معالم الإيمان في تفسير القرآن – سورة البقرة ج4

الجزء الرابع

الآيات (21-28) سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي تفضل بإنزال القرآن كتاباً جامعاً للأسرار والعلوم الإلهية ليرقى به الانسان إلى أجلّ مقامات الرفعة والعز بما تتضمنه من الآيات والأحكام والسنن والآداب.
وعالم التفسير رحلة مباركة في كنوز الآيات وما فيها من الدرر الثمينة التي تتلألأ في رحاب الملكوت وفي قلوب المؤمنين , أما على نحو الإنعكاس كما يعكس القمر بنوره ضياء الشمس، أو على نحو الإستقلال لتشريف الله تعالى للإنسان وجعله خليفته في الأرض , ينال المعارف تحصيلاً وكسباً وإن كان بالتوفيق وبمفاتيح الهداية، وآيات القرآن تتطلع إلى من يستظهر أنوارها تفسيراً وتأويلاً , ليستثمرها العلماء وأهل المعرفة وعامة الناس كل حسب حاجته وشغفه وسعيه إلى السعادة في الدارين’, ويتدبرون بما فيها من ذخائر الحكمة.
وهذا هو الجزء الرابع من معالم الإيمان المبارك بلطف وفضل من عند الله عز وجل , ويتضمن تفسير الآيات (21- 28) من سورة البقرة , إذ يبدأ بخطاب إلهي للناس جميعاً, فيه حجة عليهم وشاهد على بديع صنع الله وعظيم فضله عليهم , ليكون مقدمة لعبادتهم له , وإحترازهم من الشرك والضلالة, ليأتي بعده التحدي بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وهذا التحدي رحمة ولطف بهم جميعاً , أما المسلمون فيزيدهم إيماناً , وأما الكفار فحثهم على التوبة والإنابة , ثم يأتي التحذير والتخويف من النار.
وفيه أبواب علمية جديدة ومنهجية مستحدثة في علم التفسير بفضل وإفاضة من عند المنان الوهاب، وهو عبارة عن عدد من محاضرات بحث التفسير للحوزة العلمية وهو أكبر دروسها ببركة القرآن، بالإضافة إلى بحثنا الفقهي والأصولي طيلة أيام الأسبوع الدراسية والبحث الأخلاقي ليومين منها, قال تعالى[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( ).

النجف الأشرف
15 جمادى الثاني 1421.

 

 

 

 

 

 

 

قوله تعالى[ يَا أَيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] الآية 21.
الإعراب واللغة
يا : أداة نداء.
أيها : أي : منادى مبني على الضم في محل نصب, وهو اسم مبهــم يقع على أجناس عديدة، و(ها) للتنبيه، ويقول نفر من النحويين أنها زائدة.
وهذا القول وان كان إصطلاحاً خاصاً بصـــناعة النحـو ويفيد التوكيد في الغالب إلا انه مردود في علوم القرآن للأسرار الملكوتية الكامنة في كل حرف من حروفه وكلماته ماهية ومعنى وموضوعاً وحكماً وقراءة ، ويمكن إطلاق تعريف وإصطلاح آخر للحرف الزائد مثل ( التوكيد العرضي) ، لا أقل بخصوص الرسم القرآني .
الناس : صفة لأي مرفوع.
وقيل انه بدل باعتباره جامداً، أعبدوا : فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو : فاعل.
ربكم : مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة.
الذي : اسم موصول صفة (لرب).
خلقكم : فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والكاف، مفعول به.
والذين : الواو : حرف عطف، الذين : اسم موصول معطوف على محل جر مضاف اليه.
لعلكم : لعل : حرف ترج وطمع ونصب، والكاف : إسمها.
تتقون : فعل مضارع مرفوع، والواو، فاعل : والجملة الفعلية في محل رفع خبر لعل، وجملة (لعلكم تتقون) لامحل لها من الإعراب لأنها كالجزاء من الشطر، وقيل حالية، والأول أصح
العبادة : عنوان الخضوع والتذلل ، وهي في الإصطلاح المواظبة على إتيان المأمور به، والفاعل عابد، والله عز وجل هو المعبود.
لعل : حرف مشبه بالفعل وتفيد الترجــي والطمع والإشـــفاق وتوقـــع الممكن سواء كان محبوباً او مكروهاً وأصلها علّ، واللام زائدة قالوا : (بانها جاءت في القرآن بمعنى كي وبمعنى عسى وهي من الله تحقيق).( )
ولغة الإطلاق في هذا القول التي عليها أغلب اهل التفسير وغيرهم تحتاج الى دليل، وبالنسبة للأول والثاني فمن الجائز ان يكونا وجهين من وجوه تأويلها في شطر من مواضعها في القرآن.
وبالنسبة للثالث أي إرادة معنى التحقيـــق منها فإنه يحتـــاج الى دليل، خصوصاً وان دلالة الألفاظ على معانيها ليست ذاتية كدلالة الضياء والنهار على وجود الشمس إنما هي بالجعل والتخصيص من واضع الألفاظ، لذا فان الدلالة اللفظية تدخل بحسب علم الأصول في الدلالة الوضعية مما يحتاج الى دليل أما من اللغة أو السنة او دليل معتبر آخر,وكلها في المقام مفقودة.
في سياق الآيات
بعد ان قسّمت الآيات الكريمة المتقدمة الناس إلى قسمين متضادين في الميول والمسالك العقائدية يدخل فيهما غالب الناس، فاكرمت المؤمنــين بالمـــدح والثنـــاء والتقديم، وذمـــت الكفار والضلال وأهل الرياء والنفاق، جاءت هذه الآية دعوة وبلاغاً للناس عامة ليدخل الجمـــيع في الخطاب التكليفي لبني آدم، فبعد اللوم والتوبيخ يأتي النـــداء القرآني العـــام لبيان المطلوب لكي لا يبقــى الناس في تيــه وضـــياع، وليتقدم الوعـــد وأسباب الهداية التوبيـــخ ويتأخـــر عنه , من غير تعارض مع إنحـــلاله إلى بشـــارة للمؤمــنين ووعيد للكافرين.
إن إنتقال الآيات إلى خطاب الناس جميعاً آية إعجازية من وجوه :
الأول : عدم الإنشغال بموضوع المنافقين إنشغالاً تاماً.
الثاني : حث المنافقين لنبذ النفاق، ودعوتهم لنقاء السرائر، وصدق النوايا.
الثالث : جذب الناس إلى الإسلام.
الرابع : تحذير الناس جميعاً من النفاق والكفر.
الخامس : دعوة حديثي الإسلام إلى الإعراض عن النفاق بالإنقطاع الى العبادة.
السادس : توكيد وجوب العبادة على كل إنسان ذكراً أو أنثى.
السابع : إن إتيان التكاليف باب للتخلص من النفاق، والإبتعاد عن منازله.
الثامن : حصر النفاق وإحصاء المنافقين، بحث غيرهم من الناس على العبادة والصلاح.
التاسع : من ضروب العبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهم مصاديقه محاربة النفاق، لذا جاءت الآيات السابقة بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] في عدم تعيين الجهة التي توجه اللوم للمنافقين فيها ، وقد يأتيهم من أسرهم وأصحابهم، وشركائهم في التجارة والعمل.
العاشر : بيان إنتفاء العلة للنفاق، وان الواجب بخلافه، ولو توجه الناس إلى عبادة الله ليغشاهم الخير والبركة.
الحادي عشر : لما أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن قدرة الله تعالى على كل شئ جاءت هذه الآية لتبين أموراً :
الأول : إن الله تعالى أهل للعبادة.
الثاني : لوشاء الله سبحانه لهدى الناس جميعاً، ولكنه جعل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وتفضل بالإنذارات والبشارات، ومنها هذه الآيات.
الثالث : بشارة المؤمنين بأن النفاق وأهله لن يضروهم شيئاً وان القوة لله جميعاً.
الرابع : دعوة المسلمين للسؤال والدعاء من الله عزوجل.
وفي صلة هذه الآية بالآية التالية[الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً……]( ) مسائل:
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على الناس بترغيبهم بالعبادة مع أنها واجب وفرض عين على كل مكلف .
الثانية: الخطاب العام للناس جميعاً بصفة الإنسانية والخلق مع ذكر خلق الله لهم، وجاءت الآية التالية بذكر بديع صنع الله في تسخير السماوات والأرض لهم.
الثالثة: العطف الموضوعي للآية التالية على آية البحث بإبتدائها بالاسم الموصول (الذي).
الرابعة: تأكيد اللطف الإلهي بدعوة الناس لعبادته ببيان عظيم نعمه عليهم وعدم إمكان إستغنائهم عن رحمته , وهل في الآية إنذار للناس , وأنه في حال عدم عبادتهم له فإن النعم العظيمة لن تستديم عليهم، الجواب نعم , وأختتمت الآية بالزجر عن الشرك والضلالة, قال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
الخامسة: يفيد الجمع بين الأمر المولوي الوجوبي في أول هذه الآية للناس بعبادة الله، وأختتام الآية التالية بالنهي عن الشرك لزوم توحيد الله عز وجل، وعدم الخلط بين العبادة وبين أسباب الضلالة والكفر وإتخاذ الشريك، لذا كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليهود المدينة ونصارى نجران وكفار قريش وملوك الأرض بلزوم عبادة الله عز وجل.
وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسلم. أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً} إلى قوله {اشهدوا بأنا مسلمون})( ).
السادسة: تنمية ملكة العبودية والخشوع لله عز وجل في نفوس المسلمين، وبعث الناس للإقتداء بهم.
السابعة: تترشح عن الإقبال على طاعة الله الفطنة واليقظة والنفرة من الشرك والضلالة.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أن الأمر الإلهي بالعبادة جاء مطلقاً من غير أن يقيد بشك وموضوع للجدال فورد بصيغة البرهان وبيان الإعجاز في بديع صنع الله وما سخره للناس، بينما جاء التحدي والإحتجاج ولزوم طرد الشك في نزول القرآن من عند الله عز وجل ليشمل الخطاب (يا أيها الناس) أهل الكتاب, وبين الناس وبينهم عموم وخصوص مطلق .
فيدعو الله عز وجل الناس لعبادته وينصر رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويدافع عن القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، ليكون من مصاديق حفظ القرآن لغة التحدي وتأكيد عجز الناس عن الإتيان بسورة من سوره القصار.
إعجاز الآية
صيغة الإطلاق والملازمة البسيطة الخالية من الواسطة بين العبادة والتقوى وعدم إمكان الإنفكاك بينهما، وتوجه الخطاب الى جميع الناس بعرض واحد مع ان شطراً منهم إستجاب للإسلام وإستمع للآيات وبعضهم جحد وكفر، وفيها بيان لفلسفة العبادة وأنها عنوان الشكر على نعمة الخلق والإقرار بعظيم القدرة.
ومجيء الخطاب في الآية على نحو الإطلاق الشمولي المستوعب للناس جميعاً الموجود والمعدوم الذي يأتي وجهاً من وجوه الرحمة الإلهية، فبعد آيــات التوبيــخ لم ينزل العـذاب على الكافرين وتفضل الله سبحانه بامهالهم و إتصلت وتوالت شآبيب الرأفة بتجدد الدعوة الى العبادة والرشاد، وهو من وجوه الرحمة والســعة التي لا يقدر عليها الا الله عز وجل، مما يؤكد ان أحكام القرآن والسنة كلها سماوية، والإسلام رسالة عالمية، وصيغ الإنذار والتبليغ لا تنقطع.
ويمكن تسمية الآية بـآية (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين.
الآية سلاح
تحث الآية على العبادة، وتدعو إلى إتيان الفرائض وعدم الإكتفاء بالإتيان بالشهادتين , وتبين موضوعية العبادة في الحياة الدنيا وعدم إمكان التخلي والإعراض عن التكليف بها او التفريط ببعض وجوهها، وتدعو الآية إلى إتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الإسلام هو طريق العبادة.
تبين هذه الآية أن العبادة هي سور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده الناس جميعاً، وهو السلاح للقضاء على النفاق من وجوه :
الأول : بصدق العبادة يتخلص الإنسان من النفاق وأخلاقه المذمومة.
الثاني : يمنع إنقطاع المؤمنين الى العبادة من الإصغاء للمنافقين , وهي برزخ دون وصول أذى بالمنافقين لهم.
الثالث : يبعث إنشغال المؤمنين بعبادة الله وإتيان الفرائض اليأس والفزع في قلوب المنافقين.
الرابع : بالعبادة الصادقة يدخل كثير من الناس الإسلام ويحسن إسلامهم، مما يكون حجة على المنافقين، وهزيمة للنفاق والجحود.
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآية تذكير كل إنسان بوظائفه العبادية التي تكون له واقية وحرزاً في النشأتين، وتتنزه الأرض معها من النفاق وأهله.
الآية لطف
من فضل الله عز وجل مجيء النداء منه تعالى إلى الناس جميعاً بلزوم عبادته فمع ان العبادة علة خلق الإنسان وهي واجب عيني على كل مكلف فان الله عز وجل أنزل هذه الآية لطفاً منه تعالى، وترغيباً بالإسلام، وتذكيراً للناس بوظائفهم العبادية.
بعد ذم النفاق وأهله،وبيان قبحه الذاتي والعرضي، تأتي هذه الآية لتأخذ بيد من يقرأها أو يسمعها الى عالم العبادة، ووظائف الملائكة، والسياحة في عالم الآخرة لإدراك العقل والوجدان تعقب العبادة بالثواب العظيم.
فالآية لطف بالناس جميعاً بدليل أن الخطاب فيها يشمل كل إنسان مؤمناً كان أو منافقاً، مسلماً او كتابياً او كافراً، وتدل على عالمية الخطاب القرآني، وسعة الإسلام للناس جميعاً، ونيل حقوقهم فيه وإنحصار اداء الواجبات العبادية بدخوله قل تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ) ( )
فمادامت الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار فان واجبات عديدة تقع على عاتق الإنسان ذكراً أو أنثى وتتجلى بعبادة الله وإتيان التكاليف, قال تعالى[قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
فجاءت هذه الآية صريحة في الأمر بالعبادة الذي يحمل على الوجوب وليس الندب أو العنوان الجامع لهما، وتؤكد الآية التساوي بين الناس في العبودية لله ، ولزوم الإنقياد والإنصياع لأوامر الله تعالى وانما حصل التباين بإستجابة المؤمنين إلى الأوامر الإلهية، وتخلف الكفار والمنافقين عنها.
إفاضات الآية
من الآيات في الخطابات القرآنية لغة العموم الشاملة لجميع الناس، فالدعوة الى العبادة لم تنحصر بموضوع الآيات السابقة وخصوص المخادعين والمنافقين بل جاءت عامة لأن العبادة هي العلة الغائية لخلق الإنسان، ولبيان عدم حصر الدعوة والعمل الجهادي بالمخادعين والمنافقين.
وتبعث الآية الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين لأنهم إختاروا النهج السليم، وإستطاعوا توظيف العقل والحواس لدرك الحقائق، وإقترن الأمر بالعبادة بآية الخلق والإخبار بانه تعالى هو الذي خلق الناس جميعاً مما يدل على أن العبادة وجه من وجوه الشكر لله تعالى على نعمة الخلق، وفيه نكتة وهي تثبيت مفاهيم العبودية والحاجة إلى الله تعالى , لتكون مقدمة وتوطئة نفسية للإخلاص في العبادة، والتنزه عن أسباب العناد والجحود.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالخطاب الإلهي المتوجه إلى الناس على نحو العموم المجموعي وفي أفراد الزمان المتعاقبة، فليس من تخصيص أو تقييد في جهة الخطاب والمقصودين به، بل هو موجه لكل إنسان مؤمناً أو كافراً، ذكراً أو أنثى، وفيه دعوة لكل إنسان للإصغاء.
ومن الآيات ان جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ] ( )، أي أنهم يسمعون هذا النداء، ويبصرون الآيات، وجاء النداء والدعوة إلى الإيمان في القرآن ، وهو شاهد على فضل القرآن على الناس جميعاً إذ أنه السبيل إلى الهداية، والوسيلة السماوية والملكوتية التي يخاطب الله تعالى بها الناس.
وجاء مضمون الدعوة بسيطاً ، ويتضمن معنى الوجوب والإنبعاث الى العبادة وعدم جواز الترك، ولم تقل الآية (اعبدوا الله) وان جاءت آيات عديدة به ، وذكرت هذه الآية الله عز وجل بصفة الربوبية المطلقة ، فالله عزوجل رب الخلائق والناس جميعاً، ومن وظائف المخلوقين عبادة الله تعالى.
فقالت الآية (أعبدوا ربكم) لتكون الربوبية كلياً طبيعياً ، وسور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده الناس، فالله تعالى [رَبِّ الْعَالَمِينَ] وليس من إنسان إلا وهو عبد لله تعالى ، ويجب عليه أن يؤدي وظائف العبودية والطاعة لله تعالى ، فهذه الآية رحمة بالناس جميعاً، قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فجاءت هذه الآية تفسيراً وبياناً لها ، وإذ تتعدد معاني الرب في اللغة،فيكون بمعنى المالك والسيد جاءت هذه الآية بذكر صفة أخرى لله تعالى وهي انه خالق الناس جميعاً ، وهذا الخطاب متجدد وشاهد على ان القرآن لم ينزل لجيل دون آخر، ولم يكن مختصاً بآيام التنزيل فكل مولود يتوجه له هذا الخطاب وتجب عليه العبادة عند بلوغ سن التكليف ذكراً كان أو أنثى، ترى لماذا لم تكتف الآية بقوله تعالى [الَّذِي خَلَقَكُمْ]وإفادة الضمير (الكاف) عموم الناس، وفيه وجوه:
الأول : بيان عظيم قدرة الله ، فاذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] جاءت هذه الآية بالإخبار عن آية من قدرة تعالى، وهو انه خالق الناس جميعاً.
الثاني : الآية بيان وتفصيل، وحجة وبرهان.
الثالث : في الآية رد وإحتجاج على الكفار.
الرابع : تتضمن الآية التحذير من تمجيد وعبادة بعض الأمم لعظمائها، وصنع أصنام لهم، فهؤلاء مخلوقون لله عز وجل .
وتوجه لهم الخطاب التكليفي بعبادة الله تعالى ، وكما ذكرت الآيات الذين من قبلنا في أصل الخلق ، فقد ذكرتهم بذات اللفظ من جهات منها :
الأولى : كتابة فريضة الصيام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الثانية : الإبتلاء والأذى الذي لاقاه المسلمون من الناس ، والإخبار بان هذا الإبتلاء والأذى في جنب الله ، وهو طريق الى الجنة ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الثالثة : الإخبار الإلهي عن الأذى الذي يلاقيه المسلمون من طائفة من أهل الكتاب، قال تعالى [وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا]( ).
الرابعة : هلاك الظالمين من الأمم السالفة ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ]( )، لذا جاءت هذه الآية بلفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] أي أن الهلاك والمحق هو عاقبة الذين يكفرون بالنبوة ويجحدون بالتنزيل.
وجاءت العبادة في الآية طريقاً ومقدمة للتقوى والصلاح، مما يدل على علو مرتبة المتقين، وان العبادة جهاد لقهر النفس الشهوية والغضبية وحصانة وواقية من إرتكاب السيئات.
وجاءت الآية بذكر العبادة على نحو الإجمال ، وهي تشمل الأوامر والفرائض العبادية، باقامة الصلاة وأداء الزكاة والصيام والحج، والتقيد بالأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والإستحباب والإباحة والكراهة والحرمة، وهناك ملازمة قطعية بين العبادة والتقوى، والعبادة وسيلة ومقدمة للتقوى وشاهد عليها نحو الرجاء والسعي، مما يدل على لزوم بذل الوسع في العبادة والإحتراز من الفواحش لنيل مرتبة التقوى لتكون طريقاً إلى الخلود في النعيم.
لقد جاء أول الآية بالأمر الإلهي بعبادة الله ثم جاء وسطها بذكر تفضل الله تعالى بخلق أجيال الناس المختلفة الموجود والمعدوم، لبيان ان العبادة علة خلق الناس .
وأختتمت الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] في حث للناس جميعاً على السعي والإجتهاد في طلب مرضاة الله، وتحتمل علة رجاء التقوى وجوهاً :
الأول : الأمر الإلهي بعبادة الله، وتقدير الآية أعبدوا ربكم لعلكم تتقون.
الثاني : التلبس بالعبادة ومزاولة وجوه الطاعة وتقدير الآية (لعلكم تتقون بعبادتكم الله).
الثالث : الخلق علة وطريق للتقوى أي ان الله عزوجل خلق الناس ليعبدوه، فأول الآية موضوع مستقل، وكذا آخرها، وان قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] متعلق بأصل الخلق ، ويكون المعنى (لعلكم تتقون لأنه خلقكم)، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فخلق الناس وعلته هو عبادة الله، بلحاظ إفادة التقوى معنى الخشية من الله تعالى في السر والعلانية، والعبادة مصداق التقوى.
وليس من تعارض بين هذه الوجوه, وكلها من مصاديق وإعجاز الآية ويستقرأ تعدد وصحة هذه الوجوه من النعم العظيمة لله تعالى على الناس والتي ذكرت الآية منها وجوب العبادة لأنها رحمة بالناس وهي خير محض، ونفع لهم في الدنيا والآخرة، وعلة الخلق والنشأة وأنها ماهية وكيفية من عند الله، وشاهد على عظيم قدرته.
وفي قوله تعالى [مِنْ قَبْلِكُمْ] وجوه :
الأول : إرادة الآباء والأمم السالفة والأحقاب الماضية.
الثاني : آدم وحواء وعموم ذريتهما من الأجيال السابقة.
الثالث : المراد عالم الجن والأنس من قبلنا.
الرابع : الخلق من الناس من قبل آدم، على فرض خلق أمم وسنخية منقرضة من البشر.
الخامس : عالم النسناس الذي كان يعمر الأرض قبل الإنسان.
السادس : عالم الملائكة.
السابع : العوالم المختلفة، وجاء ت الآية بلفظ [الَّذِين] لتغلب العاقل والحاق شبه العاقل به.
والقدر المتيقن من الآية هو الأجيال المتقدمة من الناس في إشارة الى أن الموجود من الناس فرع الذين ماتوا وغادروا الدنيا، وفيه تذكير بعالم الآخرة والرجوع الى الله تعالى، وانه سبحانه خلق الناس ثم يرجعون اليه، فتكون بدايتهم بفضله وبرشحة من لطفه , واستدامة حياتهم برحمة منه، ثم يبعثون، لتقف أجيال الناس يومئذ مجتمعة بين يدي الله سبحانه للحساب .
وبين الدنيا وعالم الحساب برزخ وهو عالم القبر بلحاظ أن أوان النشور واحد للناس جميعاً , قال تعالى (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ( ) .
وذكرت الآية المخاطبين والأمم السابقة، ولم تذكر المعدوم من الأمم التالية، فلم تقل الآية (خلقكم والذين من قبلكم والذين يأتون من بعدكم) وفيه وجوه :
الأول : الآية خطاب في القرآن، والإسلام الديانة الباقية الى يوم القيامة.
الثاني : جاء الخطاب للناس بقوله تالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] وهو إنحلالي يشمل الناس جميعاً الى يوم القيامة.
الثالث : في الآية شاهد على بقاء القرآن غضاً طرياً، ومصاحباً للناس في أجيالهم المتعاقبة.
الرابع : يمكن إستقراء حقيقة من الآية وهي سلامة القرآن من التحريف.
الخامس : وصول الخطاب القرآني لكل الناس، فمع انه نازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجزيرة العربية وفي زمان ليس فيه وسائل إتصال وإعلام، جاءت الآية لمخاطبة الناس جميعاً لتكون أمارة وإخباراً عن زمان العولمة ولزوم تبليغ ومعرفة الناس جميعاً بالآيات ودعوتهم لعبادة الله تعالى.
السادس : تبين الآية الوظائف العقائدية التي تقع على عاتق المسلمين في التبليغ وتلاوة الآيات.
وهذه هي أول آية في ترتيب القرآن تأتي بمادة (خلق) وفيها مسائل :
الأولى : ذكر خلق الناس وبصيغة الجمع.
الثانية : إقتران التذكير بالخلق بوجوب عبادة الله تعالى.
الثالثة : توجه الخطاب في الآية الى الناس جميعاً.
الرابعة : الإشارة الى تشريف الإنسان بخلق الله له، وبأمره بالعبادة والخضوع والإنقياد لأوامر الله تعالى.
الخامسة : شمول الخلق لعموم الناس ، من تقدم زمانه او تأخر عن زمان التنزيل، فيتلوا ويستمع الناس الى هذه الآية في هذا الزمان , وكأنها نزلت في هذا الوقت ، وكذا بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة.
فجاءت الآية محل البحث لتأكد على ثلاثة أمور :
الأول : عبادة الله.
الثاني : خلق الله للناس.
الثالث : تقوى الله.
وهناك ملازمة بين الأمور الثلاثة، وهي مجتمعة ومتفرقة طريق الى الجنة وبلوغ المراتب العالية في الآخرة, قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
التفسير الذاتي
بعد مجئ الآيات السابقة بذم الذين كفروا والمنافقين والتعريض بهم بلغة المثل، إبتدأت هذه الآية بالنداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] وإرادة البشر جميعاً،وتحتمل الصلة في لغة الخطاب بين هذه الآية والآيات القليلة السابقة وجوهاً :
الأول : التساوي وأن الخطاب موجه لذات الجهة أو الجهات والأفراد والطوائف.
الثاني : العموم والخصوص المطلق، وأن المراد من الخطاب في هذه الآية أعم من المراد في الآيات السابقة.
الثالث : العموم والخصوص من وجه، وأن المخاطبين في هذه الآية يلتقون مع المخاطبين في الآيات السابقة في أمور، ويختلفون معهم في أمور.
الرابع : التباين، وأن المخاطبين في هذه الآية غير المخاطبين في الآيات السابقة.
والصحيح هو الثاني، فالناس أعم، ويشمل لفظ الناس المسلمين وأهل الكتاب والكفار والمنافقين، و هذا لا يمنع من إرادة الناس أيضاً في الآيات السابقة في منطوقها ومفهومها، إذ أن توبيخ وذم الكفار موعظة وعبرة للناس جميعاً، وهو في مفهومه مدح وثناء على المسلمين لأنهم إختاروا الإسلام، وإجتنبوا الكفر وغادروا إلى الأبد منازله ومقدماته.
وهذه أول آية في نظم القرآن يرد فيها النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] الذي فيه إنخرام لقاعدة ما من عام إلا وقد خص , فليس من إنسان مستثنى منه , وليس من خطاب في تأريخ الإنسانية أمس واليوم وغداً أوسع وأعم من هذا الخطاب القرآني المبارك ذاتاً وعرضاً .
وورد مرة ثانية في سورة البقرة، إذ جاء بالأمر للناس بأن يأكلوا من طيبات الأرض، ويتنعموا بخيراتها وكنوزها قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا] ( )، ولم يرد لفظ النداء هذا في سورة آل عمران كلها بينما جاء ثلاث مرات في سورة النساء.
ومن الآيات أن يبدأ هذا النداء المبارك الشامل للأجيال المتعاقبة من الرجال والنساء بالأمر بعبادة الله عز وجل، وهي علة خلق الناس جميعاً.
ولم تقل الآية (أعبدوا الله) بل جاءت بذكر الله عز وجل باسم الرب وأنه رب ومالك للناس لتوكيد وجوب العبادة، وبيان رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً فالله عز وجل يحب أن يعبدوه، وهو الذي تأتيهم نعمه متتالية، متعاقبة .
وجاءت الآية بلغة الحجة والبرهان، إذ ذكرت خلق الناس, وجاء القرآن بالإخبارعن كون العبادة علة خلقهم, قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) ( )
من غايات الآية
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بنزول القرآن، وهو الرحمة النازلة من السماء وجاءت هذه الآية حجة على الناس جميعاً في وجوب عبادته وتذكيراً بان الدعوة للإسلام لم تنحصر بقوم دون غيرهم، وانه ليس من حاجز بين الإنسان وعبادة ربه .
وفي الآية ترغيب بعبادة الله التي تكون طريقاً وموضوعاً لإحراز ملكة التقوى والخشية من الله عز وجل، وواقية من النار والعذاب الأخروي.
وفي الآية مسائل :
الأولى : حث الناس على عبادة الله، ودعوتهم لدخول الإسلام.
الثانية : إبطال شبهات المنافقين والضلال بتوكيد وجوب العبادة وإتيان الفرائض.
الثالثة : لا يرضى الله عز وجل من عباده إلا عبادته والإنصياع لأوامره , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابعة : العبادة وسيلة القضاء على النفاق، وعون للمؤمنين لدفع أذى المنافقين.
الخامسة : إنشغال المؤمنين بعبادة الله حجة على المنافقين, ودعوة لهم لهجران النفاق.
السادسة : وجوب سعي الناس نحو مراتب التقوى والخشية من الله بالسر والعلانية، ولو كان المنافقون يخشون الله بالغيب لما ركبوا جادة النفاق وأخفوا الكفر والجحود.
السابعة : الثناء على المسلمين لأنهم أئمة الناس في العبادة، وقادة الأمم في دروب الهدى والصلاح و وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [ يَا أَيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خلَقَكُمْ ]
بعد ذم المنافقين والكفار والجاحدين، جاءت هذه الآية الكريمة خطاباً للناس جميعاً وهؤلاء يدخلون معهم في وجوب عبادة الله تعالى وتشمل عبادته تعالى الفرائض البدنية والمالية، وفي الحكمة عبادة الله ثلاثة انواع :
الأولى : ما يجب على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاة الله عز وجل.
الثانية : ما يجب على النفوس كالإعتقادات الصحيحة من العلم بتوحيد الله وما يستحقه من الثناء والتمجيد , والفكر فيما أفاضه الله سبحانه على العالم من وجوده وحكمته ثم الإتساع في هذه المعارف.
الثالثة : ما يجب في المعاملات وحسن معاشرة الناس في المدن والقرى والأمصار ووجوه الصناعات والمزارعات والمناكح وتأدية الأمانات والنجدة والنصح والمروءة للبعض بضروب المعاونات وجهاد الأعداء والذب عن الأهل والقيم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحماية الحوزة.
وقال الرازي : “ان خطاب [ يَاأَيُّها النَّاسُ ] خطاب مشافهة وهو لا يجوز مع المعدوم، وقال : والاقرب انه لا يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك العصر”( ).
ولكن خطابات القرآن تتصف بخصوصية إعجازية تفوق أحكام الخطابات والقوانين الوضعية، فهي تتناول المعدوم على نحو تعليقي إقتضائي لأن الخطاب متجدد ولأن الله يعلم بالموجود قبل خلقه وبعده , بالإضافة الى خطاب عالم الذر وتجدد حضور القرآن في كل آن، فكما تطلع الشمس كل يوم على الأرض بضيائها فإن القرآن ينبض بالحياة وبقاء آياته وكلماته وأحكامه محتفظة بحلاوة أوان التنزيل، يطلع على القلوب والأفئدة كل يوم بالدعوة إلى عبادته تعالى, ليكون من إعجاز هذا الخطاب إخبار الله عز وجل في وجود أمة وشطر من الناس يتحدثون ويتدبرون بخطابات القرآن ويعملون بها, وهم المسلمون لينتفع الناس جميعاً من لغة الإنذار والبشارة في القرآن و وهل يدخل هذا الخطاب في مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الجواب نعم سواء في ذاته ومنطوقه أو في موضوعه وهو العبادة.
ولا تنحصر أوامر ونواهي الله بمذهب دون آخر او قوم دون قوم بل هي عامة مستغرقة للناس جميعاً وفي كل زمان، وشمولها للمعدوم بلحاظ حياة القرآن وتجدد خطاباته وإنحلالها في كل زمان بعدد الموجودين من غير ان ينقص عددها او تنثلم حصة التالي والمعدوم، فالذي لم يخلق بعد لا يصدق عليه بالمصطلح القرآني انه معدوم.
فكما تخطط الحكومات لإستيعاب الزيادة في السكان وحالات الطوارئ وكأنها حادثة، وتستعد الأسرة لمولودها منذ الأيام الأولى للحمل، فإن القرآن يستقبل المكلف بالدعوة الى الله تعالى، مع الفارق في القياس لأن علمه تعالى بالخلق لا يطرأ عليه الإحتمال والظن، فيكون الخطاب للناس في كل زمان وكأنه نزل هذا اليوم.
ومع ان القاعدة في خطــابات القرآن انها جاءت بصيغة [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ] في مكة، و [ يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا ] في المدينة، فان سورة البقرة مدنيــة إلا آيـة واحدة وهي قوله تعالى [ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ]( ) وهي مكية بالإصـــطلاح والتقســـيم المشهور , وفيها ورد الخطاب القـــرآني الى الناس، مما يعني ان القاعـــدة أعلاه ليست كلية، وان خطابـــات المدينــة ايضاً متوجـــهة الى الناس إلا مع القرينـــة الصـــارفة والتي تدل على خروج غير المسلمين بالتخصص او التخصيص.
ولكن الآية تحمل على إطـــلاقها وأنها خطـــاب للناس جميعـــاً ومنهم المقصـــودون في هذه الآيـــات فالإجماع على ان الكفـــار مكــلفون بالأصول، وخالف بعض الفقهاء في خصوص التكليف في الفروع كأبي حنيفة.
وظاهر كلام بعضهم ان [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ ] خطاب للمؤمنين باسم جنسهم، ولكن أصالة الاطلاق وعدم التقييد هي المقدمة في فهم الكلام، فالآية خطاب لجميع الناس بما فيهم المؤمنون، والخطاب لهم مركب وتشريفي بالمواظبة على العبادة ولتوكيد سلامة نهجهم وصحة اختيارهم بل وضرورته، وهذا الخطاب من رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا، وشمولهم جميعاً برأفته، وشاهد بأن القرآن مائدة السماء.
ان أسمى وجوه العبادة هو أداء الفرائض من صلاة وصوم ونحوهما، فهي العنوان العملي الذي يؤكد طاعة العبد وبها تنال مرضاته سبحانه وهي الواقية الاحترازية في الوجوه الأخرى , كما في قوله تعالى [ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ]( ).
وتتضمن العبادة في الآيـــة صبغة الشــكر لله عز وجل على تفضله بخلقنا وتدل على صيغة الإقـــرار والإعتراف بعظيم قـــدرته، وفي الآية تذكير بالخلق ونشأة الإنسان، ليكون إستحضارها في الذهن عوناً ومقدمة عقلية لإتيان العبادات، فلا يحتاج لله تعالى في عبادة الناس ومناســـكهم, وهو الغني عن العالمين , ولكن هذه الدعــــوة والتذكير رحمة منه تعالى بالناس ولطـــف ورأفة للأخـــذ بأيديهم الى مسـالك النجاة وللإهتداء في أنوارها.
لقد قدّم الله سبحانه عنوان الربوبية في إستحقاق العبادة ولزومها على خلق الإنسان، لأن الخلق فرع الربوبية وانه تعالى أهل للعبادة بذاته من غير توسط الفعل الإلهي، وان كان عظيماً ويتعلق بالعبد ونفعه، لأن العزة لله جميعاً وانه غير محتاج.
وفي الآيــة نوع توبيــخ مركب للكفار والمشركــين فكل نعمــة تســـتحق العبادة، فالربوبية وحـــدها تســـتحق العبادة ونفي الشريك عنوان يســـتحق إنفـــراد الله تعالى بالعبادة , ولا يُرزق الناس الا من الله عز وجل.
ومن إعجاز هذه الآية دعوة الناس جميعاً لعبادة الله ومنهم أمة وهم المسلمون مواظبون على عبادة الله ومع هذا يشملهم الخطاب بالعبادة وهو ليس من تحصيل ما هو حاصل، بل فيه وجوه:
الأول: عبادة الله سبحانه أمر متجدد في كل آن ويوم من أيام حياة الإنسان.
الثاني: بيان حقيقة وهي حتمية وجود مصداق خارجي للإمتثال لأمر الله عز وجل، فحينما أمر الله الناس بعبادته فلابد من أمة تقيم على العبادة والخضوع لله عز وجل.
الثالث: تأكيد قانون باق في الأرض وهو أن المسلمين هم الذين يعبدون الله ويتقونه ويخشونه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ) .
فبعد إقرار المسلمين بالعبودية لله عز وجل وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم الأمر الإلهي بالإرتقاء إلى أسمى مراتب التقوى.
الرابع: إتصاف المسلمين بخصوصية وهي عبادتهم لله، وخروجهم للناس بالدعوة والأمر بمحاكاتهم في العبادة لمشاركتهم في الثواب العظيم في الدنيا والآخرة، والفوز بالأمن بعد الخوف، والغنى بيد الفاقة، والخلود في النعيم بعد إنقطاع الدنيا بالموت، وهذا الإتصاف من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بحث علمي
ولو تم صنع الإنسان بالإستنتاخ والمختبر فتشمله أحكام الآية ووجوب عبادة الله، لأنه من الناس شرعاً وعقلاً وعرفاً وهو من إعجاز مجيء الأمر الإلهي بالعبادة بالنداء العام الإستغراقي للأجيال المتعاقبة(يا أيها الناس) .
وهل يصدق على إنسان الإستنساخ أنه من خلق الله وعمومات قوله تعالى(الذي خلقكم) الجواب نعم من جهات:
الأولى: كــل ما هو مــوجود من الكائنات والممكنات من خلق الله عز وجل، ويحتاج في إستدامة وجوده إلى رحمة الله.
الثانية: أصل إنسان الإستنساخ من خلية حية من ذات الإنسان.
الثالثة: خلق الله عز وجل عام يأتي بالأمر والمشيئة الإلهية بقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، ويأتي على نحو دفعي وتدريجي وبالواسطة.
الرابعة: آية البحث حجة في إثبات أن إنسان الإستنساخ ونحوه من خلق الله من وجوه:
الأول: عموم الخطاب في الآية وتوجهه إلى الناس جميعاً.
الثاني: وجوب عبادة إنسان الإستنساخ لله عز وجل.
الثالث: من إعجاز الآية أنها جاءت بصفة الربوبية المطلقة لله، فلم تقل الآية(أعبدوا الله) بل اعبدوا ربكم لبيان حاجة الناس مجتمعين ومتفرقين لعبادة الله عز وجل.
الرابع: قوله تعالى(الذي خلقكم)شاهد سماوي بأن الله خلق الناس جميعاً ومنهم إنسان الإستنساخ، وما قد يأتي به العلم مستقبلاً من أسباب صناعة الإنسان.
الخامس: تذكير الناس في كل زمان بحقيقة وهي أن الله عز وجل هو خالقهم والمالك لهم جميعاً ولما يحلون فيه وما يضلهم، قال تعالى[الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
السادس: توجه الخطاب في الآية إلى الناس جميعاً ليشمل المتقدم والمتأخر منهم، وبين الناس وبني آدم عموم وخصوص مطلق، فالناس أعم لدخول آدم وحواء معهم، بينما لا يدخلان في بني آدم، وشمل لفظ وصدق الخلق الناس جميعاً، وهناك تباين في الخلق من وجوه:
الأول: بداية خلق آدم من طين، [وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ]( )، وعن أبي موسى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل خلق آدم من قبضته قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض منهم الاحمر والاسود والسهل والحزن وبين ذلك والخبيث والطيب)( ).
الثاني: خصوصية خلق حواء إذ تنفرد عن كل الخلائق في كيفية خلقها لتكون هذه الكيفية نعمة على الناس جميعاً، فجاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( )، لبيان نعمة الله عز وجل في خلق حواء، ليتكاثر الناس، وذكر كيفية خلقها إجمالا من بديع صنع الله عز وجل، وذكر (أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه ، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها)( ) .
وسميت حواء لأن على شفتيها حوة( )، أو لأن لونها يضرب إلى السمرة كما في قوله تعالى[فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى]( ).
الثالث: تكاثر ذرية آدم وحواء من الإتصال والتماس بكيفية مخصوصة ومقصودة بين الزوجين، وهو الموطئ، ومن الآيات أن هذه الكيفية ذات مقدمات من الميل والشهوة، وتكون فيها غاية اللذة وأسباب المنعة، لتحكي بقاء الإنسان في ذريته في الأرض بما يبعث الثواب له حتى بعد مغادرته الدنيا، قال تعالى[ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ]( ).
أي ماء ضعيف لا إعتبار له وهو المني، وفيه إشارة إلى ما أظهره العلم الحديث في هذا الزمان من كفاية الحيمن الواحد الذي لا يرى بالعين المجردة لتلقيح بويضة الزوجة.
الرابعة: خلق عيسى من غير أب في آية من بديع صنع الله عز وجل، قال تعالى[إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الخامسة: الإرتقاء العلمي في هذا الزمان، وولادة أطفال بواسطة الأنابيب المختبرية، وإرتقاء دراسات الإستنساخ البشري، وإطالة عمر الإنسا ن وعلاج الآفات المستديمة.
السابع: جاء قوله تعالى(والذين من قبلكم) لتذكير الناس جميعاً بأن الله خالق آبائهم والأجيال السالفة التي لا يحصيها إلا الله، ولم تقل الآية (الذي خلقكم وآباءكم) بل ذكرت بديع صنع الله بالسبق الزماني في الخلق لتشمل الآية الذين يصنعون بالإستنساخ ونحوه على فرض حدوثه، من جهات:
الأولى: إتحاد السنخية الإنسانية.
الثانية: إنسان الإستنساخ من عقب السابقين له، وإرتقاء العلوم في الأجيال المتعاقبة.
الثالثة: توجه الأمر بأداء الفرئض وتقوى الله إلى الإنسان مطلقاً أو إن كان مستنسخاً لعموم قوله تعالى في ختام آية البحث (لعلكم تتقون).
الثامن: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الناس إعبدوا ربكم الذي جعل لكم الأرض فراشاً) بلحاظ أن كل نعمة من الله عز وجل وحدها تستحق الإقبال بشوق على العبادة.
الثاني: يا أيها الناس إعبدوا ربكم الذي جعل لكم السماء بناء) ولا أحد يدرك النعم العظيمة في جعل السماء سقفاً وبناء وصرحاً تعجز العلوم عن درك أسراره.
الثالث: يا أيها الناس إعبدوا ربكم الذي أنزل من السماء ماء.
الرابع: يا أيها الناس إعبدوا ربكم الذي أخرج بالماء من الثمرات رزقاً لكم.
الخامس: يا أيها الناس إعبدوا ربكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون.
السادس: يا أيها الناس إعبدوا ربكم وأنتم تعلمون).
قوله تعالى [وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]
المراد من الآية مسائل:
الأولى : أي الأمم والأقوام التي سبقت المسلمين، جاء ذكرهم هنا لبيان عظيم قدرة الله تعالى واتصالها دائماً.
الثانية : التذكير بإنقطاع الحياة والإعتبار من الأمم السالفة وإنقراضها وإندراس آثارها لتكون قصصهم وأخبارهم موعظة للناس وحثاً لهم على تلمس طرق النجاة.
الثالثة : نفي أقوال الدهرية ونحوهم.
الرابعة : التمييز بين العلة الفاعلية التي صار الإنسان بها وهي مشيئة الله تعالى، والعلة المادية التي تكون داخلة فيه ووجوب الشيء والفرع معها بالقوة كالأبوة.
الخامسة : بيان عظيم قدرة الله تعالى والربوبية الطـــولية لكل الأجـــيال المتقدمـــة واللاحقة وليس فقط الربوبية العـــرضـــية في زمـان واحد.
السادسة : منع الشرك وعبادة الآباء، ومهاجمة وإماتة الأساطير التي تحاول تأليه الآباء.
السابعة :[ مِنْ قَبْلِكُمْ ] أعم من الآباء، فالآية تقسم الموجودات الى قسمين، واجب الوجود، وممكنات.
الثامنة:الفضل الإلهي على الإنسان متصل ودائم، ولم ينحصر بالولادة وإســـتدامة الحياة، وخلق الله تعالى لآدم نعمــة على كل إنســـان لأن الله عز وجــل جعله سبباً مادياً لإيجاد البشر بالنسل والتكاثر.
بحث كلامي
من أسماء الله تعالى “الخالق” ولا تأتي هذه الصفة محلاة بالألف واللام إلا لله عز وجل، وفي معنى الخلق أقوال:
الأول : انه الإيجــاد والإنشاء , وهو مشهور المتكلمين وعلماء المسلمين عامة.
الثاني : التقدير.
الثالث : الإيجاد او التقدير.
وقال ابن الأنباري : الخلق في كلام العرب على وجهين : أحدهما الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر التقدير.
والاصح المعنى الأعم أن الخلق هو الإنشاء والإيجاد وهو أقوى حجة ودلالة على بديع صنعه وعظيم خلقه، فالإيجاد أعلى مرتبة من التقدير، سواء كان اصل الكلمة التقدير او لا، فالمعنى الإصطلاحي للخلق هو الإيجاد والإنشاء من العدم، أما التقدير فهو معنى ثان للخلق يعرف بالقرائن كما في عمومات قوله تعالى [ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ).
وحتى هذه الآية يمكن التفكيك في موضوعها بحسب الواقع والوجدان والشواهد، فنقول : ان الله تعالى أحسن الخالقين لأنه يوجد الشيء من العدم، وان غيره يقدر ضمن خلقه سبحانه، وان [ أَحْسَنُ ] أفعل تفضيل طولي وعرضي مطلق، والحسن في المقام يتجلى الرتبة والموضوع والماهية وأصل الخلق.
ان خلق الانسان لا يتصور إلا على نحو الإيجاد من العدم وليس التقدير فقط، والتقدير صفة سـابقة للخلق والإيجاد، أي أن الخلــق عنوان جامع وكلي مشكك يجمع الإيجاد والتقدير، فالله عز وجل خلق الإنسان وجعله في أحسن صورة ، ورزقه العقل والحياة وتعاهد أحواله المختلفة، والأصل فيه الإيجاد من العدم، وهذا يدل على عظيم صنع الله تعالى وان رحمته وفضله وأسباب الخلق مستديمة على الإنسان مدة حياته.
تفسير قوله تعالى [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] فيها عدة معان :
الأول: عسى ان تبلغوا منازل التقوى بتعاهدكم وجوه العبادة.
الثاني: الخضوع والتذلل لله تعالى سبيل للوصول لمقامات التقوى وان الذين عبدوا الله من المليين في الأمم السالفة قد بلغوا تلك المنزلة ونالوا عظيم الثواب.
الثالث: عسى ان تكون عبادة الله تعالى رادعاً عن المعاصي وحاجزاً عن إرتكاب الفواحش هذا على القول بان التقوى تعني إتقاء جميع معاصيه تعالى.
الرابع: عبادة الله تعالى رمز الإيمان وطريق مباركة للتخلص من النفاق والرياء والريبة، ومدخل للإلتزام التـــام والدائم بأحكـــام الشـــريعة وورد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {اتقوا الله حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى( ).
الخامس: قد ترى بعض الناس يبدأ رحلــة العبادة بأداء فريضـــة او نســك او مستحب ثم لا يلبث ان يهجر السيئات ويقبل على أداء الفرائض الأخرى ويعود ليواظب على قضـــاء ما فاته منهـا تقصيراً.
السادس: العبادة باب لإيجاد وترسيخ الإرادة الواعية في طاعته تعالى والإقبال على وجوه المجاهدة في الله وموارد التقوى.
السابع: لعلكم بإتيان الفرائض تُوقون النار، وتنجون من العذاب الأخروي.
الثامن: قد تأتي (لعل) بمعنى كي واحتمال ترجيح متعلقها، قال ابن منظور في لعل (وهي كلمة رجاء وطمع وشك، وقد جاءت في القرآن بمعنى كي)( ) فإتخاذ الناس العبادة منهجاً وسلوكاً هو السبيل الى التقوى وهو الدليل على خشيتهم الله عز وجل وإلتزامهم بالمواظبة على ذكره وتعاهدهم للشكر والثناء والتمجيد لمقام الربوبية .
ان الآية الكريمة هداية لمنازل التقوى وإرشـــاد للناس وتعليم سماوي لهم في تفاصيل أعمالهم اليومــية وضــرورة إستثمار شطر منها في عبادته تعـــالى وأحتـج بالآية بعدم إستحقاق العبد للثواب على العبادة لأنها الواجب، ولكن الأمــر بالعبادة أعم من مسألة الثواب، وقيم السماء تختلف عن الضــوابط التي تجعلها عقول البشر وفق مداركهم الضيقة تصوراً وموضوعاً ، لذا جعـل الله سبحانه الصراع قائماً في النفس الإنسانية كي يثاب الإنسان على قهره للهوى والكدورات الظلمانية والنفس البهيمية.
بحث بلاغي
من أساليب البيان (التغليب) بأن يعطـــى حكم شـــيء لغيره وإتـحادهما بلفظة جامعة، ومن أنواعه تغليب المتكلم على المخاطب،
والمخاطب على الغائب، وذكرت هذه الآيـــة من الشـواهد، وان الخطاب في [لَعَلَّكُمْ] متعلق بقوله [خَلَقَكُمْ] لا بقوله [اعْبُدُوا] حتى يختص بالناس المخاطبين، وليس التقدير (اعبدوا الله لعلكم تتقون) وظاهر الخطـــاب عام وفيه دلالــة على ان التقـــوى مرتبـــة رفيعة تحتاج الإجتهاد في العبادة والصلاح, وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )،وفيه وجوه:
الأول : خلقكم الله لعلكم تتقون ، ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، فتأتي العبادة لتكون شاهداً على بلوغ مرتبة التقوى.
الثاني : إن الله تعالى هو الذي خلقكم، فاعبدوه لعلكم بالعبادة تتقونه وتخشونه.
الثالث : الله تعالى رب الناس جميعاً فيجب أن يعبدوه ، لذا جاءت الآية بقوله تعالى [اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] وتقدير الآية: أعبدوا ربكم لعلكم تتقون.
الرابع : تأكيد قانون بالإرادة التكوينية وهو أن دوام الحياة الدنيا يتقوم بالتقوى والخشية من الله عز وجل , وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ).
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية وفيها مسائل:
الأولى : حث الإنسان على إستثمار الدنيا بأداء السنن وعمل الصالحات .
الثانية : إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة بالعبادة التي هي واقية من السيئات .
الثالثة : التقوى برزخ دون إرتكاب الذنوب.

قوله تعالى[الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] الآية 22.

الإعراب واللغة
الذي اسم موصول في محل نصب صفة ثابتة لربكم، جعل: فعل ماض، وفاعل جعل مستتر تقديره هو .
والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
لكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
الأرض: مفعول جعل الأول، فراشاً: مفعول به ثان منصوب بالفتحة.
السماء: معطوف على الأرض.
بناء: معطوف على (فراشاً).
وأنزل: الواو: حرف عطف، أنزل: عطف على قوله جعل.
من السماء: جار ومجرور متعلقان بأنزل.
ماء: مفعول أنزل، فاخرج: عطف على أنزل.
به: جار ومجرور متعلقان بأخرج.
من الثمرات: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
رزقاً: مفعول به، لكم: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف صفة ثانية لرزقاً.
فلا: الفاء تعليلية، لا: ناهية، تجعلوا: فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون، الواو: فاعل.
لله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف في موضع المفعول الثاني لتجعلوا، أنداداً: مفعول به أول لتجعلوا.
وأنتم: الواو: حالية، أنتم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، تعلمون: فعل مضارع، وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر أنتم.
جعل من أفعال القلوب أي ظن وإعتقد ، كما في قوله تعالى [ وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ]( )، ويأتي بمعنى التحويل والتصيير، قال تعالى[ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَملٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا]( ).
ومن أفعال التصيير جعل وترك وإتخذ .
وقد يتعدى جعل إلى مفعولين كما في الآية الكريمة، وقد يتعدى إلى مفعول واحد عندما يأتي بمعنى صنع، نحو قوله تعالى [ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ]( ).
والأنداد: جمع ند وهو المثل والنظير، وعن الهمداني في كتاب الألفاظ: الأنداد والأضداد والأكّفاء والنظــراء والأشباه والأقران والأمثال والأشكال نظائر .
وعن الأخفش: الضد والشبه)( ).
وتساعد هذه الأقوال في تقريب المعنى، وللند خصوصية تتعلق بالكفاءة والأهلية، وليس من ند لله تعالى، وفي الدعاء: (وكفرت بكل ند يدعى من دون الله).
في سياق الآيات
بعد الدعوة العامة إلى عبادة الله وحده جاءت هذه الآية لبيان إســتحقاقه تعالى للعبادة وحقه على الناس في وجوب عبادته لأن الشــكر لما ســخّره الله تعالى لهم لا يتجسد بأدنى مراتبه إلا بالعبادة وحسن الطاعة ونبذ الشريك.
بعد أن جاءت الآيات قبل السابقة بذم المنافقين، وبيان خصالهم القبيحة جاءت هذه الآية لتبين الحجة والبرهان في وجوب عبادة الله تعالى، ونبذ النفاق والشرك.
لقد أراد الله تعالى للآية القرآنية أن تكون سيفاً قاطعاً موجهاًًً لأعداء الإسلام، ومن خصائص هذا السيف أنه لا يؤدي وظيفة البتر والقطع وحدها بل إنه دعوة للإيمان والصلاح والإصلاح.
فقد يتوب المنافق والكافر بسماع الآية القرآنية، ويتخذها ضياء يستنير به، وسلاحاً لمحاربة أعداء الإسلام وجذبهم لمنازل الإيمان واذ جاءت الآية بذم المنافقين بلجوئهم إلى رؤساء الكفر وركونهم إليهم، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ]( ).
فقد جاءت هذه الآية لتخبر الناس بوجوب عبادة الله والإمتثال لأوامره وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتخلص من براثن الكفر والضلالة.
وإذ جاءت الآية السابقة ببيان لزوم عبادة الله ذكرت هذه الآية بديع صنع الله عزوجل، وعظيم فضله على الناس جميعاً، ومنع الناس من إثارة أسباب الشك والريب.

وصلة هذه الآية بالآية التالية على وجوه:
الأول: بيان الملازمة بين عبادة الله والتصديق بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فبعد أن ذكرت الآية السابقة وآية البحث وجوب عبادة الله عز وجل، وبيان نعمة العظيمة والتي لا يقدر عليها غيره.
جاءت هذه الآية بالتحدي للكفار والناس جميعاً بخصوص إعجاز القرآن، ودلالات نزوله من عند الله.
الثاني: إبتدأت الآية التالية بحرف العطف الواو (وإن كنتم) لبيان حقائق منها:
الأولى: نزول القرآن حجة وبرهان على وجوب عبادة الله.
الثانية: لزوم عدم التفكيك بين طاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالثة: ليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نزول القرآن إلا عبادة الله، والإخلاص فيها، فلم يتخذ نزوله للدنيا ومنافعها.
الرابعة: حكمة الله عز وجل في إعجاز القرآن وتخلف الناس مجتمعين ومتفرقين عن الإتيان بسورة واحدة مثله.
الثالث: لما جاءت الآية السابقة بالأمر بعبادة الله، وصفت هذه الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عبد الله، وفيه مسائل:
الأولى: النبي محمد إمام العابدين.
الثانية: دعوة الناس لإقتباس وأخذ سنن العبادة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقد ورد عنه : صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
الثالثة: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس للنجاة والتوقي من الشرك والضلالة.
إعجاز الآية
في الآية تعداد لعظيم النعم الإلهية، وإخبار عن توالي النعم وإستمرار الحياة الدنيا بمباهجها بالعبادة والتقوى إلى الأجل الذي يشاء سبحانه، ومع أن عبادة الله تعالى واجب ولو شاء سبحانه لأخذ الناس عليها كرهاً إلا أنك تجد صيغة الود واللطف وحسن البيان والإتيان بالمصداق الحسي القريب.
ووصف السماء بالبناء إعجاز وإخبار عما فيها من الكنوز والأسرار والإنشاء، وهو دعوة للسياحة في أسرار الفضاء بسلطان العلم والتدبر، والإنتفاع الأمثل من الكواكب وما فيها من الأسرار.
ويمكن تسمية الآية بآية ( الأَرْضَ فِرَاشًا) ولم يرد لفظ الأرض فراشاً في القرآن الا في هذه الآية، وكذا قوله تعالى [وَالسَّمَاءَ بِنَاءً] وقوله تعالى [فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا].
ومع بيان الآية للآيات والبينات الكونية فانها تتضمن الإنذار والزجر عن إتخاذ شركاء لله، وتؤكد قبح الشرك، وتدل بالدلالة التضمنية على قبحه بالذات، بالإضافة إلى الحجة في وجوب تركه وإجتنابه لأن الله عزوجل جعل الإنسان يعلم وجوب عبادة الله، وضرر الشرك على النفس والغير.
الآية سلاح
في الآية تثبيت لقلوب المؤمنين وكشف لحقائق تدل على حسن إختيارهم وإنحصار حكم العقل بهذا الطريق من خلال الشواهد الظاهرة والآيات المتكررة.
وفيها تأديب للمسلمين وإرشاد إلى الإلتفات للآيات الكونية، والنعم المتوالية التي لا يمكن تحصيلها إلا بفضل الله تعالى، والآية تساعد على تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين وتمنحهم موضوعاً لمواجهة اهل الشك والريب.
وفي الآية حجة وبرهان على وجوب عبادة الله، وإجتناب النفاق، وإخبار بأن العبادة تأتي شكراً لله تعالى على النعم العامة التي أنعم بها على الناس جميعاً ومنها إتخاذهم الأرض سكناً وجعل السماء سقفاً ومحلاً للكواكب، وأنه سبحانه أنزل المطر من السماء لينتفع منه البر والفاجر، والمسلم والكافر باعتبارهم خلق الله يتغشاهم برحمته.
والآية دعوة للإسلام بالبرهان الحسي القريب، والآية الكونية الظاهرة للناس جميعاً، وهي حرب على الشرك والكفر لما فيها من الإخبار عن كون الأرض والسماء وما فيهما من بديع خلق الله تعالى، وتتضمن الآية النهي عن عبادة الكواكب والنجوم، وعن إتباع رؤساء الكفر والشرك.
الآية لطف
من نعم الله عز وجل على الناس ذكر شطر من نعمه تعالى عليهم، وهذا الذكر باب للصلاح ووسيلة للهداية وحجة على الناس في الدنيا والآخرة ويأمر الله الناس بذكر وإستحضار نعمه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
وجاءت الآية بذكر آيات كونية بإعتبار أن كل آية نعمة على الناس جميعاً، وذكرت الآية بسط الأرض وهذا البسط لا يتعارض مع كونها كروية بل هو آية إعجازية أخرى في القرآن، فمع كونها كروية فان الله عز وجل جعلها منبسطة للناس كالفراش، وتقدير الآية: الذي جعل لكم الأرض فراشاً مع كونها كروية.
فإثبات العلماء كروية الأرض حجة وشاهد على بديع صنع الله عز وجل للتناقض والتضاد بين الإنبساط والشكل الكروي، ولكنها من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وتتعلق الكروية بجملة ومجموع الأرض على سعتها، وليس قسماً منها.
لقد تفضل الله عز وجل وندب الناس إلى عبادته بلغة البرهان والإحتجاج مع الإنذار الذي يتجلى بقوله تعالى [فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا] وتوكيد مضامين الآية من الخلق والجعل، ونزول المطر، وخروج الثمرات، وإتصال الرزق وعدم جواز الشرك بالله بخاتمة الآية، والإخبار عن علم الناس بهذه الحقائق، وهذا العلم من وجوه:
الأول: ما جاء به الأنبياء السابقون.
الثاني: نزول الكتب السماوية بذكر النعم الإلهية.
الثالث: الدلائل العقلية والوجدانية والحسية.
تبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين، وتدعو الناس إلى الإيمان بالدليل الحسي والحجة والبرهان، لقد خلق الله الإنسان وجعله محتاجاً، والحاجة ملازمة للإمكان ، فلا يستطيع الإنسان الخروج عن قيد الحاجة، وهذا القيد نفع للإنسان وبرزخ دون الإستكبار والغرور، ووسيلة لجذبه لمنازل التقوى والصلاح[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
ومن الآيات عدم إنحصار وتقييد حاجة الإنسان في ماهيتها وأفرادها ومصاديقها، وجاءت هذه الآية للتذكير بشطر منها لتكون من المنّ الإلهي على الناس، وهذا المنّ رحمة بهم ودعوة للشكر له تعالى على النعم، وحرب على النفاق والكفر.
فاذا لم يتعظ المنافقون من الآيات السابقة وما فيها من التوبيخ والإنذار او الوعيد لهم، جاءت هذه الآية خطاباً للناس عامة ومنهم أهل المعصية والنفاق والجحود لدعوتهم للكف عن المعاصي والقبائح والسيئات لوجوب شكر الله تعالى على النعم، ويتجلى الشكر بعبادته سبحانه والإمتثال لأوامره، والتصديق بالأنبياء والكتب التي أنزلها.
فالله سبحانه أنزل من السماء ماء وكتباً، اما الماء فلحاجات البدن في الدنيا، واما الكتب فلحاجة الروح وبيان وظائف الإنسان، وما الحياة الدنيا وحاجات البدن فيها إلا مزرعة ووسيلة للآخرة.
ليستبين لنا قانون في الإرادة التكوينية وهو أن نزول المطر مناسبة للأخذ بالتنزيل وما فيه من الأحكام، والدنيا مقدمة وطريق للآخرة.
لذا جاءت الآية بالتحذير من إتخاذ الشركاء، والتوكيد عن علم الناس بوجوب عبادة الله والإقرار بان النعم منه سبحانه، وإذا كان الماء النازل تنتج عنه ثمرات تخرج من الأرض، فان التنزيل يوجد المؤمنين الذين يعمرون الأرض بالعبادة والتقوى، وليكونوا حفظة لأحكام الشريعة، وسبباً لدوام النعم في الأرض.
وبعد مجئ الآيات السابقة بإنذار المنافقين وبيان قبح فعلهم، إنتقلت هذه الآية إلى خطاب الناس جميعاً وهي من الإلتفات بالمعنى البلاغي إلا أنها لم تبتعد عن مضامين الآيات السابقة وما فيها من لغة الإنذار والوعيد.
ومن إعجاز القرآن بأن يحصل الإلتفات من الجملة الخبرية المتعلقة بشطر من الناس، إلى الجملة الإنشائية الشاملة للناس جميعاً مع وجود الصلة والملازمة بينهما .
وتتضمن هذه الآية في مفهومها ذات اللغة التي تضمنتها الآيات السابقة من الإنذار والوعيد والتخويف وفيها إكرام للإنسان مطلقاً، وبيان عن لطف الله تعالى بالناس على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
فمع صدود وإعراض الكفار والمنافقين عن الآيات فإنها تتوجه إليهم بحجة أخرى لبيان قانون ثابت وهو ان الحجج الإلهية من اللامنتهي، والآية مدرسة في الدعوة الى الله تعالى، وفي التنزيل [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
فعندما يصر المنافق والكافر على المعصية والعناد تأتيه الآيات باللطف والدعوة العامة للناس جميعاً بما هو حق وصدق ليقوم بوظيفته كإنسان ومخلوق لله تعالى، قال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتدل هذه الآيات على أن الله عزوجل يقرب الناس للعبادة ويهديهم إلى سبلها، ويساعدهم على أدائها.
مفهوم الآية
الآية بيان وتعليل مناسب لمدارك عقولنا للزوم عبادته تعالى وحصرها به سبحانه إلهاً وخالقــاً ان ذكر آيات الخلق تذكير للناس جميعاً ببديع صـــنعه تعالى، وحث على التدبر بعظمتها لتكون باباً للمعرفة الإلهية.
وتحذر الآية بالحجـــة والبرهان الكافـــرين من العتق والجحود وفيها وعيد وتخويف لهم فكيف يستهزءون بمن يؤمن بالله رب العالمين الذي خلقهم والكائنات جميعاً، ومن مفاهيــمها انها دعوة للمسلمين للشكر له سبحانه على عظيم النعم، ومنها نعمـــة الهداية التي لا تقل رتبة عن نعمة الخلق.
وتؤكد الآية حاجة الإنسان لأنه ممكن، والحاجة ملازمة للإمكان، وتبين الخلق البديع للكون، وتجعل الإنسان يفكر بمفاهيم الخلق، فلو لم تكن الأرض ملائمة للعيش والسكن عليها لتعذرت إستدامة الحياة، ولو كانت الريح شديدة او الرطوبة مرتفعة لأزدادت الأمراض وقلّ معدل عمر الإنسان وكان مانعاً من حصول التوبة لكثير من الناس لأن الإنسان كلما تقدم به العمر مال الى التدبر في الآيات وفكّر في الرجوع إلى واجباته العبادية وإتجه بصدق إلى الإنابة والتوبة، ولو أجريت إحصائية في نسبة أعمار التائبين لرأيت أكثر التائبين من ذوي الأعمار المتقدمة، وهو سر من أسرار الإمهال في الحياة الدنيا، ووجه من وجوه الرأفة الإلهية على الناس عامة، وعلى الذي يمد الله في عمره خاصة، وحجة على من تدركه التوبة، وينتفع من الإمهال وطول العمر.
وبينت الآية المنافع الخاصة لكل من الأرض والسماء، فالأرض سكن وفراش وموطن للإقامة، والسماء سقف وكواكب وفيها الشمس والقمر كما ذكرت الآية ما يتولد من التداخل والإشتراك بين السماء والأرض، وأنهما سخرا لنفع الإنسان على وجوه:
الأول: المنافع الخاصة من الأرض وكنوزها.
الثاني: الفوائد الخاصة من السماء وعروشها.
الثالث: المنافع المترشحة عنهما معاً.
ينزل المطر من السماء فتجيبها الأرض بالخيرات والثمار والحبوب، لتكون مثلاً للزوم إستجابة الإنسان لآيات القرآن النازلة ولزوم العبادة، وأداء الفرائض فهي كالثمار كما أنها سبب لدوام ما تنبت الأرض، قال تعالى[تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ]( ).
وفي الآية توكيد على وجوب عبادة الله تعالى، وأنه تعالى جعل النعم تترى على الناس بالإضافة إلى خلقه لهم، ومن هذه النعم:
الأولى: تفضل الله ببسط الأرض للناس وجعلها مهيأة للزراعة والسكن والتنقل وتلقي ماء المطر بما ينفع الناس، فلو لم تكن منبسطة لتعذرت الزراعة والسقي، وإنشغل الإنسان بمحاولة إصلاح قليل منها، وإلى هذا الزمان ترى الإنسان يحجم عن الإنتفاع من الجبال في مشاريع السكن والنقل ونحوهما.
الثانية: تفضل الله عز وجل بجعل السماء سقفاً مبنياً.
الثالثة: من نعم الله عز وجل نزول المطر، ونمو الأشجار والثمار والحبوب، ومع ان المطر نعمة متصلة دائمة إلا أن الآية وردت بصيغة الفعل الماضي، وفيه وجوه:
الأول: إرادة إقامة الحجة والبرهان بالفعل الماضي الذي يدل على الوقوع والإمضاء والثبوت.
الثاني: تعلقت الآية بخروج الثمرات مما يدل على إرادة المطر النازل قبله في بيان لكونه العلة السببية لخروج الثمرات.
الثالث: لعل في الآية إشارة الى أصل الماء وانه نازل من السماء الى الأرض بدليل قوله تعالى [وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ]( )، ليكون الماء سبباً لإستدامة الحياة وتكّون الغيوم ونزول الأمطار بتصاعد الأبخرة من الأرض، إلا أن يكون نزوله أول مرة دفعة واحدة أو دفعات ويمكن أن يستقرأ هذا المعنى من قوله تعالى [وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً]( )، وألقى الشيء طرحه( ) .
ويمكن أن يكون المراد نزول الأمره الإلهي لقوله[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الرابعة: تفضل الله تعالى بتعاهد الناس في حياتهم بالرزق الكريم، ويحتمل تعلق الرزق في الآية وجهين:
الأول: إنه خاص بالثمرات، وهي المقصودة بقوله تعالى “رزقاً لكم”.
الثاني: المراد نزول المطر والثمرات، وكل فرد منها رزق من الله، كما أن إجتماعهما رزق كريم.
الخامسة: التحذير والنهي عن الشرك بالله عز وجل، فالله عز وجل هو الخالق والرازق والمنعم فمن باب الشكر له تعالى إخلاص عبادته، وإجتناب الشرك به , وفي التنزيل[الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ].
السادسة: إختتام الآية بتوكيد قبح الشرك , وعجز الأنداد عن نفع الإنسان، والإخبار عن علم الناس بان الرزق والنعم كلها من عند الله عز وجل ، فمع وجود المقتضي وفقد المانع فلابد من عبادة الله عز وجل وعدم الشرك به.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الإخبار عن إنبساط الأرض لتكون فراشاً للناس، وفيه دلالة على أن الأرض كلها ملك لله تعالى، وتفضل الله سبحانه وسخّرها للناس جميعاً.
الثانية: لم تنحصر نعم الله بالأرض وما تحت أقدام الناس وما يتخذونه سكناً بل تفضل وجعلهم والأرض تحت سقف واحد ليكون عنواناً للوحدة والألفة، ووسيلة للإتعاظ والإعتبار والإجتهاد في عبادته سبحانه.
الثالثة: الحياة الدنيا بذاتها رحمة ونعمة، والله سبحانه لم يخلق شيئاً ليس فيه نفع للناس والخلائق.
الرابعة: تساهم الآية في تفقه المسلمين، وإرتقائهم في سلم المعارف الإلهية.
الخامسة: ذكرت الآية عدة نعم هي:
الأول: جعل الله تعالى الأرض فراشاً للناس .
الثاني: جعل السماء سقفاً وبناء.
الثالث: نزول المطر من السماء رحمة من الله تعالى بالناس، وهو عنوان إستدامة الحياة، وشاهد على أن الله عزوجل لم يترك الناس وشأنهم بعد أن خلقهم، بل رزقهم من فضله.
الرابع: في ذكر الماء النازل من السماء بيان لوظائف أخرى للسماء والأرض ومنافع عظيمة لها وللناس معاً، فالسماء ينزل منها الماء، وتخرج الأرض كنوزها والطيبات من الرزق، قال تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] ( ).
الخامس: جاء ذكر إخراج الثمرات بصيغة الماضي لبيان النعم الإلهية، والتذكير بها بالحواس الخمسة.
وهل في الآية وصيغة الماضي فيها إنذار للمنافقين والكفار بحجب نزول الماء من السماء عنهم، وعدم إخراج الثمرات مستقبلاً ان لم يطيعوا الأمر الإلهي بعبادته الجواب لا، من وجوه منها:
الأول: جاءت الآية بالخطاب إلى الناس جميعاً.
الثاني: من فضل الله تعالى أنه إذا أنزل نعمة على أهل الأرض فإنه لا يرفعها.
الثالث: من اللطف الإلهي أن الله سبحانه ضمن لعباده الرزق، ونهى عن قتل الأولاد، ووعد الناس بالرزق والفضل العظيم، قال سبحانه[قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ]( ).
السادسة: تتضمن الآية التحذير والوعيد على الشرك وبيان مخالفته لأمر الله، وإدراك العقل والوجدان والحواس، فما دام كل شئ عند الإنسان من الله تعالى فان الشرك ظلم للنفس والغير.
السابعة: تتحدى الآية الكفار والمشركين الذين يتخذون أنداداً من دون الله تعالى، لأن الشركاء والأنداد عاجزون عن نفع أنفسهم أو نفع غيرهم.
الثامنة: تدعو الآية الناس إلى الإستغناء بالتوجه إلى الله، وتحثهم على اللجوء إليه سبحانه، وهو الرزاق ذو القوة المتين.
وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الشرطية ولغة الإنكار والتوبيخ للذين يثيرون الشكوك في مسألة نزول القرآن من عند الله، ليدل في مفهومه على الثناء على المسلمين الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقوا بنزول القرآن، وقد ورد لفظ(شك) خمس عشرة مرة في القرآن، وفيها مسائل:
الأولى: جاءت كلها بصيغة الاسم (شك) , ولم ترد بصيغة الفعل بأقسامه الثلاثة.
الثانية: وردت كلها بلغة المفرد، ولم يرد أي منها بصيغة الجمع(شكوك).
الثالثة: ليس فيها تعريف بالألف واللام، سواء لإرادة الإستغراق أو العهد.
الرابعة: جاءت كلها في ذم الكفار والمشركين، نعم ورد قوله تعالى[فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ]( ).
والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد غيره من الناس، وورد في الآية(عن ابن عباس: لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل)( ).
إفاضات الآية
تعتبر الآية من مصاديق اللطف الإلهي، وتفضل الله بتقريب العباد إلى طاعته وجعلهم مواظبين على المناسك، وتخبر عن إستدامة عنايته وتعاهده للخلائق، وأنه لم يخلق الإنسان ويتركه وشأنه، بل أمده بالرزق الكريم المتجدد، وجعل في كل فرد منه آية تذكره بحاجته إلى واجب الوجود ولزوم طاعته تعالى.
وتمنع الآية من عبادة الكواكب والأوثان ونحوها لما فيها من التوكيد على التقائها جميعاً في المخلوقية وانها من بديع صنع الله تعالى وتلك المخلوقات مسخرة للإنسان فكيف يعبد الإنسان ما هو مسخر لنفعه ومصلحته.
الصلة بين أول وآخر الآية
بعد مجيء الآية السابقة بالأمر الإلهي بعبادته سبحانه وبيان خلقه للناس إبتدأت هذه الآية بالاسم الموصول (الذي) العائد لله تعالى، ويحتمل تعلقه بتقدير وجهين:
الأول: أعبدوا ربكم الذي جعل لكم الأرض فراشاً.
الثاني: لعلكم تتقون الله الذي جعل لكم الأرض فراشاً.
وكلا الوجهين صحيح وفيه دعوة للإيمان، ويأتي الإعجاز في نظم الآية من وجوه:
الأول: ذكر صفات الله تعالى.
الثاني: بيان لصفات فعلية ومصاديق من قدرة الله عز وجل.
الثالث: ذكر شطر من النعم الإلهية على الناس وهي :
الأولى: تفضل الله بخلق الأرض وجعلها مستقراً وبساطاً للناس، تتصف بالسكون لتبقى مسخرة للإنسان.
الثانية: ان الله عزوجل جعل السماء سقفاً مرفوعاً، وبناء من غير عمد، وفي الآية إشارة إلى إمكان إنتفاع الإنسان من السماء كبناء وصرح عال ليأتي غزو الإنسان للفضاء مقدمة ومصداقاً لهذه الآية ، لتتجلى في الأجيال القادمة علوم مستحدثة ينتفع معها الإنسان من السماء كبناء وكنوز متعددة، قال تعالى[يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( ).
الثالثة: نعمة نزول الماء من السماء، وهو حاجة لإستدامة حياة الإنسان والحيوان والنبات.
الرابعة: نمو الإشجار والمزروعات بالماء كضرورة وحاجة لها.
الخامسة: ان النباتات والفواكه والثمار رزق من الله عز وجل للناس جميعاً.
وفيه دعوة للناس للإنتفاع من كنوز الأرض الزراعية، وإدراك حقيقة وهي أن النباتات والإشجار فضل ونعمة من عند الله، وليس من جهد وسعي وقدرة الإنسان لأنه تعالى ذكر علتها وهي الماء الذي ينزل بنعمة وفضل من عنده، كما أن نزول الماء من السماء ليس علة تامة لخروج ونمو النباتات، بل أن خروجها ونمو الثمار والزراعات منها إشارة إلى البركات النازلة من السماء والخيرات الموجودة في الكواكب.
ومن الآيات أن القرآن وهو النعمة العظمى نازل من السماء، ولم تقذف آياته وسوره في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قذفاً , بل أن جبرئيل عليه السلام نزل بها من السماء بأمر من الله تعالى , وبأمانة ملكوتية إستحق معها صفة الأمين، قال تعالى[وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ).
ومن الآيات أن النعم التي ذكرتها هذه الآية عامة ومطلقة وإنتفعت منها الأمم السابقة أيضاً لتكون شاهداً على الصلة بين هذه الآية والآية السابقة من وجوه:
الأول: لزوم عبادة الله تعالى شكراً له تعالى على فضله ونعمه المتصلة.
الثاني: خلق الله تعالى للناس جميعاً.
الثالث: إنتفاع الأجيال المتعاقبة من النعم الأرضية والسماوية.
الرابع: حاجة الناس إلى الله تعالى ورحمته إبتداء وإستدامة وعاقبة، ويدل عليه قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].
الخامٍس: إبتدأت الآية السابقة بالأمر بعبادة الله( ) على نحو الوجوب الإستغراقي وأختتمت هذه الآية بالنهي عن الشرك والضلالة.
ومن الاعجاز في القرآن وتجلي الدعوة وبلاغة الحجة فيه مجئ النهي عن الشرك بعد ذكر النعم الإلهية على الناس، وحثهم على التقوى وبيان مصاديق الخضوع والخشوع لله تعالى.
وتتصف مضامين الآية الكريمة بأنها لطف محض، ودعوة للإيمان، ومخاطبة للعقول، ودعوة للمسلمين لإتخاذها سلاحاً في جذب الناس للإيمان، وترك منازل الشرك والإقامة على الضلالة.
التفسير الذاتي
بعد أن أمرت الآية السابقة الناس جميعاً رجالاً ونساءً بعبادة الله عز وجل وهو رب العالمين، جاءت هذه الآية لتوكيد الأمر التكليفي الوارد في الآية السابقة ببيان النعم الإلهية العظيمة على الناس، وأن الله سبحانه سخّر الأرض والسماء وما فيهما من الكنوز لمنفعة الناس.
ولم يأت لفظ (فراشاً) بصيغة المفرد سواء بالنصب أوالرفع او الجر إلا في هذه الآية لبيان سعة فضل الله عز وجل، وانه جعل للناس فراشاً لو إجتمعت الأجيال المتعاقبة في زمان واحد لوسعهم من غير تزاحم بينهم أو حاجة للبناء العمودي، وهو من الشواهد على سعة الجنة، وإستيعابها لأهل الإيمان من أجيال أهل الأرض .
فقد ذكر القرآن عرضها دون الطول الذي هو الفرد الأطول قال تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
وجاء وصف السماء بناء للإشارة إلى الفضاء والسعة الإضافية في فضل الله على الناس، وقد جاء لفظ (بناء) مرتين في القرآن، كلاهما في السماء، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً] ( ).
وتبين النعم التي جاءت بها هذه الآية الصلة والتداخل بين السماء والأرض من جهة إنتفاع الإنسان بها، ليكون هذا النفع على وجوه:
الأول: الإنتفاع مما في الأرض من الكنوز.
الثاني: النفع العام من سطح الأرض، والإستقرار فيها وإتخاذه سكناً، وقد ورد وصفها بالقرآن بانها بساط (والأرض بساطاً) ( ).
الثالث: السماء واقية وستر وأمن للناس وهي سقف مرفوع.
الرابع: خروج الثمرات كنفع من إجتماع وعطاء السماء والأرض معاً، فالسماء تنزل الماء والمطر، وتستقبله الأرض بإخراج الثمرات غذاءً للناس، كي تشترك السماء والأرض في إستدامة الحياة، وأسباب عبادة الله في الأرض.
وقد فاز المسلمون بأن نزل الملائكة من السماء لنصرتهم وإعانتهم في معارك الإسلام الأولى، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، وتحتمل الثمار التي تخرج من الأرض وجوهاً:
الأول: إنها رزق للناس كافة.
الثاني: إنها رزق كريم للمؤمنين في أجيالهم المتعاقبة على نحو الخصوص.
الثالث: هي رزق للإنسان والدواب.
وجاءت الآية بالإطلاق وأنها للناس جميعاً وفيه أن الثمار والنباتات من رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا، فان قلت إن الدواب تأكل من الثمار والنباتات، الجواب إن الدواب مسخرة للإنسان ونفعه، فهي وان أكلت من الثمار فستكون هذه الثمار رزقاً للإنسان بالواسطة.
وجاء ذكر نزول المطر بقيد أنه من الله، وأن الله عز وجل هو الذي ينزله لمنع الإفتتان والجحود ونسبة نزول الغيث إلى الأسباب الطبيعية وحدها، بل هي جزء من النظام الكوني العام، وبديع صنع الله عز وجل كما أن السحاب لا تتكون إلا بأمر الله عز وجل قال تعالى [وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ]( ).
ومجئ الآية أعلاه بصيغة الفعل المضارع يدل على إستمرار وتجدد نزول الغيث من السماء، ما دامت السماوات والأرض، ولو قام الإنسان بتسيير السحاب الصناعي بأن يرى سرعة الريح وضياء الشمس ونحوها ويقوم بتبخير الماء من البحار بحيث يسير السحاب إلى جهة مخصوصة، ويخرج الثمر فيها، فهل هو من عمومات هذه الآية الجواب نعم، لأنه رشحة من رشحات النظام البديع في صنع الله عز وجل.
ولم تذكرالآية ما يتم سقيه بالأنهار من الثمار والنباتات لأنها أرادت بيان عظيم قدرة الله عز وجل بذكر الآية العظمى تكون الماء ومجيئه من البحار البعيدة لينزل على الأرض لتخرج كنوزها، وحتى الأنهار فجزء من مائها يأتي من السحاب والأمطار.
وإذ إبتدأت الآية السابقة بأمر الناس بعبادة الله عز وجل، فان هذه الآية جاءت بنهيهم عن الشرك والضلالة ،لتكون العبادة خالصة لله عز وجل وحده.
من غايات الآية
تنمي الآية ملكة التقوى عند المسلمين، وتجعلهم يرتقون في مقامات المعارف الإلهية، وتحث الآية الناس على التدبر في آيات الله والإلتفات إلى الآيات الكونية، وما فيها من الإعجاز وبديع الصنع.
لقد ذكرت الآية النعم التالية :
الأولى : خلق الأرض وجعلها سكناً وفراشاً، وإباحتها للناس جميعاً، وهذه الإباحة مستقرأة من قوله تعالى [جَعَلَ لَكُمْ] بلحاظ الخطاب الوارد في الآية السابقة [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] فمن يولد من الناس يجد فراشه مهيأ له ومعداً له فضلاً من عند الله، ولأن الله سبحانه واسع كريم فان هذا الفراش يتصف بأن لا حد له.
الثانية : نعمة خلق السماء، ومن الإعجاز والدلالات الباهرات وصف الآية للسماء بأنها بناء، وهو شاهد على موضوعية السماء في حياة الناس، وإمكان الإنتفاع العام منها، ويؤكد وصف الأرض بأنها فراش والسماء بناء على عموم الأخوة بين الناس بلحاظ الإشتراك في النعم الإلهية.
وتتضمن الآية الحجة على المنافقين , وهي شاهد على مدح المسلمين والوعد الكريم لعلمهم بدوام النعم ونزول الخير والنفع المحض من السماء، وفيه إشارة الى أن هبوط آدم وحواء من السماء الى الأرض نعمة وبركة وخير بالذات وبالعاقبة للمؤمنين، وهي الإقامة في الجنة.
وتبين الآية موضوعية الآيات الكونية في حياة الناس، فقد لا يلتفت الإنسان إلى تلك النعم، فتأتي هذه الآية لتذكّره بهذه الآيات وما لها من المنافع، وحاجة الإنسان لها في يومه وليله وغذائه وسكنه، ولما جاءت الآية السابقة بدعوة الناس عموماً إلى عبادة الله تعالى تضمنت هذه الآية الآيات والنعم التي تفضل بها الله سبحانه على الناس.
ومن غايات الآية توكيد إنتفاء المقتضي ووجود المانع لإتخاذ الشريك، وحرمة الشرك بالله تعالى، وهذه الحرمة دائمة ومطلقة، وفي ذكرها في القرآن شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى لأنهم يدعون الناس إلى التوحيد، ويتلون آيات الله، ويقرون بالنعم الإلهية ومنها مايكون فوق رؤس الناس, ومنها ما يكون تحت أقدامهم ومنها ما يكون مصاحباً لهم وأمام أبصارهم, وهومن عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (إعبدوا) في القرآن إحدى وعشرين مرة كلها في عبادة الله تعالى منها سبع عشرة مرة بلفظ (أعبدوا الله)، وتحكي دعوة الأنبياء
لقومهم بعبادة الله، ونبذ الشرك ومفاهيم الكفر والجحود , قال تعالى[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ]( ).
وجاء لفظ (أعبدوا ربكم) في آيتين إحداهما هذه الآية التي جاءت خطاباً للناس جميعاً، والثانية خطاباً تشريفياً خاصاً للمسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، وفيه توثيق سماوي للقرآن، وبيان لما يتصف به الناس بعد البعثة النبوية من إنصراف لفظ الرب إلى الله تعالى، وعدم إطلاقه على غير الله، وترى جميع أمم الأرض حتى المشركين لا يقولون بالربوبية المطلقة لغير الله تعالى وإن اتخذوا الأنداد والشركاء.
وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيام بعثته، ودليل على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فبإتباعهم النبي وإيمانهم، وإنقطاعهم إلى عبادة الله تعالى، وجهادهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الناس أحكام الرسالة محو لأثر الشرك والكفر وصيرورة المشركين يمتنعون عن الإجهار بعبادة الأنداد.
فجاءت هذه الآية خطاباً قرآنياً موجهاً إلى الناس جميعاً، بقوله تعالى [اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] وفيه دلالة على التبادر الذهني عند جميع الناس، بأن الرب هو الله تعالى وليس من رب غيره.
وورد على لسان الأنبياء ذات المعنى مع البيان كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم وخطابه لبني إسرائيل [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( )، وفيه زجر عن أمرين:
الأول : التخلف عن التصديق بنبوة عيسى عليه السلام.
الثاني : النهي عن الغلو فيه وإدعاء الربوبية له، إذ أعلن بأنه يشترك معهم في العبودية والرق لله تعالى.
وجاءت آيات القرآن بالوحي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير إشارة إلى الغلو في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات أن هذا الغلو ممتنع ومعدوم عند المسلمين إلى يوم القيامة.
لذا شرّفهم الله عزوجل بالأمر بعبادته، ودعوة الناس بواسطتهم لعبادته، وتقدير الجمع بين الآيتين يفيد [اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ] ( ).
التفسير
بعد ذكر عظيم فضل الله تعالى على الناس بالخلق والتقدير وبداية التكوين ونشوء الجنس البشري وأفراده وحدوث الحياة وتعاقب الأجيال على الأرض، جاءت هذه الآية الكريمة لبيان إحسان الله تعالى في المدد المعاشي والرزق وتهيئة أسباب دوام الحياة لعمار الأرض بالأنظمة الإعجازية العجيبة التي تضمن للناس الحاجات الغذائية والبدنية للناس و التي يفتقرون إليها في حياتهم اليومية.
وظهور الأسباب المتعارفة لتوفير تلك الحاجات في الزراعة ونحوها لا يقلل من إشراقات الإعجاز في المقام، ويجب أن لا ينسينا العناية الإلهية التي تتغشى أهل الأرض جميعاً في هذا الباب الذي يعتبر ضرورياً في حياة كل إنسان، وهو أمر يستوجب العبادة والمواظبة عليها، أي أن إستدامة الرزق طريق للعبادة وموضوع يلح على التقيد بها.
تفسير قوله تعالى [ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا ]
بيان لبعض وظائف الأرض التي أرادها الله عز وجل دار سكن للإنسان مدة الحياة الدنيا، وليس في قــول الفلكيين وعلمـــاء الهيئة بكروية الأرض تعـــارض مع مفهـــوم الآية، فان الواقــع الملموس يؤكد أن الأرض بقطعــها المتصلة تصلح ان تكون بساطاً ومهاداً ومسكناً.
وإستدلال أبي علي الجبائي بالآية الكريمة في بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل غير تام، “عن المحقق فخر الدين في شرح القواعد: الأرض هل هي كروية او مسطحة؟ والأقرب الأول لأن الكـــواكب تطلع في المســـاكن الشــرقية قبل طلوعها في المساكن الغربية وكذا في الغروب”، ويظهر أصل المبحث الصدق العلمي للإسلام في العلوم الكونية.
ومن الاعجاز كروية الأرض العامة وإنبساطها على نحو خاص بالنسبة لكل بلد، والقطع الشاسعة المتجاورة.
وفي الآية بيان لبديع صنع الله تعالى في سهولة الأرض، وعدم وعورتها إجمالاً، وتذكير بفضل الله عز وجل ولطفه بجعلها ملائمة للتصرف بها.
وعن الرضا قال : جعلها ملائمة لطبائعكم، موافقة لأجسادكم ، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون، وتتماسك عليها أبدانكم، وجعل فيها من اللين منا تنقاد به لحرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم( ).
تفسير قوله تعالى [ وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ]
البناء : العمارة والمبني نقيض الهدم، وجاءت السماء معطوفة على الأرض، أي ان السماء جعلها الله عز وجل للناس بناءً فهي كالبيت لأهل الأرض، وبذا يلتقي الناس مرة أخرى بوحدة السكن والبيت، وما فيه من الدلالات الأخلاقية ومضامين الرأفة والود.
فالفراش والسكن الواحد عنوان الرحمة والإلفة، والسماء بناءً مشترك عام، وهو إشتراك بالعرض والزوائد الإعتبارية التي يحتاجها الإنسان في معيشته ودوام الحياة بعد أن إشتركوا جميعاً في وحدة الروح والأب والأم، وكلهـــا فروع لإتحاد الأصـــل، للإقرار بالربوبية والخالقية لله عز وجل مما يقتضي بالضرورة الإتحاد في عبادته.
وتبين الآية أموراً :
الأول: نعمة خلق السماء.
الثاني: لزوم إتخاذها طريقاً وسبباً للعبادة.
الثالث: التذكير بفضل الله تعالى.
الرابع: أهم وظائف السماء بالنسبة للناس , لأن وظائف ومنافع السماء أعم من ان تنحصر بالناس.
ان نعم الله تعالى متعددة ومتتالية، فلماذا جاء ذكر الأرض والسماء بالذات، الجواب : إن القرآن مليء بنعم الله تعالى، وفي منطوق كل آية او مفهومها نعمة أو نعم مركبة، ولكن ذكر الأرض والسـماء بالأمــر بالعبادة يبين عظيم النعمة في خلقهما، وحاجة الإنسان لهما أكثر من غيرهما.
وفي الآية تخفيف ونفي للشرك لأن العقلاء مجمعون على عدم إمكان خلق الدهر أو الناس ممن سبقنا للسماء والأرض، كما أن الآية حجة في زمان الصناعات الحديثة فمهما إبتكر الناس يظلون عاجزين أمام خلق السماوات والأرض.
تفسير قوله تعالى [ وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً ]
توكيد وتفصــيل لقولـــه تــعالى [ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( )، و(من) في قوله تعالى [ مِنْ السَّمَاءِ ] لإبتداء الغاية المكانية، وذكر المطر هنا كنعمة مستقلة ضمن تعداد النعم، فهو ليس طريقاً لإخراج الثمرات فقط، بل نعمة قائمة بذاتها فيعتبر ماء المطر أفضل المياه ثم يأتي من بعده ماء الأنهار الجارية، إذا كانت خالية من الشوائب العرضية قال تعالى (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا) ( )
ولا يتعارض نزول الماء من السماء مع أصل تكّون الغيوم بتصاعد الأبخرة نتيجة حرارة الشمس فتلك آية أخرى، وللمطر منافع عقائدية تتعلق بالكيفيات النفسية والتركيبات الإجتماعية، وفي إمساك السماء فساد الزرع والحيوان وهلاك دواب البحر، لذا ورد في بعض الأخبار أن السماء تمسك عن المطر إذا كثرت الذنوب والمعاصي.

تفسير قوله تعالى [ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ ]
تفيد الفاء الترتيب المعنوي، أي أن ما بعدها يأتي بعد الذي قبلها زماناً وحدوثاً.
وتسمى الباء في (به) في الصناعة النحوية باء الإستعانة، ولكن مقام الربوبية منزه عن الإستعانة فيجب أن يكون إسمها مناسباً للحال والوصف، والأولى في المقام أن تسمى باء الطريقية والواسطة إذا تعلق الأمر بمشيئة الله تعالى كما في فعل الأمر يسمى فعل طلب وسؤال، أي يكون المطر طريقاً وواسطة لإخراج الثمرات، ونسبة الإخراج له تعالى، لتوكيــد أن الثمــرة لا تظهر إلا بإذنه في دعوة للشكر، وحث على العبادة، ومن أجل دوام النعم والفضل الإلهي.
ويفيد حرف الجر في قوله تعالى [ مِنْ الثَّمَرَاتِ ] التبعيض، أي بعض الثمرات، وفيه إحتمالان :
الأول : إن بعض الثمرات تسقى بماء العيون مما يأتي من ماء البحر كما في بعض الجزر والأراضي القريبة من البحار.
الثاني : بشارة ظهور بعض الثمار وغذائها بغير الماء كالإستعانة بأسباب صناعية مستقبلاً ولعل قوله تعالى[وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ]( )، إشارة لهذا العلم , ودعوة سماوية له , ليكون من رشحات وعد الإلهي[وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
الثالث : إخبار إعجازي عن صناعة بعض الثمرات وما يلحق بها من الطعم والذوق والرائحة من مواد أولية ومعدنية، أو من التربة من غير واسطة الماء.
الرابع : التكاثر والإنشطار في بعض الأشجار والتعدد الدفعي.
الخامس : تخرج بعض الثمرات من نباتــات البحــار والأنهــار والمـاء.
وتبين الآية عظيم فضل وإحسان الله تعالى، وأن ما يخرج من الثمرات قليل من كثير، وفيها بعث على الدعاء والسعي العلمي لزيادة ثمرات الأرض ومضاعفة إنتاجها كما يحصل في هذا الزمان.
فحرف الجر (من) الذي يفيد التبعيض دعوة لتحصيل الزيادة وطلب النماء المتصل والمنفصل، ويكون المتصل بكثرة عدد الثمرات وحجمها وتحسين نوعها .
اما النماء المنفصل فيكون بزيادة عدد الأشجار والسنابل والحبوب والخضروات سواء بإعمار وإصلاح التربة أو بالطرق العلمية في الزراعة او باستخدام الوسائل الصناعية في الحرث والزرع والسقي والحصاد والجني أو بالإنتفاع من الإرتقاء العلمي الحديث بالإستنساخ النباتي وغيره.
تفسير قوله تعالى [ رِزْقًا لَكُمْ ]
أي غذاء وعطاء وملك لكم، وأنه باب لكسب المال, فانت ترى الثمار كيف ينتفع من العمل بزراعتها الفلاح وغيره من العمال الزراعيين وتجار المواد الزراعية، وبعد أن تينع وتنضج تمر بمراحل تجارية وتسويقية ينتفع فيها، ويربح العديد من الناس حتى تصل إلى يد من كتبت رزقاً لهُ.
وفي الآية توكيد بأن الله عز وجل ينزل المطر ويتعاهد البذرة والشجرة حتى تثمر، قال تعالى [ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ]( ).
ولغة الخطاب في الآية عامة وشاملة للناس جميعاً، فتعتبر الآية وعداً كريماً لجميع الناس على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم بالرزق الكريم وعدم حبس النعم عمن يختار العناد والجحود، وفيه إرشاد وتعليم للمسلمين وإخبار بأن الله تعالى يرزق البر والفاجر في الحياة الدنيا، كي لا يصاب المؤمن بالحيرة والشك من إقبال الدنيا وزخرفها على بعض الكفار والجاحدين.
تفسير قوله تعالى [ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا .
الفاء : سببية وإستئنافية( ) .
إن الله عز وجل الذي أنعم عليكم بهذه النعم الظاهرة التي تعجز الخلائق جميعاً عن أية حصة ضئيلة منها يدعوكم لعبادته ويأمركم بعــدم الشــرك به، وتلك النعم يجــب ان تكــون سبباً وحافزاً قوياً لكم لتنبذوا الأصنام التي لا تنفع بالإضافة الى ما فيها من الضرر في النشأتين، وان وظيفة كل إنسان سواء كان مستقلاً او متحداً مع غيره بالملة والمبدأ والرأي العقــائدي أن لا يجعــل لله شــريكاً ولا نظيراً ولا كفواً.
(وقال مجاهد وغيره ان المراد بذلك أهل التوراة والإنجيل دون غيرهم أي تعلمون ذلك في الكتابين)( ) ولكن المقصود أعم من المدعى بدليل الآية السابقة حيث يتوجه الخطاب فيها إلى الناس جميعاً، ولأن الألف واللام فيه للجنس لا للعهد.
ويجوز تفكيك الخطاب بحسب المخاطب فيقسم إلى قسمين :
الأول : مدح المسلمين وتأديبهم وحثهم على تعاهد عبادة الله تعالى.
الثاني : توبيخ الكافرين ولومهم.
ويقسم بلحاظ الموضوع الى :
الأول: كفر الشرك وإختيارعبادة غير الله.
الثاني: الشرك الخفي وهو الإستعانة واللجــوء إلى غير الله، وإسـناد الفعل، وقضاء الحاجة للإنسان، وفي الخبر: من الشرك قولك لولا فلان.
وقال أحد كبار المفسرين: لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان، لأن أقدم الانبياء الذين نقل إلينا تأريخهم هو نوح عليه السلام، وهو انما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله تعالى عن قومه في قوله [ وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ] ( ) .
وهذا لا يصلح دليلاً على الأسبقية والقدم، وعدم الإيجاد لا يدل على عدم الوجــود، فعدم ذكـــر عبادة قبله في الآية لا يدل على عدم وجوده، وقد بدأت الحياة الإنسانية على الأرض بعبادة الله وحده وملازمة النبوة لأول وجود في الأرض .
وكان آدم عليه السلام نبياً, وجاء الشرك فيما بعد تدريجياً وليس دفعيـاً، أي لم ينتقل الناس الى عبادة الأوثان مباشــرة، بل عبــدوا مخلوقات أخرى كانت ذات تأثير ومنزلة عندهم كالكواكـــب التي ظــنوا انها مدبــرة العالم، لأن ما يحدث في العالم السـفلي قد يراه المنجمــون ويعرفونــه إجمالاً في النجوم وسير الكواكب، والملائكة التي علم الناس أن مسكنهم السماء وخافوا منها لما لها من القدرة والقـوة والبطش، وصوروا لها صوراً جميلة حسنة ثم إتجهوا إلى تقديس هذه الصــور والتماثيــل، ولإعتمادهم الحس دون الفعل، ولقربها ومشــاهدتها بالبصر عكفوا عليها كبديل عن الشــخصية الحقيقية .
وهذا الإعتكاف والتقديس أنســـاهم انها وســـائط وجنود لله تعالى، فقصــدوها مـع تقادم الزمان على تلك الحال بالذات والأصالة بالعبادة والسؤال والخشية.
وعبادة الأصنام متفرعـــة عنها وإن كانت أعم، ومن الأمور المشــــهورة في عبادة الاصنام أن المشركين إذا مـات رجـل عظيم او مصلح صنعوا له تمثالاً وأخذوا يقصدونه بالسؤال وطلب الشفاعة وقضاء الحاجة.
ومن إعجاز الآية الكريمة أن النهي عن إتخاذ الأنداد وعبادتها لم يأت إبتداءً بل جاء بعد بيان النعم العظيمة التي لا يقدر عليها إلا الله والتي فيها قوام الحياة، والنهي يصلح أيضاً أن يكون مستقلاً وقاعدة عقائدية كلية، لذا يمكن أن تكون الفاء للإستئناف، وتكون للسببية لأن التوحيد وعدم الشرك سبب دوام هذه النعم.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون عبادة الناس له بشرط لا، أي بشرط لا شريك معه، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن ربكم يقول : أنا خير شريك ، فمن أشرك معي في عمله أحداً من خلقي تركت العمل كله له ولم أقبل إلا ما كان لي خالصاً)( ).
تفسير قوله تعالى [ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] فيه وجوه :
الأول : إن ما عندكم من نعم من عند الله عز وجل.
الثاني :ضرورة عدم الإشراك به تعالى.
الثالث : ليس من رازق إلا الله عز وجل.
الرابع : إنكم مؤهلون للتكليف، وشرائطه مجتمعة عندكم وقد لزمتكم الحجة.
الخامس : إتخاذ الاصنام والاوثان ونحوها لن ينفعكم.
السادس : إن الله عز وجل ليس له شريك، وهو خالق كل شيء، وبيده مقاليد الأمور، ومن فضله دوام النعم.
السابع : تعلمون أن (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ( ) .
الثامن : أن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على عبادة الأصنام.
التاسع : يعلم الناس أن الله عز وجل يغفر الذنوب إستغفر وسأل الله العفو, إلا الشرك والموت على الكفر, فأنه لا يغفر, قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ( ) .
العاشر : يعلم الناس بالآيات الكونية التي تدل على أن الله عز وجل (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ( ) .
الحادي عشر : يعلم الكفار أن إصرارهم على الشرك لا يحول دون رؤية (النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) ( ) .
الثاني عشر : دخول أي فرد للإسلام ذكراً كان أو أنثى هدم للبنة أو طرف من بناء الشرك والضلالة , الذي صار بنزول آيات القرآن آيلاً للسقوط .

 

 

 

قوله تعالى [ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ منْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَ كُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ] الآية 23.
الإعراب واللغة
وان : الواو إستئنافية، كنتم : كان فعل ماض ناقص، وهو في محل جزم فعل الشرط، التاء اسم كان، في ريب : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم، هما : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لريب، وما : اسم موصول.
نزلنا : فعل ماض مبني على السكون، والضمير (نا) في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية لامحل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
على عبدنا : جار ومجرور متعلقان بنزلنا.
فأتوا : الفاء رابطة الجواب الشرط، ائتوا : فعل أمر مبني على حذف النون لان مضارعه من الأفعال الخمسة، الواو : ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
بسورة : جار ومجرور متعلقان بائتوا، من مثله : جار ومجرور والضمير(الهاء) يعود للاسم الموصول (ما) في (مما نزلنا) والمراد هو القرآن أي من مثل القرآن ولم يسم القرآن بإسمه بل بصفة التنزيل لما فيها من خصوصية ينفرد بها عن الكتب ، وما يأتي به الناس هو وضع وتأليف منهم وليس بتنزيل .
ووصف القرآن بأنه الكتاب المنزل من عند الله إشارة إلى انه لايمكن ان يكون كتاب آخر شبيهاً له، بالإضافة إلى نكتة أخرى وهي أن من في السموات من الملائكة لا يشركون بالله شيئاً , ولا يجرأون على التنزيل بل يؤدون ما يؤمرون , ويقومون بإيصال وتبليغ أمانة التنزيل، وفيه دعوة إلى أهل الأرض للإقتداء بأهل السماء في الإيمان.
ان : حرف شرط تجزم فعلين (قال مجاهد : كل شيء في القرآن إن فهو إنكار)( ) .
والريب : الشك وقلق النفس وإضطرابها، والاسم الريبة وهي التهمة والظنة.
والشهداء : جمع شهيد وهو الشاهد أي الحاضر والمعاين والذي يخبر عما شاهده.
و(دون) ترد ظرفاً نقيض فوق، وترد بمعنى حقير وخسيس، وللتفاوت في الحال والتجاوز إلى الأقل وتأتي إغراء وأمراً وإسماً بمعنى (غير) ولها معان أخرى، فتكون قبل، أمام، وراء، تحت، فوق، الأدنى من الناس، الشريف،الأمر وبمعنى الوعيد.
في سياق الآيات
بعد أن ذمت الآيات المتقدمة أهل الضلالة وفضحت ما يضمرونه من الكفر ودعتهم الآيتان السابقتان إلى التوحيد ومجيئ الخطاب فيهما بلغة العموم، جاءت هذه الآية بلسان التحدي مع بيان موضوعه، فبعد الإنذار جاء الوعد والنصح.
وبعد ذكر النعم الظاهرة والباطنة، جاء التحدي الذي يتضمن الدعوة للإقرار بالربوبية ونبذ صيغ الشرك.
وهذه الآية معطوفة على ما قبلها التي جاءت بصيغة الخطاب العام الإستغراقي الشامل للناس كلهم المؤمنين والكفار، ومع هذا فان مضمون الإنكار في هذه الآية لا يشمل المؤمنين لأنهم خارجون بالتخصص من موضوعه، ويقرون جميعاً بأن القرآن كتاب نازل من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس عندهم متفرقين ومجتمعين أي ريب في هذا.
وهذه الآية ذم ولوم للمنافقين والكفار وحجة عليهم في الدنيا , وحجة في الآخرة على من لم يتب منهم ، لتأتي الآية التالية لتدعوهم إلى الإيمان والوقاية من النار التي يكون الكفار حطباً لها.
ومع أن الآية السابقة جاءت خطاباً وتذكيراً للناس جميعاً ، ودليلاً على بديع صنع الله تعالى، وتتضمن هذه الآية الإعجاز بخصوص التنزيل، لتكون فيه إشارة الى التخصيص في هذه الآية.
إذ جاءت الآية قبل السابقة بالأمر بعبادة الله، وجاءت هذه الآية باللوم والتحذير للذين يشكّون في نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دلالة على خروج الذين آمنوا من الخطاب في هذه الآية بالتخصص، ليكون هذا الخطاب خاصاً بالكفار، ويتضمن توجيه اللوم والذم لهم.
ومن الإعجاز في نظم الآيات ان يأتي الإخبار عن عجز الكفار عن الإتيان بمثل سورة من القرآن بعد هذه الآية [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا]آية للإخبار بأن المسلمين يؤمنون بنزول القرآن من عند الله، وإعجازه وعجز الناس على الإتيان بمثل آية أو شطر آية منه.
ولما جاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، جاءت الآيات الثلاثة التي بعدها بذات لغة الخطاب بالتوجه للناس جميعاً، لتجتمع فيها لغة الحجة والبشارة والإنذار .

وفي صلة هذه الآية بالآية التالية وجوه:
الأول: إبتدأت كل من الآيتين بحرف الشرط(إن) وصيغة الإنكار التي هي في الأصل رحمة بالناس، وجذب لمنازل الهداية، ودعوة لنبذ العناد والضلالة والجحود.
الثاني: تضمنت هذه الآية بيان حال الشك والريب عند الجاحدين نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ترى لماذا جاءت الآية بصيغة الشك ولم تقل(فإن تكفروا بما أنزلنا) والجواب في الآية شاهد بوجود أصل التصديق بنزوله في نفوس الكفار ولكن الريب والشك يداهم عرضاً وبسبب تأثير الغير والعادة وتوارث مفاهيم الكفر فجاءت الآية خطاباً إنحلالياً بعدد الناس، وتكون صيغة المفرد منه[وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( )، ليكون من مضامين الآية الكريمة إنعدام الواسطة بين الله عز وجل والإنسان، وهو من خصائص القرآن وصدق كونه كلام الله عز وجل.
فكما جاءت الآيتان السابقتان بذكر خلق الله عز وجل للناس، وكثرة وتوالي نعمه عليهم والتي تدرك بالحواس وتحيط بهم من الجهات كافة، جاءت هذه الآية لبيان نعمة نزول القرآن بهم من الجهات كافة، جاءت هذه الآية لبيان نعمة نزول القرآن , وفيه شاهد على أنها نعمة عظيمة على أهل الأرض كنعمة خلق السماوات والأرض لأن في نزول القرآن صلاح للنفوس، وإستدامة لنعمة نزول المطر من السماء، وإخراج الأرض كنوزها.
هذه بالإضافة إلى الثواب العظيم في الآخرة لمن صدّق بنزول القرآن من عند الله، وعمل بما فيه من الأحكام والسنن، ولما أختتمت الآية السابقة بنفي الشريك لله، والزجر عن الإنداد جاءت هذه بدعوة الناس للتنزه عن الشك في نزول القرآن، ليتفكر كل مكلف ومكلفة بسنخية القرآن والتباين بينها وبين كلام البشر.
لقد جمعت هذه الآية الإنذار والوعيد من الشرك والجحود بنزول القرآن .
ومن الإعجاز أنها جاءت بموضوع الإنذار وبيان عاقبة المشركين والمكذبين بالخلود في النار، وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن يخبر عن الناس بصيغة ووصف يعجز الناس عن الإتيان بمثله بصيرورة الناس والحجاز وقوداً لها، وهو من عمومات ما ورد في آية البحث[فَأْتُوا بِسُورَةٍ منْ مِثْلِهِ] .
فلا يطرأ على عالم التصور عند الناس بأن نار الآخرة تتخذ الكفار وما يعبدون من الأوثان وقوداً, قال تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ] ( ) ولم يعلموا أن نار الآخرة لا تتقد بالحطب والغاز لبيان قانون كلي وهو أن عجز الكفار عن الإتيان بمثل القرآن لا ينحصر بالبلاغة وعالم الألفاظ بل يشمل المواضيع والأحكام والسنن ويكون الكافر وقوداً في النار, وفي التنزيل[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ) على وجوه محتملة :
الأول : إنه وقود لعذابه نفسه.
الثاني : يكون الكافر وقوداً لعذاب فرد آخر من الكفار.
الثالث : يكون الكافر وقوداً للمتعدد من الكفار.
الرابع : تكون كل جماعة من الكفار وقوداً لجماعة أخرين منهم, قال تعالى بخصوص أهل النار[كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا] ( ).
الخامس : يكون إتقاد الكافر في النار بحسب جحوده وظلمه وإغوائه للآخرين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فكلها من مصاديق الآية الكريمة وفيه إنذار للذين يتخلفون عن الإيمان, وعن طاعة الله ورسوله.
وفي صلة هذه الآية بالآية التالية مسائل :
الأولى : تأكيد عجز الكفار وإن إجتمعوا وإجتهدوا ومكروا عن الإتيان بمثل سورة من القرآن .
الثانية : الإطلاق الزماني في عجز وقصور الكفار عن الإتيان بمثل سورة من القرآن .
الثالثة : التكذيب المستديم لدعوى وجود من جاء بمثل آية وسورة مثل القرآن, فقد يلجأ بعض الكفار إلى إدعاء وجود جماعة منهم وضعوا سورة من القرآن, والترويج له .
فجاءت الآية التالية بالقطع بنفيه بقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا]لإفادة النفي في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل .
الرابعة : تأكيد إنعدام البرزخ والوسط بين الإيمان والكفر, فأما التصديق, وإنعدام البرزخ هذا من عمومات التحدي الوارد في هذه الآية[فَأْتُوا بِسُورَةٍ منْ مِثْلِهِ]لما فيه من صيغ الإحتجاج والبرهان والجذب إلى سبيل الإيمان, قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الخامسة : يحتمل قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا] في متعلقه وجوهاً :
الأول : إرادة الإتيان بسورة من القرآن.
الثاني : دعوة الشهداء والأعوان في الشك والريب في القرآن, وأخرج (عن ابن عباس في قوله تعالى [ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ], قال : أعوانكم على ما أنتم عليه [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا]فقد بين لكم الحق)( ).
وكما أطلقت الآية التحدي في الإتيان بمثل أي سورة من القرآن جاء الإطلاق في دعوة الشهداء مع تقييده بأنه من (دون الله) ليشمل ما يعبدون ورؤساء الضلالة والكفر, وأهل الملل المختلفة الذين يجتمعون على الشك والريب في التنزيل.
الثالث : إرادة الإتيان بسورة من مثل القرآن, وإحضار الشهداء, لأن الكفار يعجزون أيضاً عن إحضار الشهداء والأعوان.
الرابع : المقصود وجوب عبادة الله في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ].
الخامس : عدم جعل شركاء لله عز وجل, إذ أن الكفار يشركون بالله عز وجل ويجعلون له أنداداً والصحيح هو الوجه الثالث, وتكون الوجوه الأخرى في طوله .
وبما ان الناس لن يستطيعوا معارضة القرآن فكيف يجتنبون النار, والإمتثال لقوله تعالى [وَاتَّقُوا النَّارَ].
الجواب تكون الوقاية من النار بما جاءت في هذه الآيات من عبادة الله والتصديق بنزول القرآن منه عز وجل, ويترشح عن هذا التصديق جرياً وإنطباقاً العمل بأحكامه ومضامينه القدسية.
إعجاز الآية
يتجلى الإعجاز في الآية متعددا ومتداخلاً من الإنتقال إلى صيغ الإحتجاج والتحـــدي، ومن تحديد موضــوع التحــدي بطبيعي الســورة، لاسيما وان في القرآن سوراً قصاراً , فيكون التحدي بالسوّر الطوال والمئين المتوســـطة في الطول، وعـــدد الآيات من باب الأولـوية وفحوى الخطاب.
وفي الآية مدح وثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: إعطاؤه صفة العبودية وفيها إشارة إلى صدق عمله وإخلاصه في العبادة، ورضا الله تعالى عنه, قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً]( ).
الثاني: توكيد نزول القرآن من عند الله تعالى.
الثالث: ان الله عز وجل إختارالنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة والنبوة.
وبلحاظ الآية السابقة فان نزول القرآن نعمة إضافية أخرى إلى جانب النعم الكونية، والرزق المادي والبدني، والقرآن رزق روحي ومعنوي وإرتقاء في سلم الكمالات الإنسانية.
ومن الإعجاز أن تأتي الآية بلفظ “سورة من مثله” ولم تقل “سورة منه” والمثل لا يرقى إلى الأصل، بالإضافة إلى التباين بين المثل والشبه، وبين الأصل والمشبه به، فجعلت الآية قدسية خاصة لآيات القرآن وعدم إرتقاء كلام لمرتبته، لأنه كلام الله عز وجل .
وكما يكون هناك تباين بين الخالق والمخلوقين، فان التباين ذاته بين كلام الله، وكلام المخلوقين وإجتماعهم في صناعة الكلام لا يغيّر من الموضوع شيئاً لأن صيغته تبقى ذاتها وهي أنه أدنى مراتب غير متناهية من كلام الله الذي خلقهم وجعل عندهم القدرة على الكلام . وكلام الله باق في الدنيا والآخرة , وكلام المخلوقين يمحى ويزول إلا في موارد محاسبتهم عليه , قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
وتوكد الآية نزول القرآن من عند الله وعجز الناس عن الإتيان بسورة من مثله وإن إجتمعوا على الأمر، وتبين الإعجاز في كل سورة على نحو مستقل، وعجز الناس عن إدراك مضامينها ومعانيها القدسية.
وفي الآية إشارة إلى خلو القرآن من التحريف والتغيير والتبديل، لأن ما يحتج به الله هو كلامه الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ومن الإعجاز ان يأتي في أول سور القرآن بعد الفاتحة تحدي الكفار، والإخبار عن عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من سور القرآن، لتكون هذه الآية حرزاً وعزاً للمسلمين مصاحباً لتلاوة كل آية وسورة من سوره المباركة.
إن تفضل الله تعالى بتحدي هذه الآية للناس جميعاً، وتخلفهم عن الإتيان بسورة واحدة من القرآن، يدل على ان كل سورة من القرآن معجزة قائمة بذاتها، وإذ جاء الأنبياء بمعجزات حسية معدودة، كما في موسى عليه السلام الذي جاء بتسع آيات, قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ).
فان آيات ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدد سور القرآن، بل بعدد آياته إلى جانب الآيات الحسية التي كانت تترى على يديه، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء الآخرين، وليس في الكتب السماوية الأخرى ما يتضمن التحدي، ليكون القرآن المهيمن على الكتب السماوية الأخرى، والشاهد على نزولها من عند الله.
وتتصف سور عديدة من القرآن بالقصر وقلة الكلمات, وهذه الآية دعوة للعلماء لبذل الوسع في إستخراج كنوز ودرر آيات القرآن، والإعجاز الخاص بكل سورة من سوره، وتتضمن الآية وما فيها من التحدي الإخبار عن اللامنتهي من علوم وخزائن القرآن، وحاجة الناس إليه وإلى أحكامه وسننه، وعدم بلوغ أوهام الناس إلى أسرار آيات القرآن ومباني كلماتها لذا جاءت الآية بصيغة التمثيل[فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]ولم تقل الآية بسورة مثله.
وقيل ان (من) زائدة لمجيء آية أخرى من غير حرف الجر “من” [بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] في قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه]( ).
ولكن هذه الآية تتعلق بالذين يفترون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ويكذبون التنزيل ، وجاءت هذه الآية بصيغة التحدي للناس جميعاً ولطرد الشك والريب ، ولبيان عظيم منزلة القرآن ، وتنزهه ورفعته وتمييزه حتى في عالم المثل عن كلام غير الله، بأن يكون التشبيه بمثله وليس به.
ومن إعجازها مجيء التحدي ببعض القرآن وليس في جميع سوره، وقالت الآية[مِمَّا نَزَّلْنَا] أي لا تكونوا شاكين في بعض آيات القرآن، وفيه دلالة على عدم طرو التحريف على القرآن بتقريب أن معاني الخطاب القرآني متوجهة إلى الموجود من الناس إلى يوم القيامة , وفي لغة العموم حجة على كل زمان, وشاهد على الأزمنة والأجيال السابقة له.
ويمكن تسمية الآية بآية (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) وقد وردهذا اللفظ مرتين في القرآن( ).
الآية سلاح
في الآية عز للمؤمنين وكف لأذى الكافرين، وترجع كيدهم الى نفوسهم وتجعلهم يتدبرون الأمر ويلتفتون الى حال النقص التي يعيشون، وهي دعوة لتمسك المسلمين بالإسلام وضرورة دفاعهم عنه.
وتدل هذه الآيات على حاجة الناس جميعاً للقرآن لما فيه من المواعظ وبيان النعم ولغة الإحتجاج، وهذه الآية وإن جاءت إنكاراً لما يظهره الكفار من أسباب الشك ووجوه الريب فانها حجة بيد المسلمين، وتثبيت للإيمان في نفوسهم، وبرزخ دون وصول الشك إليهم، إنها حرب على النفاق ، وقطع لأمل المنافقين بالتأثير على المؤمنين أو حديثي الإسلام منهم.
وتمنع هذه الآية من الإرتداد، وتجعل الكفار والمنافقين ينهزمون أمام المؤمنين في الإحتجاج وميادين العمل والمنتديات، وهي سلاح في معارك الجهاد لما فيها من توكيد لنزول القرآن من عند الله ، وإبطال للشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.

مفهوم الآية
في الآية توكيد لنزول القرآن من عند الله تعالى، ولغة التحدي فيها فضح للكافرين ودعوة للإيمان وهي رحمة بالناس جميعاً فهي حث للكافر على التدبر بالآيات والإقرار بالعجز والضعف، وبحسب لغة الأعداد فان عدد كلمات القرآن هي 77430 كلمة واقل عدد كلمات لسورة من سور القرآن هو عشر كلمات كما في سورة الكوثر باستثناء البسملة منها فيكون التحدي مكرراً سبعة وسبعين ألفا وأربعمائة وثلاثين مرة بلحاظ الكم وعدد الكلمات ولكنه جاء مطلقاً، وان كان التحدي لا ينحصر بعدد الكلمات بل يشمل الإعجاز والمعاني والدلالات والمفاهيم للسورة الواحدة والصلة بين الآيات , مما يعني مضاعفة هذا العدد لأغراض التحدي إضعافاً كثيرة لا يمكن إحصاؤها.
وفي الآية مسائل :
الأولى : بعد التوكيد على وجوب عبادة الله، جاءت هذه الآية لبيان وجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم عدم طرو الشك فيها.
الثانية : مع ان المقام للإخبار عن التنزيل وملازمة النبوة له، جاءت الآية بوصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية وفيه طرد للحسد من نفوس الكفار والمخادعين, وتوكيد بانه يؤدي ما يجب عليه من وظائف العبودية بلزوم تبليغ الرسالة , وأنه صادق أمين يتقن واجبات الإنقياد التام لأوامر الله تعالى.
الثالثة : التحذير من الشك المقرون بالريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوة الناس الى التصديق بنبوته وإتباعه بالإخبار السماوي بان الله عز وجل هو الذي أنزل عليه القرآن.
الرابعة : من إعجاز الآية انها جاءت بصيغة الإحتجاج, وإقامة الحجة على أهل الريب مع جحودهم وصدودهم وهو من مصاديق الرحمة الإلهية لعموم الناس، ودعوتهم للإسلام بالبرهان القاطع.
والآية شاهد على الإعجاز البلاغي والعقائدي في القرآن، وتسليم الناس بهذا الإعجاز.
الخامسة : ذم الكافرين في لجوئهم إلى غير الله، وتركهم النبوة والكتاب من السماء رحمة بهم في الدنيا والآخرة.
السادسة : لا ينحصر الإنتفاع من هذه الآية بالاحتجاج على الكفار والمنافقين، بل يشمل أموراً عقائدية وكلامية عديدة منها :
الأولى : مدح المسلمين من جهات متعددة.
الثانية : تصديق المسلمين بنزول القرآن من عند الله.
الثالثة : تعاهد آيات وسور القرآن.
الرابعة : التفقه في علوم القرآن والفصل بين سوره وآياته، ومعرفة كل سورة على نحو مستقل.
السابعة : وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عبد الله، وفيه مدح له لإتصافه بمنزلة العبودية وإخلاصه العبادة لله تعالى، وقيامه بتبليغ ما أنزل الله تعالى عليه.
الثامنة: جاءت الآية بصيغة الماضي وهي ليست آخر آيات القرآن نزولاً، مما يعني كفاية التحدي بالسور التي نزلت من القرآن سواء المكية أو المدنية.
التاسعة : لم تقل الآية بسورة منه، لأن القرآن كله كلام الله تعالى، ولا يرقى إليه كلام غيره من الخلائق، فجاءت الآية بالتحدي بالمثل مع أن المثل والشبه أصلاً لا يرقى إلى منزلة المشبه به.
وتحتمل (الهاء) في مثله وجهين :
الأول : ما سبق نزوله من آيات وسور القرآن.
الثاني : مجموع القرآن .
والصحيح هو الثاني خصوصاً وأن التحدي باق إلى يوم القيامة ليكون سراً من أسرار القرآن،وشاهداً على تنزيله، وخلوه من التحريف والتغيير.
العاشرة : تتضمن الآية دعوة الشهداء من غير المسلمين في مفهومها تحديهم أيضاً وعجزهم عن الإتيان بسورة من سور القرآن، والخلائق تشهد ان القرآن نازل من عند الله تعالى ولكن الكفار غلبت عليهم النفس الشهوية وإستحوذ عليهم الشيطان فنفذ الشك والريب إلى نفوسهم.
فجاءت هذه الآية لإعانتهم والناس جميعاً، بتنزيههم من الشك والريب، ودعوة الناس إلى عدم الإلتفات إلى شكهم وشبهاتهم بخصوص القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادية عشرة : من الآيات أن التنزيل تصاحبه آيات حسية تدل على صدق نزوله من عند الله، وتدعو الناس للإيمان به ، وهي على وجوه متعددة منها :
الأول : الوقائع والأحداث وموافقتها لأخبار الكتاب.
الثاني : الإعجاز البلاغي.
الثالث : تخلف الكفار والمشركين عن الإتيان بسورة من مثل القرآن,
الرابع: فضح الكفار والمنافقين بلغة التحدي، فمع أن موضوع التحدي جاء بخصوص سورة واحدة من القرآن إلا أنه يتضمن فضح الكفار والمنافقين وإبطال كل شبهاتهم، ودفع شكهم في التنزيل والنبوة لذا جاءت خاتمة الآية بتحد إضافي وهو قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] الذي يتضمن في مفهومه ذمهم ولومهم والإشارة إلى كونهم غير صادقين في دعواهم وما يثيرونه من أسباب الشك.
وفي الآية ومفهومها مسائل:
الأولى: إخبار الآية عن عدم قيام الكفار بتحدي القرآن، مما يدل على إنشغالهم بأنفسهم، وسعيهم لمحاربة المؤمنين، وعجزهم عن مواجهة القرآن.
الثانية: القرآن ضياء سماوي مبارك يجذب الناس إلى منازل الإيمان، فلا يستطيع الكفار منع الناس من دخول الإسلام.
الثالثة: إن عجز الكفار عن الإتيان بسورة من القرآن ليس ما دامياً بل هو دائمي متصل إلى يوم القيامة مما يدل على أن أحكام القرآن باقية إلى يوم القيامة.
الرابعة: إن جحود الإنسان بنزول القرآن من عند الله طريق لدخوله النار والخلود في العذاب الأليم، وأن التصديق بنزوله من عند الله وسيلة مباركة لنيل الثواب العظيم في الآخرة.
الخامسة: إن الكفار حطب جهنم يوم القيامة، وفي هذا القانون دعوة لإجتناب الكفر وما يؤدي إليه من سوء العاقبة.
ويحتمل التحدي في الآية وجوهاً:
الأول:إرادة ألفاظ الآية، وما فيها من وجوه البلاغة والفصاحة.
الثاني: موضوع السورة.
الثالث:الغايات النبيلة من السورة وآياتها.
الرابع:الآثار المترشحة عن السورة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فهي متفرقة ومجتمعة من مصاديق التحدي الوارد في هذه الآية، فعندما تقابل المسلمون والكفار في معركة بدر، وكان الكفار ثلاثة أضعاف المسلمين، ويتفوقون عليهم أيضاً في العدة والمؤون إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء حتى سقط رداءه، وجاء قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )،لينهزم الكفار في أول ساعات المبارزة والقتال.
فمن إعجاز الآية أعلاه موضوعها، وما فيها من الإخبار عن المدد السماوي الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، ولم تنله أمة من أهل التوحيد إلا المسلمين، وفيه خير الدنيا والآخرة، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الآية لطف
جاء الخطاب في الآية موجهاً الى الكفار والجاحدين بصيغة الإحتجاج ليكون في دلالته على وجوه :
الأول : إنه آية في التنبيه والتحذير .
الثاني : فيه حجة على صدق نزول القرآن .
الثالث : إنذار المقيمين على الكفر , والذين يقابلون الآيات بالعناد والإصرار على الجحود , قال تعالى[وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ]( ).
الرابع : دعوة الناس عامة لدخول الإسلام , ومن لغات نزول القرآن لغة إياك أعني وإسمعي يا جارة .
الخامس : الخطاب في الآية برزخ دون التعدي على المسلمين.
لقد أراد الله عز وجل زجر الكفار عن التمادي في إيذاء المسلمين، وتحذيرهم من الكفر والضلالة، وفيه رحمة عامة بهم وبالمسلمين والناس جميعاً.
أما الكفار فان الآية الكريمة تبين لهم القبح الذاتي لصدودهم وجحودهم.
وأما المسلمون فان الآية تبعث الثقة في نفوسهم وتجعلهم راضين بحسن إختيارهم فرحين بما وفقهم الله عز وجل له من دخول الإسلام.
وأما الناس جميعاً فان الآية تدعوهم للتدبر في آيات القرآن وإعجازه، وتحذرهم من محاكاة أهل الريب والشك، لذا جاء الخطاب قبل آيتين[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( ).
إن بيان عجز الناس مع إجتماعهم عن الإتيان بسورة واحدة من القرآن آية إعجازية ودعوة للناس للإتعاظ والإعتبار والإيمان.
ان نزول القرآن من عند الله خير محض، ورحمة للناس جميعاً، وكل سورة وكل آية منه نعمة مستقلة يترشح منها الخير والبركة على المسلمين خاصة وأهل الأرض عامة.
ولم ينزل الله القرآن عن حاجة من الله تعالى للتنزيل أو الناس وهو الغني عن العالمين، بل جاء التنزيل فضلاً من عند الله، ووسيلة سماوية كريمة لهداية الناس إلى ظائفهم العبادية .
ولما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن نزول المطر رحمة منه تعالى، ومادة وسبباً للرزق، جاء تنزيل القرآن للمعنى الأهم وهو هداية الناس الى العبادة والتقوى وخشية الله بالغيب، فقابل فريق من الناس التنزيل بالقبول والتصديق والإيمان، وآخرون بالتكذيب وإثارة الشبهات، فتفضل الله سبحانه بهذه الآية رحمة للفريقين بتثبيت أهل الإيمان على إيمانهم، وتوبيخ الكفار على تكذيبهم وشبهاتهم، لينتفع الناس جميعاً من هذه الآية وينحسر ويتضاءل أثر المنافقين والكفار بين الناس، ويصبحوا منشغلين بأنفسهم، نادمين على جحودهم ، مدركين لقبح الضلالة وسوء الفعل الذي أقدموا عليه.

إفاضات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : طرد الآية الريب من النفوس المؤمنة .
الثانية : المنع من طرو آفة التردد والشك عليها .
الثالثة :المساهمة في ايجاد مجتمع اسلامي يتفانى أفراده في نشر كلمة التوحيد والتضحية والفداء في اعلاء لواء الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة : تبين الآية المنزلة الرفيعة لكل سورة من سور القرآن .
الخامسة : الحث على التدبر باسرار كل سورة ومعرفة ما فيها من الكنوز والدرر والعلوم، والنهى عن اللجوء الى غير المؤمنين والصالحين.
السادسة : تحذر الآية من الأعوان والأنصار والشهداء الذين يشهدون الزور ويحاولون تزيين الباطل .
السابعة : تخبر الآية عن عجز هؤلاء وعتاة الكفر عن الإتيان بسورة واحدة أو محاولة إدعاء شيء يشبه سور القرآن، بمعنى انهم لا يستطيعون إدعاء وجود شبه بين سورة من سور القرآن وبين غيره من كلام المخلوقين وهذه آية اعجازية اخرى تؤكد فشل الدعوى الباطلة بالشبه مع سورة من سور القرآن ولو سخرت اجهزة الإعلام المرئية والمسموعة لهذه الدعوى ولن تكون عاقبتها الا الفضيحة والخزي لأهلها، وادراك الناس حقيقة نزول القرآن من عند الله تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
وجاءت الآية السابقة بالخطاب التكليفي للناس جميعاً بلزوم الإخلاص في عبادتهم لله تعالى، ثم جاءت هذه الآية بالتحدي ولكن بذات الصيغة من العموم ، وفيها وجوه :
الأول: المراد بعض الناس من أهل الشك والريب.
الثاني: إرادة الناس جميعاً للتحدي وتوكيد الإعجاز.
الثالث: الخطاب للناس كافة، ولكنه ينصرف لأهل الجحود.
الرابع: ليس في الآية تحد، ولكنه جاء لتثبيت حقيقة نزول القرآن.
الخامس: إحتمال شيوع وإنتشار الكفر في بعض الأزمنة اللاحقة فيصدق موضوع الآية والتحدي فيها، أي أن لغة العموم في الآية لزمان لاحق وليس لزمان النبوة وأحقاب الصلاح في الأرض، فالآية إنذار ووعيد وهي دعوة لمنع حصول هذه الحال، وحث للمؤمنين على بذل الوسع في توارث قيم الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وإن كان المقصود أهل العناد والمخادعة الذين إختاروا الجحود وعدم الإيمان، بدليل خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين معه بالتخصص من مورد نزول الآية في المدينة المنورة وأجيال المسلمين كافة.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بصيغة الشرط (ان كنتم) لأن الخطاب للناس جميعاً، ويشمل المسلمين وهم مؤمنون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله، وليس عندهم ريب أو شك فيه، ومن خصائص الشرط في المقام بقاء باب التوبة والإنابة مفتوحاً للناس، ودعوتهم للتدبر في آيات القرآن ، لاسيما وأن الآية جاءت بلغة البرهان والإحتجاج .
وقد ذكرت الآيتان السابقتان نعمة الله تعالى على الناس بالخلق وإستدامة الحياة ونزول الرزق ونمو النبات والثمرات والإنتفاع من كنوز الأرض، لتأتي هذه الآية فتخبر عن رزق عقائدي، ونعمة روحانية، وآية ملكوتية، وهي نزول الرزق الكريم، والنعمة العظمى وهو القرآن الكريم الذي فيه خير الدنيا والآخرة ، وجاء التحدي وتوكيد الإعجاز من وجوه:
الأول: لغة العموم في الخطاب ، وعطفها على قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
الثاني: عدم القطع بوجود الشك والريب عند الناس، فلم تقل الآية(وان كنتم).
الثالث: مجئ التحدي بعد ذكر النعم العظيمة على الناس.
الرابع: يفيد الجمع بين الآيات ان الله تعالى خلق الناس وأنعم عليهم بالرزق الكريم ومنعهم من الشرك والضلالة بنزول القرآن والكتب السماوية الأخرى التي جاءت مبشرة بالقرآن.
الخامس: ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ العبودية لله تعالى ، وفيه مسائل :
الأولى : لم تقل الآية على رسولنا ، بل ذكرت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية والخضوع لله .
الثانية : فيه دلالة على عظيم منزلة العبودية.
الثالثة : ترغيب الناس بمقامات العبودية ، ليكون الناس بقيد الإيمان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في منازل العبودية لله تعالى.
الرابعة : تمنع الآية من الحسد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ تصفه الآية بأنه عبد الله.
الخامسة : تدل الآية على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مقام العبودية بنزول القرآن عليه من بين الناس في أجيالهم المتعاقبة.
السادسة : ليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التنزيل الا العبودية الخالصة لله تعالى، فلا يجعل غرضه من التنزيل الدنيا وزينتها، وتلك آية تجلت في الحياة اليومية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يترك مالاً او ميراثاً مع كثرة ما كان يرد عليه من الغنائم.
السابعة : المراد من قوله تعالى (عبدنا) في الآية هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ التفسير الذاتي للقرآن ، قال سبحانه [وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ]( ).
السادس : لم تقل الآية، مما نزل على البناء للمجهول، بل قالت [مِمَّا نَزَّلْنَا] للإخبار بان التنزيل من عندالله، ولان الآية في مقام طرد الوهم، ودفع الشك والريب، وهذا من إللطف بالناس وتقريبهم للإيمان .
السابع : تبين الآية الفضل الإلهي العظيم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس جميعاً بنزول القرآن.
الثامن : تنفي الآية الشك والريب عن القرآن من وجوه:
الأول : توكيد نزوله من عند الله تعالى.
الثاني : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية.
الثالث : الإعجاز الذاتي والغيري لآيات القرآن.
الرابع : عجز الناس عن الإتيان بسورة من القرآن، وهو شاهد على عظيم قدرة الله تعالى وانه الجبار المتكبر فانه لم يتحد الناس بالقرآن والإتيان بمثله بل بسورة واحدة منه ، مع وجود سور قصار عديدة في القرآن.
وتعود (الهاء) في (من مثله) إلى القرآن بصفة التنزيل وإن جاء النهي عن الشك والريب في القرآن وأي جزء منه، لأن الآية وردت بصيغة التبعيض (مما نزلنا) .
وفيه شاهد على أن الذي يخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن كله تنزيل من عند الله ، وهو دليل على أن النبي يقوم بتبليغ ما ينزل عليه من القرآن من غير زيادة أو نقصان. فمن إعجاز الآية أمور :
الأول : تشريف وإكرام وتزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ودعوته للإجهار بالتنزيل , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
الثاني : تحدي الكفار والمشركين وأهل الريب إلى يوم القيامة.
الثالث : دعوة الناس للإيمان بالقرآن ونزوله من عند الله.
الرابع : إقامة الحجة على الكفار والمنافقين.
الخامس : تدل الآية على عظمة وقدسية كل سورة من سور القرآن، لذا قيل أن السورة مأخوذة من سور البناء، وكل منزلة رفيعة، ومنه قال النابغة :
ألم تر أن الله اعطاك سورة
يرى كل ملك دونها يتذبذب( ).
ان أصل الخطاب في الآية موجه إلى الناس جميعاً ومع هذا جاءت الآية بالتحدي على وجهين :
الأول : الإتيان بسورة من مثل القرآن.
الثاني : دعوة المشركين لشهدائهم من دون الله، وفيه وجوه :
الأول : أعوانهم في الضلالة.
الثاني : الطواغيت الذين يتبعهم المشركون.
الثالث : رؤساء الضلالة، وأقطاب الملل التي لا تقول بالتنزيل، وتنفي النبوة.
الرابع : الذين ينصرون المشركين في ضلالتهم وإصرارهم على الباطل، إذ يقفون في حيرة وذهول أمام هذا التحدي.
الخامس : ما يعبد الكفار من الأوثان وما إتخذوه من الآلهة.
السادس : في الآية إشارة إلى كفار مكة ولجوئهم إلى بعض أهل الكتاب في المدينة إذ يسألونهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما مذكور في الكتب السماوية السابقة عنها ، فينكرونها بصيغ التحريف والإستكبار، فجاءت هذه الآية لتحدي أساطين البلاغة من العرب، والذين يلجأون إليهم ويسألونهم.
السابع : هل تشمل الآيات الوسائل العلمية والتقنية وأدوات الثورة المعلوماتية المستحدثة في زمان العولمة وما يترشح عنها، الجواب نعم، وان جاء لفظ التحدي بصيغة جمع مذكر سالم ولكنه للتغليب، فلا يستطيع الكفار أن يأتوا بسورة من القرآن وإن إجتهدوا في توظيف وسائل العلم والرياضيات والإتصال الحديثة وخزن المعلومات لهذا الغرض من غير أن تصل النوبة إلى الصرفة.
وفي الآية تحذير لأهل الشك من الذين يظاهرونهم في تكذيبهم للتنزيل وآيات القرآن، وجاء قيد (من دون الله) لتوبيخ الكفار وأهل الضلالة، وتوكيد حقيقة وهي حرمة وبطلان الرجوع لغير الله تعالى وأنه ليس من ناصر ومعين إلا الله تعالى.
وإذ إبتدأت الآية بالشرط والتحدي والذم لأهل الشك والريب في القرآن، فان خاتمة الآية جاءت بصيغة الشرط ذاتها مع الذم والتكذيب، ومن معاني الصلة بين صيغة الشرط في أول الآية، والتي في آخرها توكيد عجز الكفار والمشركين عن الإتيان بمثل سورة من القرآن، وإثبات حقيقة نزوله من عند الله عزوجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولزوم التصديق بنبوته ونصرته.
وجاءت هذه الآية في سياق ونظم الخطاب العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] وفيه وجوه:
الأول: شمول المسلمين بالخطاب وما فيه من التحدي.
الثاني: يخرج المسلمون بالتخصص من هذا الخطاب لإنتفاء الشك عندهم بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: إرادة عجز الناس مجتمعين ومتفرقين عن الإتيان بمثل سورة من القرآن لتخلفهم كمخلوقين عن الإتيان بمثل كلام الخالق.
والصحيح هو الثاني والثالث ، وتدل مضامين الآية على ان المسلمين غير مشمولين بخطاب التحدي الوارد في هذه الآية والآية التالية وقد جاءت آية أخرى بتخويف وإنذار أهل الريب والشك بيوم القيامة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ]( ).
وتخبر الآية التالية بأن وقود النار هم الناس والحجارة أي الكفار و وما يعبدون ، وهذا لا يمنع من إطلاق الوجه الثالث لما فيه من حقيقة وقانون ثابت فان الإتيان بسورة من سور القرآن أمر ممتنع عن الناس جميعاً والخلائق كلها.
التفسير الذاتي
بعد مجئ الآيتين السابقتين بالأمر بعبادة الله عز وجل، وبيان بديع صنعه، وعظيم فضله على الناس جميعاً، جاءت هذه الآية بذات الصيغة في الخطاب الشامل للناس على نحو العموم الإستغراقي، ويتضمن في مفهومه لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن القرآن كلام الله عز وجل.
جاءت هذه الآية بذكر القرآن بأنه نازل من عند الله لبيان النفع العام العظيم منه وأنه [شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ] ( )، وسبب لإستدامة الحياة، والرزق المبارك على الناس.
وقد وصفت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عبد الله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: طرد الحسد من النفوس.
الثانية: منع العناد وإرادة بعض أهل الملل أن يكون النبي من عندهم.
الثالثة: وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عبد الله تشريف له.
الرابعة: إنه برزخ دون الإفتتان بنبوته.
الخامسة: بيان أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، لأنهم لم يغالوا بنبيهم، بل يدركون التقاءه معهم بصفة العبودية لله التي تتغشى الناس جميعاً.
السادسة: التذكير بأن عيسى عليه السلام عبد الله عز وجل، بلحاظ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيد المرسلين.
السابعة:الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عباداته وصلواته.
الثامنة: رضا الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإخبار عن تجلي معاني العبودية بسنته، ونيله مرتبة تلقي التنزيل من منازل الخشوع والخضوع لله عز وجل
التاسعة : ترغيب الناس بالإسلام وأداء التكاليف والفرائض .
العاشرة : منع الطغيان والعتو في الأرض , ومن بركات نبوة محمد إنقطاع دعوى الالطواغيت الربوبية .
الحادية عشرة : تتغشى صبغة العبودية الناس جميعاً , من با الناس جميعاً , من باب الأولوية القطعية , بلحاظ أن النبي محمداً صلى الله عليه سيد وآله وسلم ولد آدم.
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر… فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك. فيقول: إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحاً. فيأتون نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقول: ائتوا موسى. فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول: إني قتلت نفساً، ولكن ائتوا عيسى. فيأتون عيسى عليه السلام فيقول : إني عُبِدْتُ من دون الله،
ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد. فيفتحون لي ويقولون: مرحباً. فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد، فيقال: ارفع رأسك… سل تُعْطَ، واشفع تُشَفّعْ، وقل يسمع لقولك. فهو المقام المحمود الذي قال الله:{عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً})( ).
وهذه الآية من اللطف الإلهي بالناس وتقريبهم إلى مقامات الإيمان والعبادة بشهادة الله للقرآن بأنه نازل من عنده تعالى، وأنه حق، لايجوز الشك فيه، ومن تسرب الشك إلى نفسه من القرآن فانه يتحداه بسورة واحدة من سوره وما فيها من الكنوز والخزائن الظاهرة والمكنونة.
ومن إعجاز القرآن أن يلتفت إلى الشك الذي عند بعض المشركين وأهل الضلالة، فيتحداهم بهذه الآية، التي تتضمن في مفهومها دعوة الناس جميعاً للإسلام، ونبذ الشك والريب بالقرآن وأيامه.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على تنزيه القرآن من التحريف، وإن تعلقت بصفة التنزيل، لكنها أعم بقرينة مجئ التحدي والحجة بلغة المضارع [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ].
وفي الآية بشارة دوام حفظ نظم سور وآيات القرآن وأن قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )، شامل لتقسيم القرآن إلى سور وبقاء هذا التقسيم من أيام التنزيل إلى يوم القيامة وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التغيير والتبديل، سواء في كلماته وحروفه، أو في آياته وسوره، والفصل بينها، وإختصاص كل سورة منه باسم مستقل، وعدم وجود المشترك اللفظي في أسماء سور القرآن.
فمع أنها مائة وأربع عشرة سورة، ومنها السورة الطويلة، والسورة القصيرة، وبعض السور لها أكثر من اسم فليس فيها سورتان باسم واحد، ومع هذا جاء التحدي بالمسميات وبأي سورة منه في دلالة على أن تركيب سور القرآن إعجازي أي بالإضافة إلى الإعجاز في كلمات وآيات القرآن، فان كل سورة بذاتها إعجاز، وشاهد على أنها نازلة من عند الله عز وجل لتتحد سور القرآن بصفة النزول من عند الله، وتكون كل سورة حجة بذاتها على الناس، ودعوة لهم للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
لقد جاء الخطاب في هذه الآية والآيتين السابقتين إلى الناس جميعاً، وكان بينهم أيام البعثة النبوية ممن يبلغهم التنزيل وتصل أسماعهم وتدخل منتدياتهم آيات القرآن أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس والأعراب وأرباب اللغة والفصاحة من قريش وغيرها، وأهل البيان والبديع والبلاغة والشعراء.
فجاءت هذه الآية تتحداهم بجميع مشاربهم، مع التباين بينهم، وإلتقى أعداء الإسلام في التصدي للقرآن وتكذيبه، والإستهزاء بالتنزيل، في ذات الوقت الذي أسلم فيه بعض كبراء أهل الكتاب والفصحاء والشعراء وشهدوا بإعجاز القرآن، وأقروا بمعجزات محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآية مدداً ونصرة لهم وتثبيتاً للإيمان في قلوبهم، ودعوة للناس للإلتحاق بهم.
وإبتدأت الآية بحرف العطف الواو، وبذات اللهجة من الخطاب وتقديرها (يا أيها الناس إن كنتم في ريب) بينما جاء وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية التي تتضمن الذلة والخضوع لله عز وجل، وفيه شهادة بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن العبد لايتصرف إلا بأمر مولاه، فهذا الوصف من عمومات [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )،.
وفيه طرد للحسد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وما يترشح عن هذا الحسد من العناد والجحود بالنبوة، وبعد ان ذكرت الآية السابقة ما سخّر الله عز وجل للناس من المخلوقات والكائنات العظيمة، ونزول المطر وأسباب الرزق ودوام المعيشة.
جاءت هذه الآية بخصوص القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنها رزق عظيم في النشأتين، فهما السبيل إلى الخلود في النعيم، وسبب في نزول بركات السماء وخروج كنوز الأرض، وفي قوله تعالى [عَبْدِنَا] ترغيب للناس بالعبودية، ودعوة لهم للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إخلاصه العبودية والطاعة لله عز وجل.
وإخبار بأن الذي يخلص العبودية لله عز وجل ينال الإكرام، ويبلغ مقامات العز ولأن الريب هو شك مع التهمة جاءت الآية بوصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله، لدفع التهمة عنه، فمن إعجاز القرآن أن تأتي كلمة في وصف مخصوص تتضمن المدح والثناء، وطرد الشبهة وسوء الظن.
إن التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديق بنزول القرآن، وكذا التصديق بنزول القرآن من عند الله تصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليس هو من الدور، ولكنه من الإعجاز الذاتي والغيري .
فجاءت هذه الآية لتؤكد هذه الملازمة , وتبين عدم الإنفكاك بين التنزيل ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تتجلى الملازمة بينهما بقوله تعالى [نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا].
ومن إعجازالآية أنها لم تذكر القرآن أو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم بل وصفت القرآن بالتنزيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية، وبلحاظ أن الخطاب عام للناس جميعاً كما تدل عليه الآية السابقة، وإبتداء هذه الآية بحرف العطف فان المتبادر عند الناس جميعاً إرادة القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الآية.
وجاء التحدي في الآية متعدداً ومركباً من وجوه:
الأول: الإتيان بسورة واحدة من مثل سور القرآن، ولم يأت التحدي بالقرآن كله، أو بسورة من السور الطوال، لإن كل سورة من القرآن حجة وبرهان قائم بذاتـــه على نزول القرآن من عند الله.
وتدل هذه الآية على حكمة وسر من أسرار تقسيم القرآن إلى سور وآيات.
الثاني: دعوة شهداء أهل الريب، ليحكموا ويروا التباين والبون الشاسع بين التنزيل وما يأتي به أهل الريب، وقد يبدو بلحاظ لغة الخطاب في الآية وإرادة الناس جميعاً أن المراد من الشهداء جنس من غير الناس، وقال الفراء: أراد وأدعوا الهتكم( )، ولكن المراد المعنى الأعم ليشمل الشهداء من الناس.
الثالث: إرادة الشهداء من أعوان وأنصار أهل الريب، لأن الآية قالت [ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ] وقيدت الآية بأن الشهداء [مِنْ دُونِ اللَّهِ] وفيه تعريض بأهل الريب وإشارة إلى علة شكهم وريبهم بإجتماعهم على الباطل، وتركهم وظائف العبودية لله عز وجل، ويخرج هذا القيد المؤمنين والمؤمنات من صيغة إطلاق الخطاب في الآية الكريمة، لأن المؤمنين ليس لهم غير الله ولياً.
وهذه الآية من اللــطف الإلهي بالناس عامة لأنها شهــادة من الله عــز وجل بصدق نزول القرآن من الله وأنه خال من التحريــف، ويدل الإحتجاج والتحدي بأي سورة من القرآن على أن القرآن كله نازل من عند الله بالإستدلال من صدق الجزء على صدق الكل.
ويحتمل التحدي بالسورة من القرآن أموراً:
الأول: أن كل سورة منه مرتبة عالية، ودرجة رفيعة لها إعجاز مستقل،ومضامين وأسرار ملكوتية خاصة.
الثاني: إلتقاء سور القرآن بسر مخصوص، موجود في كل واحدة منها وهو صفة التنزيل من عند الله عز وجل.
الثالث: العنوان الأعم للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث فان أسراراً كثيرة في السور القرآنية تأتي متفرقة ومتحدة، فجاء التحدي ذي صبغة البرهان بأي سورة منه لبيان بديع صنع الله عز وجل.
وفيه دعوة للمسلمين لجعل موضوعية لتقسيم القرآن إلى سور ، والعناية بكل سورة، وإن كانت كلماتها قليلة.
وهل يمكن أن نضرب للتباين بين كلمات وآيات سورالقرآن مثلاً كيانات الدول في هذا الزمان، فترى دولة سكانها مليار، وأخرى نحو ربع مليون، ومع هذا تتساوى في شؤون دولية كثيرة .
الجواب لا، وهو قياس مع الفارق، وقد تخشى الدول الصغيرة الكبيرة، أما سور القرآن فكل سورة لها شأن ثابت إلى يوم القيامة، وقد جعلها الله عز وجل تبدأ بالتسمية المباركة، ويحرص المسلمون على تعاهد هذا التقسيم إلى يوم القيامة، ويتنزهون عن التصرف في القرآن، ويعلمون بحرمة شطر أو تقسيم السورة الطويلة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: توكيد نزول القرآن من عند الله.
الثانية: ظهور إعجاز القرآن لكل الناس.
الثالثة: إتخاذ الحكمة والجدال بالموعظة الحسنة طريقاً لإقامة الحجة والبرهان.
الرابعة: الإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد لله تعالى، وأنه مأمور من عند الله عز وجل بتبليغ الرسالة.
الخامسة: تحدي الكفار وإبطال شبهاتهم.
وفي الآية توكيد لعجز الكفار عن الإتيان بسورة من القرآن، وبه يثبت المطلوب من أن القرآن كتاب سماوي سالم عن المعارضة ، وهناك مسألتان:
الأولى: هل يمكن أن يكون هناك برزخ بين عجز الناس عن الإتيان بسورة من القرآن، وبين نزوله من عند الله، وفي هذا البرزخ إمكان الإتيان بسورة أو أكثر.
الثانية: هل المسلمون مشمولون بالخطاب في الآية لعمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] الوارد قبل ثلاث آيات.
أما الأولى فليس من برزخ في المقام , وتدل الآية على ان الخلائق كلها تعجز عن الإتيان بسورة من القرآن .
أما الثانية فان المسلمين خارجون بالتخصص من الخطاب في الآية لأنهم أقروا بأن القرآن كلام الله، وجاءت لتحدي وذم الذين يكذبون بالتنزيل، ومع هذا فان ورود الآية والخطاب بلفظ الناس شاهد على عجز الناس جميعاً بما هم أناس عن الإتيان بسورة منه، ولكن المسلمين غير مشمولين بالخطاب لتسليمهم بان القرآن كلام الله نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
في الآية مسائل:
الأولى: توجيه اللوم والذم للكفار والمنافقين على تجافيهم عن الإيمان وإصرارهم على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية: بيان حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الوحي من عند الله تعالى، وأنه يقوم بتبليغ الرسالة مما يحتم على الناس جميعاً التصديق بالقرآن، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة: تحد الكافرين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الرابعة: دعوة الناس إلى نبذ الشرك , وفي التنزيل حكاية عن لقمان[يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
الخامسة: التوكيد الدائم لقبح الشك والريب , ويتجلى هذا التوكيد بنزول القرآن من عند الله.
السادسة: جاء التحدي في القرآن كاملاً وشاملاً ويتضمن الإعجاز، فمن وجوهه أنه خاص بسورة واحدة على نحو الإجمال والعموم، من غير تعيين للسورة القرآنية مع التباين الكبير بينهما من حيث عدد آياتها وبيان جهة المتحدى فيشمل الكفار والمنافقين جميعاً، لتوكيد عجز المخلوق عن بلوغ كنه كلام الخالق وبديع صنعه، ليكون إقرارهم بنزول القرآن من عند الله موضوعاً لشكره تعالى على النعم ، والآيات التي خص بها بني الإنسان.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا]
الآية الكريمة تحدٍ للكفار والمشركين ولا يعني هذا انها خالية من الطلب منهم بمغادرة مواقع الشك التي حصروا أنفسهم فيها، بل إنها تدل عليه بالدلالة التضمنية إتماماً للحجة وتثبيتاً لمنزلة القرآن في النفوس مطلقاً، لذا تجد الخشية والهيبة من القرآن مطلقة في نفوس المسلمين والكافرين أيضاً وإن تباينت المرتبة والدرجة.
إنه إخبار وتوكيد بأن القــرآن نازل من عنــد الله تعالى وآيـــة في الإعجاز السماوي لا يمكن أن ترقى عقول البشر وقدراتهم إلى الإتيان بما يشبه جزءً قليلاً منه، ويقتضي الإنصاف أن يترجم العجز الثابت عند الناس إلى الواقع بنتائج تتضمن الإعتراف به والإقرار بضــرورة الإيـمان، ويأتي التذكير به والدلالة عليه رحمة ورأفة وتخفيفاً ضمن آيات إجلال القرآن.
وبالإضافة إلى هذه الآية الكريمة فقد وردت كلمة شهدائكم في موضع آخر من القرآن قال تعالى [ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا]( )، وذكر الريب كشرط للتحـــدي يدل على إنعـــدام البرزخ والوســط بين الايمان والكفر، فأما إتبـــاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإقـــرار بأن القرآن من عند الله، وأما الشـــك والريب، وهذا يدل على عالمية الخطاب القرآني قال تعالى[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً]( ).
بحث بلاغي
في باب التغليب في البلاغة ذكرت هذه الآية في تغليب المتصف بالشيء على ما لم يتصف به (قيل: غلب غير المرتابين على المرتابين) ولكن الخطاب ظاهر في المرتابين وأهل الشـــك والجحود، أما غيرهم فهم خارجون بالتخصص من موضوع الخطاب، ولقد نـــزل القـــرآن بلغة العرب وصيغ التخاطب عندهم ولم يعهد أن أدخلوا غير المخاطب في الخطاب.
وكأنه من أفراد السبر والتقسيم، وأن المؤمنين يحتجون على الكاذبين بهذه الآية.
تفسير قوله تعالى [فَأْتُوا بِسُورَةٍ]
الآية صيغة في الإحتجاج وإقامة البرهان، وفي علم المنطق جعل الجدل في المرتبة الثانية بعد البرهان، أما هذه الآية فقد جمعت بين البرهان والجدل والقياس في مسألة وموضوع واحد جعلته جزء من القرآن وليس القرآن كله، ليكون عجز الخلائق عن الإتيان بمثل عدة سور من القرآن من باب الأولوية القطعية، فمن يعجز عن الجزء لابد وأن يعجز عن الكل، وحتى عن الجزء الأكبر كثلاث أو أربع سور من أصل مجموع سور القرآن البالغة مائة وأربع عشرة سورة، وهل يمكن حمل السورة في هذا التحدي على سورة البقرة لأن الآية وردت فيها، الجواب لا، لأن التحدي ورد على نحو الإطلاق والتنكير وإرادة أي سورة من سور القرآن، والبرهان يصدر من جهة أو شخص لإيصال حقيقة وتعليم الغير.
أما الدليل فقد يقوم بين شخصين أحدهما سائل والآخر مجيب، فالآية حجة ودليل على إعجاز القرآن وتحد للكافرين والجاحدين، ومدرسة عقائدية ليبقى القرآن دستوراً سماوياً للناس وإشارة تنمية ملكة العز والرفعة في نفوس المسلمين.
لقد كان نزول كل سورة من القرآن إمتحاناً وإختباراً للناس، وتكون سبباً لرسوخ إيمان المسلمين، لأنها علم إضافي وكنز سماوي وأما الكفار فإنهم يزدادون إثماً بنزولها لإصرارهم وعنادهم وجحودهم قال تعالى[وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ] ( ).
بحث قرآني
والسورة: طائفة مستقلة من القرآن , وأقل السور تتكون من ثلاث آيات، وفي علة التسمية وجوه:
الأول: من سور المدينة لأنها محدودة بما يميزها عن غيرها من سور القرآن، كالبسملة والتسمية الخاصة بها.
الثاني: لأنها سور واحد لمجموعة من العلوم والذخائر والكنوز.
الثالث: لأنها رتبة وشرف خاص، وشأن قرآني مستقل، والتحدي وان جاء بعنوان السورة مطلقاً إلا أن القدر المتيقن والحد الأقل الذي ينصرف إليه صرف وطبيعي التحدي هو أقصر السور، خصوصاً وأن الإعجاز البلاغي والقرآني في القرآن على نحو العموم المجموعي والإستغراقي فيشمل سور القرآن وآياته وكلماته بعرض واحد.
الرابع: من السورة وهي الرتبة وعلو المنزلة، وعلو القارئ اذ يرتقي في قراءة كل سورة منزلة أعلى إلى أن يستكمل القرآن.
إن نزول القرآن سوراً آية من آيات الله عز وجل، وحكمة، وتخفيف وحجة، وفيه مسائل :
الأولى : تفصيل القرآن بحكمة وإتقان وكل ســورة منه تحمل اسـراراً خاصة فسورة يوسف مثلاً تتضمن قصته وما فيها من المواعظ والدروس قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا]( ).
الثانية: شطر من السور جاءت طوالاً وأخرى قصاراً، في آية تؤكد الإعجاز في كل منها بغض النظر عن طول الآيات أو قصرها أو عدد آياتها زيادة ونقصاً.
الثالثة: تيسير تعلم آيات القرآن وحفظ سوره بالإبتداء مثلاً من السور القصار.
الرابعة: طبيعة مراحل الدعوة الإسلامية، ففي بداية البعثة كان أهل مكة محتاجين إلى الإنذار والوعيد بأقصر السور.
الخامسة: الحاجة إلى معرفة بلاغة القرآن , وما فيه من الإعجاز الذي يحسه العرب بأقصر السور.
السادسة: سهولة حفظ المسلمين للسور القصار وإتخاذها سلاحاً للهداية.
السابعة: الحاجة لها في الصلاة قراءة وضبطاً وتدبراً.
الثامنة: محاكاة الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن كالتوراة والإنجيل والزبور ووجوه الشبه كسر من أسرار التنزيل.
التاسعة: التباين بين القرآن وبين الكتب السماوية الأخرى، لأن نزول الكتب السابقة دفعي مرة واحدة لذا يقال له (انزال)، والقرآن نزل نجوماً وعلى نحو التدريج والآيات لذا يقال له (نزول).
واخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كنّا نتحدث أن الزبور مائة وخمسون سورة كلها مواعظ وثناء ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وذكروا أن في الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال( ).
العاشرة: ان الجنس اذا تضمن اصنافاً كثيرة وانواعاً مستقلة وأبواباً متعددة كان أحسن وأظهر وأكثر بياناً.
الحادية عشرة: بعث النشاط في القارىء عندما يختم سورة من السور، وينتقل بفطنة ويقظة إلى غيرها تكون عوناً له على التحصيل والإستيعاب.
الثانية عشر: آية في النظم وبديع المعاني.
الثالثة عشرة: الحكمة في تعدد أسماء السور، فلكل اسم فوائد ودلالات.
الرابعة عشرة: الدلالة على وجود كنوز مستقلة في كل سورة.
الخامسة عشرة: الإعانة على تفســير الآيات والنظــر في ملائمة بعض السور لبعضها الآخر.
السادسة عشرة : عظيم الفضل الإلهي في الأجر والثواب على القراءة، فقراءة سورة من السوّر القصــار يصدق عليه قراءة سورة من سوّر القرآن.
تفسير قوله تعالى [ مِنْ مِثْلِهِ ]
إطلاق التحدي وإنه أكبر وأوسع من مثل السورة الواحدة، فقد جاء على نحو العموم المجموعي والإطلاق الشمولي لإظهار عجزهم عن الإتيان بسورة تحمل المضامين القرآنية من غير النظر لعنوان المشابهة مع سورة معينة.
ويظهر التحدي بالسورة من القرآن أن هيئة سور القرآن موجودة على حالها منذ أيام النبوة والتنزيل، وفي الآية إكرام لكل سورة قرآنية على نحو خاص، أي أن إفراد بعض الآيات بعنوان مستقل وإطلاق اسم (سورة) عليه هو سر من أسرار القرآن، وعلم يتميز بمضامين سماوية تستحق الدراسة والتحقيق المستقل.
ولعل شهادتهم تلك فرد من إجمالي سلوكهم المنافي لصيغ الايمان، كما أن ذيل الآية يتضمن صفاتهم التي يعرفون بها.
وجاءت دعوة شهدائهم لإطلاق التحدي وشموله أفراد وأقطاب الكفر ليحضروا ويظهروا إذعانهم التام للإعجاز القرآني، وليعاينوا تسليمهم بالعجز عن الإتيان بسورة أو طائفة شبيهة بسورة من سور القرآن البالغة مائة وأربع عشرة سورة، ولإظهار ضلالة المخادعين والمعاندين كما في قول ابراهيم [ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ]( ).
ولقد أظهر الوليد بن المغيرة وهو ذو مقام في قريش تحيره في القرآن وقال: والله ان لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق( )، وإن فرعه لجناة وما انتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل( ).
ولم تقل الآية (سورة مثله) بل من مثله لتنزيه القرآن عن المثلية ولتوكيد تنزيله من عنده تعالى.
إن التحدي يشمل أهل الفصاحة والبلاغة وأهل الريادة الذين يزينون لهم البقاء على الكفر والضلالة، ويصدونهم عن الإسلام ويحرضونهم على الإمتناع عن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء التحدي والإخبار عن عجز الكفار والمشركين عن الإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن من وجوه:
الأول: حسن نظم القرآن، وبديع ألفاظه.
الثاني: إحاطة القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث.
الثالث: نزول آيات القرآن من عند الله تعالى.
الرابع: تلقّي المؤمنين للتنزيل بالرضا والغبطة والقبول.
الخامس: إستجابة المسلمين لما في آيات القرآن من الأوامر.
السادس: إنتهاء المسلمين عما نهى عنه القرآن.
السابع: وجود النسخ في القرآن.
الثامن: تضمن القرآن الوعد والوعيد، ووجود المصداق الخارجي لهما.
التاسع: دلالة المثل القرآني وما فيه من العبرة والموعظة.
العاشر: تضمن التنزيل لقصص الأولين وإخبار الأمم السالفة.
الحادي عشر: القرآن كلام الله المجيد، وهل يشمل التحدي الكتب السماوية السابقة الجواب لا، إنما المراد تحدي الكفار والمشركين وإثبات عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من سور القرآن، وان كانت الكتب السماوية السابقة، لا ترقى إلى منزلة القرآن ، وما فيه من الأسرار والكنوز والذخائر.
الثاني عشر: بقاء سور وآيات القرآن من غير تحريف أو تبديل إلى يوم القيامة، وقد تنبأ جماعة في أيام البعثة النبوية المباركة وهم مسيلمة الكذاب من بني حنيفة ظهر في اليمامة وطليحة بن خويلد تنبأ في بني أسد، والأسود العنسي الذي تنبأ في اليمن، وسجاح التي إدعت النبوة في بني تغلب، وإدعى طليحة أن ملكاً ينزل عليه إسمه ذو النون، وكان الأسود العنسي رجلاً فصيحاً، يحسن سجع الكهان ويدّعي أن ملكاً ينزل عليه، وأما سجاح فإدعت نزول القرآن عليها، ولكنه إنقطع بزواجها من مسيلمة.
تفسير قوله تعالى[شُهَدَاءَ كُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ]
وجاء قوله تعالى [وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ] متأخراً رتبة على التحدي بإتيان سورة من مثل القرآن، مما يدل على أن دعوة الشهداء ليس لموضوع الإتيان بسورة من مثل القرآن وحده، بل هو أعم، ومن وجوهه:
الأول: إخبار الكفار بعجز أعوانهم عن نصرتهم.
الثاني: في الآية لوم إضافي للكفار لأنهم يتخذون الأعوان في الباطل، وإثارة الشك والريب في الحق والتنزيل.
الثالث: قد جاءت الآيات السابقة بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ] ( ) ليشمل التحدي هؤلاء، وإخبار الكفار عموماً بان رؤساء الضلالة يلتقون معهم بالعجز عن الإتيان بمثل سورة من سوّر القرآن.
الرابع: جاء قيد [مِنْ دُونِ اللَّهِ] لبيان معصية أخرى للكفار وهي إتخاذهم شهداء وأرباباً من دون الله تعالى، وهؤلاء الأرباب لايقدرون على نصرتهم، ولا إعانتهم في موضوع الإتيان بمثل سورة من القرآن، وكأن الآية تدعو اولئك المخادعين والمنافقين إلى الذهاب إلى رؤساء الضلالة من أقطاب الكفر من قريش وغيرهم، لنقل التحدي بالإتيان بمثل سورة من القرآن، فيظهرون عجزهم، ويفتضح أمرهم، وفيه دعوة للكفار عامة بعدم الرجوع إليهم والأخذ منهم.
تفسيرقوله تعالى [ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ]
بما تدعونه من الشك والريب، والمقام وجه من وجوه التصديق لا التصور، ويحتاج الإدعاء فيه إلى البينة أو إلى حكم مع التصور، لبيان عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن خاصة وأن العرب أهل بلاغة وفصاحة يدركون من غير مشقة الفارق الكبير بين آيات القرآن وبين غيرها.
وهذه الآية وان كانت تحدياً وتوبيخاً لأهل الضلالة إلا أنها رحمة عامة ولطف إلهي ودعوة لهم للإسلام، وتثبيت دائم للقرآن بلفت النظر إلى الإعجاز.
بحث بلاغي
قد جاءت هذه الآية بحرف الجر (من) الذي يفيد التبعيض، بينما ورد في قوله تعالى [ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ]( )، وقوله تعالى [ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ]( ) من غير حرف الجر، وهذه الزيادة والنقيصة تتضمن معارف متعددة وتعتبر في علم البلاغة من المتشابه.
ومن المعارف أن المثلية تفيد إرادة اللفظ والمعنى والدلالة والبلاغة ومفاهيم الإعجاز، ومن الآيات ان جعل الله عز وجل النفوس المطمئنة تتذوق القرآن، وتستطيع تمييز كلام الخالق عن كلام المخلوقين، وإستقراء الذخائر البلاغية والعلمية، والأسرار الملكوتية في القرآن، الذي هو إمام في الدعوة إلى الله عز وجل.

قوله تعالى[ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ] الآية 24.

القراءة والإعراب واللغة
قرأ عبد الله (إعتدت) من العتاد بمعنى العدة( )، بدل أُعدت.
فان : الفاء استئنافية، (ان) حرف شرط.
(لم) أداة جزم تدخل على الفعل المضارع فتنفيه، وتجعله بمعنى الماضي، لذا قالوا أنها حرف نفي وقلب وجزم.
(تفعلوا) فعل مجزوم وعلامة الجزم سقوط النون، واو الجماعة فاعل.
لن : الواو : حرف عطف لإرادة عجزهم في المستقبل أيضا وقيل إعتراضية، ولن : حرف نفي ونصب وإستقبال، تفعلوا : فعل مضارع منصوب بلن، وعلامة نصبه حذف النون.
فاتقوا : الفاء رابطة لجواب الشرط، وإتقوا : فعل أمر مبني على حذف النون، والواو : فاعل .
النار : مفعول به، التي : اسم موصول في محل نصب صفة للنار، وقودها : مبتدأ مرفوع، الهاء : ضمير متصل في محل جر بالإضافة، الناس : خبر مرفوع بالضمة، الحجارة : عطف على الناس، والجملة الإسمية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
أعدت : فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هي، للكافرين: جار ومجرور متعلقان بأعدت.
وإتقوا : خافوا وأخشوا.
والوقود – بالفتح -: الحطب.
والحجارة: جمع حجر (قيل إنها حجارة الكبريت لأنها أحرُّ شيء إذا حُميت، عن ابن مسعود وابن عباس)( ).
في سياق الآيات
بعد أن تضمنت الآية الســابقة توبيخ وتبكيت الكفــار بلغة التحدي الخالد , جاءت هذه الآية لتؤكــد عجزهم وخيبتهم، وفيها إكرام للقرآن وإخبار بالبرهان الدائم عن الوظائف العظيمة لكل سورة وآية قرآنية، وعجز الناس بعد تعاقب السنين والأيام عن بلـــوغ كنههـــا، وما فيها من الكنـــوز والمعـــارف الإلهية يقتضي إبراز هذه الحقيقة كتعقب المعلول لعلته منعاً للبغي والتمادي في الضلالة.
ومن الإعجاز في سياق الآيات أن الآية جاءت بعد ذم المنافقين، ودعوة الناس لعبادة الله عز وجل والتذكير بنعم الله العظيمة عليهم، والدعوة إلى تصديق نزول القرآن من عند الله ليكون هذا التصديق علة لدوام النعم الإلهية على الناس، وسبباً لإحرازهم الثواب العظيم والأجر الجزيل، وليس بين التحدي بالإتيان بسورة من القرآن وبين إثبات عجز الناس عنه آية فاصلة، بل جاء نفي قدرة الكفار على محاكاة التنزيل متعقباً لآية البرهان ، وفيه زيادة وتوكيد للتحدي، وبيان لصدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
وإنتقلت الآية التالية إلى خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات بما أعدّ الله لهم تعالى في الآخرة لتصديقهم بالتنزيل وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه ترغيب للناس جميعاً بالإلتحاق بهم وإختيار الإيمان كسبيل للفوز في النشأتين.
وإذ ذكرت آية سابقة قول المخادعين بأنهم يستهزءون بالمؤمنين( )، فقد أخبرت هذه الآية عن تخلفهم عن الإستهزاء في موضوع التنزيل، ووقوفهم عاجزين مبهورين أمام إعجازه، مما يدل على صدق قوله تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ] ( ) إذ أن التحدي وعجز المنافقين والكفار عن الإتيان بمثل سورة منه شاهد على أنهم أهل للإستهزاء بهم.
إعجاز الآية
إطلاق النفي لحال عجزهم عن الإتيان بسورة من قصار السور القرآنية، ودعوتهم إلى الهداية بنبذ الخصومة واللجاج والتسليم بأنه كتاب نازل من عند الله تعالى، إنها مدرسة القرآن، إذ يقترن الوعيد بالتحدي و ويدل في مفهومه على مدح المسلمين والثناء عليهم وإثابتهم.
وتجعل هذه الآية نزول القرآن من عند الله من المسلمات ويساعد في تنمية ملكة صناعة الجدل عند المسلم، وإفحامه للخصم، وتفتح الآية أبواب الغلبة على الكفار في ميادين الإحتجاج وغيرها، وهي تؤسس أول مراحل الهزيمة لجنود الشرك والضلالة.
وتحصر الآية الإختيار في أمرين لا برزخ أو ثالث لهما، أما الإتيان بسورة من مثل القرآن أو الإيمان بالله عز وجل وإجتناب العذاب الأخروي.
وهل يمكن طرح مسألة وهي لو جاءوا بسورة من مثل القرآن فماذا يحصل؟ الجواب لايستطيعون الإتيان بمثل سورة من القرآن، لأنها سالبة بإنتفاء الموضوع وأن الله عز وجل جعل من أسرار وإعجاز القرآن عجز الخلائق عن الإتيان بما يشبه سورة من سوره، ليبقى تحدي القرآن للكفار قائماً إلى يوم القيامة، ويكون حجة في الدعوة إلى الإسلام، والصدور عن القرآن.
وتدل الآية على بقاء مضامين الآية القرآنية حية غضة إلى يوم القيامة، تؤدي وظيفتها في كل زمان ومكان.
ومن الإعجاز في هذه الآية وجوه :
الأول : شمولها لأفراد الزمان الطولية الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل لمجئ أداة النفي للزمن الماضي (لم) وأداة النفي للزمن الحاضر والمستقبل (لن).
الثاني : مجيؤها بلغة الجمع التي تفيد تحدي الكفار والمنافقين متفرقين ومجتمعين.
الثالث : إقتران البرهان في الآية بدعوة الناس إلى أخذ الحذر من العقاب الأليم في الآخرة، وإجتناب الخلود في النار.
الرابع : لغة البيان في الآية إذ أنها أختتمت بذكر قانون ثابت وهو أن النار أعدّها الله عز وجل للكفار الجاحدين الذين لايؤمنون بالنبوة والتنزيل.
الأمر الذي يدل على ظهور آيات التنزيل والنبوة للناس جميعاً، وقيام الحجة عليهم لقبح العقاب بلا بيان.
وفي الآية وجوه:
الأول : الإخبار الإلهي عن عجز الناس وإلى يوم القيامة عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن.
الثاني : بيان شرف وعظمة كل سورة من سور القرآن.
الثالث : الإشارة الى الأسرار القدسية في كل سورة من القرآن.
الرابع : بيان علة إعجازية في تقسيم القرآن إلى سور، ومجيئه بهذا الترتيب والتفصيل في سوره.
الخامس : دعوة المسلمين للحرص على حفظ السورة من القرآن كاملة، وان كانت من السور الصغار.
السادس : تلاوة سورة من القرآن مع سورة الفاتحة في الصلاة.
السابع : الإحتجاج على الكفار بتلاوة سورة من القرآن.
الثامن : موضوعية السورة من القرآن في النجاة من العذاب الأليم يوم القيامة، فان التحدي بسورة مقدمة للتصديق بها، والجحود بها سبب لنزول العذاب.
التاسع: إذا كان الناس عاجزون عن الإتيان بمثل سورة من قصار السور من القرآن، فلابد انهم عاجزون عن الإتيان بشطر من القرآن للأولوية القطعية.
العاشر : الترغيب بتلاوة آيات القرآن , قال تعالى[وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
الحادي عشر: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثاني عشر: الإحتجاج على الكفار وتخويفهم واقية للمسلمين، وحرز من المكر الذي يضمرون، وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
ومن إعجاز الآية عدم وصول النوبة إلى مجئ الكفار بمثل عدة سور من قصار السور فيقال لهم أتوا بمثل القرآن بل جاء التحدي بسورة ليبقى الكفار متخلفين عن الإتيان بمثلها، مما يبعث الفزع والخوف في نفوسهم، ويجعلهم يقرون بإذعان بصدق نزول القرآن من عند الله.
وجاءت هذه الآية حرباً على الكفر، وجذباً لشطر من الكفار إلى الإسلام، وإضعافاً لجبهة الكفر بنقص عدد الكفار، وبعثاً لليأس في نفوسهم ، فبدل أن يكونوا في ريب من القرآن ونزوله من عند الله، يصبحون في ريب وشك من أنفسهم ورؤسائهم ومنازل الكفر التي يصرون على البقاء فيها.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (ولن تفعلوا) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
في الآية تثبيت دائم لإعجاز القرآن، وإظهار سمو مرتبته عن كلام البشر وقدراتهم البلاغية واللسانية، ولجم للأصوات الشيطانية التي تحاول النيل من التبليغ والدعوة الإسلامية.
وتبين الآية كيف أن القرآن عون للمسلمين، وسلاح لهم لمواجهة أهل الريب والشك، فلولا هذه الآيات لعجز المسلمون عن التحدي بسورة من مثل القرآن، أو لتجرأ الكفار في الإصرار على الشك والريب وإثارة الشبهات، فتفضل الله سبحانه وتحدى الكفار والمنافقين، وفضح عجزهم وقصورهم.
لقد أراد الله عز وجل من الناس عبادته وإتيان الفرائض والواجبات، فبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل عليه القرآن، ولكن شطراً من الناس أبوا إلا الجحود والعناد.
فجاءت هذه الآية لتؤكد أن الكفار لم يأتوا بسورة من القرآن، ولن يستطيعوا الإتيان بها.
وقوله تعالى [وَلَنْ تَفْعَلُوا] إعجاز يتضمن إتصال وإستمرار موضوع التحدي في هذه الآيات إلى يوم القيامة، ليكون سلاحاً بيد المؤمنين، ودعوة للتدبر في آيات القرآن وما له من الخصوصية الإعجازية.
الآية لطف
تعتبر الآية نعمة سماوية تتضمن القطع بعجز الناس عن الإتيان بكلام يشبه كلام الله عز وجل بلحاظ سورة واحدة من القرآن، ومن الإعجاز القرآني أن جاءت هذه الآية بصيغة الخطاب [يا أيها الناس] الذي يفيد العموم وشموله لجميع أهل الأرض في الأزمنة المتعاقبة والأجيال المتوارثة إلى يوم القيامة، ويستقرأ هذا العموم من قوله تعالى [لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا] وما فيهما من إجتماع الزمن الماضي والمستقبل.
لقد أراد الله عز وجل للناس النفرة من النار والطرق المؤدية إليها , كما في قوله تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( )، وبالإحتجاج بثبوت نزول القرآن من عنده تعالى، ويستلزم هذا النزول التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتقيد التام بما في القرآن من أحكام الحلال والحرام.
وتتولى هذه الآية الكريمة حفظ الإيمان في نفوس المسلمين بفضح عدوهم، وبطلان شبهاته، وبيان عجزه عن الإتيان بسورة واحدة من القرآن، وفيها دعوة للناس جميعاً للإنصات لآيات القرآن والتدبر في معانيها باعتبار أنه كتاب نازل من عند الله، وتضمن في نزوله تحدي الناس في أجيالهم المتعاقبة بالإتيان بسورة من مثل أي سورة من سوره مع لحاظ الإرتقاء العلمي والتقني، والإتصال بين أهل المشرق والمغرب, وإمكان الإجتماع والاتحاد بين الكفار وأهل الضلالة في المكر والدهاء, قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وفي الآية بشارة للمسلمين بالنجاة من النار لأنها تبين بوضوح أن الله أعدّها للكافرين والجاحدين بالنبوة والتنزيل، وفيه لطف للمسلمين وبرزخ دون إنصاتهم للمنافقين، خصوصاً وأن النفس الإنسانية تنفر من العقاب والعذاب الأليم.
مفهوم الآية
صيغة القطع في الآية الكريمة والتثبيت المؤبد لعجز الناس عن الإتيان بسورة واحدة من القرآن توبيخ للكافرين ودعوة لهم للإيمان، والإنذار من النار حجة عليهم وتنبيه لهم على سوء إختيارهم، وحث لهم على التصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية مسائل :
الأولى : توكيد عدم إتيان الكفار بسورة من مثل القرآن في أفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، وفيه بشارة وتخفيف عن المسلمين بعجز الكفار عن التعدي على حرمات القرآن، وهو دليل على إعجاز القرآن، وما جعل الله عز وجل له من العصمة.
الثانية : تحذير الكفار والناس جميعاً من إرتكاب الذنوب التي تقود أصحابها إلى النار.
الثالثة : بيان شدة وطأة النار، وما فيها من العقاب الأليم.
الرابعة : تقييد موضوع النار وسبب إعدادها، وأنها هيئت للكفار عقوبة لهم على جحودهم وكفرهم، ويدل التعيين في البشارة للمسلمين على الأمان والسلامة من النار.
إفاضات الآية
تبعث الآية في نفوس المسلمين الفخر والإعتزاز، وتطرد عنها شبح الشك والريب، وتجعلهم في حال إحتجاج وبيان وتصد لأهل الريب بدلاً من الإنشغال بالدفاع ودفع أسباب الأذى والحصار الفكري، وتلقي الآية السكينة في قلوبهم لما فيها من الملازمة بين الإيمان وبين النجاة من عذاب النار في الآخرة.
وفي الآية تحد للكافرين، ومن الإعجاز أن هذا التحدي بالمحسوس والقريب ليكون العجز عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن كاشفاً ظاهرياً عن الضعف والنقص، وبرهاناً على لزوم الإقرار بالعبودية والخضوع لله تعالى، والتصديق بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتنفي الآية وجود برزخ بين الإيمان والكفر، فأما الإيمان والإقرار بنزول القرآن من عند الله تعالى، وأما الوعيد والعقاب بالنار التي يبعث وصفها في هذه الآية على الفزع والخوف.
والإيمان جوهر إيماني يطفئ لهيب النار، وتحذر الآية من عدوين أحدهما ظاهر وهو الكفار الذين هم وقود النار، والآخر باطن وهو الشيطان، كما أنها تؤكد دفاع الله تعالى عن القرآن ونصرته وإثبات نزوله من عند الله تعالى.

الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بتوكيد إستدامة عجز الكفار عن الإتيان بمثل سورة من القرآن بثلاث أدوات، إن : وهو حرف شرط.
لم : أداة جزم تدخل على الفعل المضارع فتنفيه وتجعله بمعنى الماضي.
لن : وهو حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالإستقبال وينفيه، فأكدت الآية أن الكفار لم يأتوا بسورة مثل القرآن فيما تقدم على نزول هذه الآية من الزمان، وهي مدنية وقد سبقها نزول الآيات والسور في مكة المكرمة حيث الملأ من كفار قريش، وكانت السور المكية تتصف بالقصر وقلة عدد وكلمات آياتها، بخلاف السور المدنية في طولها وكثرة عدد آياتها، وهذا تحدِ آخر أكبر وأعظم من التحدي الذي جاء في الآية السابقة.
وإذا جاء قبل ثلاث آيات الأمر الإلهي للناس بعبادة الله تعالى رجاء التقوى، وجاءت هذه الآية بالتحذير من النار، وخصت الآية في تحذيرها أهل الشك والريب، ولكنها أعم إذ تشمل الكفار جميعاً فمنهم من لا يقف عند حدود الشك بل يشهر السيف ويسعى في قتال المسلمين، ومنهم من ينصر الكفار.
وينحصر إتقاء النار بتصديق نزول القرآن، وعبادة الله تعالى، ومن إعجاز الآيات ان قرنت بين العبادة وتصديق نزول القرآن للنجاة من عذاب النار، وجعلت الآية الإنسان بين أمرين لا برزخ بينهما فان السلامة والنجاة بالإيمان، والخسارة بالكفر والضلالة.
ومن وجوه الأذى والأسى والحسرة يوم القيامة على الإنسان أن يكون هو والحجارة في مرتبة واحدة في النار، والحجارة أحسن منه حالاً لأنها جماد لا يتألم بالحرارة.
وذكر أنها أصنامهم المنحوتة , أما الإنسان فإنه يتألم ويتأذى من حر النار، ومن صحبة الحجارة، فكما ذمّ الله تعالى الكفار لكفرهم وجحودهم بقوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ]( )، ففي الآخرة تكون الحجارة، وهي جمع حجر المصاحب لهم في النار، وإن كانوا أضل من الأنعام في الدنيا، فانهم في الآخرة أشد وأكثر ألماً من الحجارة، ومن صحبتها.
وتبين الآية حقيقة من الإرادة التكوينية وعالم الغيب في الآخرة بأن أجساد الكفار لا تبلى أو تحترق في النار، بل هي باقية مع الحجارة فيها، ليس لضعف حرارة النار أو قلة عذابها، بل لإرادة الله تعالى في عذاب الكفار وشدته، قال تعالى [كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا]( ).
ومن الآيات أن التحدي وإثبات عجز الناس عن الإتيان بمثل سورة من القرآن جاء لغايات حميدة منها :
الأول : إنه مقصود بذاته كآية وشاهد على عظيم قدرة الله وتخلف الممكن عن كلام الخالق.
الثاني : دعوة الناس لتقوى الله وعبادته.
الثالث : حث الناس جميعاً على التدبر في آيات القرآن، وما فيها من إعجاز ومضامين قدسية.
الرابع : الآية من مصاديق رحمة الله تعالى بالناس جميعاً في الدنيا، ورشحات صفة الرحمن، ولما فيها من توكيد نزول القرآن من عند الله.
الخامس : الآية تأديب للناس جميعاً لأنها جاءت بمخاطبة الذين بلغوا المراتب العليا في الفصاحة والبلاغة، والناس أعم من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم والخاصة منهم من أساطين البلاغة، وخطابها شاملة لجميع الناس في أجيالهم المتعاقبة، إذ أن مضامين التحدي فيها تتوجه الى الناس جميعاً، مما يدل على أن إعجاز القرآن شامل لميادين ومواضيع العلم المختلفة.
السادس : تدل الآية على تضمن آيات القرآن الإعجاز الذاتي وتدعو الناس إلى الإنتفاع منها.
السابع : في الآية إخبار عن عالم الحساب والجزاء، وأن النار أعدها الله تعالى للكافرين والمشركين الذين يجحدون بالربوبية والنبوة والتنزيل.
الثامن : إجتناب عذاب النار واجب على الإنسان، وتنحصر السلامة من النار بالإيمان بالله، والإخلاص في عبادته , والتصديق بالنبوة والتنزيل فيترشح إجتناب النار من التقيد بالأوامر الإلهية وعلة خلق الإنسان، والعلة التامة هي جميع ما يتوقف عليه وجود الشيء، فلا يتخلف المعلول عن علته لوجود المقتضى وفقد المانع .
وعلة خلق الإنسان هي العبادة وجعل الدنيا دار إمتحان وإختبار والآخرة دار الثواب والعقاب, قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
التفسير الذاتي:
القرآن من جنس كلام العرب، ونزل بين أهل الفصاحة والبلاغة، إذ إرتقت قريش ومن حولها في منازل البلاغة وتعاطوا الشعر وتباهوا به وإتخذوه مرآة مما زاد بالعناية في أمور البلاغة واللغة، وحفظوا وتناقلوا القصائد الطويلة، والخطب البليغة.
فجاءت هذه الآيات لتتحداهم بمثل سورة واحدة من القرآن مع ما عندهم من عصبية وحمية وعناد، وتضمنت هذه الآية الإخبار عن عجزهم عن الإتيان بمثل سورة من القرآن على نحو الإطلاق الزماني الشامل لأفراد الماضي والمضارع والمستقبل.
ولا تضر لغة الشرط التي إبتدأت بها الآية بحرف الشرط (إن) في دلالة وإطلاق هذا الإخبار لأنها جمعت الماضي والمستقبل، وبما أنهم عجزوا في الماضي وزمان ما قبل نزول الآية عن الإتيان بسورة مثل القرآن، ولم يدعّوا مثل هذا الإتيان، فانهم عاجزون في المستقبل عن مثله.
وبعد التحدي وثبوت عجز الكفار وأهل الشك والريب عن محاكاة ومعارضة آية من القرآن وما فيها من الأسرار والكنوز إنتقلت الآية إلى دعوة الناس للهداية والإيمان والخشية من النار والعذاب الأليم يوم القيامة، وهذا الإنتقال من أسرار عموم لغة الخطاب في هذه الآيات الثلاثة.
ولم يرد لفظ [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا] في القرآن إلا في هذه الآية لبيان حقيقة وهي أن التحدي في القرآن موضوع خاص يتصف بالعموم والإطلاق ،العموم للناس جميعاً، والإطلاق الزماني فمع تطور التقنية وزوال المسافات بين الناس، وإتحاد أهل الكفر والضلالة فانهم يعجزون أيضاً عن الإتيان بسورة مثل القرآن.
وقد ورد لفظ (إتقوا) تسعاً وستين مرة في القرآن منها مرتان في الخشية من النار، إحداهما هذه الآية، والأخرى في تحذير وإنذار المسلمين من أكل الربا ولزوم تقوى الله، وجاء الفلاح والفوز بشارة وثواباً للمؤمنين قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، وجاء التحذيرمن النار متعدداً من وجوه :
الأول : إذا عجزتم عن الإتيان بسورة من القرآن فاخشوا عذاب النار يوم القيامة.
الثاني : إذا كنتم تعجزون عن الإتيان بسورة من مثل القرآن فاخشوا النار.
الثالث : مع إجتماع العجز عن الإتيان بسورة من القرآن في الزمن الماضي، وعن الإتيان بمثل سورة في الزمن المستقبل فلابد من الخوف والتوقي من العذاب في الآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة وهي من أسرار القرآن وما فيه من خزائن الإعجاز بلحاظ أن التحدي بمضامين هذه الآية باق ومتجدد إلى يوم القيامة.
وفي الآية إخبار عن النار والغاية من إعدادها وأنها مثوى للكفار، وفي صيغة الماضي (أعدت) شاهد على أن النار مخلوقة إلا أن يدل دليل أو قرينة على الخلاف، وهو مفقود.
ومن إعجاز الآية أن التحدي فيها جاء بلغة الخطاب للناس جميعاً لأنه تقدم قبل ثلاث آيات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، ثم عطفت عليه هذه الآيات، وجاءت خاتمة هذه الآية وما فيها من قانون إختصاص النار بالكفار بصيغة الغائب والخطاب والقاعدة الكلية، وفيه وجوه :
الأول : إن لفظ الناس عام وشامل، وبين الناس والكافرين عموم وخصوص مطلق، فالكفار من الناس، أما إذا أريد من الكافرين المعنى الأعم، وشمول إبليس وجنوده من الجن فتكون النسبة حينئذ العموم والخصوص من وجه.
فمن الناس من يدخل الجنة ومنهم من يدخل النار التي لا تكون خاصة بهم.
الثاني : في التباين بصيغة الخطاب دعوة للناس للتوبة والإنابة، بأن يأتي التحدي بالإتيان بمثل سورة من القرآن, ومع العجز عنه فان العقل يدرك لزوم التسليم والإقرار بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالث : إنعدام الملازمة بين العجز عن الإتيان بمثل سورة من القرآن وبين الكفر ودخول النار، لأن الله تفضل وجعل باب التوبة مفتوحاً.
الرابع : إختتام هذه الآيات بالوعيد وهو شاهد بأن الله عز وجل أنعم على الناس بخلق السموات والأرض، وجريان أسباب الرزق الكريم، وتنزيل الكتاب ليعبدوه ويشكروا له، ومن يجحد فإن الله عز وجل يعذبه عذاباً أليماً.
الخامس : إنتفاء البرزخ والوسط بين الإيمان والكفر، وأن الكفار لهم عذاب النار خالدين فيه، وقد جاء لفظ (وقودها) مرتين في القرآن وبذات الموضوع وهو التحذير من النار فقد ورد في سورة التحريم [قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( )، في خطاب للذين آمنوا، لتكون الصلة بين الآيتين في لغة الخطاب العموم والخصوص المطلق، مع الإتحاد في الموضوع وهو الوقاية من النار، ولم تكتف خاتمة الآية بالتحذير من النار، فجاءت بتحذير إضافي من وجهين :
الأول : إن هذه النار لها وقود، وهل يمكن الإستدلال بهذه الآية على أن النار لم تخلق بعد لأن الناس لم يدخلوا إليها بعد، الجواب لا، من وجوه :
الوجه الأول : ذكرت الآية فرعين للوقود وهما الناس والحجارة، والحجارة موجودة في الأصل وإن قيل المراد من الحجارة هي الأصنام التي كان يعبد الكفار، (وعن ابن عباس رضي الله عنه : هي حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حراً إذا أوقد عليها( ) فيمكن أن تكون وقودها في حقب زمانية على وجوه :
الأول :الحجارة وحدها وهي مخلوقة قبل الإنسان.
الثاني : خلق الله عز وجل حجارة خاصة لتكون وقوداً للنار، ولو لفترات مخصوصة.
الثالث : وقود النار أعم من الناس والحجارة ، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الرابع : إن الله عز وجل قادر على أن يجعل النار تشتعل من غير وقود وإن إحتراقها ذاتي.
الوجه الثاني : وجود النار أعم من الحاجة إلى الوقود إنما تكون بالكاف والنون أي بأمر الله عز وجل[كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثالث : تحتمل هذه الآية أمرين :
الأول : نار الآخرة هي ذاتها التي وقودها الناس والحجارة.
الثاني : النار المذكورة في هذه الآية جزء من نار الآخرة، وهذا الجزء يتصف بأنه لا يتقد إلا بالناس والحجارة.
والصحيح هو الأول لعدم وجود دليل على التعدد والتركيب في النار، إلا أن يستقرأ منه تعدد أبواب النيران، وأن بعض الأبواب تفتح على مثل هذا الجزء من النار لإرادة الإنذار والوعيد والتخويف وكذا العذاب الأليم يوم القيامة وفي وصف جهنم، قال تعالى [لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ]( ).
والكفار من أفراد وقود النار في الآخرة، فيكون عذابهم مركباً من وقود النار، وصيرورتهم وقوداً لها.
ومن إعجاز الآية أنها لم تأت خاصة بأهل الشك والريب الذين تتحداهم بسورة من القرآن، بل تخبر عن إعداد النار للكفار مطلقاً، وبين الكافرين الذين أعدت لهم النار والذين جاءت هذه الآية لتحديهم عموم وخصوص مطلق، إذ أن لفظ الكافرين أعم.

من غايات الآية
في الآية دعوة للناس للتدبر بآيات القرآن، وما فيها من مضامين الحكمة ووجوه المعرفة، وتحذير الناس من الكفر والجحود، فالآية وان جاءت بلزوم إتقاء النار إلا أن المراد منها النهي عن إرتكاب الذنوب والفواحش، والإقامة على الكفر وما يؤديان إليه من العذاب فهي من باب ذكر المسبب-بالفتح- وإرادته هو والسبب في آن واحد، وتحث الآية المسلمين للسعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الناس من التمادي بالمعاصي.
جاءت هذه الآية خطاباً من عند الله للكفار والمنافقين ويتضمن التحدي والتوبيخ والزجر عن الكفر بموضوع واحد بسيط ليس بمركب، فلم تتحداهم الآية بالقرآن، ومجموع سوره، ولا بسورة من السور الطوال كسورة البقرة وآل عمران، أو المتوسطة في الطول وهي المئين كسورة التوبة، بل جاء التحدي في الآية بأي سورة من القرآن، ومن سورة القرآن ما يكون مجموع آياتها ثلاث آيات قليلة الكلمات، ليكون التحدي بصيغة التنزيل والقرآنية التي تتغشى كل سور القرآن وتكون ظاهرة في إعجازها ومعانيها القدسية، وتنفرد بخصوصية سماوية لايستطيع الناس جميعاً بلوغ مراتبها.
ومن غايات الآية دعوتها الناس للنجاة من النار وما فيها من العذاب على أهلها المقرون بالذل والهوان , وفي التنزيل[رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( )، وتنحصر النجاة يوم القيامة بالتنزه من الكفر والشرك والضلالة، فجاءت هذه الآية رحمة ولطفاً بالناس جميعاً بالتحذير من مقدمات العذاب.

التفسير
تفسير قوله تعالى [ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ]
والآية خطاب كريم وإحتجاج دامغ، ودعوة للتفكر، وفيها دلالة على الإعجاز المؤبد للقرآن.
إن ثبوت عجز الناس عن الإتيان بمثل سورة من قصار السور التي تتكون من كلمات معدودات يجب أن يكون حافزاً يحثهم على إجتناب النار، والخشية من شدة لهيبها الذي يطال أولئك الذين يصرون على الكفر والنفاق قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
و(لم) حرف يجزم الفعل المضارع ويقلب زمنه إلى الماضي، و(لن) حرف يفيد نفي الفعل في المستقبل لأنه يخلص المضارع إلى المستقبل، ويختلف عن (لا) بالتوكيد أي أنه يؤكد نفي حدوث الفعل مستقبلاً، ومجيؤهما معاً إعجاز وتحد خالد ودائم سواء على القول بالصرفة أي صرف الناس عن الإتيان بسورة مثله، أو عجزهم منفردين ومجتمعين عن الإتيان بمثلها.
وفيه أيضاً نكتة أخرى وهي أن هذا العجز مستديم ومستمر قبل نزول القرآن وأثناءه وبعده مستغرقاً لآنات الزمان كلها، فلا يمكن أن يقال أن جيلاً من الأمم المنقرضة كانت عنده أهلية للإتيان بسورة مثله أو أنهم تركوا علوماً تساعد عليه.
وإذ تأتي (لم) لإفادة الزمن الماضي فـ(لن) حرف نفي ينصب الفعل المضارع ويخلصه للإستقبال، والواو في (وَلَنْ تَفْعَلُوا) إعتراضية، وتفيد العطف أيضاً في إستمرار تحدي الكفار على نحو مستديم.
ومعاني اللفظ القرآني أعم من ان تنحصر بوجه واحد من وجوه قواعد اللغة الإستقرائية.
وفي خاتمة الآية إخبار عن بركات القرآن على أهل زمان التنزيل وما بعده، فالكافرون من الأمم السابقة إستحقوا دخول النار بكفرهم وجحودهم بالآيات، اما أهل زمان القرآن فقد جاءتهم إنذارات إضافية، وصيغ كريمة من الإحتجاج وآيات التنزيل بالإضافة إلى الآيات الكونية والكتب المنزلة قبل القرآن.
وقوله تعالى [فَاتَّقُوا النَّارَ]إخبار عن لزوم إستثمار الحياة الدنيا للإقرار بالربوبية لله تعالى وإجتناب السيئات والفواحش, قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ).
ترى ما هو الأمر الذي لا يستطيع الكفار والمخادعون منهم خاصة فعله، فيه وجوه :
الأول : سورة من مثل سور القرآن.
الثاني : دعوة شهداءهم من دون الله.
الثالث : الصدق في ريبهم وشكهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة، وان كان الفرد الأهم وموضوع الآية هو الأول لإثبات عجز الكفار عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، ولكن التحدي عام إذ يعجزون عن دعوة شهدائهم، وهم غير صادقين في ريبهم وشكهم وإفترائهم.
ومن الإعجاز ان يصاحب التحدي الوارد في هذه الآية الناس في أفراد الزمان الطولية الى يوم القيامة، وهو شاهد على حضور القرآن غضاً طرياً بين الناس.
فجاءت هذه الآية إشراقة سماوية تبعث السكينة في نفوس المسلمين، وتدعو العلماء إلى إستقراء وإستنتاج المسائل والأحكام من القرآن في كل زمان ومكان، ونيل مراتب الحصانة والسلامة العقائدية بما فيه من التحدي الذي يدل على نزوله من عند الله تعالى.
تفسير قوله تعالى [ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ]
إعجاز بلاغي ينفرد به القرآن، وموضوعات عالم الخلق والتكوين، فالمقصود في الآية مركب من :
أولاً : ذكر المسبب وإرادة السبب، فتدل الآية بالدلالة التضمنية على النهي عن الضلالة والفساد والجحود، وهي دعوة إلى الإيمان لأنه السبيل الوحيد الذي ينجي الإنسان من النار.
ثانياً : الوعيد والتخويف من النار كنتيجة للكفر ومثوى لأهله، والإنذار فيها على نحو مستقل، وهذا الإنـــذار مطلق ينحـــل بعدد الأفراد المخاطبين لما تتصف به من الشدة وما يسببه ذكرها من الفزع والخوف، وهو مناسبة للإلتجاء إلى الله تعالى وسؤال السلامة من أليم حرها.
وحاول بعض المفسرين الجمع والربط بين هذه الآية الكريمة وقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..]( ) التي قال الزمخشري انها مكية( ) وهي مدنية بالإتفاق، والخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين والتحذير الذي تتضمنه يتعلق بهم وبذويهم، والتنكير فيه تخفيف وإبعاد لأمرها، وإن كانت في مفهومها وعيداً للكافرين.
أما هذه الآية فان الخطاب فيها متوجه إلى أهل الرياء والزيغ والمنافقين والكفار والذين أبوا إلا الارتياب والشك وإتخذوا من الإرتياب سبب عرقلة ذا صبغة فكرية لصد الناس عن الإسلام، فاقترن التحـدي في صدر الآية بالوعيد والتهديد.
والألف واللام في الناس للعهد بقيد صفة الكفر، لقوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ]( )، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
والظاهر ان الحجارة الواردة في الآية هي تلك التي إتخذوها أصناماً للعبادة والتوسل والزلفى، قال تعالى [ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ]( ).
وهذا القول لا يعارض القول بان الحجارة هي حجارة الكبريت الوارد ذكرهـــا عن عبد الله بن مسعـــود وعبد الله بن عباس بترجيح قاعدة وهي ان قولهما مرفوع او مستند إلى دليل من القرآن او من السنة، فيمكن ان تكون النار على وجوه:
الأول: التي أوقدت بحجـــارة الكبريت.
الثاني : ستكـــون تلك الحجارة التي إتخذت للعبادة وقوداً وحطباً لها.
الثالث : وقد تكـــون النيران آنذاك شتى.
الرابع : هناك أقوام من الكفار عبدوا حجارة من الكبريت، ولعلها كانت تضئ لهم فأفتتنوا بها.
تفسير قوله تعالى [ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ]
فالنار مهيأة لعذاب الكافرين، وفي الآية إعجاز هو أن أهل النار ليسوا فقط الذين عبدوا الحجارة، بل أن أولئك صنف من أهلها، والآية من معالم الآخرة وفيها سكينة ووعيد، سكينة للمؤمنين بانهم لن يدخلوا النار، ووعيد للكافرين بالإخبار عما ينتظرهم، وفيها بيان لموضوع النار وحث للمسلمين للإستجارة بالله عز وجل عند ذكرها وقراءة الآيات التي تتعلق بها وتتضمن أخبارها.
فالآية نوع تقييد لوظيفة النار، وحصرها بلحاظ الإعداد أيضاً رحمة بالمؤمنين وتوكيد للطمأنينة في نفوسهم وإخبار إضافي لحجب الخشية منها عن قلوبهم، والإستعانة للنجاة منها بالصلاة والصيام وأداء الواجبات، وطرد الرياء والأخلاق الذميمة من نفوسهم، وهي تذكرة وموعظة ودرس وسبيل للإحتراز بالهداية والعمل الصالح, ومع مجيء الآية في تحدي وذم الكفار فأنها لم تختتم بذات لغة الخطاب وأن الله سوف يجعلهم وقود النار التي أعدها لهم.
بل اختتمت بصيغة الجملة الخبرية والقانون الكلي وهو أن وقود النار هم الناس والحجارة ثم جاء التخصيص والبيان بأن النار[فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ), وفيه مسائل :
الأولى : المراد من الناس في قوله تعالى [وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]الكفار الذين يجحدون بالربوبية والتنزيل.
الثانية: لم ترد الآية بصيغة الخطاب والوعيد للكفار بأشخاصهم بأنهم سيكونون وقود النار، إنما جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية (أعدت للكافرين).
الثالثة: من إعجاز هذه الآيات أنها جاءت بلغة الخطاب إلا خاتمة هذه الآية ، والإخبار بأن النار أعدت للكافرين لتأكيد بقاء باب التوبة مفتوحاً للكفار، وهو موضوع هذه الآيات التي تتضمن جذبهم للهداية والإيمان.
الرابعة: لما إبتدأت هذه الآيات بالخطاب العام الإستغراقي(يا أيها الناس) أختتمت بالوعيد للكفار على نحو التعيين والإخبار عن حقيقة وهي أن النار خاصة بالذين يغادرون الدنيا وهم متلبسون بالكفر , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
الخامسة: صيغة الغائب (أعدت للكافرين) منع لإستيلاء اليأس والقنوط على نفوس الكفار، فإن قلت من خصائص لغة الغائب في المقام التعريض بالكفار وتلبيتهم، وقد تكون لغة الكناية أشد من التصريح، الجواب هذا صحيح، ولكن الأمر لا ينحصر به بل يضاف الدعوة إلى عبادة الله التي جاءت قبل ثلاث آيات[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، ليكون من المقاصد الحميدة للغة التعريض البعث على التوبة.
بحث بلاغي
من أهم وجوه البلاغة الإيجاز إذا جاء في مورده بعيداً عن الإسهاب والتفصيل والإطناب الذي هو أيضاً وجه من وجوه البلاغة حين يستعمل في مظانه.
ومن أقسام الإيجاز الإعجازية ما يسمى (التضمين) والذي يفهم بسياق العبارة من غير ان يكون له أفراد وعنوان ظاهر وألفاظ مخصوصة في الكلام، فالتخـــويف بالنار دعوة لنبذ الخصومة وترك اللجاج.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب ولغة الجمع، لتكون موجهة إلى الموجود والمعدوم من الكفار، ومعاني الآية إنحلالية، وتكون بعدد الكفار مما يدل على عدم حصر جهة الخطاب فيها، وهذا من إعجازها، وشاهد على عالمية القرآن وعموم تحديه الزماني والمكاني.
ولا تجد إيجازاً يتضمن مثل هذا العموم إلا في القرآن، وهو نوع إعجاز لآياته وما لكل آية منه من المعاني والدلائل الكثيرة.
فقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا] إخبار عن عدم مجئ الكفار بسورة مثل القرآن أيام تنزيله، وليس لأحد أو جماعة أن يأتوا في آخر الزمان، ويقولوا هناك من جاء بمثل سورة القرآن , وجاء قوله تعالى [وَلَنْ تَفْعَلُوا] لإفادة التأبيد في عجز الناس عن الإتيان بمثل سورة من القرآن.
وجاء إتقاء النار والخشية منها متعقباً للتحدي بسورة من القرآن، وتكون النجاة من النار بطاعة الله، والخشية منه، وأداء العبادات والفرائض، وإجتناب الفواحش، ومنه تتجلى منافع التحدي بسورة من القرآن بان يكون هذا التحدي موعظة وعبرة ومقدمة للتوبة ومناسبة لهداية والصلاح.
وفي الآية تذكير بأن القرآن الذي أنزله الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن الوعد والوعيد، الوعد بالجنة للمؤمنين, والوعيد بالنار للكافرين.

قوله تعالى[ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَــا مِنْ قَبْلُ وَأُتُــوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُــمْ فِيهَا خَالِـدُونَ ] الآية 25.
الإعراب واللغة
(وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا)
الواو عاطفة، بشّر : فعل أمر كسر لإلتقاء الساكنين، وفاعل بشر ضمير مستتر تقديره أنت وهو عائد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة، الذين : اسم موصول في محل نصب مفعول به.
آمنوا : فعل ماض، والواو : فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
وعملوا : عطف على آمنوا، الواو : فاعل.
الصالحات : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.
( أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)
ان : حرف مشبه بالفعل.
لهم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ان المقدم.
جنات : اسم ان المتأخر، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم.
تجري : فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة محل الياء منع من ظهورها الثقل، من تحتها : جار ومجرور، متعلقان بتجري.
الأنهار : فاعل مرفوع.
(كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا)
كلما : كلمة مركبة من كلمتين، كل وهي ظرف منصوب على الظرفية الزمانية، ما : مصدرية زمانية، ولا يلي (كلما) إلا جملتان ولهذا أشبهت أدوات الشرط.
رزقوا : فعل ماض مبني للمجهول، الواو : ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب، وقيل أنها في محل جر على الصفة، أي : كل وقت رزقوا فيه.
(قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَــا مِنْ قَبْلُ)
قالوا : فعل وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم.
هذا : اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
الذي : اسم موصول في محل رفع خبر، والجملة الإسمية في محل نصب مقول القول.
رزقنا : فعل ماض مبني للمجهول، والضمير (نا) ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل، وجملة رزقنا لا محل لها لأنها صلة الموصول، من قبل : جار ومجرور.
(وَأُتُــوا بِهِ مُتَشَابِهًا)
الواو : إستئنافية، أتوا : فعل ماض مبني للمجهول، الواو : نائب فاعل، به : جار ومجرور، متشابهاً : حال منصوب.
(وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)
ولهم : الواو : حرف عطف، لهم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، فيها : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
أزواج : مبتدأ مؤخر، مطهرة : صفة لأزواج.
(وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
الواو : حرف عطف، هم : مبتدأ، فيها : جار ومجرور متعلقان بخالدون، خالدون : خبر مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
البشارة : إخبار بما يطرأ بسببه على بشرة وأسارير وجه متلقي الخبر من أمارات الفرح والرضا والقبول، فهي تستعمل في الغالب فيما يسر ويفرح كما في المقام.
والجنات : جمع جَنّة–بالفتح- وهي البستان من النخل والشجر، وأصلها من السـتر لتكاثف وتقارب أشجارها وتداخل أغصانها سميت جنة, وفي التنزيل [كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ]( ).
في سياق الآيات
وفي الآية سر من أسرار القرآن وعلم من علومه، فبعد آيات الوعيد جاءت هذه الآية التي هي وعد وبشارة ورحمة، والكل يشترك في لغة الخطاب ليس فقط من حيث سماعها قهراً أو طوعاً بل إن الإفاضات والبشارات التي تتضمنها في متناول كل واحد،ولكن المؤمنين هم الذين إنتفعوا منها،ومع هذا ظلت تدعو الناس جميعاً ومنهم أهل الضلالة والبغضاء.
بعد آيات الذم والوعيد للمنافقين والكفار والتي جاءت لمنع الجهالة والغرر بالبيان وعدم اللبس او الترديد، وبعد الدعوة السماوية للناس جميعاً إلى عبادة الله تعالى، جاءت هذه الآية خطاباً تشريفياً خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينقل البشارة والوعد الكريم إلى المؤمنين برسالته الذين يواظبون على أداء العبادات وإتيان الفرائض، ويسارعون في الصالحات باللبث الدائم في النعيم, قال تعالى [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن عدم وجود موضوع فاصل بين الآية التي تتضمن الوعيد بالنار، والآية التي تتضمن الوعد بالجنة والرضوان, مع التباين في الجهة والمقصود من كل آية منها، فالآية السابقة إنذار للكفار والمنافقين، وهذه الآية وعد للمؤمنين وعدم الفاصل بينهما إشارة إلى إنتفاء البرزخ والحاجز الذي يمنع إنتقال الإنسان من الكفر إلى الإيمان.
وكأن الوعد في هذه الآية ناسخ للوعيد في الآية السابقة لمن يختار التوبة بل إن كل آية من الآيتين منفردة ومتحدة مع الأخرى تدعو الإنسان إلى التوبة، وتحث المؤمن على الثبات في مناهج وسبل الإيمان.
وجاءت الآية التالية لتتضمن الإشارة إلى المثالين اللذين وردا في الآيات السابقة( )، وتلقي المؤمنين لهما بالتصديق والإعتبار وإتخاذهم لهما مدرسة وبرهاناً على ظلم الكفار والمنافقين لأنفسهم، لتبين الآيات نيل المسلمين الثواب لتصديقهم بالتنزيل على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي وقبول أحكامه وسننه بالشكر والثناء على الله تعالى باعتبار القرآن فضلاً عظيماً.
إعجاز الآية
تتضمن الآية الوصف البديع لثمار الجنة وأنهارها مما تعجز أوهام البشر وتخيلاتهم عن الإحاطة به، ولم يخطر على بال أحد تصور مثل هذه الحياة، والقرآن هو الذي جعل العقول تتيه في قصور وثمار ما أعد الله للصالحين.
وتنفرد هذه الآية بالإخبار عن التشابه بين ثمار الدنيا الآخرة، وجاء الوصف بلغة البشارة ليبعث الأمل في القلوب المنكسرة ويدفع بالمسلمين إلى العمل بالمناهج والطرق الشرعية التي توصل إلى الغاية العظيمة والحكم الواقعي.
والآية وعد كريم للمسلمين الذين يتلقون الأوامر الإلهية بالإمتثال والإستجابة، وجاءت بذكر جانب من النعم الإلهية العظيمة التي أعدها الله تعالى للمؤمنين في الدار الآخرة، وما في الجنة من الثواب الجزيل، ليجتهد المسلمون في طاعة الله، ويتنزهوا عن المعاصي والسيئات، ويجاهدوا في سبيل الله رغبة في ثوابه، وسعياً للخلود في جنات النعيم.
ويمكن تسمية الآية بآية (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين( ).

 

الآية سلاح
الآية مدد للمسلمين في ميادين الجهاد, وإظهار لثمار وجزاء الإيمان ودعوة لقرنه بالعمل الصالح، وحث على فعل الصالحات والسعي في دروب الإستقامة، لأن العلة الغائية تؤثر إيجاباً أو سلباً على الفعل وتحدد ماهيته وكيفيته وكمه.
بينما جاءت الآيات السابقة في ذم ووعيد المنافقين والكفار جاءت هذه الآية في مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا برسالته لتعلق البشارة بهم، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بنقل أعظم وأحسن بشارة يتلقاها الإنسان بصيغة المتعدد وغير المنحصر إذ أنها مفتوحة زماناً ومكاناً وأشخاصاً، فهي باقية إلى يوم القيامة وتسع أهل الأرض كلهم، وليس بينهم وبين نيل مضامين هذه البشارة والوعد الكريم إلا الإيمان وعمل الصالحات .
وهذه البشارة ترغيب للناس جميعاً بالإسلام ، وسلاح بيد المؤمنين لمحاربة النفاق والكفر والضلالة، وعون في أداء العبادات، وفعل الصالحات، وقهر النفس الشهوية والعادات المذمومة كالبخل والشح , والجدال بغير الحق .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة والمنعة، فجاءت هذه الآية لتبعث في نفوسهم الشوق إلى العبادات والمناسك، وتجعلهم يؤدونها برضا ورغبة، ويعرضون عن أسباب الشك والريب ليبقى المنافقون معزولين ويستهزأ بهم الناس.
الآية لطف:
بعد آيات الإنذار والوعيد للكفار جاءت هذه الآية بالبشارة وما يملأ النفس سعادة وغبطة، وتبدأ الآية بأمور من فضل الله تعالى :
الأول : توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة للمؤمنين.
الثالث : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنقل البشارات من عند الله، وكما ينقل النبي البشارات إلى المؤمنين فانه يبلغ الإنذارات إلى الكفار.
ومن منافع اللطف الإلهي في هذه الآية تثبيت المسلمين في مسالك الإيمان، وسعيهم في إتيان الصالحات وإكتساب الحسنات وتحذير الكفار، وجذبهم للإيمان لأن مضامين الآية الكريمة ترغيب بالإيمان.
لقد أراد الله عز وجل بيان خصائص الجنة ليشعر المسلم وهو في الدنيا كأنه ساكن فيها، ويتفيئ في ظلال أشجارها، وتصيب الكافر الخيبة، ويشعر بالخسران الأخروي وهو في الدنيا، ومع هذا فان الآية لا تترك الخيبة تستولي على العبد بل إنها تجذبه إلى سبل الإيمان، وتدعوه للفوز بالجنة والرضوان بالتوبة والإنابة.
مفهوم الآية
للآية مفاهيم متعددة منها ما يخص المسلمين، ومنها ما يتعلق بالكافرين، فالأول فيه مسائل :
الأولى : التوكيد على اليوم الآخر وحتمية الثواب والعقاب.
الثانية : الإخبار عن الملازمة بين عمل الدنيا وثواب الآخرة.
الثالثة : الحث على تلمس إفاضات ومعالم الجنة في الدنيا.
الرابعة : إن الرزق والطيبات في الدنيا عامة تشمل الناس برهم وفاجرهم، أما في الآخرة فانها حصر على المؤمنين الذين إمتثلوا للأوامر الإلهية بأداء الفرائض.
الخامسة : الوعيد الكريم بحسن الجزاء على الإيمان وفعل الصالحات.
السادسة : إكرام المسلمين بان جاء الإخبار بصيغة البشارة.
السابعة : في الآية تثبيت لروح الإيمان وإنتقال الروح إلى عالم الملكوت بالتطلع الى ما أعد لها من أسباب الغبطة والسعادة الأبدية فان الإحساس بقرب الأمل يجعل الإنسان يزداد قوة ونشاطاً نحو تحقيقه ونيله وإدراكه.
الثامنة : تخفف الآية من الخشية من الموت، فيشعر المسلم ان ما بعد الموت أمر وجودي وليس عدمياً ويعني الإنتقال إلى عالم أفضل.
التاسعة : تنفي الآية الشك والخوف والحزن من قلوب المسلمين بالوعد الكريم بالخلود في الجنة.
العاشرة : تذكر الآية الأزواج بقيد كريم وهو الطهارة كبشارة وفضل من الله تعالى.
ومن مفاهيم الآية بالنسبة للكافرين أمور :
الأول : تعتبر الآية نوع وعيد للكافرين, وإستمراراًً لآيات التخويف والإنذار السابقة، ولكن الوعيد فيها جاء بالمفهوم وكأنه ترغيب وحث على ترك منازل الكفر والجحود، وفيه إعجاز قرآني وهو أن الوعيد تارة يأتي صريحاً وأخرى بالكناية والتعريض وأحياناً بمفهوم المخالفة بذكر النعيم الخالد الذي يناله المؤمنون.
ولو إستعرضت التأريخ لوجدت أن كثيراً من أرباب العقول إختاروا الإسلام لأنه حق ولما فيه من الترغيب والإخبار عن السعادة الأخروية وأنها خاصة بأهل الإيمان.
الثاني : تجعل الآية الكافرين يشعرون بفقد شيء وهو الأمل وأنهم يختارون الخيبة والخسران، وهذا الشعور دعوة باطنية وسبب لإلقاء الفزع في نفوسهم والهيبة من المؤمنين.
ومن المفاهيم المشتركة للآية أنها تحذير وإنذار من الحسد، تحذير المسلمين من حسد الكافرين لهم، وإنذار للكافرين من حسدهم للمسلمين وما يترتب على الحسد من آثار في السلوك والفعل.
وفي الآية دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام والفوز بالجنة، والتنعم بإستحضار موضوعها وبشارتها، وتبعث الآية الحسرة في نفوس الذين يصرون على الإقامة على الكفر والجحود، وتجعل خصوصية ونوع تشريف للذين إتبعوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وآمنوا بالآيات التي جاء بها من عند الله تعالى، وتبين عظيم فضله على الناس، فهو سبحانه خلق الإنسان وبعث فيه من روحه، ثم أرسل الأنبياء مبشرين ومنذرين وتفضل بالآيات الباهرات التي تساعد الناس على تصديقهم وعدم الإعراض عن دعوتهم.
وتخبر الآية عن واقع في الجنة بوصف إعجازي يحكي حال أهل الجنان وإستحضارهم لنعم الدنيا والتشابه بينها وبين نعم الآخرة بلحاظ الفاكهة والسعادات مع التباين في الزوال والفناء في الدنيا، والدوام في نعيم الآخرة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : إنتقال لغة الخطاب وتوجهها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي يسمى في علم البلاغة “الإلتفات” كما جاءت الآية بتغيير الموضوع والحكم، فبعد لغة الإنذار والتحدي والوعيد للكفار جاءت لغة البشارة للمسلمين ، ومن الآيات في المقام أن الله عز وجل وجّه الخطاب إلى الكفار بالذم واللوم, أما الخطاب للمؤمنين فقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ان يتولاه بنفسه بقوله تعالى (بشر).
الثانية : إختصاص المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالإقامة الدائمة في الجنة.
الثالثة : بيان صفة من صفات الجنة وجريان الأنهار من تحتها وهو عنوان إستدامة الأشجار، وجني الثمار والبركة.
الرابعة : تعاقب وتوالي الرزق على أهل الجنة.
الخامسة : ليس من سعي في الجنة بل يأتي الرزق لأهلها بدليل قوله تعالى [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا] والله عز وجل هو الذي يرزقهم، ومن خصائص أهل الجنة إستحضار أعمال الدنيا شكراً لله تعالى.
السادسة : التشابه في الثمر والنعم السماوية، ووجود أمثلة وأفراد منها في الدنيا.
السابعة : من النعم الإلهية في الجنة وجود أزواج لأهلها، وتتصف هذه الأزواج بأنها مطهرة نقية، وفيه إشارة إلى نعمة الزوجية في الدنيا وأنها من النعم في الجنة، ففي الدنيا يتنعم الناس جميعاً بالزواج ، البر والكافر، أما في الآخرة فيختص المؤمنون بنعمة الزوجية، ويحرم منها الكفار، فليس من
أزواج في النار، وكل مشغول بهمه وما يلاقيه من العذاب.
الثامنة : أختتمت الآية بالإخبار عن خلود المؤمنين في الجنة، وهذا الخلود مركب من أمرين :
الأول : خلود المؤمنين وعدم طرو الموت عليهم.
الثاني : إتصال إستمرار النعم الأخروية وعدم إنقطاعها، فليس من زوال أو إنقضاء لفرد من أفراد نعم الجنة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تتضمن الآية الدلالة على تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نقل البشارة من الله إلى المؤمنين برسالته.
الثانية : إن الله تعالى راض عن المسلمين لإقرارهم بالعبودية له سبحانه، وتصديقهم بالنبوة والتنزيل.
الثالثة : موضوعية التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نيل البشارات من عند الله، وصحيح أن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، أي أن ثبوت البشارة للمسلمين بالجنة لا يدل على إنحصارها بهم دون غيرهم من الموحدين وأهل الكتاب مطلقاً، إلا أنه لم ترد في الآية بشارة لغيرهم بالجنة، فالشريعة السمحاء ناسخة للشرائع السابقة، نعم تشمل بشارات القرآن المسلمين الذين صدّقوا بأنبياء زمانهم من الأمم السابقة.
الرابعة : إن الوعد النازل من عند الله في القرآن قانون ثابت إلى يوم القيامة لا يقبل النسخ والتغيير، فهذه الآية وثيقة سماوية وضياء مبارك ينير دروب السالكين، ويجذب الناس إلى الإيمان، ويحثهم على إتيان الصالحات، وفعل المندوبات حباً لله وطمعاً بنيل ما وعد من فضله الواسع.
إفاضات الآية
تبعث الآية في نفوس المسلمين الغبطة, وتدعوهم لعمل الصالحات وإغتنام الحياة الدنيا لتحقيق الغاية والأمل المقصود والفوز بالنعيم الخالد.
والآية من مصاديق تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشير وفيها إذن إلهي بقيامه بتبليغ البشارة وهي عهد إلهي ورد في الكتاب السماوي الخالد ليكون وثيقة تطلع عليها الخلائق كلها وتكون حجة ومناسبة للحث على دخول الإسلام والتقيد بأحكامه.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وجاءت هذه الآية لتخبر بأنها الدار التي يتلقى فيها المسلمون ما يبعث السعادة في نفوسهم، ويساعد في تثبيت أواصر الأخوة بينهم وهو من عمومات[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، لأن البشارة بالجنة بسبب الإيمان والتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون منازلهم الرفيعة في الآخرة ضياء وإشراقة مباركة تطل عليهم في الدنيا وتجعلهم يتمسكون بالقرآن والسنة , ويجتهدون في طاعة الله عز وجل، وتكون البشارة في هذه الآية ضياء ينير لهم دروب الجهاد في الحياة الدنيا، وبرزخاً دون الغواية لذا قالت الآية[هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ] لبيان إدراكهم للصلة بين دار البشارة ودار الثواب.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية الرابعة من سورة البقرة بشارة وحكماً ضمن جملة خبرية وخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وصف المتقين وتصديقهم بنزول القرآن من عند الله [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ]( ) في دلالة على موضوعية الإيمان بنبوته في منازل التقوى، ولزوم الرجوع الى سنته الشريفة والأخذ منها لأنها بيان وتفسير للقرآن.
ثم جاءت بعدها الآيات بلغة الإنذار والتوبيخ للكفار [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ] ( ) لفضح الكفار والمشركين، وإقامة الحجة عليهم وفيه تحذير للمسلمين، وزيادة في معارفهم وتفقههم في الدين، وواقية لهم من أهل الشك والعداوة والضلالة، ثم جاءت هذه الآية بصيغة الإنتقال من وجوه :
الأول : توجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : موضوع الآية هو البشارة وبعث الغبطة والسرور في قلوب المسلمين.
الثالث : عموم البشارة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، فلا ينحصر موضوعها بالصحابة من المهاجرين والأنصار الذين تلقوا الدعوة بالتصديق والصبر في مرضاة الله، بل تشمل كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة.
الرابع : تقييد بشارة المؤمنين بالعمل الصالح ليكون موضوع البشارة مركباً من أمرين :
الأول : الإيمان وهو إعتقاد بالقلب والجوانح.
الثاني : إتيان الفرائض والعبادات وفعل المستحبات، ولم تقل الآية [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا] من غير قيد عمل الصالحات، وجاءت آية بالبشارة للذين آمنوا على نحو الإطلاق بقوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( )، والمقيد يقيد المطلق فلابد من عمل الصالحات كشرط في تلقي البشارة، ونيل مرتبتها.
وقد وردت آيات في البشارة للمؤمنين، وهو أخص من الذين آمنوا، ويراد من الذين آمنوا أي الذين نطقوا بالشهادتين، وأسلموا.
ترى لماذا قيد “وعملوا الصالحات” الجواب من وجوه :
الأول : وظيفة المؤمن عمل الصالحات لموضوعيتها في الإيمان.
الثاني : توجه الخطاب التكليفي للناس جميعاً، ولزوم التقيد بالأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة.
الثالث : يخرج قيد عمل الصالحات المنافقين من البشارة بالجنة الواردة في هذه الآية لأنهم لم يعملوا الصالحات وإن أعلنوا إسلامهم، ومن البيان في القرآن وتفسيره الذاتي توكيد خروجهم من هذه البشارة بسوء عاقبتهم، وبذات الصيغة من الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته, قال تعالى[بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
كما جاءت الآيات ببشارة الكفار بالعذاب، قال تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
ويمكن القول بلحاظ هذه الآيات ان الدنيا “دار البشارة” فما من إنسان ذكراً أو أنثى إلا ويتلقى فيها البشارة، والبشارات الخاصة بالآخرة فيها على قسمين , وليس من قسيم ثالث لهما :
الأول : البشارة بالجنة والخلود في النعيم.
الثاني : البشارة بالنار والعذاب الأليم.
وبين البشارتين تضاد في الذات والموضوع وجهة الخطاب، فليس من إلتقاء بينهما إلا بالزمان والأوان، إذ تصاحبه البشارة في الحياة الدنيا، ويكون مصداقهما يوم القيامة، وهذا لا يمنع من الآثار الموضوعية لذات البشارتين في الحياة الدنيا، لتكون مقدمة لمصاديق البشارات في الدنيا، وجاءت هذه الآية بالدلالة على المنافع والآثار الحسنة المترتبة على هذه البشارة بالنسبة للمسلمين بقوله تعالى [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ]( ).
وتقدير الآية : “بشر يا محمد” وفيه تشريف عظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان ينقل البشارة من الله عز وجل للمسلمين، وفيها وجوه:
الأول : تفضل الله تعالى بشكرهم على إيمانهم، وهذا الشكر من الفضل الإلهي العاجل عليهم في الحياة الدنيا، ويقع على جهتين :
الأولى : الشكر للمسلمين الذين أسلموا قبل نزول الآية.
الثانية : الذين يسلمون بعدها، وأبناء المسلمين ذكوراً وإناثاً الذين يتوارثون الإسلام، لذا فمن إعجاز الآية أنها جاءت بصيغة الماضي لإفادة القطع والجزم والإخبار عن إمضاء البشارة.
الثاني : إنه مقدمة كريمة، وإخبار عن الثواب العظيم في الآخرة، وهذه الآية من المحكم، على وجوه ومعان ذكرت للمحكم وهي :
الأول : هو الذي لا يحتاج في تأويله إلى غيره، والآية ظاهرة في معناها ولا تحتاج إلى وسائط في تفسيرها.
الثاني : المحكم ما كان تنزيله كافياً في تأويله، والآية واضحة الدلالة ولا تصل النوبة إلى الحاجة إلى التأويل والتفسير.
الثالث : من مصاديق المحكم هو الوعد والوعيد، ومن إعجاز الآية وإختصاص المسلمين بالإكرام من الله تعالى فيها، انها جاءت بخصوص الذين آمنوا وما ينتظرهم من الثواب العظيم.
الرابع : المحكم هو الواضح المبين، والآية جاءت جلية واضحة.
وان قيل صحيح ان الآية واضحة في البشارة ولكن موضوعها من الغيب، ولم يأتً بعد، إن هو إلا في عالم الآخرة، والجواب إن وضوح الآية بلحاظ الوعد الكريم فيها، وعظيم قدرة الله، وحتمية عالم الجزاء والله تعالى هو [عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وبعد الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقيام ببشارة المسلمين ذكر موضوع البشارة وهو ما اعد الله تعالى لهم من الثواب العظيم.
ومن الآيات مجئ لفظ (الجنات) بصيغة الجمع والتعدد في بيان عظيم الفضل الإلهي على المسلمين في الآخرة، وذكرت الجنات بقيد جريان الأنهار تحتها، وجاء ذكر الأنهار كنعمة بالذات والأثر، فهي بذاتها نعمة عظيمة إلى جانب ما يترشح منها من النعم والفوائد، وهل تحتاج ثمار الجنة السقي والماء الجواب لا، لأنها جزاء حاضر ومن كنوز الجنة، ونواميسها التي تختلف عن نواميس الأرض وعالم الإبتلاء فيها دفعياً , قال تعالى [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( ).
وجاء لفظ الأنهار بصيغة الجمع لإفادة الكثرة والتعدد، ويشمل التعدد السنخية وجنس الأنهار في آية إعجازية تدل على عظيم قدرة الله تعالى، فقد بينت آية أخرى من القرآن أن أنهار الجنة ليست من الماء وحده بل هي وعاء لنعم عديدة قال سبحانه [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى]( ).
وجاءت آيات أخرى بالإخبار عن خلود وإقامة المسلمين الدائمة في الجنة.
وبعد البشارة بالجنة جاء الإخبار عن وجود الثمار والفواكه في الجنة وهي رزق لأهلها وسكنتها، بما فعلوه في الدنيا من الصالحات بقصد القربة الى الله، وفيه شاهد على إتصال عالم الآخرة بالدنيا، وهو من مصاديق كون الدنيا مزرعة للآخرة، ليكون للإيمان والعمل الصالح في الدنيا جزاء ورزق كريم في الآخرة وخلود في النعيم.
ومن خصائص ثمار الجنة أنها متشابهة في الجودة والحسن والنضج وليس من فترة بين قطعها وحضورها بين يدي المؤمن، وظهور أخرى بدلها وفي مكانها.
والبشارة في الآية مركبة ومتعددة من وجوه :
الأول : البشارة بالجنات، وجاءت الآية بنسبة الجنات للذين آمنوا وعملوا الصالحات [لَهُمْ جَنَّاتٍ] أي أنها خاصة لهم على نحو التعيين، وهل تعني الملكية كما يكون في الدنيا، الجواب لا، قال تعالى [المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ] فليس من ملكية شخصية للإنسان في الآخرة.
وأيهما أفضل للإنسان ملكيته في الدنيا , أم نيله الإقامة في الجنة من غير ملكية، الجواب هو الثاني، فالملك في الدنيا غير مستقر وفي جمعه وتعاهده عناء، مع أنه محدود ومن المنتهي، وهو منتقل إلى الوارث عند الموت فلابد وأن يحصل فراق بين الإنسان وملكه، أما إقامة المؤمن في الجنة فانها نعيم دائم يغنيه عن الملك، وما يترشح عنه من حب الدنيا والحسد وبذل الجهد في حفظه ونمائه.
الثاني : وصف الجنات بان الأنهار تجري من تحتها، لتكون الأنهار نعمة أخرى تترشح عنها نعم متعددة.
الثالث : إستمرار الرزق في الجنة وعدم إنقطاعه أو تأخره عن أوانه.
الرابع : تعدد نوع وجنس الثمار والرزق في الآخرة، والمراد من الثمرة في الآية اسم الجنس، وفيه دلالة على التشابه بينهما في الجودة.
الخامس : قدرة أهل الجنة على الكلام، وتتجلى فيه معاني الشكر والثناء على الله تعالى، والإقرار بصدق الوعد الذي تفضل به عليهم بالقرآن.
السادس : مجئ الرزق والثمار لأهل الجنة بذات النكهة والطيب فليس من فارق ومائز في ثمار الجنات وما يطعم به أهلها، لأنه يتصف بالحسن التام، لذا جاء قوله تعالى له [وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا] بعد (هذا الذي رزقنا من قبل)، لبيان أن التشابه في الثمار وطعمها لم يحصل في الدنيا، للتباين في الرزق والحال والشأن، أما في الجنة فان المؤمنين ينالون جميعاً أحسن وأطيب الثمار، فمع خلودهم وبقائهم الدائم في الجنة فان النعم والثمار التي تأتيهم هي بذات الجودة والحسن ليس من ردئ فيها.
ومن وجوه التشابه في الثمار عدم إنحصارها بموسم مخصوص، فالثمرة ناضجة طيلة أيام السنة، وليس هناك برد يأتي على الاغصان والثمار أو حر يسبب تلفها.
السابع : أعد الله تعالى للمؤمنين في الجنة أزواجاً لا يحضن ولا يلدن ولا يتغوطن ولا يبلن، وفي الأزواج قولان :
الأول : إنهن الحور العين.
الثاني : هن من نساء الدنيا، وقال الحسن البصري : هن عجائزكم الُغمص الرُمص العُمش( ). طهرن من قذرات الدنيا, ولا تعارض بين الوجهين, وكل جاءت به البشارة.
الثامن : تتصف ازواج المؤمنين في الجنة بأنهن مطهرات، والمراد من الطهارة هنا الذاتية، أي مطهرات في أنفسهن، وللطهارة معنيان :
الأول : المعنى اللغوي وهو النظافة والنزاهة من الأدناس.
الثاني : المعنى الإصطلاحي الشرعي وهو على قسمين :
الأول : المعنى الظاهري وهو من الطهارة من النجاسات والأدناس، باعتبارها مقدمة لكثير من العبادات، وتطلق الطهارة على الوضوء والغسل والتيمم على وجه له تأثير في إستباحة الصلاة، وتسمى أيضاً الطهارات الثلاث، وإطلاق اسم الطهارة عليها من الحقيقة الشرعية، على القول بها أي ان الشارع إستعمل اللفظ لمعنى شرعي مخصوص، والأصل في الحقيقة هي الحقيقة اللغوية في مقابل المجاز.
الثاني : الطهارة المعنوية، وهي التنزه من المعاصي والسيئات، والتوقي من الذنوب، صغائرها وكبائرها.
وفي قوله تعالى [فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ]( )، ورد أن الآية نزلت في أهل قباء، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قُباء قال: إن الله قد أثنى عليكم بالطهور خيرا يعني قوله:(فيه رجال يحبون أن يتطهروا)، قالوا: إنا نجده مكتوبًا عندنا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء)( ).
وجاء مدح الأزواج في الجنة لطهارتهن الذاتية، وهذه الطهارة ملازمة لهن ولا تنفك عنهن، مما يدل على وجود خصوصيات كريمة في أهل الجنة.
التاسع : تتصف إقامة المؤمنين في الجنة بانها دائمة ومستديمة، فليس لها إنقطاع أو منتهى، وتلك من أعظم النعم التي ينعم بها الله على تعالى على جنس من الخلائق، وهو من إكرام الله تعالى لبني آدم , ومصاديق تفضيلهم بان يفوز المؤمنون الذين يعملون الصالحات منهم بالخلود في دار النعيم.
لقد جاءت هذه الآية بالبشارة ومصاديقها، وذكرت أهلها والمستحقين لها لتكون ضياء وإماماً يقود الناس نحو سبل الهداية والإيمان، ولتؤكد عالم الآخرة وما فيه من الجزاء والثواب العظيم، وتدعو المسلمين إلى الصبر في جنب الله، وتبعث في نفوسهم الشوق للقاء الله، وتكون حصانة ذاتية وواقية من فعل السيئات، فمن يرجو أمراً يسعى اليه، ويجتهد في طلبه.
التفسير الذاتي
لقد جاءت الآيات الأربعة السابقة خطاباً من الله عز وجل للناس، وبياناً لنعمه الظاهره والباطنة عليهم، ودعوة لهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة التحدي وتوكيد إعجاز القرآن، ليكون الإيمان واجباً لوجود المقتضي وفقد المانع.
وبعد أن أختتمت الآية السابقة بالتحذير من الجحود والصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوعيد عليه بالنار، جاءت هذه الآية خطاباً وأمراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبشر الذين صدقوا بنبوته وتعاهدوا الفرائض والعبادات، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ).
وهذا الإنتقال بلغة الخطاب إعجاز قرآني لأنه يدل بالدلالة الإلتزامية على أمور :
الأول : إستمرار دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام.
الثاني : إن أهل الشك والريب، لم يستطيعوا منع التبليغ والدعوة إلى الله عز وجل.
الثالث : وجود أمة مؤمنة تعمل الصالحات.
الرابع : تصديق المسلمين بالبشارات التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : دعوة الكفار للإقتداء بالمسلمين، والفوز بنعمة تلقي البشارات من عند الله عز وجل.
وتدل هذه الآية على أن المراد من الإنذار والتحدي الوارد في الآيات السابقة هم أهل الضلالة والجحود، وتظهر قوة الإسلام، وتدعو المسلمين لليقظة والإحتراز من أهل الشك.
وجاءت هذه الدعوة بصيغة البشارة بالجنة، ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية السابقة عدم وجود برزخ بين الجنة والنار، فاما الإيمان والعمل الصالح والثواب عليه بالجنة، وأما الجحود والضلالة وعقوبته النار، وجاء الوعيد في الآية السابقة بلغة العموم الشاملة للكفار جميعاً، ومنهم الذين تتضمن الآية تحديهم.
أما آية البشارة هذه فجاءت خاصة بالمؤمنين، وأخبرت عن إختصاصهم بالجنة لقوله تعالى [لَهُمْ جَنَّاتٍ].
ترى لماذا جاءت هذه الآية بعد آية تحد الكفار، ولم تأت قبلها، والجواب من وجوه :
الأول : إن الآية السابقة كالواقية والحرز لمضامين البشارة في هذه الآية.
الثاني : تدعو هذه الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم الإلتفات إلى أهل الحسد والشك.
الثالث : إن العداوة والشك الذي يظهره الكفار لن يضر المسلمين, قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) ولأذى أدنى مرتبة من الضرر وبينهما عموم وخصوص مطلق, فكل ضرر هو أذى وليس العكس .
الرابع : جاءت هذه الآية لتكون برزخاً دون إصغاء المسلمين لأهل الشك والريب، إذ يتنعم المسلمون بالبشارة ويشعرون بالغبطة وهم يتلقون الوعد الإلهي الكريم على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع، وفيها وعد كريم بتغشي البشارة ومصاديقها المسلمين جميعاً وأن الله يسكنهم في الآخرة جنات النعيم، وذكرت الآية جريان الأنهار تحت الجنان، وفيه وصف كريم للجنان، لأن الأنهار عنوان إستدامة الحياة، ودليل على بديع الصنع، وبهاء المحل، وجاء ذكر الأنهار بلغة الجمع (الأنهار) فيكون مصداقاً لسعة الجنة, قال تعالى [وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ).
وفي الآية ترغيب للناس جميعاً بالإسلام، وبيان منافع التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، وعدم حصر أو إحصاء ثمارها، لأن الآية قالت [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ] لإفادة بقاء صفة الجنة حتى مع قطع الثمار في كل وقت وإستدامة الرزق فيها، فمن معاني (من) في المقام التبعيض، فلا تنقص ثمار الجنة بالقطع، قال تعالى [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( ).
فثمار الجنة دائمة لا تنقطع في الشتاء أو في الصيف كما في فواكه الدنيا، ولا تمنع عن أهل الجنة، أو تحاط بحائط يمنع وصول فريق من أهل الجنان لها ولو في بعض أوقات الليل أو النهار.
ولم يرد لفظ (ثمرة) في القرآن بصيغة المفرد إلا في هذه الآية الكريمة، بينما جاء ذكر الثمار بصيغة الجمع (ثمرات) ست عشرة مرة، كلها في فواكه وثمار الدنيا، والرزق الكريم فيها إلا آية واحدة منها في أهل الجنة هي قوله تعالى [لَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ]( ).
ويفيد الجمع بين صيغة المفرد والتنكير في الآية محل البحث (ثمرة) وبين صيغة الجمع في الآية أعلاه، أن أهل الجنة يرزقون من كل الثمار، وأن التساوي والتشابه يجري في كل نوع من أنواعها من غير إستثناء، وفيه بيان لآيات الله في الآخرة، والنعم العظيمة على المؤمنين فيها.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :” يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين( )، وأفادت الآية كثرة وتعاقب الرزق من الجنة بقوله تعالى [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا] ويدل قيد منها على أن الثمار تأتيهم من ذات الجنة وليس من خارجها، وأنها ليست سكناً فقط.
بل فيها البساتين والثمار التي أشارت إليها كلمة (الأنهار) وقيل الجنة كل بستان فيه نخل، ولكن معنى جنان الآخرة أعم لأنها تتضمن السكن والإقامة الدائمة والأزواج.
وذكرت الآية التشابه في الثمار في مقام المدح والترغيب وبيان عظيم قدرة الله عز وجل وإرادة تشابه الثمار في الجودة والفضل من غير أن يكون في إعطائهم الثمار تمايز بين أهل الجنات، فلا ينشغل أهل الجنة بالإختيار بل يكون هذا الإختيار من النعم، ولا يترددون في الأخذ، فكلها على حال واحدة من الحسن والجودة وقرب أوان القطع.
لقد جاءت هذه الآية بالبشارات المتعددة لأهل الإيمان وما إدخره الله عز وجل لهم من النعم في الآخرة، ومنها الأزواج اللائي يتصفن بالطهر والنقاء، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أمّ سلمة سألته عن قول الله تعالى [إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ] فقال : ” يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطاً عمصاً ، جعلهنّ الله بعد الكبر ” {أَتْرَاباً } على ميلاد واحد في الإستواء ، كلما أتاهنَّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا، فلما سمعت عائشة ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : وا وجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ليس هناك وجع( ).
وهل قوله تعالى [عُرُبًا أَتْرَابًا] ( )، من عمومات وصفهن بالطهر في هذه الآية، أم أنه وصف آخر، الجواب المراد من العرُب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، وأتراباً أي متساويات في السن، وكل واحدة منهى إبنة ثلاث وثلاثين سنة، ليكون المعنى أعم وبما يفيد الجمع بين صفات الحسن.
وهو شاهد على أن آيات القرآن بعضها يتمم بعضاً في المعنى كما يفسر بعضها بعضاً، وهذا الإتمام لا ينقص من الآية الواحدة بمعناها ومضامينها المستقلة، فالآية محل البحث جاءت في البشارة للمؤمنين وذكر ما أعد الله عز وجل لهم في الجنة.
وكذا جاءت الآية أعلاه من سورة الواقعة لبيان كثرة وتعدد النعم الإلهية على المؤمنين في الآخرة، وجاء لفظ (أزواج) في القرآن إثنتين وخمسين مرة، وفيه مدرسة في الكلام والفقه والأحكام والمعاملات وهو على قسمين :
الأول : من غير إضافة (أزواج) أربعاً وعشرين مرة بالرفع والنصب منها ثلاثة في أزواج المؤمنين في الجنة بقوله تعالى [أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]( ).
الثاني :ذكر الأزواج مع الإضافة إلى الضمير، وهو على وجوه :
الأول :الإضافة إلى الضمير المخاطب المتحد، أربع مرات (أزواجك) وكلها خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه تشريف وإكرام له وإشارة إلى ما له من الخصوصية.
الثاني : الإضافة إلى الضمير الغائب المتحد، ثلاث مرات، وكلها أيضاً في أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان كيفية إكرام المسلمين لأمهات المؤمنين في حياته وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، كما في قوله تعالى [وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا]( ).
الثالث : الإضافة إلى ضمير الجمع المخاطب (أزواجكم) ثمان مرات، وفيه بيان للأحكام الشرعية، وكيفية تقسيم التركة، وتنظيم حياة الأسرة، ومنع الغبن والحيف.
الرابع :الإضافة إلى ضمير المتكلم للجماعة مرتين كما في الدعاء [هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ]( ).
الخامس : الإضافة إلى ضمير الغائب للجماعة عشر مرات.
السادس : الإضافة إلى ضمير المؤنث الجمع مرة واحدة في بيان إكرام النساء والرفق بهن, قال تعالى [فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ]( )، وهو خطاب للأولياء ونهي عن منع النساء ظلماً من التزوج، وقيل غير هذا المعنى.
وورد لفظ (مطهرة) خمس مرات في القرآن، ثلاثة منها في وصف أزواج أهل الجنان وإثنتين منها في الكتاب كما في قوله تعالى [رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً]( )، أي قراطيس منزهة من الباطل، وسالمة من التحريف.
وأختتمت الآية بالإخبار عن خلود المؤمنين في نعيم الجنة بقوله تعالى[وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] وفيه مسائل :
الأولى : إرادة الخلود والبقاء الدائم لجميع المؤمنين، فليس من تمايز بينهم في أفراد الزمان المقدرة وغير المقدرة لمكثهم في الجنة فلا يقال أن الأنبياء والشهداء يلبثون في الجنة على نحو الدوام دون غيرهم من المؤمنين، أو أن حكم البقاء فيها على فترات متباينة فالمؤمنون الذين يعملون الصالحات يدخلون الجنة ولا يغادرها أي واحد منهم.
الثانية : ليس من موت أو فناء في عالم الآخرة ولا إنقطاع للنعيم الذي يكون المؤمنون والمؤمنات خالدين فيه.
الثالثة : تحتمل عائدية الضمير في (فيها) وجوهاً:
الأول : المراد الجنات التي ذكرت في الآية.
الثاني : إرادة النعم الأخروية التي ذكرتها الآية وهي جريان الأنهار من تحت الجنان، والأكل من الثمر المتشابه، ونعمة الأزواج المطهرة.
الثالث : نعم الجنة مطلقاً من التي ذكرتها هذه الآية , وآيات القرآن الأخرى.
الرابع : إرادة نعمة الأزواج المطهرة، والخاليات من الدنس والأقذار والحيض والنفاس والآثام.
الخامس : المعنى الأعم وإرادة الجنات وما فيها من النعم.
والصحيح هو الأخير، لإرادة المعنى الأعم، وعدم إنتقاص النعم الأخروية، وقال المفضل : البستان إذا كان فيه الكرم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غيره أو لم يكن، والجنة كل بستان فيه نخل و إن لم يكن فيه غيره( ).
ولكن معنى الجنة في الآخرة أعم , والمراد منها إكرام الحال في الحسن الذاتي المطلق للمحل، وكله من الإعجاز وبديع الصنع الذي يفوق عالم التصور، تصور السكن وبديع الخلق والأنهار الجارية، والأشجار والثمار من كل نوع، وكما أن الحياة الدنيا قصيرة بالنسبة للآخرة، فكذا بالنسبة للآيات فان آيات الآفاق التي يراها الناس في الحياة الدنيا ليست إلا شيئاً يسيراً من الآيات والدلالات الباهرات في الآخرة بالإضافة إلى نعمة الله عز وجل على الناس في الآخرة برفع الغفلة وغطائها،قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
من غايات الآية
تتضمن الآية مدح المسلمين، وتخبرهم بأنهم غير مشمولين بخطابات الإنذار والوعيد في الآيات السابقةوتحثهم على تعاهد الفرائض والسنن لأن الآية ذكرت شرطين بالذين تشملهم البشارة وهما الإيمان وعمل الصالحات مما يدل على بعث المسلمين إلى فعل الخيرات والمواظبة على الطاعات.
وفي الآية مسائل :
الأولى : توكيد حقيقة وهي وجود العالم الآخر والإيمان به من عمومات قوله تعالى(الذين آمنوا) بدليل قوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
الثانية : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والإخبار عن تلقيه البشارات، ونقلها للمسلمين.
الثالثة : بقاء بشاراة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متجددة في كل زمان.
الرابعة : هذه البشارة من الجزاء العاجل للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : إجتماع الإيمان وعمل الصالحات لنيل الثواب في الآخرة, ومجيء فعل الصالحات عن قصد القربة ومن منازل الإيمان.
السادسة : ترتب الثواب على الإيمان والعمل الصالح ترتب المعلول على علته.
السابعة : وصف الجنان ومثوى المؤمنين في الآخرة بأوصاف كريمة منها:
الأول : أنها جنات ذات أشجار كثيفة.
الثاني : جريان الأنهار من تحتها مما يدل على عدم حصول الجفاف فيها.
الثالث : تعدد منافع الأنهار في الجنة، وهي أكثر مما تحصى.
الرابع : مجيء ذكر كل من الجنات والأنهار في الآية بصيغة الجمع والوعد الكريم ، وفيه ترغيب بالإيمان، ودعوة للسعي للفوز بالجنان.
الخامس : حسن نوع وجنس ثمار الجنة لمنع الكدورة والنفرة فيها.
السادس : في الجنة زوجات للمؤمنين، ويحتمل وجوهاً :
الأول : الأزواج من الحور العين.
الثاني : إنهن جزء من خلق الجنة وعالم الجزاء.
الثالث : هن المؤمنات في الدنيا.
والصحيح هو الثالث، إذ تدل الآية في مفهومها على أن المؤمنات يفزن بالأزواج المؤمنين، من جهات :
الأولى : في قوله تعالى[قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ] إشارة وتقريب وبيان بأن الرزق في الآخرة من جنس الرزق في الدنيا.
الثانية : يشمل الثواب المؤمنات بعرض واحد مع المؤمنين، قال تعالى[الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ] ( ).
الثالثة : جاءت لغة التذكير في الآية للتغليب، أي تغليب المذكر، وإلا فإن الآية شاملة لجميع المؤمنين.
الثامنة : تحدث أهل الجنة فيما بينهم، ويذكرون أيامهم في الدنيا بلغة الشكر لله عز وجل.
التاسعة : خلود أهل الجنة فيها، وعدم خروجهم منها بموت أو غيره، فهي حياة دائمة في نعيم.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ]
بعد آيات الدعوة إلى عبادة الله تعالى والوعيد للكفار وإقامة الدليل على عجزهم وجحودهم، جاءت هذه الآية المباركة تزف مضامين الفرح والسعادة الأبدية لأولئك الذين أخلصوا لله العقيدة والفعل بإيمانهم برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلتزامهم العملي بما جاء به من عند الله، وتعاهدهم فعل الخير وما فيه الصلاح والفلاح.
إنها إخبار للناس جميعاً بعاقبة المؤمنين، وهي حث للمنافقين والكفار على المبادرة إلى التوبة وإتباع نهــج المؤمنين وإرتداء زيهم في عالم الأفعال، وفيها أيضاً نسمة من الصبر خاصة بالمؤمنين لما يلاقونه من مكر وأذى أهل الزيغ والضلالة والمنافقين، فالمؤمن حينما يعلم بحســن عاقبته وضـمانها بالصبر وتحمل المكروه في جنب الله لا يبالي بما يتعرض له من أفراده في مدة وأيام حياته.
وفعل الأمر [ بَشِّرْ ] موجه في ظاهره إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى المسلمين جميعاً يبشر بعضهم بعضاً وليتخذوا من هذه البشارة دعوة إلى فعل الصالحات, قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) .
وفيه إعجاز وإكرام وتشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالبشارة متجددة في كل جيل، تطل على أهل الأرض مع الخيوط الأولى للفجر الصـادق وتتغشى النهار والليل، مما يعني ان وظائف النبوة لا زالت قائمة مستديمة.
لقد جاءت البشارة على نحو الأمر والإذن الخاص، وإن كان فيها بيان لقاعدة كلية في فلسفة التشريع.
وهل يمكن إعتبار الأمر عاماً موجهاً للمؤمنين بالتبشير بالجنة لا مانع منه، لأنها وعد إلهي كريم جاء على نحو الإطلاق العددي.
وليس فيه ذكر للشرائط إلا شرطين :
الأول : الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنطق بالشهادتين، والتصديق بنزول القرآن.
الثاني : عمل الصالحات وإتيان الفرائض والعبادات.
وتبين الآية عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهليته لنقل البشارات وانه الواسطة بين الله عز وجل والعباد في تبليغ الآيات والأحكام والبشارات والإنذارات، وهذه الآية من (آيات البشارات).
ويحتاج كل إنسان البشارة وينتظر ان يبشر بها فحملها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمــة باعتبار انها من إفاضات وبركات القرآن، فمع الأمر بالفرائض والجهاد والصبر وتحمل المشاق جاءت البشارة على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين وفق هذه القاعدة ونص الآية الكريمة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تلقى الأمر بالبشارة مع نزول الآية، والمسلمون يرجعون إلى أحكام هذه الآية إماماً وهدى وقد جاء في أول سورة البقرة [ذََلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
تفسير قوله تعالى [ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ ]
اللام في [ أَنَّ لَهُمْ ] لام الإختصاص، أي ان الجنة خالصة لهم، فمن خصائص الجنة أنك لا تضطر للمعاشرة والحياة مع أهل الكفر والعناد والجحود للفصل التام بيم أهل الجنة وأهل النار.
ومنهم من إستدل بالآية وما فيها من الإختصاص والملك على أن الجنة مخلوقة، ومع قولنا بان الجنة والنار مخلوقتان فأن الآية لا تدل عليه لإحتمال انه وعد وإخبار سماوي جازم , وتعليق على الإيمان والتقوى وفعل الصــالحات، ولأن الله ســبحانه إذا أراد شــيئاً ان يقــول له (كـن فيكون).
وقوله تعالى[ مِنْ تَحْتها ] أي تحت الأشجار والثمار تجري الأنهار آية وفضلاً منه تعالى، (روي عن مسروق: أن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد)( ).
في بلاغة القرآن
في باب المجاز العقلي يذكر أهل البلاغة أن من أشهر علاقاته الإسناد إلى المكان وذكــروا قـوله تعالى [ وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ]( ) حيث أسند الجريان إلى الأنهار وهي أمكنة المياه وأوعيتها.
لكن الوصف الذي ورد في الآية الكريمة أرقى من مناسبة المقام بسبب تخلف أوهام البشر عن تصور أنهار الجنة، وقياسهم لها بأنهار الدنيا ونطرح قولاً جديداً فيها:
لعل أنهار الجنة ذاتها متحركة ومتنقلة حيث يشاء أهلها ويسألون الله وهو أمر ممكن ومتوقع، وفيه زيادة في الفضل والنعمة والإعجاز والترغيب، وقولنا هذا لا يمنع من المعنى المجازي المتعارف لجريان الأنهار وأن المراد منه جريان مائها.
فالصورتان معاً من صفات الجنة، تارة يجري الماء في النهر، وتارة يجري النهر كله وينتقل إلى قصور وجنات أخرى إستجابة لدعاء أو فضلاً وبشارة مستحدثة بقدوم نهر عظيم من موضع آخر من الجنة من غير أن يظهر على الموضع الذي إنتقل منه نقص.
إن أنهار الجنة وهيئاتها جزء من أشياء كثيرة مستجيبة للمؤمنين في الآخرة وفيها ما يشتهون، فربما تمنى بعضهم ان تنقل بعض الأنهار إلى قصر آخر أو روضة من رياض الجنة أو أنه سأل نهراً في موضع آخر من الجنة خاصة وأن الأنهار متنوعة، منها ما يجري بالماء ومنها ما يجـري بطــيب الشــراب ولذيذه.
وقد لا ينحصر التبديل بالأنهار في الجنة بل يتعدى إلى بعض بقاعها وأشجارها ونحوها( ).
وعن ابن عباس أن الآية نزلت في علي وحمزة، وجعفر، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب)
وهو من باب الفرد الأمثل والأسوة والا فانها مطلقة تجري الى يوم القيامة, لأن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول وحده .
(من ثمرة) (من) للتبعيض والجنس والبيان، والتفسير أنهم يرزقون بعض الثمار في كل وقت، وللإخبار عن الرزق من أي جنس أو صنف أو نوع.
بحث بلاغي
في علم بلاغة القرآن باب المتشابه باعتبار الأفراد تعتبر هذه الآية مما ورد في القرآن على خمسة عشر وجهاً( ).
وأسرار التعدد هذا ومضامينه العلمية لا تنحصر بعلم المتشابه، فكل آية منها لها معاني اضافية خاصة بها تعرف بحسب المقام والقرائن والمعنى السـياقي، ولها مجتمعة معاني أخــرى، فالكـثرة والتعــدد لها منافــع متشــعبة تتعـلق بأفرادها كلاً على حدة، وبها جميعاً مع الإعجاز في المتشابه وحلاوة التكرار.
تفسير قوله تعالى [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا]
يعود الضمير في (منها) إلى الجنات، وجاءت بلغة الجمع لإفادة الكثرة والتعدد وبيان عظيم إحسان وفضل الله تعالى، وفي عائدية حرف الجر على صيغة الجمع بيان لإنتفاع المؤمن في الآخرة من الجنان، وعدم حصر الإقامة في جنة واحدة.
وورود (كلما) يفيد تعدد الرزق وكثرته وتواليه، وهو من مصاديق البشارة، ولأن الله سبحانه إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم والأحسن.
ولم يرد لفظ (ثمرة) بالمفرد إلا في هذه الآية الكريمة، وورد لفظ الثمرات في القرآن ست عشرة مرة، منها واحدة تتعلق بثمار الجنة [وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ]( )، ولغة المفرد في الآية (من ثمرة) فيها مسائل :
الأولى : يفيد حرف الجر (من)التبعيض.
الثانية : جاء لفظ الثمرة بالتنكير ويدل على الإطلاق والتعدد أيضاً.
الثالثة : في الآية إعجاز وهو إتصاف الثمرة في الجنة بالكبر، وتكفي لحاجة الإنسان وغذائه ويبقى فيها فضل، بحيث لو جعلها مادة غذائه الرئيسية أو الوحيدة لكفته مع زيادة وفضل يدل على عظيم إحسان الله تعالى، ولبيان خصوصية من خصوصيات الجنة.
الرابعة : إذا إشترك في ثمرة الجنة أكثر من واحد فانها تكفيهم لأن الآية تقول رزقوا منها من ثمرة، إلا ان يراد من الثمرة اسم الجنس وليس القضية الشخصية، وهو الأرجح، أي ان الرزق يأتي من ذات الثمرة ولكن على نحو التعدد والكثرة.
الخامسة : يأتي الرزق من الله تعالى، وهم يرزقون فيها، وهذا لا يتعارض مع قدرتهم على الإختيار والطلب من غير حاجز.
تفسير قوله تعالى [ قالوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ]
كلمة رضا وسرور وفرح بفضل الله تعالى المتوالي والمتكرر في الدارين, وإتصال نعمه على المؤمنين، وفي تفسيرها أقوال :
الأول :إنه الذي رزقنا في الدنيا، روي عن ابن عباس وابن مسعود( ) وجماعة من الصحابة.
الثاني : معناه أشبه به، عن مجاهد.
الثالث : إن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مثلها في مكانها فاذا رأوا ما عاد بعد الذي جني، إشتبه عليهم، فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، وهو قول أبي عبيدة ويحيى بن كثير.
الرابع : هذا الذي وعدنا به في الدنيا( ).
ولا تعارض بين هذه الأقوال ، ويمكن إضافة وجوه أخرى منها, أنهم كانوا يعيشون في الدنيا بنعيم الآخرة وكأنها قريبة، وثمارها حاضرة في الوجود الذهني عند كل واحد منهم ومنها أن الله عز وجل كان يرزقهم في الدنيا ما هو بشارة ومصداق عملي لثمار الجنة.
وقولهم يدل على صدق إيمانهم وتصديقهم بالبشارة عى نحو العموم المجموعي، فالآية تكشف في الآخرة ما كانوا عليه من حسن السريرة، وان كل واحد منهم كان يتلذذ بثمار الجنة ويكون في الآخرة فرحاً بها، سعيداً بها وكأنه رُزق إياها في الحياة الدنيا.
ولعل في الآية نكتة عقائدية ضمن الإرادة التكوينية بحمل الآية على ظاهرها وهو ان ثمار الجنة أو شبهها تصل إلى أصحاب الجنة من المؤمنين في الحياة الدنيا فضلاً منه تعالى بعالم التصور والتذوق والنكهة.
وهل يحتمل إرادة رؤيا البشارات في الجنة، الجواب لا، وان حصلت الرؤيا فهي قضية شخصية، وتدل مضامين الآية على الربط بين الوقائع والتشابه في الأمور الخارجية.
عن الأشعري قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة، وعلّمه صَنعةَ كل شيء، فثمارُكم هذه من ثمار الجنة، غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ)( )، ليفرح المؤمنون على نحو مركب بأن يروا تلك الثمار ذات النكهة الطيبة في الدنيا التي يحرصون على الأكل منها، وأنها في الجنة لا يصيبها التلف ولا تزول رائحتها الطيبة.
تفسير قوله تعالى [ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ]
(الهاء) في به عائد إلى الرزق والثمرة التي ينالون في الجنة، وفي تشابهه أقوال :
الأول : يشبه بعضه بعضاً في الشكل واللون والطعم، عن الأخفش.
الثاني : معناه يشبه ثمار الدنيا غير أنه أطيب، عن قتادة.
الثالث : يعني أنهم تساووا في الفضل والسؤدد، عن الحسن البصري وابن جريج.
الرابع : التشابه في الأسماء دون الألوان والطعوم، ولا يشبه ثمار الجنة شيء من ثمار الدنيا في لون ولا طعم، عن ابن زيد والأشجعي( ).
الخامس : ما يؤتون به في كل وقت من الثواب مثل الذي جاءهم في الوقت الذي قبله من غير زيادة ولا نقصان.
ولا تعارض بين هذه الأقوال، وإطلاق الآية يصلح وعاء لإجتماعها بلحاظ عظيم فضل الله سبحانه.
وتفيد الآية أن نعم الدنيا وطيباتها التي قد يحصل عليها الإنسان بجهد، يجدها المؤمنون ميسرة قريبة في الجنة ليحصل الإتصال بين الدارين بالنسبة للمؤمن.
وفيها ترغيب وحث على إلتزام أسباب الإيمان وبذل الوسع في عمل الصالحات وبشارة ودلالة على إتصال النعم ودوامها.
ويحتمل أن يكون المراد بالتشابه هنا هو عدم التمايز بين أهل الجنة فيما يتعلق برزقهم من ثمارها، فضلاً منه تعالى على المؤمنين بغض النظر عن التمايز في الثواب، والحال الذي كان في الدنيا من الفوارق في الرزق والمال ومستوى المعيشة فهو غير موجود في الجنة، فمن صفات الجنة إتساع النعيم فيها وعدم تسرب الحسرة إلى نفوس أهلها.
(وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفس محمد بيده ان الرجل من اهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها، فاذا أبصروها والهيئة هيأة الأولى قالوا ذلك)( ).
بحث بلاغي
من الآيات القرآنية علم المحكم والمتشابه، وأصل المتشابه إشتباه اللفظ في الظـاهر وإنطـباقـه على المعاني المتعـددة في الخارج.
و(المتشابه) في هذه الآية ليس من المحكم والمتشابه بمعناهما الإصطلاحي، فالمراد منه المعنى اللغوي وأن بعضه يشبه بعضاً، لســـعة فضله تعالى وعظيم النعــم يوم القيامـــة، ولعمــومات قولــه تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ ]( ).
فمن منافع التشابه منع الحسد وأسباب الكدورة وهما أمران ممتنعان على أهل الجنة.
بحث بلاغي آخر
الإعتراض لغة التصدي، يقال إعترض الشيء صار عارضاً وتصدى له، وإعترضت الشهر إذا إبتدأته من غير أوله.
أما في الإصطلاح فهو الإتيان في اثناء الكلام بعبارة لا يضر فقدها بالمعنى الأصلي للكلام، وقد يقع بين كلامين فيكون كالفاصل بينهما، ومنهم من سّماه الإلتفات.
وإعتبر في النحو جملة صغرى تتخلل جملة كبرى للتأكيد، وللإعتراض أسباب عديدة منها التقرير، فالآية لتقرير الرزق الكريم في الآخرة ونوعه، والآية أعم في معانيها البلاغية وما يتفرع عنها من المسائل الكلامية.
تفسير قوله تعالى [وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ]
أي منزهات، من الحيض والاستحاضة، والنفاس لعدم الولادة.
ومطهرات من الأقذار والأدناس، ومن دنس الطباع وطبع الأخلاق الذي عليه نساء الدنيا مما يكتسبن من البيئة الفاسدة او ما يتعلق بعنصر الوراثة من عرق السوء بالإضافة إلى الخبث والكيد ونحوه.
(وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { ولهم فيها أزواج مطهرة } قال : لا يحضن ، ولا يحدثن ، ولا يتنخمن .
وأخرج وكيع وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله { ولهم فيها أزواج مطهرة } قال : من الحيض ، والغائط ، والبول ، والمخاط ، والنخامة ، والبزاق ، والمني ، والولد) ( ).
وقد ورد عن الإمام الصادق (في الآية انهن الأزواج اللائي لا يحضن ولا يحدثن) لبيان فضل الله على أهل الجنة وأزواجهم في الجانب التكويني والعضوي والسمات الأخلاقية لأهل الجنان معروفة عند المؤمنين بالحسن والكمال.
و وردت مادة (طهر) ومشتقاتها في ثمان وعشرين آية من آيات القرآن وهي تحمل عنـاوين متقاربة ولكنها تلتقي في النقاء من الأقذار الخارجية والذاتية والخصال القبيحة، لتكون الآية بشارة لعظيم فضل الله تعالى في موضوع ومبادئ علم الأخلاق وأثره في حياة الإنســان، ان تلك الأزواج جزء من نعم الجنــة المتكاملة والمثالية، وهذا الإخبار مناســـبة لتجدد إشــتياق المؤمن للجنة وما فيها والتأسي بالصبر في جنب الله واختيار ما فيه مرضاته تعالى للفوز بالسعادة الأخروية.
وجاءت الآية بصيغة الجمع, وتحتمل أمرين:
الأول : إنحلال الجمع، وكل مؤمن تكون له زوجة وفق عمومات السبر والتقسيم البلاغية والتقدير لكل مؤمن زوج طاهرة.
الثاني : كل مؤمن من أهل الجنان له أزواج متعددات.
والثاني هو الأرجح لأن الله إذا أنعم ينعم بالأتم والأحسن وفق (قانون الأوفى) ومفاده أن الله يعطي بالأوفى والأتم، خصوصاً بالنسبة لأهل الجنة ولحمل البشارة على المعنى الأعم.

 

تفسير قوله تعالى [ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ]
أي أن أصحاب الجنة مقيمون وباقون فيها بصورة دائمة من غير زوال أو فناء.
وفي الآية الكريمة دروس تصلح للمقارنة بين أحوال المؤمنين في الجنة وأحوالهم في الدنيا الأمر الذي يجعلهم يعرضون عن زينة الدنيا الزائلة ومباهجها الخداعة ويتلمسون الطرق المؤدية إلى إحراز الخلود في الجنة فلا يجدونه إلا في الإيمان وعمل الصالحات فيدأبون على إتيانها بقصد ومعرفة ويتفانون فيها فتتسع دائرة الإسلام وتترسخ مبادئه.
وفي الآية وعد كريم بالجنة والخلود في نعيمها لآولئك الذين أحسنوا ظاهـرهم ووافقه ســرهم في مسالك الإيمان ودروب الهـــداية، وترغيب وحث على التقوى.
وفي مفهومها تعريض بالكافرين وإثارة للحسرة في نفوسهم.

 

 

 

 

 

قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ]الآية 26
************

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القراءة والإعراب واللغة
إن : حرف مشبه بالفعل، اسم الجلالة : اسم أن مرفوع، لا يستحي : لا نافية، يستحي : فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، يعود إلى الله تعالى : والجملة الفعلية في محل خبر (إن).
أن يضرب : أن حرف مصدري ونصب، يضرب : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازاً، وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والتقدير : إن الله لايستحي ضرب مثل.
مثلاً : مفعول به منصوب بالفتحة، وما : الإبهامية أي التي تزيد النكرة إبهاماً، بعوضة : بدل من مثلاً.
فما : الفاء عاطفة، ما : اسم موصول في محل نصب معطوف على بعوضة.
فوقها : ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول.
فاما : الفاء إستئنافية، ما : حرف شرط وتفصيل، الذين : اسم موصول في محل رفع مبتدأ.
آمنوا : فعل وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الذين، فيعلمون، الفاء : رابطة لجواب الشرط.
يعلمون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو : فاعل، جملة يعلمون في محل رفع خبر الذين.
إنه : حرف مشبه بالفعل، الهاء ضمير متصل في محل نصب إسمها، الحق : خبرها، وأن وما في حيزها في محل مفعول يعلمون، من ربهم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
وأما : الواو : حرف عطف، أما : حرف شرط وتفصيل، الذين : اسم موصول في محل رفع مبتدأ، كفروا : فعل وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
فيقولون : الفاء : رابطة لجواب الشرط، يقولون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو : فاعل، والجملة خبر الموصول، ماذا : اسم إستفهام في محل نصب مفعول به مقدم لأراد.
أراد : فعل ماض مبني على الفتح، الله : فاعل، وجملة أراد مقول القول، بهذا : جار ومجرور متعلقان بأراد.
مثلاً : تمييز من اسم الإشارة، وقيل حال، يضل : فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو، به : جار ومجرور، متعلقان بيضل، كثيراً : مفعول به : يهدي : عطف على يضل، به : جار ومجرور متعلقان بيهدي، كثيراً : مفعول به.
وما يضل : الواو : عاطفة وإستئنافية وحالية ونافية، به : جار ومجرور متعلقان بيضل، إلا : أداة حصر، الفاسقين : مفعول به، وما يضل : الواو حالية، وما : نافية.
( مثلاً ) نصبت على التمييز، وقيل مفعول به.
( لا يستحي ) بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وايل، وبه قـرأ ابن كثير، حذفت إحدى اليائين لإستثقال إجتماعهما.
الإستحياء من الحياء وهو في اللغة تغير وإنكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، ولكن هذا الوصف لا يتناسب ومقام الربوبية عند تعلق معنى الكلمة به تعالى، فاما أن يكون على سبيل التمثيل، أو انه يحمل مضامين قدسية لا تتعارض مع مقام الربوبية وعدم التشبيه والتجسيم وهو الأنسب والأرجح.
فمعنى الحياء في الأصل هو تخوف الإنسان مما قد يعاب به، والله عز وجل منزه عن القبيح، والتغيير والإنكسار والإنقباض أعراض تصيب الإنسان لأنه مخلوق ممكن، (وفي حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (أن الله حيي كريم ويستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً)( )، فيحمل الحياء في الآية على صفات الجلال والكمال، ويأتي بعنوان الترك، أي أن الله عز وجل لا يترك ضرب الأمثال.
والضرب يقع على معان عديدة ومنها أنه عنوان للحركة والســـعـي، ويأتي للمثل كما يقال ما أقل ضـربك في هذا الزمــان أي مثلك، وضرب المثل إعتماده وإعتباره والإتيان به للتشبيه.
والبعوضة واحدة البعوض، وهو صغار البق مشتقة من البعض لصغرها ودقة حجمها، أو لأنها من البعض بمعنى القطع.
والفاسقون : جمع فاسق، وهو الذي يأتي الأفعال المنافية لأحكام الشريعة والطبائع الإنسانية وما يخرج به عن حدود الآداب الإسلامية والأخلاق القويمة، لأن أصل الفسق خروج الشيء من الشيء، (وفي الدعاء: وأدرأ عني شر فسقة الجن والإنس).

 

في سياق الآيات
بعد الوعيد والتحدي، والوعد والبشارة جاء التفصيل في لغة الإحتجاج المقرون بالشاهد والمثل لبيان وجه التحدي ، ورد شبهات أهل الضلالة والكفار والذين من دونهم.
كما جاءت الآية السابقة بمدح المسلمين والثناء عليهم لتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه بيان لحقيقة وهي أن التصديق بنبوته وإتباعه صلى الله عليه وآله وسلم باب لنزول النعم الدنيوية والأخروية، ووسيلة لنيل رضا الله سبحانه وهو غاية ما يسعى إليه الإنسان في الحياة الدنيا التي جعلها الله دار إمتحان وإختبار.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أن تأتي هذه الآية جامعة للوعد والوعيد، والبشارة والإنذار مع التباين في الجهة، أي توجه البشارة للمؤمنين، الذين يتلقون بالتصديق التنزيل مطلقاً سواء كأن أمراً أو نهياً أو خبراً أو قصة أو مثلاً أو وعداً أو وعيداً، والإنذار للذين كفروا الذين يجحدون بالربوبية والنبوة، ويصرون على الإستهزاء والإعراض عن الآيات، ولا يتفكرون في معانيها القدسية إذ أن المثل القرآني له دلالات عقائدية تدعو إلى التدبر والتأمل والإعتبار.
وجاءت الآية التالية في ذم الذين كفروا ببعض الصفات والأفعال القبيحة التي يتصفون بها، وهي شاهد على سوء فعلهم وحرمانهم لأنفسهم مما في أمثلة القرآن من المقاصد السامية، والتي جاءت لتخليصهم من نقض العهد، والإفساد في الأرض.
والمثل القرآني سفير سماوي للناس جميعاً على إختلاف مداركهم، لنجاتهم من الخسارة والتيه والحيرة, وإذا كان الكفار ينكرون إتيان المثل القرآني بالشئ الحقير فإنه جاء بالأمثلة في قصص الأمم السالفة، وجاءت الآيات السابقة بالمثل بالنار المستوقدة، وبالمطر النازل من السماء وما يصاحبه من الظلمات والرعد والبرق.
وجاءت هذه الآية من باب التمثيل بضرب البعوضة مثلاً باعتبارها شيئاً حقيراً لتوكيد قاعدة في الإرادة التكوينية وهي أن المدار ليس على الموضوع الذي يأتي مثالاً، بل على دلالات المثل وما فيه من المواعظ والعبر وتقريب المعقول إلى الإذهان بلغة المحسوس، رحمة بالناس عامة، ومنهم المستضعفون، وتفضل الله سبحانه وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وبلحاظ الآيات السابقة التي جاءت في ذم الكفار يكون معنى الآية والصلة بينها وبين مضامين الآيات السابقة على وجوه منها :
الأول : ورد في الآية السادسة قوله تعالى [أن الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَانذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] وجاءت هذه الآية وما فيها من الدلالة على المثل القرآني وموضوعيته وإن كان في الأمور الصغيرة والدقيقة، ولكن الكفار لم يؤمنوا، وإختاروا الضلالة والغواية.
الثاني : ورد في الآية السابقة [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ] ، ومن خصائص الختم عدم التصديق أو الإتعاظ من المثل القرآني.
الثالث : جاء في الآية الثامنة، قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ]، فجاءت الآية محل البحث لفضحهم، وبيان عدم إيمانهم، لأنهم حينما سمعوا المثل القرآني بالأشياء الصغيرة، سألوا بلهجة الإستنكار [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً]، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم تصديقهم به وعدم إعتبارهم به، بينما يتلقاه المؤمنون بالتصديق ويتخذونه سبيل هدى، ليكون المثل القرآني ميزاناً وكاشفاً ومائزاً بين المؤمنين والكفار.
فهؤلاء إدعوا الإيمان، ولكن حين نزلت آيات القرآن بالمثل في الأشياء الصغيرة وما لا يستطيعون إدراك كنهه ، لم يسعوا لسؤال بيانه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والراسخين في العلم ولم يرجعوا إلى القرآن، وتفسير آياته بعضها لبعض بل أعلنوا إنكارهم لنزول القرآن بمثل هذه الأمثلة، فصدق عليهم أنهم يدعون الإيمان زوراً وكذباً، وأنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، لأن من خصائص أهل الإيمان تلقي المثل القرآني مع تباينه بالرضا والقبول والتسليم.
ومن الإعجاز في الجمع بين قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وبين الآية محل البحث إخبار المسلمين بما يقوله الكفار، فلولا فضحهم والإخبار عن كذب إدعائهم الإيمان، لأنصت شطر من المسلمين إلى قولهم [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] وهذا الإنصات مقدمة ليبث الكفار سمومهم وأراجيفهم، فجاءت الآية الثامنة للتحذير منهم ومن أقوالهم فحينما يردون بالسؤال الإنكاري يكون غرضهم وخبث قصدهم مفضوحاً عند المسلمين والناس .
الرابع : قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ انفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )، وجاءت هذه الآية لتؤكد مضامين الآية أعلاه من جهات :
الأولى : خداع أهل الجحود باظهار التساؤل والإستغراب من المثل القرآني، ومن وظائف العبودية تلقي التنزيل بالتصديق، خصوصاً وأن غايات الآية القرآنية أعم وأكبر من أن تحيط بها أوهام البشر.
الثانية : حينما يقولون [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] فإنهم يريدون بث روح الشك والريب، وصد الناس عن الإسلام،، ومنعهم من التدبر في آيات القرآن.
الثالثة : إن إختيار الشك والريب من وجوه الكفر والجحود، وخداع النفس وإضلالها.
الرابعة : لا يشعر الكفار بأن قولهم [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] لن يضر المسلمين ، ولا يمنع من إتعاظ الناس من المثل القرآني , وإتخاذه ضياء ينير لهم دروب الهداية والرشاد.
الخامس : قال الله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا] ( )، وبين هذه الآية والآية محل البحث من جهات :
الأولى : جاء رد الكفار والمنافقين على التنزيل وما فيه من مضامين وأسرار المثل القرآني [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] دليلاً على ما في قلوبهم من مرض، وهو شاهد على صدودهم وإمتناعهم عن التصديق، فجاء المثل القرآني فضحاً لهم، وحجة عليهم.
الثانية : من إعجاز المثل القرآني إمتلاكه الصلة التامة لقبول الناس له، وإيمانهم بمضامينه، والشاهد هو تلقي المسلمين له بالتصديق، أما الكفار فإن عدم تصديقهم به لوجود المانع الذاتي عندهم وهو المرض في قلوبهم الذي يحجب عنها رؤية الحق والدلالات الباهرات, قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الثالثة : جاء المثل القرآني ليزيدهم مرضاً وعناداً وإصراراً على الكفر، لذا ورد قوله تعالى في هذه الآية [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا] فصحيح أن الآية نسبت ضلالتهم إلى الله تعالى، ولكن المراد هو نزول المثل القرآني وتكذيبهم له وإنكاره وإظهارهم عدم الرضا به.
الرابعة : أختتمت الآية العاشرة بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كانوا يَكْذِبُونَ] وقول الكفار والمخادعين [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] وضلالتهم بسبب جحودهم بالمثل القرآني مقدمة لإستحقاقهم العذاب الأليم والمكث الدائم في نار جهنم.
إن صدود الكفار عن آيات القرآن معصية وذنب عظيم فجاءت هذه الآيات بالوعيد، وبيان مواضيع الوعيد، لإقامة الحجة على الكفار في الدنيا والآخرة.
السادس : جاءت الآية الحادية عشرة من هذه السورة بقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرض قَالُوا انمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] والصلة بينها وبين هذه الآية من جهات :
الأولى : إن الرد الإنكاري على المثل القرآني إفساد في الأرض، وقد ورد ردهم بصيغة القول الذي يكون مسموعاً من قبل الآخرين، وقابلاً للنقل والإنتقال بين الناس، وتردده الألسن، فقصدت هذه الآية فضحه ولتكون حرزاً للمسلمين من آثاره الضارة على النفوس، وفي عالم الأعمال.
الثانية : إنكار الكفار للمثل القرآني موضوع لزجر الناس لهم ونهيهم عن الفساد في الأرض، فمن مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرض] قال المؤمنون لهم: لاتجحدوا بالمثل القرآني وما فيه من الدروس والعبر.
وجاءت هذه الآية لتحث المسلمين على نهي الكفار عن التعدي على القرآن ومضامين التنزيل، ولولا هذه الآية لتجاهل شطر من المسلمين قول الكفار من وجوه :
الأول : الإعراض عن الكفار، وما يقولون.
الثاني : ترك الرد على السؤال الإنكاري للكفار.
الثالث : الجدال بخصوص سؤال الكفار , وسماع المغالطات التي يقدمون عليها، لأن ذات السؤال الإنكاري مغالطة، ومحاولة لتعطيل الأحكام.
الرابع : الإكتفاء بسماع ما يقوله الكفار والمنافقون بخصوص المثل القرآني، لأنهم يتظاهرون بالإيمان، ويوهمون غيرهم بأن سؤالهم الإنكاري من منازل الإيمان، فجاءت الآية لدفع وهم ، والمنع من حسن الظن بالمخادعين والمنافقين والكفار وما يقولون.
الخامس : جاءت هذه الآية لفضح الكفار والمخادعين،و بيان كذب إدعائهم [انمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] ( ) لأن ردهم الإنكاري، وبقاءهم في منازل التردد، ومحاولتهم بث الشك ونشر معاني الريب بما يقولون شاهد على أنهم ليسوا مصلحين، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا] فهم يدعون الإصلاح .
وجاء المثل القرآني لبيان ضلالتهم، وينفي عنهم صبغة الإصلاح لسوء قولهم وقبيح ردهم.
السابع : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى [أَلاَ انهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] وفيه وجوه :
الأول : تؤكد هذه الآية فساد الكفار والمنافقين، فمن إفسادهم في الأرض نشر مفاهيم الشك والريب في التنزيل.
الثاني : جاءت الآيتان بصيغة الجمع، فهم يدّعون الإصلاح وتأتي هذه الآية لفضحهم والإخبار عن كذب قول المخادعين من الكفار والمنافقين أنهم مصلحون.
الثالث : تبين الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين مصاديق من الإصلاح ومن الإفساد في الأرض.
الرابع : لا يعلم الكفار مقدار الضرر الذي يتفرع عن إنكارهم للعلوم والدروس التي تترشح عن المثل القرآني مطلقاً، وعن كل مثل من أمثلة القرآن وإن كان بالأمور والموجودات الدقيقة والصغيرة، فالله تعالى يقسم بمخلوقاته، ويذكرها مثلاً، ويبين عظيم قدرته بخلقها كبيرة كانت أو صغيرة، وليس للناس إلا القبول والتسليم والشكر لله تعالى على المثل القرآني لأنه فضل عظيم من عند الله.
الثامن : الصلة بين هذه الآية, وقوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( )، وفيه وجوه :
الأول : لقد تجلى الإيمان في تلقي المثل القرآني بالقبول والتسليم من الذين آمنوا، وبتقدير الجمع بين الآيتين حينما يقال للكفار والمنافقين [َإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا انؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ] بلحاظ عمومات الإيمان وشمولها للأصول والفروع، ومناسبة الجمع بين الآيتين، فجاءت هذه الآية لتذب عن المؤمنين الذين صدّقوا بالمثل القرآني، بصيغة العلم والإدراك [فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ]، ليستحق عدوهم والضد الخاص لهم الذي لم يؤمن بالمثل القرآني الحكم عليه بالسفاهة وقلة الحلم، ونقص العقل.
الثاني : من السفاهة الرد على كلام الله تعالى بالسؤال الإنكاري والجحود، وعدم القبول، ويمكن بيان النتيجة وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذي لايقبل المثل القرآني هو سفيه.
الصغرى : الكفار المخادعون لم يقبلوا المثل القرآني.
النتيجة : الكفار المخادعون هم السفهاء.
الثالث : أختتمت الآية الثالثة عشرة بقوله تعالى [وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] وبلحاظ الجمع بين الآيتين مسائل :
الأولى : لايعلم الكفار بأن ردهم المثل القرآني، وجحودهم به يؤكد فسقهم وخروجهم عن الطاعة.
الثانية : لا يعلم الكفار المنافع الدنيوية والأخروية التي تترشح عن المثل القرآني.
الثالثة : لا يعلم الكفار أن المسلمين لن يلتفتوا إلى قولهم وإدعائهم ولن يصيبهم أذى منه، لأن هذه الآية فضحت الكفار وبينت تأويل كلامهم وإنكارهم وما يقصدون منه.
الرابعة : لا يعلم الكفار بوجوب التصديق بآيات القرآن على نحو العموم المجموعي، ولا يجوز رد آية أو جزء آية منها.
التاسع : قد بينت الآية الرابعة عشرة أن الكفار المخادعين إذا خلوا إلى شياطينهم يقولون لهم [انا مَعَكُمْ انمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] والجمع بينها وبين هذه الآية من وجوه :
الأول : إظهارالكفار الإستهزاء بالمثل القرآني.
الثاني : محاولاتهم الإستخفاف بإنكار المثل القرآني في الأمور الدقيقة.
الثالث : ضلالة الكفار والمخادعين بإعراضهم وصدودهم عن المثل القرآني، وما يترشح عن الضلالة من الأخلاق المذمومة.
العاشر : قال تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانهِمْ يَعْمَهُونَ]( )، وفي الجمع بينه وبين الآية محل البحث مسائل :
الأولى : جاء المثل القرآني في الأشياء والمخلوقات الصغيرة، ليفضح الله الكفار والمنافقين.
الثانية : للمثل القرآني وظائف متعددة، فهو باب هداية للمسلمين، ودعوة للناس لدخول الإسلام، ووسيلة للإستهزاء بالكفار الذين يظهرون الإنكار للمثل القرآني، ويفوتهم التدبر في مضامينه القدسية.
الثالثة : إن فضل الله في الإتيان بالمثل بالأمور الصغيرة شاهد على إستهزائه بالكفار والمخادعين لأنه سبحانه يعلم ماسيقولون عند نزوله، ومع هذا فإنه سبحانه ينزل المثل، ويتركهم يقولون ما يدل على ضلالتهم، إستهزاء منه تعالى بهم.
الرابعة : في الجمع بين الآيتين شاهد على إنتصار الإسلام، وإستدامة النفع العظيم من المثل القرآني.
الخامسة : هذه الآية من إستدراج الله تعالى للكفار وتركهم في ضلالتهم وتجاوزهم للحد في ضلالتهم، فليس للناس أن يردوا كلام الله، بل يجب عليهم تلقيه بالقبول والتصديق، وحينما يظهر الكفار الإستخفاف ببعض مضامين التنزيل بلحاظ موضوع المثل القرآني يترتب عليه عقوبة وأثر مركب من وجوه :
الأول : إستدراج الكفار، وهلاكهم من حيث لا يعلمون، وهو من مصاديق الإستهزاء بهم.
الثاني : صيرورة الكفار في تجاوزهم الحد وتعديهم متحيرين.
الثالث : من مصاديق الحيرة قولهم [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] وضلالتهم وما يترشح عنها، فقوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا] دليل على حيرة وعمى الكفار وإفتقارهم للتوفيق في الإختيار والقول والفعل.
الحادي عشر : قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] ( )، والجمع بين هذه الآية والآية محل البحث من وجوه:
الأول : إظهار الإنكار للمثل القرآني نوع ضلالة.
الثاني : لقد إختار الكفار الضلالة والتعدي ، وتجاوز الحد بإنكار المثل القرآني، وهو من مصاديق قوله تعالى [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ] لعدم وجود المقتضي لهذا الشراء، ووجود المانع له، وهذا المانع من جهتين :
الأولى : دنيوية : فإن وظيفة الناس في الدنيا هي عبادة الله، ورد المثل القرآني والصدود عنه أمر مخالف للوظيفة التكليفية والشرعية للإنسان.
الثانية : أخروية : فقد جعل الله تعالى الآخرة دار حساب وجزاء، وأعد الله للكفار العذاب الأليم.
الثالث : بين الهدى والضلالة تضاد وتناف وعدم إجتماع، وبين التسليم بالمثل القرآني ورده نوع تضاد.
الرابع : من مصاديق الهدى التصديق بالمثل القرآني، فعندما أبى وإستكبر الكفار عن التصديق والتسليم به، صدق عليهم قوله تعالى [اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى] ( ).
الخامس : لقد رد الكفار والمخادعون المثل القرآني الذي يأتي بالأشياء والمخلوقات الصغيرة، بذريعة أن الله تعالى أعظم من أن يذكر هذه المخلوقات في كتابه.
وجاءت هذه الآية لتؤكد نزول هذا المثل من عند الله تعالى، وتخبر بأن الله عز وجل لا يترك هذه الأمثلة وإن كانت صغيرة، لأنه تعالى أعلم بالمصلحة وأسباب جلب المنفعة للناس، ودفع المفسدة عنهم، لذا قالت هذه الآية [يَهْدِي بِهِ كَثِيرًا] فهذه الهداية علة ومصداق لصحة نزول هذه الأمثلة، أما أهل الضلالة فإنهم يركبون جادة الكفر، ويصرون على العناد والجحود ، سواء نزل القرآن بهذه الأمثال أو نزل بغيرها .
وحينما ينزل هذا المثل فإنه يفضح ضلالتهم ويجعلهم يتجاوزون الحد في طغيانهم ، ليستحقوا دخول جهنم عقوبة وجزاء على ما إرتكبوه من الصدود والإعراض عن المثل القرآني وما فيه من الدروس والمواعظ.
السادس : قال تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ] فتتبين خسارة وعدم ربح الكفار بهذه الآية التي تفضحهم وتتضمن خزيهم في الدنيا والآخرة، لقد أرادوا الطعن بالمثل القرآني فجاءت هذه الآية الكريمة لخذلانهم وجعلهم في حيرة من أمرهم عاجزين عن الرد، ليكون الخزي شاهداً على تعديهم على الإسلام، وضلالتهم وعدم ربح تجارتهم.
السابع : قال تعالى [وَمَا كانوا مُهْتَدِينَ] وجاءت هذه الآية لتخبر عن ضلالة الكفار والمعاندين، بقوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا] فرد الكفار للمثل القرآني توكيد لإبتعادهم عن الهداية، كما أن عدم هدايتهم سبب لردهم المثل القرآني، وعدم تدبرهم في معانيه ودلالاته، فمن كان متجافياً عن أسباب ومنازل الهداية يبادر إلى الإعراض عن أفرادها وسننها، وهو من الداء الذي يصيب القلوب.
الثامن : قال تعالى [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( )،والصلة بينها، وبين هذه الآية من وجوه :
الأول : موضوع الآيتين هو المثل والتشبيه القرآني.
الثاني : جاءت الآية أعلاه في التمثيل بحال الكفار والمخادعين، أمّا هذه الآية فذكرت ذات المثل القرآني.
الثالث : الجحود بالمثل القرآني من الإقامة في الظلمات وأسبابها.
الرابع : من يكون في الظلمات ويعجز عن الرؤية كما في قوله تعالى في الآية أعلاه [وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] لا يدرك المعاني والمضامين القدسية للمثل القرآني ، فالكفار والمنافقون لا يرون ما في المثل القرآني في صغائر الأشياء من الدقائق والعلوم والدلالات.
الخامس : يؤدي جحود الكفار بالمثل القرآني، وإظهار الشك والريب فيه إلى فضيحتهم وخزيهم بين الناس، لتتجلى المعاني والأسرار القدسية في المثل القرآني، وهو من مصاديق ما ورد في الآية أعلاه [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ] ليكون المثل القرآني إنذاراً ووعيداً وجزء علة لذهاب نورهم، وجعلهم في ضياع وضلالة.
التاسع : الصلة بين هذه الآية وبين قوله تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ] ( )، وفيه وجوه :
الأول : يأتي المثل القرآني دعوة ونداء ورحمة للناس جميعاً، ومن خصائصه أن الله عز وجل يأتي بالمثل بالأشياء العظيمة والدقيقة، والكبيرة والصغيرة، ليكون تذكيراً وتكراراً وتنمية للمعارف، وموعظة للناس جميعاً، ولكن الكفار يصمون آذانهم عن سماع دعوة الحق، وعن المثل القرآني، وما فيه من وجوه الحكمة وأسباب الهداية.
الثاني : جاءت الآية أعلاه بقوله تعالى [عُمْيٌ] ويفيد الجمع بينها وبين هذه الآية عدم رؤية الكفار والمخادعين الأثر المبارك الذي يتركه المثل القرآني على المسلمين جماعات وأفراداً، وهم عمي عن المنافع الدنيوية والأخروية للمثل القرآني.
الثالث : جاءت الآية أعلاه بقوله تعالى [بُكْمٌ] لإفادة إعتقال السنتهم، وجاءت هذه الآية بقوله تعالى [يَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] ويفيد الجمع بين الآيتين بأن قولهم أعلاه كالعدم وليس له أثر أو تأثير بين الناس، فلا أحد يستمع إليه، ويبقى حجة عليهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ انفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ).
العاشر : الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى [[ أو كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ]( )، وفيه وجوه :
الأول : تتضمن كل من الآيتين المثل القرآني.
الثاني : تعلق المثل بالآية أعلاه بالقوم الكافرين، أما هذه الآية فتختص بالمثل بالأشياء الصغيرة، وقبح رد الكفار عليه.
الثالث: قال تعالى في ذم الكفار [يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ] وجاء المثل في هذه الآية كالصاعقة على الكفار، فمن فزعهم وخوفهم، يقولون عند سماع المثل القرآني بالأشياء الصغيرة [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً].
الرابع: أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ]وتخبر الآية محل البحث عن ضلالة الكفار، وتعديهم وسوء تلقيهم للتنزيل.
الثانية عشرة: الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى [يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ] ( )، وفيه وجوه:
الأول: جاءت الآيتان بلغة المثل والتشبيه، ومن الآيات انهم لم يستخفّوا بالمثل الذي فيه المطر والرعد والبرق، وخطف البرق لأبصارهم وما له من الدلالات العقائدية، ولكنهم يحاولون الإستهزاء بالأمثلة القرآنية التي تتعلق بدقائق الخلق، مع أنها آية من بديع صنع الله تعالى، والإتيان بها مثلاً مناسبة كريمة للتدبر في خلقها وعلته وغاياته ودلائله.
الثاني: إن توبيخ الكفار لردهم المثل القرآني بالبعوضة زجر عن الإستهزاء بالمثال الوارد في الآية أعلاه، والآية التي سبقتها وأمثلة القرآن الأخرى، ودعوة للتدبر في معاني كل مثل في القرآن بدليل أن آيات القرآن لم تتضمن مثلاً بالبعوضة , ولم تذكر في هذه الآية فلذا جاءت الآية بلغة الإطلاق في الدقائق بأن قالت [بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا].
لتكون هذه الآية توطئة لآيات أخرى تتضمن الأمثلة بدقائق الخلق كما في قوله تعالى [كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا] ( )، وقوله تعالى[وَأن يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ]( ).
الثالث: جاءت الآية بذكر مخلوق من أصغر المخلوقات لتكون عبرة وموعظة ، وزجراً للكفار عن الإستخفاف بمدرسة المثل القرآني وتفويت ما فيه من المنافع عن أنفسهم.
الرابع: جاءت الآية العشرون بقوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ] .
وجاءت هذه الآية الكريمة لتخبر عن ضلالة الكفار بالمثل القرآني، ويفيد الجمع بين الآيتين عدم إنتفاعهم من حواسهم ، وتخلفها عن أداء وظائفها الأساسية ، كوسائل ذاتية لعبادة الله تعالى مع عدم ذهابها، ليكون عدم الإنتفاع هذا عنواناً لضلالة الكفار، وحجة عليهم في النشأتين.
الثالثة عشرة: الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ] ( )، وفيه وجوه:
الأول: بيان رحمة الله بالناس جميعاً بدعوتهم إلى عبادته.
الثاني: إن التقييد بوظائف العبادة والطاعة لله تعالى برزخ دون الشك بآيات القرآن.
الثالث: لقد جاء المثل القرآني بصغائر الأشياء عوناً للناس للتصديق بالتنزيل ، والإنجذاب إلى سبل الطاعة والتقيد بأحكام العبادة.
الرابع: الآية محل البحث رحمة إضافية بالناس، فمن أعرض عن الأمر الإلهي بعبادته تعالى جاءته هذه الآية لتدعوه إلى التدبر في المثل القرآني، وإتخاذه مقدمة وطريقاً للعبادة.
الخامس: الدلالة على أن ضلالة الكفار من عند أنفسهم، وبإختيارهم، فقوله تعالى [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ] شاهد على تلبسهم بالفسق والفجور قبل أن يكون هذا المثل سبباً لضلالتهم وفسقهم، فالفاسقون هم الذين لم يستجيبوا لأمر الله تعالى بعبادته.
السادس: كما خلق الله تعالى الإنسان فإنه سبحانه خلق البعوضة بأسرار في الخلق والإبداع، وقد فضل الله تعالى الإنسان بأن جعله خليفة في الأرض، ويتوجه له الخطاب التكليفي بعبادة الله، والنهي عن الضلالة وأسباب المعصية.
وجاءت هذه الآية لتؤكد تسخير البعوضة لتكون مثلاً في التنزيل يهتدي ويتعظ به المؤمنون الذين يمتثلون للأوامر الإلهية، ويكون باباً لهداية كثير من الناس، ومدرسة عقائدية لأجيال المسلمين.
السابع: يدل قوله تعالى [وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا] على إمتثال المسلمين لأمر الله تعالى بقوله تعالى[اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] وفيه شاهد على أن الأمر الإلهي لا يترك من غير إستجابة، ولايذهب سدى، بل هناك أمة في كل زمان تتعاهده .
وقد نال المسلمون شرف الإمتثال والإستجابة للأمر بعبادة الله ، وجاء تصديقهم بالمثل القرآني والإقرار بانه حق من عند الله مصداقاً من مصاديق كونهم (خير أمة أخرجت للناس) ( )، وأنهم أهل التقوى والخشية من الله عز وجل.
الرابعة عشرة: الصلة بين قوله تعالى [الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرض فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَانزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ اندَادًا وَانتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، وبين هذه الآية الكريمة، وفيه وجوه:
الأول: ذكرت الآية أعلاه النعم الكونية ، وآيات الآفاق التي سخرها الله تعالى للناس جميعاً، وفيه دعوة لهم للتصديق بالتنزيل مطلقاً، ومنه المثل القرآني.
الثاني: يفيد الجمع بين الآيتين بيان حقيقة أن بديع صنع الله تعالى على وجوه:
الأول: خلق الله للآيات العظيمة، ومنها السموات والأرض والأفلاك.
الثاني: تسخير هذه المخلوقات مع عظمها للناس في حياتهم ومعايشهم.
الثالث: كما جعل الله تعالى المخلوقات العظيمة لمنفعة الانسان وإستدامة الحياة على الأرض، فكذا بالنسبة للمخلوقات الصغيرة فإنها لاتخلوا من نفع للانسان، ومن منافعها ورودها في التنزيل كمثل، وهذا الورود موضوع للإعتبار والإتعاظ.
الرابع: كما يهدي الله تعالى كثيراً من الناس بالآيات الكونية الظاهرة للحواس، والمدركة عظمة خلقها بالعقول، فإن المثل القرآني بالبعوضة فما فوقها سبب وعلة لهداية كثير من الناس.
الخامسة عشرة: الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى [وَأن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا] ( )، وفيه وجوه:
الأول: قول الكفار والمخادعين [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] مظهر من مظاهر الريب.
الثاني: جاءت الآيتان بتخويف وإنذار الكفار.
الثالث: الآية محل البحث حجة على الكفار، وشاهد على إقرارهم الضمني بأن نزول القرآن من عند الله بنسبة المثل بالبعوضة وما فوقها له سبحانه.
الرابع: المثل بالبعوضة دعوة للكفار ليأتوا بشهدائهم إن كانوا صادقين في شكهم وريبهم.
الخامس: قول الذين كفروا [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] من مصاديق الريب الذي تشير إليه الآية أعلاه، ليفيد الجمع بين الآيتين دعوة الكفار والمنافقين إلى الكف والإقلاع عن الريب والشك.
السادس: الريب والشك غشاوة وحاجب دون التدبر في الآيات القرآنية ودلالاتها.
السابع: المثل القرآني بالبعوضة ونحوها جزء من القرآن، وقوله تعالى [مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا]وما فيه من التبعيض، إذ أن المثل بالأشياء الصغيرة من القرآن النازل من الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحينما جاء قول الكفار [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً]يأتيهم التحدي القرآني في قوله [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ].
ومع عجزهم وشهدائهم عن الإتيان بسورة من القرآن، فعليهم الإقرار بأن القرآن من عند الله عز وجل، وما فيه من لزوم عبادة الله تعالى والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقانون الثابت في الإرادة التكوينية وهو أن التنزيل لا يكون إلا على نبي , قال تعالى [إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
الثامن: من وجوه الجمع بين الآيتين أن المثل القرآني مما أنزل الله تعالى على رسوله الكريم، مما يلزم الناس جميعاً بتلقيه بالقبول والتصديق.
السادسة عشرة: الصلة بين هذه الآية وآية[وَلَنْ تَفْعَلُوا] ( )، وفيه وجوه:
الأول: عجز الكفار عن الإتيان بما يشبه المثل القرآني.
الثاني: تخلف الكفار عن معرفة مضامين ودلالات المثل القرآني.
الثالث: في الآية إخبار عن بقاء المثل القرآني عنواناً للتحدي، وسبيلاً للهداية والرشاد.
الرابع: الجحود بالمثل القرآني مطلقاًً مقدمة لنزول البلاء، والحلول بالعذاب الأليم في الآخرة.
الخامس: أعد الله تعالى النار للكافرين بالمثل القرآني فمن يجحد بالتنزيل كلاً أو جزء ينال جزاءه في الآخرة بالخلود في العذاب الأليم.
السابعة عشرة: الصلة بين هذه الآية وآية [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وجوه:
الأول: المثل القرآني بالبعوضة وما فوقها مناسبة كريمة لتسليم المؤمنين بنزوله من عند الله الأجر والثواب.
الثاني: تصديق المسلمين بالمثل القرآني سواء كان في الأمور والأشياء الدقيقة أو الكبيرة حجة على الكفار.
الثالث: إخبار الكفار بأن جحودهم بالمثل القرآني لم يضر الإسلام والمسلمين، وتحديهم بالمثل القرآني وبالأمة التي تصدّق بنزوله من عند الله، لذا فإن قوله تعالى [وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا] ومجيئه بعد الإخبار عن ضلالة قوم بالمثل القرآني شاهد على نسخ الضلالة ومحو مقدماتها وغلبة الهداية بالمثل القرآني، وأن الجحود بالمثل القرآني أمر زائل.
الرابع: يفيد الجمع بين الآيتين حث الناس على الإيمان والتصديق بالمثل القرآني ليفوزوا بالثواب العظيم في الآخرة.
الخامس: ذكرت الآية أعلاه التشابه بالمثل بين رزق المؤمن في الدنيا ورزقه في الآخرة، وليت الكفار يلتفتون إلى هذا المثل ، وما فيه من الدلالات، ومضامين البشارة التي تملأ النفوس بالسكينة والغبطة فيتدبر الناس معانيه، ويدركون بالسياحة في خزائنه ما في تصديق المثل القرآني من المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة.
الثامنة عشرة: الصلة بين هذه الآية والآية التالية، وفيها وجوه:
الأول: أختتمت هذه الآية بذكر الفاسقين الذين يجحدون بالمثل القرآني، وجاءت الآية التالية لبيان بعض صفاتهم المذمومة، وأخلاقهم القبيحة.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن الجحود بالمثل القرآني فرع الكفر ونقيض الحمد والشكر الله، وشاهد على عدم التقيد بالأوامر والنواهي.
الثالث: حصانة المسلمين من أهل الشك والريب في المثل القرآني إذ أنهم يتصفون بالفساد في الأرض.
الرابع: دعوة المسلمين لأخذ الحيطة والحذر من أولئك الذين يردون المثل القرآني، لأنهم يعصون الأوامر الإلهية التي تأتي بصيغة النص والقطع واليقين، فيخالفون أمر الله عناداً وإستكباراً.
وتحتمل الصلة بين السؤال الإستنكاري [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] وبين صفات الفاسقين المذكورة في هذه الآية وجوهاً:
الأول: سؤالهم الإستنكاري هذا نتيجة لإتصافهم بنقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل وفسادهم في الأرض.
الثاني: وردهم للمثل القرآني بلغة الإنكار صفة مذمومة أخرى مستقلة.
الثالث: رد المثل القرآني نتيجة لصفة مذمومة من الصفات التي ذكرتها الآية التالية.
الرابع: إن رد الكفار المثل القرآني سبب لنقضهم العهد وقطعهم لما أمروا به أن يوصل باعتباره ضلالة ، كما في خاتمة هذه الآية [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ].
الخامس: الرد الإنكاري للمثل القرآني من مصاديق الفساد في الآية التالية.
والصحيح هو الثاني والرابع ولامانع من تداخل هذه الوجوه، وجاءت هذه الآية لبيان خصلة قبيحة يتصف بها الفاسقون، وهي من باب المثال وليس الحصر وإشارة إلى صدور قبائح أخرى عنهم وعدم إتعاظهم بالآيات والمواعظ، ويدل مفهومية الآية على مدح المسلمين وتحليهم بصفات الإيمان بالتصديق بالمثل القرآني كآية من عند الله، وحرصهم على الإنتفاع منه في الميادين المختلفة.
وجاءت خاتمة الآية التالية بالإخبار عن خسارة الفاسقين والمخادعين الذين يستهزئون بالمؤمنين ويردون المثل القرآني ويصرون على عدم التدبر في معانيه القدسية، والإنتفاع من مدرسة المثل القرآني التي جاءت رحمة للناس جميعاً، وضياء ينير لهم دروب الهداية والرشاد.
وجاءت الآية لتبين إستحقاق الذين يردون المثل القرآني للعقاب وسوء العاقبة، فالأصل أن يبادروا إلى التصديق بالتنزيل لأن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق والعهد، وأمرهم بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
التاسعة عشرة: الصلة بين هذه الآية والآية بعد التالية [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا……]( )، وفيه وجوه:
الأول: مجئ الآية بعد التالية بصيغة الإلتفات، ورجوعها إلى الخطاب العام الموجه إلى الناس، ولكنه مقيد بلحاظ لغة اللوم والذم على الجحود والكفر.
الثاني: من مصاديق الكفر التي يستحق الإنسان الذم عليها رده للمثل القرآني وعدم إقراره بأنه نازل من عند الله.
الثالث: جاءت الآية بعد التالية بالإحتجاج بنعمة الخلق، وآية الموت، وبعث الناس بعد الموت وهي آيات واقعة حقاً وصدقاً، وليس مثلاً، فمن لم يصدق بالمثل القرآني فليتعظ من حاله وشأنه وكيف أنه كان معدوماً، ثم أصبح إنساناً تتوجه له الخطابات التكليفية.
إعجاز الآية
بيان موضوعية الإيمان في فهم آيات القرآن وقبول التنزيل والإنصات والإمتثال لأوامر الله تعالى وإظهار الحضور الدائم للقرآن وأثره في تقسيم الناس ومراتبهم، وبيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل بأدق الأشياء وأوسطها وأكبرها، وتسليم المسلمين بالآيات وتقريب المفاهيم العقلية بأمثلة حسية قريبة.
ويمكن تسمية هذه الآية (آية البعوضة) ولقد جاءت أسماء سور بالحيوانات كسورة البقرة، والحشرات كالعنكبوت، ولم يرد لفظ (بعوضة) في القرآن إلا في هذه الآية .
الآية سلاح
في الآية دعوة لقبول أمثــلة القـرآن والإعتبار بأقلها وأدناها لأنها جزء من الإعجاز القرآني، ولأن الدروس والعبر والموعظة قد تكون بأبسـط وأدنى الأشياء، فالإتعاظ يترشح من قرآنيتها وليس من عنوانها المجرد البسيط.
وتبين الآية المرتبة الرفيعة للمسلمين في تلقي المثل القرآني بالقبول، وينعكس هذا القبول بتعاهد آيات القرآن مطلقاً، وحرصهم مجتمعين ومتفرقين على عدم طرو التغيير أو التبديل عليه، بإعتبار أن المثل القرآني تنزيل من الله تعالى وهو حق وصدق وفي تلاوته الأجر والثواب، وفي الإعتبار والإتعاظ منه خير الدنيا والآخرة.
لقد أراد الله عز وجل للمثل القرآني أن يكون مدرسة ومنهجاً للمؤمنين رجالاً ونساءاً، وحجة على الكفار بذاته ودلالاته، وتصديق المسلمين به.
وهذه الآية حرز من إستهزاء وإعراض الكفار عن المثل القرآني، وبرزخ دون الإنصات إلى ما يثيرونه من الشك والريب، فلن يلتفت المسلمون لقول الكفار [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] لذا إبتدأت الآية بذكر إقرار المسلمين بأنه حق وصدق، قبل إعلان الكافرين إنكارهم له.
فيدل تقدم قوله تعالى [فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ] على أمور:
الأول: عدم إعتبار قول الكفار.
الثاني: إنعدام أثر قول الكفار على المسلمين الذين يصدّقون بالتنزيل من منازل العبودية والطاعة والإنصياع لله تعالى بلحاظ لفظ (ربهم) الوارد في الآية.
الثالث: قيام الحجة والبرهان على الكفار.
الرابع: تجلي الإعجاز القرآني للناس جميعاً.
أسباب النزول
روي عن ابن مسعود وابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قوله [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] وقوله [أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ] قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
(روي عن الحسن البصري وقتادة لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا الكلام كلام الله فإنزل الله عز وجل هذه الآية)( ).
وذكر أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بإيقاد النار والظلمات والرعد والبرق فنزلت الآية أي لتبين سلامة وصحة التحدي بهذه الأمثلة من باب الأولوية.
مفهوم الآية
في الآية بيان للإختلاف في السنخية بين المؤمنين والكفار، والمائز في النظر للتنزيل والأحكام، وفيها تخويف وإنذار للكافرين والمنافقين لأن القرآن يتضمن المثال المحسوس للدلالة على المدركات العقلية والمثال المعنوي للإشارة إلى المحســوس.
وفي الآية مدح وثناء على المسلمين لحسن تلقيهم للآيات، وذم للجاحدين لإعراضهم عن الآيات وإصرارهم على الضلالة بصيغ الجدال والعناد، وفيها تهيئة للأذهان لورود الأمثلة.
وتدل الآية على مضامين الإعجاز في المثل القرآني وانه ليس مجرداً عن المعنى بل هو باب مستقل من أبواب الحكمة والتنزيل ليصبح المثل القرآني وسيلة لتثبيت الحق وهداية الناس ونبذ الباطل، كما تعطي الآية للمثل القرآني خصوصية وأهمية عقائدية غير مألوفة.
ومن مفاهيم الآية أنها تنبيه وإثارة للرغبة في الغوص بعالم الموجودات على إختلاف مراتبها، ودعوة للتفكر في المخلوقات الحقيرة وعدم الإستخفاف بها وفعلاً فقد تجد أفراداً من الإعجاز في خلق الحيوانات الصغيرة تفتقر إليه الحيوانات الكبيرة، والآية دعوة للدراسات العلمية في الكائنات الصغيرة والتدبر في أسرار خلقها، ومعرفة عظمة وقدرة الباري من خلال مخلوقاته قال تعالى[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا]( ).
لقد جاءت الآية بنفي تعارض الأمثلة بالأشياء الحقيرة مع التنزيل السماوي ولم تحصر ذلك بالقرآن بل إنها تدل بالدلالة التضمنية على ذكرها في مطلق الكتب المنزلة من السماء [ إن اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أن يَضْرِبَ مَثَلاً مَا] لذا فإن الإنجيل جاء بذكر حبة الخردل والحصاة، وعن إنجيل متي “لا تثيروا الزنابير فتلدغكم”.
وتبعث الآية الرعب في قلوب الكافرين، وفيها إخبار عن إحاطة الله تعالى بما دق وصغر من الكائنات وانه سبحانه يعلم ماهيتها وسنخيتها، ومن مفاهيم الآية عدم الإستهانة بالحقير والصغير مطلقاً من مخلوقات الله عز وجل، لما يدل عليه من الإبداع في عالم التكوين والإيجاد.
وفي الآية دعوة للمسلمين للتسليم بآيات القرآن وموضوعاته، سواء كانت بسيطة أو مركبة، عقلية أو حسية، واقعية ذات مصداق خارجي أم أنها أمثال تتعلق بصغائر الأشياء، لتكون هذه الأمثلة إمتحاناً، والتصديق بها دليلاً على إخلاص المسلمين وصدق إيمانهم.
وفي الآية تهيئة للأذهان لقبول المثال القرآني وإن تعلق بدقائق الأمور وصغائر الحشرات والحيوانات لما فيه من الحكمة البالغة والدروس والعبر.
وتظهر الآية ضرورة من ضرورات الدين وهي إطلاق التسليم بما ينزل من عند الله تعالى، وعدم التبعيض في قبول الآيات والحجج والبراهين.
الآية من التساؤل الذي يحمل مضامين الشك والريب، ويدل على التردد في قبول الآيات، وتبين الإعجاز الكلي للقرآن الذي يفيض على آياته، ويحث على التصديق بتفاصيلها ومعانيها.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تفضل الله تعالى بالإتيان بما دق وصغر من الأمثال لما فيه من الإعتبار والإتعاظ، وهو من مصاديق الرحمة الإلهية.
الثانية: إنتفاع المسلمين من أمثلة القرآن، ودعوة الناس للتسليم بنزولها، فاذا علموا بأن المثل بالبعوضة حق وصدق ، فمن باب الأولوية أن يقروا بالأمثلة في الأمور الكبيرة.
الثالثة: ذم الكفار لإصرارهم على الجحود والعناد، وزجرهم عن الإنشغال بالسؤال الإنكاري الدال على الكفر.
الرابعة: بيان منافع المثل القرآني، وأنه سبب لزيادة إيمان المسلمين، وإصرار الكافرين على جحودهم.
الخامسة: إن الله رحيم بالعباد، ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار رحمة بالناس جميعاً، وهذه الرحمة لا تتعارض مع إضلال الله تعالى للفاسقين، وتكون الضلالة بالواسطة، وتأتي أثراً لإصرارهم على الخروج عن الطاعة، والإقامة على المعصية .
وتبين الآية أن آيات القرآن تشمل موضوعاته وأحكامه وأمثاله، فكل مثل في القرآن هو آية من آيات التنزيل من عند الله عز وجل، وعلى المسلمين التصديق به.
ولم تقل الآية الكريمة (يضل به) بصيغة الفعل المبني للمعلوم ولم تنسب فعل الضلالة إلى الكفار أنفسهم بل نسبت إضلالهم بالمثل القرآني إلى الله تعالى، مع أن المثل القرآني وسيلة سماوية لهداية الناس، لبيان أن الكفار يزدادون ضلالة بما هو سبيل للإيمان وطريق للرشاد، وفيه ذم إضافي لهم.
الآية لطف
جاءت الآية لطفاً عاماً بالناس جميعاً وتقدير الآية : إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة فما فوقها لهداية الناس، وتأتي الأمثال بالأشياء الدقيقة من باب تقريب المعقول إلى الأذهان، والإشارة إليه بلغة المحسوس.
وتبين الآية موضوعية إقرار المؤمنين بنزول القرآن من عند الله في معرفة مدرسة المثل في القرآن وما تعنيه من الدروس والعبر، إنها دعوة للناس لفهم مضامين القرآن وما فيه من السنن والأمثلة، ويأتي المثل باباً لهداية كثير من الناس، والذين يهتدون بالمثل على قسمين:
الأول: المسلمون إذ يزدادون إيماناً قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
الثاني: الذين ينتقلون من منازل الكفر إلى منازل الهداية والإيمان، أما الذين تزداد ضلالتهم عند سماع المثل القرآني فإنه يكون حجة عليهم، وهذه السببية مجازية، فهم يصرون على الضلالة، لذا فإن الآية بينت صفة الذين يضلون بالمثل القرآني وهم الفاسقون الخارجون عن الطاعة، أي أن المثل القرآني لم يستحدث عندهم الضلالة والفسق، والمثل القرآني موعظة وعبرة للناس كافة، ولكن الفاسقين لم ينتفعوا منه.
ويفسر القرآن بعضه بعضاً، وتعضد آياته بعضها بعضاً، وتنصر بعضها بعضاً، ويكون المسلمون لها ظهيراً كما تكون هي لهم إماماً وحرزاً ونصيراً.
وجاءت هذه الآية لتدعو الناس جميعاً إلى الأخذ بمدرسة المثل القرآني مطلقاً سواء كان موضوعه جليلاً وعظيماً أو صغيراً ويسيراً ، ومن وجوه الحجة في المثل القرآني أنه قريب إلى أذهان الناس في كل زمان ومكان، فمع كثرة الأمثال القرآنية تجدها واضحة جلية عند أهل كل بلد وزمان ومنها ماجاء في الآيات السابقة من ذكر قيام الإنسان باستيقاد النار، وحلول الظلمة حوله، ونزول المطر الذي يصاحبه رعد وبرق في إشارة إلى إعراض الكفار عن الآيات والبراهين القاطعة، وللمثل بالأمور الحقيرة والصغيرة وظائف عديدة ومنافع للناس، وهو مقدمة للهداية ووسيلة للموعظة، ويجب على العباد تلقيها بالتسليم والقبول والتدبر في معانيها ومضامينها وما فيها من الإشارات، وكل مثل قرآني آية في ذاته وموضوعه وأثره ومنافعه.
ومن الآيات أن تأتي الآية بذكر كيفية تلقي المسلمين للمثل القرآني، وتلقي الكافرين له، ليكون المسلمون أسوة للجميع، ويحذر الناس من الكفار وسوء فعلهم، ويدركون ضلالتهم وخطأهم في تلقي المثل القرآني خاصة، والآيات القرآنية عامة.

إفاضات الآية
الآية مدد وعون في علم المثل القرآني وتلقيه بالقبول وإستنباط الدروس والمسائل منه، تعطي للمؤمنين منعة وحرزاً من المعاندين والجاحدين، وفي الآية إمضاء وتزكية للسنة النبوية إذ ورد فيها ذكر المثال بالحيوانات والحشرات ونحوها من صغائر المخلوقات، وزجر الكافرين ومنع لهم من الإستهزاء والسخرية.
وتبين الآية قرب مضامين آيات القرآن من الناس ، وتبعث الشوق في النفوس لسماع المثل القرآني، والتدبر في معانيه ودلالاته، وتؤكد حاجة الناس جماعات وأفراداً إلى المثل القرآني بالأشياء الصغيرة، والإعتبار من مدرسة المثل القرآني ، فالآية الكريمة وإن ذكرت البعوضة في المثل القرآني، إلا أن القرآن لم يأت بمثل فيه ذكر للبعوضة، ولم يرد لفظ البعوضة إلا في هذه الآية ، لتكون الآية مدرسة في التأديب والهداية ودعوة لإصلاح النفوس لتلقي مضامين وألفاظ وأمثلة القرآن بالقبول والتصديق.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بذكر اسم الله تعالى، في تحد للكفار، وإبطال لشبهاتهم بخصوص أمثال القرآن، وفيه آية إعجازية وهي أن الله عز وجل جعل القرآن حجة بذاته وسلاح إحتجاج بيد المسلمين.
لقد أراد الله تعالى للمثل القرآني أن يكون وسيلة للإرتقاء في المعارف الإلهية، وحجة واقعة على الكفار والمنافقين، ويتضمن الحصانة الذاتية من أهل الشك والريب، فيحاول الكفار الإستخفاف بالمثل القرآني فتأتي هذه الآية لتذكر حقيقة وهي أن الله تعالى يضرب المثل بأدق وأصغر الحيوانات، مادام فيه نفع المسلمين، ومعاني الإتعاظ، وهو من مصاديق عموم البيان في القرآن، وكونه[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ثم ذكرت الآية تلقي الناس للمثل القرآني الذي يذكر صغائر المخلوقات، وهذا التلقي على قسمين:
الأول: القبول والرضا والإعتبار من المثل القرآني، من قبل المسلمين، إذ يتخذونه مدرسة وموعظة ، وقانوناً تقتبس منه المسائل العقائدية، لقد آمن المسلمون بنزول القرآن على نحو العموم المجموعي من عند الله، فليس فيه كلمة واحدة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو أمين على الوحي، وهذا الإيمان مقدمة واجبة للتصديق بنزول كل آية وما فيها من المضامين القدسية، وينظرون إلى موضوعاتها على أنها إعجاز، وسر من أسرار الله تعالى ألقاه إلى نبيه، ليكون التمثيل بالأشياء والمخلوقات الصغيرة من وجوه الإمتحان والإبتلاء في الدنيا، وسبيل هداية وعوناً لفوز المسلمين بالتصديق على نحو الموجبة الكلية.
وقوله تعالى [فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ] شاهد على الإستعداد الفطري عند المسلمين لقبول الآيات النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يطرأ الشك عليهم فيما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إذ يتلقون كل آية ومثل بالتصديق الجازم، وعلى ذات النهج الأجيال اللاحقة من المسلمين فإنهم يعلمون أن ما بين الدفتين قرآن نزّله الله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: التساؤل الإنكاري والشك والريب، في تلقي المثل القرآني، وهذا الشك لا يصدر إلا من الكفار والمشركين [فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] ويدل كلامهم هذا بالدلالة التضمنية على الإقرار بجزئية هذا المثل من القرآن، وإنه نازل من عند الله تعالى، وتحتمل الصلة والأثر بين القولين وجوهاً:
الأول: أثر تصديق المسلمين بالمثل القرآني على الكفار، أو شطر منهم.
الثاني: الأثر السلبي للشك والريب الذي يظهره الكفار على المثل القرآني على المسلمين لمجئ تساؤلهم بصيغة الإجهار.
الثالث: تأثير كل قول على الطرف الآخر.
الرابع: عدم تأثر وإنفعال أي من الفريقين بقول الآخر.
والصحيح هو الأول، فإن تصديق المسلمين بالمثل القرآني، وتلقيهم له بالقبول والرضا حجة على الكافرين، ودعوة لهم للإنابة والرشاد ليكون الذين [يَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ] في إزدياد متصل، والذين كفروا في نقصان وضعف .
وجاءت هذه الآية لتكون وسيلة لجذب الناس إلى الإسلام، وحرباً على الشك والريب في التنزيل.
لذا جاءت الآية بالإخبار عن كون المثل القرآني وسيلة لهداية اناس كثيرين، ترى ما المراد من الضمير (الهاء) في قوله تعالى [انهُ الْحَقُّ] فيه وجوه:
الأول: ضرب الله المثل مطلقاً.
الثاني: الأمثال التي وردت في الكتب السماوية السابقة.
الثالث: الأمثال التي جاءت في القرآن.
الرابع: الإمثال الواردة في التنزيل مطلقاً.
الخامس: المثل في البعوضة.
السادس: المثل في (بعوضة فما فوقها) سواء على القول بأن المراد من فوقها، ماهو أعظم وأكبر من البعوضة، أو انه فوقها في الصغر.
السابع: المراد المثل في قوله تعالى [يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا].
والصحيح هو الثالث والسابع، لأصالة عودة الضمير إلى ما قبله،إلا أن تدل قرينة على الخلاف، ومن وظائف هذه الآية أنها مقدمة للقبول والتسليم بالمثل القرآني، ووسيلة مباركة تجعل النفوس مستعدة للإنصات له والتدبر في معانيه ودلالاته القدسية، فهو كنز من كنوز القرآن، وخزينة تترشح منها العلوم، ويبعث على السجايا الحميدة والأخلاق الفاضلة، وفيه الوعد والوعيد.
وقال الربيع بن أنس : أن البعوضة تحيى ماجاعت فاذا سمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا إمتلأوا من الدنيا مرياَ أخذهم الله).
يريد الكفار بتساؤلهم [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً]إشغال المسلمين عن وظائفهم العقائدية والعبادية، فأخبر الله تعالى بأن المؤمنين يعلمون أن المثل القرآني حق من عند الله، وهذا الإخبار تثبيت للمسلمين في منازل التقوى، وواقية لهم من أباطيل وشبهات الكفار، ثم أن الله تعالى أخبر بأن المثل باب للهداية، أما الذين يصرون على المعصية فإنه يزيدهم ضلالة ويكون حجة عليهم.
وبينت الآية أن الكفار يدركون حقيقة وهي مجئ المثل القرآني موعظة وعبرة، وتشبيهاً يتعلق بالناس ومشاربهم المتباينة، ويدل كلام الكفار الذي أخبرت عنه الآية على وجوه:
الأول: عدم معرفتهم المراد من المثل القرآني.
الثاني: تظاهرهم بالجهالة وعدم المعرفة.
الثالث: يسألون من أجل التعلم وكسب المعارف.
الرابع: إنه مظهر لعنادهم وإصرارهم على الكفر والضلالة.
الخامس: محاولة منع تأثير المثل القرآني على عامة الناس، وتدبرهم في مضامينه ودلالاته القدسية.
والصحيح هو الثاني والرابع والخامس، لذا جاءت خاتمة الآية في توبيخهم، والإخبار عن ضلالتهم.
ويحتمل قوله تعالى [وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا] وجوهاً:
الأول: هم المسلمون أنفسهم الذين يتلقون المثل القرآني بالتصديق والتسليم.
الثاني: أفواج كبيرة من الناس تدخل الإسلام.
الثالث: المعنى الجامع والأعم الشامل للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث، فإن المثل القرآني باب هداية للمسلمين، ودعوة لغيرهم لدخول الإسلام، وحجة وبرهان وإرشاد إلى الإسلام ولطف يثّبت به الهدى في نفوس المسلمين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى]( )، وقال تعالى [تِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( )، ولفظ الناس سوراً للموجبة الكلية الجامع للناس كافة.
وجاءت هذه الآية لإعانة الناس في طريق التدبر والإهتداء إلى سواء السبيل، فمن فضل الله تعالى إنه يضرب الأمثال ثم يأتي بالآيات والأمثلة التي تساعد الناس على تلقيها بالقبول.
فهذه الآية وسيلة سماوية لقبول الناس لجميع أمثلة القرآن، ومنعهم من الإنشغال بالتساؤل، ودعوة للإنصات إلى المثل القرآني بلحاظ جزئيته من القرآن، وبصيغ التدبر والإتعاظ.
لقد بينت خاتمة الآية أثرين متضادين للمثل القرآني:
الأول: ضلالة قوم.
الثاني: هداية قوم.
ومن الآيات أن كلا الطرفين يتصف بالكثرة والتعدد، والضمير الهاء في (يضل به) يعود إلى قوله تعالى [مَثَلاً مَا].
وفي قوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا] مسائل:
الأول: هذه هي أول آية ترد فيها مادة (ضل) ومن الإعجاز الإخبار بأن الله تعالى هو الذي يضل المخادعين، والمراد أن ضلالة الكفار تكون بسبب جحودهم بالمثل القرآني، فهو ينزل رحمة للناس جميعاً، ولكن الكفار إختاروا الإمتناع عن الإنتفاع مما في المثل القرآني من معاني الرحمة والرأفة.
الثاني: ورد لفظ (يضل) سبع عشرة مرة في القرآن، وجاءت هذه الآية بوصف أهل الضلالة بالكثرة.
الثالث: تحذير المسلمين من الكفار والمخادعين والظالمين.
الرابع: دعوة المسلمين إلى اليقظة والحيطة من مكر أهل الفسوق والفجور.
الخامس: تحصين المسلمين من مسألة كثرة الجهات والجماعات التي تثير أسباب الشك والريب في التنزيل مطلقاً، وفي المثل القرآني خاصة ، فكثرة الكفار وأهل الضلالة وتعديهم لا تزيد المسلمين إلا إيماناً.
السادس: بيان الأضرار التي يجلبها الكفار على أنفسهم بصدودهم عن مضامين التنزيل، وأسرار المثل القرآني.
السابع: إن كثرة الكفار وأهل الضلالة لن تضر الإسلام والمسلمين فقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] عام وشامل لحال كثرة أو قلة الكفار وأهل الضلالة.
لقد جمعت هذه الآية خصلتين يتصف بهما الذين يردون المثل القرآني، وهما:
الأولى : الكفر.
الثانية : الفسق.
فبلحاظ ردهم للمثل القرآني وصفتهم الآية [الَّذِينَ كَفَرُوا] وبلحاظ ضلالتهم بالمثل القرآني وصفتهم بأنهم [الْفَاسِقُونَ يمنع من] , وهويدل هذا التعدد في الوصف على القبح الذاتي، ولا يتعارض معه التباين في الأشخاص فمنهم الكافر ومنهم الفاسق , وفيه توكيد لذمهم، وهو إنذار إضافي لهم، ودعوة للناس جميعاً للحذر منهم، وعدم رد المثل القرآني.
والنسبة بين الذين كفروا والفاسقين على وجوه:
الأول: العموم والخصوص المطلق، وهو على قسمين:
الأول: الذين كفروا أعم من الفاسقين.
الثاني: الفاسقون أعم وأكثر من الذين كفروا، فكل كافر هو فاسق وليس العكس.
الثاني: نسبة التساوي، فكل كافر هو فاسق.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، إذ يلتقيان في وجوه، ويفترقون في أخرى.
وجاءت الآية لتبين أن الذين كفروا هم الفاسقون بخصوص مضامينها وانهم بردهم للمثل القرآني يزدادون ضلالة، ومن المتكلمين من عرّف الفسق بالمعنى الأعم.
التفسير الذاتي
جاء القرآن بلغة الإحتجاج، وتولى الرد على أهل الخصومة والجدال، وإبطال شكوكهم وإلزامهم بالحجة والبرهان، ومنه هذه الآية التي جاءت في الرد على الذين أظهروا الإستهزاء والإستغراب من ضرب الله عز وجل للأمثال بالأشياء الدقيقة والصغيرة، إلى جانب ما ورد من أمثلة بخصوص المنافقين والكفار في الآيات السابقة كما في قوله تعالى [كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا] ( )، و[أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ]( ).
فجاءت هذه الآية لبيان موضوعية كل مثل في القرآن، ولزوم التدبر في مضامينه والإنتفاع منه، وهو من مصاديق ومنافع تلاوة القرآن والندب إليها، قال تعالى [يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ] ( ).
ومن إعجاز نظم آيات القرآن أن لفظ (لايستحي) لم يرد فيه إلا مرتين، وكلاهما في الله عز وجل، والآية الأخرى قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ]( ) .
ويفيد الجمع بين الآيتين أن ضرب الله الأمثلة بالأشياء الصغيرة والبسيطة هو من الحق والصدق والعدل , على الناس ان يتلقوه بالقبول وما يترشح عنه من التدبر والإتعاظ .
وهو من مقدمات العبادة وإصلاح الناس لها لقوله تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )،فمن اللطف الإلهي مجئ القرآن بالأمثلة المختلفة والمتعددة لهداية الناس لسبل الرشاد.
وفاز المسلمون بنعمة التصديق بأمثلة القرآن مطلقاً، فهم يتلقون كل مثل وارد في القرآن بالقبول والتدبر والتحقيق مع إستنباط الدروس والمسائل والأحكام منه، وأراد أهل الجدال المغالطة، وبعث الشك والريب في النفوس.
فجاءت هذه الآية للإخبار بأن الله عز وجل لا يمتنع عن الإتيان بالأمثلة بالأشياء الصغيرة والحقيرة، فهي جميعاً من خلق الله، وشاهد على بديع صنعه، وقدرته المطلقة، بالإضافة إلى المنافع العظيمة التي تترشح عن الإتيان بها مثلاً وموعظة.
وبينت الآية حال التناقض والتنافي بين أهل الإيمان وبين الكفار في تلقي المثل القرآني، والأصل هو تصديق الناس جميعاً بالتنزيل مطلقاً، ومنه المثل القرآني، ولكن الكفار أصروا على الجحود.
فجاءت هذه الآية لتخبر عن ضلالتهم، وأنهم لن يضروا الإسلام والمسلمين، فالشك والريب نوع ضلالة تعود على صاحبها بالضرر والشر.
وجاءت الآية بذم الذين يستهزءون بالمثل القرآني لمنعهم من التمادي في الغي والتجرأ على التنزيل مطلقاً، والإستخفاف بالعبادات والأحكام، وتلك آية في إعجاز القرآن يتجلى فيها قانون وهو أن القرآن بذاته واقية لآياته، ومانع من التعدي عليها , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
وهو من خصائص إمامة القرآن وإعجازه الذاتي بأن يحرس نفسه وأحكامه، ويكون عوناً للمؤمنين في التصدي لأهل الضلالة.
وهل القرآن قادر على أن يهزم الفاسقين الذين يستخفون بما فيه من الأمثال، أم لابد من الإستعانة بالمؤمنين ز
الجواب لا تعارض بين الأمرين , قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، ليكون جهاد المسلمين لنصرة القرآن وأحكامه خيرمحض، ونفع لهم وللناس كافة في النشأتين، والقرآن عضد للمسلمين في جهادهم وتعظيم شعائرالله، وهم عضد للقرآن في إمامته وبيانه، وهذا التآزر والتعضيد المتبادل من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وخروجها بالقرآن.
من غايات الآية
وفيه مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للإنتفاع الأمثل من المثل القرآني.
الثانية: تأسيس مدرسة المثل القرآني.
الثالثة: لكل مثل في القرآن موضوعية خاصة، فلابد من الأخذ به، والعمل بما فيه من الإشارات والدلالات.
الرابعة: بيان فضل الله عز وجل في الإتيان بالمثل القرآني، ولزوم الإنتفاع منه في الهداية.
الخامسة: الهداية في المقام أعم من الهداية العامة، وقد يراد منها الإهتداء في موضوع أو حكم مخصوص، وإتعاظ المؤمنين من مدرسة المثل وإتخاذه سلاحاً.
السادسة: دعوة المسلمين إلى عدم الإلتفات إلى إعراض الفاسقين عن المثل القرآني، وإثارتهم الريب والشك في معانيه ومقاصده، ومحاولاتهم التشكيك في القرآن بسبب تضمنه الأمثلة دقيقة وصغيرة، فالعبرة من هذه الأمثلة أكبر من أن تدركها العقول.
لقد تلقي العرب وسائر أهل الأرض المثل القرآني بعناية لما له من الأهمية خاصة في لغة التخاطب والتفاهم بينهم، وبيان المقاصد والأعراض والدلالة اللفظية.
ولم يأت المثل القرآني لخصوص العرب أو أهل الشأن والجاه منهم ومن غيرهم، بل جاء للناس عامة، لذا يتضمن ما يناسب كل المدارك والأفهام، وتلك آية إعجازية في المثل القرآني، وشاهد على عالمية القرآن، وعموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع بيان الثواب والأجر في تلقي كل آية قرآنية بالتصديق والإيمان .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها الا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة)( )، وذكر الشوكة لبيان حد القلة، أما طرف الشدة والكبر والكثرة فليس له حد.
التفسير
تفسير قوله تعالى [ إن اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أن يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً ]
الآية بيان لفضل الله تعالى، والسعة في ضرب الأمثال القرآنية عبرة للناس ودرساً للإتعاظ والهداية وحجة على الأجيال المتعاقبة، ولأن في القرآن تبياناً لكل شيء تجد المسائل الكبيرة والصغيرة والأحكام مختلفة الأبواب بين دفتي الكتاب الكريم وفي طي آياته، وترى كل آية تؤكد شطراً من هذه الحقيقة، وفيه منافع عظيمة وحجة مطلقة وردع للذين يتربصون بالإسلام الدوائر، فربما قالوا إن الله عز وجل ولعظمة وعلو مقامه لا يذكر في كتابه المنزل أموراً صغيرة، وأمثالاً من واقع الناس اليومي .
فجاءت هذه الآية الكريمة رداً ودفعاً لإدعائهم، وغلقاً لهذا الباب وما فيه من محاولات النيل من التنزيل.
إن ضرب الأمثال لغة سائدة عند العرب في حاضرتهم وباديتهم وإنك لتجد في أمثالهم وأشعارهم أحقر الأشياء وأصغرها من غير أن يعيب عليهم أحد، وفيها تقريب للبعيد وإظهار نسبي لما هو مستور، وجلاء لما خفي، وإثبات للصفة، ووسيلة لبيان المعنى، ووضوح الدلالة، وهي باب من أبواب الفصاحة، ودرجة من البلاغة، وسر من أسرار كلام العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وفرع من فــروع إعجاز القرآن، ولم ينفرد القرآن من بين الكتب السماوية بالأمثال، فقد جاء الإنجيـل بالأمثال المختلفة كحبة الخردل والحصاة والزنابير ونحوها.
لقد أمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان والتصديق بالقرآن ، لآيات تنزيله , ولأنه مصدّق لما معهم، قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل [وَآمِنُوا بِمَا انزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] ( ).
ومن وجوه التصديق والتشابه بين القرآن وبين التوراة والإنجيل لغة المثل، وتغشي مضامينه للأشياء العامة الظاهرة للحواس , والمختلفة في حجتها وموضوعها، ويمتاز القرآن بالسعة والشمول في مدرسة المثل القرآني والنفع العام منه، لذا جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تؤكد صحة نزول آيات القرآن.
وتفيد (لا) في قوله تعالى [ لاَ يَسْتَحْيي ] النفي، وتدخل على الجملة الفعلية كما في الآية الكريمة، وتدخل أيضاً على الجملة الإسمية، وظاهرها إستدامة نفي الإستحياء في ضرب الأمثال وإنبساطه على جميع الكتب السماوية المنزلة، فتتضمن الآية نفسها إقامــة الحجــة على من يؤمن بالتـوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب الســماوية بالأمثـلة في الأشــياء الكبيرة والصــغيرة، أي أن الآية تتحدى هؤلاء، وتبين قاعدة سماوية كلية في عموم المثل القرآني، وهي الإطلاق في المشبه به وعدم إنحصاره بنوع أو ماهية مخصوصة.
وفي الآية منع من تحريف الكتب السماوية الأخرى والميل إلى طرح تلك الأمثلة ويمكن معرفة التحريف في هذه الحصة ببقائها في كتبهم أو عدمه، وبذا يسقط عن الحجية قدحهم بالقرآن بسبب هذه الأمثلة، لا لأنها تتعارض مع الفصاحة والبلاغة فحسب كما مال إليه المفسرون، بل لأنها جزء من فلسفة الكتاب السماوي، ويصلح أن يكون من (البرهان الإني) وهو الإستدلال من المعلول على العلة.
وورد لفظ يستحي ثلاث مرات في القرآن، واحدة في هذه الآية، وإثنتين في آية واحدة بخصوص أدب السلوك مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستئذان عند الدخول إلى بيته، والنهي عن إطالة الجلوس عنده، لأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يستحي منهم، فجاء التأديب من عند الله عز وجل قال سبحانه [لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ]( ).
وفي هذه الآية بيان لعظيم فضل الله على المسلمين، وتفضيلهم على الأمم الأخرى بإرشادهم إلى سنن وآداب ولغة الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكما تفضل الله تعالى وعلّم آدم الأسماء كلها، فانه سبحانه علّم المسلمين آداب الإستئذان والزيارة.
ليكون المسلمون ورثة الأنبياء، وحملة علوم الشريعة للناس جميعاً، وفيه تأديب للمسلمين لمعرفة مقام ومنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . “فدخل عيينة بن حصن الفزاري عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فأين الاستئذان ؟ فقال يا رسول الله ما إستأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ثم قال من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه عائشة أم المؤمنين قال أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ قال يا عيينة إن الله قد حرم ذلك فلما أن خرج قالت عائشة من هذا ؟ قال هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه”( ).
وجاءت هذه الآية مدرسة في المثل القرآني، ودعوة لإعطاء موضوعية لكل مثل قرآني وإستقراء المواعظ والعبر وإستنباط الحكم والعلوم منه ومن إعجاز القرآن أن تأتي الآية القرآنية نصيراً ومدداً لآيات قرآنية أخرى، كما في هذه الآية التي جاءت نصيراً وظهيراً لكل آية قرآنية فيها مثل من أمثلة القرآن.
إذ انها ذكرت البعوضة لتدل بالأولوية القطعية على إرادة غيرها من الأمثلة سواء جاءت بخصوص الحيوانات كالعنكبوت والنمل والذباب أو في غير الحيوانات.
ومن إعجازها أنها عون وظهير للسنة النبوية الشريفة فلا يستطيع الكفار الإستهزاء بالمثل الذي يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس للمسلمين الإعراض عن الإمثلة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء بالنسبة للصحابة أو الأجيال اللاحقة للمسلمين ومنهم العلماء الذين أولوا السنة الشريفة عناية في البحث والتحقيق والإستنباط.
وقد ضرب الله عز وجل مثلاً للدنيا بجناح البعوضة، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة وهي عضتها( ).
وفيه شاهد على النفع العام من ضرب المثل بالحشرات الصغيرة لإتخاذه موعظة ومناسبة لبيان الفضل الإلهي على المسلمين، وأنت ترى الأدران بأحجام مختلفة، ويختار ميزان الذهب بأدق وأصغر الأوزان لقيمته العالية، والحسنات أغلى من الذهب والإنسان محتاج لها في الدنيا والآخرة فيأتي المثل القرآني بالأمور الصغيرة والدقيقة لحث المسلمين على العمل الصالح وإجتناب السيئات.

تفسير قوله تعالى [ فَمَا فَوْقَهَا ]
أي ما زاد عليها في الجسم والحجم في إشارة إلى الأمثال الأخرى في القرآن وضرورة عدم الإستغراب منها، وفيها تعريض بأولئــك الذين إســتنكروا ذكر الذباب أو العنكبوت مثلاً، وذكر معنى آخر للفوقــيــة في المقام وهو ما زاد في القلة والحقارة، والظــاهــر بخــلافــه، ولكن الآية لا تعـني الحصــر بهــذه الرتبــة من الأشــياء الدقــيـقــة بل جاءت لبـيـان النوع والحــجـة بالأقل والأدنى.
و(ما فوقها) عنوان للتنكير والكلي المشكك وأنه يقع على مراتب متفاوتة في الصغر والكبر والقلة والكثرة، وفيه دليل على السعة والتعدد في المثل القرآني.
ولقد ضرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جناح البعوضة مثلاً للدنيا، وروي عن الإمام جعفر الصادق انه قال: (انما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل على كبره وزيادة عضوين آخرين وخرطومها مع دقته وتجويفه يغوص في جلد الحيوان وإن كأن ثخيناً، فاراد الله أن ينبه المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه) ( ).
الأمر الذي يعني أن في الآية إعجازاً مركباً وإخباراً عن سر من أسرار الخليقة وحري بالمختصين بعلم الحيوان ونحوه أن يقوموا بإجراء البحوث والدراسات المقارنة التي تؤكد هذا الإعجاز، وفي الآية إخبار عن إطلاق المثل القرآني وعدم حصره في شيء دون شيء آخر.

تفسير قوله تعالى [ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ انهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهمْ]
الآية الكريمة بيان لإستجابة المؤمنين، وفيها أيضاً مقارنة وكشف لقبح رد فعل الكافرين والمنافــقــين، ويتلقى المؤمــنون آيات القرآن بالقبول والرضا والتسليم، ويقرون بأن الأمثال والقصص والمواعظ التي جاء بها القرآن الكريم حق وصدق وأن الواقع مطابق لحقيقتها فهي ثابتة مؤكدة لا يسوغ إنكارها.
لقد ترشح عن إيمان المسلمين حالة من الإدراك الواعي للمقاصــد القرآنية بخلاف الكافرين والمنافقين وأهل الجحود الذين يثيرون التساؤل الإنكاري بسبب الغشاوة التي على أبصارهم والصــمم الذي في آذانهم، فهم لا يريدون أن يســتمعوا ويتدبروا الآيات فضــيعوا على أنفسـهم فرصة الإستفادة مما في القرآن من دروس وحكمة وأمثال جعلها الله سبيلاً للإعتبار والذكرى.
ولم يرد لفظ (البعوضة) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وجاءت مثلاً لنوع الأفراد والأجناس التي يأتي بها القرآن، وحال المؤمنين أزاء الأمثال ذات الصغر والقلة هو الايمان والتسليم بعلم ووعي، وأظهر الكافرون أزاءها الجحود، وحالة من الشك والتردد.
والآية مدح وثناء على المسلمين وتأديب لهم بلزوم التسليم بالأمثلة القرآنية لما فيها من الدلالات العقائدية، والضمير في قوله تعالى (إنه الحق) يعود للقرآن، فكل ما فيه حق وصدق، لأنه نازل من عند الله تعالى رحمة بالناس وسبيل للهداية والرشاد.
تفسير قوله تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً]
لقد بدأت الآية بالإخبار عن تصديق المسلمين للمثل القرآني بالذات والتنزيل وانه حق وصدق وفضل من عند الله تعالى، ثم ذكرت الآية حال الكفار وتلقيهم للمثل القرآني وكيف أنهم قابلوه بالجحود والإنكار، وفي تقديم تسليم المسلمين بالمثل القرآني حجة عليهم، ودعوة لهم للتصديق به بمحاكاة المسلمين والإتعاظ والإنتفاع من تصديقهم بالمثل القرآني وفيه بيان لحقيقة وهي أن المسلمين نعمة وباب رحمة وسبب هداية للناس، وعون لهم للتدبر بآيات الآفاق والخلق، وأسرار التنزيل.
وفي الآية تقبيح مركب للكافرين من وجوه:
الأول: نعتهم بالكافرين وهو عنوان ذم وشهادة سماوية على جحودهم.
الثاني: الفصل والتمييز بينهم وبين المؤمنين بلحاظ إدراك الأسرار والمعارف في المثل القرآني، وتخلف الكافرين عن درك كنهه.
الثالث: عدم إكتفاء الكافرين بالجهل بل إتجهوا إلى الإنكار بصيغة الشك والريب.
الرابع: تلقي المسلمين المثل بعمومات التصديق بالقرآن والتنزيل الذي يعتبر المثل جزء منه، والتصديق بالكل يعني بالضرورة التصديق بالجزء، أما الكفار فإنشغلوا بالعناد والجحود.
الخامس: جاء جحود الكافرين بعد الإخبار عن إيمان المسلمين، لتكون الحجة عليهم أعظم وأكبر.
السادس: بينما جاء تصديق المسلمين بالقرآن بجميع كلماته وآياته، تعلق شك وتساؤل الذين كفروا بالمثل القرآني.
وهل ينحصر موضوع شك الكفار بضرب المثل بالبعوضة أم بالأعم منها، الظاهر هو الأخير، لأن فاتحة الآية جاءت على نحو الشرط، وتصديق المسلمين جاء مطلقاً بكل التنزيل.
ويفيد قوله تعالى (بهذا) الإشارة إلى ذات أو شيء مخصوص , ويمكن إعتباره قرينة على إرادة المثل الواحد والأقرب أنه مثل البعوضة، ولكن لغة العموم لا تتعارض مع هذه القرينة، فشك وتساؤل الكفار متجدد في كل مثل، في البعوضة فما فوقها ، وفي كل مرة يأتون بلغة الشك والريب ويقولون [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً].
وهذا من إعجاز القرآن، وفي الآية حجة على الكافرين لإقرارهم بأن المثل من عند الله، فحينما يقولون [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] وجب عليهم الإيمان، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو قال المؤمن [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] فهل يؤثم ويلحق قوله بقول الكافر، الجواب لا، للتباين في النية والقصد، وأن المسلم يسأل للتعلم والتفقه في الدين، والكافر يتساءل عتواً وغروراً.
تفسير قوله تعالى [ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ]
بيان وتفسير وإظهار لما في تلك الأمثال من إبتلاء، وباب تدبر لمن شاء التفكر بالمخلوقات، ودلالة وجودها على وجوب الصانع لإحتياج الممكن في حدوثه وبقائه إلى مؤثر وموجد لـه خارج عنه ليس من عالم الممكنات، ولذا ترى طريق المتكلمين هو حدوث العالم، وكل حادث لابد لـه من محـدث، وأن الوجود بعد العدم ثم الأفول من صفات الحادث المستلزم للصانع.
وبعد أن أخبرت الآية عن قول الكفار والمخادعين الذي إستقبلوا به المثل القرآني بالأشياء الصغيرة، وما في قولهم من الإنكار والريب والشك، جاء قوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا] وهو كلام مستأنف يتضمن الرد على قوله الكفار [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً].
فمن إعجاز القرآن في المقام وجوه:
الأول: عدم وجود فترة بين ما قاله الكفار والرد الإلهي عليهم.
الثاني: علم الله تعالى بتمييز المسلمين لجهة صدور الكلام في القرآن، ومعرفتهم لتعقب الرد للغة الشك والريب، فليس من فاصلة أو نهاية آية بين حكاية قول الكفار والرد الإلهي عليه.
الثالث: جاء تقديم الضلالة بالمثل القرآني ليكون متعقباً لما نقلته الآية الكريمة عن قول الكفار، والدلالة على أن قولهم [مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً] ضلالة وغواية.
لقد ملأت آيات الله تعالى الآفاق ومنها ما هي ظاهرة، وتعتبر من البديهيات والضروريات التي لا تحتاج إلى تدبر وتفكر، ومنها ما هو نظري أي يحتاج إلى الإنتباه والتفكر وسلامة الذهن والحواس وعدم قصد الشبهة وهي تأليف الذهن لدليل فاسد يناقض البديهية والصواب مع الغفلة عما في تلك الشبهة من المغالطة وخطأ المبنى.
نعم قد تكون قضية واحدة بديهية عند شخص ونظرية عند آخر لأسباب متعددة منها التباين في قوة الحدس، والذكاء، والإستغناء عن النظر والكسب، وسلامة الفطرة ووجوه الهداية، لذا جاء المثل القرآني في البعوضة مناسبة للتفكر والتدبر وسبيل هدى لشطر من الناس الذين كتب الله لهم الإيمان والرشاد، وحجة على أولئك الذين أصروا على الجحود والضلالة.
والضمير الهاء في (به) يحتمل وجوهاً:
الأول: مثل البعوضة.
الثاني: المثل مطلقاً، البعوضة وما فوقها.
الثالث: نزول القرآن من عند الله تعالى.
الرابع: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته إلى الناس جميعاً، فمن آمن به إهتدى، ومن كفر ضل وفي النار هوى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، وفيها شاهد على الكنوز الكامنة فيها، وجاءت الآية صريحة بإفادة الكثرة والتعدد في طرفي الإيمان والجحود، مع نقص في طرف وأهل الجحود .
وهذه الآية نصر للمسلمين وحرب على الجاحدين ، مما يدل على كون المثل القرآني مسألة عالمية، فالآية تخبر عن إنتشار الإسلام والدعوة له وتجلت مصاديق الآية بسرعة إنتشار الإسلام ، وبلوغ الدعوة إلى أهل المشرق والمغرب.
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول: يهتدي كثير من الناس بالمثل القرآني أيام التنزيل، وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما يوحى إليه من الآيات.
الثاني: المراد من الكثرة الصحابة على نحو الخصوص.
الثالث: إرادة أجيال المسلمين وإنهم هم المهتدون.
الرابع: المعنى الأعم، وأن المثل القرآني هداية لغير المسلمين، وهو على قسمين:
الأول: من يهتدي بالمثل القرآني يدخل الإسلام .
الثاني: هناك أمة تهتدي بالمثل القرآني، ولكنها تبقى على ملتها.
والصحيح هو الثالث، والقسم الأول من الرابع، فإن المثل القرآني بالأمور الصغيرة والدقيقة سبب لهداية كثير من الناس، وباب الهداية من أمثلة القرآن مفتوح إلى يوم القيامة، لذا فالمثل القرآني نعمة على الناس جميعاً، وآية تدعو الناس إلى الهداية والرشاد.
تفسير قوله تعالى [ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ]
(ما) أداة حصر في الإستثناء المفرغ، والآية حصر وتعريض بالذين لا تزيدهم آيات الله إلا عتواً وإستكباراً ممن أبى إلا الإعراض عنها وعدم التدبر والتفكر بوجوه الحكمة في وجودها وذكرها وضربها مثلاً وموعظة، ويدل نعت الكفار بالفاسقين على إختيارهم الضلالة وإستعدادهم للفساد والهلاك، وسوء إستقبالهم لآيات الإنذار والموعظة، وكأن الإضلال عقوبة وطرد من أبواب الرحمة.
والفسوق الخروج عن الطاعة، وأختلف في الفاسق من أهل الشهادتين هل هو مؤمن أم كافر؟ وإختار المعتزلة القول بالبرزخية وانه لا مؤمن ولا كافر، ولكن الفسق عنوان فعل لا يخرج المؤمن من الإيمان إلا ساعة التلبس به خصوصاً وأن باب التوبة مفتوح، والآيات تصف الفاسق بالضلالة وعدم الهداية، وجاءت آيات القرآن بتنزيه المسلم عن الكفر وبينهما تضاد، قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، مما يدل على أن الذكر والإستغفار مانع من حلول صبغة الكفر على المسلم( ).
وفي الآية تحذير من نعت جماعة أو طائفة من المسلمين بالفسق لبعض الأخطاء التي تأتي من أفراد في عرض أداء الفرائض وخلال أسباب التوبة ومطهراتها .
ومنع جعل هذا النعت سبباً للفرقة والخلاف، فكل طائفة تكره أن تنعت بالفسق على نحو العموم الإستغراقي.
ويحتمل قوله تعالى [يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ] وجهين:
الأول: إستدامة وإتصال كلام الذي كفروا، وإنه جزء من قولهم.
الثاني: إنه كلام مستأنف من عند الله تعالى.
والصحيح هو الثاني بدليل نظم الآيات ومجئ الآية التالية بذم الفاسقين، فجاءت خاتمة الآية بياناً لقاعدة كلية وقانون ثابت إذ ورد لفظ (الفاسقين) في القرآن خمساً وثلاثين مرة، بصيغة الرفع (الفاسقون) والنصب والجر (الفاسقين) وقال تعالى [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ] إلا في هذه الآية الكريمة، مما يدل على الشأنية والمرتبة الرفيعة للمثل القرآني موضوعاً وحكماً.
لقد جعل الله تعالى المثل القرآني مدرسة للإبتلاء والإختبار، وعجز الكفار عن درك كنهه فقابلوه بالجحود، ولم يتعظوا مما فيه من الحكمة، ولا من تلقي المسلمين له بالقبول والتصديق، وجهلوا حقيقة وهي أن موضوعية المثل ليس في كبر وضخامة وشأن المشبه به، بل قد تكون القلة والنقص فيه هو الأنسب في الإتعاظ والإعتبار، ولكن الكفار تلبسوا بالخروج عن الطاعة، وإتخذوا العناد والإنكار والجحود منهجاً وسجية، فجاءت هذه الآية لفضحهم، ودعوة المسلمين لعدم الإصغاء لهم، وإقامة الحجة عليهم.
وهذه هي أول آية في ترتيب القرآن يرد فيها لفظ (الفاسقين) ولم يرد في سورة البقرة إلا مرتين، إذ جاء بصيغة الرفع في قوله تعالى [وَلَقَدْ انزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ] ( )، ليكون الجحود بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو موضوع ومصداق المعصية والخروج عن سبل الطاعة.
لقد جاءت الآيات الأربعة السابقة التي تنتهي بقوله تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، خطاباً للناس عامة ودعوة في مفهومها للإيمان، وإنذاراً وتحدياً صريحاً وإقامة للحجة على الكفار خاصة .
وجاءت الآية السابقة خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص بأن يبشر المؤمنين بالجنة، وفيه مسائل:
الأولى: بعث المسلمين للثبات في منازل الهدى والإيمان.
الثانية: دعوة الكفار لدخول الإسلام.
الثالثة: حث الناس على نبذ الكفر والشرك والضلالة.
الرابعة: جعل الناس يعرضون عن أهل الشك والريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: تهيئة وإصلاح المسلمين للجهاد في سبيل الله، ومعرفة حسن العاقبة وعظيم الثواب باللبث الدائم في الجنة الواسعة.
السادسة: ورد قبل آيتين وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعبودية لله عز وجل [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا]( )، جاءت هذه الآية لبيان المائز بينه وبين باقي الناس بالنبوة وتلقي وتبليغ كلامبأنيبشر المؤمنين بالوعد الإلهي الكريم باللبث الدائم في النعيم والجمع بينهما من مصاديق وتفسير قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، وإذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينفرد بتلقي التنزيل بدليل الآيتان أعلاه، فهل يختص وحده بتبليغ الوحي للناس, الجواب على وجوه:
الأول: يختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ الأول للوحي إذ لا يطلع على الرسالة التي ينزل بها جبرئيل غيره صلى الله عليه وآله وسلم , ليقوم بتبليغها كاملة للناس , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
الثاني: يشترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس في التبليغ الثاني والثالث والمتعدد.
الثالث: لا ينحصر تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأيام حياته الدنيا، بل يقوم بالتبليغ إلى يوم القيامة وكأنه حي بين ظهرانينا وتدل عليه الآية السابقة بقوله تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] من جهات:
الأولى: تلاوة المسلمين لهذه الآية على نحو يومي متجدد، وإخبارهم وتعاهدهم باللفظ والعمل لأمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة.
الثانية: إنحلال لغة الآية بعدد المسلمين إلى يوم القيامة، إذ أنها تشمل الموجود والمعدوم، فكل مسلم يعمل الصالحات يبشره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة التي تجري من تحتها الأنهار.
وإذا كان أول الآية إنحلالي بعدد المسلمين، فهل لفظ الجنات إنحلالي، بمعنى هل يصح ( وبشر الذي آمن وعمل الصالحات أن له جنة تجري من تحتها الأنهار) .
الجواب إذا كان المراد اسم الجنس في لفظ الجنة فهو صحيح أما إذا كان المقصود لغة المفرد، وأن كل مسلم يسكن جنة واحدة ليس له الإنتقال إلى غيرها فهو غير تام.

قوله تعالى[ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أن يُوصَلَ وَيُفْسِــدُونَ فِي الأرض أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ] الآية 27.
الإعراب واللغة
(الذين ينقضون عهد الله)
الذين: اسم موصول في محل جر لأنه صفة للفاسقين.
ينقضون: فعل مضارع مرفوع، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
عهد: مفعول به، وهو مضاف، واسم الجلالة مضاف إليه.
من بعد: جار ومجرور متعلقان بينقضون.
ويقطعون: الواو: حرف عطف، يقطعون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل.
ما: اسم موصول في محل نصب مفعول به، أمر: فعل ماض مبني على الفتح، الله: فاعل. به: جار ومجرور متعلقان بأمر .
أن يوصل: أن حرف مصدري ونصب، يوصل: فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر وتقديره ويقطعون ما أمر الله وصله.
ويفسدون: عطف على يقطعون، في الأرض: جار ومجرور متعلقان بيفسدون.
أولئك: اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، هم: ضمير فصل، الخاسرون: خبر أولئك مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم، ويجوز أن يقال (هم) مبتدأ، والخاسرون خبره، والجملة الإسمية (هم الخاسرون) في محل رفع خبر أولئك.
النقض: الفسخ، وفك التركيب وإفساد العقد وهدم البناء.
العهد: العقد والأمر والوصية، والجمع عهود.
في سياق الآيات
يدل إفتتاح الآية باسم موصول على إرتباطها بالآية التي قبلها، بلحاظ نظم الآيات ويمكن قراءتها على نحو مستقل لتكامل في موضوع وأحكام الآية، وتعلقها بالفاسقين الذين غضب الله تعالى عليهم من غير المسلمين، وبيان بعض صفاتهم القبيحة للحجة عليهم والتحذير منهم.
وفي الآية وصف لحال الفاسقين , وتحذير للمؤمنين منهم وإشارة إلى بعض صفاتهم الذميمة وسوء أفعالهم مما يعني أن القرآن يرسم مناهج الحياة العامة والسنن الإجتماعية والأخلاقية، بالإضافة إلى مناسك العبادة والتقوى.
وتتضمن الآية وصفاً للكفار الذين يكون المثل القرآني مادة لضلالتهم بإختيارهم، فقد جاء المثل القرآني رحمة للناس جميعاً، ولكن الكفار أعرضوا عنه وإتخذوه موضوعاً للشك والريب وإثارة الشبهات، والقول كيف أن الله عزوجل يضرب المثل بالحقير والصغير.
فجاءت هذه الآية بذكر الكبائر التي يفعلها الكفار، وهي أشد وأكبر إثماً وضرراً، ودليل على خسارتهم في النشأتين، وجاءت الآية التالية بتوجيه اللوم للكفار لإختيارهم ضد وظيفتهم العبادية التي هي الإيمان بالله وطاعته والإنقياد لأوامره، وهو الذي خلقهم من العدم، ويبعثهم يوم القيامة، ليكون التذكير بالآخرة حجة عليهم، ودعوة للتوبة والانابة.

إعجاز الآية
بيان أهم مصاديق الفسق وأفراده، وذكر الضلالة والجحود أولاً لانه الأصل فيما يتفرع عنه من الأفعال السيئة، وكيف أنه يؤثر بالكيفية النفسية وتصدر عنه الأخلاق المذمومة مما يتعلق بالنفس والغير، وأختتمت الآية بالإخبار عن خسارة الكفار وسوء عاقبتهم يوم القيامة.
وفي الآية تعداد لقبائح أهل الضلالة بعناوينها المجردة الظاهرة التي لا يمكن إخفاؤها فقد إتصل الإحتجاج حتى وصل إلى البيان التفصيلي لها وكيف أنها مركبة من الجحود والعناد العقائدي، ومن سوء السيرة.
ويمكن تسمية الآية بآية (الذين ينقضون) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آيتين( ).
الآية سلاح
وفي الآية فضح للكفار فيما يضــمرون من الجحــود، وما تدل عليه أفعالهم من الضــلالة والخلل في إختيارهم، وفي الآية تأديب للمســلمين وحـث لهم على نبــذ تلك الأفعال والإبتـعاد عن أهــلها، كما أنها بشارة وشفاء لصدورهم لسوء العاقبة التي تنتظر عدوهم.
إن ذكر الأفعال القبيحة لأهل الضلالة مدرسة وعبرة للمسلمين ودعوة لليقظة والحذر من أذى الكفار ولزوم فضحهم وخزيهم، إن المساوئ التي ذكرتها الآية لأهل البغضاء جاءت وثيقة خالدة تلح على المسلمين بنبذ الفرقة وعدم الإبتعاد عن ورثة الأنبياء أي العلماء وعن أحكام الشريعة، وأن يبقوا على صلة مع القرآن والنبوة بدراسة الآيات، والسنة النبوية الشريفة ، والإطلاع على السيرة المباركة.
الآية لطف
في الآية تخفيف عن المسلمين وإرتقاء لهم في المعارف الإلهية بمعرفة صفات أعداء القرآن الذين يصدون عما فيه من الآيات.
ويتجلى في هذه الآيات التباين بين المسلمين والكافرين، فجاءت الآيات السابقة بالأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشارة المسلمين بالجنة والخلود فيها لإسلامهم وعملهم الصالحات، وجاءت الآية بإنذار الكافرين، ويتجلى هذا الإنذار بما تتضمنه من ذمهم ووصفهم بالفسق والخروج عن الطاعة، ثم ذكرت صفات أخرى لهم أشد قبحاً من الضلالة بلغة المثل القرآني، وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة والإلتفات إلى موضوعية المثل القرآني ولزوم الإتعاظ به ومنه.
وفي هذه الآية دعوة للناس للأخذ بالمثل القرآني مطلقاً، ومن إعجاز وعلوم القرآن أن تأتي آيات متعددة لجذب المسلمين والناس للعمل بالمثل القرآني، والنظر إلى الأمثلة القرآنية كلها بعرض واحد من حيث الصبغة القرآنية والموضوعية والدلالة الإعجازية ولغة البرهان.
لقد جعلت هذه الآيات المسلمين أكثر عناية بالمثل القرآني وإدراك حقيقة وهي أن كل مثل مدرسة عقائدية مستقلة وإن تعلق بالشيء الصغير والدقيق.
وفي هذه الآية بيان وذكر لصفات الفاسقين، وهذا البيان عون للمسلمين وحجة لهم على الكافرين والجاحدين ، وواقية من جدالهم، وإثارتهم للشك والريب وأسباب المغالطة.

 

مفهوم الآية
في الآية ذم للفسق والخروج عن جادة الحق وسنن النبوة، وتحذير من فسخ العهود والعقود، وفيها توثيق لسوء فعل الكافرين والمنافقين وغدرهم وخيانتهم.
وتنهى الآية عن الإفساد في الأرض، وهذا النهي دعوة للصلاح والإصلاح وإخبار عن تحقق النجاة والفوز بالهداية والإيمان.
وتحث الآية على التمسك بأحكام القرآن، والسعي فيما أمر به لنيل ما وعد به من الجنة والرضوان، وتعطي للمسلمين موضوعاً للإحتجاج وإقامة البرهان، وفيها بيان لمساوئ الكفر والجحود والتمادي فيه، وتمنع الآية من الخداع والضلالة وتحريف الحقائق.
والآية في مفهومها مدح للمسلمين لأنهم إلتزموا بأحكام القرآن وأخلصوا العبادة لله، وتلقوا التنزيل بالقبول، وهم يجتهدون ويجاهدون لنشر الإصلاح في الأرض والتصدي لمضامين الكفر والجحود.
وما في الآية من الوعيد والإخبار عن خسارة الكافرين مناسبة لمواساة المسلمين لما يلاقونه من الأذى والتعدي من الكفار، وبشارة فوز المسلمين بالجنة والربح في النشأتين.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ذم الفاسقين الذين لا يتعظون من وجوه الحكمة في المثل القرآني عامة، والمتعلق بما دق وصغر من الأشياء على نحو الخصوص.
الثانية: ذكرت الآية ثلاث صفات من صفات الفاسقين القبيحة، وهي:
الأولى: نقضهم لعهد الله، وهذا النقض إثم مركب لأنه يحصل بعد إنعقاد ميثاق العقد.
الثانية: قيام الفاسقين بقطع ما أمر الله عز وجل به من إتباع الأنبياء، والتصديق بالتنزيل وصلة الرحم، والإحسان مطلقاً، وعدم الجحود.
الثالثة: إشاعة الفاسقين معاني الفساد في الأرض.
الثالثة: تتضمن الآية الإخبار عن خسارة أهل الضلالة الذين يصدون عن المثل القرآني ولا يتخذونه عبرة وموعظة.
إفاضات الآية
الآية دعوة سماوية للتمسك بالعهود، والتقيد بأحكام المواثيق التي قطعها المسلمون وأتباع الأنبياء على أنفسهم، والله عز وجل أخذ الميثاق على الناس جميعاً، ومضامين العبودية من أهم المواثيق، وما دامت العبادة هي العلة الغائية لخلق الانسان، فلابد أن يمتثل الناس للأوامر الإلهية ويؤدون الفرائض , لتكون مادة لإستدامة الحياة الإنسانية بلحاظ كبرى كلية وهي موضوع العبادة علة للخلق وإستدامته .
وفي الآية الكريمة تنقيح للطبائع وتهذيب للنفوس بالإبتعاد عن صيغ وأفراد الفساد.
الصلة بين أول وآخر الآية
بدأت الآية بالاسم الموصول (الذين) ويحتمل وجهين:
الأول: إبتداء الكلام به، وبيان معناه والمقصود منه بما يأتي بعده من الكلام.
الثاني: تعلق الاسم الموصول بما قبله من الكلام وإن جاء في أول الآية.
والصحيح هو الثاني، ولكنه لا يتعارض مع الوجه الأول وهو من الشواهد على نظم الآيات والحاجة اليه، فلما أختتمت الآية السابقة بوصف الذين يردون المثل القرآني بأنهم فاسقون.
جاءت هذه الآية بذكر ما يتصفون به من الرذائل وأسباب الجحود والصدود، وتحتمل الصلة بين الفسق، وهذه الصفات وجوهاً:
الأول: الملازمة بين وصف الفاسقين، والصفات التي جاءت بها هذه الآية.
الثاني: لفظ (الفاسقين) أعم ويشمل هذه الصفات وغيرها.
الثالث: صدق وصف الفاسقين على غير الذين يردّون المثل القرآني، وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
والصحيح هو الثاني والثالث، لأن الفسق أعم ، ومنه إرتكاب المعاصي، والخروج عن طاعة الله ، وذكرت هذه الآية ثلاث صفات من صفات الفاسقين وهي:
الأولى: عدم وفاء الفاسقين بعهد الله، وتركهم لما أمرهم الله تعالى به من عبادته وأداء الفرائض، لقد خلق الله تعالى الإنسان لعبادته وأنعم عليه بأسباب ومقدمات هذه العبادة، وما يعينه على إدراك ضرورتها والحاجة إليها في الدنيا والآخرة، ومنها المثل القرآني وما فيه من العبرة والموعظة والدعوة إلى سبل الهداية والعبادة، فجاء الرد الإنكاري من الذين كفروا شاهداً على فسقهم وفجورهم، وإبتعادهم عن مسالك التوبة والإنابة.
وإبتدأت هذه الآية بوصفهم بأنهم ينقضون عهد الله، وجاءت الآية بصيغة المضارع، وتحتمل وجهين:
الأول: إستدامة النقض.
الثاني: الإخبار عن حصول نقض العهد، أو مخالفة الميثاق في مستقبل الأيام دون ما مضى منها.
والصحيح هو الأول فالآية وإن جاءت بصيغة المضارع إلا أن معناها أعم زماناً ، وفيها وجوه:
الأول: الإخبار عن التلبس بالفعل في الزمن الماضي، فهم قد نقضوا العهد من قبل أيضاً.
الثاني: إرادة إستمرارهم بنقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل.
الثالث: قرينة وصفهم في الآية السابقة بالفاسقين، وهذا الوصف لم يأت إلا بعد إرتكاب الفسق والفجور والخروج عن الطاعة.
الرابع: الآية شاهد على إنبساط مضامينها على أفراد الزمان الطولية فهي توبيخ وذم للكفار، وإخبار وإنذار للمسلمين بأن الرد الإنكاري على المثل القرآني موجود ومستمر ويجب على المسلمين في كل زمان أن يحذروا من الفاسقين وصيغ الشك والريب التي يأتون بها.
وإبتدأت الآية بذكر صفة نقض العهد، وقدمتها على قطعهم ومنعهم لما أمر الله تعالى به فهم يسعون لمنع إعلاء كلمة التوحيد، ويحاربون الذين يجاهدون في سبيل الله، ويسعون في صدّ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وجاء الترتيب في أفعال وصفات الفاسقين كالآتي:
الأول: نقضهم لعهد الله تعالى.
الثاني: قطعهم لما أمر الله تعالى به.
الثالث: فسادهم في الأرض.
فهل هناك موضوعية لهذا الترتيب أم لا، الجواب نعم، فجاءت الآية للإخبار عن تقدم نقضهم لعهد الله رتبة وزماناً وإقترافهم السيئات التي ذكرتها الآية، لأن أفراد المعصية الأخرى التي تذكرها الآية من مصاديق نقض العهد الذي أخذه الله تعالى على الناس بوجوب عبادته، وإجتناب الفواحش وما نهى عنه.
وتتضمن الآية التحذير من نقض العهد الإلهي، وما يترشح على هذا النقض من التجرأ والتعدي والفساد في الأرض، وتبين أن الفاسقين لم يقفوا عند مرتبة نقض العهد، بل تمادوا في المعاصي وفعل السيئات.
ومن الآيات أن الرد الإنكاري للمثل الذي أنزله الله تعالى من وجوه الفساد المذكورة ، وفيه دلالة على الملازمة ووحدة الموضوع بين هذه الآية والآية السابقة، وهي على وجوه:
الأول: رد المثل القرآني من نقض عهد الله، فمن الوفاء بالعهد الإلهي التصديق بالتنزيل مطلقاً، سواء في موضوعه أو نصه أو كلماته أو حروفه، ويفتح هذا التصديق على صاحبه أبواب المعرفة، ويكون طريقاً للتفقه في الدين، والإرتقاء في مسالك العلم.
لقد جاءت الكتب السماوية بوجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن أفراد التصديق بنبوته تلقي ما يوحى إليه من عند الله بالتسليم، وعدم الرد والجحود.
الثاني: رد المثل القرآني من قطع ما أمر الله تعالى به، لأن المثل القرآني جاء لجذب الناس إلى الإيمان، والتصديق بالنبوة والتنزيل وتهذيب الأخلاق، وطاعة الوالدين، وصلة الرحم.
الثالث: من وظائف الإنسان التصديق بالتنزيل، والإقرار بالمعجزات التي جاء بها الأنبياء وعمل الصالحات، ونشر الفضائل، ولكن الكفار إختاروا الفساد في الأرض، ومن وجوه الفساد رد المثل القرآني، وعدم التصديق بالتنزيل.
الرابع: تدل خاتمة الآية على خسارة الفاسقين الذين يردون المثل القرآني ويبغون الفساد في الأرض.
ومن إعجاز الآيات القرآنية عدم الإكتفاء بذكر حال وفعل الكفار، ويتعقب الإخبار عن فعلهم بيان ما ينتظرهم من سوء العاقبة، وقد وصفتهم هذه الآية بأنهم [خَاسِرُونَ]وإذ جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن شراء الكفار للضلالة ، وكساد تجارتهم جاءت هذه الآية لتبين خسارتهم ، وهذه الخسارة أعم من خسارة التجارة، لأن وصفهم بالخاسرين وصف يتعلق بهم بالذات.
وتحتمل الصلة بين رد المثل القرآني وبين الخسارة وجوهاً:
الأول: رد المثل القرآني خسارة، ومن يردّه يكون من الخاسرين.
الثاني: من صفات الخاسرين رد المثل القرآني، ومنها أنهم لايؤمنون بنزول المثل بالأمور الدقيقة والصغيرة من عند الله.
الثالث: الملازمة بين الخسارة والجحود بالمثل القرآني.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الجمع بين الآيتين، وفي نعت الكفار بالخاسرين وجوه:
الأول: إخبار الناس جميعاً بأن نقض عهد الله يؤدي إلى الخسارة في النشأتين.
الثاني: تحذير وإنذار أهل الكتاب وغيرهم من نقض العهود التي أبرموها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث: لزوم تعاهد الناس لما أمر الله به أن يوصل، وإجتناب التفريط بالسنن والآداب الشرعية.
الرابع: بيان قبح الفساد في الأرض وأنه لا يؤدي إلا إلى الخسارة , وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الخامس: حث الناس على إجتناب الخسارة ومصاديقها من النقصان والهلاك والضياع، ومع تعدد مضامين الآية الكريمة فليس فيها ذكر لخصلة حميدة عند الفاسقين الذين يخالفون وظائفهم الشرعية، وما يجب عليهم من التصديق بآيات القرآن على نحو العموم المجموعي، فليس للإنسان أن يرد آية قرآنية، بل عليه أن يتلقى كل آية من آيات القرآن بالقبول والتصديق ليكون من الفائزين، وينجو من الخسارة والهلاك.
وجاءت الآية بصيغة اسم الفاعل [الْخَاسِرُونَ]في دلالة على أن الكفار أهلكوا أنفسهم، وأقدموا على الخسارة، وروي عن ابن عباس: أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسارة إلى غير المسلمين ، فإنما عنى به الكفر ، وما نسبه إلى المسلمين ، فإنما عنى به الدنيا) ( ).
التفسير الذاتي
يتصل موضوع هذه الآية بالآية السابقة التي أختتمت بذم الفاسقين،فجاءت هذه الآية بوصفهم، وبيان قبائحهم وسوء فعلهم لبيان أثرالصدود والجحود بالمثل القرآني، ويدل في مفهومه على موضوعية ومنافع المثل القرآني، وحاجة الناس جميعاً له، إذ أنه مدرسة عقائدية وأخلاقية، ونوع إصلاح للنفوس، وتأديب للناس، وبرزخ دون التعدي والظلم.
وجاءت هذه الآية بوصف الفاسقين الذين يضلون بإعراضهم عن المثل القرآني بصفات مذمومة هي:
الأول: نقض الميثاق والعهود، وما فيه من الغدر والخيانة والقبح الذاتي.
الثاني: قطع صلة الرحم.
الثالث: الصدود عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أمر الله عز وجل بالتصديق بها بالبراهين والدلالات، ومنها المثل القرآني وما فيه من الحكمة.
الرابع : قيام الفاسقين بنشر الفساد في الأرض، وإشاعة القبائح , وفعل المنكرات، وفي الآية تحذير وتنبيه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الذين يستهزءون بالمثل القرآني، ويجادلون فيه بأنهم لا يترددون في نقض المواثيق لما يدل عليه هذا الإستهزاء من التجرأ والتعدي، قال تعالى [الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ]( ).
وهذه الآية من عمومات قوله تعالى [يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ]( )، إذ يظهر الكفار الشك بالمثل القرآني لبعث الريب بالقرآن وآياته وأحكامه، فتأتي هذه الآية لبيان قبائحهم والتحذير منهم، وتوكيد لزوم عدم الركون إليهم، بالإضافة إلى المدد القرآني الذي يأتي للمسلمين بالمعاني القدسية للمثل القرآني وما له من الدلالات.
وتبين الآية قبح نقض الميثاق بعد إمضائه وإبرامه، وتدعو المسلمين والناس جميعاً إلى تعاهد المواثيق والتقيد بأحكامها وشرائطها، وتبين خصائص منها:
الأولى: الذي ينقض الميثاق لا يتردد في إظهار الإستخفاف بالمثل القرآني.
الثانية: الإستخفاف بالمثل القرآني من مصاديق الإفساد في الأرض.
الثالثة:المثل القرآني من الشواهد على إعجاز القرآن.
الرابعة: جاء المثل القرآني لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الخامسة: يفضح المثل القرآني المفسدين في الأرض.
السادسة: الخسران المبين عاقبة الذين يستهزءون بالمثل القرآني.
لقد جاءت هذه الآية واقية للمثل القرآني، وحرباً على الذين يحاربونه ويحاولون منع الناس من الإتعاظ وأخذ الدروس والعبر منه.
من غايات الآية
يأتي وصف الفاسقين متعلقاً بالخارجين عن طاعة الله، ولما أخبرت الآية السابقة عن جحود الفاسقين بالمثل القرآني إذا تعلق بشيء صغير، جاءت هذه الآية للتقييد وبيان المراد من الفاسقين في المقام بذكر صفاتهم، وانهم ينشرون الفساد في الأرض، وتبين الآية قبح نقض العهود والمواثيق التي أخذها الأنبياء عليهم.
وفي الآية تحذير للكفار من الإفساد في الأرض ونشر الرذيلة ومحاربة المسلمين في دعوتهم إلى الله،وتبعث الحذر والحيطة في نفوس المسلمين من الكفار الذين يظهرون الريب والشك في المثل القرآني،وعلوم القرآن مطلقاً.
ومن الآيات أن تختتم الآية بالوعيد للكافرين، والإخبار عما ينتظرهم من العذاب يوم القيامة.
وأختتمت الآية بالإخبار عن خسارة الكفار والظالمين، ويفيد قوله تعالى[أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] حصر الخسارة بهم، وتحتمل خسارة الكفار وجوهاً:
الأول: الخسارة في الحياة الدنيا.
الثاني: الخسارة في الدار الآخرة.
الثالث: الخسارة في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأخير، أما خسارتهم في الآخرة فهي حق، وتدل عليه الآيات القرآنية بالدلالة القطعية، ومنها هذه الآية الكريمة إلى جانب السنة النبوية، وإدراك العقل لوظائف الإنسان في الدنيا، وكيف أنها دار إمتحان وبلاء وإختبار، جعلها الله مزرعة للآخرة، وأواناً للحساب والجزاء وتكون خسارة الكفار في الآخرة بدخولهم النار وخلودهم فيها.
أما خسارتهم في الدنيا فركوبهم جادة الضلالة والغواية وهزيمتهم أمام جند الإسلام، ووقوعهم بالأسر أو السبي، وخسارة أموالهم، وضياع ممتلكاتهم، ورؤيتهم إتساع رقعة الإسلام وتخلفهم عنه, قال تعالى في ذم الكفار وأهل الشك والريب[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ]( ) (عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به؛ وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله{ومن الناس من يعبد الله على حرف})( ).
التفسير
تفسير قوله تعالى [ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ]
بيان لحال الفاسقين الذين يضلهم الله بهذه الأمثال عقوبة لهم وإظهاراً لحقيقتهم وكشفاً لواقعهم الفكري ، وما يترددون فيه من الحيرة والشك وأنهم قد إختاروا الضلالة والتيه العقائدي بمخالفتهم لأوامر الله تعالى بعد أن ولدوا على فطرة التوحيد، وبعد أن جاءهم الأنبياء والرسل بالبينات والدعوة إلى الله تعالى خاصة أولئك الذين عاصروا الرسالة الإسلامية، أو الذين أصروا على عدم الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب، وقد وعدوا به وبرسالته على لسان موسى وعيسى عليهما السلام، وجحدوا برسالته بعد معرفته.
وفي السيرة النبوية ووقائعها قصص كثيرة تشهد وتدل على مجيء جماعات وطوائف من اليهود والنصارى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله وإختباره، والتوجه إليه بمسائل أعدت سلفاً لنبي آخر الزمان، ومنها مثلاًً ما جاء في موضوع المباهلة مع وفد نصارى نجران، وكان نفر من علماء أهل الكتاب يسلم ويعلن الشهادتين في مثل تلك المناسبات إقراراً بالحق. وكذا الحال بالنسبة لشطر من قريش ونحوهم.
ويحتمل الضمير في (ميثاقه) وعائديته أمرين:
الأول: إنه يعود لله عز وجل.
الثاني: المراد منه عهد الله.
والأصح هو الأول، أي أن الكفار والفاسقين ينقضون عهد الله بعد عقده وتوثيقه والإقرار به، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد ورد لفظ الميثاق مرتين في القرآن، مرة في هذه الآية، وورد في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ]( )، مما يدل أن الهاء تعود لله عز وجل وأن الميثاق جاء مقترناً وملازماً للنعم, وأنه نعمة أخرى مستقلة تتفرع عن التقيد بها نعم أخرى متعددة في النشأتين.
ترى ما المراد من الميثاق؟ الجواب إنه حجج وآيات الله وما جاء به الأنبياء من المواثيق وما تضمنته الكتب السماوية للبقاء على التوحيد والتصديق بالنبوة، ومن الميثاق البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية توبيخ مركب للكفار، لنقضهم العهد وهو مذموم شرعاً وعقلاً وعرفاً، ولأن العهد مع الباري عز وجل أمر يستلزم التقيد به لا لأنه عهد فحسب بل لأنه تشريف وفضل من الله تعالى، أن يعاهد الله عبده أو يلقي إليه عهداً ووصية.
وذكر أن العهــد الميثــاق الذي أخــذه الله على الناس، وهــم في عالم الذر لقوله تعالى [ وَأَشْــهَدَهُمْ عَلَى انفُسِــهِمْ أَلَسْـتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ]( )، ونسب الرازي إلى المتكلمين (أن هذا القول ســاقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك)( ).
والإشكال عليه بوجوه:
الأول: إطلاق نسبة القول إلى المتكلمين، لعدم ثبوت هذا الإطلاق.
الثاني: الآية في بيان الوصف والحال.
الثالث: قد يكون العهد أعم من عالم الذر، وأن العهد الذي أخذ على الناس في عالم الذر أحد أفراد العهد.
الرابع: حينما تفضل الله عز وجل بأخذ العهد في الذر فإنه جعله عند الإنسان على نحو البديهيات واليقينيات، والبديهيات هي التي يحكم بها العقل لذاتها لا بسبب خارجي فبمجرد تصور طرفيها من المحكوم والمحكوم عليه يحكم عليها، واليقين العلم المستقر في القلب الذي يكون ظاهراً جلياً وممتنع الزوال بالتشكيك.
الخامس: أخذ الأعم من أن ينحصر بشيء معين.
السادس: يتجدد العهد في عالم الذر عن طريق الأنبياء، وأن الناس يتلقون العهد مطلقاً سواء كان موضوعاً وحكماً من عالم الذر أو جاء به الأنبياء، ويحرصون على سماعه وأخذه منهم وإن لم يلتزموا بأحكامه، وفي التنزيل [ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ… ]( ).
السابع: توكيد القرآن على النفس اللوامة، ومعرفة الإنسان الفطرية لطرق الهداية، وإلتقاؤها مع العقل الذي هو رسول باطني.
لقد جعل الله عز وجل العقل سلاحاً عند الإنسان ليدرك وظائفه العبادية وآلة للتمييز بين الأشياء، والحجة تقوم عليه حتى مع دعوى النسيان والسهو في الضروريات، لأن نسيان الضرورة يعتبر في عقيدة التوحيد تقصيراً وذنباً، كما أن الوظائف العبادية منبسطة على جميع أيام التكليف مع الإعانة واللطف الإلهي بالآيات في النفس والآفــاق، وهو مـن المســائل المتعلــقة بمجــيء الفـعل [ يَنقُضُونَ ] بصيغة المضارع، ففي كل آن من آنات الزمان تكتب الملائكة على الكافر السيئات والذنوب لإختياره المعصية مما لا يصدق عليه موضوعاً انه نسيان لعالم الذر ، ويتجدد العهد في كل ساعة بتعدد الآيات والنعــم بالإضــافة إلى التبليغ من قبل الأنبيــاء وأتباعهم.
علم المناسبة
جاءت مادة “نقض” في تسع آيات من القرآن، جاءت واحدة كمثل للذين ينقضون إيمانهم بعد توكيدها، وفيه شاهد على ما جاء في الآية السابقة من ان الله عز وجل [لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا]( )، بالمثل بامرأة أقبلت على ما غزلته وأبرمته في النهار، فجعلته قِطعاً صغاراً، وخلطت الصوف من جديد ليغزل من جديد.
وقيل هي ربطة بنت سعد بن تيم، وكانت خرقاء إتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة الى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن.
إذ جاءت الآية محل البحث في ذم الذين نقضوا عهد الله من بني إسرائيل، فقد جاءت آية أخرى بذات المعنى( )، وجاء ذم للذين ينقضون الميثاق مطلقاً من غير تقييد بأمة مخصوصة في سورة الرعد( ).
وجاء ذم للذين ينقضون من عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ]( )، والتي نزلت في بني قريظة الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان لا يمالئوا عليه، فنكثوا بأن قدموا لمشركي قريش السلاح، وقام كعب بن الأشرف بمحالفة أهل مكة، وقالت قريظة: نسينا وأخطأنا، ولكن لما زحفت قريش ومن معها في معركة الأحزاب عاهدهم بنو قريظة ونكثوا العهود .
ومن الدلالات ان يأتي ذكر الميثاق والعهد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آيات القرآن مع ذكر ميثاق الله مع إتحاد الجهة التي نقضت العهد.
وإن تباينت الأجيال وفيه دعوة لبني إسرائيل للتوبة والإنابة وإجتناب نقض العهود مع النبي، وكأن العهد مع النبي عهد مع الله عز وجل لمقام النبوة، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يعقد الميثاق إلا بإذن من الله عز وجل، وهو من عمومات [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وجاءت آية في مدح المؤمنين قال تعالى [الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ]( )، حتى ذكر صفات حميدة لهم منها صلتهم الرحم، والخشية من الله عز وجل والخوف من عذاب يوم القيامة، وتحليهم بالصبر طلباً لمرضاة الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى [ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أن يُوصَلَ ]
من صفات الفاسقين الجفاء والعقوق والجحود والمعصية بقطع ومخالفة ما أمر الله عز وجل به من الأوامر الواجبات التي أمر الله عز وجل بها:
الأول: الإيمان بالله والملائكة والنبيين.
الثاني: التصديق بنزول القرآن من عند الله.
الثالث: إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: التقيد بأحكام الشريعة بإتيان الفرائض وإجتناب النواهي.
الخامس: أمر الله تعالى بصلة الرحم ومودة النبي وأهل بيته والمسلمين التي إستبدلها الكفار بالبغـضاء والقطيعة.
إن الإمتثال والطاعة والصلة بما أمر الله تعالى بصلته طرق موصلة إلى عبادة الباري عز وجل.
وفي الآية إخبار عن تفضل الله تعالى ببيان أحكام الشريعة وإحاطتها بدقائق الأمور والأفعال، فجاءت هذه الآية لتوكيد الفرائض والعبادات، ولزوم تعاهد أسباب الأخوة والمودة والمحبة الإيمانية لأنها مقدمات لتثبيت الإسلام، وبرزخ دون تعدي الظالمين، كما أن أواصر الأخوة الإنسانية بين عموم البشر مناسبة لنشر مبادئ الإسلام وفرصة سانحة للإنصات لآيات القرآن والتدبر بمضامينه القدسية، والجحود والعناد حائل دون رؤية الآيات الحسية والإعتبار من الآيات العقلية ومنها القرآن.
وتبين الآية خوف الكافرين من أسباب المعرفة وإختيارهم العزلة ومحاربة الذي ينتمي للإسلام، وإن كان قريباً لهم ومنهم، وتربطه وإياهم صلة الرحم.
تفسير قوله تعالى [ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ]
يبين هذا الشطر من الآية صفة منكرة من صفات الفاسقين الذين إستحقوا عند الله عز وجل الضلالة، وهي انهم يشيعون في الأرض الفاحشة وينشرون الفساد، ويحجبون الناس عن الصلاح وسبل النفع والرشاد والهداية، ويأتون بما يتعدى ضرره إلى غيرهم أيضاً، وما يترتب عليه الفساد فينسب إليهم كسبب قد يبقى أثره , وإن كانت أيامهم في الحياة الدنيا قد إنقضت.
وفي الآية إشارة إلى الملازمة بين الجحود والفساد في الأرض، فالإعوجاج والإنحراف الفكري يقود إلى الفساد، لذا فإن أداء الصلاة مناسبة للصلاح، وحرز ونهي وردع عن الفواحش.
وفي الآية تحذير للذين يستخفون بالمثل القرآني، وعموم مضامين آيات القرآن، ودعوة للتصدي لهم، ومنعهم من التمادي في الفساد ونشر الضلالة.

 

تفسير قوله تعالى [ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ]
أي أهلكوا أنفسهم وضلوا دروب النجاة فخسروا الحياة الدنيا، ولم يستثمروها بالعمل الصالح، وألقوا أنفسهم بأيديهم إلى الجحيم والعذاب الأخروي، وخسروا النعيم الخالد في الجنة ليكون سوء عاقبتهم حسرة دائمة عليهم.
والآية الكريمة توبيخ للكفار والمشركين وفضح لهم وتشخيص لأفعالهم القبيحة، وفيها إخبار عن خسارتهم لحسناتهم في الدنيا لأن الكفر يحبطها، وهي أيضاً درس للمؤمنين وتسليح لهم بتعريفهم بأحوال الذين يجحدون بآيات الله، ويثيرون التساؤل المتصف بالحيرة والتردد والخصومة والمنبعث من مواضع الريب، والبعيد عن الإيمان والهداية والإستجابة، لكي يحذرهم المؤمنون ولا يتأثرون بهم ولا تضعف عزائمهم لما عليه أهل الضلالة والغواية من الشك والإختلاف.
وقد وردت ألفاظ الآية ذاتها في سورة الرعد مع إختلاف في الخاتمة [أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] فقد ورد في سورة الرعد [أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] ( ) مما يدل على عدم إنحصار خسارة الكافرين في الآخرة بل تشمل الحياة الدنيا، وأن اللعنة تطاردهم وهم مبعدون عن رحمة الله، وتكون مضامين سورة الرعد، وما فيها من العموم شاملة للمقام.
***********

 

 

قوله تعالى[ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ] الآية 28.
الإعراب
كيف: اسم إستفهام مبني على الفتح في محل نصب على الحال ، تكفرون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل، بالله: جار ومجرور متعلقان بتكفرون.
وكنتم: الواو حالية، وقد مقدرة بعدها بإعتبار قاعدة نحوية وهي إذا كانت الجملة حالية فلابد من قد ظاهرة أو مقدرة .
كنتم: كان وإسمها، أمواتاً: خبر كان منصوب، فأحياكم: الفاء حرف عطف، أحيا: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى الله تعالى، الكاف: مفعول به.
ثم: حرف عطف للترتيب والتراخي، يميتكم: فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى الله، ثم يحييكم: معطوف على ما تقدم
(ثم إليه ترجعون)
ثم: حرف عطف.
إليه: جار ومجرور متعلقان بترجعون، ترجعون: فعل مضارع مرفوع، والواو: فاعل.

 

في سياق الآيات
بعد أن بينت الآيات السابقة قبائح أهل الضلالة والكفر العقائدية وسوء أفعالهم جاءت هذه الآية لتحمل لغة التوبيخ والإستنكار لأصل هذه القبائح وهو ما اختاروه من الكفر الذي يعتبر مصدر الإنحراف .
وذكرت الآية السابقة بعض الخصال القبيحة للكفار ولكن الآية قبل السابقة وصفتهم بالكفر بقوله تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا] لتبدأ هذه الآية بالسؤال الإستنكاري الذي يتضمن التوبيخ والإخبار عن إنعدام علة إختيارهم الكفر والجحود باعتبار أن الإنسان مخلوق لله، ومحتاج إلى رحمته، على نحو الإستدامة وفي النشأتين.
ومن الإعجاز أن تأتي الآيات بصيغة الجمع لإشتراك الكفار بالجحود، ولأن النعم الإلهية عليهم عظيمة ومتصلة ودائمة، وفيها تذكير بعودة الناس جميعاً إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
وجاءت الآية التالية بياناً لفضل الله تعالى على الناس جميعاً، ومنهم الكفار بنعمة خلق الأرض للناس، وقال سبحانه [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض] ( )وفيه دليل على أن الخزائن والكنوز التي في الأرض هي للإنسان ومن أجله، وأن الله تعالى يعلم أنه سيجعل الإنسان خليفة في الأرض قبل أن يخبر الملائكة بموضوع الخلافة، كما في الآية بعد التالية [اني جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً] ( ), ولابد أن يهبط آدم عليه السلام نبياً إلى الأرض وتعيش ذريته فيها وتأكل من طيباتها فضلاً ورحمة من الله تعالى عليهم.
إعجاز الآية
في الآية دعوة إلى الإسلام بصيغة اللوم والتبكيت للكفار، ومخاطبة العقول، وأن الله عز وجل جعل العقل عند الإنسان لمخاطبته حتى في حال إنحرافه وغرقه في تيه وضلالة.
وتبين الآية مراحل مركبة من الحياة والموت، وأسرار الخلق والبعث وعظيم قدرة الله تعالى.
ويمكن تسمية الآيةالكريمة بآية (كيف تكفرون) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية وورد بالعطف (وكيف تكفرون) في آية أخرى( )، ولم يرد لفظ (فاحياكم) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
كما أن الآية توبيخ لأهل الضــلالة وتحذير من الكفــر وأهله فإنها مدرسة عقائدية تبين العوالم المتعددة التي يمر بها الإنسان مما يستلزم حسن الطاعة.
وجاءت الآية خطاباً ولوماً للكفار إلا أنها تتضمن المدح والثناء على المسلمين لفرارهم إلى الله، ونجاتهم من الكفر، وإجتنابهم الجحود من الضلالة وإذ نظر الملائكة إلى الكفار وهم ويفسدون في الأرض، فقالوا كما في الآية بعد التالية [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) فإن الله عز وجل تفضل بهداية المسلمين إلى سبل الإيمان، وتعظيمهم لشعائر الله، ومحاربتهم للفساد والمفسدين، ومن وجوه محاربتهم للفساد تلاوتهم لهذه الآية وعداوتهم للكفار.
والآية حجة بيد المسلمين في بيان فضل الله تعالى على الناس جميعاً، وقبح فعل الكفار وضلالتهم.
ومن خصائص الإنسان الإجتهاد في طلب الرزق والكسب والضرب في الأرض، فجاءت هذه الآية لتخبر بأن الله تعالى هو المنعم، وكل ما في الأرض منه سبحانه ليكون ذكره تعالى حاضراً في الوجود الذهني عند السعي ورجاء الرزق والسعة فيه، وهذا الحضور مناسبة للتوجه بالشكر لله ليكون الشكر سبباً لزيادة النعمة، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الآية لطف
تبعث الآية الكريمة النفرة في نفوس المسلمين من الكفار الذين يصرون على الجحود وينكرون الربوبية ويكذبون بالتنزيل، وتؤكد موضوعية التصديق بالتنزيل، وتدعو للتدبر في الحياة الدنيا، والمواظبة على العبادات من أجل النجاة يوم الحساب.
إن التذكير بالموت وسيلة مباركة للموعظة، وجاءت هذه الآية للتذكير به وبما بعده، وبأهوال يوم القيامة.
مفهوم الآية
إعتماد صيغة السؤال الإستنكاري للذم والتقبيح، وهو دعوة للهداية والإيمان وتسخير العقل للإستدلال على لزوم شكر الله تعالى على توالي النعم.
وتظهر الآية عدم إمكان الإستغناء عن فضل وإحسان الله سبحانه في أي مرحلة من مراحل الإيجاد والخلق، وإستدامة الحياة لما بعد الموت إذ أن إخبار الآية عن الحياة بعد الموت مدرسة أخلاقية وعقائدية تدعو الناس إلى الإستعداد لأهوال ما بعد الموت.
ومن مفاهيم الآية أنها مدح للمسلمين لنبذهم الكفر وإختيارهم الإيمان، وفيها إخبار عن إستحقاق الكفار للذم لأنهم لم يجعلوا للعقل موضوعية في إختيارهم.
والمراد من الخطاب الكافرون وليس الناس جميعاً، بقرينة موضوع الخطاب وهو الذم على الكفر.
وتخبر الآية عن إنتفاء أسباب الكفر، وأن الشواهد والبراهين كلها تؤدي إلى الإيمان، وهذا من الآيات التي جعلها الله في الإنسان متحداً ومتعدداً.
وذكرت الآية ثمان مراحل كل واحدة منها علة مادية للعبادة ولزوم الإمتثال لأوامر الله تعالى وعدم الكفر، وهذه المراحل هي:
الأولى: أصل الانسان هو العدم وأنه حادث، وكل حادث ممكن محتاج.
الثانية: خلق الانسان وبعث الروح فيه بمشيئة وإرادة الله تعالى، ولا يقدر على خلقه إلا الله.
الثالثة: مرحلة إستدامة الحياة وبقاء الإنسان حياً مدة عمره.
الرابعة: الإماتة وزهوق الروح ومغادرة الحياة.
الخامسة: إستدامة مدة عالم البرزخ، والصيرورة في القبر إلى حين البعث.
السادسة: البعث والنشور.
السابعة: الرجوع إلى الله تعالى والوقوف في مواطن يوم القيامة للحساب.
الثامنة: إنقسام الناس في الآخرة إلى فريقين، فريق في الجنة، وفريق في النار.
وفي الآية مسائل:
الأولى: إنتقلت الآية من لغة الغائب إلى لغة المخاطب، إذ توجهت إلى مخاطبة الفاسقين الذي يكذبون بالمثل القرآني ويكفرون بالتنزيل.
الثانية: ذم الفاسقين بالإستفهام الإنكاري، وبيان قبح فعلهم وإنكارهم الآيات.
الثالثة: الإحتجاج على الكفار بانهم كانوا أمواتاً وعدماً وأن الله عز وجل هو الذي بعثهم وأحياهم.
الرابعة: تخبر الآية عن حتمية الموت، وأن هذا الموت ليس مسألة تتعلق بالدهر أو الأسباب الدنيوية المادية المحضة، بل أن الموت لا يتم إلا بأمر من عند الله.
الخامسة: مغادرة الدنيا بالموت ليس خاتمة لوجود وذات الانسان بل هي خاتمة للحياة الدنيا، فبعد الموت يبعث الله الناس ويحييهم من جديد، وفيه تحذير للكافرين وإخبار عن عالم الحياة بعد الموت.
السادسة: رجوع الناس عامة والكفار بصورة خاصة إلى الله تعالى للوقوف بين يديه للحساب.
إفاضات الآية
يعتبر الإيمان ضرورة من ضرورات الحياة وهو مادة دوامها، ومصداق الشكر له تعالى على نعمة الخلق والإيجاد وإدراك حتمية الرجوع إلى الله وسيلة لإصلاح الذات وتوجه النفس للعبادة، والإستعداد للقاء الحتمي، وما يعنيه من الحساب والجزاء بقسميه الثواب والعقاب.
وتبين الآية الإرتقاء العلمي عند المسلمين وبلوغهم مرتبة في الكمال الإنساني بالإقرار بالربوبية لله، كما تظهر الآية جانباً من المعرفة الإلهية وبيان أسرار الخلق لتكون عوناً على الصلاح والإصلاح ونبذ الفساد.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاء الخطاب في الآية عاماً، والمراد الكفار الذي يردون المثل القرآني وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويخالفون أمر الله، ولا يسعون في سبل الخير والمعروف، لتتضمن الآية اللوم والتوبيخ لهم، على سوء فعلهم وإصرارهم على الكفر والجحود.
ويحتمل قوله تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ] وجهين:
الأول: التوبيخ والتبكيت على الشرك والجحود.
الثاني: التعجب من قبيح فعل الكفار.
ولا تعارض بين الوجهين للتداخل بينهما في المعنى وإتحاد الموضوع، فإن الكفر أكبر الكبائر، وهو قبيح ذاتاً وعرضاً، وخلاف الحكمة والعقل.
إن الآية القرآنية تلاحق الكفر، وتغزو الكفار في عقر دارهم، وتدخل إلى منتدياتهم، وتطرق أسماعهم قهراً لتكون حجة عليهم، ودعوة إلى الهدى.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب والجمع ليكون الخطاب إنحلالياً يصل إلى كل كافر ومشرك، وفيه شاهد على ما للآية القرآنية من الأثر والتأثير على الناس جميعاً.
ومن أسماء الله تعالى (المنّان) وهو الذي يمن على عباده، ويذكرهم بنعمه وفضله عليهم ليكون هذا التذكير مناسبة للتوبة والإنابة والشكر له تعالى، وجاءت هذه الآية لبيان مراتب الخلق والبعث على وجوه أربعة:
الأول: الإخبار عن أصل الإنسان وأنه كان معدوماً، وجاءت الآية بصيغة الجمع، وفيه مسائل:
الأولى: الإخبار بأن كل إنسان كان عدماً، فالآية وإن جاءت خطاباً وذماً للكفار إلا أنها تتعلق بجنس الإنسان وأصل الخلق.
الثانية: منع الوهم بأن الإنسان إرتقى من مخلوقات أخرى، وجاءت الآيات بالإخبار عن خلق آدم في الجنة، في دلالة إلى لزوم التنزه عن دعوى تطور الإنسان من مخلوقات أدنى منه رتبة.
الثالثة: إلتقاء الآباء وإن علو، والأبناء وإن نزلوا بحقيقة الإيجاد من العدم، وقيل: إنهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ، يعني نطفاً ، فأحياهم الله ، ثم أماتهم الموتة التي لابد منها( )، ونسبه الرازي إلى قتادة( ).
ولكن الآية أعم، وتتعلق بأصل خلق الآباء والأبناء جميعاً، وصحيح أن الموت أمر وجودي وحق من الله قال سبحانه [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ]( )، ولكنه ضد الحياة، ويأتي بمعنى السكون والنوم، في الآية ما سبق الخلق، ولعل فيه إشارة إلى عالم الذر، الذي كان فيه الناس قبل خلق آدم، ولكنه لا يمنع من المعنى الأول، وهو عدم وجود الإنسان في الأصل لأن الله تعالى هو الأول والآخر، فليس من قديم إلا واجب الوجود، ومن الإعجاز أن الآية لم تصف الناس قبل الحياة إلا بالموت .
الثاني: نسبة بعث الحياة في الناس إلى الله تعالى، وهو المنعم على الخلائق بالخلق والحياة، وهل يشمل الموضوع الذين سبقوا نزول القرآن بالإستصحاب القهقري إلى أبينا آدم عليه السلام، الجواب نعم , فإن أصل الخلق واحد وهو العدم لأن تعاقب الأجيال من الناس ليس من اللامنتهي بل له بداية ونهاية.
والبعث والحياة آية من عند الله، لا يقدر عليها غيره سبحانه، قال تعالى[َ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ).
الثالث : مغادرة الأروح للأجساد، وإنعدام حركة الإنسان، وغيابه قهراً عن الدنيا بوقت معين يجهله ذات الإنسان، قال تعالى[فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الرابع : البعث النشور بعد الموت، والوقوف بين يدي الله للحساب ليكون مقدمة للجزاء أما للجنة وأما للنار.
وجاءت الآية لبيان نعمة الخلق من وجوه:
الأولى: آية خلق الإنسان وما فيها من الدلالة على بديع صنع الله.
الثانية: خلق الإنسان من العدم.
الثالثة: بعث الحياة في الإنسان.
وبين الخلق والحياة عموم وخصوص مطلق، فكل حي مخلوق، وليس كل مخلوق هو حي، فمن المخلوقات ما لا يكون له نمو ولا حياة كالمعادن، ومنها ما يتصف بالتغذية والنمو وهو النبات , قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا]( )، وتدل لغة الخطاب على تفضيل الإنسان على عالم النبات والحيوان من وجوه:
الأول: قدرة الإنسان على فهم الكلام.
الثاني: تلقي الإنسان للخطاب التكليفي.
الثالث: تفضل الله بإنزال القرآن رحمة بالناس جميعاً.
الرابع: الآية شاهد على أن حياة الإنسان تختلف عن حياة عالم النبات والحيوان، مما يجعل عبادته لله تعالى واجباً.
الخامس: أهلية الإنسان للقيام بوظيفة الشكر لله.
وهذه الوجوه كلها نعم من عند الله تعالى، فجاءت هذه الآية لتوبيخ الكفار بلغة الحجة والمنّ وبيان النعم، فمن وجوه الإعجاز في الصلة بين مضامين الآية ذكر الحياة كنعمة مستقلة، وجاء هذا بعد الموت والعدم، لبيان عظيم قدرة وسلطان الله تعالى .
ولم تقل الآية (وكنتم أمواتاً فأصبحتم أحياء) بل قالت [فَأَحْيَاكُمْ] لنسبة الحياة والبعث ونفخ الروح إلى الله تعالى، وهو وحده القادر عليها دون غيره، وعلى فرض إيجاد إنسان مستقبلاً بالإستنساخ والمختبرات فهل يشمله الخطاب وأن الله تعالى هو الذي أحياه بعد أن لم يكن شيئاً، الجواب نعم، فبعث الحياة لا يكون إلا من عند الله تعالى ولو بالوسائط التي هي من فضل الله، ومما علّمه للإنسان.
الثالث: إذ جاء موضوع الموت والإحياء بصيغة الماضي [كُنتُمْ أَمْوَاتًا] [أَحْيَاكُمْ] جاء موضوع الإماتة بصيغة المضارع مع حرف العطف [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ] الذي يفيد الترتيب والتراخي، وفيه بشارة طول العمر لمن يتلو ويسمع القرآن.
فمن إعجاز هذه الآية إلإمهال للناس وطول الأعمار، والحلم الإلهي على الكفار، فلم تقل الآية فأحياكم ويميتكم، بل جاءت بحرف العطف والترتيب والتراخي [ثُمَّ ] للدلالة على الفترة وثواب السابق من فعل اللاحق من الذراري والمؤمنين عموماً، فإن قلت لماذا لم تقل الآية (ثم أحياكم) بل جاءت بقوله تعالى [فَأَحْيَاكُمْ] والجواب من وجوه:
الأول: جهل وعدم علم الإنسان بما تقدم من الأحقاب وأفراد الزمان الطولية.
الثاني: إن المدة ما بين الموت الأول والحياة أقل وأقصر لذا جاءت بحرف العطف الفاء [فَأَحْيَاكُمْ] كما يقال: تزوج فولد له، أي ليس من فترة بين الزواج والولادة إلا مدة حمل الزوجة وهي تسعة أشهر، وكما على القول بأن المراد كنتم نطفاً في أصلاب آبائكم وبطون أمهاتكم، والنطفة موات.
الثالث: مدة حياة الناس في عالم الدنيا أطول من مدة بقائهم في عالم الذر.
والصحيح هو الأول، ولا يتعارض معه الوجهان الآخران.
وجاءت الآية بصيغة الجمع[ثُمَّ يُمِيتُكُمْ]في دلالة على أن كل الناس يموتون ، ولايبقى منهم أحد ، قال تعالى [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
ولكن الآية تبين طول الفترة بين نزول القرآن وبين إستدامة الحياة البشرية على الأرض بلحاظ حرف العطف (ثم) في قوله تعالى [ثُمَّ يُمِيتُكُمْ].
الرابع: ذكرت الآية الفرد الرابع من الإرادة التكوينية في الناس جميعاً، وهو بعث الناس من جديد بعد الموت في عالم النشور بقوله تعالى [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ].
ويدل ورود (ثم) في المقام على طول الفترة بين الموت وبين النشور، وهذه الفترة هي عالم البرزخ.
الخامس: جاءت خاتمة الآية لبيان رجوع الناس جميعاً إلى الله تعالى، ووقوفهم بين يديه للحساب، وهذا الرجوع أمر حتمي وقطعي لايتخلف عنه أحد، فكما يشمل الموت الناس جميعاً، ولا يستثنى أحد منه، فكذا بالنسبة للإحياء والبعث من الموت، فكل الناس يبعثون ويرجعون إلى الله تعالى.
وجاءت الآية بذكر الرجوع ولكنه يتضمن الإشارة إلى عالم الحساب والجزاء والجنة والنار، وتقدير الآية بالإحتجاج الإنحلالي على وجوه:
الأول: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً.
الثاني: كيف تكفرون بالله وهو الذي أحياكم.
الثالث: كيف تكفرون بالله وهو الذي يميتكم.
الرابع: كيف تكفرون بالله الذي يحييكم بعد موتكم.
الخامس: كيف تكفرون بالله الذي إليه ترجعون، كما يمكن تقدير الآية بلحاظ كل نعمتين من هذه النعم أو أكثر.
ومن الآيات الصلة بين أول وخاتمة الآية، لأن الجحود والكفر بالنعم الإلهية لن يترك سدى، فالناس جميعاً يرجعون إلى الله ليقفوا بين يديه للحساب ويرجون رحمته وعفوه، قال سبحانه [أن اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
وقد ذكرت الآية الموت بقوله تعالى [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ] وفيه وجهان:
الأول: إنه نعمة من عند الله.
الثاني: جاء ذكر الموت للإحتجاج على الكفار.
ولاتعارض بين الوجهين من وجوه:
الأول: الحياة الدنيا دار إنذار وإمتحان.
الثاني: التذكير الإلهي بالموت نعمة إلهية على المؤمن والكافر، أما المؤمن فإنه يرجو إقترابه من عالم الثواب، وأما الكافر فإنه يستعد للموت بالنفرة من الفواحش والسيئات.
الثالث: بيان قانون ثابت، وهو موت كل إنسان، وأن الله تعالى لم يخلق الناس إلا لعبادته , قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ),( ).
الرابع: في الآية رحمة بالناس، بأن يحذروا من الموت على الكفر، قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَانتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
الخامس: الآية موضوع لإحتجاج المسلمين على الكفار بأن يذّكروهم بالموت.
السادس: في الآية دعوة للمسلمين للصبر على أذى الكفار، من وجوه:
الأول: دلالة الآية على إنقطاع الحياة الدنيا، فلا يستطيع الكفار أفراداً وأمة وملة أن يبقوا فيها إلى أبد الأبد.
الثاني: الموت بداية عذاب الكفار، وثواب المسلمين.
الثالث: الحياة والموت بيد الله تعالى، ولا يقدر عليهما غيره سبحانه.
الثالث: من إعجاز القرآن عدم مجئ الإستفهام الإنكاري بخصوص النعم والطيبات في المأكل والمشرب والملبس، بل جاء بخصوص نعمة الخلق والحياة.
الرابع: في الآية تذكير بالبطش الإلهي بالكفار عند الموت بواسطة الملائكة، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ] ( ).
الخامس: تبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين من أهوال عالم البرزخ.
ومن الإعجاز في الجمع بين آيات القرآن أن السؤال الإستنكاري باسم الإستفهام (كيف) ورد بخصوص آيات القرآن، قال تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَانتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ]( ).
ورد عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ، قيل يا رسول الله وما جلاؤها ؟ قال : قراءة القرآن ، وذكر الموت” ( ).
إذ يذّكر القرآن القارئ والسامع بالموت، ويدعوهما للإستعداد له بالعمل الصالح، ويبين للناس جميعاً سبل السعادة الأبدية، ويطرد عن القلوب الغفلة والجهالة ، ويذّكر الأجيال المتعاقبة من الناس بأصل خلقهم وحدوثهم ، كما ورد في هذه الآية الكريمة بقوله تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا] .
وجاءت الآيات السابقة بالإخبار عن خلق الله تعالى للناس، ووجوب عبادته تعالى ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( )، وفيه دلالة على إرادة الأجيال السابقة وأنهم كانوا أمواتاً قبل خلقهم.
وفي الآية تذكير بعالم البرزخ والقبر , لأنها تدل على فترة ما بين الموت والنشور بدليل صيغة التراخي في قوله تعالى [ثُمَّ يُحْيِيكُمْ] وفيه تخويف وزجر للكفار، ودعوة لهم للإستعداد لما بعد الموت، وأن الموت ثم النشور ليس النهاية، فلابد من الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه، وهذا الرجوع ليس مجرداً بذاته، بل هو طريق للحساب ومناسبة للجزاء.
إن ذكر النعم الإلهية على الناس بخطاب موجه إلى الكفار بصيغة اللوم إنذار ووعيد من يوم القيامة وعالم الحساب.
التفسير الذاتي
بعد ذم الذين يجحدون بالمثل القرآني، ونعتهم بالفاسقين، وبيان ما يتصفون به من القبائح جاءت هذه الآية بصيغة الإستفهام الإنكاري في توجيه اللوم للكفار لسوء إختيارهم، وإقامتهم في منازل الضلالة.
ومن إعجاز الآية أنها تتضمن الذم والزجر عن الكفر بلغة الإحتجاج بالحال التي عليها الكفار بإعتبار أن خلقهم وإستدامة وجودهم هو نعمة من عند الله.
وتنسب الآية الموت والحياة لله عز وجل، وانه سبحانه يعلم بحال الناس قبل أن يولدوا، وبعد الممات، وله الملك والمشيئة في جميع الأحوال،وقد جاءت الآيات ببيان كيفية خلق آدم أبي البشر، وحتى إبليس عدو الإنسان والذي يسعى جاهداً لإغوائه إعترف بأن الله هو الذي خلق الإنسان، وخلقه من طين ليس فيه حياة، وورد حكاية عن إبليس في التنزيل [قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] ( ).
لقد جاءت الآية دعوة إلى الله ببيان عظيم قدرته في خلق الإنسان بلغة الإحتجاج والبرهان، وفيه إعجاز قرآني بأن تأتي أغراض متعددة للآية القرآنية في آن واحد.
وتبعث الآية الكريمة على التفقه في الخلق، ومعرفة إبتداء ونهاية الخلق، وأن الدنيا زائلة وفانية، وأن البعث والنشور أمر حتمي، وبينت الآية مراحل حياة الإنسان على وجوه :
الأول: لم يكن الناس شيئاً، والأصل عدمهم، والله عز وجل هو الذي خلقهم.
الثاني: بين الخلق والحياة عموم وخصوص مطلق، وقد جاءت الآية ببيان فضل الله على الناس وأنهم لم يخلقوا فحسب، بل خلقهم الله وبعث فيهم الحياة، وتختلف حياة الإنسان عن غيره من الخلائق بأن شرّفه الله عز وجل ونفخ فيه من روحه.
ليكون هذا النفخ وسيلة مباركة لهدايته وإيمانه، ومن يجحد تأتي هذه الآية لمخاطبته والإحتجاج عليه بالبرهان.
الثالث: جاءت الآية بصيغة الجمع، وهي إنحلالية إذ يتوجه اللوم للكفار على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، فيشمل اللوم كل جماعة وطائفة من الكفار، كما يشملهم كأفراد فلا يستثنى العامة والمستضعفون منهم، لأن خطاب التكليف بالإيمان عام لكل المكلفين.
الرابع: في الآية توبيخ للكفار، ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
الخامس: جاء لفظ (أحياكم) مرتين في القرآن، وجاء في سورة الحج [وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ]( )، في خطاب للناس جميعاً مع ذم الكفار، وفيه إشارة إلى أن الحياة نعمة من عند الله عز وجل، وأن المسلمين شاكرون لله نعمة الحياة بالإقرار بالربوبية له سبحانه.
ولو تم إيجاد الإنسان بواسطة إنشطار الخلية والإستنساخ ونحوه، فهل تشمله عمومات الآية الجواب نعم، من وجوه:
الأول: إنه كان ميتاً ومعدوماً.
الثاني: الحياة كلها وبعث الروح من عند الله.
الثالث: كل إنسان يرجع إلى آدم في البنوة.
الرابع: أصل الخلق والخلية الأم والمستنسخة من الإنسان، وهي نوع طريقية لوجود الإنسان وليس الولادة في رحم.
وقد خلق الله عز وجل آدم من غير رحم، وهل يدخل خلق الإنسان من الخلية والإستنساخ على فرض حدوثه، بعمومات قوله تعالى [وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا]( )، الجواب لا، إنه يلحق بالولادة في المقام، والمراد من الإحياء هنا في مقابل القتل الذي ذكرته الآية خطاباً لبني إسرائيل [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
وورد لفظ (يميتكم) أربع مرات في القرآن، وكلها جاءت بعد ذكر الإحياء والخلق، وتبين الآية أن موت الإنسان لا يتم إلا بأمر وإذن من الله عز وجل سواء كان الموت على الفراش أو القتل أو غيرها.
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تذكر الموت وحده بل ذكرت البعث والحياة من بعده لبيان أنه نوع طريق لدخول العالم الآخر، وإذ كان الإحياء في الدنيا تتعقبه الإماتة، فان الإحياء في الآخرة دائم ومتصل، وليس بعده موت أو فناء.
ومن إعجاز الآية أنها أختتمت بقوله تعالى [وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]فبعد الإحياء في الدنيا يأتي الموت، أما الإحياء في الآخرة فيتصل به الرجوع إلى الله عز وجل والوقوف بين يديه للحساب ونيل الجزاء.
وخاتمة الآية تحذير إضافي للناس، وحث على فعل الصالحات، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ]( ).
من غايات الآية
تبين الآية القبح الذاتي للكفر والجحود، ومخالفته لحكم الشريعة وإدراك العقل، وضرره على الإنسان في الدنيا والآخرة، وتدعو الناس إلى إتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة بالتصديق بالنبوة والتنزيل، وإجتناب الكفر والفسوق.
وشملت الآية أفراد الزمان الطولية الثلاثة بوجوه:
الأول: الدلالة على الماضي في قوله تعالى [كُنتُمْ أَمْوَاتًا].
الثاني: زمن الحاضر في قوله تعالى [فَأَحْيَاكُمْ] .
الثالث: المستقبل ، وورد في أمور ثلاثة:
الأول: إماتة الإنسان ومغادرته الحياة الدنيا.
الثاني: إحياء الناس جميعاً بالبعث والنشور.
الثالث: رجوع الناس إلى الله، والوقوف بين يديه للحساب.
الأمر الذي يستلزم إجتناب الكفر والجحود، ويؤكد إنتفاء المقتضي للكفر، ووجود المانع منه.

 

التفسير
تفسير قوله تعالى [ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ]
جاء الخطاب على نحو الإطلاق والقضية المهملة، إلا أن المسلمين وأهل التوحيد يخرجون منه بالتخصص لبيان موضوعه ، وهو الذم على الكفر والشرك بالإضافة إلى لحاظ سياق الآيات وأنها واردة في ذم الذين كفروا.
وكما كان خلق آدم آية وحجة على الملائكة في بديع صنع وعلم الله سبحانه بالغيب، فإن خلق آدم حجة على الإنسان مطلقاً في لزوم الإقرار بالربوبية والشكر على فضله تعالى.
بحث كلامي
الآية إستخبار تعجبي للتوبيخ والإحتجاج، ببيان حاجة الناس إلى واجب الوجود في خلقهم ووجودهم المسبوق بالعدم، وأن طرفي الوجود والعدم، أو الحياة والموت متساويان بالنسبة لكل إنسان ولا يترجح أحدهما إلا بسبب أو فاعل خارجي لأن سبب وجود الممكن إجتماع المؤثرات الخارجية أو توفرها، وسبب العدم فقدان وغياب تلك المؤثرات أي أن عدم السبب سبب العدم.
وفي إثبات الحاجة إلى الله تعالى في نعمة الخلق والإيجاد (قول الامام جعفر الصـادق لما سأله عبد الله الانصاري ما الدليل على أن لك صانعاً؟ قال: وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين، اما أن اكون صنعتها وكانت موجودة أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كان صنعتها وكانت موجودة فقد إستغنيت بوجودها عن صنعتها وإن كانت معدومة , فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئاً فقد ثبت المعنى)( ).
وفي الآية بيان عن حدوث العالم وكل حادث لابد له من محدث وأن الحياة والموت موضوع من خصوصياته الضرورية إستلزام الحركة والحدوث وهو دليل على الصانع.
إن إمتناع الوجود الإنساني لذاته يثبت حاجته إلى موجد خارج عنه، وليس من عالم الممكنات فيكون واجباً بالضرورة، ولذلك ترى المتكلمين والحكماء يتبعون هذا الطريق في إثبات الصانع.
وأستدل بهذه الآية على أن الكفر بإختيار العبد، ولم يخلقه الله تعالى فيه أو يجبره عليه، وهو صحيح لعمومات المنزلة بين المنزلتين ولوجود العقل رسولاً باطناً عند الإنسان.
وتدخل هذه الآية في هذه المنزلة والبرزخ الوسط بين المنزلتين، وكذا آيات الإنذار والوعد والوعيد، لذا فإن المقاصد الشريفة من الآية الكريمة لا تنحصر بالتوبيخ وحده، بل إنها تتضمن التنبيه والتحذير، وليس فيها ما يدل على اليأس من عموم الكفار، لذا جعل الله باب التوبة مفتوحاً.
(في قوله{براءة من الله ورسوله…} قال: حدَّ الله للذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاؤوا، وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ الحرم خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإِسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق ، وإن ذهب الشرط الأوّل{إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} يعني أهل مكة)( ).

بحث بلاغي
مع أن (كيف) تأتي في الأصل للسؤال عن حال الشيء وليس عن ذاته وحقيقته فإنها في القرآن هنا للتوبيخ والتنبيه والتحذير، ولكن هذا لا يعني حصرها بالإستخبار وانها ليست إستفهامية كما قالوا، وقد ذهب الراغب الأصفهاني إلى القول: (كل ما أخبر الله بلفظ (كيف) عن نفسه فهو إخبار عن طريق التنبيه للمخاطب أو توبيخ وأستشهد بهذه الآية)( ).
وهو صحيح، ولكن معاني القرآن تحمل على المعنى الأعم مع إمكانه، فيمكن حملها على الإستخبار والسؤال والتحقيق مع علمه تعالى بالأمر، وفيه إقامة للحجة والبرهان ولأنه نوع من المساءلة والحساب في الدنيا، ولما فيه من شفاء لصدور المؤمنين وعبرة وموعظة.
وتتفرع عن هذا السؤال مسائل منها :
الأولى : إنه يثير التعجب عند السامعين .
الثانية: فيه تأديب للجميع ورحمة خاصة على نحو مركب.
الثالثة: إنه دعوة للمخاطبين الذين ركبوا سبل الضلالة والكفر لإنذارهم ودعوتهم للتدارك.
الرابعة: فيه رحمة خاصة بالمؤمنين للإعتبار والرضا بما هم عليه من الهداية والإيمان.
الخامسة: فيه تقسيم للناس بلحاظ الإيمان أو الكفر فلا برزخ بينهما.
ومن وجوه الرحمة في الآية أنها تخفيف عن المؤمنين بما تبعثه في قلوب الكفار من الشعور بالتقصير والذنب والإنشغال بالنفس وإعطاء بعض الإنصاف لأهل الإيمان، كما أنها تنقل أحوال الكفار وشؤونهم إلى باريهم فكأنها تخبرهم بأن ذنوبهم وعنادهم إنما هو جحود وصدود عن مفاهيم العبودية، وتعد بالخلاف بينهم وبين المؤمنين في العقيدة والمذهب , قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
تفسير قوله تعالى [ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ]
بيان لخلق الإنسان من العدم ومعرفته من خلال الشواهد والوجدان بتعقب الموت للحياة قهراً وحتماً.
وهذه الآيــة من اللطــف الإلهــي، فالتذكير هنــا ليس من باب التعيير والإنتقاص بل من الإكرام والدعوة إلى الهداية والإيمان.
وكما جاءت النصوص بالحث على تذكر الموت وهو أعم من تمنيه، ولكنه مناســـبة لإستحضار أهوال الآخرة ، وإحتراز من التردي في الهلكة، جاءت هذه الآية لتشير إلى أمر مساو له في الأثر ومغاير له في التقدم والتأخر والبعد الزماني ليكون حجة وبرهاناً ودعوة للإنقياد إلى الأوامر الإلهية وإتباع الأنبياء والتصديق برسالة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال بعض علماء التفسير أن الموت هنا (انهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم يعني نطفاً فأحياهم الله)( ) وهو حسن ومن مصاديق الآية.
والظاهر أن المقصود أعم لاسيما وأن العرب يطلقون الموت على السكون، وأن الموت خلق من خلق الله وإن كان في ظاهره يدل على العدم. وكذلك يمكن أن يكون المقصود بالموت هنا بعد إحيائهم في عالم الذر وأخذ الميثاق [ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ]( ) خاصة مع القول بأن الموت يقع على وجوه عديدة كل فرد منها يقابل الحياة بما يناسبه من زوال القوة الحسية، أو القوة العاقلة، أو زوال القوة النامية في الجنس الحيواني بأنواعه.
ويتصور الموت في المقام على وجهين:
الأول: العدم الذي يســبق الحياة.
الثاني: الكـفــر الذي يسبق الإيمان.
وبما أن الآية توبيخ وذم للكفار فلابد من حملها على الخطاب للكفار وخـروج الوجه الثاني، لقرينة قوله تعالى ( فأحياكم ) فالآية بيان لعظيم فضل الله تعالى في أصل خلق الإنسان وإيجاده، وحصــر نعمة الحياة كمعلول مسـبب بإرادته تعالى، فكون الشـيء معلولاً يقتضي الحاجة إلى العلة والتأخر الزماني عنها.
وفي الآية إشارات عرفانية مطلقة أي تصلح أن تتوجه لعامة الناس، وقد يكون هذا القول جـديداً فالعرفان نوع علم خاص عند الذين يعتمدون صيغ التركيز والإلتفات إلى باطن النفس وليس من طريق الحواس والشــواهد، وإن لم تكن تبلغ مراتب الكشف وما يشبه الرؤيا وما يطلق عليه في الإصطلاح “العرفان العملي”، فالآية تحث على الإستدلال وتدعو الجميع إلى التأمل.
وهناك شواهد كثيرة تدل على إسلام نفر من الكفار بالإستدلال العقلي وحوادث حاضرة أو ماضية أو مستقبلية والتدبر في الآيات، ومنافع الآية لا تنحصر بالكفار بل تشمل المسلمين بزيادة إيمانهم وإتعاظهم وإعتبارهم من الكفار، وبالشعور بالعز والفخر لسبقهم للإيمان، وهي سبيل لرسوخه في نفوسهم.
بحث بلاغي
يقسم الزمان إلى تقديري وتحقيقي، وأستدل على الزمان التقديري بهذه الآية، ولكن وصف الموت لا يعني أن المراد منه ما يعود للزمان التقديري وإن كان الإنسان حينئذ عدماً ليس له وجود، فقد يراد من الموت معنى أخص يتعلق بما بعد عالم الذر.
ومع قولنا بأن الموت أمر وجودي إلا أن الموت المذكور في هذه الآية يحتمل أمرين:
الأول: وجودي بعد خلق الأرواح في عالم الذر.
الثاني: عدمي فيما قبله.
والأقرب هو تعلق الآية بعالم الذر بقرينة الخطاب النوعي العام الذي ينحل بعدد المخاطبين، وعلى كلا المعنيين تبين الآية فضل الله تعالى على الناس ببعث الحياة وأهميتها ولزوم أداء الفرائض والعبادات مما يستلزم الشكر لله تعالى.
تفسير قوله تعالى [ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثمَّ يُحْيِيكُمْ ]
كل إنسان يعرف أن الموت خاتمة لحياته، ولكن الآية جاءت للإخبار بأن الموت بيد الله تعالى وأن الذي يريد إطالة عمره عليه الإقرار بالتوحيد وسؤال الله عز وجل، وأنه سبحانه لم يخلق الخلق فحسب بل إنه يتعاهدهم وبيده مقاليد أمورهم وأنهم لا يستطيعون الإستغناء عن رحمته، إلى جانب ما في الآية من التوبيخ التعجبي للذين إختاروا طريق الكفر.
إنه برهان لبيان الفاعلية وما يسمى (ما منه الوجود) والنظر إلى طبيعة حركة ومراحل الإنسان وإنه لابد له من محرك غير ذاته ، وهو الله تعالى.
وفي الآية تذكير بالمعاد والحياة بعد الموت وضرورة الإستعداد لما فيها من الحساب وأن أهوالها تستحق التدبر والحكمة والمبادرة إلى الإيمان ونزع رداء الكفر.
وتدل الآية على نفي عذاب القبر، ولكن قوله تعالى [ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ] أعم من أن ينحصر بيوم القيامة، خصوصاً وأن عالم القبر يعتبر من عالم الآخرة، وأن ذكر الحياة بعد الموت جاء للأهم وهو البعث يوم القيامة، فتكون الآيات التي تتعلق بعالم القبر مفصلة ومبينة لهذه الآية، بالإضافة إلى التفسير والبيان الوارد في السنة الشريفة.
ووردت الآية للوعيد والتخويف فذكر فيها موضوع الإحياء بعد الموت لبيان القدرة الإلهية على العبد قبل حياته وأثناءها وبعد الموت، ولإتمام الحجة عليه وللموعظة، وفيها رد على الذين يقولون [ أن هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ]( )، وقد تدل الآية على حياة البرزخ بالتفكيك بين الإحياء والرجوع إليه تعالى.
تفسير قوله تعالى [ ثُمَّ إِليْهِ تُرْجَعُونَ ]
يكون الرجوع إلى الله عند البعث والنشور، وأن الموت وفناء البدن بعده وتفسخ أجزائه لا يعني خاتمة لحياة الإنسان بل أن الله عز وجل يجمع الناس جميعاً للحساب يوم القيامة، ومن كانت هذه نهايته كيف يختار الكفر.
وتبين الآية أنهم إختاروا الكفر بمحض إرادتهم وأن الله عز وجل لا يرضاه لهم، وأن الضلالة في الآية المتقدمة [ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ] غير الكفر ومنزلة دونه.
وقد ورد في الآية عن ابن عباس وابن مسعود أن معناه لم تكونوا شيئاً فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة)( ) .
كما قيل أن معناه كنتم أمواتاً يعني خاملي الذكر فاحياكم بالظهور ثم يميتكم عندما تقضى آجالكم ثم يحييكم للبعث)( ).
ولكن هذا المعنى بعيد ويحمل معاني المجاز , والقــرينة الحالية بخــلافه، والآية في بيان نعمة الحياة وموضوعية حالة الموت في ضرورة إجتناب الكفر ووجوهه , نعم الإيمان حياة .
وورد في الخبر عن الإمام الحسن العسـكري عليه السلام: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكفار قريش واليهــود: كيف تكــفرون بالله الذي دلكـم على الهدى وجنبكم إن أطعتموه الردى [ وَكُــنتُمْ أَمْــوَاتًا ] في أصلاب آبـائـكم وأرحام امهاتكم [ فَأَحْيَاكُمْ ] أخرجكم أحياء ثم يميتكم في هذه الدنيا ويقبركم ثم يحييكم في القبور[ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ] في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد ثم تحيوا للبعــث يوم القيامة ترجــعون إلى ما قد وعدكم من الثواب على الطاعات إن كنتم فاعليها، ومن العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها”

 

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn