله في القرآن إكرام لكل مسلم ومسلمة.
وقال الأشاعرة بان صاحب الكبيرة مؤمن.
وقال المعتزلة بخروجه عن الإيمان بالكبيرة ولكنه لا يدخل في الكفر.
والحكم بالكفر وعدمه على المكلف لا يأتي من هذه الآية وحدها، ولعلها أجنبية عن نواميس الأرض وأحكام المكلفين.
(واستدل بعض المفسرين بهذه الآية على ان أفعال الجوارح من الإيمان، فقال لو لم يكن كذلك لوجب ان يكون إبليس مؤمناً بما معه من المعرفة بالله تعالى وان فسق بإبائه) .
والإمتثال أو عدمه أعم من فعل الجوارح.
ولكن الأمر متوجه الى إبليس ليبين مصداق طاعته بفعل الجوارح واقعاً، وهو أمر يسبقه قبول ذهني وإستعداد للإستجابة او إباء وإستكبار ذاتي يحول دون أدائه.
وعن الامام جعفر الصادق سأل عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال: الكفر أقدم، وذلك ان إبليس أول من كفر ، وكان كفره غير شرك، لأنه لم يدعُ الى عبادة غير الله، وإنما دعا الى ذلك بعد فأشرك.
آدم وإبليس
إبليس اسم مشتق من التحير والندم والإبتعاد عن الرحمة واليأس من النجاة، والأرجح أنه عربي , ولم يثبت خروجه عن عمومات قوله تعالى[ِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، وفي حياة الحيوان وكنية إبليس أبو مرة.
وكان إسمه الحارث وبالعبرانية عزازيل، فلما صدرت منه المعصية سُمي إبليس، وكان مع الملائكة ويمتاز بالإجتهاد في العبادة.
وعن الامام علي ( انه قد عبد الله في ستة آلاف سنة لا يدري أمن سني الدنيا أم سني الآخرة)( )، وقيل : وعلى هذا فلو كان من سني الآخرة لبلغ من السنين كثيراً.
ولكن مدة العبادة ذاتها أي ان مقدارها الزماني واحــد بغض النظر عن كونها من سني الدنيا او الآخرة، فلا يمكن ان يكون الوعاء الزمني لفعل شخصي واحد طويلاً وقصيراً معاً لانه يلزم إجتماع النقيضين في موضوع متحد، وهناك تأمل ونظر قد يرد على جمع من المفسرين للإستدلال الذى ذهبوا اليه بان يوم القيامة هو المقصود بقوله تعالى [ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَان مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]( ).
ولكن المقصــود من عدم معرفة إبليس للوعاء الزماني لســجوده وعبادته مع تعينه خارجاً، انه كان منقطعاً الى العبادة ولم يلتفت الى أحوال الزمان وتغيراته وانه كان في مأمن وإنشغال محترزاً بالتقوى والنسك لا يبالي بما يحدث حوله في مدة بقدر ستة ألاف سنة من سني الدنيا، وهو المتبادر للأذهان، وأصالة الظاهر.
وفي إبليس وهل كان من الملائكة أو لا، قالت طائفة انه من الملائكة، وإختلفوا في منزلته وعمله على وجوه:
الأول: كان خازناً للجنان .
الثاني: له سلطان السماء وسلطان الأرض.
الثالث: كان يسوم ما بين السماء والأرض.
وهل كون أصل إبليس من الجن هو علة عدم السجود أم انه ورد على سبيل النعت وبيان الإختلاف، وهل هناك من الملائكة أو ممن سجد معهم اصله من الجن ولكنه إستجاب لأمر الله تعالى في السجود لآدم والجن منهم الصالح ومنهم دون ذلك بخلاف الملائكة فليس فيهم إلا المطيع لله الصادع بأمره.
إن أصل السنخية ليس علة تامة لعدم السجود لآدم والإمتثال لله  تعالى، ولكنه فارق بينه وبين الملائكة وخصوصية لها إعتبار وأثر سلبي، وإختلاف السنخية والجنس بينهما له أثر في نوع الإستجابة، وان الفرد من الجن وان إجتهد في العبادة فانه لا يرقى إلى منزلة الملائكة الروحانيين، نعم يمكن ان يصدق عليه أنه بذل الوسع وإجتهد بالقياس إلى سنخيته وماهيته.
لقد ذم الله عز وجل إبليس ووعده وبشره بالعذاب الأليم ونعته بالكفر بقوله تعالى [ وَكَان مِنْ الْكَافِرِينَ ] أي صار من الكافرين، والعرب تأتي ببعض هذه الأفعال مكان بعض إستعارة لما بينها من التقارب والتشابه في المعنى، ويتعلق الفعلان بالإنتقال من حال إلى حال، ومن الشواهد، ما ورد في التنزيل: [ وَفُتِحَتْ السمَاءُ فَكَانتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانتْ سَرَابًا ]( ).
إلا أن هذا لا يمنع من تفسير الآية على ظاهرها وأن الله تعالى يعلم أن هذه المعصية لها مقدمات في ذات إبليس، وكان الإمتحان بالسجود لآدم  إستدراجاً له وإظهاراً لما يضمره من الكفر والجحود.
لقد فتح إبليس باباً من الجحود والمعصية إتصل أثره ببني آدم على وجه الإفتتان والإبتلاء بالإغواء والمماثلة والمحاكاة السلبية من النفوس ذات الإستعداد للرذيلة والمعصية.
وورد في الحديث أن إبليس كان بانياً على عدم السجود لآدم اذا دُعي إليه أثناء مدة تصوير آدم، أي أن نفسه كانت تنازعه بروح الإستكبار.
ان في جحود وإستكبار إبليس حينما أمره الله بالسجود لآدم موعظة وعبرة للناس وإنذاراً من جهات:
الأولى:إجتناب المعصية وضرورة المبادرة الى الإستجابة لأمر الله تعالى قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )،.
الثانية: التحذير من كيد الشــيطان ومكره وحيله وما يسـعى اليه من إغـواء بني آدم وإضلالهم بعد ان أكرمهم الله عز وجل وفضلهم.
الثالثة: إتخاذ الدعاء وسيلة مباركة للإحتراز من إبليس وجنوده، وعن معاوية بن أبي طلحة قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم :اللهم أعمر قلبي من وسواس ذكرك وأطرد عني وسواس الشيطان)( )، وحكي إن إبراهيم بن أدهم قيل له: ما بالنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟ قال: لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنّته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها وعرفتم النّار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس)( ).
ولا أصل لهذا القول وما فيه من الذم والتقبيح وهو خلاف الإطلاق في قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وذات الدعاء لجوء إلى الله عز وجل، وسعي في سبل مرضاته إنما يؤخر الله عز وجل الإستجابة ليسمع إلحاح المؤمنين متفرقين ومجتمعين في السؤال والمسألة. 
لقد إعتمد إبليس القياس في أصل الخلقة وضل وأخطأ فيما بنى عليه قراره، ان أصل الخلقة الذي إتخذه علة للترجيح ذاته هو علة لترجيح وتفضيل آدم ان كان له أثر في التفضيل وهو الظاهر، لان النار التي خلق منها إبليس ترجع إلى الطين ولكن بالواسطة .
لقد شاء الله عز وجل ان يكون إبليس وإغواؤه باباً للإفتتان وسبباً للزلل، لمباشرة الآثام والذنوب، والتحصن منه والتصدي له سبيلاً الى الجنة، انه إمتحان الدنيا وميدان الصراع بين قوى الخير والصلاح من جهة وقوى الشر والسوء من جهة أخرى، وبتحدي إبليس والإعراض عنه وإظهار المواظبة على الطاعات إرتقاء للإنسان في عالم الملكوت.
ولم يكن هذا الصراع ثنائياً يقف في جانب منه الإنسان، وإبليس في الجانب الآخر، بل ان كفة الإنسان هي الأقوى لظهور العون والمدد الإلهي جلياً، ومنه آيات القرآن، وبيان قبح فعل إبليس بإمتناعه عن السجود لآدم عليه السلام.
وعن البيهقي قال: إن ابليس قال يا رب إنك خلقت آدم وجعلت بينى وبينه عداوة فسلطني قال صدورهم مساكن لك قال رب زدنى قال لا يولد لآدم ولد الا ولد لك عشرة قال رب زدنى قال تجرى منهم مجرى الدم قال رب زدنى قال إجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد .
فشكا آدم عليه السلام إبليس إلى ربه قال يا رب انك خلقت ابليس وجعلت بينى وبينه عداوة وبغضا وسلطته على وأنا لا أطيقه الا بك قال لا يولد لك ولدا الا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء قال رب زدنى قال الحسنة بعشر أمثالها قال رب زدنى قال لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر والله أعلم( ) .
 والغرغرة تردد الروح في الحلق.
لقد أمر الله عز وجــل إبليس ان يسجد لآدم وهو يعلم انه لن يسجد ولو شاء تعالى ان يســجد إبليس لآدم لسجد، ولكن الله سبحانه أمره ولم يشـأ، انها إرادة عزم وليس إرادة حتم.
لقد أخطأ إبليس في إعتماد الماديات وحدها في القياس، ولم يأخذ بنظر الإعتبار ما هو أسمى، مما يتعلق بالجوهر وعالم المجردات، ان آدم بشر أي جسم كثيف يحل في مكان ويباشر وينفعل بعكس الملائكة الروحانيين ذوي الأجســام اللطــيفة، ولكن الــروح حل به بقوله تعالى [ فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ]( ) انه عنوان تشريف وإكرام إضافي لآدم، لذلك ترى في الآية السجود يتعقب مباشرة نفخ الروح في آدم من غير تراخ.
لقد شاء الله عز وجل ان يكون آدم في أحسن تقويم مطلقاً أي لا يتعلق بالهيئة والصورة فقط بل انه شامل لماهية الإنسان وبديع صنعه ولا يزال العلم قاصراً عن تحديد معالم الإنسان من حيث الخلقة.
بالإسناد عن الإمام الصادق انه قال: أول من قاس إبليس قال: خلقتني من نار وخلقته من طين ولو علم إبليس ما جعل الله في آدم لم يفتخر عليه، ثم قال: ان الله عز وجل خلق الملائكة من نور وخلق الجان من النار، وخلق الجن صنفاً من الجان من الريح وصنفاً من الماء، وخلق آدم من صفحة الطين ثم أجرى في آدم النور والنار والريح والماء، فبالنور أبصر وعقل وفهم، وبالنار أكل وشرب، ولولا النار في المعدة لم تطحن المعدة الطعام، ولولا ان الريح في جوف بني آدم تلهب نار المعدة لم تلهب، ولولا ان الماء في جوف ابن آدم يطفي حر المعدة لأحرقت النار جوف ابن آدم، فجمع الله ذلك في آدم لخمس خصال،  وكانت في إبليس خصلة فافتخر بها  ( ).
بحث بلاغي
في الآية حسن النسق وهو مجيء كلمات متتاليات معطوفات بينها تلاحم منتظم، كل واحدة منها لها معنى مستقل، وتستطيع بمفردها ان تعطي مفهوماً ودليلاً كافياً.
فابتدأت الآية بالإخبارعن قول الله للملائكة، وفيه شاهد على ان الله تعالى يكلم الملائكة، وهل يكلم أحدهم بالوحي وهو يخبر الآخرين ام ان الكلام من الله الى الملائكة جاءهم بعرض واحد جميعاً.
والأصح هو الثاني، للتباين بين نواميس السماء ونواميس الأرض، ولان الملائكة مقربون الى الله، وحتى آدم حينما كان في السماء ورد الكلام له من غير واسطة على الظاهر [قَالَ يَاآدَمُ انبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( )، ثم جاء قوله تعالى [اسْجُدُوا لآدَمَ] وفيه موضوع مستقل وأمر إلهي الى الملائكة خاصة بالسجود لآدم على نحو التعيين والعموم الإستغراقي المنبسط على الجميع بعرض واحد.
وفي الآية ما يسمى في الإصطلاح البلاغي “الجمع”، فالآية تجمع أشياء متعددة وعناوين متباينة في موضوع واحـد تترتب عليه نتـائج عديدة تفيد كلها حكماً واحداً.
وفيها نكتة كلامية وهي ان الجمع بين الإباء والإستكبار والنعت بالكفر مانع من إحتمال التأويل بالإشتباه والنسيان والغفلة ونحوها.
وقول الله تعالى [ وَكَان مِنْ الْكَافِرِينَ ] يدل على علمه تعالى بسنخية إبليس، وان هذه المعصية لم تكن مستغربة منه.
ومن وجوه علم الله الذي إحتج بها على الملائكة في المقام[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]، تعلمون أمور:
الأول: سنخية إبليس وعناده , ورد في المرسل عن السدي، عمن حدثه، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: “كَانَ إِبْلِيسُ عَلَى مَلائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَكْبَرَ وَهَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَطَغَى، فَذَلِكَ قَوْلُُ اللَّهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ”  فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ الْبَغْيُ( ).
الثاني: علم الله من إبليس المعصية، وخلقه لها ، عن مجاهد . 
ولكن علة خلق إبليس أعم من المعصية , ولا دليل على هذا الحصر.
الثالث: كان من علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة رسل وانبياء وقوم صالحون وساكن الجنة.
الرابع:تذكير الملائكة بقانون مستديم وهو علم الله بالغيب , قال تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الخامس: وعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: “كَانَ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِّ فِي الأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ آدَمُ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، فَأَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ، وسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَبَعَثَ اللَّهُ جُنْدًا مِنَ الْمَلائِكَةِ فَضَرَبُوهُمْ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ، فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ:  ” إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ”  قَالَ:  ” إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، 
 وعَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ،”فِي قَوْلِهِ:  ” إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً  ”  إِلَى قَوْلِهِ  ” وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ” ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلائِكَةُ تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ فِي الأَرْضِ فَتُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَتِ الدِّمَاءُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالُوا:  ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا  ”  كَمَا أَفْسَدَتِ الْجِنُّ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كَمَا سَفَكُوا( ).
السادس: قيل لابن عرفة الجواب { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } غير مطابق (للسؤال ) لهذا التفسير،  قال : ( سألوا عن جزأين ) : وهما هل يكون الخليفة مفسدا؟ وهل يكونون إذ ذاك هم يسبحون؟ فأجيبوا عن الجزء الأول فقط( ).
 ولكن الجواب أعم موضوعاً وحكماً ودلالة، وهو من فضل الله، ويمكن إستقراء قانون كلي وهو أن الجواب يأتي من الله بالأعم من السؤال وبما يغني في موضوعه إلى يوم القيامة , بالإضافة إلى تأكيده في منطوق ومفهوم آيات أخرى .
ومن مصاديق تعلق الدعاء بالملائكة مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل يعلم الصلة والنسبة بين خلافة الإنسان في الأرض وبين عبادة وتسبيح الملائكة.
الثانية: إن الله عز وجل سوف يأمر الملائكة للهبوط إلى الأرض مددا لأمة مؤمنة لمحاربة الفساد .
الثالثة: تسبيح ودعاء الملائكة ينفع الناس في إجتثاث الفساد من الأرض، وفي التنزيل [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( )، وفيه شاهد بأن الملائكة يقرون بوجود أمة مؤمنة في الأرض، وأن باب المغفرة مفتوح للناس بفضل الله.
الرابعة: يعلم الله المدد الذي يتفضل به على الإنسان في منازل الخلافة، وعندما هجم المشركون على يثرب لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه بجيوش عظيمة يوم بدر وأحد والخندق، تفضل الله عز وجل بانزال الملائكة لنصرته والمؤمنين , وهزيمة الكفار , قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الخامسة: جدارة الإنسان للخلافة في الأرض بلطف وفضل من الله.
السادسة: إقبال الملائكة على المؤمنين بالتحية والإكرام والثناء إبتداء من ساعة الموت كما في قوله تعالى[الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]( )، وتتلقى خزنة الجنة من الملائكة المؤمنين بالسلام، وتدخل عليهم من كل باب , وفي التنزيل[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
السابعة: هل صعود الإنسان إلى الكواكب في هذا الزمان من علم الله الذي إحتج به على الملائكة يوم خلق آدم , أم أنه خارج بالتخصص أو التخصيص بلحاظ أن القدر المتيقن هو خصوص شخص آدم وموضوع خلافة الإنسان في الأرض.
الجواب هو الأول فإن الله عز وجل يخبر الملائكة بأن الإنسان سوف يصعد إلى السماء، وهذا الصعود على قسمين:
الأول: الصعود بالمعجزة والفضل من الله، كما في إسراء النبي محمد صلى الله علي وآله وسلم بقوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( )، وصحيح أن موضوع الآية أعلاه هو الإسراء بالنبي في الليل إلى المسجد الأقصى إلا أن القرآن يفسر بعضه بعضا، إذ جاء بالإخبار عن صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طبقات السماء العليا ووصوله إلى شجرة المنتهى، قال تعالى[ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( ).
بالإضافة إلى أن السنة النبوية بيان للقرآن وقد جاءت الأحاديث النبوية المستفيضة التي تؤكد عروج النبي في السماء ببدنه وروحه وهو الذي يدل عليه لفظ العبودية في قوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ].
وعن زر بن حُبيش قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: “فانطلقنا حتى أتينا بيت المقدس”. فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه. قال: ما اسمك يا أصلع؟ فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك؟ قال: قلت: أنا زر بن حُبَيْش. قال: فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآن يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن فلج، اقرأ.
 قال: فقلت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى} قال: يا أصلع، هل تجد “صلى فيه”؟ قلت: لا. قال: والله ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، ولو صلى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق، والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه. قال: وتحدثوا أنه ربطه لا يفر منه، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة. قلت: أبا عبد الله أي دابة البراق؟ قال: دابة أبيض طويل هكذا، خطوه مد البصر).
وقد لا تكون هناك ملازمة بين صلاة النبي في بيت المقدس ليلة الإسراء في حال وقوعها وبين فرضها على المسلمين , وتمت بمعجزة وربما يستدل بقوله تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، ولكن أداء الصلاة أعم من الوجوب فيشمل الندب ,ووجوب الصلاة في البيت من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم).
الثاني: صعود رواد الفضاء وغيرهم بالعلم المكتسب والسعي الدؤوب والثورة الصناعية والتقنية وهو أمر لا يعلم صدوره من الإنسان في تحصيل العلوم وكونه خليفة ينتفع منها الإنتفاع الأمثل إلا الله عز وجل.
 

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn