معالم الإيمان في تفسير القرآن – سورة البقرة ج9

 الجزء التاسع
   الآيات (41-45) سورة البقرة 
 
 
 بسم الله الرحمن الرحيم
    المقدمة
الحمد لله الذي جعل قراءة القرآن ودراسته والتدبر في آياته ربيع قلوب المؤمنين، وعنوان الإتصال بالحضرة الإلهية، ومناسبة إختيارية للإعراض عن اللذات النفسية ووسائل الإنشغال الدنيوية.
 والقرآن سفير السماء الدائم في الأرض، ومثال قدسي من عالم الماديات ونفخ الروح في آدم عليه السلام، وهو خالد إلى يوم القيامة، ووسيلة مباركة لتنزيه النفوس، وتقويم السجايا والملكات الباعثة على السلوك، وهو قانون الحكمة الخلقية الذي يهذب الأعمال سواء تلك القائمة على جلب منفعة أو دفع مضرة، وينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية ليؤثر على نحو حسن ومبارك بتوجيه القوى التي يرتكز عليها عمل الإنسان من القوة الناطقة، والقوة الشهوية والغضبية، وفيه تحصيل للعلوم الحقة وتكميل للقوة العاقلة.
وهذا هو الجزء التاسع من معالم الإيمان، ويتضمن علوماً مستحدثة في عالم التفسير وكشفاً لجزء يسير من تأويل الآيات سعياً في دروب المعرفة بالبرهان ، ويتناول بالتفسير والتأويل الآيات 41-45 من سورة البقرة التي هي مدنية بالإجماع وبدأ نزولها بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة لتكون وثائق وحجج سماوية في خطاب أهل الملل الأخرى، وأحكاماً شرعية تضيء طريق السالكين.
ولسورة البقرة موضوعية عند المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم ويسعون إلى حفظها عن ظهر قلب والتفقه في تفسير آياتها وفي يوم حنين حيث إنكشف أكثر المسلمين أمام الهجوم المباغت لهوازن وثقيف وثبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكانه مع قلة من أصحابه .
 قال الكلبي: كان حول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم.
وقال الآخرون : لم يبق يومئذ مع النبي {صلى الله عليه وسلم} غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن، وقُتل يومئذ بين يدي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وطفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار لا يألوا)( ).
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للعباس : ناد يامعشر المهاجرين ويامعشر الأنصار وكان العباس رجلاً صويّتاً. ويروى من شدة صوت العباس أنه أُغير يوماً على مكة فنادى : واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها. 
    فجعل ينادي : ياعباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا: يالبيك يالبيك يالبيك وجاؤوا عنقاً واحداً)( ).  
 فذكر سورة البقرة على نحو التعيين لجذب المسلمين للدفاع عن النبي محمد والإسلام وعنها في ساعة الضيق والحرج، قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا]( ) .
 وتضمنت الآيات التي إختص هذا الجزء بتفسيرها الخطاب إلى بني إسرائيل بلغة الأمر والنهي مع التباين الموضوعي بينهما، وإتحاد غايات الهداية والصلاح، وتبدأ هذه بقوله تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] لبيان الإتحاد والإتصال بين الكتب السماوية، وشهادة كل كتاب على على صدق نزول الآخر، وجاءت شهادة القرآن بصيغ التحدي بوجود صلة وإتحاد في الأوامر والنواهي والغايات بين الكتب السماوية تتجلى بالدعوة إلى التوحيد والإخلاص في عبادة الله، والتصديق بالنبوات، وتختتم الآيات التي تناولها هذا الجزء بقوله تعالى[وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) وفيه بعث على العمل بأحكام هذه الآيات، وتجديد لدعوة بني إسرائيل الناس جميعاً لتقوى الله وعشق صيغ طاعته وإستحضار آلائه ونعمه الله عز وجل عليهم أفرادا وجماعات ومللاً وأمماً , ومنها نعمة نزول القرآن والغوص في ذخائره، وإستخراج الدرر العلمية من كنوزه، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]. 
 
 
 
 
قوله تعالى  [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ]الآية41. 
 
الإعراب واللغة
الواو: حرف عطف، آمنوا: فعل أمر، والواو: فاعل، بما: جار ومجرور، أنزلت: فعل ماض وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (ما).
مصدقاً: حال منصوب للعائد المحذوف في أنزلت او من الاسم الموصول.
لما: اللام: حرف جر، ما: اسم موصول بمعنى الذي في محل جر باللام، معكم: مع: ظرف مكان متعلق بمحذوف لامحل له من الإعراب لأنه صلة الموصول وهو مضاف، والكاف: ضمير في محل جر مضاف إليه.
ولا: الواو: حرف عطف، لا: أداة نهي.
تكونوا:فعل مضارع مجزوم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو : إسمها.
اول: خبر تكون وهو مضاف.
كافر: مضاف اليه مجرور.
به: جار ومجرور متعلقان بكافر.
ولا تشتروا: عطف على [ولا تكونوا].
بآياتي: جار ومجرور متعلقان ب (تشتروا)، والضمير الياء في محل مضاف إليه.
ثمناً: مفعول به لتشتروا.
قليلاً: صفة لثمن منصوب بالفتحة.
وإياي فاتقون: الواو حرف عطف، إياي: ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم لإتقون.
الفاء: جواب مقدر تقديره تنبهوا، وفعل أمر، والواو فاعل، والضمير في محل نصب مفعول به.
ولم يقل (أول كافرين) فيه قولان: زعم الأخفش والفراء أنه محمول على المعنى لأن المعنى أول من كفر به، وحكى سيبويه: هو أظرف الفتيان وأجمله , كأنه يقول: هو أظرف فتى وأجمله , والقول الآخر أن التقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به( ). 
والإختلاف أعم من كونه لفظياً , ويؤكد ما في كلمات القرآن من إعجاز بلاغي، ومضامين قدسية تحث على التحقيق والبحث الموضوعي.
وفيه مسائل: 
الأولى: إن الله عز وجل لا يرضى لأي عبد الكفر، لذا لم ترد الآية بصيغة الجمع (الكافرين).
الثانية: لايريد الله سبحانه بقاء باب الكفر مفتوحاً، فعلى فرض وجود أول كافر، يبقى الأمل والرجاء بغيره ان لا يقتدى به.
الثالثة: تحذر الآية من الإجتماع على الكفر، وكأن الجماعة في كفرهم كالشخص الواحد.
الرابعة: تبين الآية عز الشريعة وعدم إعتبار أهل الكفر وإن إتحدوا، فهم لن يضروا التنزيل والآيات شيئاً، فالإتحاد في لفظ الكافر يدل على عدم ترتب الأثر على هذا الكفر.
والثمن: العوض والبدل، وقد يكون الثمن زائداً أو ناقصاً أو مساوياً للمثمن في البيع أو نحوه، ولكن القيمة لا تكون إلا مساوية.ومن دلالات إتحاد لفظ أول كافر أمور :
الأول: التحذير من جحود بني إسرائيل على نحو العموم المجموعي بنزول القرآن.
الثاني: دعوة كل مكلف أن يتدبر آيات القرآن.
الثالث: إرادة التشبيه، قال الزمخشري(ويجوز أن يراد : ولا تكونوا مثل 
أول كافر به ، يعني من أشرك به من أهل مكة)( ) .
    ولا دليل على لغة التشبيه في المقام، نعم قد يأتي لفظ الأول ولا يعني الإطلاق ولكنه لإرادة موضوع وحكم مخصوص، وفي إبراهيم عليه السلام ورد في التنزيل[وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]( )، وكذا في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
الرابع: إرادة القدوة الذي يقتدي بهم الناس، فيسمع المشركون أن أهل الكتاب كفروا بنبوة النبي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيحاكونهم بالجحود به وإنكار نزول القرآن.
الخامس: يترقب ويتناقل أكثر الناس أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من المعجزات الباهرات، فجاء التحذير من مبادرة أبناء النبي يعقوب إلى الجحود بنبوة ابن عمهم الذي يتجلى عهد الله بوصيتهم به في توارثهم الإقرار بأبوة جده إسماعيل لهم قال تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا]( ). 
السادس: إنذار أهل الكتاب خاصة وأهل الملل الأخرى عامة من التسابق في الجحود بنزول القرآن.
السابع: بيان حقيقة تأريخية وهي أن القرآن نزل في مكة قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة أو قريباً منها وليس من أمة أو أهل ملة كفروا به، فإن قلت قد كفر به المشركون من قريش .
الجواب تخاطب هذه الآية بني إسرائيل كأمة وأهل ملة، والمشركون أفراد وجماعات، وقد آمن شطر من أهل البيت والصحابة من أهل مكة بالقرآن وتحملوا شتى صنوف التعذيب.
الثامن: بيان مقدمة سماوية لصيغ الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التعجل في الجدال والشك، وعن(عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}  فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أتاه أحبار اليهود فقالوا: يا محمد، ألم يبلغنا أنك تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} أفعنيتنا أم قومك؟ قال: كلاًّ قد عنيت. قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم الله ما عملتم به انتفعتم فأنزل الله {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام…} إلى قوله: {إن الله سميع بصير})( ).
التاسع: إنذار بني إسرائيل من تحمل أوزار غيرهم ممن يتبعهم بالجحود بنزول القرآن من عند الله.
العاشر: لما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان اليهود فيها.  
 
 
 
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآية السابقة نعم الله تعالى على بني إسرائيل جاءت هذه الآية تتضمن الأمر بالإيمان وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به القرآن، وفيها حجـة وقاعـدة كـلية وهي: القرآن تصديق وشاهد على نزول التوراة والإنجيل.
وقد جاءت الآيات السابقة بالخطاب الشامل للناس جميعاً بعبادة الله، [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، أما في بني إسرائيل فجاء الأمر بذكر نعمته تعالى عليهم، والأمر بلزوم الإيمان بما أنزل سبحانه , ويحتمل الجمع بين الآيتين وجهين:
الأول: إن بني إسرائيل مشمولون بالخطاب في الآية أعلاه بلزوم عبادة الله تعالى.
الثاني: يعبد بنو إسرائيل الله تعالى، ولكنهم لا يؤمنون بالقرآن.
وهم كسائر الناس مأمورون بعبادة الله والتصديق بالقرآن وهذا التصديق من أركان العبادة , فجهة الخطاب في الآية محل البحث الناس جميعاً وان جاء خاصاً لبني إسرائيل لوجوه:
الأول: نزل القرآن بلغة إياك أعني وإسمعي يا جارة.
الثاني: التوكيد على النعم الإلهية التي خص الله بها بني إسرائيل.
الثالث: بيان موضوعية بني إسرائيل في جذب الناس للإيمان لأنهم أهل كتاب، وكان يأتيهم عدد من المشركين يسألونهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بحسب ما مذكور فيما بين أيديهم من الكتاب، فيكون تخلفهم عن الإيمان سبباً لصدود غيرهم.
الرابع: الإنتساب إلى التوراة والإنجيل مقدمة لدخول الإسلام والتصديق بنزول القرآن من عند الله، لذا جاءت الآية بذكر القرآن بثلاث صفات:
الأولى: إنه تنزيل من عند الله.
الثانية: القرآن تصديق للتوراة والإنجيل.
الثالثة: القرآن هو آيات الله تعالى.
وجاءت الآية السابقة بثلاث أوامر، والآية التالية بنهيين، بينما جاءت الآية بعد التالية بثلاثة أوامر بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( )، في بيان لموضوعية الصلاة والزكاة وإنفرادهما في آية واحدة، وهو شاهد على شمول بني إسرائيل بالأمر الإلهي الذي يتغشى الناس على نحو العموم الإستغراقي بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] وإن الصلاة والزكاة من مصاديق العبادة.
ومن مصاديق الرهبة والخشية من الله تعاهد آيات التنزيل وعدم إختيار زخرف الدنيا بدلاً عنها، كما أن تعاهدها لا يحجب هذا الزخرف ورغد العيش وقدم المفعول في قوله تعالى[فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] لإفادة الحصر وقيل أن(إياي) مفعول بفعل مضمر، لأن إرهبون لا يعمل فيه، فقد أخذ مفعوله.
ولكن هل يمكن الفعل المضمر غير(فأرهبون) أم ذاته ولكن حذف لمنع التكرار، الجواب لا هذا ولا ذاك، ولكن المقام من المواطن التي تتخلف فيها صناعة النحو عن بديع القرآن، وإن قيل أنه حذف لدلالة ما بعده عليه.
وقال الزمخشري في(وإياي فأرهبون) : وهو أوكد فى إفادة الاختصاص من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ})( )، ولا دليل عليه، وفيه مسائل:
الأولى: موضوع الآية أعلاه من سورة الفاتحة يتعلق بالعبادة وهي علة خلق الناس , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ويتلوها كل مسلم ومسلمة كل يوم عدة مرات على نحو الوجوب العيني.
الثانية: يتعلق قوله تعالى (إياك نعبد) بالفرائض والواجبات والمندوبات، وترك المحرمات، والرهبانية: غلو في صنوف العبادات، وإنقطاع إلى الرهبة من الله وهو من التشديد على النفس , لذا جاءت الآية التالية ببيان مصداق الرهبة من الله بالإيمان بنزول القرآن وهو مدرسة الفقاهة وسبيل النجاة وفيه التخفيف والتيسير، فأخبر القرآن بأن الرهبانية لا أصل لها، قال تعالى[وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا]( ) , 
وفيه وجوه ليبقى هذا الإ خبار حجة إلى يوم القيامة , وشاهدا على تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
الثالثة: دخلت الفاء في(وإياي فأرهبون) للربط بين الجملتين وجاء الضمير المتصل لتأكيد الضمير المنفصل كما تقول: أكرمته إياه، وقال ابن عطية: فإياي  منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك: إياي نعبد ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله: إليك حين بلغت إياكا)( ). 
الرابع: يفيد مجيء الفاء (فارهبون) التعقيب والترتيب من غير تراخ وتنفي تردد الفعل بين شيئين أو أكثر، وتجعله لواحد منهما.
الخامسة: بعد تذكير الله عز وجل بني إسرائيل بنعمه عليهم أمرهم بالخشية منه، وحذّرهم من البلاء إن تخلفوا عن وظائف الإيمان، أما قوله تعالى(إياك نعبد) فقد ورد على نحو الإطلاق لتأكيد أن العبادة سنخية ثابتة عند المسلمين والمسلمات، وهو أعم من مسألة الإختصاص التي يدل عليها تقديم المفعول ومجيء الفاء في فأرهبون.  
ترى لماذا لم تقل الآية (فإياه فارهبوه) لوحدة النسق في لغة الغائب، الجواب من وجوه:
الأول: بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل هو المتكلم، وفيه مقدمة لإبتداء الآية التالية بوجوب التصديق بنزول القرآن[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ].
الثاني: للدلالة على عدم الملازمة بين رؤوس الآيات ولغة الخطاب، فقد يأتي الإلتفات في جهة الخطاب وسط أو آخر الآية , ويتصل بالآية التالية وكل له دلالات خاصة.
الثالث: تأكيد الوعيد، وزيادة الترهيــب، وبعث الخوف من الله في نفــوس الذين يصــرون على الجحــود، وإن خوف بني إســرائيل يكــون من الله عز وجل،  وفيه مسائل:
الأولى: لم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف، ولم ينتشر الإسلام بخوف الناس من المسلمين وجحافلهم، بل كان المسلمون في خوف من بطش قريش إذ زحفت بخيلها وخيلائها على المسلمين يوم بدر وأحد، والخندق، وفي كل مرة يكون جيش المشركين نحو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، أما في المؤون والسلاح فإن عدة الكفار أكثر من هذه النسبة بكثير، ولكن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالمدد من الملائكة، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل : من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم)؟ فقال جبريل : يا محمد ما كل أهل السماء أعرف) , وعن علي عليه السلام أنه خطب الناس فقال: بينا أنا أمتح( ) من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط ثم ذهبت ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة فكانت الريح الأولى جبريل نزل في الف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو بكر عن يمينه , وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا في الميسرة , وعن سهل بن حنيف قال: لقد رأيتنا في بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه .
 وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به)( ).
الثانية: دعوة بني إسرائيل وغيرهم إلى عدم الخشية أو الخوف من الرؤساء والملأ الذين يصدونهم عن الإيمان والتصديق بنزول القرآن، قال تعالى[فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( ).
الثالثة: الوعيد بأن ينزل بهم ما نزل بالأمم السابقة ممن جحدوا بالأنبياء.
وفي صلة هذه الآية بالآيات التالية وجوه:
الأول: إبتدأت هذه الآية والآية التالية بحرف العطف (الواو) وفيه دلالة على وحدة جهة الخطاب في هذه الآيات، وتوجهه إلى بني إسرائيل من الذين عاصروا أيام التنزيل وما بعدها، وهل الخطاب تعييني وخاص بهم أم هو للناس كافة . 
الجواب هو الثاني، فالقرآن نزل لدعوة الناس جميعا للإيمان بالنبوة والتنزيل ، بالإضافة إلى عموم موضوعه وهو وجوب التصديق بالتنزيل، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، ليكون من أوضح السبل، وأفضل الطرق التصديق بنزول القرآن من عند الله، وهذا التصديق فرع التوحيد والإقرار بالنبوات، وهو عمل بطاعة الله , ومقدمة للامنتهي من أفراد هذا العمل في باب العبادات والمعاملات والأحكام.
الثاني: يفيد العطف بالواو التعدد والمغايرة، ولا يعني هذا أن التصديق بالقرآن غير الوفاء بالعهد، فهو من عطف الخاص على العام، ومن منافعه البيان والتوكيد، والإستقلال الموضوعي، وبعث الشوق على التدبر في آيات القرآن .
ومن إعجاز القرآن التحدي، وهذه الآية منه لأنها تدعو إلى سبر أغوار الآيات، والسياحة فيها، وتبين أن القرآن تنزيل وكلام يفوق كلام البشر، قال تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
الثالث: من إعجاز القرآن إختتام الآية السابقة بالتحذير والتخويف بقوله تعالى[وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] لتأتي هذه الآية بوجوب الإيمان بنزول القرآن من عند الله، مع حجة وبينة وهي أنه مصدق للتوراة والإنجيل، ليكون قوله تعالى(مصدقاً لما معكم) إنحلالياً، وهو على شعبتين:
الأولى: الخطاب لليهود بأن القرآن مصدق للتوراة التي جاء بها موسى عليه السلام.
الثانية: توجه الخطاب إلى النصارى بأن القرآن شاهد سماوي على نزول الإنجيل الذي جاء عيسى عليه السلام، ويدل على  هذا التقسيم عطف هذه الآية على الآية السابقة التي تبدأ بالخطاب (يا بني إسرائيل) وقد ورد على لسان عيسى عليه السلام في القرآن[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء بآية حسية معلقة على إذن الله فقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الحسية والعقلية التي تبهر العقول في كل زمان , وفيه دعوة إضافية لبني إسرائيل للتصديق بالقرآن ونزوله من عند الله عز وجل.
 وفي الطير الذي خلقه عيسى قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى , وقيل : لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير تخلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا وهي تحيض وتطهر وتلد , ويقال : إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور فيكون له الضرع يخرج منه اللبن ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة ويقال : إن سؤالهم كان له على وجه التعنت , فقالوا : اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك فأخذا طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض , وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله)( ).
ولكن النفخ من عيسى غير النفخ من جبرئيل وأسرار الخلق من عند الله، ولعل خلق عيسى للطير من المعجزات التي تتفرع عن قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، وليس ماهية ذات النفخ إلا أن يراد المعنى الأعم من التشبيه.
الرابع: إبتدأت هذه الآية بالأمر بالإيمان، أما الآية التالية فإبتدأت بخلط الحق بالباطل، فإن قلت إن الأمر بالإيمان بنزول القرآن يغني عن النهي عن لبس الحق بالباطل .
 الجواب جاءت الآيات جامعة مانعة، تتضمن الدعوة إلى الهداية وصيغ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليكون النهي عن خلط الأمور مقدمة للإيمان ، وإزاحة للكدورات الظلمانية والغشاوة التي يسببها هذا الخلط.
الخامس: لبس الحق بالباطل برزخ دون الإيمان وسبب لصد الغير عن التدبر في معجزات القرآن، ليكون المنهي عنه من عمومات خاتمة الآية السابقة (فإي فارهبون) وتضمنت الآية السابقة وهذه الآية والآيات الثلاثة التالية أموراً:
الأول: توجه الخطاب إلى بني إسرائيل، وبواسطتهم إلى الناس جميعاً، وحينما بعث النبي محمد صلى  الله عليه وآله وسلم كان أهل مكة والمشركون يسألون اليهود والنصارى عن نبوته وما ورد من صفات نبي آخر زمان في كتبهم لأن الآيات في مقام التذكير بنعم الله عز وجل , قال تعالى في خطاب للناس[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثاني: الأمر بوفاء العهد مع الله عز وجل.
الثالث: الوعد الكريم من الله عز وجل بالوفاء بالعهد والثواب على طاعته بالإقامة الدائمة في الجنة.
الرابع: لزوم الخشية والخوف من الله عز وجل.
الخامس: الأمر بالإيمان بنزول القرآن.
السادس: بيان صفة للقرآن وهي تصديقه للتوراة والإنجيل.
السابع: التحذير والإنذار من صيرورة بني إسرائيل أول كافر وجاحد بنزول القرآن من عند الله.
الثامن: النهي عن التفريط بالآيات ، وإختيار حب الدنيا وزينتها، وعن أبي العالية يقول(لا تكونوا أوّل من كفر بمحمد {ولا تشتروا بآياتي ثمناً} يقول: لا تأخذوا عليه أجراً . قال : وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علّم مجاناً كما علمت مجاناً)( ).
 ولكن معنى الآية أعم إذ جاءت بلغة الإنذار والتخويف , والشراء غير الأجر، لأن الأجر عوض وبدل عن جهد للبيان والتوضيح وبما يدل على إقرار بالآيات، وكان لكبرائهم مآكل من عامتهم في زروعهم فخشيوا إن أقروا بنزول القرآن ونبوة محمد ضياع الرياسة وتلك المآكل.
السادس: دلالة هذه الآيات على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، ونصرته بهذه الآيات وما فيها من الأوامر والنواهي، وشهادة الله عز وجل له بنزول القرآن، ولزوم إيمان الناس به.
السابع: لزوم الخشية والخوف من الله عز وجل، وإجتناب ما يوجب سخطه وغضبه، وفي قوله تعالى (فإياي فاتقون) حجة على بني إسرائيل بإقرارهم بالربوبية، وما يترتب عليها من وجوب طاعة الله، والإمتناع عما نهى عنه.
وقد فاز المسلمون والمسلمات بالتوجه إلى الله وسؤال السلامة والعصمة من منازل الذين سخط عليهم الله بالقراءة في الصلاة اليومية كل يوم[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( ).
الثامن: تأديب الناس وزجرهم عن خلط الحق والباطل، ومنعهم من تحريف ما جاء في الكتب السماوية، لقد أنعم الله عز وجل على أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل، وهداهم سبحانه لإتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وكل واحد منهما نبي رسول جاء بالحق والصدق من عند الله، فنزل قوله تعالى (وتكتموا الحق) للنهي عن إخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام التنزيل مع العلم بها, ولزوم إتباعه.
التاسع: الأمر الإلهي بإقامة الصلاة إذ تتقوم بها شرائع التوحيد، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل[وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( )، وفيه شاهد على عدم ترك الصلاة بأي حال من الأحوال كالمرض والسفر وسن الشيخوخة كفريضة بدنية تشهد على صدق الإيمان، وأداء الزكاة كفريضة مالية بإخراج الحق الشرعي عند توفر النصاب وهي فريضة لا تستلزم الجهد والعناء.
 وعن ابن عباس: أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها هي في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، ومن المنافقين من الأوس والخزرج)( ).
 ولكن الآيات أعم ليكون من إعجاز القرآن إبتداء بالثناء على المؤمنين، وترغيب الناس بالإسلام، وتقدم في الأجزاء السابقة الآيات الخاصة بخلق آدم وحواء , لتكون هناك دلالات في ترتيبه وصيرورته في بدايات نظم القرآن فيأتي الإنذار والوعيد للكفار، ثم قصة خلق آدم، لتكون بشارة وإنذاراً إضافيين .
ترى ما هي الأمور والمواضيع التي يكون القرآن فيها مصدقا لما مع بني إسرائيل بلحاظ هذه الآية والآيات التالية التي تتضمن الخطاب لبني إسرائيل والتي تصل إلى الآية الثالثة بعد المائة [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ]( )، الجواب على وجوه كثيرة تستلزم مجلدات , سنشير إليها في ثنايا الأجزاء , منها بلحاظ الآيات المجاورة :
الأول: الزجر عن السعي للعوض والبدل عن الآيات إذ يدل قوله تعالى[وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً]، بالدلالة التضمنية على تعاهد آيات التنزيل، وعدم تحريفها، والنفرة ممن يفرط فيها ويختار عنها عوضاً من حطام الدنيا من الجاه والمال.
الثاني: وجوب تقوى الله والخشية منه في السر والعلانية والتصديق بنزول القرآن وعدم التفريط بالآيات من تقوى الله، وبينهما عموم وخصوص مطلق، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: تقوى الله واجب.
الصغرى: التصديق بالقرآن من تقوى الله.
النتيجة: التصديق بالقرآن واجب.
الثالث: توجه الخطاب لبني إسرائيل على نحو الخصوص , وما فيه من معاني الإكرام وإن جاء بالأصل للإنذار والتخويف، فكما كانت التوراة والإنجيل يتوجهان بالخطاب لبني إسرائيل كذلك جاء القرآن، قال تعالى[وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]( ).
ومن قبل كان موسى عليه السلام، فبعد أن بيّن لفرعون أنه رسول الله طلب منه أن يترك بني إسرائيل يغادرون مصر بسلام، وفي التنزيل[فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
ولم يعلم فرعون والملأ من قومه ومستشاروه أن موسى أراد سلامة فرعون وعشرات الآلاف من جنوده من الغرق في أليم، ليكون هذا الطلب على وجوه:
الأول: فيه حجة عليهم في الدنيا والآخرة.
الثاني: هذا الطلب تأكيد بأن الأنبياء لا يبغون الأذى والضرر حتى لعدوهم.
الثالث: لم يسأل موسى عوضاً وبدلاً عن عناء وجهد أجيال بني إسرائيل في خدمة آل فرعون ، ولم يطلب أخذهم أمتعتهم معهم، بل سأل خروجهم وبمعيته لضمان أنهم لا يعتدون على أحد، ولا يسببون لفرعون وقومه المتاعب.
الرابع: آية البحث من وجوه تصديق القرآن للتوراة، وإخبار عن إتحاد السنخية في سنن الأنبياء وتقومها بالرحمة بالناس جميعاً.
الخامس: لم ينس موسى عليه السلام لفرعون يده في حضانته ونشأته، وفي التنزيل حكاية عن فرعون[أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ]( ) أي: أما أنت الذي ربيناه فينا ، وفي بيتنا وعلى فراشنا [وغذيناه] وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك؛ ولهذا قال: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: الجاحدين. قاله ابن عباس)( ).
وبدل أن يستجيب فرعون لطلب موسى أمر جنوده أن يأخذوه [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ]( )، فحمل الثعبان وهو حية كبيرة على الناس لتعديهم على مقام النبوة وإرادة الإجهاز على موسى قبل أن يكمل رسالته وإنهزموا منها(عَنِ ابن عَبَّاسٍ”فَأَلْقَى عَصَاهُ، فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فرعون، فَلَمَّا رَآهَا فرعون أَنَّهَا قَاصِدَةٌ إِلَيْهِ، خَافَهَا، فَاقْتَحَمَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِموسى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ، فَفَعَلَ”)( ) .
 وهذه الحية ثعبان ذكر، وعن السدي (فاتحة فمها لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سورة القصر ، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه ، فلما رآها ذعر منها ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك , وصاح : يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل . فأخذها موسى فصارت عصا)( )  .
وقد ردت يد فرعون إبراهيم عن سارة بآية من الله , فوفى لإبراهيم ووهب لسارة هاجر فكانت نبوة محمد بعد , وفي رد اليد هنا آية وإمهال لفرعون، وتذكير بسنة من قبله من الفراعنة في مثل هذه الواقعة , وهو من عمومات بعث فرعون للتذكر والخشية من الله، وتقديره : لعله يتذكر رد يد سلفه عن إبراهيم .
ومن الوعد الإلهي لموسى وهارون بأن الله عز وجل معهما في معرفتها ببطش فرعون، وعن ابن عباس قال : كان أول من صلب فرعون، وهو أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف)( ) .
 قال تعالى[فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى]( )، فإن قلت إن التذكر والخشية يترتبان على القول اللين وليس على ثعبان مبين، والجواب إن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره وإن القول اللين بداية كريمة للتذكر ودعوة للتدبر، وحجة على فرعون وقومه، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا بأن لايبدأوا القتال مع العدو بل يقومون بالإنذار والتذكير بلزوم عبادة الله وحده ونبذ الشرك. 
ومن نعم الله عز وجل على بني إسرائيل التي جاءت هذه الآيات لتذكيرهم بها وصيرورتها مصداقا لتصديق القرآن بالكتب السماوية : تكاثرهم السريع في مصر وما فيها من خيرات الأرض وبركات نهر النيل والزراعة.
وفي قوله تعالى[أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ] ( )، قال مقاتل: هو أبو جهل بسبب حديث جرى بينَه وبين الوليد بن المغيرة كانا يطوفان ليلة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له مه! وما دلك على ذلك!؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم أنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة واللات والعزى إن اتبعته أبدا فنزلتهذه الآية( ).
وعن ابن مسعود: إنما اشتري يوسف عليه السلام بعشرين درهماً، وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنساناً، رجالهم أنبياء، ونساؤهم صديقات، والله ما خرجوا مع موسى عليه السلام حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً)( ).
ورد عن ابن عباس: كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب (عليه السلام) دخل مصر في اثني وسبعين إنساناً فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف)( ) , ولم يذكر ابن عباس أنهم أنبياء.
الرابع: مجيء الكتب السماوية كلها بتقوى الله، وتتقوم النبوءات بهذا الأمر، وهو علة غائية للتنزيل ، إذ يأمر الأنبياء أنصارهم وأتباعهم بتقوى الله، والتحلي بالخصال الحميدة ومكارم الأخلاق خشية من الله، وعشقا لطاعته , وطمعاً في رضاه. 
 وفي عيسى عليه السلام ودعوته لبني إسرائيل، ورد قوله تعالى[وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( )، وفيه آية من عند الله وهي من وجوه تصديق عيسى بالتوراة أمره بتقوى الله وطاعته، ومن وجوه تلقي بشارته بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن الأمر بتقوى الله لم ينحصر ببني إسرائيل بل شمل الناس عامة والمسلمين خاصة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ]( )، كما ورد الأمر بتقوى الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ولزوم عدم الركون للظالمين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ).
وهو من الدلائل على عمومات الخطاب القرآني في قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( )، وفيه تأديب للمسلمين، وإرشاد لهم وإستحضار نعم الله عليهم، وإظهار أسمى معاني الشكر لله بالقول والفعل.
وإذا أنعم الله على بني إسرائيل فإنه سبحانه أتم نعمه على المسلمين، قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، وفي الجمع بين الآيتين أعلاه شاهد على تفضيل المسلمين على أهل الملل الأخرى، ودليل على أن قوله تعالى بخصوص بني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، إنما يتعلق بتفضيلهم على أهل زمانهم.
ومن وجوه التفضيل في المقام قيام المسلمين بتلاوة الآيات السماوية التي تدعو بني إسرائيل إلى ذكر نعم الله عز وجل عليهم، ولو قام بنو إسرائيل بدعوة المسلمين إلى ذكر نعم الله عليهم فهل يصح .
 الجواب نعم، ولكنه من أنفسهم وجدلاً وليس تنزيلاً، وهو من عمومات قوله تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ]( )، ويتصف بنو إسرائيل بالعمل بالتجارة، وكثرة الأموال التي في أيديهم والسبق إلى الإستثمار والربا في الميادين الإقتصادية المستحدثة، ولم يطلب منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأموال والهبات والأكلات الراتبة، وإذا إفترض من بعضهم حرص على إيفائه، فجاءهم بكتاب سماوي يأمرهم بتقوى الله. 
الخامس: بعث الله الأنبياء بالحق والصدق ، ومن معاني الحق التنزيل وآيات القرآن، فجاء القرآن بالتصديق بالتوراة والإنجيل ومنع طرو التحريف والزيادة أو النقيصة منهما.
لقد قام كل نبي بإظهار وكشف الحق وإبطال وفضح الباطل، وهو الذي جاء به القرآن , وتضمن الذم على إخفاء وستر الحقائق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: جاءت هذه الآيات بالنهي عن إخفاء الحقائق، وآيات التنزيل( )، ومن خصائص القرآن أنه حق , وأظهر الحق , وبيّن معالم الدين، ومضامين الكتب السماوية السابقة، ويدعو إلى الحق  بالحق , قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه تجلي الحق , والأعلان بصيغ الحكمة الحرب على كتمانه , من وجوه:
الأول: قوله تعالى (نزلنا) فكل تنزيل هو حق وصدق.
الثاني: تسمية القرآن بالكتاب.
الثالث: من بشارات الكتب السماوية السابقة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن من وجوه:
الأول: بالإسناد عن ابن سلام أنه كان يقول: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّا لَنَجِدُ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَحِرْزاً لِلأُمِّيِّينَ ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ ، وَلاَ صَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ ، وَلاَ يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَتَجَاوَزُ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمِلَّةَ الْمُتَعَوِّجَةَ بِأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، يَفْتَحُ بِهِ أَعْيُناً عُمْياً وَآذَاناً صُمًّا وَقُلُوباً غُلْفاً)( ).
الثاني: عن أبي صالح قال: قال كعب: نَجِدُ مَكْتُوباً : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لاَ فَظٌّ وَلاَ غَلِيظٌ، وَلاَ صَخَّابٌ بِالأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَأُمَّتُهُ الْحَــمَّادُونَ، يُكَبِّــرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، وَيَحْمَدُونَهُ فِى كُلِّ مَنْزِلَةٍ، يَتَأَزَّرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ، وَيَتَوَضَّأُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِى فِى جَوِّ السَّمَاءِ، صَفُّهُمْ فِى الْقِتَالِ وَصَفُّهُمْ فِى الصَّلاَةِ سَوَاءٌ، لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِىٌّ كَدَوِىِّ النَّحْلِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجِرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ)( ).
وفي رواية أخرى: وَفِى السَّطْرِ الثَّانِى : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِى كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَيُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، رُعَاةُ الشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلاَةَ إِذَا جَاءَ وَقْتُهَا، وَلَوْ كَانُوا عَلَى رَأْسِ كُنَاسَةٍ وَيَأْتَزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، وَيُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ، وَأَصْوَاتُهُمْ بِاللَّيْلِ فِى جَوِّ السَّمَاءِ كَأَصْوَاتِ النَّحْلِ)( ).
الثالث: عن أبي فروة عن ابن عباس: أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبَ الأَحْبَارِ : كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى التَّوْرَاةِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ : نَجِدُهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُولَدُ بِمَكَّةَ ، وَيُهَاجِرُ إِلَى طَابَةَ ، وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ ، وَلَيْسَ بِفَحَّاشٍ وَلاَ صَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ ، وَلاَ يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِى كُلِّ سَرَّاءٍ ، وَيُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ نَجْدٍ يُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ ، وَيَأْتَزِرُونَ فِى أَوْسَاطِهِمْ ، يَصُفُّونَ فِى صَلاَتِهِمْ كَمَا يَصُفُّونَ فِى قِتَالِهِمْ ، دَوِيُّهُمْ فِى مَسَاجِدِهِمْ كَدَوِىِّ النَّحْلِ ، يُسْمَعُ مُنَادِيهِمْ فِى جَوِّ السَّمَاءِ)( ).
إعجاز الآية
في الآية أمر ووعيد ونهي وتحذير ودعوة للإيمان، وتأكيد لنزول القرآن من عند الله تعالى.
وتتضمن الآية الإخبار عن إعجاز القرآن ، والملازمة بين تنزيله والإيمان به، وما يجب على بني إسرائيل فعله، فالآية مدرسة في التأديب وتعيين للعقائد التي يجب ان يكون عليها الناس.
وتبين الآية موضوعية التصديق بنزول القرآن في الإيمان، لقد أنزل الله تعالى القرآن ليؤمن به الناس ويعملوا بأحكامه، ومن اللطف الإلهي في التنزيل أن الكتب السماوية المنزلة بعضها يصدق بعضاً، فحينما أمر الله تعالى بهبوط آدم وحواء وإبليس , قال سبحانه [اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ] ( )، فانه سبحانه جعل التنزيل رحمة ونجاة من هذه العداوة، وجعل كل كتاب سماوي يصدق الآخر ليكون هذا التصديق وسيلة للإيمان بالتنزيل مطلقاً، والإحتراز من إبليس وعداوته.
 ويمكن تسمية  هذه الآية الكريمة بآية (وآمنوا بما أنزلت) ولم يرد في القرآن لفظ (أنزلت) وكذا لفظ (أول كافر) ولفظ (إياي فاتقون) إلا في هذه الآية الكريمة، وهو من أفراد ومصاديق إعجاز هذه الآية الكريمة، ومافيها من الدروس والعبر ووجوه الحكمة، ولبيان أن نزول القرآن  برزخ وفيصل بين التقوى والكفر، فالقرآن هو الحجة البالغة، وبالتصديق  يعرف المتقون، وتتجلى حقيقة وهي أن إنكار نزوله، والجحود بأحكامه كفر وضلالة.
الآية سلاح
تعتبر الآية سلاحاً للمؤمنين بأن لا يرضوا من الآخرين إلا الإيمان والتصديق بالرسالة لأنها مطابقة لما جاءت به التوراة والإنجيل.
ولا ينحصر الإنتفاع من هذه الآية بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً، وبني إسرائيل خاصة، وهي نعمة على بني إسرائيل ودليل إكرامهم في القرآن بإفرادهم بالأمر بالإيمان , وفيه حجة عليهم لأنهم مشمولون أيضاً بالخطاب العام للناس جميعاً بوجوب الإيمان بالقرآن والتنزيل، وليروا كيف أن كثيراً من أهل الملل والنحل يدخلون الدين أفواجاً وليس لهم خطاب خاص في القرآن، ولا عندهم كتاب من قبل يبشر ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وجاء القرآن مصدقاً له، بل رأوا المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآمنوا بصدق التنزيل، وملائمته للفطرة وإدراك العقل، فبادروا إلى الإسلام، وحرصوا على أداء الواجبات والفرائض.
 وكان الخطاب الخاص لبني إسرائيل حجة لهؤلاء في صدودهم وإعراضهم عن الشبهات التي يثيرها بعضهم حول نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية مدح للمسلمين لأنهم آمنوا بالقرآن، ودعوة للتفقه في الدين ومعرفة ما في القرآن من الأحكام.
مفهوم الآية 
الآية تنبيه للمسلمين وحث لهم على عدم التفريط بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة لهم للإرتقاء في منازل التقوى، وتخفيف عنهم لأن الآية تتولى الإحتجاج على بني إسرائيل وتذكيرهم بوظائفهم، وهي توثيق سماوي، ودليل نقلي على نزول القرآن من عند الله تعالى.
والآية من جوامع الكلم، ومع قلة كلماتها، فانها تتضمن الأوامر والنواهي المتعددة وهي:
الأول: توجيه الخطاب إلى بني إسرائيل على نحو الخصوص وهو حجة عليهم. 
الثاني: لغة الخطاب وإن جاءت خاصة في الآيات فانها عامة لكل الناس لاسيما وان نعم الله تعالى تترى على الناس جميعاً ، وجاء القرآن دعوة سماوية للأمم والملل كافة.
الثالث : الأمر بالإيمان والتسليم بالتنزيل على نحو الإطلاق ليشمل التوراة والإنجيل والقرآن وكل الكتب السماوية، لأن مدار التصديق على التنزيل ولكن قيد (مصدقاً) يجعله ينصرف الى القرآن، وبقرينة زمان التنزيل والأمر بالإيمان به، نعم نزل الإنجيل بعد التوراة والواجب يقتضي إيمانهم به، ولكن قيد (به) الوارد في الآية يجعل الأمر ينصرف إلى القرآن على نحو القضية الشخصية لأنه الكتاب الجامع للأحكام.
وهل يمكن إعتبار الواو في (ولا تكونوا) استئنافية وليست عاطفة , بمعنى أن أول الآية يتعلق بالإيمان بكل الكتب، اما الضمير في (به) فيتعلق بالقرآن، هذا بعيد وخلاف قواعد اللغة، لأن الضمير يعود الى ما قبله . 
فالضمير الهاء في قوله تعالى (به) يتعلق بالاسم الموصول (ما) في قوله تعالى (وآمنوا بما)، والمراد به القرآن بالإضافة إلى قرينة في الآية وهي وصفه بانه مصدق لما معهم أي التوراة والإنجيل، مما يدل على التعدد والغيرية بين المصدِق بالكسر والمصدَق بالفتح. 
الرابع: من الآيات أن القرآن نزل، وشاهده سابق زماناً عليه، وهذا الشاهد سماوي محض مما يدل على تثبيته وتأكيده ونفي الشك فيه.
والآية جاءت بتصديق القرآن للكتب السابقة، لتدل على علو رتبة القرآن وأن الكتب الأخرى تحتاج إلى تصديقه وتوثيقه.
الخامس: في الآية تحد لبني إسرائيل وغيرهم، فاذا كان القرآن مصدقاً لغيره من الكتب فلا بد أنه يمتلك الأهلية للشهادة والتصديق وان يكون معروفاً غير مجهول الحال، معروفاً بأنه نازل من عند الله تعالى، وهذا من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، الذاتي في إثبات أهليته لتصديق غيره، وأما الغيري فالنفع العظيم للقرآن في إثبات وتأكيد نزول الكتب السابقة من عند الله تعالى وبركات هذا الإثبات في حفظ تلك الكتب.
السادس: تبعث الآية العز عند بني إسرائيل بشهادة القرآن بنزول التوراة من عند الله، وتجعلهم يمتازون هم والنصارى على غيرهم من الملل والأمم بفضل وبركة القرآن ، وهذا العز متزلزل ، لأنها تحملهم مسؤولية عظيمة هي الإيمان والتصديق بالقرآن لوحدة الموضوع في تنقيح المناط بل بالأولوية القطعية.
السابع: تحذر الآية من المبادرة إلى الجحود والكفر بالقرآن ، وعنوان (أول كافر) يمكن ان ينحل بعدد آنات المكان والزمان، ففي كل بلد تتوجه الآية بالتحذير إلى كل فرد من أهله بان لا يكون أول كافر به وكذا في القبائل والأزمنة كي لا يتحمل أول كافر وزر جحوده وأوزار غيره ممن يتبعه ويلحق به ويقلده ويحاكيه في فعله، وإذا إنعدم الأول والسابق، إنعدم الثاني واللاحق.
الثامن:  لا ينحصر الإيمان بالقلب والجوانح فلابد من إظهار التقوى، لأن المدار على الإيمان بالله تعالى إلهاً ورباً وخالقاً والإمتثال لأوامره وأحكامه، فالكتاب نازل من عند الله، وهو الذي تفضل وبعث الأنبياء للتبليغ والهداية لسبل عبادته تعالى.
 فمن الإعجاز في الآية انها لم تقف عند الإيمان بالقرآن لدفع وهم، وللمنع من الشك والريب والجدال بالباطل والمغالطة بل ختمت بالتأكيد على تقوى الله، ومن التقوى الإيمان بالتنزيل.
التاسع: إن كل ما سوى الآيات مما يجعل ثمناً لها هو بخس قليل ولا إعتبار له، وهو عرض زائل، فلا يبقى للإنسان إلا عمله الصالح الذي يقوده إلى الجنة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توجه الخطاب لبني إسرائيل.
الثانية: دعوة بني إسرائيل للإيمان بنزول القرآن من عند الله.
الثالثة: توكيد نزول القرآن من عند الله.
الرابعة: ذكر صفة من صفات القرآن، وهي تصديق القرآن بالتوراة  والإنجيل ونزولهما من عند الله.
الخامسة: تحذير وإنذار بني إسرائيل من الجحود بالقرآن.
السادسة: زجر اليهود ومنعهم من الإعراض عن آيات القرآن، وترك الأخذ بها حباً لمتاع الدنيا.
السابعة: توكيد لزوم الخشية من الله، والحرص على التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية.
وصحيح أن الآية جاءت خطاباً لبني إسرائيل إلا أنها موجهة للناس جميعاً، بلحاظ ما فيها من التكاليف والنواهي، وتقدير بداية الآية (يا أيها الناس آمنوا بما أنزلت) أي أن الإيمان بنزول القرآن من عند الله والعمل بأحكامه لاينحصر بأهل الكتاب .
 نعم تذكير الآية لأهل الكتاب بأن القرآن مصدق لما معهم من الكتاب شاهد على إختصاص الخطاب بهم، وموضوعه أيضاً عام وتقديرعموم الآية بخصوص التصديق بالكتب (ياايها الناس آمنوا بماأنزلت مصدقاً لما مع بني إسرائيل) .
ليكون التخصيص في الخطاب لبني إسرائيل شاهد الأولوية، ودليل قيام الحجة عليهم عند إعراضهم عن مضامينها القدسية، وفيه مسائل:
الأولى: توجه الخطاب الخاص للناس جميعاً في مفهومه ودلالاته.
الثانية: دعوة الناس للإحتجاج على بني إسرائيل في أسباب عدم تصديقهم بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات وأسباب الإحتجاج هذا المعجزات التي جاء بها وذخائر القرآن العلمية و وما فيه من الآيات البلاغية والعقائدية والكلامية وعلوم الغيب والتي تبعث على الإيمان بها بذاتها من غير حاجة إلى تصديق أهل الكتاب بالقرآن.
الثالثة: القرآن بذاته حجة وبرهان كاف للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ] دعوة للناس جميعاً من وجوه:
الأول: إجتناب الكفر مطلقاً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: عدم المبادرة للجحود والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، فاذا جاء داعي للإسلام إلى قبيلة أو قرية فيجب أن لا يستقبلوه بالكفر والجحود بل لابد من الإنصات له ولدعوته، وماعنده من الحجة التي تندب الناس للإيمان.
الثالث: إجتناب إتباع من يكفر بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب أو من غيرهم، فعندما يسمع إنسان بالتحذير من السبق في الكفر فانه يتجنب أن يكون سابقاً للناس في كفره وضلالته.
الرابع:مجئ آيات القرآن بالإنذار من الكفر وسوء عاقبته،والضرر الذي يلحق صاحبه، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( ).
الخامس:  تقوى الله والتقيد بالأحكام والسنن التي جاءت في التنزيل وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين وظيفة كل مكلف ومكلفة، وهي من أهم مصاديق التقوى , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
السادس: ما في هذه الآية من الأوامر والنواهي رحمة ورأفة ببني إسرائيل والناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( )، إن قوله تعالى[وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً] خاص في منطوقه ببني إسرائيل لأنهم أصحاب كتاب وعندهم البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه في مفهومه خطاب وبلاغ وبلغة للناس جميعاً.
لقد قيدت الآية الثمن المنهي عنه في شراء الآيات بانه قليل بقوله تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً] ويحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة العموم وشمول الثمن الكثير أيضاً.
الثاني: بيان حقيقة ثابتة وهي أي ثمن مهما بلغ لا يعادل آية واحدة من عند الله، ليكون القرآن أعظم كنز وثروة بيد الناس , فان قلت إن الناس يريدون المال والزاد ووسيلة النقل وأسباب السكن والعيش الرغيد، والجواب من جهات:
الأولى: لا تتعارض هذه الغايات مع التصديق بالقرآن بل جاء القرآن بالحث على الكسب والسعي والتمتع بالدنيا , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا]( ).
الثانية: التصديق بنزول القرآن من عند الله باب كريم للرزق ونزول النعم من عند الله.
الثالثة: بشارة الثواب العظيم والجزاء الحسن والمتصل من عند الله لمن صدّق بالقرآن وعمل بسنن وأحكامه , قال تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ]( ).
الثالث: نزول القرآن للإيمان والتصديق به على نحو الوجوب الإستغراقي الشامل للناس جميعاً.
 ولا تعارض بين الوجوه الثلاثة أعلاه إذ أن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، ويحرم التفريق بين آيات الله في المقام وليس لها ثمن.
 وجاء وصف الثمن بأنه قليل بالقياس إلى المنافع العظيمة التي ينالها المؤمنون في الدنيا والآخرة، وفيه دعوة للناس للنفرة من الكفر والتفريط بالآيات، والزهد بالثمن الدنيوي والمتاع القليل بذاته.
الآية لطف
جاء النداء في الآية لبني إسرائيل رحمة بهم، ونعمة إضافية عليهم، وشاهداً على فضل الله عليهم، ولا ينحصر اللطف الإلهي في المقام باليهود بل هو شامل للناس جميعاً من وجوه:
الأول: انه لطف بالمسلمين لما فيه من بيان صحة إختيارهم وسلامة فعلهم.
الثاني: دعوة أهل الكتاب مطلقاً للتصديق بالقرآن لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، إذ جاء ذكر بني إسرائيل على نحو الخصوص لما عندهم من التوراة.
الثالث: لطف ورحمة بالناس جميعاً لما في الآية من الحجة عليهم ودعوتهم للإسلام من باب الأولوية القطعية.
الرابع: الآية دليل على عدم وجود تزاحم أو تعارض بين القرآن من جهة والتوراة والإنجيل من جهة أخرى، وهو شاهد على إتحاد سنخية الكتب المنزلة وانها من عند الله تعالى.
وجاءت الآية بلغة الإنذار والتخويف لبني إسرائيل وبواسطتهم للناس كافة، لقبح التخلف عن التصديق بالقرآن، وعدم جواز الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية لطف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإكرامه وإعانته بحث وندب أهل الكتاب إلى التصديق به وإتباعه ونصرته.
إفاضات الآية
تبين الآية قدسية القرآن وما له من الوظائف العامة في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وهو مائدة السماء التي تضع نفسها بين يدي كل مكلف ومكلفة وتدعوهما للنهل منها، والإغتراف مما فيها من العلوم والكنوز والذخائر، لقد أنزل الله تعالى القرآن ليؤمن به الناس كافة، وتوجه الخطاب لبني إسرائيل من مصاديق تفضيلهم وحجة عليهم.
 وهل يمكن ان يؤثر صدود بني إٍسرائيل عن هذا التفضيل بجحودهم سلباً على باقي الناس فيقول فريق من الناس إذا كان الذين يتوجه لهم الخطاب بالإيمان والتصديق بالقرآن يجحدون به، فمن باب الأولوية أن نجحد نحن به ، الجواب لا، من وجوه:
الأول:ورود آيات عديدة بدعوة الناس كافة للتصديق بالقرآن، ونزوله من عند الله عزوجل.
الثاني: جاء الأمر لبني إسرائيل بالتصديق بالقرآن حجة عليهم.
الثالث: إيمان فريق من الناس بالقرآن وعدم إلتفاتهم إلى جحود بني إسرائيل، بل ان جحود بني إسرائيل يجعلهم يبادرون إلى الإسلام، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] ( ).
الرابع: تدعو الآية الناس للإحتجاج على بني إسرائيل إذا كان القرآن مصدقاً لما معكم فلماذا لم تؤمنوا به، ومن الآيات انهم لم ينكروا هذا التصديق.
     وتبين الآية اللطف الإلهي ببني إسٍرائيل والتخفيف عنهم، من وجوه:
الأول: دعوتهم للإيمان بالتنزيل.
الثاني: جعل الإيمان بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمراً خاصاً بين الله تعالى وبين بني إٍسرائيل ، وموضوعه هو التنزيل، فما أنزله الله تعالى لابد من الإيمان به.
الثالث: الإخبار بان نزول القرآن للناس جميعاً ومنهم بنو إسرائيل.
وتنهى الآية بني إٍسرائيل عن أن يكونوا أشد الناس جحوداً، ولو تساوى إثنان بنفس المرتبة من الجحود بالقرآن، أحدهما مشرك والآخر من بني إسرائيل، فقد يكون إثم وذنب الإسرائيلي أكثر من الآخر، لموضوعية التوراة والإنجيل ونزولهما من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَوَّلَ كَافِرٍ] بلحاظ المعنى الأعم للأول.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يبقى منهجاً وضياءً وإماماً للمؤمنين إلى يوم القيامة، وجاءت الآية في الحث على الإيمان به، وفي الآية إشارة إلى النسخ في التنزيل مع وجود صلة بين الناسخ والمنسوخ وهي تصديق الكتاب اللاحق بالسابق، مع ان الكتب السماوية كلها آيات من عند الله لذا جاءت خاتمة الآية بالنهي عن الإعراض عن آيات الله لقاء الدنيا وزينتها.
 فمن آيات الله تعالى ما ورد في التوراة والإنجيل من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتدل الآية في مفهومها على لزوم إستحضارها بإعتبارها مقدمة وشاهداً على صدق نزول القرآن من عند الله، وتبعث الآية في القلوب الشوق إلى الإيمان، وتطرد عنها الموانع العرضية التي يجعلها أهل الشك والريبة والحسد.
الصلة بين أول وآخر الآية
مع أن مضامين هذه الآية معطوفة على الآية السابقة فانها إبتدأت بالأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالإيمان، والأصل أن يكون الأمر بالإيمان في أول الأوامر لإبتناء العقائد والأفعال والنوايا عليه، والجواب إن الإيمان المذكور في هذه الآية خاص ويتعلق بالتصديق بالقرآن لذا جاء وصفه بأنه مصدق لما مع بني إسرائيل مما يدل على مخاطبة أهل الكتاب بمعهود سابق بينهم وبين الله، وأنهم من أهل الكتاب والتنزيل، وفيه توكيد وتذكير بالنعم، وهو من وجوه تفضيلهم على الناس، فغيرهم نزل لهم القرآن وليس معهم كتاب كما في مشركي العرب , فبادر شطر منهم للإيمان بنزوله من الله عز وجل وليكون من باب الأولوية تلقي أهل الكتاب له بالتصديق.
وتفضيل بني إسرائيل في المقام من وجوه:
الأول: وجود كتب سماوية سابقة عندهم وهي الزبور والتوراة والإنجيل.
الثاني:  من خصائص الكتب السماوية السابقة البشارة بالقرآن ، والدعوة الى التصديق به.
الثالث: فضل الله تعالى ببعثة الأنبياء منهم، وقيام الأنبياء بدعوتهم إلى الإسلام، وإلى التصديق بنبوة خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع: تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
الخامس: بقاء مضامين التوراة والإنجيل عند بني إسرائيل إذ أن التحريف لم يأت على مضامينها كلها، ليكون ما في أيديهم من التوراة والإنجيل حجة عليهم.
السادس: يكون الكتاب الذين عند بني إسرائيل عوناً وداعيا لهم في دخول الإسلام، لانه يتضمن البشارة بنزول القرآن، ولزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت الآية بصيغة الجمع (آمنوا) ويحتمل وجوها :
الأول: إيمان عموم بني إسرائيل.
الثاني: إرادة الأحبار والعلماء منهم . 
الثالث: إنحلال الأمر الإلهي بعدد بني إسرائيل، وتقديره لكل فرد منهم ذكراً أو أنثى (آمن بما أنزلت مصدقاً لما معكم).
      ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ يتوجه الخطاب التكليفي إلى بني إسرائيل على نحو العموم المجموعي والعموم الإستغراقي، ليقوم كل فرد منهم بوظيفته الشرعية والعقائدية، وهي التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسعى بجهد شخصي في طرق الهداية، وتنهض الجماعة والطائفة والفرقة والملأ منهم بوظائف الإيمان والإمتثال للأوامر الإلهية، بعد تجلي المصداق العملي لبشارة التوراة والإنجيل.
وجاءت هذه الآية بأمرين ونهيين، أما الأمران فهما:
الأول: الإيمان بنزول القرآن من عندالله بقوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ].
الثاني: خشية الله في السر والعلانية، بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]. 
وأما النهي فجاء بوجهين:
الأول: الزجر عن الكفر والجحود بنزول القرآن من عند الله، وإنذار بني إسرائيل من أن يكونوا أول كافر بالقرآن من بين الأمم.
الثاني: إجتناب إختيار زينة  الدنيا وإتباع الهوى على وجوب التصديق بنزول القرآن.
لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] وأختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]، ليكون الإيمان بنزول القرآن من عند الله من ضروب الخوف والخشية من الله تعالى، وهو من مصاديق تفضيل بني إسرائيل لما فيه من اللطف والعناية  بهم بتعدد صيغ التحذير، وان كان مضمون اللطف في الآية لا ينحصر ببني إسرائيل بل يشمل غيرهم من وجوه:
الأول: الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واجب على كل إنسان ذكراً أو أنثى ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني: يشمل الخطاب في هذه الآية غير بني إسرائيل بالتبعية والإلحاق.
الثالث: وجوب عبادة الله تعالى، وقد تقدم قول الله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] ( )، ومن وجوه العبادة التصديق بالرسل والكتب السماوية المنزلة.
لقد أراد الله تعالى تقريب بني إسرائيل إلى الطاعة بالإخبار عن نزول القرآن من عنده تعالى، وتكون الآية وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: كل  ما أنزل الله تعالى يجب الإيمان به.
الصغرى: القرآن نازل من عند الله.
النتيجة: يجب الإيمان بالقرآن.
إن الإيمان بالله هو الأصل ويتفرع عنه على نحو الوجوب التعبدي الإيمان بالرسل والكتب السماوية المنزلة، والتصديق بنزول القرآن مطلوب بذاته وهو وسيلة وطريق للإمتثال بما فيه من الأوامر والنواهي.
لذا جاءت هذه الآية بخصوص الإيمان بالقرآن ونزوله من السماء إلى الأرض وهذا التنزيل آية من عند الله، وفيه حجة على الناس، ولزوم تلقي التنزيل بالرضا والقبول والتسليم.
 ومن الإعجاز ومفاهيم الصدق والحق في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه دعا اليهود للتحاكم الى التوراة كما سيأتي في أسباب نزول قوله تعالى [الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وجاء الأمر الإلهي بالإيمان مركباً من وجوه:
الأول: الإيمان بالقرآن وأنه كتاب الله.
الثاني: نزول القرآن من عند الله.
الثالث: القرآن مصدق لما مع بني إسرائيل.
وهذا التعدد تخفيف ورحمة ببني إسرائيل، ودعوة إضافية لهم للإيمان، فكل وجه من هذه الوجوه على وجوه :
الأول: إنه حجة دامغة وشاهد سماوي على إستدامة الصلة بين الله جل علاه والناس  وبركات تعليم الله عز وجل لآدم بقوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، فلا تنقضي منافعه إلى القيامة.
الثاني: تحد الذين يجحدون بالتنزيل.
الثالث:  إنه دليل على أن القرآن إمام بذاته، وبرهانه مانع من اللبس والترديد، فما يترشح عن الإحتجاج والجدال بغير حق المغالطة ومحاولة تغليط الطرف الآخر، والإتيان بمسائل شبيهة بالحق وليست منه، بغية الخلط والإيهام، ولكن هذا الأمر ممتنع ومتعذر في مواجهة القرآن لما فيه من اليقينيات وما يسمى بالتبكيت البرهاني.
فجاءت هذه الآية حجة من وجوهها الثلاثة:
الأول: القرآن كتاب الله.
الثاني: إنه فرقان نازل من السماء.
الثالث: إنه مصدق لما مع بني إسرائيل من الكتب السماوية السابقة، وما فيها من البشارات ليمنع من المغالطة.
والقرآن لم يتجه صوب مقابلة المغالطة بمثلها بل تأتي بلغة الإنذار والوعيد على الكفر والجحود رحمة بالناس عامة ، ومنهم أهل الشك والريب والمغالطة.
وتأتي المغالطة من أعداء القرآن فتكون مفضوحة ولا تستمر كثيراً في ذاتها وأثرها، بينما تبقى دعوة الآية القرآنية إلى الإيمان مفتوحة وموجهة إلى الأجيال المتعاقبة من الناس جميعاً، وتأتي دعوة الآية القرآنية بصيغ متعددة منها:
الأول: الأوامر الإلهية.
الثاني: لغة الجملة الخبرية التي تدل على وجوب الإيمان بالله.
الثالث: الأمر بالإيمان بالرسل والكتب السماوية.
الرابع: الأمر بالتصديق بالقرآن ونزوله من عند الله تعالى.
الخامس: النواهي القرآنية والزجر عن فعل القبيح.
السادس: الإعجاز القرآني، وما يعنيه من مضامين الحجة والبرهان.
السابع: الخطابات الخاصة كما في هذه الآية إذ أنها تخاطب بني إسرائيل، ولكنها أعم في موضوعها.
الثامن: لغة البشارات وما أعد الله تعالى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات من النعيم الدائم.
التاسع: الوعيد بالنار للكافرين والجاحدين.
العاشر: آيات الجزاء الشاملة لكل الناس بالإخبار بصيغة القطع عن يوم القيامة، وما فيه من الحساب والجزاء بلحاظ أعمال الناس في الدنيا، قال تعالى [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ] ( ).
الحادي عشر: الدلالة على الآيات الكونية، وبديع صنع الله، وإتخاذها سبباً وعلة للإيمان، لما فيها من الشواهد العقلية والحسية التي تؤكد وجوب عبادة الله.
الثاني عشر: تفضل الله تعالى بانزال الكتب السماوية ، وما فيها من أحكام الحلال والحرام.
الثالث عشر: حاجة الناس لرحمة الله تعالى في إستدامة الحياة والرزق وأسباب المعيشة، ومن الآيات أن الإنسان يدرك هذه الحاجة بعقله وحواسه، ويشعر بالضعف والقصور والعجز عن نيل ما يبغيه ويرجوه.
 وتبدد عنده الأيام والمشاق الآمال والأوهام، ليأتي القرآن ويجعل الإنسان يعيش في سعادة تامة بالإيمان، فمتى ما إمتلأ قلب المسلم بالإيمان فانه لا يرجع إلا لله تعالى، ويعيش أبهى الآمال بالفوز بدار الجنة والرضوان.
ووصفت الآية القرآن بانه مصدق لما مع بني إسرائيل بقوله تعالى [مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ] . والصلة بين هذا الوصف وأول الآية من وجوه:
الأول: إستمرار توجه الخطاب في الآية إلى بني إسرائيل.
الثاني: الإخبار السماوي عن آية وعلامة في القرآن وهي تصديقه للكتب السماوية السابقة.
الثالث: بيان فضل الله تعالى على بني إسرائيل وأنه سبحانه لم يتركهم من دون كتاب سماوي بل تفضل عليهم بكتاب سابق عندهم ثم مجئ القرآن، فقد يظن بعضهم بكفاية ما ورثوه من التوراة والإنجيل، فإبتدأت هذه الآية بالأمر الإلهي بالإيمان بنزول القرآن من عند الله قبل أن تخبر عن كونه مصدقاً لما في أيدي بني إسرائيل.
 ومن الإعجاز في الآية أن وجوب الإيمان لا ينحصر بالتنزيل، بل يتضمن الإيمان بذات القرآن، مما يعني لزوم العمل بأحكامه وما فيه من الأوامر والنواهي.
الرابع: النهي العام عن التخلف عن الإيمان بالقرآن.
الخامس: التخفيف عن اليهود والنصارى في موضوع التصديق بالقرآن بان يكون تصديقه للتوراة والإنجيل عوناً لهم في الإيمان به.
السادس: الإخبار عن تصديق القرآن للتوراة والإنجيل توكيد لوجوب الإيمان بالقرآن ونزوله من عند الله والعمل بأحكامه وسننه، فمن إعجاز الآية أن يأتي وسطها لتوكيد أولها، وهذا التوكيد عون لهم لدخول الإسلام، وحجة على الذي يصر على الجحود منهم، ويتخلف عن الإيمان.
السابع: دعوة بني إسرائيل إلى الرجوع إلى التوراة، والتدبر في الصلة بينها وبين القرآن، ووجوه تصديق أحدهما للثاني.
الثامن: من وجوه التصديق هو المصداق الخارجي للأمر , فجاءت التوراة بالبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن، ليكون القرآن هو المصداق العملي لتلك البشارة، وهو أفضل وأسمى وجوه التصديق، وفيه بيان لتفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، وتفضيلهم بهذا الخطاب ليكون إمتحاناًَ لهم إذ جعل الله تعالى الدنيا دار إبتلاء وإختبار ، ومن وجوه الإمتحان في المقام دعوة بني إسرائيل لتعاهد التفضيل على الناس، بتصديقهم بنزول القرآن ودخولهم الإسلام.
 ومراتب تفضيل بني إسرائيل على وجوه ثلاثة:
الأول: تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم , قال تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني: مجئ هذه الآية بتفضيل بني إسرائيل بخصهم وذكرهم في الخطاب فلم تقل الآية (يا بني إبراهيم) أو (يا بني إسحاق) مع ان هذين  الخطابين يشملانهم، بل ذكرتهم الآية على نحو التعيين والحصر، وهو تفضيل لهم من بين الأمم.
الثالث: المبادرة إلى دخول الإسلام وهو أسمى معاني التفضيل لأن تفضيل المسلمين على غيرهم أمر ثابت لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وخير أفعل تفضيل، فالفضل فيها ليس فقط بالنعم بل بالنعم ومقابلتهم لها بالشكر لله، والتصديق بالتنزيل والإمتثال للأوامر الألهية، وأداء الفرائض والواجبات.
 فجاءت هذه الآية ليتعاهد بنو إسرائيل تفضيلهم، ولا يكون هذا التعاهد إلا بالإنتماء لخير أمة على نحو الحصر، إذ ان القرآن قسّم الناس فيها إلى قسمين:
الأول: خير أمة.
الثاني: عموم الناس الذين أخرج لهم المسلمون.
فمن شاء تعاهد التفضيل، أو نيل مرتبة التفضيل إبتداء فعليه بدخول الإسلام، وهذا من مصاديق (خير أمة) ، وشرف بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وانه سيد المرسلين من وجوه:
الأول: إنفتاح باب التفضيل بنبوته للناس جميعاً بدخولهم الإسلام، لذا جاء الخطاب والدعوة للإسلام للناس كافة.
الثاني: دعوة أهل الكتاب لتعاهد تفضيلهم.
الثالث: بيان علو شأن ومرتبة التفضيل التي فاز بها المسلمون بكونهم (خير أمة)، ولم يرد هذا اللفظ إلا في المسلمين وهو إكرام إضافي لهم.
الرابع: عدم وجود الحاجب والبرزخ الذي يمنع دخول الناس إلى الإسلام، لذا فان  الخطاب في الآية الكريمة دعوة من الله تعالى إلى بني إسرائيل للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ودخول الإسلام ولا يقدر أحد من البشر ان يمنعهم من دخول الإسلام، أو يصدهم عن الإمتثال للأمر الإلهي الوارد في هذه الآية .
ومن مصاديق[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )،أن الله تعالى جعل المسلمين يتلون الآية محل البحث لتذكير بني إسرائيل بما يجب عليهم من التصديق بالقرآن.
وجاءت الآية بالإنذار والتحذير لبني إسرائيل بأن لا يكونوا أول كافر بالقرآن، وجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد كفر الملأ من قريش بنزول القرآن إذ كان أول نزوله في مكة، ومع هذا جاء التحذير لبني إسرائيل في هذه الآية بأن لايكونوا أول كافر بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه مسائل:
الأولى: لو أن كل قوم وأمة تتجنب أن تكون أول كافر بنزول القرآن، فلن يحصل كفر به.
الثانية: إذا رأى  الناس بني إسرائيل يمتنعون عن الكفر بالقرآن فانهم يحرصون على إجتناب الكفر به.
الثالثة: كانت قريش تسأل يهود المدينة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  باعتبار أنهم أصحاب كتاب، لذا فان الآية تدل بالدلالة التضمنية على تحذير اليهود من تحمل أعباء وآثام جحود المشركين بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذين يجحدون إتباعاً لبني إسرائيل.
الرابعة: تتضمن الآية إخبار بني إسرائيل بان قوماً وأناساً سيتبعونهم في إختيارهم الإيمان أو الجحود بالقرآن , فاذا إختاروا الكفر والجحود بالقرآن فيصدق عليهم أنهم أول كافر، باعتبارهم متبوعين , وجاءت هذه الآية لتمنع الناس من إتباع بني إسرائيل إذا إختاروا الكفر والجحود، وتلك آية وسر إعجازي في الأوامر والنواهي القرآنية، فيأتي الأمر الى قوم أو أمة ولكنه يشمل غيرهم من وجوه:
الأول: بالتبعية والإلحاق.
الثاني: مناسبة الحكم والموضوع.
الثالث: وحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الرابع: الإعتبار والإتعاظ.
الخامس: ما في الأوامر والنواهي القرآنية من الحجة البالغة.
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة ويترشح أثرها على جميع الناس، فصحيح أن الخطاب فيها جاء  لبني إسرائيل ولكنها عامة في موضوعها وحكمها، وكل أمة مدعوة ان لا تكون أول كافر به، وان كفر به بنو إسرائيل أو غيرهم , فان الآية تحذر الناس من الإقتداء بهم وبمن يجحد بالقرآن ونزوله.
 ومن الآيات وجود المستجيب والممتثل المتعدد زمانا ومكانا للأمر الإلهي، فلابد من وجود جماعة وقوم من بني إسرائيل يؤمنون بنزول القرآن من عند الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ليكونوا أسوة للناس، وشاهداً على إيمان جماعة من بني إسرائيل، وقد أسلم عبد الله بن سلام وأخوه وغيرهما.
وتبعث الآية الفزع والخوف  في قلوب الناس من الكفر بالقرآن، والإقتداء بمن يكفر به، ترى لماذا جاء النهي عن الإبتداء بالكفر بالتنزيل , فيه مسائل:
الأولى: تحذر الآية من المبادرة الى الكفر بالقرآن.
الثانية: تدعو الآية الى التدبر في معاني وأسرار الآيات القرآنية.
الثالثة: تبعث الآية في النفوس النفرة من الذي يبادر إلى التكذيب والجحود بنزول القرآن من عند الله , وجاء القرآن بتحذير المسلمين منهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]( ).
الرابعة: بيان موضوعية التصديق بالقرآن.
الخامسة: التخويف والإنذار لمن يجحد بنزول القرآن.
السادسة: التصديق بنزول القرآن مقدمة واجبة للعمل بما فيه من الأوامر والنواهي، والإتيان بالأفعال العبادية بقصد القربة.
السابعة: طرد الشك والريب بالتنزيل.
الثامنة: حاجة الناس للتصديق بنزول القرآن.
التاسعة: توكيد قانون سماوي ثابت وهو أن التصديق بالتوراة لا يغني عن التصديق بنزول القرآن.
العاشرة: من يبادر إلى الكفر بالقرآن يبوء بإثمه وإثم من إتبعه للتسبيب والإغواء.
الحادية عشرة: الآية دعوة إلى الرجوع للتوراة والإنجيل وما فيهما من البشارات بالقرآن.
الثانية عشرة: الإثم المركب لمن تكون عنده البشارة بالقرآن فلا يؤمن به، ويكون أول الذين يجحدون به.
ومن الأسرار في مضامين الآية الكريمة وجوه:
الأول: مجئ أمرين ونهيين في الآية.
الثاني: إبتداء وإختتام الآية بصيغة، ومجئ النهي في وسطها ليكون النهي مقدمة للإمتثال، والأمر زاجر عن الفعل المنهي عنه، فإبتدأت الآية بقوله تعالى [آمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ] وأختتمت بقوله تعالى [إِيَّايَ فَاتَّقُونِ] وجاء في وسطها قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ] و [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً].
الثالث: مجئ أمر ونهي بخصوص القرآن، وأمر ونهي بلغة الإطلاق فكل من قوله تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً] وقوله تعالى [إِيَّايَ فَاتَّقُونِ] يفيد الإطلاق.
الرابع: إبتداء الآية بالأمر والنهي الخاصين بالقرآن، وإختتامها بالنهي والأمر المطلقين، وفيه آية إعجازية تدل على أن التصديق بنزول القرآن من عند الله من أهم مصاديق التقوى والخشية من الله تعالى، وتتجلى معاني الإعجاز في الصلة بين أطراف الآية من وجوه:
الأول: إنعدام وجود برزخ بين الإيمان بالقرآن والكفر به،فلابد من التصديق بنزوله من عند الله.
الثاني: الزجر والنهي عن الكفر والجحود بنزول القرآن وتحذير بني إسرائيل عن أن يكونوا أول كافر بالقرآن يدل بالدلالة التضمنية على النهي عن الكفر بالقرآن مطلقاً، ولكن الآية ذكرت الفعل الأشد، وفيه إعجاز يتضمن الإخبار عن مقابلتهم القرآن بالصدود والجحود.
الثالث: تتضمن الصلة بين أول الآية وقوله تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً] التحذير من حب الدنيا وإتباع الهوى، والركون إلى كسب المال بواسطة الرياسات الدينية التي قد تزول بالتصديق  بالقرآن، وإلا فان دخول هؤلاء الإسلام يفتح عليهم أبواباً من الرزق الواسع الحلال، فصحيح أن الأكلة التي كانت لبعض رؤساء اليهود على عامتهم تنقطع عنهم ، ولكن المدار والنجاة في إتباع الحق والتنزيل، بالإضافة إلى توجه الخطاب والأمر التعبدي في الآية إلى جميع أفراد بني إسرائيل.
 فمن إعجاز القرآن أن خطاباته لا تنحصر بالكبراء والرؤساء بل تأتي بعرض واحد للأفراد والجماعات لإشتراكهم في العبودية لله تعالى، وتكون حجة عليهم، وتبعث الفرقة والإختلاف بين أقطاب الكفر، فاذا كان للرؤساء مأكلة يأخذونها من العامة، فان هذه الآية جاءت لتجعل العامة بعرض واحد مع الكبراء في الخطاب وتندبهم للتدبر في آيات القرآن، وتحذرهم  من جعل وسطاء بينهم وبين الدعوة الإسلامية .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على ان ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة( ).
 فجاء الأمر الإلهي بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  إلى عامة وخاصة بني إسرائيل بعرض واحد، وفيه تخفيف عنهم لنزع رداء العناد والإصرار، ووحجة وحث على المبادرة الشخصية والنوعية لدخول الإسلام.
وبذا تبين الآية سراً من أسرار القرآن، وهو إكرام الناس جميعاً بتوجيه الخطابات التكليفية لهم، لتتعلق إستدامة هذا الإكرام وتحصيل مصاديقه الخارجية بالناس أنفسهم بالإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية إذ تتضمن الآية في معانيها العقائدية نهي العامة عن الرجوع إلى الكبراء والخاصة إلا بالحق ، والتصديق بالتنزيل ويأتي هذا النهي على جهات:
الأولى: توجه الخطاب التكليفي لهم مباشرة.
الثانية: بيان تخلف الكبراء عن وظائفهم، ومنها حفظ وديعة البشارة بالقرآن.
الثالث: فضح الكبراء وقبح فعلهم وأخذهم الرشا والأموال من العامة بغير حق.
ومن الآيات ان الإسلام جاء بفريضة الزكاة وهي نظام متكامل بدفع الإغنياء حقاً قليلاً من أموالهم إلى الفقراء لإعانتهم وإظهار معاني الأخوة الإيمانية والإمتثال لأمر الله تعالى في الأموال الشخصية، فلم يطلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  منهم الأموال أو مأكلة شهرية أو سنوية بل إنه تولى مسؤولية تبليغهم آيات القرآن، كما كانت سنة النبي  محمد صلى الله عليه وآله وسلم  القولية والفعلية حجة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم  لم يأمرهم إلا بما يأذن له الله تعالى به، وكانت سنته سبباً لإسلام الكثير من القبائل والجماعات والأفراد والى يومنا هذا، وإذ جاءت الآية بنهي بني إسرائيل عن الجحود بآيات الله، فان المسلمين مرآة للسعي في مرضاة الله، وتعاهد آيات الله، وعدم التفريط بها، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم.
وجاء النهي عن شراء الثمن القليل بآيات الله، في آيتين من القرآن، فقد ورد في سورة المائدة قوله تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ] ( )، وفيه تحذير وإنذار، ولزوم إجتناب  أكل المال السحت بتحريف التوراة وتغيير أحكامها، وما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء النهي عن التفريط بآيات الله والإعراض عنها حباً بزينة الدنيا وثمن بخس قليل، فقد جاءت آيات القرآن بالتحذير من الصدود عن عهد الله بذات الصيغة والنهي من شراء ثمن قليل بها، قال تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً] ( ).
وليس من ثمن لآيات القرآن، لكن الآية جاءت للبيان والحجة والبرهان.
وجاءت الآية قبل الثالثة بالأمر بالوفاء بالعهد، وجاءت هذه الآية في النهي عن التفريط بالآيات بثمن قليل، ويفيد الجمع بينهما وجوهاً:
الأول: عهد الله من آياته تعالى.
الثاني: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  آية من آيات الله تعالى.
الثالث: كل آية من آيات الله هي عهد من الله تعالى إلى الناس.
وكذا النعمة فهي عهد ومقدمة للعهد لأنها شاهد على مقام الربوبية ووجوب شكر الله تعالى الذي يتجلى بالعبادة والتصديق بالكتب السماوية النازلة من عند الله تعالى.
وجاء الخطاب لبني إسرائيل ألا يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  من عهد الله تعالى من وجوه:
الأول: تضمن التوراة البشارة بنبوته ولزوم نصرته ، قال تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( ).
الثاني : إخبار الأنبياء السابقين عن بعثته، ودعوتهم للتصديق به وإتباعه , وورود كتبهم بالبشارة به , مثل زبور داود وكتاب شعياء , وكتاب حزقيل وكتاب دانيال وكتاب إرميا وكتاب حبقوق , وهي متفرقة ومجتمعة تتضمن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بالمعجزات الدالة على نبوته، فهذه المعجزات والتصديق بها من عهد الله.
الرابع : التقيد بالعهود والمواثيق التي عقدها بنو إسرائيل مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والإنتفاع من مدتها وما فيها من السعة والمندوحة للتدبر بمعجزات نبوته وأسرار آيات القرآن، وقد بعث الله تعالى عدداً جماً من الأنبياء في بني إسرائيل لإقامة سنن التوراة , وتثبيت أحكامها وتعاهد للعمل بحلالها , وتوارث بشاراتها و والإنزجار عما نهى الله تعالى عنه فيها.
 ومن البراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  أنه لم يقرأ التوراة ، ولم يرجع إلى علماء بني إسرائيل ولم تكن له صحبة وصلات معهم، ومع هذا جاءت هذه الآية جامعة مانعة، جامعة للحجة في التصديق بنزول القرآن من عند الله، ومانعة من الكفر والجحود والعناد.
الرابع : من مضامين الآية القدسية الصلة بين أول وخاتمة الآية، وما تدل عليه من لزوم التقوى والخشية من الله تعالى، وقد ورد لفظ (إتقون) خمس مرات في القرآن.
 وهذه هي الآية الوحيدة التي يرد فيها قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] ولم تقل الآية (واتقون) بل جاءت بصيغة الإختصاص والتشديد والتوكيد والإنذار وبيان عظيم قدرة الله ووجوب الخشية منه، التي تتجلى في المقام بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ويعني الإيمان بنزول القرآن من عند الله التصديق بنبوته ورسالته وانه يتلقى الوحي من عند الله، ولا يكفي مسمى الإيمان بنزول القرآن بل لابد من العمل بمضامينه وأحكامه وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية، ويمكن أن تستقرأ الصلة بين أول ووسط وآخر الآية بتقدير على وجوه:
الأول: آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم أي ان تصديق القرآن للتوراة والإنجيل مناسبة وحجة وآية لمنع بني إسرائيل أن يكونوا أول كافر بالقرآن.
الثاني:آمنوا بما أنزلت، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً.
الثالث: آمنوا بما أنزلت وإياي فاتقون.
الرابع: آمنوا بما أنزلت مصدقاً  لما معكم.
الخامس: لا تكونوا أول كافر بالقرآن، ولاتشتروا بالآيات والحجج ثمناً قليلاً.
السادس: ولا تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً وإياي فاتقون.
وجاءت الآية بالأمر بالتقوى وهو إنحلالي، ويكون على وجوه:
الأول: الأمر بالتقوى إلى جميع بني إسرائيل.
الثاني: الأمر بالتقوى إلى كبراء بني إسرائيل على نحو الخصوص لأن العامة منهم يرجعون اليهم.
الثالث: توجه الأمر بالتقوى إلى كل فرد من بني إسرائيل.
 والصحيح هو الثالث، لأن الآية جاءت لعامة بني إسرائيل، وهو من الكلي الطبيعي وهو الماهية اللابشرط المقسمي أي المأخوذ لابشرط شئ موجود في الخارج.
  فالقرآن تنزيل من السماء بسور الموجبة الكلية في سوره وآياته , يجب التصديق به بلحاظ ذاته , وجاءت تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة الواجبة وغيرها لتكون طريقاً لبلوغ الدعوة والأمر بالتقوى إلى عموم بني إسرائيل,  وهذا الأمر ليس مجملاً بل إنه مبين وجلي.
الرابع: من خصائص البيان والتقييد في المقام توجه الخطاب التكليفي بتقوى الله وتجلي مصداقه بالإيمان بالقرآن، وتلك آية إعجازية في اللفظ القرآني فان مجئ الخطاب على نحو مخصوص لا يقيده ولا يمنع من توجهه إلى الناس جميعاً.
 ولا ينحصر هذا التوجه بالذين يلتقون مع المخاطبين في ذات الموضوع، بل يشمل الناس جميعاً منطوقاً أو مفهوماً، فتبعث الآية الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين لأنهم إختاروا الإيمان والخشية من الله بالإيمان بالقرآن تنزيلاً وأحكاماً، ومظهراً سماوياً يتجلى فيه صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وضرورة إتباعه ونصرته، وفيه عون للناس لنصح بني إسرائيل بان لا يفوّتوا على أنفسهم نعمة الإيمان بالكتاب الذي أنزله الله تعالى مصدقاً لما معهم, وفي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
والتصديق بالقرآن دعوة للناس لإقامة الحجة على بني إسرائيل والتقدير: كيف تكفرون بما نزل من السماء مصدقاً لما معكم ولبيان الملازمة بين المصدِق والمصدَق به.
 ويفيد تقديم المفعول في قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] حصر التقوى والخشية من الله تعالى، وإجماع علماء البيان في الجملة على إفادة تقديم المفعول الحصر، وتقدم الكلام فيه تفصيلا في قوله تعالى(فاياي  فارهبون) وفيه دعوة لبني إسرائيل بان لا يخشوا من الكبراء والذين يصدونهم عن الإيمان، وتنبيه الكبراء للزوم طاعة  الله تعالى ورسوله.
وجاءت الآية بتقوى الله خطاباً لبني إسرائيل على نحو الخصوص، ولكن التقوى من الله وظيفة كل إنسان، وهي سر الخلق والتكوين، وعليها المدار في تعيين منازل الناس يوم القيامة.
وقد ورد الأمر بتقوى الله شاملاً للناس جميعاً، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] ( ).
وجاء الأمر بالتقوى خاصاً بالمسلمين كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( )، في إشارة إلى أن تقوى الله لا تقف عند دخول الإسلام وحده، فلابد من الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فالمسلمون دائبون على الطاعة، منقطعون إلى الذكر والتسبيح.
ومن المضامين القدسية للآية الكريمة انها تنهى بني إسرائيل عن التفريط بآيات الله تعالى لقاء ثمن بخس، ونعت الثمن بالقليل لذاته ولأن أي ثمن للآيات  يكون قليلاً حتى وان كان مالاً كثيراً وعروضاً وسلطاناً فالقلة بلحاظ أن آيات الله لاتباع ولايفرط بها، لأن الإيمان بها واجب، كما أنها باقية على حالها، فهو ليس من البيع والشراء الذي يجري فيه نقل وإنتقال للثمن والمثمن، بل هو من التفريط وترك الواجب لذا جاء بعد النهي عن بيع الآيات وجوب تقوى الله تعالى والخشية منه في السر والعلانية.
ويريد الله عز وجل من بني إسرائيل ا لا يفرطوا بآياته، وأن يحرصوا على الخشية منه وإستدامة التقوى والصلاح عندهم.  
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية السابقة بثلاثة أوامر لبني إسرائيل مع وعد كريم بالوفاء بعهدهم، جاءت هذه الآية بالأمر إلى بني إسرائيل بالإيمان بنزول القرآن من عند الله، وهذا الإيمان واجب على الناس وجاء الأمر إليهم جميعاً بالتصديق به.
ليتلقى بنو إسرائيل الأمر من جهتين عامة وخاصة، بالإضافة إلى حجة في الخاصة وهي التوافق والتصديق بين القرآن من جهة والتوراة والإنجيل من جهة أخرى، وهو من نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل التي أمرتهم الآية السابقة بذكرها، فقد خصهم الله عز وجل بنعمة من بين الناس وهي أن القرآن تصديق للكتب السماوية السابقة، وتوكيد لها فان قلت في القرآن أحكام ناسخة لما موجود في التوراة والإنجيل فكيف يكون مصدقاً لهما، والجواب من وجوه:
الأول : يتعلق النسخ بفروع الشريعة , أما الأصول ومبادئ التوحيد فهي واحدة.
الثاني: من وجوه التصديق تجلي المصداق العملي لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بها التوراة والإنجيل.
الثالث: إخبار القرآن عن نزول التوراة والإنجيل من عند الله، والأصل في الإيمان بالقرآن أنه منزل من الله، فقوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ] يكفي لوجوب الإيمان والتصديق بأن القرآن كتاب من عند الله.
 وحينما أخبر الله عز وجل بأنه هو الذي أنزل القرآن فلابد أنه جعل فيه أسراراً ومضامين قدسية تؤكد هذا النزول، ولا يكون إثباته معلقاً على تصديقه للتوراة والإنجيل، خصوصاً وقد جاءت الدعوة فيه للناس جميعاً للتصديق به والإقرار بتنزيله من عند الله، ويأتي توكيد وإثبات النزول على وجوه:
الأول: الإعجاز الذاتي للقرآن، ومنه آيات البلاغة والفصاحة فيه.
الثاني: الإعجاز الغيري للقرآن، وحصول الشواهد التي تدل على صدق نزول القرآن من عند الله.
الثالث: علوم الغيب التي يتضمنها القرآن، ومن الآيات فيها إنبساطها على الأيام المتعاقبة، وعلى عالم الآخرة، فتطل على الناس بين الحين والآخر شواهد تدل على صدق ما أخبر به القرآن، وتدعو للرجوع إليه والصدور عنه.
الرابع: المعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: الأوامر الإلهية بالتصديق بالقرآن كما في هذه الآية بلحاظ تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، ولابد أن هذا التصديق يتضمن أسراراً تدل على التنزيل، وأنه ليس تصديقاً مجرداً، بل هو تصديق فيه إعجاز يأتي بماهية وكيفية لا يقدر عليها إلا الله عز وجل فقوله تعالى [مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]يفتح آفاقاً من العلم ، ويدعو إلى التدبر بمعاني ودلالات القرآن، ووجوه التصديق والشبه والإلتقاء بين كل من:
الأول: بين القرآن والتوراة.
الثاني: بين القرآن والإنجيل.
الثالث: بين القرآن وبين التوراة والإنجيل.
الرابع: بين الإنجيل والتوراة.
ومن إعجاز القرآن أن تصديقه بالكتب السماوية السابقة يترشح منه تصديق تلك الكتب بعضها لبعض، وهل هو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، الجواب نعم، لما فيه من أسباب الهداية ومنع الإختلاف بين الناس , قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
تحتمل (الواو) التي إبتدأت بها الآية ثلاثة وجوه:
الأول: إنها حرف عطف، عطف لغة الخطاب في هذه الآية على الآية السابقة.
الثاني: حرف إستئناف جاء لجملة وموضوع مستقل وقائم بذاته.
الثالث: المعنى الأعم والجامع للعطف والإستئناف.
والصحيح هو الأول، من وجوه:
الأول:إتصال موضوع هذه الآية بالآية السابقة التي إبتدأت بالخطاب الخاص (يا بني إسرائيل).
الثاني: مجيء الآية بذات الصيغة من الفعل الماضي.
الثالث: ما في قوله تعالى[مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] من القرينة على إرادة التوراة، إذ أن القرآن مصدق للتوراة والإنجيل.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تقف عند التصديق بهما، بل منحت الشريعة الإسلامية حق البقاء على اليهودية والنصرانية مع دفع الجزية، ويقوم المسلمون بتوفير الأمن لأهل الكتاب وعدم التعدي على أموالهم وأعراضهم.
 ولكن هذه الآية تأمر بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلغة الأمر (وآمنوا) مما يدل على وجوب دخول بني إسرائيل الإسلام، وعدم جواز تخلفهم عنه.
وهل يكفي التصديق بنبوته مع البقاء على الملة والشريعة السابقة أو الإنتقال إلى غيرها من الملل الأخرى غير الإسلام، الجواب لا، لأن المراد من الإيمان هنا التصديق والتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه فالنسبة إلى النبي يعقوب وهو إسرائيل، والإنتماء إلى التوراة والعمل بأحكامها ليس برزخاً أو عذراً للتخلف عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاءت الآية بعد التالية بالأمر بإقامة الصلاة وأداء الزكاة، ليفيد الجمع بينهما عدم كفاية القول (آمنا) كما ورد في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا] ( )، فالإيمان قول وإعتقاد ولابد أن يتبعه مصداق فعلي له.
 ومن الآيات أن مصاديق الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومية متصلة كما في الصلاة الذي يجب أن يؤديها كل مكلف ومكلفة خمس مرات في اليوم، وهو من وجوه الثناء على المسلمين ووصفهم من السماء بأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وفي الآية إنذار لبني إسرائيل من المبادرة إلى تكذيب القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن شطراً من أهل الجاهلية يتلقون المعجزات بالتدبر وعدم التعجل في التكذيب لتكون سبباً لهدايتهم، أما بنو إسرائيل فهم أمة متحدة ترجع إلى رؤسائها، وإذا قام هؤلاء بالتكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان أتباعهم ومن يستمع إليهم يتبعون أثرهم لذا فان قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ] تحذير لبني إسرائيل من تلقي نزول القرآن بالتكذيب.
وجاءت بداية الآية بالإخبار عن صفة للقرآن وهي تصديقه بالكتب السماوية السابقة،لأن التصديق بالتوراة والإنجيل دعوة لليهود والنصارى إلى عدم تلقي القرآن بالصدود والتكذيب، بل لابد من التدبر في وجوه الإلتقاء بينهما، والشواهد التي تدل على صدق نزول القرآن من خلال هذا التصديق، إذ أن الإخبار عنه كصفة للقرآن يدل على معاني قدسية في هذا التصديق تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وتلقيه الوحي من عند الله ومنها:
الأول: الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، وعدم الإشراك به.
الثاني: تضمن القرآن للأمر بأداء الصلاة والزكاة، وورد في القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
وجاءت آيات القرآن بالأمر إلى جميع المسلمين بالصلاة والزكاة، وهو من الشواهد على أن المسلمين ورثة الأنبياء في إعمار الأرض بطاعة الله وتعاهد الفرائض وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد نهت الآية بني إسرائيل عن صيرورتهم أول كافر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يدل على جواز أن يكون ثاني أو ثالث كافر به، الجواب جاءت الآية للنهي عن تكذيب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، وليس لخصوص التسلسل العددي وإن دلت عليه بالدلالة التضمنية .
وجاءت الآية السابقة بوجوب الإيمان بالقرآن وأنه منزل من عند الله عز وجل، وجاء قيد (الأول) في الآية للتغليظ والتشديد على بني إسرائيل، وفيه تفضيل لهم بأن جاء القرآن بتحذيرهم وإنذارهم في هذه الآية من وجوه :
الأول: الكفر والجحود بنزول القرآن من عند الله.
الثاني: إنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يرى الناس فيها رأيهم، وكأن الآية تقول لبني إسرائيل إنكم أصحاب كتاب  سماوي وإذا قمتم بتكذيب القرآن قبل غيركم فان فريقاً من الناس يصغون إليكم، ويحصل عندهم بسبب إنكاركم لبس وشك فتبوؤا بإثمهم وإثمكم، فإتركوا الناس هم والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 وفيه تحذير للناس من الإنصات لإنكار بني إسرائيل لنزول القرآن، ودعوتهم للتدبر في آياته ، وما فيها من مصاديق الإعجاز، فما أن يسمع الناس هذه الآية وأنها تنهى بني إسرائيل عن الإبتداء من بين الناس بالجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يعرضوا عن هذا الجحود وأهله، ليكون من إعجاز الآية وقاية الناس من هذا الجحود والإنكار، وجعلهم يتلقون القرآن من غير برزخ وحاجز، خصوصاً وأن بني إسرائيل أصحاب كتاب سماوي سابق وكأنهم بالإنكار يحجبون شهادة لها أثرها وموضوعيتها.
فجاءت الآية للإقلال من أثر هذه الشهادة إن كانت زوراً وبهتاناً وإنكاراً بغير حق خصوصاً وان القرآن مصدق للتوراة والإنجيل، وقد جاءت الآيات القرآنية بالنهي عن الكفر بالقرآن في خطابات للناس عامة ولبني إسرائيل على نحو التعيين .
 وتدل خاتمة الآية على هذا النهي إذ أنها تحذر من إتباع الهوى، وتدعو بني إسرائيل إلى خشية الله عز وجل التي هي واقية من إنكار التنزيل , والإستكبار والعناد عن التدبر فيه.
ومن تقوى الله إعلان بشارات التوراة والإنجيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإجتناب إخفائها لأنها أمانة، قال تعالى [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ] ( )، وإذ نهت الآية عن الكفر بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ] لم تقل (ولاتشتروا به ثمناً قليلاً) بل قالت [لاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي] لإرادة المعنى الأعم لتشمل الآية وجوهاً:
الأول: ما موجود عند بني إسرائيل من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
الثالث: عدم إغواء الناس، أو حثهم على الصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إجتناب تحريف التوراة والإنجيل.
الخامس: تحذير الرؤساء والعلماء منهم، ودعوتهم إلى مرضاة الله.
ومن إعجاز القرآن أن جاءت الآية بأمر ثم نهي ثم أمر، مع ظهور الصلة بينها من وجوه:
الأول: الإيمان بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب على المكلفين مجتمعين ومتفرقين، ومن إعجاز القرآن أن جاءت الدعوة لدخول الإسلام للناس جميعاً، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الثاني: خاتمة الآية توكيد لأولها، فمن تقوى الله التصديق بالتنزيل وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: من يخش الله عز وجل تنفر نفسه من الكفر والكافرين، ويحرص على إجتناب سبق الناس بالكفر والضلالة.
الرابع: من التقوى تعاهد آيات الله عز وجل، وإظهار الإيمان بها، وعدم الإعراض عنها لثمن قليل من حطام وزينة الدنيا، وأسباب الجاه.
الخامس: مع الإيمان وعدم التفريط بالآيات لابد من تقوى الله، والخشية منه في السر والعلانية، وتقدير الجمع بين أول وآخر الآية (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم وإياي فاتقون).
السادس: إنذار وتحذير بني إسرائيل من التفريط بآيات الله , ومن الإعراض عن البراهين النبوية وخزائن التنزيل.
السابع: بيان الصلة بين الكفر بالتنزيل والثمن القليل الذي يبيعون به الآيات، إذ جاءت الآية بلفظ الشراء وهو من الأضداد، والمراد الرغبة والسعي لإقتناء العرض الزهيد، والثمن القليل وجعل البدل والثمن هو إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن إعجاز القرآن مجئ الآية بلفظ الإشتراء الذي يعني الإستبدال مع الرغبة بالمطلوب الثمن، والنسبة بينه وبين القيمة هي العموم والخصوص المطلق، فكل قيمة هي ثمن وليس العكس , إذ أن القيمة بدل مساو للعين المباعة وان خالفتها في الجنس، كما لو إشترى شاة بقيمتها في السوق وهو دينار، أما الثمن فقد يكون بمقدار القيمة وقد يكون أقل منها أو أكثر، فيمكن أن يقال أن قيمة الشاة دينار، أما الثمن فيمكن أن يكون ديناراً أو أكثر أو أقل.
لذا جاءت الآية بوصف الثمن بالقلة والنقصان [ثَمَنًا قَلِيلاً] وهذه القلة من وجهين:
الأول: قلة الثمن بالنسبة للآيات، وليس هناك ثمن أو قيمة تعادلها من عروض وحطام الدنيا.
الثاني: الثمن قليل بذاته، فقد كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنافع من الجاه والرئاسة بين قومهم ، فقريش مثلاً قادت الجيوش الكبيرة من مكة إلى المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن دعوته إلى الله تتضمن الحرب على منازلهم في الرئاسة , ومثل قريش كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب.
الثامن: النسبة بين النهي عن شراء ثمن قليل بالآيات وبين الأمر بالتقوى هي الخصوص والعموم ، وكأن العطف بالواو في [وَإِيَّاي] من عطف العام على الخاص.
 أي من تقوى الله عدم التفريط بالآيات نتيجة ثمن قليل، كما يدل العطف على أن عدم التفريط بالآيات ليس كافياً حتى وإن كان من غير ثمن، فلابد من تقوى الله بالتصديق بنزول القرآن من عند الله، والإخبار عن البشارات التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
 ومع تقوى الله يأتي التدبر بالآيات والحرص على الخضوع والخشوع لله عز وجل وتلقي الأوامر الإلهية بالقبول والرضا والإمتثال، قال تعالى في بيان منافع القرآن العقائدية [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، لتكون خاتمة الآية [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] رحمة ببني إسرائيل، ودعوة لهم للهداية والرشاد، وفيه وجوه:
الأول:  إنه من مصاديق تفضيل بني إسرائيل على الناس بأمرهم بتقوى الله، بإعتبارها مقدمة للهداية والإيمان.
الثاني: الآية شاهد على أن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وما أنزل عليه من عند الله هو من التقوى والخشية من الله،وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين، لأن التصديق  به ملازم للتقوى وفرعها إلى يوم القيامة .
 فان قلت : التصديق بالأنبياء السابقين واجب على المكلفين جميعاً وإلى يوم القيامة أيضاً , فالجواب نعم، إلا أن هذا التصديق يأتي بواسطة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب الذي أنزله الله عز وجل عليه.
الثالث: الآية حجة في تفضيل المسلمين، وخروجهم للناس بهذه الصفة المباركة هي التقوى , قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، إذ أن المسلمين هم أهل التقوى بلحاظ أحكام ومضامين هذه الآية من وجوه:
الأول: التصديق بنزول القرآن من الله وإتباع ونصر المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أبهى وأحسن معاني التقوى لأن الله عز وجل بعثه رسولاً للناس جميعاً وأمرهم بنصرته.
الثاني: المسلمون صدّقوا بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن عندهم كتاب سابق يبشر به، إذ أن المعجزات التي جاء بها تكفي للحجة والبرهان على صدق نبوته والتقيد بما جاء به.
الثالث: هجر المسلمون الكفر، وإجتنبوا  الكافرين، وصاروا حرباً عليهم, وعندما هجم الكفار على المدينة يوم بدر وأحد والخندق تصدى لهم المسلمون بالسلاح والأنفس وأرجعوهم إلى ديارهم خاسرين خاسئين.
الرابع : تلقى المسلمون آيات الله بالقبول والإيمان، ولم يشتروا بها ثمناً من الدنيا قليلاً كان أو كثيراً، وإبتغوا الدار الآخرة والثواب من عند الله.
الخامس : أظهر المسلمون الخشية من الله، وبادروا إلى أداء الفرائض والعبادات.
السادس : من مصاديق خروج المسلمين للناس تلاوة هذه الآية، ودعوة بني إسرائيل لتقوى الله بالبرهان والحكمة، قال تعالى [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
إن لغة الخطاب القرآني وحدها نوع إكرام وتشريف، فقد خص الله عز وجل بني إسرائيل بالخطاب في هذه الآية لدعوتهم للإسلام، وحثهم على إجتناب التحريض وإخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع إرادة الناس جميعاً بمضامين الآية، وهو من أسرار القرآن بأن يأتي الخطاب خاصاً،ولكن المراد المعنى الأعم.
 وفي إنتفاع الكفار من غير أهل الكتاب من هذه الآية شاهد على إعجازها، وأسرار لغة الخطاب فيها، إذ نزل القرآن بلغة (إياك أعني وإسمعي ياجارة) فآمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن شطر من الناس ودخلوا الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله، ولم يلتفتوا إلى إنكار بني إسرائيل لنبوته.
لقد أمرت الآية بالتصديق بنزول القرآن وهذا التصديق مطلوب بذاته، وهو مقدمة للإمتثال لما فيه من الأوامر والنواهي.
من غايات الآية
في الآية مسائل
الأولى: إقامة الحجة على بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان.
الثانية: بيان فضل الله على بني إسرائيل، والعناية بهم بدعوتهم على نحو الخصوص.
الثالثة: تدل الآية في مفهومها على الضرر الذي يأتي للمسلمين من بني إسرائيل بسبب كفرهم وعنادهم.
الرابعة: بيان حقيقة ثابتة وهي أن أهل الكتاب أولى من غيرهم بالمبادرة للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،  ونزول القرآن لأن وجود التوراة عندهم حجة عليهم من وجوه:
الأول: بشارة التوراة بالقرآن.
الثاني: تصديق القرآن لما في التوراة.
الثالث: كشف القرآن لما طرأ على التوراة من التحريف.
الرابع: يستلزم نزول القرآن من عند الله الإيمان به لذا إبتدأت الآية بتوكيد نزول القرآن من عند الله [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ] ، فما دام القرآن نازلاً من عند الله فلابد من الإيمان به.
الخامسة: لم تذكر الآية حصول التنزيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه ظاهر من نظم الآية، وفيه حجة على بني إسرائيل فحتى لو حرفت البشارات الواردة في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  فان آيات القرآن وحدها شاهد على نبوته، لما فيها من الإعجاز والدلائل على نزولها من عند الله عز وجل.
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]
لا زال الخطاب موجهاً إلى بني إسرائيل ، ولكنه في هذه الآية جاء صريحاً وبياناً تفصيلياً لما يجب عليهم  أن يفعلوه في باب الإعتقاد، ودعوة تتضمن الإنذار من الجحود بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيد [ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ] لا يعني حصر الخطاب ببني إسرائيل باعتبار ان القرآن مصدق للتوراة فهو موجه للنصارى لتصديق القرآن للإنجيل , وموجه للناس جميعاً، ومصدق لكل الكتب السماوية والجامع لها، فمع أنهم كانوا يتعبدون بها فانها نوع طريق مبارك للهداية للقرآن، فكل كتاب أمارة وعلامة سماوية تدل وترشد إلى الكتاب التالي وإلى القرآن، وينفرد القرآن بانه يوقف هذا التسلسل فهو الخاتم للكتب السماوية والجامع للأحكام وليس بعده كتاب ينزل من السماء.
ويمنع ورود الآية بصــيغــة الإنذار والتحــذيـر من حصر نفعها ببني إسرائيل بل هي رحمة وحجة عامة.
ولم يرد لفظ (أنزلت) في القرآن إلا في هذه الآية، وفيه تشريف للقرآن وان أنزل الله تعالى قبله الصحف والكتب على الأنبياء، لذا ذكرت الآية ان القرآن مصدق للكتب السماوية الأخرى .
وفي حصر لفظ (أنزلت) بنزول القرآن دعوة لبني إسرائيل وغيرهم من الناس للتصديق بالقرآن والعمل بأحكامه، وطرد الشك والريب من النفوس في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،  فكما أن القرآن مصدق لما سبق من الكتب؟
فان الأنبياء السابقين بشروا بنبوته، ليكون القرآن هو السور الجامع للبشارة والتصديق، والحجة والبرهان الدائم المتجدد , قال تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وقيل بالتفصيل ، وأن التنزيل هو كلام الله من السماء الدنيا إلى الأرض بدفعات وعلى نحو التدريج، أما الإنزال فيستعمل في الدفعة، وجاءت هذه الآية بلفظ الإنزال، والمراد إنزال القرآن والإيمان به.
ويدل قيد [ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ] على أن المراد بالاسم الموصول (ما) هو آيات ومضامين التوراة والإنجيل لإفادة الغيرية بين المصدق – بكسر الدال، – والمصدق به – بفتح الدال.
ومن أهم مسائل تصديق القرآن للتوراة والإنجيل صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره نبي آخر الزمان، لذا فان تصديق القرآن للكتب السابقة يختلف عن تصديق بعضها بعض، فالقرآن جاء مصداقاً عملياً للبشارة والذي أنزل عليه هو النبي المنتظر والرسول الموعود به، ولا يمنع من شموله لكل كتاب سماوي بقي له أثر في الأرض.
وجاء قوله تعالى[ لِمَا مَعَكُمْ ] على نحو الإطلاق والقضية المهملة والعموم المجموعي والإستغراقي، أي كل الكتب المنزلة قبل القرآن وما في كل واحــد منها من الأحكام والأوامــر والبشارات.
وهل يمكن القول ان المراد منه (العقل) أي لما معكم من العقل ليشمل الناس جميعاً بلحاظ الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها بيان للناس كافة، ومعجزة القرآن عقلية التي هي حجة على الناس جميعاً .
 الجواب : الخطاب في الآية موجه لأهل الكتاب عامة واليهود خاصة، والمراد التوراة والإنجيل للقيد الموضوعي وهو التنزيل.
ولم تذكر الآية القرآن بالإسم، ولا نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ولزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  للملازمة بينهما وبين نزول القرآن، ولكن الآية تدل عليه بالمعنى والمفهوم، وفيه آية إعجازية، وشاهد على عدم وجود كتاب آخر نازل من عند الله غير القرآن، ودليل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وليس من نبي بعده.
وجاء هذا الشطر من الآية بصيغة الماضي، وفيه وجوه:
الأول: إرادة الشطر النازل من القرآن، مما سبق نزول هذه الآية من الآيات المكية والمدنية بلحاظ كفايته للإيمان والتصديق بالقرآن، ولم نسمع أحداً أو جماعة يقولون ننتظر نزول الآيات الباقية من القرآن حتى نسلم.
الثاني: المراد صرق الطبيعة، وملاحظة أي آية أو عدد من الآيات أو سورة من القرآن للإيمان بالقرآن كله.
الثالث: إرادة القرآن ما نزل منه ، وما ينزل بعد هذه الآية.
 ولم يقل أحد أو جماعة باننا ننتظر تمام نزول القرآن بل ان الجزء منه يكفي للحجة، وهو شاهد على الإعجاز والتحدي، ودليل على نزوله من عند الله تعالى، لذا يطلق  لفظ القرآن على الآية والسورة من القرآن، وجاءت تتمة الآية بصيغة المضارع كما في قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ] وقوله تعالى [وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً] للدلالة على إستدامة الأوامر والنواهي القرآنية.
وجاءت الآية بالأمر بالتصديق بنزول القرآن إلا ان هذا التصديق أمر توليدي تتفرع عنه معاني متعددة من التصديق منها:
الأول: صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن الكتاب السماوي لاينزل إلا على نبي .
الثاني: وجوب الإيمان بالملائكة، ومنهم جبرئيل الذي ينزول بالوحي وآيات القرآن.
الثالث: البشارات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام.
الرابع: صدق نزول التوراة والإنجيل من عند الله لتحقق المصداق العملي للبشارات التي وردت فيهما بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس: رؤية الناس يدخلون الإسلام أفواجاً، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوة إلى بني إسرائيل للإمتناع عن إنكار نبوته.
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ]
بعد الأمر بالإيمان بالقرآن جاء النهي عن الكفر به، وهذا النهي مركب من أمرين:
الأول: النهي عن أصل الكفر بالقرآن والجحود به.
الثاني: النهي عن كونهم أول الكافرين به.
لذا فان قيد الأولوية لا يعني إنحصار الكفر بالجحود بالقرآن بل هو من التغليظ والتوكيد والإنذار من الجحود بالنبوة والتنزيل والمعجزات الباهرات التي إختص الله عز وجل أنبياءه مطلقا والنبي محمد خاصة، ولعل فيه إعجازاً لما سيؤول إليه الأمر ويكونون أول جاحد به، وربما إنتظرت بعض القبائل ردهم وراقبت إستجابتهم أو عدمها. 
وفي عائدية الضمير في (به) في قوله تعالى(أول كافر به) وجوه:
الأول: يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المقصود هو القرآن.
الثالث: كتاب أهل الكتاب وهو التوراة أو الإنجيل ويكون التكذيب بالواسطة، لأن التكذيب بما يصدق كتابهم يعني تكذيبهم لكتابهم.
ولا تعارض بين الوجوه الثلاثة أعلاه لوحدة موضوع الرسالة في تنقيح المناط ولأن التـوراة بشرت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن الضمير ورد بصيغة المفرد ، ويعود إلى القرآن , لأن صدر الآية يتعلق بنزوله والإيمان به، ومع الترديد فالضمير يعود لما هو مذكور قبله، ولكن لا نزاع في الكبرى ولا في الصغرى لإستحالة التفكيك بين الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإيمان بالقرآن ونزوله من عند الله.
وفي تفسير الآية أقوال منها:
الأول: لا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس، أي لا تكونوا أئمة في الكفر به، عن أبي العالية( ).
الثاني: لا تكون أول كافر بما معكم من كتابكم لما فيه من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ان التنكر له كفر بالتوراة.
الثالث: لا تكونوا أول جاحدين بصفة النبي في كتابكم عن ابن جريج.
الرابع: ولا تعني الآية بالضرورة أن الأول بمعنى السابق زماناً خاصة وأن مشركي قريش قد كفروا وجحدوا بنبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
 ولكلمة (أول) معاني أخرى منها المتقدم , أي أن اليهود بجحودهم يمثلون قطب الكفر ورواده حيث يقتدي بهم المشركون والوثنيون ونحوهم لأن اليهود أهل كتاب وهم في نظر هؤلاء من أهل المعرفة في باب الديانة وسنن الشرائع ومعالم النبوة.
وتظهر لغة الخطاب مقام بني إسرائيل آنذاك ومقدار تأثيرهــم وألأثر المترتب على الكيفية التي يتخـذونها من الإسلام، (وقال الزجــاج بان الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب فإذا كفروا كفر معهم الأتباع( ).
لكنه تخصيص من غير مخصص فقد ورد الخطاب إلى بني إسرائيل مطلقاً بصفتهم أهل كتاب وديانة سماوية بلحاظ التكليف ، ولقطع الطريق على الرؤساء الذين يسعون في بقاء الأتباع والمستصعفين منقادين لهم.
 ومع ما في الآية من نهي وتحذير فإنها تخويف من عاقبة الإبتداء في الكفر والجحود وأنهم يكونون أعظم ذنباً، كما أن موضوع الخطاب عام والقواعد الكلية في الخطاب القرآني تفيد العموم، والمدار على المعنى والقصد من الخطاب وهو صيغة العموم وإن جاء ظاهره بلغة الخاص.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : “من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها”( )، وفي الآية تخويف من الإثم المركب وتوكيد بان النعمة إبتلاء وتستلزم الشكر، والجحود بها يعرض الإنسان لأشد العقاب فانتساب اليهود لكتاب سماوي وشريعة نبي الله موسى يجعل الناس يتطلعون لهم هل يتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم لا.
يا أولاد وذرية يعقوب النبي لا تكونوا أول من جحد بالقرآن وتنزيله فيقتدي بكم الناس، مع أن الكفر قبيح بالنسبة للتابع والمتبوع، ولكن الإثم على الأول أكثر سواء إذا قامت الحجة عنده على أنه تنزيل أو إختار الكفر والجحود من غير تدبر ، لتكون الآية تأكيداً لطرد الجهالة والغرر وهو من عمومات قوله تعالى في بني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ففضلهم في المقام بأمور:
الأول: البشارة بالتوراة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: العلم ونفي الجهالة عنهم بنزول القرآن.
الثالث: الإنذار من صيرورتهم الأسوة في الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويتضمن قوله تعالى[وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ]( )، الوعيد والتخويف من سوء العاقبة لمن يجحد بالتنزيل.
وعن تفسير الكلبي عن ابن عباس: نزلت في قريظة وكانوا أول من كفر من اليهود بمحمد وتبعهم يهود فدك وخيبر).
أخرج الطبري عن أبي العالية:”ولا تكونوا أول كافر به”، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم)( ).
تفسير قوله تعالى [ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتي ثَمَنًا قَلِيلاً ]
(قال الفراء( ) إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن، وفي سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله [ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ]( ) لان العروض كلها أنت مخير فيها إن شئت قلت إشتريت الثوب بكساء وان شئت قلت إشتريت بالثوب كساء أيهما جعلت ثمناً لصاحبه جاز، فاذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله وشروه بثمن بخس دراهم لأن الدراهم ثمن ابداً)( ).
وصحيح ان التخيير في العروض ممكن، ولكن المثل الذي جاء به متباين في معناه، فاشتريت الثوب بكساء، أي أني إشتريت ثوباً ودفعتُ كساءً ثمناً له، أما قوله إشتريت بالثوب كساءً فمعناه أني اشتريت كساءً ودفعتُ ثوباً ثمناً له فجاءت(البا) في الصورتين أعلاه ملازمة وملتصقة بالمباع، والإختلاف في جنسه، ففي الأولى كان الكساء، وفي الثانية كان الثوب هو المباع وهو المتبادر، ولو جعل الباء ملاصقة للثوب في الأولى، أو للكساء في الثانية لتغير المعنى فليس من تخيير , وإذا تغير الموضوع تغير الحكم .
لذا جاءت الآية بالنهي المطلق عن إستبدال الآيات، وكل ثمن يرغبون فيه  دونها هو ثمن قليل ومن طعام الدنيا الزائلة، وفيه إشارة أن تعاهد الآيات يأتي بذات الثمن وأضعافاً مضاعفة منه في كل آن.
نعم لو قال إشتريت الثوب بكساء وإن شاء قال إشتريت بالكساء ثوباً لكان مثله صحيحاً، ويتعلق بصفقة بيع واحدة وتدخل الباء على الثمن، وكذا في سورة يوسف فقد إلتصقت الباء بالثمن.
ففي قوله تعالى [ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتي ثَمَنًا قَلِيلاً ] نهي و تحذير من جعل الآيات عوضــاً وبـدلاً للثمن القـليل، وفيه الخسارة في النشأتين , أما في قوله تعالى [ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ]( ) فانهم – أي السيارة – جعلوا الدراهم المعدودة ثمناً وعـوضـاً وبدلاً ليوسف عليه السلام , وكان فيه منافع تفوق الإحصاء منها نجاة أهل مصر من المجاعة .
خصوصاً وأن الشراء من الأضداد، لأن كلاً من العوضين يصلح أن يكون بيعاً من طرف ومشترى من الطرف الآخر.
فاستعمال (الباء) في الآيتين إستعمال واحد بحسب اللغة، وجاءت الباء في الآيتين للإستعانة والعوض.
ففي الآية الأولى يستعين بنو إسرائيل بالبينات والآيات التي عندهم أي أنهم سعوا إلى الثمن والمال القليل والبخس، والآية نهي عن إتخاذهم الآيات ثمناً وقيمة للمال الذي يبغون.
 وفي الآية من سـورة يوسف يستعين السيارة بالدراهم المعدودة التي عندهم لأخذ يوسف عليه السلام، وقيل الفراء كان يتفلسف في تصانيفه.
وليس من دأبنا التصدي للأقوال الصادرة عن علماء التفسير ورجاله ولكن حينما نجد الكلام ينقل ويدون في كتب التفسير بصيغة التقرير والإمضاء والإستحسان ينبغي التوضيح والبيان والإشارة إلى كنوز القرآن.
وفي الآية روي عن الامام محمد الباقر انه قال: كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية( ).
ولا يعني نعت الثمن الذي يطلبون بالقلة حصر النهي به إنما جاءت القلة بالقياس إلى عظيم مقام الآيات ، وان أي شيء تستبدل به يكون عرضاً زائلاً وثمناً بخساً لا بد ان تتعقبه الحسرة والندامة سواء كانت في باب الرياسة أو فيما يتعلق بجمع الأموال ، وإقتناء الثروة ونحوه من متاع الدنيا وزينتها.
إنها نهي عن التفريط في دين الله، وإستحضار للتدبر والفطنة وضرورة المناصرة والتأييد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءت صفته في التوراة، وفيها إرشاد لعدم الإندفاع وراء إغراءات الدنيا.
وقال الطبرسي: (وهذا الخطاب يتوجه أيضاً على علماء السوء من هذه الأمة إذا إختاروا الدنيا على الدين فتدخل فيه الشهادات والقضايا والفتاوى وغير ذلك)( ).
وهذا بعيد , فالقدر المتيقن لموضوع الآية هو الجحود والكفر بالقرآن وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما الذي يتخذ العلم للدنيا, فهناك آيات ونصوص من السنة وأحكام الشريعة خاصة تتعلق به، نعم يمكن الإتعاظ والإعتبار والتدبر والإحتراز من كل موطن وفعل يتخذ فيه الدين وسيلة للدنيا والكسب الحرام.
ولم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفظ(علماء السوء) بلحاظ كبرى كلية وهي التضاد والتباين بين العلم والسوء فلا يحتمعان في موضع وقلب واحد.
وقد ورد هذا اللفظ بضعف في جهة صدور الحديث عن وهب بن منبه قال: قال عيسى: يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة . فلا أنتم تدخلونها، ولا تدعون المساكين يدخلونها . أن شرّ الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه( ).
تفسير قوله تعالى [ وَإِيَّايَ فَاتَّقُو نِ ]
تحذير ودعوة للهداية والرشاد، ومنع عن الزيغ والجحود وخشية الرؤساء والرهبان الذين يصدون أتباعهم عن الاسـلام وتصديق النبي وينهونهم عن إتباعه والإيمان بما جاء به من عند الله عز وجل.
لقد جاءت الآية على نحو الإطلاق الشمولي في التحلي بمصاديق التقوى فان الخطاب فيها جاء لعامة بني إسرائيل على نحو العموم الإستغراقي، ولا يعني هذا أنه موجه لبني إسرائيل بعرض ودرجة واحدة بل هو من الكليات المشككة , فالإنذار لرؤسائهم أشد وأكثر توكيداً ومع هذا فالآية الكريمة تخاطب كل واحد من بني إسرائيل والناس جميعاً من خلالهم وتحث على الطاعة ونبذ الكفر والعناد، وهي دعوة لإستبدال المعصية بالطاعة والجحود بالشكر، والعناد بحسن الإنقياد لأحكام الإسلام.
وفي الآية مسائل:
الأولى:  يفيد تقديم (إياي) الإختصاص باعتبار أن تقديم المفعول يفيد الحصر، ويدل عليه قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ويدل الجمع بين الآية أعلاه من سورة الفاتحة والآية محل البحث على مدح المسلمين والثناء عليهم لأنهم يتوجهون كل يوم لله بالعبادة، ويخصونه بالذكر والإستعانة مع الغبطة والرضا والتسليم.
 بينما جاءت الآية محل البحث ضمن الوعيد والتخويف لبني إسرائيل وتدل في مفهومها على ضرورة نبذ الخشية من رؤساء الكفر والضلالة، وان تكون التقوى والخوف والإنقياد لله تعالى وحده الذي تفضل بتنزيل القرآن ليكون إماماً في التقوى والصلاح.
الثانية: لقد أراد الله عز وجل للناس العمل بأحكام القرآن باتخاذ التقوى سبيلاً ومقدمة وملكة راسخة ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالثة: حينما أمر الله تعالى بني إسرائيل بالتقوى منه سبحانه فانه يدفع الشر عن كل من يتقيه، فمن مفاهيم الآية الدعوة إلى عدم الخوف من رؤساء الكفر والضلالة.
الرابعة: في الآية حث على الإقتداء بالمسلمين في تقواهم وصلاحهم.
بحث نحوي
الفاء من حروف الهجاء، وهو حرف مهموس، والحرف المجهور أقوى من المهموس، والحروف على قسمين مهموس، ومجهور، وحروف الهمس عشرة هي: فحثه شخص سكت )، وما عداها فهو حرف مجهور، وعدد المجهورة تسعة عشر حرفاً.
وسميت المهموسة لضعف الصوت بها لجريان النفس معها فلا تقوى على التصويت، أما المجهورة فمأخوذة من الجهر والإعلان لإمتناع جريان النفس معها، فينحصر الصوت بها فيخرج قويا صادحاً. 
وحرف الفاء على وجوه :
الأول: حرف عطف بأن يعطف ما بعده على ما قبله، ويدل على الترتيب والتعقيب , وقد يفيد الإشراك كقولك: صليت الظهر فالعصر، وقيل لا تفيد الإشراك . والترتيب على شعبتين:
الأولى: الترتيب المعنوي.
الثانية: الترتيب الذكري.
وأنكر الفراء إفادة الفاء الترتيب مطلقاً مع قوله بأن الواو تفيد الترتيب.
الثاني: الفاء الإستئنافية وهي التي تأتي بين جملتين لا يصح العطف بينهما، كما لو كانت قبلها جملة خبرية ويعدها جملة إنشائية كما في قوله تعالى[وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( ).
الثالث: السببية: وهي الفاء التي يكون ما قبلها سبباً لما بعدها، وهي من ضروب العطف.
الرابع: الفاء الرابطة لجواب الشرط.
الخامس: الرابطة لجواب أما، وتتضمن معنى اللزوم، قال تعالى[فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ]( ). 
السادس: الفاء حسب ما قبلها، وهي التي تأتي في أول الكلام الذي يراد إعرابه، وهذا الوجه ليس من معاني الفاء , ولكنه للبيان والصناعة النحوية.
السابع: الفاء الفصيحة : وهي التي تفصح عن محذوف، وتبين موضوعيته وسببيته وقد يكون هذا المحذوف جملة كما في قوله تعالى[فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ]( )، والتقدير: ضرب موسى فانفجرت.
الثامن: الفاء التزينية: وهي التي تدخل على كلمة صاعداً وليس لها عمل، مثل ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا)( ).
ومثلما جاء الإنذار من موسى عليه السلام إلى فرعون، فقد ورد الإنذار والتحذير من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مشركي قريش من أمثال أبي جهل بن هشام والنضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية .
مع إقتران الإنذار بالمعجزة والبرهان، ولكنهم يردون الحق بالإفتراء فيدعون أنه كاهن , ويسألون الآيات .
وفي قوله تعالى[وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا]( ) قال مجاهد: نزلت في مشركي مكة. قال مقاتل: وهم خمسة نفر عبد الله بن أبي أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى. وقال الكلبي: نزلت في المستهزئين قالوا: يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك)( ).
وفي قوله تعالى (أَم تُريدونَ أََن تَسئَلوا رَسُولَكُم) الآية. قال ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي كعب ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً، ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيراً نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
 وقال المفسرون: إن اليهود وغيرهم من المشركين تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل يقول: يأتينا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، ومن قائل يقول: وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي: ائتني بكتاب من السماء فيه من رب العالمين: إلى ابن أبي أمية، اعلم أني قد أرسلت محمداً إلى الناس، ومن قائل يقول: لن نؤمن لك أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً)( ).
 وكان بعض كبراء اليهود ظاهروا قريشاً وغطفان في محاصرة المسلمين يوم الخندق مع أنهم عاهدوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم(كعب بن أسد القرظي , وهو صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاقده وعاهده .
فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له فقال له: افتح لي يا أخي , فقال له: لا أفتح لك فإنك رجل مشؤوم تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته ولم أر منه إلا وفاء وصدقا فلست بناقض ما بيني وبينه.
فقال حيي: افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك , فقال: لا أفعل فقال: إنما تخاف أن آكل جشيشتك فغضب كعب وفتح له , فقال: يا كعب! إنما جئتك بعز الدهر جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه , فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث له , ويحك يا حيي؟ دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه , فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه وأن يسير معهم .
وقال له حيي بن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود فلما انتهى خبر كعب وحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وسيد الأوس سعد بن معاذ وبعث معهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير.
وقال لهم رسول الله: [انطلقوا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنوا لنا لحنا ولا تفتوا في أعضاد الناس , وإن كان كذبا فاجهروا به للناس,  فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم ونالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم , وقالوا: لا عهد له عندنا فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكانت فيه حدة و فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم في جماعة المسلمين , فقالا: عضل والقارة يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه – فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم: أبشروا يا معشر المسلمين] .
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم يعني من فوق الوادي من قبل المشرق ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب حتى ظنوا بالله الظنونا وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون فمنهم من قال: [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ]( ) فلننصرف إليها فإنا نخاف عليها وممن قال ذلك: أوس بن قيظي .
ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط ! وممن قال ذلك: معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم .
وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا , فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعيد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله هذا أمر تحبه فنصنعه لك أو شيء أمرك الله بن فنسمع له ونطيع أو أمر تصنعه لنا؟ قال: بل أمر أصنعه لكم والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة , فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله عبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم !! فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك)( ). 
وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي فقال يا رسول الله إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي فمرني ما شئت .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا فأخرج فإن الحرب خدعة فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة- وكان ينادمهم في الجاهلية- فقال يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا: قل فلست عندنا بمتهم فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البل بلدكم يه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا ثم خرج حتى أتى قريشا
فقال لهم: قد عرفتهم ودي لكم معشر قريش قالوا نفعل: قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فلعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز و جل لرسوله والمؤمنين أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا .
 فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود فردوا إليهم الرسل وقالوا : والله لا نعطيكم رهنا أبدا فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم 
فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود . وخذل الله بينهم واختلفت كلمتهم وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم] 
 فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه و سلم اختلاف أمرهم بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم فأتاهم واستتر في غمارهم وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امرئ جليسه قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا فلان ثم قال أبو سفيان: ويلكم يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام , ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من هذه الريح ما ترون ما يستمسك لنا بناء ولا تثبت لنا قدر ولا تقوم لنا نار فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله , فما حل عقال يده إلا وهو قائم . 
قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لي إذ بعثني قال لي: مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا لقتلته بسهم ثم أتيت رسول الله صلى عليه وسلم عند رحيلهم فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل- قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشيء اليمن فأخبرته فحمد الله)( ).
وحينما إنكشفت إشراقة الصباح تبين أن الأحزاب إنصرفوا مخذولين، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم (فأتاه جبريل صلى الله لعيه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي على بغلة عليها قطيعة ديباج فقال له: يا محمد إن كنت قد وضعتم سلاحهم فما وضعت الملائكة سلاحها إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: مناديا فنادى: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة , وقال آخرون: لا نصلي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن فاتنا الوقت)( ).
وأعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الراية للإمام علي عليه السلام وإستخلف على المدينة ابن أم مكتوم , وفيه آية إعجازية وتحد بأن الذي يتولى شؤون إدارة المدينة من الصحابة أعمى لبيان وثاقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعجز وخذلان الكفار من العودة للإلتفاف على المدينة، وهذا العلم والتعيين من الوحي وعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
 وحاصرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بضعاً وعشرين ليلة و(عرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا أيها شاؤوا : إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا قال : وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم فوالله إنكم لتعلمون أنه تجدونه مكتوبا في كتابكم وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم ونحن لا نتعدى في السبت)( ).
(فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا: يا رسول الله وقد علمت أنهم حلفاؤنا وقد أسعفت عبد الله بن أبي بن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج فلا يكون حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا فهم موالينا .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا: بلى قال: فذلك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق فحكم فيهم تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والنساء وتقسم أموالهم
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم – زمن ابن إسحاق – فخندق بها خنادق ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق وقتل يومئذ حيي بن أخطب وكعب بن أسد)( ). 
وقتلت منهم امرأة هي بناته امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته).
وقيل أنهم كانوا من الستمائة إلى السبعمائة وهو عدد مبالغ فيه، ويحتاج إلى دليل، كما أن عدد الذين عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووهبهم لمن سأله كثير , وأعاد لهم نساءهم وأموالهم واستحيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين لم ينبتوا، ومنهم من صار من الصحابة وحسنت سيرته مثل عطية القرظي.
فوهب رسول الله صلى الله عليه و سلم لثابت بن قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم منهم عبد الرحمن بن الزبير الذي أسلم وله صحبة , ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموءل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس أخت سليط ين قيس من بني النجار وكانت قد صلّت إلى القبلتين فأسلم رفاعة وله صحبة , ورواية ابن وهب و ابن القاسم عن مالك قال : أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا – وكانت له عند يد – وقال : قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي قال : ذلك يفعل الكريم بالكريم ثم قال : وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل ؟ قال : فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فأعطاه أهله وولده فأتى فأعلمه فقال : كيف يعيش رجل لا مال له ؟ فأتى ثابت النبي صلى الله عليه و سلم فطلبه فأعطاه ماله( )، واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه.
ولقد أراد بنو قريظة أن يعاملهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل بني النضير، وقال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر؟ قال : قل : سورة النَّضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون – صلوات الله وسلامه عليه – نزلوا بالمدينة  في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم( ).
وعاهد بنو النضير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يكونوا عليه ولا له، ولما نصره الله يوم بدر وأظهره بآية إعجازية على المشركين قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، لا ترد له راية فلما تعرض المسلمون للإنكسار يوم أحد إرتاب بنو النضير وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً منهم إلى مكة، فخالفوا قريشاً عند الكعبة .
 وحينما آتاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دية المسلميًن اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري هموا بطرح عليه لقتله فعصمه وأنجاه الله وطالبهم النبي بالخروج من المدينة سألوا المهلة عشرة أيام للتجهيز للخروج، ولكنهم أصلحوا خلالها حصونهم واستعدوا للقتال، ووعدهم عبد الله بن أبي رأس النفاق سراً بنصرهم.
وحاصرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين ليلة فطلبوا الصلح فابى إلا أن ينزلوا على الجلاء،وعلى أن لهم ما أقلت الإِبل إلا الحلقة ، والحلقة السلاح ، فجلت بنو النضير ، واحتملوا ما أقلت الإِبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها فيحتملون ما وافقهم من خشبها ، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام ، وكان بنو النضير من سبط من أسباط بني إسرائيل لم يصبهم جلاء منذ كتب الله الجلاء على بني إسرائيل ، فلذلك أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلولا ما كتب الله عليهم من الجلاء لعذبهم في الدنيا كما عذبت بنو قريظة( ).
وهل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم التي ذكرتها الآية إذكروا نعمتي عليكم ، الجواب نعم، من وجوه:
الأول: إنها من النعم التي ذكرتها الآية.
الثاني: القدر المتيقن من النعم هي النعم في الأزمنة السابقة التي خصهم الله عز وجل بها مثل النجاة من آل فرعون، وآيات وفيضوات عصا موسى، ونزول طعامهم من السماء، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى] ( ).
الثالث: البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النعم التي ذكرتها الآية , وذات البعثة ونزول القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على بني إسرائيل وغيرهم، وهذه الآيات من نعم الله عليهم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
 
 
قوله تعالى  [وَلاَ تَلْبِسُوا الْحقَّ بِالْبَاطلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] الآية 42. 
الإعراب واللغة
ولا تلبسوا: الواو: حرف عطف، لا: ناهية، تلبسوا: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعل.
الحق: مفعول به منصوب بالفتحة. 
بالباطل: جار ومجرور، متعلقان بتلبسوا، وتكتموا: الواو: عاطفة، تكتموا: فعل مضارع مجزوم لأنه معطوف على تلبسوا، وقيل الفعل منصوب بإضمار(إن) أي(وإن تكتموا) وقيل النصب بنفس الواو وهي بمعنى(مع) وتسمى واو الصرف لصرفها الفعل عن العطف، الحق: مفعول به منصوب بالفتحة.
 وأنتم: الواو حالية، أنتم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
تعلمون: فعل مضارع مرفوع، والواو فاعل، وجملة تعلمون خبر أنتم.
يأتي اللبس بمعنى الستر والتغطية، وبمعنى المخالطة والإجتماع وضد الإيضاح , فيقال إلتبس إلتباساً. ولابسه ملابسة ، واللباس: ما إرتديته وغطيت وسترت به جسدك، وقيل (لباس التقوى: الحياء)( ).
ولكن لباس التقوى أعم ومصاديقه الخارجيةأكثر وقد يختلف بلحاظ الموضوع، فالتقوى إعتقاد إيماني راسخ، والحياء كيفية نفسانية تعتري الإنسان، والتقوى منزلة متقدمة ودرجة عالية في الإيمان، نعم الحياء شعبة من شعب التقوى , ومظهر لها.
والباطل خلاف الحق , والجمع أباطيل وهو الزور والكذب ونحوه من المصاديق كالبهتان والفساد والفعل القبيح.
في سياق الآيات
بعد أن جاءت الآية السابقة بالتحذير من الكفر تضمنت هذه الآية التوبيخ  والتحذير من إضلال الآخرين وإغوائهم وتحريف الكتاب ونفي البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنبيه على صيغ المغالطة والكذب التي إتخذوها طريقاً لإخفاء الحقائق وستر الآيات.
من إعجاز القرآن أن يتقدم على آيات الإنذار والتحذير بيان بدايات خلق الإنسان وما جعل الله عز وجل له من المنزلة بين الخلائق، وفيه بعث لمعاني العبودية في نفس الإنسان، ومقدمة لقبوله لما يتلقاه من الأحكام والواجبات، وسبب للتوجه إلى الله تعالى بالشكر والثناءو ومن الآيات أن يأتي الإنذار والتحذير لفريق من الناس وأهل ملة مخصوصة، وفيه دعوة للناس جميعاً لإنكار الجحود مع عظيم النعم العامة والخاصة.
وتتضمن هذه الآيات الدعوة للتنزه عن الكبائر، لتأتي الآية التالية بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بإعتبار أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفيه دعوة لدخول الإسلام لأنها لا تقبل إلا بقيد الإسلام.
وإذ جاءت الآية السابقة بدعوة بني إسرائيل إلى الإيمان بالقرآن، كتاباً نازلاً من عند الله، وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، جاءت هذه الآية لتزجرهم عن إضلال الغير، باللبس والخلط، أو بإخفاء الحقائق، وهذا الغير على وجوه:
الأول: عامة بني إسرائيل، فيكون التحذير موجهاً إلى كبرائهم، لكنه لا يتعارض مع توجهه إلى عامتهم ويكون اللبس بالجدال بالباطل، والمغالطة، وأسباب التشويش لمنع رؤية الحقائق الناصعة والوصول إلى البشارات والحجج الدامغة في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: أهل الجاهلية من عرب قريش الذين يلجأون إلى أهل الكتاب لسؤالهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وأخبارها عندهم.
 فجاءت الآية لتحذرهم من إغواء أهل الجاهلية بخلط الحق بالباطل، وإخفاء الحق وقد لاينفع مع بعضهم الخلط بين الحق والباطل، لتجلي الآيات الباهرات بنبوته، فيعمدون إلى إخفاء الحق.
 وكأن هذه الآية تحذر بني إسرائيل من تحمل أعباء وآثام ضلالة غيرهم، فالآية السابقة إنذار من الإعراض عن القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما هذه الآية فجاءت إنذاراً من حجب الناس عن الإيمان.
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن مجيء هذه الآية بأمور متعاقبة ومتداخلة وهي:
الأول: ذكر النعم العظيمة التي أنعم بها الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثاني: الأوامر الإلهية لبني إسرائيل بالإيمان بالتنزيل .
الثالث: نهي بني إسرائيل عن الكفر والفسوق والضلالة.
وجاءت الآية السابقة بدعوتهم للإيمان بنزول القرآن من عند الله والتوكيد على حجته الذاتية والغيرية ، وكونه مصدقاً للتوراة والإنجيل وحثهم على التقوى والخشية من الله، وإجتناب الكفر والجحود بالقرآن.
وجاءت هذه الآية بالنهي عن كتمان الحق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في التوراة، لتأتي الآية التالية متضمنة الأوامر العبادية، بصيغة الخطاب ليكون كل أمر ونهي في هذه الآيات حجة وترغيباً بالإسلام.
وصلة هذه الآية بالآية التالية على وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية بالنهي عن خلط الحق بالباطل , والزجر عن إخفاء الحق ليفيد هذا التعدد النهي عنهما مجتمعين ومتفرقين، والمنع من التأويل بالباطل، والقول خلاف الحق، وجاءت الآية التالية بأوامر ثلاثة وليس من نهي معها، وهو آية في إعجاز نظم الآيات بأن تستقل آية بالنواهي وأخرى بالأوامر مع إتحاد جهة الخطاب.
ترى ما هي علة الإبتداء بالنواهي , الجواب من وجوه:
الأول: النهي مقدمة للعمل بالواجب.
الثاني: المنع من كتمان الحق يعني الإقرار بوجوب أداء الصلاة، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالث: بدأ الخطاب في هذه الآيات بالأمر بقوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي]( )، وجاءت الآية التالية بالأمر والنهي، ثم جاءت آية البحث بالنواهي، والآية التالية بالأوامر لتكون الخاتمة أداء الوظائف العبادية مما يدل على موضوعيتها وأنها ضرورة من ضرورات الدين.
ويدل الجمع بين الآيات على أن المراد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفق ما نزل به القرآن والسنة النبوية, عن فضالة الليثي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : إني أريد الإسلام فعلمني شرائع من شرائع الإسلام ، فذكر الصلاة وشهر رمضان ومواقيت الصلاة ، فقلت : يا رسول الله إنك تذكر ساعات أنا فيهن مشغول ، ولكن علمني جماعا من الكلام ، قال: إن شغلت فلا تشغل عن العصرين، قلت : وما العصران ؟ ولم تكن لغة قومي ، قال: الفجر والعصر( ). 
الرابع: جاءت الآية بعد التالية بصيغة الإستفهام الذي يتضمن اللوم والتوبيخ بقوله تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ]( )، وبينها وبين آية البحث من جهة الموضوع عموم وخصوص مطلق، إذ ان إظهار الحق وبيان علوم التنزيل من البر والخير ومصاديق الطاعة .
وتتجلى العناية بالنفس وعدم نسيانها في قوله تعالى(وتنسون أنفسكم) باظهار أسرار التنزيل وبيان البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبناء صرح الدولة الإسلامية , وعدم خلط الحق بالباطل واللبس على الناس في سنن الشرائع .
الخامس: يحتمل متعلق قوله تعالى(وأنتم تعلمون) وجوهاً:
الأول: خصوص الكلمة التي قبلها وهو قوله تعالى(وتكتموا الحق) وتقديره: لا تكتموا الحق وأنتم تعلمون , بلحاظ القدر المتيقن وخصوص ما قبل الجملة الحالية.
الثاني: مضامين ذات الآية أنهم يعلمون بخلطهم الحق بالباطل، وإخفائهم الحق والبشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة.
الثالث: (وإياي فاتقون وأنتم تعلمون) ووجوب التقوى من الله، ومن مصاديق التقوى التصديق بنزول القرآن وأداء الفرائض.
الرابع: تقدير الآية: ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وأنتم تعلمون، وفيه مسائل:
الأولى: تعلمون حرمة التفريط بالآيات.
الثانية: تعلمون تجلي الآيات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: يعلم الذي يشتري بالآيات ثمناً قليلاً أنه لا يضر إلا نفسه.
الرابعة: يعلمون حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت الآيات في الأرض.
الخامسة: خروج المسلمين للناس أمة تتعاهد آيات الله، ولا تطلب بدلاً عنها، وهو من عمومات الخطاب الإلهي للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). 
السادسة: تعلمون قلة الثمن الذي يطلبه الذي يفرط بالآيات، أيا كان مقدار ومدة طرف الكثرة لهذا الثمن.
السابعة: تعلمون أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: تعلمون شدة العذاب للذين يشترون بآيات الله زخرف الدنيا الزائل، وتعلمون الثواب العظيم لمن يبين ويظهر الآيات والبشارات ويكشف حقائق التنزيل، ويمتنع عن كتمانها.
التاسعة: تعلمون أن القرآن يفضح الذين يفرطون بآيات الله.
الخامس: ولا تكونوا أول كافر بالقرآن وأنتم تعلمون) ويتجلى هذا العلم من جهات:
الأولى: البشارات التي جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في الكتب السماوية السابقة.
الثانية: الإعجاز الذاتي للقرآن، ومعاني البلاغة وأسرار الحكمة فيه.
الثالثة: الإعجاز الغيري للقرآن، وتتابع المصاديق والحوادث التي تكون ترجمة عملية لما فيه من البشارات والإنذارات، وعلوم الغيب، ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالمدد السماوي والمعجزة، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ). 
الرابعة: تعلمون أن الكفر بنزول القرآن سبب للعقاب.
الخامسة: تعلمون أن قبائل وشعوباً تتبعكم إذا أعلنتم تصديقكم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنكم أهل كتاب، وفيه ثواب عظيم لأنه تخفيف عن المسلمين، ووقاية من وقوع كثير من المعارك والقتل والقتال، ونجاة من الموضوع الذي أشكل فيه الملائكة حينما أخبرهم الله عز وجل عن جعل الخليفة في الأرض[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
 والإحتجاج أعلاه متعلق بالذين يسفكون الدم بغير حق، كالكافر الذي يقتل مؤمناً .
ولو جحد وكفر بنو إسرائيل بنزول القرآن فهل تتبعهم تلك القبائل الشعوب , الجواب لا، من وجوه :
الأول: توالي البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قيام نفر من علماء أهل الكتاب ببيان البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السابقة.
الثالث: فضح القرآن للذين يكذبون بنزوله من الله، وفيه دعوة للناس للإعراض عنهم ، قال تعالى[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ]( ).
الرابع: تفضل الله عز وجل على الناس بنعمة العقل، وجعل القرآن معجزة تخاطب العقول في كل زمان.
الخامس: رؤية الناس لدخول الجماعات والقبائل الإسلام على نحو دفعي، قال تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
السادس: ظاهر الآية بتوجه الخطاب لبني إسرائيل على نحو الخصوص. 
السادسة: وآمنوا بما أنزلت وهو القرآن وأنتم تعلمون لزوم هذا الإيمان.
السابعة: أنتم تعلمون نزول القرآن بالحق وتصديقه للتوراة والإنجيل، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ]( )، وهم يعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله إذ جعله جامعاً لأحكام الشريعة، وحفظه ومنع من إختلاط غيره به، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثامنة : تعلمون الوعد الكريم من الله عز وجل لمن آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدّق بنــزول القــرآن , وتفضــل الله عز وجل بإنجاز هذا الوعد، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخفيف بنبوته على بني إسرائيل ورد قوله تعالى[وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ]( ).
 وفي الآية أعلاه أخرج (عن سعيد بن جبير في قوله {ويضع عنهم إصرهم} قال: التشديد في العبادة، كان أحدهم يذنب الذنب فيكتب على باب داره: إن توبتك أن تخرج أنت وأهلك ومالك إلى العدو فلا ترجع حتى يأتي الموت على آخركم)( ).
التاسعة : وأنتم تعلمون نعم الله عز وجل عليكم سواء تلك التي رزقكم الله كخلق وعبيد له، أو بصفتكم كبني إسرائيل وإتباع موسى ومنها نجاتكم من فرعون وبطشه، قال تعالى[ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ]( ).
وفي هذا التعدد في مضامين الآيات، ومصاديق علم بني إسرائيل مدرسة في التفقه في الدين، فلولا هذه النعمة لما كانت ذراريهم في يثرب أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويدل قوله تعالى(وأنتم تعلمون) وبصيغة الحال على أمور:
الأول: إحتجاج القرآن على أهل الكتاب , وفيه مسائل:
الأولى: التخفيف عن المسلمين.
الثانية: تعليم المسلمين صيغ الإحتجاج.
الثالثة: الشهادة السماوية الدائمة بعلم أهل الكتاب بحقائق التنزيل وبشارات النبوة.
الرابعة: تذكير أهل الكتاب بما يعلمون، ومنع طرو النسيان وشيوع التحريف.
الثاني: إستدامة علم أهل الكتاب بالحق , وصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالث: مضمون الآية إنحلالي وتقديره بصيغة المفرد لكل واحد منهم، وأنت تعلم، ووجه آخر وهو توجه الخطاب إلى الرؤساء.
الرابع: جاءت الآية في باب الإحتجاج والإنذار وبصيغة العطف ليكون المراد هو النهي عن إخفاء حقائق التنزيل.
 
إعجاز الآية
في الآية تهيئة لأسباب إنتشار الإسلام والتفات الناس إلى الإعجاز القرآني بمنع صيغ التشويش، كما في الحروف المقطعة في القرآن وما ورد بانها لمنع الجدال وما يثيرونه من أسباب عدم الإصغاء، وهذه الآية جاءت لمحاربة كتمان الحقائق، والضجيج المنظم المدروس , وهي في دلالتها لا تنحصر بالمخاطبين من بني إسرائيل اليهود بل إنها مسألة سيالة، وجارية إلى يوم القيامة.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بلغة البيان، والخلو من اللبس والترديد، فهي تنهى عن اللبس وخلط الحق بالباطل وهذا النهي ليس مجملاً ولا مردداً بين وجوه متعددة، ومن إعجاز الآية إختتامها بالإخبار عن علم المخاطَبين بما يقولون وموارد اللبس في كلامهم، وإخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية دعوة للناس جميعاً لإستقراء الحق، والتدبر في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نزول القرآن عليه من عند الله.
ويمكن تسمية الآية الكريمة بآية (ولا تلبسوا) ولم يرد لفظ (تلبسوا) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تفضح الآية ما يتخذه الجاحدون بنزول القرآن من اللبس والتظليل والكتمان، وفيها تحذير للمسلمين ومنع من الإغترار بأقاويلهم، كما أنها تدعو إلى عدم كتمان العلم أو إخفاء الحق، فمن كانت عنده بشارة أو كلمة حق في الإسلام فيجب أن يظهرها.
وتبين الآية التضاد بين الحق والباطل، وأنه ليس من وسط بينهما، ولا يجتمعان أبداً، والمراد من الآية عدم الخلط بينهما ومحاولة إضفاء صبغة الحق على ضده أو العكس.
والآية حرب على التحريف والتبديل في التنزيل، وشاهد بأن آيات الله ظاهرة بينة، ليس فيها لبس أو ترديد.
وهذه الآية سلاح من وجوه:
الأول: انها حجة بيد المسلمين.
الثاني: فيها كشف لأحوال وكيفية تصرف أهل الملل الأخرى.
الثالث: الآية مادة للإحتجاج على بني إسرائيل وغيرهم.
الرابع: في الآية كشف لمعاني اللبس وتحريف التنزيل، ودعوة للناس لعدم الإصغاء لمن يقوم بالتحريف وخلط الحق بالباطل.
والآية وإن نزلت خطاباً لبني إسرائيل، ولكنها عامة للناس جميعاً، من وجوه:
الأول: إجتناب الإفتراء، وخلط الحق بالباطل.
الثاني: نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه جاء بالحق من عند الله، وليس في نبوته الا الصدق وأسباب النجاة في النشأتين.
الثالث: دعوة الناس للنفرة من أهل الكذب والباطل.
الرابع: الحث على عدم الإفتراء على الأنبياء السابقين.
الخامس: توكيد مجيء الأنبياء السابقين بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذه البشارة من الحق الذي تدعو الآية الكريمة الى عدم إخفائه.
وتدل الآية على ان جهاد المسلمين متعدد ومتصل، ويشمل فضح الذين يخفون الحقائق وزجرهم.
مفهوم الآية 
تعتبر الآية مدرسة تأديبية رادعة ومانعة من إشاعة الكذب وإفشاء الزور، وهي دعوة لتنزيه المجتمعات من مصاديق الباطل ليتوجه الناس نحو الآيات والتدبر بما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله تعالى، وفي الآية تحد للذين يخفون حقائق التنزيل ويحاولون تحريف علامات النبوة.
وهذه الآية من تصديق القرآن للكتب السابقة كما أكدته الآية السابقة، لأن الكتب السماوية كلها حق وصدق، ليس فيها باطل، وتذكر الآية أموراً:
الأول: لبس الحق بالباطل ومحاولة التحريف وتشويه الحقائق، والإعراض عن الدعوة إلى الإسلام، والإنشغال بالدنيا.
الثاني: بيان التناقض والتنافي بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب.
الثالث: إمكان حصول اللبس والخلط بين الحق والباطل ولزوم الحذر منه وفضحه , فالآية جاءت بالنهي والزجر عن هذا الخلط وستر الحق ولكن وظائف المسلمين أعم وتتعلق بتعاهد هذا النهي، وفضح مضامين اللبس وكيفيته وصيغ المكر التي تعتمد فيه، وبيان أنه من الأخلاق المذمومة والزور والبهتان.
الرابع: التحذير من اخفاء الحق وستر البشارات بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 وتبين الآية وجود نوع تغاير بين لبس الحق بالباطل وإخفاء ستر الحق.
الخامس: في الآية زجر عن إتيان الذنب والمعصية وكتمان الحق عن علم ومعرفة، وهو حجة عليهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: في الآية إنذار وتحذير إلى بني إسرائيل.
الثانية: توكيد التضاد والتباين بين الحق والباطل.
الثالثة: ظهور  المائز بين الحق والباطل عند بني إسرائيل والناس جميعاً , قال تعالى[وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
الرابعة: بيان القبح الذاتي لخلط الحق بالباطل.
الخامسة: تحذير الناس جميعاً من خلط الحق بالباطل، فالآية وان جاءت خطاباً لبني إسرائيل إلا أنها عامة في مضامينها وتشمل غير اليهود والنصارى من باب الأولوية القطعية أو الإلحاق والتبعية وللعمومات.
السادسة: حث بني إسرائيل على إعلان ما عندهم من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة: تدل الآية في مفهومها على وجود أسرار عند بني إسرائيل يكتمونها.
الثامنة: في الآية توبيخ وتقبيح على إخفاء الحق مع العلم به.
الآية لطف
جاءت هذه الآية بلغة الإنذار والتحذير، وفيها رحمة وفضل إلهي من وجوه:
الأول: الآية لطف وفضل على المسلمين لما فيها من المدد والعون لهم بتوبيخ من يكتم البشارات الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
الثاني: في الآية فضل على بني إسرائيل لأن الزجر عن الباطل والكذب إصلاح محض.
ولقد فضّل الله المسلمين بأن جعلهم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وتفضل الله عز وجل ونهى بني إسرائيل عن خلط الحق بالباطل وإثارة الشبهات وأسباب الشك والريب، ودعاهم إلى الصلاح والإصلاح.
وهذا النهي لا يسقط عن المسلمين الوظيفة التكليفية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو درس إرشادي وتعليم للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعيين لبعض مواضيعه وجهاته، بالإضافة إلى صدق أمر المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر بتلاوتهم لهذه الآية الشريفة.
الثالث: الآية لطف بالناس جميعاً لما فيها من التأديب والدعوة إلى نبذ الكذب والتحريف والزجر عن إخفاء الحقائق، وما تدل عليه بدلالتها التضمنية من وجود علوم وأسرار يخفيها بنو إسرائيل تثبت صحة نزول القرآن من عند الله، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان شطر من الكفار يسألون اليهود عن صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارهم أهل كتاب سماوي , فجاءت الآية لمنع المشركين والكفار من الرجوع إلى بني إسرائيل في المقام، ودعوتهم إلى النظر إلى آيات القرآن ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو مستقل.
 ومن إعجاز القرآن انه يوجه الكفار نحو مقدمات الإيمان، ويحثهم على إجتناب ولوج الظلمات التي تحجب رؤية الحق، فاذا أدرك الناس أن شخصاً او ملة يخفون الحقائق، ويكتمون الحق فانهم ينفرون منهم ولا يكون كلامهم حجة أو دليلاً.
 وتأتي آيات القرآن لتفضح كذبهم وتخزيهم، وتدعوهم للإسلام بالإعتبار من الغير، والتخلية بينهم وبين آيات القرآن والنبوة.
إفاضات الآية
لقد أخبرت الآيات السابقة عن نزول القرآن من عند الله ودعت بني إسرائيل إلى التصديق به، وجاءت هذه الآية بصيغة التحدي في مضمونها لأنها تحث على الفصل بين الحق والباطل، وتبين لزوم إتباع الحق ونبذ الباطل في دلالة على أن القرآن حق، ويحمل معه حجته والبراهين التي تؤكد نزوله من عند الله عز وجل.
ومع قلة كلمات هذه الآية فقد تكرر فيها لفظ الحق مرتين:
الأولى: النهي عن خلط الباطل  والكذب والزور بالحق.
الثانية: الزجر عن إخفاء الحق والبشارات الواردة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  في التوراة والإنجيل، مما يدل على موضوعية الحق والتقيد به وإظهاره، وعدم إخفاء الأحكام الشرعية.
ولو أصر بنو إسرائيل على لبس الحق بالباطل وإخفاء البشارات فهل يضرون أحداً، الجواب إن هذا الإصرار لا يمكن أن يتم على نحو السالبة الكلية، فلابد أن يكون مصداق خارجي للآية القرآنية في زمان التنزيل وفي كل زمان يتجلى بإسلام نفر من علماء بني إسرائيل وجماعات كثيرة من عامتهم لما رأوه من الآيات، خصوصاً وأن هذه الآية برزخ سماوي مبارك بين العامة من الناس وبين رؤساء الضلالة، ويبقى الذي يصر على لبس الحق بالباطل ينفر منه الناس فلا يضر إلا نفسه، وجاءت هذه الآية لذمه، وفيها وجوه:
الأول: فضحه في سوء فعله.
الثاني: زجره عن الإستمرار في لبس الحق بالباطل.
الثالث: منع الناس من الإنصات له.
الرابع: إقامة الحجة عليه في الدنيا والآخرة.
الخامس: حجب أسباب الهداية عنه، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس التفقه في الدين بما يؤدي إلى الوقاية من مفاهيم الضلالة والإحتراز من اللبس والتدليس والإبتعاد عن الجهالة والغرر.
 فجاءت هذه الآية لتبين قبح لبس الحق والباطل، وتؤكد إستبانة ووضوح الحق حتى بالنسبة لأهل التدليس وأئمة الضلالة.
وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لما فيها من التأديب والزجر عن القبائح والأخلاق المذمومة، وما فيه الضرر الشخصي والنوعي، إذ ان خلط الحق بالباطل يضر بأهله وبغيرهم من الناس.
فجاءت هذه الآية للمنع منه، وتحذير الناس من الإنصات له، وتبعث الآية على التحقيق والتمحيص، وتدعو الناس إلى التمييز والفصل بين الحق والباطل، وهو الأمر الذي يستلزم مرتبة من الفهم والتفقه، مما يدل على أن القرآن حق وصدق، وآية سماوية تأخذ بأيدي الناس إلى مراتب التفكر والتدبر، ويجعل عندهم القدرة على الفصل بين الحق والباطل.
لقد جاءت الآية لإزاحة الغشاوات الظلمانية التي تترتب على إخفاء الحق والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) لإرادة إتصال الكلام، وإتحاد جهة الخطاب مع الآيتين السابقتين بالتوجه إلى بني إسرائيل على نحو التعيين مع إفادة العموم والشمول للناس جميعاً، إذ أن الآية تذكر ثلاثة أمور:
الأول: النهي عن خلط الحق بالباطل.
الثاني: الزجر عن إخفاء الحق، وستر الآيات والبشارات.
الثالث: التنبيه لقيد العلم بالخلط الذاتي للحق والباطل، وإذ جاءت الآية السابقة بأمرين ونهيين، فان هذه الآية جاءت بنهيين من غير أمر، في توكيد على موضوعية النهي في إصلاح الناس وعالم الأخلاق الذي يتقوم بأمرين:
الأول: تهذيب الذات والنفس.
الثاني: تقويم السلوك والأفعال.
فجاءت هذه الآية كاملة بلغة النهي  لطرد الغفلة والجهالة عن بني إسرائيل بمراجعة الذات وما يصدر من الأفعال منهم، بالإرتكاز إلى القاعدة التي تدل عليها هذه الآية وهي (عدم جواز لبس الحق بالباطل).
 وهي قاعدة شرعية وعقلية إذ أن العقل يدرك قبح الخلط واللبس بين الحق والباطل، وهما من المتضادين اللذين يستحيل إجتماعهما في زمان واحد وفي محل واحد.
ويدل النهي عن خلط الحق بالباطل على قدرة بني إسرائيل مجتمعين ومتفرقين على الفصل والتمييز بين الحق والباطل، وفيها إخبار بأنهم يعلمون مصاديق الحق وأفراد الباطل، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إدراك العقل لأحكام التنزيل ومصاديق كل من الحق والباطل، ولزوم عدم الخلط بينهما كما في الصدق والكذب فان العقل يدرك الحسن الذاتي للصدق، والقبح الذاتي للكذب، وجاءت الآية بالمنع من الخلط بينهما.
الثاني: لما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن تصديق القرآن للتوراة، جاءت هذه الآية لطرح التحريف وكشف التغيير الذي طرأ على التوراة , ويكون المدار في تثبيت آياتها بما يجمعها مع القرآن هو الشاهد السماوي الذي يفصل بين التوراة المنزلة من عند الله وبين ماطرأ عليها.
الثالث: جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع مع ذكر النوع والكلي فالآية لم تذكر فرداً أو شخصاً، بل ذكرت الحق والباطل والمنع من الخلط بينهما بصيغة المضارع مما يدل على إرادة التحذير والإنذار من التعدي والتفريط أيام التنزيل وما بعدها.
وقد ذكرت الآية لفظ (الحق) مرتين وذكرت الباطل مرة واحدة، وتتجلى دلالة مفهوم العدد في المقام بلحاظ مناسبة الحكم والموضوع، إذ أن الآية أكدت على أمرين:
الأول: عدم خلط الحق بالباطل.
الثاني: إظهار الحق وعدم إخفائه.
فالمقصود هو إظهار الحق والعمل بمضامينه، والنسبة بين فردي النهي في الآية هي العموم والخصوص من وجه.
 فمادة الإلتقاء هي النهي عن حجب الحق.
ومادة الإفتراق النهي عن خلط الحق بالباطل، وفي الثاني النهي عن إخفاء الحق ليكونا مجتمعين ومتفرقين حجة على بني إسرائيل، وعوناً للذين يريدون الهداية والإيمان، وبرزخاً دون الإصرار على الكفر والجحود.
إن تكرار الحق في الآية وتعدي الكفار والفاسقين يبين ما يتعرض له الحق وأهله من القوم الظالمين، ولزوم إجتهاد المؤمنين في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيهما من تثبيت الحق.
وقد لايخلط قوم الحق بالباطل ولاينكرون صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  التي جاءت في التوراة، ولكنهم يكتمونها ولايعلنونها، ويحث بعضهم بعضاً على إخفائها، وقد يقوم قوم بالأمرين معاً، بخلط الحق بالباطل، وإخفاء الحق.
إذ ان (الواو) في المقام ليست مانعة للجمع والإشتراك ويمكن ان يقوم شخص أو جماعة بلبس الحق بالباطل في موضوع، وكتمان الحق في موضوع آخر، أو ان فعله يتعدد ويتباين بلحاظ المناسبة والمقام والزمان، ففي مجلس يخلط الحق بالباطل، وفي آخر يخفي الحق، فجاءت الآية للنهي عنهما، وعن المخادعة والنفاق في هذا الأمر، وتدل الآية على أن إظهار الحق وصدق التنزيل وعدم كتمانه واجب تعبدي.
وجاء أول الآية بالنهي عن خلط الحق بالباطل، فقد يختار بعضهم السكوت ويتجنب هذا الخلط، بالإمتناع عن إظهار الحق لمحاربته وكتمان البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ولكن بصيغة أخرى غير التي نهى عنها القرآن، فجاء النهي عن إخفاء الحق والبشارات.
 وفي الآية إعجاز فقد لا ينفع خلط الحق بالباطل في إنكار نزول القرآن من عند الله عز وجل، لأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بينة ظاهرة، فيلجأون إلى إخفاء البشارات التي عندهم لحجب الناس عن الإنشغال بتلك المعجزات لأن هذا الأنشغال يقودهم إلى التصديق بها، فكتمان الحق محاولة لجعل الناس يعرضون عن آيات القرآن وما فيها من الدلالات الباهرات، والشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن يستمع لهم من الناس ويصدقهم في إخفاء البشارات وكتمان الحقائق يؤثم من وجوه:
الأول:التصديق بالباطل، وما يخالف إدراك العقل الذي جعله الله تعالى حجة وآلة للتمييز عند الإنسان.
الثاني: تركه لوظيفة التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  او الخطابات التكليفية المتوجهة للناس جميعاً بلزوم إتباعه ونصرته.
الثالث: إشاعة الباطل، ونصرة الظالمين وعدم زجرهم.
 وتبين الآية مسائل:
الأولى: تفضيل بني إسرائيل بما خصهم الله تعالى به من العلم بالحق والبشارات بنزول القرآن، ومن الشواهد على إرادة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  في المقام وأنها الحق الذي تدعوهم الآية إلى عدم إخفائه نظم الآيات إذ جاءت الآية السابقة بالأمر بالإيمان بنزول القرآن من عند الله، وجاءت الآية التي قبلها بوجوب ذكر نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل , ولزوم الوفاء بعهده والإمتثال لأمره تعالى.
الثانية: وجود وديعة عند بني إسرائيل وأهل الحق ولزوم الإخبار عنها، وهي العهد.
الثالثة: بيان فضل الله تعالى على بني إسرائيل بعلمهم بالحق وأخبار النبوة.
الرابعة: جاءت هذه الآية فضلاً على بني إسرائيل، بتحذيرهم من كتمان وإخفاء الحق، وحثهم على نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه النصرة من إظهار الحق، لعدم إنحصار إظهاره بالإخبار عن البشارات، وان جاءت الآية بالنهي عن كتمان الحق.
الخامسة: توكيد حقيقة وهي أن كشف الحق والإخبار عن البشارات التي جاءت بنبوة وصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  يترشح عنه إيمان جماعات من الناس فيكون عدم كتمان الحق مقدمة لهداية الناس ونجاتهم من الضلالة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، لتكون الآية من مصاديق كون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً .
لقد جاءت بالآيات والبراهين التي تجذب الناس للإيمان , وفمن فضل الله تعالى على بني إسرائيل في هذه الآية منعهم من إغواء الناس وصدهم عن الإسلام.
السادسة: تمنع الآية من غلبة النفس الغضبية وهي التي يحصل معها الغضب والترفع، والنفس الشهوانية وهي جملة مزاج الكبر وحب الدنيا ومنها شراء ثمن قليل بالآيات الذي جاءت الآية السابقة بالتحذير منه، وتجعل الآية بني إسرائيل يلومون أنفسهم على إخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شاهد على إعجاز القرآن من وجوه:
الأول: جعل الذي يسعى في إنكار البعثة النبوية منشغلاً بنفسه.
الثاني:  الآية شاهد بأن القرآن سلاح من جهات:
الأولى: تبعث الآية الفزع في قلوب الجاحدين والكفار.
الثانية:الآية تذكير مستمر بلزوم إظهار الحق.
الثالثة: تدل الآية على صدق نزول القرآن من عند الله، وأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  حق لأنها تدعو إلى بيان الآيات، وكشف الحقائق وإيضاح البشارات وما مذكور في الكتب السماوية السابقة منها.
الرابعة: الآية سلاح في ميادين الإحتجاج والجدال، وحجة على أهل الكتاب .
الخامسة: تدعو الآية الناس جميعاً إلى عدم الرجوع إلى الذين يكتمون الحق بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحثهم على الرجوع إلى آيات القرآن ذاته، والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جاء العطف بالواو في [وتَكْتُمُوا الْحَقَّ] لإفادة إتصال النهي لذا جاء الفعل (تكتموا) مجزوماً، وجاءت آية من سورة آل عمران [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ]( )، ويفيد الجمع بينهما وجوهاً:
الأول: إرادة بني إسرائيل في الآيتين، بإعتبار أن الآية محل البحث مقيدة لإطلاق الآية من سورة آل عمران.
الثاني: إفادة التعدد والمغايرة فكل آية لها حكمها الخاص.
الثالث: المراد في الآية من آل عمران أعلاه طائفة من أهل الكتاب، ويحتمل وجهين:
الأول: الإنصراف إلى اليهود.
الثاني: طائفة من اليهود، وطائفة من النصارى.
ويحمل اللفظ القرآني على ظاهره وإطلاقه إلا مع الدليل أو القرينة على التقييد، وجاءت الآية محل البحث بخصوص بني إسرائيل وإرادة اليهود ولغة الإنذار في الآية من فضل الله تعالى عليهم، ومن وجوه الفضل فيها عدم صيرورتهم أسوة وأئمة للذين يكتمون الحق من عموم أهل الكتاب.
وبخصوص آية البحث ( قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود: وتكتمون الحق)( )، أي أنكم تلبسون الحق بالباطل وحالكم من وجهين مجتمعين:
الأول: حالكم كاتمون للحق.
الثاني: أنتم تعلمون.
ومع مجيء الآية بالنهي عن المنكر، فانها أختتمت بجملة خبرية تتضمن معنى القيد، ويحتمل وجوهاً:
الأول: ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون.
الثاني: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
الثالث: تغشي قيد العلم للوجهين أعلاه، وهو على أقسام:
الأول: تغشيه لهما مجتمعين.
الثاني: شموله لهما متفرقين.
الثالث: شموله لهما مجتمعين ومتفرقين.
والصحيح هو القسم الثالث من الوجه الثالث، لأصالة الإطلاق، وإحاطة الحكم القرآني بالوقائع والأحداث.
لقد جاءت الآية حجة وبرهاناً وشاهداً على أن إخفاء الآيات لم يأت عن جهل وغفلة، وتؤسس الآية علماً بخصوص أسباب الضلالة وعلم الكافر بقيامه بالتسبب بضلالة وإغواء غيره، وما يترتب عليه من الآثار الضارة في الدنيا والآخرة، وهذا الغير من المتعدد بالذات والمكان والزمان , ويفاجئالكافر يوم القيامة بوزر وإثم يلحقه من فعل إنسان لا يعرفه ومن غير أهل بلده , ومتأخر على زمانه , لأنه بعلم الله كان سببا في ضلالته.
 لذا جاء الإنذار في هذه الآية ليتدارك الذين يخفون البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  أنفسهم، ويقوموا بإخبار الناس عنها لتكون عوناً للمعجزات التي جاء بها من عند الله.
وتدل الآية في مفهومها على لزوم إظهار العلم وإنتفاع الناس منه، وعدم كتمانه، لان الحق الذي ذكرته الآية الكريمة علم قائم بذاته،        سواء كان المقصود منه العلم بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المعنى الأعم , وإخفاء الحق من الظلم للذات والغير ولا ينحصر ضرر الكتمان بالذين يتبعون الذي يخفي الحق ويخلطه بالباطل ويكتم البشارات والأوامر التي جاءت بها التوراة والإنجيل وتدعو إلى نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل يشمل المسلمين إذ أنهم  يلاقون الأذى والضرر من أهل العناد، ومن يتبعهم ويستمع إليهم.
 وجاءت هذه الآية للتخفيف عن المسلمين، وعصمتهم من الإنصات للذين يخفون الحق، ويكتمون الآيات، وفيها دعوة لهم للتوجه إلى الناس جميعاً ببيان آيات القرآن وما فيها من الدلالات والبراهين التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتصديقها للنبوات السابقة.
إن النهي الإلهي عن كتمان الحق، والموجه إلى بني إسرائيل في هذه الآية هو لمنفعة بني إسرائيل أنفسهم، ومنعهم من الإضرار بهم وإلا فان الله عزوجل أظهر الحق بالمعجزات العقلية والحسية التي صاحبت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والتي تتصف بالثبات وتجدد التحدي.
 ومن المعجزات المصاديق العملية لظهور الحق بإنتصار الإسلام وعلو كلمة التوحيد ودحض الباطل ومحق الشرك والضلالة.
 وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : دخل النبي صلى الله       عليه وآله وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ،                فجعل يطعنها ، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان       زهوقا، أورده البخاري في الصحيح . قال الكلبي : فجعل الصنم ينكب لوجهه، إذ قال ذلك ، وأهل مكة يقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد( ).
التفسير الذاتي 
جاءت الآية بنهيين وبيان حال، ومن إعجاز الآية تعلق النهي بالحق مرة للمنع من تغطيته بالباطل، وأخرى للزجر عن إخفائه وستره، ومنع إطلاع الناس عليه، ويحتمل مفهوم النهي عن اللبس وجهين:
الأول: إختيار الأمر الوسط والبرزخ بين اللبس والإيضاح، والإكتفاء بالسكوت.
الثاني: إيضاح الحق وإظهار البشارات التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة.
والصحيح هو الثاني، إذ أن الآيات تأمر بإظهار الحق، وكشف حقائق التنزيل، ويلحق السكوت في المقام بالكف والإخفاء.
ويحتمل معنى الحق في الآية وجوهاً:
الأول: إتحاد المعنى وإن تعدد اللفظ، فمعنى الحق في اللفظين واحد.
الثاني: المراد من الحق المنهي عن كتمانه غير الحق الذي يجب ألا يخلط بالباطل.
الثالث: النسبة بينهما من جهة المعنى العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق.
الرابع: نسبة العموم والخصوص المطلق، وهي على وجهين:
الأول: الحق المنهي عن كتمانه أعم من الأول الذي نهت الآية عن خلط الباطل به فيكون من عطف العام على الخاص.
الثاني: الحق المنهي عن لبس الباطل به أعم من الثاني، لتكون (الواو) في وتكتموا من عطف الخاص على العام.
الخامس: التعدد في إنكار الحق، فمرة يقومون بلبس الباطل به، وأخرى يكتمونه بحسب الحال والمقام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه بلحاظ إطلاق معاني كل من اللفظين، وهو من إعجاز القرآن وتعدد معاني اللفظ القرآني، لذا ذكرت وجوه في الآية منها:
الأول: لا تخلطوا الصدق بالكذب، عن ابن عباس.
الثاني: الحق التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى عليه السلام، والباطل ما كتبوه بأيديهم.
الثالث: الحق إقرارهم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى غيرهم، والباطل إنكارهم أن يكون بعث إليهم)( ).
الرابع: تحريف التوراة والإنجيل.
ومن إعجاز الآية ذكر اللبس وإرادة النهي عن اللبس على الناس بخلط الحق بالباطل، وصدهم عن دخول الإسلام.
ومن مصاديق الحق ما لا يقبل اللبس بالباطل، ويكون أمره محصوراً بوجهين:
الأول:الكتمان والإخفاء.
الثاني: الإظهار والإيضاح.
 فجاءت الآيات عن النهي عن كتمانه وإخفائه وقد يقوم بعض الكبراء منهم بخلط الحق بالباطل، ويسئل غيره من أقرانه فيكتم الحقيقة ولا يقول أنه خلط الحق بالباطل ليكون فضح هذا الخلط من الحق المنهي عن كتمانه وإخفائه.
ومن الحق الإخبار عن التحريف الذي تعرضت له البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي أن إظهار البشارات حق، وفضح تحريفها حق.
 وجاءت خاتمة الآية حجة وشاهداً سماوياً على معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها حق وصدق.
 وتبين الآية وظيفة القرآن في إصلاح الناس، وتهذيب النفوس، ونشر مفاهيم الصدق والفضيلة، وإجتناب الكذب والبهتان والزور، وترغيب الناس بالإيمان، وحثهم على إجتناب الكفر والجحود.
وجاءت الآية بصيغة النهي والزجر وهو أعم من تحقق المعصية والفعل المنهي عنه في الواقع، ومن وجوه العموم أن الآية تحذير وإنذار من لبس الحق بالباطل، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
 وقيل في الآية (إنها نزلت في طائفة من علمائهم، لأن الكتمان إنما يجوز على الطائفة القليلة دون الكثيرة)( )، ولكن الآية أعم إذ أن العلم المقصود في المقام على وجوه:
الأول: البشارات التي جاءت بها التوراة والإنجيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إعجاز القرآن الذاتي والغيري، لذا جاءت الآية السابقة بوجوب الإيمان به بقوله تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ].
الثالث: وجوه التصديق والإلتقاء بين التوراة والإنجيل من جهة وبين القرآن، وقد نهى الله عز وجل عن تبعيض الإيمان بالكتب السماوية المنزلة بقوله تعالى[تُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( ).
الرابع: المعجزات والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها تكفي بمفردها للتصديق بنبوته، والعلم بأنه رسول من عند الله عز وجل.
الخامس: العلم بخسارة وخيب من يخفي البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: دعوة الأنبياء السابقين للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس من حصر لمصاديق العلم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أن تلك المصاديق أعم من أن تنحصر بأهل الكتاب ويدل قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ) على أن آيات نبوته تبلغ الناس، ويدركون معها أنه رسول من عند الله يجب إتباعه ونصرته وإعانته.
من غايات الآية
الآية دعوة لأهل الكتاب لتنقيح أعمالهم، وإصلاح أقوالهم، والإمتناع عن ايذاء المسلمين بغير حق، وتدعو الناس إلى إستقصاء الحق والبحث عن دلالاته والتمييز بينه وبين الباطل، وتجذب المسلمين إلى منازل الصبر والتحمل، والجهاد بالحكمة والموعظة الحسنة وبيان عدم جواز خلط الحق بالباطل.
 وتؤكد الآية بان القرآن خير محض، ونعمة على الناس جميعاً، وفيها إظهار للحق، فلما قام الناس بكتمان وإخفاء الآيات جاء القرآن ليكون آية بذاته ويبين الآيات، فسواء أصر بنو إسرائيل على كتمان الآيات أو بادروا إلى إعلانها فإن آيات الحق قد تجلت للناس في القرآن، ولكن كشف الحقائق وإخبار بني إسرائيل عما في كتبهم من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينفعهم في الدنيا والآخرة لأنه مقدمة لدخول الإسلام، وطرد للحجب الظلمانية التي تمنع الناس عن دخوله.
 
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ]
الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى بني إسرائيل كما يظهر من الواو العاطفة ولكنه لا يعني حصر مضمونه بهم فقط، فلغة العموم والإطلاق هي المستفادة من مثل المقام فهي شاملة لأهل الكتاب وللأمم والجماعات وحتى الأشخاص كمكلفين ملزمين ببيان الحق وإظهاره، والأمر بالمعروف وإجتناب المنكر، فهذه الآيات مدرسة طريقية ودعوة إلى الإسلام.
وهي إنذار وتحذير ووعيد يحمل في طياته الرحمة والرأفة والدعوة إلى الرشاد والهداية.
وفي الآية ولبسهم الحق بالباطل ذكرت وجوه:
الأول: إنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، فخلطوا الحق بالباطل، والباطل هو جحودهم بصفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما الحق فهو ما ورد في الكتاب من صفته( ).
الثاني: قال ابن عباس: لا تخلطوا الصدق بالكذب. وورد عنه في معنى اللبس في الآية: خلط الحق بالباطل.
الثالث: قال الحسن: كتموا صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودينه وهو الحق وأظهروا دين اليهودية والنصرانية.
الرابع: قال ابن زيد: الحق التوراة التي أنزلها الله على موسى، والباطل ما لبسوه بإيديهم( ).
الخامس: الحق إقرارهم بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث إلى غيرهم، والباطل إنكارهم أن يكون بُعث إليهم.
أما بالنسبة للقول الأول فان تبعيض الإيمان وتجزئة العمل بأحكام الرسالة أخص من اللبس والخلط، وربما أستدل على التبعيض بقوله تعالى [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ]( )، والإختلاف بين معنى اللبس والتبعيض ظاهر لغة وعقلاً، ولكن يصدق على التبعيض في المقام أن يكون من أفراد اللبس والخلط التي يأتون بها.
أما القول الثاني المروي عن ابن عباس فهو أحد مصاديق الآية لغة وواقعاً.
والقول الثالث يتعلق بكتمان الحق دون اللبس خاصة مع ذكره في الآية نفسها.
 والقول الرابع يمكن ان يكون أحد المصاديق بعد التقريب.
أما القول الخامس فيصدق على نفر من بني إسرائيل ومن رؤسائهم وهو كاف للخطاب بلغة الجمع لتلبسهم به لأن الآية في مقام الإنذار والردع والإعتبار ومنع إتساع وتفشي تلك الظاهرة المعادية للإسلام والضارة بأهل الايمان والتي تحول دون إنخراط بعض من أهل الكتاب في الإسلام.
وبالإضافة إلى الوجوه والمصاديق التي ذكرت في تفسير الآية يمكن إستقراء وجوه أخرى لها من معنى الآية ومفهومها، ومن فعل جماعة من بني إسرائيل وما واجهوا به الإسلام من الجحود والصد والمكر والختل والتدليس، وكانوا يعملون على صد بعض الأفراد بل شطر من القبائل بما يحرفونه من الكتاب ويدّعون أنه الحق إلى جانب صدهم لجماعات اليهود، ومنعهم من تلقي الدعوة الإسلامية بالإستجابة والقبول، وآيات الرسالة بالتصديق.
هذا بالنسبة لمنطوق الآية أما بالنسبة للمفهوم فانه يتعدى ذلك لأن في الآية تنبيهاً للمؤمنين، وتحذيراً لهم من سماع أقوال أهل الكتاب.
وورد عن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث بعدم تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم، فقد ذكر أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل اليكم)( ).
إن هذه الآية الكريمة وما فيها من ذم لمن يلبس الحق بالباطل ويقوم بكتمان الحق مدرسة وموعظة للمؤمنين وحرز وواقية وآلة يستطيعون معها كشف الكذب والبهتان الصادر من أهل الكتاب، وهي حجة باقية إلى يوم القيامة أي أن ما فيها من الخطاب والتحذير إنذار ، والإنذار إنحلالي يدعو الناس إلى قول الحق، وإظهار آيات القرآن وإعجازه , وإجتناب التدليس والإفتراء والتشويه.
علم المناسبة
لم يرد لفظ “تلبسوا” إلا في هذه الآية الكريمة، ومجيء الآية بصيغة الذم تنبيه للناس جميعاً إلى قبح خلط الحق بالباطل، ولزوم إجتنابه وأهله.
ووردت مادة اللبس بخصوص ذات الموضوع مرة ثانية في قوله تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ]( ).
ويحتمل الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: جاءت الآيتان من باب المطلق والمقيد، وان المراد منهما هو بنو إسرائيل على نحو الخصوص.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وإرادة المعنى الأعم في الآية أعلاه وهو أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
الثالث: التغاير والتعدد، وأن جهة الخطاب مختلفة في الآيتين.
الرابع: إرادة العموم والخصوص من وجه.
والصحيح هو الثاني والرابع، فالمراد من الآية محل البحث هم اليهود، أما الآية أعلاه فالمقصود بهما أهل الكتاب ومنهم اليهود.
وبين الآيتين من حيث الموضوع عموم وخصوص من وجه، وسيأتي بيان وجوه الإلتقاء والإفتراق بين الآيتين في تفسير الآية أعلاه من جهة لغة النهي في هذه الآية، واللوم في الآية أعلاه من سورة آل عمران.
لقد جعل الله عز  وجل هذه الآية حجة على بني إسرائيل لما فيها من الدلالة على قدرتهم على التمييز بين الحق والباطل، والقيام بالخلط بينهما عن قصد وعمد، فلا يستطيعون الإعتذار بالسهو والغفلة، ومع إحتمال هذا الإعتذار جاءت هذه الآية رحمة بهم، وتخفيفاً عنهم وإعانة لهم للنجاة من آفة وداء خلط الحق بالباطل، والسلامة من الأضرار المترتبة عليه، ومن الآيات ان كشف وإظهار الحق لم يتوقف عليهم، إذ أن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق، قال تعالى [وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ]( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين وما فيهما من ذم للبس توجه الخطاب المتعدد لبني إسرائيل، أحدهما بالزجر عن اللبس، والآخر باللوم عليه، وتوجه الخطاب إلى غيرهم من أهل الكتاب باللوم على خلط الحق بالباطل، وفيه رحمة إضافية ببني إسرائيل، وتشديد بلغة الإنذار عسى أن يلتفتوا إلى وظائفهم في لزوم التصديق بالحق والآيات التي أنزلها الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزه عن تحريف الكتاب، وتغيير صفات النبي والبشارات التي جاءت بنبوته ونزول القرآن في التوراة.
تفسير قوله تعالى [وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ ]
جاء الجزم في تكتموا، وحذفت النون للنهي، أو حذفت على النصب بأن مضمرة بعد الواو. والتقدير: لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه، وتدل الآية على قدرتهم جماعات وأفراداً على التمييز ومعرفة الحق وأنهم لا يخفونه جهلاً وسهواً بل عن عمد وقصد، وأن الآيات كانت بين ظهرانيهم.
والآية تحذير من إخفاء الحق وتعمد عدم إظهار المعرفة وترك الإعتراف بصدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرفوه بصفته في التوراة.
وقال قوم أن الخطاب موجه إلى رؤساء أهل الكتاب لوقوع العناد بعد المعرفة منهم، وإمتناع ذلك على الجم الغفير منهم، ولكن الخطاب في الآية السابقة موجه إلى بني إسرائيل عموماً، خاصة وأنهم مكلفون بالأصول.
وكون الإنسان في موضع التابع أو المتبوع لا يؤثر في توجه الخطاب التكليفي إليه، ثم أن أدنى ملابسة لمعرفة الحق كافية لقيام الحجة، والآية الكريمة وردت بصيغة المضارع وبما يفيد الإستغراق الزماني، وقد كانت الدعوة مستمرة والآيات متصلة في نزولها، والمعارك دائرة بين جند الإسلام وبين المشركين، وربما إتصل بعض المشركين مع الأقرب لهم من أهل الكتاب ليسألوهم عن النبوة وصدق الرسالة ، فجاء النهي والتحذير في الآية لهم جميعاً.
وفيها تنبيه للمؤمنين ولمن يبحث عن الحقيقة بعدم الإلتفات إلى أهل الكتاب الذين يخفون الحق ويكتمونه، ويتركون الإقرار به، ويميلون إلى الجحود.
وعن ابن عباس في قوله تعالى {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم)( ).
وورد لفظ(الحق) بصيغة الرفع في القرآن مائتين وسبعا وعشرين مرة وجاءت ثلاثة منها في آية واحدة[قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ( )، وتكرر مرتين في أربع آيات منها هذه الآية وأخرى في ذات المعنى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ) .
 ويفيد الجمع بينهما أن النهي ليس عن أمر محتمل الوقوع، بل هو زجر عن أمر حاصل في الواقع الخارجي أيضا، ومعالمه تتضح للحواس.
علم المناسبة
ورد لفظ “تكتموا” في القرآن مرتين، مع التباين في موضوعهما إذ جاءت الآية الأخرى خطاباً للمسلمين بلزوم عدم إخفاء الشهادة في المعاملات وفك الخصومة، وفي هذا التباين مدح وثناء على المسلمين في موضوع ومحمول الآية قال تعالى [وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ] ( ).
وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين، وحفظ للحقوق والحكم بالعدل، ومنع للضرر والإضرار، وهو من الشواهد على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بينما جاء الذم في إخفاء بني إسرائيل الحق وأخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل الصلة بين الآيتين وجوهاً:
الأول: عدم وجود صلة بين الآيتين، إنما هو تشابه لفظي.
الثاني: إنحصار التباين في جهة الخطاب.
الثالث: وجود صلة في المعنى والدلالة بين الآيتين.
والصحيح هو الثالث، ففي الجمع بين الآيتين حجة على الناس بأن الحق الذي يُدعون لإظهاره وكشفه إنما هو طريق لتثبيت معالم وسنن الحق بين الناس إلى يوم القيامة، فنزل القرآن ليسود العدل الأرض، وجاءت التوراة بالبشارة بنزوله لإعانة الناس على تهيئة مقدمات هذا الحكم وأسباب العدل.
وإخفاء الحق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع برزخ دون دخول الناس وتيسير حكم الحق والعدل، فوردت الآية محل البحث لدعوة بني إسرائيل لما فيه خيرهم وخير أبنائهم، ورفع الظلم عنهم وعن غيرهم من الناس بسيادة أحكام الإسلام.
وجاءت الآيات بالإنذار والوعيد على إخفاء والحق، والإخبار بأن الله عز وجل يعلم السرائر، والإصرار على إخفاء البشارات، قال تعالى [إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ]( ).
ولقد تكرر لفظ الحق في هذه الآية، ويحتمل وجوهاً:
الأول: الإتحاد في اللفظ والمعنى فيهما معاً.
الثاني: الإتحاد في اللفظ والتباين في المعنى.
الثالث: نسبة العموم والخصوص المطلق بين المعنيين.
والصحيح هو الثالث، فان الحق المنهي عن كتمانه أعم من الحق الذين يخلطونه مع الباطل، ويمكن إستقراؤه من كثرة ورد لفظ كتمان الحق في القرآن، وتعددت موضوعاته، وذمه والنهي عنه، إذ تدعو الآية الى إظهار الحق وبيانه للناس، وتنهى عن كتمان ما أنزل الله، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ]( ).
ومن مصاديق اللعنة في الآية أعلاه رجوع أضرار هذا الكتمان عليهم بالذات، إذ لا يصدقهم الناس بعد ان جاء ذكر الآيات الباهرات في القرآن النازل من عند الله، ليكون كتمانهم للحق من ظلمهم لأنفسهم، ومن عمومات قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ووفق قانون التفسير الذاتي للقرآن، فقد جاءت الآية ببيان الحق الذي يخفيه هؤلاء والغرض الدنيوي منه، وسوء عاقبته، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ]( ).
ليفيد الجمع بين الآية محل البحث والآية أعلاه تجلي معاني الرحمة ببني إسرائيل والناس جميعاً بلغة الإنذار والنهي الواردة في هذه الآية، أما بنو إسرائيل فان الآية تدعوهم لكشف الحق وإظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب تحريف التوراة، وأما عموم الناس فان الآية تدعوهم للإعراض عمن يكتم الحق ، ويخفي أسرار التنزيل , وهل يقف الأمر عند الأعراض عنه , الجواب لا , فلا بد من دعوته لكشف الحق والبشارات النبوية لأنها تركة كريمة للإنسانية جمعاء.
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انها لم تكتفِ بدعوة الناس للإعراض عن التحريف، بل تدعوهم إلى الحق والهدى الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ]
وهذا الشطر من الآية خطاب لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل يعلم ما تبدون وما تكتمون، وأنه يجزي على الصالحات والنية الحسنة.
الثاني: تعلمون صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة من غير لبس ولا شبهة.
الثالث: تعلمون أن الله يظهر أمر الإسلام وشأنه، ولابد وأن يسود في الأرض.
الرابع: تعلمون أن الجحود والعناد وعدم الإعتراف بالحق لا ينفع شيئاً وإن عاقبته الخزي والعذاب الأليم في الآخرة.
الخامس: تعلمون أن ما عند الله عز وجل خير لكم من الثمن القليل الذي تجعلون الآيات والبراهين عوضاً وبدلاً له.
السادس: تعلمون أن إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعرضكم للعذاب المهين والخزي في الدارين , وأن الله عز وجل يؤاخذكم عليه.
السابع: تعلمون أن النعم التي عندكم هي جميعاً من عند الله تعالى وان دوامها وأداء شكرها بالتصديق بالرسالة وبما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: تعلمون أن عبادة الله تعالى واجبة وأنها بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تتحقق إلا بالتصديق والتسليم بما جاء به من عند الله كما تؤكده الآية التالية.
ترى كيف ومن أين جاء العلم عند بني إسرائيل، والذي ذكرته هذه الآية فيه وجوه:
الأول: التباين والتضاد بين الحق والباطل، والصدق والكذب.
الثاني: القدرة على التمييز بين مضامين وآيات التوراة والإنجيل وبين ما طرأ عليها من التحريف.
الثالث: توارث البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: ظهور المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء العقلية منها أو الحسية، وهي حجة بذاتها تدعو إلى الإسلام ونبذ العناد وأسباب الشك والريب.
الخامس: يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله، وأنه سبحانه يظهره على الدين، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بنعمة العقل، وجعله رسولاً باطنياً، ومن منافع العقل معرفة قبح الخلط بين الحق والباطل لإيهام النفس والغير عناداً وإستكباراً، فجاءت هذه الآية حجة عليهم، ورحمة بهم، وبياناً لعظيم فضل الله على بني إسرائيل , وتفضيلهم بأن جعلهم يعلمون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلاماتها وأوانها، ليكون هذا العلم مقدمة للتصديق به وبما ينزل عليه من كلام الله، ليفوزوا بالسبق في دخول الإسلام وإستدامة النعم عليهم وأسباب تفضيلهم.
وموضوع العلم في الآية على وجوه:
الأول: العلم بالإخفاء وكتمان الآيات، أي هذا الكتمان عن عمد، ولو من الرؤساء خاصة.
الثاني: تعلمون لزوم السعي لإظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في الكتب السماوية السابقة.
الثالث: تعلمون الحق، وتملكون القدرة على التمييز بينه وبين الباطل، وفي التنزيل[الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ]( ).
والحصحصة: بيان الحق بعد إخفائه وكتمانه.
************
 
قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعوا مَعَ الرَّاكعِينَ] الآية 43. 
 
الإعراب واللغة
وأقيموا: الواو عاطفة، أقيموا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل، الصلاة: مفعول به منصوب، وآتوا الزكاة: جملة معطوفة على أقيموا الصلاة .
 وإركعوا: حرف عطف وفعل أمر والواو فاعل.
مع الراكعين: مع: ظرف مكان متعلق بإركعوا، الراكعين: مضاف إليه. 
يقال زكّى عمله: أي طهره ووقره، وزكى الزرع يزكو زكاء من باب قعد إذا نمى، والزكاة: الزيادة ووجوه البركة، والزكاة في الإصطلاح الشرعي وجوب مقدار معين من أموال خاصة بشروط محددة , وتطلق على الصدقة مطلقاً ومنها المستحبة , ويتجلى الوجوب بقوله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ]( ).
والركوع لغة الإنحناء يقال: ركع الشيخ أي إنحنى من الكبر، وهو في الشريعة ركن من أركان الصلاة , وعبارة عن إنحناء مخصوص وهيئته مرسومة بالسنة المتواترة والسيرة، والراكعون لغة وإصطلاحاً جمع راكع وهو فاعل الركوع، والذي يأتي به طاعة لله عز وجل وأداء الصلاة والزكاة إيمان ظاهر وثبات على الإسلام.
 
في سياق الآيات
الخطاب في الآية الكريمة عام، وينحل أيضاً إلى خطابات متعددة، كما هو الحال في كل خطاب عام أفرادي يكون على نحو العموم الإستغراقي، فبعد النهي والتوبيخ جاء الأمر بما يجب عليهم فعله.
بعد النهي عن الجحود العقائدي والإعراض اللساني والقولي والجدل بالباطل، جاءت هذه الآية بالأمر وإظهار صدق الإيمان بإقامة الصلاة وأداء الزكاة، فالآيات تظهر الملازمة بين القول والفعل.
ويتجلى الإعجاز في نظم الآيات بأن يأتي الأمر بعد النهي مع التباين بينهما في الموضوع والإتحاد في الغاية الحميدة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الحق الذي نهت الآية السابقة عن خلط الباطل به خصوصاً وأنهما فرض في كل الملل السماوية السابقة، وهما من الوفاء بعهد الله وباب لنيل الأجر والثواب والسعادة في الدنيا والآخرة، ويتحقق أداء الصلاة على نحو الإنفراد والجماعة إلا أن الآية تشير إلى الثانية، والإنخراط في صفوف المسلمين والتمسك بالوحدة الإيمانية والإعتصام بالقرآن والسنة، وتبين الآية التالية أن الصلاة من البر والصلاح وهي أعم في موضوعها.
ومن إعجاز القرآن أن يأتي الأمر إلى بني إٍسرائيل بإقامة الصلاة وأداء الزكاة بعد الأمر بالإيمان بنزول القرآن من عند الله تعالى , فمع الإيمان بنزول القرآن يأتي الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية فيه، ويعلم بنو إسرائيل أن الله تعالى لا يرضى منهم إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولا يقبل دونهما بدلاً، وعدم قبول البدل والعوض شاهد على صدق نزول القرآن من عندالله تعالى لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم  لم يطلب لنفسه من بني إٍسرائيل المال والثروة، بل قام بتبليغهم التنزيل وأحكامه، ليقوموا هم بوظائفهم العبادية، وهل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الحق الذي يجب أن لا يكتمه بنو إسٍرائيل، الجواب نعم، من وجوه:
الأول : الصلاة تشريع في الملل السماوية السابقة.
الثاني : إقامة الصلاة من مصاديق التصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالث: أداء الصلاة فرع إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لانه جاء بها كعبادة لله، ومن الآيات أنه يؤم بنفسه المسلمين في كل يوم في الصلاة، في مواظبة على إمامة الصلاة لم يحاكيه فيه أحد , وهو الأسوة الحسنة في الصلاة، ليكون أداؤه لها موعظة وعبرة للناس.
وجاءت الآية الأربعون وهي آية [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي] بالخطاب التعييني الموجه إلى اليهود بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] بالأمر بذكر نعم الله عليهم، ولزوم الوفاء بعهد الله سبحانه لتكون كلها بصيغة الأمر.
وجاءت بعدها آية [أَوَّلَ كَافِرٍ] بالأمر أيضاً مع تعقبه بالنهي من غير تعارض بينهما، فتتضمن الأمر بالإيمان بنزول القرآن من عند الله، والنهي عن الكفر به نزولاً، ومضموناً ودلالة وعملاً، إذ أن الإيمان بنزول القرآن من عند الله شاهد على إنتفاء الكفر.
 ثم جاءت الآية الثانية والأربعون آية [وَلاَ تَلْبِسُوا] بالنهي المتعدد، بأداة النهي “لا” لإفادة الزجر والمنع التام من خلط الباطل بالحق، والكذب بالصدق , ليأتي هذا الزجر مقدمة لدخولهم الإسلام، ونوع طريق لإتيانهم الصلاة والزكاة، ويتصف خلط الحق بالباطل بأنه برزخ دون الإنصياع للأوامر الإلهية.
وجاءت هذه الآية بالأمر المحض فليس فيها نهي أو زجر، بل جاءت بخصوص إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإختصاص هذه الآية بالأمر دون النهي دليل على قدسية وموضوعية  الصلاة والزكاة، ودعوة بني إسرائيل والناس جميعاً لدخول الإسلام لأنه يعني بالدلالة التضمنية التصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
ويظهر نظم الآيات فلسفة التخفيف عن بني إسرائيل بالدعوة إلى الإسلام، إذ تدعوهم الآية قبل السابقة إلى الإيمان بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
وجاءت الآية السابقة لنهيهم عن خلط الحق بالباطل، وعن إخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتضمنت هذه الآية حثهم على أداء وظائفهم العبادية كمكلفين وأهل كتاب يتوجه إليهم الخطاب الإلهي بالعبادة.
لما جاءت هذه الآية بثلاثة أوامر في فريضة الصلاة والزكاة جاءت الآية التالية بلغة اللوم وصيغة الإنكار مع بيان الموضوع وهو أمر الناس بالإحسان والصلاح مع الإصرار على البقاء على الضد منهما , ليكون متعلق التوبيخ هو البقاء على المعصية، وقيل المراد الأمران معاً وتفضيع الحالة، ترى لماذا لم تقدم الآيات اللوم الوارد في الآية التالية على أداء واجب الصلاة والزكاة ليكون مقدمة لأدائها , الجواب من وجوه:
الأول: يدل تقدم الفرائض على وجوبها بالذات من غير ذكر لمقدمات مخصوصة من اللوم والتوبيخ على  فعل آخر، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ). 
الثاني: ترك الصلاة وعدم إتيان الزكاة من مصاديق نسيان النفس، في الدنيا والآخرة، ليكون تقدير الجمع بين الآيتين: وتنسون أنفسكم بترك الصلاة…..).
الثالث: يدل قوله تعالى(وأنتم تتلون الكتاب) بالدلالة التضمنية على التذكير بالفرائض التي جاءت في آية البحث، فليس من كتاب سماوي إلا وفيه الأمر بأداء الصلاة والزكاة.
الرابع: جاءت الآية بعد التالية بتأكيد أداء الصلاة وإتخاذه وسيلة وبلغة مباركة للمقاصد السامية في الدنيا والآخرة، بقوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
وأختتمت الآية التالية بقوله تعالى(أفلا تعقلون) وفي صلته مع هذه الآية مسائل:
الأولى: يدرك العقلاء أن إقامة الصلاة واجب لأنها وردت في الكتب السماوية التي يتلونها.
الثانية: إقامة الصلاة من النعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل.
الثالثة: بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب إقامة الصلاة، وبها جاء القرآن النازل من السماء.
الرابعة: إقامة الصلاة من الحق الذي يجب ألا يكتمه أهل الكتاب.
الخامسة: التوبيخ والذم على ترك الصلاة , وعلى الإمتناع عن دفع الزكاة.
السادسة: تعدد الحجج والبراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن وإعجازه، وتلاوة بني إسرائيل للتوراة.
السابعة: أفلا تعقلون أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مما نزل به القرآن ، وورد في الكتب السابقة والأوامر الإلهية إلى الأنبياء والأولياء، قال تعالى[وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
إعجاز الآية 
بين ثنايا اللوم والذم جاءت الآية القرآنية للنصح والهداية والنجاة وذكر ما يلزم على الناس فعله، لبيان لطف الله تعالى ودوام إنعامه على بني إسرائيل بما تتضمنه الآية من العناية الخاصة بهم في دعوتهم للفرائض والعبادات وإعانتهم على أدائها بالحث والتذكير والإنذار.
وجاءت الآية بصيغة الجمع ليكون الأمر فيها إنحلالياً موجهاً إلى كل فرد من بني إسرائيل على نحو التعدد، مرة كفرد من المجموع، ومرة بصفته الشخصية، وجاءت الآية بلغة الأمر الذي يحمل على الوجوب.
ويمكن إعتبار الآية من الشواهد على تكليف الناس جميعاً بالفروع كتكليفهم بالأصول.
 ومن إعجاز القرآن أن اللوم والزجر عن المعاصي مقدمة للأمر بالواجب، كما ان الواجب سبب للنجاة والتخلص من اللبس بالمعاصي.
 ويفيد الجمع بين هذه الآيات بيان كيفية عدم لبس الحق بالباطل، بأن يقوم العباد بأداء الفرائض الذي هو شاهد على التصديق بالتنزيل وعدم كتمان الحق.
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة بآية (واركعوا)، وورد لفظ(إركعوا) في القرآن ثلاث مرات، إلا أنه لم يرد بإضافة حرف العطف (الواو) إلا في هذه الآية،  مما يدل على موضوعيتها، إذ تبين الدعوة الى الإيمان ودخول الإسلام بلحاظ الفعل العبادي الذي يؤديه  ويقوم به  كل يوم المسلمون وهو الركوع، ومافيه من معاني الخضوع والخشوع لله تعالى.
 
الآية سلاح
لما جــاءت الآيــات السابقة بوجوب التصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل، جاءت هذه الآية للبيان اليومي المتجدد للإيمان بالله عز وجل والعمـل بمضــامين القرآن، والصــلاة والزكــاة ركنا الإســلام، وأراد الله عــز وجل لهذه الآية أن تكون الفيصل الجلي الظاهر بين أهل الإيمان والكفار، بالإضافة إلى حقيقة وهي ترشح مفاهيم الإيمان على الجوانح والحواس، فتسود بأدائهما الأخلاق الحميدة , وينحسر الشرك وتضعف قوى الضلالة، وليرى الناس معالم التقوى في سيرة المسلمين، ونماء وطهارة أموالهم وزيادة الخيرات عندهم. 
ويدعو المسلمون غيرهم للإسلام بالقول والفعل الأسوة, وكذا القرآن يدعوهم ويطرد عنهم الغفلة والعناد، وتحث الآية على عدم الإنشغال باسباب الخصومة , وتتضمن الأمر للناس بالتوجه الحكيم إلى دخولهم الإسلام.
وإذ يأمر الله تعالى المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فان هذه الآيات بذاتها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعلم مستقل في هذا الباب يبقى بيد المسلمين إلى يوم القيامة، يدعون فيه الناس إلى سبل الهدى، ويتخذونه وسيلة وبرهاناً لإجتناب الفواحش والسيئات، وفيها تأديب للمسلمين والمسلمات بلزوم تعاهد الصلاة وإيتاء الزكاة وعدم التفريط بهما.
 فالمسلمون يحملون هذه الآية في مضمونها إلى بني إسرائيل والناس جميعاً، ويتقيدون بأحكامها ليكونوا أسوة حسنة للناس في الإمتثال لما في آيات القرآن من الأحكام والأوامر.
وفي الآية وجوه:
الأول: وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة , وذكرت صلاة الجماعة وهي مستحبة، وليس بواجب، ومع هذا فقد جاءت بعرض واحد مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مما يدل على موضوعيتها وإن لم تذكر الآية صلاة الجماعة على نحو النص والتصريح لما في قوله تعالى[وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، من الإجمال والتخفيف.
الثاني: خاتمة الآية أعم من إرادة صلاة الجماعة فالمراد أداء الصلاة بأوقاتها جماعة وفرادى، من غير تعارض بين الأمرين أي إرادة ذات الصلاة، وإرادة صلاة الجماعة على نحو الخصوص.
الثالث: يجوز أن تجمع الآية بين الواجب والمستحب، والأصل هو حمل الأمر على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة، فيكون المراد وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإستحباب صلاة الجماعة.
الرابع: الإشارة إلى صلاة الجماعة مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة دليل على التأكيد على المستحب معها وما لها من الثواب العظيم 
عن أبى بن كعب ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الصبح فقال : ” أشاهد فلان ” ؟ قالوا : لا ، قال : ” أشاهد فلان ” ؟ قالوا لا، قال : ” إن هاتين الصلاتين( ) أثقل الصلوات على المنافقين ، ولو تعلمون ما فيهما لاتيتموهما ولو حبواً على الركب ، وإن الصف الاول على مثل صف الملائكة ، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه ، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى”( ). 
وجاءت آية البحث بأوامر ثلاثة:
الأول: إقامة الصلاة.
الثاني: إتيان الزكاة.
الثالث: الركوع في الصلاة مع المسلمين.
والأول والثاني من الفرائض والواجبات، أما الثالث أعلاه فيحتمل وجوهاً:
الأول: إنه واجب بلحاظ ركنية الركوع من الصلاة.
الثاني: إرادة صلاة المسلمين الصلاة جماعة وهي مستحبة في ذاتها إستحباباً مؤكداً .
الثالث: المعنى الأعم وإرادة الركوع كواجب وجزء من الصلاة، والندب إلى صلاة الجماعة.
الرابع: تفسير الآية إتيان الركوع وأداء الصلاة جماعة، أما التأويل فهو التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتلقي الفرائض كما يتلقاها المسلمون بالقبول والإمتثال على نحو العموم المجموعي.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة , وقد أراد الله عز وجل لأهل الكتاب الإلتفات إلى كيفية أداء المسلمين الصلاة جماعة، والتدبر فيها، وما تتضمنه من معاني الخشوع لله والإتحاد، ودلالات العز والمنعة، وهي من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
مفهوم الآية 
تبين الآية موضوعية الصلاة والزكاة في الملل السماوية، وتنهى عن الإنشغال بما يحجب الفرد والجماعة عن الإيمان والدخول في الإسلام، وظاهر الآية الإلحاح في الدعوة , والأمر بالمبادرة إلى مسالك الهدى وإتيان الفرائض خصوصاً وأنها فرض عين على كل مكلف وتحذر من إختيار الإمتناع والصدود عن أدائها.
وتبعث الآية البهجة والغبطة في نفوس المسلمين لإرتقائهم إلى مراتب أداء الفعل العبادي، والإمتثال الأحسن لأوامر الله تعالى، فيأتي الأمر لغيرهم، فتملأهم السعادة لمواظبتهم على الصلاة، وتأخذهم الرأفة بالآخرين إخوانهم في الإنسانية والكتاب السماوي , والأسى على تخلفهم عن الواجبات العبادية.
وتؤكد الآية على موضوعية الصلاة ولزوم عدم التفريط بها، وتخبر  عن وجود أمة ملتزمة بالصلاة مواظبة عليها، وهم الراكعون، وان الله عز وجل قد خفف عن الآخرين بدعوتهم إلى محاكاتهم في الصلاة، وتظهر الآية عدم الخوف من إقامة الصلاة، وليس من حق أحد من الكفار ان يدعي الخشية من الكفار في إعلانه الإسلام وإلتحاقه بالمسلمين، ففيها دلالة على تفضل الله تعالى بجعل واقية على المسلمين في أدائهم العبادات.
وفي الآية مسائل:
الأولى:عطف مضامين الآية على الآيات السابقةفي الخطاب لبني إسرائيل
الثانية: إقامة الحجة عليهم بدعوتهم لما يجب في طاعة الله.
الثالثة: وجوب إقامة الصلاة , إذ جاءت الكتب السماوية جميعاً بإقامة الصلاة، وهي الصلة بين العبد والمعبود.
الرابعة: لزوم إتيان الزكاة، وإخراج الحقوق الشرعية من الأموال خاصة، والمعروف أن اليهود يشتغلون بالتجارة , فتتعلق الزكاة في أموالهم، ويتجلى إيمان الفرد بإخراج الزكاة الواجبة من ماله ودفعها لأهلها من الفقراء والمساكين.
الخامسة: بيان ماهية الصلاة، والتوكيد على موضوعية أمرين فيها:
الأول: الركوع بإعتباره واجبا ركنياً من أركان الصلاة.
الثاني: أداء الصلاة جماعة.
يبعث أداء المسلمين الصلاة جماعة السكينة في قلوبهم، ويكون برزخاً دون الخوف من العدو، ويلقي الفزع والحزن في قلوب الكفار، ويجعلهم يترددون في التعدي على الإسلام والمسلمين، وهو باب لنزول النصرة على المسلمين من عند الله عز وجل , قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، والصلاة من مصاديق الصبر والتقوى، وإذ جاء القرآن بدعوة الأعراب إلى صدق الإيمان، وعدم الإكتفاء بالشهادتين قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
وجاءت هذه الآية بدعوة بني إسرائيل إلى الإسلام وإتيان الفرائض والواجبات، وفيه زجر عن إدعاء الإيمان من دون عمل , كما في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا]( )، فلا يكفي قول آمنا بحضرة المؤمنين، بل لابد من الإلتحاق بهم في صلاة الجماعة، ومن وجوه قوله تعالى [ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] إتقان الصلاة وحفظ آيات من القرآن لتلاوتها على نحو الوجوب في الصلاة، وفي الآية دعوة لبني إسرائيل والناس جميعاً من وجوه:
الأول: التدبر في ماهية الصلاة , وما فيها من الأسرار.
الثاني: معرفة فلسفة صلاة الجماعة، والمنافع التي تترشح عنها في باب العقيدة والإجتماع والأخلاق وغيرها.
الثالث: جعل الإنقياد لأوامر الله عز وجل ملكة راسخة في النفوس.
الرابع: أداء الصلاة إظهار عملي للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وباعث لليأس في نفوس أقطاب الكفر والشرك والجحود.
الخامس: في الآية ترغيب لبني إسرائيل والناس بالثواب العظيم الذي يترشح عن أداء الصلاة.
وجاءت الآية بالأمر بدفع الزكاة والذي يحمل على الوجوب، وفيه دعوة لبني إسرائيل لأعانة فقراء المسلمين بما جعل في أموالهم من حق لهم، ومناسبة لنماء أموالهم وزيادتها، ونيل الثواب الجزيل بإخراج الزكاة، فبدل أن [يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ).
 وبدل أن يجبر أهل خيبر على تسليمهم أموالهم جاءت هذه الآية لدفع الزكاة ممن تتعلق بماله من النقد مع بلوغ النصاب أو الأنعام الثلاثة وهي الأبل والبقر والغنم، أو الغلات الأربعة وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب عند بلوغ النصاب وقد بيناه تفصيلاً في كتبنا الفقهية( )، ولو دفع غير المسلم الزكاة فهل تقبل منه , الجواب لا، لأنها عبادة يشترط فيها قصد القربة، والزكاة من ضروريات الدين.
 وذكرت في باب الزكاة من رسالتي العملية الحجة مسألة رقم(10): الكافر تجب عليه الزكاة، لكن لا تصح منه إذا أداها، لأنها عبادة، ولا تقبل من غير المسلم.
لذا فمن إعجاز آيات القرآن تقديم إقامة الصلاة على إتيان الزكاة، وفيه وجوه:
الأول: الإقتران والملازمة بين الصلاة والزكاة.
الثاني: الصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، ومن التكامل في الإسلام التكليف بالعبادات البدنية والمالية.
الثالث: الصلاة واجب مطلق غير مقيد بشرط، أما الزكاة فانها مقيدة بتوفر النصاب، فتجب الصلاة على كل مكلف ومكلفة، أما الزكاة فلا تجب إلا على أرباب الأموال.
 وهل تتضمن الآية في مفهومها دعوة الفقراء من بني إسرائيل لدخول الإسلام وأخذ كفايتهم من الزكاة , الجواب نعم إلى أن يتفضل الله عز وجل عليهم بالسعة في الرزق الكريم.
 وخاتمة الآية واقية وحصن للصلاة من تقييدها أو تحريفها، أو إنتقاص بعض أركانها أو واجباتها.
الآية لطف
تبين الآية وظائف أهل الكتاب العبادية، وتمنع من اللبس والترديد، وفيها توكيد لحقيقة في الإرادة التكوينية، وهي إتحاد سنخية وظائف العبد التي جاءت بها الكتب السماوية، وفضح التحريف والتغيير الذي طرأ على الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فمن يقول أنه مؤمن أو أنه من أتباع الأنبياء فعليه ان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة التي لا تصلح إلا بأحكامها التي يؤديها المسلمون بإعتبار نسخ الشريعة الإسلامية للشرائع السابقة.
 ومع إقتران سياق ولغةالآيات صبغة الذم والتقبيح فان الآية جاءت بصيغة الأمر الذي يفيد التحدي والتوبيخ إلى جانب الدعوة إلى الصلاح والإصلاح .
 فالتوبيخ على التخلف عما في الآية من الأمر ,أما الدعوة إلى الصلاح فهي مضمون الآية الكريمة وما فيها من الأمر الذي جاء بصيغة الجمع الشامل لأهل الكتاب عموماً، وهل ينحصر موضوعه بزمان التنزيل أم هو أعم ، الجواب هو الثاني فما في الآية من الأمر وصيغة التحدي والتوبيخ باقية وملازمة لأهل الكتاب في كل زمان، لتكون لطفاً إلهياً عاماً، فهي لطف بالمسلمين من وجوه:
الأول: توكيد حسن وصحة وضرورة إختيار المسلمين مجتمعين ومنفردين الإسلام , قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
الثاني: حثهم على تعاهد الصلاة وأداء الزكاة.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن إقامة الصلاة وأداء الزكاة أمران مفروضان على الملل السابقة.
الرابع: الفخر والإعتزاز بالتوفيق لأداء الوظائف العبادية.
الخامس: إعانة أهل الكتاب وغيرهم على دخول الإسلام وأداء الفرائض والعبادات.
الثاني: الآية لطف بأهل الكتاب من وجوه:
الأول: إقامة الحجة عليهم.
الثاني: تذكيرهم بما في التوراة والإنجيل من وجوب أداء الفرائض.
الثالث: ضرورة بيان المائز بين الذي يؤمن بالله ويتبع الأنبياء وبين الكافر الوثني، فلابد للذي يؤمن بالله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهما الشاهد العملي على الإقرار بالوحدانية لله تعالى.
الرابع: في الآية تخفيف عن المسلمين في موضوع وأحكام جدال أهل الكتاب، فكأن الآية تخاطب أهل الكتاب وتقول لهم بدل أن تنشغلوا بجدال المسلمين توجهوا إلى أداء وظائف العبادة.
الخامس: الإخبار عن حقيقة وهي أن ملاك ومصداق الإيمان هو إقامة الصلاة وإتيان الزكاة فمن يقول أنه يتبع الأنبياء وأنه يعمل بأحكام كتاب سماوي، فان الأنبياء والكتب السماوية المنزلة كلها جاءت بإقامة الصلاة وأداء الزكاة.
السادس: منع أهل الكتاب من كثرة الجدال وإثارة الشبهات وحسد المسلمين لأنهم يؤدون الفرائض.
السابع: توكيد حقيقة وهي إنعدام المانع بين العباد وبين طاعة الله عز وجل، والإخبار عن أهلية كل إنسان لدخول الإسلام، والمساواة مع المسلمين بالوقوف في صفوفهم لأداء الصلاة.
 ومن الآيات عدم إعتبار السبق في الإسلام في صفوف المصلين، فقد يأتي الذي أسلم في ساعته ليقف في الصف الأول في الصلاة لأن المسجد كالسوق، والمكان فيه لمن سبق، في دلالة على التكافئ بالإسلام والتساوي في مقامات العبودية والطاعة لله تعالى، فالغني يرضى أن يقف خلف الفقير، والسيد خلف العبد في الصلاة، وهذا الرضا سعي في مرضاة الله.
الثالث: الآية رحمة بالكفار من وجوه:
الأول: دعوة الناس للإسلام، وإقامة الصلاة وإتيان الزكاة.
الثاني: حجب الناس عن الإنصات إلى أهل الكتاب في إنكارهم للبشارات التي جاءت في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: إقامة الحجة عليهم من وجوه:
الأول:دعوتهم إلى الاسلام.
الثاني: لزوم أداء واجبات العبودية لله تعالى.
الثالث: تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية، وأحكام الحلال والحرام.
الرابع: زجر الكفار عن التعدي على المسلمين، ومنعهم من أداء الصلاة جماعة.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد صيغة النهي والتحذير من إخفاء الحق مع العلم، جاءت هذه الآية لنفس الجهة المخاطبة وهم بنو إسرائيل، فمن الإعجاز في هذه الآية بدايتها بالخطاب لبني إسرائيل بأن يذكروا نعمة الله تعالى عليهم، وجاءت الآية قبل السابقة بالأمر بالإيمان بنزول القرآن من عند الله، وتعقبتها آية النهي عن خلط الحق بالباطل وإخفاء الحق، ثم إنتقلت هذه الآية إلى لغة الأمر التعبدي المتعدد، فلم تتضمن هذه الآية إلا الأوامر التعبدية، وهي على أقسام:
الأول: إقامة الصلاة.
الثاني: إيتاء الزكاة.
الثالث: إظهار الخشوع لله تعالى بالركوع في الصلاة.
ومن الإعجاز في هذه الأوامر أنها تمنع بني إسرائيل من البقاء في منازل العناد والجحود، فلم تقف هذه الآيات عند النواهي والزجر عن الحرام، بل جاءت بالأوامر العبادية لتنقل بني إسرائيل والناس إلى مراتب الفضل والرفعة بإظهار معاني الخشوع والخضوع لله تعالى، وفيه شاهد على تفضيل بني إسرائيل من وجوه:
الأول: إكرامهم بالخطاب الإلهي في القرآن وهو آخر الكتب السماوية نزولاً.
الثاني: توجيه الأمر لهم بالصلاة والزكاة وبما يفيد الإنبعاث الأكيد، وعدم جواز الترك.
الثالث: التنبيه إلى لزوم مبادرة بني إسرائيل لدخول الإسلام، للفوز بمراتب التفضيل التي تكون به على نحو الخصوص والحصر لعمومات قوله تعالى في خطاب المسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وإذ جاءت الآيات السابقة بالتحذير من الجحود والكفر , وما يترتب عليهما من الدعوة للخشية من الله تعالى كما في قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] جاءت هذه الآية لتبين سنخية التقوى وهي أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، ولا تتحقق الرهبة والخوف من الله تعالى إلا بأداء العبادات والفرائض.
 فتنهى هذه الآيات عن أمور:
الأول: أخذ الرشا بالباطل.
الثاني: التفريط بآيات الله.
الثالث: كتمان البشارات.
وتأمر في ذات الوقت بالخضوع والخشوع لله تعالى، لتتجلى معاني العبودية وما يتقوم به تفضيل بني إسرائيل وهو العبادة والخضوع والخشوع لله تعالى.
 ومعنى الآية حافظوا على التفضيل بدخول الإسلام وإقامة الصلاة وإتيان الزكاة، وإبتدأت الآية بذكر الصلاة لأنها عمود الدين، ومصداق الإيمان، والعبادة البدنية التي تحتاج إلى إنتظار الوقت لأدائها وبذل الوسع في إتيانها لأن أفعالها على كيفية مخصوصة لا تقبل الترديد والتخيير والتبديل، ولأنها فريضة يومية متكررة، فليست هي فعلاً عبادياً شهرياً او أسبوعياً، بل تؤدى في اليوم الواحد خمس مرات.
وهذه الآيات شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله تعالى، فلم يرض الله منهم إظهار الحق وحده، فقد يخبر أحدهم عن البشارات التي جاءت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  في التوراة ولكنه لايدخل الإسلام، لذا جاءت الآية بوجوب دخوله وأداء العبادات البدنية والمالية , قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
وجاءت الآية التالية في التحذير من إعلان الحق وعدم إتباعه بقوله تعالى[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] ( )، لأن خطابات الإيمان موجهة إلى الناس جميعاً، فيكون الذي تلقى البشارات وراثة أو من الكتب التي عنده والملة التي هو عليها بعرض واحد مع الكافر الوثني الذي ليس عنده شئ، لأن الله تعالى أنعم على الناس بنعمة العقل، وجاءت معجزات النبوة لتكون حجة على أرباب العقول، وتجذب الناس إلى الإيمان.
 ولكن هذه الآية أكرمت بني إسرائيل بدعوتهم إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ليتلقى الناس جميعاً التكليف لصيغة الإطلاق، وورود آيات تأمر الناس جميعاً بالإسلام وإتيان الفرائض، قال تعالى [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ] ( ).
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم  بيّن لبني إسرائيل كيفية وأحكام الصلاة.
الثاني: معرفة أهل الكتاب بالصلاة بلحاظ أداء المسلمين لها.
الثالث: جاءت الآية بصيغة الإجمال، أما البيان والتفضيل فيكون متأخراً عن أوان الخطاب، كما لو كان بالرجوع إلى آيات القرآن الأخرى والسنة النبوية، ويحتمل أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب، والخلاف صغروي إذ نزل القرآن منجماً، وخلال سنوات الرسالة.
وجاءت الشريعة بالناسخ والمنسوخ، وأن المراد هو طاعة الله والفناء في مرضاته، والمطلوب نية الإمتثال، وتلقي الأمر الإلهي بحسن الإستجابة، وصدق العزيمة، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وجاءت الآية لتؤكد على وجوب الصلاة والزكاة مصداقاً للعبادة البدنية والمالية، ومن الإعجاز في المقام وجود البيان  في ذات الآية بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] فانه إخبار عملي ينفي الإجمال، ويبين معالم وكيفية وأوان الصلاة بلحاظ أداء المسلمين لها، والركوع جزء واجب من الصلاة التي هي كل لا يتجزأ، تبدأ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالتسليم.
وإبتدأت الآية بالصلاة لوجوه:
الأول: بيان شأن وموضوعية الصلاة في سلم العبادات.
الثاني: الصلاة فعل عبادي يأتي به كل مسلم ومسلمة على نحو العموم الإستغراقي.
الثالث: تؤدى الصلاة على كل حال، في حال الحضر والسفر، والصحة والمرض.
الرابع: الصلاة واجب مطلق غير مقيد بقيد، فأداء فريضة الحج مقيد بالإستطاعة، والصوم بالصحة وعدم المشقة الزائدة، أما الصلاة فانها غير مقيدة بحال دون غيره.
الخامس: تتجلى في الصلاة معاني الخشوع والخضوع لله تعالى.
السادس: أداء الصلاة شاهد حسي على دخول الإسلام، فمن يقف بين يدي الله للصلاة يومياً فانه يؤكد عملياً إسلامه، ويشهد الله والملائكة والناس على إيمانه.
السابع: الصلاة وسيلة التنزه من أدران الشك والريب.
الثامن: بأداء الصلاة يحرص العبد على عدم إخفاء الحق، ويتجنب الخلط بينه وبين الباطل، فكما أن إظهار الحق مقدمة لدخول الإسلام وأداء الصلاة، فان أداء الصلاة مقدمة للإمتثال لما ورد في الآية السابقة من الإمتناع عن خلط الحق بالباطل وكتمان الحق.
التاسع: من الحق الذي أمر الله بني إسرائيل بإظهاره وجوب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،  ويتجلى هذا الإتباع بأداء الصلاة مع عموم المسلمين.
العاشر: أداء الصلاة طريق لإخراج الزكاة.
الحادي عشر: تجب الصلاة على كل مكلف وتؤدى في كل حال، أما الزكاة فانها لا تجب إلا على من بلغ ماله النصاب.
وجاءت الآية بالأمر إلى بني إسرائيل بإقامة الصلاة، وأدائهم لها على نحو الإستقلال والإتحاد، وفيه حث على أدائهم الوظائف العبادية، وإخبار بأن إقامة الصلاة واجب عيني على كل مكلف ذكراً أو أنثى، حاكماً أو محكوماً.
 والخطاب في الآية إنحلالي يتوجه إلى كل مكلف ومكلفة من بني إسرائيل وفيه منع من الرجوع إلى كبرائهم لانهم مثلهم في تلقي الخطاب التكليفي، ويكون الفضل لمن يمتثل له، ويقيم الصلاة طاعة لله تعالى.
 وجاء الأمر بالزكاة مقترناً بالصلاة ومتعقباً لها لأنه عنوان الطهارة وباب لنماء المال وسعة الرزق، وتبين الآية موضوعية الزكاة في مراتب الإيمان، ومن الآيات الإعجازية عدم وقوف القرآن عند دعوة بني إسرائيل للتصديق بنزول القرآن والنطق بالشهادتين، بل أمرتهم هذه الآيات بالإتيان بفروع الدين والواجبات العبادية، وهو شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله، فلم يخش الله تعالى عدم دخول بني إسرائيل الإسلام لما فيه من التكاليف، ولم تأتهم الأوامر الإلهية بخصوص العبادات على نحو تدريجي وعلى مراتب، بل جاءهم الأمر بأداء العبادات مصاحباً وملازماً للأمر بدخول الإسلام لبيان قانون ثابت من وجوه:
الأول: قانون وجوب التصديق بنزول القرآن.
الثاني: قانون لزوم العمل بما في القرآن من الأوامر وإجتناب ما نهى عنه.
الثالث: قانون عدم جواز التفكيك بين دخول الإسلام وأداء الفرائض والعبادات .
(وإستدل بهذه الآية على أن الكفار مكلفون بفروع الشرائع)( ).
فاذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بنفسه يؤدي الصلاة بخشوع وخضوع مع عظيم منزلته عند الله , فمن باب الأولوية أن يؤديها الناس جميعاً، ومن الآيات في السنة النبوية الشريفة قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )، ليكون هذا الحديث شاهداً على تحصيل البراءة بأداء الصلاة على الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه أمور:
الأول: توكيد لحقيقة إمتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأوامر الإلهية.
الثاني: إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس في الوظائف العبادية.
الثالث: إنه من البراهين على صدق نبوته.
الرابع:  فيه بيان لموضوعية الصلاة في العبادة.
الخامس: الإشارة الى أن الصلاة عنوان الإيمان وشاهد التقوى.
السادس: الترغيب بالصلاة وأدائها .
السابع: الحث على تعاهد الصلاة والفرائض الأخرى.
الثامن: البعث على إخراج الزكاة والتقيد بالواجبات والفرائض البدنية والمالية.
 وفي الأمر بالزكاة مسائل:
الأولى: الدعوة للتنزه من أخذ المال بالحرام، قال تعالى [وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ] ( ).
الثانية:  إدراك حقيقة وهي تعلق العبادات بالأموال ولزوم إخراج الحق الشرعي منها، فلا تختص العبادة بما هو بدني، كالصلاة والصوم بل تشمل إخراج الزكاة من المال الشخصي ليكون هذا الإخراج تثبيتاً لدعائم الدين في الأرض، ودليلاً على صدق الإيمان بالبذل من المال، حباً لله وطاعة له سبحانه.
الثالثة: إعانة الفقراء في مرضاة الله، ومن الآيات في فريضة الزكاة ان إعانة الفقراء تأتي من أغنياء المؤمنين بالمال لتكون تثبيتاً لأقدامهم في منازل الإيمان، ومدداً وعوناً لهم في أداء الفرائض والعبادات .
الرابعة: من منافع الزكاة تطهير الأموال , وجعلها تنمو بإزدياد وبركة وقد ذم الله تعالى بصيغة المثل الكفار في إنفاقهم , وأخبر بإن هذا الإنفاق سبب لتلف أصل الأموال عندهم , قال تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ] ( ).
فجاءت الآية محل البحث لسلامة الأموال من الآفات , والآية أعم من أن تدل عليه، من وجوه:
الأول: جاءت هذه الآيات خطاباً لبني إسرائيل على نحو التعيين وأمرتهم أولاً بالتصديق بنزول القرآن الذي يعني الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهتهم عن إخفاء الحق.
الثاني: تضمنت هذه الآية الأمر بإتيان الفرائض لبيان شرفها وضرورتها.
الثالث: عدم إمكان نيل مرتبة أداء الفرائض، والتوفيق إليها إلا بدخول الإسلام.
لذا لا تقبل الصلاة وكذا دفع الزكاة إلا بقصد القربة الذي يكون دخول الإسلام شرطاً فيه، وفي الجمع بين التصديق بنزول القرآن من عند الله وإتيان الفرائض شاهد على التكامل في الشريعة الإسلامية، وأنها عقيدة وأفعال عبادية بدنية ومالية، فالإسلام جهاد مع النفس الأمارة، وقهر للنفس الشهوية والغضبية، وشوق إلى الله تعالى يتجلى بالإمتثال لأوامره التي جاءت جلية واضحة في القرآن .
وتخبر الآيات عن قوانين ثابتة وهي:
الأول: قانون الناس جميعاً سواء في أداء العبادات، إذ يتوجه الخطاب التكليفي إلى الناس جميعاً بشرط البلوغ والعقل ذكوراً كانوا أو أناثاً إلا أن يدل دليل على التخصيص.
الثاني: قانون إنحصار التفضيل بأداء الفرائض والعبادات، وليس من خصوصية لقوم دون غيرهم .
الثالث: قانون يؤدي التصديق بنزول القرآن من عند الله إلى أداء الصلاة وإتيان الزكاة.
الرابع: قانون إتيان الصلاة وأداء الزكاة أمر قائم بذاته، وأداء المسلمين لهما حجة بالغة، وهما من الحق الذي لا يجوز كتمانه وإخفاؤه.
الخامس: قانون ليس لنفر من الناس أن يقولوا نصدق بنزول القرآن أو ندخل الإسلام بشرط ألا نؤدي الصلاة أو لا نخرج الزكاة، وفي الأمر بأداء الصلاة والزكاة على نحو الوجوب رحمة ببني إسرائيل، وشاهد على لزوم عدم كتمان الحق.
السادس: قانون الآية شاهد على بدء زمان إنتصار الشريعة السماوية وثبات أحكامها في الأرض، وهو من الحق الذي يجب إظهاره، والبشارات التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع والعموم، وفيه وجوه:
الأول: توجه الخطاب السماوي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلى جميع بني إسرائيل 
أما من دخل الإسلام من بني إسرائيل فانه خارج بالتخصص من الخطاب في الآية لتغير الموضوع والحكم، ولأنه إمتثل للأوامر الإلهية، وجاءت هذه الآية لتخبر عن وجوب الإلتحاق والإقتداء به.
الثاني: الخطاب في الآية إنحلالي، إذ يتوجه إلى كل مكلف من بني إسرائيل ذكراً أو أنثى.
الثالث: المراد من الزكاة في الآية هي الفريضة المخصوصة في الأموال وإخراج نصف دينار من عشرين ديناراً ذهباً، ولاتجب إلا على من بلغ ماله النصاب.
وإذا كان أداء الزكاة مقيداً بالنصاب، فلماذا جاء الإطلاق في الأمر بها، فيه وجوه:
الأول: تعلق الزكاة بمال كل مكلف ومكلفة من بني إسرائيل بقيد بلوغ النصاب.
الثاني: المراد من الخطاب كبراء بني إسرائيل، وهم أصحاب الأموال والضياع منهم.
الثالث: إخبار كبراء بني إسرائيل بعدم جواز أخذ الرشا من عامتهم، بل عليهم أن يطهروا أموالهم بإستخراج زكاتها.
الرابع: الآية بشارة لصيرورة من يدخل الإٍسلام من بني إسرائيل غنياً قادراً على إستخراج الزكاة، خصوصاً وانهم يولون التجارة والكسب عناية خاصة، ويبذلون الجهد في تحصيل المال.
فمن إعجاز الآية ترغيب بني إسرائيل بدخول الإسلام وهي وعد كريم لهم في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الخامس: جاءت الآية لبيان أحكام الإسلام، والإخبار عن الفرائض ولحاظ التقييد في الزكاة بالرجوع إلى السنة النبوية الشريفة.
السادس: الغنى والفقر من الأمور غير المستقرة، ويكون الإنسان يوماً غنياً ويوماً فقيراً، فجاءت الآية لإحراز الغنى في الدنيا والسعادة في الآخرة بالإمتثال لأحكامها وما فيها من الأوامر.
السابع: يجب ان يعلم من يدخل الإسلام بوجوب الصلاة عليه في كل الأحوال، والزكاة مع تحقق شرائطها، غنياً كان أو فقيراً،، فحتى الذي لا يملك النصاب عليه أن يوطن النفس بوجوب إخراج الزكاة إن إمتلك النصاب.
الثامن: الآية دعوة لفقراء بني إسرائيل لدخول الإسلام، ورجاء الغنى والسعة فيه ونيل حقهم من الزكاة ومن بيت المال .
وكل الوجوه أعلاه صحيحة بإستثناء الوجه الثاني، لأن الخطاب في الآية عام لبني إسرائيل، وإخراج الزكاة رحمة لبني إسرائيل والناس جميعاً، وشاهد على تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، وفيه تطهير للأموال، وتنزيه للنفوس وتهذيب للأخلاق، وإصلاح للمجتمعات وبناء الصلات الإجتماعية على أسس الإيمان والتقوى، وطرد للنفرة والكدورات، ومنع من غلبة الشهوة والحرص، ونزع لرداء الدنيا واللهث وراء زينتها، وفيه تنمية لملكة فعل الصالحات، بإتيان الواجب المالي، وهو من الشواهد على إرادة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  من البشارات التي جاءت في التوراة والإنجيل، ودليل على حاجة بني إسرائيل والناس جميعاً إلى الإسلام ودخوله وأداء الفرائض والعبادات.
وإذا كان بنو إسرائيل يحبون المال، فالآية دعوة لهم لدخول الإسلام من وجوه:
الأول : يجب على الأغنياء إعانة الفقراء بمقدار قليل من أموالهم، وإذ تجب الجزية على الكتابي غنياً كان أو فقيراً، فان الزكاة لا تجب إلا الغني الذي يدخل الإسلام منهم مع قلتها، وعظيم أجرها، كما انها ترد إلى الفقراء ممن أسلم منهم، لبيان التكافل الإجتماعي في الإسلام.
وأختتمت الآية بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] وهذه الخاتمة، ومجيؤها مع إقامة الصلاة آية إعجازية، تتضمن دلائل عقائدية وعبادية، وفيه وجوه:
الأول: إنه من عطف الخاص على العام، بإعتبار أن الركوع جزء من الصلاة، وقد جاء أول الآية بإقامة الصلاة.
الثاني: المراد من الجمع في الآية بين إقامة الصلاة والشروع فيها، ومن الأمر بالركوع الإستمرار والإستدامة بأدائها، من جهتين:
الأولى: أداء الصلاة الواحدة، فجاءت الآية بالأمر بالإبتداء بها مع النية والإستمرار بها إلى التسليم.
الثانية: إستدامة أداء الصلاة، والإستمرار بعمارة المساجد، وإحياء ذكر الله تعالى، وهو من الدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  إذ أرسله الله تعالى لتعاهد عبادة الله في الأرض إلى يوم القيامة، ولا تعارض بين الجهتين، وكلاهما من مصاديق الآية الشريفة.
الثالث: إرادة المعنى اللغوي للركوع وهو الخشوع والخضوع، ولا يتعارض هذا المعنى مع الإتيان بالركوع كفعل عبادي وهيئة مخصوصة، والركوع في الصلاة يأتي بعد القيام والقراءة مع نطق المصلي بلفظ تعبدي مخصوص حال الركوع وهو (سبحان ربي العظيم وبحمده).
الرابع: الزجر عن الإستكبار والعناد، الذي هو من أسباب ستر الحق وعدم إظهاره، فيأتي الأمر بالركوع للخضوع والخشوع لله تعالى مقدمة لكشف الحقائق، والإخبار عن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  في الكتب السماوية، وكون الركوع مقدمة لإظهار الحق، وإظهار الحق مقدمة للركوع والصلاة.
وهل هو من الدور، الجواب لا، بل كل فرد منهما يصلح أن يكون طريقاً للآخر وعوناً في فعله.
 وفي خاتمة الآية مسائل :
الأولى: بيان المساواة في الإسلام، وتتجلى بأبهى صورها في أداء الصلاة اليومية.
وإرادة المساواة في الأمر بالركوع على وجوه:
الأول: الدعوة إلى نزع رداء الكبرياء وفي الحديث القدسي(الكبرياء ردائي والعظمةُ إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في النار)( ).
الثاني: إخبار عامة بني إسرائيل بانعدام الفوارق بينهم وبين كبراء قومهم، فالجميع مأمورون، بالوقوف جنباً إلى جنب أثناء الصلاة بخشوع وخضوع لله تعالى.
الثالث: يتساوى من يدخل الإسلام مع السابقين له من المسلمين بالوقوف بين يدي الله تعالى في الصلاة اليومية، سواء في زمن التنزيل والصحابة، أم أيام التابعين أم بعدها من الأحقاب والأزمنة.
وتذّكر الآية بني إسرائيل بعالم الآخرة وما فيه من الحساب والوقوف بين يدي الله عزوجل للحساب، ولزوم الإستعداد له بالإيمان وعمل الصالحات، ويأتي الركوع وما يقترن به من الخشوع وسكون الجوارح ليكون إستجارة بالله، وبرزخاً دون العذاب في الآخرة.
وقيدت الآية الركوع بأنه (مع الراكعين)، وفيه مسائل:
الأولى: الآية دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام.
الثانية:  العبادة واجب على كل مكلف ، وتؤدى بدخول الإسلام.
الثالثة: بيان قاعدة ثابتة، وهي ظهور ورفعة الإسلام سواء أسلم بنو إسرائيل أو أصر شطر منهم على الجحود، فان الإسلام دين ثابت في الأرض، ويؤدي المسلمون وظائف العبادة لله تعالى، فيدل قيد (مع الراكعين) على حقيقة، وهي وجود أمة تواظب على الركوع والصلاة طاعة وخضوعاً لله تعالى.
ويدل في مفهومه على أن الله تعالى هو الغني عن بني إسرائيل وغيرهم وأنه سبحانه غير محتاج قال تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] ( )، وفيه بيان لحقيقة وهي أن إمتثال بني إسرائيل وإلتحاقهم بالمسلمين في أداء العبادات يعود بالنفع عليهم في الدنيا والآخرة، ولا يضرون بكتمان الحق والتخلف عن الوظائف العبادية إلا أنفسهم.
وتدل خاتمة الآية على إرادة إسلام بني إسرائيل وإتيانهم الصلاة وضروب العبادة الأخرى , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، وفي قوله تعالى[وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ]( )، ذكر أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالصلاة، فقالوا: لا نجبى، فانها مسبة علينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لاخير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود( )( ).
 ولكن الآية أعم موضوعا ودلالة , وتشمل موضوع الركوع في الصلاة.
التفسير الذاتي
مع قلة كلمات هذه الآية فإنها تضمنت ثلاثة أوامر هي:
الأول:إقامة الصلاة.
الثاني: إخراج الزكاة، ودفعها إلى مستحقيها.
الثالث: الركوع مع المسلمين.
وبينما جاءت كل من الآيتين السابقتين بنهيين، فإن هذه الآية لم تتضمن أي نهي، كأن النهي مقدمة للواجب وهو الصلاة والزكاة، ويدل إفراد الأمر بالصلاة والزكاة على موضوعيتهما، ولزوم التقيد بها، ومن إعجاز نظم هذه الآيات إفراد آية لفريضة الصلاة والزكاة , وفيه مسائل:
الأولى: بيان موضوعية الصلاة والزكاة، والإخبار عن وجوبهما.
الثانية: إفراد آية للأمر بالصلاة والزكاة.
الثالثة: لما جاءت الآيتان السابقتان بالإخبار عن تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، ونهي بني إسرائيل عن خلط الحق بالباطل , وجاءت هذه الآية لتؤكد موضوع التصديق هذا بالعبادة التي تشترك كل الكتب السماوية بالأمر بها، وهي الصلاة والزكاة، وتخبر عن كون الصلاة والزكاة من الحق الذي لا يجوز لبس الباطل به.
الرابعة: بيان صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته بدعوته إلى طاعة الله، والإنقياد لأوامره.
الخامسة: طرد النفرة من الإسلام، ومنع العناد والإصرار على البقاء على الملل السابقة، فلم يأت الإسلام إلا بعبادة الله وتوكيد إمتناع الشريك، وجاءت الآيات بإقتران طاعة الرسول مع أداء الصلاة والزكاة، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( )، والصلاة واقية من لبس الحق بالباطل، وحرز من كتمان الحق والبشارات التي جاء بها الأنبياء السابقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا فإن هذه الآية من مصاديق تفضيل بني إسرائيل بتوجه الخطاب اليهم على نحو التعيين بإقامة الصلاة، وإن كان هذا التعيين لا يمنع من إرادة الناس جميعاً بالآية، وحثهم جميعاً على دخول الإسلام كما جاءت الخطابات للمسلمين ولعامة الناس بإقامة الصلاة لأنها فريضة واجبة على كل مكلف ومكلفة.
 ومن إعجاز القرآن مجيء الأمر لبني إسرائيل بالأصول والفروع بأن يؤمنوا بالله عز وجل ورسوله،ويظهروا ما عندهم من البشارات والأخبار وإقامة الصلاة وأداء الزكاة، وهو من الشواهد على عدم التبعيض في الإيمان والتكاليف.
 وإذ ورد ذم الطائفة من بني إسرائيل لتبعيضهم الإيمان في قوله تعالى[أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( ) فإن هذه الآيات جاءت لبيان لزوم الإيمان وأداء التكاليف والإنقياد لأوامر الله عز وجل.
 وأختتمت الآية بالأمر بالركوع، وجاء الأمر بإقامة الصلاة وإتيان الزكاة بذاته من غير إضافة أو قيد، أما الركوع فجاء مقيداً بأن يكون مع الراكعين، وفيه وجوه:
الأول: أداء الصلاة بأركانها بإعتبار أن الركوع ركن فيها، وذكر في الآية على نحو المثال ذي الموضوعية وليس الحصر.
الثاني: إتيان الصلاة جماعة.
الثالث: جذب بني إسرائيل للإسلام بذكر آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إمتثال المسلمين للأمر الإلهي بالصلاة على نحو العموم المجموعي.
الرابع: يحتمل الركوع في الآية وجوهاً:
الأول: يصدق على إتيان الصلاة على نحو الفرادى أنه من الركوع المذكور.
الثاني: القدر المتيقن هو أداء الصلاة جماعة، أما الفرادى فقد ذكرت  في أول الآية بقوله تعالى[أَقِيمُوا الصَّلاَةَ].
الثالث: إرادة المعنى الأعم من الصلاة الفرادى وصلاة الجماعة.
والصحيح هو الأخير، فإن مضامين الآية والأمر بالركوع لا تنحصر بصلاة الفرادى في أوقاتها اليومية , قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( )، وجاءت الآية بصيغة الجمع، وهي خطاب إنحلالي موجه إلى كل مكلف من بني إسرائيل، كما يصح خطاباً متحداً لبني إسرائيل، على نحو العموم المجموعي، وترغيبهم بأداة الصلاة جماعة في منتدياتهم.
وإذ أختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى[إِيَّايَ فَاتَّقُونِ] ( )، والتي قبلها بقوله تعالى[وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )، جاءت هذه الآية لتبين أن أداء الصلاة والزكاة هو من تقوى الله، وشاهد على الخشية منه تعالى، وبلغة لنيل رضاه.
وقد جاء في القرآن ما يدل على أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الميثاق الذي إتخذه الله عز وجل على بني إسرائيل، بقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، مما يدل على أن الصلاة أمر واجب في شريعة موسى عليه السلام، وجاءت خاتمة الآية محل البحث [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] للدلالة على إرادة الصلاة بالكيفية والماهية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن صلاة اليهود ليس فيها ركوع.
إن أداء الناس الصلاة و إتيان الزكاة حاجة لهم في النشأتين، والله عز وجل غني عن العالمين، لذا فمن فضل الله سبحانه على بني إسرائيل دعوتهم للإتيان بالفرائض، وإذ جاءت الآية السابقة بنهي بني إسرائيل عن كونهم أول كافر بالقرآن، فان هذه الآية تخبر عن وجود أمة سابقة في الإسلام، مواظبة على الصلاة وأدائها جماعة، فاذا لم يكن بنو إسرائيل أول مؤمن بالقرآن وسبقهم غيرهم ممن رزقهم الله نعمة الإيمان، فلا يكونوا أول كافر به.
ولما كانت الصلاة جامعاً مشتركاً بين القرآن وبين التوراة والإنجيل كما في قول عيسى عليه السلام [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( )، فانها من أفراد تصديق القرآن للتوراة والإنجيل، وشاهد على صدق نزوله من عند الله، مع تجلي معاني التكامل في أحكام الشريعة الإسلامية، وإتقان المسلمين لكيفية الصلاة وأدائهم لها بهيئة الجماعة والتعدد.
من غايات الآية
تتضمن الآية إقامة الحجة على أهل الكتاب بدعوتهم إلى ما يجب عليهم، والإخبار عن الملازمة بين الاقرار بالربوبية لله تعالى وبين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
 وفي الآية تأديب للمسلمين بلزوم تعاهد الصلاة وعدم التخلف عن إخراج الزكاة، وفيها إخبار بوجوب عبادة الناس لله تعالى، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
 ومن غايات الآية زجر بني إسرائيل عن التحريف والتعدي على المسلمين، وإيقاد نار الفتنة والخصومة، إذ انها تدعوهم للركوع والسجود مع المسلمين في جماعاتهم.
وتخبر الآية عن حسن سمت المسلمين وتعاهدهم للصلاة التي هي عمود الدين إلى يوم القيامة، وتكون النتيجة وفق القياس الاقتراني كالآتي:
الكبرى: الآية دعوة مستمرة للركوع مع الراكعين.
الصغرى: المسلمون وحدهم الذين يقيمون الصلاة.
النتيجة: الآية دعوة لدخول الإسلام والإلتحاق بالمسلمين. 
التفسير
تفسير قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]
الأمر في الآية الكريمة نص لا يحتمل تأويلاً آخر، ضعيفاً كان هذا الإحتمال أو غير ضعيف، وفي الخطاب التكليفي هذا أمران:
الأول: من المقصود به.
الثاني: ما المراد من الصلاة والزكاة.
أما بالنسبة للأول ففيه وجوه:
الأول: الخطاب موجه لليهود لسياق الآيات ومضامين الإرشاد والنصح وإقامة الحجة عليهم ولأنه جزء من العهد الذي أمر هم الله عز وجل بالوفاء به بقوله تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِي]( )، وكأن هذه الآية تفسير لأحد أهم مضامين الآية السابقة وهذا من إعجاز القرآن، بإعتبار أن الصلاة والزكاة فرعان عباديان يؤكدان إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: إنه خطاب لليهود بإقامة صلاتهم، ولكن هذا الوجه تخرجه خاتمة الآية بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ] إذ أن صلاتهم خالية من الركوع، وهذا نوع إعجاز آخر للآية.
الثالث: إنه خطاب للمسلمين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وعدم الإلتفات إلى ما يشغلهم عنهما.
الرابع: الناس جميعاً مخاطبون بالآية الكريمة وما فيها من الأمر الإلهي.
الخامس: يتضمن الخطاب معنيين:
الأول: التوكيد والإمضاء والمقصود به المسلمون.
الثاني: التحريض والإنذار وهو ينقسم إلى قسمين، خاص وعام، فاما الخاص فالمراد به بنو إسرائيل، وأما العام فالمراد به الناس جميعاً.
والأقوى هو الوجه الخامس لعموم الخطاب القرآني وعدم وجود قرينة تدل على التخصيص، والقول بعدم حجية المعنى السياقي للآيات لا يمنع من تخصيص بني إسرائيل بالأولوية في الخطاب والتنبيه والإنذار، والأولوية مغايرة للحصر، ففي الآية أمر ودعوة إلى بني إسرائيل بإتيان الفرائض التي جاء بها النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
وكما جاءت الآية السابقة متعلقة بالإعتقاد، فإن هذه الآية تتعلق بالأعمال وأفعال الجوارح، إذ أن الصلاة والزكاة أهم فروع الدين الإسلامي، وبالصلاة تعاهد عملي يومي متجدد للإيمان الشخصي والجماعي، وبالزكاة تسليم للأمر الإلهي الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وإستعداد وإقدام على التضحية والجهاد بالمال طاعة لله وجهاداً في سبيله.
إنهما وجهان واقعيان للإيمان، فالصلاة أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وعن الامام جعفر الصادق عليه السلام: “ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، وليس ما بين المسلم وبين أن يكفر إلا أن يترك الصلاة”.
أما فيما يتعلق بالزكاة فإنها من ضروريات الدين، وقد ورد في بعض الأخبار أن مانع الزكاة كافر، وذكر الصلاة والزكاة من باب المثال والفرد الأهم وإلا فالمقصود الفرائض والعبادات والمناسك مطلقاً.
ومع ان الآية تأمر بني إسرائيل بالتكاليف إلا انها نعمة أخرى عليهم إلى جانب النعم التي أمرهم الله عزوجل بأن يذكروها لتكون نعم الله عليهم متصلة ومتجددة فقد شرفهم الله تعالى بان جاء خطاب التكليف في هذه الآية خاصاً بهم مع أن موضوعه وأحكامه شاملة للناس جميعاً.
ومن النعم الإلهية على بني إسرائيل في المقام وجود من سبقهم إلى الإيمان وتعاهد الركوع وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وكأن الآية تقول لهم إن إتباع الغير بالإيمان أمر يسير وقد أنعم الله تعالى عليكم وجعل غيركم يبادر إلى الإسلام ويكون أسوة لكم.
ومن المسلمين من لم يكن من أهل الكتاب قبل إسلامه بل كان قبل البعثة النبوية من المشركين وعبدة الأوثان، فهداه الله عز وجل للإسلام وأصلح سريرته وجعله يبادر إلى التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو حجة على بني إسرائيل في لزوم التصديق بالنبوة ونزول القرآن من عند الله، وتجلى هذا التصديق بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا يقف الإيمان عند حدود التصديق بالجنان بل لابد من إتيان الفرائض والعبادات.
وفي المشركين وحد توبتهم ورد قوله تعالى[فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ]( )، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من فارق الدنيا على الإِخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فارقها والله عنه راض)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ “أقيموا” ست عشرة مرة في القرآن، منها إثنتا عشرة بخصوص الصلاة لفظاً ومعنى “أقيموا الصلاة” وجاءت واحدة بخصوص الصلاة في معناها بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( )، وواحدة بإقامة الوزن بالعدل [وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ]( )، وواحدة بالشهادة بالحق والصدق [وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ]( )، وواحدة في تعظيم شعائر الله [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ]( ).
وإقترن أداء الزكاة مع إقامة الصلاة في مواضع عديدة من القرآن، وفيه توكيد للملازمة بين العبادة البدنية والعبادة المالية وحث للمسلمين على التقيد بهما، ومن الآيات ان لفظ الصلاة جاء بالإقامة لما فيها من الجهاد في سبيل الله، والتحدي للكافرين.
ويفيد الجمع بين الآيات أعلاه أن إتيان الصلاة إظهار للدين وتثبيت لأركانه في الأرض، وان إقامة الصلاة برزخ وعصمة من النقص في المكيال ومن شهادة الزور، لأن أداء الصلاة موضوع للتقوى وإستيلائها على الجوارح ومنها اللسان.
بحث كلامي
قال المعتزلة بان الأسماء الشرعية كالصلاة والصيام أمر جاء من الشرع أي أن إستعمال لفظ مخصوص لمعنى شرعي معين لم يكن حاصلاً قبل الشرع، كما في الإختلاف في أصل كلمة الصلاة، وقال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فانصحي    عيناً فان لجنب المرء مضطجعاً.
   وقال الأشاعرة من المجازات المشهورة إطلاق اسم الجزء على الكل، ولما كانت الصلاة العبادية تتضمن الدعاء أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز.
وقال الإمام الرازي: فان كان مراد المعتزلة من كونها إسماً شرعياً هذا “فذلك حق” وان كان المراد أن الشرع إرتجل هذه اللفظة إبتداء لهذا المسمى فهو باطل، وإلا لما كانت هذه اللفظة عربية، وذلك ينافي قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا] ( )( ).
وذكر في أصل إشتقاق الكلمة، فقال بعضهم: أصلها في اللغة الدعاء، وقال بعضهم: الأصل فيها اللزوم قال الشاعر:
لم اكن من جناتها علم الله وإني بحرها اليوم صالي( ).
أي ملازمة، وقال آخرون بل هي مأخوذة من المصلى وهو الفرس الذي يتبع غيره وقيل: والأقرب أنها مأخوذة من الدعاء.
ويدل ذكرهم على إشتقاق كلمة الصلاة الإتفاق على أنها كلمة عربية، وأن الخلاف صغروي، وهو الذي أطلق عليه في علم الأصول الحقيقة الشرعية والذي وقع الخلاف في صحته أو عدمه إذ نفى قوم وجود حقيقة شرعية في مقابل الحقيقة اللغوية وهي إستعمال اللفظ فيما وضع له من غير نقل أو تجوز كاسم الإنسان والسماء والأرض، اما الحقيقة الشرعية فهي إستعمال اللفظ بهيئته لمعنى مخصوص في الشريعة مع الإقرار بان اللفظ عربي، ولكنه لم يوضع في اللغة لهذا المعنى وكأنها برزخ بين الحقيقة والمجاز، ويكتفي الأشاعرة بتسميته مجازاً.
فكذا بالنسبة للصوم فهو في اللغة الإمساك قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما( ).
ويقال صامت الريح، إذا ركدت، وجاء إستعمال الصيام بالمعنى الإصطلاحي في الوظيفة العبادية، وهي الإمتناع عن الإكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس في شهر رمضان ويوم الصيام طاعة لله تعالى( ).
بحث بلاغي
يتضمن القرآن علوماً شتى كل واحد منها آية إعجازية في تأسيسه وإتقانه والمسائل المتفرعة عنه، ومن هذه العلوم علم المحكم والمتشابه وقد  تقدم عنه الكلام تفصيلاً( ).
ومن وجوه المحكم ما أحكم بالأمر والنهي وبيان الحكم بالنص الذي لا يحتمل التعدد في التفسير والتأويل كما في هذه الآية.
وقد جاءت الآية بثلاثة أوامر مع قلة كلماتها، ومن الآيات ان يكون الأمر الأول والثالث في موضوع واحد، وهو الصلاة، وفيه وجوه:
الأول:  التوكيد على موضوعية الصلاة في مصاديق الإيمان.
الثاني: من يقول أنه من أهل التوحيد فعليه أداء الصلاة.
الثالث: ليس الصلاة أفعالاً شخصية تؤدى سراً وخفية، بل هي أفعال مخصوصة توقيفية تؤدى جماعة بمعنى وجود نص وإجماع عليها وهو الذي يتجلى بأدائها جماعة من غير إختلاف.
 والصلاة من الإعجاز في الشريعة الإسلامية، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما فيها من النظام والدقة والضبط والإتفاق في أداء الأفعال العبادية طاعة لله تعالى، ومن الآيات أن يشتق اسم الركعة منه، مع أن فيها قياماً وقراءة وسجدتين.
ومن صيغ وأسرار البلاغة والإعجاز في الآية أنها لم تقل (وأقيموا الصلاة وأركعوا مع الراكعين وأتوا الزكاة) بإعتبار أن الركوع جزء من الصلاة، بل جاءت الزكاة متعقبة للصلاة وجاء الأمر بالركوع للحث على الإتيان بالصلاة وفق أحكام القرآن وماجاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
  والآية شاهد بأن الأوامر النبوية لا تنحصر بالمسلمين بل هي عامة وشاملة للناس جميعاً بلحاظ توجه الخطاب التكليفي بالفروع لهم , قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ).
إن تقييد الصلاة بذكر الركوع والصلاة جماعة، والإتيان بالصلاة تامة جامعة للشرائط برزخ دون سؤال التخفيف فيها، أو التسامح في أدائها أو إسقاط بعض شرائطها عن بني إسرائيل خاصة ممن يدخلون الإسلام أو عن غيرهم.
 فخاتمة الآية من إعجاز القرآن وشاهد على ثبوت أحكام الإسلام إلى يوم القيامة.
ووجوب أداء المسلمين والمسلمات للفرائض والعبادات بعرض واحد من دون تمييز، وليس لبعض بني إسرائيل القول بدخول الإسلام بشرط إسقاط الزكاة مثلا عنهم فلابد لكل مسلم من أداء الصلاة والزكاة، وفيه نفعه في النشأتين.
بحث بلاغي آخر
من أساليب البلاغة التقديم والتأخير في الكلمات والهيئات فقد يتقدم المفعول على الفاعل، أو الخبر على المبتدأ، والأصل تأخر المفعول والخبر.
وتعتبر العرب التقديم والتأخير من وجوه البلاغة ودليلاً على الفصاحة والبراعة في صياغة الكلام بأحسن مذاق وما يناسب الطباع، فجاء القرآن على عادة العرب في المخاطبات فلابد ان تتجلى في بلاغته علوم متعددة.
والتقديم والتأخير في القرآن لا ينحصر موضوعه بالجانب البلاغي بل يتضمن إشارات ولطائف عديدة تستنبط منها عدة علوم ومسائل خصوصاً وأن القرآن نزل ليبقى معجزة متجددة في كل زمان وتلك قاعدة كلية يجعلها العالم نصب عينيه عندما يقوم بدراسة القرآن أو تفسيره أو النظر فيه بلحاظ علم معين ولو علم البلاغة او علم النحو وحده.
وقد يكون التقديم بين أفراد معينة، والظاهر انه لا يدخل في التقديم والتأخير بالمعنى الإصطلاحي فقد تكرر تقديم الصلاة على الزكاة في آيات من القرآن ولم تقدم الزكاة على الصلاة لأهمية الصلاة في أولويات الفرائض العبادية , ولعموم الخطاب بها وعدم إختصاصها بمن يمتلك النصاب.
تفسير قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]
خطاب موجه إلى بني إسرائيل للإنخراط الفعلي في مسالك العبادة اليومية للمسلمين، وصحيح أنه قد يتجوز إلى الصلاة بالركوع ولكن لماذا ذكر الركوع فيه وجوه:
الأول: لأن صلاة اليهود خالية من الركوع، فجاء ذكر الركوع لبيان ان الصلاة المأمور بها هي صلاة المسلمين.
الثاني : المطلوب هو حضور الجماعات وأداء الصلاة جماعة مع المسلمين كإعلان لإسلامهم وباب للشهادة لهم لتقوية شوكة المسلمين.
الثالث من مضامين الركوع التفسيرية الإستعداد للتضحية ومد الرقبة والإنحناء في سبيل الله تعالى، فمن دلالات الآية إظهار قبولهم النفسي للإستشهاد في سبيل الله.
الرابع: الركوع عنوان وحدة المسلمين برداء العبادة والتقوى.
الخامس: المواظبة على صلاة الجماعة والتقيد بأحكام الصلاة حرب على النفاق وقهر للنفس الشهوية.
الظاهر هو إجتماع الوجوه الأربعة، وإتيان الركوع والحرص عليه فرع عقائدي والمواظبة على الصلاة ومعرفة أسرارها.
ويراد من الأمر بالركوع أيضاً الأمر بالخضوع لله، لأن الركوع والخضوع  في اللغة سواء، إذ أن المتبادر من الآية الكريمة هو الركوع بمعناه الإصطلاحي.
ومضامين ودلالات الآية أعم منه، فقد يراد منه المسارعة لإعتناق الإسلام ومن المجاز إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، كما أن الآية دعوة عامة للناس للإلتحاق بالمسلمين لعالمية رسالته وعمومات خطابات التكليف فيه وهو من عمومات[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي الآية تحبيب للصلاة في نفوس الناس، وبيان موضوعية الركوع وصلاة الجماعة ولزوم تعاهدها وعدم تركها.
وفي الآية إنذار لبني إسرائيل بأن لا يعملوا على جعل الناس ينفرون من الركوع، وما فيه من التكليف، فهو ركن من أركان الصلاة، وتتجلى فيه معاني الخشوع والخضوع لله تعالى، لذا لم تقل الآية (وأركعوا واسجدوا) بل ذكرت الركوع، وقيدته بأن يكون مع المصلين الآخرين.
 وهل يمكن حمل الآية على إرادة مما يجب على المسلمين في أداء الصلاة ولو على نحو الأداء الفردي الجواب نعم، وهو لا يتعارض مع ترغيب الآية بأداء الصلاة جماعة، لذا لا نقول بوجوب صلاة الجماعة ولكنها مستحبة إستحباباً مؤكداً.
ووردت فيها النصوص من السنة النبوية الشريفة بما يدل على لزوم تعاهدها والحرص عليها،(وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: تفضل صلاة الجمع على صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً) ( ).
لقد أراد الله عزوجل لأفعال الصلاة البقاء والثبات إلى يوم القيامة، وتفضل بالأوامر والأحكام والنواهي التي تمنع من طرو التحريف والحذف والنقص في الصلاة، وجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  في تثبيتها بالسنة القولية والفعلية اليومية.
وجاءت هذه الآية بذات المعنى لتتضمن في دلالتها الإنذار من محاولة النقص في الصلاة، وفيها بشارة للمسلمين أن من يدخل الإسلام من الأجيال اللاحقة لايستطيع تحريف أوتغيير الصلاة وإحداث النقص فيها فهي باقية على حالها وكيفيتها العبادية، ومن يدخل الإسلام ليس له إلا التقيد بأفعالها.
ومن الإعجاز في المصاديق العملية لأحكام الإسلام عدم طرو الزيادة أو النقيصة عليها، فلا يستطيع العابد المتنسك أن يزيد في الصلاة بذريعة التقرب إلى الله والفناء في مرضاته، ولا الذي يقوم إليها وهو كسلان بالتخفيف والنقص منها، تلقتها أيدي العلماء والمسلمين جميعاً يداً عن يد، وجيلاً عن جيل بذات الأركان والواجبات، ومّيز المسلمون بين الواجب والمستحب فيها.
ولم تحدث فتنة أو فرقة في كيفية صلاة الجماعة عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويجب أن يحرص ويتعاهد المسلمون هذه النعمة، وهي من مصاديق تفضيلهم على الأمم الأخرى بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وقد توارث المسلمون التنزيل والأفعال العبادية، ليكتب لهم الأجر والثواب خصوصاً وأن الأمر بالصلاة في القرآن جاء مجملاً، ولكن السنة النبوية بينته بالتفصيل.
فجاهد المسلمون لحفظ القرآن والسنة النبوية وعدم التفريط بأحدهما، وجاء ذكر الركوع في الآية من باب المثال الأمثل، والمراد المحافظة على كل جزء من أجزاء الصلاة، والحرص على وحدة المسلمين ونبذ النفاق وإجتناب أسباب الفرقة والشقاق.
 وتدعو الآية إلى دخول الإسلام بسلامة السريرة وحسن العزيمة، وإخلاص النية، ليكون المسلم عوناً للمؤمنين، كما تحث الآية المسلمين على قبول من ينتمي  إلى الإسلام بمعاني الأخوة، ومفاهيم الود والمحبة، مع إنتفاء المائز بالنسب والجنس والقومية، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) إذ يتساوى المسلمون في الركوع وهو من أسمى معاني الخضوع والخشوع لله تعالى.
ترى لماذا جاءت الآية بالأمر بإتيان الزكاة بين الأمر بالصلاة والأمر بجزئها، فلم تقل الآية (وأقيموا الصلاة وأركعوا مع الراكعين وأتوا الزكاة) بل ذكرت الركوع بعد الأمر بإتيان الزكاة، وفيه مسائل:
الأولى: التوكيد على موضوعية الزكاة في الشريعة الإسلامية.
الثانية: كل آية قرآنية هي مدرسة تأديبية للمسلمين والناس جميعاً، فجاءت هذه الآية للحث على دفع الزكاة.
الثالثة: بيان الملازمة بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وعدم جواز التفريط بأحدهما، ووجوب الزكاة من ضروريات الدين.
وقد بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  أحكامها وسننها لما لها من الموضوعية العبادية ولزوم التقيد  وعدم التفريط بها.
ورد بالأسناد عن محمد بن العلاء، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن إبن شهاب، قال : هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتبه في الصدقة، وهى عند آل عمر بن الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها، وهى التى انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر، فذكر الحديث، قال : ” فإذا كانت أحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة، حتى تبلغ تسعا وثلاثين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون، حتى تبلغ تسعا وأربعين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق، حتى تبلغ تسعا وخمسين ومائة،
فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون، حتى تبلغ تسعا وستين ومائة، فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة، حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة، فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وابنتا لبون، حتى تبلغ تسعا وثمانين ومائة، فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون، حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت أخذت، وفى سائمة الغنم ” فذكر نحو حديث سفيان بن حسين، وفيه: “ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار من الغنم، ولا تيس الغنم، إلا أن يشاء المصدق”( ).
الرابعة: الإخبار عن حقيقة وهي إن أداء الصلاة لا يغني عن إتيان الزكاة، فكل فرد منهما واجب عيني على المكلف نعم قيدت الزكاة بالنصاب.
الخامسة: بعث الشوق في نفوس الفقراء لأداء الصلاة، لأن تلقي الصدقة عون لهم في أداء الواجبات العبادية.
السادسة: تبدأ الآية بأداء الواجبات على نحو الكليات بإقامة الصلاة وإتيان الزكاة ثم يأتي التفصيل والتقييد بالأجزاء.
السابعة: إن الله عز وجل له ملك السماوات والأرض، والناس عباده، وجاءت الآية رحمة بهم ليتقلب المسلمون في ضروب الطاعة والعبادة ويتنعموا بعز الإسلام، وعلو كلمة التوحيد، وإنقطاع المسلمين إلى العبادة، وفيها بيان بأن بني إسرائيل مجتمعين ومتفرقين يحتاجون الركوع مع المسلمين.
 وقيل: أن الركوع( يستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة ، قال الأضبط بن قريع: [الخفيف] 
لا تعاد الضعيف علك أن تر   …    كع يوماً والدهر قد رفعه)( ).
والأولى أن يقول: والله قد رفعه، وإن إستلزم تغيير بيت الشعر لأنه يكتب في علم التفسير , ومن يركع لله عز وجل يبقى في رفعة دائما , قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وورد ذات اللفظ ولكن بصيغة المؤنث خطاباً لمريم بنت عمران[يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، وكأن مريم أمة بذاتها بتوجه لها الخطاب بالتقوى والفعل العبادي، وفيه دلالة على أن الركوع كان عند بني إسرائيل قبل نبوة عيسى عليه السلام أي أنه مما جاء به موسى عليه السلام وهو الذي تدل عليه الآيات الأخرى بالأمر الإلهي إلى إبراهيم وإسماعيل , وجاء في داود عليه السلام قوله تعالى[وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ]( ).
لذا فإن ما إشتهر بين علماء التفسير بأن الله خص الركوع بالذكر لأن المأمورين أهل الكتاب، ولا ركوع في صلاتهم ليس علة تامة للأمر بالركوع، إنما جاءت الآية بالتذكير بوظائف المسلمين , وطرد أسباب التحريف والتفريط الذي لا أصل له في العبادات .
 ومن إعجاز الآية وتأكيد موضوعية الركوع في عبادات أهل الكتاب أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما فرض عليهم، وكذا بالنسبة للركوع.
وليس من أمة تواظب على الركوع إلا المسلمين، لذا فإن خاتمة الآية تؤكد ماهية وكيفية الصلاة المطلوبة على نحو الحصر وبما يمنع من اللبس والجدال والشك، وقال تعالى في خطاب للمسلمين[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( )، كي تكون هذه المحافظة حجة وبياناً لمضامين آية البحث وإرادة صلاة الجماعة إذ يركع الإمام والمأموم بوقت واحد في آية من الخضوع والتطامن وإعلان عملي للعبودية لله عز وجل والإستعداد لبذل الوسع في سبيله.
وقد يطلق الركوع على السجود وكذا العكس، فيقال للساجد إنه راكع، وللراكع إنه ساجد لإلتقائهما في معنى الخضوع والذلة والإنحطاط إلى الأرض، وميّز بينهما في المعنى الإصطلاحي مع أنهما أهم أركان الصلاة، إذ يختص السجود بالهوي إلى الأرض ووضع الجبهة عليها خشوعاً وطاعة لله عز وجل.
ويحتمل قوله تعالى[وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] وجوهاً:
الأول: إرادة المعنى اللغوي وإظهار الخضوع لله عز وجل.
الثاني: المعنى الإصطلاحي من الإنحناء ووضع اليدين على الركبتين.
الثالث: المعنى الأعم وهو الركوع والسجود في الصلاة.
الرابع: أداء الصلاة جماعة وفرادا،فيكون معنى المعية في الركوع التشابه في فعله وأداء الصلاة في أوقاتها اليومية الخمسة .
 والظاهر هو المعنى الأخير والمعاني الأخرى في طوله ولا تتعارض معه.
 
علم المناسبة
وردت مادة “ركع” في القرآن في ثلاث عشرة آية وقد تكررت مادة الركوع في آيتين منها، وجاءتا بصيغة الأمر، إحداهما هذه الآية، أما الآية الأخرى فوردت في مريم عليها السلام بقوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن في باب أرقام الآيات إتحاد الآيتين في الرقم الثالث والأربعين والموضوع ولو على نحو الموجبة الجزئية، وجاءت هذه الآية في سورة البقرة، وجاءت الآية أعلاه في سورة آل عمران، ليكون هذا الإتحاد والتشابه دعوة للمسلمين وأهل الكتاب لمعرفة الصلة ووجوه التشابه بين منزلة المسلمين ومنزلة مريم عند الله، وإتحاد سنخية الوظيفة العبادية التي يلتقي فيها المسلمون مع مريم التي كلمها الملائكة مباشرة تشريفاً وإكراماً.
وجاء كلام الملائكة مع المسلمين بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الوحي عليه، ومجيء هذه الآية المباركة بـأن يتعاهدوا الصلاة وصلاة الجماعة، وما فيها من حفظ لقواعد وآداب وسنن وشرائط الصلاة، وقد نزلت الملائكة مرة أخرى مدداً لنصر المسلمين في معركة بدر، ودفع كيد وشر الكفار في معركة أحد وحنين وغيرها، قال تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
وفيه إكرام وتفضيل للمسلمين، ودليل على إمتثالهم لأمر الله عز وجل بالركوع والسجود وإقامة الصلاة، ويدل على هذا الإمتثال الكتاب والسنة والوجدان والواقع التأريخي المتوارث، ومن الكتاب قوله تعالى في مدح المسلمين [تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا] ( ).
     وقد ذم الله عز وجل الذين يتلقون الخطاب بالركوع سواء جاء من عند الله، أو من عند الرسول أو من المؤمنين والناس عامة لأنه من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ]( ).
وقال الزمخشري في الآية أعلاه “إخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وجد وإتباع دينه، وإطرحوا هذا الإستكبار والنخوة”( ).
ولكن الآية أعم وتشمل دخول الإسلام وإقامة الصلاة، وإجتناب الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتكذيب بنزول القرآن من عند الله، ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: إن الناس الذين توجه لهم الأمر بالركوع على فريقين:
الأول: الذين إستجابوا للأمر الإلهي وقاموا بأداء الركوع.
الثاني: الذين إمتنعوا عن الركوع وعبادة الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود”( ).
الثاني: وجود أمة تتعاهد الركوع، بدليل قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ].
الثالث: ان جحود الناس بالصلاة وإمتناعهم عن الركوع لن يضر الله عز وجل، بل يضرون به أنفسهم، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الرابع: موضوعية الركوع في العبادة، وجزئيته من الصلاة، والركوع ركن في الصلاة، ويكون تركه سهواً أو عمداً مبطلاً لها.
ومن الإعجاز في كيفية الصلاة بخصوص الركوع أمور:
الأول: تقسيم الصلاة إلى أجزاء متشابهة، كل جزء منها يسمى ركعة، وهو أيضاً مركب من أجزاء كالقراءة والركوع والسجود.
الثاني: تسمية الركعة بأجزائها باسم الركوع، لبيان موضوعية الركوع فيها.
الثالث: مع شرف وأهمية السجود وما فيه من الخشوع والخضوع، وشرط المجيء بسجدتين في كل ركعة فان الركعة الواحدة أشتق إسمها من الركوع.
آدم والصلاة
قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ]( ).
الصلاة قربان كل مؤمن وعنوان الخضوع لسلطان الباري عز وجل، ورمز التقوى ولباس الهدى وطريق الإلتجاء والخشوع إلى الله عز وجل بما تمثله من الذكر والدعاء والإنقياد والتسليم لإرادة الله تعالى.
إنها توجه مبارك لإلتماس عفو الله تعالى وسؤال مرضاته، ولقد كان آدم محتاجاً إلى التوبة وسلوك سبلها، وإظهار الندم والتخفيف عن الحزن والكرب الذي أصابه بإخراجه من الجنة وما لحقه من التبعات والآثار.
وفي الحديث أن النبي محمداً صلى الله عليه واله وسلم كان إذا أحزنه أمر إستعان بالصوم والصلاة) ( )، فلا بد أن يفر آدم إلى الصلاة عوناً ومؤنساً ووظيفة عبادية بل حاجة له لذريته في النشأتين.
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: “لما أهبط الله آدم من الجنة ظهرت فيه شامة سوداء في وجهه من قرنه إلى قدمه، فطال حزنه وبكاؤه على ما ظهر به، فاتاه جبرئيل فقال: ما يبكيك يا آدم؟ قال: هذه الشامة التي ظهرت بي، قال: قم، فصل، فهذا وقت الأولى، فقام فصلى، فانحطت الشامة إلى صدره.
فجاءه في الصلاة الثانية، فقال يا آدم قم فصل فهذا وقت الثانية، فقام فصلى، فانحطت الشامة إلى سرته، فجاءه في الصلاة الثالثة، فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الثالثة، فقام فصلى، فانحطت الشامة إلى ركبتيه.
فجاء وقت الصلاة الرابعة، فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الرابعة، فقام فصلى، فانحطت الشامة إلى رجليه، فجاءه في الصلاة الخامسة، فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الخامسة، فقام فصلى فخرج منها، فحمد الله وأثنى عليه.
فقال جبرئيل عليه السلام: يا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشامة من صلى من ولدك في كل يوم وليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشامة.
ويدل الحديث على إتصاف الصلاة بخصوصية وهي هجومها على الخطايا والذنوب ومحوها، ولا تنحصر هذه الوظيفة المباركة للصلاة بشخص دون آخر أو زمان دون غيره بل هي باقية إلى يوم القيامة، فاذا سأل العبد عن طريق التوبة والمغفرة فان الصلاة هي السلاح والوسيلة الكريمة والعبادة البدنية التي تعتبر ترجمة عملية جهادية للتوبة وقهر النفس الشهوية والغضبية.
************
 
 
قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ] الآية 44.  
 
الإعراب واللغة
الألف في أتأمرون للإستفهام الإنكاري والتقرير المقترن بالتقريع، تأمرون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: فاعل، الناس، مفعول به منصوب بالفتحة بالبر: جار ومجرور متعلقان بتأمرون.
 وتنسون: عطف على تأمرون، أنفسكم: مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف، والضمير (الكاف) في محل مضاف إليه.
 وأنتم: الواو حالية، أنتم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، تتلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة الفعلية خبر أنتم، الكتاب: مفعول به.
أفلا: الهمزة للإستفهام الإنكاري: الفاء: حرف عطف، لا: نافية، تعقلون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو، فاعل.
البر  بكسر الباء  الإحسان والإكثار منه والإتساع في وجوهه، وقيل (وضد البر العقوق) ( )، ولكن ضده أعم فيشمل الشح والبخل.
والنسيان خلاف الذكر والحفظ، وهو غياب الشيء عن الخاطر بعد إدراكه.
وبين النسيان والسهو عموم وخصوص مطلق، فكل نسيان سهو وليس العكس، إذ أن النسيان غياب الأمر عن الذاكرة والحافظة معاً، أما السهو فيعني غيابه عن الذاكرة فقط وبقاءه مرتسماً في الحافظة بحيث لو عمل فكره في الأمر لإستحضره. ويأتي بمعنى الترك والإهمال. 
والتلاوة: القراءة بإتباع وفهم، يقال تلا يتلو تلاوة أي قرأ.
والتلاوة هي القراءة، وقيل أن أصل القراءة جمع الحروف، وأصل التلاوة اتباع الحروف، وعن علي عليه السلام: “ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر”.
والعقل نور روحاني يميز به الإنسان المعارف الضرورية والعلوم النظرية، وبه تحبس النفس وترد عن هواها، وقيل إن العقل ضد الجهل.
في سياق الآيات
بعد الأمر بما يجب عليهم أن يفعلوه، جاء التوبيخ على عمل مخصوص يتصف بالقبح لأنه صيغة ومنهجية عامة ضارة في العقيدة والمجتمع مما يدل على أن الآيات مجتمعة تؤدي وظائف عقائدية وأخلاقية عامة.
وإبتدأت هذه الآيات بالأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بذكر نعم الله عز وجل عليهم بقوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( )، لإفادة أن هذا الذكر مطلوب بذاته، وهو مقدمة لغيره، وسبيل للصلاح، ومناسبة للإستقامة ونيل الثواب العظيم عندما يقترن بالوفاء بالعهد والخشية من الله عز وجل، ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أموراً:
الأول: إن الإلتفات إلى النفس، وعدم نسيانها من أفراد ذكر نعم الله عز وجل، كما أن ذكر نعم الله عز وجل من مصاديق العناية بالنفس، وعدم نسيانها.
الثاني: الوفاء بالعهد من عدم نسيان النفس، ونسيان النفس برزخ دون الوفاء بالعهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل، فان قلت إن القدر المتيقن من قوله تعالى [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] هو إتيان الصالحات، وفعل البر والصلاح، والجواب إن إتيان الصالحات من الشكر لله عز وجل على النعم، ومن الوفاء بالعهد والميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل , قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ).
الثالث: من يخش الله يحرص على تلمس سبل النجاة.
الرابع: الأصل هو من يتلو الكتاب يحرص على الوفاء بالعهد والميثاق.
وجاءت الآية الأربعون بالأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة الله عز وجل وجاءت هذه الآية بالإخبار عن تلاوتهم الكتاب , وقد يقال إن تلاوة الكتاب من ذكر نعمة الله عز وجل،ولكن نظم الآيات يفيد أموراً:
الأول: المراد من ذكر تلاوتهم للكتاب في المقام إقامة الحجة عليهم، فمن يتلو الكتاب لابد أن يلتفت إلى نفسه بأداء الوظائف العبادية ويفعل الخيرات، وجاء بعد ثلاثة آيات الأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة الله عز وجل عليهم في إشارة إلى أنهم لم يتخذوا تلاوة الكتاب طريقاً ومناسبة لذكر النعم الإلهية.
وتكون هذه الآية حجة بلحاظ سياق الآيات من وجوه:
الأول: إقامة الصلاة من البر، وقد جاءت الآية السابقة بإقامتها، وكذا إيتاء الزكاة، فمن يدعو الناس إلى البر والصلاح عليه أن يبادر إلى أداء الصلاة ودفع الزكاة، والنفس أولى بالصلاح.
الثاني: البر من مصاديق الحق، وهو خالِ من الباطل، ومن يدعو إليه لابد وأن يعلم مصاديقه ويتجنب ما هو ضده.
الثالث: البر والإحسان حق وهو من العمل الصالح والأمر بالمعروف، وجاءت به الكتب السماوية به، وبنو إسرائيل يتلون الكتاب.
لقد جاء قبل ثلاث آيات الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه من عند الله وفيه رحمة بهم، وسلامة مما هم عليه من أمرهم للناس بالإيمان مع إصرارهم على الجحود بالتنزيل.
كما جاءت بالأمر بالتقوى والخشية من الله عز وجل بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] ( )، ومن أهم مصاديق التقوى أن يتحلى العبد بالإيمان، ويصلح نفسه قبل أن يدعو غيره للهداية والصلاح.
وإذ جاءت هذه الآية بالإخبار عن نسيان وترك فريق من الناس لأنفسهم، فان الآيات السابقة كلها تدعوهم لعدم نسيان أنفسهم.
وكذا الآيات التالية، إذ جاءت الآية التالية بدعوة بني إسرائيل للإستعانة بالعبادات وإظهار معاني الخشوع لله عز وجل، وأداء الفرائض عنوان للعناية بالنفس، والحرص على سلامتها في الدنيا والآخرة وهو من مصاديق الشكر لله عز وجل على النعم , والذي جاءت الآية بعد التالية بالدعوة إليه بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
ومنه الإستعداد ليوم القيامة والسعي للسلامة من الخوف والحزن في مواطن الحساب والجزاء والذي يدل عليه ما جاء بعد ثلاث آيات [وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]( ).
وهذه الآيات من فضل الله على بني إسرائيل، وأسباب هدايتهم إلى الصلاح والرشاد والإيمان، ولو قال أحدهم كيف نتخلص من نسيان النفس تأتي الآية التالية جواباً، إذ تتضمن الأمر بالصبر والصلاة، فان أداء الصلاة من ذكر النفس لما فيها من الإمتثال لأوامر الله عز وجل ، والإمتناع عن الفواحش والمعاصي، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، وتقدير الآية (استعينوا بالصبر والصلاة للوقاية من نسيان النفس) .
ويدل أداء الصلاة على دخول الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه شاهد بأن النطق بالشهادتين وحده والقول آمنا وحده لا يكفي في نيل مرضاة الله ، بل لابد من الإمتثال للأوامر الإلهية وإتيان التكاليف التي أمر الله عز وجل بها، وهي أصدق مصاديق (البر) الذي ذكرته هذه الآية.
وصلة هذه الآية بالآيات التالية على وجوه:
الأول: إتحاد لغة الخطاب وتوجهه في الآيتين إلى بني إسرائيل، مع إرادة أهل الملل الأخرى بالإلحاق ولغة الإتعاظ، وللأولوية القطعية، ودعوتهم للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسرار التنزيل بالذات ومن غير جعل واسطة وبرزخ بينهم أي لا يلجأ الإنسان إلى أهل الكتاب وإلى الرؤساء في مذهبه وملته لسؤالهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نزول القرآن بل عليه التدبر بنفسه بآيات الإسلام، وهو المستقرأ من لغة التوبيخ في هذه الآيات.
الثاني: إبتدأت الآية التالية بقوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ….]( )، وفيه مسائل:
الأولى: الإستعانة في إصلاح الذات، وإتيان أعمال البر، فإن قلت إنه من تحصيل حاصل والدور بأن يستعان بالصلاة لأداء الصلاة، والجواب ليس من دور للتباين الموضوعي وتجدد الأمر بالصلاة والإمتثال له في كل فريضة.
الثانية: الإستعانة للتدبر في تلاوة الكتاب والإنتفاع الأمثل منه.
الثالثة: الإستعانة لتوظيف العقل في دلائل الآيات.
الرابعة: الإستعانة بالصبر والصلاة لإقامة الصلاة(فإن قلت كيف تكون الصلاة عوناً على أدائها مع إتحاد الماهية والجواب المراد تعدد الجهة الموضوعية مثل محاكاة النبي والصالحين في الفعل العبادي، وإتخاذ العبادات مجتمعة وسيلة لأداء الصلاة.
الخامسة: إخراج الزكاة ودفع الحقوق الشرعية إلى مستحقيها.
السادسة: السعي لصلاة الجماعة، والصبر على أدائها، والرضا والألفة مع المصلين الآخرين.
السابعة: الإستعانة لكشف حقائق التنزيل، وإظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: إتخاذ الصبر والصلاة حرزاً وواقية من خلط الحق بالباطل.
التاسعة: بأداء الفرائض يتنزه المسلم من التفريط بالآيات، وإختيار عوض عنها.
العاشرة: الإستعانة بالصبر والصلاة سبيل للإيمان بنزول القرآن من عند الله عز وجل، ومناسبة للتدبر بوجوه الإعجاز في الأحكام الشرعية.
الحادية عشرة: الصبر في مرضاة الله والصلاة، ومناسبة لإستحضار نعم الله.
الثانية عشرة: من الوفاء بعهد الله أداء الصلاة والصيام وإظهار الصبر في سبل الطاعة والإمتثال للأوامر الإلهية.
الثالثة عشرة: الصبر في طاعة الله، والصبر عن المعصية من مصاديق الرهبة والخشية من الله.  
إعجاز الآية
تتجلى في الآية مطالب سامية متعددة بكلمات موجزة، كل كلمتين منها مدرسة في موضوعها، وتحتاج إلى تدبر وتأمل , ويدل إجتماعها مع الإيجاز على الملازمة بينها.
وتظهر الآية نقصاً وتناقضاً في سيرة أهل الضلالة والنفاق، وتدعو إلى إصلاح النفس والبداية في أعمال البر من النفس ثم الأقرب فالأقرب.
والآية شاهد على صدق نزول القرآن لما فيه من الدعوة إلى البر  بإعتبار أن الإسلام بر وصلاح محض، ويدل عليه ما جاء في الكتب السماوية السابقة من البشارة به، ولزوم إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
  ومن إعجاز الآية أنها وردت بلفظ الأمر فلم تقل الآية “أتدعون” بل بلفظ الأمر الذي يفيد العلو في الغالب، الذي يترشح من الإنتساب للكتاب السماوي ومعرفة البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا جاءت الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ] في إشارة إلى موضوعية الكتاب في إنصات الناس لأقوال أهل الكتاب.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة الأمر (أتامرون) وغالباً ما يكون الأمر من العالي إلى الداني، ومن الأصوليين من قيده بالعلو، وهو شاهد بمنزلة بني إسرائيل وأنهم يأمرون أصحابهم وغيرهم بالبر والإحسان وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاء قبل أربع آيات [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
 ومن النعم الإلهية عليهم في هذه الآية وجوه:
الأول: قيامهم بتوجيه الأمر إلى الناس.
الثاني: عدم إنحصار أوامرهم بخصوص أفراد معينين، بل هي أعم بدلالة لفظ الناس، وورود الألف واللام فيه التي تفيد في ظاهرها الإستغراق من حيث الإنتماء.
الثالث: لغة التنبيه والتحذير التي جاءت في الآية.
الرابع: دعوة بني إسرائيل إلى العناية بأنفسهم، وطلب النجاة لها.
الخامس: تلاوة بني إسرائيل للكتاب السماوي فهي نعمة وخير محض، وطريق للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: تذكير بني إسرائيل بتوظيف العقل لإجتناب التخلف عن العناية بالنفس، وإقامة الحجة عليهم بالدليل الذاتي , إذ جعل الله عز وجل العقل رسولاً باطنياً. 
ويمكن تسمية الآية بآية (أتأمرون ) ولم يرد لفظ (أتامرون) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية ثلاثة أطراف:
الأول: أهل الكتاب.
الثاني: الناس عامة.
الثالث: تلاوة الكتاب النازل من السماء.
الرابع: الصلة بينهما صلة الآمر والمأمور، فالآمر يدعو إلى البر، والمأمور ينصت له ولكن الآمر لا يعمل بما يأمر به.
الثالث: موضوع الأمر، وهو البر والإحسان، فلم تأتِ الآية بالتوبيخ على الأمر أو موضوعه بل على أمر مخصوص، وهو نسيان النفس في ميادين البر والصلاح، وهل الأمر بالبر من البر، الجواب نعم، ولكن الأولوية للنفس من وجوه:
الأول: إن الذي يأمر بالبر والإيمان والتصديق بالكتاب هو نفسه يتلو الكتاب المنزل.
الثاني: الإيمان من الواجب المستديم الإستغراقي الشامل للناس جميعاً فسواء دعا الإنسان غيره إلى الإيمان والبر أو لا، فان الخطاب التكليفي موجه له بالإيمان وفعل الصالحات.
الثالث: تلاوة أهل الكتاب للتوراة والإنجيل حجة، لأنها تأمرهم بالإيمان والبر والإحسان.
الرابع: الأمر بالشيء الحسن دليل على القبول والرضا به.
الخامس: كما تكون الأولوية للنفس في النفقة الواجبة فانها تكون في فعل الصالحات لأنها سبيل النجاة من عذاب النار، لأن الغرض من الأمر بالبر والصلاة ومحاربة الفساد والنجاة يوم القيامة , ويحرص كل عاقل على دفع الضرر عن نفسه، لذا جاءت خاتمة الآية بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ].
وجاءت الآيات ببيان موضوع البر وأنه الإيمان، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ]( ).
والآية حجة للمسلمين في دعوة الناس للإيمان، لتجلي معاني الحق والبر عند الجميع، ويكون الأمر بالبر مقدمة لدخول الإسلام.
 وقد يهتدي الإنسان إلى الإسلام بدعوة الكتابي الذي يمتنع عن دخوله فجاءت الآية لتذكيره بواجبه، وهل في  الأمر بالبر ثواب الجواب نعم، إلا أن يقترن بترك الأهم وهو الإمتثال النفسي له وإصلاح الذات بالإضافة إلى قصد القربة في الأمر بالبر ورجاء مرضاة الله.
مفهوم الآية 
من أهم الوظائف الأخلاقية التوجه إلى النفس لإصلاحها وتهذيبها وردعها عن المعاصي والآثام والإبتداء بها أولاً، ليكون الأمر إلى الناس مشفوعاً بالأسوة والمثل الحسن.
 وتؤكد الآية في مفهومها على لزوم حبس النفس على عمل الصالحات وأن جميع الكتب السماوية المنزلة تهدي إلى فعل الخيرات والإحسان ونبذ العقوق والجحود.
وصيغة الإستفهام الإنكاري عبرة وموعظة وتنبيه للناس جميعاً من وجوه:
الأول: لزوم الإبتداء بإصلاح الذات بالأولوية القطعية.
الثاني: لابد من مطابقة القول للفعل في العقائد والمبادئ السليمة وإجتناب التزاحم والتباين بينها.
الثالث: عدم تأثير الدعوة إذا لم تأت عن قبول نفسي لها.
الرابع: قد ينتفع السامع من الدعوة، ويبقى القائل في منازل التقصير.
الخامس: في الآية زجر عن النفاق.
السادس: الذي يتلو الكتاب أولى من غيره بالإعتبار والإيمان.
السابع: تبين الآية حاجة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلى التقيد بأحكامهما.
الثامن: إنه من الذكرى والإنذار , قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ).
في الآية مسائل:
الاولى: توجيه اللوم للذين يأمرون الناس بما لم يفعلوا من وجوه البر والصلاح.
الثانية: لزوم مبادرة الإنسان إلى الفعل الذي يأمر به.
الثالثة: إقامة الحجة عليهم بمعرفتهم بوجوه الخير والصلاح، وتخلفهم عن إتيانها.
الثالثة: ذم الذين يتركون ما يصلح شأنهم في الدنيا والآخرة مع أنهم يتلون التوراة، وما فيها من أحكام الحلال والحرام، والحث على البر وأفعال الخير.
الرابعة: إختتام الآية الكريمة بدعوة بني إسرائيل إلى توظيف العقل في الإختيار والفعل، فالعقل يحكم بلزوم فعل العبد للأمر الحسن الذي يدعو الناس إليه.
الخامسة:مدح المسلمين، وحثهم على الإستمرار بإتيان ما يأمرون به ليكونوا أسوة حسنة للناس، وهو من المفاهيم التي تدل على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الآية لطف
تدعو الآية إلى نشر معاني الفضيلة، والإحسان بين الناس، وتحث على إتيان العبادات والطاعات، وتبين لزوم التحلي بالأخلاق الحميدة، وعدم التباين بين الأمر والفعل، فمادام الإنسان يعرف وجوه الصلاح ويدعو الناس إليها، فيجب أن يبادر لإتيانها.
 ومن خصائص أتباع الأنبياء وأهل الملل السماوية الحرص على الملازمة بين أمرين:
الأول: فعل الصالحات وإفشاء الحسنات.
الثاني: إرشاد الناس لسبل الهداية والرشاد.
فلا يصح فعل الثاني وترك الأول منهما، لذا جاءت الآية لتذكير بني إسرائيل بوظائفهم، وبصيغة التوبيخ والذم مما يدل على إقامة الحجة عليهم، وتلبسهم بما تشير اليه الآية من التخلف عن وظائف الصلاح التي يدعون الناس اليها.
 وهذا التذكير لطف وفضل إلهي على بني إسرائيل وغيرهم , وتوكيد حقيقة وهي أن القرآن نعمة من عند الله عليهم وعلى الناس جميعاً، إذ أن بيان الذنب والتقصير رحمة  بالعبد، ودعوة له للتدارك، وحث لغيره للإعتبار والإتعاظ منه.
وفي الآية لطف بالمسلمين وتثبيت لهم على الايمان، وإعانة لهم للإحتجاج على بني إسرائيل بالدليل والبرهان الحسي، وإتخاذه وسيلة لدعوتهم وغيرهم لدخول الإسلام لأنه أصدق معاني البر والصلاح.
وجاءت الآية بصيغة الجمع الذي يفيد الإستغراق والعموم، وفيه أمارة على إرادة الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  من البر الذي يتخلفون عنه، مع قيامهم بالأمر به.
لتكون هذه الآية شاهداً وحجة عليهم، قال تعالى[إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )، وتتضمن هذه الآية من معاني الشهادة بالذم على تركهم البر، والبشارة بأن إصلاح النفس والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفعل الخيرات سبيل اللبث الدائم في الجنة، والإنذار من الإقامة على ترك النفوس، فقد لايلتفت الإنسان إلى خطئه بالإقامة على الذنب والمعصية، فتأتي هذه الآية لتحذر أهل الكتاب من الإصرارعلى الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 ومن الإعجاز أنها جاءت بالمعنى الأعم وهو نسيان النفس ليكون نفعها أعظم، وفيه حث لهم بالتدبر في الحياة الدنيا، والإلتفات إلى النفس إصلاحاً وتهذيباً وجعلها تمتلأ بالإيمان.
إفاضات الآية
في الآية تهذيب للنفوس، ومنع من غلبة النفس الشهوية والغضبية بالنفرة من منافاة الفعل للقول، فقد يهم المسلم بفعل سيئة ولكنه يذكر نهيه للآخرين عنها فيستحي عن إتيانها ويترفع عن التدنس بصيغة الإختلاف المذموم بين القول والفعل، وفيها حجة ودليل على حاجة الأرض للدين الإسلامي والتنبيه على الأخطاء والذنوب التي يرتكبها غير أهل الإيمان، والإمتناع عن وقوعها بل والرجوع إلى الآخرين لإصلاح حالهم، وتخليصهم من الكدورات الذاتية التي تحول دون رؤية الآيات والبراهين.
لقد جاءت هذه الآية بأربعة أطراف، يتضمن أحدها اللوم لبني إسرائيل وجاءت الأطراف الثلاثة الأخرى لإعانتهم على التخلص منه، أما الطرف الذي فيه اللوم فهو تركهم لأنفسهم، وعزوفهم عن القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي إعانة لهم للسلامة والبرء من هذا الداء، والأطراف الثلاثة هي:
الأول: قيامهم بأمر الناس بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحثهم لبعض المسلمين للثبات على الإيمان، لتكون هذا الآية وثيقة وشاهداً سماوياً على التباين بين القول والعمل عندهم.
الثاني: تلاوة بني إسرائيل للتوراة، وما فيها من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووحدة التنزيل والتصديق والإلتقاء بينها وبين القرآن.
 وتدل الآية على حقيقة وهي أن تلاوة التوراة تدعو إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد تحديهم في القرآن بقوله تعالى [قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( )، إذ أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يحاجهم بالتوراة، وما فيها من التحريم والأحكام لتوكيد حقيقة تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، وجواز النسخ.
وقد ورد قوله تعالى خطاباً للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( )، فهل من وجوه للشبه بينه وبين الآية محل البحث بخصوص الذم .
 الجواب لا، فالآية أعلاه لم ترد ذماً للمسلمين، بل جاءت لعدد منهم وهي دعوة لهم لإصلاح أنفسهم، وتوكيد صدقهم في مواطن القتال، إستعداداً لدخول المعركة، وعن الحسن (أن الآية أعلاه نزلت في المنافقين، ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم) ( ).
ويدخل المنافقون في عموم الذين آمنوا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو ظاهراً كما في خطابات التكليف فانها شاملة لهم، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ]( ).
وجاءت آيات القرآن بمدح المؤمنين الذين إشتركوا في معركة أحد , قال تعالى في نزول الملائكة يومئذ[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
 ومن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة الجمع الذي يفيد الإستغراق والشمول لبني إسرائيل، مما يدل على كفاية ما في أيديهم من التوراة غير المحرفة، والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: بيان قانون ثابت وهو أن العقل يدرك لزوم مبادرة الإنسان إلى فعل الخير الذي يدعو إليه غيره، للحسن الذاتي لذات الفعل، ولقبح عدم إتيان ما يأمر به الله عز وجل.
 وقيل لابن عباس: أنىّ لك هذا العلم ؟ قال : قلب عقول ولسان سؤول( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
هذه هي أول آية في ترتيب القرآن تبدأ بالهمزة، في (أتأمرون) وجاءت الهمزة للتقرير والتوبيخ في آن واحد، وتتحد مضامين هذه الآية مع مضامين الآيات الأربعة السابقة في جهة الخطاب إذ انها موجهة لبني إسرائيل، وفيه نوع تفضيل لهم لإفرادهم بالخطاب، وعون لهم للإقلاع عن فعل ما يخالف أحكام التوراة .
وجاءت الآية قبل السابقة بنهي بني إسرائيل عن خلط الحق بالباطل، وإخفاء ما ورد في الكتب السماوية السابقة من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من غير ان يتعارض تعيين جهة الخطاب مع مفهومه بإرادة الناس جميعاً ومن أجل إصلاحهم .
وتتضمن الآية حث بني إسرائيل على العبادات التي لا تؤدى إلى بدخول الإسٍلام إذ أختتمت الآية بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( )، ولا بد من تحقق إمتثال جماعة لمضامين كل آية من هذه الآيات الأربعة لتكبر وتتسع مع تقادم الأيام وتعاقب الأجيال، وفيه شاهد على المنافع العظيمة للآية القرآنية.
 فمن يدخل الإسلام ويأتي بالصلاة ويؤديها جماعة وفرادى فانه قد إستجاب لأمر الله تعالى ولا يكون من الذين يتوجه إليهم اللوم في هذه الآية، فبدخول الإسلام وأداء الفرائض قد نجا من النفاق الذي جاءت هذه الآية بذمه، وتوجيه اللوم لأهله، وجاءت الآية بأربعة أمور هي:
الأول: اللوم على أمرهم الناس بالخير والبر وهم لايأتونه.
الثاني: عدم إتيانهم الصالحات.
الثالث: إقامة الحجة عليهم بتلاوتهم الكتاب.
الرابع: دعوة بني إسرائيل إلى التدبر والإلتفات إلى ما في فعلهم من التضاد بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ].
والبر عنوان جامع لأفعال الخير والصلاح، ومنها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فجاءت هذه الآية دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام لأن دخوله بذاته خير محض، وتترشح عنه مصاديق وأفراد كثيرة من البر والصلاح.
 فمن إعجاز الآية مجيؤها بلفظ “البر” وما فيه من التعدد والكثرة في المصاديق التي تجمعها مرضاة الله تعالى، وجاءت هذه الآيات لبيان أهم مصاديق البر لقاعدة نفي الجهالة والغرر , ولمنع التحريف والتغيير في مصاديق البر والخير، وقد ذكرت الآيات الأربعة السابقة وهذه الآية والآية التالية والتي جاءت خطاباً لبني إسرائيل وجوهاً من البر والإحسان للذات والغير منها:
الأول: الأمر بذكرهم لنعمة الله تعالى عليهم، ومن الآيات أن نعم الله من اللامنتهي , قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثاني: إرادة المعنى الأعم في النعمة لتشمل النعم التي أنعم الله فيها على آبائهم وهو من أسرار تعيين جهة الخطاب في هذه الآيات بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] ليذكر الموجود منهم النعم التي تفضل الله تعالى بها على آبائهم، ويتدبر في آثارها وما يترشح منها على الذرية والأعقاب منهم.
الثالث: تجلي معاني الشكر لله تعالى بذكر النعم، من وجوه:
الأول: الذكر ذاته شكر لله.
الثاني: ترشح الشكر عن الذكر على نحو الإنطباق.
الثالث: ذكر النعم واقية من السيئات، وباعث على طاعة الله.
الرابع: الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالوفاء بالعهد نعمة على بني إسرائيل، إذ يتفضل الله ويأمرهم بالوفاء بما عاهدوه عليه، وجاء هذا الأمر في القرآن وهو الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
الخامس: الوعد الكريم من الله تعالى إلى بني إسرائيل بالوفاء بعهده تعالى لهم، وفيه بشارة عظيمة وتعليق هذه البشارة على وفائهم بالعهد نعمة أخرى لإرادة الصلاح والإصلاح، وترك الجحود والمعصية.
السادس: دعوة بني إسرائيل للخشية والخوف من الله بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] فمن نعم الله تعالى على بني إسرائيل انه لم يتركهم يعمهون في الغي، بل تأتي الآيات القرآنية بخطاب إنذار خاص لهم، وهو تشريف وإكرام لهم من وجوه:
الأول: الإنذار الإلهي حث على الطاعة، وندب إلى الرشاد، لذا ما من نبي إلا وهو نذير، قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الثاني: إختصاص بني إسرائيل بالخطاب دعوة لهم للمبادرة للإمتثال له.
الثالث: مجيء الإنذار في القرآن، وهو الكتاب النازل من عند الله عز وجل، والذي لا تصل إليه يد التحريف.
السابع: الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالإيمان بنزول القرآن من عنده تعالى، ليمتاز بنو إسرائيل بدعوتهم دعوة خاصة إلى الإيمان بالإضافة إلى الدعوة العامة الموجهة إلى الناس جميعاً، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ] ( )، كما ينتفع الناس من الدعوة الخاصة الموجهة إلى بني إسرائيل في هذه الآية من وجوه:
الأول: إنها عبرة وموعظة للناس.
الثاني: إخبار الناس بعدم إستثناء أحد من الدعوة إلى الإسلام.
الثالث: تدل الآية في مفهومها على دعوة الناس جميعاً للإسلام، فاذا كان أهل الكتاب ومن ينتسبون في البنوة إلى الأنبياء مأمورين بدخول الإسلام، فمن باب الأولوية أن غيرهم من الناس مأمور بدخوله، بالإضافة إلى توجه الخطابات التكليفية إلى الناس جميعاً بدخول الإسلام.
الثامن: الزجر والنهي عن الكفر بالقرآن، وإنكار البشارات الواردة فيه، والمنع من التحريف الذي يؤتى به لغرض نفي التصديق المتبادل بين التوراة والإنجيل من جهة والقرآن من جهة أخرى، وان كان هذا الكفر لا يضر إلا أصحابه، لأن القرآن بذاته حجة، وفيه شواهد التصديق بالكتب السماوية السابقة.
التاسع: المنع من التفريط بالآيات والإعراض عنها حباً بزينة الدنيا، مع أنه لا تعارض بين الإيمان وزينة الدنيا، فمع الإيمان تأتي النعم وأسباب البهجة بالحق .
العاشر: دعوة بني إسرائيل للخشية من الله تعالى، والخوف منه، والسعي لإمتثال أوامره.
الحادي عشر: النهي عن خلط الحق بالباطل، وإخفاء الحق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  مع التنبيه إلى حقيقة وهي العلم بالحق وإن خلطه مع الباطل لم يأت عن نسيان وغفلة بل هو عن إصرار وعناد وجحود.
الثاني عشر: نهي بني إسرائيل عن كتمان الحق وإخفاء البشارات الخاصة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع العلم بها والإقرار بصدقها، والتسليم في قرارة النفس بموافقة علاماته وسمته ومعالم نبوته للبشارات التي جاءت بها التوراة والإنجيل، إذ ان التحريف لم يأت عليها كلها، ومن صيغ التحريف ما يتعلق بالتفسير والتأويل.
الثالث عشر: الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بإقامة الصلاة، والمراد دخول الإسلام وجاء ذكر الصلاة لأنها عمود الدين ولإرادة العبادات مطلقاً بالإتيان بالجزء مع إرادة الكل ولبيان حقيقة ، وهي ان إتيان الصلاة أمر إلهي وليس خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان جزء من الشريعة التي جاء بها من عند الله، وهو الأمر الذي يتجلى بأفعال وأركان الصلاة فهي تلاوة وقيام وسجود وركوع بين يدي الله بقيد الطهارة.
 ومن الآيات في الصلاة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقف مع المصلين إماماً.
الرابع عشر: الدعوة إلى الفناء في مرضاة الله، وجعل حصة للفقراء في الأموال الخاصة بقانون الزكاة ، لبيان حقيقة وهي نشر الإسلام لمعاني الرحمة والرأفة بين المسلمين، لتكون الصلاة مطهرة للأبدان، والزكاة تزكية للأموال ويعملا مجتمعين ومتفرقين على تهذيب النفوس، ويكوناً سبباً للبركة والنماء والكثرة في الذرية ونيل المراتب العالية في الآخرة.
الخامس عشر: أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] لإرادة صلاة الجماعة، والإشتراك في الأعمال العامة والمشتركة التي يأتي بها المسلمون ذات صبغة العبادة، والتي يقصد بها وجه الله ولا تتقوم إلا بقصد القربة إلى الله تعالى.
السادس عشر: إبتدأت هذه الآية بالإستفهام الإنكاري الذي يدل على وجود أمر قبيح عند المخاطب-بالفتح- بدعوته الناس إلى الصلاح مع إبتعاده هو عن الصلاح وإتيان خلافه، وهو أمر يتعارض مع الخشية من الله إذ جاء قبل أربع آيات الأمر الإلهي بالخشية والخوف منه، قال تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ويتنافي مع صيغة التقوى التي أمر الله تعالى بها بني إسرائيل كما تقدم في ثلاث آيات [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ].
ومصاديق البر والتقوى كثيرة، قال تعالى[لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ..]الآية( )، لبيان عدم كفاية الصلاة وفق الشرائع السابقة فلا يتحقق البر إلا بإتيان العبادات على الشريعة الإسلامية.
السابع عشر: من البديهيات أن يبادر العبد بنفسه إلى فعل الصالحات وما فيه أمنه وسلامته يوم الفزع الأكبر، وجاءت هذه الآية لطفاً ببني إسرائيل بتذكيرهم بالعناية بأنفسهم وإجتناب تركها.
الثامن عشر: لزوم الإنتفاع الشخصي والنوعي من التوراة والإنجيل كطريق لدخول الإسلام لما فيهما من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ولزوم إتباعه ونصرته، لذا ورد قوله تعالى [قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
الثامن عشر: حث بني إسرائيل على توظيف نعمة العقل، وهي عامة عند الناس , ولكن الإختلاف في الخصوصية، ومنها كثرة النعم الإلهية على بني إسرائيل، والتي تملي عليهم المبادرة إلى شكر الله تعالى، والتوجه إلى العبادات والذكر.
التاسع عشر: الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالإستعانة بالصبر والصلاة، وهو الذي جاءت به الآية التالية والتي تندب الناس إلى الإمتثال للأمر الإلهي بإتيان الصلاة والصوم وسائر العبادات , ويكون أداء المؤمن لها برضا وشوق دعوة للناس لدخول الإسلام.
وقسمت هذه الآية الناس إلى قسمين:
الأول: بنو إسرائيل الذين يتوجه لهم الخطاب في هذه الآية بصيغة اللوم.
الثاني: عموم الناس الذين يأمرهم بنو إسرائيل بالبر والصلاح وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل يدخل المسلمون مع الناس في الآية الكريمة .
 الجواب  المسلمون خارجون بالتخصص، ويتلقون الأمر الإلهي بالطاعة بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما ينزل من السماء من القرآن، وبالسنة النبوية القولية والفعلية، نعم هم من الناس في الآية على القول بأن المراد منها “ان علماء اليهود كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين إثبتوا على ما أنتم عليه”( ).
وفيه حجة عليهم، وبيان لتعدد مصاديق البر والإحسان التي كانوا يدعون إليها مع تركهم لها، خصوصاً وأن دخول الإسلام والثبات على الإيمان من أهم مصاديق البر.
وإذ جاء قبل ثلاث آيات الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بالتصديق بنزول القرآن من عند الله تعالى، جاءت هذه الآية لتبين إعجازاً وشاهداً على نزول القرآن من عند الله، بإخبارها عن الأحوال الخاصة والتضاد والنفاق في أقوال فريق منهم، إذ انها تنقل وجهين متباينين لفعلهم، وما لا يكون بصيغة وعمل واحد.
وتتضمن الآية أطرافاً:
الأول: اللوم والتقريع الذي يدل عليه الإستفهام الإنكاري بالألف في قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ].
الثاني: إخبار الآية عن قيام بني إسرائيل بأمر الناس بالبر.
الثالث: نسيانهم وغفلتهم عن أنفسهم.
الرابع: تلاوة بني إسرائيل للكتاب.
الخامس: إختتام الآية بالندب إلى توظيف نعمة العقل , بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ].
أما بالنسبة للطرف الأول: فان الآية دعوة للتدارك والإلتفات وإصلاح الحال والشأن والذات، لأن مجيء اللوم والإنكار من عند الله تعالى يملي على الفرد والجماعة والطائفة الرجوع عن الفعل القبيح الذي يتوجه إليه اللوم ويكون علة له، ومجيء ألف الإستفهام في الآية مدرسة للإصلاح، ومادة لبعث الفزع والخوف في نفوس الذين يبقون في منازل الإصرار والعناد وهو حجة على بني إسرائيل لما فيه من التقرير والإخبار عن وفوع الفعل وما فيه من التضاد والأثر الضار لهذا التضاد، والمتبادر ان الذي يأمر بالبر يؤمن بما يأمر، لذا فان إتيان ما يخالفه حجة عليه.
أما الطرف الثاني: فهو أمر الناس بالبر، ومن الإعجاز في المقام أن الآية جاءت على نحو التقرير والقطع والثبات، ولا يستطيع معها بنو إسرائيل الإنكار فلم تقل الآية “لا تأمروا الناس بالبر وتنسوا أنفسكم” بل جاءت بالإخبار بصيغة اليقين عن أمور:
الأول: أمرهم للناس بالإحسان وفعل الخير.
الثاني: غفلتهم عن أنفسهم.
الثالث: الملازمة بين الوجهين أعلاه، وما فيها من أسباب التعجب.
إن الأمر بالبر حسن مطلقاً، وهو جامع لوجوه الخير والإحسان فهل يشمله التوبيخ المقصود في الآية، الجواب نعم، من وجوه:
الأول: إنعدام قصد القربة فيما يأمرون به.
الثاني: عدم تلقي الطرف الآخر لأوامرهم بالقبول التام، لأن الذي لا يفعل ما يأمر به لا يقع أمره موقع القبول، لموضوعية إقتران الفعل بالقول وصدور الأمر عن رضا وإمتثال.
الثالث: وعظ الناس والمجيء بخلاف وضد الموعظة دعوة للناس للتهاون والتفريط بما أمر به، وإغراء لهم للتجرأ على فعل المعصية.
الرابع: موضوع فعل الإنسان لا ينحصر بذات الفعل وإتيانه من عدمه بل يشمل الآثار المترتبة عليه والتي تتعلق بالدنيا والآخرة، فجاءت بداية الآية وما فيها من معاني الإنكار والتعجب للإخبار عن عدم ترتب الأجر والثواب لمن يأمر بالبر ولا يأتيه ممن يتوجه لهم الخطاب في هذه الآية، فلا يظن أحدهم الأجر بسبب هداية فرد أو جماعة لأن التخلف الشخصي عن إتيان البر برزخ دون الثواب، وحجة على صاحبه.
عن الشعبى قال يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار فيقولون ما أدخلكم النار وانما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم قالوا انا كنا نأمر بالخير ولا نفعله( ).
الخامس: من لا يفعل الخير لا يأتي بالأمر على الوجه الأتم، بل يكتفي بالمسمى وصرف الطبيعة منه، فمتى ما أصلح الإنسان سريرته فانه يجهر بالدعوة إلى الخير.
السادس: فعل الخير ذاته دعوة عملية له، والدعوة العملية أكثر وقعاً وأثراً، فقد لا تعرف إنسان بشخصه وليس لك معه صلة، ولكن حينما يراك أو يسمع عنك أنك تفعل الخير فانه يميل إليك وإلى الخير.
فالذي يؤمن بنزول القرآن من عند الله ويعلن إسلامه ويبادر إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويمتثل لأمر الله تعالى في قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] يكون داعية بلسانه وجوارحه وفعله إلى البر والصلاح، لذا فمن وجوه اللوم في الآية الكريمة الوقوف عند القول، وعدم الدعوة إلى البر والإحسان والخير بالفعل والعمل “وقيل: عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل”( ).
ولكل من القول والفعل أثره ونفعه إلا أن اللوم جاء في الآية للتضاد بين القول والفعل، والأثر الضار لهذا التضاد على الذات والغير، وقيل “من وعظ بقوله ضاع كلامه ومن وعظ بفعله نفذت سهامه”، ولكن القول له أثره ونفعه خصوصاً إذا كان في الدعوة إلى الخير والصلاح ويتضمن الدليل وهو الحجة والبرهان ومن أسباب الترغيب , نعم إقتران الفعل بالقول أكثر نفعاً وأثراً وهو حجة وبرهان عملي.
وتبين الآية أن اليهود كانوا على صلة مع أناس من مختلف المذاهب والملل، ولهم كلام مسموع , جاءت الآية بالإشارة إليه بأمرين:
الأول: توجيه كلامهم إلى الناس بصيغة الأمر وما فيه من الدلالة ولو على نحو الموجبة الجزئية إلى صدوره من جهة العلو الذي يترشح عن كونهم أهل كتاب، ويتلون التوراة والإنجيل، وتلقوا البشارات والآيات التي تخبر عن نبي آخر الزمان وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دلالة على ان الإسلام هو دين الفطرة، وان الناس يميلون إلى من يقول الخير والبر، ويدعو إلى التوحيد .
فجاءت الآية لتجعل الآذان صاغية لمن يدعو إلى الله عز وجل، بإظهاره التصديق العملي بالتنزيل، ومسارعته لفعل الخير.
 ومن الإعجاز في نظم الآيات أن الأمر بالبر وإصلاح الذات لم يأتِ إلا بعد مجيء آيات متعددة تبين مصاديق البر والواجبات التي يجب أن تؤتى وتتصف هذه الواجبات بالإطلاق والعموم، ومنها ما يكون واجباً بذاته ومقدمة للواجب كما في ذكر النعمة في قوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي] وذكر النعمة وسيلة لتهذيب النفس وإصلاح الذات، وفيه ترغيب للنفس بإتيان البر والخير، ولوم الإنسان لنفسه على تخلفه عما يأمر به من وجوه الصلاح، لخلو البر والخير بالذات والعرض من أسباب التخلف عنه، أو تضييع ما فيه من النفع والمصلحة.
وجاءت بداية الآية بصيغة الجمع في طرفيها [[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ] وفيه وجوه:
الأول: قيام الفرد من بني إسرائيل بالأمر بالمعروف والخير.
الثاني: أمرهم كطائفة بالخير والإحسان.
الثالث: أمر كبرائهم ورؤسائهم بالخير والبر والصلاح.
ولا تعارض بين الوجوه أعلاه، وجاءت الآية للزجر والتأديب لعموم بني إسرائيل لتكون موعظة وعبرة، وآية مصاحبة بدعوتهم إلى الخير والإحسان، فكل من يقوم بالدعوة إلى الخير يستحضر هذه الآية ويذكر نفسه وفعله، وما يجب من المطابقة بين القول والفعل، وجاء لفظ الناس بصيغة الجمع لبيان أنهم من مشارب شتى.
 وهل يدخل معهم بنو إسرائيل أنفسهم , الجواب نعم، فقد يأمر أحدهم صاحبه بالخير والبر، ولكنه لا يأتيه لأن لفظ الناس عنوان وسور جامع، لتكون هذه الآية مدرسة وإرتقاءً في المعارف عند الناس، ويجعلون معها موضوعية لموافقة فعل الآمر بالخير لقوله، وهو عون لهم للإحتجاج عليه، فمن يأمر بالبر ولا يأتيه قد يقوم بالأمر بضده، فجاءت الآية للإحتراز منه ومن فعله وما فيه من الإغواء والإغراء.
فالآية سلاح عقائدي بيد المسلمين، وينفع عموم الناس، ويستطيع كل فرد وجماعة وأمة ان تنهل منه وتتعظ منه وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، فالآية وان جاءت بصيغة اللوم لبني إسرائيل إلا أن الغاية منها جلب المصلحة ودفع المفسدة، وإعانة بني إسرائيل والناس جميعاً على إتخاذ الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وداراً لإكتناز الصالحات.
 وهل تتضمن الآية دعوة بني إسرائيل إلى عدم الأمر بالبر إلا أن يصلحوا أنفسهم الجواب لا، ولكن الآية تبين أموراً:
الأول: أولوية إصلاح النفوس، والمبادرة إلى فعل الخيرات وعمل الصالحات.
الثاني: التوكيد على حقيقة وهي أن الدعوة إلى البر حجة على الذات، وشاهد على الحسن الذاتي لمصاديق البر والدعوة اليها.
الثالث: تملي تلاوة الكتاب على صاحبها الإرشاد إلى سبل الخير، والظهور أمام الناس بمظهر الداعي لفعل الخير، فجاءت هذه الآية لتدعوه إلى موافقة السر للعلانية.
الرابع: أرادت هذه الآية منع بني إسرائيل من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة المسلمين , فمن أبهى مصاديق البر الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته خصوصاً من الذي يجده مذكوراً في الكتاب الذي يتلوه.
 وإذا تخلف الإنسان عن الإيمان بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  مع ظهور الآيات والمعجزات التي تدل على صدق نبوته والتي تعضدها البشارات التي جاءت في الكتب السابقة، فعليه ان لا يعادي ويحارب النبي محمداً والمسلمين، بل عليه أن يوظف العقل ويراجع الذات، ويسعى في إصلاح نفسه ووقايتها من العذاب ويتجنب الخسارة والهلكة في الدنيا والآخرة.
أما الطرف الثالث: فهو نسيانهم لأنفسهم لقوله تعالى [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] بصيغة الخطاب والتقدير: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم من البر.
 وتدل الآية على تخلف المخاطبين عن فعل الصالحات، فجاءت لتذكيرهم وإقامة الحجة عليهم، ودعوة الناس لحثهم على إتيان الصالحات، بالإضافة إلى موضوعية ما ورد في الآيات السابقة في لزوم العناية بالنفس، ومنها كثرة النعم الإلهية عليهم ومعرفتهم بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوتهم للكتاب.
وتظهر في الآية معاني التأديب والإرشاد والتعليم، فلقد تفضل الله تعالى وعلم آدم الأسماء في السماء، ولم ينزله إلى الأرض إلا وهو على درجة من العلم والتعليم بما يؤهله للخلافة في الأرض، وجعل الله سبحانه هذا العلم متصلاً بالكتب السماوية النازلة على الأنبياء، ويمتاز أتباع الأنبياء بالعلم والمعرفة وتلاوة الكتاب، وجاءت هذه الآية ليتدارك بنو إسرائيل أنفسهم ويعملوا على إصلاحها.
 والنفوس جمع نفس، والمراد منها في المقام الذات، والخطاب على وجوه:
الأول: إرادة عموم بني إسرائيل.
الثاني: إنذار كبراء بني إسرائيل.
الثالث: الخطاب إنحلالي، ويتوجه إلى كل فرد من بني إسرائيل ذكراً أو أنثى على نحو الخصوص لما فيه من معاني التكليف.
الرابع: خصوص الذبن يأمرون الناس بالبر من بني إسرائيل.
الخامس: الأجيال المتعاقبة من اليهود، لكي تكون لغة الإنذار ملازمة لهم وحجة عليهم.
وجاءت الآية بخصوص الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، أما الذين لا يأمرون الناس بالبر وهم ينسون أنفسهم أيضاً فهم مشمولون بلغة الإنذار في الآية من باب الأولوية القطعية.
 ومن إعجاز هذه الآية عدم الخشية من كف بني إسرائيل عن الأمر بالبر والصلاح.
الرابع: بيان عظيم فضل الله تعالى على بني إسرائيل بجذبهم للهداية والإيمان بتوجيه اللوم اليهم، وكشف النفاق الذي عندهم ومتى ما صلحوا فانهم يدعون الناس من منازل التقوى، فمن وجوه الحجة على بني إسرائيل في الآية أمور:
الأول: قيام بني إسرائيل بفعل الأمر والنهي يدل على منزلتهم وشأنهم بين الناس، ويحتمل لفظ الناس في الآية بلحاظ العموم والخصوص وجهين:
الأول: إرادة مختلف أهل الملل.
الثاني: خصوص بني إسرائيل، كأن يكون الأمر فيما بينهم، وفي منتدياتهم وبيوتهم.
والصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق، وهو المستقرأ من الأخبار إذ كانت قريش تأتي ليهود المدينة وتسأل عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والبشارات التي جاءت كتبهم بخصوص نبوته، وما يجري على يديه من المعجزات.
الثاني: أمر بني إسرائيل الناس بالبر والإحسان والصلاح.
الثالث: معرفة وتمييز بني إسرائيل للبر ومصاديقه، وفيه حجة عليهم، لأن الآمر بالشيء الحسن أولى بفعله من غيره.
وفي هذا الكف وجوه:
الأول: فوات منفعة الأمر بالبر.
الثاني: إمتناع بني إسرائيل عن الأمر بالبر.
الثالث: إعراض الناس عن أوامر بني إسرائيل في البر والصلاح.
أما الأول ففيه وجوه:
الأول: عدم ترتب المنفعة على دعوة بني إسرائيل للبر بسبب عدم إتيانهم له.
الثاني: الإستغناء عن أمرهم، لقيام المسلمين بالأمر بالبر قولاً وعملاً.
الثالث: حصول الضرر العرضي من دعوة الذي يأمر بالصلاح ولا يأتيه، بإغراء الناس لترك البر ويأتي الأمر وكأن هناك مصاحباً له.
الرابع: عدم حصول فوات منفعة من فضح حال النفاق عند بني إسرائيل، لأن حالهم معروف عند الناس في الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى فرض حصول فوات منفعة فانها منفعة قليلة وذات أثر محدود، ولكن منافع هذه الآية وما فيها من الدلالة والحجج أكثر من أن تحصى.
 واما الثاني فان الآية تنفي هذا الإمتناع لأنها تخبر عن أمر واقع وحال ظاهرة للناس، بالإضافة إلى الحجة الذاتية لمصاديق البر التي يأمرون بها، إذ تتجلى للعقول والأبصار المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  خصوصاً وأنه لم يدع أو يأمر إلا لما فيه النفع العام للناس في الدنيا والآخرة، ومن الدلائل على إمتناع هذا الإمتناع مجيء الآية بصيغة المضارع التي تفيد الحال والتجدد.
وأما الثالث فالآية لم تخبر عن تلقي الناس لأوامر بني إسرائيل بالقبول، والنفوس تنفر من دعوة الذي لا يأتي ما يدعو اليه.
لقد جاءت هذه الآية الكريمة، وما فيها من البيان نعمة على بني إسرائيل، وتتضمن إرادة إصلاحهم هم أنفسهم، وإذ أخبرت الآية بصيغة الإنكار عن تركهم لأنفسهم وما يصلحها بقوله تعالى [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] فانها دعوة سماوية متجددة لهم ليذكروا ما يصلح أنفسهم ويتجنبوا ما يضرها في الدنيا والآخرة وليس من ضرر أكبر على النفس من الجحود والكفر بالنبوة ولتأتي دعوتهم للبر من منازل الإيمان ليحاكيهم الناس في أفعالهم، بل ان إيمانهم بذاته هو دعوة صامتة وهو أعظم أثراً، وأطول بقاء وأكثر نفعاً.
لقد أراد الله تعالى أن يستجيب الناس لأوامر بني إسرائيل في البر والصلاح ولا تتقوم هذه الإستجابة إلا بإبتداء بني إسرائيل بأنفسهم، وكما تكون “الواو” في قوله تعالى [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] حرف عطف يمكن أن تكون إستئنافية وتقدير الآية [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ] أي سواء تأمرون الناس بالبر أو لا تأمرونهم فكيف تنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب.
لقد خلق الله تعالى الناس وأنعم عليهم بالعقل، وبعث لهم الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وجعل أمة منهم تتوارث الكتاب ليبقى ويستديم بالتلاوة ذكر الله تعالى في الأرض، ويكونوا حجة على غيرهم من الناس.
 وجاءت هذه الآية لأهل الكتاب بدعوتهم إلى القيام بوظائفهم، ومن تلك الوظائف العناية بالنفس وإصلاحها لقبول التنزيل والتصديق بالنبي اللاحق والشريعة الناسخة، والكتاب المهيمن على الكتب السابقة والذي جاء مصدقاً لها، كما أنها تتضمن الدعوة إلى التصديق به.
 وجاء قوله تعالى [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] بصيغة العموم والإطلاق، العموم الشامل لجميع الأفراد والمخاطبين، والإطلاق في النسيان والإهمال والترك للنفس، وفيه آية إعجازية إذ أنهم يعتنون بمعايشهم وملبسهم ومساكنهم وصحتهم وأبنائهم وأزواجهم وشؤون حياتهم الخاصة، ومع هذا جاءت الآية بذمهم لنسيانهم أنفسهم، مما يدل على أمور:
الأول: وجوب العناية والإلتفات إلى النفس.
الثاني:  المدار في العناية بالنفس إصلاحها.
الثالث: ينحصر الإصلاح بالإيمان بالله ورسوله وما أنزل الله من الكتاب، فليس العناية بها خصوص المأكل والمشرب، بل بتلمس سبل الهداية وجعلها تنقاد إلى الأوامر الإلهية.
أما الطرف الرابع: فهو تلاوة بني إسرائيل للكتاب، وفيه شهادة سماوية بان بني إسرائيل يقرأون الكتاب، والمراد من الكتاب في المقام وجوه:
الأول: التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام , قال تعالى[وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
الثاني: إرادة ما يقرأه اليهود خاصة من التوراة، بلحاظ أسباب النزول، إذ كان فريق من اليهود في المدينة يرجع إليهم العامة منهم والمشركون من قريش ونحوهم، ويلحق بهم عامة أهل الكتاب بالتبعية وإتحاد الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث: المراد الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى، ويقرأه النصارى، وورد على لسان عيسى في التنزيل [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الرابع: العنوان الجامع، فاليهود يقرأون التوراة، والنصارى يقرأون الإنجيل.
الخامس: إرادة جنس الكتاب، وما يفيد الكتابة والتدوين والكتاب هو الجامع لمسائل متحدة في الجنس، وبين الكتاب والمصحف عموم وخصوص مطلق، فقد يكون الكتاب ورقة واحدة وقد يكون أوراقاً متعددة مكتوبة، أما المصحف فلا يكون إلا مجموعة من الأوراق جمعت بين دفتين، وقد يكون الكتاب مصدراً بمعنى الكتابة تقول كتبت كتاباً، وعلمته الكتابة وفي التنزيل [وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ]( ).
السادس: المقصود من الكتاب في الآية هو القرآن كما في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، أي أنهم يدرسون القرآن، وما أنزل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: المراد ما طرأ من التحريف على التوراة والإنجيل، وفيه لوم مركب لبني إسرائيل بان تلاوة الكتاب لم تنفع في إصلاح النفوس، والكتاب الذي يقرأون ليس هو الذي أنزل من عند الله، بل ما وصلت اليه يد التحريف والتغيير، فليس فيه صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي نزلت في التوراة والإنجيل.
والصحيح هو الثاني , وقد ورد عن ابن عباس في قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ] أي وأنتم تقرأون التوراة، وفيها صفة ونعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
وفي الآية إشارة إلى كون التوراة مبشرة بالقرآن، وداعية اليه، وان من يتلو التوراة يؤمن بالقرآن ويصدق بنزوله من عند الله، لما في التوراة من الإخبار عنه، ولتجلي معاني ومضامين التنزيل واضحة جلية في القرآن.
 وتتضمن الآية بيان موضوعية التلاوة كمقدمة للإيمان ودخول الإسلام، فقد جعل الله تعالى التنزيل سنخية واحدة، يدعو كل كتاب إلى اللاحق من التنزيل ويصدق اللاحق الكتاب السابق، ومما يمتاز به القرآن عن الكتب السماوية الأخرى وجوه:
الأول: سلامته من التحريف، وخلوه من الزيادة، وعصمته من وقوع النقص فيه.
الثاني: ليس من كتاب سماوي بعده، فكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين فكذا القرآن آخر الكتب السماوية نزولاً.
الثالث: الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، وعموم مصاديق إعجازه وتغشيه لعلوم اللغة والفقه، وفن الحكم والقضاء، والإجتماع، والإقتصاد، وتضمنه لأسرار الغيب وأخبار الآخرة وغيرها.
 ومن الآيات في صدق القرآن أنه في ذات الآية التي يتوجه فيها اللوم لبني إسرائيل يشهد لهم بتلاوتهم للكتاب ويدعوهم لتوظيف هذه التلاوة لإصلاح نفوسهم، وتدارك أمرهم، مما يدل على أن تلاوة الكتاب تدعو إلى نصرة الحق، والعناية بالنفس وسلامتها في الدنيا والآخرة، وترك النفاق والباطل، إذ أن قوله تعالى [وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] أعم في موضوعه من أحوال الإنسان في الدنيا وتقديره على وجهين:
الأول: “تنسون أنفسكم في الدنيا” بتخلفكم عن ركب الإيمان وعدم تصديقكم بالقرآن، وما يجب عليكم من الفرائض والعبادات مما دعت إليه التوراة بالواسطة، إذ انها جاءت بالتصديق بالقرآن، والقرآن يتضمن الأمر الإلهي بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،  وأداء الفرائض.
الثاني: “تنسون أنفسكم في الآخرة” إذ يقف الناس بين يدي الله للحساب، بالإيمان والعمل الصالح، فمن يتلو الكتاب لا يغفل عن نفسه، بل يجب عليه أن يقيها العذاب الأليم يوم القيامة، ويبذل الوسع للفوز بالخلود في النعيم الذي ينحصر بالتصديق بنزول القرآن من عند الله، والعمل بما فيه من الأحكام.
أما بالنسبة للطرف الخامس: فان خاتمة الآية جاءت لتوكيد الإحتجاج على بني إسرائيل، وليكون العقل الشخصي والنوعي وسيلة لزجرهم عن البقاء في منازل الجحود والصدود، أما العقل الشخصي فهو لوم الإنسان لنفسه على تركه العمل بأحكام التلاوة، وأما النوعي فإدراك الجميع ما هم عليه من الخطأ بالإعراض عن التنزيل، فبدل أن يحرض أحدهم على الآخر التعدي على الإسلام والمسلمين، ينشغلوا بأنفسهم، ويدعو بعضهم بعضاً إلى النجاة والسعي للسلامة في الدنيا والآخرة، بتصديق التنزيل.
 وتدعو الآية إلى التدبر بآيات القرآن والإنصات اليه وتعقل ما فيه من الحكمة والموعظة، والأسرار التي تؤكد صدق نزوله من عند الله تعالى.
 وفي خاتمة الآية نعمة ورحمة ببني إسرائيل لإجتماع أسباب الهداية لهم من وجوه:
الأول: أمرهم الناس بالبر والخير والإيمان، وما فيه من الحجة على الآمر.
الثاني: لومهم لتركهم أنفسهم، وفيه تذكير بأولوية النفس، وطرد للغفلة والجهالة، وبرزخ دون تأثير الكبراء منهم على عامتهم.
الثالث: الآية إنحلالية تدعو كل واحد منهم أن لا ينسى نفسه، وان لم يقم بدعوة غيره إلى البر والإيمان، فقد يقوم الكبراء منهم بالأمر بالبر والخير، فتأتي هذه الآية لتنبيه العامة منهم إلى وظيفتهم بإصلاح الذات والمبادرة إلى منازل البر والإيمان، وحتى لو كان الأمر بالبر من النفاق، فان هذه الآية تدعو صاحبها، ومن يسمعها إلى الإيمان والتصديق بالقرآن، فيدعو جماعة منهم إلى البر فتقوم الحجة عليهم جميعاً.
الرابع: تذكير بني إسرائيل بتلاوتهم للكتاب ولزوم تجلي منافع التلاوة على جوارحهم وأفعالهم، وكأن الآية تشير إلى الملازمة بين تلاوة الكتاب ودخول الإسلام، فتلاوة التوراة والإنجيل تقود إلى الإيمان وتمنع من الكفر والجحود، وجاء ذكر تلاوتهم للكتاب في الآية رحمة بهم وتذكيراً بالتنزيل، ولبيان الصلة بين التوراة والقرآن.
 ولم تقل الآية “وأنتم تقرأون التوراة” بل ذكرت خصوص تلاوتهم له، واسم الكتاب للتذكير بوحدة السنخية السماوية بين التوراة والإنجيل من جهة وبين القرآن .
وبين التلاوة والقراءة عموم وخصوص مطلق، فكل تلاوة هي قراءة وليس كل قراءة هي تلاوة، والقراءة جمع الحروف، أما التلاوة فهي إتباع الحروف.
الخامس: وإذ إبتدأت الآية بالإستفهام الإستنكاري بالهمزة “أتأمرون” فانها أختتمت بذات الهمزة في قوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ليتغشى الإستفهام الإنكاري أطراف الآية كلها، والتقدير على وجوه:
الأول: أتأمرون الناس بالبر.
الثاني: أتنسون أنفسكم.
الثالث: أأنتم تتلون الكتاب.
 بإعتبار ان تلاوة الكتاب تقود إلى الإيمان وفعل الصالحات فمن لم تنفعه التلاوة فان العقل يدعو إلى التصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
  ومن الناس من كان على الكفر والوثنية، ولكنه حينما رأى وأدرك المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  آمن بنبوته وصدق بنزول القرآن من عند الله تعالى، والعقل ضد الجهل، وفيه دلالة على أن نسيان وترك النفس من الجهل وهو قبيح، ومن خصال ووظائف العقل النهي عن القبيح.
 فجاءت هذه الآية لزجر العقول عن تركها لوظائفها، ودعوة للإلتفات إلى النفس والسعي في إصلاحها وتهيئتها لمنازل الإيمان والرشاد والنظر إلى الأمور.
وتحث الآية بأطرافها على الإستعانة بالصبر، والخشوع لله بصيغة الجمع، ومن منافعها في المقام الإعانة الذاتية فيما بينهم في سبل الإستعانة بالصبر والصلاة من وجوه:
الأول: إرشاد أحدهم للآخر للإستعانة بالصبر والصلاة.
الثاني: الإستعانة بالصبر والصلاة من الأمر بالمعروف، لذا يهدي اليه المسلمون بعضهم بعضاً، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الثالث: إعانة الجماعة والأمة للفرد منها للإستعانة بالصبر والصلاة.
الرابع: تقيد الجماعة بآداب الإستعانة بالصبر والصلاة دعوة متصلة لكل فرد منها بالتقيد بتلك الآداب.
الخامس: رؤية الأفراد لمنافع الإستعانة بالصبر والصلاة.
السادس: تعدد منافع إستعانة الجماعة بالصبر والصلاة، وتترشح عنها معاني الوحدة والقوة والعز والتمسك بالقرآن والسنة.
ويترشح عن الخشوع النوعي العام فيض مبارك على النفوس والجوانح، ويساهم في ترسيخ مفاهيم الإستعانة بالصبر والصلاة، وهو دعوة للناس لمحاكاة المسلمين وإتيان الصلاة والصوم، كما انه مرآة مباركة يطلع من خلالها الملائكة إلى إعمار المسلمين الأرض بالتقوى والصلاح.
وفي الآية أربعة أمور:
الأول: قيام بني إسرائيل بأمر الناس بالبر والإحسان ودخول الإسلام وفي وصف دخول الإسلام بأنه بر وإحسان شاهد على معرفتهم بحسنه الذاتي والعرضي.
الثاني: نسيانهم لأنفسهم، وتركهم لحظهم من البر، وفعل ما يأمرون به.
الثالث: تلاوة بني إسرائيل للكتاب، وفيه حجة عليهم، فمن الناس من دخل الإسلام ولم يكن من أمة تتلو الكتاب، فتراه ينتقل من الشرك والضلالة إلى الإسلام والإيمان من غير أن تكون هناك واسطة وبرزخ يمر بها.
الرابع: لوم بني إسرائيل بلغة العقل، بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] لتجتمع برخمة الله ثلاثة أمور وهي الأول والثالث والرابع أعلاه على الأمر الثاني وهو نسيانهم أنفسهم من أجل التدارك وإصلاح النفوس، ولزوم تلقي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والقبول، وإجتناب الكفر والجحود بها.
التفسير الذاتي 
إبتدأت الآية بالإستفهام الإنكاري الذي تضمن لغة التوبيخ، والذم، والأمر بالبر حسن بذاته وهو من عمومات الأمر بالمعروف، فلماذا جاءت الآية لإنكاره.
 والجواب إن الآية ذاتها تبين علة الإنكار وهو نسيان الذين يأمرون بالبر لأنفسهم مع تلاوتهم للكتاب فلا يلتفتون إلى ما يجب عليهم من وجوب الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وجوه البر ما تقدم في الآيات السابقة من ذكر نعم الله والوفاء بعهده، وإظهار معاني الخشية منه،وحث الناس على عدم إخفاء الحق والبشارات، ودعوتهم لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
 وفي الآية حجة عليهم ودليل بأنهم يعلمون بمصاديق البر ولزوم إتيانه، والآية تهذيب للنفوس وإصلاح للمجتمعات بأن يبادر الذي يأمر بالخير والإحسان إلى فعله، وقد مدح الله المسلمين والمسلمات لمواظبتهم على الأمر بالمعروف قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
وتبين الآية موضوعية تلاوة الكتاب السماوي المنزل في لزوم طرد الغفلة والجهالة، وعدم نسيان النفس لقاعدة تقديم الأهم على المهم، وهي قاعدة يعتمدها العقلاء على نحو الفطرة ودرك الواقع، فالأهم هو النفس وإصلاحها ووقايتها من الضرر الدنيوي والعقاب الأخروي، فحينما تأمر الغير، فانه قد يستجيب لأمرك وقد لا يستجيب، أما جوارح وجوانح الإنسان فانها تمتثل لأمره، وإذا لم يصدر الأمر من فاعل له متقيد بشرائطه يكون تأثيره ضعيفاً عند الناس، فتريد الآية أن يكون الآمر بالبر مسموعاً ويتلقاه الناس بالإمتثال، فجاءت دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام وإتيان الفرائض.
لقد جاءت الآية بذكر الخاص والعام، فالخاص هو بنو إسرائيل، وهم المخاطبون في الآية، أما العام فهم الناس، مما يدل على أن بني إسرائيل قلة أمام كثرة الناس، لذا يجب أن لاينسوا أنفسهم ويصروا على الجحود وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
من غايات الآية
في الآية تنزيه للأفعال والأقوال بدعوة الناس للتسابق في فعل الخيرات وعدم الوقوف عند الدعوة إليها وعدم إتيانها، فالأمر بإتيان الفعل الصالح شاهد على الإقرار به والتمييز بينه وبين ضده من المنكرات، وهو حجة على الإنسان في لزوم إتيانه، وفيها توكيد للعناية بالنفس، والنجاة من السيئات، وإجتناب إرتكاب الموبقات .
 ولا تعني الآية وجود برزخ بين فعل الصالحات وإتيان السيئات، لذا لابد للعبد من فعل الصالحات وعدم جواز الدعوة إليها وتركها، فان تركها يؤدي إلى الإضرار بالنفس، وعدم أخذ الحائطة للبعث في الآخرة وعالم الحساب، مما يدل على إنعدام الثواب في الدعوة إلى الخير مع الإصرار على عدم إتيانه لفقد قصد القربة الذي لا يصلح إلا بقيد الإسلام.
 وتدعو الآية إلى توظيف العقل في إتيان الواجبات، وتبين لزوم إتخاذه سبيلاً وعوناً على الهداية والرشاد.
 
التفسير
تفسير قوله تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ] 
بعد ان تفضل الله سبحانه وذكر بني إسرائيل وما خصهم به من النعم، وما يجب عليهم في باب الإعتقاد والعمل العبادي، جاءت هذه الآية لتتناول سيرتهم وموضوع معاملتهم الفكرية مع الناس وضرورة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لصلاح المجتمع وإقامة الشعائر.
وهل يمكن إعتبار الخطاب في هذه الآية عاماً كما في الآية السابقة، الجواب: إن اللوم على أمر مخصوص وفعل معلوم يدل على إرادة قوم على نحو التعيين ، وسياق الآيات يفيد إرادة بني إسرائيل، بالإضافة إلى إحتمال إرادة بني إسرائيل في الآية السابقة كما تقدم في تفسيرها، وكما ذهب جمع إلى إرادتهم بها على نحو الخصوص.
وتؤكد الآية على بقاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأرض، لمجيء الكتب السماوية به، ولأنه من دين الفطرة، والعقل يحكم بالحاجة إليه.
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: “أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر”( ).
والترتيب في هذه الآيات إعجاز قرآني يستحق دراسة مستقلة تظهر دقته وما يتضمنه من نظام سواء كان على سبيل القضية الشخصية أو النوعية، كلية كانت أو جزئية.
والبر عنوان جامع لوجوه الخير والصلاح، ومن أشرف مصاديقه الإيمان وإتيان الفرائض وإظهار الطاعة لله عز وجل، والعمل بمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الحال والإستطاعة والميسور.
ومن أهم وجوه البر الإيمان بما جاء به الأنبياء من عند الله تعالى والتسليم بالكتب المنزلة والعمل بمضامين أحكامها، ومن أسمى أفراده إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإلتزام بالفرائض، لذا جاءت الآية السابقة للحث على أداء الصلاة وإتيان الزكاة.
وفي الآية توبيخ ولوم لما في سلوكهم من إزدواج وإختلاف بين ما يقولونه للناس ويأمرونهم به، وبين ما يحملونه من إعتقاد ورأي، فهم يأمرون الآخرين بالهداية والصلاح ولكنهم باقون على الجحود والعناد ويتصور هذا التضاد على وجوه:
الأول: كانوا يأمرون الناس بالايمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم يتركون أنفسهم ويمتنعون عن الإيمان.
الثاني: كانوا يدعون العرب للإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يخرج، فلما بعث ونزل عليه الوحي كفروا به، ويأمرونهم بإتباع الكتاب الذي في أيديهم، فلما جاءهم كتاب مثله لم يتبعوه( ) عن أبي مسلم( ).
الثالث: كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بالتوراة، وتركوا هم التمسك بها لأن جحدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته فيه ترك للتمسك بالتوراة، وهو المروي عن ابن عباس( ).
الرابع: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونهم عن المعصية، وهم يتركون طاعته تعالى، ويقترفون السيئة، وهو المروي عن قتادة والسُدي.
الخامس: وقال بعضهم أتأمرون الناس بالصدقة وتتركونها أنتم وإذا اتتكم الضعفاء بالصدقة لتفرقوها على المساكين خنتم( )، وإستدل الزجاج على شحهم بالصدقة بأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت.
والوجوه التي ذكرت مصاديق متشابهة وأنماط للسلوك متداخلة ذات أصل نفسي واحد مبتنى على الجحود والعناد، ولكنها تختلف من حيث المرتبة والتأثير والأثر، إذ يمكن إعتبار مسألة النبوة والإقرار برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي الأصل وما تبقى فروعاً، بل يمكن إيجاد فروعاً أخرى بالتنقيب في كتب التفسير والسيرة والتأريخ.
ورد أن الآية نزلت في القصّاص والخُطّاب وأستدل بقول الإمام علي عليه السلام: “وعلى كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على الله وعلى رسوله وعلى كتابه”( ).
وهذا من باب التطبيق وإجتهاد من المفسر بإن للكلام صلة بالآية الكريمة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، والأصل عدم الملازمة بينهما، لأن الآية وردت في ذم أمم أخرى غير المسلمين.
وفي الآية تحذير وإنذار من مخالفة الإنسان لما يأمر به من المعروف ووجوه الصلاح وموارد الإحسان، بإعتبار أن القرآن مدرسة سماوية جامعة، ومواعظه تستوعب الناس كلهم، وفيه عبرة للمسلمين رحمة من الله تعالى.
وقد ورد عن أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم مقاريض من النار فقلت يا أخي يا جبرئيل من هؤلاء؟ فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون انفسهم”( ).
ومع أن الآية خطاب تقريع لبني إسرائيل إلا أنها جارية إلى يوم القيامة على أهل الملل والنحل والعقائد والأشخاص، وجاءت لتأديب المسلمين، وهدايتهم لسبل الرشاد، وتهذيب اللسان والأفعال، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ففي الآية دعوة للصلاح، وإرادة ظهوره على الأفعال، وليس الأقوال فقط لأن تأثير الفعل أمضى وأنفذ.
وقد يقول قائل لماذا يتوجه لهم اللوم مع قيامهم بالأمر بالبر، والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل خلق الناس لعبادته، وجعل كل فرد مكلفاً بنفسه أولاً، وجاءت الآية ليس للوم على أمر الناس بالبر، بل على ترك النفس، وعدم التقيد بالبر والصلاح.
الثاني: الآية تذكير بالتناقض والتباين بين الأمر بالشئ وعدم إتيانه، ولو كان الإنسان بالعكس أي أنه يتقيد بالبر ولكنه يأمر الناس بخلافه لجاءه الذم أيضاً ولقيل له أتأتي البر وتأمر الناس بخلافه.  
 فجاءت هذه الآية نعمة أخرى على بني إسرائيل لدعوتهم إلى التدارك والصلاح الذاتي لفعل البر والإحسان.
الثالث:  الآية حجة على بني إسرائيل، وشاهد على أنهم يعلمون مصاديق البر من وجوه:
الأول: دعوتهم الناس لإتيانها.
الثاني: معرفتهم للحسن الذاتي لأفراد البر بدليل الأمر بها .
الثالث: تدل لغة الخطاب في الآية  على حصول حال اليقين عندهم بأن ما يأمرون به أمر حسن ذاتاً وعرضاً.
الرابع: صيغة الأمر التي يخاطبون الناس بها، التي تدل على الحث والإلزام والقطع، وعدم الترك.
الخامس: تلاوتهم للكتاب إذ أن التوراة والإنجيل يتضمنان بيان مصاديق البر، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإخبار عن نزول القرآن.
وقال ابن جرير: حدثني علي بن الحسن، حدثنا مُسلم الجَرْمي، حدثنا مَخْلَد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا)( ).
ولا بد من مراجعة رجال سند الحديث، فلا موضوعية لمقت الناس والنفس، إنما التفقه في الدين باب لحب الناس في الله.
 وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد احدكم حلاوة الايمان حتى يحب المرء , لا يحبه الا لله وحتى يكون ان يقذف في النار احب إليه من ان يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه وحتى يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما)( ). 
علم المناسبة
ورد لفظ “تأمرون” أربع مرات في القرآن، ولم يرد بإضافة همزة الإستفهام “أتأمرون” إلا في هذه الآية الكريمة، وجاءت خطاباً لبني إسرائيل، ووردت آيتان في آل فرعون وسعيهم للكيد بموسى عليه السلام [يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ]( ).
ومدح الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( )، وجاء الإتفاق الرقمي في الآيتين أعلاه، وكل واحدة منهما رقمها في السورة عشرة بعد المائة، لبيان تفضيل المسلمين إذ ان فرعون وملئه أرادوا الإنتقام من موسى عليه السلام ونسبوه إلى السحر، أما الآية أعلاه من سورة آل عمران، فتتضمن الإخبار بأن المسلمين هم الذين يأمرون وينهون، ولا يأمرون إلا بما هو خير محض، يبغون صلاح الناس جميعاً فلذا جاء أول الآية أعلاه بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
والآية محل البحث  من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم به المسلمون بين الناس، لما فيه من دعوة بني إسرائيل لإصلاح سرائرهم وأفعالهم، وإجتناب الجحود والإنكار.
ومجيء الإخبار عن نسيان المخاطبين في آية البحث لأنفسهم، بعد الإخبار عن أمرهم للناس دليل على عدم فعلهم للبر والصالحات، وأنهم يأمرون الناس بالفعل الحسن ولكنهم لا يقاربونه.
فجاءت الآية من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحث بني إسرائيل على إتيان ما يأمرون به من وجوه الخير والبر والصلاح لتدعوهم للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يرد لفظ “وتنسون أنفسكم” إلا في هذه الآية الكريمة وفيها لوم لهم ودعوة للزوم إتخاذ التقوى وسيلة لإصلاح الذات، والنسيان في المقام أعم من الترك، إذ يشمل أيضاً ظلم النفس , قال تعالى حكاية عن موسى [يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ] ( ).
ولا ينحصر بالحياة الدنيا بل يشمل عالم الآخرة ووجوب السعي لإجتناب العذاب يوم القيامة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( ).
ولم يرد (أتامرون) في القرآن بصيغة الإستفهام الإنكاري إلا في هذه الآية التي جاءت في مقام الذم المقترن بالإصلاح، وهو من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل في القرآن .
وورد لفظ (تأمرون) فيه ثلاث مرات , جاءت الأولى في مدح المسلمين باعتبارهم خير أمة بقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، وتدل صيغة المدح ونعت المسلمين في ذات الآية بأنهم خير أمة على تقيدهم عملياً بمصاديق المعروف التي يدعون إليها، وإجتنابهم المعاصي والذنوب التي ينهون عنها.
وهل تلاوة هذه الآية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليشمل لفظ الناس بني إسرائيل الذين فُضلوا على أهل زمانهم بأن يقوم المسلمون بدعوتهم لإصلاح نفوسهم وأن يكون فعلهم مثل قولهم، وباطنهم مثل ظاهرهم لأن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، ومن وجوه التحذير من يوم القيامة ولزوم الخشية منه وصف الله عز وجل له بأنه[يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( ).
أما الثانية والثالثة فجاءت على لسان فرعون وملئه بخصوص موسى عليه السلام كما في قوله تعالى [يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ]( )، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة، ويلبس مدرعة صوف عند دخوله على فرعون، فأدخل موسى يده في جيبه وأخرجها بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس، فأراد فرعون، منع إنجذاب الناس إليه والتسليم بنبوته فإدعى أنه ساحر.
وجاءت الآية أعلاه على لسان الملأ من آل فرعون ووردت ذات الآية مرة آخرى( )، وهي على لسان فرعون لبيان أنه أمر قومه مع التوجيه وبيان العلة بقوله (بسحره) فأخبر الملأ وأمرهم أن يقولوه للناس، كما تدل على إتباع الملأ لفرعون في تكذيب موسى عليه السلام، وإستحقاقهم العذاب، وهو من أسباب هلاكهم في أليم عندما حاولوا اللحاق بموسى عليه السلام وبني إسرائيل.
وأختلف في علم الأصول هل يشترط بالأمر العلو وأنه يكون من العالي إلى الداني أم لا، وهل تدل هذه الآية على عدم إشتراطه في المقام لأن فرعون يقول لأصحابه (ماذا تأمرون) وهو الأعلى فيهم كما ورد في قوله تعالى حكاية عنه [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( )، الجواب لا، لإحتمال الحذف وإرادة الأمر في موسى، أي أنه لم يقصد ماذا تأمرونني، بل قصد ماذا تأمرون فعله في موسى.
 وتدل لغة التخويف [يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ] ( ) على إرادة البطش به والتحريض عليه، والوعيد لمن يصدق برسالته من بني إسرائيل، كما حصل للسحرة إذ قتلهم فرعون لإيمانهم بنبوة موسى عليه السلام بعد أن رأوا الآيات، وروي أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك، قال: لآتين بسحر لا يغلبه سحر، وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع( ).
فكانوا في أول النهار كفاراً وسحرة، ولكن أدركتهم رحمة الله عز وجل ليصبحوا في آخره شهداء قتلوا لإيمانهم، وعن الحسن البصري( تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا، وهؤلاء كفار نشئوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله( ).
ولكن المقام ليس للتعريض بالمسلمين أو ببعض منهم، بل تدل الآية على مدح المسلمين لحسن إختيارهم الإيمان، وثباتهم على الإسلام، والشواهد التأريخية على تعاهد المسلمين الإيمان والصبر في جنب الله أكثر من أن تحصى،وهي من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فبالتحمل والصبر في ذات الله يتعاهدون راية الإسلام لتكون تركة كريمة إلى الأجيال اللاحقة من المسلمين .
 وكان دعاء السحرة بعد إيمانهم حسن العاقبة بالموت على الإسلام [وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( )، وقد رزق الله عز وجل المسلمين التوبة وسلاح الإستغفار، وبشّرهم بحسن العاقبة.
علم المناسبة
ورد لفظ (أنفسكم) بصيغة الجمع والخطاب في القرآن تسعاً وأربعين مرة، وهذه أول آية في نظم القرآن يذكر فيها هذا اللفظ، ومن إعجاز سياق الآيات أن يتوالى هذا اللفظ سبع مرات كلها في بني إسرائيل، وهو من وجوه وعظهم وتحذيرهم وإنذارهم في القرآن، وإذ جاءت هذه الآية خطاباً من الله لبني إسرائيل، جاء بعده ذات اللفظ خطاباً من موسى عليه السلام مكرراً مرتين في آية واحدة، قال تعالى [يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ]( ).
  فماهي النسبة بين الآيتين، فيه وجوه:
الأول: النسبة بينهما التساوي، فنسيان الأنفس هو نفسه ظلمها.
الثاني: التباين بين الآيتين بدليل ذكر موضوع ظلم النفس وهو عبادة العجل.
الثالث: النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي ظلم النفس، أما مادة الإفتراق فهي في الآية محل البحث نسيان الأنفس، وفي الآية أعلاه عبادة العجل.
الرابع: النسبة هي العموم والخصوص المطلق، فنسيان النفوس فرع ظلمها.
الخامس: ظلم النفس فرع نسيانها، فمتى ما نسى الإنسان نفسه فانه يقوم بظلمها وتركها تسيح في الضلالة وتتبع الهوى، وتأمر بالخير ولا تأتيه، وتنهى عن المنكر وترتكبه ميلاً للهوى وإتباعاً للشهوة.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس، وإذ جاءت الآية أعلاه بأمر موسى عليه السلام بني إسرائيل بقتل أنفسهم كعنوان ومصداق للتوبة، جاءت هذه الآية وآيات القرآن الأخرى بدعوتهم للإسلام والتنعم بالإيمان والرضا بأداء الفرائض والعبادات والفوز بالثواب في الآخرة، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فليس  في الإسلام قتل للنفس، بل هناك توبة وإستغفار، وهو مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يأمر الناس بقتل أنفسهم.
الثاني: تحذير أهل الكتاب من نسيان أنفسهم ويشمل هذا التحذير المشركين والكفار من باب الأولوية القطعية.
الثالث: بيان حقيقة وهي نسخ الشرائع بالإسلام، ومجيء القرآن بالتخفيف عن الناس ومنهم أهل الكتاب.  
تفسير قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ]
أي أنكم تقومون بالأمر بالبر، وتتركون أنفسكم في حال كونكم تقرأون التوراة، وتفهمون وتعون ما فيها من صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بالإضافة إلى ما فيها من وجوب طاعة الله وإجتناب الجحود بآياته، والمراد المعنى الأعم للتوراة فيشمل الموجودة في هذا الزمان، ومع ما مسها من التحريف , فانك تجد التوبيخ موجهاً إلى بني إسرائيل في مواضع كثيرة منها:
الأول: (من أيام آبائكم حدتم عن فرائضي ولم تحفظوها، إرجعوا اليّ أرجع إليكم).
الثاني: (قد لعنتم لعناً وإياي أنتم سالبون هذه الأمة كلها).
الثالث: (أقوالكم إشتدت عليّ قال الرب، وقلتم ماذا قلنا عليك. قلتم عبادة الله باطلة)( ).
ويمكن ان يستدل بهذه الآية على أفضلية المسلمين وأهليتهم لحفظ الشريعة بعد فشل وعجز غيرهم الذين أسبغ الله عز وجل عليهم النعم متوالية متصلة.
وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، خطاباً وثناء على المسلمين  من وجوه في المقام:
الأول: يأمر المسلمون بالبر ويعملون به.
الثاني: يمتثل المسلمون لأوامر الله، ويتجنبون ما ينهى عنه، قال تعالى في ذم قوم[لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] ( ).
وعن الحسن أن الآية أعلاه نزلت في المنافقين وندائهم بالإيمان تهكماً بهم وبإيمانهم هذا)، فجاءت هذه الآية لتنزيه عموم المسلمين من تخلف الفعل عن القول.
الثالث: يأمر المسلمون أنفسهم بالبر، ويعض بعضهم بعضاً، ويتخذون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلاحاً وواقية ذاتية، ويدعون أنفسهم والناس جميعاً إلى الخير والبر والصلاح، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الرابع: إذا كان أهل الكتاب يدعون غيرهم من الناس إلى البر وينسون أنفسهم فان المسلمين أئمة في البر وفعل الصالحات.
الخامس: من يأمرهم المسلمون بالبر والإحسان أعم وأكثر عدداً.
الأول: المسلمون أنفسهم.
الثاني: أهل الكتاب.
الثالث: الناس الذين يأمرهم أهل الكتاب بالبر، لتأتيهم الدعوة الصادقة التي تترشح عن الفعل الحسن.
الرابع: عموم الناس لأن الإسلام خطاب ودعوة لأهل الأرض جميعاً.
وتدل الآية في مفهومها على أن المسلمين يأمرون بالبر ويلتزمون به، كما تظهر الآية أولوية الإلتزام الذاتي بالصالحات.
جاء لفظ الكتاب في القرآن على وجوه:
الأول: الفرض والواجب، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الثاني: الدليل والبرهان ومادة الإحتجاج.
الثالث: الجامع لأعمال البشر الذي ينشر يوم القيامة، وفي التنزيل حكاية عن المجرمين يوم الحساب[مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا]( ).
الرابع: التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى عليه السلام، قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ]( ). 
الخامس: المنسوب إليه اليهود والنصارى من التنزيل الجامع للتوراة والإنجيل والزبور، قال تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ). 
السادس: الإنجيل الذي أوحاه الله إلى عيسى عليه السلام وجمعه أصحابه، وقيل أصله إثانجيليوم، أي الخير الطيب , ولفظ الإنجيل عربي وكسرته مشهورة على وزن إيزيم، وقيل أن التوراة التي أنزلت على موسى عشر كلمات بمقدار سورة الليل، والإنجيل كلمات قالها عيسى في الملأ.
السابع: ما أنزل الله عز وجل على الأنبياء من الكتب والصحف مطلقاً، ليكون لفظ الكتاب اسم جنس جامع للتنزيل , قال تعالى[فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ]( )، وقد أثنى الله عز وجل المسلمين وشهد لهم بالتنزيل، قال تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ]( ).
الثامن: الأجل والوقت المحدد والمعين، وفي عدة المتوفى عنها زوجها ولزوم إنقضائها  كشرط لإجراء العقد عليها مع رضاها قال تعالى[وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ]( ).
التاسع: القرآن الذي أنزله الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد نسبه الله عز وجل إليه وأنه كتاب الله والحكم والفيصل بين الناس، قال تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ]( )، ومن إعجاز القرآن أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقرأ ولا يكتب , قال تعالى[وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ]( ).
(عن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه الى اليمن قال له: كيف تقضي ان عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله قال: فان لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: فان لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( )، وفي هذا الحديث مسائل:
الأولى:  يدل هذا الحديث على الإجتهاد المستنبط من القرآن والسنة.
الثانية: يبين صدر الحديث تقديم القضاء بكتاب الله مما يدل على التفقه فيه ومعرفة آيات الأحكام.
الثالثة: العمل بالسنة بإعتبارها المصدر الثاني للحكم , وإظهار الإحاطة بها ومعرفة كيفية الإستدلال بها، وإتخاذها مصدراً للحكم.
الرابعة: إخبار معاذ بأنه لا يفرط ولا يقصر في إستحضار الآيات القرآنية والسنة عند الحكم وإن لم يكن موضوع الخصومة منصوصاً عليه في القرآن والسنة والألو : التقصير.
الخامسة: التفقه في علوم القرآن، ومعرفة آيات الأحكام والإحاطة بالسنة النبوية ولو إجمالاً تنمية لملكة الحكم، لتكون نصوصاً حاضرة يستقرأ منها الحكم أما على نحو تطبيق النص على مصداقه، أو الإقتباس من الآية والحديث بما لا يبتعد الحكم عنهما، وعدم الإبتعاد هذا من مصاديق بذل الوسع ورد الحادثة إلى نظائرها في قول معاذ(لا آلو).
وفي الحديث دعوة من النبي للإجتهاد وتأسيس لضوابطه في حال الغيبة والبعد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي حال إنتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حث بعض أصحابه على القضاء بحضوره ليتجلى عملياً تقيدهم بالقرآن والسنة عند الحكم، وعن عقبة بن عامر , قال: جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقض بينهما يا عقبة. قلت: أقضي وأنت شاهد , فقال: اقضي بينهما. قلت: على ما ذاك؟ قال: إن اجتهدت فأصبت فلك حسنتان، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة)( ). 
العاشر: إنه ديوان جامع موضوع في موضع رفعة وعز في السماء تدون فيه حسنات المؤمنين وكأنه بشارة السبيل إلى الجنة، فيعرف به الذين سيدخلون الجنة، قال تعالى[إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]( )، (وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: عليين في السماء السابعة تحت العرش , وقال ابن عباس هو لوح من زبزجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها)( ).
وذكرت فيه وجوه أخرى منها متقاربة , فعن كعب وقتادة:  هو قائمة العرش اليمنى، وعن مقاتل: ساق العرش ، (وعن ابن عباس: أن عليين الجنة)( ).     
وعن عطية: أعمالهم في كتاب الله في السماء، وعن الضحاك: سدر المنتهى)( ).
الحادي عشر: الكتاب الذي تدرون فيه سيئات الكفار، والآثام التي إرتكبوها، وما فيه نبأ سوء عاقبتهم , قال تعالى[إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ]( )، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: السجين الأرض السابعة، وعليون السماء السابعة.
وأخرج ابن المبارك وغيره أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله تعالى { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } قال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها فيهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها ، فيدخل بها تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى السجين ، وهو خد إبليس ، فيخرج لها من تحت خد إبليس كتاباً فيختم ويوضع تحت خد إبليس لهلاكه للحساب ، فذلك قوله تعالى : { وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم } وقوله : { إن كتاب الأبرار لفي عليين } قال : إن روح المؤمن إذا عرج بها إلى السماء فتنفتح لها أبواب السماء ، وتلقاه الملائكة بالبشرى حتى ينتهي بها إلى العرش ، وتعرج الملائكة فيخرج لها من تحت العرش رق فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة للحساب يوم القيامة ، ويشهد الملائكة المقربون ، فذلك قوله : { وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم})( ). 
بحث بلاغي
قد يعبر عن المستقبل بلفظ الماضي، وذكرت هذه الآية كمصداق من مصاديقه، إلا أنها أعم من هذه القاعدة التي تعتبر من المجاز اللفظي لإمكان حمل الكلام على حقيقته، فالآية حجة عليهم بما فيها من الإخبار عن ديمومة وإتصال الإزدواج والإختلاف في الفعل أزاء الغير وأزاء النفس، فجاء التوبيخ مركباً.
وشهدت الآية لهم بأنهم يتلون الكتاب، ولكن هذه التلاوة لم توظف لما فيه صلاح نفوسهم، وسلامة أفعالهم، وفي مفهومها دروس للمسلمين للعبرة والموعظة، وإعطاء الأولوية للنفس والإنطلاق منها لإصلاح الآخرين، وترى الناس لا ينصتون لمن يطلب منهم أمراً أو فعلاً من وجوه الخير قد تخلف ذات الآمر عنه.
تفسير قوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]
فيه عدة معانِ:
الأول: أفلا تعقلون أن الحجة قائمة عليكم فانكم تجحدون بعد العلم والفهم.
الثاني: كيف يخالف الإنسان ما يأمر به غيره، فبين الأمرين تباين، وهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، وبينهما تعاند ذاتي، وكل منهما يقود إلى نتيجة وغاية مناقضة للأخرى.
الثالث: إن أمركم الناس بالإيمان والصلاح تبطلونه بأيديكم بإصراركم على الجحود والعناد وعدم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: لا تقبل الصالحات إلا من المؤمنين.
الخامس: إنكم تركتم أنفسكم التي هي أعز وأهم شيء بالنسبة لكم وعنها تُسألون يوم القيامة.
السادس: ما تفعلونه قبيح فأنتم أولى بالمسارعة إلى الإيمان.
السابع: أفلا تعقلون أن الله عز وجل يعاقبكم على فعلكم هذا.
الثامن: أفلا تعقلون الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع: إن العلاج التام لأمراض النفوس وللإرباك في الأفعال يكون بالإنتماء للإسلام الذي ينظم جوانب الحياة العبادية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها.
العاشر: أفلا تعقلون وتتدبرون ما في الكتاب وما تُنبيء به الآيات من أن الله مظهر أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته.
الحادي عشر: أفلا تعقلون الآيات. 
الثاني عشر: أفلا تعقلون بأن فعلكم هذا وما فيه من التباين بين الأمر والفعل الذاتي يخزيكم ويفضحكم بين الناس.
الثالث عشر: إن عملكم هذا لن يضر المؤمنين، ولن يحول دون سيادة الإسلام في الأرض.
الرابع عشر: أفلا تعقلون أنكم تعرضون أنفسكم للمؤاخذة والحساب في الدنيا إضافة للعذاب في الآخرة.
والآية الكريمة تحذير للمؤمنين لما فيها من كشف لفعل فريق من بني إسرائيل وما تحمله نفوسهم وما يضمرونه من العناد والجحود، وهي حرز وواقية كي لا يفاجئوا بمثل هذا الفعل منهم، أي إخفاء الجحود والعناد والذي تجلى مثلاً في واقعة الخندق، كما سيأتي إن شاء الله.
ومفهوم الآية يتعدى اللوم والذم لما فيه من التخويف ولغة الانذار.
وروي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قال: “من لم ينسلخ عن هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها، ولم يهزم الشيطان، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه ولا ينتفع الناس به، قال تعالى [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ]( ) ويقال إليه:يا خائن أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك( ).
************
 
 
 
 
 
 
 
 
 
قوله تعالى[وَاسْتَعِينوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكبِيرةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ] الآية 45.
 
الإعراب واللغة
واستعينوا: الواو حرف عطف.
استعينوا: فعل أمر، والواو: فاعل، بالصبر: جار ومجرور متعلقان باستعينوا، والصلاة: عطف على الصبر، و(إنها) الواو: حالية، إنها: حرف مشبه بالفعل، والضمير (الهاء) إسمها، ويعود إلى الصلاة، لكبيرة: اللام هي المزحلقة.
كبيرة: خبر إن، إلا: أداة حصر، على الخاشعين: جار ومجرور متعلقان بكبيرة، وهو من الإستثناء المفرغ بمعنى أنه خال من ذكر المستثنى منه.
والصبر: حبس النفس ومنعها عما تهوى، وعن الإمام علي عليه السلام (الصبر صبران : صبر على ماتكره ، وصبر عما تحب) ( ).
والخشوع: الخضوع والتذلل والمسكنة، ولكن الخضوع حالة عامة في البدن، وأما الخشوع فيظهر على الحواس كالسمع والبصر، وعلى الجوارح إنعكاساً من القلب.
 
في سياق الآيات
بعد اللوم في الآية السابقة جاءت هذه الآية لإصلاح الحال بالقول والفعل وعمل الجوارح والأركان فاذا شق عليهم الإنتقال مما إعتادوا عليه وقالوا كيف نكون تاركين له , جاءت هذه الآية جواباً وإرشاداً وهداية.
وجاءت الآية التالية لتبين صفات الخاشعين في تخفيف عن المسلمين وإعانة لهم على الإستعانة بالصبر، ويفيد نظم الآيات تأهيل المسلم للإستعانة.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أن الآية جاءت بصيغة الجمع التي تتجلى بواو الجماعة في [وَاسْتَعِينُوا] ويحتمل أموراً:
الأول: إرادة بني إسرائيل بلحاظ الآيات السابقة، وما فيها من الخطاب.
الثاني: إرادة المسلمين، لأن الآية قبل السابقة جاءت بالأمر لبني إسرائيل بإقامة الصلاة فيكون من تحصيل ما هو حاصل.
الثالث: إرادة الناس جميعاً.
والوجوه الثلاثة أعلاه مصاديق للآية، ولا تعارض بينها، ويجوز الجمع بين هذه الآية والآية قبل السابقة في إرادة بني إسرائيل، إذ ان قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] لبيان وجوب دخول الإسلام، وأداء الصلاة مع المسلمين الذي جاء وصفهم بلحاظ التلبس بالعبادة بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ].
 أما هذه الآية فجاءت للهداية إلى سبل التوكل على الله، وموضوعية الصبر والصلاة في دفع الشر والأذى الذي يأتي من أعداء الإسلام.
 وجاءت الآية بعد التالية في حث بني إسرائيل لإستحضار نعم الله تعالى عليهم ليتكرر مرتين خلال ثمان آيات فقط من سورة البقرة قوله تعالى [يَابَنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] ( )، ليكون هذا الذكر والإستحضار عوناً إضافياً لأهل الإيمان، وفيه رضا بأمر الله، ويتذوق معه المسلم حلاوة الصبر، ويدرك السعادة في أداء الصلاة.
ولم يرد قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] في القرآن إلا ثلاث مرات، وكلها في سورة البقرة( )، وقد جاء الأمر الإلهي بذكر نعمته خطاباً إلى المسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
 كما ورد خطاباً للناس جميعاً بذكر نعم الله تعالى عليهم في الخلق وإستدامة الرزق ونزوله من السماء والأرض، ومن إعجاز القرآن أنها نعم عامة للناس جميعاً في كل جيل من أجيالهم، ومناسبة ووسيلة لدعوتهم للإسلام ولزوم شكرهم الله تعالى على هذه النعم لعبادته، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ).
وإنفراد المسلمين بالخطاب الإلهي بذكر نعمته في القرآن آية في إكرامهم، وحجة عليهم، ودعوة للناس جميعاً للإعتبار والإتعاظ.
وجاءت هذه الآيات خطاباً لبني إسرائيل، وإبتدأت بالآية الأربعين وإنتهت بالآية السادسة والأربعين، لتبدأ الآية السابعة والأربعون بأمر بني إسرائيل بذات الموضوع، وتضمنت الأوامر والنواهي التالية:
الأول: الأمر بذكر بني إسرائيل لنعمة الله تعالى عليهم.
الثاني: الأمر بالوفاء بعهد الله.
الثالث: الوعد بوفاء الله تعالى بعهده.
الرابع: الأمر بخشية الله بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ).
الخامس: زجر اليهود عن أن يكونوا أول كافر بنزول القرآن.
السادس: النهي عن التفريط بآيات الله، والإعراض عنها حباً لمتاع قليل في الدنيا.
السابع: الأمر الإلهي لبني إسرائيل بتقوى الله تعالى والخشية منه.
الثامن: النهي عن خلط الحق بالباطل.
التاسع: المنع من إخفاء الحق والبشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشر: الأمر الإلهي بإقامة الصلاة.
الحادي عشر: الأمر بإتيان الزكاة.
الثاني عشر: تعاهد الركوع الذي هو جزء من الصلاة، وما يدل عليه من وجوب التقيد بأحكام وواجبات الصلاة.
الثالث عشر: دعوة بني إسرائيل للعناية بأنفسهم، والسعي لإنقاذها من الضلالة وعذاب الآخرة.
الرابع عشر: تذكير بني إسرائيل بتلاوتهم للكتاب، وما يجب ان يترشح عنها من المنافع في القول والعمل.
الخامس عشر: دعوة بني إسرائيل للإنتفاع من نعمة العقل في أمور الدين والدنيا.
السادس عشر: الإستعانة بالصبر، وأداء الصيام وإتخاذه وسيلة للآخرة.
السابع عشر: الإستعانة بالصلاة لتهذيب النفوس، وإكتناز الصالحات ورجحان الحسنات في ميزان الأعمال.
الثامن عشر: بيان حقيقة وهي أن الصلاة أمر يسير على المؤمنين الخاشعين، وجاءت هذه الآيات على وجوه:
الأول: أختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
الثاني: أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( ).
الثالث: أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ].
وفيه بيان للملازمة بين الركوع والخشوع، وتوظيف العقل لجلب المنافع ودفع المفاسد.
وجاءت هذه الآيات الثمانية بخطاب لبني إسرائيل، وتكرر فيه أمر ونهي.
 أما الأمر فهو الأمر بإقامة الصلاة والركوع، والإستعانة بها مع مدح الذين يقبلون عليها برضا وشوق.
 وأما النهي فيتعلق بخلط الحق بالباطل وإخفاء الحق.
 ومن أفراد الحق وجوب إقامة الصلاة وتوارث البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ولزوم إتباعه لتكون كل آية من هذه الآيات عوناً للآيات الأخرى في ذات الخطاب والموضوع، وتكون مجتمعة ومتفرقة مدرسة عقائدية لإصلاح النفوس وتهذيب عالم الأقوال والأفعال.
 وإذ تضمنت الآيات الستة السابقة وهذه الآية الأوامر والنواهي، جاءت الآية التالية بصيغة الجملة الخبرية والمتعلقة بهذه الآية وما فيها من الأمر بالصلاة والإستعانة بها، وفيه توكيد إضافي على موضوعية الصلاة ولزوم الحرص على أدائها الذي لا يتحصل إلا بدخول الإسلام لشرط الإسلام وقصد القربة في أدائها، وفيه إخبار للناس بما في الصلاة وأدائها من الكنوز والمعارف والمنافع العظيمة.
وإختتام الآية بدعوة بني إسرائيل توظيف للعقل في الإختيار وعالم الأفعال، بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] وإبتداء هذه الآية بالإستعانة بالصبر والصلاة توكيد على الملازمة بين العقل وبين أداء العبادات، وقد جعل الله تعالى العقل رسولاً باطنياً يقود الإنسان إلى سبل الهداية ويجعل النفس تقبل على العبادات بشوق ورضا.
وجاءت هذه الآية ضمن نظم الآيات السابقة التي جاءت خطاباً لبني إسرائيل إذ إبتدأت هذه الآيات بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] وتضمنت هي والآيات اللاحقة ومنها هذه الآية الأوامر والنواهي لتدل مجتمعة ومتفرقة على عظيم فضل الله على بني إسرائيل وتفضيلهم على الناس بتذكيرهم بنعمة الله عليهم،وحثهم على الشكر لله تعالى، والإلتفات إلى مدرسة التذكيربالنعم في القرآن.
 وأختتمت هذه الآية ببيان قانون وهو أن الصلاة كبيرة وثقيلة الا على الخاشعين، إلا أنه لا يمنع من تعلق الوصف بالأوامر والنواهي الأخرى في الآية.
 والصلة بين هذه الآية والآيات السابقة على وجوه:
الوجه الأول: الصلة بين هذه الآية وآية[وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: الإستعانة بالصبر والصلاة لكل من:
الأول: ذكر نعمة الله تعالى، فمع الصبر عن الدنيا وزينتها، وإستحضار ذكر الله عز وجل، يتدبر الإنسان فيما عنده من النعم، وتكون الصلاة موضوعاً ومصداقاً لذكر النعمة، وشكر لله تعالى على النعم لما في الصلاة من الشكر وهو على أقسام:
الأول: الشكر القولي، كما في تلاوة سورة الفاتحة، وقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني: الشكر الفعلي بتسخير الجوارح والأركان في طاعة الله قياماً وركوعاً وسجوداً.
الثالث: الشكر المتكرر إذ يؤدي كل مسلم ومسلمة الصلاة كل يوم خمس مرات، وفيه تجديد وتعاهد للشكر، وحرز من الجحود.
الرابع: الشكر العرفي، لأن الصلاة فعل عبادي، وأمر حاضر في مجتمعات المسلمين.
الخامس: الشكر الفردي، بأن يقوم الفرد من المسلمين بالصلاة لتكون حبلاً وصلة بينه وبين الله سواء يؤديها بمفرده أو مع جماعة المسلمين.
السادس: الشكر النوعي بإقبال المسلمين رجالاً ونساء على الصلاة والتفقه في أحكامها، والحرص على أدائها، والتقيد بسننها وآدابها وإتيانها جماعة.
والصلاة ذاتها نعمة سواء في الأمر بها، أو في أدائها، مما يستلزم الشكر لله تعالى على الأمر بها، وعلى الإمتثال لها، وهذا الشكر من مصاديق الخشوع لله تعالى، كما أن التلبس في أداء الصلاة والوقوف بين يدي الله تعالى خشوع وخضوع لله تعالى.
الثاني: جاءت الآية الأربعون بالأمر بالوفاء بالعهد، والإستعانة بالصبر والصلاة من الوفاء بالعهد، لما فيها من الإمتثال لأوامر الله تعالى، سواء على إرادة معنى الصوم من الصبر , أو المعنى الأعم وهو حبس النفس عن اللذات وإتباع الهوى.
الثالث: لقد جاءت الآية أعلاه بالأمر بالخشية والخوف من الله تعالى بقوله سبحانه [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] واللجوء إلى الصبر، والصلاة مصداق للرهبة من الله، والخوف منه في السر والعلانية.
 ومن الآيات تعدد معاني الصبر ومنها الصبر على المصيبة والصبر في طاعة الله تعالى، والإقبال على العبادات من معاني الرهبة منه تعالى، فبالصبر تتجلى أبهى مفاهيم الخشية من الله تعالى، وهذه الخشية مقدمة وآلة للتحلي بالصبر، وتلك آية في خلق الإنسان وإعانته على الإمتثال لأوامر الله تعالى من وجهين:
الأول: الرهبة من الله مقدمة ووسيلة لتنمية ورسوخ ملكة الصبر في النفس.
الثاني: التحلي بالصبر شاهد على الخشية من الله، ومصداق للرهبة منه تعالى.
الثانية:  من نعم الله تعالى على بني إسرائيل أمرهم بالإستعانة بالصبر وأمرهم بالإستعانة بالصلاة، بلحاظ التفكيك بينهما خصوصاً وان كل فرد منهما فعل عبادي مستقل وان تداخلا أحياناً، فان هذا التداخل لا يمنع من تعدد الثواب، وتلك آية في الجزاء والثواب والفضل الإلهي بان تتداخل الأفعال العبادية , ولكن الثواب يبقى متعدداً بلحاظ كل فعل وإستقلاله وتداخله مع غيره.
الثالثة:من مصاديق الرهبة من الله، والخشية منه إتخاذ الصبر والعبادات وأداء الفرائض واقية وحرزاً وأمناً في النشأتين.
الرابعة: الملازمة بين ذكر نعمة الله وبين الخشوع، فمن مصاديق الخشوع لله تعالى ذكر نعمه.
أما في الصلاة والصلة بينها وبين قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ففيها وجوه:
الأول: توكيد إستحباب صلاة الجماعة لما فيها من إعلان الرهبة النوعية العامة من الله تعالى.
الثاني: وجوب الصلاة على المكلفين ذكوراً وإناثاً.
الثالث: الصلاة وقوف بين يدي الله، وتسليم وإمتثال لأمره.
الرابع: تدل أفعال الصلاة على الرهبة والخشية من الله تعالى، قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ]( ).
ويؤدي الخاشعين الصلاة في السر والعلانية من غير أن يتقيد أداؤهم بالرياء وإراءة الناس فالخشية من الله تعالى مصاحبة لهم ، ومن مصاديق الخشية طاعته بالغيب وإستحضار النعم الإلهية عليهم، والمبادرة إلى شكر الله تعالى عليها بالعبادة والوقوف بين يديه تعالى للصلاة.
ويبعث ذكر نعم الله تعالى الخشوع في النفس لأن الإنسان يدرك معه أنه لا يقدر على النعم الإلهية إلا الله تعالى وأن ذكرها مناسبة لإستدامتها بفضل الله، والمعنى على وجوه:
الأول: إذكروا نعمتي فانها سبب للخشوع.
الثاني: الخاشعون يذكرون نعمتي.
الثالث: ذكر النعمة خشوع لله.
الرابع: الخشوع لله من الوفاء بالعهد، كما ان الوفاء بالعهد خشوع لله تعالى، فمن يكون خاشعاً لله يحرص على الوفاء بعهده.
الخامس: الرهبة من الله خشوع محض.
السادس:الخشوع لله عز وجل مناسبة للإقبال على الصلاة والإستعانة بها.
السابع: الصلاة مقدمة للخشوع وسبيل لزيادته وتنميته وصيرورته ملكة راسخة عند المسلمين , قال تعالى[وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا]( ).
إن الأوامر الإلهية الواردة في الآية الأربعين “وآمنوا بما أنزلت” مقدمة لبلوغ مرتبة الخشوع، وأداء الصلاة بشوق من غير تكاسل أو تثاقل فمتى ما أدرك العبد النعم الإلهية العظيمة عليه فانه يعلم بان الصلاة والعبادة واجب عليه، وحق لمقام الربوبية، ووسيلة لجلب المصالح ودفع الضرر.
الوجه الثاني: الصلة بين هذه الآية، وآية [وآمنوا بما أنزلت] ( )، وفيه مسائل:
الأولى: الصبر وسيلة مباركة للإيمان بالقرآن، ونزوله من عند الله، لأن الصبر مناسبة للتدبر بأسرار الآيات القرآنية، وما فيها من الإعجاز، ومضامين التصديق بين القرآن والكتب السماوية السابقة وهي على وجوه:
الأول: تصديق القرآن للكتب السابقة، وحجية هذا التصديق، في لزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءت الآية أعلاه خطاباً لبني إسرائيل[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ].
الثاني: تصديق وبشارة الكتب السابقة للقرآن.
الثالث: تصديق كل واحد منهما للآخر.
الرابع: تصديق القرآن لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته للإيمان ببعثته.
الرابع: تصديق الكتب السماوية السابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جاءت به من البشارات بخصوصها.
الخامس: تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنبوات الأنبياء السابقين كموسى وعيسى عليهما السلام.
الثانية: يتقوم الإيمان بالصبر، مقدمة غيرية، وجزء من ذات الإيمان وفي الحديث: “الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد”( ).
ويتضمن قوله تعالى [آمنوا] الذي إبتدأت به الآية أعلاه الدعوة إلى الصبر، والإستعانة به لبلوغ مرتبة الإيمان، والتصديق بالتنزيل، والتفقه في الدين.
الثالثة: الإيمان بالتنزيل مقدمة غيرية واجبة لأداء الصلاة، والتقيد بأحكامها وسننها.
الرابعة: جاءت الآية أعلاه بالتحذير والنهي عن الكفر بالقرآن بقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ] ( )، وجاءت هذه الآية بصيغة الأمر المركب، من وجوه:
الأول: الأمر بالإستعانة بالصبر.
الثاني: الأمر بالإستعانة بالصلاة.
الثالث: الأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة.
الرابع: التحلي بالصبر، وجعله ملكة راسخة في النفس، فلا تأتي الإستعانة بالصبر الا بعد التلبس به، وجعله حرزاً وواقية وسلاحاً ذاتياً.
الخامس: إتخاذ الصبر مقدمة لأداء الصلاة , وإتخاذ الصلاة مادة ومناسبة لملكة الصبر .
السادس : أداء الصلاة في أوقاتها، وبحسب الكيفية الشرعية لها، فالأمر الإلهي بالإستعانة بالصلاة إنحلالي ينحل إلى أمرين:
الأول: إقامة الصلاة.
الثاني: الإستعانة بأداء الصلاة، فالمقصود ليس الإسم، بل ذات فعل الصلاة والإمتثال للأمر الإلهي بأدائها بأوقاتها , والتقيد بالأداء في الوقت من مصاديق الصبر.
الثالثة: يفيد الجمع بين الآيتين لزوم تجلي معاني الإيمان بإتيان الفرائض العبادية إذ ان القرآن النازل من عند الله يأمر بالصلاة كما تقدم قبل آيتين [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] لتكون الإستعانة بالصلاة وسيلة مباركة لإستقرار الإيمان في النفوس والمجتمعات.
وسيبقى الإيمان واجبا متوارثا وخطابا تكليفيا متجددا للأجيال المتعاقبة، فتأتي الإستعانة بالصبر والصلاة لتوارث الإيمان في الأجيال المتعاقبة، فهو أمانة السماء في عهدة كل جيل من الأجيال المتعاقبة من بني آدم وهو من مصاديق [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي] ( )، ليتجلى الوفاء بالعهد بالإستعانة بالصلاة وليتوارث بها صرح الإيمان وتحفظ قواعده وقوانينه وسننه، وفيه دعوة لتنمية ملكة الخشوع لله جل جلاله عند الأبناء ذكوراً وإناثاً ليتلقوا العبادات تركة مباركة.
الرابعة: من وجوه تصديق القرآن للكتب السابقة الأمر الإلهي بالصلاة، فهي أمر جامع وحكم متحد جاءت به جميع الكتب السماوية، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( )، مما يدل على الملازمة بين الإيمان وإقامة الصلاة، وعدم الإنفكاك بينهما، وفي عيسى ورد قوله تعالى [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
فمع الإيمان يأتي الأمر بالصلاة والزكاة، وجاءت هذه الآية لبيان حقيقة وهي أن الصلاة عبادة ووسيلة مباركة يستعان بها في قضاء حوائج الدنيا والآخرة، وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] ( ).
وجاء حرف الجر “من” في الآية أعلاه للتبعيض، وجاءت الآية محل البحث لتوكيد حقيقة وهي ان المسلمين هم الذين يقيمون الصلاة , قال تعالى [ملة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ( ).
الخامس: يفيد الجمع بين الآيتين توجيه اللوم لبني إسرائيل على الجحود بنزول القرآن، ويدعوهم إلى الإستعانة بالصبر والصلاة لطرد الشك والريب من نفوسهم في نزول القرآن .
 وتقدير الجمع بين الآيتين: وإستعينوا بالصبر والصلاة كيلا تكونوا أول كافر به.
الخامسة: الإستعانة بالصبر والصلاة واقية من التفريط بآيات الله، وعدم الإصرار على الجحود حباً بمصالح ومنازل دنيوية وأموال قليلة وهدايا تؤخذ من العامة، ويحتاج هجران منازل الرياسة في الضلالة والجحود مرتبة من الصبر.
 وإقامة الصلاة بديل مبارك عن تلك المنازل والأموال، وباب كريم لنيل الرزق الواسع، ومتى ما أقام العبد الصلاة فانه يرى منزله في الجنان فلا يلتفت إلى الأيام الخوالي، ومنازل الكفر والجحود الخاوية على عروشها.
لقد أراد الله من الناس أن يقيموا الصلاة لينعموا بالدنو من الجنة، والإقامة في مأمن وسلامة من الأدران والكدورات التي تصيب النفس الإنسانية، وتمنع من الوقوف عند الشبهات، وأسباب الجدال والمغالطة.
السادسة: لقد أختتمت الآية الحادية والأربعون بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] لتأتي الآية محل البحث وتخبر عن أمور:
الأول: نيل مرتبة التقوى بالإستعانة بالصبر والصلاة.
الثاني: تجلي الخشية من الله تعالى بإظهار آداب الصبر، وأداء الصلاة.
الثالث: إتخاذ التقوى ضياء مباركاً لأداء العبادات.
الرابع: من مصاديق التقوى من الله الخشوع له تعالى، وبأداء الصلاة والصيام والزكاة تجتمع عند العبد التقوى ونيل مرتبة الخشوع.
الوجه الثالث: الصلة بين هذه الآية، والآية الثانية والأربعين [وَلاَ تَلْبِسُوا] وفيها مسائل:
الأولى: تدعو هذه الآية بني إسرائيل والناس جميعاً إلى الفزع إلى الصبر والصلاة والإستجارة بهما من النفس الشهوية ومن العمى والضلالة، والإستعانة بالصبر والصلاة ذاتها بصيرة، ومع الصبر يأتي التروي والتدبر والتأمل وعدم التعجل.
الثانية: من خصائص الصلاة أنها تمنع من الأخلاق الذميمة، وتكون برزخاً دون الإفتراء والباطل والتعدي القولي والفعلي، فجاءت هذه الآية بالدعوة إلى إقامة الصلاة لمنع لبس الباطل بالحق، فتارة يأتي النهي الإلهي صريحاً عن خلط الحق بالباطل، وتارة يأتي الأمر الإلهي بإقامة الصلاة ليكون كل من النهي والأمر مجتمعين ومتفرقين دعوة سماوية لإصلاح الذات، وتهذيب الأفعال، وطريقاً مباركاً لبلوغ الغايات الحميدة، والسعادة الأبدية.
الثالثة: جاءت آية (ولا تلبسوا)، بالنهي عن إخفاء الحق بقوله تعالى [وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ] ويحتاج بيان الحق، والإقرار بالبشارات التي جاءت بها التوراة والإنجيل بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  إلى صبر وزجر للنفس عن إتباع الهوى.
الرابعة: إقامة الصلاة إظهار للحق، وشاهد على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وإعلان عملي لإتباعه.
الخامسة: أختتمت آية [وَلاَ تَلْبِسُوا ] بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] وفيه شاهد على أهلية الأفراد والجماعات منهم للإستعانة بالصبر لأن هذه الإستعانة فرع العلم، وإدراك الحاجة للصبر والصلاة مجتمعين ومتفرقين.
السادسة: من الخشوع لله تعالى أن يحرص العبد على عدم خلط الحق بالباطل أو كتمان الحق.
لقد جعل الله تعالى البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن أمانة شرعية وعقائدية عند أجيال الموحدين، ومنهم بنو إسرائيل إذ فضّلهم الله تعالى ببعثة أنبياء كثيرين منهم، للتكرر وتتجدد البشارة على لسان الأنبياء ولما يكون مقبولاً عند عامة بني إسرائيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 ويفيد الجمع بين الآيتين العلم بوجوب إقامة الصلاة والصبر، وإجتناب خلط الحق بالباطل وإخفاء الحق.
الوجه الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية[ وَارْكَعُوا ]( ).
جاءت هذه الآية بالإستعانة بالصبر والصلاة معاً، أما الآية أعلاه فذكرت وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع جماعة المسلمين , وفيه مسائل:
الأولى: الإستعانة بالصبر لترك العناد والجحود والصدود.
الثانية: تحتاج إقامة الصلاة إلى الصبر وسيلة ومقدمة، وذات الصلاة وما فيها من الوقوف بين يدي الله وإتيان أفعال عبادية مخصوصة صبر محض، ومدرسة في الصبر، وسميت تكبيرة إفتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام، لأن معها يحرم على المصلي فعل منافيات الصلاة , قال تعالى[فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ]( ).
الثالثة: من إعجاز القرآن الجمع في هذه الآيات بين إقامة الصلاة والإستعانة بها من غير تعارض بينهما، وفيه دلالة على أن الصلاة واجب عبادي له منافع غيرية متعددة.
فأداء المسلم الصلاة وسيلة مباركة لقضاء حوائج الدنيا والآخرة، وهي آلة النصر وسلاح الدعوة إلى الإسلام، وفيه شاهد بأن الإسلام لم يثبت في المجتمعات بالسيف، بل ثبت بأداء الصلاة والإستعانة بها وبالصبر، فتحمل المسلمون الأذى في جنب الله، ولم يفرطوا بالصلاة، وكانت هي المواساة التي تفتح آفاق المستقبل الزاهر لهم.
الثالثة: لقد علم الله تعالى ان الذين يدخلون الإسلام يلاقون الأذى والعناء من الكفار والمشركين وأهل الضلالة، فجاءت هذه الآيات لتأمرهم بدخول الإسلام وإتيان الفرائض والعبادات، وإتخاذها مادة للصبر، ووسيلة لبلوغ الغايات الحميدة.
 وتبين هذه الآيات أن إقامة الفرائض يستلزم الصبر، وفيه الأجر والثواب فمن منافع الأمر الإلهي بالصبر ترشح الثواب من التلبس به، بإعتبار أنه إمتثال لأمر الله، إلى جانب ما يبعثه الأمر بالشيء من الرغبة فيه، والحرص على عدم التفريط به.
الرابعة: لما جاءت الآية أعلاه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] جاءت هذه الآية لتخبر عن لزوم الخشية من الله تعالى مقدمة لأداء الصلاة ومصاحبة لها، ومترشحة عنها.
الخامسة: أداء الصلاة نيل لمرتبة الخشوع لله تعالى، فمن شاء ان يكون من الخاشعين فليحرص على أداء الصلاة بأوقاتها.
السادسة: جاءت الآية أعلاه بالأمر بإخراج زكاة الأموال ودفعها إلى مستحقيها ويحتاج إخراجها إلى الصبر وقهر النفس الشهوية وإجتناب حب الدنيا.
السابعة: كما يستعين المسلم بالصبر فانه يستعين بدفع الزكاة لنماء ماله، وجعل البركة فيه، ونيل الثواب في الآخرة.
الثامنة: تدعو الآيتان إلى الإستعانة بالصبر لإقامة الصلاة وإتيان الزكاة وأداء مطلق العبادات البدنية والمالية.
التاسعة: من يواظب على إقامة الصلاة يحرص على أداء الزكاة من ماله، ويميل إلى الصدقة الواجبة والمستحبة، ويبادر لإعانة إخوانه المؤمنين، وفيه توكيد للثقة برحمة الله وعظيم إحسانه، وتعقب الثواب لإقامة الصلاة وإتيان الزكاة، لتتجلى للعبد منافع الصبر عاجلة، ويدرك معها أن الأوامر الإلهية في هذه الآيات هي رحمة وخير محض، ومنع من الإفساد في الأرض الذي ذكرته الملائكة تحذيراً لبني آدم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
العاشرة: إتيان الزكاة مظهر من مظاهر الخشوع لله تعالى فمن الخضوع والخشية من الله وأسباب التقرب إليه تعالى إتيان الزكاة كحق واجب في المال، فكما أن الصلاة كبيرة وثقيلة على غير الخاشعين فكذا بالنسبة للزكاة، وإخراج مقدار مخصوص من المال إلى الفقراء ، فجاء ذكر الصلاة من باب الفرد الأمثل، والذي يكون أداؤه عوناً لأداء العبادات الأخرى فيستحي المؤمن أن يقف بين يدي الله للصلاة ، وهو حابس لأموال الفقراء المتعلقة في ماله.
الحادية عشرة: الصبر حاجة في أداء الصلاة الذي هو مصاحب للمكلف في أيام حياته كلها، وعلى نحو التعدد في كل يوم ليكون من مصاديقه الصبر على أداء الصلاة والتكاليف الأخرى، وتعاهدها , قال تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( ).
الوجه الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ]، وفيه مسائل:
الأولى: تضمنت الآية أعلاه ذم بني إسرائيل لتركهم أنفسهم مع قيام الحجة عليهم بأمر الناس بالبر والصلاح، وجاءت الآية محل البحث إرشاداً لهم في إصلاح أنفسهم، وهذا من إعجاز القرآن، إذ انه لم يأتِ للذم ولم ودعوة سماوية للتدارك , ويأتِي القرآن بالذم والنهي عن فعل قبيح مع الأمر بضده، ويأتي بالأمر بالخير مع الزجر عن ضده، فإذ جاءت الآية أعلاه في لوم بني إسرائيل لتركهم أنفسهم، جاءت هذه الآية لجعلهم يلتفتون إلى أنفسهم، ويصلحون أحوالهم، ويفعلون البر الذي يأمرون به.
 ويفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: إستعينوا بالصبر والصلاة في أمركم الناس بالبر.
الثاني: إستعينوا بالصلاة في نسيانكم لأنفسكم.
 إن كلاً من الصبر والصلاة عناية وإلتفات إلى النفس، فمن يصلي لله، ويقرأ آيات القرآن فهو غير غافل عن نفسه، فجاءت هذه الآية لعلاج داء نسيان النفس.
الثالث: جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن تلاوة بني إسرائيل للكتاب، وجاءت التوراة والإنجيل بالأمر بالصبر والصلاة، فمن يتلو الكتاب وينتسب له يمتثل لأحكامه.
الرابع: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ومن البديهيات التي يدركها العقل وجوب إقامة الصلاة، والتحلي بالصبر، وفيهما إصلاح للنفس والغير بالإضافة إلى انهما مطلوبان بالذات لما فيهما من الإمتثال لأمر الله تعالى.
إعجاز الآية
المضمون العام للخطاب في الآية أمر بني إسرائيل  بالصلاة والعبادات صريح من غير كناية أو مقدمات، ولكنهم منشغلون بالجدال وتكذيب الآيات، فجاءت هذه الآية لتدعوهم إلى الصلاة والعبادة أي انها لا تريد منهم الكف فقط عن إيذاء المسلمين بل الإنخراط في الإسلام باعتباره واجباً عينياً عليهم كمكلفين.
والآية هداية إلى سبل النجاة والنجاح والفلاح، فقد يعجز الإنسان عن الإختيار السليم، ويحس بالإرباك ويخشى الأضرار الجانبية التي تأتي من سلوك طريق الهدى مع إدراكه بأنه حق وصدق وواجب، وواقية من النفس الشهوية والغضبية.
 ومن إعجاز الآية أمور:
الأول: أنها دعوة خاصة منطوقاً، وعامة مفهوماً، إذ أن إقامة الصلاة والصيام والفرائض العبادية الأخرى واجب عيني على كل مكلف، فمن وجوه تفضيل بني إسرائيل مجيء آيات في القرآن خطاباً خاصاً لهم لينتفع منه الناس جميعاً، ويكون حجة عليهم.
الثاني: مجيء الآية وما فيها من التكليف لعموم بني إسرائيل، فهي إنحلالية تتوجه إلى الموجود والمعدوم منهم، وكل من يصل سن التكليف تتوجه له هذه الآية بالخطاب الصريح الواضح الخالي من اللبس والترديد.
الثالث: عدم إنحصار موضوع الآية بكبراء أو علماء بني إسرائيل دون عامتهم، وهو من أسرار مجيء الخطاب بلغة العموم (يا بني إسرائيل)( )،وقد ينتفع منها العامة قبل الخاصة، خصوصاً وأنها تأتي مقترنة بالمعجزات التي تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الإعجاز على وجوه:
الأول: ذات الآية معجزة.
الثاني: مضامين الآية معجزة.
الثالث: عموم نفعها معجزة أخرى.
وليس عند العامة مصالح دنيوية خاصة من المال والشأن والجاه يخافون فوتها عند دخولهم الإسلام.
الرابع: قد تنتفع جماعات وأمم من هذه الآية ويدخلون الإسلام ويؤدون الفرائض قبل الذين يتوجه لهم الخطاب في الآية، وهو من إعجاز الآية القرآنية الذاتي والغيري، ودلالة المنطوق والمفهوم مجتمعين ومتفرقين.
ويمكن تسمية الآية بآية (واستعينوا) ولم يرد هذا اللفظ باضافة واو العطف في القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
المدد والعون ظاهر في الآية , فهي دعوة مفتوحة على نحو الدوام إلى كل إنسان لإقامة شعائر الله وأداء الفرائض وفيها مدح وثناء للمسلمين الذين يواظبون عليها.
وتبين الآية ان أداء العبادات سلاح بوجه الذين يصدون الناس عن الإسلام من وجوه:
الأول: أداء العبادات واقية من أسباب الشك والريب.
الثاني: إنه حجة على الكفار، بإعتبار أن أداء العبادات واجب على كل مكلف، وقد قام المسلمون بأداء الواجب فلماذا يتخلف الكفار عنه.
الثالث: الصبر وأداء العبادات عون لمواجهة التعدي والضرر الذي يأتي من الظالمين والكفار.
الرابع: أداء العبادات دعوة للناس لدخول الإسلام لذا ورد قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )، فالمسلمون أسوة للناس في إتيان الصلاة، والبيان العقلي لأحكام الإسلام.
الخامس: ملكة الصبر سلاح للغلبة على الأعداء، في حال السلم والحرب، وهو المستقرأ من نظم الآيات.
مفهوم الآية 
في الآية دعوة للمسلمين وبني إسرائيل والناس جميعاً باللجوء إلى الفرائض والإستعانة بسلاح الصبر في تحمل الأذى والسعي لنشر الإسلام وإقامة حكم الله في الأرض.
 ومن مفاهيم الآية أنها تعريض بالكافرين وأنهم لم يلجأوا إلى وسائل الحكمة والعقل في التدبر بالآيات والرضا بأمر الله تعالى.
ومن الناس من يعرض عن الإسلام ولم يرض بدخوله لسنخية التكليف فيه، فجاءت الآية لإزالة الحواجز النفسية وتحبيب العبادات إلى النفس الإنسانية بالثناء على من يؤديها وبلوغه مقامات العبودية والمحبة في الله.
 إن الخشوع لله عز وجل ملكة نفسانية تعصم صاحبها من الزلل والوقوع في هاوية الرذيلة.
وجاءت الآية بصيغة الأمر في الصبر وأداء الصلاة والذي يحمل على الوجوب في كل منهما، أما بالنسبة للصلاة فعليه القرآن والسنة والإجماع، والصلاة عمود الدين، ولا يجوز تركها بحال من الأحوال ويؤديها المسلم في حال الحضر والسفر، والصحة والمرض، والسلم والحرب، لذا شرعت صلاة المسايفة والمطاردة بالتكبير والتهليل.
وأما الصبر فعلى القول بان المراد منه الصيام فهو واجب أيضاً لقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ]( )، ولما يحتاجه الصيام من حبس النفس عن الطعام والشراب، وأما على المعنى الأعم فانه طريق ومادة لأداء العبادات، ومقاومة النفس للهوى وزجرها عن الإنصياع للذات.
في الآية مسائل:
الأولى: الحث على الإستعانة بالصبر وتحمل الاذى والعناء في جنب الله.
الثانية: توكيد حقيقة وهي ان الصلاة وسيلة لنيل المراتب العالية وسبيل للنجاة في الدنيا والأخرة.
الثالثة: الصلاة تكليف وهي عبادة بدنية تستلزم الجهد والعناء، وتحتاج إلى التقوى والخشوع لله تعالى، والرضا بحكمه.
الآية لطف
من إعجاز القرآن تضمن آياته التأديب والتعليم والإرشاد والإصلاح فيتفضل الله تعالى في هذه الآية، ويأمر بالاستعانة بأمرين:
الأول: الصبر، وهو مدرسة وسلاح لأهل الايمان ووسيلة النجاة من الأذى والضرر وسبب للغلبة على مشاق  الحياة الدنيا، وملكة مباركة لأداء الواجبات والفرائض، ومن الآيات أن الصبر سلاح ذو وجوه متعددة فهو حرز وواقية من الآفات والمعاصي والذنوب، وسبيل مبارك للإمتثال للأوامر الإلهية.
الثاني: الصلاة، وهي عمود الدين، والفعل العبادي الذي تتقوم معه الأخلاق والعادات وتهذب بأدائه النفوس، وهي حرب على الشرك والفواحش والمعاصي، ويدل الأمر الإلهي بالإستعانة بها على إتخاذها واسطة ومقدمة وسبيلاً للفوز في النشأتين.
 وخاتمة الآية بيان لموضوعية الخشوع لله تعالى في تحصيل الملكات، وإحراز مقدمات الوظائف العبادية والتوفيق لأداء الوظائف.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن تكون عندهم ملكة للصبر والتوقي من السيئات والفواحش، ومن الآيات ان الصبر يقود إلى الصلاة، والصلاة تؤدي إلى تنمية ملكة الصبر من غير أن يستلزم الدور بينهما، فكل واحد منهما يساهم في إصلاح الإنسان لإتيان الثاني، ليكونا حاضرين مع المسلم في الشدة والرخاء، وفي الليل والنهار فإذا إحتاج إلى الصبر فزع إلى الصلاة، وإذا جاء أوان الصلاة صبر عن الدنيا وزينتها، وصبر على التكاليف وما فيها من المشقة والعناء.
ومن الفرائض الواجبة على المسلم والمسلمة أداء الصوم الذي يصدق عليه أنه صبر وأداء التكاليف ورجاء لنيل الرغائب، ووسيلة لقضاء الحوائج، وصرف البلاء ودفع للحرج والعسر.
 
إفاضات الآية
تكشف الآية للمسلمين أقوى الأسلحة في إضافة القدرة على التحمل وتنمية ملكة الصبر، وأداء الصلاة والعبادات، وتدعو المسلمين للصبر على آلة الصبر، أي من أجل التلبس بسلاح الصبر يجب توطين النفس على تحمله وعدم الجزع او الإعراض عنه، فالصلاة هنا مطلوبة بذاتها، ومطلوبة لغيرها فهي عبادة ونسك، وتنفع في التغلب على المشاق والأذى الذي يلاقيه المسلم في حياته.
وهل في بيان هذا السلاح كشف للكفار وسبب في معرفتهم لما بأيدي المسلمين من السلاح، الجواب إن الخطاب التكليفي في الآية موجه لكل الناس، وبامكان الكافرين إتخاذه والتلذذ بما فيه من العطر والمذاق الطيب بدخول الإسلام والتقيد بأحكامه.
ومن أسرار ونظم الآية مجيؤها بما يفيد الخطاب العام لبني إسرائيل والناس جميعاً لتكون مصداقاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فالصبر فضيلة بالذات ويترشح عنه الخير ويكون مناسبة للتدبر والتبصر، وهو إرتقاء للنفس في سلم الكمالات لما فيه من التنزه عن أدران الفواحش، ورياضة للنفس، وهو فرع مدرسة النبوة، وخصلة حميدة إختص الله عز وجل بها بني آدم من بين الخلائق بأن جعلها آلة لتغليب العقل على الشهوة، والتنزه عن حضيض البهيمية، وبرزخاً دون الإنقياد للشهوة.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بأمرين:
الأول: العطف على الآيات السابقة بحرف العطف “الواو”.
الثاني: لغة الخطاب، وصيغة الجمع للمخاطبين وجاءت الآية الأربعون بالخطاب التعييني العام “يا بني إسرائيل” وجاءت بعدها الآيات بحرف العطف الواو وذات الصيغة من الخطاب بإستثناء الآية السابقة التي إبتدأت بألف الإستفهام ولكنها في ذات المضمون والخطاب لذا فالأرجح ان الخطاب في هذه الآية موجه إلى بني إسرائيل إلا أنه عام من وجوه:
الأول: إرادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
الثاني: عموم الناس من أهل الملل والنحل.
الثالث: المقصود المسلمون وهم يقيمون الصلاة ويصومون شهر رمضان، فمن إعجاز الآية انها أعم من الإختلاف الذي وقع فيه علماء التفسير، فمضامين الآية عامة تشمل الناس كلهم، اليهود بالأصالة وغيرهم بالإلحاق والتبعية، والمراد من الصلاة في لغة الخطاب في الآية وجوه:
الأول: يؤدي اليهود صلاتهم على شريعتهم، وإن كانت خالية من الركوع.
الثاني: يصلي النصارى إلى قبلتهم.
الثالث: يتعاهد المسلمون أحكام الصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: تأمر الآية في مفهومها المشركين بأداء الصلاة.
الخامس: إتحاد ماهية وكيفية الصلاة التي تأمر بها الآية الكريمة، والصحيح هو الخامس، من وجوه:
الأول: ثبوت قانون وهو ان القرآن لا يأمر إلا بالصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بأمر من الله تعالى، وجاءت خطابات التكليف للمسلمين بإقامة الصلاة، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثاني: تلقي وأداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة وكيفيتها في ليلة الإسراء وفي السماء السابعة، مما يدل على أنها هي الصلاة المطلوبة من المكلفين، وهي كنز من كنوز العرش إدخره الله تعالى للمسلمين , وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: لما اسرى برسول الله صلى الله عليه وآله حضرت الصلوة فأذن جبرئيل و أقام جبرئيل للصلوة فقال : يا محمد تقدم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : تقدم يا جبرئيل ، فقال له : انا لا نتقدم الآدميين منذ أمرنا بالسجود لآدم) ( ).
الثالث: جاء قبل آيتين قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] في دلالة على إرادة الصلاة وفق الشريعة الإسلامية، لأن صلاة اليهود خالية من الركوع، وفيه تحذير من إغواء الناس وحثهم على عدم دخول الإسلام لأن فيه ركوع وسجود.
 ويفيد الجمع بين الآيتين تحبيب الصلاة والركوع والسجود إلى النفوس، وبيان عظيم نفع الصلاة وكثرة فوائدها، وهي واجب وسلاح وواقية في الدنيا والآخرة.
فلم تقل الآية ان الصلاة واجب ولابد من أدائها وقد تكفلت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] بل جاءت هذه الآية بالترغيب بالصلاة وبيان الحاجة إليها وأنها مادة للإستعانة ووسيلة توصل إلى المطلوب، وبلغة عبادية تتصف بصبغة الخشوع لله جل جلاله , وفعل مبارك لبلوغ الغايات ومادة لقضاء الحوائج، ليجتمع الوجوب مع النفع لبيان قانون في الإرادة التكوينية وهو كل ما كان واجباً فهو خير محض.
وجاء قبل ثلاث آيات تقديم الصلاة على الزكاة، وكذا في آيات  القرآن التي تأتي بذكرهما معاً، أما هذه الآية فجاءت بتقديم الصبر على الصلاة وفيه وجوه:
الأول: عدم دلالة التقديم على الترتيب للقاعدة الكلية بأولوية الصلاة في سلم العبادات.
الثاني: جاء التقديم والتأخير بلحاظ نظم الآية، والإخبار عن كون الصلاة كبيرة وثقيلة إلا على أهل الإيمان.
الثالث: تدل الآية بذاتها على أولوية الصلاة لما فيها من التوكيد على الصلاة ولزوم الإجتهاد في الحرص عليها.
الرابع: الصبر مقدمة مباركة لأداء الصلاة وصيرورتها عروجاً في عالم الملكوت، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الصلاة معراج المؤمن) ( ).
الخامس: مجيء الآية التالية بخصوص الصلاة مما يستلزم تأخرها في الذكر عن الصبر.
السادس: الصبر مقدمة للإيمان ولأداء الصلاة، ولماذا لم يأتِ ذكر الإستعانة بالصبر في آية، والصلاة في آية مستقلة أخرى، والجواب إن ورودهما في آية واحدة شاهد على الملازمة بين الصبر والصلاة سواء بإرادة معنى الصوم من الصبر، أو لإرادة ذات الصبر، وتدل عليه ذات الآية التي تشير إلى الخشوع الذي يترشح من معاني الصبر على النفس والجوارح , فيقبل المؤمن على الصلاة.
وفي الإستعانة وجوه:
الأول: إستعينوا بالصبر.
الثاني: إستعينوا بالصلاة.
الثالث: إستعينوا بالصبر والصلاة.
وجاء العطف في الآية لإفادة التشريك، وهذا التشريك لا يتعارض مع إستقلال كل فعل من الصبر والصلاة، ليكون الإجتماع والتفرق باباً للحث على إتيان العبادات، بالإضافة إلى تقسيم إستقرائي آخر وهو:
الأول: الإستعانة الفردية.
الثاني: الإستعانة المتعددة والنوعية.
فيكون المجموع ستة وجوه، فيدرك العبد والجماعة الحاجة إلى الصبر والصلاة , ولزوم إتخاذهما متحدين ومتفرقين بلغة لتحقيق الغايات الحميدة والمقاصد القدسية .
والصبر لغة حبس النفس عن الجزع، وفي إصطلاح علم الكلام هو مقاومة النفس للهوى لئلا تنصاع للذات، وهو سلاح أخلاقي يقي صاحبه إقتحام المهالك، ويجعل النفس في حرز مما يأتي إليها من الأذى والضرر، ويحتاج المسلمون الصبر في جهادهم في سبيل الله.
وتتضمن هذه الآية الإخبار عن الحاجة له في العبادات، ومع ان الآية جاءت بالأمر بالإستعانة مع ذكر المستعان به وهو الصبر، إلا أنه لا يعني أن التكليف ينحصر بذات الإستعانة ويكفي إرادة الإستعانة بالصبر والعزم عليها، بل ان ذات الصبر أمر مطلوب من الإنسان، فالأمر الإلهي مركب من أمرين:
الأول: الإستعانة.
الثاني: الأمر بالصبر.
فلا فائدة بإستعانة بأمر غير موجود في ذات النفس فلابد من إستقرار ملكة الصبر في النفس، وجاءت الآية بصيغة الجمع وفيه إعجاز وهو الحاجة إلى الصبر النوعي العام، إذ تواجه الأمة والطائفة والجماعة أموراً تستلزم الصبر منهم عامة، وقد يحاول بعضهم التعجل والخروج عن ضوابط الصبر، فيكون صبر الجماعة سور الموجبة الكلية الذي يتضمن التأديب والإرشاد، ومنع الضرر الفردي، فان صبر الفرد مناسبة ووسيلة لصبر الجميع، فتترشح منافع صبر الجماعة على الأفراد جميعاً.
ومن الصبر بلحاظ الخطاب الوارد في الآية التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ودخول الإسلام وأداء العبادات، لذا سمي شهر رمضان “شهر الصبر”( )، لما فيه من الإمتناع عن الأكل والشرب وإجتناب ما يفسد الصوم.
لقد أراد الله عز وجل لبني إسرائيل والناس جميعاً كف النفس عن الهوى ومنعها عن الإندفاع والبقاء على اللامعقول لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] وأفتتحت هذه الآية بالأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة بإعتباره من أفضل مصاديق المعقول والفعل الذي يكون راجحاً عقلاً إلى جانب وجوبه الشرعي، فالصبر حسن ذاتاً , وجاءت الآية بالأمر به وإتخاذه صاحباً وسلاحاً وعوناً لأمور الدين والدنيا.
وذهب بعضهم إلى القول بان النفس تنفر بطبعها من العبادات، وتشتهي التجبر والتكبر، ولكن هذا الكلام ليس بتام، فالأصل في الإنسان هو الكون في مقامات العبودية والخضوع لله تعالى، لذا جاء قوله تعالى في هذه الآية بالإستعانة بالصبر وأن الصلاة ليست كبيرة على الخاشعين لمنع الأدران والأمراض من الغلبة على النفس.
 والصبر مدخل لرؤية الأشياء على حقيقتها من غير مبالغة أو تهويل أو إنتقاص، وفيه تنمية للعلم الشهودي، لذا فان الإنسان يدرك بالصبر حاجته إلى الإيمان وضرورة الهدى ، وقيام الحجة والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 وإذ جاءت الآية السابقة بلوم بني إسرائيل على نسيانهم لأنفسهم جاءت هذه الآية بأمرهم بالصبر لأن عدم الصبر جهالة ومادة للإصرار على الكفر، والإنشغال بالدنيا، فجاءت هذه الآية بالأمر بالصبر لطرد الغفلة والجهالة والمنع من نسيان النفس، فمع الصبر يدرك العبد وظائفه، ويميل إلى ذكر الله.
 وقد أنعم الله تعالى على المسلمين بفريضة الصيام كمصداق من مصاديق الصبر ومدرسة متجددة في الصبر والتحلي بالأخلاق الحميدة، وزجر النفس عن إتباع الشهوات كما تعتبر الصلاة آية في الصبر في مرضاة الله لما فيها من الواجبات ولتجددها خمس مرات في اليوم ليكون الصبر ملازماً للمسلم، وجاءت مادة الصبر في القرآن بصيغ متعددة فجاءت بالفعل الماضي والأمر والمضارع في الأفعال ، والمفرد والجمع وفي الأسماء، واسم المصدر واسم الفاعل والمفرد والمثنى، وجمع المؤنث السالم.
لبيان سعة مدرسة الصبر والحاجة اليها , وقد ورد الأمر بالإستعانة خطاباً للمسلمين , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( )، لبيان حاجة كل إنسان الصبر وان الإستعانة بالصبر باقية حتى مع دخول الإسلام، فلا يمكن التفريط بها، وجاء إقتران الصبر بالصلاة لبيان ماهية الصبر ولزوم إتخاذه طريقاً ووسيلة لأداء العبادة، ومن الآيات أن الصبر في العبادة في الدنيا برزخ دون العذاب في النار، فلا يحتاج المؤمن الصبر يوم القيامة،  لصيرورته في نعيم خالد، وجاءت الآيات بذم الكفار يوم القيامة، قال تعالى [فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] ( ).
والمعنى الخاص والإصطلاحي للصبر وهو الصوم، والصوم هو مطلق الإمساك وهو في الشريعة عبادة تتضمن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ساعات نهار الصيام عبادة لله تعالى.
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وفيه مدرسة للصبر إذ أن منافع الصيام دنيوية وأخروية، وتترشح عنه آيات في بلوغ مراتب التقوى وإستيلاء مفاهيمها على الأركان وظهور صبغتها على أفعال الجوارح، وهو مناسبة لأداء الفرائض العبادية الأخرى بإعتباره أشق تكليف بدني، فيدرك المسلم لزوم أداء العبادات الأخرى من باب الأولوية، ويرى يسرها وسهولتها، فمع أن أداء الصلاة يتكرر كل يوم خمس مرات، وفريضة الصيام لا تؤدى الا مرة واحدة لشهر في السنة إلا أن الصيام عون على أداء الصلاة لما فيها من المندوحة واليسر، وكذا الصلاة فانها عون على أداء الصوم، لأن الحرص على أداء الصلاة كل يوم خمس مرات يجعل المسلم يقبل على شهر رمضان بشوق ورغبة، وهذا التداخل والتأثير المتبادل من أسرار قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] .
فمن وجوه الإستعانة في الآية ان يتخذ كل واحد منهما عوناً لأداء الآخر، وتقدير الآية على وجوه:
الأول: إستعينوا بالصيام لأداء الصلاة.
الثاني: إستعينوا بالصلاة لأداء الصيام.
الثالث: إستعينوا بالصلاة لتنمية ملكة الصبر.
الرابع: إستعينوا بالصبر لأداء الصيام لأنه عبادة ملاكها الصبر وتحمل الجوع والعطش نهار الصيام.
الخامس: إستعينوا بالصبر لتعاهد الصلاة لأنها فريضة تتجدد كل يوم خمس مرات، فيحتاج المسلم معها الصبر المتجدد والإقبال بشوق على الصلاة، وإدراك المنافع الأخروية للصلاة فيصبر في أدائها رجاء الثواب الدائم.
السادس: إستعينوا بالصيام لتنمية ملكة الصبر، لأنها ملكة مكتسبة وجزء من عالم الإبتلاء والإختبار في الدنيا، فينمي الصبر ملكة الصبر، وتقود هي العبد إلى فعل الطاعات، وليس هو من الدور، ولكنه من النفع المتبادل في فعل الصالحات.
السابع: إستعينوا بالصبر والصيام مجتمعين لأداء الصلاة، لأن أداء الصلاة والتقيد بأحكامها يحتاج إلى الصبر، كما أن أداء الصيام عون في أداء الصلاة لإدراك المسلم الملازمة بينهما لأنهما في عرض واحد في الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة.
الثامن: إستعينوا بالصبر والصلاة على أداء فريضة الصيام، لأن الصيام فريضة ملاكها الصبر، ولأن الصلاة عمود الدين وركن العبادات، ومن الآيات أن فريضة الصلاة اليومية تبقى على حالها في شهر رمضان من غير زيادة أو نقصان في عدد الفرائض أو الركعات.
التاسع: إستعينوا بالصيام والصلاة لرسوخ ملكة الصبر في النفس، وجعلها وسيلة لفعل الخيرات وبذل الوسع في مرضاة الله تعالى، وحرزاً من غلبة النفس الشهوية، وواقية من فعل السيئات.
ويحتمل الضمير الهاء في “وانها لكبيرة” وجوهاً:
الأول: المراد الصلاة.
الثاني: الإستعانة بالصبر والصلاة.
الثالث: الأوامر التي تقدمت في هذه الآيات من الوفاء بالعهد وتقوى الله، والتصديق بنزول القرآن وإظهار الحق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
الرابع: التكاليف والفرائض، وما فيها من المشقة والعناء.
والصحيح هو الأول وتلحق به الوجوه الأخرى من غير تعارض بينها، من وجوه:
الأول: عودة الضمير إلى الأقرب، وهو الصلاة.
الثاني: لغة التأنيث في الضمير.
الثالث: مجيء القرآن بالإخبار عن ثقل القبلة إلا على الخاشعين، كما في قوله تعالى [وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ] ( ).
الرابع: تجلي معاني الخشوع والخضوع لله تعالى في الصلاة، قال تعالى [وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا] ( ).
الخامس: إفادة الوصف بالكبر والثقل عند إرادة فعل عبادي وهو الصلاة.
لقد جعل الله تعالى الصلاة باباً للمغفرة ووسيلة لإكتناز الصالحات وواقية من السيئات , قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، وتستلزم الجهد البدني وإتيان أفعال الصلاة بدقة وإنتظام من غير زيادة أو نقيصة عمدية في الأجزاء وإستحضار ذكر الله، ولزوم التقيد بشرط الطهارة كواجب غيري في أدائها، قال تعالى [إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ] ( )، وتحتمل الإستعانة في المقام وجهين:
الأول: إرادة الإستحباب والندب بلحاظ موضوع الإستعانة ذاته لقضاء الحوائج، بينما جاءت الإستعانة بالله على نحو الحصر والتقييد الذي يفيد الوجوب [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ).
الثاني: وجوب الإستعانة بالصبر والصلاة.
والصحيح هو الثاني لوجوه:
الأول: أصالة الوجوب.
الثاني: هو المتبادر من الأمر بقوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا].
الثالث: كل من الصيام والصلاة فريضة واجبة، ولعموم التكليف بالفروع وشموله للمسلم وغير المسلم.
الرابع: حاجة الناس للإستعانة بالصبر والصلاة في أمور الدين والدنيا، فأداء الصلاة مثلاً سلاح لتهذيب النفس وإصلاح المجتمعات ونشر مفاهيم الود والرأفة بين الناس، إلى جانب ما فيها من الثواب العظيم.
وجاء الأمر بالإستعانة مطلقاً من غير تقييد بغاية أو موضوع، فلماذا الإستعانة , فيه وجوه:
الأول: الإستعانة بالصبر والصلاة للإمتثال للأوامر التي جاءت في الآيات السابقة.
الثاني: منع غلبة النفس الشهوية والغضبية.
الثالث: طرد الغفلة والجهالة عن الفرد والجماعة.
الرابع: الإحتراز من كبراء ورؤساء الضلالة والغواية.
الخامس: من الآيات أن يأتي الأمر بأداء الواجب بقصد الإستعانة به، وفيه آية ودليل.
السادس: حاجة الإنسان مطلقاً والمسلم خاصة للإستعانة بالصبر والصلاة، وفيه مدد وعون من عند الله، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( )،  فما أن يستعين العبد بالصبر والصلاة إلا وتتغشاه رحمة الله تعالى.
والإستعانة بالصبر والصلاة طريق لنيل الرغائب، وبلوغ الغايات الحميدة وسبيل للتوفيق في أداء الواجبات ونيل مرضاة الله، فمن الإعجاز أن يأتي في خاتمة هذه الأوامر الأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة لما فيه من الهداية إلى الإمتثال والإستجابة لها، لأن أداء الصلاة ينمي ملكة التقوى عند الإنسان ويجعله يسعى في مسالك الإيمان، ويحرص على إجتناب أسباب الضلالة.
ترى ما هي الملازمة بين الإستعانة بالصلاة والإخبار عن كونها كبيرة إلا على الخاشعين، الجواب: في الآية جذب للناس لمنازل الإيمان، وإخبار عن حقيقة تتعلق بالعقائد والأخلاق، وبيان شرط نفسي في موضوع الإستعانة وهو الخشوع لله تعالى.
فجاءت خاتمة الآية عوناً للإمتثال لما في أولها، فمن أجل تحصيل العبد لمرتبة الإستعانة بالصلاة لابد وان يعلم حقيقة وهي أن الصلاة ثقيلة وكبيرة على الناس إلا الخاشعين.
 إن أداء الصلاة واجب يومي متكرر وهو شرط وواجب في دخول الإسلام، وقد يمتنع بعض الناس عن دخول الإسلام لما فيه من الواجبات، ولزوم الأداء اليومي للصلاة، فجاءت هذه الآية لتحبب له الصلاة، وتخبر عن الملازمة بين أدائها وبين الخشوع لله تعالى، الذي هو من شرائط العبودية.
 وفي الآية مدح وثناء على المسلمين الذين يواظبون على الصلاة، ويحرصون على عدم التفريط بفرد أو جزء منها، وكأن الآية تقسم الناس إلى قسمين:
الأول: الخاشعون، وهم المسلمون.
الثاني: غير الخاشعين، الذين تكون الصلاة ثقيلة عليهم.
وجاءت الآية لدعوة الناس للإيمان لأن ثقل الصلاة أعم من أن ينحصر بأفعالها، فهي الشاهد على الإيمان فلا تؤدى إلا بقصد القربة إلى الله تعالى، لذا فان الكبر والثقل في المقام يشمل الإبطاء والتردد في دخول الإسلام.
 فالآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن في مفهومها المدح والثناء على المسلمين، والذم واللوم للكافرين، وإخبار الناس بأن الخشوع لن يغادر الأرض، لمصاحبته للصلاة وترشحه عن أدائها، وهو عون في أدائها والصلاة بذاتها صبر، وهي وسيلة للغلبة على الكفر والكفار.
وجاءت الإستعانة بالصبر مطلقة، والمراد الصبر في مرضاة الله، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ] ( )،لقد أراد الله للإنسان أن يرتقي إلى منازل التقوى ومراتب الرفعة بالصبر وأداء العبادات ومواجهة الشهوات واللذات، وهي برزخ دون الأذى والأسى .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا أحزنه أمر من أمور الدنيا أي أصابه غم أو نزل به مهم يستعين بالصوم والصلاة ويقول (أرحنا يا بلال)، أي يقوم بلال فيؤذن فتكون الصلاة سكناً للنفس، وسياحة في عالم الملكوت.
ترى لماذا تكون الصلاة كبيرة على غير الخاشعين، فيه وجوه:
الأول: إرتكابهم السيئات التي تؤدي إلى التثاقل عن الطاعات.
الثاني: عدم رجاء الجزاء والثواب الحسن.
الثالث: روح الإستكبار، والترفع عن أداء العبادات.
الرابع: الإبتعاد عن سنخية العبودية لله تعالى.
الخامس: لحاظ ما في الصلاة من التكليف والمشقة.
السادس: تحتاج الصلاة إلى التقيد بأدائها في أوقاتها وعدم التفريط بها، وهو أمر ثقيل على غير الخاشعين لله تعالى.
السابع: لزوم أداء الصلاة بكيفية واحدة وواجبات وسنن ثابتة تكون ثقيلة على غير المؤمنين بالله والذين يرجون ثوابه.
لقد جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن جعل الإنسان خليفة في الأرض، وجاءت هذه الآية لتبين أموراً:
الأول: فضل الله تعالى على الخليفة بهدايته إلى الإستعانة بالصبر والصلاة.
الثاني: قدرة الإنسان على الإستعانة بالصبر والصلاة.
الثالث: إستدامة الخطاب الإلهي إلى الإنسان، إذ تدل الآية على توجه الأمر الإلهي إلى الإنسان بعد خلق آدم في الجنة، وسجود الملائكة له ولكنه حينما هبط بأمر الله إلى الأرض، فان الصلة بين الله وبين آدم وذريته لم تنقطع، بل إستمرت بالنبوة والتنزيل كحبل نازل من عند الله، وبقوس الصعود بالصبر والطاعة وأداء الصلاة الذي تأمر به هذه الآية.
الرابع: إعانة الناس على بلوغ مراتب الإيمان والصلاة بالهداية للصبر والصلاة.
الخامس: كما تفضل الله تعالى بتعليم آدم عليه السلام الأسماء جاءت هذه الآية لتعليم الناس الصبر والصلاة ليكون مقدمة وطريقاً للرجوع إلى الجنة والخلود فيها.
لقد جاءت الآية بأربعة أوامر هي:
الأول: الإستعانة بالصبر.
الثاني: الإستعانة بالصلاة.
الثالث: الإستعانة بالصبر والصلاة.
الرابع: الخشوع لله عز وجل.
ويفيد الجمع والتداخل بين الأوامر الأربعة ليكون الصبر في الله ولله تعالى، وتكون عند المسلم القدرة على ضبط النفس وعدم الجزع عندما يداهم النفس أمر من الفزع أو سبب للفرح، وتكون الصلاة ملازمة له بالحالين، تجذبه إلى منازل الصبر، كما ان الصبر يدعوه لتعاهد الصلاة ويستعين بالخشوع لتعاهدهما، وبهما لتعاهد الخشوع.
ومن الآيات أن تبدأ الآية بالأمر بالفعل ثم تختتم بالوصف بلغة المدح للذين يمتثلون للأمر، ومع قلة كلمات الآية فانها جاءت بمضامين متعددة لتكون مدرسة للأجيال المتعاقبة من الناس، إذ أنها على وجوه:
الأول: الآية خطاب لبني إسرائيل.
الثاني: شمول الخطاب للناس جميعاً بالإلحاق، ولوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث: الثناء على المسلمين لبلوغ مراتب الإمتثال للأمر الإلهي بأداء العبادات.
الرابع: إخبار الآية عن إنحصار النجاة والفوز بدخول الإسلام، وإظهار الخشوع لله تعالى.
وفيه تأديب للمسلمين والناس جميعاً، وبيان شرط الخشوع لله تعالى في بلوغ مراتب الهداية والرشاد، وجاءت خاتمة الآية لتخرج من لا يستجيب للأمر الوارد في الآية من بني إسرائيل والناس جميعاً مما فيها من النفع، وحرمانه لنفسه بإمتناعه عن إرتداء لباس الخشوع والخضوع لله تعالى , لتكون الآية خطاباً لقوم وإنذاراً لهم لتفويتهم الفرصة على أنفسهم وعدم إستعانتهم بالصبر الصلاة.
وتقسم الآية الناس إلى قسمين ليس من قسيم ثالث لهما وهما:
الأول: الخاشعون.
الثاني: غير الخاشعين.
وتجعل الآية المدار في معرفة القسم الأول من الثاني على أداء الصلاة أو عدمه، فمن يؤدي الصلاة فهو من الخاشعين الذين يمتثلون لما في هذه الآية من الأمر، وما يترشح عنه من النفع العظيم، وهل هناك برزخ بين الفريقين المتضادين، وهو من يؤدي الصلاة بتثاقل وضيق .
الجواب لا، فان أداء الصلاة عنوان للخشوع والوقوف بين يدي الله  تعالى، وإتيان أفعال الصلاة طاعة لله سبحانه، بالإضافة إلى أن المواظبة على أداء الصلاة تطرد الكسل والضجر، لعمومات قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
تتكون هذه الآية من شطرين:
الأول: الأمر الإلهي بالإستعانة بالصبر والصلاة.
الثاني: الإخبار عن كبر وثقل الصلاة على الناس بإستثناء الخاشعين، ولا ملازمة بين الإستعانة بالصلاة وكبرها وثقلها، فحتى الذي تكون الصلاة عليه ثقيلة، ويتباطئ عن أدائها في وقت الفضيلة،ويتخلف عن صلاة الجماعة فانه يستطيع الإستعانة بالصلاة، وإن تثاقل وتأخر في أدائها، وهو من إعجاز الآية ومضامين الرحمة الإلهية فيها، بالإضافة إلى الإطلاق في الإستعانة بالصبر وعدم تقييده بالثقل من الكبر  إلا على الخاشعين، والصلاة خشوع وخضوع لله سبحانه، وهو اللطيف الكريم الذي يأمر بوجوب الصلاة لتكون مادة للإستعانة، وبلغة لنيل المقاصد الحميدة والإرتقاء في مراتب الخشوع والخضوع لله عز وجل، والفوز بالنعيم الخالد يوم القيامة.
والآية وإن جاءت بصيغة جمع المذكر السالم إلا أنها شاملة للنساء وجاء التذكير للتغليب، قال تعالى [وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ]( )، وقد مدح الله عز وجل المؤمنين الذين يؤدون صلاتهم بخشوع وخضوع لله عز وجل , قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ]( )، وثبت في الفلسفة عدم إجتماع الضدين، فمن يمتلأ قلبه بالخشية من الله لا يخشى القوم الكافرين للتباين في ماهية الخشية .
 فان قيل من المؤمنين من يخاف الظالمين، قلت إنه ليس من الخشية، ولكنه من الحذر على النفس والدين والعرض, قال تعالى[ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).  
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بالأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة، وبلحاظ  نظم الآيات فان الخطاب موجه إلى بني إسرائيل، وقيل أنه موجه للمسلمين، وهذا التعدد والترديد من إعجاز هذه الآية وكيف أن التباين في جهة الخطاب لا يدل على التزاحم والتعارض، فكل فرد منها في طول الآخر وليس في عرضه، لأن الخطاب التكليفي بالصبر والصلاة عام وشامل للمسلمين والناس جميعاً .
 وإذ جاء قبل آيتين الأمر بإقامة الصلاة جاءت هذه الآية بالإستعانة بالصلاة وفيه بيان لمنافع الصلاة، وأنها تطلب بذاتها، وتكون وسيلة ومقدمة لإدراك غايات سامية متعددة.
وجاءت الآية السابقة بتوبيخ بني إسرائيل لنسيانهم أنفسهم، وجاءت هذا الآية لبيان كيفية التخلص من نسيان النفس بالإستعانة بالصبر والصلاة، ترى علام يستعان بالصبر والصلاة , الجواب من وجوه:
الأول: طاعة الله ورسوله.
الثاني: أداء الفرائض والواجبات العبادية.
الثالث: قهر النفس الشهوية والغضبية.
الرابع: نسيان النفس وعدم الإستـعداد للآخرة، فبالصبر والصلاة يلتفت الإنســـان لوظائفه، وبالصلاة وأداء الفرائــــض الأخـــرى يستعـــد للقــاء الله عز وجل، والآية مصداق لتفضيل المسلمين، وهي من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من وجوه:
الأول:تحلي المسلمين بسنن وآداب الصبر.
الثاني: أداء المسلمين الصلاة،وتعاهدهم لها بالكيفية التي أداها رسول الله  محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: دعوة بني إسرائيل والناس جميعاً للتحلي بالصبر وأداء الفرائض.
الرابع: تلاوة هذه الآية الكريمة وما فيها من المضامين القدسية لتنمية ملكة الصبر.
الخامس: إتخاذ الصبر بلغة لجلب المنافع، ودفع المضار.
وأختتمت الآية بوصف الصلاة بأنها ثقيلة وكبيرة، ولكن هذا الوصف ليس عاماً، بل هناك أمة تعشق الصلاة لما فيها من القرب إلى حضرة القدس واللذة في الإمتثال لأمر الله عز وجل، وقد جاء في هذه الآيات الستة التي تتضمن الخطاب لبني إسرائيل ذكر الصلاة على وجوه:
الأول: وجوب إقامة الصلاة بقوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ).