معالم الإيمان في تفسير القرآن – سورة البقرة ج8

الجزء الثامن 
 سورة البقرة الآيات (35-40)  
                        
 بسم الله الرحمن الرحيم 
المقدمة
 
الحمد لله الذي تفضل بالقرآن كتاباً جامعاً وطريقاً إلى اليقين وصاحباً كريماً وعقلاً إضافياً للإنسان ونفساً متممة تحول دون إنحراف النفس الأصلية وتساهم في إرتقائها وسلامتها من درن الشهوة والحيوانية وتأثير الغرائز والغضب، وجعل كل آية بمنزلة الرسول والملك النازل، فلا غرابة ان يوصف القرآن بالنزول ولم يكن بالجسم وكان منة ليس لها من محل الا المؤهل للسفارة بين  عز وجل وبين خلقه، تلك السفارة التي كان موضوعها أشرف الكتب السماوية ومبادئ العلوم البرهانية والقواعد الشرعية الكلية الباقية إلى يوم القيامة تحكم أعمال الناس وتميز بين الحلال والصحيح من أفعالهم وبين الحرام والسقيم منها، فكان الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهلاً لها وهو الكامل المكمل، المكمل للناس العلوم الإلهية بهدايتهم إلى طرق المعارف الحقة الدائمة ونيلهم للصفات الحميدة اللازمة أو غير سريعة الزوال وبتبليغهم بآيات  وإنذارهم.
وسيبقى علم التفسير مدرسة الإسلام الأولى وآلة العقل وسلاحه في تحقق سلطنته على الشهوة والغضب ومنعهما من التمادي والأباق والإستعصاء عليه وما يؤدي بالإنسان إلى الهلاك، وهو سياحة في عالم الملكوت تنزه النفس وتطلقها من زمام الموبقات وفيها إقتباس من نور النبوة، وهي رحلة ذات ترق من عالم الكلمات والألفاظ والمحسوسات إلى عالم الجمال والجلال تدرك شطرا من ثمراتها في النشأتين النفس بالإفاضات المترشحة من نور علوم الآية القرآنية والكنوز الكامنة في كل سورة من الكتاب الكريم، وباب كريم للعصمة وحسن الإمتثال والطاعة ويخلص الإنسان من سجن المعصية ومن درن العيوب وآفة النقص، وهو مع نية القربة نوع طاعة وعبادة وإستظهار للآفاق الروحية وإكتشاف لوجوه العلوم الحديثة وتصوير للمعاني الكلية في أشكال جزئية.
ويمكن إعتبار هذا التفسير مدرسة جديدة في علم التفسير وإنعطافاً في تأريخه وسيكون بداية مباركة ودعوة لكل العلماء والباحثين ودرساً حاضراً في إمكان النهوض بهذا العلم وفيه إرتقاء في مضامين البحث والتحقيق ووجوه الإستنباط بالإضافة إلى الأبواب العلمية المستحدثة التي لم تخرج عن نظم الآيات محل البحث وموضوعها.
ومع هذا فالتقصير والقصور فيه ظاهران والعجز منبسط على جميع بحوثه لعجز العقول عن إدراك كنه أسرار القرآن وما تحتويه كل آية من الذخائر والدرر قال تعالى[وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ].
 
 
 
التاسع من ربيع الأول 1422
 النجف الأشرف
 
قوله تعالى[وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنهَا رغدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] الآية 35.
 
الإعراب واللغة
وقلنا: الواو حرف عطف، قلنا: فعل ماض، والضمير (نا) فاعل،
يا آدم: يا: حرف نداء للمتوسط، آدم: منادى مفرد، مبني على الضم في محل نصب، أسكن: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، انت: تأكيد للفاعل المستتر.
وزوجك: الواو حرف عطف، زوجك: معطوف على الضمير المستكن في أسكن.
الجنة: مفعول به، وكلا: الواو: حرف عطف، كلا: فعل أمر مبني على حذف النون، والألف: ضمير متصل في محل رفع فاعل.
منها: جار ومجرور متعلقان بكلا.
رغداً: صفة لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً، ويجوز ان تكون حالاً.
حيث: ظرف مكان مبني على الضم، شئتما: فعل ماض والألف فاعل، والجملة الفعلية في محل جر باضافة ظرف المكان اليها.
ولا تقربا: الواو: حرف عطف، لا: ناهية.
تقربا: فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون، والألف فاعل.
هذه: اسم إشارة في محل نصب مفعول به.
الشجرة: بدل من اسم الإشارة.
فتكونا: الفاء: للسببية، تكونا: فعل مضارع منصوب بان مضمرة بعد فاء السببية، والألف: ضمير متصل في محل رفع اسم تكونا، من الظالمين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونا .
وجاءت (قلنا) بنون الكبرياء والعظمة والإرادة النافذة.
وسكنت الدار سكناً والاسم السكنى: أي إتخذته مقاماً ومحلاً للإستيطان ومنزلاً.
والزوج: المرأة، وهي اللغة العالية، وعن أبي حاتم أن أهل نجد يقولون في المرأة زوجه بالهاء، وأهل الحرم يتكلمون بها، ولكن ابن السكيت عكس الأمر إذ قال: أهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء وسائر العرب زوجه بالهاء( )
والرغد: النفع الواسع الكثير الخالي من المشقة والعناء، ويقال عيش رغد: أي كثير مخصــب وغــزير تظهر فيه الرفــاهية والســعة.
وحيث: ظرف يدل على المكان بمنزلة حين في الزمان، وهي من الظروف التي لا يجازى بها إلا مع ما، تقول: حيثما تجلس أجلس، وقيل أن الحيث أعم من الأين ومرادف للتحيز.
والظلم: الجور والميل، ويأتي في الإصطلاح بمعنى إرتكاب المعصية، قال تـعـالى [ وَمَنْ يَتَـعَـــدَّ حُــدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِــكَ هُــمْ الظَّالِمُونَ ]( ).
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة خلق آدم وما رزقه الله من العلم وعظيم المنزلة وسجود الملائكة له، جاءت هذه الآية لتبين المقام الكريم لآدم ووجود حواء معه، وهو نعمة أخرى من الله تعالى.
لقد توجه الخطاب الإلهي الى آدم بصيغ الإكرام وما يناسب الخلافة والعز، ولتأكيد عظيم فضل الله تعالى على آدم وجنس الإنسان مطلقاً.
ولقد أخبرت الآيات عن ان الله تعالى جاعل في الأرض خليفة، وبعد سجود الملائكة لآدم لم يهبط آدم الى الأرض في الحال بل بقي في الجنة، وجاء بقاؤه بأمر من الله تعالى كما يدل عليه أول هذه الآية، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في الرد على الملائكة الذين قالوا ان الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء.
لأن سكن آدم في الجنة ومعه زوجته مدرسة وتأديب له ولزوجه ولأولاده من بعده، وحث لهم للسعي للعودة الى الجنة والخلود فيها، ومن الآيات وقوع سكن آدم عليه السلام في الجنة بعد ان أخبر الملائكة بالأسماء وفيه شاهد على الصلة بينه وبين الملائكة قبل سكنه معهم في الجنة.
وجاءت الآية التالية لتخبر عن إغواء إبليس لآدم وحواء معاً في الأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها.
وجاءت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ] أما هذه الآية فجاءت بصيغة المتكلم الجمع، وكلاهما قول لله تعالى، وفيه إشارة الى أن السكن في الجنة لا يكون إلا بأمر من الله تعالى، وهو شاهد على عظمته وقدرته سبحانه فليس للملائكة أو غيرهم من الخلائق أن يدخلوا أحداً إلى الجنة مما يعني لزوم سعي العبد في مرضاة الله تعالى والتقرب اليه بالطاعات لدخول الجنة، وان كان إنحصار دخول الجنة بأمر الله تعالى لا يتعارض مع الشفاعة التي لا تأتي إلا بإذن الله سبحانه [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ] ( ).
باعتبار أن الشفاعة لاتكون إلا بأذن من الله تعالى وهي أعم من وقوع موضوعها الذي يتعلق بالمشيئة الإلهية ، وقد جاء رد الملائكة في جعل خليفة في الأرض , أما في موضوع سكن آدم الجنة فليس من رد من الملائكة وفيه وجوه:
الأول: لم يكن رد الملائكة في موضوع الخلافة إعتراضاً على آدم بل على الذين يفسقون في الأرض من ذريته.
الثاني: ان وجود حواء مع آدم في الجنة شاهد على علم الملائكة بان الخلافة أعم من القضية الشخصية، لأن أبناء آدم سيسكنون الأرض.
الثالث: جاء الأمر الإلهي لآدم بالسكن في الجنة بعد سجود الملائكة له، وهو دليل على عظيم منزلته.
الرابع: الإخبار الإلهي لجعل خليفة في الأرض وهو آدم، يدل بالدلالة التضمنية على عدم مكث آدم مكثاً طويلاً في الجنة.
الخامس: الملائكة ليسوا طرفاً في موضوع سكن آدم في الجنة، فقد جاء الأمر الإلهي اليه مباشرة بالسكن فيها، ووظيفة الملائكة هي الإمتثال والإذعان لأمر الله تعالى.
السادس: سعة الجنة، فمع كثرة عدد الملائكة فان الجنة أعم وأوسع من أن يحصل فيها تزاحم، بلحاظ أن الجنة التي سكنها آدم هي في السماء، وانه سكن مع الملائكة، ومن إعجاز سياق الآيات التوالي والتعاقب بين سكن آدم الجنة وخروجه منها وتلقيه كلمات  التوبة والمغفرة.
وأختتمت هذه الآية بحرف العطف(الفاء) بقوله تعالى(فتكونا من الظالمين) وإبتدأت الآية التالية بالفاء(فأزلهما ) مما يدل على عدم وجود فترة ومدة مديدة بين سكن آدم وحواء الجنة وبين أكلهما من الشجرة، وخروجهما منها لمجيء الفاء في قوله تعالى(فأخرجهما).
وفيه مصداق عاجل على كون آدم خليفة في الأرض، وأنه لا يلبث بعيداً عنها إلا ساعات قليلة ولو لم يبتل بإغواء الشيطان بأكل الشجرة لكان هناك أمر وسبب آخر لهبوطه وحواء إلى الأرض.
فجاءت الآية التالية لتخبر عن أمور أخرى من علم الغيب غير التي كانت بين آدم والملائكة هي خاصة بين آدم وحواء من جهة وبين إبليس، ليكون هذا التفصيل والإنتقال وموضوعية تقسيم القرآن إلى آيات في بيان ووضوح الوقائع عونا للناس جميعاً على فهم معانيها ومضامينها القدسية مع إختلاف مداركهم ومشاربهم وهو من عمومات قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وفي الجمع بين الآيتين دعوة للمؤمنين لتعاهد دوام النعمة بأخذ الحائطة والحذر من إبليس , وتخبر الآية بأنه وسوسته وإغوائه غير بعيدة عن الإنسان لما يدل عليه حرف الفاء في فأزلهما .
فلم تقل الآية (ثم أزلهما) وما يفيده حرف العطف (ثم) من التراخي والفترة الزمانية .
 وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما صوّر الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو ، فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك ولفظ أبي الشيخ قال : خلق لا يتمالك ظفرت به)( ).
وإذ ورد في الآية السابقة ذكر إبليس بإسمه وإمتناعه عن السجود لآدم، ذكرته الآية السابقة بصفة (الشيطان) أي البعيد عن رحمة الله عز وجل، وهذه أول عقوبة لإبليس بأن إختص بتسمية هي ذم وتقبيح ، وصفة مصاحبة له  , وفيه مسائل:
الأولى: إنه إنذار متجدد ودائم للمسلمين والمسلمات والناس جميعاً.
الثانية: تحذير من الركون إلى إغوائه.
الثالثة:  لا تنحصر عداوة إبليس بالمسلمين بل هي عامة تشمل الناس جميعاً، قال تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الرابعة: إكرام الله عز وجل للمسلمين ببيان قصة آدم وإغواء إبليس له، وما فيها من المواعظ والعبر، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ يقتبس المسلمون من القصة الدروس، ويتخذونها موضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: تسمية أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين تنزيه لهم من قبح فعل إبليس، وما لحقه من الذم إلى يوم القيامة.
وعن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يُسمون جنا.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : كان اسم إبليس الحرث)( )، وليس من فاصلة بين الآية التي تخبر عن سكن آدم وحواء الجنة وعن أكلهما من الشجرة التي نهيا عن الأكل عنها وهبوطها إلى الأرض وتفضل الله بالتوبة على آدم بقوله تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ] وتوبة وغفران الله له .
فمن إعجاز سياق الآيات وقوع العطف في الآيات السابقة بالواو، بإستثناء خاتمة الآية السابقة إذ جاء العطف بالفاء(فتكونا من الظالمين) لإرادة تحقق صفة الظلم حال الأكل من الشجرة من غير إمهال ووجود فترة تحث فيها الملائكة آدم وحواء على الإستغفار والنجاة من صبغة الظلم بعد الأكل.
ثم تكرر العطف بالفاء (فأزلهما) فأخرجهما، فتلقى آدم فتاب عليه( )، فأما يأتينكم فمن تبع هداي فلا خوف عليهم( )، لبيان تفضل الله بتلقين آدم صيغ التوبة، وسرعة فوزه بتوبة الله عليه وعفوه عنه لقوله تعالى(فتاب عليه) لتبدأ الحياة في الأرض بالعفو والمغفرة من غير أوزار على آدم أو ذريته.     
إعجاز الآية
تبين الآية الكريمة توالي النعم على آدم ويمكن تقسيمها بحسب اللحاظ فمنها النعم العلمية، ومنها التي تتعلق بالمنزلة والتفضيل، ومنها ما يتعلق بالسكن والإقامة، فالجنة أشرف مواضع السكن وقد خص الله عز وجل بها آدم ومعه زوجه، ولم ينحصر الإكرام به بل يشمل من يلحق به.
وفي الآية عز وفخر للمرأة وأهليتها لسكن الجنة وإرتداء لباس العز وحيازة النعم وإرادة الإختيار في الجنة، وهي شاهد متقدم على ما ينتظر الإنسان من الخلود بالنعيم، لينقل الأب والأم الى أبنائهما رشحة من رشحات النعيم في الجنة ولزوم الإجتهاد في السعي لها، وتبين الآية ان السكن فيها نوع إمتحان لآدم وإكرام متقدم.
ويمكن تسمية الآية بآية (يا آدم أسكن ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين( ).
 
إعجاز نظم هذه الآيات
إذا أعطى الله فأنه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم لتكون النعم في المقام على وجوه:
الأول: خلق آدم.
الثاني: جعل آدم خليفة.
الثالث: عدم حصر الخليفة في الأرض، بل ترث ذريته منصب الخلافة السامي، قال تعالى في داود عليه السلام[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ).
الرابع: فضل الله عز وجل بالدفاع عن آدم ورد إحتجاج الملائكة ومن الآيات مجيء الإحتجاج متعدداً من جهات:
الأولى: بيان سعة علم الله وأنه من اللامتناهي.
الثانية: قصور الملائكة عن إدراك علم الله بخصوص خلافة آدم في الأرض ومطلقاً، قال تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة: تعليم الله عز وجل آدم الأسماء تأكيد لأهليته للخلافة.
الرابعة: تفضل الله بعرض ذات الأسماء التي علمها آدم على الملائكة الذين إحتجوا على جعله خليفة في الأرض.
الخامسة: سؤال الله عز وجل الملائكة عن الأسماء، وفيه آية من اللطف الإلهي بالملائكة والناس والخلائق , فلم يؤاخذ الله عز وجل الملائكة على إحتجاجهم، بل أقام عليهم الحجة، وجاءهم بلغة البرهان التي تجمع بين مرتبة آدم وقصور الملائكة عن الإحاطة بأوليات من العلوم، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) .
 ولم يخترع الملائكة أسماء للذوات والأشياء من عندهم مما يدل على أنهم منزهون عن الكذب وقول غير الحق، قال تعالى في الثناء عليهم[لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَل ُونَ]( )، وفيه دليل على إنقياد وحسن عبودية الملائكة لله، لذا تفضل بالإحتجاج عليهم، والبيان بالشاهد والبرهان.
السادسة: إقرار الملائكة بالعجز عن معرفة الأسماء التي يعلمها آدم، مع تنزيههم لمقام الربوبية بقولهم(سبحانك) .
وفيه بيان لقانون وهو عدم إنحصار فضل الله بجهة أو خلق مخصوص،  فالله عز وجل قادر على خلق جديد وجعله يمتاز بنعم وخصال لم تنلها الخلائق الأخرى .
وهل فيه درس ودعوة للناس لتعاهد مقامات الخلافة في الأرض بالتقوى والصلاح وإجتناب الفساد والقتل بغير الحق، الجواب نعم، ليدخل في مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في الرد على إحتجاج الملائكة بفساد الإنسان في الأرض الإنذار من الأسلحة الفتاكة التي تهلك الحرث والنسل، وتقتل الناس عشوائياً وبالجملة كالقنابل النووية وما هو أشد منها مما قد ينتج في آخر الزمان بكلفة أقل وكيفية أسهل وأخفى .
 ليكون من علم الله تعالى في المقام أن الإنسان إذا تمادى في الفساد يضر نفسه ويقطع نسله ثم وراءه حساب وعقاب أليم، وأخذ لحق المظلوم والمقتول بغير حق , قال تعالى[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا]( )، فإن قلت من هو ولي الذين يقتلهم الطواغيت بالجملة من غير أن يعرفوا أسماءهم ومكانهم .
 الجواب إن الله تعالى هو ولي من لا ولي له، وولايته شاملة للدنيا والآخرة، وفي التنزيل[وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا]( ).
السابعة: إعلان الملائكة بأن جعل خليفة في الأرض من علم وحكمة الله عز وجل، لما ورد حكاية عن لسانهم[إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ). 
الثامنة: تفضل الله سبحانه بتكليم آدم من غير واسطة ملك، وأمره بتعليم الملائكة بالأسماء، وبيان حقيقة وهي أن ما عند آدم من العلم ليس خاصاً به وحده بل هو خير محض ونفع للخلائق جميعاً، وباب هداية وصلاح وعون على التقوى والرشاد.
التاسعة: تجلي تفضيل آدم في باب تعليم الملائكة الأسماء للملائكة، وصيرورته معلماً للملائكة في أول عمل له، ويحتمل تعليم آدم الملائكة الأسماء من جهة السعة والكم وجهين:
الأول: علم آدم الملائكة الأسماء كلها التي علمه الله، والبرهان على أهليته للخلافة في الأرض.
الثاني: الحصر والتعيين وإرادة أسماء مخصوصة، تكفي لإقامة الحجة بدليل اسم الإشارة في قوله تعالى(بأسماء هؤلاء).
والصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق، ولأن الآية في مقام الإحتجاج وبيان علو منزلة آدم، وتجدد الخلافة بسلاح العلم والتعليم الذي هو نوع طريق لتوارث الخلافة في الأرض , ومجيء لفظ(هؤلاء) في الآية أعلاه لإفادة التعدد وشمول البعيد منها.
العاشرة: جعل آدم وتعليمه موضوعاً ومادة للإحتجاج على الملائكة وتذكير الله عز وجل لهم بقانون دائم وهو إحاطة الله بأسرار وعلوم السموات والأرض لقوله تعالى[أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الحادية عشرة: تفضل الله عز وجل بأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام في آية من التشريف والإكرام العام بين الخلائق لم تطرأ على التصور الذهني للإنسان .
عن وهب أن أول من سجد جبرئيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة عليه السلام( ). وعن عمر بن عبد العزيز قال: لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم كان أول من سجد له إسرافيل ، فأثابه الله أن كتب القرآن في جبهته. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } قال : كانت السجدة لآدم ، والطاعة لله( ).
الثانية عشرة: قيام الملائكة بالسجود لآدم من غير إحتجاج أو إستثناء، فاذ إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض فانهم إمتثلوا لأمر الله عز وجل بالسجود من غير إبطاء أو تردد أو إنكار، وفيه وجوه:
الأول: سجد الملائكة بعد أن أظهر آدم علمه ومعرفته بالأسماء وقيامه بتعليمهم إياها.
الثاني: جاء السجود بعد إقامة الحجة عليهم بقول الله تعالى لهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالث: سجدوا للتباين بينهم وبين آدم إذ عجزوا عن معرفة الأسماء، وأخبر عنها آدم حال تلقيه الأمر من الله عز وجل بقوله تعالى[يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( ).
الرابع: لم يكن إحتجاج الملائكة على شخص آدم وخلافته في الأرض، بل ذكروا الذين يفسدون في الأرض من ذريته، وآدم نبي معصوم من الفساد والقتل، وقد تجلى مصداق ما أخبر عنه الملائكة بقتل أحد ولدي آدم أخيه، وآدم حي يرزق، قال تعالى[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على ما نذهب إليه من معنى مستحدث لإحتجاج الملائكة يتقوم بالرأفة بالناس، وأن الملائكة سألوا الله عز وجل صلاح الناس جميعاً فأخبر الله الملائكة بأنه يعلم حال الناس وأنه أعد دار الحساب والجزاء للناس .
 قال ابن عباس: لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً . ورأى آدم عليه السلام فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد)( ).
وأخرج ابن عساكر عن فضالة بن عبيد قال: إن آدم كبر حتى تلعب به بنو بنيه فقيل له : ألا تنهى بني بينك أن يلعبوا بك قال: إني رأيت ما لم يروا، وسمعت ما لم يسمعوا، وكنت في الجنة وسمعت الكلام، وإن ربي وعدني إن أنا أسكت فمي أن يدخلني الجنة)( ) ولم يرفع الحديث.
وعن كعب قال: أول من ضرب الدينار والدرهم آدم عليه السلام)( ) وعلى فرض صحة الخبر يكون الدينار والدرهم كعملة من الأسماء التي علّمها الله آدم عليه السلام لتأسيسه للنظام في المعاملة، ومنع الخصومة والإقتتال بين الذرية، أو أنه من الصحف التي أنزلها الله عليه، وعن أبي ذر قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء قلت: أكان آدم نبياً؟ قال: نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك. 
قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة وأربع كتب، منها على آدم عشر صحف .
 وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ، وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خطّ بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان)( ).
الخامس: سجود الملائكة لآدم طاعة لله عز وجل، وليس من موضوعية لشخص آدم والمسجود له، فاتخذوه قبلة لهم كما في توجه المسلمين للبيت الحرام، إذ يدرك كل مسلم ومسلمة أنه يتوجه إلى القبلة طاعة لله عز وجل.
ولا تعــارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وفيه دعوة لبــني آدم لتعاهد هــذه الإكــرام بالعــبادة والتقــوى وقد بارك الله عز وجل في نسل آدم، أبناءً وأحفاداً .
 وعن ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا)( ).
وفي هذه الكثرة مسائل:
الأولى: إنها من خصائص الخلافة في الأرض.
الثانية: إكرام آدم عليه السلام في باب الذرية بكثرة النسل.
الثالثة: فضل الله عز وجل على الناس بمنع الإندثار والفناء في بدايات هبوط آدم الأرض.
الرابعة: شهادة الجمع من الناس على هبوط آدم وحواء من السماء، وسماع أخبار السماء من آدم وحواء من غير واسطة أحد من البشر.
الثالثة عشر: رؤية آدم لمصداق مما إحتج به الملائكة من الفساد وقتل أحد ولديه الآخر حسداً .
 وأخرج ابن جرير عن الإمام علي عليه السلام قال: لما قتل ابن آدم ، بكى آدم فقال :
تغيرت البلاد ومن عليها … فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم ….  وقل بشاشة الوجه المليح 
فأجيب آدم عليه السلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعاً … وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه … على خوف فجاء بها يصيح)( ). 
وفي رواية عن ابن عباس: فأجابه إبليس عليه اللعنة:
تنح عن البلاد وساكنيها … فبي في الخلد ضاق بك الفسيح
وكنت بها وزوجك في رخاء … وقلبك من أذى الدنيا مريح
فما انفكت مكايدتي ومكري … إلى أن فاتك الثمن الربيح)( ).
الرابعة: تأكيد قانون وهو أن الهبوط إلى الأرض نعمة عظيمة من الله، وفيها زينة وأسباب للبهجة، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الخامسة عشرة: تجلي الشواهد لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بوجود ذرية لآدم تتصف بالتقوى والصلاح، وشيث وصي آدم وهو هبة الله.
السادسة عشرة: تأكيد لآدم لأبنائه وأحفاده بلزوم الحذر والحيطة من إبليس ببيان إمتناعه عن السجود لآدم، وخداعه له وجذبه وحواء للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الإقتراب منها وورد في إبراهيم ويعقوب وصيتهما لأبنائها بكلمة[وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ] ( ) , وورد في نبي الله يعقوب جمعه لأبنائه وأخذ الميثاق عليهم بالتوحيد قال تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
 وعن أبي العالية في قوله تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ] يعني أهل مكة)( ) ولكنه تخصيص لعمومات الآية والخطاب المتجدد فيها للناس عامة والمسلمين خاصة.
وتدل الآيتان أعلاه على قانون كلي وهو أن الأنبياء يوصون أبناءهم بكلمة التوحيد، وسنن التقوى، ومنها التحذير من إبليس، ويمتاز تحذير آدم لأبنائه وأحفاده بأنه لقى من إبليس أشد ضروب العداوة.
إن وصية آدم لأبنائه بالفطنة واليقظة وأخذ الحائطة من إبليس من عمومات قوله تعالى[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( )، فامتنع إبليس  من السجود لآدم ليتوارث أبناؤه الوصية بالحذر منه، ويلجأون مجتمعين ومتفرقين، وفيه مسائل:
الأولى: الإستعاذة من الشيطان من الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، ولعل آدم لم يعلم من هو الشيطان حتى إمتنع إبليس عن السجود له ونعته الله عز وجل بالشيطان.
الثانية: الإستعاذة واقية من غلبة النفس الغضبية، وحرز من التعدي والظلم، (وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: بينا رجل يضرب غلاماً له وهو يقول: أعوذ بالله وهو يضرب، إذ بصر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ برسول الله. فألقى ما كان في يده وخلى عن العبد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله لله أحق أن يعاذ، من استعاذ به مني؟ فقال الرجل: يا رسول الله فهو لوجه الله. قال: والذي نفسي بيده لو لم تفعل لدافع وجهك سفع النار)( ).
الثالثة: إختتام سور القرآن في نظمه بسورتين في الإستعاذة وعن أبي عائش الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “يا ابن عائش، ألا أدلك أو: ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟”. قال: بلى، يا رسول الله. قال: “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق” و “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ” هاتان السورتان”)( ).
الرابعة: قيام الأنبياء والأولياء والصالحين بالإستعاذة بالله من الشيطان، وفي مريم ورد في التنزيل حكاية عن أمها[وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
الخامسة: ترغيب الناس بالإستعاذة من الشيطان، وإدراك الحاجة إليها في موارد الإبتلاء في الليل والنهار، وميادين العمل وغيرها.
السادسة: دعوة الناس للجوء إلى الله عز وجل، فهو القادر على قهر الشيطان ومنعه من الوصول إلى الإنسان مطلقاً، والمؤمن خاصة.
السابعة: دعوة المسلمين للتعاون في باب الإستعاذة والإستجارة من الشيطان، وعذبهم للجوء إلى ذكر الله وتلاوة القرآن ومنهم من ذهب إلى وجوب الإستعاذة من الشيطان عند إبتداء قراءة القرآن لصيغة الوجوب في قوله تعالى[) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
السابعة عشرة: صيرورة السجود لآدم مناسبة لفضح إبليس، وطرده من الجنة وإبعاده عن جماعة الملائكة، فإن قلت ورد أمر الله عز وجل بالهبوط عاماً لكل من آدم وحواء وإبليس، والجواب يتجلى التباين باللعنة الدائمة على الشيطان، وإتصال نزول شآبيب الرحمة للناس وتقريبهم من منازل التوبة، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ). 
السابعة عشرة: صيرورة السجود لآدم مناسبة لفضح إبليس، وطرده من الجنة وإبعاده عن جماعة الملائكة، فان فلت ورد أمر الله عز وجل بالهبوط عاماً لكل من آدم وحواء وإبليس [وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( )، فل كان هبوط آدم وحواء أيضاً طرداً وإبعاداً عن الملائكة الجواب لا، فهناك تباين في الموضوع وفق السبر والتقسيم، إذ هبط آدم خليفة في الأرض وقر به الله عز وجل من رحمته بأن تلقي كلمات تاب معها عليه وعلى حواء.
أما إبليس فقد خرج قال تعالى[اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا]( )، وعن ابن عباس: مذءوما) مذموما، مدحوراً)قال:منفياً)( ).
الثامنة عشرة: جحود إبليس والعقوبة التي نزلت به من عند الله درس وتعليم آخر لآدم إلى جانب تعليمه الأسماء، ولكن موضوع هذا الدرس موعظة وسبب لأخذ الحيطة والحذر، وإبتلاء مصاحب لآدم وذريته في الحياة الدنيا، وقد سأل إبليس النظرة ولإمهال وفي التنزيل[قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( )، فاراد إبليس أن يرى موت الناس جميعاً وهي حي لم يغادر الدنيا، وعن ابن عباس قال: أراد إبليس أن لا يذوق الموت، فقيل {إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} قال: النفخة الأولى يموت فيها إبليس ، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. قال: فيموت إبليس أربعين سنة)( ).
التاسعة عشرة: بيان المائز بين سكن آدم وحواء الجنة على نحو مؤقت ومقدمة للهبوط إلى الأرض، وبين سكنهما والمؤمنين من ذريتهما الجنة بصبغة الخلود والدوام جزاءَ وثواباً وفضلاً من الله عز وجل، حيث لا وسوسة ولا خداع وليس من إستثناء في التنعم والأكل من طيبات الجنة كما في قوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
وفي تلك الشجرة يوم القيامة وجوه فيه وجوه:
الأول: فلك الشجرة غير موجودة في دار الأخرة للإباحة المطلقة في ثمار الجنة، وقد نهى الله عز وجل آدم وحواء من الأكل منها.
الثاني: ليس من وجود لتلك الشجرة في جنة الخلد، فان قلت قد يسأل المؤمنون رؤيتها أو الأكل منها، الجواب إن الله عز وجل قادر أن يصرف أذهانهم عنها، ويمحو ذكرها عندهم.
الثالث: تلك الشجرة موجودة، ولكن ليس للمؤمنين الأكل منها، ونفوسهم تعافها وتعزف عنها، وهي ممتنعة عليهم، والأقوى أنها موجودة في الجنة، قال تعالى[وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ]( )، وكذا فان شجرة موسى موجودة في الجنة التي كانت بها بدايات رسالته قال تعالى[فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
العشرون: جاء القرآن بنبأ معصية إبليس لله عز وجل في مسألة السجود لآدم، ثم إغوائه له ليكون من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأن هذا الإنباء تشريف لأجيالهم المتعاقبة بلحاظ بقاء القرآن وسلامته من التحريف إلى يوم القيامة.
الحادية والعشرون: تأكيد قانون سماوي ثابت وهو العداوة الدائمة بين الإنسان والشيطان, وإستقرارهم في الأرض إلى الأجل المحتوم وبيان أن الدنيا متاع، والمتاع: اسم مصدر لإرادة ما ينتفع منه من أمور الدين والدنيا.
الثانية والعشرون: تجلي التباين بين آدم وإبليس بتغشي الرحمة الإلهية لآدم عليه السلام بتلقيه كلمات التوبة والهداية، وإخبار القرآن عن اللطف الإلهي به وبحواء بقوله تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ] وإنعدام الفاصلة بين التلقي والتوبة وهو من إكرام الله عز وجل لآدم وعمومات قوله تعالى في الإحتجاج على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بأن يمد الله الإنسان بأسباب التوبة ليتوب عليه ويغفر له ذنوبه.
الثالثة والعشرون: بيان قانون ثابت يتغشى الناس جميعاً بالتوبة والمغفرة من الله عز وجل، بقوله تعالى[إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ) ورد لفظ(التواب) بصيغة الرفع ثمان مرات في القرآن، سبعة منها جاءت بإقتران صفة الرحين معها، واحدة صفة الحكيم بقوله تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ]( )، لتبين هذه الآيات أن باب التوبة مفتوح للناس جميعاً، وأن ذات الكلمات التي تلقاها آدم تتجلى بقول المسلم(أستغفر الله) وأن الوعد بالمكث الدائم في الجنة هو البشارة على الإستغفار والتوبة .
 وفي وصف المؤمنين الذين أعد الله عز وجل لهم جنة عرضها السموات والأرض جاء في التنزيل[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
وجاء الثناء على الله عز وجل في هذه الآيات(إنه هو التواب الرحيم) مقترناً بحرف التأكيد والبيان لبعث الناس عامة والمسلمين خاصة على المبادرة إلى الإستغفار والتوبة وكأنه في الآية من عطف الخاص على العام فبعد ذكر توبة الله على آدم(فتاب عليه) جاء بيان القانون الكلي لأن الله عز وجل إذا أنعم نعمة فإنه أكرم من أن يرفعها , وجعل الل المسلمين يتلونها لتكون على وجوه:
الأول: نوع دعاء ومسألة، وهو لا يتعارض مع صفة القرآنية للآية الكريمة لأنه في طولها.
الثاني: إنه ثناء على الله عز وجل.
الثالث: إقرار بحاجة الناس مجتمعين ومتفرقين لرحمة الله عز وجل.
الرابع: تأكيد عفو ومغفرة الله عز وجل لأبي البشر جميعاً.
الخامس: بقاء نعمة العفو والتوبة من الله إلى يوم القيامة وذات الصفات ذكرها آدم في إستغفاره وتوبته وفي الكلمات التي تلقاها آدم (قال محمد بن كعب القرظي: هي قوله : لا اله الاّ أنت سبحانك وبحمدك قد عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنّك أنت التواب الرحيم)( ).  
الآية سلاح
تعتبر الآية نبراساً وضياءً لسعي المؤمنين نحو الجنة، وفيها إخبار بان الجنة دار المقام والخلود لأهل الإيمان، ومن يوظفون العقل والعلم للتصديق بالرسالة السماوية.
وتدعو الآية للتمييز بين الأوامر والنواهي، ولزوم صيانة النعم بالإحتراز من المعصية والذنب.
لقد أكرم الله عزوجل آدم عليه السلام بسجود الملائكة له، فلم يجعله يتوجه بعد سجودهم له إلى التيه في الأرض والسعي للكسب ولبناء كوخ يسكن به وزوجه، ولا بذل الجهد وتحمل العناء والتعب من أجل لقمة العيش، بل تفضل الله سبحانه وجعل الملائكة تنظر إلى إكرام الله تعالى إلى آدم في سكنه وطعامه، وكيف انه يتمتع بنعم لم تشهدها الخلائق فضلاً من الله تعالى إذ أسكنه الله تعالى الجنة وجاءت إقامة آدم وحواء في الجنة بأمر من الله تعالى، الذي يحمل على الوجوب بقوله تعالى [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ] .
وجاء التوكيد بضمير الخطاب (أنت) لبيان عظيم النعمة على آدم، ومنزلته عند الله عز وجل، ولمنع تسرب الشك إلى نفسه، ويحتمل موضوع السكن أموراً:
الأول: الإقامة واللبث الدائم في الجنة، لأصالة الإطلاق، ولان الله تعالى إذا أعطى يعطي بالأوفى.
الثاني: اللبث الأول في الجنة مؤقت وقصيرة مدته ، لأن الله تعالى خلق آدم ليكون خليفة في الأرض.
الثالث: الشرطية والتعليق في الإقامة، فمع عدم حصول مانع من إستدامة الإقامة فانها أمر دائم.
والصحيح هو الثاني، وهو لا يتعارض مع دوام النعم الإلهية، لأن الهبوط إلى الأرض نعمة أخرى ، وهو مناسبة لإعمار الأرض بذكر الله تعالى، وعبادته والتقيد بأوامره ونواهيه.
إن الأمر الإلهي لآدم وحواء بالسكن في الجنة سلاح بيد كل إنسان، لما فيه من معاني التفضيل والإكرام، وشاهد على تفضيل جنس الإنسان مطلقاً، وفق عادة الناس أن يفتخروا بآبائهم شعراً ونثراً، وقد تحدث بينهم بسببه خصومة وخلاف.
فجاءت هذه الآية لتدعو الناس إلى الإفتخار بأبيهم كلهم وهو آدم النبي وفي موضوع كله صدق وحق، ليس فيه تفخيم وكذب وغلو، موضوع يؤكد الخضوع لله تعالى، والإقرار بنعمه على الآباء والأبناء ويبعث على المودة والأخوة الإنسانية ،ونبذ الفرقة والخصومات والشقاق بين الناس، ويتجلى الإفتخار بسجود الملائكة لآدم وسكنه الجنة، وهو نعمة على الناس جميعاً.
ومن الناس من يعيّر غيره بأمه في نسبها وفعلها وغيره، فجاءت هذه الآية بإكرام حواء وهي أم البشر جميعاً، ومن كانت أمه أسكنها الله الجنة فله الحق أن يفتخر ويتباهى بفضل الله تعالى، وفيه دعوة للناس ذكوراً وإناثاً للسعي لبلوغ مرتبة حواء والسكن في الجنة بالإيمان والعمل الصالح.
الآية لطف
تتضمن الآية بيان الفضل الإلهي العظيم على كل من:
الأول: آدم عليه السلام.
الثاني: حواء.
الثالث: المسلمون.
الرابع: ذرية آدم.
أما بالنسبة لآدم فمن وجوه:
الأول: الآية تشريف وإكرام لآدم بين الملائكة.
الثاني: بعد الخلق والنفخ فيه من روح الله وسجود الملائكة له جاء المكث في الجنة.
الثالث: الفوز بمرتبة السكن في الجنة، وأما حواء فان الله عز وجل رزقها اللبث في الجنة والأكل مما فيها من الطيبات، بالإضافة إلى نعمة تتغشى آدم وحواء وهي إجتماعهما ومعيشتهما في الجنة كزوجين، وهذه الزوجية عون على طاعة الله، وأما بالنسبة للمسلمين فمن وجوه:
الأول: الآية مقدمة لمكثهم الدائم في الجنة.
الثاني: الآية إخبار بإكرام الله عز وجل للمؤمنين.
الثالث: سكن آدم في الجنة دعوة للسعي إلى بلوغ الإقامة فيها، وأما بالنسبة لذرية آدم فمن وجوه:
الأول: تشريف وإكرام آدم عليه السلام فخر للناس جميعاً بإعتبار أنه أبو البشر، وإكرام الأب إكرام للأبناء، وباعث للغبطة والسعادة في نفوسهم.
الثاني: توكيد حقيقة وهي إبتداء حياة الإنسان في الجنة، فالخلائق كلها تعلم أن ذرية آدم الموجودين في الأرض كان مسكنهم في الجنة.
الثالث: الآية دعوة للإقرار بوجود الجنة والنار، ولزوم الإستعداد للحساب الذي تؤكده آيات أخرى.
الرابع: التنبيه الى كون الإنسان مخلوقاً، وأن الله عز وجل يتغشاه برحمته.
لقد سكن آدم الجنة ليكون هذا السكن بشارة وإنذاراً لذريته من بعده، بشارة لمن يسعى اليها، ويجعلها غاية في حياته، وإنذاراً لمن لا يلتفت الى هذا الدرس وما فيه من الموعظة والعبرة.
ومن الآيات أن يأتي خلق حواء في الجنة وتسكن فيها مع آدم عليه السلام، وفيه إكرام وتشريف للمرأة وبشارة دخولها الجنة وعدم حرمانها منها، وهي عون للنساء على أداء الفرائض والتقيد بالواجبات واجتناب المحرمات، ومتى ما جعل الإنسان  ذكرا أو أنثى أمام عينه هدفاً وبغية فانه يبذل الوسع لنيله، ويمتنع عما يحجزه عنه.
وأختتمت الآية بنهي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة، وفيه لطف إضافي لتأديب الإنسان في الدنيا، وتعليمه درساً لن ينساه، وهو ان الملاك في الفعل والتصرف والأكل والشرب ليس الشهوة والرغبة، بل طاعة الله عز وجل والإمتناع عما حرمه.
فقد يرى الإنسان الربا تجارة مربحة لأنها تكفل له رأس ماله وتخلصه من إحتمال الخسارة، فلا يأتيه الا الربح والفائدة، فيأتي قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( )،لبيان حرمة الربا ولزوم إجتنابه، ومن الآيات ان يأتي التوكيد على هذا الإجتناب ببيان حقيقة وهي أن الأكل من الشجرة يجعلهما من الظالمين لأنفسهما، لتوكيد قانون في الإرادة التكوينية وهو ان الله عز وجل [لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ] ( ).
ومن اللطف الإلهي إطلاق الأكل من شجر الجنة بإستثناء شجرة واحدة، وفيه آية من التخفيف عن آدم وحواء، فمع كثرة أشجار الجنة وانها من اللامتناهي وإطلاق أكل آدم وحواء منها المستقرأ من قوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمَا] فان النهي لم يأتِ إلا عن شجرة واحدة، وإقترن بالزجر عنها وبيان عاقبة الأكل منها، وكل من الزجر والبيان لطف مستقل قائم بذاته.
مفهوم الآية
تدل الآية على إتصال إكرام آدم ونيله أسمى المراتب بسكنه الجنة وفيها دعوة للناس للسعي لإحراز السكن الأول لأبينا آدم بعمل الصالحات وإجتناب السيئات، ويعتبر النهي الوارد في الآية بعدم الإقتراب من الشجرة تحذيراً من المعاصي، وحثاً على الإبتعاد عن الشبهات ومقدمات الهلكة، وتترشح صفة الظلم من:
الأول: الأكل من الشجرة.
الثاني: المعصية بعدم الإمتثال لأمر الله تعالى في عدم الإقتراب منها.
الثالث: الأولوية، فاذا كان النهي عن الإقتراب من الشجرة متوجهاً إلى آدم وحواء فمن باب أولى ان يمتنعا عن الأكل.
والآية مدرسة في الإتعاظ ولزوم اخذ الحائطة للدين بالتقيد بأحكام الشريعة والإمتثال للأوامر الإلهية والدعاء للوقاية من النسيان.
الرابع: قد ثبت في علم الأصول ان ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم، فالأكل من الشجرة سبب لمغادرة الجنة والهبوط الى دار الإبتلاء والإمتحان.
لقد بدأت الآية بالخطاب الى آدم وان يسكن هو وحواء الجنة ولكن النهي عن أكل الشجرة جاء بصيغة التثنية (ولا تقربا) مما يدل على توجه الخطاب التكليفي الى حواء بعرض واحد مع آدم، وليس في طوله أو بالتبعية له.
ان عظيم الفضل الإلهي لم يمنع من التحذير والتخويف بل ان التحذير يدخل ضمن عمومات الفضل الإلهي وهو نوع تأديب للمحافظة على النعمة وعدم التفريط بها.
وفي الآية مسائل:
الأولى: بعد إكرام الله عز وجل لآدم بسجود الملائكة له، جاء إكرامه ذاتاً.
الثانية: شمول حواء بالإكرام مع آدم.
الثالثة: بعد الأمر الإلهي الى الملائكة بالسجود لآدم جاء الخطاب الإلهي الى آدم بالسكن في الجنة هو وزوجته، والجمع بينهما في السكن رحمة إضافية بآدم وحواء.
الرابعة: من مفاهيم الآية إخبار آدم وذريته ان عدم سجود إبليس لآدم لم ولن يضرهم.
الخامسة: في سكن آدم وحواء في الجنة تبكيت وتوبيخ لإبليس، وإخبار له وللملائكة بان الله عز وجل يكرم آدم ويتغشاه برحمته، وان إكرام آدم لا ينحصر بالملائكة كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ).
السادسة: عدم إنحصار إكرام آدم وحواء بالسكن في الجنة، بل شمل الأكل من الجنة.
السابعة: ان الله عز وجل اذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، ومن التمام ان يأتي أكل آدم وحواء من الجنة مقيداً بأمور تفيد الإكرام الإضافي:
الأول: السعة التي يدل عليها  حرف الجر في قوله تعالى [وَكُلاَ مِنْهَا] وما يفيده من التبعيض من إرادة عموم الجنة.
الثاني: تقييد الأكل والسكن بانه رغد ليكون هذا التقييد نعمة إضافية.
الثالث: ترك الإختيار في الأكل لآدم وحواء بقوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمَا] وفي تعلق قوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمَا] وجهان:
الأول: إختصاصه بموضوع الأكل.
الثاني: شموله للسكن والأكل معاً.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول: إرادة التعدد والعموم في النعمة الإلهية، ويمكن ان نؤسس قاعدة وهي: لو تلقى الإنسان النعمة الإلهية، وشككنا هل هي من المتحد أم المتعدد، فالصحيح هو المتعدد.
الثاني:  “حيث” ظرف مكان، ويمكن ان يتعلق بالسكن مثلما يشمل الأكل من ثمار الجنة.
الثالث: مما يتفرع عن الإطلاق في موضع الأكل، عدم إنحصار السكن في مكان واحد.
الرابع: السعة في سكن الجنان، وعدم حصول مزاحمة او تعد فيها وبالنسبة للآخرة لو أراد أحد أهل الجنة السكن في قصر يسكنه غيره فماذا يحصل .
الجواب من وجهين:
الأول: ان قلوب أهل الجنة خالية من الغل والحسد، والمؤمن في الدنيا يغبط ولا يحسد أي انه يتمنى لنفسه مثل الذي يراه من النعم عند غيره، ولا يتمنى زوال نعمة ما عند إنسان، ومن باب الأولوية القطعية ان يكون ذا كمال أخلاقي، وسمت إيماني.
الثاني: ان الله واسع كريم، فكل الذي يتمناه المقيم في الجنة يراه حاضراً في الحال عنده.
الثامنة:  إختتام الآية بالنهي عن أكل آدم وحواء من شجرة معينة في الجنة.
التاسعة: الإنذار والتخويف من القيام بالأكل من الشجرة.
إفاضات الآية
الآية بشارة الجنة وانها قريبة من المسلم ولم يكن دخولها أمراً متعسراً بل يمكن الفوز به بفضل منه تعالى وبالدعاء والإستغفار وحسن الإمتثال.
فالأكل من الشجرة زجر ومنع من المعصية وإخبار بأن معاصي الدنيا تحجب الوصول إلى الجنة، وإذا حصلت المعصية فلابد من الإستغفار والإنابة كما فعل أبونا آدم، وهو درس عظيم لتلقين بني آدم التوبة ومعرفة طرقها ومسالكها.
وتبين الآية أسباب هبوط الإنسان إلى الأرض، وتحذر من ترك منازل الإيمان ، وتدعو إلى طاعة الله تعالى ، وتجلى بإباحة ثمار الجنة لزوم طاعة الأوامر الإلهية، وبالنهي عن الأكل من الشجرة زجر عن المعاصي والسيئات ،وفيه دعوة للتقيد بالأحكام والمناسك والسنن الواردة في القرآن الكريم ،لذا جاءت الآيات بوجوب التمسك بالقرآن وأحكامه قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد سجود الملائكة لآدم عليه السلام، جاء الأمر الإلهي له  بالسكن هو وزوجته حواء في الجنة، وأختلف في هذا الأمر على قولين:
الأول: إنه أمر تعبدي.
الثاني: أمر إباحة، لخلوه من المشقة والتكليف.
ولكنه فضل ونعمة من عند الله على آدم وحواء وذريتهما مطلقاً من وجوه:
الأول:تفضل الله بمخاطبة آدم.
الثاني: هذه أول آية تذكر حواء، وبصفتها زوجة لآدم.
الثالث: تعيين موضع سكن آدم وحواء، وهو أفضل وأرفع وأسمى سكن بأن كان مسكنهما في الجنة.
الرابع: الأمر الإلهي لآدم وحواء بالأكل من ثمار الجنة، ليكون هذا الأ كل بشارة دخول المؤمنين يوم القيامة في الجنة، والأكل من ثمارها.
الخامس: بيان نوع الأكل وأنه كثير واسع من غير تعب أو عناء، وفيه دلالة على أن الله تعالى إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
السادس: النهي عن الأكل من شجرة مخصوصة، ويستقرأ معنى الأكل من لفظ الإقتراب، لأن المخالفة وقعت بالأكل منها.
السابع: الإطلاق المكاني للأكل من الجنة وثمارها، فمع سعة الجنة وكثرة ثمارها جاءت الآية مطلقة لبيان عظيم فضل الله تعالى على آدم وحواء، وكأنه مقدمة لسكن المؤمنين من ذريته في الجنان الواسعة.
الثامن: توارث ذرية آدم أخبار الجنة وما فيها من النعم بواسطة آدم وحواء والنبوة والتنزيل .
التاسع : ورود الإستثناء عن الأكل من شجرة واحدة بين أشجار وثمار الجنة اللامتناهية.
العاشر : الملازمة بين الأكل من تلك الشجرة وما فيه من مخالفة الأمر الإلهي وبين الظلم.
لقد بدأت الآية الكريمة بالأمر الإلهي بالسكن في الجنة، ثم إقتران السكن بالأكل من ثمار الجنة، ويدل قيد(رغداً) على السعة والمندوحة، وعدم سعي آدم وحواء للأكل من الشجرة الممنوعة.
ثم أختتمت بالإنذار والتحذير ليكون مثالاً للحياة وما فيها من الأوامر والنواهي وأحكام التكليف ولزوم الإمتثال للأوامر الإلهية، وإجتناب ما نهى الله تعالى به.
وجاءت هذه الآية بصيغة الخطاب في معانيها القدسية، وبدأت الآية الكريمة ب[وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنهَا رغدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ) وفيه إخبار عن كون مضامين الآية من قول الله تعالى وان كل فرد منها قانون ثابت وحكم لا يقبل التغيير والتبديل، وجاء القول الإلهي على وجوه:
الأول: الأمر الإلهي بسكن آدم وحواء في الجنة، وجاءت الآية بصيغة الأمر الواجب الذي لا يقبل الترديد او الإختيار أو الترك، فالجنة ملك لله تعالى ، والسكن فيها من أعظم النعم،ولايدخلها كائن مخلوق إلا بأمر الله تعالى، ويدل السكن فيها على عظيم الشأن والمنزلة والجاه، ففي الوقت الذي أخرج الله تعالى فيه إبليس من الجنة لمعصيته أسكن فيها آدم وحواء، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الخلائق، وهي دخول الإنسان الجنة , فالملائكة الذين سجدوا لآدم يدخلون الجنة , فأكرم الله آدم بالسكن فيها.
الثاني: الأمر الإلهي الى آدم وحواء بالأكل من الجنة، بقوله تعالى [وَكُلاَ مِنْهَا] وكل فرد منهما يأكل ما يشتهي، وما يكفيه ويسد حاجته وتلك نعمة خص الله تعالى بها آدم وحواء، ليترشح هذا الفضل على الناس جميعاً في تكوينهم وسجاياهم وتلقيهم الأوامر الإلهية بالقبول .
الثالث: وصف الأكل في الجنة بالرغد والسعة والهناء، وعدم ترتب الحساب عليه.
الرابع: الكثرة والتعدد والإباحة في الأكل من الجنة بقوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمَا] وفيه وجوه:
الأول: إفادة التعدد المكاني، وإختيار الأكل في أي مكان في إشارة الى سعة الجنة.
الثاني: الإختيار في نوع الثمار والطيبات.
الثالث: إرادة الإطلاق في وقت الأكل من ثمار الجنة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
ويحتمل الأكل بلحاظ الإتحاد والتعدد وجوها:
الأول: يعود تعيين مكان الأكل الى آدم عليه السلام.
الثاني: لكل من آدم وحواء الأكل من أي شجرة وثمرة وفي أي وقت.
الثالث: يكون أكلهما مجتمعين من شجرة ونوع مخصوص.
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق، وإنحلال الأمر والإباحة لهما معاً، وتقدير الآية على وجهين:
الأول: يا آدم كل منها رغداً حيث شئت في خطاب لآدم.
الثاني: تأكل زوجك رغداً حيث شاءت.
الخامس: النهي عن الأكل من شجرة مخصوصة بينّها الله تعالى لآدم وحواء بإخبار آدم بها، وبعد الفضل الإلهي العظيم بالسكن في الجنة، وإباحة الأكل من ثمارها وأشجارها وما فيها من الطيبات.
السادس: بيان عاقبة الأكل من الشجرة المنهي عنها، بصيرورة آدم وحواء من الظالمين إذا أكلا منها لما في المخالفة لأمر الله، وترك الثمار الكثيرة المباحة، والأكل من الشجرة المنهي عنها من المخالفة والظلم للنفس.
وفيه دعوة للناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة الى الحرص على إجتناب ما نهى عنه الله عز وجل، وفي الآية دعوة للتقوى والزهد في الدنيا من وجوه:
الأول: لم يأت السكن في الأرض إلا بعد المخالفة في الجنة ، وظلم النفس.
الثاني:  عاقبة فعل الصالحات دخول الجنة بفضل من الله, قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
 الثالث: تتصف الإقامة في الجنة في الآخرة بالدوام وعدم المغادرة، وخلوها من الإمتحان والإختبار، وليس من شجرة منهي عنها في دار الخلود.
التفسير الذاتي
بعد أن ذكرت الآية السابقة إبليس بلغة الذم والتقبيح، وإمتناعه عن طاعة الله في السجود لآدم، جاءت هذه الآية لتخبر عن زوجة آدم بلغة الإكرام والتشريف، فلم يخبر القرآن عن خلق زوجة لآدم وكيفية هذا الخلق وإن جاءت النصوص به، ولكن ذكر الله زوجة آدم بما فيه التشريف والإكرام لهما معاً أي لآدم وحواء، إذ ورد ذكرها في السكن في الجنة وهو بشارة خلود المؤمنات في الجنة مع أزواجهن من المؤمنين.
ومن إعجاز القرآن أنه ذكرخلق آدم وتعليمه الأسماء، وقيامه بتعليم الملائكة لها، ثم سجود الملائكة له، ثم ذكر حواء لتتلقى الأمر الإلهي بالسكن في الجنة بواسطة آدم عليه السلام وبصفتها زوجاً لآدم، وهل تم عقد قران بين آدم وحواء، الجواب فيه وجوه:
الأول: العقد سنة ويتضمن القبول والإيجاب وأنه تم بين آدم وحواء، وهو من الأسماء التي علّمها الله عز وجل آدم بقوله تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )،ويكون سنة في ذرية أبناء آدم.
الثاني:إن الله عز وجل هو الذي عقد بينهما بنفسه تشريفاً لآدم ولأنهما من سكنة الجنة.
الثالث: ليس من عقد بينهما، وإنما خلقت حواء زوجة لآدم، فيأتي تعيين موضوع الزوجية في ماهية خلق حواء، فينتفي موضوع العقد والحاجة إليه, قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( ).
الرابع: إن هذه الآية وقوله تعالى[اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ] هو العقد، إذ وصفها الله عز وجل بأنها زوجة لآدم، وهو أمضى من العقد وما فيه من القبول والإيجاب.
الخامس: تختلف نواميس السماء عن أحكام الأرض، ويكفي أن الله عز وجل أخبر آدم بأن حواء زوجه له.
السادس: أمر الله عز وجل بعض الملائكة لإجراء صيغة العقد بينهما.
السابع: تلقي آدم وحواء صيغة القبول والإيجاب لكفايته بين الزوجين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وليس من إختيار في المقام لا من طرف الزوج ولا الزوجة، لأن الله عز وجل هو الذي زوجّهما، وليس من مهر مالي في المقام وإن كان السكن في الجنة والأكل من ثمارها أعظم وأشرف وأسمى مهر في تأريخ الإنسانية.
والأرجح هو الأول بفضل وهداية الله عز وجل، خصوصاً وأن آدم وحواء هبطا إلى الأرض بصفة الزوجية، ولم يحصل بينهما طلاق، وذكر أن حواء لم تبق بعد وفاة آدم إلا سنة إذ مرضت خمسة عشر يوماً ثم توفيت، ودفنت إلى جنب آدم عليه السلام.
وبالإسناد عن أبي بن كعب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث: فلما حضرته (أي آدم) الوفاة، بعث الله إليه بحَنوطه وكفنه من الجنة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم إليه، فقال: خلّي عني وعن رسل ربي، فاني ما لقيت ما لقيت إلا فيك، ولا أصابني ما اصابني إلا منك، فلما قبض غسلوه بالسدر والماء وتراً، وكفنوه في وتر من الثياب، ثم لَحَدوا له فدفنوه، ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده( ) . 
ولكن قوله(ما أصابني إلا منك) يحمل على معان متعددة، ولا يدل على إرادة الذم حصراً.
ولم يرد لفظ (تقربا) في القرآن إلا مرتين( )، وكلاهما في آدم وحواء ونهيهما عن الأكل من الشجرة، بينما جاء لفظ (تقربوا) خمس مرات في القرآن بصيغة النهي (لا تقربوا) في خطاب للمسلمين لإجتناب الفواحش والنواهي منها قوله [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( ).
ولعل فيه شاهداً على وراثة المسلمين للأنبياء في تلقي الأوامر والنواهي، وأهليتهم لتعاهد سنن الأنبياء، فان قلت إن آدم وحواء عليهما السلام نهيا عن أكل الشجرة ثم أكلا منها، فهل المسلمون يحاكونهما في الفعل، الجواب لا، إنما يحاكونهما بالتقوى والصلاح الذي وصفا به عند هبوطهما إلى الأرض، ونزول الكتاب السماوي، قال تعالى في خطابه لآدم وحواء عند الهبوط [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
لقد جعل  الله عز وجل الإقتراب من الشجرة والأكل منها علة للظلم والتعدي، بقوله تعالى في خاتمة الآية [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ومن الآيات أن خطاب السكن في الجنة جاء خاصاً بآدم مع أنه شامل له ولحواء [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] .
وهل يمكن إستقراء قاعدة المرأة تتبع بعلها في السكن الجواب، إنه تأسيس سماوي لهذه القاعدة , لتصبح من أحكام الشريعة، ولكنها لم تستقرأ من ذات الآية.
وجاء النهي عن الإقتراب من الشجرة والتحذير من الأكل منها بصيغة التثنية وإرادة آدم وحواء بعرض واحد لبيان تلقي حواء للأوامر والنواهي من غير واسطة، وأهليتها للهبوط إلى الأرض للعمل بالأحكام التكليفية الخمسة،الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة .
وقد ورد لفظ (تكونا) بصيغة التثنية في القرآن أربع مرات كلها في الخطاب لآدم وحواء، إثنتين منها خطاب من الله عز وجل كما تقدم في الصفحة السابقة، وإثنتين خطاب لهما من إبليس إغواء ووسوسة، ووردا في آية واحدة [مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ]( ).
ومن إعجاز الآية [فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]  إفادة معنى وهو كون الأكل مقدمة لإرتكاب ما فيه ظلم للنفس، ليكون الأكل على وجوه:
الأول: الأكل من الشجرة ذاته ظلم.
الثاني: الأكل من الشجرة مقدمة للظلم.
الثالث: المعنى الأعم الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق , أما الأكل بذاته فهو ظلم فلأنه معصية، وإمتناع عن الإمتثال للنهي التكليفي في قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ]، واما العموم فلصيغة المضارع في قوله تعالى [تَكُونَا] وإرادة المستقبل فيه أيضاً، ويحتمل متعلق الظلم وجوهاً:
الأول: ظلم آدم وحواء لأنفسهما بالخروج من الجنة.
الثاني: ظلم حواء لآدم.
الثالث: ظلم آدم لحواء.
الثالث: ظلمهما لأولادهما الصلبيين.
الرابع: ظلمهما لذريتهما مطلقاً وسكنهم في الجنة.
الخامس : ظلمهما لابليس لقبولهما إغوائه.
والأقوى إرادة ظلمهما لنفسيهما وهو القدر المتيقن في المقام.
وجاءت هذه الآية متعقبة للتحذير والإنذار الإلهي لهما من الأكل من الشجرة، في تنبيه لبني آدم بأن إبليس قريب منهم في وسوسته، وأنه يدعو الناس لإثارة الشك والريب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فاذ جاء التخويف بأن الأكل مقدمة للظلم جاء إغواء إبليس بانهما إذا أكلا من الشجرة فانــهما يصبحان إمـــا  ملكين أو من الخالدين فلا يتعرضــــان للفناء ليزلــهما، ويغويهما ويجعلهمــا يعصيان الله عز وجل ويأكلان من الشجرة.
وهل كان إبليس صادقاً فيما يقول الجواب لا، فقد أكل آدم وحواء من الشجرة فهبطا إلى الأرض ثم جاءهما الموت وفيه شاهد على لزوم عدم إتباع الأماني الزائفة التي لا أصل لها ، والحق بخلاف ما قال إبليس للبقاء في الجنة مع عدم الأكل من الشجرة , والملازمة بين السكن في الجنة وبين الخلود.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان إكرام الله عز وجل لآدم عليه السلام , فاذ أمر الملائكة بان يسجدوا له فانه سبحانه أكرمه بنعمة اللبث في الجنة , ليكون سكنه فيها  ساجداً ومسجوداً له في طاعة لله سجد له الملائكة مرة بأمر الله، ليتعاهد هو وذريته السجود لله تعالى إلى يوم القيامة ، وفيه مقدمة لسكن المؤمنين الجنة وقيام الملائكة بإكرامهم .
 وكأن الآية تشير الى حقيقة وهي ان سكنة الجنة هم المسلمون الذين يعملون الصالحات ويجتنبون الظلم مطلقاً.
الثانية : تؤكد الآية أهلية الإنسان لسكن الجنة، وتطرد عنه اليأس والقنوط وفيها بعث للمسلم لعمل الصالحات والسعي لبلوغ الإقامة في النعيم , وترغيب للناس بصبغة التقوى كطريق سالكة للجنة , قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ]( ).
الثالثة : في الآية إخبار عن سكن المرأة للجنة وانها ليست خاصة بالمؤمنين من الرجال دون النساء.
الرابعة: بيان مثال محسوس لماهية السكن في الجنة، وتقريب عالم الآخرة الى الأذهان بالمصداق المتقدم زماناً.
 فمن الآيات في خلق الإنسان ان يبدأ سكنه في الجنة ولو على نحو مؤقت، ثم يهبط الى الأرض ليكون الناس في السكن على قسمين وليس من قسيم ثالث لهما وهما:
الأول: أهل الجنة.
الثاني: أهل النار.
مع قيد المكث الدائم لأهل الجنة في الجنة , وخلود الكفار في النار إلا أن يشاء الله , وفي قوله تعالى[قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ]( )، قال ابن عباس: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً)( ).
الخامسة: إقتران الظلم للنفس بالمعصية، فكل إنسان يعصي الله عز وجل فهو ظالم لنفسه، او ظالم لنفسه ولغيره.
السادسة: بيان قبح الظلم، وآثاره وأضراره الذاتية والغيرية.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ  ]
بعد مرحلة السجود والتعظيم جاءت مرحلة التوقير المتصل الذي يحمل صفة الكمال والدوام، فأسكن الله عز وجل آدم الجنة وجعله مؤهلاً لها بالعلم الذي يتجسد بأحسن وجوهه بالطاعة لله عز وجل وحسن عبادته وتلقي الفرائض بمعرفة وإدراك ومقدرة على التحمل.
والزوج هنا حواء وهذا أول ذكر لها في القرآن جاء من غير بيان لتفاصيل خلقها.
وبعكس آدم فإن اسم حواء لم يرد في القرآن (وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه لما اخرج إبليس من الجنة ولعن، وبقي آدم وحده إستوحش اذ ليس معه من يسكن اليه فخلقت حواء ليسكن اليها)( ).
وفيه أنس آدم بحواء ، ونفرته من إبليس، ولم ينحصر أنسه بحواء خصوصاً وأن إبليس أظهر العداوة لآدم منذ أول وهلة، ولكن الخبر جاء لبيان فضل الله تعالى على آدم كما أن خلق حواء أعم من أن ينحصر بهذا السبب .
 والتحذير الإلهي من إبليس متقدم على إخراجه من الجنة، وجاء بصيغة التثنية وشاملاً لآدم وحواء كما في هذه الآية وآيات أخرى، فالحديث لا يتعارض مع الأسباب والغايات الأعم في خلقها .
ويمكن إستفادة اسم حواء من قوله تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ]، لذا ورد ان الملائكة قالت له تجربة لعلمه: ما إسمها؟ قال: حواء( ).
وفي موضوع سكن حواء الجنة وجوه:
الأول: أنه بفضل من الله تعالى خالٍ من أي إستحقاق.
الثاني: بسبب أهليتها للسكن في الجنة.
الثالث: جزء من إكرام الله تعالى لآدم.
الرابع: إن الله تعالى خلق من كل زوجين اثنين.
الخامس: حكمة الله في تناسل بني آدم.
السادس: إكرام بني آدم في أمهم، ودعوتهم لبر الوالدين وإكرام الأم، وفي حديث ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك) ( ).
السابع : تبعية الفرع للأصل بلحاظ أن حواء خلقت من ظلع آدم .
ولا مانع من إجتماع هذه الوجوه والتقائها في خلق حواء ، وإستقراء وجوه أخرى أيضاً.
ويتضمن خلق حواء في الجنة وليس في الأرض بعد نزول آدم اليها فلسـفة ملازمة المرأة للرجل في الوجود وأصل الخــلقة.
وهل يمكن إستقراء مسألة من خلق آدم وحواء في السماء بعدم إمكان خلق إنسان في الأرض في المختبر والإستنساخ، الجواب لا، لأن إنسان الأرض من ذرية آدم.
والآية حجة على الإنسان في مشاركة الزوجة له في أسباب النعيم، وعظيم المنزلة على نحو إنطباقي، أي لا يظن الرجل أنه وحده المؤهل للنعمة أو أنه نال الثروة والمنزلة السياسية والإجتماعية على نحو القضية الشخصية وأن المرأة مجرد وعاء، فكما أنها تشاركه شظف العيش، وقساوة الأيام وأسباب العناء كذلك تشاطره الإقامة في النعيم لدلالة السكن في الجنة على طول اللبث والإستقرار.
وفي الآية منع للإدعاء بان الرجال يستأثرون بالجنة أو أنهم يستغنون فيها بالحور العين، وينعكس هذا الإكرام القرآني للمرأة على نحو حسن ومبارك على أداء المرأة للفرائض، وإخلاصها في عملها وإعدادها لأفراد الأسرة المسلمة بمسؤولية إيمانية.
وأختلف في الجنة التي سكنها آدم وزوجه هل هي من جنان الخلد أم أنها في الأرض على وجوه:
الأول: ذهب الحســن البصري وعمــرو بن عبيد وواصـل بن عطاء وكثير من المعتزلة ومن المفسرين الى انها جنة الخلد[الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ]( ) .
 وقال الإمام الرازي : وهو قول جمهور أصحابنا، إن هذه الجنة هي دار الثواب( )، لان الالف واللام للتعــريف وصــارا كالعلم عليها وقالوا بجواز وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يبلغهما كلامه.
ورداً على من قال بأن الذي يدخـل جنــة الخــلد لا يخـرج منها، فقالوا ان ذلك يكون عند إستقرار أهل الجنة فيها ثواباً وجزاءً.
الثاني: قال ابو هاشــم هي جنــة من جنـان السماء غير جنة الخلد لأن جنــة الخلــد أكلها دائــم ولا تكليف فيها واســتشــهد عليه بقولـه تعالى حكــايــة عن إبليس: [ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ]( ).
الثالث: انها من جنات الدنيا أي الجنة بمعناها اللغوي وهو البستان من النخل والاشجار الكثيفة التي إلتفت أغصانها، كما في قوله تعالى [ وَدَخَلَ جَنَّتهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ]( ).
ورد عن الامام جعفر الصادق انه سُئل عن جنة آدم فقال: من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبداً، وبه قال جماعة من المعتزلة، فقد قال ابو القاسم البلخي ان هذه الجنة كانت في الأرض.
الرابع: هي جنة في السماء، وهو المستقرأ من كلام الإمام الصادق عليه السلام: ( قال الله لهما إهبطا من جواري فلا يجاورني في جنتي من يعصيني)( ).
الخامس: إنها في السماء السابعة والدليل عليه قوله تعالى [اهْبِطُوا مِنْهَا] وبه قال الجبائي ، وذكر ان الإهباط الأول كان من السماء السابعة الى السماء الدنيا ، والإهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض، ولا دليل على هذا التفصيل.
السادس : الكل ممكن، والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع، ذكره الرازي ولم يذكر قائله( ).
المشهور والصحيح هو أن الجنة في السماء وهي جنة الخلد لوجوه:
الأول: منطوق ومفهوم الأخبار الواردة في المقام ، وما جاء بخلافها لا يرقى لمعارضتها .
الثاني:  حمل لفظ الجنة إذا ورد مطلقاً على الجنة في السماء.
الثالث: إرادة النزول  من أعلى إلى أسفل من معنى الهبوط إذا ورد مطلقاً، من غير قرينة صارفة كالقرينة في قوله تعالى (إهبطوا مصراً)( ).
الرابع: ورود ذكر الملائكة في قصة خلق آدم وهم يسكنون الجنة في السماء.
الخامس: إن الله إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم ، ومنه أن الجنة في السماء أفضل من الجنة في الأرض.
السادس: من دلائل الحقيقة التبادر، أي تبادر معنى مخصوص عند ورود اللفظ مطلقاً من غير تقييد , والمتبادر من لفظ الجنة في قوله تعالى[اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] أنها جنة الخلد، مع وجود قرينة على عدم دوام لبث آدم فيها لأنه مخلوق للخلافة في الأرض.
النقاش في موضع جنة آدم وهل هي في الأرض ام في السماء علم مستقل تستقرأ منه المسائل والآيات ، ويجب الا يحول دون البحث وإستخلاص الدروس والعبر من الموضوع الأهم وهو فضل الله تعالى باسكان آدم وحواء الجنة كنعمة عليهما وعلى الناس مطلقاً من بين الخلائق، وهذا السكن تشريف إضافي آخر لآدم وحواء وذريتهما، ودعوة لهم للإجتهاد للسعي لبلوغ مقامات التكريم والجزاء الحسن بالإقامة في الجنة.
وصحيح ان الملائكة تسكن السماء إلا أن هذا لا يعني سكنهم الجنة، لأن بين السماء والجنة نسبة عموم وخصوص مطلق، فليس كل السماء جنة، كما ان السكن بمعناه المجرد عنوان إكرام خاص يدل على المكث والإقامة وان لم تكن بصفة الدوام.
وذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية كدليل على أن آدم، نبي، فبالإسناد عن أبي ذر قلت: يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال: “نعم، نبيا رسولا كلمه الله قِبَلا فقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ})( ).
 فتفضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر بما يمنع من اللبس والترديد، بالملازمة بين النبوة وخلق الإنسان.
وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال: أمر الله تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى السماء، فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء، يعني من ضلعه الأيسر، وكان آدم بين النائم واليقظان. وقال ابن عباس: سميت حواء لأنها خلقت من الحي. ويقال: إنما سميت حواء لأنه كان في شفتها حوة، يعني حمرة)( ).
لقد شاء الله ان تكون بداية خلق الإنسان بداية كريمة تتصف بالرفعة والعز، وتلقي معاني الكرم الإلهي، ونعمة الله لا تزول، فهذا السكن الإبتدائي في الجنة رحمة ووعد عملي خارجي.
وذكر القصة في القرآن بهذا النص الثابت والتفصيل الإعجازي يجعلها بشارة متجددة إنحلالية بعدد بني آدم يتنعمون بها في الحياة الدنيا بالوجود والإستحضار الذهني، اما الذين إختاروا الضلالة فقد حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة بالإختيار، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
وذُكر ان أول رؤيا في الارض كانت لآدم عليه السلام، عن وهب بن منبه قال: اوحى الله تعالى الى آدم إنك قد نظرت في خلقي فهل رأيت لك شبهاً؟ قال: لا يارب وقد كرمتني وفضلتني فأجعل لي زوجاً تشبهني اسكن اليها حتى توحدك وتعبدك معي.
فقال الله تعالى نعم: فألقى عليه النعاس فخلق منه حواء على صورته وأراه في منامه ذلك، وهي أول رؤيا كانت في الأرض فأنتبه وهي جالسة عند رأسه فقال لـه ربه يا آدم ما هذه الجالسة عند رأسك؟ فقال آدم الرؤيا التي أريتني في منامي يا إلهي ( ) .
وهل الرؤيا في الأسماء التي علم الله عز وجل آدم الجواب نعم، لسور الموجبة الكلية في الأسماء التي علّمها الله آدم قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاثُمَّ].
وجاءت مضامين هذه الآية بعد تعليم الله آدم الأسماء، وفيها أمر وإباحة ونهي وإنذار، ومن الآيات إشتراك حواء بعرض واحد مع آدم في النعمة وفي المسؤولية والإنذار، وإن جاء الخطاب إلى آدم على نحو التعيين.
وفيه آية في تعدد الأوامر والنواهي بعد تعلم آدم الأسماء، مما يدل على أن تعلم آدم الأسماء كان مقدمة للإمتثال لأوامر الله، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في الإحتجاج على الملائكة.
وقيل: من باب الإشارة في الآيات أجمعين ويا آدم أسكن أنت وزوجك أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الأدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك . ولشرف آدم عليه السلام وجه النداء إله وزوجه تبع له في السكنى {الجنة} هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحنة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب)( ).
ولا يخلو هذا الكلام من التكلف، وفيه إبتعاد عن الظاهر والمعنى اللغوي والمقاصد السامية في الصلة بين اللفظ والمعنى على نحو الحقيقة, وصيغ البيان القرآني التي ينهل منها الناس جميعاً.  
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال : لما خلق الله آدم وخلق له زوجته ، بعث إليه ملكاً ، وأمرة بالجماع ففعل ، فلما فرغ قالت له حواء : يا آدم هذه طيب زدنا منه( ).
تفسير قوله تعالى [ وَكُلاَ مِنْهَا ]
الآية نعمة أخرى مصاحبة لنعمة السكن، وبيان بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون وان الله عز وجل يعطي بالأوفى، فمع السكن يكون الرزق الكريم.
ولعل فيه تشريفاً تكوينياً آخر، وهو ان آدم وحواء يأكلان من ثمار الجنة، والملائكة غذاؤهم التسبيح، وصحيح ان التسبيح هو الأفضل والأشرف، ولكن الأكل والشرب رزق كريم وفضل وإحسان من الله تعالى ، وفي الآخرة يكون ثواباً وجزاء ولا راد لفضله تعالى .
 لقد شاء الله عز وجل أن يهبط آدم إلى الأرض ومعه بشارة الجنة والرجوع اليها، ولم تكن حلماً أو أملاً معلقاً، وأمنية مستقبلية محتملة أو مرجحة الحدوث.
إن غاية ما يسعى إليه الإنسان في الدنيا أمران : الإقامة والزاد وهو يجتهد لتحسينهما وتهيئة أسبابهما ومقدماتهما وكيفية ضمان دوامهما على أحسن وجه كل بحسبه .
 فجاءت الآية لتخبر عن فضل الله تعالى بالتخفيف عن الإنسان في الجنة وإسقاط العناء والتعب بانتفاء موضوعه وزوال الحاجة اليه لأنه يجد في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
ويفيد حرف الجر في (منها) التبعيض للإخبار عن كثرة ثمار الجنة كماً ونوعاً وعدداً، والضمير (ها) يعود إلى الجنة وهو من إطلاق المحل وإرادة الحال، فالمقصود ثمارها وأشجارها ما فيها من النعم.
وفيه نكتة وهي أن الجنة نفع محض، وخير متصل، وليس فيها إلا ما هو نعمة، وليس فيها تعب أو شقاء، ولا تصاب ثمارها بالتلف فليس من آفة أرضية أو سماوية فكأن هناك تداخلاً بين المحل والحال.
ترى ما هي النسبة بين ثمار وأشجار الدنيا، وثمار وأشجار الجنة، الأقوى هو العموم والخصوص المطلق، فكل أشجار الجنة موجودة في الدنيا وليس كل أشجار الدنيا موجودة في الجنة، وكما ان الناس في الدنيا منهم الصالح ومنهم الفاجر، فاشجار الدنيا منها ذات الثمار والنفع , وقد يكون منها ذات الضرر أو عديمة النفع.
اما في الجنة فلا توجد إلا الشجرة البهيجة النافعة ذات الثمر والرائحة الطيبة، فهو عالم خال من الإبتلاء والعناء ولا يحتاج أهل الجنة الى عناء التمييز، وإستحضار الوسائط والخبرة للفصل بين الأنواع، وهو من عمومات قوله تعالى[وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ]( ).
   فمن البديهي عندهم ان ثمارها وأشجارها كلها ذات طعم لذيذ لذا فان الآية تجعل المؤمنين وفي كل زمان ينجذبون إلى الجنة ويشــتاقون إليها، وينعكــس هذا الشوق بإقبالهم على العبادة والفرائض والصالحات، وإجتناب المعاصي والسيئات.
فمن إعجاز هذه الآية ان لها وظائف عقائدية تتجلى بتأديب وتفقه المسلمين وإرتقائهم في سلم الكمالات ، وحرصهم على التزام جادة التقوى فيبقى الإنسان حريصاً على ان يراه الله عز وجل حيث أمره ويفتقده حيث نهاه.
إنها مدرسة القرآن التي تحمل البشارة بالجنة بذكر معالمها ويكون هذا الذكر عوناً على الشوق اليها والسكن الدائم فيها، وبذا يلبس القرآن المدركات العقلية لباس المحسوسات وتتجلى لنا منافع عظيمة من ذكر قصة آدم في القرآن.
لقد خفّف الله عز وجل عن المسلمين، ولم يجعل صورة الجنة عندهم مجردة عن مادتها فكل صورة مجردة عن المادة تكون موجودة بوجود عقلي، قد يصعب إستحضارها والإعتبار بها والسعي إليها في أغلب الأحيان خصوصاً على أصحاب المدارك الضعيفة، أو الذين ينغمسون في مشاغل الحياة الدنيا وهم الغالبية من البشر، فجاء الوصف بالحس والتجربة والبرهان لتكون عوناً لكل إنسان وحجة.
تفسير قوله تعالى [ رَغَدً ا]
قيد كريم يبين نوع الأكل وكيفيته والإخبار بانه نفع محض، وخير واسع،   وليخرج الزاد القليل والذي فيه عناء وتعب ويحتاج إلى سعي وجهد.
وقد جاء لفظ [ رَغَدًا ] في القرآن ثلاث مرات وكلها بحالة اعرابية واحدة، وجاء وصفاً لنعمه تعالى في الدنيا على بعض الأمم ممن لم يتعاهدها بالشكر.
فقد ورد في خطاب لبني إسرائيل وبيان النعم العظيمة التي منّ الله تعالى عليهم بها ولزوم إستحضارها في الوجود الذهني، ليكون هذا الإستحضار مناسبة للتدبر والإعتبار، وعوناً في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وماجاء به من المعجزات، والفوز بالنعيم الدائم بدخول الإسلام وأداء العبادات والتكاليف، وإجتناب ما نهى الله تعالى عنه إذ تفضل الله عزوجل وجعل القرآن تبياناً لكل شئ، ومن وجوه البيان فيه بيان الصلة بين نهي آدم وحواء عن الأكل من شجرة مخصوصة، ونهي الناس عن السيئات وذمائم الأفعال ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا] ( ).
فما رزقه الله تعالى لآدم جعل مرآة له عند بني إسرائيل إمتحاناً وموعظة، وهو شاهد على تفضيلهم على أهل زمانهم، ودعوة لهم لتعاهد التوراة والعمل بأحكامها، وتوارث ما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومصاحبة تلك النعم والخيرات ،  ونيل المسلمين منها في الدنيا، وفوزهم بالنعيم في الآخرة.
وبين الآية محل البحث والآية أعلاه من سورة البقرة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول:لغة الخطاب في الآيتين.
الثاني: صدور الخطاب من الله تعالى، وفيه تشريف وإكرام للمخاطبين.
الثالث: السعة والمندوحة في مكان وأنواع الأكل , قال تعالى[يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا]( ).
الرابع: وصف الأكل بانه رغد واسع طيب خال من التعب والعناء.
اما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: جاءت الآية محل البحث بأمور:
الأول: ورود الخطاب بصيغة المثنى، لأنه خاص بآدم وحواء.
الثاني: وقوع مضامين الآية في الجنة، وقبل هبوط آدم وحواء الى الأرض.
الثالث: حصول الأكل من ثمار الجنة، التي شرّف الله تعالى آدم وحواء بالسكن فيها.
 وأما الآية أعلاه فهي في فضل الله تعالى على بني إسرائيل , وفيه وجوه:
الأول: جاء الأمر والفضل الإلهي بإباحة الأكل لعموم بني إسرائيل من غير إستثناء لبعضهم.
الثاني: موضوع الإباحة هو الأكل من الطيبات التي تفضل الله تعالى عليهم بها، فبعد ان تفضل الله تعالى على بني إسرائيل بنزول المن والسلوى في التيه، وجاء الفضل الإلهي في الأكل من الطيبات والثمار في بيت المقدس لبيان حقيقة وهي مصاحبة النعم الإلهية لبني إسرائيل، وهو من وجوه تفضيلهم ، ودعوة لهم على تعاهدها بالشكر لله ، وعدم الجحود بها.
الثالث: تقييد الإباحة والأكل بخصوص القرية ، وما فيها من الطيبات.
الرابع: مجئ الأكل بعد دخول بلدة مخصوصة.
وجاءت الآية أدناه التي ورد فيها لفظ (رغداً) مثلاً للناس في أهل قرية أنعم الله تعالى عليهم فبطروا وجحدوا بالنعم ، ولم يشكروا الله على ما رزقهم من النعم ، قال تعالى[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ]( ).
فهل من نسبة بين أكل آدم من الشجرة ومعصية هؤلاء، الجواب: لا،إلا أن يكون أكله حجة ودرساً لهم , فان آدم نبي وكان النهي في الجنة وعلى نحو الإرشاد والتنزيه، اما في الدنيا فان الناس مكلفون وجحودهم معصية، نعم الآيات مجتمعة تبين فضل الله تعالى على الإنسان وهي بشارة لتوالي نعم الجنة.
 
بحث بلاغي
جاءت هذه الآية [ وَكُلاَ ] بالواو، أما في سورة الأعراف فقد جاءت بالفاء [ فَكُلاَ ]، ويسمى في الإصطلاح البلاغي المتشابه من قسم إبدال حرف بحرف غيره، وهو من المتشابه باعتبار الأفراد، وهذه السورة  تفيد أن الأكل والإذن به متعقب للسكن للإشارة إلى حاجة الإنسان إلى الأكل مثلما هو محتاج للسكن والإقامة ولبيان عظيم فضل الله تعالى أولاً.
 ومع أن هذا التشابه والإبدال من مصاديق الإعجاز البلاغي في القرآن، فان منافعه ودلالاته لا تنحصر بالبلاغة، بل تشمل الأمور العقائدية والتي تكون على شعب منها:
الأول:  تعدد مضامين الفضل الإلهي على آدم وحواء.
الثاني: تعقب الأمر الإلهي لآدم وحواء بالسكن في الجنة بالأكل منها، فليس ثمة فترة بين السكن والإذن من الأكل، فحالما وقعت عيناهما على ثمار الجنة جاء الإذن والإباحة بالأكل منها.
الثالث: عدم وجود التكليف بالصوم في الجنة، فليس من نهي في زمان مخصوص، وهو من كرم الله تعالى، وفيه دعوة للإشتياق والسعي الى الجنة بأداء التكاليف، فيصلي المسلم كي يلقى البشارة ، ويفوز بالإقامة في الجنة، ويصوم شهر رمضان كي يأكل من ثمار الجنة في أي وقت شاء بفضل الله تعالى.
الرابع: حث العلماء على دراسة علم تعدد الحرف القرآني في الموضوع المتشابه ، وما له من الدلالات والبراهين ، والأهلية لإستنباط الدروس البلاغية والعلمية والإعجازية المتجددة منه.
وبيان لما في سورة الأعراف ولإقامة الحجة على الإنسان ودعوة إلى الجنة وترغيباً بها.
وزاد في سورة البقرة [رغدًا] ليكون على وجوه:
الأول: الرغد الهنيء، عن ابن مسعود وناس من الصحابة( ).
الثاني: سعة العيش، عن ابن عباس.
الثالث: هنيئاً واسعاً طيباً( ).
الرابع: رغداً: واسعاً، قاله الزمخشري( ).
الخامس: واسعاً كثيراً، قال الثعلبي( ).
السادس: الرغد الحلالي الذي لا حساب فيه، عن مجاهد( ).
ولا تعارض هذه الوجوه الأقوال، وكلها من مصاديق الآية ودلالات اللفظ من جهات:
الأولى: إنه نعمة من عند الله عز وجل.
الثانية: الرغد رزق كريم في الجنة، مما يدل على أنه أعم وأعظم مما يحيط به التصور الذهني.
الثالثة: جاء الرغد هبة من الله عز وجل لخليفته الذي أسجد له الملائكة.
الرابعة: لو ترد الأمر بين إرادة الإطلاق والتقييد في معاني الرغد فالصحيح هو الأول في باب النعم الإلهية على ما خلقه مطلقاً على الإنسان خاصة، وعلى الخليفة الذي نفخ فيه من روحه على نحو التعيين ويدل الجمع بين الرغد، والإطلاق المكاني في قوله تعالى(حيث شئتما) من الجنة أن ساكن الجنة يختلف عن الإنسان في الأرض من جهة مقدار الشبع والإختلاف في مقدرة على الأكل، وإمكان الزيادة والكثرة فيه الجنة.  
وفي الآية بيان للتباين بين السكن في الجنة والإقامة في الأرض وما فيها من العناء والمشقة ولكن هذا لا يعني إنتفاء الرغد والعيش السعيد في الدنيا على نحو السالبة الكلية إذ تغمر السعادة المؤمن وتسكن نفسه للذكر وينعم الله عز وجل على شطر من الناس بأنواع النعم ومنها لذيذ الطعام والشراب، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، ومن الإعجاز في الآية أعلاه عموم الخطاب لآدم وحواء وذريتهما بلحاظ أنهم جميعاً يدخلون في لفظ الناس، قال إمرئ القيس:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِماً … يَأْمِنُ الأحْدَاثَ في عَيْشٍ رَغَدْ ( ).
والجمع بين السكن في الجنة والإقامة في الأرض التباين بينهما دعوة للسعي الحثيث للبث الدائم في الجنة، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
بحث بلاغي آخر
من العلوم البلاغية في القرآن علم المبهمات ويتعلق بآيات القرآن التي وردت بذكر الأشخاص والوقائع على نحو الوصف أو القول أو الذكر الإجمالي، وهو غير العلم الذي إستأثر الله عز وجل به لنفسه.
ولا ينحصر موضوع الإبهام بعلم البلاغة بل يصلح ان يكون من مصاديق علوم أخرى لما فيه من المعارف الإلهية، ففيه من علم الغيب وعلم الأخلاق والتأويل وتفسير القرآن بالقرآن، فقد يأتي الموضوع مبهماً في موضع، ولكن بيانه وتفسيره يأتي في موضع آخر، وفيه من الأسرار ما لم تكتشف بعد، فهو من ذخائر القرآن التي تدعو العلماء لإقتباس وإستخراج العلوم منها.
ومن أقسام المبهم ما يتعين لإشتهاره كما في هذه الآية، فالقرآن لم يذكـر حواء بالاسم ولا يمكن ان يقال ان القرآن نزل وفق أعراف العـرب وكانوا يتنزهون عن ذكر النســاء في مجالسهم، فقد ورد ذكر (مريم) في أربعة وثلاثين موضعاً من القرآن، وحواء أم البشر جميعاً، ومن بين أسباب عدم ذكرها بالاسم وجوه:
الأول: إشتهارها ومعرفة الناس بها، إذ ليس لآدم زوجة غيرها.
الثاني: بيان موضوعية صفة الزوجية بالنسبة للمرأة.
الثالث: الإشتراك في النعم والإبتلاء بين الزوجين في الغالب.
الرابع: توجه الخطاب التكليفي للرجال والنساء معاً، فالآية تنبيه للنساء بمسؤولياتهن التكليفية. 
الخامس: الإشارة إلى ترتب الآثار الشرعية على العناوين الإضافية كالزوجية.
السادس: تشريف حواء بذكرها بصفة الزوجية لآدم وهو نبي، ونسبتها إليه في الأمر الإلهي والذكر في القرآن.
السابع: إقامة الحجة على الناس بمعرفتهم جميعاً مع إختلاف مللهم لحواء أنها أم البشر جميعاً، وأن تباين إسمها عندهم بلحاظ اللسان واللغة.
 
بحث كلامي
من وجوه الحذف في البلاغــة أن يسـتدل بالفعل لشيئـين وهو في الحقــيقة لأحدهـما، فيضمر للآخر ما يناسبه كما في قوله تعالى [ لَهُدِّمَتْ صَــوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَــلَوَاتٌ وَمَسَـاجِدُ ]( )، وان الصـلوات لا تهدم، فالتقدير: (ولتركت صلوات).
وبه قال ابن مالك في الآية محل البحث لأن فعل المخاطب لا يعمل في الظاهر، فهو بمعنى (اسـكن أنت ولتسكن زوجك)، لأن المعطوف هنا لا يصلح لما عمل بالمعطوف عليه فلا يقال: (أسكن زوجك).
وصيغة الخطاب لها معان عقائدية وفيها مضامين قدسية مباركة، فتوجه الخطاب الى آدم في السكن في الجنة هو وزوجته، بينما جاء الأمر بالأكل من الجنة بصيغة التثنية، وشمول حواء بعرض واحد معه في الأمر والإباحة ولغة الإكرام في الآية ، وكأن حواء ملحقة بآدم في السكن، أما بعد السكن فان الساكنين في الجنة بمرتبة واحدة في تلقي الخطاب , وفيه مسائل:
الأولى: توكيد موضوعية السكن في الجنة في الإكرام والفضل الإلهي لبيان وظائف الزوج في إصلاح زوجته لحسن العاقبة بإعانتها في فعل الخيرات وأداء الواجبات، والإحسان لها وتقريبها من منازل الهداية والتقوى.
الثانية: صيرورة الزوجة عوناً للرجل في دخول الجنة وليس من دور في المقام، بل كل فرد من الزوجين يكون عضداً وعوناً للآخر في إكتناز الصالحات، والفوز بالإقامة في الجنة.
وتوجه الأمر الإلهي بالسكن في الجنة إلى آدم مباشرة وإلى زوجته حواء بواسطته له دلالات تتعلق باكرامهما.
الثالثة: قيمومة الزوج.
الرابعة: المرأة من حيث السكن والإقامة مع الزوج ، وهو من اللطف الإلهي بآدم عليه السلام.
الخامسة: بشارة ودعوة لسكن النساء الجنة بعد إجتياز إختبارات الدنيا.
السادسة: إشارة إلى مسؤوليات ووظائف الزوج في موضوع سكن الزوجة وأسبابه.
السابعة: موضوعية الأسرة وكيانها في إستدامة الحياة في الأرض وعمل الصالحات.
الثامنة: لما خلقت حواء من آدم بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( )، جاءت آيات السكن في الجنة بالخطاب لآدم مع زكى الزوجة على نحو التعيين، وتجلت توبة حواء على نحو الخصوص بقوله تعالى[قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا]( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع، وأن أعوج شيء من الضلع رأسه، وإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته تركته وفيه عوج. فأستوصوا بالنساء خيراً.
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس قال: إنما سميت حواء لأنها أم كل شيء حي)( ).
تفسير قوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُما]
تحمل الآية عناوين الإطلاق المكاني، وتدل على السعة والتعدد سواء بالإنتقال في بقاع الجنة أو باختيار أنواع الثمار، ويبين إطلاق التخيير في الآية تعدد النعم وسعة الجنة وكثرة الثمار وانواع الطيبات.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على إنتفاء الحسد في الجنة فلا يصبو ساكنها إلى ما عند غيره ويتمناه لنفسه، فالأخلاق المذمومة معدومة في الجنة، وجاء خطاب الأكل على نحو الإثنينية والتعدد لعظيم إحسان وإكرام الله عز وجل لحواء ، ولأن المرأة تتبع بعلها في السكن، أما الطعام فلها ما تشتهي ولا يتعلق اختيارها بإختيار الزوج او مشيئته، بالإضافة إلى قوانين الإستقلال في التكليف كما تقدم في مفهوم الآية.
وتحتمل الإباحة والمشيئة الشخصية في الآية وجوهاً:
الأول: حيث يشاء آدم وحواء مجتمعين، فليس لأحدهما الإنفراد بالأكل من شجرة ما إلا مع أكل الآخر منها.
الثاني: كفاية رضا وإذن الآخر في أكل أحدهما من ثمار الجنة.
الثالث: الآية إنحلالية، فكل فرد منهما له الحق بالأكل من أي شجرة من شجر الجنة عدا الشجرة المنهي عنها.
الرابع: لآدم الحق بالأكل من الجنة حيث يشاء، أما حواء فيتوقف  أكلها على الإذن من آدم.
والصحيح هو الثالث، فلكل واحد منهما أن يأكل كيف وحيث يشاء متفرقين ومجتمعين، وهو من فضل الله تعالى على آدم وحواء لذا جاء الأمر بالهبوط الى الأرض لهما معاً ، بعد أكلهما من الشجرة التي ورد النهي بخصوصها.
ترى ماذا لو أكل أحدهما من الشجرة دون الآخر فيه وجوه:
الأول: العفو الإلهي عن الذي أكل.
الثاني: توجيه اللوم الى الآكل وحده بالخروج من الجنة.
الثالث: جعل آدم وحواء في مقام وسكن برزخ بين الجنة والأرض بقدرة الله تعالى.
الرابع: خروجهما معاً من الجنة، وإن حصل الأكل المنهي عنه من أحدهما.
الخامس: تعرض آدم وحواء لإمتحان وإختبار آخر يتخلفان معاً عن إجتيازه.
السادس: تأخر خروجهما من الجنة لحين أكل الثاني منها.
وتدل الآية على الظاهر على أكل آدم وحواء من الشجرة المنهي عنها في وقت واحد، وهو المتبادر من مضمونها، وللمصاحبة والملازمة بين آدم وحواء، وإغواء إبليس لهما معاً وإشارته إلى تلك الشجرة إلا أن يرد دليل على الخلاف، وهو معدوم.
لقد جاءت الآية بالإخبار عن أكلهما من الشجرة، وهبوطهما معاً بعد الأكل منها، وهو في علم الله تعالى قبل أن يخلق آدم وحواء، وذكرت وجوه أخرى ومناقشتها نقضاً وإبراماً، وطرداً وعكساً وترجيح بعضها بغير دليل أمر زائد ولا أصل له، إلا أن تكون فيه ثمرة علمية، وإستقراء من مضامين الآيات المباركات.
ولم تذكر الآية الشرب، ولكن الإباحة تشمله لوجوه:
الأول: إنه ملحق بالأكل.
الثاني: إن وجود الثمار الكثيرة المتعددة في الجنة دليل على وجود الماء الكثير والأنهار التي تسقى منها.
الثالث: جاءت الآيات بالإخبار عن جريان الأنهار في الجنة.
الرابع: إفادة كلمة (رغداً) معنى السعة والأكل والشرب.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ ]
نهي إرشادي بعدم الإقتراب من شجرة بعينها، وفسر الإقتراب هنا بالأكل، كما ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: “ولا تقربا هذه الشجرة يعني: لا تأكلا منها”( ).
ولا يمنع هذا من فهم التحذير من الإقتراب، والدنو من تلك الشــجرة بإعتبار أن الإقتراب مقــدمة عقـلية للأكل او أن الإقتراب يسهل الإفتتان، ويجعل إبليس يطمع في الإغواء وإظهار المكر.
وإختلف في النهي الوارد في الآية هل هو نهي تحريمي أو تنزيهي، والظاهر أنه تنزيهي ، ومال اليه الفخر الرازي بقوله: (وهذا هو الأولى بهذا المقام لان على هذا التقدير يرجع معصية آدم الى ترك الأولى، ومعلوم ان كل مذهب كان افضى إلى عصمة الانبياء عليهم السلام كان أولى بالقبول)( ).
وقال جماعة بان النهي تحريمي وليس تنزيهياً لوجوه:
الأول: إفادة النهي عن الإقتراب الحرمة كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ] وحرمة وطئ الزوجة إذا كانت حائضاً حتى تطهر.
الثاني: بيان عاقبة الأكل من الشجرة بقوله تعالى [فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] فالأكل منها ظلم، ووردت آية أخرى بتقييد الظلم بانه للنفس فلما أكلا منها إعترفا بظلمهما .
والأصل في النهي انه يفيد الحرمة إلا مع القرينة التي تدل على الكراهة، وهو مشهور الأصوليين.
الثالث: إخراج آدم وحواء من الجنة بسبب الأكل من الشجرة دليل على أن النهي تحريمي، ولكن جاءت الآية بنسبة الإخراج إلى إغواء إبليس كسبب، لقوله تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ). 
 ولكن هذه النسبة لم تكن مانعاً على نحو السالبة الكلية من ترتب الأثر على أكل آدم وحواء من الشجرة كما هو ظاهر الآيات ، منها قوله تعالى[فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا]( )
الأول: ظلم آدم وحواء لنفسيهما دون ذريتهما.
الثاني:ظلمهما لنفسيهما وذريتهما , بمغادرة نعيم الجنة , وحرمان الأبناء منه.
الثالث: الإطلاق في الظلم وأنه يشمل أيضاً ظلمهما لإبليس بالإستماع له في إغوائه.
والصحيح هو الأول لقوله تعالى [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا] لوجوه:
الأول: مجئ صيغة الجمع في قوله تعالى (ظلمنا، وانفسنا) والإثنان أقل الجمع.
الثاني: خلق الله تعالى آدم عليه السلام ليكون خليفة في الأرض، وتعيش ذريته في الأرض.
الثالث: مغفرة الله تعالى لآدم وحواء ، قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ] ( ).
وهناك قاعدة كلية وهي أن ثمار الجنة التي أعد الله ليس فيها ما هو محرم.
وأختلف في الشجرة التي أمر الله آدم وزوجه بعدم الإقتراب منها على أقوال:
الأول: روي عن الإمام علي انها شجرة الكافور( ).
الثاني: انها شجرة البر السنبلة، نسبه مجاهد وسعيد بن جبير والسدي الى ابن عباس، كما نسبه السدي إلى ابن مسعود.
الثالث: عن ابن مسعود هي الكرمة، وبه قال السُدي عن ابن عباس ايضاً( ).
الرابع: عن ابن جريج ومجاهد وقتادة أنها التين.
الخامس: عن الكلبي هي شجرة العلم، علم الخير والشر.
السادس: عن ابن جذعان هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة.
السابع: قال الربيع بن انس: كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي ان يكون في الجنة حدث( ).
الثامن:  ( روي أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال: “هي الشجرة المباركة السنبلة”( ).
التاسع: عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا يا ابن رســول الله أخبرني عن الشـجرة التي أكل منهــا آدم وحــواء ما كــانــت فقــد إخــتــلف الناس فيها فمنهم من يــروي أنها الحنطــة، ومنهم من يــروي بأنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال عليه السلام: كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على إختــلافهـا؟ فقال يا ابن الصلت: ان شجرة الجنّة تحمل انواعاً، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا.
ويظهر الحديث سعة وتعدد علوم القرآن، ويدل على الاسرار الخفية في الآيات القرآنية وانها تتضمن وجوهاً من العلم يعجز البشر عن إدراكها بأوهامهم ذات القدرة المحدودة .
وبذا يظهر عدم التعارض في الأقوال وما ورد عن الصحابة في المقام  من العلوم التي تستوعب الأقوال الصحيحة والأخبار التي لا تتجافى عن الحق والإنصاف. وفيه بيان لعظيم فضل الله تعالى على آدم ، وما ينتظر المؤمنين من النعيم الذي لا يخطر على قلب أحد.
وقالت المعتزلة بان الأكـل من الشجرة من صغائر الذنوب، ثم إختــلفوا في نوع الذنب الذي صدر من آدم على وجوه:
الأول: جاء على سبيل العمد.
الثاني: حدث سهواً.
الثالث: قام آدم بتأويل النهي.
ان الذنوب تقسم الى كبائر وصغائر وان ذهب قوم الى اعتبارها كلها كبائر، وان الصغائر بلحاظ نسبتها ومقارنتها بما هو اكبر منها من الذنوب، ولكن إطلاق اسم الذنب على الفعل يحتاج إلى دليل، ومع الإحتمال يبطل الإستدلال خصوصاً مع القول بعصمة الأنبياء وان التكليف في عالم  الدنيا.
وفي هذا الأمر الإلهي والتقييد تشريف آخر لآدم وهو الإمتحان والإبتلاء وورود النهي مع الأمر، والمنع مع الرخصة والإباحة، ومادة هذا التشريف هو إختيار الفعل طاعة لله تعالى ففي كل طــاعة أجر وثواب مركب، ثــواب لإتيـانه طاعة لله عز وجل وثواب لإجتنــاب المعصــية لتصبح الدنيا مزرعة لجني مصاديق الثواب ويكون حصاد الصالحات أجراً وجزاء كريماً.
 ويحتمل النهي في كيفيته وجوهاً:
الأول: نهي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة مجتمعين وفي آن واحد.
الثاني: الأكل من الشجرة مباشرة بالإقتطاف.
الثالث: الإفتراق والتباين الزماني في أكلهما من الشجرة، فيصح الأكل وإن أكل أحدهما في زمان , والثاني في زمان آخر.
الرابع: لزوم تحقق قيد الإقتراب من الشجرة فاذا إقتطف أحدهما وأتى بالثمر للآخر، ينحصر النهي بالذي إقتطف وأكل دون الآخر الذي أكل منها عن بعد.
الخامس: إشتراط الأكل من الشجرة، فلا يصدق النهي على الإقتراب وحده ، وان جاءت الآية به لكنه كناية عن الأكل، وتحذير من مقدماته.
السادس: التباين في العقوبة بين الذي  يقتطف ويأكل وبين الذي يأكل عن بعد ومن غير إشتراك بالإقتطاف من الشجرة.
وكل الوجوه صحيحة عدا الوجه الرابع والسادس أعلاه وبلحاظ التفسير الذاتي للقرآن، قال تعالى [فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] ( ).
ومن فلسفة النهي عن الأكل من الشجرة أمور:
الأول:  إنها مدرسة للإعتبار والموعظة في الدنيا ليبقى بنو آدم حذرين من تكرار ما أقدم عليه آدم من الأكل من الشجرة.
الثاني: الإعتبار بما سببه الأكل من الأذى والمشاق والعناء بالنزول إلى الأرض.
الثالث: إن الإنسان إذا إرتكب ذنباً، وقد سبق علمه بلزوم إجتنابه فلا يبتئس وييأس من فضل الله تعالى بل يدرك أن بامكانه اللجوء الى باب التوبة والإستغفار.
الرابع: عدم مقاطعة ومحاربة الناس لمن يذنب ما دام الذنب لا يستحق الإعراض والصدود عنه تأديباً بل ينصحونه بالتوجه للإستغفار والإنابة.
الخامس: إعتماد مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدرجاً وكل بحسب حاله وعدم التوجه إلى أعلاها من الضرب والزجر باليد.
السادس: لقد كان أكل آدم من الشجرة زلة شخصية أراد الله عز وجل لها ان تكون عبرة وموعظة ودرساً حاضراً عند كل إنسان للتدارك والتوبة والندم، فلا غرابة إذن أن تجد خطيئة آدم عند كل الملل والأديان مع إختلاف جزئي قليل، ولعله شاهد نوعي عام، ودعوة الناس للإعتبار والإتعاظ وإدراك حقيقة فتح باب التوبة.
السابع: إنها جزء من حكمة الله تعالى في نزول آدم الى الأرض وحياة الإنسان وتنمية ملكة التوبة وصيغ التدارك والتضرع عنده، كما نزلت الصلاة فريضة ملازمة له في سكنه الأرض.
 
ذكر ان الزهري( ) رأى في منامه كأن يده مخضوبة فطلب تعبيرها فقيل له: إنك تبتلى بدم خطأ وكان عاملاً لبني أمية فعاقب رجلاً فمات في العقوبة فخرج هارباً فتوحش ودخل الى غار وطال شعره، فحج علي بن الحسين فقيل له: هل لك في الزهري فذهب ودخل عليه وقال له: اني اخاف عليك من قنوطك ما لا اخاف عليك من ذنبك، فابعث بدية مسلمة إلى أهله وأخرج الى أهلك ومعالم دينك، قال الزهري: فرجت عني سيدي .
 وكان الزهري بعد ذلك يقول: ينادي مناد يوم القيامة ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين.
الثامن: القرآن يفسر بعضــه بعضــاً وما ورد فيه من إخبار الله تعالى للمـلائــكــة [ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً ]( )  دليل على أن مكث آدم في الجنة مكث مؤقت ومتزلزل ، فلابد له من النزول الى الأرض والحياة فيها.
التاسع: الخلافة في الأرض عنوان ثابت وإكرام مستديم لا يتأثر بالأكل من الشجرة وبذا إستحق آدم سجود الملائكة له لصفة الخلافة، وجاء الأكل من الشجرة متقدماً زماناً عن موضوع الخلافة أي ان آدم لم يباشر بعد وظائف الخلافة في الأرض التي تتجلى في أبهى صورها بالعبادة والتقوى والفرائض ومسؤوليات النبوة والإمامة , وتكون التوبة ظهيراً وحرزاً وكنزاً.
العاشر:  من فلسفة الأكل الحرص على إجتناب المعصية قبل أن تصل النوبة إلى التوبة، فمعرفة العبد بقرب التوبة والإستغفار لا تعني بالضرورة إغراءه على المعاصي لوجود التوبة بل هو فضل إلهي يظهر من خلاله ان الإستقامة والتنزه من الذنوب هو الأفضل والأكمل الذي تحرز فيه السلامة.
الحادي عشر: إنه موعظة ودرس للملائكة الذين قالوا [ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا  ]( )، فقد علموا كيف أن الله تعالى أدبّ آدم وجعله متهيئاً للسكن في الأرض بالحذر من تجدد المعصية، فهو من علم الله عز وجل، وان الخلافة لم تأت دفعة واحدة بل بالإعداد والإكرام المتصل.
الثاني عشر: انها تشويق وجذب لآدم وذريته للجنة، بان يتأسفوا للهبوط عنها، ويحرصوا على إجتناب ما يؤدي بهم إلى الحرمان منها في الآخرة.
وورد بطرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: احتج آدم وموسى فقال موسى: أنت خلقك الله بيده، أسكنك جنته، وأسند لك ملائكته، فأخرجت ذريتك من الجنة، وأشقيتهم؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ورسالاته، تلومني في شيء وجدته قد قدر عليّ قبل أن أخلق؟ فحج آدم موسى)( ).
وقال الرازي(قال القاضي هذا الحديث لم يقبله علماء التوحيد، لأنه يوجب أن لا يلام أحد على شيء من الذنوب، لأنه إن كان آدم لا يجوز لموسى أن يلومه على عمل كتبه الله عليه قبل أن يخلقه، فكذلك كل مذنب فإن صحت هذه الحجة لآدم عليه السلام، فلماذا قال موسى عليه السلام في الوكزة هذا من عمل الشيطان، إنه عدو مضل مبين؟ ولما قال فلن أكون ظهيراً للمجرمين؟ ولماذا لام فرعون وجنوده على أمر كتبه الله عليهم؟ ومن عجيب أمرهم أنهم يكفرون القدرية .
 وهذا الحديث يوجب أن آدم كان قدرياً ، فلزمهم أن يكفروه، وكيف يجوز مع قول آدم وحواء عليهما السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} أن يحتج على موسى بأنه لا لوم عليه، وقد كتب عليه ذلك قبل أن يخلقه، هذا جملة كلام القاضي فيقال له هب أنك لا تقبل ذلك الخبر، فهل ترد هذه الآية أم لا)( ).
ويرد على القاضي من وجوه:
الأول: يتعلق الحديث بعالم السماء ووجود آدم في الجنة.
الثاني: يظهر أن نواميس الجنة غير نواميس الأرض.
الثالث: الأمر الذي يقدره الله في البعثة لابد وان يحدث.
الرابع: لقد أراد الله عز وجل لآدم أن يكون خليفة لقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فيكون المقدر على آدم في الحديث هو هبوطه إلى الأرض، فلو لم ينزل بالأكل من الشجرة لإبتلاه الله بغير الأكل منها وأهبطه وحواء إلى الأرض.
الخامس: تعددت الروايات الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحديث(حج آدم موسى) فلابد من تأويله.
السادس: قول آدم في الحديث: أنت موسى الذي إصطفاك الله بكلامه ورسالاته) تذكير من آدم لعظيم النعم التي نالها موسى بسبب هبوط آدم إلى الأرض، وأن هذا الهبوط ليس سوءً كل بل خير محض وبركة لأهل الإيمان.
(وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هبط آدم وحواء عريانين جميعاً، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر حتى قَعَدَ يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر، فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغزل وعلمها، وعلم آدم وأمر آدم بالحياكة وعلمه، وكان لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها، وكان كل منهما ينام على حدة حتى جاءه جبريل فأمره أن يأتي أهله وعلمه كيف يأتيها، فلما أتاها جاءه جبريل فقال: كيف وجدت امرأتك؟ قال: صالحة)( ). 
وهل تكون هذه الآية وما فيها من المنع من شجرة مخصوصة مقيدة للإطلاق في قوله تعالى في وصف ثمار الجنة[لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( )، الجواب لا، للتباين الموضوعي .
 فتتعلق الآية أعلاه بالجنة كثواب وجزاء دائم للمؤمنين، وهو خالية من إبليس ووسوسته، وسوف يدخلها آدم وحواء وبالنسبة لحال الشجرة التي منعا منها يوم القيامة، فيه وجوه:
الأول: تلك الشجرة غير موجودة في جنة الآخرة.
الثاني: جواز الأكل من تلك الشجرة لأن الإقامة في الجنة جزاء وثواب وعلى نحو الخلود والدوام.
الثالث: حضور الشجرة ذاتها عندما يطلب رؤيتها بعض أهل الجنة.
والأرجح هو الأول، وفنائها من غضب الله عز وجل على إبليس في تعديه وإغوائه لآدم وحواء، من توبة الله عليها في قوله تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ]( ). 
تفسير قوله تعالى [فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]
لغة الإطلاق في الظلم أعم من كونه وجهاً واحداً من وجوه الظلم وهو ظلم النفس بأدنى صوره من الغفلة عما هو أرجح وأولى لها وأكثر نفعاً، (وفي الحديث: ان الظلم ثلاثة، ظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد لنفسه عند بعض الهنات يعني الصغيرة من الزلات، واما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً) .
 وهذا لا يمنع من القول بان في الآية الكريمة أمرين، أمر إباحة وأمر تكليف، أما الأول فهو الإذن بأن ينال آدم من ثمار الجنة وما فيها من النعم، وأما الثاني فهو المنع من شجرة بعينها كما يبدو الإبتلاء ملازماً للتكليف.
لقد كان موضوع الشجرة المنهي عنها مدرسة في الإبتلاء واجهت الإنسان في بدايات خلقه، ولكنها لا تخــرج عن العلة الغائية لخلق الإنسان وهي العبـــادة ســواء بموضوعها أو ما يترتب عليها، لقد أراد الله عز وجل للعباد معرفة كيفية التدارك وان الذنب يمحى، والخطأ يصحح، والمعصــيــة تــزول بالتــوبـة والصلاح وإظهار الطاعة ونبذ المعصية.
وجاءت الآيات بإكرام آدم وأنه خليفة الله وسجد له الملائكة ثم جاءت هذه الآية بالتحذير والزجر بخصوص شجرة معينة، فالإكرام لا يتعارض مع الحكم الشرعي، ولغة الزجر لا تخرج عن صيغ الإكرام بل انها مقدمة لتعاهد الإكرام ودوام الفضل الإلهي لأن الآية لم ترم آدم بالظلم، بل حذرته من الأكل، وحينما أكل وحواء منها هل إستحقا صفة الظلم.
الجواب: قيدت الآية الظلم بقيامهما بالأكل إختياراً، والآية التالية أخبرت بان الشيطان هو الذي أزلهما، ولكن هذا لم يمنع من حصول الأكل واقعاً ، ووالظاهر الملازمة بين الأكل والظلم، وترتب الثاني على الأول ، ولورود الإقرار [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا].
بحث اصولي
مما لا خلاف فيه ان مادة الأمر موضوعة لمعنى الطلب الإنشائي ويستفاد منه إرادة البعث على الفعل ذي الشأن والأهمية، ويســتقرأ هذا الشــأن من توجـه الطلب لإتيانه على نحو الخصوص وإن كان مردداً ويحمل طابع التخيير بين إثنين أو أكثر.
ومنهم من قال بأن الطلب من مصاديق الأمر فيكون حينئذ من المشترك اللفظي إذ تستعمل كلمة الأمر للحادثة والشيء والواقعة والغرض والفعل. وقيل ان الامر وضع للطلب والشيء وباقي المعاني تتفرع منه.
لكن الخلاف صغروي لأن المراد يعرف بالقرائن كما ان الأمر الذي يفيد معنى الطلب يجمع على أوامر، والأمر الذي يعني الحادثة والشيء ونحوهما يجمع على أمور.
والمشهور شهرة عظيمة بين الأصوليين ان الأمر ظاهر في الوجوب وهو المتبادر والمختار، وأختلف في أصل هذا الظهور، فالمشهور قال إنه الوضع أي انه وضع للطلب الوجوبي، ومنهم من قال ان منشأه حكم العقل بوجوب الإمتثال وطاعة الأمر، ومع القرينة الصارفة فإن الأمر ينصرف الى الإستحباب والندب.
والظاهر ان الأمر بعدم الأكل من الشجرة للندب والإستحباب ، وهل الأوامر في الجنة تحمل على الإستحباب مطلقاً، وليس الوجوب، الجواب لا، فقد ورد ذم إبليس ولعنه لإمتناعه عن السجود لآدم، وتركه لما يجب فعله، ولايجوز تركه.
 وهل يمكن القول لو كان الأمر للوجوب لإمتثل آدم وحواء، وربما منع الله سبحانه أكلهما منها لعناوين الإكرام والعناية التي شملتهما في الجنة، الجواب لا، لقد ورد النهي عن الأكل من الشجرة صريحاً واضحاً ، وفيه وما ترتب عليه من الأثر وموضوع الهبوط دعوة للناس للتقيد بأحكام التكاليف وما فيها من الأوامر والنواهي، فقد تفضل الله وجعل الأحكام خالية من اللبس وممتنعة عن الترديد.
***********
 
 
 
 
 
 
 
 
 
قوله تعالى [فَأَزَلَّهما الشَّـيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ  وَقُلنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] الآية36.  
الإعراب واللغة
فازلهما: الفاء عاطفة على محذوف مقدر، أزل: فعل ماض مبني على الفتح، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به , والميم والألف حرفان يدلان على التثنية .
 الشيطان: فاعل مرفوع بالضمة ، فاخرجهما: عطف على أزلهما، ويحتمل الضمير(الهاء) في عائديته وجهين:
الأول: إن الله هو الذي أخرج آدم وحواء من الجنة.
الثاني: إرادة معنى التسبيب وأن الشيطان هو الذي سبب في خروجهما، وصحيح أن الخروج من الجنة لم يتم إلا بأمر الله عز وجل إلا أن الآية جاءت لبيان علة حرمان آدم وحواء من نعيم الجنة، وبوء إبليس بإثمه فهو لم يزلهما فقط بالأكل من الشجرة، بل سبّب في خروجهما من الجنة، وقد أخرج كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى يثرب , قال تعالى[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ]( ) .
 ومن مصاديق نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودحر إبليس وجنوده من الجن والأنس قوله تعالى[كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
مما: جار ومجرور متعلقان بأخرجهما، كانا: فعل ماض ناقص والألف إسمها، فيه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر(كانا).
وقلنا: الواو: حرف عطف، قلنا: فعل وفاعل، إهبطوا: فعل أمر مبني على حذف النون لإتصاله بواو الجماعة، الواو: فاعل، والجملة مقول القول.
بعضكم : مبتدأ , والضمير الكاف مضاف اليه، لبعض: جار ومجرور، عدو: خبر مرفوع.
وجملة بعضكم لبعض عدو جملة إسمية في محل نصب حال , والتقدير إهبطوا متعادين.
ولكم: الواو: حرف عطف.
لكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
في الأرض: جار ومجرور، مستقر: مبتدأ مؤخر، ومتاع: عطف على مستقر، إلى حين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة متاع، أي متصل إلى يوم القيامة.
أزلهما: نحّــاهمـا خــديعــة ومكـراً، وحملــهمـا على الزلل، وهــو الخطــأ والذنــب، ودعــاهــمـا الى ما فيه المـزلة ومنازل الخطر.
والشيطان في اللغة كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب، وجاء في المقام إسماً لإبليس لإعتباره آنذاك اسم علم يدل على فرد معين بقيد التشخص والتعين , ولم يكن مشتركاً بين أفراد متعددين، وأصل الشطن: البعد، أي انه إبتعد عن رحمة الله.
والهبوط: الإنحطاط من علو الى سفل، والنزول من الأرقى الى الأدنى.
والمستقر: المكان الذي يكون فيه الإنسان مستقراً، ولم تقترن مع الحلول به نية الرحيل عنه.
المتاع: الإنتفاع وما فيه إشباع رغبة النفس وحاجاتها.
وحين: ظرف زمان بمعنى الوقت والزمان والغاية المؤقتة، وقيل ان الحين ستة أشهر وإستشهد بقوله تعالى [ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا]( ) ولكن الحين يقع على الكثير والقليل من الزمان، وانما يعرف المقصود منه ومدته بالقرينة.
في سياق الآيات
تظهر الآية الإنعطاف الكبير في حياة الإنسان، فبعد الإكرام والإجلال وسجود الملائكة جاء إغواء الشيطان، ليكون سبباً في هبوط الإنسان إلى دار البلاء والإمتحان.
ولم يأتِ الهبوط إلا بعد الإنذار والتحذير الإلهي بعدم الإقتراب من تلك الشجرة.
وتبين الآية ان خلق آدم في الجنة أمر له شـأن عظيم، لقد أراد الله تعالى ان تكون بداية الإنسان كريمة، وان تبدأ في الجنة وتنتهي في الجنة وبين البداية والنهاية عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: كلا الأمرين من فضل الله ورحمته بالإنسان.
الثاني: إتحاد جنس الجنة.
الثالث: النعم العظيمة التي في الجنة.
الرابع: كل من الجنتين ترغيب للإنسان في عمل الصالحات وإجتناب ما نهى الله عنه.
الخامس: كلتا الجنتين مخلوقتان.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: السكن الأول في الجنة خاص بآدم وحواء، وفي الآخرة شامل للأنبياء والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
الثاني: السكن الأول فضل محض من الله تعالى على آدم، أما الأخير فهو أيضاً فضل من عند الله ولكنه يحمل صفة الجزاء الذي هو لطف وفضل إلهي على الناس.
الثالث: في السكن الأول هناك إستثناء في الأكل من شجر الجنة بتعيين شجرة لا يأكل منها آدم وحواء، أما في الآخرة فليس ثمة إستثناء.
الرابع: في الجنة الأولى كان إبليس موجوداً مع آدم وإستطاع أن يغويه وزوجه ، أما في جنة الآخرة فلا يقرب إبليس من آدم ولا زوجه ولا أهل الجنان مطلقاً لأنه سيكون خالداً في النار.
الخامس: تدل هذه الآية على أكل آدم وحواء من شجر الجنة، أما في جنة الآخرة فالنعم أعظم وأكثر لأن فيها ما يشتهي أصحابها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، أي أكثر مما رآه آدم وحواء في الجنة الأولى.
السادس: لقد أنتهى سكن آدم في الجنة الأولى بالخروج منها والهبوط إلى الأرض، أما جنة الآخرة فهي نعيم دائم وخلود مستقر فلا خروج أو هبوط منها.
السابع: ذكرت هذه الآية جنة واحدة، أما في الآخرة فالجنان متعددة.
الثامن: لقد سكن الإنسان الجنة الأولى بشخص آدم عليه السلام وحواء، ويتلقى الناس أخبارها على أنها من الماضي , أما جنة الآخرة فلم يأتِ زمانها لتكون الأولى عوناً للمسلمين في الإجتهاد لسكن جنة الآخرة وتبعث في نفوسهم الشوق الى نعيمها.
والصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية وآية[فَسَوَّاهُنَّ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: نزول آدم وحواء إلى الأرض التي خلق الله عز وجل ما فيها من الرزق الكريم لهما ولذريتهما.
الثانية: توكيد حقيقة وهي خلق آدم للأرض ولا بد من هبوطه لها. 
الثالثة: السموات والأرض وما فيهن من خلق وملك الله عز وجل.
الرابعة: دعوة الناس للإتعاظ والإعتبار والإيمان لما في الجمع بين الآيتين من بيان عظيم قدرة الله عز وجل.
الخامسة: لم يفعل الشيطان أمراً خارجاً عن مشيئة وقدرة الله، لأنه أزل آدم وحواء فهبطا إلى ما جعله الله عز وجل مستقراً لهما.
السادسة: الترغيب بالجنة وفعل الصالحات للإنتقال إليها لما فيها من النعم والخلود وخلوها من العداوة.
الثاني: الصلة بين آية[خَلِيفَةً]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان خزي الشيطان لأنه أزل آدم، فخرج من الجنة ولكن الله أنعم على آدم مرة أخرى , وجعله خليفة في الأرض.
الثانية: توكيد حقيقة خلق آدم في الجنة أولاً ثم هبوطه إلى الأرض.
الثالثة: موضوع هبوط آدم وحواء هو الإستقرار في الأرض والتمتع غير الدائم فيها، وجاء موضوع إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]، بالعرض ومن أسباب العداوة والفتن التي يثيرها الشيطان.
الثالث: الصلة بين آية[وَعلم آدم]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على آدم بأنه لم يهبط إلى الأرض إلا بسلاح العلم.
الثانية: إقامة الحجة على الإنسان بالعلم الذي رزقه الله عز وجل.
الثالثة: قدرة آدم وحواء على التوقي من إبليس ووسوسته بالعلم الذي علّمه الله آدم.
الرابع: الصلة بين آية (قالوا سبحانك) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان منزلة آدم بين الخلائق.
الثانية: لم ينزل آدم إلى الأرض إلا بعد إقرار أهل السماء بعلو مرتبته وشأنه.
الثالثة: طمأنينة الملائكة إلى أهلية وقدرة آدم لمواجهة عداوة وإغواء إبليس وهذا لا يتعارض مع إفادة الآيتين تحذير الإنسان من عداوته.
الخامس: الصلة بين آية (أنبئهم بأسمائهم) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: أهلية آدم لتعليم الملائكة، وتعليم الخلائق الأخرى من باب الأولوية القطعية لعظيم منزلة الملائكة ورفعة شأنها، وفيه إشارة إلى حال الإرتقاء التي تحصل في الأرض بالعلم الذي أودعه الله آدم والتنزيل وسنن النبوة.
الثانية: ذكر الله عز وجل علمه بغيب السماوات والأرض دليل على شأن الأرض في الكون , وما فيها من الذخائر , وفي حديث يوسف عليه السلام مع ملك مصر , ورد في التنزيل[اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ). 
الثالثة: من غيب الأرض الذي يعلمه الله عز وجل هبوط آدم خليفة فيها، وأن موضوع الخليفة فيها من الإرادة التكوينية وعمومات قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
السادس: الصلة بين آية[اسْجُدُوا لآدَمَ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: لم يهبط آدم عليه السلام إلى الأرض إلا بعد أن سجد له الملائكة، وفيه تشريف لمقام آدم.
الثانية: بيان منزلة الخليفة في الأرض بأن سجد الملائكة له.
الثالثة: توثيق معصية إبليس بإمتناعه عن السجود لآدم.
الرابعة: تحذير آدم وحواء من وسوسة وإغواء إبليس لأنه أظهر عداوته بمعصيته لأمر الله بالسجود لآدم.
الخامسة: نعت إبليس في الآية أعلاه بأنه (من الكافرين) إخبار عن الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا، والصراع فيها بين الإيمان والكفر.
السادسة: بيان عظيم فضل الله عز وجل على آدم بفضح وخزي إبليس في الجنة وإظهار سبب عداوته لآدم وتأصل هذه العداوة، مما يستلزم حذر الإنسان ذكراً أو أنثى من إبليس.
السابعة: تحذير آدم وذريته من عداوة إبليس.
الثامنة: بيان الصلة الحميدة بين الملائكة وآدم، والعداوة بينه وبين الشيطان.
التاسعة: حجب إبليس للصلة اليومية التي كانت بين آدم والملائكة.
العاشرة: لئن أزل الشيطان آدم وحواء وحرمهما من نعيم الجنة , فإن الله عز وجل واسع كريم تفضل وجعل الأرض مستقراً ومتاعاً للناس، وهو من مصاديق خاتمة الآية أعلاه[إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ].
الحادية عشرة: جاءت مضامين الآية أعلاه لتحذير آدم من إغواء إبليس، فمن مصاديق وأفراد العلم الحيطة والحذر من إبليس، ولزوم التقيد بالنهي الإلهي بعدم الأكل من الشجرة.
السابع: الصلة بين الآية السابقة آية[يَاآدَمُ اسْكُنْ]( )، ،وبين هذه الآية , وفيها مسائل:
الأولى: نيل آدم وحواء مرتبة عظيمة بأن جمعا السكن في السماء وفي الأرض.
الثانية: سبق النهي والزجر والتحذير الإلهي لآدم في موضوع الأكل من الشجرة.
الثالثة: مصاحبة حواء لآدم في الجنة، وفي الهبوط إلى الأرض.
الرابعة: جاء الخطاب في الجنة إلى آدم [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ] بينما جاء الأمر بالهبوط والإستقرار في الأرض لهما ولإبليس بعرض واحد، وفيه إشارة إلى عالم التكاليف في الأرض , وأن الخطاب التكليفي يتوجه إلى المرأة على نحو مستقل مثلما يتوجه إلى الرجل.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول:الصلة بين هذه الآية وآية[فَتَلَقَّى]( )، وفيها مسائل:
الأولى: بيان اللطف الإلهي بآدم بملازمة التوبة عنه لهبوطه في الأرض.
الثانية: الكلمات التي تلقاها آدم من الله واقية من عداوة إبليس، وفيه توكيد لفضل الله عز وجل على الإنسان.
الثالثة: إبتداء حياة الإنسان في الأرض بالتوبة والمغفرة، مما يدل على عدم ترتب الأثر على الأكل من الشجرة، بخلاف إبليس الذي لم تنله التوبة.
الرابعة: التوبة عن آدم حرز من عداوة إبليس.
الخامسة : إبتدأت كل من الآيتين بحرف العطف الفاء فبعد الزلل جاءت الكلمات من الله عز وجل لتوبة آدم، وفيه وجوه:
الأول : إنه آية في إكرام الله عز وجل لآدم عليه السلام.
الثاني : توبة الله عز وجل العاجلة على آدم من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : من خصائص الخلافة في الأرض تغشي الإنسان باللطف الإلهي بتقريبه إلى منازل التوبة، وتجلى في الآية التالية بتلقي آدم كلمات من الله.
الرابع : ذكرت هذه الآية أمر الله بالهبوط بصيغة الجمع(إهبطوا) لآدم وحواء وإبليس، أما الآية التالية فذكرت التوبة بخصوص آدم، ولم تذكر حواء، وهي مشمولة معه بالتبعية والإلحاق، وإرشاد آدم لها للإنابة والتوبة أما إبليس فإنه سأل النظرة والإمهال، وفي التنزيل[قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
الخامس : من خصائص الهبوط وما يلازمه أنه باب للتوبة والعفو من الله، ويمكن تسمية العبوط بأنه(هبوط التوبة).
السادس : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن هبوط آدم ليس برزخاً أو مانعاً من تكليم الله عز وجل لآدم وتلقي الكلمات منه سبحانه، وهو بشارة وإخبار عن نزول الكتب السماوية والوحي على الأنبياء الذين إختصهم الله بشرف الوساطة بينه وبين الناس، وفي التنزيل[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
السابع : يعيش الإنسان في الأرض برحمة الله، وشآبيب التوبة التي تكون مناسبة وسبب لنزول الرزق الكريم.
الثامن : الآية التالية وسيلة للتخفيف عن آدم وحواء بمغادرة الجنة، ومادة لزوال الغم والحزن لأنها جاءت بالتوبة وأختتمت بإسمين من أسماء الله(التواب الرحيم) وبما يبعث السكينة في نفوس الناس جميعاً، لما تدل عليه من عمومات التوبة والمغفرة.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [قُلْنَا اهْبِطُوا]( )، وفيها مسائل:
الأولى: بين الآيتين عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي تكرار موضوع الهبوط، ومادة الإفتراق ذكر إغواء الشيطان لآدم وحواء في هذه الآية .
الثانية: توكيد خسارة إبليس بإصراره على المعصية، وعدم تلقيه أسباب التوبة والإنابة.
الثالثة: بيان أن الدنيا دار عمل وإنابة وتوبة , وآدم هو أول الناس الذين إنتفعوا من باب التوبة , وفيه دعوة لهم جميعاً للإقتداء بسنته , قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ). 
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا]( )، وفيها مسائل:
الأولى: قيام الحجة على الناس بآيات الله.
الثانية: ترشح منافع التوبة على ذرية آدم، ولزوم إنتفاع الناس منها.
الثالثة: تعدد الآيات الباهرات التي أنعم الله عز وجل بها على الناس.
إعجاز الآية
تضع الآية الكريمة اللوم على إبليس وتعتبره هو السبب في خروج الإنسان من الجنة أي أنها ترجع الجناية إلى السبب وهو إبليس وليس المباشر وهو آدم، وفيها إكرام لبني آدم ودعوة للإسلام، وإخبار عن بدايات سكن الإنسان في الأرض والأسباب المباشرة لهذا السكن، وتبين الآية أن الهبوط لا يتنافى مع إكرام الله تعالى لآدم، لأن الأرض متاع للإنسان وقد سخّرها الله عز وجل له.
لقد فصلت الآية بدلالتها التضمنية وسياق الآيات بين أمرين:
الأول: خروج آدم وحواء من الجنة.
الثاني: هبوط آدم وحواء وإبليس من الجنة، ليتضمن موضوع الخروج وجهين:
الأول: قيام إبليس بإخراج آدم وحواء بلحاظ موضوعية السبب في الخروج ، وإلا فان الأمر بخروجهما صدر من عند الله، ولا يستطيع أحد من الخلائق أن يخرج غيره من الجنة.
الثاني: خروج إبليس من الجنة بأمر من عند الله لأنه عصى الله وإستكبر وأغوى آدم وحواء وجعلهما يأكلان من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عنها، وجاء قوله تعالى [قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ] ( )، لبيان ان علة إخراج وطرد إبليس هي إمتناعه عن السجود لآدم وان إخراجه من الجنة وهبوطه منها كان بأمر من الله وعلى نحو الطرد والإبعاد.
أما آدم وحواء فكان هبوطهما بأمر من الله وخروجهما من الجنة منسوب إلى السبب وهو إبليس كما ان هبوطهما فرصة للتوبة والإنابة مع هداية من عند الله وبشارة السلامة من الخوف والحزن في النشأتين.
وجاءت خاتمة الآية بالإخبار عن نهاية إقامة الإنسان في الأرض على وجهين:
الأول: مغادرة الإنسان للحياة الدنيا بالموت، ومفارقة الروح الجسد، وكأن تلك المفارقة إسترداد للروح التي نفخها الله في آدم.
الثاني: إنقطاع الحياة الإنسانية في الأرض والنفخ في الصور , ومن إعجاز الآية ان يأتي الخطاب في هذه الآية خاصاً وعاماً، خاصاً لآدم وحواء وإبليس، وعاماً للناس جميعاً.
لقد تحققت في هذه الآية مسألة خلافة الإنسان في الأرض، بهبوط آدم وحواء إليها، وتحتمل الخلافة في أوانها أموراً:
الأول: ان آدم خليفة في الأرض وهو في السماء بإعتبار ان الخلافة في الأرض علة خلقه ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثاني: ان علة خلق آدم هي عبادة الله قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالث: تبدأ خلافة آدم من حين هبوطه الى الأرض.
الرابع: بداية خلافة آدم عليه السلام من ساعة توبته التي تشير اليها الآية التالية.
 والصحيح هو الثالث وان خلافة الإنسان في الأرض بدأت من ساعة هبوط آدم الى الأرض وهو نبي معصوم من الذنوب والفواحش، وجاءت التوبة لتؤكد أهليته للخلافة ويدل عليه إفادة حرف الجر(في) الظرفية في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ويمكن تسمية الآية بآية (فأزلهما) ولم يرد لفظ أزلهما في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تحذر الآية من إبليس وجنوده، وتحث الناس على عدم إتباعه وما يوسوس به في الصدور، وهي في مفهومها بيان موضوعية مكر إبليس في أفعال أهل الضلالة والنفاق أو أنها بسبب إغوائه لهم , ولكنها ليست بذات الصبغة التي ذكرتها الآية لآدم وحواء لأن الدنيا دار تكليف ولم يستطع فيها إبليس إغواء آدم.
ومع ان الآية تبين الوقائع التي حصلت لآدم وحواء في الجنة، وتحكي قصة هبوطهما الى الأرض فانها تتضمن دروساً بليغة في وقاية الإنسان من الشيطان وإغوائه، وتدعو المسلمين الى الحيطة والحذر من وسوسته وإتباع الهوى، ولا يمكن التغلب والنجاة من إغوائه الا بالتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، إذ تضمنت هذه الآية الكريمة نعمة عظيمة وتكون المحافظة عليها بأمر بسيط وهو إجتناب شجرة مخصوصة من شجر الجنة.
ورأى آدم مبادرة الملائكة الإمتثال لأمر الله وأنهم لا يلتفتون الى أكل أو شرب بل منقطعون الى التسبيح والتهليل والإقرار بالعبودية لله تعالى، كيف ان إبليس عصى وإستكبر ولم يسجد له، وإذ لم يحذر منه تلقى إبناؤه وظيفة الحذر منه والإحتراز من إغوائه مع نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض بعدم ظهور إبليس لهم بشخصه ، وفيه عون للناس في سبل الطاعة والصلاح والتقوى.
 وتحث الآية المرأة على إعانة الرجل في التقيد بأحكام الحلال والحرام، وتدعو الرجل إلى صلاح الذات والعيال، ووجوب حرص كل واحد منهما على الفرائض والعبادات، ويدعو الآخر للتقيد بها والإحتراز من الشيطان وإغوائه.
 وفي الآية مواساة لآدم وحواء لمغادرتهما الجنة بأن يكون في الأرض مستقر ومتاع، فلا يتم طردهم منها إلى مكان آخر ، نعم تدل خاتمة الآية على وجود نهاية للحياة الدنيا.
الآية لطف
تتجلى معاني اللطف الإلهي بنسبة زلة آدم وحواء إلى إبليس فمع إختتام الآية السابقة بالنهي الإلهي لهما عن الأكل من الشجرة، وتوكيد هذا النهي بالإخبار عن كونه ظلماً للنفس، فان هذه الآية جاءت بالإخبار عن تعدي إبليس وقيامه بإغوائهما، لتبدأ رحلة الهبوط إلى الأرض بالأمل في العودة إلى الجنة، وإمكان تدارك الذنب بالمغفرة والإنابة.
لقد جاء خلق آدم ليكون خليفة في الأرض، ولم يهبط إليها إلا وقد عرف ما ينفعه وما يضره ، وأصبح عالماً بعداوة إبليس له ولزوجه وذريته، وجاءت خاتمة الآية لتحذر من الركون إلى الحياة الدنيا لأنها أمر متزلزل ومتجه نحو الزوال، وفيه دعوة للإنسان للإقرار بعالم الآخرة والإستعداد له.
ان الإخبار الإلهي عن الجنة وحياة آدم وحواء فيها ثم خروجهما بسبب زلة يقف وراءها إبليس بوسوسته وعداوته للإنسان، يجعل المسلم يسيح في عالم الملكوت، ويتطلع إلى الجنة وكأنها شاخصة أمامه، تدعوه لدخولها والإقامة فيها، فما دام المكث في الأرض مؤقتاً فان الحياة الآخرة هي دار الخلد والدوام.
وخروج آدم وحواء من الجنة خسارة عظيمة، وسبب للحزن والأسى، ولكن اللطف الإلهي يتغشى الإنسان في حياته كلها، فجاءت نسبة الزلة والأكل من الشجرة لإبليس تخفيفاً ومواساة لآدم وحواء، وإخباراً بأن الله عز وجل ينتقم لهما منه، وفيه حث للأبناء على عدم مؤاخذة الآباء أو ذمهم بسبب فعل معين، فقد تكون لهم حجة أو عذر، أو كان هناك سبب خارجي له موضوعية وتأثير في حدوث الفعل أو إختياره بتقريب أن آدم وحواء أبوا الناس جميعاً.
 وتبين الآية ان السكن في الأرض رحمة ولطف بالإنسان، فلم تأتِ عقوبة الأكل من الشجرة بقطع النسل والذرية، او بالتفريق بين آدم وحواء خصوصاً مع لحاظ أن إجتماعهما سبب لإشتراكهما في الأكل وتحريض أحدهما للآخر عليه، ولكن الآية نزهتهما عن مثل هذا التسبيب وأرجعت نسبة زلتهما مجتمعين ومتفرقين إلى إبليس ذاته.
مفهوم الآية 
تظهر الآية أسباب الهبوط الى الأرض وإغواء إبليس في مغادرة الإنسان للجنة مما يدل على لزوم الحذر من الشيطان والتوقي من وسوسته والتسلح بالإيمان للإحتراز من الذنوب والخطايا التي تؤدي إلى الخسران.
 ومن مفاهيم الآية أن الهبوط إلى الأرض نعمـة أخــرى، ووصفها بانها متاع لأجل محدود تحذير منها ومنع من الإنقطاع إليها، ودعـوة للتدبر فيما عداها من العــوالم والحيــاة الدائمة، والآية إخبار عن تجلي رحمة الله تعالى في كل حال وزمان ومكان.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الإخبار بالمفهوم عن أكل آدم من الشجرة فلم تقل الآية “فأكلا منها” نعم جاءت آية بهذا المعنى مع تقييده بوسوسة إبليس لآدم قال تعالى [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى] ( ).
الثانية: بيان علة خروج آدم وحواء من الجنة، وهي إغواء إبليس لهما بالأكل من الشجرة.
الثالثة: الأمر الإلهي بخروج آدم وحواء من الجنة، ومن الآيات أن الخطاب الإلهي توجه إليهما مباشرة من غير واسطة ملك، [وَقُلْنَا اهْبِطُوا] مما يدل على إتصال وإستدامة الإكرام والتشريف الإلهي الذي لم ينقطع بالأكل من الشجرة فجاءت نسبة الآلة والأكل إلى إغواء الشيطان، وليس لإرادة وفعل آدم وحواء.
ومن المعروف في الفقه الجنائي أن المباشر هو الذي يتحمل الجناية إلا أن يكون المسبب أقوى في الأثر، فجاءت هذه الآية لتؤكد أن المسبب هو علة الأكل، ولكنها جزء علة.
لذا أمر الله عز وجل آدم وحواء بالهبوط من الجنة، وكأن آدم وحواء ضيفان عند الرحمن فأراد الله عز وجل أن يظهر السبب في الأكل دون المباشر إكراماً لهما، وفيه إشارة وبشارة لفضل الله عز وجل على حجاج بيت الله في ضيافتهم عند الرحمن في بيته الحرام.
الرابعة: في الآية دعوة لبني آدم للتدبر في كيفية الإحتراز من إبليس ووسوسته ولزوم عدم الإغترار بإغوائه، وزيف إدعائه.
الخامسة: في الآية تفكيك بين أمور:
الأول: إخراج آدم وحواء من الجنة.
الثاني: خروج آدم وحواء من الجنة.
الثالث:  الأمر بهبوطهما منها، فالذي أخرجهما من الجنة بحسب ظاهر الآية الكريمة هو إبليس، أما الذي أمر بهبوطهما منها فهو الله تعالى، ولا يقدر على هذا الأمر إلى هو سبحانه , مما يدل على أن المراد من إخراج إبليس لهما هو التسبيب بالوسوسة وأنه يعلم بنتيجة الأكل من الشجرة، فمتى ما أكلا منها فانهما يخرجان من الجنة.
الخامسة: جاء الأمر بالهبوط لكل من:
الأول: آدم.
الثاني: حواء.
الثالث: إبليس.
فقد كانت عقوبة إبليس حينما سعى في حرمان آدم وحواء من نعمة الإقامة في الجنة أن غادرها مطروداً، مع الفارق بينه وبين آدم وحواء في العاقبة إذ صارت الحياة الدنيا للإنسان مزرعة الآخرة ووسيلة الإنابة والرجوع إلى الجنة مع المكث الطويل فيها بالإيمان والعمل الصالح، أما إبليس فان الدنيا سبب لزيادة جرمه وإثمه وظلمه، فكما كان سبباً لإغواء الإنسان، فان الدنيا صارت مقدمة لدخوله النار، بالإضافة إلى إمتلائه حسرة وغيظاً من إقبال المسلمين على فعل الطاعات، وإحترازهم من وسوسته وإغوائه.
السادسة: بيان إغواء إبليس لآدم وحواء واقية للمسلمين، وتفقه في الدين، وندب لأخذ الحائطة في الدين.
السابعة: الإخبار عن حال العداوة بين الإنسان وإبليس في الأرض، وهذه العداوة حصانة إضافية من إغواء إبليس للإنسان، وتخفيف عن الإنسان، ودعوة له للإحتراز من وسوسة ومحاولات إبليس الإضلال.
الثامنة: بيان الجهة التي هبط اليها آدم وحواء وأنها الأرض، فمن إعجاز القرآن أنه لم يذكر الهبوط من الجنة مجرداً إذ انه يحتمل عدة وجوه منها:
الأول: الهبوط الى أحد الكواكب.
الثاني: البقاء في فناء الجنة وحولها أو قريباً منها.
الثالث: ترك إختيار محل الهبوط لآدم وحواء، مع إستثناء موضع مخصوص كما في إطلاق الأكل من الجنة بإستثناء شجرة مخصوصة.
الرابع: تعدد محل الهبوط وحرية إنتقال آدم وحواء بين الكواكب.
الخامس: تعيين موضع الهبوط
والصحيح هو الأخير فقد تفضل الله عز وجل بإختيار الأرض موضعاً لهبوط آدم وحواء وإبليس على نحو الحصر مع السعة الذاتية للأرض وإمكان التنقل فيها.
التاسعة: بيان المائز بين السكن في الجنة والسكن في الأرض، فمن خصائص السكن في الأرض انه غير دائم إلا أنه يتصف بالإستقرار والسكون، فإغواء إبليس لأفراد من البشر لا يخرجهم من الجنة ولا يهبطهم إلى ما هو أدنى من الأرض عقوبة، بل يمهل الله عز وجل الناس  في الحياة الدنيا.
العاشرة: يتصف هبوط آدم وحواء الى الأرض بحسب منطوق الآية بأمور:
الأول: العداوة بينهما وبين إبليس، وهذه العداوة حقيقية وليست مجازية , ولكن أثر إبليس محدود ومقيد.
وفي قوله تعالى[فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ]( )، قال السدي: ولدت حواء غلاماً فأتاها إبليس فقال سموه بي وإلاّ قتلته، قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنّة، فأبى أن يطيعه فمات الغلام، فحملت بآخر فلما ولدته قال لهما مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه، فمات الولد، فحملت بآخر فأتاهما وقال لهما: إذ غلبتماني فسمياه عبد الحرث، وكان اسم إبليس الحرث ولم يشعروا به فوالله لا أزال أقتلهم حتّى تسمياه عبد الحرث. كما قتلت الأول والثاني فسمياه عبد الحرث فعاش)( ).
 ولم يرفع السدي الحديث.
ولا يتعدى أثر إبليس الإغواء والفتنة، ولم يسلط على الإنسان بالقتل والوعيد بإستمرار القتل، وجاء القرآن صريحاً بقتل ابن آدم قابيل لأخيه هابيل ونسبت القتل لذات القاتل , وفي التنزيل[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ]( )، كيلا يلوذ القاتل والجاني مطلقاً بالإعتذار بأن إبليس هو الذي فعل الجناية، وتلك آية في إقامة الحدود والحجة على الناس، في الدارين قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) .
 وقوله تعالى[فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا]( ) , الوسوسة: محادثة الآخر همساً وفي خفاء وإسرار من الصوت، وليس من محادثة بين الشيطان وبني آدم، ولعلها كانت مع آدم في الجنة نوع محادثة ومحاورة خفية، إنقطعت عند الهبوط إلى الأرض.
الثاني: الأرض هي جهة الهبوط من الجنة وليس من واسطة بينهما في سكن آدم وحواء، أي لم يهبط آدم وحواء إلى كوكب آخر ثم إلى الأرض، بل هبط مباشرة من الجنة الى الأرض، وعلى فرض أن الجنة التي كانا فيها هي في السماء، فهي مسكن الملائكة الذين سجدوا له ، ترى كيف كان الهبوط، فيه وجوه:
الأول: تم الهبوط بأمر الله تعالى بالكاف والنون [إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثاني: جاء الهبوط بواسطة ملك من الملائكة، كما في قوله تعالى [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ] ( ).
الثالث: المدد والعون الإلهي لآدم وحواء في الهبوط إلى الأرض.
الرابع: حصل الهبوط بواسطة مركوب أو دواب خاصة أعدت لهبوط كل من آدم وحواء ، وفيه إشارة وإخبار متقدم عن حدوث الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعروج به إلى السماء، لأن الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  مركب من أمرين قوس الصعود ثم النزول، وهو فضل إختص الله به تعالى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
 وقد أقام آدم وحواء في الجنة وهبطا منها، أي انهما لم يصعدا إليها، إلى حين وفاتهما.
الثالث: السكن والإستقرار في الأرض إلى أوان مخصوص.
الرابع: إقتران إستقرار الإنسان في الأرض بالتنعم بطيباتها.
الخامس: نفي التأبيد عن السكن في الأرض، والإخبار عن كونه من المنتهي، ومن الآيات ان يأتي قوله تعالى [إِلَى حِينٍ] على نحو التنكير من غير إخبار عن تعيين أوان إنقضاء السكن في الأرض، ولكنه معلوم عند الله عز وجل، ولغة التنكير فيها دعوة للإنسان للإجتهاد في طاعة الله عز وجل وتجدد بالعودة السريعة إلى الجنة، ومنها المرتبة الرفيعة للشهداء , قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ].
الحادية عشرة: بينما جاءت الآية قبل السابقة بتسمية إبليس باسمه، 
جاءت هذه الآية بنعته بالشيطان لأنه أبى السجود لآدم وأضمر العداوة له ولزوجه وذريته.
وجاءت هذه الآيات بذكر الإنسان على مراتب وهي بحسب الترتيب:
الأول: انه خليفة في الأرض من غير تعيين لاسم مخصوص، كما في خطاب الله تعالى مع الملائكة( ).
الثاني: ذكر اسم آدم على نحو الخصوص في تعليمه الأسماء ثم سجود الملائكة له.
الثالث: ورود ذكر حواء بقيود:
الأول: جاء ذكرها مع آدم وبصفة الزوجية.
الثاني: ورد ذكرها بخصوص السكن في الجنة والأكل مما فيها من الثمار.
الثالث: خروجها مع آدم وهبوطها إلى الأرض معه.
وجاءت الآية التالية والخاصة بالتوبة وليس فيها ذكر لحواء ولكن الآية التي بعدها تفيد شمولها مع آدم وذريتهما بالتوبة وأسباب الهداية، فهل يفيد حصر سجود الملائكة لآدم دون حواء تفضيل الرجل على المرأة فيه وجوه:
الأول: جاء السجود لآدم عنواناً لإكرام الله والملائكة لجنس الإنسان مطلقاً.
الثاني : وجود حواء مع آدم في منزلته في الجنة دليل على نيل المرأة ذات الدرجة من الإكرام التي نالها الرجل.
الثالث: سجد الملائكة لآدم لأن الله خلقه ونفخ فيه من روحه، وهو نبي، وحواء ليست بنبية.
الرابع: سجود الملائكة لآدم من نواميس وأحكام الجنة ، ولا صلة للموضوع بالتفضيل بين آدم وحواء.
الخامس: تعليم الله لآدم الأسماء دون حواء وقيام آدم بإخبار الملائكة بها، وسجودهم له دليل على تفضيل آدم عليه السلام على حواء، على نحو الخصوص، وليس تفضيل الرجل على المرأة مطلقاً.
السادس: تدل هذه الآيات وما فيها من الإكرام الزائد لآدم على تفضيل الرجل مطلقاً.
السابع: يفيد إكرام آدم بيان الوظائف الملقاة على عاتق الرجل في الكسب والسعي، وتولي شؤون الأسرة بما يؤدي إلى الصلاح والتقوى.
والوجوه كلها صحيحة عدا الوجه السادس، فلا تدل هذه الآيات على تفضيل جنس الرجل على المرأة ويمكن البحث عنه في أدلة أخرى من القرآن والسنة مثل قوله تعالى [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ]( ).
وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لو كنت آمراً بشر يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها( ).
فهذه الآيات إكرام محض للإنسان مطلقاً الذكر والأنثى، ولآدم وحواء وذريتهما، كي يعملوا مجتمعين ومتفرقين في طاعة الله، ويسعون بدأب لبلوغ الجنة والإقامة فيها، ومن الآيات ان الزلل لم يحصل لآدم وحده أو لحواء وحدها بل وقع لهما معاً  وعلى نحو متحد زماناً.
إفاضات الآية
تبعث الآية النفرة في النفس من الشيطان، وهذه النفرة لا تنحصر بالرجال بل تشمل النساء بالأصالة، فهن لا ينفرن من إبليس لأنه أخرج أبوهن آدم من الجنة، فحسب بل أخرجهن بالذات وعلى نحو التعيين بشخص حواء ولم يجعل لها إبليس حرمة، والبلاء حينما يصيب الإنسان يكون أثره والإعتبار منه أكثر  مما لو حصل لغيره وإن كان قريباً منه.
وليتدبر الرجل والمرأة في كيفية التوقي من إبليس وأخذ الحائطة منه، والإلتجاء إلى العبادات وتعاهد الفرائض وعدم التفريط بها ، لأن الإمتثال للأوامر الإلهية هو السبيل الوحيد الذي يحجب سلطان إبليس عن الإنسان.
وتبين الآية الإبتلاء بإبليس وأن الدنيا دار إمتحان وعناء، والجنة هي الغاية التي تستحق السعي لها.
 لقد أخبر الله تعالى أنه متخذ خليفة في الأرض، بينما جاءت الآيات بالإخبار عن:
الأول: تعلم آدم الأسماء وإخبار الملائكة بها.
الثاني: سجود الملائكة لآدم.
الثالث: سكن آدم وزوجه الجنة، ليكون هذا السكن نوع بركة تصاحب الإنسان في الحياة الدنيا وتجذبه إلى الجنة، وتجعله يشتاق إليها فيسعى إلى الإقامة فيها بالعمل الصالح خصوصاً وأن جنة الآخرة لبث دائم وخلود مقيم، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) فلا يخاف الذي يسعى الى الجنة الفزع من الخروج منها.
ومن إفاضات الآية لزوم العناية بالنواهي الإلهية بإجتناب ما حرّمه الله تعالى، ومن الآيات أن الأمور التي أحلها الله تعالى أكثر من التي حرمها بلحاظ حاجة الإنسان وكفايته، لذا فان الأصل في الأشياء هو الإباحة إلا مع الدليل على الحرمة أو الكراهة.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف الفاء الذي يفيد الترتيب والتعقيب والتراخي في إشارة إلى عدم وجود فترة طويلة بين سكن آدم وحواء في الجنة، وبين إغواء الشيطان لهما .
وفي قصر بقاء آدم والجنة مسائل:
الأولى: إنه شاهد على خلق آدم للسكن في الأرض.
الثانية: انه شاهد على موضوعية التسبيب في الأكل ، ونسبة زلل آدم وحواء إلى إبليس وإغوائه، فهما لم يكونا قد شبعا من ثمار الجنة، أو ذاقا كل ثمارها، ولم يطلعا بعد على سعتها وما فيها من الآيات وبديع الصنع خصوصاً , وأن الآية السابقة جاءت بالإطلاق المكاني في السكن من الجنة والأكل من ثمارها [وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا].
الثالثة: يدل قيد (رغداً) في الآية السابقة على إنشغال آدم وحواء بالسياحة الملكوتية في الجنة، وعدم الطمع في الأكل من الشجرة الممنوعة.
الرابعة: في الآية درس للملائكة، إذ رأوا علة مخالفة آدم وحواء للأمر الإلهي، وهي وسوسة وإغواء إبليس، لترحم الملائكة آدم وحواء، وتدرك أن الفساد في الأرض ليس من الإنسان على نحو محض، بل فيه تسبيب وإغواء من إبليس.
 وإذ أختتمت آية الخلافة بالخطاب الإلهي إلى الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] جاءت هذه الآية لتنسب مخالفة آدم وحواء للنهي الإلهي لإغراء إبليس وليس لهما بالذات، وفيه إشارة إلى نسبة الفساد وسفك الدماء في الأرض إلى إبليس وجنوده ولو على نحو السالبة الكلية.
ومن وجوه الصلة بين هذه الآية وبين خاتمة الآية أعلاه علم الله تعالى بأن الفساد في الأرض ليس من الخليفة الذي يجعله الله في الأرض، بل يتحمل إبليس شطراً منه باغوائه لذا وردت الآيات القرآنية بتحذير المسلمين والناس جميعاً منه ، قال تعالى [وَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
الخامسة: في الآية دعوة الى المسلمين لتعاهد النعم بالتقوى، وعدم الإنصياع للنفس الشهوية والغضبية وإغواء شياطين الإنس والجن.
السادسة: تدل الآية في مفهومها على لزوم الإستغفار والتدارك عند الزلل والخطأ.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف”)( ).
وبعد أن أخبرت الآية عن مخالفة أدم وحواء وأكلهما من الشجرة بإغواء إبليس جاءت بأمرين:
الأول: خروج آدم وحواء من الجنة وفيه مسائل:
الأولى: نسبة الإخراج الى إبليس.
الثانية: لم ينحصر موضوع الإخراج بآدم بل شمل معه حواء، وفيه دعوة للنساء عموماً بالحيطة والحذر من الإفتتان وغلبة الهوى والنفس الأمارة بالسوء.
الثالثة: جاء الخروج على نحو السالبة الكلية، فلم يكن خروجاً عن بعض نعم وثمار الجنة، بل جاء مطلقاً.
الثاني: الأمر الإلهي إلى آدم وحواء وإبليس بالهبوط، فمن إعجاز الآية أنها تتضمن أموراً في موضوع واحد ، وهو مغادرة آدم وحواء للنعم في المسكن والمأكل، والأمور هي:
الأول: خروج آدم وحواء من حال النعم والمقام الكريم في الجنة ونسبة الخروج وتبعته الى إبليس.
الثاني: الهبوط الذي جاء بأمر من عند الله تعالى.
الثالث: بعث العداوة بين آدم وحواء من جهة وإبليس من جهة أخرى.
الرابع: جعل الأرض مقراً ومسكناً لآدم وحواء وذريتهما.
الخامس: إنتفاع الناس من النعم التي سخرها الله لهم في الأرض مدة إقامتهم فيها.
السادس: إختتام الآية بالإخبار عن عدم إستدامة حياة الناس في الأرض إلى الأبد، فلابد من إنقطاع الدنيا.
فان قلت ان الخروج والهبوط أمران لايقدر عليهما إلا الله تعالى، فكيف نسبت الآية الخروج إلى إبليس، الجواب إنه جاء لبيان أثر السبب في الجزاء، وإلا فان الخطاب الإلهي توجه إلى آدم وحواء بعدم الأكل من الشجرة وان الإقتراب منها يجعلهما من الظالمين أي هناك ملازمة بين الأكل من الشجرة وبين الخروج من النعمة، سواء حصل الأكل مع التسبيب أو بدونه .
 فمن وجوه الظلم الذي أشارت إليه خاتمة الآية السابقة [فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] هو الخروج من النعمة ، لذا لم يسأل الله تعالى آدم وحواء لم أكلا من الشجرة، وليس من إستغفار في المقام، فقد جاء الخروج متعقباً للأكل، وفيه دعوة للناس لإجتناب الكفر والضلالة في الدنيا لأن الجزاء ثابت في الآخرة، فعاقبة الموت على الكفر هي النار، وقد أنعم الله على الإنسان في الدنيا بفتح باب التوبة.
ولم تذكر الآية مصاديق المتاع، بل ذكرته على نحو التنكير ليكون عاماً، وقد ورد لفظ (متاع) إحدى وثلاثين مرة في القرآن، وكلها بخصوص الحياة الدنيا، مما يدل على الملازمة بين المتاع والحياة الدنيا، ولم توصف الدار الآخرة بانها متاع، بل هي خلود في النعيم، وسعادة مطلقة ودائمة، قال تعالى [ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] ( ).
والمتاع في الدنيا من الكلي المشكك، وهو على مراتب متفاوتة، ويكون على وجوه:
الأول: المأكل والمشرب والملبس.
الثاني: الزوجية والنكاح.
الثالث: التكاثر بالأموال والأولاد ومصاديق الزينة في الدنيا.
الرابع: إقتناء الجواهر والعقارات والغلات.
الخامس: الصنائع والمعاشات.
السادس: الإنتفاع مما خلق الله تعالى للناس في الأرض.
السابع: إتخاذ الدنيا داراً لإقتناء الصالحات والتزود بالحسنات.
الثامن: التوبة والإنابة، وهو الذي جاءت به الآية التالية، ومن مصاديق المتاع في الدنيا أن الله تعالى بعث الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين، ليتنعم أتباعهم وأنصارهم بالغبطة والسعادة ببركة الإيمان والتصديق بالنبوة والوحي.
الثاني: هبوط آدم وحواء من الجنة، وجاء الهبوط بأمر الله تعالى، وفيه مسائل:
الأولى: شمول إبليس بالهبوط إلى الأرض، وقد ذكر ان إبليس أخرج من الجنة حين أبى السجود لآدم، وكان آدم يخرج إلى باب الجنة فيدنو منه إبليس ويكلمه.
الثالثة: التحذير والإنذار من التسبيب في الجنايات لأن المسبب ينال جزاءه وعقابه.
الرابعة:الحيطة من أهل السوء، فالإنصات إلى الكفار يوقع الإنسان في المهالك، ويسبب له الضرر العاجل والآجل.
الخامسة: لما جاء أول الآية بالإخبار عن غواية الشيطان لآدم وحواء، وجاء وسطها بالإخبار عن حصول الإبتلاء والتكليف للإنسان وسلبه نعم الدنيا بمغادرة الجنة ، جاءت خاتمتها بالأمل، وفرصة التدارك وإتخاذ الأرض والمسكن فيها محلاً للعبادة والصلاح.
الثالث: ملازمة العداوة للنازلين إلى الأرض، لتكون من النعم التي فقدوها في الجنة نعمة المودة والرأفة وخلو القلوب من الضغائن وأٍسباب العداوة والخصومة، وفيه دلالة على نعمة زوال الكراهية والبغضاء بين أهل الجنان، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
الرابع: تكون الأرض مقراً لبني آدم وإبليس، ولكن ليس إلى ما لا نهاية، إذ أن نعمة الخلود خاصة بأهل الجنان، ويرجع الإنسان الى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، لذا جاءت الآية التالية في بيان قوانين التوبة، والحاجة اليها.
الخامس: إستمتاع بني آدم بالأرض وما خلق الله فيها لهم إلى يوم القيامة.
 وفي قوله تعالى [وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] وجوه:
   الأول: إرادة القضية الشخصية وأوان الموت ومغادرة الشخص للدنيا.
الثاني: إستدامة الحياة في الأرض إلى يوم النفخ في الصور.
الثالث: إخبار آدم وحواء عن عدم الخلود في الأرض، وأنهما لابد وأن يغادراها أيضاً ، ولكن هذه المغادرة ليس إلى كوكب آخر، بل بمفارقة الروح للجسد نعم قد يكون من مصاديقها الإنتقال إلى كوكب آخر.
إن الإخبار الإلهي للإنسان عن عدم خلوده في الأرض، دعوة له للتدبر في أسرار الحياة الدنيا، ولزوم الإنتفاع منها، ومن وجوه المتاع فيها التزود للآخرة.
ومن آثار وإغواء  وتنحية إبليس لآدم وحواء عن الجنة أن الثلاثة لن يكون بقاؤهم في الأرض مستديماً، مع التباين فيه طولاً وقصراً، إذ ان بقاء ذرية آدم إمتداد في طول وجود آدم عليه السلام ، ليكون حسرة على إبليس وهو يرى كثرة ذرية آدم وتوارثهم للإيمان، وبقاء كلمة التوحيد في الأرض، وتعاهد المسلمين لها وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
 فاذا كان إبليس أزل آدم وحواء في الجنة، فان الملايين من المسلمين في كل يوم يمتنعون على إبليس وإغوائه، ولايستطيع صدهم عن عبادة الله، والتنعم بالنعم التي جعلها الله في الأرض، ومن وجوه المتاع في الدنيا تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية، وإتخاذ الحياة على الأرض مزرعة للآخرة، ليرى إبليس إستحقاق الإنسان المسلم للإكرام والتعظيم بإنقطاعه إلى عبادة الله، وإجتنابه للمعاصي والسيئات، وتشهد الملائكة على أهليته للخلافة في الأرض، وعمارتها بالصلاح والتقوى والعمل الصالح.
وإذ أخبرت الآية عن عدم إستدامة الحياة على الأرض ، وأكدت انها مستقر ومتاع الى حين، فانها لم تبين أمرين:
الأول: زمان إنتهاء الحين، والحين من صيغ العموم في أفراد الزمان الطولية ويدل مجيؤه بصيغة التنكير على عدم تعيينه ليبقى من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، سواء بخصوص القضية الشخصية وأجل الإنسان، أو القضية النوعية وإنقطاع الحياة على الأرض مطلقاً.
الثاني: ما بعد المتاع على الأرض، فلم تذكر الآية ما سيؤول إليه حال كل من آدم وحواء وإبليس بعد إنقطاع المتاع في الأرض، ولكن الآيات الأخرى تخبر عن عالم الآخرة وما فيه من الجزاء والثواب والعقاب.
لتتضمن الآية البشارة والإنذار، والوعد والوعيد، ويكون نصيب الإنسان منها متعدداً ومتبايناً بلحاظ الأعمال، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  قال (انما هي أعمالكم ترد اليكم)( ).
وقد تكون عاقبة الإنسان إلى الجنة، وقد تكون إلى النار، وتفضل الله تعالى وأعان الناس باللطف والتقريب إلى الطاعة، والهداية إلى التوبة إذ جاءت الآية التالية بفتح باب التوبة له ، أما إبليس فان عاقبته هي الخلود في الجحيم.
التفسير الذاتي
لقد أختتمت الآية السابقة بتحذير آدم وحواء من التلبس بالظلم، مع تعيين موضوعه وهو الأكل من شجرة مخصوصة من شجر الجنة، وجاءت هذه الآية لتخبرعن أكلهما من الشجرة بلغة الإعجاز من وجوه:
الأول: عدم الإشارة إلى ظلم النفس والتحذير الوارد في الآية السابقة.
الثاني: نسبة علة وسبب أكل آدم وحواء من الشجرة إلى إبليس.
الثالث: بيان الأثر المترتب على الأكل من الشجرة.
 فمع أن الآية لم تبين تحقق صفة الظلم إلا أنها ذكرت الجزاء الذي تعقب مخالفة النواهي الإلهية.
 ترى لماذا لم تقل الآية فاكلا منها فكانا من الظالمين، والجواب من وجوه:
الأول: نسبة الجناية إلى المسبب وهو إبليس، وكأن قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] الوارد في الآية السابقة مقيد بشرط أن يكون الإقتراب منها بالذات والقصد ومن غير وسوسة إبليس، فما دام إبليس هو الذي كذب عليهما، وذكر أن في الأكل منافع عظيمة فانهما لم يتحملا وزر جناية الأكل كاملة.
الثاني : إرادة التعليق في موضوع الظلم . 
الثالث : بيان فضل الله عز وجل على آدم وذريته في  دفع وإرجاء صفة الظلم عنهم لدفعها بالتوبة .
 ومن وجوه إكرام وتشريف آدم أن نسبة الأكل والإخراج من الجنة إلى إبليس، كي يشفق عليهما الملائكة ويرون أن الخليفة في الأرض الذي سجدوا له إغتر وزوجه بوسوسة إبليس، وصدّق بما قاله لظنه أنه من الملائكة وإدعاءه النصح [وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ] ( ).
 ولم يرد لفظ (أزلهما) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وورد مرة واحدة بصيغة الجمع[إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا]( )، في إشارة إلى المؤمنين الذين إنهزموا يوم أحد عند اللقاء مع المشركين , وقيل: إستزلهم بمحبتهم للغنيمة مع حرصهم على تبقية الحياة( ).
والمعنى أعم، وفيه شاهد على أن الشيطان يواصل إزلال المؤمنين حتى في ميادين القتال، وقد أختتمت الآية أعلاه من سورة آل عمران بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ويفيد الجمع بينها وبين الآية محل البحث وجود قانون ثابت وهو أن المغفرة والرحمة عاقبة المؤمنين الذين يستزلهم الشيطان, وتفضل الله عز وجل بالأمر العام للناس بالفرائض لتكون سبيلا للمغفرة ومحو الذنوب , وهداهم إلى سلاح الدعاء .
 وعن  بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي، أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي.
 قال : فأوحى الله إليه إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرجت همومه وغمومه، ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كل تاجر زينة الدنيا وهي كلمات عهد وإن لم يزدها( ).
ومع أن جيش المسلمين كان يوم أحد، نحو سبعمائة فانه لم يبق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة عشر نفراً خمسة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، عندما باغتهم العدو من الخلف , ولكن الصحابة رجعوا إلى القتال مرة أخرى، وإجتمعوا حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقاتلوا العدو، وفيه شاهد بعجز الشيطان عن الإضرار بالإيمان ومقاماته في الأرض .
 وأخرج أحمد والبخاري في الأدب والنسائي والحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال:  لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال النبي صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي ، فصاروا خلفه صفوفاً فقال : اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لما أضللت ، ولا مضل لما هديت ، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما بعدت ، ولا مباعد لما قربت ، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا ، اللهم حبب إلينا الإِيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب يا إله الحق( ).
ومن فضل الله عز وجل إنعدام الفترة بين الزلة والتدارك بالتوبة، فما أن يبادر الفرد والإثنان والجماعة إلى الإستغفار والتوبة حتى يتوب عليهم الله لأنه سبحانه نسب الزلة إلى الشيطان.
لقد جاءت نسبة زلة آدم وحواء وأكلهما من الشجرة إلى إبليس رداً عملياً على الملائكة في إحتجاجهم على جعل آدم خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( )، لبيان أن علة الفساد في الأرض جاءت من السماء بهبوط إبليس، ووسوسته لبني آدم، ومع هذا فان الإفساد لم يتحقق على نحو السالبة الكلية من وجوه:
الأول: فتح باب التوبة لبني آدم.
الثاني: نزول الكتب السماوية وبعثة الأنبياء لهداية الناس ووقايتهم من إغواء إبليس.
الثالث: وجود أمة من أهل الإيمان في كل زمان ممتنعة على إبليس وسوسته، فقد جاء إغواء إبليس لآدم ليكون موعظة لأبنائهم، وإنذاراً من شر إبليس وجنوده.
الرابع: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإبتداء سيادة الإسلام في الأرض، ورسوخ مفاهيم التقوى في الأرض.
الخامس: ما جاءت به الكتب السماوية من الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد، والحث على الرجوع إلى السكن في الجنة والخلود فيها بطاعة الله عز وجل.
وسوف يرجع آدم وحواء إلى الجنة ليصبحا من سكنتها والخالدين فيها بالتقوى والإستقامة لتتلقاهما وذريتهما من المؤمنين الملائكة بالسلام والإكرام[وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]( )، وفيه إقرار من الملائكة بالحكمة الإلهية في جعل آدم خليفة في الأرض، وهبوطه وحواء إلى الأرض، وحسن الثواب الذي تفضل الله عز وجل به على المؤمنين، والعقاب الأليم للذين أشاعوا الفساد في الأرض، وقتلوا النفس التي حرم الله عز وجل، وستأتي الآية التالية في بيان توبة الله عز وجل على آدم، وبقاء إبليس في فسقه.
لقــد جــاء أمر الهبوط من الجنة من عند الله، وفيه إشــــــارة إلــــى أنه لا تستطيع الخلائق إخراج أحد من الجنة، ومع أن إبليس إستكبر عن السجود لآدم، وأظهر المعصية لأمر الله عز وجل فان الآيات لم تذكر لوماً  وجهه له الملائكة ولم يتأذ أو يتأسف الملائكة لطرده من الجنة، بينما نزلت الملائكة آلافاً مؤلفة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها , قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
وإذ أخبر الله عز وجل الملائكة عن إرادة جعل خليفة في الأرض، وتفضل وسمع إحتجاج الملائكة ورد عليه بما جعلهم يلجأون إلى التسبيح والتقديس لمقام الربوبية كنوع إعتذار وإقرار بحكمته تعالى في جعل خليفة في الأرض، فإنه سبحانه لم يخبر الملائكة في موضوع هبوط آدم الأرض، وفيه مسائل:
الأولى: إن الأمر كله بيد الله عز وجل، ولا يطلع على الغيب إلا من يشاء وكيف يشاء، وخلق آدم من الغيب فتفضل الله بإخبار الملائكة عنه فضلاً ولطفاً منه تعالى بهم وبآدم وذريته.
ويتهيأ الملائكة لوظائف في الأرض منها:
الأولى:الهبوط بالوحي إلى الأنبياء، فمن مصاديق تشريف الأنبياء وجعلهم وسائط بين الله وبين أهل الأرض قيام الملائكة بالنزول بالوحي على الأنبياء ليقتبس أهل الأرض دروساً من الأمانة والطاعة من الملائكة، قال تعالى في مدح جبرئيل وتوكيد أمانته[مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ] ( )،وقد نزل جبرئيل للبطش بقوم لوط وحملهم بجناحه، ولكنه ومع كونه مطاعاً في الملائكة لم يتدخل في قصة إبليس لأن أمر أهل الجنة بيد الله عز وجل، [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( )، وفيه إشارة إلى خلود المؤمنين في الجنة بأمر الله عز وجل، وفي المقام مسألتان:
الأولى: ترى لماذا لم يتدخل الملائكة عند آدم وحواء في فضح إبليس ووسوسته، وإخبارهما بكذبه قبل أن يأكلا من الشجرة ويحولا دون هبوط آدم وحواء من الجنة.
الثانية:  لماذا لم يبادر الملائكة إلى تلقين آدم وحواء التوبة والإستغفار حال أكلهما من الشجرة .
 والجواب على المسألة الأولى من وجوه:
الأول: الأمر في الجنة بيد الله عز وجل.
الثاني: لا يفعل الملائكة إلا ما يأمرهم الله عز وجل ولم ترد بينة أو قرينة على الإذن الإلهي للملائكة بدفع إبليس عن آدم وحواء.
الثالث: لقد رأى الملائكة كيف أن آدم عليه السلام هو الذي علمهم الأسماء، ولعلهم لايعلمون أن إبليس يستطيع إغواء آدم بالمعصية، فلما أكل آدم وحواء معاً من الشجرة علم الملائكة أن الإفساد في الأرض ليس من الخليفة أو من الإنسان عموماً على نحو الإطلاق، بل أن إبليس يتحمل شطراً كبيراً من وقوع الفساد في الأرض لأنه المسبب والذي يسعى في إغواء الناس بالفساد، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، والله عز وجل يعلم أن الخطايا ليست كلها من كسب الإنسان بل أن الشيطان يزله ويزيّن له سوء الفعل.
وأما بالنسبة للمسألة الثانية أعلاه فان الأمر الإلهي لآدم وحواء بالهبوط من الجنة جاء متعقباً لأكلهما من الشجرة، ليكون من مصاديق الظلم للنفس بالأكل منها عدم وجود فترة للتوبة والإنابة، ولا دليل على تلقين الملائكة لآدم وحواء صيغ التوبة والإنابة، والتي جاءت من عند الله عز وجل عند هبوطهما إلى الأرض.
وورد لفظ الشيطان ثماناً وستين مرة تتضمن سوء فعل إبليس وجنوده، وتحذير الناس منه، ومن مواعيده وإغوائه، قال تعالى [وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
والآية محل البحث هي أول آية في نظم القرآن يذكر فيها لفظ الشيطان، وقد ورد ذكره قبل آيتين بإسمه (إبليس) ويفيد الجمع بين الآيتين أنه خرج عن طاعة الله وتمرد وعصى برفضه السجود لآدم إستكباراً ثم قيامه بإغواء آدم وحواء لمحاولة إضلالهما.
ففي آيتين تغير اسم إبليس وجاء ذكره بالنعت الذي يدل على قبح فعله، وإمتناع توبته وإنابته ووصفه بالشيطان ليحذر منه الإنسان، أما آدم فانه بقى يذكر في القرآن بإسمه وبلغة الإكرام من وجوه :
الأول: إضافة زوجه معه.
الثاني: حصول التوبة من الله على آدم كما تبينه الآية التالية.
الثالث: ورود آيات كثيرة في القرآن خطاباً للناس بصيغة (يابني آدم).
الرابع: نيل آدم مرتبة الخلافة والنبوة في الأرض.
الخامس: مدح آدم عليه السلام على لسان الأنبياء، وعلى لسان خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي [مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).وذكره في باب الشفاعة .
لقد ترتب على أكل آدم وحواء من الشجرة أمور تضمنتها هذه الآية مع قلة كلماتها وهي:
الأول:وقوع الزلل بالأكل من الشجرة.
الثاني: نسبة الزلل إلى إبليس.
الثالث: خروج آدم وحواء من الجنة وتحتمل كيفية خروج آدم وحواء من الجنة وجوها:
الأول: خروج آدم أولاً ثم حواء من بعده لعمومات المرأة تتبع بعلها.
الثاني: خروج حواء من الجنة، ثم آدم لأمور:
الأول: إنها صدّقت أولاً بما قاله إبليس.
الثاني: إن آدم صفي الله الذي نفخ فيه من روحه.
الثالث: إكرام آدم بتأخره في الخروج من الجنة
الثالث: خروج آدم وحواء من الجنة دفعة واحدة.
والصحيح هو الثالث، لمجئ موضوع الخروج بصيغة التثنية (فأخرجهما)والأمر بالهبوط بصيغة الجمع(أهبطوا).
الرابع: تعيين الموضوع والمحل الذي خرج منه آدم وحواء وهو الجنة، ومن إعجاز الآية أنها لم تقل فأخرجهما (من الجنة) مع أن الآية السابقة ذكرتها على نحو التعيين [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( )، لأن السكن نوع رحمة وبيان للفضل الإلهي العظيم على آدم وحواء، أما الخروج فإنه نوع إمتحان وإبعاد عن نعمة السكن في الجنة .
فجاءت هذه الآية بالإشارة للجنة بلحاظ الحال الذي يدل على المحل، في مواساة لآدم وذريته لأن المقام مقام الإخبار عن مغادرتها وما فيها من النعيم.
الخامس: جاءت الآية السابقة بذكر حواء وشمولها بخطاب السكن في الجنة الموجه لآدم، بصفة الزوجة، أما هذه الآية فتضمنت توجيه الخطاب لها بعرض واحد مع آدم في الخروج للإشارة إلى أنها شاركته الأكل من غير أن يكون هو الذي أملى عليها الأكل وأمرها به وما فيه من الإغترار بقول إبليس، وفيه دعوة للحكم بالحق بين الناس، والإنصاف وعدم البخس.
السادس: تدل الآية على أن آدم وحواء لبثا وأقاما في الجنة وإن كان لمدة قليلة، وشاهدا ما فيها من النعم، وأكلا منها، ليكون هذا اللبث المؤقت مقدمة للبث الدائم لآدم وذريته من المؤمنين في الجنة.
السابع: حصول التباين بين آدم وحواء من جهة وبين إبليس من جهة أخرى في موضوع الهبوط إلى الأرض، وبما يفيد إكرام آدم وحواء مع أن الأمر بالهبوط إلى الأرض تعلق بهم جميعاً، إذ أن إبليس خرج قبلهما مصحوباً باللعنة والذم قال تعالى في خطاب لإبليس [فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي]( )، وفي آية أخرى [اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا]( )، أما آدم وحواء فجاء خروجهما من الجنة بأمر مستقل ومنفصل، وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية ونسبة إخراجهما إلى الشيطان (فاخرجهما).
وقد ورد لفظ (أخرج) ست مرات في القرآن أربعة منها في أمر الله عز وجل لإبليس بالخروج من الجنة، وإثنتين فيما لاقاه الأنبياء من المكر والكيد واحدة في يوسف عليه السلام وقول امرأة العزيز [اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ]( )، وواحدة في موسى عليه السلام( ) .
 وليس في القرآن لغة أمر وزجر متوجهة إلى آدم وحواء بالخروج من الجنة، وفيه نوع إكرام لآدم وحواء مع أن أصل خلق آدم هو صيرورته خليفة في الأرض، وبشارة ومواساة بأنهما يعودان إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح.
الثامن: الإعجاز القرآني في الإخبار عن العداوة بين آدم وحواء وإبليس في الأرض، وسبب هذه العداوة وجوه:
الأول: إغواء آدم وحواء في الأكل من الشجرة.
الثاني: ترشح هذه العداوة من الهبوط من الجنة، فالذين يهبطون من الجنة تكون بينهم عداوة وخصومة وبغضاء.
الثالث: الملازمة بين السكن في الأرض وبين العداوة، فالساكنون في الأرض تكون بينهم عداوة.
الرابع: إنه وجه من وجوه الإبتلاء في الدنيا.
الخامس: العداوة بسبب إصرار إبليس على إغواء بني آدم، وفي التنزيل حكاية عن إبليس [لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلا غوينهم أَجمِعينُ]( ).
السادس: إن آدم وحواء ينتقمان من إبليس بسبب إخراجه لهما من الجنة فتبقى العداوة بينهم متصلة.
السابع: قبول توبة آدم وحواء وبقاء إبليس على معصيته.
والصحيح هو الخامس، وهو من وجوه الإمتحان والإبتلاء في الأرض، ومناسبة لإكرام المؤمنين من ذرية آدم بالخلود في الجنة،ورجوع آدم وحواء إليها بالتوبة والعمل الصالح.
وعن الحسن المراد من لغة الجمع في (إهبطوا) آدم وحواء والوسوسة( )، وقيل بين آدم وحواء والحية .
 والصحيح هو حصول العداوة بين آدم وحواء وبين إبليس وهم المذكورون في الآيات  السابقة إلى جانب القرينة والآيات الأخرى التي يدل بعضها على توجه الأمر بالخروج لآدم وحواء، وبعضها بخروج إبليس , وقد جاء القرآن بآيات المحبة والود بين الزوجين قال تعالى[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً]( )، مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم إرادة العداوة بين آدم وحواء , نعم يدل قوله تعالى[إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ]( )،  على السالبة الجزئية للزوم حذر المسلمين.
ومن إعجاز القرآن في المقام أمور:
الأول: بيان علة وسبب العداوة وأنها تعد وظلم من طرف واحد، وهو إبليس، قال تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثاني: الإطلاق في عداوة إبليس للناس جميعاً، فهو لم يعاد المؤمنين فقط، بل يعادي جنس الإنسان مطلقاً.
الثالث: تحذير الناس من عداوة إبليس، فمن فضل ورحمة الله بالناس عدم حصر التحذير من إبليس بالمؤمنين بل يشمل الناس جميعاً بدليل آيات عديدة منها الآية أعلاه.
الرابع: بعث الأنبياء والمرسلين وإنزال الكتب السماوية للإنذار من عداوة إبليس.
الخامس: بيان موضوع وأفراد عداوة إبليس من الوسوسة والإغواء، ومحاولة نشر العداوة بين الناس أنفسهم , وهذا العموم في لغة الجمع الواردة في الآية بخصوص العداوة [بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] إذ يقوم إبليس بتحريض الكفار والمنافقين بإيذاء المؤمنين والإضرار بهم، ليكون هذا الإيذاء بسبب إبليس.
 وهل إخراج آدم وحواء من الجنة منه، فتنسب عداوة وتعدي الكفار إلى إبليس، الجواب لا، لأن الدنيا دار تكليف وعمل، وقد بعث الله الأنبياء للإحتراز والوقاية من إثارة إبليس العداوة والفتنة بين الناس، وليس في القرآن آية تنسب تمام وزر وإثم قتال الكفار المؤمنين إلى إبليس، بل الكفار يبوؤن بإثمهم قال تعالى [إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا] ( ).
نعم ورد قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( )، إذ يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس بالمعصية والتمويه والعناد والإغواء بمواجهة النبي بأسباب الشك والضلالة.
وجاءت الآية بتعيين جهة الهبوط إذ أنها تحتمل وجوهاً:
 الأول: التيه بين الكواكب.
الثاني: البقاء بين السماء والأرض لصدق اسم الهبوط عليه.
الثالث:الذهاب إلى موضع آخر من السماء أدنى رتبة من الجنة.
الرابع: إستحداث مكان خاص بآدم وحواء وإبليس، والله عز وجل قادر على كل شئ.
الخامس: النزول إلى الأرض .
 فجاءت الآية بالبيان والتعيين ليعلم آدم وحواء أن المحل الذي يحلان فيه هو الأرض(الأرض قطيعة لآدم).
ومن الإعجاز الإطلاق في ذكر الأرض، وعدم تخصيص موضع منها لسكن آدم وحواء، وفيه إشارة إلى عمارة ذريتهما للأرض، والإذن الإلهي للناس بالإستقرار في أي مصر وموضع منها، فهي ملك لله عز وجل، وجعل آدم خليفة فيها، ليعمرها الناس بالعبادة والذكر، وينالوا الثواب العظيم.
وذكرت الآية صفتين للأرض على نحو العطف والجمع:
الأولى: إنها مستقر ومقام للناس.
الثانية:إنها مكان إستمتاع، ومن إعجاز الآية أنها جاءت بالقيد ( إلى حين) ويحتمل وجهين:
الوجه الأول:إنه قيد خاص بالمتاع وإنه منقطع، وهذا الإنقطاع يحتمل أموراً:
الأول: إنقطاع المتاع بالموت.
الثاني: مجئ أيام وسنين على أهل الأرض، ليس فيها متاع وإستمتاع بل هي بلاء محض.
الثالث: العنوان الجامع للوجهين أعلاه، فبالموت ينقطع إستمتاع الفرد من الدنيا، ويأتي زمان على الناس قبل الصيحة تجدب الأرض، وتمنع السماء مطرها، وتشتد العداوة بين الناس.
والصحيح هو الأول، فان الآية إنحلالية أي كل إنسان ينقطع متاعه في الأرض، فلقد سخّر الله عز وجل ما في السماوات والأرض للإنسان مطلقاً، ولا دليل أو قرينة على التقييد، وخروج آخر أيام الدنيا من نعمة التسخير هذه، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] ( )، وجاءت آيات الرزق تتضمن البشارة بالرزق الكريم والسعة من عند الله عز وجل.
الوجه الثاني: يتعلق الجار والمجرور (إلى حين) بمستقر ومتاع معاً.
والصحيح هو الثاني،خصوصاً وأن المتاع عرض للمستقر وفرع منه، فمع المستقر يكون المتاع، وهو من فضل الله عز وجل، ليكون من خصائص الخلافة في الأرض أن الإنسان يستقر في الأرض إلى حين أجله، ويصاحب إستقراره فيها التمتع بالنعم الإلهية، قال تعالى [إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ]( ).
 وروى أن الله سبحانه قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة، فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كداً، فأهبط وعلم صنعة الحديد،وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرّى وطحن وعجن وخبز( ).
إلا أن الزمخشري المتوفي سنة 538 هجرية لم يذكر سند الحديث وسلسلة رجاله وجهة صدوره.
وقد ورد ذات الشطر من الآية [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ) في خطاب لآدم وحواء وإبليس، فإبليس عدو لهما، وهما عدوان له , وفيه توكيد لقصة الهبوط، وما في العداوة التي صاحبته من المشقة والعناء.
 من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: ذكر علة خروج آدم وحواء من الجنة.
الثانية: بيان عداوة إبليس لآدم وحواء.
الثالثة: إستدامة عداوة إبليس لآدم وحواء.
الرابعة: الإخبار عن أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها.
وجاءت الآية بلفظ [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا] وفي الضمير (عنها) وجوه:
الأول: المراد الشجرة التي منعا من الأكل منها، لقاعدة عودة الضمير الى ما قبله، وقد جاءت خاتمة الآية السابقة بخصوص الشجرة المنهي عنها.
الثاني: المراد الجنة وتقدير الآية “فازلهما الشيطان عن الجنة والسكن فيها” وجاءت الآية بلفظ الزلة التي تتضمن معنى إمكان التدارك والترغيب فيه .
الثالث: المراد طاعة الله أي أزلهما إبليس عن طاعة الله عز وجل.
الخامسة: لزوم إستثمار الحياة الدنيا بالإيمان والعمل الصالح.
السادسة: الإتعاظ من موضوع خروج آدم وحواء من الجنة بالحيطة والإحتراز من وسوسة الشيطان، فان إخبار الآية عن هبوط إبليس من الجنة مع آدم وحواء، وإستمرار عداوته لهما يدل بالدلالة التضمنية على إستمرار محاولاته الإيقاع بالإنسان والإضرار به، وإرادة حرمانه من العودة إلى الجنة، خصوصاً وان سكنه فيها سيكون دائماً.
وفي الاية مسائل:
الأولى: بيان عداوة إبليس للإنسان.
الثانية: حصول الضرر المتعدد، فلم يكن ضرر إبليس خاصاً بل شمل كل من:
الأول: آدم عليه السلام.
الثاني: حواء.
الثالث: ذرية آدم.
الثالثة: إكرام الآية لآدم وحواء بنسبة الزلل وسببه لإبليس.
الرابعة: نعت إبليس بأنه شيطان متمرد خارج عن طاعة الله عز وجل، ولعل في هذه النعت لإبليس في المقام بأنه شيطان تحذير لآدم وحواء ، لأنه ما دام شيطاناً فيجب الحذر والحيط منه وعدم الإنصات له، بالإضافة إلى وصف الفعل بأنه زلة.
الخامسة: نسبة الخروج من الجنة إلى سبب السبب، وهو آية اعجازية في القرآن، فحصل الأمر بخروج آدم وحواء من الجنة بأمر من عند الله تعالى بعد أن أكل آدم وحواء من الجنة، ومع هذا نسب الله عز وجل الإخراج إلى إبليس [فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]باعتباره سبب الزلل والخطأ.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ فَأَزَلَّهما الشَّـيْطَانُ عَنْهَا ]
تظهر الآية الكريمة إتصال إكرامه تعالى لآدم إذ نسب الله عز وجل الإزلال إلى الشيطان وهو إبليس بما قام به من وسوسة ودعوة وإغواء، وظاهر الآية يفيد إيقاع اللوم على إبليس باضافة الإخراج إليه لأنه كان سبب الخروج من الجنة إذ أن الجناية قد تكون من المباشر أو تكون من المسبب وإذا ما إشترك الإثنان فينظر أيهما الأقوى والأكثر تأثيراً في الحدوث، والأصل تحمل المباشر لمسؤولية الجناية والخطأ إلا مع الدليل الصارف إلى السبب، والآية تصلح دليلاً شرعياً وعقلياً.
وفي الآية إشارة إلى أن نزول آدم لم يكن عقوبة إستحقها، لذا يمكن الإســتدلال بأن ما أقــدم عليه آدم من الأكل من الشـجرة مع ســبق النهي لم يكن كبيرة ، وإن كان ظلماً للنفس، وكأن بين المعصية وبعض مصاديق الظلم عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل معصية هي ظلم للنفس، وليس كل ظلم للنفس هو معصية، ولكن وردت الآية بلفظ المعصية وإرتكاب آدم لها، قال تعالى [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى] ( ).
 وذات الهبــوط فضــــل ونعمــة مستحدثة، كما أنه لا يتعارض تنزيه مقام آدم عليه السلام.
عن أبى عبد الله رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم ان موسى سأل
ربه أن يجمع بينه وبين أبيه آدم حيث عرج إلى السماء في أمر الصلوة ففعل ، فقال له موسى : يا آدم انت الذى خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملئكته ،وأباح لك جنته ، وأسكنك جواره ، وكلمك قبلا ثم نهاك عن شجرة واحدة فلم تصبرعنها حتى اهبطت إلى الارض بسببها فلم تستطع ان تضبط نفسك عنها حتى أغراك ابليس فأطعته ؟ فأنت الذى أخرجتنا من الجنة بمعصيتك ؟ فقال له آدم : ارفق بابيك اى بنى محنة ما ( فيما خ ل ) لقى في أمر هذه الشجرة ـ يا بنى ـ ان عدوى أتانى من وجه المكر والخديعة ، فحلف لى بالله انه في مشورته على لمن الناصحين ، وذلك انه قال لى مستنصحا : أنى لشأنك يا آدم لمغموم ؟ قلت : وكيف ؟ قال : قد كنت آنست بك وبقربك منى وأنت تخرج مما أنت فيه إلى ما ستكرهه ، فقلت له : وما الحيلة ؟ فقال ان الحيلة هو ذا هو معك ، أفلا أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟ فكلا منها أنت وزوجك فتصيرا معى في الجنة أبدا من الخالدين وحلف لى بالله كاذبا انه لمن الناصحين ،ولم أظن يا موسى ان أحدا يحلف بالله كاذبا ، فوثقت بيمينه ، فهذا عذرى فأخبرنى يا بنى هل تجد فيما أنزل الله اليك ان خطيئتى كائنة من قبل ان أخلق ؟ قال له موسى : بدهر طويل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى قال ذلك ثلاثا ( ).
والآية موعظة لبني آدم فاذا كان الشيطان قد وسوس لأبيهم الذي نفخ الله عز وجل فيه من روحه وفي الجنة، فمن باب أولى أنه يجتهد في إغوائهم وإيذائهم ومحاولة إرتكابهم للمعاصي وإزلالهم عن الحق.
انه درس  عملي يجعل المسلم متيقظاً وحذراً في كل آن ومكان فمع طرده وإخراجه من الجنة إستطاع إبليس أن يصل إلى آدم وحواء ويغويهما على نحو التعدد وليس الإنفراد، مع أنه في حال الجماعة يكون الأمر أشق عليه إذ كان الغالب عندهم هو الإيمان كما هو الحال في آدم وحواء فعلى المسلم أن يكون محترزاً من شر إبليس وإحتمال مداهمته له.
ولعودة الضمير في (عنها) وجوه:
الأول: الجنة والإقامة فيها.
الثاني:  للشجرة المنهي عنها أي أزلهم عن الإمتناع عنها، فهناك حذف.
الثالث: ثمار الجنة بحيث أغراهم بما منهي عنه.
الرابع: بكلمة النهي عن تلك الشجرة.
الخامس: الطاعة وحسن الإستجابة وإستدامة الإمتثال.
السادس: نعمة الأشجار والثمار المباحة لهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه المحتملة فكلها متقاربة المعنى، وان كان الظاهر عودة الضمير إلى الشجرة المنهي عنها.
إنه إيجاز بحذف وهو نوع من أنواع البيان لما فيه من البلاغة، ولكنه في القرآن أعم وله دلالات متعددة فإزلال الشيطان لا ينحصر بموضوع دون موضوع فكما يحاول قذف الإنسان في المهالك ويغريه لإرتكاب المعاصي فانه يجتهد في منعه من إتيان الفرائض.
لقد ورد أكل آدم من الشجرة في آية أخرى صريحاً، قال تعالى [ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ]( ).
وأختلف في وجه أكل آدم من الشجرة على أقوال:
الأول: ان معاصي الأنبياء لا تقع الا سهواً فأما مع العلم بأنها معاصي فلا تقع، قاله الجبائي.
الثاني: وقع من آدم أكل الشجرة خطأ لانه كان نهياً عن جنس الشجرة فظن انه نهي عن الشجرة بعينها فأخطأ بذلك، نسب الشيخ الطوسي هذا القول إلى قوم( ).
الثالث: وقع الأكل من آدم عمداً وهي صغيرة وأنها قبل التكليف والهبوط إلى الأرض.
وفي الآية درس عرفاني من وجوه:
الأول: ضرورة المحافظة على النِعَمْ وتعاهدها بالتقوى ، وإجتناب المعصية وكأن فيها وجهاً من وجوه الشكر الذي يمكن إعتباره مادة لدوامها وإتصال أفرادها.
الثاني: إن للجحود والمعصية آثاراً ضارة لا تتعلق بالفاعل فحسب بل انها تتعدى وتتصل وتتابع لتشمل ذريته وعقبه، قال تعالى [ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ…]( ).
الثالث:يتأثر الإنسان في سلوكه الشخصي بغيره فهو قابل للإنفعال ، فيجب أن يحرص على إجتناب قرين السوء.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، فكان خازناً من خزان الجنة ، وخلقت الملائكة كلهم من نور غير ذلك الحي ، وخلقت الجن من مارج من نار . وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت ، فأول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء وقتلوا بعضهم بعضاً ، فبعث الله اليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم حتى ألحقهم بجزائر البحور واطراف الجبال .
 فلما فعل إبليس ذلك إغتر بنفسه وقال : قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد ، فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة . فقال الله للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة }( ) فقالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما أفسدت الجن قال { إني أعلم ما لا تعلمون } يقول : إني قد أطلعت من قلب ابليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره.
ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم عليه السلام من طين { لازب} واللازب اللزج الطيب من { حمإ مسنون} منتن ، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التراب ، فخلق منه آدم بيده ، فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى ، فكان ابليس يأتيه يضربه برجله ، فيصلصل فيصوت ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فمه ، ثم يقول : لست شيئاً ، ولشيء ما خلقت! ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً . 
فلما انتهت النفخة إلى سرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر . فهو قول الله { خلق الإِنسان من عجل }( ).
فلما تممت النفخة في جسده عطس فقال {الحمد لله رب العالمين}( ) بإلهام من الله فقال الله له : يرحمك الله يا آدم، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : {اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر }( ) لما حدث في نفسه من الكبر فقال : لا أسجد له ، وأنا خير منه ، وأكبر سناً ، وأقوى خلقاً ، فأبلسه الله وآيسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً)( ).
فجاءت هذه الآية لتخبر عن إبليس بصفة الشيطان وفيه تحذير منه، وبيان لسوء عاقبة الذي يعصي الله ونفرة النفوس منه.
وقد تبعث هذه الآية الحزن في النفوس لما تتضمنه من الإخبار عن مخالفة آدم وحواء لأمر الله عز وجل بإغواء إبليس لهما وقيامهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، مع أن أشجار وثمار الجنة من اللامتناهي.
وتبين الآية الضرر الفادح الذي يلحق الإنسان بسبب إستماعه للشيطان، فقد تتغير حياته إلى الضد من الهناء والغبطة والسعادة، مما يلزم الحذر والتوقي منه، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]( ).
لتكون هذه الآية على وجوه:
الأول: إنها من عمومات البيان المطلق وأخبار الغيب في القرآن، قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ). 
الثاني: في الآية درس في التفقه في أمور الدين والدنيا.
الثالث: الآية سلاح للإحتراز من أهل الضلالة والغواية.
الرابع: في الآية دعوة للمسلمين للإلتجاء والإستعاذة بالله من الزلل وإغراء الشيطان، وعن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا أبا حابس ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوّذون؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} هما المعوّذتان)( ).   
ويدرك المسلم أن الآية موعظة وعبرة فيزول الحزن الذي قد تسببه في النفس، والذي يترشح عن الحرمان من الإقامة في الجنة خصوصاً وأن آدم خلق ليكون خليفة في الأرض، ليحل بدله الشوق إلى الجنة الذي يتجلى بالسعي والعمل الصالح. 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن موسى سأل ربه أن يجمع بينه وبين آدم عليه السلام فجمع فقال له موسى: يا أبه ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة؟ قال: بثلاثين سنة، قال: فهو ذلك , قال : فحج آدم موسى عليهما السلام)( ).
 
تفسير قوله تعالى [فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ]
الآية ذم لإبليس وما أقدم عليه وإخبار عن بداية إغوائه وعدائه للإنسان، لم يمهله حتى ينزل إلى الأرض، وربما أدرك أن آدم عليه السلام لا ينزل إلا باغوائه وإزلاله له.
وفي هذا الإخراج مسائل كلامية وهي:
الأول: هل لإبليس سلطان بحيث يستطيع إيذاء الإنسان وجعله يتحمل المشاق الإضافية والعناء، الأقوى لا، إلا أنه يقوم بالوسوسة وينفعل بها بعض الناس.
الثاني:  مع تأثر الإنسان وإقدامه بنفسه على الذنب فان الله عز وجل ينسب الخطأ والزلل إلى إبليس ذماً له ، ووعيداً له بالعقاب الشديد، تخفيفاً وإكراماً للخليفة.
الثالث: في الآية سكن للإنسان ودعوة الى التوبة ، وإعراض كريم عن أصل الذنب وما يتحمله الإنسان فيه من القسط.
الرابع: إن الله تعالى مع عبده يساعد الإنسان في الإحتراز من إغواء إبليس، وإن أغواه فان الله تعالى يمهله ولا يؤاخذه، فإبليس عدو لله ، وأراد الله للإنسان أن يكون خليفته في الأرض فهو تعالى مع خليفته على عدوه.
الخامس: من وجوه نصر الله تعالى لعبده المؤمن وعدم خذلانه فتح باب التوبة.
السادس: الإخراج عبرة وموعظة يعرف من خلالها المسلمون والمليون جميعاً الضرر الفادح الذي ينجم عن إتباع إبليس ووسوسته.
السابع: تخبر الآية عن أذى إبليس لآدم وأنه إنحلالي يشــمل كل إنسان لأنه الســبب في خروجــهم من الجنة بالواسطة، أي لو بقى آدم في الجنة لبقيت معه ذريتــه، وهذا لا يتعارض مع القول بحتمية النزول أو الخلافة في الأرض لأن إبليس هو السبب المباشر، هذا على القول بان الجنة في السماء،وهو المشهور والمختار ، وحتى على القول بأنها في الأرض فلا وجه للتعارض أو التزاحم، بلحاظ فقدان الذرية لنعم الجنة التي تأتي من غير كد ولا تعب، كما أنعم الله عز وجل على بني إسرائيل بنزول المن والسلوى لهم كل يوم.
وقيل: كانت الأنبياء تكون لهم مساجد خارجة من قراها ، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء ، خرج إلى مسجد فصلى ما كتب له ثم سأل ما بدا له . فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة ، فقال النبي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً . فقال إبليس : أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ فأخذ كل واحد منهما على صاحبه ، فقال النبي : إن الله يقول[إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ]،  قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي : ويقول الله[وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ] وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك . قال إبليس : صدقت . . . بهذا تنجو مني . فقال النبي : فأخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ قال : آخذه عند الغضب وعند الهوى( ) .
فهل كان آدم في حال أكله من الشجرة في حال غضب أو هوى الجواب لا، والخبر أعلاه بخصوص بني آدم وليس آدم وحواء، وجاءت الآية بالإخبار عن أكل آدم وحواء من الشجرة بصيغة التبكيت والذم لإبليس وإلحاق المعصية والإغواء له، وهذا الإغواء والإزلال فعل قبيح آخر لإبليس غير إمتناعه عن السجود لآدم , مما يدل على خبث سريرته وعداوته للإنسان.
فقد ورد في الآية قبل السابقة معصية إبليس لله بامتناعه عن السجود لآدم، أما هذه الآية فتضمنت فعلين من إبليس هما:
الأول: إغواء إبليس لآدم وحواء بالأكل من الشجرة، وقيل: لما أسكن الله آدم وحوّاء الجنة خرج آدم يطوف في الجنة ، فاغتنم إبليس غيبته فأقبل حتى بلغ المكان الذي فيه حوّاء ، فصفر بقصبة معه صفيراً سمعته حواء ، وبينها وبينه سبعون قبة بعضها في جوف بعض ، فأشرفت حواء عليه فجعل يصفر صفيراً لم يسمع السامعون بمثله من اللذة والشهوة والسماع حتى ما بقي من حواء عضو مع آخر إلا تخلج ، فقالت : أنشدك بالله العظيم لما أقصرت عني فإنك قد أهلكتني ، فنزع القصبة ثم قلبها فصفر صفيراً آخر ، فجاش البكاء والنوح والحزن بشيء لم يسمع السامعون بمثله حتى قطع فؤادها بالحزن والبكاء ، فقالت : أنشدك بالله العظيم لما أقصرت عني ، ففعل فقالت له : ما هذا الذي جئت به؟ أخذتني بأمر الفرح وأخذتني بأمر الحزن . قال : ذكرت منزلتكما من الجنة وكرامة الله إياكما ففرحت لكما بمكانكما ، وذكرت إنكما تخرجان منها فبكيت لكما وحزنت عليكما ، ألم يقل لكما ربكما متى تأكلان من هذه الشجرة تموتان وتخرجان منها؟ أنظري إليّ يا حواء ، فإذا أنا أكلتها فإن أنا مت أو تغير من خلقي شيء فلا تأكلا منها ، أقسم لكما بالله إني لكما من الناصحين . فانطلق إبليس حتى تناول من تلك الشجرة فأكل منها ، وجعل يقول : يا حواء انظري هل تغير من خلقي شيء أم هل مت قد أخبرتك ما أخبرتك . ثم أدبر منطلقاً. وأقبل آدم من مكانه الذي كان يطوف به من الجنة فوجدها منكبة على وجهها حزينة ، فقال لها آدم : ما شأنك . . . ؟! قالت أتاني الناصح المشفق قال : ويحك . . . ! لعله إبليس الذي حذرناه الله؟ قالت : يا آدم والله لقد مضى إلى الشجرة فأكل منها وأنا أنظر فما مات ولا تغير من جسده شيء ، فلم تزل به تدليه بالغرور حتى مضى آدم وحواء إلى الشجرة ، فأهوى آدم بيده إلى الثمرة ليأخذها ، فناداه جميع شجر الجنة : يا آدم لا تأكلها فإنك إن أكلتها تخرج منها ، فعزم آدم على المعصية فأخذ ليتناول الشجرة ، فجعلت الشجرة تتطاول ثم جعل يمدّ يده ليأخذها ، فلما وضع يده على الثمرة اشتدت ، فلما رأى الله منه العزم على المعصية أخذها وأكل منها ، وناول حواء فأكلت ، فسقط منها لباس الجمال الذي كان عليها في الجنة ، وبدت لهما سوءاتهما ، وابتدرا يستكنان بورق الجنة يخصفان عليهما من ورق الجنة ويعلم الله يُنظر أيهما، فأقبل الرب في الجنة فقال : يا آدم أين أنت أخرج؟ قال : يا رب أنا ذا أستحي أخرج إليك . قال : فلعلك أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : يا رب هذه التي جعلتها معي أغوتني . قال : فمتى تختبىء يا آدم؟ أو لم تعلم أن كل شيء لم يا آدم ، وأنه لا يخفى عليّ شيء في ظلمة ولا في نهار؟ قال : فبعث إليهما ملائكة يدفعان في رقابهما حتى أخرجوهما من الجنة ، فأوقفا عريانين وإبليس معهما بين يدي الله ، فعند ذلك قضى عليهما وعلى إبليس ما قضى ، وعند ذلك أهبط إبليس معهما ، وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، وأهبطوا جميعاً( ).
 ولم يرفع الخبر ولعل فيه من الإسرائيليات ولغة الكتب الأولى كما في (فاقبل الرب في الجنة، فقال: يا آدم اين أنت أخرج).
الثاني: نسبة خروج آدم وحواء من الجنة إلى إبليس ومكره وخداعه وفيه دعوة للإنسان بأن لا يتعقب المعصية بأخرى من جنسها، فيزيد من الأوزار على ظهره في الدارين، بل عليه أن يتعقب المعصية في حال وقوعها بالتوبة والإستغفار كي تكون هذه التوبة طريقاً إلى الجنة واللبث الدائم فيها، قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ) .
 ترى  هل في نعت إبليس بصفة(الشيطان) في هذه الآية حجة على  آدم في لزوم الحذر والحيطة منه، الجواب لا دليل على إقامة الحجة عليه ولكن هذا النعت زيادة في تحذير آدم وذريته من إبليس ومكره وكيده .
 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المؤمن غر كريم، والفاجر خبُّ لئيم ( ).
بحث بلاغي
ترد الفاء للعطف وتعني التعقيب، وهذا التعقيب من حيث أفراد الزمان الطولية من الكلي المشكك فتارة يتسع وتارة يضيق كل بحسبه، فمثلاً يقال: تزوج زيد فولد له فلابد من مدة حمل الزوجة، أما قولك زالت الشمس فأذّن المؤذن فيدل على حصول الأذان بعد الزوال من غير مهلة.
والفاء في [ فَأَخْرَجَهُمَا ] تفيد التعقيب فلابد من الرجوع في تحديد مدة بقاء آدم في الجنة الى القرآن لأنه يفسر بعضه بعضاً وإلى السنة الشريفة لأنها بيان للقرآن.
وظاهر الآية قصر المدة بين السكن والهبوط ، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أسكن الجنة وفيه أهبط وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيرا إلا آتاه إياه فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة قال الله عزوجل[خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ] ( ).
ولا يدل الحديث على الإتحاد في ذات يوم الجمعة .
وقيل المراد بالساعة وقت مخصوص من يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا، وتكون ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر من حساب السنين في الدنيا بإعتبار أن اليوم اثنتا عشرة ساعة.
وبالإسناد (عن ابن عباس قال خرج آدم من الجنة بين الصلاتين صلاة الظهر وصلاة العصر فأنزل إلى الأرض وكان مكثه في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة وهو خمسمائة سنة من يوم كان مقداره إثنتى عشرة ساعة ، واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا) ( ).
وقال الطبري: وهذا قول خلاف ما وردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف من علمائنا( )، والظاهر أن بقاء آدم في الجنة بلحاظ ساعات وأيام الحياة الدنيا.
لقد جاء التعقيب بالعطف بالفاء في الآية الكريمة للدلالة على قصر مدة بقاء آدم وحواء في الجنة، وهذا البيان من اللطف الإلهي وإخبار بان الله عزوجل كريم يريد لآدم وحواء البقاء والمكث الطويل في الجنة لولا وسوسة وإغواء إبليس.
وفي موضوع الهبوط ومكانه ومدة بقـاء آدم في الجنة  (ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : ان الله تبارك وتعالى نفخ في آدم من روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من اسفل أضلاعه ، ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك ، فوالله ما استقر فيها الا ست ساعات في يومه ذلك حتى عصى الله تعالى فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، فإستحى آدم فخضع وقال: ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فأغفر لنا، قال الله لهما اهبطا من سماواتي إلى الأرض فأنه لا يجاورني في جنتي عاصٍ ولا في سماواتي( ).
وروى الصــدوق عن الإمام الباقر عن آبــائه عليهم السلام عن الإمام علي عن رســول الله صــلى الله عليه وآله وســلم قال: “انما كان لبث آدم وحواء في الجنّــة حتى أخــرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أهبطهما الله من يومهما”.
وورد الحديث المتقدم عن رسول الله ، وليس فيه تعيين ان يوم الجمعة من أيام الدنيا أو الآخرة بل هناك نصوص تشير بانه من أيام الدنيا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه)( ).
وهو قرينة لإرادة كل يوم جمعة في الدنيا وليس يوم الجمعة الذي لا يأتي إلا بعد ستة آلاف سنة بلحاظ أن كل يوم من أيام الإسبوع ألف سنة، والذي تمر معه أحقاب عديدة ، وأجيال يصعب إحصاؤها ولم يوفق أحد منهم لتلك الساعة، في الوقت الذي  جاء فيه الحديث لترغيب كل مسلم ومسلمة في الإجتهاد في الدعاء والعبادة يوم الجمعة من كل إسبوع.
 وقد جاء الحديث أعلاه بالإخبار بان مكث آدم في الجنة سبع ساعات من ساعات الدنيا، فيصح الجمع بينهما وتقييد المطلق بالمقيد.
والصحيح أن مدة مكث آدم في الجنة قصيرة ولساعات من يوم من أيام الحياة الدنيا ، كما جاء في الحديث أعلاه .
تفسير قوله تعالى [وَقُلنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ…]
أمر جاء متعقباً للزلل والخطأ ويعني الخروج من الجنة ومن لواحق الخــروج إختـلال المزاج ونفاذ الغل إلى الصــدور، فصدور أهل الجنة خالية من العداوة والبغضاء كما في قوله تعالى [ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ…]( ).
وقال بعضهم وخلافاً للظاهر ان قوله تعالى [ اهْبِطُوا ] يفيد الإباحة وليس الأمر، وهذا القول يحتاج الى قرينة صارفة وهي مفقودة في المقام، وقال الإمام الرازي: (ان ما في الهبوط من المشـقة والتكليف يبطل ما يظن أنه عقوبة لان التشديد في التكليف سبب الثواب)( ).
والإسـتدلال غير تام اذ لا ملازمة بين نفي العقوبة وبين التكليف، فالتكليف عناء ويستلزم الجهد بالقياس الى نعيم الجنة والرحمة التي تتغشى عموم أهلها بالإعفاء من الكد والتكليف والمشــقة والتعب الذي يتضمنه التكليف بالذات او يأتيه بالعرض، كما ان التكليف باب للإبتـلاء ومادة للإمتحان لا يوفق الناس جميعاً لاجتيازه ونيل الثواب عاقبة حميدة له، ثم ان متعلق التكليف الثواب في النشأة الآخرة , ولم يكن الهبوط علة له بل هو مناسبة.
وصحيح ان للهبوط معنى الحلول في المكان كما في قوله تعالى[ اهْبِطُوا مِصْرًا …]( ) إلا أنه لا يعني بالضرورة أن جنة آدم في الأرض، الا ان تكون هناك أدلة أخرى تدل عليه ، وأن الأصل والمتبادر هو كونها في السماء.
والخطاب في الآية موجه بصيغة الجمع بينما جاء موضوع الخروج (فأخرجهما) بصيغة التثنية، مما يستبعد ان يكون خطاب الهبوط متعلقاً بآدم وحواء وحدهما , وان كان المثنى أقل الجمع.
وقد ذكرت في الآية وجوه وجوه: وجوه :
الأول: الخطاب موجه الى آدم وحواء والى إبليس، ولا يضر في المعنى الإجمالي لهذا القول أسبقية خروج إبليس من الجنة فقد جمعه معهما موضوع الهبوط، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بكونه علة للحكم، وتنجز واقعاً بهبوط آدم وحواء أمر العداوة لما فيها من المفاعلة، والإطلاق الشمولي للعداوة في الآية يمكن تصوره على وجوه:
الثاني: عداوة إبليس لآدم وحواء.
الثالث: عداوة إبليس لآدم.
الرابع: عداوة إبليس لحواء.
الخامس: عداوة آدم لإبليس.
السادس: عداوة حواء لإبليس.
السابع: عداوة آدم وإبليس لحواء.
الثامن: عداوة آدم لحواء وإبليس.
التاسع: عداوة حواء وإبليس لآدم.
العاشر: عداوة حواء لآدم وإبليس.
الحادي عشر: عداوة حواء لآدم.
الثاني عشر: عداوة آدم لحواء.
الثالث عشر: عداوة آدم وحواء لإبليس.
الرابع عشر: الخطاب إنحلالي يتعدد بلحاظ بني آدم فيما بينهم.
الخامس عشر: العداوة بين كل الناس من جهة وبين إبليس من جهة أخرى.
السادس عشر: لا تنحصر العداوة بالأحياء بل تشمل المعدوم، فالحي يبغض بعض الأموات.
والصحيح هو الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، والثاني عشر والرابع عشر.
والعداوة بين الناس أمر عرضي وتزول بتقوى الله وإفشاء السلام وإظهار الأخلاق الحميدة والتقيد بأحكام الفرائض، ويحترز من إبليس بالدعاء لينحصر العداء بين الناس وبين آدم.
الثاني: الخطاب موجه لآدم وحواء والحية، ولكن لم يرد ذكر للحية في الآيات المتقدمة أو إشارة تفيد دلالة الكناية في هذه الآية الكريمة عليها , و(عن ابن عباس: إن عدوّ الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أنها تحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم. فكل الدواب أبى ذلك عليه حتى كلم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم فإنك في ذمتي إن أدخلتني الجنة، فحملته بين نابين حتى دخلت به، فكلمه من فيها وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم فاعراها الله، وجعلها تمشي على بطنها. يقول ابن عباس: فاقتلوها حيث وجدتموها، اخفروا ذمة عدوّ الله فيها)( ).
الثالث: المراد آدم وحواء وذريتهما , أي ان العداوة تستمر لتطال الأبناء أما بسبب الزلة والأكل من الشجرة، وأنها تستحق أن يكون جزاؤها من العداوة متصلاً في الأبناء، أو لأن الأبناء لديهم قابلية الأكل لو عرضوا للامتحان والإختبار، أو لسبب ثالث يتعلق بطبيعة السكنى على الأرض لاسيما وان اللذة والألم من توابع المزاج.
الرابع: آدم وذريته وإبليس وذريته، إذ بدأت العداوة بالحسد الذي تجسد خارجاً بالمكر والوقيعة والإستدراج إلى الزلل وما فيه خسارة وندم وتفويت الأَولى.
الخامس: آدم وحواء والوسوسة، عن الحسن البصري( )، ولكن ظاهر الخطاب أنه موجه للعقلاء.
وموضوع الآية ومناسبتها برهان على إرادة المعنى الأول أعلاه وهو توجه الخطاب إلى آدم وحواء وإبليس وحصول العداوة بينهم.
وفي الآية وجوه:
الأول: توجه الخطاب إلى الجنس أي أن العداوة حاصلة بين الرجال من جهة، والنساء من جهة، وإبليس وذريته من جهة أخرى، ثم أن العداوة ليست دائمة ظاهرة، فمع أدنى تلبس ببعض وجوهها يتحقق موضوعها، ولكن هذا الوجه والتفصيل بعيد.
الثاني:  تلك العداوة جزء من أحكام الحياة الدنيا اذ جعلها الله عز وجل دار إمتحان وإبتلاء وإفتتان، فربما تجد تلك العداوة بين الإيمان والكفر وهو الأصل فيها، أي أن عداوة آدم لإبليس كانت عداوة الإيمان للكفر، وعداوة إبليس لآدم عداوة كفر وحسد.
الثالث: ان تلك العداوة هي التي تظهر بالفعل والعمل حقيقة الإعتقاد والإستحقاق من الجزاء، ولكن الجزاء موضوع مستقل عن المعصية لتعلقه موضوعاً وكماً وكيفاً بحضور عفو الله تعالى.
الرابع: لقد أجمع النحويون على ان (بعض)( ) شيء من شيء أو أشياء أي أن الآية الكريمة لا تعني إطلاق العداوة وشمولها لجميع الناس، فقد تكون العداوة من طرف واحد، ويحتمل ظاهر الآية الكريمة هذا المعنى، وقد يكون أفراد من الناس ليس لهم عداوة مع غيرهم وربما تجد من ليس له عدو , نعم عداوة إبليس لعامة الناس متصلة بالاغراء والإغواء، ولكنها أيضاً قد لا تستمر حتى قيام الساعة، ورد في التنزيل: [ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ]( ).
الخامس: تبقى وظيفة الدعاء غير معطلة في هذا الباب، فهي نافعة على صعيد الأفراد والجماعات ليس لأن الله عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت فحسب , بل لأن الآية الكريمة تقبل الإنقباظ والإنبساط للغة التبعيض الواردة فيها.
السادس: ليس بالضرورة ان تكون العداوة حالة متبادلة بين كل طرفين، فقد تنعدم فيها المقابلة ورد الفعل، وقد تجدها في طرف أكثر منها في طرف آخر.
السابع: للعداوة مراتب متفاوتــة ودرجــات متبـاينة، فقد تكون محصــورة بصيغ الحسد وتمني زوال النعمة، وقد تكون ظاهرة على اللسان بالقول المباشر الصريح أو بالكناية والتعريض، أو بالمواجهة أو صيغ الغيبة القولية والفعلية، أو تكون ظاهرة بالفعل والأثر ووجوه العداوة في باب الفعل أيضاً متعددة.
ولكن ذلك كله من شعب العداوة التي شاء الله ان تكون قريبة من أهل الأرض في حياتهم وصلاتهم ومعاملاتهم.
الثامن: إن تلك العداوة وآثارها نتيجة لفعل الشيطان وسماع آدم لدعوته للأكل من الشجرة أي أن أصل الإبتلاء راجع إلى المخلوقين أنفسهم , والله تعالى منزه عن إرادة المعصية للناس مع أن قدرته تتعلق بجميع المقدورات، خلافاً للنّظام الذي إعتقد أن الله عز وجل لا يقدر على القبيح وأنه لو كانت قدرته على القبيح ممكنة لكان وقوع القبيح ممكناً.
وبغض النظر عن موضوع الجنة ومكانها من السماء أو الأرض ترى أين كان هبوط آدم وحواء من الأرض وهل هو في موضع واحد أو في مكانين متقاربين أو متباعدين , وهل للأمر صلة بموضوع العداوة الوارد في الآية الكريمة.
لقد تعددت الروايــات الواردة في المقــام على وجوه:
الأول : في احــتجـاج الامام علي مع الشامي حين سأله عن أكرم وادٍ على وجه الأرض؟ فقال: وادٍ يقال له سرنديب سقط فيه آدم من السماء.
الثاني : في الخبر ان هبوط آدم كان على الصفا، وانما سميت الصفا لأن صفوة الله نزل عليها ونزلت حواء على المروة، وانما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها.
الثالث : روي ان إبليس كان بين لحيي الحية أدخلته الجنة وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه ولم يعلم أن إبليس إختفى بين لحييها، فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس.
الرابع : لما أراد إبليس دخول الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية وهي كأحسن الدواب بعد ما أبت الدواب الاخرى قبوله، فابتلعته الحية وادخلته خفية من الخزنة، فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة، فسقطت قوائم الحية وصارت تمشي على بطنها وجعل رزقها في التراب وصارت عدواً لبني آدم، عن ابن عباس( ).
الخامس السادس والسابع: أخرد ابن جرير في تاريخه والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن آدم حين خرج من الجنة كان لا يمر بشيء إلا عنت به فقيل للملائكة: دعوه فليتزوّد منها ما شاء. فنزل حين نزل بالهند، ولقد حج منها أربعين حجة على رجليه.
وأخرج سعيد بن منصور عن عطاء بن أبي رباح قال : هبط آدم بأرض الهند ومعه أعواد أربعة من أعواد الجنة، وهي هذه التي تتطيب بها الناس، وأنه حج هذا البيت على بقرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة)( ).
الثامن: أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هبط آدم وحواء عريانين جميعاً، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر حتى قَعَدَ يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر، فجاءه جبريل بقطن، وأمرها أن تغزل وعلمها، وعلم آدم وأمر آدم بالحياكة وعلمه، وكان لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها، وكان كل منهما ينام على حدة حتى جاءه جبريل فأمره أن يأتي أهله وعلمه كيف يأتيها، فلما أتاها جاءه جبريل فقال: كيف وجدت امرأتك؟ قال: صالحة)( ). 
التاسع: في قصة عصا موسى قال[قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( )، ورد أن شعيبا عندما قصت عليه إبنته ما رأت من موسى عليه السلام من القوة والأمانة، عرض عليه شعيب نكاح إحدى إبنتيه(قال لموسى: ادخلْ هذا البيتَ وأخْرِجْ مما فيه من العِصِيِّ عصاً، وكان البيتُ مظلِماً، فَدَخَل وأخرج العصا، تلك التي أظهر الله فيها معجزاته، ويقال: إنها كانت لآدم عليه السلام، ووقعت لشعيب من نبيٍّ إلى نبيٍّ. إذ يقال: إنه لما هَبَطَ آدمُ إلى الأرض صال عليه ما على وجهها من السَِّباع، فأنزل عليه الله عصاً ، وأمَرَه جبريلُ أنْ يَرُدَّ السباعَ عن نَفْسِه بتلك العصا.
وتوارث الأنبياءُ واحداً بعد الآخر تلك العصا، فلمَّا أخرج موسى تلك العصا، قال شعيب: ردَّها إلى البيت، واطرحها فيه، وأخْرِجْ عصاً أخرى، فَفَعَلَ غير مرة، ولم تحصل كلَّ مرة في يده إلا تلك العصا ، فلمَّ تَكَرَّرَ ذلك عِلِمَ شعيبُ أنَّ له شأناً فأعطاه إياها.
وفي القصة: أنه في اليوم الأول ساق غَنَمه، وقال له شعيب: إنَّ طريقَكَ يتشعب شِعْبَيْن: على أحدهما كَلأٌ كثيرٌ… فلا تَسْلُكْه في الرعي فإنَّ فيه ثعباناً، واسْلُكْ الشِّعْبَ الآخرَ . فلمَّا بلغ موسى مَفْرِقَ الطريقين، تَفَرَّقَتْ أغنامُه ولم تطاوعه، وسامت في الشِّعْبِ الكثيرِ الكَلأَ، فَتَبِعَها ، ووقع عليه النومُ، فلمَّا انتبه رأى الثعبانَ مقتولاً، فإن العصا قتلته، ولمَّا انصرف أخبر شعيباً بذلك فَسُرَّ به. وهكذا كان يرى موسى في عصاه آياتٍ كثيرة، ولذا قال: { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى })( ).
العاشر: قال وهب بن منبه: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع : إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب وقالوا : أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما راى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاء جبريل عليه السلام وقال له : امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فآمنه آدم فبقي معه ومع أولاده 
 وقال الترمذي نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان اشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده , فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الأدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في الأعراف إن شاء الله تعالى ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه)( ).
وقد تعرض المتكلمون إلى هبوط آدم وأســبابه في باب عصـمة الأنبياء، وتمســك بعضــهم بقــوله تعالى [وَعصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]( )، وان المعصية كبيرة خصوصاً مع اعتبار الهبوط عقوبة، ولكن الأكل حصل في الجنة ولها أحكامها ونواميسها التي تختلف عن عالم التكليف، وان الهبوط أعم من العقوبة بل قد يكون برزخاً ومرتبة أدنى من العقوبة كما ان ظاهر الآية الكريمة نسبت الزلل إلى سببه وهو الشــيطان إذ غرر بآدم وحــواء لقوله تعالى [فَأَزَلَّهما]، فالهبوط لا يدل على الإثم وتعقبه بالعقاب، ومع الشك فتعتبر أصالة البراءة.
لقد فقد آدم بالهبوط النعم العظيمة في الجنة، وإستعد للبلاء والشقاء وأدرك ما في الحياة الدنيا من النكد والتعب , فأكثر من الأسف والبكاء على الجنة. 
وفي الحديث: أن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح عليهما السلام إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر”( ).
أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال إبليس لربه تعالى: يا رب قد أهبط آدم، وقد علمت أنه سيكون كتاب ورسل، فما كتابهم ورسلهم؟ قال: رسلهم الملائكة والنبيون، وكتبهم التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان. قال: فما كتابي؟ قال: كتابك الوشم، وقراءتك الشعر، ورسلك الكهنة، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه، وشرابك كل مسكر، وصدقك الكذب، وبيتك الحمام، ومصائدك النساء، ومؤذنك المزمار، ومسجدك الأسواق)( ).
علم المناسبة
وردت مادة “هبط” في القرآن ثمان مرات، كلها بصيغة الفعل، واحدة منها بصيغة الفعل المضارع المفرد، والباقي بصيغة الأمر، منها أربعة بلغة الجمع “إهبطوا” ومنه هذه الآية، ثلاثة منها في قصة آدم وهبوطه وحواء، وكذا إبليس الى الأرض بعد خروجهم من الجنة، وواحدة في بني إسرائيل عندما سألوا موسى عليه السلام أن يسأل الله من نبات الأرض بدل نعمة المن والسلوى اللذين ينزلان من السماء كل يوم بأن أمرهم الله عز وجل بالذهاب الى مصر [اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]( ).
وهل من ملازمة بين لفظ الهبوط في القرآن وبين الإبتلاء كما يظهر في هبوط آدم وحواء إلى دنيا الإمتحان والإختبار، وذهاب بني إسرائيل الى مصر الجواب لا، وقد ورد لفظ “إهبط” مع إقترانه بالبركة في نوح عليه السلام قال تعالى [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ]( ).
لبيان فضل الله عز وجل على نوح ومن معه من المؤمنين وقيل: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة الى يوم القيامة “وعن ابن الزبير: هبطوا والله عنهم راضِ”( ).
ومن الآيات ان يقترن هبوط آدم وحواء بوجهين من العداوة متغايرين في الموضوع:
الأول: عداوة آدم وحواء لإبليس لأنه عدو الله.
الثاني: عداوة إبليس لآدم وحواء، وسعيه لإذلال بني آدم .
 والعداوة الأولى حرز وواقية من كيد ووسوسة الشيطان، أما العداوة الثانية فهي إبتلاء وموضوع لإفتتان ذرية آدم.
ومن فضل الله عز وجل على الإنسان ان جعل عداوته للشيطان ملكة راسخة، وجزء من سنخية وهو من بديع صنع الله، وعمومات خلافة الإنسان في الأرض، فلم ينزل آدم وحواء الى الأرض إلا وهما عدوان للشيطان، مبغضان له ولفعله، قد أدركا وذريتهما أنه السبب في مغادرتهم الجنة، ليسعوا لها من جديد من أجل الخلود فيها بالإيمان والعمل الصالح.
قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ ]
الأرض آية من آيات الله في هيئتها وحجمها وسكونها وحركتها، وما جعل الله فيها من البركة والنعم وليس من دليل على ان الأرض التي نعيش عليها هي الكوكب الوحيد الذي يصلح لسكن الإنسان , ففي التنزيل [ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأرض مِثْلَهُنَّ ]( ). وروى فخر الدين في كتاب جواهر القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “لله أرض بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً هي مثل الدنيا ثلاثون مرة مشحونة خلقاً لا يعلمون ان الله خلق آدم ولا إبليس ولا يعلمون ان الله يعصى في الأرض( ).
ولقد جعل الله عز وجل الأرض وما عليها في خدمة الإنسان وأسباباً لملذات نفسه وحاجاته أي أن هبوط الإنسان إلى الأرض نعمة منه تعالى يعجز الإنسان عن شكرها مما يمكن معه الإستدلال بأن هبوط آدم للأرض لم يكن عقوبة.
أنها نعمة أخرى من فضله ولكنها أدنى درجة من الجنة، كما جعلها الله طريقاً للرجوع الى الجنة فهي محل التوبة والندم والتدارك، لذا يمكن القول بأن من فلسفة الحياة الدنيا انها دار التوبة.
ان أمر الله تعالى بإتخاذ الأرض مستقراً وقراراً ومقاماً ثابتاً لآدم وذريته فتح باب الحياة الدنيا وما فيها من الإبتلاء والصراع بين الخير والشر، وبين الإيمان والكفر ، فكان نزول إبليس متلازماً مع نزول آدم كي لا يقول بعضهم ان من الناس كآدم مثلاً لم يتعرض للإفتتان في الدنيا، او انه نال منزلته في الآخرة من غير عناء في صنوف الجهاد.
(وروى السُدي عن ابن عباس انه قال المستقر هو القبر)( ) وظاهر الآية وسياقها وموضوعها يفيد إتخاذ الأرض سكناً ومقاماً.
وأخرج ابن عساكر في تأريخه عن ابن عباس قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة، فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما. وكان الذي دارى عنهما من سوآتهما أظفارهما {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض ، فانطلق آدم مولياً في الجنة، فأخذت برأسه شجرة من شجر الجنة، فناداه ربه: يا آدم تفر؟ قال: لا، ولكني استحيتك يا رب قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمت عليك؟ 
قال: بلى يا رب ولكن وعزتك ما حسبت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدا . فاهبطا من الجنة وكانا يأكلان منها رغداً ، فاهبط إلى غير رغد من طعام ولا شراب، فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وزرع، ثم سقى حتى إذا بلغ حصد، ثم درسه ، ثم ذراه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه ، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ، وكان آدم حين أهبط من الجنة بكى بكاء لم يبكه أحد، فلو وضع بكاء داود على خطيئته، وبكاء يعقوب على ابنه، وبكاء ابن آدم على أخيه حين قتله، ثم بكاء أهل الأرض ما عدل ببكاء آدم عليه السلام حين أهبط)( ).
تفسير قوله تعالى [ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ]
إرادة الإستمتاع والإنتفاع من الأرض وبركاتها الى أجل معين , ترى هل متعلق الآية الفرد والشخص كي يكون المعنى أن الإستمتاع إلى حين أجله وموته، أم أنه يشمل نوع الإنسان إلى يوم القيامة وفناء الآجال؟ الأقوى هو الثاني والنظر إلى الآية الكريمة بالمعنى الأعم مع عدم وجود القرينة الصارفة أو المخصص أو المقيد.
وأضيف قولاً ثالثاً وهو وجود دلالة في الآية لإحتمال إنتقال الإنسان من الأرض إلى غيرها من الكواكب وقد يكون أحد مصاديق الحين المقصود في الآية الكريمة لبعض الجماعات والأمم أي ينتهي بهذا الإنتقال أو أن الحين مركب من الإنتقال إلى كواكب أخرى ومن الفناء.
لم يتعرض المفسرون إلى هذا القول ولم يطرأ على أوهامهم، ولا تقصير منهم فيه، وانما هو إستقراء من التطورات العلمية الحديثة وما يحدث في علوم الفضاء ورحلات الإنسان المتزايدة إليها وبلوغ المركبات كوكب المريخ والإهتمام بالدراسات الخاصة بسكن الإنسان في تلك الكواكب بالإضافة إلى التطور المخيف في عالم السلاح والأرقام المفزعة للخسائر والدماء وما ينتج عن إستعمال كل نوع منها، وكل فرد من أنواع تلك الأسلحة الآخذة بالإزدياد والإتساع طولاً وعرضاً، وكماً وكيفاً.
ليكون هذا المعنى لغة إنذار ، ووجه من وجوه تفسير ذيل الآية يرتبط بوسطها إرتباطاً بيناً، فهذا السلاح وإستخدامه جزء من تلك العداوة التي جعلها الله بين بني آدم وإبليس، وكذلك بين بني آدم أنفسهم بتوسط إبليس ووسوسته او بينهم مباشرة باستيلاء القوة الغضبية والسبعية، وهو على فرض تحققه مرتبط بصدر الآية ايضاً فان الشيطان الذي أخرج آدم وحواء من الجنة هو الذي سوف يكون وراء خروج بني آدم من الأرض ومغادرتهم لها على الإحتمال الذي فرضناه لتفسير ذيل الآية ولوجود العداوة والبغضاء.
أي أنه يمكن أن يتفرع عن المسألة عدة فروع منها أن الحياة على سطح الكواكب الأخرى لن تكون مثلما هي على الأرض وما سخّر للإنسان فيها وقد تقــدم تفســير قـوله تعالى [ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا] ( )، إلا أن يشاء الله وهو الواسع الكريم.
ان الدراسات والتحقيقات العلمية والميدانية التي أجريت للكواكب التي وصل إليها الإنسان أو إستطاع الإطلاع على بيئتها تؤكد ما تمتاز به الأرض من بركات.
وكما هو شأن أهل الأرض في إختلاف سكناهم على بقاعها، فإن بعضهم يتابع بهدوء حالة الحرب عند آخرين لدى حدوثها وقد يحدث يوماً أن يتابع الناس الذين يقيمون في كوكب آخر ما يجري بين أهل الأرض من المعارك المدمرة، ترى هل يمتنعون عن إستقبال وافدين جدد إلى كوكبهم أو ان بعضهم يمنع والبعض الآخر يستقبل ومنهم من يبحث عن كوكب جديد طمعاً أو هرباً خاصة وأن العداوة الواردة في الآية الكريمة جاءت مطلقة.
وعلى فرض مغادرة الإنسان للأرض فهل تكون تلك المغادرة جماعية نوعية، ام انها شخصية ونسبية، وهل وهي دائمة بسبب ملائمة الكواكب الأخرى ، وإستحسان الحياة فيها وقلة ونضوب ثروات الأرض او ان تلك المغادرة وقتية والى أجل محدود زماناً، مهما كان الواقع المتحقق فانه سيكون دليلاً وشاهداً إعجازياً على عظمة القرآن إذ أن تحقق تلك المغادرة بأية نسبة إجتماعية من نوع الإنسان تعلن بداية إنتهاء إعتبار الأرض مستقراً ومقاماً للنوع الإنساني على نحو الإطلاق خاصة مع فتح باب الهجرة المقرون بالإغراء إلى الكواكب الأخرى.
وهل في مثل هذا القول تعارض مع قوله تعالى [ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً…]( ) او ان الخلافة قد تمت وتحققت بأدنى تلبس أي بوجود آدم عليه السلام، او ان الآية الكريمة اعـلاه في خلافة الأرض تفيد بقاء النوع الإنساني على سـطح الأرض الى يوم القيامة، مما هو ثابت عقلاً انه لا تعارض بين آيات القرآن، وان الخلافة في الأرض قد تحققت، اما بقاء النوع الإنساني على وجه الأرض الى يوم القيامة او عدمه فيمكن ان يستفاد من آيات اخرى، وان إنتقال الإنسان إلى الكواكب الأخرى على فرض حصـوله لا يبطل موضوع الخلافة، فالقرآن مادتها، والعمل بأحكامه دليل تعاهدها والعلم عند الله.
ومع هذا الإحتمال وإنتقال الإنسان إلى كواكب أخرى يبقى معنى الآية أن المراد من المتاع الإطلاق والعموم، أي إلى حين النفخ في الصور، قال تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] ( ).
لقد شاء الله عز وجل ان يأكل آدم وزوجته من تلك الشجرة التي نهاهما عنها وتلك مسألة تدل على المنزلة الكبيرة الواسعة بين الجبر والتفويض، فلقد نهاهما الله عز وجل وزجرهما عن الاكل منها من غير أن يمنعهما بقدرته عنها او يجبرهما على الإقتراب والأكل.
بل أكلا منها بمشيئتهما وارادتهما لتقوم الحجة عليهما وليقضي الله أمراً كان مفعـولا، (عن الامام موســى بن جعفر قال: أن لله ارادتين ومشيئتين ارادة حتم وارادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، او ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ ان يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله) .
(وفيه ايضاً عن الإمام الصادق عليه السلام: أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل)( ).
إن إشتراك آدم وحواء في الأكل من الشـجرة باب تخفيف عن الرجال والنساء معاً حال دون توجيه أحدهما اللوم للآخر بأنه سبب النزول والهبوط وما فيه من الإبتلاء والإنشـغال بالقاء كل طرف على الآخــر اللوم في التقصير، أي ان الرجل يوجه اللوم للمرأة , والمرأة توجه اللوم للرجل على الخروج من الجنة، وفي موضوع الهبوط وأسبابه دعوة لإجتناب الخطأ، وحث على التدارك الذي يبدو يسيراً ونافعاً. 
والمتاع اسم مصدر التمتيع أي ما ينتفع منه في أمور الدين والدنيا و(حين) زمان مبهم , كما في قوله تعالى[ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ]( )، وكأنهم لم يعينوا أجلا معينا لإنقضاء سجن يوسف ونهاية لإيذائه , لذا سأل الغلام الذي ظن أنه سيخرج من السجن[اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ]( ).
 جاء لفظ( إلى حين ) في آية البحث لإرادة التمتع والإنتفاع وهو على وجوه:
الأول: إرادة عموم إنتفاع أجيال الناس المتعاقبة في الحياة الدنيا وإلى حين النفخة الأولى في الصور وإنقطاع الحياة الإنسانية على الأرض وغيرها .
 وعن ابن عباس: إذا مات الناس كلّهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عاماً (يسقى) الرجال من ماء تحت العرش يُدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون أُمهاتهم، وكما ينبت الزرع من الماء حتّى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثمّ يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم)( ).
الثاني: إرادة أجل كل إنسان على نحو مستقل.
الثالث: التباين في حال الإنسان أيام حياته، وتقلبه بين السعادة والشقاء، والفقر والغنى، والصحة والسقم، والقوة والضعف.
الرابع: المراد إنتقال الإنسان في سكنه إلى الكواكب الأخرى وفي حال تحقق مثل هذا الإنتقال فهل ينتقل إبليس مع الناس كما ركب في سفينة نوح ونجا من الغرق أم أن الصعود إلى السماء والكواكب مطلقاً ممنوع عليه، الأرجح هو الأول لأن هذا الصعود فرع الإقامة في الأرض بالإضافة إلى تعدد الشياطين , قال تعالى[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وعن الربيع بن أنس قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله{وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين} يقول: هذا الملك)( ).
وفي إبهام الزمان والأجل في هذه الآية إعجاز وتدل الآية على أن أوان القيامة ليس من الأسماء التي ذكرت في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، وأن إبليس حينما كان مع الملائكة لا يعلم به وهذا من الإعجاز في ذكر الآية للأسماء دون المسميات لبيان قانون وهو من المسميات ما يكون من علم الغيب الذي إستأثر الله به لنفسه , وذكر وتعليم آدم أسماءها باب للتفقه في الدين.
في إبهام مدة حين دعوة للدعاء بإطالة أمد الحياة الشخصية والنوعية , والعمل الصالح كوسيلة مباركة لإطالة الآجال والأعمار وتعاقب الأجيال, والمد في بقاء جنس الإنسان في الأرض وإكتناز الحسنات , قال تعالى[وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
*************
قوله تعالى [ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ  فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ] الآية 37.
 
الإعراب واللغة
فتلقى: الفاء إستئنافية، تلقى: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف.
آدم: فاعل مرفوع بالضمة.
من ربه: جار ومجرور متعلقان بتلقى، والضمير “الهاء” في محل مضاف اليه.
كلمات: مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.
فتاب: الفاء: حرف عطف على محذوف، والتقدير فقال آدم الكلمات فتاب عليه.
عليه: جار ومجرور متعلقان بتاب.
إنه: حرف مشبه بالفعل وإسمها.
هو: ضمير فصل لا محل له ويجوز ان يكون مبتدأ.
التواب: خبر (ان) الأول، الرحيم: خبر (ان) الثاني، ويجوز ان يكونا خبري (هو).
التلقي: الأخذ والقبول والإستقبال وفي قوله تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ]، أي تعلمها ودعا بها (نسبه ابن منظور إلى القيل( ).
والكلمات جمع كلمة وهي اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلمة حروف متتابعة تدل على معنى مفهوم، وهي في الاصطلاح المنطقي المفرد الذي يدل بهيئته لا بمادته على أحد الأزمنة الثــلاثة، وقيل سميت كلمة من الكلم وهو الجرح، فكأن الخاطر يجرح بتغير الحدث وعدم سكونه.
والتوبة: الإقلاع والإنابة، يقال تاب من ذنبه يتوب توبة أي أقلع، ومن أسماء الله تعالى (التواب) أي الراجع على عباده بالمغفرة ومحو الذنوب.
وقرئ بنصب(آدم)، بمقام المفعول به ورفع الكلمات كفاعل، أي أن الكلمات هي التي بلغته وجاءت إليه، وأن وظيفته التلقي والقبول،  والصحيح ما مرسوم في المصاحف وهو برفع (آدم)، والفارق أعم من الإعراب والقراءة.
إذ تدل القراءة برفع آدم على أن الكلمات خير محض وفضل من عند الله وأن آدم عليه السلام له موضوعية في التلقي، وقدرة عليه وعلى الإستيعاب والإتعاظ والإنتفاع من تلك الكلمات، وهذا الإنتفاع من أفراد العلم الذي رزقه الله عز وجل قبل أن يهبط إلى الأرض بقوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
ولبيان أن تعلم الأسماء كان حاجة لآدم وذريته كي يتخذوها وسيلة للتوبة والإنابة    
في سياق الآيات
بعد ان جاءت الآية السابقة بموضوع الخروج من الجنة وما لازمه من بث العداوة بين آدم وحواء وبين إبليس جاءت هذه الآية إشراقة سماوية مباركة تبين إفاضات التوبة على آدم وعلى الناس جميعاً، إنها مدرسة القرآن اذ يأتي الفضل الإلهي متعقباً للفعل، فان كان حسناً جاء الثواب وان كان بخلافه جاءت مناسبة التوبة والمغفرة.
وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن أكل آدم وحواء من ثمار الجنة من غير تعب أو عناء فان هذه الآية لم تذكر الأكل والشرب والحياة الرغيدة، بل ذكرت أموراً:
الأول: الخروج من الجنة.
الثاني: الهبوط الى الأرض، ويتضمن الدلالة بان السكن في الأرض أدنى رتبة من السكن في الجنة.
الثالث: العداوة والبغضاء بين الإنسان والشيطان.
الرابع: الإستقرار في الأرض الى أجل معلوم.
الخامس: التمتع بالحياة الدنيا وجاء لفظ “متاع” بصيغة النكرة التي لا عموم لها في مقام الإثبات.
ولكن الآيات السابقة جاءت ببيان المتاع وانه من فضل الله بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا] ( )، فان قلت هناك معادن وكنوز تم إكتشافها حديثاً، والجواب على وجوه:
الأول: انها موجودة منذ أن خلق الله الأرض.
الثاني: حدثت بعد خلق الأرض بفضل الله تعالى.
الثالث: حصلت أثر تفاعلات داخل الأرض بعد نزول القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية أعلاه، وفضل الله على الناس.
لقد جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن جعل الله خليفة في الأرض وجاءت هذه الآية لتبين العناية الإلهية بالإنسان بفتح باب التوبة له وقبولها منه، ولا تنحصر التوبة بآدم أو بالذكران من الناس بل هي مطلقة شاملة للناس جميعاً.
 وتبين الآيات ان آدم هبط وزوجته ، وهبط معهما إبليس مع وجود العداوة بينهم وجاءت هذه الآية للإخبار عن واقية من شرور إبليس وهي تلقين آدم التوبة، وقبولها منه، ليكون باب التوبة سلاحاً دائماً من عداوة إبليس، وسبباً لقهره والغلبة عليه.
 والتوبة من مصاديق المتاع في الدنيا الذي تذكره الآية السابقة [وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( )، لأن التوبة تجعل الدنيا أكثر غضارة وذات بهجة وإشراقة كريمة.
والصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى:الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين آية (الخليفة ) وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآية أعلاه بذكر آدم بصفة الخليفة، أما هذه الآية فذكرته بالإسم.
الثانية: الآية أعلاه حديث بين الله والملائكة في السماء بخصوص آدم والخلافة في الأرض، بينما جاءت هذه الآية بتلقي آدم كلمات التوبة في الأرض.
الثالثة: توبة الله على آدم من عممومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] إذ أن باب التوبة سبيل لصلاح الإنسان للخلافة، ووسيلة لتعاهد الإيمان في الأرض.
الثاني: الصلة بين آية[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ]( )، وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: تدل الآيتان على منزلة آدم الرفيعة عند الله.
الثانية: التوبة من الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم.
الثالثة: تعليم آدم الأسماء في الجنة، أما تلقي آدم الكلمات فهو في الأرض كما هو ظاهر سياق ونظم الآيات وموضوعها.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بذكر الملائكة والإحتجاج عليهم بأهلية آدم لخلافة الأرض، أما هذه الآية فجاءت خاصة بتوبة آدم عليه السلام.
الثالث: الصلة بين آية [قَالُوا سُبْحَانَكَ]( )، وبين هذه الآية , وفيها مسائل:
الأولى: تدل الآيتان على تنزيه مقام الربوبية , فالآية أعلاه تبين قول الملائكة (سبحانك) أما هذه الآية فانها تبين إقرار وخضوع آدم لله عز وجل.
الثانية: إقرار الملائكة بأن الله عزو جل هو (العليم الحكيم) ومن علمه وحكمته سبحانه تعليم آدم الكلمات وتوبته عليه.
الثالثة: إختتام كل من الآيتين بإسمين من أسماء الله عز وجل.
الرابع: الصلة بين آية [أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: ذكر اسم آدم في الآيتين، وما يدل عليه من المنزلة الرفيعة له عند الله عز وجل.
الثانية: عدم التعارض بين تعليم آدم الملائكة الأسماء، وقيامه بالتوبة والإنابة.
الثالثة: كما تفضل الله عز وجل بتعليم آدم الأسماء، فانه سبحانه لقنه كلمات التوبة.
الرابعة: تعليم آدم الملائكة الأسماء لم يخرجه عن مقامات العبودية والخضوع لله عز وجل، والمبادرة إلى التوبة والإنابة.
الخامسة: جاء في الآية أعلاه قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ومنه توبة آدم وتفضله تعالى بقبولها.
الخامس: الصلة بين آية[اسْجُدُوا لآدَمَ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان منزلة آدم عند الله.
الثانية: تبين كل آية من الآيتين المنزلة الرفيعة لآدم عليه السلام.
الثالثة: حسرة وخيبة إبليس لتلقي آدم كلمات من الله عز وجل.
الرابعة: بيان فضل الله على آدم في سجود الملائكة له، وتلقيه كلمات التوبة.
السادس: الصلة بين آية[يَاآدَمُ اسْكُنْ]( )، وبين هذه الآية وفيها مسائل:
الأولى: تعلق موضوع الآيتين بآدم.
الثانية: ذكر حواء في الآية أعلاه بخصوص السكن في الجنة , أما هذه الآية فلم تذكر حواء، ولكنها تدل على هذا الذكر بالمضمون والمفهوم، وإختصاص آدم بالكلمات شاهد على نيله مرتبة النبوة، وأنه يصلح حواء معه للتوبة والإنابة .
( وعن أبي ذر أنه سأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آدم نبي قال: قلت: يا نبي الله،أنبياً كان آدم؟ قال: نعم، كان نبيّاً، كلمه الله قُبُلاً”( ).
الثالثة: بيان فضل الله عز وجل على آدم وحواء بزجرهما عن الأكل من الشجرة، ومجئ الكلمات لهما بالتوبة بعد الأكل.
الرابعة: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] وجاءت هذه الآية بالتوبة على آدم.
السابع: الصلة بين الآية السابقة [فَأَزَلَّهما]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان قانون ثابت في الخلافة في الأرض وحياة الإنسان فيها، وهو أن غواية إبليس لن تضره لأن الله عز وجل فتح للإنسان باب التوبة والإنابة.
الثانية: لقد سبب الشيطان في خروج آدم وحواء من الجنة إلا أن فضل الله عز وجل عليهما عظيم إذ تلقاهما بكلمات التوبة والهداية إليها.
الثالثة: كلمات التوبة عون وحرز لآدم وحواء من إغواء ووسوسة إبليس.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بالإخبار بأن الأرض[الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] وجاءت هذه الآية بالتوبة لإفادة قانون ثابت وهو ملازمة التوبة والمغفرة من الله للإنسان في إستقراره وتمتعه في الحياة الدنيا.
الخامسة: جاء خطاب الهبوط في الآية السابقة شاملاً لآدم وحواء وإبليس وجاءت كلمات التوبة لآدم على نحو الخصوص والتعيين ويشمل حواء بالإلحاق والتبعية، لبيان حقيقة وهي حاجة المرأة للرجل في الحياة الدنيا وأسباب الهداية وسبل المعاش بتقريب أن التوبة باب كريم للرزق.
السادسة: إذ جاء خطاب التوبة لآدم فان إبليس ليس له توبة وهداية إلى سبلها.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية آية(قلنا إهبطوا) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: الكلمات التي تلقاها آدم من الهدى الذي تفضل الله عز وجل به عليه وعلى حواء وذريتهما.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين أن آدم إتبع الهدى الذي جاء من عند الله, لتكون بداية وجود الإنسان في الأرض مباركة، ومناسبة كريمة لعمارة الأرض بالعبادة، والإعراض عن إغواء إبليس، فإذا أخرج آدم وحواء من الجنة، فإنه لا يستطيع إخراجهما وذريتهما من الأرض، وهو من علل جعله خليفة فيها وقول الله للملائكة في الرد على إحتجاجهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن مصاديق ما جاء في الآية السابقة[وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ].
الثالثة: إن آدم عليه السلام من الذين(لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لتوبة الله عز وجل عليه، وفيه أسوة مباركة لأبنائه.
الرابعة: ترغيب المسلمين والناس جميعاً بالتوبة والإنابة، لأن(أما) في قوله تعالى(فأما يأتينكم)، تتضمن معنى الجزاء.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية(والذين كفروا وكذّبوا) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: هذه الآية حجة على الذين كفروا لما فيها من الترغيب بالتوبة.
الثانية: جاء إختيار الكفار الضلالة والتكذيب بالآيات بعد أن تفضل الله عز وجل بكلمات التوبة على آدم.
الثالثة: من آيات الله تلقي آدم كلمات من عند الله، وذات الكفر تكذيب بها.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية(وأوفوا بعهدي) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: النبوة نعمة من عند الله على بني آدم، وجاءت الآية أعلاه خطاباً لبني إسرائيل وهو يعقوب النبي.
الثانية: تلقي آدم الكلمات نعمة من عند الله على آدم وذريته، ومنهم بنو إسرائيل.
الثالثة: تفضل الله عز وجل بفتح باب التوبة للناس من النعم العظيمة والتي لا يقدر عليها إلا الله.
الرابعة: التحذير من إتخاذ باب التوبة سبباً للتسويف والإسراف في المعاضي، والتخلف عن الوظائف العبادية والشرعية، وإرجاء التوبة والإنابة.  
إعجاز الآية
تؤكد الآية سهولة الوصول الى أعظم موضوع وهو التوبة وتظهر إفتتــاح الحياة على الأرض بالتـوبة، فآدم تلقى الكلمات مباشرة، والناس جميعاً تلقوا بواسطته صيغ التوبة.
وتبين الآية فلسفة التوبة وحاجة الإنسان لها، وملازمتها لوجود آدم تدل في ظاهرها على كونها من ضروريات الحياة الإنسانية على الأرض، أي لابد من مصاديق الإيمان ومؤمنين يسعون في مرضاة الله عز وجل.
وفي الآية وجوه:
الأول: المدد الإلهي لآدم للتوبة.
الثاني: مبادرة آدم للتوبة.
الثالث: عدم تأخر قبول التوبة،فقد تفضل الله عز وجل بقبول توبته بدليل قوله تعالى [فَتَابَ عَلَيْهِ].
الرابع: توكيد قانون ثابت وهو أن الله تعالى [هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] الذي يقبل التوبة من عباده برحمته ولطفه.
الخامس: من رحمة الله بالناس ان رزقهم نعمة العقل ليكون هادياً ذاتياً يدعو الى سبل التوبة ويدرك قبول الله تعالى لها برحمته ولطفه.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (فتلقى آدم) ولم يرد لفظ تلقى في القرآن إلا في هذه الآية، وفيه تشريف إضافي لآدم، وإخبار عن حقيقة  مركبة، فكما اكرمه الله تعالى بالسكن في الجنة من بين الناس، فانه سبحانه اكرمه بان خصه بتلقي كلمات من عنده لتكون سبيلاً للتوبة والإنابة.
الآية سلاح
الآية سلاح عقائدي للجوء إلى التوبة والمبادرة إليها , وتعلم صيغها وكيفيتها وأحكامها لذا ترى كل مسلم يعرف مفردات الإستغفار.
لقد رأت الملائكة كيف أن آدم عمّر الأرض بلسان التوبة حالما هبط إليها، وتلك خصلة كريمة من خصال الخلافة.
لقد أراد الله عز وجل للإنسان السعادة في الدنيا، ففتح عليه باب التوبة، وفيه طرد للحزن والخوف، الحزن على الهبوط من الجنة، والخوف من الخروج منها عندما يدخلها في الآخرة، والآية سلاح بيد الإنسان من وجوه:
الأول: تفضل الله تعالى بتلقين آدم كلمات التوبة لتبقى في ذريته.
الثاني: نطق آدم بالكلمات، وعدم تأخره أو إبطائه في التوبة.
الثالث: الإخبار بأن الله تعالى هو التواب الرحيم الذي يقبل التوبة من الناس.
وهل تلقى آدم الكلمات وهو في الجنة قبل أن ينزل الى الأرض، فيه وجوه:
الأول: تلقي آدم الكلمات في الجنة، ولكنه قالها وهو في الأرض.
الثاني: أخذ آدم الكلمات بعد هبوطه الى الأرض بالوحي، ونطقه بها وهو في الأرض.
الثالث: قبول آدم الكلمات في الجنة ونطقه لها وهو في الجنة أيضاً.
الرابع: إستماع آدم للكلمات في الجنة ونطقه بها وهو في الجنة وبعد نزوله إلى الأرض.
الخامس: تلقي آدم الكلمات في الجنة وفي الأرض ونطقه لها وهو في الجنة وفي الأرض.
والصحيح هو الأخير وتعدد أسباب الهداية إلى التوبة والرشاد، وليس هو من تحصيل ما هو حاصل بل فيه توكيد لفضل الله تعالى على الإنسان وهو مصداق من مصاديق سعة رحمة الله وتوبته على الناس جميعاً، وإخبار عن بعثة الأنبياء ونزول الكتب من عند الله.
ويدل على هذا التعدد مجيء هذه الآية بين آيتين يتضمنان الأمر الإلهي بالهبوط الى الأرض، وكل واحدة منهما تتضمن العناية الإلهية بالهداية إلى التوبة والمغفرة، وان جاءت هذه الآية من غير حرف عطف , فلم تقل (وقلنا اهبطوا) بل قالت [ قُلْنَا اهْبِطُوا].
مفهوم الآية 
تتجلى في الآية الرأفة الإلهية بالإنسان ومفاهيم اللطف بتقريبه إلى الطاعة وفتح أبواب التوبة أمامه، وتحذر من الإصرار والإستكبار وتؤكد عظيم فضل الله تعالى بأنه هو الرحيم الذي يتجاوز عن الذنوب وان كبرت وتعددت فموضوع الآية هو آدم ولكنها بشارة لكل إنسان، وإخبار عن سرعة توبة الله سبحانه عن عباده.
وفي الآية إخبار عن عدم إنقطاع فضل الله تعالى على الإنسان وهو من مصاديق الخلافة في الأرض للإنسان وقبول توبته، ولم تظهر الآيات ان باب التوبة مفتوح لإبليس، بل تؤكد التباين بين آدم وحواء من جهة وإبليس من جهة أخرى وان كانت خاتمة الآية تدل على الإطلاق في تفضل الله عز وجل بقبول التوبة , فالله عز وجل يقبلها والإستغفار لأنه هو التواب.
في الآية مسائل:
الأولى: بعد الهبوط من الجنة جاء الفضل الإلهي بتلقي آدم كلمات من عند الله.
الثانية: تدل الآية في مفهومها على عدم إنقطاع الصلة بين الله عز وجل وبين آدم كما انها تخبر في ظاهرها عن بقاء ذات الكيفية من الصلة المباشرة وإنعدام الواسطة، وفيه إشارة إلى أن الله عز وجل يسمع دعاء العبد، ويستجيب له، قال سبحانه [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الثالثة: من الإعجاز في مفهوم الآية أن تأتي بصيغة تلقي آدم عليه السلام لكلمات من عند الله عز وجل , وهذا التلقي سبب لحصول التوبة على آدم، ونيله مرتبة المغفرة والعفو، فلم تقل الآية ان آدم تاب إبتداء كي تحمل هذه الكلمات على الإستغفار والإنابة والندم والتوبة من قبل آدم بل جاءت التوبة بفضل الله، وتؤسس الآية مدرسة في التوبة وتدل على قبول التوبة من وجهين:
الأول: ان الله عز وجل هو الذي لقن الإنسان التوبة وكيفيتها.
الثاني: قبول توبة آدم.
الرابعة: نيل آدم عليه السلام المغفرة وفوزه بمرتبة التوبة بقول الله تعالى [فَتَابَ عَلَيْهِ] وفيه وجوه:
الأول: دعوة الناس للمبادرة للتوبة والإنابة.
الثاني: عدم اليأس من رحمة الله.
الثالث: حث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الآخرين للإستجابة للدعوة، وترغيب مرتكب الذنب بالإنابة والإقلاع عن المعصية.
الرابع: منع المؤمنين من النفرة من صاحب الخطيئة التائب عنها.
الخامس: بيان إكرام الله تعالى لآدم بإعانته على التوبة، وتلقينه الكلمات ثم التفضل عليه بقبول توبته.
السادس: إنعدام الفترة بين تلقي آدم للكلمات وبين قبول توبته وهو آية أخرى في إكرام آدم عليه السلام وتأهيله والإنسان مطلقاً للخلافة في الأرض , وكأن من خصائص الخلافة قبول التوبة والإنابة.
الخامسة: ذكر إسمين من أسماء الله الحسنى وهما “التواب” و”الرحيم” وبيان فضل الله تعالى على آدم وذريته كي يولد أبناؤه عن توبة ورحمة من عند الله.
السادسة: تفيد الفاء في “فتلقى” عدم تأخر التوبة عن آدم عليه السلام، فليس من فترة بين هبوطه إلى الأرض وبين تلقيه الكلمات وتوبة الله عليه، وهو نعمة أخرى على آدم، فلم يتركه الله عز وجل في الأرض من غير توبة، ولم يساو بينه وبين إبليس بل كان التباين بينهما مستديماً، فحالما نزل آدم عليه السلام إلى الأرض تلقى الكلمات من الله ليتوب عليه، ولتكون حياته في الأرض إمتداداً لحياته في الجنة من حيث رضا الله عنه.
الآية لطف
تبين الآية قبول توبة آدم عليه السلام بعد هبوطه من الجنة، وفيه غاية اللطف والإكرام ومضامين الرحمة الإلهية، وقد جاء الأمر بالهبوط شاملاً لكل من:
الأول: آدم.
الثاني: حواء.
الثالث: إبليس.
بينما لم تذكر التوبة إلا لآدم عليه السلام , وذكرت آيات أخرى سخط الله عز وجل على إبليس وغلق باب التوبة في وجهه، ولم تذكر الآية حواء عليها السلام وهل شملتها التوبة على آدم أم لا، وفيه وجوه:
الأول: شمولها بالتوبة مع آدم، وفيه قسمان:
الأول: جاءت توبتها بالتبعية لآدم.
الثاني: قبول توبتها على نحو مستقل بإعتبارها مكلفة بدليل توجه خطاب النهي عن الأكل من الشجرة بصيغة المثنى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثاني: لا تدل هذه الآية على شمولها بالتوبة ولابد من دليل آخر يفيد قبول توبتها.
الثالث: شمول حواء بعمومات أدلة التوبة، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( ).
والصحيح هو القسم الثاني من الوجه الأول، فتدل الآية على قبول توبتها مع توبة آدم، والله عز وجل هو التواب الرحيم، وأراد الله سبحانه إصلاح أهل الأرض بقبول توبة آدم وحواء ليعمرا الأرض، بذكر الله وتقديسه وتسبيحه، وترى الملائكة أهلية الإنسان لخلافة الأرض وإشتراك المرأة مع الرجل في التكاليف وأداء العبادات.
إفاضات الآية
تطرد الآية اليأس والقنوط عن الإنسان، وتأخذ بيده الى شاطئ الأمان والسلام، وتظهر عظيم رأفة الله تعالى به، فمع الظلم والتجرأ، وأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعا عنها، جاءت التوبة متعقبة للهبوط، وغلق موضوع الأكل من الشجرة، لتبدأ رحلة الإعداد  والعودة الى الجنة إنطلاقاً من الأرض بأداء التكاليف وإخلاص العبادة.
وتبين الآية خصائص الخليفة في الأرض من وجوه:
الأول: تلقي الإنسان صيغ التوبة.
الثاني: قبول التوبة من الإنسان لان الله يتوب على عباده ويغفر لهم ذنوبهم.
الثالث: تغشي الحياة الدنيا برداء التوبة والعفو والإحسان الالهي , لتكون بالتوبة ذات بهجة ودار سعادة وأمل , وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا]( ).
الرابع: التوبة طريق للعودة الى الجنة والمكث الدائم فيها.
الخامس: فوز آدم عليه السلام بلقب أول من تاب الله تعالى عليه من الناس.
 
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآيات السابقة بالخطاب من الله تعالى الى آدم والملائكة بتعليم الأسماء، ثم إلى آدم وحواء بالسكن في الجنة، ثم الى آدم وحواء وإبليس بالهبوط إلى الأرض.
وجاءت هذه الآية خطاباً من عند الله تعالى إلى آدم على نحو الحصر والتعيين، وتلحق به حواء بالتبعية من وجوه:
الأول: الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء.
الثاني: فتح الله باب التوبة لآدم وزوجه.
الثالث: كما ان حواء شاركت آدم في السكن في الجنة، بقوله تعالى [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ] ( )، فكذا هذه الآية، فان آدم تلقى الكلمات له وتتلقاها حواء بواسطته، لتكون من مصاديق وظائف النبوة في الأرض ولا ينحصر الإنتفاع من الكلمات والتوبة بآدم وحواء، بل يشمل ذريتهما وأبناءهما إلى يوم القيامة.
 وبعد مجئ الآية السابقة بلفظ الخروج من الجنة، ومغادرة ما فيها من النعيم،والهبوط الى الأرض جاءت هذه الآية بلفظ التلقي والأخذ والقبول، وفيه وجوه:
الأول: تعلق التلقي والقبول بكلمات من عند الله.
الثاني:  كما جاء تعليم الله تعالى لآدم الأسماء في الجنة، جاء تعليم الله تعالى له الكلمات في الأرض.
الثالث: بيان موضوع الكلمات وهو التوبة والإنابة الى الله تعالى.
الرابع: على قراءة (فتلقى آدمَ من ربه كلماتُ) وجعل الكلمات هي الفاعل، تكون الكلمات رحمة ورأفة من عند الله، ولا تصل النوبة إلى سؤال آدم الله تعالى بذات الكلمات،، بل ان الله عزوجل تاب عليه إبتداء ليقترن هبوطه الى الأرض بفضل ورحمة وتوبة من عند الله تعالى، وليس في الآية حذف تقديره: تاب آدم فتاب الله عليه .
 لذا فالمرسوم في المصاحف، ومعناه هو الصحيح، وذكر في المقام قولان:
الأول: إن الله خلق آدم للأرض، ولو لم يعص لأخرجه إلى الأرض على غير تلك الحال , قاله الحسن البصري( ).
الثاني: خلق الله آدم للأرض ان عصى، ولغيرها ان لم يعص.
لقد تضمنت الآية الثلاثون الإخبار بان الله عزوجل جاعل خليفة في الأرض لتدل هي والآيات السابقة على ان المراد من الخليفة هو آدم عليه السلام , وأن الله تعالى لابد وأن ينزله إلى الأرض وهو العالم بكل شئ.
وجاءت الخطابات الإلهية له على وجوه:
الأول: إشراك حواء مع آدم بصفة الزوجة في خطاب الرحمة والفضل الإلهي [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( ).
الثاني: مجئ خطاب الهبوط الى الأرض بصيغة الجمع ليشمل آدم وحواء ، وإبليس.
الثالث: إختصاص آدم بتلقي الكلمات من الله، وتلحق به حواء وذريتهما، وقد وردت الأخبار بحسن توبة حواء أيضاً. 
وجاءت خاتمة الآية بذكر صفتين من صفات الله تعالى هما”التواب”و “الرحيم” فالله تعالى هو الذي يقبل التوبة من عباده، وفيه إشارة إلى قبول توبة آدم وحواء وبقاء باب التوبة مفتوحاً للناس جميعاً، وفي الآية وجوه:
الأول: تعدد وكثرة الذنوب من الناس.
الثاني: التوبة على أهل الجيل الواحد من الناس.
الثالث: التوبة والمغفرة للذنوب الصغيرة والكبيرة.
الرابع: التوبة على الأجيال المتعاقبة ممن يتوبون إلى الله تعالى.
الخامس: يتوب الله على العبد مرة بعد مرة فلا ينغلق باب التوبة عن العباد ماداموا في الحياة الدنيا.
السادس: يمكن تسمية الدنيا (دار التوبة) لوجوه:
الأول: مصاحبة التوبة للناس في الحياة الدنيا.
الثاني: قرب التوبة من الإنسان.
الثالث: إنعدام البرزخ والحاجب بين الإنسان والتوبة.
الرابع: تيسير أسباب التوبة، وإقامة الحجج والدلائل على لزوم إجتناب العباد للفواحش والسيئات.
الخامس: حث الناس على التوبة، وجذبهم إلى منازلها، وسؤال  المغفرة والرحمة من عند الله.
السادس: بيان سهولة طرق التوبة، وخلوها من الوسائط والمشاق، إذ يكفي فيها النطق بكلمتين هما (أستغفر الله) بقيد إصلاح الذات.
ومن الإعجاز في الآية وموضوعها وخاتمتها إقتران صفة الرحيم بالتواب فيها، بقوله تعالى [إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] لبيان فضل ونعم الله على الإنسان، وانها أكثر من أن تحصى، فان الإنسان يسره أن ينال التوبة من عندالله ولكن الآية جاءت للإخبار عن قبول التوبة برحمة منه تعالى، وتجلي رحمة الله بمصاديق أخرى متعددة مع التوبة، وفيه بيان للطف الإلهي بالناس، إذ أن التوبة عبارة عن التجاوز عن الذنوب، وقبول إنابة وإستغفار العبد، والرحمة من الله أعم إذ أنها متقدمة على أوان التوبة وتصاحبه وتستمر بعده من وجوه منها:
الأول:قبول التوبة، ومحو الذنوب والسيئات.
الثاني: إعانة العبد على تعاهد التوبة.
الثالث: توالي النعم الإلهية على العبد.
الرابع: هداية العبد إلى سبل التوبة بالحجة والبرهان.
الخامس: تقريب العبد من منازل العبادة والصلاح.
السادسة: إزاحة الحواجز التي تحول دون التوبة والإنابة.
السابعة: نيل العبد للثواب العظيم على التوبة والإنابة في الدنيا والآخرة.
الثامنة: الكلمات التي تلقاها آدم ذاتها رحمة وخير وفضل من الله تعالى لتكون عنواناً ومصداقاً مترشحاً عن الصفتين المباركتين لله تعالى وأنه هو التواب الرحيم.
التاسعة: من رحمة الله غلق باب الذنوب على العبد، ومن العصمة إمتناع المعصية.
العاشرة:  يرحم الله تعالى العبد بان يجعله يتنزه عن فعل الذنوب والمعاصي، ومع هذا يحرص على التوجه إلى الله تعالى بلسان التوبة والإنابة .
الحادية عشرة: لقد أخبرت الآية بان الله تعالى هو التواب الرحيم، لتكون بشارة الإنتفاع من التوبة على وجوه:
الأول: إنتفاع العبد من توبته.
الثاني: شمول التوبة للذكر والأنثى، والصغير والكبير، والصحيح والسقيم، ومن إطلاقات التوبة أنها تدرك الإنسان ولو كان على فراش الموت.
الثالث: بلحاظ خاتمة هذه الآية يمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها:
الأول: دار التوبة لأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده وهو التواب.
الثاني: الدنيا دار الرحمة، لأن الله تعالى يرحم عباده في الدنيا، وهذه الرحمة لا تتعارض مع رحمته تعالى في الآخرة بل أن إطلاق الرحمة يشمل العوالم الطولية كلها .
وجاءت الآيات والنصوص بتقييد التوبة بعالم الدنيا لأنها دار الإمتحان والبلاء، ولأن الآخرة حساب بلا عمل، والرحمة أعم من التوبة، وجاءت صفة الرحيم متعقبة لصفة التواب.
الثالث: الدنيا دار التوبة والرحمة، فهما مجتمعين ومتفرقين مصاحبان للعبد، وكل صفة قدسية منهما تجذبه إلى مفاهيمها وأبواب أسوارها المنجية الواقية.
ومع قلة كلمات الآية الكريمة فانها جاءت بستة أسماء وضمائر عائدة لله تعالى، لتوكيد مضامين التوبة والمغفرة والرحمة الإلهية للعباد، وفيها وعد كريم للناس جميعاً بقبول توبتهم، وطرد اليأس والقنوط من أنفسهم، وهي من مصاديق قوله تعالى للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )،ضمن علمه تعالى انه هو التواب الرحيم الذي يمهل العباد ويقربهم إلى منازل التوبة، ويبين لهم الدلائل التي تتصف بالأثر والتأثر وهو العالم بخفايا الأمور، ولا ينحصر الوعد الكريم الذي تتضمنه الآية بالناس  بل يشمل الملائكة أيضاً من وجوه:
الأول: البشارة للملائكة بان الله يتوب على أهل المعاصي من بني آدم الذين يختارون التوبة.
الثاني: إن الله تعالى هو التواب والرحيم للناس والملائكة والخلائق لذا جاءت خاتمة الآية بالإطلاق الذي يفيد العموم والشمول.
الثالث:  فتح باب التوبة حرب على الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وهو دعوة متحددة للناس على هجرانه وتركه لما فيه من القبح الذاتي، وترغيب باللجوء الى التوبة والإستغفار  لأن الله تعالى هو التواب الرحيم.
التفسير الذاتي
مع كثرة ورود مادة(لــــقى) في القرآن فأنه لــم يرد لفظ(فتلقى) إلا في هذه الآية الكريمة، وفيه إشـــارة إلى منزلة آدم الرفيعة بين الخلائق ، ومـــا خصه الله عز وجل به من الشأن والخطاب الذي يدل على رأفة ورحمة الرب، ولم تذكر توبة حواء في الآية وهي ملحقة بتوبة آدم إذ تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على توبتها معه للإشارة أن توبة وعبادة الزوج تنتفع منها الزوجة والذرية، وهذا لا يعني سقوط التوبة والتكليف عن الزوجة.
وتوبة آدم عليه السلام حجة إضافية على إبليس لتقوم الحجة عليه في إصراره على المعصية في السماء وفي الأرض.
 وتبين الآية نعمة أخرى على آدم وذريته فقد توالت نعم الله عز وجل على آدم من وجوه:
الأول:الأمر الإلهي بجعله خليفة في الأرض.
الثاني: النفخ فيه من روح الله , قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( ).
الثالث: تفضل الله عز وجل بتعليم آدم عليه السلام الأسماء كلها.
الرابع: الإحتجاج على الملائكة بمعرفة آدم الأسماء.
الخامس: قيام آدم بتعليم الملائكة الأسماء بأمر من الله عز وجل.
السادس: سجود الملائكة لآدم.
السابع: سكن آدم في الجنة.
الثامن: فضل الله عز وجل على آدم بخلق حواء زوجة له، وسكنها معه في الجنة.
التاسع: نسبة أكل آدم من الجنة معصية من إبليس لأنه هو الذي أغواه.
ولم تقل الآية (وتلقى آدم من الله) بل جاءت باسم الرب، وقد تقدم في موضوع خلق آدم إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلغة الخطاب والإخبار عن الوقائع والحوادث قبل هبوط آدم إلى الأرض بقوله[إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وجاءت هذه الآية باسم الرب لبيان أن تلقي الكلمات رأفة ورحمة من الله عز وجل بآدم وأنه سبحانه يتعاهده بالربوبية المطلقة، ولتكون هذه الكلمات مناسبة لإخلاص آدم التوبة وإظهاره لمعاني العبودية والخضوع لله عز وجل.
 وجاء لفظ (الكلمات) وبصيغة الجمع أربع عشرة مرة في القرآن، كلها تتعلق بآيات الله عز وجل وبديع صنعه، ومضامين الإرادة التكوينية والتشريعية.
وقد ورد ذكر الكلمات بخصوص ثلاثة من الأنبياء هم:
الأول: آدم عليه السلام، كما في الآية محل البحث.
الثاني: إبتلاء إبراهيم عليه السلام بكلمات وإمتحان من الله عز وجل، قال سبحانه[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ] ( ).
الثالث: تصديق وإيمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات الله قال الله عز وجل [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ]( ).
وتتجلى في الجمع بين هذه الآية والآية أعلاه المنزلة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء، وبلوغه مراتب الكمالات الإنسانية بالإيمان المطلق بالله، وإقتران وجوب التصديق بنبوته بالإيمان بالله عز وجل، مع عدم وجود حد من طرف الكثرة في كلمات الله عز وجل , قال تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي] ( ).
 وكأن هناك ترتيباً بخصوص الإيمان بكلمات الله، فآدم عليه السلام تلقاها للتوبة والإنابة، وإبراهيم عليه السلام أمتحن وأختبر بها، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آمن وصدق بها إبتداء.
لقد أنعم الله عز وجل على آدم بكلمات تكون طريقاً وموضوعاً للتوبة، وسبباً للهداية وبداية مباركة لعمارة الأرض.
لقد أخبر الله عز وجل الملائكة بأن يكون آدم خليفة في الأرض  وجاءت هذه الآية لتبين أن الخلافة تتقوم بالعناية الإلهية بالإنسان، وفتح باب التوبة والإنابة، فالتوبة رحمة من عند الله، وقوس النزول هو كلمات الله وقوس الصعود هو الإستغفار والإنابة والعبادة والسعي في مرضاة الله.
ومن الآيات في التوبة تجلي حد القلة بالإستغفار والندم، وليس من حد في طرف الكثرة لمضامينها.
وهل من صلة بين نفخ الروح في آدم عليه السلام وبين تلقيه الكلمات الجواب نعم، من وجوه:
الأول: بنفخ الروح في آدم أصبح مؤهلاً لتلقي الكلمات والتدبر في معانيها.
الثاني: لما جعل الله عز وجل خليفة في الأرض، تفضل بالمدد والعون من عنده تعالى بالقاء الكلمات إليه وهدايته إلى سبل التوبة.
الثالث:كما أن الروح مادة الحياة للإنسان، فكذا التوبة فانها سبيل النجاة لبني آدم في أجيالهم المتعاقبة، قال تعالى[اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا] ( ).
لقد علّم الله عز وجل الكلمات لآدم عليه السلام في الجنة، وعندما هبط إلى الأرض تفضل وعلّمه الكلمات وطريق التوبة وهو شاهد على إكرام الله عز وجل لآدم عليه السلام، إذ يتغشاه الفضل الإلهي في السماء والأرض، فهبط إلى الأرض ومعه العلم، وحينما وصل إلى الأرض جاءته الكلمات ومن منافعها:
الأول:المغفرة ومحو الذنب.
الثاني:الكلمات سلاح من الذنوب، لأن الإستغفار نوع إحتراز من العودة إلى الذنوب.
الثالث: الكلمات واقية من الذنوب المستحدثة والتجرأ فيها.
الرابع: لقد أراد الله عز وجل للكلمات أن تكون سبباً لنيل الثواب بالإقبال على فعل الحسنات.
الخامس:جاءت الكلمات لآدم عليه السلام بالذات،وهي تركة كريمة لذريته وأولاده إلى يوم القيامة.
لقد أراد الله عز وجل أن ترتدي الحياة الدنيا لباس التوبة،وأن تتغشاها كلمات الله، وهي كشجرة السدر التي يتفيأ الناس بظلالها من شدة حر الذنوب ولهيب المعاصي الذي يؤلم النفس، وأن تعليم الكلمات لطف من الله عز وجل على الناس للسلامة من الكدورات الظلمانية، والأمن من اليأس والقنوط.
ومن أسرار مجئ الآية بتلقي آدم الكلمات، ومبادرة آدم لتلقي الكلمات إنه لما إحتج الملائكة على الإنسان خليفة في الأرض، وأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، جاء تلقي آدم الكلمات ليكون من مصاديق علم الله عزوجل في إصلاح آدم للخلافة في الأرض، والإمامة فمع التسلح بهذه الكلمات فان آدم يصبح مؤهلاً للخلافة في الأرض لما تدل عليه من التدارك وتلقي العفو والمغفرة من عند الله، والإنابة إلى الله عز وجل بصدق الإيمان والعمل الصالح.
لقد تفضل الله عز وجل على الناس بأن جعل كلمات التوبة ثروة وتركة متجددة وكنزاً سماوياً يفتح آفاقاً من العلم وأسباب الرشاد للناس جميعاً، لينتفع منها أتباع الأنبياء والأجيال المتعاقبة من المسلمين، ويمتنع الكفار عن الإنتفاع منها بسوء إختيارهم، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار.
وتشمل معاني الكلمات ماهو أعم من التوبة، وهي حجة وبرهان، وسلاح لتثبيت معالم الدين، وإعلاء كلمة الحق , قال تعالى [وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( ).
وفيه إنذار للذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله عز وجل ينزل كلماته وآياته لنصرته ودفع الكيد عنه، لذا حينما زحفت قريش بخيلها وأحابيشها ومن ناصرها في تعديها من القبائل إلى المدينة يوم بدر لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستئصال المسلمين نزل المدد الملكوتي لدفع شر الكفار، ورد كيدهم، وإلحاق الخزي بهم إلى يوم القيامة  .
وإذ تلقى آدم كلمات من عند الله فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تلقي هو والمؤمنون برسالته من الله عز وجل البشرى بنزول الملائكة وتغشي الطمأنينة لقلوبهم، ليكون واقية من الذنوب، وسبيلاً للتوبة والصلاح، وسبباً لملكة التقوى ورسوخها في نفوسهم، وتلقي الأحكام الشرعية بالقبول والرضا , قال تعالى بخصوص يوم بدر[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
 ومن إكرام الله عز وجل لآدم عدم تخلف قبول التوبة عن الكلمات فما أن تلقى آدم من ربه الكلمات حتى تاب إليه الله عز وجل وليس من فترة بين التلقي والمبادرة إلى التوبة وقبولها من عند الله، وتقدير الآية (فتلقى آدم من ربه كلمات فقالهن فتاب عليه) ز 
ولم يؤخر قبول التوبة إلى حين إجتهاد آدم بالتوبة والإستغفار ويدل عليه أن آدم هو الذي تلقى الكلمات، وإن جاءت قراءة بالنصب (آدم) ونسبة التبليغ والوصول إلى الكلمات بقراءتها بالرفع , وعلى القراءتين فان الكلمات خير محض  وفضل من عند الله أنعم به على آدم.
وأختتمت الآية باسمين من أسماء الله الحسنى وأنه سبحانه هو التواب عن الخطائين، لبيان أن الآية جاءت في قضية عين وخصوص توبة آدم لأن الله عز وجل هو التواب الذي يغفر الذنوب، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
من غايات الآية
وفيه مسائل:
الأولى: الإخبار عن رضا الله تعالى عن آدم عليه السلام وفيه نكتة وهي ان الله عز وجل أعان آدم على التوبة والإنابة وهو أبو البشر، لتكون بداية إعمار الأرض برضا الله.
الثانية: تلقين الناس اللجوء الى التوبة والإنابة، وعدم اليأس أو القنوط من رحمة الله.
الثالثة: إتصال إكرام الله عز وجل لآدم عليه السلام، وتوالي النعم عليه، فمن الآيات أن هبوط آدم إلى الأرض لم يكن مانعاً من نزول النعم عليه، أو سبباً لإنقطاعها، فمع ان الهبوط شمله وحواء وإبليس بعرض واحد، وكلهم أخرجوا من الجنة إلا أن التباين في إتصال الرحمة الإلهية على آدم، وبقاء الغضب الإلهي على إبليس من أسرار العداوة الدائمة بين إبليس وبني آدم.
الرابعة: توكيد حقيقة وهي ان الله هو “التواب الرحيم” الذي يتوب على كل من أخلص التوبة والإنابة، فالتوبة على آدم ليست على نحو القضية الشخصية، والقضية في واقعة، بل هي عامة شاملة للناس جميعاً لأن الله عز وجل هو الذي يتوب على عباده.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ فَتَلَقَّى آدَمُ]
بعد تفضل الله سبحانه بجعل آدم خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وأمره تعالى لآدم بتعليم الملائكة الأسماء وتفضله بأمر الملائكة للسجود له، وإحسانه وإنعامه عليه بالسكن في الجنة جاء الفضل الإلهي في هذه الآية بعنوان القاء الكلمات، وفيما بين هذا وذاك من المن والإحسان العظيم جاء موضوع إخراج آدم من الجنة منسوباً إلى الشيطان وإغوائه وعداوته.
إنه جزء من اللطف الإلهي على آدم وإكرامه إذ أن الأذى والهبوط جاءه من الشيطان وليس من عند الله تعالى، مع ما في فلسفة الهبوط من المسائل الكلامية فهو الآخر لا يخلو من منافع، ولكن موضوع الإخراج بذاته ومفارقة الجنة أمر مؤلم وخسارة كبيرة.
إن التلقي هنا نوع مواساة سماوية على إخراج إبليس لآدم وحواء من الجنة، فيأتي فضل الله تعالى تارة إبتداء، وتارة إصلاحاً وحفظاً، وتارة بالسؤال من العبد، وقد تجتمع هذه الوجوه والأسباب.
لقد تفضل الله سبحانه بخلق آدم خليفة في الأرض مما يعني بالدلالة الإلتزامية أنه يوفقه لهذا المنصب السامي والدرجة الرفيعة ويساعده على أداء ما فيها من المسؤوليات والوظائف.
والآية بشارة المدد الإلهي للتدارك والإعانة على التوبة والهداية إلى سبلها وطرقها، إننا بحاجة إلى دراسات خاصة عن خلق آدم وسكنه الجنة ليتجلى فيها الفضل الإلهي على الإنسان بما يساهم في بلورة مناهج أخلاقية وعقائدية لبناء الأمة وإصلاح الأفراد والجماعات.
وفي الآية شاهد على إتصال الوحي وإستدامة الصلة بين الله عز وجل وآدم ولو بواسطة الملائكة، وهو من الإكرام والتشريف الإضافي لآدم .
عن الإمام علي عليه السلام قال: هبط جبرئيل على آدم صلوات الله عليه فقال: يا آدم انى امرت ان اخيرك في ثلاث فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له:آدم: ياجبرئيل وما الثلاث ؟ قال العقل والحياء والدين، فقال آدم فانى قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل انا امرنا ان نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج)( ). 
 
تفسير قوله تعالى [ مِنْ رَبِّهِ ]
يفيد هذا الشطر من الآية دوام رأفة الله تعالى على آدم وبقاء محبتـه له وإنتفاء الغضب الإلهي عليه، والآية تدل على عدم حصول العقاب الذي يأتي متعقباً للــذنب، وان التلقي جاء على سبيل الطاعة والرضا بفضله تعالى إذ يدل إخبار الآية بأن الله هو رب آدم على رحمة الله تعالى به، وإنقطاع آدم إلى الله وطاعته.
إنها دعوة للإلتجاء إلى الله والفرار واللجوء له , والتوسل بالذات المقدسة وعدم اليأس من رحمته تعالى، وتدل الآية على إستدامة الحاجة لفضل وإحسان الله تعالى، وهي مناسبة لتهذيب النفس وإنقطاعها إلى الباري عز وجل.
ومضمون الآية إعجاز قرآني ظاهر لما تحمله من مصداق ومفهوم مغاير لنظام الأخذ والرد أو القبول والإيجاب، أو السؤال والجواب، فالكلمات جاءت من عند الله تعالى إبتداءً وفضلاً ورحمــة، وبها كانت التــوبة على آدم وقبول إنابتــه وغفران زلتــه لتبدأ مرحــلة الخلافة في الأرض والنبوة والدعوة الى الله عز وجل على سطحها، وعمارتها المقترنة بالعبادة والذكر والإستغفار.
ويبدو من خلال الروايات الواردة بخصوص تلك الكلمات انها كانت تلقيناً لصيغ التوبة، ليظهر واضحاً عظيم عفوه ورحمته تعالى , وليكون درساً في الهداية وسبيلاً للإستغفار وتدارك الذنوب بإجتناب الإصرار عليها.
وصحيح ان التوبة إرادة وعزم ناتج عن الندم والإقرار النفسي بالذنب والخطأ وأنها لا تتم إلا بتوفيق من الله تعالى، إلا أن الآية الكريمة تؤكد وجهاً آخر من وجوه التوبة، انه الإلهام الإلهي لآدم بالتوبة لتكون توبة الله تعالى عليه علة غائية.
 
تفسير قوله تعالى [ كَلمَاتٍ ]
جاءت (كلمات) بصيغة الجمع مما يعني سعة الفضل الإلهي، وحاجــة التوبة والإنابة الى التضــرع والخضوع والمسكنة لله تعالى.
وفي الكلمات التي تلقاها آدم باباً للتوبة والإنابة من وجوه:
الأول: عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه فرفع رأســه الى السـماء فقال: أسألك بحق محمد الا غفرتَ لي، فأوحى الله اليه ومَنْ محمد؟ قال: تبــارك اسمك لمّا خلقتني رفعت رأســي الى عرشــك فاذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظــم قدراً ممن جعـلت إسمه مع إسمك فأوحى الله اليه: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك( ).
الثاني: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: ســأله بحــق محمــد وعلي وفـاطـمــة والحســن والحسين الاّ تبتَ عليّ فتاب عليه) ( ).
الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنه والإمام الصادق  ومجاهد في قــول الله عـز وجل [ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلمَاتٍ ] قال: (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فأغفر لي وانت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فأغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم) .( ).
الرابع: هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر( ).
ولا تعارض بين الروايات أعلاه، فكان هبوط آدم وحواء الى الأرض مناسبة للإنابة وتجديد الإيمان، والإلحاح في الدعاء وتجديد المسألة والسعي في طلب رضا الله تعالى ونيل مغفرته، إنه إستثمار لفضله تعالى على آدم في تعليمه الأسماء كلها.
الخامس: وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا آدم حين إقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك إسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فأغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
السادس: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يارب ألم تخلقني بيدك؟ قال بلى، قال: يارب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال بلى، قال يارب ألم تسبق رحمتك غضبك؟قال بلى.
 قال: ألم تسكني جنتك؟ قال بلى، قال:يارب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال نعم( ).
ويمكن إعتباره من تعدد المطلوب والإلحاح في الدعاء وعظيم احسان الله تعالى بعدم بقاء عبده متحيراً، وهناك نصوص تفيد إستحباب الإلحاح في الدعاء و وان الله عز وجل قد يؤخر الإجابة لأنه يريد ان يسمع عبده يدعوه مع إظهار الخشوع والتضرع، وفيه مزية ترجيح لآدم وعنوان إستحقاق للخلافة.
إن تلقي آدم يعني قبوله لهذه الكلمات وإتخاذه لها وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل وطلب التوبة والمغفرة، وفيه درس وموعظــة بعدم التفــريط بفضــله تعالى في حــال الرخــاء والشــدة.
بحث بلاغي
القلب وهو وجه من وجوه البلاغة وإن إنكر جماعة وجوده في القرآن حقيقة، فقد يقال ان آدم هو الذي القى الكلمات وتوجه بالدعاء والإنابة والتوبة، ولكن ظاهر الآية والسياق القرآني يعطي للوجه الذي جاءت به مضامين كلامية وعقلية، فالإخبار عن أن الله سبحانه هو الملقي وآدم تلقى الكلمات، وكأن في الآية حذفاً أي فتلقى آدم من ربه كلمات فجاء بها فتاب عليه، وتعرف بالقرينة وهي تعقب التوبة لإلقاء الكلمات.
إن إلقاء الله تعالى لآدم كلمات التوبة نعمة أخرى على آدم بعد خلقه وتعليمه الأسماء، وإخبار عن تعاهد الله سبحانه لأسباب التوبة وإعانة العباد عليها.
ولقد علّم الله آدم الأسماء كلها، وهل هذه الكلمات:
الأولى: من الأسماء التي علمها الله لآدم.
الثانية: ليست منها بدليل تسميتها كلمات وليس أسماء، فالأسماء تدل على المسميات، أما الكلمات  فمطلوبة بذاتها وإن كانت لها دلالات ومعان ومقاصد وضعت من أجلها.
الثالث: من الأسماء ولكنها جاءت هنا بالتلقي وليس بالتعليم سواء لتذكير آدم وتعليمه كيفية التوبة أو أنها كانت خفية عليه أو أن إستعمالها وحال أدائها لم يكن يعرفه آدم كجزء من الإختبار والإمتحان.
الأقوى أن هذه الكلمات غير الأسماء وهي نعمة مستحدثة تفضل بها الله سبحانه يجب ان نحــدث لها شـكراً وننتفع منها، وان الملائكة قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( ) فجاء هذا التلقي للكلمات مصداقاً لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرض]( ).
وبهذه الآية علم الملائكة ان الإفساد في الأرض لا أثر له على صاحبه مع المغفرة والتوبة منه تعالى، فكما غفر سبحانه لآدم زلته بأكله من الشجرة بكلمات تفضل بها سبحانه فكذا يغفر لعباده بما ورثوه من آدم من هذه الكلمات وما يدلهم عليه.
لقد أدركوا أن خلق آدم وذريته موضوع لمعرفة عظيم رحمته وفضله وفيه غبطة وسعادة للملائكة، فكما يغفر الله عز وجل للإنسان بكلمات يلقنه إياها بعد الذنب والخطيئة فمن باب الأولوية أن يغفر سبحانه للملائكة ويرحمهم لأنهم لا يخطئون، وهم على العبادة مواظبون.
تفسير قوله تعالى [ فَتَابَ عَلَيْهِ ]
أي قبل الله توبة آدم ، والظـاهر ان هناك حذفاً أي تاب آدم وقال الكلمات التي علمه الله عز وجل فتاب الله عليه وقبل توبته.
وهل يمكن حمل الآية على إعتبار التلقين كافياً للتوبة فضلاً منه تعالى. هذا بعيد إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام.
فقد إختار آدم التوبة، لتبدأ رحلة العزلة والنفرة من إبليس، وهذه العزلة عزلة بينونة وعداوة.
والآية الكريمة درس في التوبة وحث عليها إقتداءً بابينا آدم عليه السلام، وفيها إيضاً إشارة إلى أهمية التوبة وضرورة الإلتفات اليها والإنتفاع منها وعدم تضييع ما فيها من الرحمة والبركة وفرص المغفرة.
وتبين الآية الإحسان الإلهي المركب على خليفته وتلقينه الكلمات وقبول التوبة، فكما علّمه الله عز وجل الأسماء وأخبر بها آدم وجعله يعلًم الملائكة وأسكنه الجنة، فكذا في المقام تفضل بتلقينه الكلمات، فنطق بها آدم فتاب عليه الله سبحانه وجعله خليفة في الأرض .
 ومجيء (الفاء) للتعقيب يدل على أن قبول توبته جاءت بعد نطقه بها مباشرة من غير تأخير.
قد تأتي الفاء عاطفة او للسببية، اما في هذه الآية فجاءت جامعة لهما لبيان عظيم فضل الله تعالى فالتوبة منه وبلطفه وباحسانه، وتأتي بصيغ تناسب العبد ومداركه ليتعقبها الصلاح والقبول فإن الله إذا أعطى يعطي بالأوفى وبالأتم ومن غير مهلة أو تأخير [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
تأتي الفاء للترتيب معنوياً كان أو ذكرياً , وتأتي للتعقيب لبيان عدم وجود مهلة وفترة بين ما بعدها وما قبلها.
وتأتي أيضاً للسببية أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، وأستدل على السببية في كتب النحو والبيان بالفاء الواردة في هذه الآية (فتاب) ولكن الآية أعم إذ أن هذا التقسيم للفاء تقسيم إستقرائي.
ومن إعجاز القرآن تعدد معاني حروفه وكلماته، وعدم إنحصارها بقسم من أقسام الحرف وفق الصناعة النحوية، إذ تشمل معاني الفاء التعقيب أيضاً، لبيان فضل الله عز وجل على آدم عليه السلام وعظيم منزلته عند الله بتعقيب التوبة من عند الله على آدم بتلقي التوبة والمغفرة من غير إبطاء وتعليق على فعل آخر يصدر من آدم.
ومن إعجاز القرآن مجيء كلمات ومقدمات التوبة فضلاً وإلهاماً من الله عز وجل ومِنة على آدم عليه السلام، ويدل  التلقي بالدلالة التضمنية على التلقين وفقه آدم للكلمات وتعقب الكلمات بالتوبة والعفو والمغفرة والمغفرة من الله بقوله تعالى(فتاب عليه) .
فلم تقل الآية(ثم تاب عليه) بلحاظ محذوف وهو فتلقى آدم من ربه كلمات فقالها آدم فتاب عليه) وقيل التلقي هنا بمعنى الأخذ والتفاؤل من قبل آدم على سبيل الطاعة، وهو لا يتعارض مع تقدير المحذوف أعلاه.
وبينما ورد ذكر الأسماء بصيغة التعليم[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَاث]( )، جاءت هذه الآية بلفظ التلقي[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ] وفيه آية إعجازية بلحاظ أن آدم أدرك معاني كلمات التوبة عندما تعلم الأسماء وفي هذه الكلمات وجوه وأقوال:
الأول: أخرج الديلمي في مسند الفردوس بسندٍ واهٍ عن علي قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} فقال: إن الله أهبط آدم بالهند، وحوّاء بجدة، وإبليس ببيسان، والحية بأصبهان. وكان للحية قوائم كقوائم البعير، ومكث آدم بالهند مائة سنة باكياً على خطيئته حتى بعث الله إليه جبريل وقال: يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ ألم أنفخ فيك من روحي؟ ألم أسجد لك ملائكتي؟ ألم أزوّجك حواء أمتي؟ قال: بلى. قال: فما هذا البكاء؟ قال: وما يمنعني من البكاء وقد أخرجت من جوار الرحمن! قال: فعليك بهؤلاء الكلمات. فإن الله قابل توبتك، وغافر ذنبك. قل: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم. فهولاء الكلمات التي تلقى آدم)( ).
الثاني: عن الحسن، عن أبي كعب قال: “قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ، أَعَايِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: “فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ”)( ).
الثالث: قال الطبراني: حدثنا محمد بن داود، ثنا أحمد بن سعيد الفهري، ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أذنب آدم الذي أذنبه، رفع رأسه إلى العرش، فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ، فأوحى الله إليه: وما محمد؟ ومن محمد ؟ فقال: تبارك اسمك ، لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه : يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، وإن أمته آخر الأمم من ذريتك، ولولا هو يا آدم ما خلقتك لم يرو هذا الحديث عن زيد بن أسلم إلا ابنه عبد الرحمن، ولا عن ابنه إلا عبد الله بن إسماعيل المدني، ولا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد)( ).
الرابع: علم شأن الحج، فهي الكلمات، عن ابن عباس( ).
الخامس: عن أنس: سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التوّاب الرحيم. وذكر أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن شك فيه)( ).
السادس: أخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. إن آدم عليه السلام طلب التوبة مائتي سنة حتى أتاه الله الكلمات، ولقنه إياها قال : بينا آدم عليه السلام جالس يبكي، واضع راحته على جبينه إذ أتاه جبريل فسلم عليه، فبكى آدم وبكى جبريل لبكائه فقال له: يا آدم ما هذه البلية التي أجحف بك بلاؤها وشقاؤها، وما هذا البكاء؟ قال: يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حوّلني ربي من ملكوت السموات إلى هوان الأرض، ومن دار المقام إلى دار الظعن والزوال، ومن دار العنة إلى دار البؤس والشقاء، ومن دار الخلد إلى دار الفناء؟ كيف أحصي يا جبريل هذه المصيبة؟ 
فأنطلق جبريل إلى ربه فأخبره بمقالة آدم فقال الله عز وجل: انطلق يا جبريل إلى آدم فقل: يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ قال: بلى يا رب قال : ألم أنفخ فيك من روحي؟ قال: بلى يا رب قال: ألم أسجد لك ملائكتي؟ قال: بلى يا رب قال ألم أسكنك جنتي؟ قال: بلى يا رب قال: ألم آمرك فعصيتني؟ قال: بلى يا رب قال: وعزتي وجلالي وارتفاعي في علو مكاني لو ان ملء الأرض رجالاً مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين، غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي ، قد سمعت صوتك وتضرعك، ورحمت بكاءك، وأقلت عثرتك، فقل: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين)( ).
الثامن: أخرج ابن المنذر عن الإمام محمد الباقر قال: لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه ، واشتد ندمه . فجاءه جبريل فقال : يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه؟ قال بلى يا جبريل قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وامدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح قال : فأقول ماذا يا جبريل؟
قال : فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير . ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي. قال: ففعل آدم فقال الله: يا آدم من علمك هذا؟ فقال : يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك .
 قال : صدقت . وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك قال : فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم سرور ، لم ينصرف به عبد من عند ربه. وكان لباس آدم النور قال الله {ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} ثياب النور قال : فجاءته الملائكة أفواجاً تهنئه يقولون: لتهنك توبة الله يا أبا محمد)( ).
التاسع: عن عبيد بن عمير قال: قَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ، خَطِيئَتِي الَّتِي أَخْطَأْتُ، شَيْءٌ كَتَبْتَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي، أَوْ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي ؟ قَالَ: بَلْ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، قَالَ: فَكَمَا كَتَبْتَهُ عَلَيَّ فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: “فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ”)( ).
العاشر: أخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال: إن آدم لما طؤطئ منع كلام الملائكة وكان يستأنس بكلامهم بكى على الجنة مائة سنة فقال الله عز وجل له: يا آدم ما يحزنك؟ قال: كيف لا أحزن وقد اهبطتني من الجنة ولا أدري أعود إليها أم لا؟ فقال الله تعالى: يا آدم قل : اللهم لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك سبحانك وبحمدك. رب إني عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين.
والثانية: اللهم لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك سبحانك وبحمدك. رب إني عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت أرحم الراحمين. والثالثه: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك لا شريك لك، رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التوّاب الرحيم. فهي الكلمات التي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التوّاب الرحيم}
 قال: وهي لولده من بعده وقال آدم لابن له يقال له هبة الله. ويسميه أهل التوراة وأهل الإِنجيل شيث: تعبد لربك واسأله أيردني إلى الجنة أم لا؟ فتعبد لله وسأل. فأوحى الله إليه: إني راده إلى الجنة فقال: أي رب إني لست آمن أن أبي سيسألني العلامة، فألقى الله سواراً من أسورة الحور، فلما أتاه قال: ما وراءك؟ قال: ابشر. قال: أخبرني أنه رادك إلى الجنة. قال: فما سألته العلامة . فأخرج السوار فرآه فعرفه ، فخر ساجداً فبكى حتى سال من عينيه نهر من دموع، وآثاره تعرف بالهند. وذكر أن كنز الذهب بالهند مما ينبت من ذلك السوار، ثم قال: استطعم لي ربك من ثمر الجنة. فلما خرج من عنده مات آدم، فجاءه جبريل فقال: إلى أين؟ قال: إن أبي أرسلني أن اطلب إلى ربي أن يطعمه من ثمر الجنة قال: فإن ربه قضى أن لا يأكل منها شيئاً حتى يعود إليها، وأنه قد مات فارجع فواره، فأخذه جبريل عليه السلام فغسله، وكفنه، وحنطه، وصلى عليه، ثم قال جبريل: هكذا فاصنعوا بموتاكم)( ).
العاشر: وفي قوله تعالى(فتلقى آدم من ربه كلمات) نسب ابن كثير إلى القيل: قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} روي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القُرَظي، وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن رجل من بني تميم، قال: أتيت ابن عباس، فسألته: [قلت]: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: عُلم [آدم] شَأنَ الحج.)( ).
تفسير قوله تعالى [إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]
فضل ومبالغة في قبوله للتوبة , وان تكررت من العبد أو كثر عـدد التوابين، أو عظمت الذنوب التي فعلها العبد، وهذا القبول غير المحصور رحمة من الله تعالى، لقد جاءت صفة الرحيم في الآية بإعتبار أن التوبة وجه من وجـوه الرحمة وأن قبول التوبة ليس واجباً عليه تعالى، وهو فضل ولطف إلهي، وباب مفتوح ما دامت الحياة الدنيا.
ولكنه ليس من عطف الخاص على العام فكل صفة من صفات الله تعالى رحمة وفيض ليس له حدود.
لقد أخبرت الآية عن قبول الله عز وجل توبة آدم لتكون قاعدة كلية في قبول توبة كل مذنب من بني آدم لعموم رحمة الله تعالى ولأنه إذا أنزل نعمة لا يرفعها لكرمه ولطفه وعظمته وسعة خزائنه.
فالآية حث على التوبة ودرس للملائكة بأن الله تعالى يعفو عمن تاب وأناب ممن يفسد في الأرض أو يسفك الدماء.
ومجيء صفة (الرحيم) مع التواب وبعدها يفيد أن توبة الله على آدم وعلى الناس إنما هو من رحمته، وأن قبول التوبة فضل منه تعالى وبشارة للناس وحرز وإعانة على إستحقاق الخلافة في الأرض.
وفي الآية إخبار للملائكة بأن إستحقاق آدم للخلافة إنما يكون بتوبته سبحانه عليه ورحمته له، وجاء ذكر الصفتين على نحو الإطلاق والتعريف للدلالة على إستدامة المغفرة والرحمة منه تعالى , وأنهما لا ينحصران بآدم بل هما للناس جميعاً.
وإجتمعت صفة التواب مع الرحيم في تسع مواضع من القرآن تقدمت فيها صفة التواب على الرحيم لأنها محو للذنوب وسلامة من الآفات وإصلاح للحال، أما الرحمة فهي غنيمة ونعمة متجددة تتعدد جوانبها ومصاديقها مع التوبة.
والرحمة أعم من التوبة فجاءت متعقبة وتالية وهو نوع رحمة إضافية لما فيها من التدارك والشمول والعموم، فليس من أحد إلا ويحتاج رحمته وعلى نحو مركب ومتعدد في كل حين وإن لم يرتكب خطأ، ويمكن إعتبار هذا التقديم في باب البلاغة من التقديم بالرتبة والآية بشارة ووعد كريم لبني آدم بالتوبة والمغفرة إن سلكوا سبلها.
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة التأكيد , ويدخل على المستقبل فلا يدخل على الماضي والحاضر لأنه حينئذ يكون تحصيلاً لما هو حاصل إلا مع الضرورة والحاجة.
ويقع التأكيد في القرآن وهو المشهور، وحاول أهل العناد النيل من القرآن بسبب ما فيه من من التوكيد بمقولات منها عدم فائدته، او بأنه خلاف إيجاز اللفظ وجزالة المعنى ونحوها.
ولعله لهذا نفى جماعة من العلماء حصول التوكيد في القرآن لا لتحاشي كلام الملاحدة، بل لذهابهم الى القول بأن التوكيد يفيد معاني أخرى زائدة على المعنى الأول المؤكد.
والصحيح هو وجود التوكيد في القرآن وبأنه يحمل معاني أخرى متعددة بالإضافة إلى التوكيد لا تقل شأناً وموضوعية عنه.
ومنهم من إختار قولاً وسـطاً وبرزخـاً , وقال بأنـه مجاز، ولكن لا تصــل النوبة إلى المجاز إلا أن يكون أحد وجوهه مجازاً.
لقد نزل القرآن بلغة العرب وهو حجة عليهم وكان التوكيد متعارفاً في صيغ الخطاب بينهم ويعدونه من أساليب البراعة والفصاحة في القرآن به وبالتكرار كمدرسة لتثبيت قواعد الدين وأحكام الشريعة.
وقد يأتي التأكيد للترغيب ويتكرر كما في هذه الآية، إذ جاء بخمس تأكيدات وهي:
الأولى: معنى (إن) وما تدل عليه من التوكيد.
الثانية: ضمير الفصل (هو).
الثالثة: صفة المدح.
الرابعة: بيان قدرة الله تعالى وعظيم فضله.
الخامسة: توكيد الرحمة الإلهية.
 
 
قوله تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَـلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْـزَنُـونَ ] الآية 38.
 
القراءة والإعراب
قرأ يعقوب فلا خوفَ – بنصب الفاء – في جميع القرآن، اما القراء الباقون فقرأوا بالرفع والتنوين، واثبات الألف في هداي وتحريك الياء( ).
قلنا: فعل ماض وفاعل، اهبطوا: فعل أمر، والواو فاعل، وهي جملة فعلية مقول القول، جميعاً: حال من الواو.
فإما: الفاء عاطفة، إن: شرطية، ما: زائدة للتوكيد.
يأتينكم: فعل الشرط مجزوم، والكاف: ضمير متصل في محل نصب مفعول به. 
مني: جار ومجرور متعلقان بيأتينكم.
هدى: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين.
فمن: الفاء رابطة لجواب الشرط، من: اسم شرط جازم في محل مبتدأ.
تبع: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، هداي: مفعول تبع، وعلامة نصبه الفتحة المقدرة.
فلا: الفاء رابطة لجواب الشرط، لا: نافية، خوف: مبتدأ مع أنه نكرة لكن النفي تقدم عليه.
عليهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر خوف.
هم: مبتدأ، أو اسم لا التي تعمل عمل ليس.
 يحزنون: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر (مَن ).
والهبوط نقيض الصعود، ويقال هبط يهبط هبوطاً إذ نزل سواء كان نزوله دفعياً أو تدريجياً، وقد يأتي بمعنى الحلول أي من غير ان يكون مترشحاً عن النزول من علو، فيقال هبطنا أرض كذا أي نزلنا وصرنا فيها.
ويأتي الهبوط بمعنى النقصان وفقد المرتبة الأعلى , فهو نقيض الإرتفاع، ويقال هبط من السعة , قال لبيد:
 كلُّ بَنِي حُــرَّةٍ مَصِـــيرُهُمُ                     قُلٌّ وإِنْ أَكثَرُوا مِنَ العَدَدِ 
إِنْ يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وإِنْ أُمِروا                 يَوْماً فهم للفَناء والنَّفَدِ( ).
وفي الحديث : اللهم غبطا لا هبطا )( ) للدعاء وسؤال الغبطة والسعادة والتوفيق , والإستعاذة من الضعف والنقص وغنخفاظ الدرجة ، وفيه دعوة لسؤال زيادة ودوام النعم، والسلامة من الإنحطاط والبلاء ونقص النعم.  
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآيات السابقة إكرام الله عز وجل لآدم والإنسان مطلقاً في خلقه،  وحصول التقصير أو ترك الأولى الذي حال إقامة آدم عليه السلام في الجنة بسبب إغواء إبليس جاءت هذه الآية لتبين الحكم الإلهي بالهبوط إلى الأرض كدار إبتلاء وإمتحان.
وجاءت هذه الآية والآية قبل السابقة بالأمر بالهبوط وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء توجه الأمر بالهبوط والخروج من الجنة، وأما مادة الإفتراق فهي من وجوه:
الأول: مجيء الآية قبل السابقة بكل مما يأتي:
الأول: إبتدأت الآية بالإخبار عن قيام الشيطان بإغواء آدم وحواء.
الثاني: نسبة الإخراج إلى إبليس.
الثالث: خسارة آدم وحواء للنعم التي ذكرتها الآيات السابقة بالسكن في الجنة والأكل منها رغداً والتنعم بطيباتها وصحبة الملائكة , نتيجة إغواء إبليس.
الرابع: من اللطف الإلهي بالعباد أن خروج آدم وحواء من الجنة ليس إلى ضياع، بل إلى الأرض على نحو التعيين، مما يدل على ان الله عز وجل كفل لآدم وحواء الهبوط، ليصلا بسلام إلى محل سكناهم الجديد.
الخامس: لم يذكر في سكن الجنة أجل معين مع أن الخلافة في الأرض، وجاءت الآية لتخبر بان السكن في الأرض إلى حين.
وأما هذه الآية فجاءت بوجوه:
الأول: إبتداء الآية بالإخبار عن موضوع الهبوط [وَقُلْنَا اهْبِطُوا].
الثاني: في الآية نكتة عقائدية بصيرورة هبوط آدم وحواء سبباً لسكن ذريتهما في الأرض وعدم بقائهم في الجنة. 
الثالث: تعقب نزول أسباب الهداية والرشاد للهبوط، وحث الناس على تلقي الهداية.
الرابع: مجيء البشارة بالأمن والسلامة بصيغة الجمع للذين يخافون الله بالغيب ويتبعون الهدى.
الخامس: بشارة بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية من عند الله وهو المراد من قوله تعالى [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] لتكون البشارة عامة وخاصة، عامة بالكتب السماوية وبعثة الأنبياء ، فكل نبي يدعو إلى الهدى والتوبة والصلاح، وخاصة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ونزول القرآن وهو المهيمن على الكتب السماوية كلها.
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين أن خلافة الإنسان في الأرض مقرونة بنعمة الهداية.
الثانية: عمومات نعمة الهداية وأنها تأتي للناس جميعاً، فصحيح أن لغة الخطاب جاءت لآدم وحواء وإبليس بقرينة الأمر بالهبوط الوارد في الآية أعلاه إلا أن موضوعها عام لأنها نعمة عظيمة , ومن فضل الله عز وجل عدم مغادرة النعم الأرض فهو سبحانه أكرم من أن يرفعها، بالإضافة إلى مجيء الآية بصيغة المضارع الذي يفيد الإستمرار والدوام.
الثالثة: تتضمن الآية محل البحث مصداقاً لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]، بلحاظ وجود أمة تتيع الهدى.
الرابعة: من عمومات خاتمة هذه الآية[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]، سلامة المؤمنين من الفساد في الأرض، وسفك الدماء، وفيه بعث للسكينة عند الملائكة وجواب على سؤالهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ).
الثاني: الصلة بين آية (وعلّم آدم) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: لقد أراد الله عز وجل أن يهبط الخليفة إلى الأرض بسلاح العلم والمعرفة، وهو فضل عظيم وواقية من إبليس وشروره , فإن قلت جاء أكل آدم من الشجرة متأخراً زماناً عن تعلمه الأسماء، ولم يقيه علمه من وسوسة إبليس أضرارها , والجواب على وجوه:
الأول: جاء الأكل من الشجرة في الجنة.
الثاني: الأكل من الشجرة درس وعبرة لآدم وحواء وذريتهما.
الثالث: الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإفتتان.
الرابع: تتضمن الآية محل البحث الإخبار عن مجيء الهداية والرشاد للناس.
الثانية: بين تعليم الأسماء والهدى المذكور في الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق، إذ أن تعليم الأسماء هدى ورشاد.
الثالثة: جاء تعليم الأسماء في السماء، ويتعلق موضوع الآية محل البحث بحياة الناس في الأرض وتجلي أسباب الهداية فيها.
الخامس: الصلة  بين آية (قالوا سبحانك) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: من أسباب تنزيه الملائكة لمقام الربوبية كما في الآية أعلاه الإعتراف بحكمة الله في جعل آدم خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء.
الثانية: إقرار الملائكة بأن تعلم آدم للأسماء وتعليم الملائكة إياها شاهد على أهليته للخلافة في الأرض , وتلقي الإنسان للهدى والتصديق بالتنزيل فلذا قالوا (سبحانك) الذي هو أعم وأوسع من تعلم آدم للأسماء( ).
الثالثة: جاء تعليم آدم الأسماء مقدمة لتلقي أحكام النبوة وإنقياد المؤمنين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وهو سلاح ماض للوقاية والسلامة من إغواء إبليس والإفتتان بحباله.
السادس: الصلة بين آية (قال يا آدم) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تعليم آدم الملائكة دليل على تلقيه الهدى وإستقراره عنده، وعدم غيابه عنه في القول والفعل.
الثانية: من علوم غيب الأرض التي يعلمها الله عز وجل نزول آدم متعلماً ومعلماً، ومن يقوم بتعليم الملائكة يستطيع أن يعلم أولاده وذريته سبل الهداية.
الثالثة: إن الله عز وجل يعلم إحتجاج الملائكة قبل وقوعه، فتفضل وأقام عليهم البرهان بعد سؤالهم، بأن جعل آدم يعلمهم الأسماء ليعترفوا بحكمة الله في جعل خليفة في الأرض.
السابع: الصلة بين آية (وقلنا يا آدم أسكن) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تتضمن الآيتان موضوع ومحل سكن آدم وحواء، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء أن سكنهما في الجنة هو الأرقى وجاء بأمر من عند الله، ومادة الإفتراق أن الإقامة في الجنة جاءت بلفظ السكن المعروف بالسعة والأكل من الطيبات والغبطة، أما بالنسبة للأرض فجاء الأمر بالهبوط والإخراج من الجنة والذي صاحبه تغشي الحزن لآدم وحواء لمفارقتهما الجنة.
الثانية: جاء الخطاب في الآية أعلاه لآدم عليه السلام، أما في هذه الآية فجاء الخطاب عاماً لما فيه من الهبوط، مما يدل على تشريف آدم بالسكن في الجنة.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل يحذر آدم وحواء من الظلم، ويكره لهما المعصية.
الرابعة: مجيء الهدى لآدم وحواء في السماء والأرض، وعدم إنقطاعه عن الإنسان، وقد تجلى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ليكون أعم وأعظم سبيل للهداية.
الخامسة: جاء الخطاب لحواء في السكن في الجنة بواسطة آدم، أما في الآية محل البحث فجاءها الأمر بالهبوط مباشرة، فليس لها أن تمتنع أو تتردد أو تتخلف عن آدم في الهبوط , ولو كان الأمر (يا آدم أهبط أنت وزوجك منها) ففيه مسائل:
الأولى: عجز آدم عن إنزال حواء إلى الأرض.
الثانية: إنشغال آدم بمصيبته في الهبوط، لذا قيل أن كل واحد منهما نزل في موضع غير موضع صاحبه , وأن الصفا مهبط آدم، والمروة مهبط حواء المرأة.
الثالثة:إحتمال إمتناع حواء عن الهبوط.
الرابعة: مجيء الخطاب الإنحلالي شاهد على بدء التكليف في الأرض، وإخبار بأن حواء في عرض واحد مع آدم في التكاليف.
الخامسة: نزلت حواء إلى الأرض بإعتبارها مكلفة بوظائف العبادة , وليس زوجة لآدم فقط.
السادسة: بعد أن تاب الله عز وجل على آدم وحواء يكون متعلق الظلم هو عدم إتباع الهوى.
السابعة: من وجوه الصلة بين الآيتين البشارة والغبطة، إذ أختتمت الآية محل البحث بقوله تعالى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
الثامن: الصلة بين آية (فأزلهما) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاء الهبوط الذي تذكره هذه الآية بسبب الزلة بالأكل من الشجرة المذكورة في الآية أعلاه.
الثانية: إبليس هو السبب في هبوط آدم وحواء إلى الأرض , فجاء الهدى من عند الله ليكون سلاحاً لمحاربة وقهر إبليس في الأرض، وتلك آية في فلسفة الهبوط بأنها مناسبة للسعادة الأبدية للذين يستجيبون لأوامر الله، وحزن وغيظ على إبليس.
الثالثة: توكيد حاجة الناس إلى رحمة الله عز وجل وهدايته للوقاية من غواية إبليس، وللفوز بالجنة والأمن من النار.
الرابعة: من إعجاز نظم الآيات أنها لم تكتف بالإخبار عن خروج آدم وحواء من الجنة، بل جاءت بالإخبار عن هبوطهما إلى الأرض.
الخامسة: لم يكن أكل آدم وحواء  علة تامة للهبوط إلى الأرض، بل كان سبباً للخروج من الجنة وشمول الخروج لإبليس لأنه السبب في إغواء آدم وحواء.
التاسع: الصلة بين الآية السابقة (فتلقى آدم) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت الآيتان ببيان عظيم فضل الله عز وجل على آدم وحواء ففي الآية أعلاه تلقى آدم كلمات التوبة والمغفرة، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن هداية الله لآدم وذريته.
الثانية: التوبة مقدمة لعمل الصالحات، وهي شرط لقصد القربة الذي تتقوم به العبادات.
الثالثة: أختتمت هذه الآية الكريمة بأسباب ومضامين الهداية , وهي من أصدق معاني الرحمة.
الرابعة: جاء الهدى متعقباً للتوبة، لتكون التوبة مقدمة له، ولبيان فضل الله وأنه سبحانه يعطي الكثير المتصل.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية , وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية (والذين كفروا وكذبوا) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: بيان التباين والتضاد بين أهل الإيمان والكفار.
الثانية: ترغيب الناس بالإيمان، وجعلهم ينفرون من الكفر والتكذيب بالآيات.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين التفصيل في قانون الجزاء بالثواب العظيم للمؤمنين، والعقاب الأليم للكفار.
الرابعة: قيام الحجة على الكفار لأنهم إختاروا الكفر بعد مجيء الهدى.
الخامسة: مجيء الآية التالية بصيغة الجمع(الذين كفروا وكذبوا) قرينة على أن المراد من الهبوط في هذه الآية المعنى الأعم وشموله لبني آدم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية (أوفوا بعهدي) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: من نعمة الله على بني إسرائيل الهداية إلى سبل الصلاح.
الثانية: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم الإلهية على بني إسرائيل والناس جميعاً.
الثالثة: الوعد الكريم لبني إسرائيل إذا صدّقوا بالتنزيل وعملوا بأحكام الشريعة.
الرابعة: دعوة بني إسرائيل على نحو التعيين للإسلام من عمومات قوله تعالى[أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
   الخامسة: الوعد الكريم الوارد في الآية أعلاه (أوف بعهدكم) من مصاديق خاتمة الآية أعلاه في الذين يتبعون الهدى وأنهم (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
السادسة: جاءت خاتمة الآية أعلاه(وإياي فارهبون) بالإنذار والتحذير من التفريط بأسباب الهداية، وآيات النبوة والتنزيل التي تدل عليها الآية محل البحث.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية (وآمنوا بما أنزلت) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: القرآن الذي أنزله الله عز وجل من الهدى الذي تذكره الآية محل البحث.
الثانية: التحذير والإنذار من الإعراض عن الآيات التي أنزلها الله سبحانه.
الثالثة: الذي يتبع ما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذين (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
الرابعة: من الهدى الذي يتفضل به الله عز وجل تصديق القرآن للتوراة والإنجيل.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الذي يريد أن يكون من الذين(لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، يتجنب شراء ثمن قليل بآيات الله.
السادسة: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى (وإياي فاتقون) ومن مصاديق تقوى الله إتباع الهدى والعمل بالتنزيل.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية (ولا تلبسوا الحق) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: الهدى الذي يأتي من عند الله من الحق الذي يجب أن لا يخلط به الباطل.
الثانية: حرمة إخفاء الهدى والآيات البينات.
الثالثة: الإنذار والتخويف من كتمان البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: من سبل ومصاديق الهدى الذي يتفضل بها الله عز وجل بيان الحق وعدم كتمانه أو خلط الباطل به  مع العلم والعناد ، فجاء التحذير في الآية منه.                
 إعجاز الآية
تظهر الآية الكريمة الفضل الإلهي في فتح باب التدارك عند الزلة والإغواء، وأن باب التوبة لا يغلق، وإتصال الوعد والبشارة في حال الصلاح.
وتدعو إلى إغتنام الفرصة والمبادرة إلى التوبة ، وأن أيام الحياة الدنيا مناسبة للإنابة فلابد من إستثمارها وعدم تفويتها.
جاء تكرار لفظ (إهبطوا) إشارة الى تجدد الفضل الإلهي وفتح أبواب التوبة لذرية آدم، وإتصال الهداية لهم، وفي الآية دلالة على بقاء القرآن من غير نسخ أو تحريف إلى يوم القيامة بإعتباره هو الكتاب الهادي الى الله عز وجل.
 فبعد إنقطاع النبوة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى  بقي القرآن يدل بذاته على إعجازه ويخبر عن نزوله من عند الله، ويتضمن أسباب الهداية والرشاد، ويدعو الناس الى إتباعه والأخذ بما فيه من الأحكام والسنن والآداب ومنها قصة آدم وسجود الملائكة له وإكرامه في السكن هو وحواء في الجنة وخروجهما منها، ويبين كيفية سعي الإنسان للعودة الى ما كان فيه آدم عليه السلام.
ويحتمل مجيء الهدى من الله في الآية وجوها:
الأول: المرة الواحدة بالنسبة لكل إنسان.
الثاني: التكرار والتعدد في مجيء الهدى للإنسان.
الثالث: يأتي الهدى للناس على نحو العموم المجموعي كجماعة وأمة بلحاظ لغة الخطاب الجماعة في الآية[فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى]( ).
الرابع: ما يأتي من الهدى يبقى تركة عقائدية للأجيال المتعاقبة كما في هذه الآيات وتوبة الله عز وجل على آدم ولزوم الإحتراز من الشيطان وعداوته، قال تعالى في خطاب وتعليم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جميعاً بالإلحاق[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( )، وبإستثناء الوجه الأول فإن الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة.
 
ويمكن تسمية الآية بآية (إهبطوا منها )  ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الإ في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
مع ان صيغة وموضوع الآية جاء بصيغة الخبر إلا أنها تتضمن الوعد والوعيد والنصح والدعوة إلى الرشــاد، فالآية مدرســة في الصفح والتدارك والإعتبار والإتعاظ مما جرى على أبينا آدم وأمنا حواء، وهي سبيل للإرتقاء واليقظة والحذر من الشيطان فقد أذن له الله عز وجل بالوسوسة لآدم ليعتبر ويلتفت أهل الفطنة والإيمان من ولده والى يوم القيامة فكانت هذه الآية تحذيراً وتنبيهاً.
تدعو الآية المسلمين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس إلى سبل الرشاد والإيمان، ونشر معالم الدين وسنن الشريعة لأن الهدى يأتي بوسائط كثيرة [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
مفهوم الآية 
من مفاهيم الوعيد في الآية الكريمة الوعد للمؤمنين بالجزاء الحسن لعدم إجتماع النقيضين، وفيه تخفيف عنهم فيما يلاقونه من الكفار وهو حصانة من الإرتداد والإندفاع وراء غرور وزخرف الدنيا.
وتخبر الآية عن نهاية الوجود الأول لآدم وحواء في الجنة، ويمكن أن نسميه (سكن الخلق) لإتصاله وتعقبه لخلق آدم ، أما دخول الجنة في الآخرة فيمكن أن نسميه (نعيم الآخرة) وجاء الأمر بالهبوط للجميع للإشتراك في زلة الأكل على نحو التسبيب بالنسبة لإبليس، ومباشرة الأكل بالنسبة لآدم وحواء، وصفة الهبوط من الجنة تأكيد للرفعة وعظيم المنزلة لمن يسكن الجنة.
 وهل في الهبوط إنتقاص لآدم أمام الملائكة، الجواب لا، من وجوه:
الأول: لأنه خلق ليكون خليفة في الأرض.
الثاني: إن الله عز وجل ستر عليه فعله ونسب الأكل الى الإغواء من الشيطان وانه هو الذي أزلهما، مما يعني مواساة ومعاضدة الملائكة لآدم والرأفة به وبحواء لما لاقاه من إبليس.
الثالث: بدأت بالهبوط مرحلة التكليف وما فيه من المشقة والكسب وما يتفرع عنه من العناء والجهد والتعب، وما لبث الملائكة أن رأوا آدم يتوجه صوب التوبة والإنابة.
 ومن النعم الإلهية التي هبطت مع آدم الى الأرض الوعد الكريم بالمغفرة والعفو وذهاب الفزع والخوف عن المؤمنين فهبط آدم بالعهد الإلهي له ولذريته من بعده.
ولم تأتٍ الآية بلفظ الطرد والإخراج، كما ورد في إبليس خاصة [اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا] ( ) وقوله تعالى [فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ] ( ). 
في الآية مسائل: 
الأولى: تكرر الأمر بالهبوط مرتين في ثلاث آيات مع التوكيد هنا بسور الموجبة الكلية “جميعاً” ويحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة آدم وحواء وإبليس.
الثاني: المقصود آدم وحواء وذريتهما، وإبليس.
الثالث: آدم وحواء وذريتهما.
والصحيح هو الثالث، اذ جاء الخطاب في هذه الآية للناس بإعتبارهم مكلفين بعمارة الأرض بالعبادة وذكر الله، وهو مصداق الخلافة فيها.
وفي الآية إشارة إلى بعثة الأنبياء وتنزيل الكتب السماوية مطلقاً، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن على نحو الخصوص.
الثانية: تفضل الله تعالى بإقامة الحجة والبرهان على لزوم عبادته.
الثالثة: الدعوة لتصديق الناس بمعجزات الأنبياء والإنتفاع منها كوسيلة سماوية مباركة للهداية والإيمان.
الرابعة: الإخبار عن المشيئة الإلهية بإعانة الناس على الهداية.
الخامسة: دعوة الناس للإنتفاع من الآيات وبعثة الأنبياء للهداية والإيمان.
السادسة: البشارة بالجنة والمغفرة لمن تلقى الآيات والحجج بالقبول والإقرار بالربوبية لله تعالى.
السابعة:  في الآية دعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
الثامنة: القرآن هدى من الله يجب إتباعه.
الآية لطف
يتفضل الله عز وجل ويقرب العباد الى الطاعة، وييسر لهم التوبة، وأسباب صلاح نفوسهم، وتنقيح أعمالهم، وفي الآية إخبار عن توالي الآيات والمعجزات التي تكون أسباباً للهداية والصلاح، وفيها دعوة للأخذ بهذه الأسباب وعدم التفريط بها.
 وتتضمن الآية البشارة بالأمن من الفزع والخوف في الدنيا والآخرة وينحصر طريق الأمن هذا بإتباع النبوة والتنزيل.
 وتؤكد الآية على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  هدى من الله عز وجل، فيجب إتباعه وكذا نزول القرآن فانه هدى من عند الله، وفيها إخبار بان أسباب الهداية ملازمة للإنسان من أول هبوطه الأرض، لذا كان آدم عليه السلام نبياً نزل عليه الوحي ليكون داعياً الى الله عز وجل.
ومن الآيات أن النبوة لم تغادر الناس إذ تعاقب الأنبياء ، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] وفيه دلالة على تغشي رحمة الله الناس , وأن الجنة تسعهم جميعاً، وفيه توكيد لعظيم قدرة الله، وأنه هو الغفور الرحيم.
ومن مصاديق اللطف في الآية تعقب البشارة بالثواب لمن إتبع الهدى وبصيغة الجمع[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وفي الآية ورد عن سعيد بن جبير في قوله {فلا خوف عليهم} يعني في الآخرة)( ). 
ولكن الآية أعم إذ أن الآية إنحلالية، تنفي كلاً من الخوف والحزن في الدنيا، وتنفيها في الآخرة عن الذين يتبعون الهدى، ومن صيغ التخفيف في الآية مجيؤها بلغة إتباع الهدى وليس العمل والتقيد به.
ولما جاء قبل آيتين قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] تضمنت هذه الآية والآية التالية موضوعية الإيمان والعمل في الدنيا لتعيين نوع الجزاء في الآخرة، فليس من برزخ بين الجنة والنار، والمدار في الثواب على إتباع الهدى على نحو الحصر والتعيين، وفيه منع من الجهالة والغرر، وهذا المنع عون للتوقي من إبليس وعداوته.
إفاضات الآية
لقد جاء الإخراج من الجنة بلغة كريمة تدل على الرأفة والرحمة وورد بصيغة (إهبطوا) وليس من عقوبة حاضرة مع الهبوط، وإنما نزل معه الهدى والرحمة وسبل الأمن مما سيأتي أو الحزن على ما فات.
وتدعو الآية إلى التدارك والعروج إلى الجنة بتلقي صيغ الهداية بالقبول والإمتثال، مما يدل على أن هبوط آدم وحواء من الجنة ليس طرداً من رحمة الله أو عقوبة، بل هو بداية الخلافة في الأرض بالأسباب وقانون العلة والمعلول.
 وتنفي الآية الجهل والغفلة عن الناس، للتناقض بينهما وبين الهدى، ومن إعجاز الآية تقييد النجاة من الخوف والحزن بإتباع هدى الله، وعدم الإعراض عنه، وفيه تحذير إضافي من إبليس ووسوسته.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد ان جاءت الآية السابقة بتوبة آدم وقبولها والبشارة للناس جميعاً بان الله تعالى [هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] جاءت هذه الآية بالأمر بالهبوط الشامل لآدم وحواء وإبليس بسور الموجبة الكلية (جميعاً) لتوكيد حقيقة وهي ان الهبوط رحمة ولطف من الله تعالى، وهو مصداق من مصاديق توبته  على العباد، فينزل آدم الى الأرض ومعه سلاح التوبة والإنابة، وتتغشاه هو وحواء وذريتهما رحمة الله تعالى.
لم يأت الأمر بالهبوط بواسطة ملك من الملائكة وهم الذين سجدوا إلى آدم في الجملة، بل جاء من عند الله تعالى لبيان حقيقة الملائكة وهي ان الذنب يتعقبه الجزاء إلا أن يتوب الإنسان، ومع أن الأمر بالهبوط جاء على نحو الكلي المتواطئ الشامل للجميع بمرتبة واحدة الإ أن الهبوط مقدمة للإمتحان والإبتلاء على الأرض، وفيه طريقان أحدهما يتقوم بالإيمان والعمل الصالح ويقود إلى الجنة، والآخر يتمثل بالكفر والجحود ويسوق إلى النار.
 ومن رحمة الله تعالى والمصاديق التي تدل على أنه هو التواب الرحيم أنه لم يجعل الإيمان والكفر بعرض واحد وبمسافة واحدة من الناس، بل ان طريق الهدى هو الأقرب لكل إنسان إذ أن الله تعالى حبب الإيمان إلى الناس وزينه في نفوسهم، وندبهم إلى الهدى ببعثة الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب السماوية وجاء القرآن خاتماً لها ، وإماماً يقود الناس إلى سبل التقوى والنجاة في النشأتين، ومن إمامته ورود قصة الهبوط إلى الأرض وكيفيته وفلسفته وأسراره.
 وقد جاء الأمر الإلهي بالهبوط قبل آيتين، وتضمن الإخبار عن حال العداوة بين آدم وحواء من جهة وبين إبليس ، أما هذه الآية فجاءت بالهبوط المقترن بالهداية إلى سبل الإيمان، والبشارة للمسلمين بالفوز بالهدى وترشح النجاة عنه , فبعد الإخبار عن الهبوط جاء قوله تعالى [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] .
وفي مصاحبة الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار من السماء للإنسان وجوه:
الأول: ملازمتها للإنسان قبل حلوله في الأرض والسكن فيها.
الثاني: إقترانها بأوان سكن الإنسان الأرض.
الثالث: تأخرها رتبة عن حلول الإنسان في الأرض كما لو جاء الوحي لآدم عليه السلام بعد مدة من نزوله الى الأرض.
والصحيح هو الأول، وهو الذي تدل عليه هذه الآية الكريمة، من وجوه:
الأول: توجه الأمر الإلهي الى آدم وحواء وإبليس بالهبوط، أي انهم لم يتلبسوا بعد بالهبوط، وحتى على القول بان الهبوط الأول في الآية قبل السابقة من الجنة إلى السماء، أما الهبوط في هذه الآية فهو من السماء إلى الأرض، فان الآية تدل على حصول التبليغ والإنذار قبل السكن والإقامة في الأرض.
الثاني: لما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] جاءت هذه الآية لبيان مصاديقها وعظيم فضل الله تعالى على آدم وحواء وذريتهما من وجوه:
الأول: التوبة والعفو عن آدم وحواء عند الهبوط وأوانه.
الثاني: مجئ الآية بصيغة المضارع [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] أي عندما تكونون في الأرض، وفيه إشارة إلى بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية.
الثالث: إتصال مضامين الآية وما فيها من الوعد الكريم بالأمر بالهبوط إلى خاتمتها بالوعد الكريم والإخبار عن وقاية أهل الإيمان من الخوف والحزن.
 ومن الآيات تقييد الخوف بانه عليهم، أي انهم لا يخافون من نزول العذاب الأليم بهم، بينما جاء إنتفاء الحزن على نحو الإطلاق بالسكينة وعدم الحزن على ما يفوتهم في الحياة الدنيا، وبالسعادة الدائمة في الآخرة.
وكما جاء الهبوط بصيغة الجمع، فان خاتمة الآية وما فيها من الوعد الكريم جاءا بصيغة الجمع مع إتحاد جهة الخطاب، ولكن الفارق أن الوعد جاء بلغة الشرط.
التفسير الذاتي
تبين الآية أهمية الإقامة في الجنة، وما تدل عليه من التشريف والإكرام، ويدل عليه مجئ الآية بلفظ الهبوط وما يعنيه من النزول من الأعلى إلى الأسفل.
وورد لفظ (إهبطوا) بصيغة الجمع ولغة الأمر أربع مرات، ثلاثة في موضوع واحد، وهو هبوط آدم وحواء وإبليس من الجنة، كما في هذه الآية، وواحدة في ذهاب بني إسرائيل إلى مصر بعد طلبهم الثبات مع أنه كان ينزل عليهم المن والسلوى من السماء، قال تعالى [فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا] ( ).
 لكن هذا لا يعني أن الهبوط مطلقاً أمر مذموم، بل هو بداية لمرحلة جديدة، والهبوط في الآية محل البحث متباين بلحاظ الإنتفاع الأمثل من سبيل التوبة، وقد جاء ذكر الهبوط بخصوص نوح بعد الطوفان , قال تعالى [يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ]( )،وفيه بيان للحسن الذاتي لهذا الهبوط بقرينة مايصاحبه من السلام والبركة، ولما فيه من والأمن من الغرق والهلاك، إذ كان الناس حينئذ على قسمين:
الأول: الذين ركبوا في السفينة ونجوا من الغرق.
الثاني: الذين هلكوا بالطوفان.
وليس من قسيم ثالث لهما، أما بالنسبة لهبوط آدم فان لفظ الناس ينطبق يومئذ على آدم وحواء , وقد هبطا إلى الأرض لبداية عهد الخلافة في الأرض، أما إبليس فقد نزل عقوبة وإبتلاء وإمهالاً إلى أجل مخصوص.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية لبيان موضوع الحكم إذ يكون الحكم من التالي منوطاً بالشرط على نحو يترتب الحكم عليه ترتب المعلول على علته، وعلى وجه لا يفرض الحكم بدون تحقق الشرط فلا ينتفي الخوف والحزن إلا مع إتباع الهداية والرشاد، ويدل في مفهومه على وجوه:
الأول: إقامة الحجة على الناس بمجئ الهدى من عند الله عز وجل.
الثاني: عمومات الثواب الإلهي، والجزاء الحسن لأهل الإيمان.
الثالث: الإنذار بالخوف والحزن لمن يتخلف عن تلقي الهدى بالإيمان.
ويحمل لفظ (إهبطوا) المعنى الأعم ،وإرادة آدم وحواء وذريتهما لأمور:
الأول: صيغة الجمع فيه الذي تدل عليه واو الجماعة.
الثاني: التباين في تلقي الهدى الذي يدل عليه الجمع بين هذه الآية والآية التالية.
الثالث: مجئ سور الموجبة الكلية (جميعاً) في هذه الآية.
الرابع: عمومات بقاء آيات القرآن غضة طرية ذات وظائف متجددة في لغة الخطاب والموضوع ومصاحبتها للمكلفين مادامت الحياة الدنيا.
الخامس: تعاقب بعثة الأنبياء، ونزول الكتاب إلى أن ختمها الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، قال تعالى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
السادس: مجئ الآيات بقبول توبة آدم، مع إلحاق حواء به فيكون معنى لغة الجمع والإنذار للذين يكذبون بآيات الله كما في الآية التالية متعلقاً بشطر من ذرية آدم، لذا جاء الأنبياء بالبشرى والإنذار، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ).
من غايات الآية
في الآية بيان حقيقة وهي أن هبوط آدم الى الأرض رحمة من عند الله لمصاحبة التوبة له، وتوالي أسباب الهداية وجذبه لسبل الإيمان فمن الآيات الإعجازية في القرآن أن تأتي الآية قبل السابقة بالإخبار عن هبوط آدم وحواء وإبليس من الجنة، ثم تأتي الآية السابقة بتلقي آدم كلمات التوبة وأسباب الإنابة من عند الله وتعقبها للهبوط من غير فترة بينهما، وهو المستقرأ من إبتداء الآية بقوله تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ] ثم تأتي الآية محل البحث لتخبر عن توالي الآيات والبراهين التي تبعث على الهداية والإيمان، لتكون صفحة جديدة لا صلة لها بالأكل من الشجرة، وتجعل من الأرض روضة ناضرة تتزين بأداء الفرائض ومصاديق الطاعة والإنقياد لأوامر الله تعالى.
وجاءت الآية بالبشارة المطلقة، والوعد الكريم بالأمن والسلامة من وسوسة إبليس ومن عذاب النار، ومن الآيات أن تأتي الآية على قسمين:
الأول: عام وشامل للناس جميعاً، وهو خطابات ومضامين الهداية والرشاد.
الثاني: خاص، ويتعلق بمن يستجيب ويمتثل لأسباب الهداية والصلاح.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ]
وفي القراءة (أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فمن تبع هَدْي} بتثقيل الياء وفتحها)( ).
في الآية الكريمة تكرار للأمر بالهبوط والخروج من الجنة ، وقد أختلف في عــلــة هذا التكرار خاصــة وأنه جــاء بعد الأمــر الأول بالهبوط مباشرة مما يعني ان فيه مقاصد ومعاني أخرى منها:
الأول: الهبوط الأول من الجنة إلى الســماء الدنيا، والهبوط الثــاني من الســماء الى الأرض، قــالــه أبو علي الجبــائي( )، ولم يرفـعــه وسبب هذا القول هو تكرار الهبوط , إذ ذكر في الآية قبل السابقة [وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ] ( ) .
ولكن تكرار ذكر الهبوط لا يدل على تعدد موضوعه وأفراده , وجاء بصيغة الأمر (اهبطوا) في آيات عديدة وفي موضوع واحد، ولكن التكرار لوجوه:
الأول: القدر المتيقن هو التباين الجهتي في موضوع الآيتين , وليس ذات الهبوط، إذ أخبرت الآية قبل السابقة عن العداوة بين آدم وحواء من جهة وبين إبليس، وأخبرت هذه الآية عن الهداية التي تأتي للناس بالكتب السماوية والوحي والنبوة والآيات الكونية وأسباب الإتعاظ.
الثاني: جاءت هذه الآية بسور الموجبة الكلية (جميعاً) وكأنها خطاب لآدم وحواء وذريتهما إلى يوم القيامة.
الثالث: على فرض خروج إبليس من الخطاب في هذه الآية بالتخصص لإصراره على المعصية، فقد ورد الخطاب الثاني له بالهبوط على نحو الخصوص وبلغة الذم , قال تعالى[اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا]( ).
 وفي الجمع بين الآيات يتجلى المائز بين أمري :
الأول : هبوط آدم وحواء الذي هو مناسبة لإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة وسبيل للعودة إلى الجنة والخلود فيها.
الثاني : هبوط إبليس الذي هو عقوبة، ومقدمة لعقوبة.
الرابع: تدل الآية التالية وإتصالها بهذه الآية على التفصيل في الجزاء على المعنى الأعم في متعلق الهبوط لقوله تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا] فجاءت لغة الجمع بخصوص الذين إهتدوا في هذه الآية، وفي الذين كفروا في الآية التالية مما يدل على أن المراد ليس آدم وحواء وإبليس وحدهم، ليكون من الإعجاز في موضوع هذه الآية تعلقها بموضوع الهبوط وموضوع الهداية.
وليس من دليــل عليه خاصــة وان ورد ت بعض الأخبار ووجوه التفسير بما يفيـــــد ان الجنــة كانت من جنــان الدنيا ولكنهــا لا تمنع من كونها في الســـماء إذ أن الدنيا وعــاء زماني محدود مقــابل الآخرة وما فيها من الخلود، وفي الآية مسائل: 
الأولى: يشير ضــمير المؤنــث في قوله تعالى [ اهْبِطُوا مِنْهَا ] يشير على إلى الجنة.
الثانية: ان الله عز وجــل أكــرم من أن يعــاقب مرتين، وأن الهبوط يعني النزول من الأرقى إلى الأدنى، ويمكن أن يقال أن الهبوط هنا ليس عقوبة، إنما هو متعلق بالتكليف ويحمل المعنى اللغوي للكلمة أي الإنحطاط من علو الى سفل.
الثالثة: جاء هذا الهبوط بعد التوبة والعفو، الأمر الذي يجب أن يستحضر عند التفسير والتأويل.
الثاني: ورد تكــرار الهبوط للتوكيد وأن المقصــود به هو الهبوط الأول.
الثالث: ما يمكن أن يستقرأ من القولين المتقدمين في معنى الهبوط ، وهو أن الهبوط في هذه الآية هو نفس الهبوط المذكور في الآيــة الســادسة والثلاثين المتقــدمــة إلا أن الإختــلاف وقع في المحمول والنسبة، فالموضوع في الآيتين هو الهبوط، والمحمول في الأولى هو العداوة وفي هذه الآية هو الهدى، والنسبة في الآية الأولى ثبوت العداوة بين آدم وحواء ، وفي هذه الآية مناسبة وفرصة للرحمة والهداية ، وليس فيها ذكر لمسألة العداوة.
ففي الآيــة نكتــة وســــر مبـارك وهو أن التــوبــة لا تعني العفو وحــده، بل أنها وبفـضــل الله تعالى باب ومدخــل كــريـم لنعمة أخرى، نعم قد تكــون تلك النعــمــة قضــية شــرطــيــة كما في الآية الكــريمــة إذ إقـترن التــالي وهو عــدم الخــوف وغياب الحــزن بإتبـاع الهدى النازل. والرابطة هي الفاء في (فلا)، ويمكن إعتبار هذه الآية بداية التكليف والإمتحان والإبتلاء.
ويعني الهبوط النزول من أعلى إلى أسفل , وجاء الخطاب بلغة الجمع ليشمل آدم وحواء وإبليس، وصحيح ان الإثنين أقل الجمع إلا أنه يحتاج إلى قرينة، والقرينة بخلافه اذ جاء البيان بقوله تعالى [ جميعاً ] كحال ودلالة على الإطلاق.
ويلاحظ في الآية ان الأمر بالهبوط لم يرد باسم آدم على نحو الخصوص كما كانت الآيات السابقة التي تتضمن تشريفه بخطاب التوبة وتلقيها، فجاء خطاب الهبوط بصيغة الجمع ولا يعني أنهم بعرض واحد، فهبوط إبليس عن عقوبة وغضب إلهي ويتضمن الوعيد، وهبوط آدم رحمة وفرصة جديدة للعبادة والتقوى بدليل أنه جاء متعقباً للتوبة، وتوبة الله سبحانه عن التوابين مطلقة وتعني محو الذنب وعدم ترتب الأثر عليه، كما يدل على التباين العداوة فيما بينهم وبين إبليس الذي يصر على المعصية.
وجاء الأمر بصيغة جمع المذكر السالم لغلبة المذكر فتدخل حواء في الخطاب بلحاظ لغة الجمع المكررة بواو الجماعة، وسور الموجبة الكلية(جميعاً) وهو مقدمة لتلقي الأوامر والنواهي الإلهية وليكون الهدى بذاته وأثره واقية من إغواء وعداوة إبليس .
 أخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإِيمان عن قتادة قال: لما هبط إبليس قال : أي رب قد لعنته فما علمه؟ قال : السحر . قال : فما قراءته؟ قال: الشعر. قال: فما كتابه؟ قال: الوشم. قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر. قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام. قال: فأين مجلسه؟ قال: الأسواق. قال: فما صوته؟ قال: المزمار. قال: فما مصائده؟ قال: النساء)( ).
وتكرر لفظ (قلنا اهبطوا) إذ جاء قبل آيتين , وفيه مسائل:
الأولى: التأكيد.
الثانية: بيان موضوعية الهبوط ولزوم إقتباس المسائل والأحكام منه.
الثالثة : بداية خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى[اهْبِطُوا] وبيان حقيقة وهي ملازمة الإفتتان للإنسان في الأرض.
الرابعة: إستدامة قانون العداوة في الأرض، وحاجة الإنسان للمدد واللطف من الله للغلبة على عدوه وهو الشيطان , وجاءت الآيات للتحذير من عداوة الشيطان وما يبثه من أسباب العداوة بين الناس أنفسهم وهو من عمومات قوله تعالى[بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] وفي التنزيل [ِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ] ( ) .
 ومن الإعجاز أن الآية أعلاه عدم إخبارها عن وقوع العداوة ولكنها ذكرت بغي الشيطان وسعيه لدبيب الخصومة بين الناس، ليكون الإيمان والعمل الصالح والإستجارة بالله، والإستعاذة من الشيطان حرزا وواقية من حصول المصداق الخارجي لتلك العداوة.
الخامسة: ذكر الهبوط قبل آيتين كعقوبة تتعقب الزلل والأكل من الشجرة بإغواء إبليس لذا ورد فيها[بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]، وجاء الإخبار عن الهبوط في هذه الآية بعد إختتام الآية السابقة بقوله تعالى[إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( )، ليتضمن ذكر نزول أسباب ومصاديق الهداية.
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين أن الدنيا دار إبتلاء وإختبار , فيتجلى الإبتلاء بوجود إبليس وعداوته، والكدورات الظلمانية وأسباب الخصومة بين الناس، ويظهر الإختبار بتلقي أسباب الهداية بالقبول، والأوامر الإلهية وإمتثال المسلمين له , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة: بيان الإعجاز في موضوع الهبوط بأن تقدم الإخبار عن عداوة إبليس قبل الإخبار عن التكاليف وتلقي الهدى، ليتلقاه المؤمنون بالقبول والإحتراز من إبليس وما يثيره من أسباب الشك والريب والضلالة .
وفي الآية دعوة للناس لإتباع الأنبياء والرسل لأنهم وسائط الهدى والتنزيل، وعن قتادة في قوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ] قال : ما زال لله في الأرض أولياء منذ هبط آدم ، ما أخلى الله الأرض لابليس إلا وفيها أولياء له يعملون لله بطاعته( ). والمراد من الهبوط هو النزول إلى الأرض.
الثامنة: تضمنت الآية قبل السابقة ذكر الغاية والجهة التي يهبطون إليها وهي الأرض بقوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ]( ). وجاءت هذه الآية بالإخبار عن الموضع الذي هبطوا منه وهو الجنة ويدل عليه حرف إبتداء الغاية (من) في قوله تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا] كما في قوله تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( )، أي إبتداء الإسراء من مكة المكرمة ونهايته وغايته المسجد الأقصى ثم العروج الى السماء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسعة: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن آدم وحواء وإبليس هبطوا من ملك الله في السماء إلى ملكه في الأرض وكذا الفضاء الذي بينهما، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ] ( ).
العاشرة: أخبرت الآية قبل السابقة عن الهبوط وأنه متاع إلى أجل مبهم، أما الهبوط في هذه الآية فيتضمن الدلالة على الثواب والجزاء، بقوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، لبيان أن المتاع في الدنيا الذي ذكرته الآية قبل السابقة يتعقبه الحساب والجزاء، وأنه ليس مطلوباً بذاته وليس غاية ينتهي عندها موضوع الخلافة والهبوط والعداوة مع إبليس، وفيه أمور :
الأول: فيه جذبة للناس لمنازل الإيمان.
الثاني: الإخبار عن المتاع دليل على الجزاء بالثواب بالنعيم لمن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة، والعذاب الأليم لمن يركن إلى المتاع ويتخذه لهواً، قال تعالى[وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
الثالث: في الآية تحذير من الإفتتان بالدنيا.
الرابع: الزجر عن التحاسد والإقتتال، وعندما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بإفساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء، رد الله عز وجل عليهم بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه تعالى نزول هذه الآية وتلقي المسلمين لها بالقبول وإتخاذ الدنيا دار عبادة، ومناسبة لإظهار معالم التوحيد، قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الخامس: يتعذر على إبليس إخراج آدم وحواء من الأرض، فلابد من بقائهما فيها إلى أجلهما، وكذا بالنسبة لذريتهما , وليس لإبليس منع الناس من متاع الدنيا وما فيها من أسباب الإنتفاع.
السادس:  إنه إنذار إضافي من إبليس، ودعوة للحرب عليه وعلى جنوده.
 وجاء الأمر بالهبوط بصيغة التثنية في سورة طه[قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]( )، وموضوع الآيات واحد، والف الإثنين في الآية راجع إلى آدم وحواء لسياق الآيات وتقدم قوله تعالى[فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا]( )، وقيل راجع إلى آدم وإبليس وأن حواء تبع لآدم.
      وجاءت الإشارة إلى إبليس في الآية أعلاه من سورة طه من وجوه:
الأول :  صحيح أن الإثنين أقل الجمع، إلا أن القرآن يفسر بعضه بعضاَ فوردت الإشارة إلى إبليس في آية البحث بلفظ(جميعاً) بقوله تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا].
الثاني: تأكيد العداوة بين إبليس وبني آدم التي ذكرت قبل آيتين بذات الألفاظ (بعضكم لبعض عدو).
الثالث: تأكيد مجئ الهدى للناس الذي ذكرته آية البحث بذات الألفاظ في أول الآية من سورة طه , والتباين في اللفظ والإتحاد في المعنى في آخر.
إن إختتام الآية من سورة النور بقوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ] يدل على توجه الخطاب إلى آدم وحواء وبواسطتهما إلى ذريتهما وإلى يوم القيامة، ويتجلى الهدى بنزول القرآن .
 روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله يقول[فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى] ( )( ).
تفسير قوله تعالى [ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ  مِنِّي هُدًى ]
(اما) حرف شرط وتفصيل وتوكيد، وفيه في المقام حث على الإلتفات للتكليف وإنتظاره والإنبعاث للإمتثال وطاعة الله عز وجل، وفي الآية وجوه:
الأول: الإخبار بان التكليف رحمة ومناسبة للتوبة ووسيلة للنجاة وطريق لدخول الجنة.
الثاني: ظاهر الآية الجمع , وإنحلال الخطاب بعدد المكلفين ليشمل ذرية آدم أيضاً، وهو مصداق للخطاب القرآني الذي يأتي على نحو العموم الإستغراقي.
الثالث: تدل الآية بالدلالة التضمنية على شمول موضوع الهبوط للناس جميعاً , فكما حصل نفخ الروح في آدم بالأصالة وشموله لكل إنسان، فكذا الهبوط فانه يتعلق بكل إنسان وإن حصل واقعاً وخارجاً لآدم وحواء .
الرابع: هذه الملازمة أمر تتفرع عنها دراسات عديدة من جهة الإكرام للإنسان وتطلعه وشوقه الى الجنة , وحضور الرأفة الإلهية في الأمر بالهبوط وما يرافقه من الرحمة والتخفيف وتيسير العيش.
الخامس: في الآية إشارة إلى أن النبوة والكتب المنزلة هدى ورحمة وفيها دعوة لإتيــان الفرائض لما تتضـمنه من الهدى والرشاد.
السادس: تدل الآية على وصول آيات النبوة وأحكامها إلى جميع الناس وإتصالها وإستمرارها بالقرآن.
بحث بلاغي
ورد الضمير في [ قُلْنَا ] بصيغة الجمع للتفخيم والتعظيم للواحد، وما في الأمر من الزجر والطرد والتأديب الصادر من مقام الربوبية، ثم جاء الضمير في [ مِنِّي ] بصيغة المفرد , وفيه مسائل:
الأولى: يأتي الهدى من الله تعالى لبيان عدم الواسطة في الهداية، فهو الذي يهدي عباده.
الثانية: بالإيمان والهدى.
الثالثة: الزجر عن الشرك.
الرابعة: تنمية ملكة الإستعانة بالله، ومن الإعجاز في صيغ التأديب الإلهي للمسلمين والمسلمات تلاوتهم كل يوم وعلى نحو الوجوب وصيغة القرآنية[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ). 
الخامسة: إظهار رأفة الله  تعالى حتى في حال معصية العبد.
السادسة: طرد اليأس عن النفوس، قال تعالى[وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ). 
السابعة: بقاء العبد قريباً من رحمة الله.
ويمكن حمله على إرادة القضية الشخصية بالهدى، أي ان كل فرد مستقل في تلقي الهدى.
ويفيد الجمع بين صيغة التفخيم في (قلنا) ولغة المفرد في (مني) ان الله تعالى هو القوي العزيز الذي بيده مقاليد الأمور، وهو لطيف بعباده قريب منهم يجذبهم إلى سبل الهداية والطاعة.
تفسير قوله تــعــالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ]
بشارة ووعد كريم يتضمن عناوين إعتبارية زائدة منبثقة من مناسبة الحكم والموضوع وإقترانه بالهبوط، مما يعني ان الهبوط ليس عقوبة ولا هو أذى محض بل هو رحمة، وفي الآية إخبار بأن مغادرة الجنة مؤقتة بالنسبة للمؤمنين، فالهبوط إما أن يكون سبباً للعودة الكريمة إلى الجنة وأما إلى النار.
وتتضمن البشارة والإشارة بالعودة إلى الجنة في هذه الآية فضلاً وزيادة على سكن آدم في الجنة، فآدم قد حزن عند أكله من الشجرة وبدت له ولزوجه سوءاتهما وندما على ما فعلا وإستحيى آدم من ربه، وغادر الجنة بوسوسة وإغواء الشيطان، بينما تخبر الآية عن المكث الدائم والخلود في الجنة حيث العودة إليها بسلاح وسبيل إتباع الهدى، فلا خوف أو خشية يومئذ من نزول ضرر أو فوات نفع في المستقبل، ولا حزن بسبب حصول أذى وضرر أو خسارة لأن نعيم الجنة يتصف بالخلود والدوام.
ولعل في الآية بياناً للفرق بين لبث آدم وحواء في الجنة من غير عمل وإمتثال وتكليف ، وبين إقامتهما والمؤمنين عن طاعة لله تعالى فلا حزن ولا خوف حينئذ من وسوسة إبليس وخشية مغادرة الجنة والطرد من عرصاتها.
فيمكن إعتبار هذه الآية بدلاً وعوضاً وخلفاً كريماً عن الإخراج من الجنة وكأن وجود آدم فيها ليس مستقراً بل كان متزلزلاً، ليصبح في الآخرة دائماً.
وبذا تتجلى صفحات قدسية من فلسفة الهبوط وأنه مناسبة للإصلاح في الأرض وإعمارها بالعبادة والشوق إلى الجنة وبذل الوسع في السعي اليها وتدارك ما فات الإنسان بالهبوط، بالإضافة إلى ما يؤدي إليه الهبوط من الأمن والسعادة الدائمة، وعندئذ يكون الهبوط نعمة وهبة كريمة لأنه وسيلة الخلود في النعيم، والإستهزاء من إبليس لإنقطاع الطريق عليه بعدم إمكان تكرار الوسوسة.
وتدل الآية على توبة الله تعالى على من يشاء من عباده ، وأنه سبحانه كما يرزق إبتداء فانه يعيد ذات الرزق مع زيادة نوعاً وكيفاً وكماً، فلا نهي عن أكل بعض أشجار الجنة أو تحذير من عدو.
وفي الآية نكتة عقائدية وهي أن طريق الجنة سهل معبد يتقوم ويستقيم باتباع الهدى، وليس بإبتداع العبادة أو الإجتهاد في الرياضات لذا ترى الفرائض العبادية لا تأخذ إلا جزء يسيراً من وقت المكلف.
والآية دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنحصار الهدى بالنبوة وما جاء به القرآن من عند الله تعالى إذ جعله سبحانه جامعاً للعلوم .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على تفضل الله تعالى بأسباب الهداية وبلوغها للناس جميعاً، وإن كان هذا البلوغ بمراتب متفاوتة، ولكن كل مصداق منه حجة وبرهان على الإنسان، وسبب التفاوت ذات الإنسان وقبوله لمراتب الهداية ليتلقي الأكثر والأقرب، فالهدى من عند الله كالشجرة التي تتدلى أغصانها فتدخل كل بيت من بيوت الأرض، ويستطيع كل إنسان أن يتناولها، فليس من حاجز أو برزخ يحول بينه وبين الهداية.
تفسير قوله تعالى [ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحزَنُونَ ]
قاعدة كلية تعكس عظيم لطف واحسان الله تعالى على آدم الناس جميعاً، وجاء نفي الخوف والحزن عمن إتبع الهدى على نحو الإطلاق وعدم الحصر بعالم الآخرة والثواب، فهل الدنيا تخرج بالتخصيص لحصول الخوف واقعاً فيها لاسيما وأن المؤمن أكثرالناس تعرضاً للبلاء والأذى.
الأقوى أن الآية بشارة مطلقة وشاملة للنشأتين، لأصالة الإطلاق، وعظيم فضل الله وأنه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم، ولعمومات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( )، أما ما يتعرض له المؤمنون من الأذى وأسباب الخوف والحزن ووجوه الإبتلاء في الدنيا فهي أمور عرضية تتعقبها سعادة دائمة وخلود في النعيم.
وتصاحب السعادة الخوف والحزن في الدنيا في حال حصول أسبابهما لأن المؤمن يعلم بأنه مثاب على هذا الخوف والأذى وهو سبيل لإزاحتهما عن قلبه، ويبعث ذكر الله تعالى واللجوء اليه في النفس السكينة ساعة الخوف والألم سواء أحس بالأذى والحزن أم إنه لم يلتفت إليهما، لأن قلبه يشع بأنوار قدسه ويحس بقرب رحمته وعفوه تعالى.
وهذه الآية من إعتراض الشرط على الشرط، فقد دخل أحدهما على الآخر، ويكون الثاني مع جوابه جواباً للشرط الأول الوارد في [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ].
وخاتمة الآية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]، وأنه تعالى مالك كل شئ،و بيده مقاليد الأمور، وتبين الآية حاجة الناس لله عز وجل في الدنيا والآخرة، وهذه الحاجة منبسطة على آنات الزمان المقدرة وغير المقدرة.
وفي الآية بشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله فهو أعظم مصاديق الهدى، ويتصف بمصاحبته للأجيال المتعاقبة من الناس إلى يوم القيامة لينهلوا من خزائنه، وقد تفضل الله عز وجل وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
والآية ترغيب للناس جميعاً لدخول الإسلام والتقيد بالأحكام الشرعية لحصرها الأمن والسلامة بالإيمان وإتباع النبوة والتنزيل، وهل يعتبر قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) ( )، من مصاديق تفسير الآية ؟
الجواب نعم لأن الله عز وجل هو الذي يهب العافية ويدفع السقم والخوف منه، لتكون العافية مناسبة لشكر الله عز وجل والمبادرة إلى أداء الوظائف العبادية.
والآية على وجوه:
الأول: لا يحزن الذين يتبعون الهدى على أمر فاتهم لأن الله عز وجل ذو الفضل العظيم الذي ينعم عليهم بالبدل والعوض.
الثاني: يستثمر المهتدون أيامهم بالعبادة وفعل الصالحات.
الثالث: لا يخافون من المعصية إرتكبوها لأنهم يبادرون إلى الإستغفار والتوبة، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الرابع: الذين يتبعون الهدى في مأمن من العذاب في عالم البرزخ ويوم القيامة.
الخامس: لا يخافون التفريط في الهدى الذي يأتيهم من الله عز وجل.
السادس: مبادرة المؤمنين إلى التصديق بالنبوة والتنزيل، وذكر الله وإتيان الفرائض[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ). 
*************
 
 
قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفرُوا وَكَذبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] الآية 39. 
 
الإعراب واللغة
والذين: الواو: حرف عطف، الذين: مبتدأ، كفروا: فعل ماض، والواو: فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول وكذبوا: معطوف على كفروا، وملحق به في صلة الموصول، بآياتنا: جار ومجرور متعلقان بكذبوا، والضمير (نا) مضاف اليه.
أولئك: اسم إشارة مبتدأ ثان.
أصحاب: خبر مرفوع، النار: مضاف اليه.
هم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، خالدون: خبر هم.
وقيل أولئك بدل من الذين، وعطف بيان، وذكرت أقوال أخرى في إعرابها.
والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع سواء كان عمداً أو سهواً. وان تباين الحكم الشرعي فيهما، ونقيض الكذب الصدق , وليس من واسطة أو برزخ بينهما، والكذب مبغوض عقلاً عند المليين وغيرهم ومن وجوه الكذب التكذيب بالحق وعدم الإقرار به جحوداً وعتواً.
أما الإخبار عن الشيء بخلاف ما فيه في باب إصلاح ذات البين، فقد ورد دليل خاص بجوازه، وهو يخرج بالتخصيص عن الإصطلاح الشرعي للكذب المحض.
الآيات: جمع آية وهي العلامة والدلالة والعبرة.
خالدون: جمع خالد صفة للدوام والبقاء والتأبيد.
أصحاب: جمع صحب على وزن فرخ وأفراخ. والصاحب الملازم والقرين.
وتبع الشي تبعاً وتباعاً: سار في أثره ، ويأتي بمعنى الطلب له وإقتفاء أثره، وفي صفة ذي القرنين , قال تعالى [ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا] ( ).
(وفي حديث زيد بن ثابت حين أمره أبو بكر الصديق بجمع القرآن قال: فعلقت أتتبعه من اللخاف والعسب )، وذلك أنه اسقصى جميع القرآن من المواضع التي كتب فيها حتى ما كتب في اللخاف ، وهي الحجارة ، وفي العسب ، وهي جريد النخل ، وذلك أن الرق أعوزهم حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر كاتب الوحي فيما تيسر من كتف ولوح وجلد وعسيب ولخفة ، وإنما تتبع زيد بن ثابت القرآن وجمعه من المواضع التي كتب فيها ولم يقتصر على ما حفظ هو وغيره ، وكان من أحفظ الناس للقرآن إستظهاراً واحتياطاً لئلا يسقط منه حرف لسوء حفظ حافظه أو يتبدل حرف بغيره( ).
في سياق الآيات
بعد ان تضمنت الآية السابقة البشارة للمؤمنين ودعتهم لتثبيت إيمانهم والسعي إلى الجنة التي أخرجوا منها بالواسطة أي أن خروج آدم من الجنة كان خروجاً لذريته بالواسطة، جاءت هذه الآية بصيغة الإنذار لتخويف أهل الضلالة والجحود، والوعيد بالنار لمن يقيم على  المعاصي.
لقد إبتدأت الآية بحرف العطف “الواو” في إشارة إلى الآية التي قبلها ليكون في الجمع بين هذه الآية والآية السابقة مدرسة عقائدية وسبباً لنفرة النفوس من الكفر والتكذيب بالآيات.
 ومن الآيات ما جاء في الآيات السابقة من قصة خلق آدم وسجود الملائكة له ووسوسة إبليس له ولزوجه حواء وإخراجهما من الجنة، وبيان إبتداء وجود الإنسان في الأرض وانه ليس من اللامنتهي، بل هو من المنتهي وله أجل مخصوص فلابد للفرد والجماعة , والأب والابن من مفارقة الدنيا.
 وترى الإنسان يعدد آباءه وأجداده وينتسب لهم وهو لم يرهم ، ويدرك أنهم ليسوا أحياء بل ذهبوا بذات الطريق الذي سيغادر فيه، والمركبة التي تقله الى حيث يقيمون في عالم البرزخ بإنتظار يوم النشور، ويدل نظم الآيات على إستحقاق الكفار لعذاب النار لإقامة الحجة عليهم، ومجيء الهدى لهم، وإصرارهم على عدم إتباعه، وجاءت الآية التالية خطاباً خاصاً لبني إسرائيل يتضمن دعوتهم لذكر النعم العظيمة التي منّ الله تعالى بها عليهم، وحثهم على الإيمان بنزول القرآن من عند الله تعالى مع التذكير بأنه مصدق لنزول التوراة من الله .
 وإذ أختتمت الآية السابقة بالبشارة والوعد للمؤمنين والثناء عليهم بقوله تعالى [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] فان هذه الآية أختتمت بالوعيد والتخويف للكفار.
ويدل الجمع بين هذه الآية والآية السابقة على توالي آيات الله، وأن الهدى الذي يأتي للناس يكون متصلاً ومتعاقباً ومتعدداً في موضوعه ودلالاته .
ومن الآيات ما يخص النبوة ومعجزاتها، ومنها ما يتعلق بالآيات الكونية وأسرار الآفاق، وبيان بديع صنع الله تعالى.
وجاء الوعيد بالعذاب بالنار للكافرين ساعة الهبوط إلى الأرض، وفيه مسائل:
الأولى: من الآيات أن آدم وحواء سمعا بالنار ، وانها كانت من الأسماء التي تعلمها آدم من عند الله عند الهبوط.
الثانية: الجنة خير محض لا يسمع فيها ساكنها لغة الإنذار والوعيد والتخويف.
الثالثة: تحذير آدم وحواء من النار قبل الهبوط الى الأرض، ليكون هذا التحذير مصاحباً لهما ولذريتهما في الحياة الدنيا.
الرابعة: موضوعية الجزاء في الإقامة في الأرض، وإتخاذ الإنسان لها مستقراً.
وفي الآية رحمة  ولطف بآدم وحواء لإنتفاء الكفر وأسبابه عنهما، ولتفضل الله بقبول توبتهما، ورؤيتهما الآيات في الجنة، لذا جاءت الآية بصيغة الجمع الغائب ولغة الجملة الخبرية [وَالَّذِينَ        كَفَرُوا] ولم تقل لهما(وان كفرتما) وانتقلت الآية التالية لخطاب بني إسرائيل ولزوم ذكرهم للنعم الإلهية التي أنعم الله تعالى عليهم بها.
ويدل الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] على وجود العالم الآخر، عالم الحساب والجزاء وما فيه من الجنة والنار، وان الكفار يتمتعون في الدنيا إلى حين ثم يلقون العذاب الأليم.
الأول: الصلة بين آية (أسجدوا لآدم) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان المنزلة الرفيعة للإنسان، ولزوم الشكر لله عز وجل عليها بإتباع الهدى والتنزيل.
الثانية: التحذير والإنذار من محاكاة إبليس في الكفر.
الثالثة: بيان قبح الإستكبار عن عبادة الله وسوء عاقبته.
الثاني: الصلة بين آية (يا آدم أسكن) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان التضاد والتناقض بين أهل الجنة وأهل النار.
الثانية: الترغيب بالإيمان والهداية.
الثالثة: الإنذار والتحذير من الكفر والتكذيب بالآيات.   
الرابعة: تحذير الناس من الظلم والتعدي والمعصية.
الرابع: الصلة بين آية (فأزلهما) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين والناس جميعاً للإتعاظ من آدم وحواء وهما في الجنة.
الثانية: توكيد وظيفة القرآن بإنذار الناس من الشيطان وإغوائه.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين أن المقصود من قوله تعالى[اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ]، عداوة الشيطان للناس جميعاً ثم عداوة الكفار للمؤمنين.
الرابعة: تحذير المسلمين والناس جميعاً من الضلالة والجحود والكفر، وتدل الآيات على أن القرآن نزل هدى للناس جميعاً.
الخامس: الصلة بين آية (فتلقى آدم) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: تلقي آدم الكلمات آية من آيات الله.
الثانية: دعوة الناس جميعاً للتصديق بتلقي آدم الكلمات، وشكر الله عز وجل على هذا التلقي موضوعا وغاية كنعمة وحكمة تعلم آدم وحواء وذريتهما.
الثالثة: حث الكفار على التوبة والإنابة.
الرابعة: إخبار الآية أعلاه عن توبة آدم قبول الله عز وجل لها ترغيب للناس جميعاً بالتوبة، وهو من مصاديق الرحمة التي تتجلى بين ثنايا آيات القرآن.
السادس: الصلة بين الآية السابقة آية (قلنا أهبطوا منها) ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى: بيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً في نزول أسباب الهداية والرشاد.
الثانية: إقامة الحجة على الكفار بسبق الهداية والدعوة إلى الإيمان.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين بيان التضاد بين أهل الإيمان والكفار.
الرابعة: ترغيب الناس بالعمل الصالح وبعثهم للسعي إلى دخول الجنة، وجعلهم ينفرون من الكفر وما يؤدي إليه من العذاب الأليم.
الشعبة الثانية: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية (وأوفوا بعهدي) ( )، وفيها مسائل:
الأولى: تحذير بني إسرائيل من الكفر والضلالة.
الثانية: الزجر عن الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الباهرات من عند الله ومن يكفر ويكذب بها تكون عاقبته النار.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين تفضيل بني إسرائيل بدعوتهم لتذكر وإستحضار نعم الله عليهم.
الخامسة: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختصاص بني إسرائيل بالخطاب في هذه الآية نعمة على بني إسرائيل يجب أن يذكروها ويشكروا الله عليها بدخول الإسلام.
السادسة: من الوفاء بالعهد التصديق بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التكذيب بها.
السابعة: جاءت خاتمة الآية أعلاه بدعوة بني إسرائيل للخشية والخوف من الله، وجاءت الآية محل البحث بتوكيد حقيقة وهي أن الذين لا يخافون الله يكون مصيرهم إلى النار. 
الثامنة : من أفراد العهد الإلهي لزوم نبذ الكفر ومفاهيم الشرك , ولا تتقوم الجياة الدنيا إلا بهذا الفرد. 
الثاني:الصلة بين هذه الآية وآية (لا تكونوا أول كافر)( )، وفيها مسائل:
الأولى: توكيد لزوم تلقي الهدى بالتصديق والإيمان.
الثانية: ما يأتي من الهدى آيات بينات، وحجج قاهرات لا يجوز مقابلتها بالكفر والصدود.
الثالثة: إجتماع الترغيب والترهيب في الآيتين، وتحذير بني إسرائيل من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي جاء بها.
الرابعة: من تقوى الله إتباع الهدى , والعمل بأحكام الحلال والحرام التي جاءت بالتنزيل.    
إعجاز الآية
يظهر التقسيم والنظم البديع والفصل في هذه الآيات بلحاظ الأعمال رشحة من رشحات العدل الإلهي، والرأفة بالناس عموماً ما دامت الحياة الدنيا، وفي الآخرة و وان تباينت وجوه تلك الرأفة في كيفيتها لكنها تلتقي في إتصالها وكثرتها وسعتها، فالتحذير والتوبيخ والوعيد رحمة مع إمكان التدارك .
ويخرج الكافرون بالتخصص من موضوع الخلافة في الأرض بإختيارهم وجحودهم ، وتؤكد الآية على معجزات النبوة والتنزيل وتتحدى الكافرين.
وتؤكد الآية بلوغ آيات الله تعالى للكافرين، لأن الكفر والتكذيب لا يأتي إلا بعد المعرفة وحصول العلم بوجود الشيء، ومن إعجاز الآية ذكر الآيات ونسبتها إلى الله تعالى في إشارة إلى أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  آية من عند الله وان التصديق بنبوته ليس مسألة شخصية أو تتعلق بجنس أو أمة أو جماعة , فرسالته عامة وآية من عند الله يجب الإيمان بها، وأنها حق وصدق .
 وجاءت الآية بالوعيد بالنار على التكذيب بها، وإنكار نزول القرآن من عند الله.
 وتتضمن الآية الزجر عن التفكيك في موضوع الإيمان بالآيات فلا يجوز الإيمان بشطر من الآيات والنبوات دون الشطر الآخر , فلابد من التصديق والإيمان بها جميعاً وعدم التكذيب ببعضها.
وذكرت الآية الكفر والكذب بالآيات معاً مع ان الكفر وحده سبب للعذاب الأخروي وإستحقاق دخول النار، وفيه دلالة على قبح الجمع بين الكفر والتكذيب، وإفادته الإصرار على المعاصي.
ويمكن تسمية الآية بآية (والذين كفروا وكذبوا) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا أربع مرات( )، مع أن لفظ كفروا ورد في القرآن مائة وأربعاً وتسعين مرة، ولفظ كذبوا تسعاً وأربعين مرة.
الآية سلاح
تنبه الآية المؤمنين إلى سوء عاقبة الكافرين وتجعلهم يرون عذابهم بالتصور الذهني، وكأنه واقع بهم، فلا يلتفتون الى إغوائهم ولا يركنون إليهم.
تبين الآية عظيم رحمة الله عز وجل بالناس، بأن  جاءت بلغة الإنذار والتحذير من الكفر والتكذيب بالآيات مما يدل على أنها براهين، إقترنت ببعث الله الأنبياء، وتفضل الله سبحانه وأنذر الناس جميعاً من الكفر والجحود، وسوء العاقبة بالخلود بالنار، وقام الأنبياء بوظيفة البشارة والإنذار، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس النجاة من عذاب النار ببيان صفات أهلها، وهذه الصفات عرض حال، وخطأ مكتسب وضلالة ظاهرة، ومنهج مخالف لإدراك العقل، لأن آيات الله عز وجل حجج قاهرات، ودلالات بينات، وهذه الآية حجة في النشأتين، إذ أنها مانع من إحتجاج الكفار يوم القيامة , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ]( ).
مفهوم الآية 
الآية دعوة للإيمان , وإنذار من البقاء على الذنب والإصرار على الخطيئة، وهي إشراقة وأمل وبشــارة إســـتعادة شطر من سعادة الجنـــة بالهدايـــة والرشـــاد وفعل الصالحـــات.
 وتثبت الآية المنزلة بين المنزلتين وان الإنسان ليس مسلوب الإختيار بل يقدر على الفعل وعلى الترك فجاءت الآية لطفاً ورحمة وتذكرة.
وتحث الآية على تلقي الآيات بالقبول سواء كانت الآيات العقلية كما في آيات القرآن، او الآيات الحسية التي جاء بها الأنبياء السابقون كعصا موسى وناقة صالح، وفيها ذم للكافرين لجمعهم بين الكفر والتكذيب بالآيات، وجعلهم هذا الجمع يستحقون الخلود في النار، ومن مفاهيم الآية أنها بشارة للمسلمين فاذا كان التكذيب بالآية علة مادية للخلود في النار، فان الإيمان بها علة مادية لإستحقاق دخول الجنة.
في الآية مسائل:
الأولى: الإخبار عن عقوبة أهل الكفر والجحود.
الثانية: الإنذار والوعيد لمن كذب بالآيات.
الثالثة: تفسير الهدى الوارد في الآية السابقة بأنه آيات وعلامات بينات.
الرابعة: تعيين عقوبة الكفار وأنها مركبة من أمرين:
الأول: دخول النار.
الثاني: اللبث الدائم فيها , قال تعالى[قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ]( )، قال ابن عباس: هذا الإستثناء هو أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه لا يولهم جنة ولا ناراً.
وقال الكلبي: إلا ما شاء اللّه وكان ما شاء اللّه أبداً.
وقيل: معناه النار مثواكم خالدين فيها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب وقيل: إلا ما شاء اللّه من إخراج أهل التوحيد من النار.
وقيل: إلا ما شاء اللّه أن يزيدهم من العذاب فيها.
وقيل: إلا ما شاء اللّه من كونهم في الدنيا بغير عذاب.
وقال عطاء: إلا ما شاء اللّه من الحق في عمله أن يؤمن فمنهم من آمن من قبل الفتح ومنهم من آمن من بعد الفتح)( ).
والصحيح هو البشارة بإخراج أهل التوحيد من النار، وتأكيد موضوعية الشفاعة وسعة رحمة الله عز وجل في الآخرة وفي طوله قول ابن عباس أعلاه الذي هو من وجوه الحكمة في الآية الكريمة.
الآية لطف
تضمنت آيات القرآن البشارة والإنذار، وهذه الآية من القسم الثاني إذ جاءت بالإنذار والوعيد للذين يكذبون بالنبوة والتنزيل والآيات الكونية الدالة على وجود الصانع ولزوم عبادته، وتدل الآية في مفهومها على أمرين:
الأول: التحذير والإنذار من الكفر والجحود لقبحه الذاتي وما فيه من الأضرار الدنيوية والأخروية على الإنسان.
الثاني: البشارة لمن آمن بالله وصدق بآيات النبوة والتنزيل، وجاءت الآية بصيغة الماضي “والذين كفروا” في دلالة على شمول الحكم للأمم السابقة بلحاظ الهبوط وما فيه من دلائل عموم الحكم، كما تشمل الآية الذين كذّبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الآيات لما في لغة الماضي من القطع.
ومن اللطف الإلهي ان تكون الآيات الإلهية بصيغة الجمع لإفادة كثرة وتعدد الآيات وما فيها من توالي أسباب الهداية والرشاد، وفي الآية حث للناس على التصديق بالقرآن بإعتباره كتاباً نازلاً من عند الله، والأخذ بأحكامه ومضامينه وسننه، فقد جاءت هذه الآية بالزجر والتحذير من التكذيب بآيات الله، بقوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا…].
وجاءت تسمية آيات القرآن بأنها آيات الله، قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ] ( )، ومن اللطف الإلهي بالناس ان يبعث الله الأنبياء وينزل الكتب السماوية لتكون عوناً للناس للهداية، وجذباً لهم الى سبل الإيمان، وحجة حاضرة تصاحب الإنسان في حضره وسفره ، وفي بيته وعمله، تدعوه كل ساعة لعبادة الله عز وجل وتعضدها آيات الآفاق الظاهرة للحواس.
 
إفاضات الآية
تجعل الآية الكريمة النفس الإنسانية تنفر من الكفر والكافرين لأنهم إختاروا غير طريق الحق والصدق، وباختيارهم هذا جلبوا على أنفسهم الأذى المؤبد، وأرادوا الإضرار بالناس وأهل الأرض لما في سوء إختيارهم من نشر للرذيلة والأخلاق المذمومة وعناوين الجحود، والآية دعوة للتصدي للكفر بإظهار الإيمان وتعاهد الشرائع السماوية.
وجاءت الآية بنسبة الآيات لله تعالى [بِآيَاتِنَا] وفيه دلالات منها:
الأولى: شمول الآية للنبوة وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: لزوم الإعتبار بالآيات الكونية وأن السماوات والأرض من خلق الله، فلا تجوز عبادتها.
الثالثة: التخويف والتحذير والإنذار من عاقبة الكفر بالآيات.
الرابعة:  في الآية إشارة إلى إقامة الحجة عليهم بإدراك أن هذه الآيات من الله تعالى , ولم يكذب الكفار بالآيات عن جهل أو غفلة بل عن إصرار وتحد، فإستحقوا أشد العذاب.
لذا فان الآية تدعو الناس إلى الحذر والحيطة والتوقي من الكفر وأهله، وتبعث إلى المبادرة إلى التصديق بالآيات الباهرات والمعجزات السالمة عن المعارضة المقرونة بالتحدي.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) في دلالة على أنها من ضمن كلام الله تعالى إلى آدم وحواء وبواسطتهما إلى الناس جميعاً، وقد جاءت الآية السابقة بأمور ثلاثة:
الأول: هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض.
الثاني: مجئ الهدى من عند الله تعالى ببعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية.
الثالث: البشارة والوعد الكريم لأهل الإيمان والصلاح.
 أما هذه الآية فقد ذكرت الذين يكذبون بآيات الله تعالى على نحو الخصوص.
والجمع بين ما ورد في الآية السابقة[فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] وذكر عاقبة الذين كفروا بالآيات يفيد أن الآيات أعم , وان كل آية هدى من عند الله، فالذين كفروا لا يتبعون الهدى الذي يأتيهم من عند الله , ويكفرون بآيات الله، لذا جاءت هذه الآية بقوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا] في ذم الذين كفروا، وإقامة الحجة عليهم لأنهم يكفرون بالربوبية ويجحدون بالنبوة، ويكذبون بالآيات سواء آيات النبوة او التنزيل أو آيات الآفاق  .
وفي هذه الآية ونزولها في القرآن حث للناس على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ونزول القرآن من عند الله، وإنذار وتحذير من الجحود بنبوته , وفي الوقت الذي جاءت البشارة في الآية السابقة بصيغة الشرط جاءت هذه الآية  بلغة الفعل الماضي، ويفيد الجمع بينهما مسائل:
الأولى: بلوغ خطابات التكليف للناس جميعاً.
الثانية: الآيات التي تجذب الناس إلى الإيمان لم تحجب عن أحد.
الثالثة: إقامة الحجة على الذين كفروا، إذ تؤكد الآية بأن العذاب والعقاب الأليم لا يأتي إلا للكفار والجاحدين.
الرابعة: تدل لغة الفعل الماضي على الإمضاء والحدوث ، وان ما في الآية من الإخبار قانون ثابت.
ويحتمل الجمع بين الكفر والكذب بالآيات وجوهاً:
الأول: الذين كفروا غير الذين يكذبون بالآيات.
الثاني: الإتحاد في الموضوع وان الذين كفروا هم الذين يكذبون بالآيات.
الثالث: من الكفار من يكذب بالآيات، ومنهم من لا يكذب بالآيات فقد يكون هناك كافر، ولكنه لا يلتفت إلى الآيات ويمتحن بالتصديق بها.
الرابع: المراد في الآية الكفر والتكذيب بالآيات.
والصحيح هو الثاني والرابع فان الذين كفروا هم أنفسهم الذين يكذبون بآيات الله، فيكون الكفر متأصلاً عندهم، ويقابلون الآيات بالجحود والإصرار على الكفر.
وتبين الآية ان الكفر إختيار قبيح، ومخالف لدين الفطرة، وتقدير الآية انهم يكفرون بما يأتيهم من الهدى ويكذبون بالآيات، وجاء لفظ (الآيات) بصيغة الجمع , وفيه دلالة على كثرة الآيات التي تأتي للناس، وتؤكد الآية حرمة الكفر والتكذيب بالآيات، وتنهى الناس عنه، وتدعو في مفهومها إلى الإيمان بالله تعالى وبآياته.
 وإذ جاءت الآية وعيداً وتخويفاً وعند ساعة هبوط آدم وحواء إلى الأرض فانها تدل على إنتفاء الجهالة والغفلة عن الناس، وتبعث السكينة في النفوس لما فيها من التوكيد على كثرة الآيات، وأسباب الدعوة الى الله، وما يمنع من الكفر والجحود، وكما إبتدأت الآية بذكر خصلتين مذمومتين يقودان الى العقاب الأليم، فإنها ذكرت الكفار وعقابهم بصفتين:
الأولى: أنهم أصحاب النار.
الثانية: الخلود في النار.
وتمنع الآية من اللبس والترديد وتبين أن أحكام الجزاء بينة جلية إذ تؤكد على وجود عالم آخر بعد هذه الحياة، وتحذر من العذاب الذي لا يأتي إلا بعد الكفر والجحود، والكذب بالآيات والصدود عن الدعوة إلى الإيمان.
ويمكن ان نسمي الدنيا (دار الآيات)  لما فيها من الآيات التي تدل على عظيم قدرة الله، ولزوم عبادته، ومع ما في هذه الآية من الإنذار والوعيد فانها تتضمن في مفهومها البشارة الى الناس جميعاً بان الله عز وجل سينعم عليهم بالآيات التي تقربهم من الإيمان، وتيسر لهم طرق الهداية والرشاد.
وإذ جاء الإنذار والتبليغ في هذه الآية  الى آدم وحواء ساعة الهبوط فإنه يصل الى أبنائهم  وذراريهم، وفي طرق وصوله لهم وجوه:
الأول:نقل الآباء للأبناء الإنذار.
الثاني: إنه نوع وصية عقائدية من الآباء الى الأبناء.
الثالث: إدراك هذه الحقيقة بالفطرة.
الرابع: تدل آيات الله بالذات والأثر على الإنذار والوعيد.
الخامس: بعث الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين.
السادس: نزول الكتب السماوية بالإنذار والتخويف والوعيد.
السابع: إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ومن بديع خلق الله أن كل آية من آيات الله تدعو الناس إلى التصديق بها وبغيرها من الآيات، وهذه الدعوة ذاتها آية من عند الله، وتدل على إمتناع التعارض بين الآيات في الموضوع والحكم والدلالة، وقد فازت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والقرآن بالفضل ومرتبة السبق بين الآيات من وجوه:
الأول: التصديق بالنبوات والكتب السماوية السابقة.
الثاني: الإخبار عن قصص الأمم السابقة.
الثالث: التوثيق السماوي لآيات الهبوط وما فيها من الوعد والوعيد، وتبليغ الناس جميعاً بمضامين البشارة والإنذار ساعة الهبوط إلى الأرض، إذ جاءت هذه الآية بالإخبار عما تفضل الله تعالى وأنذر به آدم وحواء، ليكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ينقل بالوحي والتنزيل ما تلقاه أبوا الناس جميعاً السابقين والمتأخرين والذين لم يولدوا بعد.
الرابع: يتجلى التفضيل بخلو القرآن من التحريف والتغيير والتبديل.
الخامس: إتصاف القرآن بخصوصية وهي أن كل آية من آياته حجة وبرهان شرعي وعقلي ونقلي مستديم الى يوم القيامة، ومع صبغته العقلية فانه يدرك كآية وإعجاز بحاسة السمع والبصر.
وفي الآية شاهد على تفضيل المسلمين ومصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأنهم آمنوا بالآيات والتنزيل، ويحملون في كل زمان لواء الدعوة الى الله والإسلام وأنباء الهبوط الى الأرض وعلته، وما فيه من البشارة والإنذار، ويرى الناس جميعاً تحلي المسلمين بالتقوى وسبل ومصاديق طاعة الله ورسوله وتقيدهم بأحكام العبادات والمعاملات التي نزل بها القرآن.
 فمن إعجاز القرآن أن مواضيعه جامعة مانعة، جامعة لحاجات الدنيا والآخرة، ومانعة من الكفر  والضلالة، فالقرآن هدى من عند الله ما تبعه أحد إلا أمن يوم الفزع الأكبر، وكان من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومن آيات الله تعالى النعم العظيمة التي ينعم بها على الناس عموماً، والنعم الخاصة للجماعات والأفراد، وفيها دعوة للإيمان، وهي مناسبة للتصديق بالربوبية، والتوجه الى الله تعالى بالشكر والثناء على نعمة الخلق والإيمان والحياة والرزق.
التفسير الذاتي
تتصل هذه الآية في موضوعها بالآية السابقة، فهي من كلام الله عز وجل وخطابه لآدم وحواء ليحمل معنى الهبوط الوارد في الآية المعنى الأعم ويكون في باب التكليف أمراً إنحلالياً يشمل عموم المكلفين من الرجال والنساء.
ومن إعجاز نظم الآيات أمور:
الأول: مجئ الآية السابقة في الأمر الإلهي بالهبوط.
الثاني: إقتران البشرى للمهتدين بالهبوط في الآية السابقة.
الثالث: إختصاص هذه الآية بإنذار وتخويف الذين يكذبون بآيات الله عز وجل، وما ينتظرهم من العذاب الأليم، وفيه نكتة عقائدية وهي أن البشارات بالأمن والسلامة ملازمة للأمر بالهبوط إلى الأرض، ولم يأت الإنذار إلا بعد البشارة، فمن يتبع الهدى فان التوبة لا تصل إلى إنذاره وتخويفه لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وتحتمل مضامين هذه الآية في صيغتها وجهين:
الأول: الجملة الشرطية: بالعطف على صيغة الشرط في الآية السابقة.
الثاني: الجملة الخبرية، وإرادة الإخبار عن قاعدة كلية في الإرادة التكوينية.
ولا تعارض بين الوجهين، وكلاهما من مصاديق الآية الكريمة، ودرس لإقباس المواعظ , فهي بلحاظ العطف على الآية السابقة جملة شرطية، وبلحاظ مضامينها القدسية جملة خبرية، وفيه شاهد على إستمرار حكم الآية وإن جاءت بصيغة الفعل الماضي(كفروا وكذبوا) وإبتدائها بالاسم الموصول (الذين) إنذار ووعيد وإخبار عما ينتظر الكفار من العذاب الأليم.
وليس في القرآن (ومن كذّب) مع كثرة الآيات التي جاءت في ذم التكذيب بالآيات والتحذير منه، نعم ورد بيان شدة قبح التكذيب في الآيات كما في قوله تعالى [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ]( )، وتكرر قوله تعالى [فَمَنْ أَظْلَمُ] في القرآن ست مرات .
ومن الإعجاز أن هذه الستة كلها في ذم الذين يكذبون بآيات الله ويفترون على الله الكذب( )، وفيه تشديد بلغة الإنذار للكفار، وأن التكذيب بالآيات من أكبر الكبائر لأنه دليل على الجحود والكفر، ترى ما هي النسبة بين الكفر والتكذيب المذكورين في الآية، فيه وجوه:
الأول: العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى: التكذيب فرع الكفر.
الثانية: الكفر فرع التكذيب.
الثاني: التساوي , فالكفر هو نفسه التكذيب بالآيات , والواو من عطف البيان.
الثالث: التداخل بين الأمرين، فالتكذيب متمم للكفر ومتداخل معه.
الرابع:العموم والخصوص من وجه، فهناك وجوه للإلتقاء بين الكفروالكذب، وأخرى للإفتراق.
الخامس: التباين بين الكفر والتكذيب بالآيات.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الأول كما سيأتي في باب التفسير، والوجه الثاني والثالث والرابع وكأنها مما إذا إجتمعت إفترقت، وإذا إفترقت إجتمعت .
 وسيأتي في باب الصلة أن الذين كفروا هم الذين يكذبون بآيات الله، لذا فان الآيات تقدم الكفر بالآيات لأنه الأصل في الجحود، ويدور الحساب مدار الإيمان أو الكفر.
 وهل يشترط في إستحقاق العذاب إجتماع الكفر والتكذيب بالآيات الجواب لا، فيكفي أحدهما في إستحقاق العذاب والعقاب الأخروي وتقدير الآية على وجهين:
الأول: الذين كفروا أولئك أصحاب النار.
الثاني: الذين كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار.
وجاءت الآية بالإنذار بالنار للذين كفروا , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( )، وجاءت الآيات بالإخبارعن شدة العقاب للذين يكذبون بالآيات، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] ( ).
ومن الإعجاز القرآني إخبار هذه الآية عن قانون ثابت في الإرادة التكوينية قبل أن تطأ قدم الإنسان الأرض، وهو من وجوه :
الأول: قانون بيان سنن الحياة الدنيا.
الثاني: قانون الدنيا دار إمتحان وإختبار.
الثالث: قانون منع الجهالة والغرر .
الرابع: قانون طرد الغفلة عن الناس , وفيه حجة على الناس .
الخامس: قانون اللطف بإعانة الناس للتنزه عن الكفر والجحود.
السادس: قانون حث الناس على الإمتناع عن التكذيب بالآيات.
السابع : قانون توكيد القبح الذاتي والعرضي للكفر والتكذيب بآيات الله , وسوء عاقبته , قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
 ترى لماذا لم يقدم الإنذار والتخويف من النار على البشرى بدخول الجنة والأمن من الخوف والحزن في هاتين الآيتين بلحاظ القاعدة الشرعية والقانونية أن دفع الضرر مقدم على جلب النفع .
 الجواب من وجوه:
الأول: الأصل في خلق الإنسان هي العبادة، قال تعالى [مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني: يتلبس الكافر بالكفر على نحو عرضي طارئ بسوء الإختيار.
الثالث:تقديم البشرى لا يتعارض مع القاعدة أعلاه , فالإيمان الوارد في الآية السابقة بصيغة إتباع الهدى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ] يتضمن أمرين:
الأول: جلب المنافع في النشأتين.
الثاني:الأمن والسلامة ودفع الضرر فمن فضل الله وإعجاز القرآن إجتماع جلب المنفعة ودفع الضرر.
ترى لماذا لم تكتف الآية بقوله تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ] بل أكدت بأنهم خالدون فيها، الجواب من وجوه:
الأول: الصحبة من الكلي المشكك فقد تكون دائمة , وقد تكون مؤقتة والمؤقت والمقترن بالأسباب , كما ورد في التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ] وإن كانت قرينة السجن تدل على الإجتماع في موضع مخصوص ولمدة السجن، فجاءت الآية للإخبار عن التأبيد في النار للكفار.
الثاني: قالت طائفة من الأمم السابقة بأنهم لا يلبثون في النار إلا مدة قليلة[وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً] ( )، فجاءت هذه الآية لبيان قانون كلي ينفي في مفهومه تلك الأقاويل.
الثالث: هذه الآية من آيات الإنذار فجاءت بلغة النص الصريح الخالي من اللبس، والمانع من تعدد التأويل.
الرابع: الآية إخبار عن خلود الكفار في النار، وفيه تغليظ بلغة الإنذار، وحجة على الكفار.
الخامس: تبعث الآية في النفوس النفرة من الذنوب والمعاصي بلحاظ سوء عاقبتها والخلود في النار بسببها.
السادس: جاء تقديم لغة الإنذار والإخبار عن الخلود في النار لمرتكبي المعاصي وأهل الإصرار على الذنوب قبل البشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود في الجنة في الآيتين الحادية والثمانين والثانية والثمانين من سورة البقرة،وفيه شاهد على تعدد علوم القرآن والمسائل المستنبطة منه من غير تعارض فيها.
وقد ورد قوله تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] خمس مرات في سورة البقرة( )، وفيه شاهد على أن سورة البقرة تتضمن التحذير والتخويف من عذاب النار والخلود فيها، وتدعو الناس إلى الهداية وسبل الإيمان بلغة الإنذار والوعيد، ولم يرد في هذه السورة مع كثرة آياتها قوله تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] إلا مرة واحدة( ).
وجاءت الآية بذكر الآيات بلغة الجمع وفيه مسائل:
الأولى: الآيات جمع آية وهي العلامة والدلالة، وتأخذ معنى إضافياً في نسبتها إلى الله فيراد منها الحجة والبرهان والمعجزة التي تدل على وجود الصانع ولزوم عبادته، وأن الآية رسالة من عند الله عز وجل إلى الناس لدعوتهم للإيمان، لذا قيل أن الآية القصة والرسالة وأستشهد بقول كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرُِّضَ آية
أيقظان قال القول إذ قال أم حلم( ).
أي أبلغاه رسالة.
الثانية: تدل الآية على الفضل العظيم لله عز وجل على الناس بكثرة وتعدد الآيات.
الثالثة: بيان الإصرار الذي عليه الكفار، بمقابلة كثرة الآيات بالجحود.
الرابعة: كل نبي من الأنبياء آية وكل كتاب سماوي آية، وهذه الآية تتفرع عنها آيات كثيرة، بلحاظ تعدد معجزات النبي، وآيات الكتاب وقد تجلت آيات النبوة بآيات القرآن إسماً ومسمى، فكل آية حجة وبرهان ودعوة عقلية وحسية للناس لدخول الإسلام.
من غايات الآية
وفي الآية مسائل:
الأولى: إخبار المسلمين بوجود الكفار الذين يصرون على تكذيب آيات النبوة والتنزيل، وهذا الإخبار عون للمسلمين في معرفة الناس، وبعث اليقظة والحذر في نفوس المسلمين من الكفار.
الثانية: تلقين المسلمين الحجة وصيغ الإحتجاج.
الثالثة: شفاء صدور المسلمين لما ينتظر الكفار من العذاب الأليم.
الرابعة: جاءت الآية السابقة بالإخبار عن إنتفاء الخوف والحزن من نفوس المسلمين، وأكدت هذه الآية مضامين الآية السابقة بالإخبار عن إنحصار العذاب بالنار بالكافرين والذين يكذبون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن، لتكون هذه الآية أول مصداق للوعد الكريم للمسلمين الوارد في الآية السابقة [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
التفسير
تفسير قوله تعالى [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا]
بعد أن بيّن الله تعالى حــال من يتبع الهدى ويعمل الصالحات ووعدهم بالجنة، أخبر بلغة الإنذار والوعيد عن حال الذين يجحدون بآيات الله ويعملون المعاصي والسيئات بعد الهبوط والتـوبة لتكون النار لهم مقاماً دائماً عقــوبة وعذاباً.
ويفيد ظاهر الآية نفي وجود برزخ بين الإيمان والكفر، وبذا تظهر مضامين التكليف في الهبوط الى الأرض، وأنه موضوع للإمتحان والإبتلاء، وفرصة للإختبار، وجاءت الآية بذكر الكفر والكذب بالآيات علة وسبباً لدخول النار والحرمان من الجنة , فهل جاء على نحو الجمع أي لا يدخل النار إلا من إجتمع عنده الكفر والتكذيب بالآيات أم يكفي أحدهما الجواب هو الثاني.
وعطف [ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا] من عطف الخاص على العام , فبين الكفر والتكذيب بالآيات عموم وخصوص مطلق، فكل تكذيب بالآيات هو كفر وليس العكس، فقد يكون الكفر والجحود مع الإقرار والإعتراف بالآيات، والتكذيب بالآيات لا يحصل إلا من كافر أو أنه يتلبس بالكفر بكذبه بالآيات، كما يصدق على الكذب بالآيات أنه كفر.
وتحمل الآيات في المقام على المعنى الأعم فتشمل الكتب المنزلة والأنبياء والآيات في الآفاق وغيرها، ولكنه لا يمنع من التفصيل والتعدد وإنفراد مصاديق الكفر بحسب الحال والموضوع، فالآية بيان وتأسيس لقواعد شرعية وجزائية ثابتة، ولكن كيفياتها ومواضيعها متباينة بحسب الزمان والمكان، وهي في زمان نزول القرآن التسليم بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله.
قال تعالى [ وَلَقَدْ أَنــزَلْنَا إِلَيْكَ آيَــاتٍ بَيِّنَــاتٍ وَمَا يَكْــفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَــاسِـــقُونَ ]( ) وصدر هذه الآية يصلح ان يكون وجهاً من وجوه تفسير رأس  الآية السابقة، فما ينتظر الكفار من الخلود في النار يشفي صدور المؤمنين ويبعث في نفوسهم الغبطة لنجاتهم من طرق الضلالة وإغواء الشيطان.
وفي الآية إشارة إلى الملائكة بأن الذين كفروا لا نصيب لهم في خــلافة الأرض، وان المؤمنين ومع وجود الكفر يستحقون الخلافة، بل ان اســتحقــاقهم يكون بالأولــويــة لما في المصــاحبة او الإشتراك بالسكن على الأرض من الإبتلاء الإضافي والجهاد في سبيل الله تعالى، وتلك خصــوصية ينفرد بها المؤمنـون ويمتازون بها على الملائكــة، فالملائكــة لا يدخــلون في صـراع ظاهر او خفي مع قــوى الكفر والضـلالة لإنتفاء الكفر بين أهل السماوات نعم ينزل الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
وللآية مصداقان خاص وعام، الخاص يتعلق بأوان الهبوط وان المقصود باتباع الهدى في الآية السابقة هو آدم وحواء، اما المقصود بالمتلبس بالكفر أوان الهبوط فهو إبليس بشواهد آيات كثيرة منها ما تخبر عن توبة آدم وصلاحه ومعه زوجه بالتبعية وان لم تشر لها الآية.
وتدل على هذه المعية مدح أمنا حواء الذي جاء من وجوه : 
الأول: ذكر خلق حواء على نحو التعيين , قال تعالى[وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( ).
الثاني: الأخبار الواردة في ذكر ومدح حواء , وعن ابن عباس: إنما سميت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء، وسميت حواء لأنها أم كل حي)( ).
الثالث: نسبة زلة أكل حواء من الشجرة إلى الشيطان، قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ]، وفيه إكرام إضافي لها، ودعوة للتوبة والإنابة.
الرابع: الإتحاد الموضوعي للخطاب الموجه إلى آدم وحواء.
الخامس: حزن حواء على مغادرتها وآدم الجنة وصارت في عزاء وحسرة، وفي اللباب: ولما أُهبطوا إلى الأرض ألقى آدمُ يده تحت خده، وبكى مائة سنة، وألقت حواءُ يدها على رأسها، وجعلت تصيح وتصرخ، فبقيت سنَّة في النساء. ولم يزل آدم يبكي حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع، وجرى من عينيه على الأرض جدولان، يجريان إلى قيام الساعة)( ). 
والآيات التي تخبر عن كفر إبليس كثيرة، أما المصداق العام فهو ما يبدو في كل زمان من وجود لقوى الضلالة والكفر تكون في صراع مستمر، لذا فان الإنذار والوعيد في الآية إنحلالي بعدد آنات الزمان.
ومع ما في هذه الآية من الوعيد والتوبيخ فانها لطف عام، لطف بالمؤمنين ليزدادوا إيماناً ويرتقوا في مراتب التقوى، ولطف بالكافرين، بتحذيرهم وإنذارهم وتخويفهم ودعوتهم بدلالة الآية الإلتزامية الى الإسلام والإنقياد لأوامره تعالى، وفيها تذكير بالآيات وتوكيد عليها ومناسبة للإعتبار والإتعاظ منها وإتخاذها برهاناً وحجة وسبيلاً للهداية والرشاد.
تفسير قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ]
الإتيان باسم الإشارة (أولئك) للبعد والطرد عن رحمة الله و تعني الصحبة الملازمة، والصاحب للشيء الملازم له، فالآية تخبر عن تعقب العقاب الأليم للكفر وانه يتصف بالدوام لأن الكافرين فوتوا على أنفسهم مناسبة الهبوط والفرص المتكررة في التبليغ والإنذارات والآيات المتتالية المتعاقبة في المواضيع المتباينة.
إن الوعيد على التكذيب بالآيات يعني في مفهومه وجود تلك الآيات واستماعهم لها مع تعمد الإعراض.
 وهل تنحصر الآيات بما في زمان النبوة ونزول القرآن أم هو أعم، الجواب: إنه أعم ولكن الحجة قامت أيام التنزيل بالقرآن وآياته والمعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما هو خارق للعادة ومقرون بالتحدي وسالم عن المعارضة , ثم ظلت آياته مستمرة حجة ودليلاً وبرهاناً وبحكم هذه الوظائف الثابتة للقرآن فلابد أن إعجازه يكون دائماً مستمراً فلا يحتج المؤمن في هذا الزمان بحجية القرآن وما فيه من التحدي في أيام التنزيل فحسب بل بإعجازه في هذا الزمان وأفراد الزمان الطولية المنصرمة واللاحقة.
والوعيد في هذه الآية والإخبار عما ينتظر الكافرين قاعدة ثابتة تبعث في النفوس على مختلف مشاربها الفزع والخوف ولكن المؤمنين يتبدل خوفهم إلى سعادة، ولولا فضل الله تعالى لتملكهم الخوف والحزن حتى مع إيمانهم.
************
 
 
قوله تعالى [يا بنِي إسرائيل اذْكُــرُوا نِعْــمَتِي الَّتي أَنْعَــمْتُ عَـلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ] الآية 40.  
 
الإعراب واللغة
يا: حرف نداء، (بني) منادى منصوب، إسرائيل: مضاف إليه. 
إذكروا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل، نعمتي: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة، الياء: مضاف اليه، التي: اسم موصول في محل نصب نعت لنعمتي.
أنعمت: فعل وفاعل، عليكم: جار ومجرور متعلقان بأنعمت.
وأوفوا: فعل أمر، والواو: فاعل، عطف على إذكروا، بعهدي: جار ومجرور متعلقان بأوفوا، والياء مضاف اليه.
أوف: فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، بعهدكم: جار ومجرور متعلقان بأوف، والضمير (الكاف) في محل جر مضاف اليه.
وإياي: الواو: حرف عطف، إياي: ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم لإرهبون.
فارهبون: الفاء للعطف، وقيل أنها جواب أمر مقدر ، وقيل زائدة، أي التفتوا وإنتبهوا كما تقول الزكاة فادفع، إرهبون: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، والنون: للوقاية، والضمير الياء مفعول به وحذفت ياء المتكلم للتخفيف.
وقراءة إسرائيل مهموزاً هي المشهورة، وقرأ في الشواذ بلا همز (اسرايل)، وبكسر الهمزة من غير يــاء (إسرائيل) وهو يعقوب بن اســحاق بن ابراهيــم وإســر معناه عبد، وإيل بالعبرانية هو الله فيكــون معنــاه عبد الله وهو المروي عن ابن عباس والإمام الصادق عليه السلام.
وفي خبر آخر أن إسرا بمعنى القوة أي أن إسرائيل قوة الله.
ويمكن إستقراء مسألة لغوية من اسم إسرائيل، وهي ان هذا الاسم أعم من أن يكون عبرانياً أو سريانياً، اذ ان “الأسر هو القوة والحبس ومنه حديث الولد: فأصبح طليق عفوك من إسار غضبك”، والإسار بالكسر مصدر أسرته أسراً وإساراً اي الحبس”( ).
وهذا المعنى مصداق من مصاديق عربية ألفاظ القرآن وحتى الأسماء التي وردت بالعبرانية والسريانية فانها لا تخلو من صبغة العربية.
وإيل: من أسماء الله عز وجل، عبراني أو سرياني، والمراد الله عز وجل “وجبرائيل: عبدالله”( )، وقيل جائز أن يكون إيل اُعرب فقيل إلّ.
و(بني): جمع ابن وهو الولد والذرية، وقيل (أن الابن يقع على الذكر، والولد يقع على الذكر والأنثى)( ).
ولكن ظاهر الآية يفيد الإطلاق للمذكر والمؤنث، للإتحاد، والإشتراك بالتكليف. وأصل التسمية من البناء أي أن الابن فرع يبتنى على الأصل وهو الأب.
والنعمة: المنة والعطية وهي في المقام اسم جنس.
والوفاء: رد الجميل والإحسان بصيغة ومناسبة يتجلى فيها الصدق.
والعهد: الوصية والميثاق والعقد .
 وأوفي: فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب.
وارهبون: خـافون وانما حـذفت اليـاء لمجيئها في نهــاية الآيــة مما ينــوى عليه الوقف فاستغني بالكسرة عن الياء التي يستثقل الوقف عليها.
في سياق الآيات
الآية دعوة للشكر وهي تدل في مفهومها على الإنعام المتصل على بني إسرائيل حتى في حال جحــودهم، فبعد الوعد والوعيد جاء الخطاب الخاص لإقامة الحجة والترغيب بالإنابة والهداية .
وبعد عشرين آية من الخطاب الذي ورد بصيغة [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] والآيات المتقدمة التي جاءت بصيغة الخبر لهداية الناس جميعاً، جاءت هذه الآية خطاباً خاصاً لبني إسرائيل بقوله تعالى [يَابَنِي إسرائيل] في دلالة على اللطف الإلهي بهم إلا أن هذا الخطاب لا يخرج عن سياق الآيات وإرادة الناس جميعاً من وجوه:
الأول: انه حجة للمسلمين في إحتجاجهم على اليهود ومناسبة لشكر المسلمين لله تعالى على تصديقهم بما أنزل الله تعالى، وإمتثالهم لأوامره.
الثاني: أنه دعوة للكفار للإيمان والتصديق بالقرآن من باب الأولوية، فاذا كان بنو إسرائيل مدعوين للإسلام، كما في الآية التالية يكون غيرهم من باب الأولوية القطعية مأموراً بالمبادرة الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ونزول القرآن من عند الله.
الثالث: حث الناس جميعاً للإلتفات إلى النعم التي تفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل،ويقتضي الواجب والعقل التوجه إلى الله تعالى بالشكر عليها وإذ جاءت الآية قبل السابقة بالبشارة للذين آمنوا بالأمن من الخوف والحزن،بقوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] .
وجاءت الآية السابقة بالإنذار والوعيد للذين يكذبون بالآيات بقوله تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] وجاءت هذه الآية الكريمة بدعوة بني إسرائيل الى ذكر نعمة الله تعالى ولزوم الوفاء بعهده والخشية منه والخوف من عقابه، وهي لغة في الإنذار والوعيد والبشارة والسلامة من الأمن، والإنذار للعاصي والبشارة للمؤمن.
وتبين الآية إختصاص بني إسرائيل بنعم عظيمة من عند الله تعالى تستلزم الشكر له، ويتجلى الشكر بالإيمان بنبوة محمد ونزول القرآن من عند الله وهو الذي جاءت به الآية التالية.
وبعد مجيء هذه الآية بالثناء على الله عز وجل بذكر نعمه على بني إسرائيل، وإقترانه بالإنذار والتنبيه ولزوم الخشية من الله، إبتدأت الآية التالية بالأمر بالإيمان بنزول القرآن، ومن الإعجاز أنها إبتدأت بحرف الواو، ليكون من عطف الخاص على العام، وبين قوله تعالى[وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وقوله تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ]( )، عموم وخصوص مطلق لأن الرهبة من الله عز وجل أعم , وتتضمن إتيان الوظائف العبادية أيضاً.
لقد جاءت هذه الآيات بأوامر ونواهي إلى بني إسرائيل وتقدم الإيمان بنزول القرآن بعدم لزوم الوفاء بالعهد يدل على موضوعية هذا الإيمان وما يترشح عنه من العمل بأحكام الحلال والحرام التي جاء بها القرآن.
ومن نعم الله عز وجل على بني إسرائيل التي ذكرت في هذه الآية تصديق القرآن لما نزل عليهم من التوراة والإنجيل، وفيه مسائل:
الأولى: نفي الجهالة والغرر.
الثانية: منع الحرج في تلمس وجوه الصلة الإعجازية بين القرآن والكتب السماوية السابقة.
الثالثة: الإخبار عن علامة وأمارة صدق لسماوية القرآن وهي تصديقه بالتوراة والإنجيل.
الرابعة: بعث السكينة في قلوب بني إسرائيل من أحكام الإسلام.
الخامسة: تأكيد قانون وهو إنقطاع التحريف بنزول القرآن فإن ما يتعارض معه يترك ولا يؤخذ به.
إعجاز الآية
تبين الآية بالدلالة التضمنية مناسبة وأوان الشكر وإستحضار النعم ومنها نزول القرآن وتوالي الآيات، أي ان ذكرها وحده مطلوب بذاته وهو نوع طريقية للإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد خلق الله الإنسان من أجل العبادة فمن باب أولى ان تكون النعم الإضافية سبباً لإظهار أرقى مراتب وصيغ العبادة والتقوى.
وهذه الآية نعمة أخرى على بني إسرائيل، وشاهد بأن تلك النعم لم تنقطع ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ونزول القرآن من عند الله تعالى، والإسلام من أعظم النعم على الناس جميعاً ومنهم بنو إسرائيل، ثم خصهم الله تعالى بالخطاب والدعوة إلى ذكر النعم، وفي هذا الذكر مسائل:
الأولى: إنه شكر لله تعالى.
الثانية: إستحضار النعم توثيق لها، ومنع من ضياعها وفيه إشارة الى التحريف الذي طرأ على التوراة، فتأتي هذه الآية لتحث بني إسرائيل على ذكر النعم الإلهية عليهم وما في ذكرها من تثبيت لها.
الثالثة: جاءت الآية التالية بالإخبار بان القرآن مصدق للتوراة، فذكر بني إسرائيل لنعم الله عليهم تصديق لذكر القرآن لها وشاهد على نزول القرآن من عند الله.
الرابعة: ذكر النعم مقدمة لدخول الإسلام.
الخامسة: في الآية إشارة الى ان النعم التي أنعمها الله تعالى على بني إسرائيل مضوع ووسيلة مباركة لدخولهم في الإسلام وتصديقهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: ذكر بني إسرائيل لنعم الله تعالى عليهم مناسبة وسبب لإنشغالهم عن الإضرار بالمسلمين.
ويمكن تسمية الآية الكريمة بآية (أوفوا بعهدي) ولم يرد هذا اللفظ  في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية تخفيف عن المؤمنين وسلاح لدعوة أهل الكتاب وإقامة الحجة عليهم، ودرس للمسلمين بتعاهد نعمة النبوة والقرآن، وإستحضار فضل الله تعالى علينا بالإسلام وما يترتب عليه من الأحكام والأفعال.
لقد جاءت الآية بالخطاب المباشر إلى بني إسرائيل فمع نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وهو كتاب للمسلمين إلا أنه يتضمن الخطابات الخاصة، ومنها الخطاب لبني إسرائيل، وفيه مسائل:
الأولى: انه شاهد على عالمية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه مبعوث للناس جميعاً.
الثانية: دعوة المسلمين للإحتجاج على أهل الملل الأخرى، وعدم غلق الباب أمامهم، وتأتي هذه الدعوة بتلقين المسلمين الحجة والبيان.
الثالثة:  هذا الخطاب نعمة أخرى على بني إسرائيل يجب ان يذكروها ويتعظوا منها.
الرابعة: مجيء الآية بالإنذار والتخويف.
الخامسة: توجه الخطاب لبني إسرائيل لا يمنع من شموله للناس جميعاً ولزوم إعتبارهم منه، فما من شخص أو أمة إلا ولله عليها نعم عظيمة أكثر من أن تحصى فيكون الخطاب موجهاً إلى كل أمة بان تذكر نعم الله تعالى عليها وتمتثل لأوامر الله.
وهذا العموم من أسرار القرآن وعموم خطاباته والإنتفاع منها، إذ يتعظ الناس من الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل على وجوه:
الأول: غبط المسلمين لأنهم يذكرون نعم الله عليهم ويقفون كل يوم بين يدي الله ويبدأون بقراءة القرآن بقوله تعالى في سورة الفاتحة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
الثاني: إقامة الحجة على بني إسرائيل، وإدراك لزوم شكرهم لنعم الله تعالى.
الثالث: التنبيه الى ذكر أفراد نعم الله تعالى والوفاء بعهده والخشية منه، فقد يصر الكبراء منهم على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  فتأتي هذه الآية لتشملهم وعامة بني إسرائيل في الدعوة بعرض واحد وعلى نحو الإنحلال بلحاظ التكليف وشرائطه من البلوغ والعقل والإختيار.
لذا ترى أحياناً إسلام الزوجة قبل الزوج، والابن قبل الأب، والعبد دون أو قبل السيد، إذ ينتفع الناس جميعاً من الآية القرآنية وإن كان الخطاب فيها خاصاً.
مفهوم الآية 
الآية تذكرة وموعظة ودعوة للمسلمين للإنشغال بذكر الله سبحانه وشكره على عظيم النعــم، لينتفعوا من خطابـــات القرآن، فهذه الآية وان كانت خطاباً لبني إسرائيل إلا أنها عبرة ودرس للمسلمين وحث على الوفاء بالعهود والإلتزام بالفرائض.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تفضل الله تعالى بالإنعام على بني إسرائيل بالنعم وهي على قسمين عامة للناس جميعاً، وخاصة لبني إسرائيل.
الثانية: جاءت الآية باسم الجنس (نعمتي) وهو فضل إلهي آخر، فان الله سبحانه يعطي الكثير ولا يريد إلا القليل من الشكر.
الثالثة: لابد وان النعم ظاهرة ومعروفة عند بني إسرائيل، لأن التذكير وطلب إستحضار الشيء يدل على عدم غيابه عن الحافظة.
الرابعة: معرفة بني إسرائيل بالنعم على نحو العموم الإستغراقي، فكلهم يعرفون تلك النعم، وجاء القرآن بتوثيقها وذكرها، مثل بعثة موسى وهارون، وتعدد الأنبياء من بني إسرائيل وانزال المن والسلوى، وجعل بعض أنبيائهم ملوكاً، وما فيه من العز والحكم وغيرها.
الخامسة: جاءت النعم لآبائهم وأسلافهم وإضافتها لهم لإشتراكهم فيها ووصولها اليهم، وقيامهم بالتفاخر بها، وكانت سبباً لحفظ الآباء حتى صاروا علة مادية لوجود هؤلاء الأولاد.
السادسة: ان الله تعالى يريد من عباده أن يذكروا فضله وإحسانه، وهذا الذكر على وجوه:
الأول: الإستحضار الذهني.
الثاني: الإتيان بالشكر القولي وقول الحمد لله والإعتراف والإقرار باللسان بتلك النعم.
الثالث: الشكر الفعلي بالتصديق بالآيات وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه جاء بالقرآن من عند الله تعالى.
الرابع: إجتناب الجحود والتكذيب بالآيات.
الخامس: جاء الخطاب لبني إسرائيل على نحو العموم ، مما يعني شموله لكل فرد من أفراد بني إسرائيل المعدوم منهم والموجود.
وتدعو الآية إلى تعاهد المواثيق العبادية، وهذا التعاهد باب كريم للرزق في النشأتين.
السادس: توجه الخطاب في الآية إلى بني إسرائيل، فبعد لغة العموم في الآيات السابقة وما فيها من البشارات والإنذارات، جاءت هذه الآية نداء وخطاباً لبني إسرائيل على نحو الخصوص وبلغة الإنذار والتذكير بما يجب عليهم من إستحضار نعمة الله، وما يترشح عن هذا الإستحضار من وجوب التصديق بآيات الله عز وجل.
السابع: تتحدى الآية بني إسرائيل بتوكيد نعم الله عليهم، ولزوم الشكر عليها.
الثامن: تذكر الآية بني إسرائيل بالعهد والميثاق الذي قطعوه على انفسهم، ووجوه تصديق النبوة وإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع: الإنذار والتحذير من غضب الله، ودعوة بني إسرائيل الى الخشية من الله عز وجل، ويدل في مفهومه على وجوب المبادرة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله عز وجل, قال تعالى[سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى]( ).
الآية لطف
جاءت الآية خطاباً وإنذاراً لبني إسرائيل إلا أن مضامينها أعم، وتشمل الناس جميعاً وخص بني إسرائيل بالذكر لوجوه:
الأول: إقامة الحجة عليهم.
الثاني: توكيد تعدد نعم الله عليهم، وتفضيلهم على أهل زمانهم.
الثالث: محاكاة كثير من المشركين لليهود في صدودهم عن الدعوة الإسلامية بإعتبارهم أهل كتاب، وكذا فان إقرار بني إسرائيل بنزول القرآن من عند الله، وكشفهم لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  الموجودة في كتبهم دعوة للمشركين ليتركوا الشرك ويبادروا الى دخول الإسلام.
الرابع: منع المشركين من محاكاة بني إسرائيل في عنادهم وإصرارهم على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما جاءت الآية السابقة بالإنذار والوعيد للذين كفروا وكذّبوا بآيات الله مطلقاً سواء من أهل الكتاب أو أعم فيشمل الكفار والمشركين، جاءت هذه الآية نداء لبني إسرائيل على نحو الخصوص مع دلالة مضامينها لتكون حجة عليهم ودعوة للناس لشكر الله على النعم الظاهرة والخفية والتي تتغشاهم في الأبدان والأرزاق وطول الأعمار وتسخير ما في الأرض لمنفعتهم.
ومن اللطف الإلهي إقتران الإنذار بالوعد الكريم، فمع لغة التخويف والوعيد في هذه الآية فانها تتضمن الإخبار عن تفضل الله بالوفاء بالوعد وإدخال المسلمين من بني إسرائيل الجنة.
وجاءت الآية بأمور:
الأول: ذكر النعم الإلهية على بني إسرائيل.
الثاني: وفاؤهم بالعهد الإلهي.
الثالث: الخشية من الله تعالى.
وهل إتيان هذه الأمور على نحو الوجوب أم الإستحباب، الجواب هو الأول فلابد من التحلي بها مجتمعة ومتفرقة.
الرابع: وفاء الله تعالى بعهده إلى بني إسرائيل، وهو مشروط بوفائهم بالعهد.
إفاضات الآية
وتبين الآية أن لله نعماً عظيمة على بني إسرائيل خاصة وعلى الناس جميعاً، وتدعو الى ذكرها وبيانها، فاذا تخلف بنو إسرائيل عن ذكر تلك النعم فان من وظيفة المسلمين أن يذكروها ويبينوا دلالاتها وآثارها لأنها من فيوضات الباري ورحمته بأهل الكتاب وأتباع  الأنبياء، ووسيلة لإستدامة الإيمان.
ومع تعدد مضامين هذه الآية فان كل موضوع فيها يطرد عن القلوب حب غير الله، وهو برزخ دون غلبة النفس الحيوانية والشهوية وبخلاف سنخية النفس الناطقة.
وجاءت الآية مدرسة في الموعظة ينتفع منها المسلمون، ويتخذونها سلاحاً في الإحتجاج، ووسيلة وبرهانا في الدعوة إلى الله، والزجر عن إخفاء البشارات التي جاءت في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة والإنجيل.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالخطاب إلى بني إسرائيل على نحو التعيين، ولكنها في مفهومها أعم، إذ أن دلالاتها تشمل الناس جميعاً من وجوه:
الأول: تتغشى النعم الإلهية الناس جميعاً.
الثاني: إن النعم التي جاءت لبني إسرائيل موعظة وسبيل هدى للناس.
الثالث: تتجلى في النعم الإلهية على بني إسرائيل مضامين الوعد والوعيد في الآيتين السابقتين،وتبين وجوب ذكر الناس لنعم الله تعالى عليهم.
وجاءت الآية بالأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بذكر النعم الإلهية عليهم، ويحتمل هذا الذكر أموراً:
الأول: إنه مطلوب بذاته.
الثاني: هذا الذكر مقدمة لغيره.
الثالث: العنوان الجامع لهما وهو أن الذكر مطلوب بذاته ولغيره.
والصحيح هو الثالث , وجاءت الآية بصيغة الأمر(إذكروا) المحمول على الوجوب، ولم تبين الآية ما هي النعمة وهل هي من المتحد أم المتعدد والجواب  جاءت الآيات القرآنية بذكر النعم الإلهية على بني إسرائيل على نحو الخصوص ومنها:
الأولى: إكرام بني إسرائيل ببعث أنبياء كثيرين منهم.
الثانية: تعدد الأنبياء والرسل لبني إسرائيل، وكل نبي يدعوهم لعبادة الله، ويجتهد في إصلاحهم، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسرائيل الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] ( ).
الثالثة: نزول المن والسلوى من السماء على بني إسرائيل على نحو متكرر ومتجدد.
الرابعة: مجئ داود بالزبور، وموسى بالتوراة، وعيسى بالإنجيل.
الخامسة: تعاقب الآيات البينات على بني إسرائيل.
السادسة: مجئ القرآن بما يمنع الفرقة والخلاف بين بني إسرائيل، ودعوتهم إلى الإسلام، قال تعالى [إِنَّ هَذَا القرآن يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسرائيل أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
السابعة: وراثة بني إسرائيل الكتاب، قال تعالى [وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسرائيل الْكِتَابَ]( ).
الثامنة: ما تضمنته هذه الآية من الإخبار عن عهد الله لبني إسرائيل 
ولزوم تصديق ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بماجاء به من المعجزات.
التاسعة: نجاة بني إسرائيل من عذاب وظلم فرعون وجنوده.
العاشرة: إنفلاق البحر لبني إسرائيل وعبورهم البحر، وهلاك عدوهم وهم ينظرون له، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
الحادية عشرة: صيرورة الملك في بني إسرائيل كما في أيام سليمان عليه السلام من مصاديق تفضل الله تعالى بالعهد على بني إسرائيل،  ومن عهد بني إسرائيل لزوم التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  عند بعثته، كما تدل عليه هذه الآية بقوله تعالى [أَوْفُوا بِعَهْدِي] والأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالوفاء بعهده نعمة مستقلة ومتداخلة مع غيرها.
الثانية عشرة:  النعم الإلهية العظيمة التي أنعم الله بها على الناس جميعاً، وما تقدم في الآيات من ذكر خلق ما في الأرض للناس , وهل يخرج هذه العلم بالتخصص من موضوع هذه الآية بدليل ذكرها بصيغة الجمع في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] ( ).
 الجواب لا، لأن الآية ومصاديق النعم فيها تحمل على الإطلاق، وأن بني إسرائيل فازوا بالنعم العامة والخاصة، لذا توجه لهم  الخطاب الإلهي بلزوم ذكر نعمه تعالى، وهذا لا يعني أن النعم الخاصة منحصرة بهم بل كل  أمة وجماعة وشخص من الناس عليه نعم خاصة من عند الله منها ما يدرك بالحواس، ومنها ما لا تدركه الحواس.
 وجاءت هذه الآية الكريمة للتذكير بالنعم والإجتهاد في إحصائها، والدعوة إلى ذكرها ، ولإستحضار الفرد والجماعة النعم الإلهية منافع عظيمة منها:
الأول: تذكر النعم مناسبة لشكر الله تعالى.
الثاني: ذات التذكر وجعل النعم الإلهية حاضرة في الوجود الذهني بذاته شكر لله تعالى، وإقرار بعظيم فضله تعالى.
الثالث: مع التذكر يدرك الإنسان حاجته إلى رحمة الله.
الرابع: تذكر النعم طريق للسلامة في الآخرة، وجاءت الآية على أقسام.
القسم الأول: الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل، وهم أبناء يعقوب النبي، وبينهم وبين اليهود عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من بقى منهم على دين اليهودية، وأما مادة الإفتراق فهي على شعبتين:
الأولى: من إنتقل إلى الإسلام منهم، وبادر للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وهم عدد كثير.
الثانية: من دخل اليهودية من غير بني إسرائيل ككعب بن الأشرف , وهو من طيء , وصار رئيسهم , ولقب بالصنم ويكنى أبا ليلى، وأمه من بني النضير، رثى أهل بدر من المشركين , وكان يؤذي النبي صلى الله عيه وآله وسلم وأصحابه، ويتشبب بنساء المؤمنين , فتطوع محمد بن مسلمة ورهط من الأنصار لقتله منهم أخوه من الرضاعة سعد بن سلامة وقتلوه ليلاً.
وجاء الخطاب لبني إسرائيل أيام التنزيل لدعوتهم إلى دخول الإسلام والإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بدليل الآية التالية [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] لتكون هذه الآية دعوة متصلة ودائمة لعموم بني إسرائيل وحجة عليهم، وحثاً للناس جميعاً للإعتبار والإتعاظ.
القسم الثاني: الأمر الى بني إسرائيل بان يذكروا نعمة الله تعالى عليهم، ومن المضامين القدسية للآية أنها لم تقل لبني إسرائيل إذكروا الله بل أمرتهم بذكر النعم، وفيه وجوه:
الأول: إن ذكر النعمة واسطة كريمة للإقرار بالربوبية للمنعم وهو الله.
الثاني: ذكر النعمة مقدمة لذكر الله تعالى ودخول الإسلام.
الثالث: بيان عظيم الفضل الإلهي على بني إسرائيل.
الرابع: يتجلى ذكر الله بدخول الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
الخامس:  ذكر إحدى النعم مقدمة ومناسبة لذكر نعمة أخرى للترابط بين النعم الإلهية، وان كان هذا الترابط لا يتعارض مع إستقلال كل نعمة منها فإستحضار بني إسرائيل لنعمة نبوة موسى عليه السلام يقودهم إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ولزوم نصرته، وعدم محاربته والمسلمين لوحدة سنخية النبوة، ولأن موسى عليه السلام بشّر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا بالنسبة لنعمة التوراة وتذكرها، فانه مناسبة لإستحضار نعمة القرآن وكذا في آية النجاة من فرعون وظلمه وعتوه، فانها تذّكر بنعمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  لتخليص اليهود من الأذى الذي كانوا يلاقونه من الناس، سواء في المدينة أو غيرها.
 وقد جاءت آيات عديدة في القرآن تأمر المسلمين بان يذكروا الله , قال تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ] ( )، مما يدل على ان ذكر الله والأمر به نوع تشريف وإكرام خص الله تعالى به المسلمين وهو من مصاديق تفضيلهم، وإخراجهم للناس أن يذكروا الله تعالى، ويكونوا أسوة وأئمة للناس في ذكر الله تعالى وذكر نعمه وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وجاءت آيات أخرى تدعو المسلمين لذكر نعم الله عليهم، قال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ] ( ).
القسم الثالث: الإخبار الإلهي عن تعدد النعم الإلهية التي خصّ الله تعالى بها بني إسرائيل، وفيه مسائل:
الأولى: بيان تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم , قال تعالى [يَابَنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وهو من عطف الخاص على العام.
 إن الأمر بذكر النعم الإلهية دليل على تلك النعم، ولكن الآية جاءت بتوكيد تلك النعم، وان بني إسرائيل مقصودون بتلك النعم بدليل قوله تعالى [أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] .
 ويتضمن حرف الجر (على) معنى الإستعلاء لأن النعم الإلهية على بني إسرائيل والناس جميعاً فضل محض من الله سبحانه، وهو الغني عن العالمين.
القسم الرابع: الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالوفاء بعهد الله سبحانه، وهذا هو الأمر الثاني في الآية،فبعد الأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة الله عليهم، جاء الأمر بالوفاء بعهده سبحانه، ويحتمل العهد وجهين:
الأول:الإتحاد وانه عهد واحد.
الثاني: التعدد وإرادة الجنس.
 والصحيح هو الثاني فان العهد متعدد، وكما جاء لفظ النعمة بصيغة الجنس، كذا العهد، لذا أختلف في العهد، ولكنه من الكلي والموجود الذي لا يمنع نفس تصوره من الشركة فيه، ومن مصاديق العهد ما أودع الله عند بين إسرائيل في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام من صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ولزوم التصديق به حين بعثته ونصرته وإتباعه.
ومن الآيات مجئ ذكر النعمة من غير بيان نفع الذكر لأن الذكر طريق ومقدمة لدخول الإسلام.
القسم الخامس:  الوعد الإلهي لبني إسرائيل بالوفاء بعهدهم، والذي جاء متعقباً للأمر بالوفاء بعهده في الآية.
 عن ابن عباس: أوفوا بعهدي في محمد والتصديق بنبوته، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة( ).
ويحتمل تعلق الوفاء الإلهي بالعهد :
الأول: كفاية وفاء بني إسرائيل بعهدهم.
الثاني: لزوم ذكر بني إسرائيل للنعم الإلهية مع وفائهم بالعهد الإلهي.
ولا تعارض بين الوجهين، لأن إستحضار بني إسرائيل لعهد الله ذكر للنعمة ويتضمن معاني الإقرار بالعبودية لله تعالى، والحرص على الإمتثال لأوامر الله تعالى.
ويبين الوعد الإلهي بالوفاء بالعهد قدرته سبحانه على توالي النعم على بني إسرائيل، فان دخولهم الإسلام لا يتعارض مع تفضيلهم على أهل زمانهم بل هو في طوله، ليكون الأمر الإلهي لهم خاصة بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهم وجوه تفضيلهم على العالمين.
ويمكن تقدير التفضيل: فضلتكم على العالمين بالعهد بتصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته.
وجاء الوعد الإلهي بالوفاء بالعهد بصيغة الخطاب الإستغراقي الشامل لبني إسرائيل (أوف بعهدكم) وهذا الإستغراق ولغة العموم فضل إضافي على بني إسرائيل، وحث لهم على الرجوع إلى التوراة ، وما فيها من عهد الله، لأن الأمر الإلهي لهم بالوفاء بالعهد يحتمل وجهين:
الأول: العهد العام للناس جميعاً في الخلق وعالم الذر.
الثاني: العهد الخاص لبني إسرائيل .
ولا تعارض بين الوجهين، والآية شاملة لهما معاً، وهي شاهد على وجود عهد خاص لبني إسرائيل، ويحتمل وجوهاً:
الأول:  يعلم بنو إسرائيل العهد، ويعرفون تفاصيله ولو في الجملة أيام نزول القرآن.
الثاني:  لا يعلم بنو إسرائيل بالعهد، لتقادم الأيام  على بعثة موسى عليه السلام ووصول يد التحريف إلى التوراة.
الثالث: لزوم رجوع بني إسرائيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والقرآن لمعرفة العهد الإلهي ومضامينه وأحكامه.
والصحيح هو الأول والثالث من وجوه:
الأول: يدل الأمر الإلهي لبني إسرائيل بالوفاء بالعهد على علمهم به، وتدل عليه قاعدة نفي الجهالة والغرر.
الثاني: مجئ القرآن بالتصديق بالأنبياء السابقين، ومضامين الكتب السماوية السابقة وما فيها من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأمر بنصره وإتباعه، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ).
الثالث: مجئ بعض الأخبار في موضوع أسباب نزول آيات القرآن وكيف ان كبراء بني إسرائيل كانوا يأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسألونه عن نبوته ليروا علاماته وموافقتها لما عندهم من العلامات والدلائل( ).
القسم السادس: أختتمت الآية بالأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بلزوم الخشية والخوف من الله تعالى، والخشية منه تعالى مطلوبة بذاتها، وهي مقدمة وعون للإمتثال للأوامر الإلهية الأخرى، وذكر نعم الله تعالى، ومن خشية الله تعالى الحرص على الوفاء بعهده، والإستجابة لأوامره بأداء التكاليف، والإمتناع عن المعاصي والسيئات.
 ويقال رهب يرهب رهبة ورهباً، أي خاف والاسم رُهب، ورهبوت (ويقال: رهبوت خير من رحموت) ( )، أي لأن ترهب ويخاف منك خير لك من أن تكون موضعاً لرحمة غيرك من الناس.
 ومن إعجاز الآية بلحاظ الصلة بين مضامينها القدسية وجوه:
الأول: مجئ الأمر الإلهي بذكرالنعم في أولها ليكون عوناً على الإمتثال لما في وسطها فاستحضار الفرد والجماعة للنعم الإلهية يجعلهم يدركون ان المنعم هو الله تعالى وبيده مقاليد الأمور مما يترشح عنه الحرص على الوفاء بعهد الله تعالى.
الثاني: إن ذكر النعم الإلهية مقدمة للخشية من الله والخوف منه.
الثالث: ذكر النعمة مناسبة ودعوة لشكر الله تعالى، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب وتتكون النعمة الإلهية من طرفين:
الأول: ذات النعمة وهي مركبة ومتعددة وتوليدية، وجاءت باسم الجنس للدلالة على كثرتها.
الثاني: المنعم عليه.
وجاءت الآية بالخطاب لبني إسرائيل، وإرادة النعم التي جاءت لهم، وهي على وجوه:
الأول: النعم العامة التي تشمل عموم بني إسرائيل.
الثاني: النعم الخاصة على كل جيل منهم.
الثالث: النعم التي تأتي للأفراد والجماعات منهم، ولا يعني هذا التقسيم الفصل والتمييز بين أقسام النعمة، بل هي متداخلة، ومن النعم ما تتغشى الوجوه الثلاثة أعلاه، كما هو في نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تتغشى أجيال بني إسرائيل فتلقاها السابق منهم بشارة وفضلاً وتفضيلاً، بواسطة الأنبياء والكتب السماوية السابقة.
 أما اللاحق منهم أيام البعثة النبوية وما بعدها فقد رأى الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولاعبرة بمن جحد بنبوته منهم، إذ جاءت هذه الآية للزجر عن هذا الجحد، والإنذار والوعيد عليه.
 ومن الآيات أن النعم الإلهية لايستطيع العباد ردّها، إذ أنها تأتي طوعاً وقهراً وإنطباقاً، وتصل إلى العبد ويستطيع التنعم بها ، وان لم يذكرها ويستحضرها ويشكر عليها، ومنها نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  التي إنتفع منها الناس جميعاً، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع:  ذكر النعم الإلهية حجة على الذات المتحدة والمتعددة للوفاء بعهد الله، فمن يستمع من بني إسرائيل  إلى آيات القرآن التي تدعوه وقومه لذكر نعم الله تعالى عليهم فانه قد يحرص على الوفاء بعهد الله، وكذا إذا ذكرت الجماعة منهم النعم الإلهية او شطراً منها، لذا فان هذه الآية رحمة لبني إسرائيل.
فبدل ان ينشغل اليهود في منتدياتهم الخاصة بكيفية إيذاء المسلمين وفتنة المؤمنين، تدعوهم الآية لذكر نعم الله عليهم ، ولزوم الوفاء بعهد الله، ويدل نهي بعضهم لبعضهم الآخر عن إخبار المسلمين بالنعم الإلهية عليهم [أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ] ( )، وتأتي هذه الآية لتجعل بني إسرائيل ينتقلون طوعاً وقهراً إلى موضوع النعم الإلهية عليهم، فسواء صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو جحدوا بها، فان هذه الآية تدعوهم لذكر نعم الله تعالى عليهم، مما سبق بعثة النبي محمد بالإضافة إلى نزول القرآن والمعجزات التي جرت على يديه.
 فمن إعجاز القرآن أنه يخاطب الناس بأمور تتعلق بفضل الله تعالى عليهم، وعبوديتهم لله تعالى ولزوم تعاهدها لذا جاءت بالخطاب [يَابَنِي إسرائيل].
 ومن مصاديق العهد من عند الله تعالى به إلى الناس جميعاً من عدم إتباع وعبادة الشيطان، قال تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )، وبنو إسرائيل جزء من عموم الناس ويشملهم هذا الخطاب إلا أن يقال أن إنتسابهم إلى الكتب السماوي ينزههم من عبادة الشيطان وإن كان إنكار نزول القرآن من إتباع خطوات الشيطان.
الوجه الثاني: مجئ الأمر بالوفاء بالعهد في وسطها ليكون عوناً من جهات:
الأولى: يتصف الخطاب الإلهي في الآية الكريمة بإتحاد المخاطَب -بالفتح- فهو موجه لبني إسرائيل على نحو التعيين إلا أنه لا يمنع من شموله للناس جميعاً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، فبعد أن جاء الأمر لهم بذكر نعمة الله عليهم، جاء هذا الشطر معطوفاً عليه بحرف العطف (الواو) (وأوفوا بعهدي) .
 والخطاب إنحلالي موجه إلى عموم بني إسرائيل في أجيالهم المتعاقبة يدعوهم الى الأخذ ببشارات التوراة، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع دعوة الآية في مفهومها الناس جميعاً للإسلام.
لقد جعل موسى عليه السلام عند بني إسرائيل تركة عقائدية عظيمة وهي من أهم مصاديق تفضيلهم على أهل زمانهم، وأراد لهم البقاء في مراتب التفضيل ذاتها بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودخول الإسلام، وأنعم الله عزوجل عليهم في هذه الآية بأن ذكّرهم بنعمه عليهم، ودعاهم للوفاء بالعهد، والفوز بالبقاء في منازل التفضيل، ومن أسرار تفضيل بني إسرائيل عند دخولهم الإسلام مقارنة مع الأمم الأخرى وجوه:
الأول: دخولهم الإسلام شاهد على تصديقهم بالبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: قبولهم للتوراة وما فيها من البشارات والوعد الكريم.
الثالث: إجتناب العناد والإصرار والإستكبار.
الرابع: صيرورة بني إسرائيل أسوة للأمم الأخرى في دخول الإسلام، فيأتيهم الثواب من وجهين:
الأول: دخولهم الإسلام.
الثاني: إتباع الناس لهم بدخول الإسلام.
الخامس: يعلم الناس أن اليهود والنصارى أهل كتاب سماوي منزل وأتباع أنبياء، فاذا أعلنوا تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  فانه حجة على الناس، فحتى الذي لا يدخل الإسلام فانه يدرك قوة الحجة والدليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس: يبعث دخول بني إسرائيل في الإسلام الفزع والخوف في قلوب الكفار والمشركين، ويجعلهم يجتنبون التعدي على الإسلام والمسلمين.
ومن الآيات أن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوقف على البشارات التي جاءت في الكتب السابقة بخصوص نبوته، بل أن المعجزات تجري على يديه، كما رزقه الله تعالى المعجزة العقلية الدائمة وهو القرآن، فجاء بهذه الآية لتكون حجة على بني إسرائيل وتخبرهم بان تخلفهم عن الوظيفة العبادية بالتصديق بنبوته جحود وعدم وفاء بالعهود التي أخذها الله تعالى، وهذه العهود من النعم التي فضّل الله تعالى بها بني إسرائيل على الناس جميعاً من جهات:
الأولى: إنها نعمة بذاتها إذ يتفضل الله عليهم ويأخذ منهم العهد.
الثانية: الأمر الإلهي لبني إسرائيل بالوفاء بالعهد نعمة أخرى، فقد لايسأل المتعاهد الطرف الآخر الوفاء بالعهد، خصوصاً إذا كان هو الأقوى او أن كفته هي الأرجح، [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، وقد تفضل سبحانه وذكّر بني إسرائيل بالعهد لإعانتهم على الوفاء، وتقريبهم إلى منازل الإيمان والطاعة .
الثالثة: العهد بين الله وبين بني إسرائيل من علم الغيب، ومجيؤه في القرآن وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  شاهد على صدق نبوته.
وهذه الآية من المصاديق التي تدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم  مبعوث لبني إسرائيل أيضاً، وفيه زجر لهم عن الإمتناع عن دخول الإسلام، فصحيح أنه ليس من بني إسرائيل، ولكنه رسول لهم وللناس جميعاً، ثم انه يلتقي معهم في النبوة من إبراهيم عليه السلام.
 ومن الآيات ان الأسباط أولاد يعقوب النبي وصفوا إسماعيل جد النبي محمد بأنه أبوهم وأبو يعقوب عليه السلام [قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ] ( )، وفيه حجة على بني إسرائيل وإخبار سماوي عن عدم وجود مانع في النسب يحول دون تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإتحاد آباء بني إسرائيل والتقاء الآباء بأخوة إسماعيل واسحاق عليهما السلام، وإجتماع الأبوة بإبراهيم عليه السلام حجة على بني إسرائيل، ولطف بهم، ووسيلة جذب لهم للإسلام، وبيان شرف وعلو منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين معاشر الأنبياء.
فنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تبعد النبوة عن بني إسرائيل، ولاعبرة بالتقسيمات اللاحقة والإنشطارات بين القبائل والجماعات، فجاءت نبوته صلى الله عليه وآله وسلم  لتعيد وحدة النسب بقيد دخول الإسلام والتصديق بنبوته الذي يعني أداء التكاليف العبادية ويقود إلى الجنة والمغفرة،  ولا تجعل لتلك الإنشطارات موضوعية وإعتباراً في الصلات الإجتماعية، وتمنع من صيرورتها سبباً للحمية الجاهلية والنفرة وحصول المعارك.
وهل الأمر الإلهي بالوفاء بالعهد نعمة على بني إسرائيل، الجواب نعم فكما أن العهد نعمة تفضل بها على بني إسرائيل فكذا الأمر بالوفاء به نعمة، ومجيؤه في القرآن وتلاوة المسلمين نعمة أخرى على بني إسرائيل.
لقد جاءت الآيات القرآنية بالإخبار عن كون المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وجاء الأمر بالوفاء بالعهد مصداقاً لهذه الآية من وجهين:
الأول: يدعو المسلمون بني إسرائيل إلى الوفاء بالعهد، وهو من الخير المحض والخروج الحسن إلى الناس.
الثاني: دخول بني إسرائيل الإسلام بجعلهم أفراداً من خير أمة، ليكونوا حجة على غيرهم وسبباً في دعوتهم إلى الإسلام.
والوفاء بعهد الله بذاته ذكر للنعم الإلهية، وهو مقدمة لذكر بني إسرائيل  لنعم أخرى، لقد جاءت الآية بعهد من الله تعالى بأن وفاء بني إسرائيل للعهد سبب ومناسبة لوفاء الله تعالى بعهده لهم.
وتؤكد الآية تعلق الجزاء بفعل العبد، فمتى ما إمتثل الفرد والأمة للأوامر الإلهية وإجتنبوا نواهيه فان الله عزوجل تعالى يجازيهم على عملهم، قال تعالى [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ] ( ).
وتتضمن الآية تحذير بني إسرئيل من نقض العهود والمواثيق التي يعقدونها مع المسلمين ، قال تعالى [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ] ( )، ولم ينحصر الأمر بالوفاء بالعهد ببني إسرائيل، بل جاء القرآن بالأمر إلى المسلمين بالوفاء بعهد الله، وعدم التفريط بالعهد والميثاق واليمين، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ]( ).
لقد أمر الله تعالى العباد بتكاليف عبادية لاتؤخذ منهم إلا القليل من الوقت والجهد، ليكون جزاؤها الخلود في النعيم، وكذا بالنسبة للعهد فان الله تعالى يدعو بني إسرائيل والناس لوظائفهم العبادية لتترى عليهم النعم في الدنيا والآخرة، فوفاء الله تعالى بعهده يعني إتصال النعم في الدنيا والإقامة الدائمة في الجنة، فهذه الآية رحمة ببني إسرائيل، وشاهد على ان الله تعالى خبير بعباده، رحيم بهم، يأخذ بأيديهم إلى النعيم بدعوتهم بلغة الترغيب والتخويف، والتذكير والموعظة، والأمر والزجر، فكما تذكر الآية بني إسرائيل بنعم الله تعالى عليهم، فانها تذكرهم بوجوب وفائهم  بالعهد.
القسم الثالث: جاءت خاتمة الآية بالأمر إلى بني إسرائيل أن يخافوا ويخشوا الله تعالى، وقد ورد لفظ (إرهبون) بلغة الأمر مرتين في القرآن، إذ جاء أيضاً بقوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )، ويفيد الجمع بين الآيتين بلحاظ هذا الأمر وجوهاً:
الأول: نهي وتحذير بني إسرائيل من الشرك.
الثاني: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  من سنن التوحيد ومعالم العبودية لله تعالى, وقد قرن الله طاعة النبي محمد بطاعته.
الثالث: ذكر نعمة الله تعالى من خشية الله تعالى والخوف منه والإقرار له بالربوبية.
الرابع: الوفاء بعهد الله من الخشية منه، ومن مصاديق الرهبة والخوف من الله التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والإمتناع عن الجحود بنبوته، ومن يخشى أحداً يحرص على الوفاء له بالعهد، لأن عدم الوفاء به يعرضه إلى الأذى الشديد.
ومن الإعجاز تضمن خاتمة الآية لغة التخويف والوعيد، ولاتنحصر الخشية من الله في الدنيا أو في  الآخرة بل هو أمر شامل للنشأتين، إذ يؤاخذ الله تعالى الذين ينقضون الميثاق ولايوفون بالعهد في الدنيا، وعذاب الآخرة أشد وأخزى.
ومن خشية الله دخول الإسلام والإنضمام الى (خير أمة ) فمن خصائص المسلمين الرهبة والخشية من الله إن خاتمة الآية دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام وأداء التكاليف والتوجه إلى الله بالدعاء والمسألة.
 والرهبة من الله باب لنيل الرزق الكريم في الدنيا والآخرة ، وورد في زكريا وزوجته قوله تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا] ( ).
ومن الآيات إلتقاء أول ووسط وآخر الآية في الدعوة إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تترك الآية برزخاً بين الإيمان والكفر إذ أنها تذّكر بنعم الله على بني إسرائيل، وتأمرهم باستحضارها في الوجود الذهني، والواقع الخارجي وعالم الأقوال والأفعال، لتكون برزخاً دون التعدي على المسلمين، ومقدمة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والنعم والفيوضات الإلهية عليه وعلى المسلمين.
لقد جاءت هذه الآية بثلاثة أوامر ووعد مع تعلق العهد بتلك الأوامر لتكون الأوامر عوناً ومقدمة للوعد الكريم، كما يكون الوعد دعوة سماوية للإمتثال للأوامر الإلهية، ومن تلك الأوامر ما يرتبط إرتباطاً شرطياً بالوعد ووفاء الناس به ، كما في قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ] ولو أخل فريق من بني إسرائيل بالعهد ، فهل يتحقق الوعد الإلهي أم لا .
الجواب إن الأمر الإلهي بالوفاء بالعهد يتوجه إلى بني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي، وينحل بعددهم ، فيشمل كل مكلف على نحو مستقل.
ويكون تقدير صيغة المفرد منه : أوفِ بعهدي بفتح الهمزة ، وجـــاءت صيغة الجمع لبيان الصلة والإتحاد في العهد بين الآباء والأبنـــاء من بني إسرائيل وبقاء حكم العهد الذي أخذه الله على بني إسـرائيل أيام موسى عليه السلام على جميع بني إســرائيل في الأزمــنة اللاحقة، فليس لأحد منهم أن ينكر العهد ويقول لا علم لي به، إذ تشير الآية على بني إسرائيل بالرجوع إلى التوراة وأخبار موسى عليه السلام والأنبياء الآخرين من بني إسرائيل وندبهم قومهم إلى التطلع إلى أوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمبادرة إلى التصديق به وإتباعه.
 ويحتمل الخطاب في الآية وجوهاً:
الأول: إرادة اليهود.
الثاني: المقصود في الخطاب اليهود والنصارى.
الثالث: موضوعية النسب في الخطاب، فيشمل من دخل الإسلام منهم.
والمراد من الآية هم اليهود كما يشمل الخطاب النصارى بالتبعية لمجئ القرآن مصداقاً للإنجيل.
ولا يشمل الخطاب من يسلم منهم لأن الآية التالية تقول [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] أي أنهم لم يؤمنوا بعد بنبوة محمد صلى الله  عليه وآله وسلم، والمراد من قوله تعالى (لما معكم) التوراة والإنجيل.
 
التفسير الذاتي
ورد لفظ (بني) سبعاً وأربعين مرة كلها بلغة الإضافة، وهي على قسمين لا ثالث لهما:
الأول: سبع مرات لإرادة الناس جميعاً بلفظ (بني آدم) بإستثناء آدم وحواء، إذ أنهما من الناس، وليس من بني آدم أي بين لفظ الناس وبني آدم عموم وخصوص مطلق.
الثاني: أربعون مرة لإرادة خصوص (بني إسرائيل) كما ورد لفظ (بنو) بصيغة الرفع مرة واحدة  على لسان فرعون بقوله تعالى  [قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ] ( ).
وهل تدل الآية على أن صيغة الرفع أفضل من النصب والجر لأنها جاءت في مقام مدح بني إسرائيل والثناء عليهم لإيمانهم وصبرهم، الجواب لا دليل عليه بخصوص المقام، وان كانت الآيات الأربعون الأخرى التي تذكر بني إسرائيل كلها تتضمن فضل الله عز وجل عليهم، ولغة الإنذار والتذكير والوعيد والحث على الإيمان وإن كان هذا التباين آية.
 ولا تعني هذه الكثرة لذكر بني إسرائيل الأولوية على بني آدم في الخطاب القرآني، إذ ورد لفظ الناس في القرآن مائتين وإحدى وأربعين مرة، كما ورد لفظ (الذين آمنوا) في القرآن نحو مائتين وثلاثاً وخمسين مرة، وكثرة الخطاب لبني إسرائيل وإرادتهم في القرآن على نحو التعيين حجة عليهم، وعلى الناس جميعاً بواسطتهم، وكان كفار قريش يرجعون إلى يهود المدينة ويسألونهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقريش هي التي جهّزت الجيوش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق، وأراد أقطاب الكفر فيها إستئصال الإسلام، وكان بعض الملأ منهم يطوف على قريش يحرضهم على حرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاءت هذه الآية دعوة لليهود لإجتناب محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالواسطة، بأن يستحضروا نعم الله عز وجل عليهم،، ومنها بعث الأنبياء وسلامتهم ونجاتهم، فيكفون عن التعدي على الإسلام والمسلمين، ويمتنعون عن التحالف مع قريش أو إغوائهم بالهجوم على المدينة.
وهذه الآية من مصاديق وصف القرآن بأنه ذكرى، إذ يذّكر الناس بنعم الله عز وجل عليهم لتكون هذه الذكرى مناسبة للإقرار بنعمة القرآن ولزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي أعظم النعم، وقد جاءت التوراة والإنجيل بالبشارة به، وروي(ان مالك بن الصيفي من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين، فانت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود، فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شئ فقال له قومه ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك، قال انه أغضبني، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف) ( ).
 ولم يرد لفظ (عهدي) في القرآن إلا مرتين، وكل منهما في سورة البقرة ومنسوب لله عز وجل، وفيه آية في علم التوحيد، فمع أن العهد ورد في القرآن بالمعنى الأعم كما في قوله تعالى [فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ]( )، إلا أن إضافته للمتكلم لم ترد إلا لله عز وجل، جاءت مرة في الرد على إبراهيم حينما سأل الإمامة لذريته بعد أن سألها لنفسه، كما ورد في التنزيل [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( )، وتحتمل الصلة بين لفظ (عهدي) في الآيتين وجوهاً:
الأول: التساوي وان المراد منهما معنى واحد.
الثاني: التباين الموضوعي بينهما، فليس من صلة ومفهوم مشترك بين اللفظين، لإرادة معنى الإمامة في آية [وَإِذْ ابْتَلَى].
الثالث: العموم والخصوص من وجه، فهناك وجوه للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بين معنى اللفظين.
 والصحيح هو الثالث إذ تبين الآيتان أن لله عز وجل عهد أودعه الناس، وأنهم ملزمون بالوفاء به، ومن يتخلف عنه يحرم نفسه من النعم الإلهية، وأن من النعم ما تأتي فضلاً من عند الله لشطر من عباده من أهل الإيمان والتقوى وذراري الأنبياء بقيد تعاهدهم لسنن التوحيد، وفعل الصالحات ومضامين التقوى والخشية من الله عز وجل.
وتضمنت الآية ثلاثة أوامر كلها موجهة لبني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وتحمل على الوجوب وهي:
الأول: ذكر نعمة الله عز وجل عليهم، وجاء ذكر النعمة بصيغة المفرد، لإرادة جنس النعم، وجاءت الآية بالبيان والبرهان بأن قيدت النعمة التي يجب أن يذكروها بأنها التي أنعم الله عز وجل بها عليهم، وفيه دعوة للإنشغال بذكر  الله، وترك الجدال والمراء، وإثارة أسباب الشك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وفي الحديث: التحدث بالنعم شكر) ( ).
الثاني: الوفاء بعهد الله عز وجل الذي عاهدهم عليه، والعهد اسم جنس أيضاً وله مصاديق عديدة في التوراة والإنجيل والقرآن.
الثالث: وجوب الخوف من الله عز وجل في السر والعلانية وإجتناب نقض العهد، ومحاربة الأنبياء، والصدود عن الحق، وهل من صلة وتداخل بين هذه الأوامر والأمور والواجبات الثلاثة، الجواب نعم من وجوه:
الأول: الأمر بالوفاء بالعهد والخشية من الله من النعم التي أنعم الله عز وجل بها على بني إسرائيل.
الثاني: ذكر النعمة من الوفاء بالعهد لأنه عام إستغراقي فيشمل الأوامر الإلهية ومنها الأمر بذكر نعمة الله.
الثالث: ذكر نعمة الله عز وجل إقرار بالربوبية، وإظهار لمعاني العبودية لله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] فمن يخشى الله عز وجل يذكر نعمه، ومن يذكر نعمه يخشاه ويخافه، وهل يلزم الدور بينهما، الجواب لا، لأن كلاً منهما يفتح آفاقاً من العلم، وعلى فرض حصول الدور بينهما فانه مبارك وأمر حسن.
الرابع: إنه من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل فيكون ذكره مقدمة وسبيلاً للوفاء به.
الخامس: هذه الآية من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، ومن مصاديق النعمة فيها الأمر الإلهي لهم بالوفاء بعهد الله.
السادس: الآية شاهد بأن القرآن رحمة ببني إسرائيل لما فيه من الأوامر والتذكير بنعم الله عز وجل عليهم.
وإبتدأت بالأمر بذكر نعمة الله وفيه وجوه:
الأول: ذكر النعم أمر مطلوب بذاته وله منافع عرضية أخرى متعددة، منها ما يخص الوفاء بالعهد، والخشية من الله عز وجل.
الثاني: ليس من حصر لنعم الله عز وجل، فإبتدأت الآية بذكرها.
الثالث: ذكر نعم الله أمر قريب من الإنسان، وهو أمر ميسر وممكن حالما يلتفت الإنسان إلى هذا الأمر لتجلي وظهور النعم.
الرابع: ذكر النعمة عون ومقدمة للإمتثال للأوامر الإلهية.
الخامس: إنه من مصاديق الشكر لله عز وجل ويحتاج بنو إسرائيل والناس جميعاً التوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء، وثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب.
السادس: لما جاءت الآيتان السابقتان بالحث على إتباع سبل الهدى، والسعي للفوز بالجنة، وذم الذين كفروا وكذبوا بالآيات وذكر ما ينتظرهم من العذاب، جاءت هذه الآية للأمر بذكر النعم ويدل ذكرها بالدلالة التضمنية على الإعتراف بوجود النعم والإعتراف بها.
السابع: يحول ذكر النعمة دون النسيان، ويحتاج الوفاء بالعهد إلى حضور العهد في الوجود الذهني، وصيرورة هذا الحضور واقية من المعاصي والسيئات.
وورد لفظ [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] مرتين في القرآن، إذ جاء في سورة النحل[لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )، وفيه أمارة على أن موضوع الرهبة والخوف من الله عز وجل في المقام يتعلق بالتوحيد، ولزوم إجتناب الشرك والضلالة، لذا جاءت الآية التالية بالحث على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: دعوة بني إسرائيل إلى إستحضار نعم الله عز وجل عليهم، وتوظيف النعم في طاعة الله ورسوله وإجتناب إيذاء المسلمين.
الثانية: تتضمن الآية الإعجاز والتحدي ، لأنها خطاب يتضمن التذكير بالفضل الإلهي والوعد.
الثالثة: الآية نداء من عند الله عز وجل إلى بني إسرائيل بواسطة القرآن فلم تقل الآية “يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم” بل قالت [اذْكُرُوا نِعْمَتِي] والياء في نعمتي تعود لله عز وجل، وليس من آية في القرآن فيها ذكر  النعمة إلا وهي عائدة لله تعالى، فهو المنعم المطلق، وكل الخلائق تتلقى النعم من عند الله.
الرابعة: تدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود عهد قطعه بنو إسرائيل على أنفسهم لله تعالى ويحتمل هذا العهد في أوانه وجوهاً:
الأول: أخذه الله على بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام بإعتباره نبياً رسولاً.
الثاني: أخذ الله عز وجل العهد على بني إسرائيل بواسطة أنبياء بني إسرائيل.
الثالث: جاء العهد في التوراة.
الرابع: أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  العهد على بني إسرائيل، لأنه نبي آخر الزمان الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام.
الرابع: العهد سور جامع شامل للناس جميعاً، فلم ينحصر موضوعه ببني إسرائيل، ولكن ورد تذكير بني إسرائيل به لمناسبة الموضوع والحكم ولأن الآية خطاب لهم.
الخامس: المراد العهد الذي أخذه الله عز وجل على الناس في عالم الذر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل، فيأتي العهد تارة على لسان الأنبياء وأخرى في الكتب السماوية المنزلة.
وجاء بواسطة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والقرآن كما في هذه الآية الكريمة، لأن الأمر الإلهي لبني إسرائيل بالوفاء بالعهد يدل بالدلالة التضمنية على وجود عهد قطعه بنو إسرائيل على أنفسهم لله تعالى.
 ويدل التعدد في وجوه وكيفية العهد على تجدده مع تعاقب أجيال المسلمين، فكل نبي من بني إسرائيل يذكر بالعهد كما أنه ميثاق من مواثيق التوراة، وهو وصية يتعاهدها بنو إسرائيل وعلماؤهم في الحث على طاعة الله والتصديق بالنبوة، وإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته.
 ومن الآيات في نبوته نصرة الله عز وجل له، ومن ينصره الله فلن يغلبه فرد أو جماعة او أمة.
ومن مصاديق نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية الكريمة، وما فيها من الإخبار عن تفضل الله تعالى بتعضيد نبوته بالعهود قبل بعثته بآلاف السنين، ونصرة الأنبياء السابقين له بالبشارة ببعثته، والدعوة إلى إتباعه ونصرته، ومن وجوه تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم، على الأنبياء السابقين تبشير الأنبياء به، وعدم إنحصار الأمر بالبشارة بل بأخذ العهود على أتباعهم لتأييده ونصرته.
الثالثة: في الآية حجة على الناس جميعاً، فاذا كان بنو إسرائيل أعطوا الله عهداً بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن باب الأولوية أن يتقيد الناس جميعاً بمضامين هذا العهد ، لأنه ميثاق بين الخالق والمخلوقين، بين الرب والمربوبين، وخص بنو إسرائيل في المقام لوجوه:
الأول: موضوع الآية وجهة الخطاب.
الثاني: بنو إسرائيل أهل كتاب تلقوا العهد بالتنزيل ، وبواسطة الأنبياء.
الثالث: صدور الأذى من يهود المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والمسلمين.
الرابع: حقيقة وجود عهد من اليهود مع الله تعالى، وموضوعية التذكير به لبني إسرائيل والناس جميعاً.
الخامس: إخبار المسلمين بوجود عهد لبني إسرائيل مع الله، وفيه حجة عليهم، ودعوة للمسلمين لحفظ العهد والميثاق والإخلاص في طاعة الله عز وجل.