الجزء الخامس
دراسات قرآنية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل القرآن هدى ونوراً وشفاء ووعاء سماوياً مباركاً لأحكام الشريعة وبياناً لما تفضل به في اللوح المحفوظ من الإوامر والنواهي وحجة وآية للتصديق بنبوة الرسول الإكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصلة دائمة بين السماء والأرض ومنبعاً للعلوم.
ولقد إجتهد العلماء في البحث والتفسير وسبر أغوار القرآن ولا زال الباب مفتوحاً، وذخائره تفيض بالكنوز والمعارف، لقد وصف الله تعالى الجنة وما فيها من النعم والفاكهة فقال سبحانه وتعالى[ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ].
كلما قطعت ثمرة حلت جديدة مثلها محلها، تلك النعمة موجودة وملموســة في القرآن تحسهــا وتدركها في كل آية وما فيها من الثمرات العلمية والعقائدية وتبرز إلى الخارج في كل مبحث شريف ودراسة مقارنة أو إستنباطية، وكان التدبر في آيات القـرآن طريق إلى ثمار الجنة تلك، والدنيا مزرعة الآخرة، وتــرى علوماً جديـدة ومسائل في مختلف أبواب العلوم تطل عليك بإشراقة ملكوتية أثناء الدراسة والبحث فضلاً من الله تعالى وآية إعجازية من آيات القرآن تتجدد وتتسع بمواصلة البحث بالإضافة إلى تشعبها مع الإكتشافات والعلوم المدنية الحديثة.
وبادرت متوكلاً على الله عز وجل بالشروع بالبحث الخارج التفسير في الحوزة العلمية إحياء لعلوم القرآن وتنشيطاً لدروس الحوزة الشريفة وأداء للوظيفة العلمية، وكانت الإفاضات الربانية جلية على هذا البحث موضوعاً ومنهجاً وأسباباً.
ويتناول هذا الجزء والذي يليه مباحث في علوم القرآن وإشراقات مما فيه من الفيض الالهي وهو مدخل كريم في أبواب علم التفسير، وحرصت على جعل هذه المباحث والمحاضرات بعيدة عن الخلاف وأسباب الشقاق، ومنحصرة بإحياء علوم القرآن وما تؤدي اليه جرياً وإنطباقاً من مضامين الوحــدة بين المسلمين وتعظيم الشعائر ونبذ الفرقة .
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون سور الموجبة الكلية الذي يجذب المسلمين جميعاً إلى مائدة السماء، لينهلوا مجتمعين ومتفرقين من خزائنه، ويقتبسوا من درره وفرائده، قال تعالى [لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ].
سلامة القرآن من التحريف
التحريف في اللغة هو الإمالة والعدول بالشيء عن موضعه، وتحــريف الكــلام تغييره عن مواضــعه، وفي الإصطلاح قد يقصد المعنى اللغوي وقد يراد منه التأويل بخلاف القصد والغاية والمعنى الظاهر المراد منه، وفي تفسير قوله تعالى[ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ].
قيل (أي يفسرونه على غير ما أنزل ويغيرون صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن المعنى أعم ويتعلق بذات الكلام كما هو ظاهر الآية والعموم لأن القرآن لم ينزل لأهل زمان دون زمان او يخص أمة دون أخرى بل هو متجدد ومستوعب للوقائع والأحداث في كل زمان ومكان، لذا إنفرد بخصوصية إعجازية وهي إحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث مع كونه محدوداً في حروفه وكلماته.
ورمي فرقة او مذهب بتحريف القرآن فيه مسألتان، صغرى وكبرى ، الصغرى : الطعن والتهمة بين المسلمين .
والكبرى : هي إنعدام موضوع التحريف العمدي والسهوي وغيرهما.
ويتسالم المسلمون على حفظ الله عز وجل للقرآن وعدم طرو التحريف عليه , ويدركون مجتمعين ومتفرقين المســؤولية في حفــظ القــرآن وتعاهده، وقاعدة تقديم الأهم على المهم بإجتناب إتهام الآخرين بالتحريف لما في هذا الإتهام من إساءة للقرآن, قال تعالى [وَلاَ تَنَابَزُوا بِالالقَابِ] ( ) ليكون من عموماته الزجر عن رمي طوائف من المسلمين بتحريف القرآن.
ولا بد من الإلتفات إلى القاعـدة الكليـة وهي إجماع المسلمين على عدم تحريف القرآن ولا عبرة بالقليل النادر وضـرورة جعلها من أساسيات وأولويات عملهم، ولا يمنع ذلك من التصدي للمقالات الباطلة إكراماً للقرآن، وأسرار الوحي، وهذه المسؤولية لا تنحصر بالعلمــاء فهي وظيفـة كل مسلم مسلمة خصوصاً مع هذا الإرتقاء النوعي في المدارك والعلوم ومراتب التحصيل، وينبغي لكل مسلم تعاهـد سلامة القرآن، وترك الطعن والرمي بتحريف القرآن من مقدمات الوحدة الإسلامية وأسباب طرد النفرة والكدورات بين المسلمين .
لقد شرّف الله سبحانه المسلمين فجعلهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ),ومن خصائص (خير أمة ) في المقام وجوه :
الأول : التنزه عن تحريف الكتاب النازل على نبيها.
الثاني : تعاهد وحفظ القرآن من التحريف والتبديل والتغيير.
الثالث : تلاوة آيات القرآن، وعدم تضييعه، وتتجلى هذه الآية بإعجاز في عبادات المسلمين بتلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب.
الرابع : المناجاة بالنهي عن رمي بعض المسلمين بعضهم الآخر بالتحريف، لأنه سالبة بإنتفاء الموضوع، فالقرآن المتوارث خال من التحريف، ويتلوه كل المسلمين.
وذكرنا في باب الفقه في موارد جواز الغيبة القدح في المقالات الباطلة وأن أدى إلى نقص في قائلها وهو موضوع صحيح الا أنه من جهة المحمول قد لا يصدق عليه أنه من موارد الغيبة الجائزة لأن الغيبة ورد عنها النهي مطلقاً قال تعالى[وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( )، وموارد الجواز لابد أن تحمل عنواناً غير الغيبة وأن مثل هذا المورد يخرج بالتخصص من عنوان الغيبة خصوصاً وأنه يتعلق بالأصل بالمقالة فيدخل مثلاً تحت عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء الحق وإماتة الباطل.
ومما يدل على تمام وكمال القرآن , وإنعدام التحريف فيه أمور :
الأول : النصوص الدالة على عرض الحديث النبوي على القرآن وطرح ما يخالفه، ومعرفة صحة الحديث بموافقة القرآن فلو لم يكن القرآن الذي بأيدينا تاماً وصحيحاً فكيف يكون القياس الوحيد لمعرفة المصدر الثاني في التشريع الإسلامي وهو السنة النبوية، فأحاديث العرض شاهد على خلو القرآن من التحريف, وفيه نكتة عقائدية وهي أن دلالة أحاديث العرض على عدم نسخ القرآن بالسنة, هذا النسخ الذي نسب إلى المشهور.
الثاني : الآيات القرآنية التي تدل على عدم حصول التغيير في القرآن كآية التدبر [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآن وَلَوْ كَان مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( )، فهذه الآية وان جاءت بصيغة الخبر إلا أنها تحمل معنى الإنشاء والتحدي، والخطاب فيها ينحل ويتوجه إلى جميع الناس فهو تثبيت لإيمان المسلمين، وتحد وتأديب للكافرين وأهل الجحود والضلالة.
الثالث : آية الحفظ [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ]( ).
لقد جعل الله تعالى القرآن نوراً يهدي للتي هي أقوم، وهو وسيلة الإحتجاج، وحجة دامغة.
الرابع : آية عدم طرو الباطل على القرآن, قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ) فتدل الآية على عصمة القرآن من الزيادة والنقيصة والتبديل والتحريف بعناية ولطف من الله تعالى .
الخامس : آية الجمع [أن عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنهُ]( ) وليس من حصر للآيات التي تؤكد سلامة القرآن من التحريف، وحرص المسلمين على عصمته، وتلك آية إعجازية في القرآن وأسرار بقائه غضاً طرياً كزمان تنزيله، ويجذب النفوس, ويبعث فيها معاني الإيمان.
السادس :دليل العقل اذ أن القرآن عماد الدين , والمصدر الأول للتشريع ودستور المسلمين في دار الحياة الدنيا.
السابع : مبادرة الصحابة إلى حفظ آيات القرآن حال نزولها، ودراستها، ومعرفة تفسيرها.
الثامن : حفظ المسلمين لآيات وسور القرآن ، ففي كل جيل من المسلمين ومن أيام التنزيل والصحابة هناك أمة تحفظ القرآن.
التاسع : رجوع عامة المسلمين إلى من يحفظ القرآن.
العاشر : عرض النسخ المكتوبة من الصحف على النسخ الأخرى، ومقارنتها, والإرادة العامة بلزوم التطابق بينها.
الحادي عشر : يدل تعدد القراءات، والتي تسمى بالقراءات السبعة، والقراءات العشرة على خلو القرآن من التحريف وحرص المسلمين على تعاهد حروفه وكلماته وآياته، من جهات :
الأولى : عدم وقوع التباين في تلك القراءات الا في كلمات معدودة.
الثانية : حصر المسلمين جميعاً للتباين في الحروف بتلك القراءات.
الثالثة : إنحصار الإختلاف بحرف من ضمن الكلمة لا يغير المعنى, كما في قراءة [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ] إذ أن في كفؤاً أربع قراءات , وعدم التفات أغلب المسلمين إلى تلك القراءات لإكتفائهم بما في المصحف الشريف .
الرابعة : إتفاق وإجماع المسلمين على أولوية القراءة المرسومة في المصاحف , مع إتحادها وإن تباينت الأزمنة والأمكنة وعمار الأرض.
الثاني عشر: شهادة الصلة بين آيات القرآن على الإعجاز في صدورها من عند الله وإنتفاء الإضطراب والتزاحم أو التعارض بينها لفظاً ودلالة وحكماً( ) .
الثالث عشر: أخبار المسلمين في التحقيق في لهجات العرب والدراسات المتصلة في المحسنات الصوتية من الترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار والفتح والإمالة والقلب والإشمام ومواطن الوقوف وشمولها لكل كلمات القرآن.
الرابع عشر: دلالة علم التفسير والتأويل على صدق نزول القرآن، لما فيه من تجليات الإعجاز، وتتبع علماء التفسير آيات وكلمات القرآن آية آية
وعلم الصلة هذا من اللامتناهي في كنوزه والمسائل المستنبطة منه
لقد تعاهد المسلمون القرآن حفظاً ودراسة وعناية، ومن إعجاز القرآن أن المسلمين في كل جيل يعتبرون أن من واجبهم حفظ القرآن، ومع أن الإعجاز في القرآن يتعدى موضوع البلاغة، فإن بلاغته وفصاحته تثبت بالواسطة أن يد التحريف لم تصل إلى القرآن مع أن اللغة العربية مملوءة بالمشترك اللفظي.
وتتصف الأحاديث القليلة والنادرة التي قد تدل في ظاهرها على دعوى النقص في القرآن بأمور :
الاول : ضعف السند إذ أن اغلبها يرجع إلى رجال ضعيفي الحديث او فاسدي المذهب او مجهولين , أو أنهم نعتوا في كتب علم الرجال بالكذب والتهمة او بالوقف أو وصفوا بالغلو.
الثاني : الوهن والضعف دلالة.
الثالث: ندرة وقلة تلك الأحاديث, وعدم عمل أي فرقة وطائفة من المسلمين بها.
الرابع: خلو الكتب المعتبرة عند عموم المسلمين وعند كل طائفة منهم من تلك الأحاديث .
الخامس: إعراض علماء الإسلام وعامة المسلمين عن تلك الأحاديث.
السادس: تنسب أغلب احاديث النقص في القرآن إلى جهة صدور جاءت عنها نصوص أخرى تؤكد سلامة القرآن من التحريف, ويمكن الإستدلال بالبرهان الإني العدول إلى الصلة على عدم صدور أحاديث التحريف عنها .
ولو تنزلنا وقلنا بالتعارض فإن الأصل والراجح والجلي هو القول بسلامة القرآن من التحريف, قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
وهناك قاعدة كلية في علم الحديث وهي أن الحديث اذا خالف الكتاب والسنة المتواترة والإجماع بدليل قطعي فلا بد من تأويله أو حمله على ما يناسبه والا فانه يطرح ويرجع به إلى أهله وإن كان صحيح السند، وعليه منهج الأصوليين والمحدثين وعليه إجماع المفسرين، ولا عبرة بمن شذ وخالف القول الثابت والمتوارث عند المسلمين بعدم وقوع التغيير في القرآن مطلقاً .
ويؤكد حديث الثقلين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي” ( )،بالدلالة التضمنية على بقاء وديمومة القرآن، وعدم تحريفه.
وبلحاظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن كثير من المغيبات فلا يمكن أن يأمر بشيء مستقبلي إلا وهو تام وكامل , والنصوص القائلة بالنقيصة إذا عرضت على القرآن تراها تحتاج إلى التأويل وأنها نفسها تتعلق بالتأويل والمعنى والتفسير وتدل على بعض أسرار القرآن وعجز الآخرين عن إدراك كنهه.
وهل كان هذا النقص المزعوم من الأحكام أم في باب الإعتقاد أم الأخبار .
ويدل إستقراء عناية المسلمين في أيام الرسالة بالآيات القرآنية حفظاً وتدويناً على ضبط القرآن آنذاك وعدم سقوط كلمة واحدة منه, وكذا الاعراض عنها بعد ثبوت عدم صحتها.
فلابد من تأويل أخبار التحريف، وينحل نفي التحريف في المقام إلى موضوعين :
الأول : إثبات سلامة وصيانة القرآن من التحريف.
الثاني : نفي الأخبار القائلة بالتحريف سنداً ودلالة.
إن ذكر أخبار النقيصة في بعض كتب المحدثين لا يعني بالضرورة أنهم ملتزمون بها او بالعمل بظاهرها، فليس في الكتب المعتبرة عند كل فرقة من فرق المسلمين ما يدل على التحريف والقول به، كما إن نقل الحديث لا يدل في باب الحجية على إتخاذ ناقله له عقيدة ورأياً نعم طرح تلك الأحاديث هو الاولى وحرص التابعين على العناية الفائقة بكلمات القرآن وضبط حركاته والإكثار من نسخه ونشرها في الأمصار من السمات التأريخية والرجالية والشواهد على تواتر وتوارث كلمات وآيات القرآن.
ووردت بعض الكلمات من قبل بعض الصحابة في القراءة , وعن الطبري حدثنا محمد بن المثنى، قال : ثنا محمد بن جعفر، قال : ثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال : في قراءة عبد الله ( وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى والنَّهارِ إذَا تَجَلَّى والذَّكَر والأنْثَى)( ).
وكذا نسب إلى ابن عباس أنه كان يقرأ : “حم سق” بإسقاط (العين) وهي قراءة الأعمش( )، فهل هذا تحريف، الجواب : ليس بتحريف والمدار على القرآن الذي بين أيدينا، ومثل هذه الكلمات موجودة في القرآن الذي نقرأه، والإسقاط على فرض صحة سنده قول نادر وأجنبي عن القرآن فلا يصدق أنه تحريف، بل هو قول متروك أعرض عنه المسلمون وتمسكوا بما في الكتاب.
لقد ذم الله الذين [ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ]( ) أي يميلونه عنها ويغيرونه لفظاً ومعنى، أو هما معاً، ويحملونه على خلاف الظاهر وما تدل عليه القرائن، لقد سعوا في كتم البشارات برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة وأرادوا كتم الحقيقة بتغيير المعنى والتأويل.
ومما هو متسالم وثابت واقعاً ووجداناً أن القرآن باق إلى يوم القيامة، والبقاء لا يكون تاماً إلا بحفظ الأجزاء والمفردات والكلمات وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في أجيالهم المتعاقبة بذلوا الوسع وأفلحوا في جعل القرآن أسمى تركة متوارثة.
وورد في تفسير قوله تعالى[إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَأنا لَهُ لحافظون]( ) أنها بشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإطمئنان له من تلاعب أهل البدع بالقرآن من بعده، ولابد من إعداد دراسة خاصة تتعلق بما تتضمنه السنة النبوية الشريفة بخصوص تعاهد القرآن وحفظ آياته وكلماته، وفي جمعه وسلامته من التحريف والتغيير لكي يبقى محفوظاً إلى يوم القيامة.
وهناك نكتة يجب الالتفات اليها بما يفيد الحصر في التحقيق وهي هل يتعلق موضوع التحريف بما بين الدفتين على نحو القضية في واقعة او السالبة الجزئية، ام أنه يخص غير آيات القرآن الذي بين أيدينا؟ بعبارة أخرى هل كلمات القرآن فيها تغيير أو تبديل ام أن المقصود بالتحريف ما هو خارج الدفتين.
وإجماع علماء المسلمين على سلامة القرآن الذي بين ايدينا أي أن موضوع التحريف لا يخص ما بين الدفتين , وعندها يهون الخطب ويقل ويتضاءل النزاع وتتضح الصورة اذ أن تجديد البحوث في موضوع تحريف القرآن فيه لبس وتضليل للناس خاصة وأن المتخصصين في العلم قليلون، ويتعلق موضوع التحريف جملة وتفصيلاً بما هو خارج عما بين الدفتين وفي نفيه إستدامة لوحدة المسلمين وقيام الحجة على المكلفين ودعوة للناس جميعاً لكي ينهلوا من القرآن وعلومه لأن كل كلمة فيه هي تنزيل من رب العالمين، وليس من قرآن غير هذا الذي بين أيدينا أسماً ومسمى ومن الآيات أن القرآن ينفرد بهذا الإسم، وهو علم عالمي يعرفه أهل الأرض بهذه التسمية.
وورد في بعض تلك الأخبار أنه نقص ثلث القرآن أو ربعه، ونقص أربعين إسماً في سورة تبت منها أسماء جماعة من المنافقين، ولكن لو كان لبان، وشاع بين المسلمين والأخبار ودوّن في الكتب , ولتنادى أولاد أبي لهب أن إسم أبينا ليس وحده في السورة بل معه فلان وفلان لاسيما وأنهم إشتكوا للنبي من إسماع الناس لهم بعض الكلام بهذا الخصوص.
وتلك أخبار آحاد لا ترقى إلى القطع والاخذ بها فطرحها أولى وذكر العدد إجمالا دون ذكر الاشخاص باب للتهمة والظنة وإثارة للأحقاد والضغائن، كما يمكن حملها على التأويل والتفسير والتخويف وأن باب التوبة مفتوح لذا كان الستر بينما جاء ذكر أبي لهب من علم الله عز وجل أن التوبة لن تدركه بالإسم والنعت وهو إعجاز قرآني , قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
ومن الإنصاف أن نقول وبما ينفع الحقيقة ، لماذا يذهب أفراد إلى الإحتجاج بأنه مع تقدير النقص او هذا التحريف لم يبق لنا إعتماد على القرآن ولبطلت حجته والإحتجاج به لأنها تكون على خلاف ما أنزل الله، وأن الفائدة منه مع التحريف غير تامة هم أرادوا الإشكال والرد على أولئك الذين قالوا بالتحريف، فصوروه اعم مما قيل، وأخذوه على نحو الاطلاق دفعاً للتهمة وتعريضاً بالقائلين به، ولكن ردهم لا يخلو من القصور إلا أن يكون لإقامة الحجة وإبطال الشبهة بإستحضار كبرى كلية وهي ثبوت حجية القرآن فلابد من بيان القصد ورفع اللبس.
ولا بأس بدراسة تحصر موضوع التحريف المزعوم وسند النصوص الواردة فيه وبيان ضعف رجالها وضعف الدلالة وتقييدها او تأويلها بما لا يتعارض وآيات القرآن والسنة النبوية الشريفة وهذا جزء من تحدي القرآن للتحريف، وهناك دراسات عديدة في هذا الباب بذل مؤلفوها جهوداً علمية جريئة في التحقيق ولكن الأمر يحتاج إلى المزيد بما يناسب وضرورة الذب والدفاع عن القرآن وإتباع منهجية جديدة مع التوسعة فيها، وتكون المناقشة والدراسة فيها على وجوه :
الأول : دلالة القرآن بذاته على خلوه من التحريف.
الثاني : ورود النصوص التي تؤكد سلامة وعصمة القرآن.
الثالث : دلالة علم الأصول على عصمة القرآن.
الرابع : كلمات وأقوال الصحابة وعلماء المسلمين عامة.
الخامس : مناقشة تلك الأخبار الضعيفة عقلاً وتأريخياً ووجداناً وعقائدياً مع عدم الطعن بفرق المسلمين.
وقد يكون من المناسب أيضاً تجاهل هذا الموضوع ونفيه بإثبات خلو القرآن من التحريف، خصوصاً وأن جميع المسلمين متسالمون على أن هذا القرآن خال من التحريف، وبذا يقومون بتعاهده.
ويساهم القول بالمعنى الأعم للإعجاز وبيان مصاديقه في طرد ونبذ وتفنيد القــول بتحريف القرآن وهو مدرســة جــديــدة في علوم إعجاز القرآن تبين سعتها وكثرتها وتعددها في كل ما يتعلق بعلوم القرآن.
وفي القرآن الذي جمعه الامام عليقال : ولقد جئتكم بالكتاب كملاً مشــتملاً التـأويل، فقد يكون الساقط هو التأويل او من الحديث القدسي ونحوه , وتولى الإمام علي الخلافة بعد جمع عثمان للقرآن فأقره ولم يضف له أو ينقص منه.
وترى المسلمين يحرصون على تجنب نعت بعضهم بعضاً بالتحريف لما في ذلك من الافتراء والإساءة إلى القرآن أيضاً، ولصعوبة تحققه واقعاً بعد ثبوت حقيقة وهي أن القرآن بين الدفتين.
وقداسة القرآن عند كل المسلمين معروفة وهي من ضروريات الدين وما تبتنى عليه عقيدتهم وأن آيات القرآن وظواهره حجة.
وفي كتب الفقه الاستدلالي ترانا نمتنع عن الإستدلال بالحديث الذي لا يوافق القرآن , ولا نأخذ به مدركاً ودليلاً، والقرآن الذي بين أيدينا جمع أيام النبوة والخلافة الراشدة اذاً ما هو الجمع؟ هل هو اكتمال السور ام الترتيب؟ اذا كان الأول فقد حصل في ايام النبوة وما بعدها مباشرة هو المتواتر تواتراً قطعياً عند عموم المسلمين.
وتم الجمع ايضاً أيام الخليفة أبي بكر الصديق وتم جمعه وتوحيده في عهد الخليفة عثمان، وأن هذا الجمع ليس فيه زيادة او تحريف وهو الذي بين أيدينا الآن .
وحينما تكون هناك قاعدة كلية وضابطة عامة فلابد من تأويل الأحاديث بما يتناسب معها، نحن نقول بعدم تبدل كلمة من القرآن
ولا نقول بمسالة الإنساء التي تذرع بها بعض الإصوليين لتوجيه ما ورد من ضياع بعض الآيات بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن الموجود بين أيدينا بجمع عثمان بعد أن أحرق المصاحف الأخرى.
وفي بسم الله الرحمن الرحيم منهم من قال أنها ليست من القرآن وأنها زائدة وأن عثمان اثبتها فيه على رأس السور فصلاً بين السورتين، وكثير من الصحابة بالإضافة إلى ائمة اهل البيت يجمعون على أنها من القرآن وجزء من كل سورة منها بل هي اشرف آية وفي هذا القول تعاهد للقرآن وتثبيت وإقرار بالكبرى الكلية وهي أن ما بين الدفتين قرآن.
وفي موضوع نفي التحريف عن القرآن ذب وصيانة للعقيدة والأحكام الشرعية، فالقرآن ميثاق السماء في الأرض وعلى فرض حصول تحريف للقرآن، فمتى وأين وكيف، ومن قام به ولماذا؟ بل أن السؤال الذي يتقدم هو هل يجرأ عليه احد؟
الجواب : لا، وعلى فرض وجود مثل هذا الشخص ممن نزغ الشيطان في نفسه فهل يستطيع فعله؟ هل يتمكن شخص او جماعة من إحداث تحريف في القرآن؟ الجواب : لا , لأن الحفظ والتعاهد الالهي للقرآن وحرص المسلمين على صيانته ودفع يد التبديل والتحريف عنه سد منيع وأمان دائم يجعل القرآن في حرز، والمسلمون لم يفتروا ساعة واحدة وفي كل بلدانهم عن تدارسه وقراءته وختمه ومتابعة وجوه تفسيره وتأويله.
وقد تتصدى بعض الأقلام بين الحين والآخر إلى هذا الموضوع وتأتي بروايات تتعلق في ظاهرها بالنقص في القرآن او عدم إحتوائه آيات معينة كانت نازلة، ولكن تلك التهمة وحيث يكون موضوعها القرآن والتحريف فيه لا أصل لها، وينفيها التأريخ والواقع، وفيه إيذاء للمسلمين وإرباك وتحد لهم في باب العقيدة وإن كان بالإمكان التفكيك بين المسألتين والإلتزام بحفظ وصيانة القرآن.
ويمكن القول ان تلك المسالة هي الكبرى ويلزم أعلام الأمة وأقطاب الشريعة التصدي للأقلام التي تسيء إلى القرآن بالواسطة أو بالعرض ومن غير قصد.
لابد أن يكون موضوع التحريف الموهوم هو هذا القرآن الذي تسالم عليه المسلمون وعلى ما بين دفتيه منذ أيام الإسلام الأولى، وعلى الباحثين في هذا الباب ألا يحصروا جهودهم في الذب عن مذهبهم وأن أصحابهم لم يحرفوا القرآن ويجمعوا على ما يظهر أن غيرهم هو الذي حرف في القرآن ويبحثوا في بطون الكتب ليأتوا ببعض الروايات التي يحاول أن يستقرأ من ظاهرها ما يدل على ذلك، ومقتضى الأصل أن وظيفتهم هي الذب عن القرآن وتوكيد سلامته من التحريف ويتفرع عنه جرياً وإنطباقاً تنزيه المسلمين جميعاً، لأن الملاك هو نصرة الحق وتثبيت الهداية في النفوس ومنع إتخاذ القــرآن آلة للفتنة , وقد أراده الله عز وجل رحمة وعزاً وسلاحاً ونصراً للمسلمين , وعنوان وحدتهم وفزع عدوهم منهم , وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وأعرض كبار العلماء والمفسرين عن التعرض للقول بتحريف القرآن الموضوع جملة وتفصيلاً لا عن عدم إكتراث والتفات أو غفلة وسهو بل عن تجاهل مقصود وورع في النفوس مغروس وللتسالم على عدم وجود تحريف في القرآن، وتدارك تلك الأخبار المؤمنون أحياناً بالتأويل والتوجيه وحالت العناية السماوية دون تفشي أضرارها ومادتها، وفيه إعجاز قرآني، وهو مصداق لحفظ الله تعالى للقرآن وعمل جهادي يثاب عليه أهل الايمان وحملة القرآن.
قال الامام الصادق عليه السلام : “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه”( ).
وصدرت أخبار العرض هذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عبرة بالقول الشاذ القائل بأنه لا تعارض بينها وبين حصول التحريف وسقوط بعض الآيات بعد أن إنتقاله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
لأن النصوص التي نصت على إرجاع السنة إلى القرآن وردت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في كتب المسلمين , وهي غضة حية في كل زمان عن الأئمة عليهم السلام أيضاً، وبضميمة أن القرآن الذي كان في أيامهم هو نفسه الذي في أيدينا الآن.
إن تلك النصوص وإبتداء من زمن النبوة تؤكد حجية القرآن وعدم حجية ما لم يقطع بأنه قرآن وما ليس بين الدفتين فلابد أن يكون العرض عليه كموجود متواتر قطعي الصدور وتدل عليه ايضاً قاعدة نفي الحرج، اذ كيف يكون التكليف بما لا يطاق , والقرآن بحضوره الدائم وهيئته وقراءته المتواترة بين المسلمين قاطبة ينفي النقيصة حينما تعرض عليه الأحاديث بإعتبار أنه الكتاب السماوي الذي [لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( ).
ومن ضرورات الدين التمسك بمحكـم آيات كتاب الله في العبادات والمعاملات وعدم الالتفات إلى مـا يعارضــه، والأقــوال التي تتعــارض مــع صيــانته وإجـلاله وحفظه.
وأخبار النقيصة في القرآن أخبار آحاد فلا تصلح للإستدلال فيما يستلزم القطع والتواتر بل ويتعارض معه ولابد من تأويلها فمثلاً قال عبد الله بن مسعود وهو من كبار الصحابة ومن الأوائل الذي جهروا بقراءة القرآن بمكة وكان يقوم بخدمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفقته في الحل والترحال والغزو، أن المعوذتين ليستا من القرآن، وكان يحكهما من المصحف ولم يأخذ المسلمون بهذا القول، وقد ورد بالاسناد عن الأمام الباقر عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “القرآن عرصة الإسلام”، وإن كان على نحو الإستعارة ويدل الحديث على أن القرآن هو الوعاء العقائدي لأحكام الإسلام وهو الجامع المانع , الجامع لأحكام الشريعة , والمانع من التحريف فيها , ليكون من باب الأولوية منعه التحريف عن نفسه.
وقال أصحاب عبد الكريم بن عجرد من الخوارج في أواخر المائة الأولى أن سورة يوسف ليست من القرآن , وأنها قصة عشق ولا يجوز أن تكون وحياً كما عن الملل والنحل، وعلى فرض صحة النسبة فلا إعتبار بقولهم هذا وقد فاتهم الالتفات إلى نظمها وما فيها من الإعجاز والدروس وتجرأوا على ما تسالم عليه المسلمون منذ أيام التنزيل بأنها جزء من القرآن.
وورد في حلية الأولياء بالإسناد عن رجل من أشجع قال : “سمع الناس بالمدائن أن سلمان في المسجد فأتوه فجعلوا يثوبون اليه حتى إجتمع اليه نحو من ألف، قال : فقام : فجعل يقول : إجلسوا إجلسوا، فلما جلسوا فتح سورة يوسف يقرؤها فجعلوا يتصدعون ويذهبون حتى بقى في نحو من مائة فغضب وقال: الزخرف من القول أردتم؟ ثم قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم”( ).
إن وجود إختلاف في كلمة أو حرف في بعض القراءات لا يعني تحريفاً كما في قراءة (وسارعوا) وأخرى (سارعوا) بلا واو( ).
إن الكتاب المعـد لنقــل الروايـة لا يعبر عن رأي صاحبه فاذا أورد خبراً بالتحريف فلا يعني أن صاحب الكتاب يقول بالتحريف إلا أن يتعهد صاحب الكتاب بصحة ما يرويه على الاطلاق تعهداً صــريحاً وشاملاً، وظهور تلك الأحاديث ظهوراً بيناً لا يحتمل تأويلاً أو وجوهاً أخرى، وعدم وجود معارض لها فيكون التساقط أو النظر بالرجحان.
أما القول بالزيادة في القرآن أي أن القرآن الذي بين ايدينا فيه زيادة غير منزلة فلم يقل به أحد من المسلمين ولا اعتبار بقول فرقة مندثرة، بل أن الموعظة تقرأ من حالهم وتجرأهم على القرآن، ولم يبق لهم الله أثراً.
والقول بتغيير كلمات القرآن لم يثبت وروده ولم يرد عن معصوم، فما بين الدفتين قرآن منزل وعليه الإجماع بل بضرورة من الدين، أما القول بالنقص في القرآن وهو موضوع التحريف المزعوم وقال به افراد وإستدلوا عليه بروايات تبين النقص في القرآن ولكن طريقها آحاد وهي لا تفيد العلم ونادرة أو شاذة ولابد من تأويلها، والإجماع سبق قولهم وتأخر عليه.
عن العلامة الحلي : الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه وأنه لم يزد ولم ينقص وأعوذ بالله تعالى من أن يعتقد مثل ذلك فأنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة بالتواتر.
وقال الصدوق قبل اكثر من الف سنة : إعتقادنـا أن القرأن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.
وبعدم التحـريف في القـرآن قال علماء الإسلام , وبه قال رؤساء المذاهب والشـيخ المفيد وهو معروف بورعه وكثرة الاعتماد على الأخبار بما في ذلك المحفـوف بالقرينـة، كما قـال به أيضــاً السـيد المرتضـى والشـيخ الطوسي.
والمتقدمون من الفقهاء والمفسرين لم يقولوا بالزيادة والنقيصة ولكن الخلاف نسب إلى علي بن ابراهيم بل هو مذكور في مقدمة تفسيره، والمقدمة ليست من إعداده بل كتبها ما قيل أنه تلميذه وهو العباس بن محمد والذي لم يوثق.
وإجماع المسلمين منذ عهد النبوة على أن ما بين الدفتين كلام الله, وهو خال من اللحن والغلط وعن سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس :
إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال : ما هو قال : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } وقال : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } وقال { ولا يكتمون الله حديثا } وقال : { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية وفي النازعات { أم السماء بناها } إلى قوله { دحاها } فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى : { طائعين } فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء وقال : { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى .
فقال ابن عباس : { فلا أنساب بينهم } في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الآخرة { أقبل بعضهم على بعض يتساءلون } وأما قوله { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وخلق الله الأرض في ويمين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما ينهما في يومين آخرين فذلك قوله : { والأرض بعد ذلك دحاها } فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام وخلقت السماء في يومين وقوله { وكان الله غفورا رحيما } يعني نفسه ذلك أي لم يزل ولا يزال كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ويحك فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله( ) .
أما موضوع النسخ فأنه لا يعني تحريفاً واذ ثبت أن الله عز وجل أسقطه من القرآن فهو إعجاز ولا يعد تحريفاً، لكن النزاع في الكبرى وهي كيف كان الطريق والدليل إلى إحتمال نسخ التلاوة وإعتقاد سقوط شيء من القرآن.
ووردت نصوص في بعض الكتب عن النقص في القرآن ، قال عبد الله بن عمر : “لا يقولن احدكم قد أخذت القرآن كله، ما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير”( )، وقالت عائشة : “كانت سورة الاحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر الا ما هو الآن”، والمدار على ما بين الدفتين.
بالإضافة إلى مسالة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، أي هناك آيات نسخت ورفعت ولكن حكمها لا زال باقياً.
عن هشام بن الحكم وغيره عن الصادق قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى فقال : “يا أيها الناس ما جاءكم عني يوافق القرآن فأنا قلته، وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله”( ).
وتتجلى في موضوع نفي التحريف عن القرآن موضوعية علم الرجال إذ أن الروايات التي تشير ضمناً إلى تحريف القرآن ضعيفة السند بالإضافة إلى أنها أخبار آحاد ولا حجية لها ولا تستطيع معارضة الأولى القطعية التي تفيد سلامة القرآن ممن التحريف.
وفي القرآن تبيان لكل شيء وهو المرجع في الخصومة والنزاع وطلب الحقيقة، وهل أخبر القرآن عن عدم التحريف فيه، الجواب نعم , لقد تعرض القرآن إلى المسائل الإبتلائية التي تخص المسلمين , وعامة بني آدم فكيف بمثل هذا الموضوع العام البلوى؟ وأكدت آيات القرآن سلامته من التحريف والتبديل وإلى يوم القيامة، قال تعالى [أنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَأنا لَهُ لحافظون]( ).
في خبر السكوني عن الصادق قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليكم بالقرآن فأنه شافع مشفع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل” .
ويتوجه خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا إلى الأمة بأجيالها المتعاقبة فهو يوصي بالقرآن لأنه يعلم بالعلم الحضوري أنه موجود عندهم.
وورد لفظ التحريف في ثلاثة مواضع من القرآن فيها ذم لفريق من أهل الكتاب على تحريفهم الكلم عن مواضعه، فالقرآن لم يذم المسلمين ويحذرهم من الإقدام على تحريف القرآن، وإجماعهم على عدم التحريف والنقص فيه وليس من وجود لمسالة التحريف في حياة المسلمين بمعنى أنهم متسالمون على أن ما بين الدفتين نازل من عند الله تعالى .
ووردت بعض نسخ القرآن بفرق كلمة، ودعوى التحريف لم تتعلق بالمعنى اللغوي، وقد يحصل الخلاف والنزاع في التفسير والتأويل، والمعنى موضوع مختلف عما يقصد القوم من التحريف في القرآن، إنهم يريدون أمراً آخر، يقولون إن في القرآن تغييراً وتبديلاً لما نزل على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يذم غيره بهذا ينفي التهمة عن نفسه في التحريف وتلك تهمة يرفضها ويرفض ما فيها من العار والفضيحة كل مسلم.
هل هنـاك أيــادي ونوايـا سوء ضد الإسلام في سرد بعض الأخبـار والروايات المفتعلـة والأكاذيب أريد منها الفرقة بين المسلمين لا يسـتبعد ذلك لا أقل في إستغلال وترويج مثل هذه الأخبار، ويجب أن لا يكون القرآن عرضـة لأسباب الخصومة المذهبية والخلافات الفقهية في باب الأحكام لأن مداركها جميعاً من القرآن، وهو موضوع الوحدة بين المسلمين , قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
ولا غرابة في وقوع الإختلاف بالتأويل ووجوه الإستنباط ونوع الروايات المعتمدة عند بعضهم والمعتمدة عند البعض الآخر سواء كان بلحاظ السند أو الدلالة والمضمون ولا ربط لموضوع التحريف بالقراء والقراءات لأن القرآن هو الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإختلاف في القراءة إجتهاد في بيان النطق وقراءة القرآن، وفي كيفية أدائه والمسامحة والتعدد فيها , ولا صلة لها بالتحريف وهناك شواهد في أيام النبوة على القراءة المتعددة لبعض الكلمات للبيان والتيسير والتفسير كقضية في واقعة.
وإختلاف القراء وإجتهادهم في قراءتهم مع وجود أصل القرآن بين الدفتين مدرسة علمية في بلاغة القرآن ,سواء على القول بتواتر القراءات السبع ام على القول بعدم تواترهـا وابتنائهـا على إجتهـاد لغوي ظني لكيفية القراءة، ويظهر بالقراءات الشاذة وله شواهد كثيرة في كتب التفسير والقـراءات، ولا علاقـة لهذا التحريف بالمعنى الإصطلاحي , ويدل على أن التحـريف إذا ورد في النص أعم من التحريف في الإصطلاح.
والزيادة او النقص في الحروف أو في الحركات واقع في قراءة القرآن لعدم ثبوت تواتر جميع القراءات لأن القرآن المنزل مطابق لأحدى القراءات، وعلى فرض ثبوتها فإنها رحمة وسعة وفضل من الله تعالى على المسلمين، وآية في التنزيل.
وهذا ليس من التحريف الإصطلاحي الذي هو وقوع زيادة أوحدوث نقيصة في وإدعاء تعدد وجوه التحريف إرباك للمسلمين وخلاف الدقة في التحقيق.
والمـدار في التحـريف يجـب أن يكون موضوعية هـذا القرآن الذي بين أيدينـا وإذا ما شـككنا بالتحـريف، فالأصل البراءة لأنه من الشبهة الموضوعية.
ومع إمكان إستعمال لفظ التحريف في أكثر من معنى ويكون من المشترك اللفظي، فالقاعدة تقتضي إستحضار القرينة لفهم أحد معانيه وعدم إبقائه مجملاً لا يدل على أحد معانيه، إذ لا يمكن أن يجتمع في آن واحد على ملحوظ واحد من جهة واحدة لأن الوجود بسيط.
بالإضافة إلى أصالة الظهور أي أن اللفظ قد يراد منه معنى معين لا يقبل الخلاف فيكون فيه نص، وقد يحتمل اللفظ إرادة غير الظاهر، فالأصل فيه حينئذ هو قصد المتكلم للمعنى الظاهر من اللفظ دون خلافه إلا مع القرينة الصارفة إلى غير الظاهر لذا قيل أن الأصول العملية الأخرى راجعة إلى هذا الأصل فاذا كان اللفظ يحتمل المجاز يحمل على ظاهره، وإن كأن يحتمل التقييد فيحمل على الاطلاق وإذا إحتمل التخصيص فأنه ظاهر في العموم.
وهكذا بناء العقلاء ومحاوراتهم في الخطابات الجارية بينهم وهي عدم الالتفات إلى إحتمال غير الظاهر إلا مع القرينة فماذا يراد من التحريف؟ المتبادر هو أن تغييراً حصل في أصل القرآن، وهذا ما لم يحصل وخلاف النص والظاهر والوجدان، وتعاهد المسلمين منذ عصر النبوة لآيات القرآن.
لاسيما وأن الموضوع يتعلق بكل مسلم يلتزم ويرتبط بعقيدته وبأخلاقه ثم أن لم يتيسر لكل المسلمين البحث والدراسة وأخذ زبدة الاحكام وثمرة البحوث ونتائج الدراسات، فلابد من تحديد معنى إصطلاحي للتحريف ثم إيجاد أسماء أخرى لتلك المعاني التي قد يطلق عليها بعضهم عنوان التحريف مجازاً أو إستعارة، للفصل والتمييز والمحافظة على النظرة النوعية السليمة للقرآن بما يناسب عظيم منزلته وما يستحقه من الاكرام.
فنفي التحريف عن القرآن، فيه فوائد ومنافع من وجوه :
الأول : تنزيه كتاب الله.
الثاني : الإقرار والإنصياع لعمومات قوله تعالى[أنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَأنا لَهُ لحافظون ]( ).
الثالث : تعاهد الوحدة الإسلامية وهي حاجة ملحة في هذا الزمان، وفي كل زمان.
الرابع : دخول القرآن والأمة نظام العولمة بتماسك وثقة وحصانة عقائدية.
الخامس : طرد روح الشك والتردد من النفوس.
السادس : تعاهد الآيات القرآنية وحفظها والغبطة من منازل العبودية بالصلة مع الباري عز وجل عند القراءة والتلاوة.
السابع : الإبتعاد عن الإفتراء والقذف بالمسلمين أو بالفرق الاخرى.
الثامن : الإندفاع النوعي العام في دراسة القرآن وإظهار علومه ومكنوناته.
ويمكن تقسيم التحريف بلحاظ الزمان إلى ثلاثة أقسام أمس واليوم وغداً.
وبالنسبة للتحريف أمساً والمراد منه الماضي والمنصرم من أفراد الزمان إذ لم يثبت التحريف وقصده وإرادته، وكان المسلمون جميعاً حريصين على سلامة القرآن من التحريف إلى جانب الفضل والمدد الالهي في حفظه.
أما الحاضر فهو توكيد بعض الأخبار الشاذة التي تتعلق بالتحريف وإستغلاله لمقاصد خبيثة أو سوء تأويله.
أما المستقبل فهو ما يحتمل أن يحصل من تحريف في المعنى والمضمون والتأويل.
والتحريف في القرآن يتصور على وجوه :
الأول : وجود الزيادة فيه.
الثاني : وجود النقيصة.
الثالث : تغيير وتبديل بعض الكلمات والحروف.
الرابع : تغيير مواضع الآيات والتقديم والتأخير.
والأمس يقسم إلى :
الأول: ما قبل التنزيل.
الثاني: أيام التنزيل – محاولات إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ما بعد إنتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الرابع: تحول النظام الإسلامي إلى ممالك وحصول الاحتلال أحياناً ودخول المستشرقين.
الخامس: ظهور الفرق والطوائف عند المسلمين.
السادس: حصول الفتن بين فرق المسلمين.
والقرآن بنفسه ينفي التحريف عنه، ولا يحتاج إلى جهود ومؤسسات ولكن هذا لا يمنع من تظافر الجهود لإبراز الإعجاز الذاتي للقرآن في منع التحريف ووسائله وأسبابه من الوصول اليه.
وكتمان الآيات من التحريف ولكن هذا لا يمنع من الإجتهاد في نفي وإبطال دعوى التحريف وان جاءت لاحقة، وليس من كتمأن آيات القرآن خاصة وأن الله تعالى جعل قراءته واجبة يومياً على كل ملكف من المسلمين والمسلمات وجعل واقية على النبي قال تعالى [المْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، وهو من عمومات سلامة القرآن من التحريف، ومنع الكفار من تحريفه.
ونتناول التحريف اليوم، والمراد من اليوم لغة ما يشمل الأيام المعاصرة، والسنوات القليلة الماضية والتي نعيشها فكيف يتحدى القرآن التحريف فيها؟
وإن كان العنوان أمس واليوم وغداً وعطف كل منها على الآخر، والعطف يدل على التعدد والتغاير بمعنى حينما نقول صليت الظهر والعصر، فهذه الواو بينهما تدل على أن الظهر غير العصر وأن جئث بهما جمعاً من غير أي فصل بينهما، ويؤثر بعضها بالبعض الآخر، فالتحريف في الأمس يؤثر على حال القرآن والمسلمين في هذا الزمان وفي الغد أيضاً، ولكنه لم يحصل وإدعاءه وتجديد القول به وطعن بعض فرق المسلمين بالقول به أمر لا أصل له ويجب تنزيه القرآن ، وإجتناب التعدي عليه، وأن جاء في زمان وكيفية معينة، ومن وجوه دراسة الموضوع :
الأول : الفارق بين النسخ والتحريف.
الثاني : التحريف في الكتب السابقة للقرآن.
الثالث : فلسفة عدم تحريف القرآن، فما دام هو الكتاب السماوي والشريعة الثابتة إلى يوم القيامة فلابد أنه غير محرف، بتعاهد من الله تعالى وعليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والوجدان.
الرابع : الصلة بين جمع القرآن وأوانه من جهة وبين عدم التحريف.
الخامس : البحث في الأخبار القائلة بالتحريف وإبطالها بعرضها على القرآن والسنة بل بأقوال أصحابها الأخرى وإقرارهم وتسليمهم بعدم التحريف، ويساهم بالمفهوم في نفي التحريف لما يدل عليه من الإقرار بنزوله من عند الله تعالى .
السادس : مطابقة القرآن للوقائع والأحداث والمكتشفات العلمية تدل على إعجازه.
السابع : مقامات التحدي وأقسامها :
*الحسية. * العقلية. * الجسمانية.
*العلمية. * التأريخية. * الأخلاقية.
*الإجتماعية.
قال تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
الثامن : الإعجاز الغيري للقرآن برد وفضح صيغ ودعوى طرو التحريف عليه , وتأكيد القرآن لسلامته منها .
ونطرح لها تفسيراً يتماشى وحقيقة التحدي القرآني وهو أن إجتماع الإنس والجن لا ينحصر بأهل زمان دون زمان، فالالف واللام وردت للجنس وليس للعهد، أي لو أن كل أمة من الإنس والجن في زمانها اجتمعت وأعدت ما تسعى لأن يشبه القرآن ثم جاءت الأمة اللاحقة والجيل التالي وتمم وهكذا إلى يوم القيامة لما إستطاعت الأجيال مجتمعة أن تأتي بمثله، وكما يشير القرآن إلى العلوم والآفاق فإنه أيضاً ناظر إلى مسالة التطور التقني والثورة المعلوماتية , وسوف تستنبط من القرآن سنن ومسائل وقوانين قهر وخيبة أهل الريب في كل زمان , والتحدي في قوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( ).
ويمكن أن نستقرأ أخبار القرآن في الآية أعلاه من سورة الإسراء عن حصول وحلول العولمة، فقد يقال سابقاً أن الآية مجرد فرض إذ لا يمكن إجتماع الناس وهم في امصار شتى، أما الآن فان الإجتماع حاصل والتحدي القرآني باق، نعم لابد أن نجتهد في إظهار إعجاز القرآن وعلومه في خصائص القرآن أنه متقدم على زمانه دائماً في علومه ومضامينه وأحكامه، فعلينا أن نؤكد بالمبرز الخارجي وبالأرقام والإحصائيات أنه متقدم على زمانه.
مثلاً يحصل إختراع يخبر القرآن على أنه من عالم الإمكان لا أن نقف عند حال الرجوع إلى القرآن عند إكتشاف علمي جديد للبحث عن مصداقه في آياته الشريفة وإن كان هذا الأمر حسن أيضاً، الا أنه يكون اقوى حجية وعوناً للناس لو تم إبتداءً، ولابد من تأسيس مؤسسات متخصصة في كافة أبواب العلوم وظيفتها تلمس أوجه الأكتشاف في القرآن في هذا الباب ليبقى التحدي متصلا , ولإثبات حاجة الناس للقرآن.
مثلاً قوله تعالى[وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )، ما من داء الا له دواء، مما يستلزم العمل الدؤوب من الدول والمؤسسات وبذل الأموال وإعانة الأطباء في بحوثهم وبناء المختبرات وصناعة الأجهزة المناسبة لإكتشاف الدواء للأمراض المستعصية.
وفي قوله تعالى[قَال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( )، مسائل :
الأولى : الحث على تأسيس وزارة باسم وزارة الأرض.
الثانية : لزوم العناية بالزراعة ومقدماتها.
الثالثة : بشارة خروج كنوز الأرض من النفط وغيره.
الرابعة : إخبار عن أن في أرض مصر ثروات أرضية لم تستثمر بعد وأن كان ظاهرها الزراعة، ولكنها أعم.
الخامسة : منع التفريط بخيرات الأرض.
السادسة : وجوب إختيار أيادي أمينة تتولى الإشراف على الثروات التي تخرج من الأرض فقد كان يوسف عليه السلام نبياً.
هناك وظائف إيمانية خاصة بهذا الباب منها :
الأولى : الذب عن القرآن وحفظه.
الثانية : تقوية وتثبيت الايمان.
الثالثة : تحبيب القرآن للنفوس، وجعل الناس تتدبر في آياته قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ القرآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ).
الرابعة : مواصلة التحدي والإجهار به بالقرآن وهو من عمومات قوله تعالى [وَرَتِّلْ القُرْآنَ تَرْتِيلاً]( )، أي أن الآية أعلاه تدعو للجهر بالقرآن.
الخامسة : الدخول إلى العولمة والهجوم بأقوى الأسلحة وهو القرآن خاصة وأن ميزان القوى المادية يميل إلى جانب غير المسلمين، فيأتي القرآن ليرجح كفة المسلمين بالصلاح والأمانة وتمسكهم بالقرآن وأحكامه.
السادسة : أن تحدي القرآن لا ينحصر بالمنعة الذاتية أي لا يقف عند طرو محاولات التغيير والتبديل في كلماته وآياته، بل يمكن أن نحمل التحريف على المعنى الأعم، فهل يستطيع القرآن أن يتحدى التحريف في القيم والأخلاق والقوانين والشرائع .
الجواب : نعم، وبذا ننقل موضوع الجهاد القرآني إلى الساحة العالمية ومختلف الميادين.
السابعة : من التحريف الذي يتحداه القرآن الظلم والجور الذي يتعرض له المسلمون.
الثامنة : ومن التحريف غزو المسلمين في عقر دارهم، فالقرآن يفضحه ويخزيه قال تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
التاسعة : سلامة القرآن من التحريف حرز وحفظ للمسلمين وعوائلهم ومساجدهم.
وعن الإمام علي قال : “كنا اذا حما الوطيس لذنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم” .
وعلينا أن نلوذ بالقرآن، نثوره، نستخرج علومه، نجعله ملاذاً.
ومن إعجاز القرآن، أنه يحـارب التحـريف عند الملل الأخرى، وفي مناهج السلوك في كل زمان.
تـرى ما هـي النسبة بين الإعجاز والتحدي؟
النسبة هي عموم وخصوص مطلق فكل إعجاز هو تحدِ وليس كل تحد هو إعجاز، والقرآن بذاته يتحدى القائلين بالتحريف ويمنع من وجود مستمع لهم ، ويبدد أخبار الآحاد والشاذة التي تقول به، ليبقى شاهداً على جهاد المسلمين في حفظه وتعاهده .
وسلامة القرآن من التحريف دعوة للناس للإيمان، وحث على اللجوء إلى كلام الله لتتجلى في تلاوته والعمل بأحكامه صلة الانسان بالباري عز وجل وإرتقاء المسلم في عالم الملكوت.
وقد تفضل الله عز وجل وأنزل القرآن نجوماً وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة ليكون هذا التدرج والتعاقب في نزول الآيات وسيلة مباركة لسلامته من التحريف، وحفظ المسلمين له في صدورهم، وقيامهم بتدوين آياته، وكثرة نسخها، وقد أراد الكفار نزوله مرة واحدة [لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً]( )، وهم لا يعلمون أن تنزيله نجوماً دعوة متجددة لهم للإيمان، ورحمة بهم وبالناس جميعاً.
الوحي
الوحي لغة : هو الإشارة والكتابة والرسالة والالهام وكل ما ألقيته إلى غيرك ، وإعلام في خفاء، ولذا سمي الالهام وحياً، والوحي من الكليات المشككة فهو يقع على مسميات متعددة ذات معنى واحد، ومنه ما يكون ظاهراً للرسول .
والوحي مصدر وحى إليه، والأصل فعول مثل فلوس، ويقال الوحا الوحا أي بسرعة، وهو منصوب بفعل مضمر، وموت وحي أي سريع لفظاً ومعنى.
وهو في الإصطلاح وعلم الكلام تعليم وإلقاء الله عز وجل للأنبياء ما يتعلق بأمور الدين بواسطة الملائكة من غير واسطة بشر.
وقيل هو الكلام الخفي من جهة ملك في حق نبي في حال اليقظة، ولكنه أعم لغة وإصطلاحاً , وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “أن رؤيا الأنبياء وحي”.
فهل هو وحي مجازاً أم أن منامهم ملحق باليقظة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : “تنام عيناي ولا ينام قلبي”، الأقرب أنه وحي على الحقيقة وملحق بالوحي حكماً ويدل عليه قوله تعالى في إبراهيم [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَال يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَال يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
والوحي مصدر التكاليف والشرائع، وبه تعرف النبوة وقيل لولاه لإنقطعت أخبار السماء، أقول : أنه نوع طريق للتبليغ والله واسع كريم , فاذا لم يكن الوحي فإن الله تعإلى يختار أنبياءه، ويبلغ الأحكام بما يبتدعه.
قال الإمام علي وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزه : “بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد إنقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء”( ).
ووردت مادة (وحي) في نحو سبعين موضعاً من القرآن، وهناك آيات أخرى تتعلق بالوحي، ولكن بغير لفظه , كما في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ]( ).
ولا يدرك الناس كنه وكيفية ذلك التعليم لأنه حدث في السماء، ولعل له نواميس تختلف عن نواميس وأحكام الأرض، وبينهما عموم وخصوص من وجه، وعلى هذا هل يكون هذا التعليم لآدم بمثل الوحي بواسطة الملك أو لا، الأقرب هو الثاني .
وبعد أن تم تعليم آدم قالت الملائكة [لاَ عِلْمَ لَنَا]، ومن المستبعد أن ينقل الملك ما لا يعلمه، أي أن الملك لم ينقل هذا الوحي إلا على فرض أن الملك الذي نقل الوحي والتعليم إلى آدم لم يكن مشمولاً بسؤاله وأمره تعالى[أنبئوني].
وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق، فكل قرآن هو وحي، وليس كل وحي قرآناً، وأول ما بدء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء , وكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبد في الليالي ذوات العدد، (لعل العدد هنا الإحصاء والحصر)، قبل أن ينزع إلى أهله ويرجع إلى خديجة ويتزود لمثلها حتى جاء الحق وهو في غار حراء , فجاءه الملك فقال: إقرأ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال : اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال : [ اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الذِي خَلَقَ * خَلَقَ الانسَان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَان مَا لَمْ يَعْلَمْ ]( ).
والوحي أعم من النبوة ومعرفــة التكاليف ويدل على عموم قدرة الله تعالى وإتصالها إبتداء وخلقاً وإستدامة , فكل ممكن يمتنع حصوله وبقاؤه بدون علة، والوحي يدل على إنقطاع سلسلة الممكنات بواجب الوجــود لذاتـــه، وحاجة الناس والخلائق إلى رحمة ولطف الله تعالى ويدل أيضاً على أن الموجودات لا تستطيع الإستغناء عن مشيئته تعالى لملازمة الحاجة للإمكان.
وبين النبوة والوحي ملازمة وإن كان بعض الأنبياء ممن يتنبأ في منامه ومنهم من يسمع الصوت ولا يرى الملك، وصحيح أن الأنبياء من البشر، ولكنهم إختلفوا عن الناس بما خصهم الله عز وجل به من الفضل وشرف النبوة وعظيم وظائفها.
ومن المسلمات أن الوحي إلى الأنبياء لم يكن على مرتبة وكيفية واحدة، وهو أعم من أن يكون لفظاً، وتفضل الله وجمع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه الوحي.
وقد ينقطع الإنسان إلى التسبيح والعبادة ويمارس رياضة روحية وقسوة في نوع الغذاء وكميته، وقد يحصل على كشف أهل العرفان او الهام أهل الوصل، ولكنه حس ذاتي ووجدان نفسي وتوظيف للاشعور او الحاسة السادسة او إفاضة ربانية، ويختلف في الماهية والموضوع عن الوحي السماوي الذي هو فيض من الكمال إختص الله به الأنبياء على نحو الحصر تشريفاً ومرتبة ووظيفة ملكوتية كمبعوثين لأهل الأرض برسالة السماء.
وفلسفة الوحي أكبر من أن تدركها أوهام البشر فهو عنوان الإتصال الدائم بين الباري والخلق، فكما نفخ الله سبحانه من روحه في آدم فأنه تعالى أبى أن يترك الإنسان الذي أسجد له الملائكة وكلفه بالعبادات من غير مادة للإتصال ومعرفة ما يجب عليه وما ينتهي عنه الا الوحي للأنبياء، فكأن الوحي قواعد سماوية وتشريعية ثابتة لأنارة دروب الهداية وفضح صيغ الضلالة ووجوه الكفر.
وقد يكون معنى الوحي في القرآن أخص من معناه في اللغة، فلم يرد لفظ الوحي فيه موضوعاً بين الناس بعضهم مع بعضهم الآخر، مما يدل على أهمية المعنى الاصطلاحي له ولإعطائه صبغة عقائدية ولتوكيد أهميته، نعم ورد في زكريا [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ المِحْرَابِ فَأَوْحَى اليْهِمْ أن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
وقال المفسرون أن الوحي هنا الإشارة، ولكن البحث فيه أعم، فإنه وحي بالواسطة ودعوة صامتة وتلك الدعوة قد تجمع أحياناً بين الوظيفة الشرعية والأمن على النفس، وفيه دلالة على موضوعية التسبيح في الدعوة إلى الله وإتخاذ المواظبة عليه طريقاً إلى التقوى وسبيلاً إلى الإنصات إلى الأنبياء في تبليغهم ونقلهم لرسالة السماء، وبيان لحقيقة وهي أن الدعوة الصامتة فرد من مصاديق جذب الناس إلى الإيمان .
لقد أوحى إليهم زكريا أن سبحوا الله، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالأحكام والشريعة الحقــة لفظاً وفعلاً وتقريراً، مما يدل على علو درجته في عالم النبوة.
وفي دراســة مقارنة تظهر نعمة الله تعالى على المسلمـين بالوحي فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يرون ما يصيبه من الكرب وأن جبينه يتفصد عرقاً في اليوم الشديــد البرد ساعـة نزول الوحي كآية محسوسـة لفلسفة الرسالــة ومشقــة تحملها، لذا فمن مستلزمات الوحي إمتلاك شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكمالات الإنسانيـة بفضل الله، كمقدمة عقائدية وإجتماعية ومصدر توفيق ومقدمة لتصديق الناس وإستماعهم لـه، فمن لا يكون صادقاً مع الناس في سيرته ومعاملاته وكلامه لا يصدقه الناس بدعوى النبوة.
وأطلق الباحثون في علم الكلام هذه المقولة على نحو السالبة الكلية، ولكن على القول بعصمة الأنبياء مطلقاً فإن الله عز وجل إذا أراد أمراً أتقنه وأحكمه وقيض أسبابه ويمكن الإستشهاد بالمعجزة فهي دليل قاطع على صدق النبي، وقد يكون الإنسان صادقاً في كل حياته ثم يدعي النبوة كاذباً او وهماً او خيالا وإن كان هذا على سبيل الفرض، فمن إعتاد الصدق وتلبس به كفرد من أفراد الصلاح تتبلور بنفسه حواجز أدبية وأخلاقية، وتكون عنده طبائع حميدة تحول دون إدّعاء الزور والكذب، نعم كانت العصمة رحمة، وعنوان تخفيف عن الناس ومقدمة علمية للتصــديق بالنبي وإعداداً الهياً لمنصب النبوة والامامة.
ووجود أسباب وشرائط الصحة من طرف الفاعل والقابل لأنه تعالى أتقن كل شيء، وعلى فرض وجود خلل سابق في القابل، فإن الأسباب من طرف الفاعل والعلة الغائية كافية في التنجيز وتحقيق غايات النبوة لعظيم قدرة الله تعالى، وإستجابة المخلوقات جميعاً لإرادته.
وهذا القول يفتح آفاقاً لإستمرار الوحدة العقائدية للمسلمين وإن إختلفت مذاهبهم الكلامية ليصبح تباين الأقوال في عصمة الأنبياء قبل النبوة نزاعاً صغروياً وهو الحق، وليس في ذلك إغراء للمكلفين باتباع الكاذب، لإعتبار موضوعية المعجزة في ثبوت دعوى النبوة، والمعجزة في الإصطلاح أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة، ولا ينالها الكاذب للتناقض والتضاد بين النبوة والكذب، ولعصمة الأنبياء مطلقاً، ولأنها فيض وفضل الهي إختص به أشرف خلقه وهم الأنبياء.
وللوحي أسرار وأحكام لم تستوف الدراسات الإسلامية حقها سواء ما تعلق بكيفيته وموضوعيته وإختلاف صوره عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو ما أنزل إليه وإلى غيره من الأنبياء، وصفات الملك الذي يأتي بالوحي وهيئته ومقدماته وبداياته وموضوعه وغاياته وأثره ونفعه العقائدي والأخلاقي.
روي الحرث بن هشام أنه سال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : “يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس أي صوت الجرس- وهو أشده علي فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول”( ).
وعن عبادة بن الصامت قال : “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحــي كرب لذلك وتربد وجهه) ( )، وفي رواية نكس رأســه ونكس أصحابــه رؤوسهـــم، فلما ســرى عنه رفع رأسه”.
وفي حديث الوحي كأنه صلصلة على صفوان، والصلصلة صوت الحديد، إشارة إلى وجود المشقة والصعوبة في تلقي الوحي،إن مقام النبـوة منزلة لا تنال الا بفضل وتعاهد وعناية من الله تعالى، فمن لا يعدّه الله لتلقي الوحي لا يستطيع تحمله، أي أن الإعداد للنبوة يسبق مرحلة الوحي، وهذا الاعداد لا ينحصر بايجاد المقدرة البدنية على تلقي الوحي بل يشمل المدارك والملكات والأخلاق والأعمال، فلا غرابة إذن أن يسبق نزول الوحي على النــبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحنثه في غار حراء.
ويذكر المفسرون والمؤرخون عزلته صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء، ودرس كل منا في صباه وعلى مستوى العالم الإسلامي ومدارسه هذا في المدرسة، ومن الآيات أنه من المواضيع المدرسية التي سرعان ما ترسخ في الأذهان وتبقى عالقة فيها، ويشترك طلاب الصف على إختلاف وتباين مداركهم في وعيها ومتابعتها بشوق وإجلال، ليكون شاهداً وسراً من أسرار حفظ الوحي، ولكن من غير بيان وذكر العلة وإستقراء الدروس والعبر من هذه العزلة، فلم تكن عزلة حكمـاء أو فلاسفــة بل كانت جــزء علة للوحي، فلابد أن تكون هناك أسباب سماوية لتلك العزلة، إنها مقدمة وباب للإستعداد للوحي ورياضة النفس في مسالك العرفان والإنقطاع إلى الله تعالى .
ونطرح في هذا الباب تساؤلاً جديداً وهو هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات العزلة وأثناء التحنث ينتظر نزول الوحي عليه، الجواب : نعم.
(أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب اليه الخلاء) ( )، وكانت الرؤيا الصادقة تسير بعرض واحد مع حب الخلوة لخلق العزم والقوة على تلقي الوحي بطمأنينة بعيداً عن الشك في أمره او التردد في تبليغ ما يحمله من أحكام، وعن الامام الباقر قال: “أول ما بدء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت كفلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء”.
(وقد روي أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة) وتأويله أن مدة الرؤيا ستة أشهر من أصل ثلاث وعشرين سنة، مدة النبوة والوحي، وفيها تهيئة للنفس لمرحلة سمع وتكليف ومعاينة، وفي قوله تعالى[ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ]( )،فأودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وما يصلح السماوات والأرض وما فيهن.
والظاهر أن المعنى أكثر سعة ومضموناً، وأن الآية تدل على أن الوحي لم ينحصر بالأنبياء تلقياً أو بالإنسان موضوعاً، وأن النظام الكوني محتاج في إستدامة الأحكام الشرعية في أطرافه التي يعجز العقل البشري عن إدراك ما بينها من البعد الهائل إلى الوحي، وأن الملائكة القائمين في أمور السماوات وشؤونها يأتيهم الوحي ليس فقط بخصــوص السماء وما يتعلق بها من المســائل الكونية بل وما يهم عباداتهم، ومصاديق الإرادة التـكــوينيــة، وتــدل عليه أمور :
الأول : لغة المضارع والاستقبال في صيغة الأمر الإلهي الوارد في قوله تعالى[ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ]( ).
الثاني: إجتماع صيغتي الماضي والمضارع الذي يدل على الاثنينية والتعدد في الأمر كما في قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ]( ) .
الثالث : تعدد وظائف الملائكة , الأمر الذي يدل على أهمية موضوع الوحي في عالم المخلوقات مطلقاً إذ لابد من طريق مبارك لتلقي الأحكام من عند الله تعإلى ولكن الوحي بآيات القرآن له خصوصية , ويمتاز بصفات ملكوتية تتطلب دراسته وتحقيقه ففيه إكرام للإسلام بل لبني الإنسان عامة، ومن فلسفة الوحي توكيد حاجة الناس المستمرة إلى واجب الوجود.
لقد تجسدت فلسفة الوحي بأسمى معانيها بإنزال القرآن فهو أعظم الكتب السماوية، وكان ولا زال المسلمون يتلقون الروايات التي تؤكد عظمته بالتسليم للمصداق العملي الذي يتجلى في آياته وما فيها من الخزائن والإعجاز، والآن وبعد أكثر من الف وأربعمائة سنة وتداخل الحضارات وإرتقاء العلوم أثبت القرآن تلك العظمة، ونشعر بالتقصير والتخلف عن إظهار علومه المناسبة والتي تفيد تقدمه على علوم العصر، وكان الأولى إستظهار العلوم منه، وجعل الأمم تدرك حقيقة ثابتة هي أن القرآن مصدر للعلوم كما هو مصدر للأحكام.
ومن رحمة الله تعالى أن الوحــي الإنســاني لم ينحصـــر بالأنبياء بــل شمل غيرهم، كما في قوله تعالى[ إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يُوحَى]( )، وقوله تعالى(ما يوحى) يفيد أنه وحي حقيقة ومن سنخ ما يوحى إلى الأنبياء إلا أنه لا يتعلق بالأحكام الشرعية، ولكن بإتيان فعل يكون مقدمة وتعاهداً وحفظاً للنبوة، كما مبين في الآية التالية لها [أن اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ]( ) .
فالوحي جاء بالعرض مع حصره بفعل محدد ما كان إلا بإرادة إلهية، ولطف يصل إلى أم موسى خصوصاً وأنه مقدمة لفعل يدل في ظاهره على الهلاك.
وفي ترجمة خزيمة بن ثابت الأوسي الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه “ذا الشهادتين” كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرس يدعا المرتجز قال محمد بن عمر فسألت محمد بن يحيى بن سهل عن المرتجز فقال هو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت وكان الأعرابي من بني مرة يعني حيث جاء خزيمة بن ثابت الأنصاري والأعرابي يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أبعك الفرس وذلك أنهم أعطوه به أكثر من الثمن الذي ابتاعه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع عن البيع ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول له قد بعتنيه فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك فقال خزيمة أنا أشهد أنك قد بعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخزيمة كيف شهدت بهذا قال أشهد أن كلما قلت هو الحق والصدق فجعلت شهادة خزيمة كشهادة رجلين( ).
ويدل الحديث على موضوعية الوحي في إسلام الكثير من المسلمين ورسوخ الإيمان في صدورهم وصيرورته ملكة ومرتكزاً للمعاملة مع إلتزامهم بالامتثال له أمراً ونهياً، وجاءت إفاضات الوحي والتصديق به على نحو القضية الشخصية في الشرف العظيم الذي ناله خزيمة وبواسطته المسلمين جميعاً لتصديقهم بالوحي والنبوة.
ويمكن تقسيم الوحي بلحاظ الواسطة والموحى إليه إلى :
الأول : ملك إلى ملك، وهذا ينقسم بلحاظ المحل إلى قسمين :
الأول : ملك إلى ملك في السماء.
الثاني : ملك إلى ملك في الأرض، وهو برزخ في الوحي، ومنه ما أنزل على الملكين في بابل كما في قوله تعالى[ وَمَا أنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ]( ).
الثالث : بواسطة ملك إلى بشر، وهذا ينقسم بلحاظ الشرف والمسؤولية الرسالية إلى :
أولاً : الوحي إلى الرسول.
ثانياً : الوحي إلى النبي.
ثالثاً : الوحي إلى الصديقين، وهذا ينقسم إلى جهات :
الأولى : ما هو مـقـــدمـة إلى النبوة كما في قـولـه تعالى[ أن اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ ]( ).
الثانية : وحي الهداية الملحق والملازم او المتعقب للنبوة.
الثالثة : بيان مقامات الأولياء في تعضيد النبوة , قبل إنقطاع الوحي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سادساً :الوحي إلى حيوان غير ناطق.
الرابع : الوحي إلى عالم الكون.
ويمكن تقسيم الوحي بلحاظ الموضوع إلى :
أولاً : الوحي السماوي.
ثانياً : وحي النبوة.
ثالثاً : وحي الصالحين، ومنه أيضاً [ وَإِذْ أَوْحَيْتُ الى الحَوَارِيِّينَ أن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ]( ).
رابعاً : الوحي العام وهو ما عدا الاقســام الثلاثة اعلاه كما في قوله تعالى[ وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أن اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُــــــونَ]( ).
ويرى النظام الدقيق لحياة وعمل النحل مجتمعاً وأفراداً وبغريزة قذفت فيها بالوحي، ولعله من باب المثال الظاهر، والآية الحسية وليس من باب الحصر في عالم الحيوان، وتدل الآية في مفهومها على التنظيم الدقيق لنوع الحيوان.
وهل الوحي عقلي أو حسي ونوع وقوف على أصول علمية وفلسفية ومطلق أعمال الفكر، أم أنه من جنس المبصرات والمسموعات ونحوها من أعمال الحواس؟
الجواب : يختلف الوحي في سنخيته عنها , فهو حقيقة نوعية متميزة تتعدى قدرات الإنسان، طرأت بالعرض على نفس النبي بآية من الله تعالى ، وبها يختلف النبي عن غيره من الناس , وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى اليَّ] ( ).
ليس الوحي فرع وجود شخصية ثانية للإنسان الذي قالت به بعض الدراسات الغربية في أواخر القرن التاسع عشر، أو أنه شخصية راقية فوق شخصيته العادية التي تحرك جوارحه، وليس هو من الوحي النفسي كما حاول بعض كبار رجال الكنيسة تفسير الوحي به في محاولة لإضعاف الإسلام والإنتقاص من نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام.
لقد خلط بعض العلماء الماديين بين الوحي وما توصلوا إليه بالعلم التجريبي من نتائج تفوق مدارك صاحب التجربة الحسية والعقلية، كما في قدرة أحد الرعاة مثلاً على إيجاد الجذر التكعيبي لعدد يتكون من سبعة أرقام بدقيقة واحدة أوصله إلى معادلة جبرية، أو إمكانية صبي على عمليات حسابية في غاية التركيب وبسرعة، وحاولوا نفي نزول الوحي من السماء، ثم إنتقلوا من هذا الخلط إلى القول بتنزيه الله عز وجل عن سماع الملائكة لكلامه لأنه لا يوصف بمكان وأنه لا يعقل أن يقابلوه، لذا نسب إلى المستشرق مونتيه نظرية وهي أن الوحي الهام يفيض من نفس النبي وليس من الخارج.
وتلك الأقوال محاولة لتحريف الحقائق وطمس العلوم السماوية، وإضرار بالإنسانية، وحجب رحمة نازلة لأهل الأرض بواسطة الأنبياء, فظلت مجرد أقوال لا إعتبار لها في أبواب العلوم وعند الناس ,وإنحسارها من مفاهيم قوله تعالى[أنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَأنا لَهُ لحافظون]( )، ولأنها خلاف الحقيقة وهي ضلالة وتضليل وقصور الرؤية ومحاولة لطمس آيات ينتفع منها الناس جميعاً، فاستقلالية الوحي ظاهرة معروفة عند المليين، وغير المليين وكانت سبباً لإيمان الكثيرين كما أنها حجة في ملازمة الأصحاب للنبي بإدراكهم للحقيقة السماوية للوحي وأنه لا يكــون إلا من خارج الإنســان وبما يفوق الموهبة والنبوغ ونحوهما، ويمكن إدراك ذلك بالوجدان وبالشواهد والوقائع , فآيات الوحي لم تنحصر بزمن وأيام النبوة.
إنه تمثل حقيقي للملك الرسول في عملية إكرام للجنس البشري ولكن أهل الجحود يحجبون عن أنفسهم ما فيه من الرحمة بما يوصله إليهم الشيطان من الخلط ويجعله على أبصارهم من الغشاوة، ولقد حورب الوحي من قبل الإنس والجن منذ ساعاته الأولى، فإبليس سخر جنوده، والكفار إستقبلوا الوحي بدعوى أنه سحر وأنه أساطير الأولين.
وترى إنعدام أثر تلك الأقوال بل وفقدانها في الذاكرة الإنسانية لولا أن القرآن هو الذي ذكرها.
وفيه آية من إعجاز القرآن في باب الوحي، لما فيه من دلالات على سمو مرتبة موضوع الوحي في الشريعة الإسلامية ومنزلته العقائدية وما يترتب على إثباته من حقائق وأحكام، كما يدل على علم الله تعالى بظهور تلك الأقوال بأردية تناسب كل عصر وزمان، وهذا القول يمكن جعله جواباً لما قد يقال في أسباب تجاهل مثل هذا الخلط والدعاوى الزائفة.
إن توسيع مباحث الوحي إظهار لنعمة الله ولعداوتنا للشيطان وهو نوع تجاهر وإعلان للشكر على هذه النعمة الخالدة التي تعتبر منقذاً سماوياً لأهل الأرض.
ولم يبدأ الوحي مع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وموضوع الوحي ملازم لوجود الإنسان على سطح الأرض وقبل أن ينزل لتفضل الله بتعليم آدم الأسماء في السماء وأمره لآدم أن يعلمها الملائكة [قَال يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( ) وإن إنقطع فترات معينة، ولكنه رفع بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وقيـل مما أوحى الله إلى أبينا آدم (أن المستنبطين للعلوم عندي أفضل من عمار الأرض بالصنائع، ومن إستنبط علماً ودونه في كتاب فهو بمنزلة آدم الصفي) ، وورد أيضاً أن الله تعإلى قال لآدم عليه السلام: (روحك من روحي وطبيعتك على خلاف كينونتي)، ولم يذكر السند في الخبرين ولا جهة الصدور.
وذكر الطبري ما نسبه إلى القيل “أنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحروف المعجم في احدى وعشرين ورقة”، وعدم ذكر السند ونسبته إلى القيل نوع تضعيف للحديث إلا أن هذا كله لا يمنع من الإقرار بتلقي آدم الوحي للملازمة بين النبوة والوحي وللإجماع وورود النصوص على نبوته، بالإضافة إلى ظاهر وإطـلاق قوله تعالى[ أني جَاعِلٌ فِي الارْضِ خَلِيفَةً]( )، وقوله تعالى[ وَعلم آدم الاسْمَاءَ كُلَّهَا ]( ).
والوحي سر سماوي متصل بالأرض جاء بواسطة أشخاص الأنبياء، وفيض ملكوتي مبارك، وزائر لم يأت الا في أيام النبوة وقد غادرنا بإنقطاعها إلى يوم القيامة، ولكنه لم يغادر الا بعد أن ثبتت حقيقته في الأرض وبقي حياً في الكتب السماوية المنزلة لاسيما في القرآن ولعله بقي فيه وحده حصراً باعتباره الكتاب السماوي الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف، وفيه إعجاز للقرآن ليبقى سالماً في موضوعه , وشاهداً على ما جاءت به الأنبياء من عند الله ،والقرآن كله وحي.
وكل يوم تتجدد علوم الوحي، ويدرك المسلمون ما فيه من المفاهيم والكليات العقلية في تقريب منه تعالى للحقائق إلى أذهانهم، ومن آياته تعالى أنك ترى المسلمين يستحضرون وعلى نحو مستديم ومتصل أيام الوحي وما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مشقة في تلقيه وما عاناه من قومه بسببه.
ومن جهة نزول الوحي فإنه يمر بثلاث مراتب :
الأولى: تفضل الله تعالى بالأمر بالوحي.
الثانية: نزول الملك وهو الواسطة بالوحي.
الثالثة: تلقي الموحى إليه وهو النبي للوحي.
وللوحي كيفيات متعددة يمكن إستقراؤها من السنة وتتبع الأخبار والنصوص منها :
الأول: أن يأتيه الملك مثل صلصلة الجرس لما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض) ( ).
أي أنه مقدمة للوحي وإخبار الملك بما جاء به من عند الله ليفرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلبه له، “وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك وأنه ينزل هكذا اذا نزلت آية وعيد وتهديد”(1)،وهو تأويل حسن، ولكن الأمر أعم مما ذكر لتعلقه بخصوصية الوحي وإختلافه عن نواميس الأرض والتعامل بين أهلها، إنها سنخية السماء التي لا تنفصل عن الموجود الأرضي إلا باحتكاك وحال لا يخفى معها عدم التجانس رغم سلامة توجهه إلى الغاية، والقصد الذي لا يمكن أن يخطئه.
الثاني : أن يأتي الملك في المنام كما تقدم في حديث الإمام الباقر لأن رؤيا الأنبياء وحي.
الثالث : أن ينفث في روع النبي الكلام نفثاً، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : “أن روح القدس نفث في روعي”( )، والنفث شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق، والنفث نفخ لطيف بلا ريق، ويمكن القول أنه في الإصطلاح القاء المعنى في القلب بما يوقعه في البال ويكون مبيناً عند المتلقي.
الرابع : أن يسمع النبي الصوت من غير أن يرى الملك.
الخامس : يسمع النبي الصوت ويرى الملك في صورة رجل بهي الطلعة، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: “وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فاعي ما يقول”( )، وتلك الحالة يختص بها الرسول دون النبي.
السادس : رؤية الرسول للملك بهيئته الأصلية، وفي قوله تعالى [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( ) قال : رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبريل له ستمائة جناح)( )، عن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال: “قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا محمد كيف يأتيك الوحي يعني جبرئيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم…” الحديث
وأخرج عن النواس بن سمعان إذا أراد الله أن يوحي بأمر تكلم بالوحي ، فإذا تكلم بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل عليه السلام على الملائكة عليهم السلام ، كلما مر بسماء سماء ساله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول { قال الحق وهو العلي الكبير } فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل عليه السلام ، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض( ).
أما الواسطة فهو جبرئيل الملك الموكل بالكتب والوحي إلى الأنبياء الذي ينزل باللفظ، لاسيما وأن لفظ القرآن إعجازي، والقراءة توقيفية، ولا يجوز القراءة بالمعنى.
وسيبقى الوحي سر السماء في الأرض والنور النازل بالهداية والبركة من غير مدخلية فيه لعقل النبي وحواسه فهو ليس من الالهام الذي يعني الكشف المعنوي، بل أمر خارجي ينزل من عند الله عز وجل في اليقظة وعلى مرآى من الناس ليكون حجة وآية كونية، وسبيلاً إلى الإيمان، ومناسبة لإيجاد أحكام الشريعة في الأرض، ووثيقة ملكوتية وشهادة ودليلاً على أهلية المنزل عليه لخلافة الأرض، وحمل لواء التوحيد.
ويتضمن الوحي وعداً للمؤمنين ودروساً عقائدية وأخلاقية في صلاح النفوس والدعوة إلى الله والصبر في جنبه والإجتهاد والسعي في التبليغ، ويمكن أن يدرك بعض أنواره بتدبر وإستقراء علومه وأسرار آيات القرآن.
والوحي هبة الله عز وجل ورسالته إلى أنبيائه، ولكن ماذا يرى منه الناس، وما يستبين لهم منه بالعرض وحسب الظاهر، فيه وجوه محتملة :
الأول : كل من كان حاضراً عند النبي يسمع الوحي.
الثاني : بعض الحاضرين يفوز بهذا الشرف على نحو القضية في الواقعة.
الثالث : لا يسمع الوحي الا الذي له قدم في التقوى والصلاح دون غيره.
الرابع : من يأذن له النبي بالسماع يستطيع السمع.
الخامس : لا يسمع أحد الوحي إلا النبي.
السادس : لو كان إلى جانب النبي الموحى إليه نبي آخر فهل يشترك بسماع الوحي بالجامع التشريفي الاعتباري بينهما أم لا، الأقوى لا إلا أن يكون الوحي مشتركاً.
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه ليس من نبي في زمانه غيره.
السابع : قد يسمع الوحي بعض الناس للحجة الخاصة بهم او العامة.
الثامن : ويرى المؤمنون والناس الآثار الخارجية الدالة على الوحي على نحو الإعجاز.
التاسع : وجود إختلاف نوعي في الوحي عند الأنبياء، فربما كان مما يوحى إلى الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمع من قبل بعض الناس او الحاضرين منهم كآية حسية.
والمتيقن هو الفقرة الخامسة أعلاه، لإختصاص النبي بالوحي , وفي طوله رؤية الآثار الخارجية الدالة على الوحي، ولا يمنع من وجود آيات أخرى عرضية، ولكن الوحي سر السماء الملقى إلى الأنبياء على نحو الخصوص والحصر.
لقد كان الوحي المدد السماوي والعون والمؤازر الأول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في الدعوة إلى الإسلام، وكانت رسالة السماء سـلاحاً وواقية وحرزاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا لا يمكن الإحاطة بمنافــع الوحي وآثاره، ويتطلب الأمر دراسات مستحدثة في الإسلام تدرس الوحي وعلومه المتعددة وتستنبط منه المسائل والأحكام وأن لا تنحصر أبحاثها بتأريخ الوحي أو كيفيته، ومن تلك الدراسات على سبيل المثال :
الأول : كيف ساهم الوحي في تثبيت صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إعلان الدعوة.
الثاني : منافع الوحي في نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من الغيلة والكيد.
الثالث : أهمية الوحي في إختيار المواقف الحاسمة للمسلمين.
الرابع : أثر الوحي في تحديد معارك المسلمين من حيث الزمان والمكان والجهة.
الخامس : كشف الوحي للمنافقين.
السادس : تصدي الوحي لأعداء الإسلام واثره في نفوسهم.
السابع : إخبار الوحي عن المغيبات.
الثامن : إيمان وإسلام الكثيرين بسبب الوحي.
التاسع : مدرسة الإصغاء إلى الوحي وإنتظار ما يأتي به.
العاشر : إستجابة المسلمين للوحي، الأسباب والنتائج.
الحادي عشر : الوحي في الهيكل الإجتماعي للمسلمين.
الثاني عشر : مساهمة الوحي في تثبيت المسلمين على الإسلام، وتحدي الكفار والمشركين.
الثالث عشر : بشارات الوحي.
الرابع عشر : تصديق الوحي بالنبوات السابقة.
الخامس عشر : إخبار الوحي على لسان الأنبياء السابقين بنبوة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس عشر : تتبع مراحل الوحي وتطوره.
السابع عشر : ضبط وتوثيق المسلمين للوحي، والفصل بين القرآن والحديث القدسي والسنة النبوية وهو من عمومات قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن عشر : قبح إدعاء الوحي لغير الأنبياء، وسرعة فضحه ولحوق صاحب الدعوى الخزي والعار، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ]( ).
التاسع عشر : موضوعية الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نسخ الشرائع السابقة، وتجلي الإعجاز الذاتي والغيري لهذا النسخ.
العشرون : شهادة أهل الكتاب والمليين في زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نبوته، وكان بنو إسرائيل ينتظرون بعثته، قال تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا]( )، وقد شهد ورقة بن نوفل على أن الذي أوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام وكان أهل مكة يقرون لورقة بمعرفة التوراة والإنجيل، وقيل هو المقصود بالعلم بالكتاب في قوله تعالى [كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ]( ) , ولكن الآية أعم.
الحادي والعشرون : دراسة مقارنة بين الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوحي للأنبياء السابقين , والنسبة بينها هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الالتقاء هي الملازمة بين النبوة والوحي، قال تعالى [كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ]( ).
ومادة الإفتراق أن الوحي للأنبياء مجمل، والوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبين ومفصل بالقرآن والحديث القدسي والسنة قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على إبتداء الوحي بنوح عليه السلام، وعلى هذا القول يكون كلام الله عز وجل لآدم على وجوه:
الأول : إنه أعظم من الوحي لعدم وجود الواسطة , فليس من ملك ينقل كلام الله لآدم بل كلّمه الله قبلاً، وفي التنزيل: [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
الثاني : جاء تكليم الله لآدم عندما كان في الجنة وليس بعد هبوطه إلى الأرض، تختلف نواميس السماء عن نواميس الأرض.
الثالث: وقوع تكليم الله عز وجل لآدم عند أول خلقه ونفخ الروح فيه والصحيح أن آدم نبي يوحى اليه .
روي أنَّ جبريل عليه السلام نزل على آدم عليه السلام اثني عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد عليه السلام أربع عشرة الف مرة )( )، وعن عن أبي أمامة الباهلي أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم. مكلم قال : كم بينه وبين نوح؟ قال : عشرة قرون قال : كم بين نوح وبين ابراهيم؟ قال : عشرة قروؤن قال : يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : مائة الف وأربعة وعشرون الفاً. قال : يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك؟ قال : ثلثمائة وخمسة عشر. جماً غفيراً)( ).
ولا تدل الآية أعلاه من سورة النساء على عدم الوحي للأنبياء قبل نوح ، إذ أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وكلام الله لآدم في الجنة يكفي في تحقق صدق الوحي بأسمى مصاديقه .
والقائل بأن آدم ليس بنبي إستدل بالحديث الوارد عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:”يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكم؛ فيقول: ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه
فيقول: لست هُنَاكُمْ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحي من ربه؛ فيقول: ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمُنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود اليه، وإذا رأيت ربي مثله، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار الا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود”)( ) .
وفيه مسائل :
الأولى : جاء الحديث في باب الشفاعة يوم القيامة.
الثانية : جاء الناس إلى آدم في أول الأمر، ويدل بالدلالة التضمنية على علمهم بمقامه عند الله عز وجل، وتقوموا بذكر أربع خصال له تميزه عن باقي الأنبياء والناس.
الثالثة : نبوة آدم قبل وجود ذريته وأبنائه، فهو موجود كنبي قبل أن يوجد غيره من الناس بإستثناء حواء، وحواء مفرد وليس جمعاً فلا يصدق عليه لفظ(الناس).
الرابعة: نوح عليه السلام أول الرسل الخمسة أولي العزم.
الخامسة: المراد من قوله عليه السلام(بعثه الله إلى أهل الأرض) أي أرسل للإسلام.
السادسة: لا يقول الحديث أعلاه على معارضة نصوص عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم تفيد أن آدم نبي من الأنبياء إلى جانب الآيات القرآنية التي تخبر عن تكليم الله عز وجل له.
الثاني والعشرون: صيغ وكيفيات الوحي بالنسبة للأنبياء عامة ثم بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل:
الأول:الوحي قبل القرآن وقد تقدم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة، يراها فتأتي كفلق الصبح.
الثاني: الوحي في مكة.
الثالث: الوحي في الأسراء , قال تعالى [سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى]( )، وفيها مسائل:
الأولى: الوحي بخصوص آية الإسراء بذكر الآيات التي تخص الإسراء منها قوله تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى]( )، أي النبي محمد صلى الله وآله وسلم رأى جبرئيل عندها، ولو أن رجلاً ركب بخيبة وطاف على ساقها حتى أدركه الهرم ما وصل إلى المكان الذي ركب منه وفيها ألوان الثمار،وأختلف هل هي شجرة طوبى أم غيرها، والأصح هو الثاني، وسميت سدرة المنتهى لأن إليها ينتهي علم كل عالم، وهي في السماء السابعة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص حديث الإسراء (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها)( ).
الثانية: ما ذكر في القرآن بلغة الوحي في غير الوحي من الله عز وجل، كما في قوله تعالى [وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ]( ).
الثالثة: أسئلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل بخصوص الوحي والتنزيل، وكيفية تلقي جبرئيل وإجابته عليها، (وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: لما نزلت هذه الآية {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا جبريل ما تأويل هذه الآية؟ قال: حتى أسأل. فصعد ثم نزل فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا ادلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك)( ).
الرابعة: ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أوتيت جوامع الكلم) أي الكلمات القليلة التي تتضمن دلالات ومعاني كثيرة.
وجوامع الكلم لها معنيان:
الأول : معنى عام أنه كان يتكلم بلفظ قليل ولكنه يريد به المعاني الكثيرة المتعددة، وفي الحديث “حمدت الله بمجامع الحمد”( )،أي بكلمات معدودة جمعت معاني الجهر والثناء لله تعالى .
الثاني : المعنى الخاص والمراد منه القرآن لأن الفاظه محدودة متناهية ولكنها تحيط باللامتناهي من الوقائع والأحداث، لذا ذكر: ما من حرف من حروف القرآن الا وله سبعون ألف معنى).
الثالث : الوحي في السفر ، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن علي رضي الله عنه قال: نزلت في السفر:”ولا جنبًا الا عابري سبيل”،”وعابر السبيل”، المسافر، إذا لم يجد ماء تيمم( ).
الرابع :أول الوحي: أي ذكر أول آيات وسور نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة كما في قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ]( )، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا المُزَّمِّلُ]( )، وبعدها جاءت آية العبادة والتبليغ بالرسالة[قُمْ اللَّيْلَ الاَّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ القُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ) .
وقال مقاتل وغيره: لما نزلت { قم الليل الا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه } شق ذلك عليهم وكان الرجل لا يدي متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة ان يخطىء فانتفخت اقدامهم وانتقعت الوانهم فرحمهم الله( ).
والمزمل ليس من أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو بيان لحاله وإشتقاق من هيئته التي كان عليها، وكذا المدثر، ولا مانع من إتخاذهما من أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل وصفه بها، وكانت تلك الصفة من الشواهد على النبوة ووطأة الوحي.
الخامس:في المدينة والحضر.
الثالث والعشرون : أمانة الملك في الوحي.
الرابع والعشرون : وظيفة النبي في الوحي هل هي التلقي فقط، أم التلقي والتبليغ والعمل، ووظيفة المؤمنين.
الخامس والعشرون : أقسام الوحي.
السادس والعشرون : التهيئة والتعاهد الإلهي للنبي قبل وأثناء تلقي الوحي.
السابع والعشرون : الحكمة الإلهية في الوحي وحاجة الناس اليه وإلى النبوة.
الثامن والعشرون : الوحي والجن، من آمن منهم، ومن حاربه وكيفية محاربتهم له وإتصالها أو إنقطاعها وفي التنزيل[قُلْ أُوحِيَ اليَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الجِنِّ فَقَالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
التاسع والعشرون : هل الوحي هو الطريق الوحيد لصلة الملائكة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم هناك طرق أخرى لتبليغه وتبليغ الأنبياء الرسالة والوحي من عند الله، وهل إنفرد ببعض منها تشريفاً.
الثلاثون : خصوصيات الوحي والفرق بين وحي القرآن وغيره، كما ورد أن السنة أيضاً كان ينزل بها جبرئيل بالمعنى.
الحادي والثلاثون : دراسة مقارنة بين الوحي إلى الأنبياء، والوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومراتب الوحي بين الأنبياء فالوحي إلى الرسول يختلف عن الوحي إلى النبي.
الثاني والثلاثون : منزلة الوحي في العقائد والملك.
الثالث والثلاثون : الوحي والإعجاز القرآني.
الرابع والثلاثون : الوحي من دلائل النبوة.
الخامس والثلاثون : الوحي وعصمة الأنبياء.
السادس والثلاثون : الوحي والأمانة وفق مبحث المشتق في علم الاصول، أي الأمانة عند الموحى إليه قبل تلبس المبدأ في الحال أو بعد إنقضاء تلبس المبدأ في الحال، وإتصاف الأنبياء بالأمانة على نحو الإطلاق والإستدامة.
السابع والثلاثون : إستعدادات النبي للوحي سواء تلك التي إتصلت ببدايات حياته أو تلك التي تسبق الوحي مباشرة.
الثامن والثلاثون : أثر إنقطاع الوحي.
التاسع والثلاثون : الوحي والرؤيا وكيفية التمييز بينهما، وخصائص رؤيا الأنبياء وما لها من الشواهد في القرآن كما في سورة يوسف.
الأربعون : أنواع الوحي، والوحي لغير الإنسان, قال تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا] ( ).
الحادي والأر بعون : الوحي في القرآن.
الثاني والأربعون : الوحي في السنة.
الثالث والأربعون : دراسة مقارنة بين الوحي المكي والمدني, إذ جاءت السورة المكية خطاباً للناس جميعاً بدعوتهم للإسلام وبذات الصيغة التي كان الأنبياء يدعون الناس بها , وتضمنت لغة الإنذار والوعيد والتخويف , كما في قوله تعالى [الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ] ( ).
أما السور المدنية فجاءت بالخطاب التشريفي للمسلمين , وبيان أحكام الشريعة بالنداء الكريم [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وتضمنت الخطاب [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ][ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ]مع إشتراك الوحي والتنزيل المكي والمدني بذات الخطابات ولغة الإنذار والبشارة فلا ينحصر نزول خطاب[يَاأَيُّهَا النَّاسُ]بالآيات المكية, وكذا الإنذار والوعيد .
وتشترك الآيات المكية والمدنية بالأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة ليبقى حكم الآية المكية مستمراً في المدينة وتلتقي مع الآية والسورة المدنية بالبقاء والعمل بها إلى يوم القيامة , وفي قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) (وعن الإمام الصادق عليه السلام : أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق, وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)( ).
الرابع والأربعون : الوحي رحمة.
الخامس والأربعون : نزول الوحي.
السادس والأربعون : الوحي وأهل السماوات.
السابع والأربعون : روح القدس.
الثامن والأربعون : لغة الوحي فقد ورد مثلاً عن سفيان الثوري أنه لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه.
التاسع والأربعون : الرد على بعض المستشرقين في موضوع الوحي.
الخمسون : العلوم المستنبطة من الوحي.
الحادي والخمسون : صيغ وكيفيات الوحي، فمنها رؤيا منام ومنها معاينة الملك الرسول، ومنها ما تكون إلى نبي وأخرى إلى رسول، ومنها ما يكون تبليغاً او كتاباً.
الثاني والخمسون : توظيف الوحي وأسراره لتثبيت الإيمان ونشر معالم الدين.
الثالث والخمسون : جبرئيل والوحي, وفي قوله تعالى [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] قال ابن عبّاس : إن حبراً من أحبار اليهود يُقال له عبدالله بن صوريا كان قد حاج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسأله عن أشياء. فلما اتجهت الحُجّة عليه قال : أيّ ملك يأتيك من السّماء؟
قال : «جبرئيل ولم يُبعث الكتاب لأنبياء قط إلاّ وهو وليه. قال : ذلك عدُونا من الملائكة ولو كان ميكائيل مكانه لآمنّا بك؛ لأنّ جبرئيل ينزل بالعذاب والقتال والشقوة وإنّه عادانا مراراً كثيرة،
وكان أشدُ ذلك علينا أنّ الله تعالى أنزله على نبينا بإنّ بيت المقدس سيُخرب على يد رجل يقال له : بخت نصّر،
وأخبرنا بالحين الذي يُخرب فيه،
فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصّر ليقتله فانطلق يطلبه حتّى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً ليست له قوة. فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرئيل وقال لصاحبنا : إنّ كان ربكم هو الذي أذن في هلاككم فلن تسلّط عليه،
وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله. فصدقه صاحبنا ورجع : فكبر بخت نصّر وقوي وغزانا وخرّب بيت المقدّس؛ فلهذا نتخذه عدواً. فأنزل الله تعالى هذه الآية( ).
الرابع والخمسون : الوحي أعم من الكتب المنزلة.
الحاجة إلى الوحي في مسالك الهداية والرشاد والصلاح.
الخامس والخمسون : أثر الوحي في حياة المسلمين.
السادس والخمسون : الوحي في الشعر والأدب.
السابع والخمسون : الوحي والأحكام الشرعية.
الثامن والخمسون : كتّاب الوحي من الصحابة.
التاسع والخمسون : الوحي طريق لمعرفة لزوم طاعة الله تعالى وإجتناب معصيته.
الستون : الوحي شهادة سماوية لضرورة النبوة وصدق النبي الموحى إليه.
الحادي والستون : الوحي ومعجزات الأنبياء.
الثاني والستون : دراسة مقارنة بإعتبار أن الوحي معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث والستون : الوحي والعرب.
الرابع والستون : كيفية أداء الأنبياء للوحي بتبليغه وترسيخه في الأرض وما إنفرد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب وإستحق شرف الإرتقاء والسيادة في التبشير والإنذار.
الخامس والستون : الوحي معجزة عقلية.
السادس والستون : صيغ وبلاغة الوحي.
السابع والستون : الوحي خير محض، ونفع دائم ومتجدد إلى يوم القيامة.
الثامن والستون : يمكن إستقراء مسائل في علم الوحي من خلافة آدم في الأرض.
التاسع والستون : دراسة مقارنة بين الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوحي للأنبياء السابقين والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه, فمادة الالتقاء هي الملازمة بين النبوة والوحي, قال تعالى [كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ] ( ).
ولا تدل الآية أعلاه على عدم الوحي للأنبياء قبل نوح , إذ أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره, وكلام الله لآدم في الجنة يكفي في تحقق صدق الوحي بأسمى مصاديقه والقائل بأن آدم ليس بنبي إستدل بما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ومادة الإفتراق أن الوحي للأنبياء مجمل, والوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفصيل للأحكام, وينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن سنته وحي .
السبعون : يمكن إستقراء مسائل من خلافة آدم في الأرض, منها :
الأولى : الملازمة بين الخلافة والوحي بلحاظ أمرين :
الأول : النبي هو الخليفة.
الثاني : الخلافة أعم, ولكن الوحي خاص بالأنبياء, لأنهم أئمة الناس في سبل الهدى, قال تعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا] ( ) .
الثانية : مراحل الوحي إلى الأنبياء وإختتامه بالقرآن الكتاب الجامع لأحكام الشريعة, والسالم من المعارضة , والممتنع عن التحريف وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
الثالثة : تثبيت الخلافة في الأرض بالوحي والتنزيل, وتعاهد المسلمين للوحي بالتصديق والعمل بمضامينه القدسية , وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابعة : الوحي بيان وتفسير لمعاني الخلافة في الأرض, وأن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم في الأرض, بل جعل صلة قدسية بينه وبينهم, تفضل وأمر الملائكة بالنزول بالوحي إلى الأنبياء.
وقد وردت مادة (وحي) في القرآن ثمانا وسبعين مرة, وهو عدد ليس بقليل, لتكون فيه موعظة, ومناسبة لإستنباط المسائل والبراهين من القرآن وكلها في الوحي إلى الأنبياء بإستثناء عدد قليل منها , مثل قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا] ( ).
الحادي والسبعون: موضع نزول أول الوحي وهو غار حراء والذي يقع على نحو ثلاث كيلو مترات من مكة المشرفة جهة الشمال ويطل على منى، ويكون على يسار المتوجه إلى عرفات.
وعن أنس بن مالك: قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما تجلى الله عز وجل للجبل، طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة، وثلاثة بمكة، ووقع بالمدينة أحد، وورقان ورضوى، ووقع بمكة حراء وبثير وثور , أي التجلي في قوله تعالى [فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا]( ).
وسمي حراء جبل النور لنزول أول سورة من الذكر على النبي حينما كان يتعبد في غار في الجبل، وفي الغار مكان يجلس فيه إنسان وتصير الكعبة أمامه.
الثاني والسبعون: موضوعية وأثر الوحي في التغيير الحاصل في المجتمعات، والإرتقاء في المعارف الالهية، والتحصيل في الفقه والعلوم الشرعية، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا اليْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا]( ).
الثالث والسبعون: مقدمات الوحي: منها أن النبي محمداً كان يسمى قبل النبوة الأمين لصدقه وأمانته، وحفظ الله له صلى الله عليه وآله وسلم من أدناس الجاهلية وعصمه من أسباب الضلالة، (وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر ، عن علي، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل عبدت وثناً قط؟ قال : لا .
قالوا: فهل شربت خمراً قط ؟ قال: لا وما زلت أعرف الذي هم عليه كفر، (وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإِيمان) وبذلك نزل القرآن {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإِيمان)( ).
الرابع والسبعون: عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند إبتداء الوحي وأنه كان أربعين سنة، وبدا له جبرئيل عليه السلام في الهواء، فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت خديجة وهو يقول دثروني دثروني، فدثر بثوب فنزل عليه جبرئيل , وقال[يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ]( ).
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وأنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة”( ).
الخامس والسبعون : الوحي ومنزلته في باب المعجزة، فكانت معجــزات الأنبياء السابقين في الغالب حسية آمن بها الذي حضرهــا وشاهدهـا، أما معجزة القرآن فهي الوحي والتنزيل الذي تبقى إطلالته وإشراقاته بالقرآن وأســراره وبلاغتــه وعلومــه إلى يوم القيامة، وفيه دلالة وبرهان على عظمة الإسلام والإرتقاء الفكري عند المسلمين والمجتمــع الذي نزل فيه الوحي، لأن الوحي وآيات القرآن أثبتت معجزات الأنبياء توكيداً وتوثيقاً كسفينــة نوح، وناقة صالح، ونجــاة ابراهيـم، وعصــا موسى، وعصمة يوسف، والآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام.
لذا يمكن إستقراء إعجاز قرآني وقاعــدة كلاميــة كليــة وهي: بالوحي ظلت معجزات الأنبياء معــروفة وحاضرة.
وبين الإعجاز والوحي عموم وخصوص مطلق، فكل وحي إعجاز وليس كل إعجاز هو وحي، مع عدم إمكان التفكيك بينهما، وكل واحد منهما شاهد صدق ودليل ومتمم للآخر.
والوحي من عالم الأمر، وفيه شاهد على علو مرتبته , وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه”( )،
ويمكن معرفة المقصود من اللفظ بلحاظ القرائن والأمارات وقوله صلى الله عليه وآله وسلم “اوتيت” يعني أن المقصود هو القرآن.
وفيه توكيد لإرتقاء القرآن على الكتب السماوية الأخرى، وإستغراق علومه في عالم الملكوت وهو كمال حقيقي وتحصيل في العلوم يترشح عنه إنطباقاً الإيمان واليقين، وترجمة واقعية لعالم الغيب بالدليل والبرهان وإستدلال بالشاهد الحسي على الغائب العقلي.
والوحي عنوان القدرة الالهية، وكلام الله تعالى غير منحصر بالأصوات والحروف أو الالفاظ أو المعاني والأعراض، لذا قيل بأن نزول الوحي إنما هو مجاز، ولكنه حقيقة عقائدية عقلية وحسية.
وفسره المعتزلة بأن الله يخلق أصواتاً وحروفاً على لسان جبرئيل، وقال الأشاعرة بأن الله يخلق في اللوح المحفوظ كتابة فيقرأها الملك ويحفظها، وتارة تكون أصواتاً في جسم معين يأخذها جبرئيل مع علم ضروري بأنها كلام الله.
وهل الكلام مصدر، أم إسم مصدر، والأول ما دل على الحدث، والثاني ما دل على لفظ، وهذا اللفظ يدل على الحدث، الظاهر أنه الثاني، والكلام لغة الأصوات والحروف المتتابعة الصادرة من المتكلم، وعند جماعة من النحويين المركب من المسند والمسند إليه، الحروف المنتظمة والأصوات المسموعة.
ومنهم من جعله المعنى القائم في نفس المتكلم , ويبرز إلى الخارج بالحروف والأصوات المسموعة وأكثر المتكلمين على الأول، والنزاع صغروي لأن تلك الحروف لا تصــدر من المتكلم الا علـى نحو الإخبار والبيان لما يريــده وما قــام في نفســه، لذا أختلـف في إطلاق الكلام على المعاني النفسانية .
وهل هو إطلاق حقيقي أم مجازي، الأرجح هو الثاني.
وهل تدل الآية أعلاه على إبتداء الوحي بنوح عليه السلام, وعلى هذا القول يكون كلام الله عز وجل لآدم على وجوه :
الأول : إنه أعظم من الوحي لعدم وجود الواسطة , فليس من ملك ينقل كلام الله لأدم بل كلمه الله قُبلاً”( ), وفي التنزيل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
الثاني : جاء تكليم الله لآدم عندما كان في الجنة وليس بعد هبوطه إلى الأرض, ونواميس السماء تختلف عن نواميس الأرض.
الثالث : وقوع تكليم الله عز وجل لآدم عند أول خلقه ونفخ فيه الروح , وآدم نبي رسول أوحى إليه , وكلمه قبلاً .
الإستعاذة
الإستعاذة مشتقة من العوذ وهو الإلتجاء والإستجارة، وقيل أنه بمعنى الإلتصاق يقال أطيب اللحم أعوذه، وهو الملتصق منه بالعظم، ولابد أن تعني الإستعاذة بهذا المعنى الالتجاء إلى رحمة الله، وعظمته وإستجابة الأشياء جميعاً لإرادته.
ورد عن إبن عباس أن أول ما نزل به جبرئيل على محمد عليه الصلاة والسلام: قل يا محمد أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: [ بسم الله الرحمن الرحيم * اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الذِي خَلَقَ] وفيه بيان لموضوعية الإستعاذة ومنزلتها في مراتب العبادة والصلاح , ودليل على أنها مقدمة حميدة للتلاوة, وإصلاح للذات للسياحة في كنوز القرآن.
والإستعاذة هي قولك (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
والمعنى الأول هو الأقرب والأنسب والأظهر، ولا مانع من التعدد بالمعنى والمفهوم، وهل المقصود من الشيطان المستعاذ منه إبليس أو الأعم منه، الجواب إنه أعم من إبليس ، والألف واللام للجنس وليس للعهد لأن المراد بالشيطـان ما كان شراً مطبقـــاً بالذات والعرض والمدار على عموم اللفــظ لا خصوص السبـب فلا تنحصــر الإستعاذة بالتوقي من إبليس وإن كان الفـــرد الأهــم والأصل المستديـم في الشر والإفتتان إلى الأجل المعلوم.
والشيطان مأخوذ من الشطن وهو البعد، يقال شيطن دارك أي بعد، ولأن الشيطان يتلبس بالمعصية والجحود فانه إبتعد عن الرشاد والسداد أو عن رحمة الله، أو كليهما معاً لما بينهما من نوع ملازمة وتسبيب.
والرجـيــم : فعـيـل بمعـنــى مفـعــول أي مــرجــــوم ، قــال تعـــالى[لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ ]( )، ونعت الشيطان بهذا الوصف لأمر الله تعالى الملائكة برمي إبليس بالشهب الثواقب طرداً له من عالم السماوات، ثم وصف به كل شرير متمرد، وفيه أي في تعميم هذا الوصف وعيد وإنذار وتخويف لهم، وتحذير للمؤمنين من شرهم، وجاءت الإستعاذة مطلقة عامة كما وردت شخصية خاصة .
وهل الشيطان من المجردات أم أنه من عالم الخلق والمادة، وغير مجرد عن الزمان والمكان والجهة، الأصح هو الثاني لأنه لو كان أمراً عقلياً لما كان مزاحماً أو مضاداً لشيء.
قال تعالى[ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ]( )، والخطاب وإن كان موجهاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المقصود الأمة بأجيالها المتعاقبة وعلى نحو المجموع الإستغراقي للأولوية ومناسبة الحكم والموضوع، فاذا كان النبي المعصوم مأموراً بالإستعاذة فغيره أجدر بإتيانها والمواظبة عليها.
والإستعاذة إقرار من العبد بالعجز عن مواجهة الابتلاء والافتتان , فهي نوع معرفة بالله عز وجل وتعلق قدرته بالمقدورات جميعاً لإشتراكها في الإمكـان وملازمة الحاجــة للممكن , ولإنتفاء المانع بالنسبة لواجب الوجــود لأن المقتضي قدرة الله تعالى , وهي مطلقة ومتساوية بالنسبة للجميع لتجردها من الزمان والمكان والجهة.
والإستعاذة مصداق لفظي خارجي في أوانه المحدد، مع إعتبار الإستعاذة المعنوية باستكمال صفات الصلاح وإحاطة النفوس بقيود الإيمان، وواقية التقوى لتكون حرزاً من رذائل الأعمال وإغواء الشيطان.
ولعل هذا التقسيم يدخل في أصل تشريعها والحكمة منها ليكون من وظائف الإستعاذة أيضاً، وتكون مصاديقه سلاحاً مركباً، وحصانة للنفس، ومناسبة للإلتفات المتجدد إلى صلاحها.
وقوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ] أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله حذفت لإرادة الدلالة الكلام عليه، ولأن الإستعاذة نوع مقدمة للقراءة , ومن خالف المشهور والمتبادر قال بأن المراد هو الإستعاذة عند الفراغ من قراءة القرآن.
ولا يتعوذ في الصلاة عند مالك , وعند الشافعي وأبي حنيفة يتعوذ في أول ركعة من الصلاة، وقال جماعة بالتعوذ في كل ركعة لأن الآية أعلاه تدل على الإطلاق في الإتيان بالإستعاذة في الصلاة وغيرها.
ومن صيغ الإستعاذة:
الأولى: أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي.
الثانية: أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد.
وكل واحدة منهما لم ترفع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابة أو أهل البيت.
ويحتمل لفظ الشيطان في الإستعاذة وجهين:
الأول: إرادة العهد في الألف واللام في لفظ (الشيطان) والمراد إبليس على نحو الحصر والتعيين.
الثاني : إرادة الجنس، والمراد شياطين الجن والإنس.
والصحيح هو الأول لورود نعت الرجيم، وهو فعيل بمعنى مفعول، والمراد أنه طريد من رحمة الله , قال تعالى [فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ *وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ] ( )، نعم يكون الوجه الثاني أعلاه في طوله، وتشمله الإستعاذة كفرع من الأصل.
وجاءت الإستعاذة بصيغة المضارع (قل أعوذ بالله) لأنها دعاء ولجوء إلى الله عز وجل في مستقبل الأيام، وهل هي من مصاديق الإستغفار الجواب لا، قال تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
والإستعاذة سلاح الأنبياء، والأولياء والمسلمين عامة في جميع الأزمان ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض قال الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فاذعنوا وأقروا بحكمة الله، وأن خلافة الإنسان في الأرض من بديع صنع الله، ومن علمه تعالى أنه علم الإنسان الإستعاذة، وجعلها سلاحاً وواقية من إبليس وجنوده، ليكون من عمومات لعن إبليس في قوله تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ]( )، أن المؤمنين يستعيذون بالله منه،ويطردونه من قلوبهم، ويحترزون من إغوائه .
وجاءت الإستعاذة على لسان أم مريم كما ورد في التنزيل[وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( )، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ الشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسَّةِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا( ).
في القراءة
تعتبر الإستعاذة ســـراً من أســرار القرآن، ومفتاحاً لعلوم ومراتب في التقوى، ومغلاقاً لما يداهم النفس من شرور تحول دون الإنتفاع الأمثل من القراءة، فالقوى الشيطانية التي تريد الإنتقاص من توجه العبد إلى صلاته، وما في هذا التوجه من صلاح وثبات على دروب الهداية وإرتقاء في درجات العالية في منازل الثواب، ومضامين الأجر فإن قراءة القرآن واقية لدفع وطرد الشيطان وأثره.
ويجتهد الشيطان في إبتكار صيغ الضلالة وهو يحاول إفراغ الصلاة من صبغتها الروحية العبادية، وجعل العبد لا يخرج منها الا بالقيام والقعود، أو يدس إلى النفس الشكوك والوسواس، او يجعل الإنسان يجتهد وينقطع إلى العبــادة بما يترك معه وظائفــه الحياتية والمعاشية الأخرى لذا فإن الأمر القرآني بالإستعاذة نوع رحمة من الله تعالى وتخفيف ومدخل لنيل عظيم الثواب والإنتفاع الأمثل من العبادات، أي أن الله تعالى تعاهد الصلاة الشخصية للعبد كما تعاهد الصلاة في كيانها ووجودها على الأرض، إنها سبيل إلى عدم التفريط أو الإفراط، وهذا القول يفتح آفاقاً في مباحث فلسفة الإستعاذة على نحو الإنفراد في التصنيف والدراسة.
ويتعلق قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) بقراءة القرآن في الصلاة وغير الصلاة وإن كان وجوب القراءة ينحصر بالصلاة، فلا شيء من القراءة خارج الصلاة بواجب الا أن يكون الوجوب بالعرض كالنذر ونحوه، لذا يمكن أن يكون المراد من القراءة الصلاة، تسمية للشــيء ببعض أجــزائــه، ويمكن الإستدلال بقوله تعالى[إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) أي صلاة الفجر وما يقرأ فيها.
والأمر بالإستعاذة أعم من الوجوب، إن دراسة في مضامين وماهية الإستعاذة يفيد عمومها وأنها تتعدى القراءة أيضاً.
وهل الإستعاذة واجبة في القراءة أم مستحبة . الجواب:إنها مستحبة وعليه الإجماع والنصوص , وأوانها قبل الشروع في القراءة وفي الركعة الأولى، وصحيحة الحلبي عن الإمام جعفر الصادق بعد تكبيرة الإحرام، ثم تعوّذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم إقرأ فاتحة الكتاب، وقال السيوطي(يسن التعوذ قبل القراءة) ( ) , والمراد من السنة هنا الإستحباب والندب .
وذهب جماعة إلى التعوذ بعد القراءة لظاهر الآية , ومنهم من قال بوجوبها لظاهر الأمر , ودلالة صيغة إفعل , وحكى ابن جرير الإجماع عليه , وقيل بإختصاص وجوب الإستعاذة بالنبي والندب لأمته , ولا دليل عليه.
وذكرت الفاظ متعددة للإستعاذة منها أستعيذ ونستعيذ وإستعذت إقتباساً من صيغ الإستعاذة في القرآن، وليس فيها حصر من حيث الصيغة وتجوز الزيادة والنقيصة غير المخلة ، ولكن السنة القولية والفعلية مبينة للقرآن وفيها أن التعوذ قبل القراءة , والمقصود في الآية الكريمة: اذا أردت الصلاة .
وروي عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين إفتتح الصلاة قال : الله أكبر كبيراً ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاث مرات ثم قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه.
والظاهر أنها جاءت على نحو القضية في الواقعة وأنها ليست ملازمة لكل صلاة فريضة، وهي ليست من الحديث المتواتر عن الصحابة وأهل البيت، ويدل إتيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الإستعاذة على نحو المرة أو المرات القليلة إستحباب هذه الصيغة من الإستعاذة.
وفي صيغة الإستعاذة وجوه منها :
الأول : الصيغة المشهورة للإستعاذة هي (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ونعتها السيوطي : بأنها (صفته المشهورة)، وبه وردت رواية ابن عمار عن الأمام الصادق عليه السلام، وقال السيوطي وكان جماعة من السلف يزيدون(السميع العليم) ( ).
الثاني : (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).
وتدل صحة وجوه الإستعاذة على تعدد المطلوب وعدم الحصر، وصدق الإستعاذة اللفظية وتحقق الإجزاء بأي منها.
والكل يفيد الإمتثال والإجزاء وفيها مجتمعة ومتفرقة أمر ذو أولوية وهو الإستعاذة المعنوية بأن يقحم المصلي نفسه في دروب الكمالات الإنسانية ويقهرها على الإبتعاد عن رذائل الشيطان والكدورات الظلمانية.
وأختلف في كيفية الإتيان بالإستعاذة من حيث الإجهار بها أو الإخفات على وجهين :
الأول : الجهر بها إظهاراً لشعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد، وعن ابن الجوزي: “أنه المختار عند أئمة القراءة وأن منافع الجهر بها أن السامع ينصت للقراءة في أولها لا يفوته منها شيء”( ).
وهل هذا المعنى يتعلق بالقراءة في غير الصلاة أم فيها وفي أداء الصلاة الجهرية جماعة وانفراداً، وهي المغرب والعشاء وصلاة الصبح على القول بالتعميم وشمول الإستعاذة بخصائص الصلاة الجهرية، أم تكون بلحاظ عمومات أحكام الإستعاذة في الصلاة الجهرية والإخفاتية- وهي الظهر والعصر- ذات طبيعة واحدة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثاني : الإخفات بها، وفي الخلاف للشيخ الطوسي الإجماع عليه، وقيل يُسر مطلقاً)( ) وهذه النسبة نوع تضعيف له , وروي الإخفات عن حمزة ونافع من القراء السبعة.
ولا تعارض بين الوجهين , ولا مانع من الإتيان بالإستعاذة جهراً في الصلاة الجهرية خصوصاً مع وجود الراجح الذاتي او الغيري أي ما يتعلق بالمصلي أو غيره لأن الإستعاذة طرد للكدورة الظلمانية، وتخل عن الأخلاق الذميمة ,, وحرب على الشيطان .
والإستعاذة وفق القواعد الكلامية إقرار وإعتراف بضعف النفس عن مواجهة الفواحش، وحاجة المستعيذ للالتجاء إلى الله عز وجل الذي هو مصدر القوة والعزة, قال تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ),[فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( ).
ويحتاج الإنسان الإستعاذة بمراتب متفاوتة تتناسب في إطرادها مع المنزلة والمقام الإجتماعي والديني والسياسي له، فكلما تكون مسؤوليته أرفع تكون حاجته للإستعاذة بالله أشد وأكثر الحاحاً بما يبذله الشيطان وجنوده من الإنس معه من إغواء ومحاولات إضلال متتالية ومتشعبة.
ولا تزيد الإستعاذة الذي ينهل منها إلا أماناً وغبطة لما تعنيه من مفاهيم التوكل على الله، وما فيها من عناوين صدق العبودية، فهي إلتجاء إلى أنوار الحكمة الالهية من شرور عالم الموجودات والقوى الحيوانية الموجبة للحسد والأذى والعدوان.
ولا تنحصر الحاجة إلى الإستعاذة بالمسلمين، فلقد كانت ملازمة للإنسان منذ الساعات الأولى لخلقه أي منذ خلق الله عز وجل آدم إذ حسده إبليس، ويمكن تقسيم الإستعاذة بلحاظ متعلقها إلى :
الأول : الإستعاذة من إبليس، وإبليس إسم مشتق من التحير والندم والابتعاد عن الرحمة واليأس من النجاة، وهو إسم عربي، وقيل أنه أعجمي لا ينصرف، وكنية إبليس أبو مرة، وكان إسمه الحارث، وبالعبرانية عزازيل .
فلما صدرت منه المعصية سمي إبليساً، وكان مع الملائكة ويتصف بالاجتهاد في العبادة، ولكنه كفر عندما خلق الله عز وجل آدم وأمره بالسجود للمخلوق الجديد، ولم يكتف بتلك المعصية وما ترتب عليها من عقاب شديد، وهو خروجه من الجنة، بل سعى في إطراد لإغواء بني آدم، ولكن ولعظيم رحمة الله تعالى ظل كيد الشيطان واهناً لا شأن له , قال تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
وجعل الله سبحانه الإستعاذة وقاء من هذا الإغواء لذا يمكن إعتبارها حرزاً من النار وأماناً يوم القيامة بالواسطة، وسلاحــاً مباركاً في مواجهــة عدو مصــاحـب أو قريب، قال تعالى[أن الشَّيْطَان لَكُـــمْ عَـــدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَــــدُوًّا أنمَا يَدْعُـــو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْـــحَابِ السَّعِيرِ ]( ).
الثاني : الإستعاذة من الشيطان على نحو العموم الإستغراقي أو العموم المجموعي الذي يعني إتحاد الجميع في الحكم بما هم مجموع، والعموم البدلي، وليكون موضوعاً واحداً كما جاء في قوله تعالى[وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أن يَحْضُرُونِ]( )، وهذا العموم بوجوهه المختلفة ينبسط على المستعاذ منه.
وينفرد الله عز وجل بأنه وحده الذي يُستعاذ به، فكل إنسان يحتاج الإستعاذة لأنه ممكن، ولملازمة الإحتياج للإمكان، وكل شيطان لابد من الإستعاذة منه لشروره الذاتية وفتنته.
الثالث : يدخل إبليس في إصطلاح الشيطان المستعاذ منه، ليس كفرد فحسب فهو معلـــم ورائــد الشــر والكفر والضلالة، كما في قوله تعــالى[فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالغَاوُونَ * وَجُنُودُ إبليس أَجْمَعُونَ ]( )، ولابد أن المستعـاذ منه في هذا الباب أكثر أهمية من الإستعاذة من إبليــس بمفــرده للحصــص الزائدة التي يفيدها التعدد، والمجموع الذي قد يأتي ضرره على نحو الأفراد والتعدد .
الرابع : الإستعاذة من الشيطان كإسم جنس لا تنحصر بإبليس وإن ورد إسم الشيطان أحياناً علماً ودلالة على إبليس.
الخامس : الإستعاذة من الفعل القبيح كما في قوله تعالى حكاية عن موسى [قال أعوذ بالله أن اكون من الجاهلين]( )، لما في هذا الفعل من مناسبة لحضور إبليس، ولأن الجهل ونحوه باب لنفاذه وإستحواذه.
السادس : الإستعاذة بلحاظ المستعاذ به أي أنها ترد على نحو الإطلاق، وعدم التقييد بنوع أو جنس المستعاذ منه أو موضوع الإستعاذة، فتكون إلتجاء إلى الله عز وجل من وجوه وأسباب الشر، ومن كل ما تخشاه النفس من الأذى والضرر من وجوه :
الأول : ما يأتي مباشرة ودفعة واحدة.
الثاني : ما يكون سبباً ومقدمة للضرر.
الثالث : الضرر الذي يأتي بالواسطة أو على نحو التدريج.
السابع: ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أعوذ بك منك( )، وفيه على فرض صحة الصدور والسند دلالة على أن العبد يكون في مراتب التقوى العالية منقطعاً إلى الله ولا يرى في الوجود غيره، وهو أيضاً نوع خشية منه تعالى وخوف من الفتنة والإستدراج والعقاب .
وتقدير الحديث: أعوذ برحمتك من سخطك ومع هذا الأولى التحقيق في سند الحديث والمختار أنه ضعيف دلالة , فلا يكون الحديث النبوي في ظاهره جامعاً الضدين في باب الإستعاذة فقد أمر الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالإستعاذة من الشيطان, فلا يستعيذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله بل تكون الإستعاذة بالله وفي الله ولله وهل تكون مع الله, الجواب : لا, فهذه المعية تنفي أي أثر لإبليس كما في الإقامة في الجنة إذ لا أثر للشيطان, الا أن يكون مضمون الحديث شكراً لله , وبيانا للخشية منه تعالى .
الثامن: الإستعاذة والاحتيــاط بلحـــاظ الفعل المأتي به، كما في قوله تعالى[فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ… ]( ).
التاسع : الإحتراز والإستعاذة من المكروهات، مما يصل إلى الإنسان من التعب والنكد والفقر والمرض والسرقة والظلم والبغضاء ونحوها، مما يستعيذ منه الإنسان بإعتبار أنها طرق وأسباب لنزغ الشيطان.
العاشر : الإستعاذة من قوة الشر في النفس ونزوغها إلى السوء والمنكر، رجاء إتساع دائرة الإستثناء الوارد في قوله تعالى[أن النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ الا مَا رَحِمَ رَبِّي ]( ).
الحادي عشر : إنها إعدام لما في النفس من قوة وهمية مستجيبة لوساوس الشيطان.
الثاني عشر : هناك وجوه أخرى لمتعلق الإستعاذة يمكن إستقراؤها من الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى[ قَالتْ اني أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ أن كُنتَ تَقِيًّا ]( ).
ولم تُبحث مسألة وجوب الإستعاذة أو عدمه بحثاً تفصيلياً وأكتفي بموضوع الإبتلاء وهو الإتيان بالإستعاذة في الصلاة مع التسليم بموضوعيتهــا وعظيـــم نفعهـا، وأهميتها في مراتب المندوب.
وقد أفردت في رسالتي العملية الموسومة “الحجة” باباً للإستعاذة( )، وأكثر المفسرين لا يولون الوجوب والإستحباب في المقام عناية فتوائية ومع هذا ذكرت أقوال في المقام منها :
الأول : وجوب الإستعاذة المتجدد والمتكرر في كل مرة يقرأ بها القرآن وفي غير القراءة , وبه قال عطاء، وأسـتدل عليه بمواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإستعاذة وبقوله تعالى[ فَاسْتَعِذْ بالله ]( ) الذي يفيد الأمر فيه الوجوب.
الثاني : وفي علم الأصول أختلف في دلالة لفظ الأمر الذي هو بمعنى الطلب والبعث الدال على الإرادة والرغبة هل يدل على الوجوب أو على المعنى الأعم منه أو أنه مشترك بين الوجوب والندب إشتراكاً لفظياً.
والأرجح هو الأول أي يدل على الوجوب الا مع القرينة الصارفة عنه إلى غيره أو إلى المعنى الأعم، ولأن العقل يحكم بلزوم طاعة المولى والإمتثال لإرادته, لاسيما وأن الغاية من الأمر بالإستعاذة هو العبد نفسه وأستدل على الوجوب بأن دفع الشيطان واجب، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب، والإستعاذة وسيلة لدفع شر الشيطان، والإحتياط يوجبها.
ويمكن الرد على الإستدلال بمواظبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الوجوب بوجوه :
الأول : المواظبة أعم من الوجوب، فقد تحصل المواظبة على المستحبات.
الثاني : قد يكون الوجوب منحصراً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يشمل الأمة تخفيفاً ورحمة كما في صــوم الوصال ونحـــوه من مختصـات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : تأتي المواظبــة لتوكيد موضوعيتها وإن كان الفعــل من المستحبات.
ومع ورود الإحتمال يبطل الإستدلال.
وفي قوله تعالى[فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْأن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ]( )، أستدل على الوجوب بأن ذكر الحكم عقيب الوصف وترتيبه عليه مشعر بكون الوصف علة للحكم، وأن الحكم يتكرر لأجل العلة، فتجب الإستعاذة على كل إنسان للأمر بها.
ولكن وردت قرائن من السنة يمكن معها إستفادة الندب وعدم تجدد الوجوب في كل مرة ولابد من الرجوع إلى السنة الشريفة في هذه المسألة الإبتلائية.
وفي مرسلة الفقيه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتم الناس صلاة وأوجزهم، كان إذا دخل في صلاته قال: الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم) وفي خــبر فرات عن الأمام الباقر عليه السلام: “فاذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي أن لا تستعيذ”.
الثالث : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره، فقد كفى في إسقاط الوجوب، وبه قال إبن سيرين( ).
الرابع : الإستعاذة مستحبة وهو المشهور والمختار.
الخامس : ونضيف مسألة وهي يمكن التفصيل بين أمور :
الأول : الإتيان بالإستعاذة في الصلاة.
الثاني : ذكر الإستعاذة عند قراءة القرآن.
الثالث : الإتيان بالإستعاذة مطلقاً، وفي كل الأحوال، فقد تكون واجباً في أمر دون الأمر الآخر، أو أنها تعني في أحدهما.
وستبقى الإستعاذة من الكنوز السماوية التي أنفتحت أبوابها لأهل الأرض , ولم ينتفع منها إلا المؤمنون فلقد إقتضت الحكمة الالهية إمتحان الإنســان في الحيــاة الدنيا وأن يكون إستحقاقه للخلود في النعيم الأخروي بأنماط من الابتلاء ومداهمة الشرور من الشيطان، أو من جنوده من الإنس والجن، أو من ذات النفس الأمارة بالسوء.
وربما يقال لماذا هذا الإبتلاء بوسوسة الشيطان، لو تفضل الله عز وجل علينا بسلب القدرة عن إبليس في الأثر والتأثير، الجواب : إن الإبتلاء بشرور إبليس ليس حتمياً أو قطعي الحصول بالنسبة لكل إنسان، فهناك إستثناء منه تدل عليه آيات قرآنية عديدة منها قوله تعالى حكاية عن إبليس[ قَال فَبِعزَّتِــــكَ لأُغْوِيَنَّهُــمْ أَجْمَعِينَ * الا عِبَــادَكَ مِنْهُمْ المُخْلَصِينَ]( )، ومن الإستثناء ما كان في داخل الإنسان وجزء منه بما رزقه من النفس العاقلة, وتفضله بنشوء مرحلة التكاليف بالبلوغ وتحقق التمييز العقلي.
وبالإستعاذة لا يكون إبتلاء بإغواء الشيطان، إنها نوع دعاء وتضرع إلى الله عز وجل وحصـانة إختيارية، والدعاء ســلاح الأنبيــاء، وهو قاهر بالتأكيد للكيد الذي يجسده مكر إبليس, وقد لا يكفي العلم والفضل والورع في التحصن من الشيطان لأن مكره معها يكون أخفى، وحيله أشد فلابد من الإستعاذة والإلتجاء إلى الله عز وجل بالإستعاذة منه، أو تأتي الحصانة من الله تعالى إبتداء.
وإذا كانت الإستعاذة مصداقاً وفرداً من أفراد الدعاء ففيه وجوه :
الأول : الإتيان بالإستعاذة معلق على الإستجابة.
الثاني : يدل الأمــر ضمناً على الوعــد بالإستجابة لعمومات قوله تعالى[ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ]( ).
الثالث : الإستعاذة مقدمة للتخلص من مكر إبليس .
الرابع : إنها جزء علة لإعتبار موضوعية أعمال العبد.
وعدا الوجه الأول فان الوجوه الأخرى من مصاديق وغايات الإستعاذة منفردة ومجتمعة.
ويدل الأمر بالإستعاذة ووروده بلغة العموم على أن إبليس لم يكن مطلق اليد في العبث بالإنسان وإغوائه، وهي أمارة على عظيم رحمة الله عز وجل بما جعل عند الإنسان من سلاح دائم للتصدي لشرور الشيطان، وما في هذا التصدي من الثواب والأجر، أي أن الإستعاذة لا ينحصر أثرها بطرد الشيطان، فهي دعاء ولجوء إلى الله وإحتراز وموضوع مستقل ذاتاً، بالإضافة إلى وظائفها التي شرعت من أجلها سواء كانت عند القراءة أو عند مداهمة العدو مطلقاً.
وهل الإستعاذة مستحب كفائي أو واجب عيني، فلو كان جماعة كل واحد منهم يقرأ القرآن فهل يكفي إستعاذة واحد منهم، كالتسمية على الأكل، أو كرد السلام الذي هو واجب كفــائي وعليه الإجماع، أم يبقى الإستحباب لكل واحد منهم؟
إنها مستحب عيني لإنحلال الأمر بها بعدد المكلفين ليكون مستغرقاً لهم، وإتيان الفرد بالإستعاذة، لا يسقط إستحباب إتيان غيره لها لأن كل إنسان معرض للإبتلاء باغواء ووسوسة الشيطان والأمر بها جاء على نحو العموم البدلي بحكمه، لأن الغالب في التكاليف والسنن والمتبادر عند الإطلاق، والأصل هو الوجوب والاستحباب العيني وليس الكفائي.
والإستعاذة سبيل لطرد الشقاء الذي يحول دون الإرتقاء ونيل الكمالات الأنسانية ودرجات المعرفة، إذ أن الإنسان ليس شريراً بالفعل بل أن الشر وغلبته على السلوك تأتيه بالعرض.
وستبقى الإستعاذة صلة مباركة بين العبد وخالقه، وهي نوع إستغاثة وليس من حاجب أو موانع بين نداءات الإستعاذة التي يطلقها العبد وبين الله عز وجل، وهي عنوان التخلي عن الكبر والتكبر والإعجاب بالنفس الذي هو مذموم من العبد، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “كلكـم في الجنــة الا من أبـى”( )، والتكبر منه تعالى ممدوح وهو[ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ]( ).
وقد ترد الإستعاذة بالله ولكن بالواسطة كما في الحديث (وأعوذ بكلمات الله التامات) ( )، فلا يعني الإستعاذة بها بالذات والإستقلال والأصالة وهي من رحمة الله تعالى وصيغ الإستعانة بالله سبحانه ولو بالواسطة، وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إذا نزلت في الرجل النازلة الشديدة، فليصم فان الله عز وجل يقول: [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ]( ) يعني الصيام، إذ أن الأعمال العبادية نوع إستعاذة عملية وسلاح وواقية بدنية ومالية من الشيطان وإغوائه.
فالصيام عبادة وإستعانة منطوقاً، وإستعاذة مفهوماً وأثراً، اما الإستعاذة فإنها لجوء وإستغاثة بالله عز وجل منطوقاً، وإستعانة وحسن توكل مفهوماً.
والصبر هو كف النفس عن الهوى مع الامتثال للتكاليف, ويعتبر طريقاً مباركاً للكمالات الإنسانية وله موضوعية وأعتبر من الفضائل، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفــزع إلى الصلاة، وعن الإمام الصــادق عليه السلام: كان علي اذا أهاله أمر فزع إلى الصلاة ثم تلا هذه الآية [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَأنهَا لَكَبِيرَةٌ الا عَلَى الخَاشِعِينَ ]( ).
فكما أن الإستعاذة طريــق لإتيـان التكاليف فإن الصبر والمواظبة على العبادات طريق عملي لطرد الشيطان ونزغه وسد المنافــذ النفسيـــة التي قـــد ينفذ منها، وهو المبتعد عن الحق الذي إختار عداوة الإنسان لتفضيل الباري له وتفضله بالنفخ في روحه.
وتكرار الإستعاذة نوع تدرج وإرتقاء في سلم ومراتب الخلق الحسن، وهي بإستثناء موارد العصمة لا تتم إلا بالتدرج والإكتساب والصبر، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “بعثت لأتمم مكارم الإخلاق” ( ) .
وهل الإستعاذة سبب وطريق إلى التضرع، أم التضرع سبيل إلى الإتيان بالإستعاذة؟ الحق أن كلاً منهما طريق وسبب للآخر وإرتقاء في درجاته.
إن موضوع إبليس والإبتلاء به يدل على وحدة الأديان السماوية وصدق النبوة وإخلاص الأنبياء وتفانيهم في هداية الناس فقد أنذر الأنبياء من الشيطان وأخبروا بأنه مبعث الشر ورائد الفساد، وإذا إستقرأت الآيات القرآنية، والقرآن فيه تبيان كل شيء تجد فيه الإخبار عن الشيطان متمثلاً بشخص خاص وله أعوان من صغار الشياطين يأتمرون بأوامره , ووسائط من الأنس والجن، وأنه يغري الإنسان ويدعوه إلى الضلال ولكن على نحو الإقتضاء لا الجبر والإكراه.
وقد ينفذ الشيطان بالوسوسة وتزيين الشك والوهم ليكون مدخلاً إلى الحرام والضيق والسأم من فعل الصالحات، وفي رواية إبن سنان عن الإمام الصادق قلت له: “رجل عاقل مبتلى بالوضوء، قال عليه السلام: وأي عقل له وهو يطيع الشيطان”والبلاء هنا بمعنى الإمتحان وكثرة الشك في أفعال الوضوء.
وليس حقيقة الشيطان هي الجهل او الجهل المركب كما قيل، بل إن الجهل والغفلة ونحوهما أبواب ينفذ منها الشيطان إلى النفس الإنسانية فلابد من الاقرار بالحقيقة التكوينية وهي أن للشيطان وجوداً خارجياً، وفعلاً مؤثراً ومستقلاً عن الإنسان.
نعم لا يكون فعل الشيطان مطلقاً في تأثيره بل يتطلب إفساده لأحوال العبد وإبطال أعماله وإرباكـه في معتقداته إستجابة القابل ومطاوعة النفس له، لذا فإن تحصين النفس بالتقوى سلاح لصد إبليس، ومن وجوه تحصينها الإستعاذة , وهي تحذير وسبيل ودعوة للسعي في الإبتعاد والإعراض عنه، وإذا إستقرأت الآيات القرآنيـــة وجـدت أفراداً من السوء والفواحش سببها إبليس وأسباب الغواية .
ويريد إبليس أن يبعد الإنســان عن فطرتـــه ويعمي بغوايته بصيرته بما في ذلك ورود الخواطر الرديئــة على الإنسـان ونية الأفعال السفلية مما يستقبحه العقل، ومن إعجاز القرآن نعته أهل الغواية والضلالة بأنهم شياطين وجعلهم بعرض واحد مع شياطين الجن, قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ]( ).
وعن الامام الباقر في قوله تعالى[ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان ]( ) قال : كل يمين بغير الله فهي من خطوات الشياطين.
وإجماع علماء الإسلام والنصوص على عدم إنعقاد اليمين الا إذا كان المقسم به هو الله جل شأنه سواء بذكر إسم الجلالة المختص به وما لا يطلق على غيره كالرحمن أو بذكر الأوصاف والأفعال المختصة به التي لا يشاركه فيها غيره كقولك مقلب القلوب والأبصار، والذي نفسي بيده، والذي فلق الحبة وبرء النسمة.
ولا تنعقد اليمين بالحلف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وسائر النفوس المقدسة المعظمة ولا بالقرآن الشريف والكعبة المشرفة , وهو لا ينافي كون المقسم به مقدساً ومعظماً في ذاته لمنزلته عند الله ولكن تلك القدسية لا ترقي إلى اليمين بها , وترتب الحكم الشرعي عليه .
وفي ترتب الأثر على وسوسة إبليس وجوهاً :
الأول : يؤثر إبليس في النفس الأمارة بالسوء وحدها , تلك التي يخشى تبعيتها لهواها.
الثاني : يقع سلطانه على النفس اللوامة التي وردت الإشــارة إليها بقــولـه تعالى[ وَلاَ أُقْسِــمُ بِالنَّفْــسِ اللَّوَّامَةِ ]( ) التي لا تزال تلوم نفسها, وتجتهد في الصلاح.
الثالث : يقع على النفس المطمئنة الآمنة التي لا يستقر فيها خوف أو حزن.
الرابع : النفس الراضية، أو المرضية.
الخامس : تتوجه شرور إبليس إلى عقل الإنسان الذي به يكون الثواب والعقاب.
السادس : الروح المنزهة عن صفات الجسمية والحاملة للأمانة وعهدة التكاليــف ومواثيـق العبادة، تلك التي لا تفنى ولا تموت بل تتبدل حالها بالموت وقد يكون كمالاً لها.
السابع : يكون تأثير إبليس على الجوارح والأعمال.
الجواب : الإنسان وحدة متكاملة، وكيان تتداخل أعضاؤه، وهذا الجسم الذي يتضمن أعراضاً مجتمعة لا يقبل القسمة والإفتراق وهو جوهر مركب وروح مسكنها الأعضاء، فلابد أن يكون التأثير على النفس والجوارح، نعم مثل هذا التأثير من الكليـات المشككة فهو يختلف من إنسان إلى آخــر، وهذه الحـواس الظاهرة وقوى النفس البهيمية أو الشهوانية التي تميل إلى اللذات والنفس الحيوانية والسبعية تحتاج إلى حارس وعون ومدد خارجي من مصاديق التقوى والخشية من الله، ومنه الإستعاذة التي هي فزع والتجاء إلى الله تعالى .
لقد كان إستكبار إبليس عن السجود لآدم سبباً في طرده من الجنة، أي إنه علة طرد إبليس وحرمانه من نعيم الجنة، لعدم إكرامه للإنسان بالذي أمر الله عز وجل به من السجود له, وفي التنزيل[الاَّ إِبْلِيسَ قَال أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا]( ).
ومن باب الشكر لله عز وجل أن يطرد الناس إبليس من قلوبهم ويمنعوه من التأثير في أفعالهم ليس هذا فحسب، بل أن هذا الشكر منهم سبيل الدخول إلى الجنة فكيف يدخلها من لازم إبليس في حياته وجعله قريناً له في دار الإبتلاء، فأحكام الملازمة تقتضي عجز أقرانه وجنوده من الأنس والجن عن دخول الجنة أولئك الذين لم يستطيعوا التخلي والإنفصال عنه، لذا فإن الإستعاذة رحمة متجددة في الأرض والة إحتراز، وسلاح وقاية وحرز سماوي وأدب إيماني , ومدخل إلى الجنة.
وقال بعض أهل العرفان في إكرام الله تعإلى للمؤمن: يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك، فلما لم تبخل علي ببستانك أنزلت معرفتي فيه، فكيف أبخل ببستاني عليك أو كيف أمنعك منه.
مسائل في الإستعاذة
الأولى : من مستحبات القراءة في الصلاة الإستعاذة، وإستحبابها مؤكد قبل قراءة الفاتحة وعليه الإجماع والنص، وصيغتها “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وتقدم ذكره، ويجوز أن يقول المصلي “أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم”، وكل منهما ورد مضمونه في القرآن( )، والأولى هي الأشهر , الا أن الثانية لا تتعارض معها بل هي في طولها.
الثانية : الظاهر وجود ملازمة إجمالية بين الإستعاذة اللفظية والإستعاذة المعنوية، فاللفظية مقدمة للمعنوية وتترشح عنها لتكون النفس مؤهلة لمنازل الفضيلة والكمال وإلتماس السعادة الأبدية بإخلاص العبودية.
الثالثة : يؤتى بالإستعاذة إخفاتاً وأدعي الإجماع عليه، ويجوز أن يؤتى بها جهراً في الصلاة الجهرية، والأول هو الأحوط , والأقوى إســتفادة الســعة والجواز ولو على سبيل الفرد النادر والقرائن التي ترجح إستحباب الجهر بها خصوصاً في الصلاة الجهرية كالمغرب والعشاء والصبح من غير تعارض مع تعلق الإستحباب أصلاً بالإخفات.
علم أسباب النزول
هو العلم بالحوادث والوقائع و المواضيع والأسئلة التي كانت سبباً مباشراً وطريقاً محضاً، ومناسبة وقرينة حالية على نزول الآية القرآنية لذا يمكن جعلها أمارة على الموضوع والحكم المستنبط من الآية، وإدراك فهم شطر من تفسيرها وتأويلها لتكون بمنزلة الحكم الظاهري.
والقول بأن أسباب النزول طريق محض تقييد لها , ومنع للظن بأنها علة تامة للآية لاسيما وأنه ليس لآيات القرآن كلها أسباب للنزول لذا يمكن تقسيم آيات القرآن بلحاظ أسباب النزول إلى :
الأول : ما نزل إبتداء من غير أسباب مباشرة، ووقائع شخصية للنزول.
الثاني : ما نزل بأسباب خاصة ووقائع معينة.
الثالث : ما يبعث إلى أحداث وأفعال مخصوصة.
الرابع : ما نزل بأحوال عقائدية وإجتماعية خاصة.
الخامس : ما يمكن إعتباره برزخاً بين القسمين الثاني والثالث أعلاه و قسيماً لهما.
وتتجلى موضوعية هذا العلم وضرورة دراسته وإستقراء الدروس والأحكام منه بتتبع آياته تفسيراً وتأويلاً بلحاظ زمان نزول الآيات والأحوال السائدة العامة أو الخاصة فعلى سبيل المثال تعرف السور المكية بلغة الإنذار والوعيد، والمدنية بتضمنها لتشريع الأحكام، وكل منهما نزل بأحوال تختلف في الجملة عن أحوال أخرى.
إنه العلم الذي يبين تأريخ نزول الآية وموضعه، ولو على نحو الإجمال، وهل تلك الأسـباب جزء علة مادية أو صورية، نعم هي أحد أفراد ومصاديق العلة الغائية لموضوع الآية المنبسط على جميع الوقائع المشابهة في أفراد الزمان الطولية، والمكان العرضية وحتى يوم القيامة، لأن أحكام القرآن جاءت على نحو العام الإستغراقي الأزماني لا على نحــو العام البدلي الإفرادي( )، فإن نزول الآية القرآنية عقــب واقعة معينـــة يفتح أبواباً من العلم في تفسير تلك الآية ولا يعني هذا أن مضمون الآية ينحصر بأسباب النزول لأن المــدار والمــلاك في عموم اللفظ وليس السبب وحده أو أن معرفة أســـباب النزول علم لا طائل منه، و النصوص والسيرة في الجمع بينهما وكل فرد منها كنز وثروة,ويعطي إعتباراً وموضوعية لأسباب النزول من غير أن يتعارض مع سعة مضامين الآية، لأن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول.
وأسباب النزول علم وموضــوع فيه توثيق قرآني كريم مبني على الإتعاظ والإعتبار بسبب النزول وإتخاذه الة وحجة ومدخلاً لتفســير الآية، وعلى العالم والمفســـر أن ينتفع من كل ما يقع في طريق إستنباط الأحكام وإستخراج العلوم من الآية الكريمة ولابد أن تكون النســبة بين ظواهر القرآن وأسباب النزول عموماً وخصوصـــاً مطلقاً.
وإعجــاز القرآن وحجته عامة وتبدو جلية في ظواهـــره ومعانيه وما يفهمــه المسلمون من مدلولاته فسـبب النزول يكون في موضوعه جزء من التفسير، وليس كل التفسير، فمثلاً يستدل الإمام جعفر الصادق في تحذيره لأبي جعفر المنصــور من قبول خبر النمام، بقوله تعالى[إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ]( ).
وقد تكون أسباب النــزول نــوع تقييـــد لإطــلاق الآية.
وفي قوله تعالى[ لاَ تَحْسَبَنَّ الذِينَ يَفْرَحُـــونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَـدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا]( )، قال مَرْوَانَ اذْهَبْ يَا رَافِعُ – لِبَوَّابِهِ – إلى ابن عَبَّاسٍ فَقُلْ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ. فَقَال ابن عَبَّاسٍ مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الآيَةِ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى أَهْلِ الكِتَابِ. ثُمَّ تَلاَ ابن عَبَّاسٍ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) هَذِهِ الآيَةَ وَتَلاَ ابن عَبَّاسٍ (لاَ تَحْسَبَنَّ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) وَقَال ابن عَبَّاسٍ سَالهُمُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- عَنْ شَىْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَالهُمْ عَنْهُ وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ اليْهِ( ).
إنها رحمة وتخفيف وبيان وتفصيل للأحكام، نعم يمكن أن يجد العالم والباحث أمارات التقييد ونحوه في آيات أخرى من القرآن لقاعدة القرآن يفســر بعضـه بعضاً، كما في قوله تعالى[ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ]( )، ويجدها أيضاً في السنة النبوية الشــريفة التي هي بيان للقــرآن، وقد تظــهــر أسباب النزول بقــولــه تعالى[ يَســالــونَــكَ ]( )، [ يَسْتَفْتُونَكَ ]( ) وهي ضياء مبارك لتثبيت علم وموضوع أسباب النزول.
وفي قوله تعالى[ وَالسَّارقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا]( )، ورد أنها نزلت في إمرأة سرقت، وسئل إبن عباس عنها أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام)( )ز
وقد يكون مثل هذا السؤال زائداً في هذا الزمان لما تسالم بين الفقهاء وإرتكز في عقول الناس من عموم الآية موضوعاً وحكماً بالإضافة إلى دلالة اللغة بتعدد المعاني في الآية والسنة القولية والفعلية.
ولكن السؤال يدل إجمـالا على إعتبار أسـباب النزول آنذاك وهو أمر حســن مع خلــوه من التفريط الذي يتمثل بحصر المفهوم على تلك الأسباب، ولا ترى لذلك التفريط أثراً أو أدنى وجود في تأريخ المســلمين لما وضعـــه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قواعد وعلوم وما ثبته الأئمة والصحابة وطبقات المفسرين من أسس ومفاهيم تدل على ما للآيات القرآنية من عموم وإطلاق ولما في القرآن من قابلية الإتساع والإحاطة بالوقائع والأحداث وهي غير متناهيـــة، ولإمتلاكه الحصانة الذاتية بوجه التقييد، وهو من أفـــراد إعجـــاز القرآن، وبذا تتضح لنا مفاهيم جديدة في إعجاز القرآن وهي أن القرآن بذاته يأبى حصر معانيه وتأويله في زمان دون آخر، أو وقائع دون غيرها فهو حي ويبعث الحياة العلمية.
وصحيح أن علم أسباب النزول مستقل وينفرد بخصوصيات تساعد على التفســير الأمثـل الا أنه لا يمنع من إرجاع أخباره إلى علم الرجال وتقســـيماته وفق القواعد الرجالية إذ أننا لا نأخذ ما ذكر في أسباب النزول بالتسليم والقبول التام إذا وجدناه معارضاً بما هو أهم وأقرب إلى ظاهر الآية أو أنه مخالف للأحكام الواقعية.
ففي قوله تعالى[ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ الدُّ الخِصَامِ ]( )، جاء عن السدي أنها نزلت في الأخنس بن شريك الثقفي حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وقال: جئت أريد الإسلام، ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه، فخــرج من عـند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله عز وجل[ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ]( ).
وفي أسباب النزول في قوله تعالى[ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَــهُ ابْتِغَـاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ]( ) وردت أقوال:
الأول: أنها نزلت في علي لما بات في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه إلى الغار وهو الأرجح، وأن جبرئيل قام عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي بخ، بخ من مثلك يا إبن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، ونزلت الآية , عن ابن عباس والإمام الباقر عليه السلام.
الثاني: نسـب إلى ابن عباس أنها نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جذعــان وفي عمـار بن ياسر، وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه.
ولا مانع من الإشتراك والتعدد في أسباب نزولها لاسيما وأن إجماع المسلمين على أن مفهوم الآية عام لا ينحصر بسبب نزول، ولا يمكن إخفاء فضيلة قرآنية لوجود شواهد ونصوص متواترة على معنى مخصوص لا يقيد الآية.
إن سبب النزول قطعي الدخول في المفهوم العام للآية أي أن عدم إعتباره علـة تامة لنزول الآية لا يعني تجريده من الخصوصــية أو عدم أخــذه جزء من تأويل الآية وتفسيرها، وسبب النزول لا يمنع من وضعها ضمن السياق العام للآيات.
الثالث: إنها نزلت في رجل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، روي عن عمر بن الخطاب وإبن عباس، وفي بعض الكتب نسب إلى علي عليه السلام.
الرابع: قال نفر من المفسرين أن المراد به البيع والشراء أي أن المكلف باع نفسـه بثواب الآخرة وأن الله عز وجل كالمشتري لقوله تعالى[أن اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ المُؤْمِنِينَ أنفُسَهُمْ]( ).
ويمكن إعتبار أسباب النزول فرداً من إعجاز القرآن لأثرها الإيجــابي في تحديد مسارات القيم الإجتماعية والأخلاقية وكانت عوناً على العمل وفق أحكام الشريعة، وشاهداً حاضراً ودليلاً في جادة الهدايـــة، يجد فيها المؤمــن ضالته لتطيب نفسه بما يوافق إحساسه المشروع كما في قول أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله الا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى [أني لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أنثَى]( )( ).
ويمكن القول بنزول أكثر من آية في سبب شخصي واحد ويجوز حمله على تعدد حيثياته، والأمر هين بعد الإقرار بالمفهوم والغرض العام لنزول الآية.
ويمكن التساؤل لماذا تأخر النزول إلى حين ورود السؤال إنه مناسبة كريمة للعناية الزائدة في موضوع الآية ورسوخه في الأذهان على نحو ظاهر من القبول والبيان والإلتفات إلى إحترام المرأة لما يضفي عليها موضوع النزول من إستقلالية وكيان تنفرد به بلحاظ سبب النزول أو الواقعة والحادثة التي كانت ســبباً للنزول وما تمثله من إكرام القرآن للمؤمنين وحاجاتهم الشخصية، ليضاف موضوع أسباب النزول لإعجاز القرآن، ويكون أحد مصاديقه وإن دأب المفسرون على دراسة إعجاز القرآن وكذا سبب النزول على نحو منفصل.
وترى في سبب نزول الآية أعلاه إعجازاً للقرآن خاصة في هذا الزمان يتعلق بما يمنحه الإسلام للمرأة من حقوق وإكرام ومساواة في الثواب وإستحقاقه، وحثــاً لها على الإرتقاء في أبواب الصلاح والعمل والجهــاد.
إن سبب النزول إســكات لأولئــك الذي يحاولون النيل من الإسلام في خصوص باب حقـوق المرأة بما يجسده من شأن وموضوعية وإعتبار لأفعالها على نحو مستقل ومسؤول ويدل سبب نزول الآية على فضل الله تعالى على أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمات مطلقاً، وفيه دعوة لإكرامهن , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من وجوه :
الأول : سؤال أم سلمة وتطلعها لأن يكون لها شأن في القرآن ، وفيه إدراك للزوم لجذب النساء إلى منازل الإيمان.
الثاني : دعوة المسلمين إلى إكرام المسلمات على نحو الإجتماع والإنفراد، وإعانتهن في أداء ما عليهن من العبادات.
الثالث : التوثيق السماوي لجهاد وهجرة المسلمات.
الرابع : بيان حقيقة وهي نيل المسلمات لمراتب الإكرام بالذكر في القرآن على نحو الخصوص، مع أن خطابات القرآن شاملة للذكور والإناث، كما في قوله تعالى [َأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] فالمراد وجوب فريضة الصيام على المكلفين والمكلفات من المسلمين.
وورد الخطاب بصيغة التذكير لتغليب المذكر على المؤنث.
ويجــوز إتحاد السبب وتعدد المَسبب في نزول الآية , وتعدد الســبب وإتحــاد المسبب، فيجتمع سببان أو اكثر على نزول آية واحدة مع صحة السند وجهة الصدور والدلالة والمعنى.
ويتوصل إلى معــرفة أســباب النزول وتحديدها بما يكون سبيلاً معتبراً لأخذها في التفسير والتأويل من وجوه :
الأول : تعرف بالنص والأخبار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو أعلم الناس بأحوال الوحي ومناسباته.
الثاني : تؤخذ عن الذين شاهدوا التنزيل من الصحابة واخبروا غيرهم بالرواية والسماع، لما من موضوعية وشهادة لحضورهم ومصاحبتهم ووقوفهم على الأسباب المباشرة للنزول، وإن كانت معرفتهم لها بعد نزول الآية بالتتبع والإطلاع والتدبر في موضوع الآية، فقد كان الصحابة يحرصون على تدارس القرآن، كما أن سبب النزول من الوقائع التي تثبت في الذاكرة وتحظى بعناية خاصة.
وقد يحصل للصحابة العلم بها نتيجة قرائن تحيط بالوقائع والأحداث، وإن قال الصحابي أحسب وأظن هذه الآية نزلت في كذا فإن عدم القطع لا يفقد هذا القول الإعتبار بل يبقى للقول شأن ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث : يمكن إســتقراء أســباب النزول ومعرفتها من أخبار أهل البيت، وهل تعرف بحديث التابعي الجواب : نعم إذا كان حديثه مرفوعاً وإن جاء مرسلاً مع ما في الإرسال من أمارة على الضعف ولكن المقام فيه سعة ومندوحة لأن أسباب النزول أحداث ووقائع لم توثق الا من الذين عاصروها ولعل الصحابة نقلوها للتابعين، ولابد من بيان السببية والملازمة بينها وبين الآية الكريمة، الا أن يكون التابعي قد سمعها من الصحابة ورواها من غير ذكر المصدر والجهة , ولعل أكثر أسباب نزول الآيات وردت عن التابعين , ويحمل على كون التوثيق وأغلب التدوين حصل في أيامهم .
فالمطلوب إستنباط الدروس، وإستظهار وجوه الحكمة وما يدركه العقل من ظاهرها وتأويلها، وليس كل صحابي يعرف كل سبب للنزول والا لاحتجنــا إلى التواتر في الطبقة الأولى من سند كل حديث خاص بأسباب النزول، فقد يكون الصحابي غير موجود ساعة نزول الآية وأسبابها بلحاظ خروجهم في كتائب ونحوها، وربما سأل الصحابي أخاه عن تفسير آية أو منطوقها ليبقى عنوان الصحبة من أهم المصادر التي تحدد أسباب النزول لموضوعية وإعتبار الشهادة المقرونة بالعدالة.
منافع أسباب النزول
لعلم أسباب النزول منافع وفوائد لا تنحصر بموضوع النزول وأوانه بل تتعداه لتشمل أجيال المسلمين لصدق ملازمته للآية في باب الموضوع والتفسير، وليصبح مدخلاً كريماً وضوءاً مباركاً تنبعث منه مصابيح للتأويل والدراسة والإستنباط.
ويقع بيان منافع هذا العلم جواباً وتعليلاً لقولنا بأنه وجه من وجوه إعجاز القرآن مما يملي علينا التحقيق في إحصائها والتتبع لآثارها ومنها :
الأول : معرفة الحكمة والعلة لتشريع الحكم.
الثاني : تخصيص الحكم عند من يقول بالجمود على سبب النزول أو أنها عون على فهم موضوعه إن وجد ، ولا دليل على التخصيص، إذ أن الجمود على سبب النزول لا يخلو من تقصير عن إدراك علوم القرآن , وفيه تخلف عن معرفة عظيم منافعه وتخصيص من غير مخصص.
الثالث : الوقوف على المعنى وطرد التردد والإشكال إذ أن معرفة سبب النزول سبيل ومدخل إلى علم التفسير، وخوض غمرات التأويل لما تسالم عليه بأن معرفة السبب تساهم في العلم بالمسبَب.
الرابع : إن سبب النزول قطعي الدخول في المفهوم العام للآية، وعدم إعتباره علة تامة لنزول الآية لا يعني تجريده عن الخصوصية أو الإعراض عنه وعدم أخذه جزء من تفسيرها، فهو مما لم يقل به أحد من العلماء، بل أن التفقه في السبب يساعد في معرفة سياق الآيات وأسرار ترتيبها.
الخامس : يساهم علم أسباب النزول في رفع الوهم، ومنع حمل الآية على غير محاملها والمقاصد والغايات منها، كما في قوله تعالى[ لَيْسَ عَلَى الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ]( ).
وظاهر قوله تعالى[ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ]( ) الإطلاق وتساوي الجهات في جميع الصفات وصلاحيتها للإستقبال، وعدم حصر الإستقبال بالبيت الحرام، وهو خلاف ضرورة الدين وما عليه الإجماع في موضوع القبلة، بالاضافة إلى الإرادة التكوينية والتشريعية في تغيير القبلة مع أن أهل الريب والشك يثيرون الشبهات .
فجاء تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام حكماً الهياً، وإنعطافاً في صيغ العبادة يتصف بالدوام والثبات وما هو أعم من أسباب النزول، وإذا رجعنا إلى سبب النزول فانه يدل على تقييد الموضوع بنافلة السفر، والإجتهاد فيها، وفي حال العجز عن معرفة جهة القبلة، ولكن الموضوع والحكم أعم .
السادس : تعظيم شعائر الله ودفع الخلاف في إتيانها وإمتثال الحكم الشرعي، ففي قوله تعالى[ إن الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَأن اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، ورد في عن الإمام الصادق أن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله هذه الآية)،وقريب منه في الدر المنثور( )، وقد ذهب بعضهم كعروة بن الزبير إلى عدم فرض السعي تمسكاً بظاهر اللفظ ( لا جناح) وأن بعض الصحابة تأثموا من السعي بينهما لأنه من عمل الجاهلية، فجاءت الآية لتثبيت هذه الشعيرة والحكم إلى يوم القيامة.
السابع : منع الفهم الخاطئ للآية الكريمة، وطرد التحريف والتفريط والإجتهاد خلاف النص، وأسباب النزول، فمثلاً تجد في سورة الكافرون الحاجة إلى إستحضار أسباب النزول لمعرفة التفسير ، وعدم إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين على دينهم وعبادتهم للأوثان.
الثامن : التسليم بأن سبب النزول لا يحصر موضوع الآية به، فعند معرفته وعرضه على الآية الكريمة تجدها أعم منه ماهية وموضوعاً ومحمولاً وزماناً ومكاناً.
التاسع : إنه فرد من علوم القرآن ومبحث علمي وتأريخي وعقائدي مستقل يعكس صورة وأحوال المسلمين والبيئة المحيطة بهم آنذاك, وهو دليل على عظيم جهادهم وصبرهم في ذات الله وإيمانهم بالوحي وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشر : إنه باب رحمة وسبيل إلى التآلف وعدم الإختلاف في التفسير، وما يتعلق به من التشريع، وطرد للفرقة والشقاق.
الحادي عشر : هو حاجز وواقية من سوء التفسير أو توجيه الآية الكريمة في غير الذي أنزلت فيه.
الثاني عشر : فيه دروس تدل على إعجاز القرآن سواء تلك الدروس الخاصة بكل سبب لآية معينة أو المواعظ والعبر المستنبطة والمستقرأة من هذا العلم على نحو العام المجموعي ( )، بالاضافة إلى العام الإستغراقي.
المعوذتان وجزئيتهما من القرآن
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وختم آخر الكتب السماوية بذكر وتعظيم مقام الإلوهية , إذ قال تعالى [ مَلِكِ النَّاسِ * الهِ النَّاسِ]( ) ليدل على قهره لوسوسة الشيطان، ويدعونا للإلتجاء اليه واللوذ بمقام الربوبية ويطرد عن قلوبنا حب غيره، ولمنع تمرين النفس الحيوانية على خلاف توجه النفس الناطقة المطمئنة الصاعدة في سلم المبادئ العالية ، إنه إثبات تقييد إستطاعة العبـد وعجزه عن مواجهة الشرور، وحاجته للرجوع إلى الخالق بديع كل حي، ومفيض كمال كل موجود فالق ظلمة العدم بنور الوجود, قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ] ( )
تفضل الله وأمر نبيه ومن خلاله الأمة والناس إذ أن النبي واسطة مباركة لتبليغ الأمة، والقرآن لم ينزل ليخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو مائدة مباركة للمسلمين جميعاً يأخذون منه الأحكام، يعملون به ويلوذون بآياته وأحكامه، فالقرآن هو الكلام المنزل من عند الله عز وجل ويتعوذون من الشرور التي جاءت بالعرض والإبتلاء في الحياة الدنيا سواء كانت الجسمانية منها أو النفسية، وإن كانت النفس الإنسانية مخلوقة في جوهرها على النقاء والصفاء، قابلة لإكتساب العلوم وأنوار المعرفة وخالية من الكدورات، ولكنها مهددة بالشرور والموجودات الظلمانية لحكمة من الله تعالى في الخلق ونفاذ مشيئته وقضائه الأول في اللاحق من الموجودات والممكنـات [ ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَأن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ]( ).
وثبت في العلوم العقلية أنه ما من موجود من الممكنات الا وله كمال ونقص، يكونان عنده في عرض واحد أو في مراتب متفاوتة ولكن لا ينعدم أحدهما ولا يقوم على واحد منهما فقط، فتراه يستأنس بما نال من صفات الحسن والكمال، ويشتاق ويسعى إلى ما يريد وما فاته وذلك من لوازم العقل، والإنسان له خاصية في تطوره وتبدله في الأحوال المتباينة.
ولقد جعل الله عند الإنسان ملكة وحب إشتياق للأعلى من مراتب الكمالات التي لا تنتهي، فكلما وصل إلى درجة سعى إلى ما هو أعلى بحرص وشوق، الأمر الذي لا يخلو من مصاحبة الألم والشقاء والزجر له، وتلك الملازمة ظاهرة في عالم الإمكان لأن من خصائصه النقص والقصور ليكون اللجوء إلى واجب الوجود حتمياً، والحاجة إلى الله تعالى مستديمة ومتصلة، وهو خالق كل شيء بحكمة وإتقان.
وقد يتعذر على الإنسان طريق الإهتداء إلى المنازل الرفيعة فتكفل الله سبحانه بهدايته بالقرآن الذي جعله [ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ويمكن الإستدلال على كون المعوذتين من القرآن بالقدرة الذاتية، والعناية الإلهية بالقرآن وتعاهده سبحانه له كتاباً وآيات بقوله تعالى[مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( )، وقوله تعالى[أنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَأنا لَهُ لحافظون]( ) .
فالجمع بين الآيتين أعلاه يفيد أن كل ما بين الدفتين هو قرآن وعليه إجماع المسلمين.
وأخرج ابن السنى في عمل اليوم والليلة من طريق على بن الحسين عن أبيه عن أمه فاطمة: :أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دنا ولادها أمر أم سلمة وزينب بنت جحش أن ياتيا فاطمة فيقرءا عندها آية الكرسي , وأن ربكم الله إلى آخر الآية ويعوذاها بالمعوذتين”( ).
وموضوع جزئية المعوذتين من القرآن أو عدمها من المواضيع التي لم يقف العلماء كثيراً عندها لإنقطاع الخلاف بوجودهما بين الدفتين وهو فرع إعجاز القرآن بأن تترشح قدسيته على جزئه فيعرف الجزء بالكل، وإكتساب المنعة والحصانة وثبوت صبغة القرآنية به، وصعوبة العثور على دليل يفيد الخلاف، الذي يتعلق حصراً بنسبة القول بأنهما ليستا من القرآن إلى عبد الله بن مسعود مع إجماع الصحابة وأهل البيت على خلافه.
وتناقش هذه المسالة كبرى وصغرى، أما الكبرى فإجماع المسلمين على أن المعوذتين جزء من القرآن، وعن طريقين عام وخاص، أما العام فإن ما بين الدفتين قرآن، وأما الخاص فالتسالم بين المسلمين عامة على أنهما جزء من القرآن .
والصغرى هي إثبات هذه النسبة إلى ابن مسعود، وعلى فرض نسبتها ما المقصود بقوله أنهما ليستا من القرآن؟ فقد نقل عنه أنه أنكر إثباتهما في المصحف واثبات الحمد .
وفي رواية أنه نفي الحمد ايضاً لأنه كانت السنة عنده بعدم ثبوت شيء إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإثباته وكتبه، ولكن أمر النبي وإثباته للكتاب أعم من أن يطلع عليه عبد الله بن مسعود إذ أنه لم يلازم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل آنات الليل النهار، وتلك حقيقة منبسطة على أغلب الصحابة، ولكن لم ينعت أحد منهم بعض سور القرآن بأنها ليست منه.
وفي صحيح إبن حبان عن زرّ، قلنا لأبيّ بن كعب :أن ابن مسعود لا يكتب في مصحفه المعوذتين فقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي جبرئيل [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ] فقلتها، وقال لي [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ] فقلتها، فنحن نقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( )، أي أن جبرئيل نزل بهما كقرآن، ولذا يرد على قول ابن مسعود على فرض صدوره منه وفي عرض واحد معه قول مغاير من صحابي آخر معروف بقراءته ويدل الخبر بالدلالة الالتزامية على حصر قول ابن مسعود بالمعوذتين وعدم جزيئتهما من القرآن، ولا يشمل سورة الفاتحة التي تقرأ في كل فريضة صلاة.
وقال الرازي : “نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به، وأن نقول:أنه رجع عن هذه المذاهب”( ).
وظاهر الكلام أن حذفهما مخالف للإجماع على جزئيتهما من القرآن إلى جانب إعتبار موضوعية وجود السورتين بين الدفتين، وكل ما هو بينهما من القرآن، وعليه تسالم المسلمون في أجيالهم المتعاقبة.
ولعل إبن مسعود أراد غير الذي نسبوه له من نفي جزئيتهما من القرآن، فقد كان متسامحاً في تعليم القرآن عند الضرورة والتعليم من غير أن يفرط بأصل القرآن، فقد روي أنه كان يعلم رجلاً القرآن فقال: “أن شجرة الزقوم طعام الأثيم، وكان الرجل أعجمياً فكان يقول طعام اليتيم، فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله:أنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم، بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب”.
وقد إحتج القائل بجواز قراءة الفاتحة مترجمة بهذا الخبر، ولكنه لا يصلح للإستدلال، فهذا الموضوع مغاير ومختلف عن موضوع المعوذتين، فكأنه يجتهد بجواز الإتيان بالمرادف للفظ القرآني من أجل التعليم، ولابد أنه يقيده بالخطأ والسهو والعجز عن اللفظ القرآني كما أشار اليه في كلامه ( ليس الخطأ في القرآن)، وجعل من الخطأ وضع آية رحمة مكان آية عذاب.
وفي المحلى قال إبن حزم : هذا كذب على إبن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زرّ بن حبيش عنه، وفيه المعوذتان والفاتحة( ).
مما يدل على ورود روايتين عن إبن مسعود بذات الطريق، بطريق زرّ بن حبيش، ومقتضى القاعدة حينئذ التعارض والتساقط والرجوع إلى الأصل والتسالم على جزئيتهما من القرآن والأخذ بأقوال الصحابة الآخرين بالقطع بجزئيتهما.
أما الرازي كما عن السيوطي في الإتقان فنسبه إلى النقل من بعض الكتب القديمة وفيها أن إبن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن , ولكن مع حصول النقل المتواتر في عصر الصحابة فلا يجوز إنكاره خصوصاً في آيات وسوّر القرآن.
وأخرج أحمد والبزار عن ابن عباس وابن مسعود أنه كان يحك المعوّذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه ، إنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعوّذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما . قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف ( ).
وكان ابن مسعود لا يكتب فاتحة الكتاب ويقول : لو كتبتها لكتبتها في أول كل شيء، ولا ملازمة بكتابته لها والإقرار بجزئيتها من القرآن.
وذكر أنه في مصحف ابيّ بن كعب زيادة وهي : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك قال حماد : هذه الآن سورة ، وأحسبه قال : اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، واليك نسعى ونحفد ، نخشى عذابك ، ونرجو رحمتك ، إن عذابك بالكفار ملحق “( ).
والحق أنه لا إفراط ولا تفريط، لا بالنقص المنسوب لابن مسعود، ولا الزيادة المنسوبة لأبي بن كعب، لقد كتب عثمان المصحف بمرأى من الصحابة وجاء الإمام علي ولم ينف في خلافته جزئية المعوذتين من القرآن، و لماذا لا ينفي ما نسب إلى إبن مسعود.
إن كتابة المعوذتين، وإمضاء الصحابة لجزئية المعوذتين من القرآن يدل بالدلالة الالتزامية وفي مفهومه على نفي دعوى عدم جزئيتهما من القرآن، وهو إعراض وتجاهل لها على فرض وجودها وهو الأرجح بدليل قلة الأشخاص الذين نسبوا القول لابن مسعود، فلو كان لهذه الدعوى أثر وإعتبار لوجدت إلتفاتاً لها ولو بإتجاه نفيه، ولبرزت على نحو السؤال والإستفهام المتكرر من الأئمة ونقل جوابهم فيها، و صحة قراءة المعوذتين في الصلاة تقرير وإمضاء لجزئيتهما من القرآن.
إن مثل هذا القول يوجب على العلماء بذل الجهود العلمية لإثبات قرآنيتهما وما فيهما من أسرار الهية، إذ أن الموضوع لا يتعلق فقط بالسورتين , بل يمنع الكلام والشك في قرآنية أي جزء منه.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير لبعض آيات السورتين ذكر منها السيوطي في الجزء الرابع من الإتقان أربعة أحاديث، بالإضافة إلى الأخبار الخاصة بالمقام منها (ما أخرج عن أبي سعيد الخدري : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فأخذهما وترك ما سواها) ( ).
وعن ابن مسعود : “أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره الرقي إلا بالمعوذتين”)( )، وهو الطب الروحاني والشفاء الرباني قبل أن تصل النوبة إلى الطب الجسماني.
ولقد ورد عن ابن مسعود ما يدل على أنه كان يرجع إلى الصحابة وأهل البيت في علوم القرآن، وقد ورد عن أبي عبد الرحمن أن عبد الله ابن مسعود قال : (لو كنت أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني لأتيته، فقلت له : فعليٌ، قال : أو لم آته) ( ).
بحث أصولي
أختلف في الأخذ بقول الصحابي هل يرجع اليه، وأن تفسيره بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الحاكم في تفسيره، او أنه ليس بحجة، الا أن يدل دليل او قرينة معتبرة على أن الحديث مرفوع، وأياً كان الكلام فإنما يتعلق ذلك بالتفسير وليس في قرآنية الآية والسورة، فهو موضوع مستقل.
ويشترك في الحديث المرفوع أقسام الحديث الأربعة الصحيح والحسن والموثق والضعيف، وهو أي الحديث المرفوع أدنى من المسند الذي إتصل سنده إلى النبي من غير إنقطاع، وللمرفوع إطلاقان :
الأول : ما سقط من وسط سنده وآخره واحد أو أكثر مع ظهور الرفع أو التصريح به كما في رواية الحسن البصري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكليني، ويمكن إعتبار هذا النوع من المرفوع من مصاديق المرسل بالمعنى الأعم.
الثاني: ما يقصد منه الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول او فعل او تقرير سواء كان في طريقه قطع وعدم ذكر لبعض الرواة او إرسال برواية بعض رجال سنده عمن لم يسمع منه، أو إبهام بعض رواته وقد يكون سنده متصلاً اليه ولكنه يستعمل غالباً في المعنى الأول.
وقد إعتبر الشاطبي سنة جميع الصحابة حجة كاشفة عن حكم الشريعة، ويذكر قول الشافعي في الصحابي (كيف اترك الحديث لقول حدثه لحجيته.
وقد يخالف الصحابي الصحابي الآخر، ولا يعني هذا ابطال قولهما لإحتمال الإختلاف في تأويل أو النسخ والتغيير في النقل والسند ولاجماع المسلمين على عدم عصمة الصحابي، وعدم حجية مفهوم الوصف، ولا تصل النوبة لاحتمال الخطأ والسهو ولكنه لم يحط بما بلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التنزيل، وقد يكون التباين في قولهما من عمومات الآية والناسخ والمنسوخ، فقد يكون أحدهما علم بالمنسوخ دون الناسخ، أو أنه أراد ذكر المنسوخ على نحو التعيين وكل فرد من قوليهما تراث وثروة علمية.
ومع إعتبار قول الصحابي فقد لا يكون قوله من باب الرواية وهو إلى الرأي أقرب ، وعلى القول بجعل قول الصحابة على الاطلاق حجة ودليلاً، فإن قول ابن مسعود معارض بقول الصحابة جميعهم او اغلبهم، بما يدل عليه ظاهر القرآن وهو أن المعوذتين جزء مما بين الدفتين فليس لقوله الأهلية على المعارضة.
إنه خلاف السيرة العملية وخارج عن المصاحف المتعارفة بين المسلمين، ويعد مستنكراً عند من يقرأ القرآن، فمثلاً ورد عن أبي بن كعب أنه لم يفصل بين الضحى والم نشرح لإتحاد موضوعهما، مع لزوم الفصل بينهما بالتسمية، وإن كان الأقوى والمشهور جواز الإتيان بهما معاً في القراءة مع الإتيان بالبسملة بينهما وقراءتهما في ركعة واحدة أعم من إتحادهما، والمدار على المرسوم في المصاحف الثابت بالتواتر عند عامة المسلمين.
قاعدة قرآنية
إن سياق الآيات القرآنية مدرسة وحجة تؤكد أن القرآن كلام الخالق ويحمل بطوناً من العلم , وأسراراً نورانية تنبعث من كل حرف وكلمة، وعلى المفسرين والعلماء إيلاء عناية خاصة للمعوذتين لما فيهما من الأسرار والمنافع، وما يترتب عليهما من الحكمة والرحمة العامة، وهما وقاية وحرز وتطهير وتكميل، وعلينا أن نؤكد قرآنيتهما بإستخراج ما فيهما من الكنوز والذخائر وإظهار وجوه الإعجاز فيهما.
نطرح قاعدة قرآنية جديدة وهي أن السورة والآية القرآنية تثبت بذاتها جزئيتها من القرآن قبل أن تصل النوبة إلى الإستدلال عليها من عامة القرآن أو من خارجها، وهذه القاعدة فرع الإعجاز الذاتي للقرآن.
الأول : تأتي السورتان للإستعاذة مما قدر من الشرور اللازمة أو العارضة في عالم الخلق والتقدير، سواء كانت الأمور المتعلقة بذات الانسان وخصوصياته كقواه المدركة والمحركة والقوة الوهمية التي تتصف بإطاعة الشيطان في إغوائه ووساوسه ومكره وكيده أو في محاولاته في جعل الإنسان تضعف همته في الصالحات وبما يمنيّه بالكذب والخداع، ومطالب الإنسان متعددة وكثيرة فيجب أن يستعيذ لأجل كل مطلوب.
الثاني : تطرد قراءة المعوذتين أثر نحوسة الكواكب وإتصالاتها التي تكون أحياناً ذات وبال وآثار على الإنسان ، وتأتي أحياناً على نحو أسباب كونية أو عنصرية ضارة كحرق النار وعصف الرياح الشديدة وكثرة الأمطار المخربة للديار، فجاءت المعوذتان بل الإستعاذة مطلقاً للنجاة والتخلص من النحوسة والمنكرات وما يعد به الشيطان من الفقر، قال الله تعالى[الشَّيْطَان يَعِدُكُمْ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ]( ).
الثالث : أفرد الله عز وجل للإستعاذة في القرآن سورتين لتوكيد أهميتها وتعدد وجوه الإستعاذة وأبوابها والحاجة إليها في النفس والبدن وعلى نحو العموم، بالإضافة إلى آيات أخرى في الإستعاذة.
الرابع : يختتم القرآن بالمعوذتين، والسورتان تجسدان النزاع بين آدم وإبليس وهو البلاء المستديم الملازم للإنسان في الحياة الدنيا، وكانت النجاة والفلاح والخلاص بالقرآن، وكأنه بالإستعاذة تتحقق نهاية سعيدة للإنسان بل ولعالم الدنيا وحياة الإنسان فيها.
إن المعوذتين وموضعهما في القرآن بشارة السعادة الأبدية لمن آمن بهما وتعاهد قراءتهما، فالذي ينكر قرآنيتهما يسعى في تضييع آية مركبة ونفع متعدد الجوانب.
الخامس : إنهما هداية لكيفية إستعانة الأرواح البشرية لدفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية والكدورات الموحشة.
السادس : المعوذتان سبيل للحيلولة دون شرور الآخرة التي لا تكون شرور الدنيا معها ذات أهلية للمقارنة.
السابع : تساهم المعوذتان في إزالة الموانع العرضية التي يحاول إبليس وضعها في طريقك إلى الجنة.
الثامن : كل من السورتين رحمة إلهية في تنقية الصدر وتحصينه وهو مسكن النفس الحيوانية، ولم يقل الله سبحانه بتأثير الوسوسة في القلب لأن القلب محور النفس الناطقة، ولكي لا يكون منع إبليس لإرتقاء الإنسان في كل كمال على نحو السالبة الكلية.
التاسع : لكل آية من المعوذتين أسرار خاصة , وعلوم مستقلة ومنافع ثابتة.
العاشر : وردت نصوص عديدة في فضل السورتين منها :
الأول :روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “من قرأ سورة الفلق كل ليلة عند منامه كتب الله له من الأجر كأجر من حج وأعتمر وصام، وهي رقية نافعة وحرز من كل عين ناظرة) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : “من قرأها عند نومه كان له أجر عظيم وهي حرز من كل عين ناظرة)”، وإطلاق اسم السورة عليها يعني التسالم على جزئيتها من القرآن.
الثاني : وفي سورة الناس روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “من قرأ هذه السورة على الم سكن بإذن الله تعالى ، وهي شفاء لمن قرأها”.
الثالث : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من قرأها عند النوم كان في حرز الله تعإلى حتى يصبح، وهي عوذة من كل الم ووجع وآفة وهي شفاء لمن قرأها”.
الرابع : قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “من قرأها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان كانت في نافلة أو فريضة كان كمن صام في مكة، وله ثواب من حج وإعتمر بإذن الله تعالى “.
الخامس : وقال الإمام الصادق عليه السلام: “من قرأها في منزله كل ليلة أمن من الجن والوسواس، ومن كتبها وعلقها على الأطفال الصغار حفظوا من الجان بإذن الله”.
السادس : والسورتان هبة إلهية للمسلمين لم تتيسر لآية أمة من الأمم،أنها الامة المرحومة، لقد طرد الله إبليس من السماء، وجاءت الإستعاذة والمعوذتان لتطرده عن باب القلب، وذاك من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أخرج الله عز وجل الشيطان من الجنة لأنه أبى السجود لآدم عندما أمره الله تعالى بالسجود له، إذ أنه لم يكرم آدم وذريته بالسجود، وفي باب الشكر لله يجب على الإنسان أن يخرج عدو الله من قلبه ويجعله جنة لذكره تعالى وفي الخبر (بيتي قلب عبدي الذي وسعني حين ضاق عني أرضي وسمائي).
وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسورة الفلق والناس والإخلاص وقيل أن المعوذتين كان يقال لهما المشقشقتان أي تبرئان من النفاق.
وقال القرطبي( ): وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به، وليستا من القرآن، خالف به الاجماع من الصحابة واهل البيت، وهناك قول بأن ابن مسعود لم يكتب المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في حفظه وإتقانه لها.
ويرد على هذا القول بأنه قد كتب سورة النصر والكوثر والإخلاص وهذا يجري مجرى الفاتحة بلحاظ عدم طول السورة، والحفظ اليهن أسرع ونسيانهن مأمون، وأياً كان فإن إقتران المعوذتين بالفاتحة في القول بإسقاط إبن مسعود لها في قرآنه، والإجماع والضرورة على جزئية الفاتحة من القرآن يعني أن هناك وجهاً وتأويلاً لعدم كتابته للمعوذتين في القرآن، على فرض صحة دعوى عدم كتابته لهما.
روى النسائي عن عقبة بن عامر أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : “اقرأتني سورة هود، أقرأتني سورة يوسف، قال لي : ولن تقرأ شيئاً ابلغ عند الله من [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ]( )، وعنه قال : سمعته يقرأ بهما في الصلاة).
وفي حديث ابن عباس : [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ] و[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ] هاتين السورتين( ).
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “لم يتعوذ الناس بمثلهن أو لا يتعوذ الناس بمثلهن”، وفي خبر أبي بكــر الحضرمي قال : “قلت لأبي جعفر عليه الســلام : “إن ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف فقــال: كان أبي يقــول أن ما فعـل ذلك ابن مسعود برأيه وهما من القرآن”.
ولا تناقض بين هذه الاخبار والقول بأن النسبة لابن مسعود بعدم جزئيتهما من القرآن ضعيف، لأن الجواب لبيان أنهما من القرآن فيدل بالدلالة التضمنية على قرآنيتهما وأن الشهرة في الرواية من أسباب ترجيح الخبر على ما يعارضه، ويؤكد تفسير السورتين مضامين الإعجاز فيهما وما يدل عليه تعدد الوجوه والتأويلات.
ولقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي بن أبي طالب وفي رواية عائشة وابن عباس : أنه بعث علياً والزبير وعمار) (وقال : إنطلق إلى بئر أزوان فإن فيها سحر سحرني به لبيد بن أعصم اليهودي فأتني به، قال علي عليه السلام : فإنطلقت في حاجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهبطت في البئر فاذا ماء البئر قد صار كأنه ماء الحناء من السحر فطلبته مستعجلاً حتى إنتهيت إلى أسفل القليب فلم أظفر به.
فقال الذي معي ما فيه شيء فاصعد فقلت : لا والله ما كذب ولا كذب، وما نفسي مثل أنفسكم يعني بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثم طلبت طلباً بلطف فاستخرجت وحقاً فأتيت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي إقرأهما على الوتر فجعل علي كلما قرأ إنحلت عقدة حتى فرغ منها، وكشف الله عز وجل عن نبيه ما سحر به وعافاه) ( ).
ولقد أجمع المسلمون على إعتبــار السنة المصدر الثاني للتشريع، وتشير إلى مضامين هذا المعنى عـدة آيات منها قوله تعالى[ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَأنتَهُوا]( ).
قال تعالى[ وَأنزَلْنَا اليْكَ الذِّكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ اليْهِمْ ]( )، وقد ورد أن الصحابة إذا تعلموا بعض آيات القرآن لم يتجاوزوها حتى يعلموها ويعملوا بها، فتعلموا القرآن والعمل به لذا كانوا يقيمون مدة طويلة على حفظه, وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ( أخذت من فيّّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة من القرآن) ( )، مما يدل في مفهومه بأنه لم يسمع القرآن كله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن عدد سوّر القرآن مائة وأربع عشرة سورة.
وعبد الله بن مسعود بن غافل يتصل نسبه إلى مضر، وهو من كبار الصحابة قال : لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا)( )، وقيل هو أول من قرأ القرآن جهرة بمكة وأسمعه قريشاً وتحمل بسببه الأذى والالم.
وسبب إسلامه ما رأى من الآيات من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، منها أنه كان يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاة حائلاً من تلك الغنم فدرت عليه لبناً غزيراً.
وهاجر إبن مسعود إلى الحبشة ثم إلى المدينة وصلى القبلتين وشهد مشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوفى في المدينة سنة إثنتين وثلاثين للهجرة، وبلغ عمره نحو سبع وستين سنة.
ولقد وردت مخالفات في قراءة ابن مسعود او المنسوب من القراءة له خلافاً لرسم القرآن، وإنحصر ذكرها في علم القراءات، مثلاً كان يقرأ وكفى الله المؤمنين القتال بعلي( ) في واقعة الخندق ويحمل على البيان والتأويل وموضوع النزول.
وفي قوله تعالى[وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أنزِلَ اليْكَ وَمَا أنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا]( )، أختلف في نصب المقيمين على وجوه :
الأول : قال سيبويه والبصريون أنه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة.
الثاني : قال الكسائي موضع المقيمين الجر وهو معطوف على (ما) من قوله [بِمَاأنزِلَ اليْكَ]( ) أي وبالمقيمين الصلاة.
الثالث : قال قوم أنه معطوف على الهاء والميم من قوله [منهم].
الرابع : أنه معطوف على الكاف في [ قبلك] .
الخامس : عن عائشة إنه من عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب، كما في رواية عروة عنها( ).
السادس : ورد أنه في مصحف إبن سعود [ والمقيمون الصلاة ].
ويحتاج إلى إثبات وعلى فرض صحة النسبة فأنه مما لم يلتفت الى قراءة هذا الحرف بالرفع ولم يعطه المسلمون في أجيالهم أهمية وشاناً كبيراً لإكتفائهم وتسليمهم بما بين أيديهم من القرآن وإعتبارهم لرسمه، وهذا الإختلاف في القراءة يختلف عن موضوع السورتين وجزئيتهما من القرآن وما له من موضوعية عقائدية عند المسلمين الا أنه يمكن الإستقراء منه وإنحصار الملاك بالقرآن وهو ما بين الدفتين.
في القراءة
يجب في صلاة الصبح والركعتين الأوليتين في سائر الفرائض قراءة الفاتحة وسورة غيرها بعدها الا في المرض والإستعجال وأفراد الضرورة فيجوز الإقتصار على الحمد وعليه الإجماع والنصوص ولا يجوز تقديم السورة على الفاتحة.
والقراءة ليست ركناً فلو تركها المسلم سهواً وتذكر بعد الدخول في الركوع صحت الصلاة، وسجد سجدتي السهو على القول بوجوبهما لكل زيادة ونقيصة، ولم يذكرها في محل التدارك الذي نسب إلى جمع من المتأخرين وقيل يسجد مرتين مرة للفاتحة، ومرة للسورة، والمختار هو الإتيان بهما في حال السلام في غير موقعه سهواً، ونسيان السجدة الواحدة إذا فات محل تداركها، ونسيان التشهد، والشك بين الأربع والخمس، والقيام في موضع القعود او العكس.
وهل يمكن القول بجزئية المعوذتين من القرآن والإحتياط بعدم قراءتهما في الصلاة؟
الجواب لا لوجوه :
الأول : عدم الواسطة بين القرآن وغير القرآن.
الثاني : الملازمة بين القرآنية والصلاة.
الثالث : النصوص الدالة على قراءتهما في الصلاة.
الرابع : الإجماع على جزئيتهما من القرآن.
ويمكن إعتبار هذا الإحتياط مخالفاً للإحتياط، إذ لا واسطة بين القرآن وغيره، فاما أن يكون قرآناً فيصلح إنطباقاً قراءته في الصلاة، وما ليس بقرآن لا تجوز قراءته في الصلاة إجماعاً.
وفي تفسير البرهان أفرد باباً عنوانه (المعوذتان من القرآن) وذكر فيه ثمانية أحاديث، ولكن النصوص في هذا الموضوع أكثر منها مما يدل بالدلالة التضمنية على جزئيتهما من القرآن لقرائتهما في الصلاة.
ومن النصوص الدالة على مشروعية قراءة المعوذتين في الصلاة :
روى أبو داود بإسناده عن عقبة بن عامر قال : كنت اقود برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقته في السفر، فقال “يا عقبة الا أعلمك خير سورتين قرئتا” فعلمني [ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ] و[ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ] قال : فلم يرني سررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة التفت إلي فقال يا عقبة كيف رأيت( ).
في الوسائل في حديث رجاء بن ابي الضحاك “أن الرضا كان يقرأ في صلاة الوتر الحمد مرة، وقل هو الله أحد ثلاث مرات، وقل اعوذ برب الفلق مرة واحدة، وقل اعوذ برب الناس مرة واحدة”.
وصلاة الوتر هذه هي التي ورد فيها الإذن بجواز شرب الماء اثناء الصلاة بالنسبة لمن نوى الصوم وجوباً أو ندباً وهو عطشان وخاصة قبيل طلوع الصبح وهو في الصلاة، والتحرك معها خطوات من غير إستدبار القبلة، ويدل عليه خبر سعيد الأعرجي عن الإمام الصادق، ومنهم من قال بشمول الأذن لغير الوتر.
والسنة تفسير للقرآن ومؤازر لآياته في معرفة الأحكام الشرعية وبيان المجمل وتخصيص العام سواء كانت السنة قولية او فعلية او تقريرية اذا نقلت بسند صحيح او سند يفيد الظن المعتبر والخاص.
وهناك طريق معتبر متجدد لإثبات جزئية المعوذتين من القرآن وهو علم التفسير وإثبات أنهما من كلام الخالق وليس من كلام المخلوق، فهما مناسبة كريمة لإستظهار المسائل والحكم والعبر بالإضافة إلى تسالم المسلمين على جزئيتهما من القرآن، ليس من السيرة فحسب والتي هي دليل لبي، بل بلحاظ كتابتهما في المصاحف وتلقي المسلمين لهما بإعتبارهما قرآناً وتنزيلاً.
فضل القرآن على العربية
يعتبر القرآن نعمة الله في الأرض وهبة سماوية إلى الناس، وتترشح إفاضاته عليهم في أبواب العلم المتعددة والمعارف المتنوعة ومنها اللغة واللسان، ونزول القرآن باللغة العربية أضفى عليها شرفاً وإعتباراً تأريخياً خالداً وموضوعية بين اللغات، وتعيين لغة القرآن جاء بإرادة ومشيئة الهية،قال تعالى[إن جَعَلْنَاهُ قُرْأنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ]( )
وأستدل بقوله تعالى[ انا جَعَلْنَاهُ] و[ انا أنزَلْنَاهُ] على كون القرآن مخلوقاً وليس بقديم، وكذلك بوصف [عَرَبِيًّا] لأن نعته بالعربية يدل على الحدوث .
والقرآن كلام الله, ولاتصل النوبة إلى فتنة خلق القرآن, ومن إعجاز القرآن الغيري أنها كانت قلة ممن إدعوا العلم ولم تدم طويلاً.
(وعن الجبائي [ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] كلمة لعل يجب حملها على الجزم والتقدير، لتعقلوا معانيه في أمر الدين، إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون الشك لأنه على الله محال فثبت أن المراد نزوله لإرادة أن يعرفوا دلائله) وليس بمطلق، لإنحلال الخطاب بعدد المكلفين والمخاطبين، فمنهم من يؤمن ومنهم من يتخذ الجحود والعناد والكفر مذهباً.
ولعل تفيد معنى الترجي، وهو المراد في الآية لحجية الظواهر وللتبادر الا أن يرد دليل على الجزم وفيه إشارة إلى أن الدنيا دار إمتحان وإختبار، والقرآن عربي، وفي الآية تأكيد على عربية القرآن فلا يصح تغيير معنى كلمة عربية، ويصرف إلى خلاف الظاهر من غير دليل أو قرينة معتبرة.
و[لعلكم تعقلون] أي لتستثمروا هذه الخصوصية ولغة القرآن, وتتدبروا ما في قصص القرآن من الحكمة والموعظة، وما في آياته من الأحكام والسنن والعلوم.
لقد أكد القرآن على عربية نزوله، وظاهر الآية وتتبعها منطوقاً ومفهوماً وتفسيراً أن العربية من أهم الصيغ للهداية وقبول الخطاب التكليفي، وفيها يتجلى الإعجاز البلاغي للقرآن، وتعدد وجوه التأويل والسعة في الأحكام، وأفضليتها كلغة للتنزيل وسبيل للهداية متعلق بالعرب وبالناس جميعاً كما في قوله تعالى [ وَهَذَا لِسَان عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ) [ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ المُنذِرِينَ بِلِسَان عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ]( ) ورد عن ابن عباس أي بلسان قريش ولكنه أعم.
[ وكذلك انزلناه قرآناً عربياً ]( )
[ وكذلك اوحينا اليك قرآناً عربياً ]( ).
[إنا جَعَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ]( ).
لقد كان للعربية موضوعية في نزول القرآن وفي إعجازه، وهناك ديانات كتبت بلغات خاصة، ولكن تلك اللغات إندثرت وأصبح معتنقوا تلك العقائد لا يعرفون اللغة التي كتبت بها، البراهمة مثلاً كانوا سادات قومهم ومترفيهم ويفرضون على عبيدهم دينهم بالقوة لم يحفظوا اللغة التي كتبوا فيها أسفارهم وأخذ الناس في شمال الهند وجنوبه يتخاطبون بالإنكليزية عند الإحتلال وحتى بعد الإستقلال.
لقد إندثرت ومنذ قرون لغات كثيرة كانت منتشرة، واللغة العربية تزداد شموخاً، وهناك باب في إعجاز القرآن وهو أن إضمحلال تلك اللغات وبقاء العربية الآن لغة ثابتة وشائعة وتزداد إنتشاراً هو نوع إعجاز للقرآن وحجة عليهم ومفخرة للعربية وعاء لغوياً ورداء لسانياً لكلام الله، فإن إعجاز القرآن المتصل عز وفخر لكل من يتعلق به مؤمناً أو قارئاً أو متعاهداً وحافظاً أو ناطقاً بآياته.
ورب إحصائية تجرى لبعض أمراض الفم والأذن والحنجرة ونحوها تظهر أن أصابة المسلمين بها أقل من غيرهم بسبب تلاوتهم للقرآن التي هي وقاية وحصانة.
إن فتح المسلمين للبلاد غير العربية حجة عالمية لم تستقرء بعد من قبل المفكرين الإسلاميين، فمنذ مئات السنين والعرب المسلمون في تلك البلاد هم القادة والحكام، ولم يفرضوا العربية على المسلمين مع أنها حاجة عبادية في الصلاة بينما إحتل الإستعمار تلك البلاد سنوات معدودات وإجتهد في فرض ونشر لغته من بين وجوه الإستعمار الثقافي ولم يفلحوا.
ومن إعجاز القرآن أنه رحمة للناس ولغته وأحكامه كانت هي المتصدية للإستعمار في تلك البلاد وإن لم تكن عربية.
ولابد لنا من التحقيق وأن عدم إنتشار العربية في تلك البلاد لم يكن نتيجة إعراض تلك الأمم عنها، لاسيما وأنهم يحتاجون العربية في عباداتهم وبعض معاملاتهم، فما هو متسالم عند المسلمين وغيرهم أن إعجاز القرآن يظهر في أهم جوانبه في اللغة العربية والبلاغة والبيان، وقد أختلف في إعجاز القرآن هل هو البلاغة أم اللغة أم الإخبار عن المغيبات، وهذا الإختلاف صغروي ولفظي إذ أن كلاً منها وجه من وجوه الإعجاز وقد أثبتنا أن إعجاز القرآن يتعداها بكثير ويشمل وجوهاً متعددة لم يكشف العلم والتحقيق والإستقراء عنها بعد.
نعم، تحدى القرآن العرب في لغتهم وأهم وجوه حضارتهم إذ كان منهم الخطيب المصقع والشاعر المفلق والحكيم المفوه والواعظ.
وقصة الوليد بن المغيرة معروفة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه شيئاً من القرآن فرق قلبه وأدرك الإعجاز فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمداً لتعرضن لما قاله، فقال الوليد: قد علمت قريش أني اكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا بزجره ولا بقصيده( )، والله أن لقوله الذي يقول حلاوة وأن عليه لطلاوة وأنه ليثمر أعلاه ويغدق أسفله وأنه يعلو ولا يعلى عليه وأنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى منك قومك حتى تقول فيه، قال : فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر، يؤثره عن غيره.
لقد أحدث الإسلام إنقلاباً إجتماعياً وغيّر موازين وأسس تنظيم الأمم، ومنهم العرب رعاة الإبل والشاء أصبحوا قادة الجيوش وفاتحين للبلدان الكبيرة وشيدوا أركان الإسلام بدمائهم وسيوفهم وهدي القرآن والسنة، دخلوا إلى تلك البلاد، ومنها ما كان على درجة من الحضارة، وكان من المتوقع أن تضعف قدرة العرب على حفظ لغتهم أزاء تلك الشعوب المستقرة، إذ أن العادة جرت وإلى اليوم أن يأخذ الوافد القليل العدد من الأمة الأصلية المتجانسة في باب المحاورة واللغة والعادات، ولكن القرآن أثرّ في تغيير تلك القاعدة الثابتة وفتح باباً يكون مصداقاً لمدرسة جديدة في إعجاز القرآن، ويؤسس منه وشبهه يتضمن هذا قانونا في تفسير كل آية أطلقنا عليه إسم “إعجاز القرآن الغيري” .
وفيه دعوة للمفكرين والمفسرين والباحثين لإستنباط الدروس منه وإستقراء مصاديقه المتشعبة في ميادين الحياة المختلفة، وبما يؤكد على الأسرار الغيبية في القرآن ونزوله بالعربية، وحصر قراءته بالعربية من غير أن يتعارض مع القول بجواز ترجمة القرآن قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الذِينَ ظَلَمُوا] ( )، وفيه شاهد بأن الإنذار باللغة العربية للظالمين مطلقاً ومن كل الأمم أكثر وقعاً وتأثيراً على النفوس.
لا بأس بالالتفات إلى هذه القاعدة الكلية بل المدرسة الجديدة في علوم القرآن وتتبع آثار القرآن في المجتمعات والأشخاص وتركيبة وهيئة المؤسسات المختلفة والإقتصاد والسياسة بما يدل على إعجازه ونفاذه إلى شغاف القلوب وظهور بركاته وإفاضاته في أبوابه التشريعية والأخلاقية حتى عند غير المسلمين، نحن بحاجة إلى إعداد دراسة تكون نواة لعلم جديد في أقسام إعجاز القرآن،وكل من الإعجاز الذاتي والغيري ينشطر إلى عدة فروع علمية, بلحاظ تعدد موضوعاته.
لقد ساهم القرآن في تثبيت اللغة العربية ووحدة العرب في مرضاة الله وتوجههم للعناية بكيانهم القوي وما يمتازون به من الصفات والمثل، وجعل لهم هيبة عند الأمم الأخرى.
وشارك القرآن ولغته في بسط الأمن وإزدهار العمران وتثبيت وحدة المسلمين وأضفى بوحدته معنى ومضموناً وكتاباً منزلاً بلغة واحدة عزاً إضافياً على المسلمين وأصبح باب إتحاد وإلتقاء عقائدي وعاطفي بينهم لا يمكن أن يتفكك، نعم قد يضعف أحياناً ولكنه لا ينقطع، والضعف ليس بسبب خلل ذاتي فيه بل لعوامل خارجية وأسباب عرضية زائلة، إنه ايضاً مدخل ومفتاح لأبواب في الالتقاء والتعاون كثيرة ومتعددة.
ومن إعجاز القرآن الغيري في هذا الزمان عدم تأثير الإستعمار على العرب في لغتهم الذي يظهر بدراسة مقارنة مع الأمم التي إحتلت من قبلهم بذات الفترة، وهو عز للمسلمين لما أضفاه على لغتهم من الدوام والخلود وفيه دعوة لإعتناق الإسلام.
فلم تعد اللغة العربية لغة خاصة بالعرب، بل هي لغة كل مسلم ومحل إعتزاز المسلمين عامة, لقد إفتخر العرب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من قريش ثم إفتخر المسلمون جميعاً به، فكل مسلم له حصة في القرآن، وهو مقصود في الخطاب فيه، وكذا اللغة العربية اليوم يفتخر كل مسلم بها وبارتقائها وعالميتها.
ويتصور حفظ العربية في المقام على وجوه :
الأول : خصوصية في القرآن لحفظ العربية.
الثاني : أهلية اللغة العربية لحفظ القرآن.
الثالث : لكل منهما خصوصية مستقلة في حفظ الذات.
الرابع : لكل منهما أثر في حفظ الآخر.
الخامس : لكل منهما أثر في حفظ الذات والطرف الآخر.
السادس : للقرآن أثر في حفظ الذات وحفظ العربية، وليس للعربية أثر في حفظ القرآن.
السابع : للقرآن أثر في حفظ الذات، وللعربية أثر في حفظ ذاتها.
الثامن : عكس السادسة أعلاه.
ولا موضوعية للقول بفضل اللغة على القرآن وحاجته اليها، إذ أن القرآن غير محتاج لحفظه من غيره، قال تعالى[ أنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَأنا لَهُ لحافظون]( )، نعم قد يكون هذا الحفظ بوسائط والات متعددة، ومنها لغة القرآن، وكونها فرداً مما سخّره الله لحفظ القرآن، ولا يعتبر ميزة ذاتية لها إنما جاءتها بالعرض، وبإرادة إلهية وهو باب فخر وإمتياز للعربية من بين اللغات.
أما الثالثة فهل العربية لها القدرة على حفظ نفسها ولو لم يكن نزول القرآن باللغة العربية فإنها تمتلك مقومات الحفظ والإستدامة، إن ذلك يحتاج إلى دراسات وتحقيقات وقد يتعذر الخروج بنتائج نافعة لاسيما مع ملاحظة الأهواء والآراء المحيطة بالعرب آنذاك، وإحتلال كثير من أمصار العرب من قبل الروم والفرس وهناك لغات أقوام أقل من العرب شأناً بقيت لم تندثر، ولا ثمرة علمية كبيرة في هذا البحث وليس الا فرضاً كفانا الله إحتمالاته السلبية، وجعلنا نفتخر بثمراته بالقرآن، فالعربية لم تجاهد في سبيل الدوام والحفظ وتحتاج إلى مواجهة التحديات، ولم يتصد زعماء ورجال وجماعات لحفظها بالذات، بل إنها تمتلك الحصانة والمنعة بالقرآن وحملته وعشاقه من المسلمين عرباً كانوا أو غير عرب.
والمتيقن أن للقرآن خصوصية في تعاهد العربية وتطور وإرتقاء علومها، وبالدلالات الثلاث المطابقية والالتزامية والتضمنية, بالقرآن أصبحت العربية إحدى اللغات الأساسية في الهيئات والمنظمات العالمية ويمكن أيضاً إضافته ولو على نحو الموجبة الجزئية وبالواسطة إلى إعجاز القرآن الغيري.
وهناك أهلية خاصة للغة العربية في الإنتشار والذياع بحيث تصلح دون غيرها لنشر علوم القرآن، ولا يعني هذا أن للغة العربية فضلاً على القرآن، ولا يوصف الله تعالى بالعجز، وهو قادر على أن ينزل القرآن بلغة أخرى غير العربية ويجعل لها ذات الأثر والتأثير.
ولقد تفضل الله سبحانه وشرّف لغتنا لغة المسلمين جميعاً بالقرآن، وأصبحت العربية تسير في ظلال القرآن وبأثره، وفي علوم القرآن وبلاغته توثيق للتراث الفكري العربي، وحفظ للأشعار، وفهم لمعاني القرآن ومفرداته الغامضة.
وعن ابن عباس : قال : إذا سالتموني عن غريب القرآن فالمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب) ( ).
ومن إعجاز القرآن الغيري حفظه وتعاهده لمدارس الشعر العربي وإبرازه لمعالمه وإعطاؤه وظيفة لغوية تفيد توثيقه وحفظه، كشعر حسان بن ثابت الذي يعتبر منهجاً جديداً ذا صبغة عقائدية إذ أن الشعر في أيام الجاهلية غالباً ما يحكي عصبية قبلية أو أحوالاً شخصية مدحاً وهجاء، أو يأتي توكيداً لموضوعية الشعر الأدبية والعقائدية.
وجاء القرآن ليعتني المسلمون بالشعر العربي كشاهد على إعجاز القرآن, وإحتاج العلماء والمفسرون إلى تتبع الشعر العربي وحفظ القصائد وتدوينها لأنه وجه أدبي من الوعاء اللفظي للقرآن أي أن لغة القرآن تدل على الواقع الفكري المستقر للعرب.
وللشعر مكانة إجتماعية خاصة عند العرب، ولكنها أدنى مرتبة من تلك التي أعطاها القرآن والمسلمون له، والا فإن المعلقات السبعة مثلاً وهي قصائد لأشهر شعراء عرب الجاهلية منفردة ومجتمعة لم تول عناية خاصة الا في القرن الثاني عندما إختارها حماد الراوية المتوفى سنة 155 هجرية بعد جولة في البادية, وحث العرب على قراءتها وإتخذها الشعراء المسلمون قواعد للنظم، ولم يثبت ما تناقله الناس أنها كانت معلقة على الكعبة، كما وأن إسم المعلقات جاء متأخراً زماناً، وبه قال ابن الأنباري.
لقد أضفت عربية القرآن على الشعر عناية عامة من المسلمين ومفكريهم، وجدد القرآن معالم الشعر المطلوب والممدوح، وكذا الشعر المذموم تحذيراً منه، قال تعالى[ وَالشُّعَرَاءُ يَتبِعُهُمْ الغَاوُونَ * المْ تَرَى أن هُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأنهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا… ]( ).
وربما تعطى الأولوية لأكثر لغات العالم شيوعاً، وهذا قول قد يتعارض مع القواعد الكلية إن لم يكن ناظراً إلى جهة وزمان محدود، ويمكن إبطاله كبرى وصغرى, وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لغة العلم هي لغة القرآن.
والصغرى : العربية لغة القرآن.
النتيجة : لغة العلم هي العربية.
والقرآن عربي اللغة والمنطوق والنص , عالمي الرسالة والمفهوم والمعنى،قال تعالى[ وَعلم آدم الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَال أنِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء أن كُنتُمْ صَادِقِينَ ]( ).
وقد نقرأ “أنبئوني” على خلاف طريقة القراء بإظهار النون وعدم ابدالها وجعلها ميماً، اذ أن النحويين والصرفيين يقولون بالابدال وهو حذف حرف ووضع حرف آخر مكانه كنوع إعلال بالقلب اذا جاءت النون ساكنة قبل الباء وجب قلبها ميماً ويكون القلب لفظاً لا خطاً وجعلوه قاعدة كلية، كما في أنباء تقرأ أمباء، ولكن لم يثبت اتصالها بأيام التنزيل، وذكر في علة ابدالها أن الميم مؤاخية للباء ومن مخرجها وتشاركها في الجهر والإخفات، وهي أيضاً مؤاخية للنون في الغنة والجهر وعدم إمكان إدغامها بالباء لبعد المخرجين، ولا تكون ظاهرة لتشبهها بأخت الباء وهي الميم فابدلت ميماً، وقد لا يكون هذا القول كافياً للوجوب بلحاظ موضوعية التنزيل واعتبار مدار الثواب عليه.
والأصل أن يقرأ على التنزيل وفيه الثواب والفراغ وإن قلب وفق قواعد التجويد جاز لأن متابعة علماء التجويد والتقيد بالمحسنات في القراءة أمر حسن.
وكل حرف يقرأ في القرآن بعشر حسنات، والمراد على وجوه :
الأول : الحرف الذي يؤثر به بدلاً بالقلب ونحوه.
الثاني : الحسنات والأجر للحرف المبدل والمكتوب خطأ، وفق قاعدة نؤسسها وهي موافقة الحسنات للخط والكتابة.
الثالث : العنوان الجامع، والثواب الشامل للآخرين .
والصحيح هو الثالث فلو جاءت القراءة على التنزيل أو وفق محسنات القراءة يأتي الثواب فضلاً من عند الله، وإذا ثبت الإبدال فلا كلام لتبعية الثواب قهراً للقراءة الواجبة أو المستحبة، ولكنه لم يثبت وهو من الشبهة الموضوعية، والأصل البراءة عن الالتزام بالبدل الا أن يرد دليل عليه، والثواب يدور على التنزيل، ولا بأس بما أشتهر من الإبدال والله واسع كريم.
ويمكن أن نشرع قاعدة أصولية هي إعتبار أصالة التنزيل في القراءة، فلو دار الأمر بين قراءة الحرف على التنزيل أو وفق قواعد التجويد, فالأصل هو التنزيل، ولعله من صعوبة النطق بالحرفين معاً لاسيما وأن النحاة قالوا بالتخفيف في القراءة، ولكن قراءة القرآن وحروفه توقيفية , لا تتغير الا بالدليل.
وقالوا أن ما هو واجب في النحو واجب عند الفقهاء، وأطلقوها إطلاق المسلمات، ولكن هذه القاعدة تحتاج إلى دليل، وعلى فرض التسليم بها واعتبار الشهرة كافية في الإستحباب فإن القدر المتيقن هو في الفقه والشريعة وحركات الإعراب لاسيما وأن التنقيط جاء متأخراً عن أيام النزول.
فإن قلت : أن هذا يقودنا إلى مراجعة القواعد النحوية في القراءة والحكم الفقهي مثل وجوب إدغام اللام في الحروف الشمسية وعددها أربعة عشر حرفاً، وإظهارها في بقية الحروف، فنقول في الله الرحمن الرحيم والدين والصراط والضالين مثلاً بالادغام، وفي الحمد والعالمين والمستقيم ونحوها بالاظهار.
وفي رسالتي العملية (الحجة) حررتُ مسالة في القراءة وهي (مما اشتهر وجوبه إدغام اللام في (ال) التعريف عندما تلتقي بواحد من اربعة عشر حرفاً وهي : التاء، الثاء، الدال، الذال، الراء، الزاي، السين، الشين، الصاد، الضاد، الطاء، الظاء، اللام، النون، وسميت بالحروف الشمسية لأن منها الشين الذي يكون أول حرف من كلمة الشمس، في مقابل الحروف الهجائية الأخرى والتي تسمى بالحروف القمرية لأن منها حرف القاف الذي هو أول كلمة القمر) ( ).
ولكن عدم التقيد بهذا الإدغام وتركه لا يعتبر عرفاً خارجاً عن صيغ المحاورة بالإضافة إلى قاعدة نفي الحرج في الدين, وأصالة البراءة وعمومات نية الرجاء في قراءة كل حرف عشر حسنات ومطابقة المأتي به للمأمور به وأصالة النطق بالحرف حسب رسمه.
وقال ابن الحاجب بوجوب الإدغام أي أنه واجب نحوي، وتبع الفقهاء النحويين والصرفيين في ذلك، فقالوا في الرسائل العملية بوجوب الإدغام ولا يعني الإتباع تمام الدليل.
ولا أقول بالدعوة إلى إسقاط هذا الإبدال فهو من المحسنات اللفظية, وقواعد القراءة ولابد له من مدرك ، والأولى السعة في القراءة بلحاظ التنزيل، والمسالة تدل على الدقة والضبط في علوم العربية لأنها مادة الآية القرآنية وطريق تعبدي تدخل قهراً في عباداتنا، ويتوقف عليه شطر من الثواب والجزاء.
والأسماء : جمع اسم وهي أسماء المسميات بحذف المضاف اليه لدلالته، والاسم وضع للدلالة على جوهر وذات أو عرض وعنوان يرمز اليه بمعزل عن الزمان، وفي الإصطلاح المنطقي هو اللفظ الذي يمكن أن يخبر به وعنه وحده ولا يدل بهيئته وصيغته على الزمان.
والاسم عنوان للتمييز والفصل بين الأشياء، وللتنويه بالدلالة على المعنى، وقيل الاسم بمعنى الصفو .
وقوله تعالى[ وَعلم آدم الأسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) وثيقة سماوية خالدة تؤكد ما لآدم من عظيم المنزلة وما رافقه منذ بداية خلقه من الشأن الرفيع والمقام السامي بين الخلائق عامة وموضوعية اللغة واللسان في الإحتجاج والبرهان وتحديد المنزلة والمقام، لذا يمكن أن يقال أن التفضيل كان نوعياً ويتعلق بالقدرة البشرية في النطق والفهم والتلقي والتمييز، وأن لغة الخطاب وبأي لسان تشريف للإنسان يجب عليه أن يؤدي شكره، ومن وجوه الشكر تعلم لغة القرآن وإكرامها.
ترى ما هي تلك اللغة التي تلقاها آدم من عند الله عز وجل رزقاً وكرامة وتشريفاً وحجة، قال الشيخ الطوسي : وظاهر الآية وعمومها يدل على أن الله علمه جميع اللغات، وبه قال الجبائي والرماني، فأخذ عنه ولده اللغات، فلما تفرقوا تكلم كل قوم منهم بلسان الفوه واعتادوه وتطاول الزمان على ما خالف فنسوه).
ولكن القدر المتيقن المستفاد من ظاهر الآية هو تعليم آدم ما يصح به التعبير عن المعنى من الالفاظ المناسبة وباللغة التي إعتادها الملائكة وما يتخاطبون به، والأرجح أنها اللغة العربية فهي لغة أهل الجنان.
والقول بأن اللغات جميعاً إنما سمعت من آدم وعنه أخذت يحتاج إلى دليل أو أمارة خاصة ولعل الإستقراء التأريخي والوجدان بخلافه، وفيه زيادة عن الحاجة وإن كان لفضل من الله تعإلى على عبده ونبيه الذي خلقه بيده أمراً معقولاً وغير مستبعد.
وقد ورد عن كعب الأحبار قال : أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمائة كتبها في الطين ثم طبخه، فلما أصاب الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم فكتبوه، فكان إسماعيل بن إبراهيم أصاب كتاب العرب( ) .
وذكر أن إدريس النبي أول من خط بالقلم، وهناك روايات أخرى في المقام، وقد أكدت الدراسات الحديثة في علم اللغات على الالتقاء والتقارب في ترتيب الحروف بين اللغات السامية القديمة، كما أن الكتابات العربية التي عثر عليها الباحثون على الصخور والتي تعود إلى فترة ما قبل الإسلام تؤكد وجود روابط بينها وبين الخط النبطي القديم مع تطور ظاهر في الخط العربي كما في نقش أم الجمال الأول الذي يعود تأريخه إلى سنة بعد الميلاد أو نحوه، علماً أن تلك النقوش وما تستخرجه الإكتشافات الأثرية لا يستوفي الحقيقة التي تؤكدها الروايات.
ودلالة الالفاظ على معانيها كما في علم الأصول بالجعل والتخصيص، وهل هي بالذات والطبع أو بتوسط الوضع،إنها ليست بالطبع لأن الدلالة الطبعية الذاتية لا تختلف بإختلاف الأعصار والمجتمعات، ولابد أن يكون لإختيار الواضع للفظ الخاص معنى معين مرجح لعدم إمكان الترجيح بلا مرجح.
لقد كان في القرآن تثبيتاً للعربية وإعزازاً لها وإظهاراً لأسرارها الأدبية، والذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخزاهم الله في موضوع العربية نفسه، أي أن اللغة كانت مناسبة للتباري بين القرآن وأعداء الإسلام، وإتخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون سلاحاً ودعوة للإيمان.
وكان النضر بن الحارث من بني عبد الدار يجلس قبالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاذا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن والناس يستمعون له ويدركون أمارات الإعجاز، يقول لبني قومه من حوله أي معشر قريش هلموا إلي فإني أحسن من محمد حديثاً، ثم يشرع فيلفق حديثاً عن ملوك فارس ويقص من أقاصيصهم وهو مع لباقته وقدرته على سرد الحديث وجمع الأخبار والتوسع في الكلام عاجز عن التباري وجذب الأسماع، فكانت تلك المخالفة مناسبة لإظهار إعجاز القرآن، وسرعان ما زال تحديهم والقرآن فضحه بآية موجزة نهت دائماً عن اللغو والإنشغال بالباطل، قال تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ]( ) .
والنضر هذا قتل يوم بدر صبراً قتله الإمام علي عليه السلام بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ثلاثة منهم عقبة بن أبي معيط إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
ياعلي عليّ بالنضر ابغيه فأخذ علي بشعره وكان رجلاً جميلاً له شعر فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يامحمد أسالك بالرحم بيني وبينك الا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلني وان فاديتهم فاديتني .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لارحم بيني وبينك قطع الله الرحم بالإسلام قدمه ياعلي فاضرب عنقه فضرب عنقه) ( ).
والنضر هو القائل : [ان هذا الا أساطير الأولين] ( ) وقال لو شئت قلت مثل هذا، وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم واسفنديار للإفتراء على القرآن ، ومحاولة إيهام الناس بوجود وجوه للشبه بينها وبين بعض قصص القرآن بخصوص الأمم السالفة وعلى فرض وجود تشبه ببعض القصص فانه لايتعارض مع نزول القرآن من عند الله، بل يدل على صدق نزوله لما فيه من الإعجاز والتوثيق الأمم السالفة، ولأن بعض الأخبار الموجودة في أيدي أهل الملل والنحل أنما هي من الكتب السماوية السابقة وأخبار الأنبياء, وفي علم المنطق المركب التام على قسمين:
الأول : الخبر , وهو الذي يكون مرآة لحقيقة وموضوع، وكاشفاً لمصداق خارجي، وإخباراً عن أمر كما يقال (هلّ الهلال) ويسمى القضية وقد يكون موافقاً للواقع ويتصف بالصدق أو يتصف بالكذب ومخالفة الواقع ، والقسم الثاني هو الإنشاء.
وكان نزول القرآن أيام إهتمام العرب وولعهم بالبلاغة وفنون الكلام الا أن ذلك الولع محدود بموضع معين وهو مكة وما حولها، وتتجـــاذب الناس آنذاك أمـــواج الفــتن، والعرب في حال ضعف وتشــتت.
إن إعطاء القرآن أولوية للغة وعلومها وأسرارها سبب دائم في دفع الجهالة والوهم، وفي عربية القرآن قوة للمسلمين وطرد للضعف، لقد كان القرآن خيمة إجتمع تحتها المسلمون بلحاظ اللسان ولم تعد العربية منحصرة بالإنتساب القبلي فقط، وكل مسلم ينتمي إلى العرب بوشائج قرآنية متينة وراسخة، وجاء علم التفسير ليفتح آفاقاً على اللغة العربية وينقح علومها ويثبت قواعدها.
فمن أهم وجوه التفسير معرفة اللغة ومعاني الكلمات، وفيها إبانة لمضامين كلام الله، إذ لا يمكن تفسير الآية الا بعد فهم معاني كلماتها، ولا يصح في التفسير حمل ألفاظ القرآن على معاني مخصوصة او الإكتفاء بالشائع منها، فلابد من التحقيق والبحث عن المعنى المناسب للفظ وفيه تثوير للغة وإحياء لعلومها، ويظهر البحث والدراسة في السور القصار الصيغ اللغوية المتكاملة والسجع والحلاوة في الجرس والإزدواج مع الإتزان.
ووردت في القرآن كلمة (عربي) إحدى عشرة مرة، وكلها تتعلق بالقرآن وتلك آية موضوعها عدد المرات والتكرار وما يعنيه ويتضمنه من أسرار، وما في إنحصار ذكر العربية بصفة القرآن ولغته من دلالات، كما أن هذه الكثرة والتوالي في ذكر العربية مدرسة عقائدية تدل على موضوعية اللغة العربية في نزول القرآن وبيان أحكامه , قال تعالى [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ] ( ).
ويدل عدم ذكر العربية صفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على حقيقة ظاهرة وبينة وهي الهوية العالمية لرسالته بالذات وأنها لا تنحصر بالعرب أو إنتماء النبوة للعرب دون غيرهم، كذلك فان اللغة العربية أيضاً عالمية، ولكن ليس بالذات كما في مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ شرّفه الله تعالى بالنبوة، بل بالعرض والغير بإتصاف القرآن ونزوله بها لغة له وبالمنزلة التأريخية منذ نزول الإنسان إلى الأرض وهو أمر إنحلالي لكل إنسان نصيب منه، وفيه منتهى الفخر والسمو في باب اللسان والعلوم اللغوية.
وتبين أهمية اللغة في القرآن منزلتها في حياة الشعوب والعقيدة وتؤكد على إعتبار اللسان وموضوعيته في المجتمعات , وبناء الأخلاق وقد يغني عن السيف.
وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد عربيته وغالباً في باب الإحتجاج كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “أنا أفصح العرب بيد أني من قريش” وهذا القول يمكن إعتباره تفسيراً لتلك الآيات لاسيما وأننا نقول بان السنة بيان للقرآن.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : “إعربوا القرآن والتمسوا غرائبه( )”، وحمله بعض المفسرين على إرادة الإعراب بمعناه الإصطلاحي بإعراب الكلمات وهو الذي يفتح الالفاظ، واطنب في إبراز الإعراب في التفسير، ومع التسليم بأهمية الإعراب ولكن المراد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعنى الأعم، إذ أن الإعراب – بكسر الهمزة – هو الإبانة والإيضاح والإنكشاف ومنه الحديث “إعربوا أحاديثنا فأنا قوم فصحاء”( )، فالمراد من إعراب القرآن نطق كلماته بفصاحة ومن غير لحن، وإبانة ما فيه من غرائب وبدائع وبيان وتوكيد لأسرار اللغة.
نحن لا نقول بعدم موضوعية الأعراب بل له وظائف متعددة وهو باب علم شريف يساعد على إفادة المعنى والمراد من الآية، ولقد اعتمد الصحابة والأئمة عليهم السلام الإعراب طريقاً للبيان والإستشهاد.
قال السيوطي: ولا يجوز قراءة القرآن بالعجمة مطلقاً سواء أحسن العربية أم لا، في الصلاة أم خارجها) أي لا تجوز الترجمة بقصد القراءة دون التفسير، وعن أبي حنيفة:أنه يجوز مطلقاً( )، وقيده أبو يوسف تلميذه بمن لا يحسن العربية، وقال ووجه المنع أن يذهب إعجازه المقصود منه , ولكن المنع أعم من ذلك لأن القراءة واجبة فيجب تعلمها.
لقد خطى النحويون خطوات مباركة وأسسوا قواعد لغوية ونحوية راسخة أظهرت كنوزاً تتضمنها اللغة العربية وفتحت أبواباً لعلوم اللغة الأخرى، ومنها البلاغة لاسيما وأن القرآن أعجز البلغاء وتحدى موهبتهم ونبوغهم، ومنهم من قال بأن إعجاز القرآن يتعلق بالنظم وعلم البيان والبديع ولكنه أعم وأكبر وينفذ إلى جميع العلوم، والحاجة إليه متصلة ودائمة.
وصنفت بعض الكتب فيه ولكنها قليلة، ولا تجسد هذه الحقيقة الثابتة، مثلاً أطرى المفسرون كثيراً على الزمخشري المولود سنة 467 هجرية في قرية (زمخشر) وهي قرية صغيرة من قرى خوارزم ثم رحل إلى بغداد لتلقي العلوم، وجاور في مكة زمناً، وتوفي سنة 538 هجرية واثنوا عليه لإظهاره وجوهاً بلاغية للإعجاز وبيانه السبك القرآني، وقالوا ليس غيره من يستطيع ان يظهر لنا ذلك.
ويجب أن ترتقي علوم البلاغة بإستمرار، وتتخذه ونحوه أساساً، وفي النصوص الواردة قواعد لعلوم بلاغة القرآن.
ولابد من الإجتهاد والإبداع في علم بلاغة آيات التنزيل سواء كان في خصوص بلاغة العربية أو بلاغة القرآن والسعي لإنبثاق مؤسسات أكاديمية متخصصة في علوم البلاغة تساهم في إظهار وبيان الوجوه البلاغية الإعجازية في القرآن بما يتناسب وتشعب العلوم في هذا الزمان, وإرتقاء الدراسات فيها، ووجود الكتب والدراسات القديمة كنز وعون ورافد لجيل العلماء في هذا الزمان فلقد إتخذ المسلمون المساجد دار ثقافة وحلقات للدرس وإلى يومنا هذا تعظيماً لشعائر الله، ولتصبح كتب ودراسات أمس واليوم أساساً لما يستظهر من علوم القرآن واللغة في القادم من الأيام.
وفي باب أحكام المساجد أحاديث نبوية في عمارة المساجد وعدم الخوض فيها بالباطل أو رفع الأصوات في غير العبادة والذكر، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عن قراءة الأشعار، وأن تنشد الضالة في المسجد ، كما ورد النهي عن إقامة الحدود في المساجد او إتخاذها محلاً للقضاء والمرافعة ويحمل على الكراهة، ولم ينه عن الدرس والذكر فيها لأنه من تعظيم شعائر الله بالإضافة إلى إستحباب المشي إلى المساجد مطلقاً بل في كراهة إنشاد الشعر في المسجد أستثني ما كان شاهداً على جواز الإنشاد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه.
“ولما جاء وفد بكر بن وائل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالهم عن خبر قس بن ساعدة( )وقال : يحشر وحده”( )، وأنشد بعض الشعراء قصائد التوحيد في المسجد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإستمع لها صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من الإقرار بالربوبية والحجة.
وهناك آفتان تداهمان العربية وتنهشان في جسم لغة القرآن منذ مئات السنين، إحداهما تتعلق بداخل الأمصار العربية، والأخرى بالعالم الإسلامي، أما الأولى فهي العامية والنطق بالفاظ محلية يتخاطب بها العوام من غير الفصحى.
واللجوء إلى العامية وإتخاذها لغة محاورة له أسباب خاصة بمدن ومجتمعات وقبائل كلها عربية ومع هذا تجد عندهم مفردات عامية مستقلة، ترشحت من التسامح في النطق واختيار التخفيف على اللسان مع أنها ليست جديدة بل قديمة تمتد جذورها إلى أيام العباسيين وكثرة المولدين والإستقرار في المدن, والرضا بما يفهم عرفاً, وعدم الالتفات والحرص على إكرام العربية الفصحى.
فحينما ينتقد أحد الفقهاء إستاذه، في قوله (مطرنا البارحة مطراً أي مطراً)، يعتذر عنه الحافظ ابن داود بأن ذلك في مخاطبة العامة وأن الناس لم يزالوا يلحفون ويتلاحفون فيما يخاطب بعضهم بعضاً اتقاء الخروج من عادة العامة فلا يعيب ذلك من ينصفهم من الخاصة.
والعامية أعم من اللحن وأشد خطراً ولابد من التمييز بينهما، فالعامية هي اللهجات المحلية غير الفصيحة والمفردات غير الموجودة في اللغة، واللحن أهون وقد تجد له عذراً ويمكن تداركه وهو أقل خطورة وضرراً من العامية كماً وكيفاً، وبين العامية واللحن عموم وخصوص مطلق فكل لحن هو خلل لغوي, وعن ابن الإعرابي قال يقال : لحن الرجل يلحن لحناً فهو لاحن : إذا أخطأ( )
ولعل من أسباب شياع العامية ونحوها الإبتعاد عن القرآن ولغته وعدم الإكتراث بموضوعية اللغة، ولكن القرآن هو الذي يحجم وباء العامية ويمنع من ضررها الكبير على العربية، ولم تكن العامية ببلد دون آخر، بل أصبحت عامة في أغلب أمصار العالم الإسلامي لتعكس واقعاً متخلفاً لغة عن القرآن.
والأولى : التخلص من هذا الوباء المتفشي بيننا وإتخاذ صيّغ تحد منه، وتمنع من إنتشاره أو إعتباره واقعاً متوارثاً، ومنها إعتماد اللغة العربية الفصحى في المحاورات وحلقات الدرس والمؤسسات العلمية أو بشطر من الالفاظ والكلمات ليكون طريقاً وتمريناً للتخلص من اللحن ومساهمة في خدمة القرآن.
نعم يمكن أن يكون هذا الإعتماد على مراتب ومراحل متباينة في صيغ المخاطبة بين أهل العلم وأقل منه مع العامة، ولا مانع من تفكيك هذه الدعوة وحصر النطق بالفصحى كمرحلة بحلقات الدرس والجامعات، ويكره التحدث بالعامية في الدروس الحوزوية مطلقاً، والدراسات الأكاديمية وإن كانت في غير إختصاص العربية والقرآن، ويجب أن تعطى الأولوية في الدراسة فيها ومناهجها للعربية كمقدمة وبداية للحد من ظاهرة الأمية من غير أن يتعارض هذا مع إعتبار اللغات القومية للشعوب الإسلامية التي تتكلم غير العربية.
صحيح أن الأمر يحتاج إلى إيجاد ملكة وقدرة عامة عليه، ولكن المدد والعون القرآني يتجلى بسهولة ويسر مع حالة المزاولة وطول الملابسة والشروع بتحرير اللغة وخروجها من طغيان وعدوان العامية.
والأولى بالهيئات والمجالس العلمية في العالم العربي والإسلامي وضع الدراسات والخطط الشاملة لمحاربة ظاهرة الأمية، ونقترح أن يكون هناك تعاون في باب نشر العربية الفصحى لغة القرآن وكلام الأجداد ومحاربة داء العامية.
ولغة القرآن عنوان جامع للعز والفخر ومن أفضل مصاديق الوحدة والإتحاد، لاسيما وأن الأمية تعدت إلى خارج الوطن العربي وشملت بعضاً ممن يتعلم العربية، بالمخالطة وينميها في التعامل اليومي في المجتمع فتشيع الأمية قهراً وإنطباقاً، وتبقى العربية منحصرة بحلقات محدودة للدرس اللغوي أو الفقهي، وببركة القرآن لم ولن يصل الأمر إلى الإستهزاء بمن لا يتكلم الا الفصحى.
أما الآفة الأخرى فهي عدم إعطاء لغة القرآن في الدول الإسلامية القدر المناسب من العناية والإهتمام النوعي والرسمي في الإنتشار بين شعوبها ومما لا ريب فيه أن المؤسسات الثقافية الدينية في الأمصار الإسلامية وغيرها من البلدان الأخرى تقع عليها مسؤولية جعل اللغة العربية لغة الدراسات فيها.
وإذ حافظ القرآن على دوام العربية وبنى لها مجداً ووضع لها أركاناً بإظهار قواعدها، وساهم علماء الإسلام في تأسيس المدارس اللغوية والنحوية التي تتصف علومها بالدقة والإستيعاب والإحاطة، فإن اللغة العربية تنتشر بما يتناسب ومنزلتها التأريخية مقدمة لعلوم القرآن مع أنها تمتلك مقومات الإنتشار والعالمية، وسيبقى المناخ والواقع مناسباً ومفتوحاً لإتساعها، وسيظل القرآن حارساً وحافظاً لها.
سِفر النبوة
بين النبوة والرسالة
النبي هو الإنسان الذي إختاره الله عز وجل للإخبار عنه ومن غير واسطة إنسان آخر، والرسول هو أيضاً نبي ولكنه يمتاز بأن له شريعة مبتدأة، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي، وليس كل نبي هو رسول.
ولقد شرّف الله عز وجل الأنبياء وأكرمهم وفضلهم على سائر خلقه وعددهم مائة وأربعة وعشرون الف نبي، من ضمنهم الرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً.
وفي الفرق بين الرسول والنبي أقوال ووجوه :
الأول : النبي الذي يسمع صوت الملك ولا يعاينه , والرسول الذي يجمع له الله بين سمع الصوت ومعاينة الملك.
الثاني : الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه، وإنما يدعو إلى كتاب من قبله.
الثالث : الرسول الذي نسخ بالكتاب الذي أنزل عليه شريعة من قبله، ومن لم يكن كذلك منهم فهو نبي.
الرابع : إن الرسول الذي يأتيه الملك ظاهراً ويأمره بدعوة الخلق، ومن لم يكن كذلك بل يرى في النوم فهو النبي.
الخامس : ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلماته وينزل عليه الوحي، وربما يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع.
السادس : عن الإمام الباقر الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً، فيراه ويكلمه .
واما النبي فهو يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم ونحو ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة.
وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلاً. ومن الأنبياء من جمع له النبوة, ويرى في منامه يأتيه الوحي فيكلمه ويحدثه من غير أن يكون رآه في اليقظة، وأما المحدّث فهو الذي يُحدَّث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه”.
إن ذكر الأنبياء بلغة العموم والإطلاق ونيلهم أعلى مراتب الشرف والنبوة لا يعني أنهم على مرتبة واحدة من جهة تلقي الوحي والوظائف، فقد ورد عن الباقر عليه السلام: المرسلون على أربع طبقات، فنبي تنبأ في نفسه لا يعدو غيرها ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كما في قوله تعالى[وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ الفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( )وقال : يزيدون ثلاثين الفاً.
ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم، وقد كان إبراهيم نبياً وليس بامام حتى قال : [إِني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَال لاَ يَنَال عَهْدِي الظَّالمِينَ ]( ) أي من عبد صنماً أو وثناً وتجاوز الحد متعدياً لا يصلح للإمامة.
وكما أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بالأنبياء مبشرين وأئمة هدى فإنه سبحانه تفضل بإنزال الكتب عليهم, لتكون حجة وباب هداية، وعوناً لأهل الإيمان في عملهم ومناسكهم بل وجهادهم.
وقيل يارسول الله كم أنزل الله من كتاب؟
قال : مائة صحيفة وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى أول من خط بالقلم وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان( ).
وفي رواية عن أبي ذر يرفعه أنها مائة كتاب وأربعة وعشرون كتاباً. منها أنزل على إدريس خمسون صحيفة.
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : بعثت على رأس ثمانية الآف نبي منهم أربعة الآف من بني إسرائيل)، وعلى فرض صحة السند فإنها تحمل أما على أعاظم الأنبياء أو الذين تجمعهم صفة معينة حسب القرائن وسياق الحديث، أو من خلال المعنى.
لقد أكرم الله عز وجل بني آدم ولم يترك الأرض من غير حجة، ظاهرة أو مستترة، وكان الأنبياء يتوارثون النبوة, ويحرصون على ميثاقها. وكل رسول يبشر بالذي يأتي بعده، عن الصدوق في إكمال الدين في حديث طويل يسنده إلى الإمام محمد الباقر وفيه : أن آدم لما أستكملت أيام نبوته، أوحى الله سبحانه إليه أن يجعل العلم وميراث النبوة في إبنه هبة الله، وبشر آدم بنوح، وكان بينهما آباء كلهم أنبياء، فلما مضت أيام نبوة نوح دفع ميراث العلم والنبوة إلى إبنه سام، وليس بعد سام الا هود، فكان بين نوح وهود من الأنبياء مستخفين وغير مستخفين، ومن بعد هود إنتهت النبوة إلى إبراهيم، وكان بين هود وإبراهيم من الأنبياء عشرة.
ولم يكن الأنبياء بمعزل عن البلاء، فلقد واجهوا صنوف الأذى وعاشوا أقسى الأحوال، وتعرضوا للشتم والضرب وأحياناً يكون القتل خاتمة لحياتهم الشريفة.
ومع هذا بالغ أقوام في منازل الأنبياء وقاربوا بها الربوبيةوفي التنزيل [وَقَالتْ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ وَقَالتْ النَّصَارَى المَسِيحُ ابن اللَّهِ] ( ).
فجاء الإسلام ليتصدى إلى تلك المبالغة بنفس الصيغ الجهادية والتربوية التي رسخها في إكرام الأنبياء ومعرفة حقيقة إرتقائهم على البشر منزلة وعلماً وكرامة, وفيه منع من الإفراط والتفريط، ودعوة إلى التفقه في الدين.
(فعن صهيب ان معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : يا معاذ ما هذا؟
قال : أن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها. ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت: ما هذا؟
قالوا : تحية الأنبياء.
فقال عليه السلام : كذبوا على أنبيائهم( )
وإستمر الصحابة والأئمة عليهم السلام في التصدي لصيّغ الغلو وأماراته ليتجه الناس إلى التوحيد والإخلاص في العبادة.
فعن الثوري عن سماك بن هاني قال : دخل الجاثليق( ) على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له.
فقال له علي : أسجد لله ولا تسجد لي( ).
لقد جاءت آية الاسراء بصفة العبودية [سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ]( ) للحث على الإجتهاد في الطاعة والعبادة, ودعوة لرجاء فضل الله تعالى ، وفيها رد متقدم ودعوة وحث لإكتشاف الإنسان لأسرار الآفاق، وتوصله بالعلم لكيفية الصعود في السماء وإخبار بأن معجزة الإسراء حصلت بصفة العبودية.
الاسم الأعظم
وهو سر من أسرار الكون، وكنز من ذخائر النبوة، وفضل من الله تعإلى على الإنسانية، وعلى الصفوة من الأنبياء خاصة، ويمكن تعريفه بأنه باب علم تفتتح منه خزائن متعددة من العلوم والمعجزات والكرامات والأسرار الربانية التي تتعلق بالحوادث والمغيبات والأمور الكونية ونحوها.
إنه إسم الله الذي يستجيب له كل شيء بإذنه تعالى ، وقد يرد في النصوص بعنوان إسم الله الأعظم أو إسم الله الأكبر أو السر الأعظم.
ولقد حجبه الله عز وجل عن العباد الا من إصطفى، وأختلف في موضع وجوده من القرآن هل هو في آية معينة أو مجموعة آيات، والإخفاء سر من أسرار المعرفة الالهية وجزء من الحجب والستر وأحكام الغيب ومعارفه، وهذه صغرى، أما الكبرى فهي هل هو موجود في القرآن أم لا؟ الجواب نعم، ويدل عليه الكتاب والسنة , قال تعالى[ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَأنا لِكُلِّ شَيْءٍ ] ( ).
والأنبياء رُزقوا إياه ولكن بأجزاء ومراتب متباينة في الكم والكيف والأثر, وعن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى [المْ]قال هو اسم الله الأعظم( ) .
وعن ابن عباس في قوله تعالى [المْ]و[ حم]و[طس] قال هي اسم الله الأعظم وعن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { والهكم اله واحد لا اله الا هو الرحمن الرحيم } و { الم ، الله لا اله الا هو الحي القيوم ( ) .
وعن أبي أمامة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : أن اسم الله الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث : البقرة وآل عمران وطه.
قال بعضهم : فنظرت في هذه السور الثلاث فرأيت فيها إسماً ليس في شيء من القرآن :
في آية الكرسي {اللَّهُ لا اله الا هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ} .
وفي آل عمران {الم الله لا اله الاّ هو الحيُّ القيّوم} .
وفي طه (وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَىِّ القَيُّومِ)( ) وقال الثعلبي في صفة قتل داوود جالوت قال المفسّرون بالفاظ متشابهة ومعان متّفقة : عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً وكان داود أصغرهم، فأتاهم ذات يوم فقال : يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً الاّ صرعته فقال : أبشر فإنّ الله جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرّة أُخرى فقال : يا ابتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبته وأخذت بأذنيه ولم يهمّني، فقال : أبشر يابني فإنّ هذا خير أعطاكه الله. ثم أتاه يوماً آخر فقال : يا أبتاه إنّي لأمشي بين الجبال فاسبّح فما يبقى جبل الاّ يُسبّح معي، فقال : أبشر يابني فإنّ هذا خير أعطاكه الله.
قالوا : فارسل جالوت إلى طالوت أن ابرز اليّ مَنْ يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم، فشقّ ذلك على طالوت فنادى في عسكره مَنْ يقتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد. فسال طالوت نبيّهم اشمويل ان يدعوا الله، فدعا الله عزّ وجلّ في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن، وتنور من حديد، فقيل : إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن رأسه منه ولا يسيل على وجهه يكون على رأسه كهيئة الاّكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه لا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني اسرائيل فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد.
فأوصى الله تعالى إلى نبيهم إنّ في ولد أيشا مَنْ يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت أيشا وقال: أعرض عليّ نبيك، فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال السواري، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئاً فيقول لرجل منهم : بادع عليهم جسم ارجع فيردد عليه فأوحى الله تعالى اليه إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ على صلاح قلوبهم، فقال لأيشا: هل بقى لك ولد غيرهم؟ قال : لا.
فقال النبي : يا ربّ إنّه زعم أنّ لا ولد له غيرهم ، فقال : كذب.فقال النبيّ : إنّ ربّي كذّبك، فقال : صدق الله يانبي الله إنّ لي ابناً صغيراً يقال له : داود، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا، وكان داود ج رجلاً قصيراً مسقاطاً مصفاراً أزرق أمعد. فدعاه طالوت، ويقال : بل خرج طالوت اليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب التي يريح اليها، فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما السيل ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه النبيّ قال : هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم، فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض.
فقال له طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟ قال: نعم. قال : وهل أنست من نفسك شيئاً تقوى به على قتله؟ قال : نعم، أنا أرعى فيجيء الأسد والنمر والذئب فيأخذ شاة وأقوم له وأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه.
فردّه إلى عسكره، فمرّ داود بحجر فناده : يا داود احملني فإنّي حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته. ثم مرّ بحجر آخر فناداه : ياداود إحملني فإنّي حجر موسى الذي قتل بيّ ملك كذا، فحمله في مخلاته.
فمرّ بحجر آخر فقال : إحملني فإنّي حجرك الذي تقتل بي جالوت، وقد خبأني الله لك .
فوضعها في مخلاته. فلما تصافوا القتال وبرز جالوت وسال المبارزة، إنتدب له داود فأعطاه طالوت فرساً ودرعاً وسلاحاً، فلبس السلاح وركب الفرس، فسار قريباً ثم إنصرف فرجع إلى الملك، فقال مَن حوله : جَبُنَ الغلام فجاء فوقف على الملك، فقال : ما شأنك فقال : إنّ الله إن لم ينصرني لا يغني عني السلاح شيئاً فدعني أُقاتل كما أُريد.
قال : نعم، فأخذ داود مخلاته فتقلّدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاث مائة من حديد، فلما نظر إلى داود القى في قلبه فقال له : أنت تبرز لي؟ قال : نعم. وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام.
قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما تؤتى الكلاب؟ قال : نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال : لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. قال داود : أو يقسم الله لحمك. ثم قال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً، ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال : باسم اله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصار كلّها حجراً واحداً، ودوّر المقلاع ورماه به فسخّر الله الريح حتّى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه فخرج من قفاه وقتل من وراءه ثلاثين رجلاً، وهزم الله سبحانه الجيش وخرّ جالوت قتيلاً فأخذه فجرّه حتّى القاه بين يدي طالوت.
ففرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت، وقال : أنجز لي ما وعدّتني وأعطني امرأتي، فقال له : أُتريد ابنة الملك بغير صداق. قال داود : ما شرطت عليّ صداقاً وليس لي شيء. قال : لا أُكلّفك الاّ ما تطيق .
أنت رجل حربي وفي جبالنا أعداء لنا غلفٌ، فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوّجتك ابنتي، فأتاهم فجعل كلّما قتل منهم رجلاً نظم غلفته في خيطه حتّى نظم غلفهم , فجاء بها إلى طالوت فالقى اليه وقال : إدفع الي امرأتي، فزوّجه أبنته وأجرى خاتمه في ملكه.
فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا ذكره، فوجد طالوت من ذلك وحسده فأراد قتله، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له ذو المغنيين، فقالت لداود : إنّك لمقتول الليلة.
قال : ومَنْ يقتلني؟ قالت : أبي.قال : وهل جزمت جزماً؟ قالت : حدّثني مَنْ لا يكذب ولا عليك لن تفوت الليلة حتى تنظر مصداق ذلك. فقال : لئن كان أراد ذلك ما أستطيع خروجاً ولكن ائتيني بزق من خمر، فأتته، فوضعه في مضجعه على السرير. وسجّاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل وأراد أن يقتل داود فقال لها : أين بعلكِ؟ فقالت : هو نائم على السرير، فضربه ضربة بالسيف فسال الخمر، فلما وجد ريح الشراب قال : يرحم الله داود ما أكثر شربه الخمر وخرج، فلما أصبح علم أنّه لم يفعل شيئاً. فقال : إن رجلاً طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتّى يدرك منّي ثأره، فشدّد حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه أبوابه.
ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله تعالى الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهماً عند رأسه وسهماً عند رجليه وسهماً عن يمينه وسهماً عن شماله ثم خرج. فلما استيقظ طالوت أبصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله داود فهو خير منّي، ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكفّ عنّي، ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي. وما أنا بالذي آمنهُ.
فلما كانت المقابلة أتاه ثانياً فأعمى الله الحجّاب , فدخل عليه وهو نائم وأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من هدب ثيابه , ثم خرج وهرب وتوارى. فلما أصبح طالوت ورأى ذلك، سلّط على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم إن طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البريّة، فقال طالوت : اليوم أقتل داود أنا راكب وهو ماش، وكان داود إذا فزع لم يدرك فركض طالوت على أثره، فاشتدّ داود فدخل غاراً فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً.
فلما أنتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنبكوت، قال : لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى، وانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبّدين فتعبّد فيه. وطعن العلماء والعُبّاد في طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود الاّ قتله وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر على عالم في بني اسرائيل فيطيق قتله الاّ قتله ولم يكن يحارب جيشاً الاّ هزم، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر جبّاراً بقتلها فرحمها الجبّار فقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتّى رحمه.
فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي : أنشد الله عبداً يعلم أن لي توبة الاّ أخبرني بها. فلما أكثر عليهم ناداه منادا من القبور : يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتّى تؤذينا أمواتاً، فازداد بكاءً وحزناً، فرحمه الجبّار فكلّمه فقال : ما لك أيّها الملك؟ فقال : هل تعلم لي في الأرض عالماً أساله هل لي من توبة؟ فقال الجبّار : هل تدري ما مثلك؟ إنّما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاءً فصاح الديك فتطيّر منه، فقال : لا تتركوا في القرية ديكاً الاّ ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه، إذا صاح الديك فأيقضونا حتى ندلج. فقالوا : هل تركت ديكاً نسمع صوته.
ولكن هل تركت عالماً في الأرض، فازداد حزناً وبكاءً. فلما رأى الجبّار ذلك قال : أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله. قال : لا. فتوثّق عليه الجبّار فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال : انطلق بي اليها أسالها هل لي من توبة؟ وكان إنّما يعلم ذلك الاسم أهل بيت إذا فنيت رجالهم علمت نساءهم. فلما بلغ طالوت الباب قال الجبّار : أيّها الملك إنّها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه ثم دخل عليها فقال لها : الست أعظم الناس عليك مِنّة أن نجّيتك من القتل وآويتك عندي؟ قالت: بلى. قال : فإنّ لي اليكِ حاجة : هذا طالوت يسال هل له من توبة، فغُشي عليها من الخوف.
فقال لها: إنّه لا يُريد قتلك ولكن يسالك هل له من توبة؟ فقالت : والله لا أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ فانطلق بها إلى قبر أشمويل، فصلّت ودعت ثم نادت صاحب القبر، فخرج أشمويل من القبر فنفض من رأسه التراب، فلما نظر اليهم ثلاثتهم : المرأة وطالوت والجبّار، قال : مالكم أقامت القيامة؟ قالا : لا، ولكن طالوت يسالك هل له من توبة؟ قال : أشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال : لم أدع من الشرّ شيئاً الاّ فعلته وجئت أطلب التوبة. قال : كم لك من الولد؟
قال : عشرة رجال. قال : ما أعلم لك توبة الاّ أن تتخلّى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدّم ولدك حتّى (يقتلوا) بين يديك ثم تقاتل أنت حتّى تقتل آخرهم، ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتاً. ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة إن لا يتابعه وُلده،
وقد بكى حتّى سقط أشفار عينيه ونحل جسمه، فدخل أولاده عليه، فقال لهم : أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا : بلى، نفديك بما قدرنا عليه. قال : فإنّها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم، قالوا : فاعرض علينا، فذكر لهم القصّة، قالوا : وإنّك لمقتول؟
قال : نعم. قالوا : فلا خير لنا في الحياة فقد طابت أنفسنا بالذي سالت. فتجهّز بماله وولده،
فقدّم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا حتّى قُتلوا بين يديه ثم شدّ هو بعدهم حتّى قُتل، فجاء قاتله إلى داود النبيّ ج ليبشّره وقال : قد قتلت عدوّك. فقال : ما كنت بالذي تحيا بعده فضرب عنقه، وأتى بنو إسرائيل بداود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه على أنفسهم وكان ملك طالوت من أوّله إلى أن قُتل في الغزو مع ولده أربعين سنة)( ).
وهذا الخبر ضعيف سنداً وجهة صدور ودلالة, ولا يصلح لمعارضة ما ورد في الثناء على طالوت في القرآن إذ إختصه الله بمنزلة عظيمة من جهات منها :
الأولى : قوله تعالى [وَقَال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالوتَ مَلِكًا] ( )وفيه آية بأن الله أكرمه على نحو التعيين , فهو لم يكن من سبط النبوة ولا سبط المملكة .
الثانية : إجتباء وإختيار الله عز وجل لطالوت بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ] ( ), ولو تردد هل هذا الإصطفاء منقطع أم متصل ومستديم, فالأصل والمتبادر هو الثاني, بينما ورد في ذم الذي إنسلخ من الآيات التي عنده قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الغَاوِينَ] ( ) .
وقال عبد الله بن مسعود هو بلعم بن إبرة, وقال ابن عباس : هو بلعم بن باعورة) ( ).
وكانت على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي إن موسى (عليه السلام) لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم.
فقالوا : إن موسى رجل شديد ومعه جنود كثيرة وإنّه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنا قومك وبنو عمك وليس لنا قول وأنت رجل مجاب الدعوة فأخرج وادع الله تعالى أن يرد عنا موسى وقومه فقال : ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم , وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي. وقالوا ما لنا من (نزل) وراجعوه في ذلك قال : حتى أُءامر ربّي، وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يؤمر في المنام فيأمرني الدعاء عليهم.
فقيل له في المنام : لا تدع عليهم، فقال لقومه : إني قد أُمرت ربّي في الدعاء عليهم وإنّي قد نُهيت، فهدوا له هدية، فقبلها ثمّ راجعوه وقالوا : أدع عليهم، فقال : حتّى أؤمر فلما أُمّر لم يجيء اليه شيء. فقال : قد أُمّرت فلم يجيء اليّ شيء، فقالوا : لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى. فلم يزالوا به (يروقونه) ويتضرعون اليه حتّى فتنوه فافتن فركب (أتاناً) له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له جسبان.
فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتّى إذا أذاقها قامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتّى ربضت، ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتّى ربضت فضربها حتّى إذا أذاقها أذن الله لها بالكلام فتكلمت حجة عليه فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب الا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا لنذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم،
فلم ينزع عنها فخلّى الله سبيلها فانطلقت حتّى إذا أشرقت به على جبل جسبان جعل يدعو عليهم فلا يدعو عليهم بشيء الاّ صرف به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير الاّ صرف مسالته إلى بني إسرائيل.
فقال له قومه : أتدري يابلعم ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبقَ الاّ المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، اجملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثمّ أرسلوهن إلى العسكر يتعدوا فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم يفتنوهم ففعلوا.
فلمّا دخل النساء العسكر مرَّت امرأة بين الكنعانيين اسمها بشتي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يُقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام , فقام اليها فأخذ بيدها حين أَفْتنه جمالها ثمّ أقبل حتّى وقف على موسى فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال : فوالله لا نطيعك في هذا ثمّ دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت.
وكان لفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى رجلٌ قد أعطى بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون (يمجّس) في بني إسرائيل وأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلّها ثمّ دخل عليه القبة وهما متضاجعان (فاستقبلها) بحربته ثمّ خرج بهما رافعاً بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته.
وكان (يكره العيزار) وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون. فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك منهم سبعون الفاً في ساعة من نهار .
فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وبإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنّه كان (بكراً) لعيزار بن هارون( ).
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف (يا حي ياقيوم) ( ), ولا تعارض بين النصوص الخاصة باسم الله الأعظم على فرض صحة السند وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بالدعاء والتوسل وعدم مغادرة مقامات الرجاء.
الثالثة : تفضل الله عز وجل بإكرام طالوت بالزيادة على غيره من المؤمنين بالعلم والمعرفة والجسم, قال تعالى [وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ]( ), وكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة, وفن القتال والسياسة, وكان أطول بني إسرائيل لبعث الهيبة في النفوس والقدرة على القتال وهذه النعم العظيمة هبة من الله فلا تكون الا في مرضاته تعالى وبيان موضوعية السر الأعظم .
وعن الإمام الصادق قال : إن الله جعل الاسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً.
فأعطى آدم منها خمسة وعشرين حرفاً.
وأعطى نوحاً منها خمسة وعشرين.
وأعطى إبراهيم منها ثمانية أحرف.
وأعطى منها موسى أربعة أحرف.
وأعطى منها عيسى حرفين، وكان يحيي بهما الموتى ويبرء الأكمه والأبرص.
وأعطى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إثنين وسبعين حرفاً.
وإحتجب حرفاً لئلا يعلم ما في نفسه، ويعلم ما في نفوس العباد (الكافي).
وفي رواية أنه تعالى أعطى نوحاً خمسة عشر حرفاً.
ومن هذا التقسيم البياني تعلم عظيم منزلة آدم وما كان يؤديه من وظائف النبوة وتهيئة أسباب العيش لذريته في الأرض. وإن كان العدد وحده ليس باباً للمقارنة وحصول الفارق خاصة وأن لكل حرف منها خصوصية وأثراً وأبوللاباً كريمة من العلم، والمشهور في علم الأصول أن التحديد بالعدد لا مفهوم له، لكنه هنا له دلالات لأن زيادة العدد تدل على علو الشان والإنفراد بشطر من العلوم إلى جانب كثرة المضامين القدسية لكل مرة تذكر فيها ذات الكلمة بلحاظ تعدد الموضوع ونظم الآية وسياق الآيات.
وورد عن الإمام الصادق قال: كان مع عيسى إبن مريم حرفان يعمل بهما.
وكان مع موسى أربعة أحرف.
وكان مع إبراهيم ستة أحرف وكان مع آدم خمسة وعشرون حرفاً، وكان مع نوح ثمانية.
وجمع ذلك كله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إن إسم الله ثلاثة وسبعون حرفاً وحُجب واحد.
أولوا العزم
قال تعالى[ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( ).
العزم : هو ثبات الإرادة ودوامها. ويقال عزمت عزماً-بالضم- وعزيمة إذا أردت فعل الشيء وقطعت عليه، والوجود هنا نقيض العدم.
ويحتمل في الآية الكريمة أعلاه معنيان :
الأول : إرادة المدح بمعنى: لم نجد له عزماً على إتيان المعصية، ومخالفة العهد والميثاق.
الثاني : لم نجد له عزماً على إجتناب المعصية والتحرز من الإقتراب من الشجرة وهو الأنسب والاقرب بقرينة النسيان في الآية، وما تدل عليه الآيات القرآنية الآخرى بالموضوع خاصة وأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
ومن الصعب النظر إلى موضوع العزم في الآية الكريمة بمعناه اللغوي فقط، بل يمكن تأويله وفق المعنى الإصطلاحي وأن الأمر يتعلق بالرسل أولي العزم من الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( ) .
وهم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بالإضافة إلى النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل هم أربعة إبراهيم ونوح وهود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب بعضهم إلى أنهم ستة : نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب، والأول أصح وأشهر.
وفي تسميتهم أولي العزم وجوه :
الأول : صبروا على مكروه الدنيا وصبروا عن محبوبها، وهو المروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنهم بعثوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وجنها وإنسها. أي أن رسالاتهم عامة. وقيل إن رسالة موسى وعيسى خاصتان.
الثالث : إنهم أولوا الجد والثبات والصبر.
الرابع : المراد في الآية الكريمة جميع الرســــل، وأن (مــن) في قوله تعالى[مِنْ الرُّسُلِ] في الآية أعلاه للبيان. وأن كل نبي ذو عزم وثبات، والأقرب أنها للتبعيض.
الخامس : إنهم محور النبوة وهم أصحاب الشرائع، كل واحد منهم جاء بشريعة نسخت الشريعة التي جاء بها الرسول الذي قبله.
السادس : هم الذين أمروا بالقتال والجهاد، وأظهروا المكاشفة، وجاهدوا في الدين.
السابع : الأنبياء الذين سبقوا إلى الاقرار بالله، وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم وعزموا على الصبر مع التكذيب وصنوف الأذى.
الثامن : عن الإمام على بن موسى الرضا قال: “سموا أولوا العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أن كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه، إلى زمن إبراهيم الخليل عليه السلام”( ).
التاسع : لما عهد إليهم في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأوصياء من بعده، فاجمع عزمهم على الإقرار به وأنه كذلك.
لقد وسوس الشيطان لآدم فأكل من الشجرة بعد أن عهد له الله عز وجل أن لا يأكل منها، فكان ذلك منه نسياناً سواء كان النسيان بمعنى الترك أو نقيض الذكر( )مما يدل على التشريف والتخصيص بنعت أولي العزم، وأنها مدرسة إرتقاء تدل على إجتياز مرحلة الإبتلاء بيقين وثبات وإحترام.
وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصائص كثيرة إنفرد بها بين الأنبياء وهي عديدة منها :
الأول : نبوة محمد دعوة للإيمان به, وعون ومادة لإجتذاب القلوب , وبعث الرعب والفزع في قلوب الكافرين وشعورهم بالتقصير والخطأ.
الثاني :النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وصاحب الشريعة الناسخة للشرائع السابقة, وليس من شريعة تنسخ شريعته وإلى يوم القيامة.
الثالث : نزول القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو صيرورته،[ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابع : هو النبي الذي جعل الله أمته خير الأمم , قال تعالى في خطاب للمسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : جاءت معجزات الأنبياء حسية، ومعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية متجددة في كل زمان وهي القرآن.
السادس : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه في كتائب بنفسه، وبعث الرعب في نفوس أعدائه مسيرة الشهر وتحقيق النصر والغلبة لجيوش المسلمين.
السابع: شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة للشرائع وليس من شريعة ناسخة لها.
الثامن : بقاء العمل بأحكام شريعته إلى يوم القيامة.
أعمار الأنبياء وصفاتهم
قال تعالى : [ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الخَالدُونَ ]( ) لقد كتب الله عز وجل على الناس الموت ببديع حكمته وجعله سبيلاً لمغادرة الحياة الدنيا بإعتبار حتمية زوالها وأنها دار إنتقال إلى الآخرة.
وتشمل الأنبياء في هذا الموضوع النواميس الثابتة في أصل الخلقة، وبعض الأنبياء قتل في سن الشباب كيحيى ،ومنهم من رزقه الله طول العمر حجة وآية في التبليغ. وبالإسناد عن الامام الصادق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
عاش آدم أبو البشر تسعمائة وثلاثين سنة.
وعاش نوح الفين وأربعمائة.
وعاش إبراهيم مائة سنة وخمساً وسبعين.
وعاش إسماعيل بن إبراهيم مائة وعشرين سنة.
وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة.
وعاش يعقوب مائة وعشرين سنة.
وعاش يوسف مائة وعشرين سنة.
وعاش موسى مائة وستاً وعشرين سنة.
وعاش هارون مائة وثلاثاً وثلاثين سنة.
وعاش داود مائة سنة منها أربعون سنة ملكه.
وعاش سليمان بن داود سبعمائة سنة وإثنتي عشرة سنة.
لقد رزق الله الأنبياء درجة عالية من الذكاء والحلم، وبما يناسب هذا المنصب الالهي ويساهم في التأثير الفعال في المجتمع وأداء وظائف النبوة على أحسن وجه، بالإضافة إلى الوحي الذي هو مدد غيبي يفوق قدرات الإنسان.
روى على بن ابراهيم عن ياسر عن الإمام موسى بن جعفر أنه قال: ما بعث الله نبياً الا صاحب مرة سوداء صافية) ( )، أي أنه ذو قوة في العقل والرأي وثبات في الدين. وأشير إلى معناها في الطب القديم أنها غاية الحذق والفطانة والحفظ، ووصفت في الحديث بأنها (صافية) أي خالية من مخالطة الخيالات الفاسدة والأخلاق الرديئة.
آدم نبي
النبي هو الإنسان الذي إختاره الله عز وجل للإخبار عنه وليبلغ الأحكام من غير واسطة عن الله عز وجل، لذا قيل أنه سمي نبياً لأنه أنبأ أي أخبر عن الله، سواء كان له شريعة مبتدأة او ليس له شريعة.
لقد كان آدم نبياً وورد في رواية أنه نبي رسول، قال تعالى[أني جَاعِلٌ فِي الارْضِ خَلِيفَةً… ]( )، وكانت الأرض كلها لآدم وفي الحديث: خلق الله تعإلى آدم وأقطعه الدنيا قطيعة( ).
وبالإسناد عن أبي ذر الغفاري قال: “دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وحده، فجلست إليه فقال لي: يا أبا ذر أن للمسجد تحية، وأن تحيته ركعتان، فقم فأركعهما، فلما ركعتهما جلست إليه، فقلت : يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة؟ قال : خير موضوع، إستكثر أو إستقل. ثم ذكر قصة طويلة قال فيها:
قلت : يا رسول الله، كم الأنبياء؟
قال : مائة الف وأربعة وعشرون الفاً.
قلت : يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟
قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً. يعني كثيراً طيباً.
قلت يا رسول الله، من كان أولهم؟
قال : آدم.
قلت: يا رسول الله وآدم نبي مرسل؟
قال : نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قُبُلاً”( ).
وبالاسناد عن أبي إمامة عن أبي ذر قال: قلت: يا نبي الله،أنبياً كان آدم؟ قال : نعم، كان نبيّاً، كلمه الله قُبُلاً.
مما يبدو واضحاً أن أحكام الشريعة في الأرض بدأت مع وجود آدم فيها، وكذا ما يتعلق بواجبات الإنسان ونوع أفعاله، ولقد إختاره الله للتبليغ إلى ولده وزوجه. وفي الخبر أنه أنزل عليه إحدى وعشرون صحيفة كتبها آدم بخطه علمه إياها جبرئيل عليه السلام.
وتعتبر الملازمة بين أول وجود للإنسان على الأرض وبين النبوة فخراً للناس جميعاً، وتشريفاً لهم، وحجة لأهل الإيمان، وبركة تتغشاهم وعبرة وموعظة، وإكراماً من الله تعإلى لمقام الأبوة بإعتبار أن آدم أبو البشر.
الحياة اليومية للأنبياء
مع عظيم منزلة الأنبياء ومقامهم الإجتماعي، وما فضلهم الله عز وجل به، فإنهم يعيشون حياتهم اليومية كسائر البشر ووفق أحوال مجتمعهم، ويواجهون العناء الشخصي، ويمارسون الأعمال بالإضافة إلى ما يعانون من الأذى والإضطهاد.
عن الإمام الصادق قال : إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالجوع حتى يموت جوعاً، وإن كان من الأنبياء ليبتلى بالعطش حتى يموت عطشاً، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالسقم والأمراض حتى يتلفه، وإن كان النبي ليأتي قومه، فيقوم فيهم ويأمرهم بطاعة الله ويدعوهم إلى توحيد الله، وما معه مبيت ليلة فما يتركونه يفرغ من كلامه ولا يستمعون إليه حتى يقتلوه، وإنما يبتلي الله تبارك وتعالى عباده على قدر منازلهم عنده”( ).
ولقد زاول الأنبياء المهن والأعمال، وكانت في الغالب أعمالاً بسيطة متواضعة، وسبباً للمعيشة يتناسب وروح الزهد، ويدل العمل فيها على عدم التوجه إلى الدنيا وزخرفها، وكان نوح نجاراً وإدريس خياطاً.
وعن الإمام جعفر الصادق قال : “إن الله عز وجل أحب لأنبيائه من الأعمال الحرث والرعي لأن لا يكرهوا شيئاً من قطر السماء”. وقال عليه السلام: “ما بعث الله نبياً قط حتى يسترعيه الغنم، يعلمه بذلك رعية الناس”( ).
ولقد بارك الله عز وجل للأنبياء في رزقهم وإن إمتازوا في مأكلهم بالتواضع وعدم الإسراف. ورد عن الإمام الرضا أنه قال : “ما من نبي الا وقد دعي لأكل الشعير وبارك عليه، وما دخل جوفاً الا خرج كل داء فيه، وهو قوت الأنبياء وطعام الأبرار، أبى الله أن يجعل قوت أنبيائه الا شعيراً”، وعن الإمام الصادق عليه السلام: السويق( )، طعام المرسلين، واللحم باللبن مرق الأنبياء، وكان أحب الأصباغ( ) إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخل والزيت وهو طعام الأنبياء، وما إفتقر أهل بيت يأتدمون بالخل والزيت”.
لقد خلّف الأنبياء للناس ميراثاً كريماً في باب الغذاء والصحة ووجوه الشفاء. فإذا تتبعت القيمة الغذائية لاطعمتهم ترى فيها الفوائد الأساسية، وكفاية ووقاية البدن مع رخصها في مختلف الأزمان وسهولة تناولها.
ومع عظيم بركات الأنبياء في مجتمعاتهم، وعموم أهل زمانهم والأجيال المتعاقبة، فقد لاقوا شتى صنوف البلاء، والإيذاء الخفي. فبالإسناد عن الأشعري رفعه إلى الصادق قال: ثلاث لم يفر منها نبي فمن دونه، الطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق.
وفسرت الطيرة هنا بأنه يتطير منهم لأن الأنبياء لا يتطيرون. ويشهد على ذلك قوله تعإلى في قوم صالح: [ قَالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَال طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ]( ). وقوله تعإلى في ذم قوم أساءوا لأنبيائهم: [قَالوا أنا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ]( )، ولكن المعنى أعم تخفيفاً ورحمة منه تعالى.
وأما الحسد هنا فهو أن يحسدهم الناس لا أن يَحسدوا، كما في قوله تعالى: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا ال إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا…]( ).
وأما التفكر في الخلق، فهو ابتلاؤهم بأولئك الذين يترددون في قبول دعوتهم بالتشكيك والتساؤل في أصل الكون وأسراره ولكن ظاهر الحديث يحمل على حدوثها كخواطر من غير أن تبقى في النفس، جاء الحديث للتخفيف عن الناس بعدم ترتيب الأثر على الطيرة، وأن الله عز وجل يكرم عبده المؤمن ويغفر الهنات والصغائر من الذنوب.
لقد أنعم الله على الأنبياء والمرسلين بالرزق الحلال وإظهار التقيد بأحكام الشريعة في مأكلهم ومشربهم ليطابق قولهم فعلهم، ولينذروا الناس، بلغة الأمر والإرشاد وتهيئة أسباب الهداية والتسلح بالتحرز والتحفظ من الحرام.
قال تعالى: [يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالحًا]، وتبعث الآية على الإنتفاع الأمثل مما تميل له النفس من المباحات ومصاديق الرزق الكريم كيلاً يجاهد النبي نفسه في منعها وقهرها على الحرمان من الطيبات, ولتتوجه وأعضاء البدن للجهاد في سبيل الله .
وجاءت الآية بالتبعيض (من الطيبات) لإجتناب الإسراف, ويلحق المؤمنون بالأنبياء في الأمر والرفعة في أكل الطيبات لقاعدة منع الحرج في الدين , وترك التشديد على النفس .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله طيب لا يقبل الا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير{كلوا من طيبات} قال: من الحلال.
وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز. أنه قال يوماً: إني أكلت حمصاً وعدساً فنفخني. فقال له بعض القوم: يا أمير المؤمنين إن الله يقول في كتابه {كلوا من طيبات ما رزقناكم} فقال عمر، هيهات ذهبت به إلى غير مذهبه، إنما يريد به طيب الكسب ولا يريد به طيب الطعام( ), ولكن الآية جلية في إرادة طيب الطعام ويلحق به الملبس الذي جاءت آية صريحة بخصوصه, قا ل تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( )والطيبات الرزق الحلال”.
ولعل المراد إننا لا نعلم بالحكم الواقعي وأن رزق المؤمنين يجري وفق الحكم الظاهري،وما دامت الحرمة لم تثبت فالأصل الحلية.
أما رزق الأنبياء فقد وعد الله عز وجل بنص الآية الكريمة أعلاه أن يكون رزقهم طيباً للملازمة بينه وبين وظائف وأحكام النبوة ولعله من ضرورات التبليغ والإنذار، وللأسوة، وإقتداء الناس بهم ولو على نحو الموجبة الجزئية.
أما من حيث اللغة التي كان يتكلم بها الأنبياء. فقد أشار لها قول الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ الا بِلِسَان قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ… ]( ) فالنبي يحتاج التحدث بلغة قومه للبيان، وإنما عرف الأنبياء بالكلام والدعوة إلى الله عز وجل، وهذا لا ينفي معرفتهم للغات أخرى من ناحية الإكرام والإعجاز.
الهبوط
قال تعالى: [ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. ]( ).
جاء أمر الهبوط متعقباً للزلل والخطأ والأكل من الشجرة، وصحيح أن الهبوط قد يأتي بمعنى الحلول في المكان كما في قوله تعالى: [اهْبِطُوا مِصْرًا] ( )، الا أنه يعني في المقام الخروج من الجنة ومغادرتها إلى الأرض والإبتلاء، ومن لواحق الخروج إختلال المزاج وإمكان وجود الغل في الصدور.
ومع أن أمر الخروج جاء في الآية بصيغة التثنية بخصوص آدم وحواء، الا أن الخطاب جاء بصيغة الجمع مما يستبعد أن يكون الخطاب متعلقاً بآدم وحواء وحدهما وإن كان الإثنان أقل الجمع، وفي متعلق خطاب الخروج وجوه:
الأول : يشمل الخطاب بالإضافة إلى آدم وحواء إبليس. ولا يضر في المعنى الإجمالي لهذا القول أسبقية خروج إبليس من الجنة، فقد جمعهما معه موضوع الهبوط، وتنجز واقعاً بهبوط آدم وحواء أمر العداوة لما فيها من المفاعلة.
الثاني : المراد في الآية آدم وحواء وذريتهما، أي أن العداوة تدوم وتتسع لتطال الأبناء.
الثالث : الخطاب موجه إلى آدم وحواء والحية بإعتبار أن إبليس سخرها لدخوله وخداع آدم، ولم يرد في القرآن ذكر لموضوع الحية. ولكن ذكر (أن إبليس دخل في شدق الحية وخاطبهما من شدقها) ونسبه الجزائري إلى القيل( ).
وقال صاحب الكامل : إن إبليس اراد دخول الجنة فمنعته الخزنة، فأتى كل دابة من دواب الأرض، وعرض نفسه عليها أن تحمله حتى يدخل الجنة، ليكلم آدم وزوجته، فكل الدواب أبت عليه ذلك حتى اتى الحية. وقال لا أمنعك عن إبن آدم، فانت في ذمتي إن أدخلتني، فجعلته ما بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، وكانت راسية على أربع قوائم من أحسن دابة خلقها الله، كأنها بختية، فأعراها الله تعإلى وجعلها تمشي على بطنها، كما ورد أن السم الذي في أنياب الحية من مقعد الشيطان فيه، أما لأنه أثر فيه من السم أو لأن السم خلق هناك بسببه.
وفي تفسير العسكري : كان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنة، وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه، ولم يعلم أن إبليس قد إختفى بين لحييها، فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا غرور إبليس.
وجاء في سفر التكوين فقالت الحية لحواء أنكما لو أكلتما من هذه الشجرة لا تموتان بل تكونان كآلهين عارفين بالخير والشر، وفيه ايضاً: كانت الحية أخبث كل الحيوانات التي صنعها الرب.
الرابع : خطاب الهبوط موجه إلى آدم وحواء والوسوسة، عن الحسن البصري. ولكن ظاهر الخطاب أنه موجه إلى العقلاء فتخرج الوسوسة بالتخصص، وهل : يحتمل توجه الخطاب على أساس الجنس، وأن العداوة حاصلة بين الرجال من جهة والنساء من جهة، وإبليس وذريته من جهة أخرى، وأن العداوة ليست دائمة ظاهرة، فبأدنى تلبس ببعض وجوهها يتحقق موضوعها.
ومنها العداوة بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، والطاغية والمستضعفين.
وأن تلك العداوة جزء من أحكام الحياة الدنيا على سطح الأرض لحكمته تعإلى في كونها دار امتحان وبلاء وافتتان, قال تعالى [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( )، فقد نجد تلك العداوة بين الإيمان والكفر، وهي في الأصل كذلك اذ أن عداوة إبليس لآدم في أصل موضوعها كفر وحسد، وعداوة آدم لإبليس بسبب جحوده وغدره وإغواء إبليس.
وللعداوة مراتب متفاوتة وصيغ قولية وفعلية مختلفة، وقد تكون من طرف دون الطرف الآخر خاصة وأن لفظ (بعض) يعني الشيء من الأشياءوالجزء من الكل .
ولكن القدر المتيقن من الآية الكريمة هو عداوة الناس لإبليس، وعداوة إبليس للناس، وتتجلى عداوته بوسوسته وسعيه لحجبهم عن الخيرات وبلوغ الخلود في النعيم.
ولقد كان هبوط آدم من الجنة مناسبة سعيدة لإبليس لما فيه من وجوه البؤس والشقاء على آدم وذريته، ولكن عظيم ثواب الآخرة لأهل الإيمان يغيظ إبليس والكافرين على نحو دائم من غير أن يستطيعوا منعه أو حجبه, وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني مكة رنّ إبليس رنّةً فاجتمعت اليه ذريّته فقال: «آيسوا أن ترتد أُمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيها يعني مكة الشعر والنوح( ).
عن الإمام جعفر الصادق قال : رن إبليس أربع رنات، أولهن يوم لعن، وحين أهبط إلى الأرض، وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين حين أكل (أي آدم) من الشجرة، وحين أهبط من الجنة.
والرنة : الصوت والصياح وهو علامة حزن، والنخير : الصوت من الأنف، وهو علامة الفرح والسرور.
وروي أنه لما أهبط آدم إلى الأرض قال الله عز وجل له : إبن للخراب ولد للفناء( )أنه إخبار إلهي عن حقيقة الدنيا وأنها زائلة، ونهي عن الإنقطاع إليها، أو الإغترار بزينتها ولكي يواظب الإنسان على ذكر ربه وإتيان العبادات ووجوه الفرائض والمندوبات.
وعن حياة الحيوان أن آدم لما أخرج من الجنة يشتكي الوحشة فآنسه بالخطاطيف وألزمها البيوت فهي لا تفارق بني آدم إنساً لهم، ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل [ لَوْ أنزَلْنَا هَذَا القُرْآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.. ] إلى آخر السورة، وتمد أصواتها بقول العزيز الحكيم. وفي الحديث تسبيح الخطاف قراءة الحمد.
موضع الهبوط
وبغض النظر عن موضوع الجنة، ومكانها من السماء أو الأرض، ترى أين كان هبوط آدم وحواء من الأرض وهل كان هبوطهما في موضع واحد، او فى بقعتين متقاربتين أو متباعدتين، وهل للأمر صلة بمسالة العداوة، وأن العداوة سبقت وصولهم إلى الأرض أم أنها كانت ملازمة لهم, وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هبط آدم وحواء عريانين جميعاً ، عليهما ورق الجنة ، فأصابه الحر حتى قَعَدَ يبكي ويقول لها : يا حواء قد آذاني الحر ، فجاءه جبريل بقطن ، وأمرها أن تغزل وعلمها ، وعلم آدم وأمر آدم بالحياكة وعلمه ، وكان لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها ، وكان كل منهما ينام على حدة حتى جاءه جبريل فأمره أن يأتي أهله وعلمه كيف يأتيها ، فلما أتاها جاءه جبريل فقال : كيف وجدت امرأتك؟ قال : صالحة ( ), وفيه دلالة هبوطهما في موضع واحد . وأخرج ابن عساكر من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال « قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله لما خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهباً ولا فضة ، فلما أن أهبط آدم وحواء أنزل معهما ذهباً وفضة ، فسلكه ينابيع في الأرض منفعة لأولادهما من بعدهما ، وجعل ذلك صداق آدم لحواء . فلا ينبغي لأحد أن يتزوّج الا بصداق( ), وفيه لبيان بركات آدم وحواء, ونزول الرزق معهما إلى الأبناء والذراري, وتنظيم الحياة الزوجية والإجتماعية, وجعل الحياة ذات بهجة وبهاء.
لقد إختلفت الروايات الواردة في المقام ففي إحتجاج الإمام علي مع الشامي حين ساله عن اكرم واد على وجه الأرض، قال عليه السلام : واد يقال له سرنديب، سقط فيه آدم من السماء.
وعن كعب الأحبار : أهبط الله الحية باصفهان، وإبليس بجدة، وحواء بعرفة، وأهبط آدم بجبل سرنديب وهو جبل بأعلى الصين في أرض الهند، يراه البحريون من مسيرة أيام، وفيه على ما نقل أثر قدم آدم مغموسة( ).
والعداوة سبب او جزء علة للهبوط، والأقوى أنها سابقة لوجودهم على الأرض لا أقل من طرف إبليس إذ تظهر عداوته بعدم السجود لآدم عليه السلام، ولأن آدم وحواء يبغضان الجاحد المستكبر عن طاعة الله.
إبليس في الأرض
قال تعالى[ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأنسِ وَالجِنِّ]( ) مع هبوط آدم إلى الأرض بدأت مرحلة الإبتلاء والإمتحان والإفتتان، فيسعى إبليس في غواية آدم, ويقعد له على الصراط المستقيم ويظهر العداوة له في الأرض كما كان فى الجنة، والتوبة محت الذنب ولم تؤد إلى رفع أصل الإبتلاء، لقد أغرى إبليس به السباع حال هبوطه فأنجاه الله عز وجل، ثم أخذ يزاحمه ويرهقه في قوته وعمله كجزء من الإفتتان اليومي.
بالإسناد عن الإمام الصادق قال : “إن آدم لما اُهبط من الجنة إشتهى من ثمارها فأنزل الله تبارك وتعإلى عليه قضيبين من عنب فغرزهما فلما أورقا وأثمرا وبلغا جاء إبليس فحاط عليهما حائطاً. فقال آدم: ما لك يا ملعون. فقال إبليس : إنهما لي، فقال : كذبت. فرضيا بينهما بروح القدس، فلما إنتهيا اليه. قص آدم قصته فأخذ روح القدس شيئاً من نار فرمى بها عليهما، فالتهبت في أغصانها حتى ظن آدم أنه لم يبق منهما شيء الا إحترق، وظن إبليس مثل ذلك.
قال : فدخلت النار حيث دخلت، وقد ذهب منهما ثلثاهما وبقي الثلث، فقال الروح : أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، وما بقي فلك يا آدم.
وعن الإمام الصادق قال: إن الله تبارك وتعإلى لما أهبط آدم أمره بالحرث والزرع وطرح اليه غرساً من غروس الجنة، فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان وغرسها لتكون لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها. فقال إبليس لعنه الله: يا آدم ما هذا الغرس الذي لم اكن أعرفه في الأرض فقد كنت بها قبلك، أئذن لي آكل منها شيئاً فأبى أن يطعمه فجاء إلى حواء. فقال لحواء: أنه قد أجهدني الجوع والعطش. فقالت له حواء : إن آدم عهد أن لا أطعمك من هذا الغرس لأنه من الجنة ولا ينبغي لك أن تأكل منه، فقال لها: فأعصري في كفي منه شيئاً، فأبت عليه، فقال : ذريني أمصه ولا آكله فأخذت عنقوداً من العنب فأعطته فمصه، ولم يأكل منه شيئاً، لما كانت حواء قد الحت عليه، فلما ذهب بعضه جذبته حواء من فيه.
فاوحى الله عز وجل إلى آدم أن العنب قد مصه عدوي وعدوك إبليس وقد حرمت عليك من عصيره الخمر ما خالطه نفس إبليس، فحرمت الخمر لأن عدو الله إبليس مكر بحواء حتى مص من العنبة ولو أكلها لحرمت الكرمة من أولها إلى آخرها وجميع ثمارها وما يخرج منها ثم أنه قال لحواء فلو امصصتيني من هذا التمر كما امصصتيني من العنب فاعطته تمرة فمصها.
وكانت العنبة والتمر أشد رائحة وأزكى من المسك الأزفر وأحلى من العسل فلما مصها عدو الله ذهبت رائحتهما وإنتقصت حلاوتهما ثم أن إبليس الملعون ذهب بعد وفاة أبينا آدم فبال في أصل الكرمة والنخلة فجرى الماء في عروقهما في بول عدو الله، فمن ثم يختمر التمر والعنب أي يتغير ريحهما ويصير منتناً، فحرم الله عز وجل على ذرية آدم كل مسكر لأن الماء جرى ببول عدو الله في النخل والعنب وصار كل مختمر خمراً لأن الماء إختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله إبليس لعنه الله.
لقد شاء الله عز وجل أن يكون كيد إبليس مركباً من أصل عام وفرع خاص، فالأصل العام ثوابت للإبتلاء والإغواء تهدد المجتمعات في كل زمان، والخاص هو الإبتلاء الشخصي الذي يداهم الإنسان بالوسوسة والشك ونحوهما، لذا يمكن القول أن الإستعاذة والصدقة وأسباب الوقاية والإحتراز من إبليس لا ينحصر أثرها ومنافعها بالإنسان نفسه بل تنفع في وقاية الأجيال.
إن وجود إبليس في الأرض جزء من موضوع الإفتتان في الحياة الدنيا وفق الحكمة الالهية، أي أن مقدمات الإبتلاء تمت هي الأخرى بعلم الله تعإلى وبمشيئته.
الأرض مستقر
قال تعالى[ وَلَكُمْ فِي الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ ]( ).
سيبقى موضوع هبوط آدم إلى الأرض نعمة متصلة عليه وعلى ذريته، وصحيح أن الهبوط بالقياس والمقارنة مع سكن الجنة حرمان وخسارة، الا أن النظر إلى وجود آدم في الأرض بشكل مستقل بعيداً عن المقارنة يظهر رحمة الله تعإلى في إكرام آدم وذريته وبداية الخلافة في الأرض وعمارتها بالعبادة والذكر، إلى جانب تهيئة أسباب الرزق فيها.
إن العمل في زراعة الأرض رحمة وفضل إلهي أكرم الله به خليفته في الأرض وذريته، فمن الواجب أن تقابل هذه النعمة بالشكر لله عز وجل، ومن الآيات بقاؤها وإزدياد مصاديقها.
ووردت نصوص تفيد أن الطيب والعطر كان إبتداؤه من حواء وهبوطها إلى الأرض أي أنه من إفاضات الجنة.
فقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال : اُهبط آدم من الجنة إلى الصفا، وحواء إلى المروة، وقد كان إمتشطت في الجنة، فلما صارت في الأرض قالت ما أرجو من المشط وأنا مسخوط علي، فخلت مشطها فانتشر من مشطها العطر الذي كان.
وفي حديث آخر أنها حلت عقيصتها فارسل الله عز وجل على ما كان فيها من ذلك الطيب ريحاً فهـبت به في المشرق والمغرب,وعن الإمام الصادق قال : أن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم طفق يخصف عليه من ورق الجنة وطار عنه لباسه الذي كان عليه من حلل الجنة، فالتقط ورقة فستر بها عورته فلما هبط عبقت أي لصقت رائحة تلك الورقة بالهند بالنبت، فصار فى الأرض من سبب تلك الورقة التي عبقت بها رائحة الجنة فمن هناك صار الطيب بالهند لأن الورقة هبت عليها ريح الجنوب، فأدت رائحتها إلى المغرب لأنها إحتملت رائحة الورقة في الجو، فلما ركدت الريح بالهند عبق بأشجارهم ونبتهم، فكان أول بهيمة إرتعت من تلك الورقة ظبي المسك فمن هناك صار المسك صرة الظبي لأنه جرى رائحة النبت في جسده، وفي دمه حتى إجتمعت في صرة الظبي.
ومع هذا فقد جاء في الخبر ما يدل على سوء الحالة التي قدم فيها آدم وحواء إلى الأرض وفقرهما في عالم الأرض وما فيه من المشاق والجهد والحاجة إلى الحيطة والتدبير والسعي من غير أن تغيب عنهما العناية والحفظ الالهي لهما.
فقد ورد عن الإمام علي أن النبي صلى الله عليه واله وسلم سُئل مم خلق الله عز وجل الكلب؟ قال خلقه من بزاق إبليس، قيل : وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال : لما أهبط الله عز وجل آدم وحواء إلى الأرض أهبطهما كالفرخين المرتعشين، فغدا إبليس الملعون إلى السباع وكانوا قبل آدم في الأرض، فقال لهم: أن طيرين قد وقعا من السماء لم ير الراؤن أعظم منهما، تعالوا فكلوهما، فتعاوت السباع معه، وجعل إبليس يحثهم ويصيح بهم ويعدهم بقرب المسافة. فوقع من فيه من عجلة كلامه بزاق فخلق الله عز وجل من ذلك البزاق كلبين احدهما ذكر والآخر أنثى، فقاما حول آدم وحواء، الكلبة بجدة والكلب بالهند، فلم يتركوا السباع أن يقربوهم، ومن ذلك اليوم صار الكلب عدو السبع والسبع عدو الكلب.
وظلت رحمة الله عز وجل تتغشى آدم في الأرض، وأولئك الملائكة الذين سجدوا لآدم في قول تعالى [فَسَجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ]( )بقوا أوفياء له في جنب الله، يمدون له يد العون والتوجيه النافع والأنس الروحي ويرشدونه إلى سبل النجاة في الدارين بعد تحقق التكليف.
بالإسناد عن وهب قال : لما أهبط آدم إلى الأرض إستوحش لفقد أصوات الملائكة فهبط عليه جبرئيل فقال يا آدم الا أعلمك شيئاً تنتفع به في الدنيا والآخرة، قال بلى، قال قل اللهم تمم لي النعمة حتى تهنئني المعيشة، اللهم إختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي اللهم إكفني مؤونة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية( ).
إن نزول الملائكة وعدم إنقطاع صلتهم مع آدم بعد نزوله إلى الأرض رحمة من الله تعإلى لآدم وللناس جميعاً، وهو دليل على قبول توبته وتثبيت لنبوته ودوام تشريفه. وفي تفسير العياشي عن الامام الصادق عليه السلام : (إن آدم كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الأرض إستوحش الملك، وشكى إلى الله تعإلى وساله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعداً في قفرة من الأرض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة، قال الإمام الصادق يروون أنه أسمع عامة الخلق فقال له الملك يا آدم ما أراك الا وقد عصيت ربك وحملت على نفسك ما لا تطيق أتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه؟ قال: لا، قال : أنه جعلك في الأرض خليفة، قلنا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) ( ) فهو خلقك أن تكون في الأرض أيستقيم أن تكون في السماء , والله عزى بها آدم ثلاثاً) ( ).
ويتعلق موضوع الحديث بالعزيمة في إستقرار آدم في الارض وما فيه من المشقة والكد والإبتلاء.
ولقد إتخذ آدم الطير دليلاً بالإضافة إلى النجم فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال : كان الصرد( ) دليل آدم من بلاد سرنديب إلى جدة شهراً، وهو أول طائر صام إلى الله تعالى .
آدم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
لقد بلغت الكمالات الإنسانية غايتها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو سيد البشر، جعله الله تعالى خاتم النبيين وسيد المرسلين ومن صفات الله تعإلى الثبوتية أنه عالم، عالم بكل شيء، يعلم الحوادث والجزئيات قبل حدوثها بعلمه الأزلي، وتغير المعلومات لا يعني أبداً تغير ذاته، لأن التغير في الإضافات وهي أمور إعتبارية لا أثر لها في العلم الذاتي.
ولقد وردت نصوص كثيرة تؤكد إقرار آدم بمنزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء، فقال : أسألك بحق محمد الا غفرت لي، وأوحى الله إليه : ومن محمد؟ قال : تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فاذا فيه مكتوب لا اله الا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس احد عندك أعظم قدراً ممن جعلت إسمه مع إسمك، فأوحى الله اليه: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك و لولاه ما خلقتك) ( ).
ومن وظائف النبوة التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتطلع الناس جميعاً إلى إشراقة الإسلام ويستعدوا للحفاظ على أحكامه بنصرة سيد الأنبياء وتصديقه،إنه مدد إلهي سابق للإسلام في زمانه وحجة على تلك الأجيال.
وفي قوله تعالى: [إن اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ] ( )، ذكر أنه غاية التشريف وهو أبلغ من تشريف آدم بسجود الملائكة له، ويتصل تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآخرة حيث الدرجة الرفيعة والمقام الموعود الذي ينعم الله عز وجل به عليه دون غيره .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة”( )،إنه إخبار وبشارة وعنوان إكرام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين عامة اذ يلتقون بعرض واحد مع الأنبياء في الإنضمام للواء الحمد والنبوة.
ولعل في حديث الإسراء والتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء الذين سبقوه مناسبة لتجديد ميثاق الأنبياء وعهدهم للإقرار بتقدمه في منازل العز والفخر ومراتب السمو.
لقد كانت أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء مطلقاً وآدم خاصة في باب المعجزة معروفة وظاهرة لتكون بياناً لدوام الإكرام وتمام الحجة، ففي الخرايج عن موسى بن جعفر عن آبائه أن يهودياً سأل الإمام علي عن معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل معجزات الأنبياء فقال : هذا آدم أسجد الله له ملائكته فهل فعل بمحمد شيئاً مثل هذا؟ فقال علي عليه السلام : لقد كان ذلك ولكن أسجد الله لآدم ملائكته لم يكن سجود طاعة أو أنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن إعترافاً لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له، ومحمد أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل جلاله صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبّد المؤمنين بالصلاة عليه فهذا زيادة له يا يهودي) .
لقد أجمع المسلمون على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على آدم، وفي القرآن والسنة شواهد كثيرة ومصاديق تؤكد سيادته وتقدمه رتبة في درجات النبوة والرسالة .
وآدم الذي جعله الله عز وجل خليفة في الأرض، إتخذ له خاتماً. وكان نقشه لا إله الا الله محمد رسول الله، وهذا الخاتم هبط معه من الجنة وفيه دلالات منها أن أبا البشر يدعو لسيد النبيين ويبشر برسالته، ويجعل موضوعها زينة له ووساماً، قال تعالى[ مَا كَان مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ] ( ).
وستبقى بعثته نعمة تكوينية وتشريعية تتغشى الناس جميعا وتدعوهم للهدى , فهو الطريق إلى الجنة والرافد المبارك لدوام الحياة على الأرض، وهو الإفاضة السماوية التي ينتفع منها كل إنسان وإن لم يقر بالنبوة، بها تتصل النعم وتدوم الحياة ومصداق هذا من قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ الا لِيَعْبُدُونِ ] ( ) وليس من مصداق للعبادة بعد البعثة النبوية الا بالتقيد بأحكام وسنن الإسلام المحشر، قال الله تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
فلسفة النبوة
الحمد لله الذي برأ النسم وتفضل علينا بإتصال النعم وأثار فينا لفهم القرآن الهمم، لنتخذه طريقاً للأمان والعصم، والصلاة والسلام على محمد رسوله الكريم الذي إختاره من بين العباد وجعله شفيعاً لنا يوم المعاد، وعلى أهل بيته وصحبه ذوي الصواب والسداد.
لابد من إنحلال هذا البحث إلى موضوعين عام يتعلق بالنبوة والأنبياء مطلقاً، وخاص يتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته، وما تمتاز به في دراسة مقارنة بينها وبين النبوات الأخرى بل وفضلها ونفعها للنبوات والأنبياء الآخرين.
ولغة سمي النبي نبياً لأنه أنبأ عن الله تعالى أي أخبر وهو فعيل بمعنى مفعل، وقيل من النبوة والنباوة وهو الموضع المرتفع من الأرض لإرتفاع النبي بشريعته، وتشريفه بالنبوة على سائر الخلق، وأن أصله غير مهمز.
وفي الإصطلاح النبي هو الإنسان الذي إختاره الله عز وجل للإخبار عنه من غير واسطة إنسان آخر وبقولنا الذي إختاره الله أي أنه نال النبوة بمشيئة الله عز وجل وإرادته وليس من فعل غيره، وبتقييده بالاخبار عنه، أي بالاخبار عن الله عز وجل وليس عن غيره، وأن النبي لا يتكلم عن نفسه [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهَوَى * أن هُوَ الا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وقد إجتمعت الخصائص المباركة للنبوة والرسالة كلها بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبأرقى معانيها ومضامينها فهو مجمع الكمالات الإنسانية وأشرف المخلوقات، وعز الإسلام والكمال الذي تتباهى به الملائكة في عبوديته وجهاده وتبليغ الرسالة.
لماذا النبوة وما هي وظائفها في الأرض، لابد من دراسة الغايات الأساسية، لوجود الإنسان على الأرض, قال تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالأنسَ الا لِيَعْبُدُونِ ]( ).
والنبوة نعمة وفيها بعث لحياة الإيمان ودوام العبودية وحسن الإمتثال للأوامر الالهية، والعبادة حاجة ومنفعة للناس وليس لله عز وجل، إن واجب الوجود غير محتاج والحاجة ملازمة للإمكان، وقد تكون منافع عبادة الجن والناس تتعداهم إلى الملائكة وغيرهم من خلق الله اذ يرون عبادة المؤمنين وحسن إمتثالهم للأوامر الالهية، يرون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في سعيه الحثيث لتبليغ الرسالة وتسابق أصحابه إلى القتل وإختيار الشهادة لما بينّه الإسلام من فلسفتها، إن الموت ليس أمراً عدمياً بل هو مناسبة للإنتقال إلى عالم الخلود وأن الدنيا مزرعة للآخرة , قال تعالى [خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( )
ويدل عليه الوجدان وقصر أيام الإنسان في الحياة الدنيا بعد طموحه وسعة أمله، والموت قريب منه يهدده كل لحظة.
والنبوة نوع طريقية إلى العبادة وإرشاد الناس لمصالحهم وأحوال معايشهم وحفظ النوع الإنساني ومنع الأضرار والظلم بينهم، لذا ترى الأنبياء جميعاً يشتركون في نبذ الظلم، ويتبعون الشرع الذي يجري وفق أسس الصلاح والنفع العام.
وبالنسبة لأحوال الآخرة فإن النبوة تهدي الناس إلى الحق وتدلهم على الأعمال الصالحة وسبيل الجنة، ويقر المليون بالنبوة ولا عبرة بمن أنكرها كالبراهمة , وهم قبيلة تنتسب إلى برهم أحد حكماء الهند القدامى، ولهم علامة ينفردون بها وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يقولون بالتوحيد الا أنهم ينكرون النبوات.
وقالوا لما صح أن الله حكيم وكان من بعث رسولاً وما يدري أنه لا يصدق، فلا شك أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل لنفي العبث والتعنت عنه تعالى ، وقالوا إذا كانت الغاية من بعث الرسل هداية الناس فقد كان أولى في حكمته وأوثق أن يضطر العقول إلى الهداية والإيمان
وبعثة الأنبياء عندهم ليس من الممكن بل ممتنعة في ذاتها ، ولكن النبوة من حكمة الله تعالى , وهي رحمة للناس وحاجة لهم وهي رأفة بالبراهمة وشبههم أيضاً لو إنتفعوا منها في الدنيا ولم يضيعوها بدعوى أثبت الواقع خلافها.
وإجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس للإسلام وجاء بالمعجزات التي تدل على صدق النبوة والحاجة اليها لإصلاح النفوس، وتجنيب الإسلام شر الكفار، والنبوة رحمة لهم بما أثبته الواقع والوجدان .
سُئل الإمام الصادق عن الدليل على البعثة فقال : “لما أثبتنا أن لنا خالقاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لا يشاهده خلقه، فلا يلامسهم ولا يلامسونه، ولا يباشرهم ولا يباشرونه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وهم الأنبياء الصفوة من الخلق”.
ومن الصفات التي تعتبر مؤهلات للنبوة وجوه :
الأول : العصمة من الزلل والمعصية لأن القلوب لا تنجذب إلى صاحب المعصية.
الثاني : أن يكون أفضل أهل زمانه بجميع الفضائل والمحاسن والكمالات لعدم تقديم المفضول على الفاضل في باب الوحي والإمامة العامة .
الثالث : أن يكون أميناً، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى “الصادق الأمين”.
الرابع : أن يكون شجاعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ونحوها من الأخلاق والصفات الحميدة.
لم تبدأ النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي ملازمة للإنسان في وجوده في الأرض، فقد تفضل الله سبحانه وجعل آدم أبا البشر نبياً إكراماً لبني الإنسان ولكي لا تنقطع حجته على الأرض إبتداءً وبقاءً , ويتجلى قانون إتصال الحجة في الأرض بسلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة , قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ), وقال تعالى [مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ).
وفي نبوة آدم توكيد على عدم ترك الناس بلا نبي، فإن كانت هناك فترات بين الأنبياء فبسبب وجود بقية وتركة من الأنبياء السابقين وما يتفرع عنها، ولا بشر قبل آدم فاقتضت الحكمة كون آدم نبياً وأن يُبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعده لأنه سيد الأنبياء، وتدل عليه جملة من النصوص، وأن النبوة الأن موجودة عندنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “كنت نبياً وآدم بين والماء الطين( )”، وأن آدم لما أذنب سال الله بحق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم جاءت فترات من الرسل أي أيام من السكون والانقطاع كما في قوله تعالى [ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ ]( ) تتخلل بعثة الأنبياء تكون الأرض خالية واقعاً من أشخاص الانبياء من غير أن تخلو من أتباع الأنبياء وأهل الصلاح، الذين يحملون وصية الأنبياء بلزوم إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وقد يكون أحياناً عدة أنبياء في فترة واحدة.
وجاء نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل فبين بعثة عيسى عليه السلام وبعثته نحو ستمائة عام ، فكانت نبوته حاجة للناس بعد الحادهم وجحودهم، وتلك آية في كرامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظيم منزلته في سلم النبوة , ومراتب الفضل بتحمله مسؤولية قيادة أمم الأرض في منازل التوحيد وسبل النجاة وبلوغ المقاصد السامية في السعادة الأخروية.
لقد ظهر أن الديانات القديمة لا تمتلك مقومات القيادة الدائمة للإنسانية ومعاشر الأمم نحو الصلاح والجنة، وهو من مفاهيم قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ الا رَحْمَةً لِلْعَالمِينَ ]( )، تلك الآية التي يمكن أن نتلمس منها منافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإنسانية جميعاً، لمن آمن به ومن حاربه وعاداه, وللأجيال من أبنائهم لأن الإسلام ديانة وعقيدة متكاملة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمل أعظم المسؤوليات ونزل عليه جبرئيل على نحو متصل, قال تعالى [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )
وبالنسبة للأديان الأخرى السابقة، فمن الأنبياء من أخبر عنه بعض أصحابه وأتباعه ولم يستوف بعد تمام رسالته وحاربه السلطان أو وكيل السلطان، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحاكم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى الا وقد تولى المسلمون الحكم في الأرض من بعده وبإتساع في رقعة حكمهم وسلطان شريعتهم ودخول الأمم الأخرى في الإسلام، حتى أن الشعوب التي أسلمت تفتخر وتعتز وتجاهد من أجل إسلامها والذب عن عقيدتها.
وحارب اليهود المسيحية، وجاء الإسلام ليجعلها بعرض واحد مع اليهودية من حيث المعاملة والإعتبار كأهل كتاب، فلقد فرض عليهم الجزية دون غيرهم، والجزية إكرام لأهل الكتاب وتثبيت لشريعتهم وإذن سماوي لهم بالبقاء على ديانتهم، وصاروا في ذمة الإسلام والمسلمين.
ولابد من مدرسة كلامية جديدة تبين فضل الإسلام على الملل، ومنافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن على الأديان الأخرى وعامة الناس، ليكون عندنا باب في إعجاز القرآن هو أثره على الديانات والكتب السماوية الأخرى.
من إعجاز القرآن الغيري ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيتها، وهو مدرسة عقائدية ولا يمنع أن يبحث مستقلاً ومتداخلاً معه أثر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشخص الرسول في تبليغ آيات القرآن وتثبيت أحكامه.
لقد كانت آيات الأنبياء السابقين حسية في الغالب كما في عصا موسى وناقة صالح، ومعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية بل عقلية حسية، مما يؤكد أهلية المسلمين لحمل الرسالة وحفظها ووعي وجوهها العقلية، أي أنهم مؤهلون للتصديق بالآيات العقلية، ومن بركاتها أن الدوام كُتب لها، وكانت ضياءً للإيمان والة لحفظ الأديان الأخرى.
“ومرة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غار حراء فناداه جبرئيل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وجعلت أصرف وجهي عنه في أفق السماء فلا أنظر في ناحية فيها الا رأيته كذلك” ويدل الكلام على أنه في عالم اليقظة وليس الرؤيا والمنام، وهو آية إعجازية في علوم الوحي والنبوة.
لتبدأ رحلة النبوة المباركة التي تتغشانا بالرحمة بل والفخر والإعتزاز لأن أنوارها تملأ الأكوان، وتطل على النفوس لينهل الناس جميعاً منها كل حسب مشربه.
لابد أن تتم الرسالة وهذا أوانها وأنت صاحبها وليس غيرك، أنت الذي ينزل على صدرك القرآن وتتحمل المسؤولية العظمى، بك سيبقى القرآن محفوظاً ومعمولاً بأحكامه في الأرض، وكذلك قضى الله وجرت مشيئته أن ينبعث نور النبوة من جديد مشرقاً على عموم الأرض، منطلقاً من هضاب مكة وأوديتها ليعلن رسوخه ونفاذ أحكامه وإمتلاء النفوس رضا بشريعته, قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) ,وفي موضوع تعلق الحفظ الالهي في الآية قولان :
الأول : وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه, حكاه ابن جرير( ).
الثاني : إنا للقرآن حافظون.
والصحيح هو الثاني, وهو المتبادر إلى الأذهان , وفيه تشريف وإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن, ورحمة بالمسلمين, وهو من الإعجاز الغيري للقرآن أن آياته محفوظة بأمر ومشيئة متصلة ومستديمة من الله عز وجل, فكما يحفظ الله عز وجل السموات والأرض, قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ] ( ), يحفظ الله عز وجل القرآن لمنع حصول الفناء بالإقتتال بين الناس وقد جاءت الآيات بحفظ الله عز وجل للنبي وصرف الكيد والمكر عنه, وعن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت {والله يعصمك من الناس}( ) ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحرس( ).
ومن العلماء من أحصى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات ما لم يكن لأحد من الأنبياء، وقد بلغت أربعة الآف وأربعمائة وأربعين معجزة، وأنها تنقسم إلى أربعة أنواع :
والنوع الأول : كان قبل ميلاده.
الثاني : بعد ميلاده.
الثالث : بعد بعثته الشريفة .
الرابع : بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
وهو إحصاء لطيف ويمكن أن يكون التقسيم وتعدد الأنواع أكثر وأبين بتقسيم إستقرائي أكثر تفصيلاً، مع إضافة نوع وهو المعجزات عند ميلاده وما رافقه من آيات إعجازية وتعدد أبوابها وموضوعاتها .
ومن وجوه الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
الأول : ما يتعلق بالتنزيل.
الثاني: في ميادين التشريع.
الثالث: باب القتال والدفاع والغزو.
الرابع: الحكم بين الناس.
الخامس: الإمامة والرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا.
إن يوم ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة كريمة للتدبر والاتعاظ وإستحضار لزوم الوحدة والأخوة بين المسلمين بعد الإجتماع العبادي في كل سنة مرة بفريضة الحج لتكون شاهداً عملياً على حقيقة الوحدة عبر المناسك المشتركة التي يؤديها جميع الحجاج من غير إختلاف أو تباين.
إنها أرقى حضارة جاءت للبشرية بالشواهد الحسية والعقلية والتكامل في الأحكام والفرائض، بدأت بنزول الوحي وآيات القرآن، فعندما نزل جبرئيل بآيات القرآن نجوماً تغير وجه الأرض وما عليها، و بدأت مرحلة النبوة المباركة ذات المرتبة العليا في سلم الرسالات، والمتضمنة للسنن والشرائع لتشق طريقها سريعاً إلى قلوب الصالحين، ويقيض الله عز وجل لها جنوداً مهاجرين وأنصاراً، وكان جبرئيل يقول سلام عليك يا محمد، أنت صاحب لواء التوحيد، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وبالبعثة النبوية إنفتحت أبواب من الرحمة على أهل الأرض وحق القول على المشركين والكافرين، ثلاث وعشرون سنة في الدنيا مدة البعثة لا تُعد كثيرة فهي بالذات والقياس الزماني قاصرة عن تحقيق الأماني الشخصية المحدودة، ولكنها بآية من الله تعالى رسخّت أعظم عقيدة في الأرض، ومنها ينبثق القول : “حلال محمد حلال حتى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة”( ).
ومن صفات النبي بالإضافة إلى خصال العصمة ، أن يكون أفضل أهل زمانه بجميع الفضائل والمحاسن والكمالات، والنبوة وحدها موضوع ترجيح وتفضيل بفضل الله تعالى ، وأن يكون أميناً كي تطمئن القلوب لما يأتي به من عند الله عز وجل .
وأن يكون شجاعاً لا تأخذه في الله لومة لائم ونحو ذلك من الأخلاق والصفات الحميدة.
لقد إختار الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة في عالم الذر، أي أن هذا الإختيار يدل في مفهومه على الإعداد وحسن المقدمات، فلم يتولد من سفاح صعوداً إلى بدايات النكاح والزواج، ومن أيام آدم عليه السلام.
ومن إعجاز القرآن الغيري ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيتها، وهو مدرسة عقائدية ولا يمنع أن يبحث مستقلاً ومعه أثر نبوته، وشخص الرسول في تبليغ آيات القرآن وتثبيت أحكامه للتداخل والمفاعلة وتبادل التأثير بينهما.
وتخاطب معجزة محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقول, وفيه دلالة على أهلية المسلمين على تحمل الرسالة وحفظها بعد وعي وجوهها العقلية، أي أنهم مؤهلون للتصديق بالآيات العقلية، وكان من بركاتها أن كتب لها الدوام وصارت ضياء للإيمان والة لحفظ الأديان الأخرى.
ولا ينكر فضل الأنبياء الآخرين في التمهيد والتبشير بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن في الديانات السماوية الأخرى شر بل هي خير محض، إنما جاء التحريف بالعرض ولا يلحق بالديانات.
لقد أكرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء من قبله في قوله وفعله، وجاء القرآن بالإيمان بهم جميعاً على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
ومما أجمع عليه المسلمون أن السنة النبوية هي المصدر الثاني لتفسير القرآن مما يدل على عظيم منزلتها في التشريع الإسلامي وتأريخ الأمة العقائدي والأخلاقي والسياسي، ويترشح عنه بالضرورة لزوم إتفاق المسلمين، ولو على نحو الإجمال في كثير من مواضيعها.
قال تعالى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهَوَى * أن هُوَ الا وَحْيٌ يُوحَى]( ) , وفيه شهادة وتوثيق سماوي للسنة النبوية القولية , وعن عائشة لما سالها هشام بن حكيم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت :”كان خلقه القرآن”( ).
أي أن سيرته وعمله مستوحى من القرآن وترجمة عملية لآيات القرآن، وهذا يؤكد علم وقانون وهو إرجاع السنة إلى القرآن.
وفي خبر أبي الجارود عن الإمام الباقر قال: إذا حدثتكم بشيء فاسالوني عن كتاب الله ثم قال في حديثه: “نهى الله عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال، فقالوا له أين ذلك في كتاب الله يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال تعالى [ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْــوَاهُمْ الا مَنْ أَمَرَ بِصَــدَقَةٍ أَوْ مَعْــرُوفٍ أَوْ إِصْـــلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ]( ) وقال ايضاً [ وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمْ التِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ]( ) وقال [ لاَ تَسْالوا عَنْ أَشْيَاءَ أن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ] ( ).
لقد أدّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه على اللجوء إلى القرآن وإعتماده في القول والعمل كيف لا، وفيه تبيان كل شيء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” الا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه الا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه”( ) .
أنه صلى الله عليه وآله وسلم يحذر وينهى عن الإعراض عن السنة، ويدعو للأخذ منها وإعتبارها.
وقد أمر الله تعالى بالصلاة وجاء الأمر في القرآن وبينت السنة أوقاتها وعدد فرائضها وركعاتها وأحكامها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “صلوا كما رأيتموني اصلي”( ).
وورد وجوب الحج في القرآن مع بيان المناسك وتفصيلها لمنع الإختلاف والفرقة والخصومة, ولتثبيت أعمال الحج وترتيبها إلى يوم القيامة بالقرآن والسنة النبوية المباركة وتوارث المسلمين لها بالسيرة القطعية ، كما قيد المطلق وخصص العام، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خذوا عني مناسككم)( ).
ويبين قوله تعالى[قُلْ أنمَا أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى اليَّ أنمَا الهُكُمْ الهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كان يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( )، لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس بأنه مخلوق وبشر مثلهم ليس بملك، ولكنه إمتاز عنهم بإختياره للنبوة والتبليغ.
وفيها تأديب للمسلمين ومنع تأليه مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يقول لأصحابه لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله) ( )، لذا لم يثن عليه المسلمون الا بما هو حق.
ولكنه خشي الإفتتان وهو رحمة المنان وأظهر التواضع والعرفان، وهذا ما تدل عليه السيرة والوجدان وبقي سلوكاً لعامة المسلمين على مر الأزمان، يقبل دعوة المسكين ويعود المريض ويداعب الأطفال وينشر شآبيب الأمان، ويقوم بحاجة الفقير والضعيف، آثر الفقر والمشقة والجهد على السلطان لتكون حياته مصداقاً، وشاهداً يومياً على صدق نبوته،
وتجلت علوم التحقيق في علم الرجال والدراية , وفيه وجوه :
الأول : ظهور وإعتبار إسقاط الأحاديث الموضوعة من كتب المسلمين المعتبرة .
الثاني : إجتهاد العلماء في تنقيح الويمكن القول أن باب التفسير أعم من أحكام الفقه وأنه يمكن التسامح فيما يخص المواعظ والقصص ونحوها وهذا صحيح، ولا يتعارض مع علم الرجال بنظر الإعتبار ولو على الموجبة الجزئية، وبيان نوع الحديث وهل هو من الصحيح أو الحسن او الموثق او الضعيف.
الثالث : صيرورة علم الرجال معتبراً في علم التفسير , فالأحاديث الواردة في أبواب الفقه تحقق رجالياً تحقيقاً وثائقياً ووافياً , أما في باب التفسير فإنها تذكر إجمالا في الغالب من غير إشارة إلى صحتها او ضعفها، وحتى الذي لا يقول بجبر المشهور للحديث الضعيف السند ولا يعمل بقاعدة التسامح في أدلة السنن تراه في باب التفسير يتسامح في القواعد الرجالية .
وهناك قولان :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيّن جميع ما في القرآن من معاني والفاظ، ومن القائلين به ابن تيمية، ومما إستدلوا به أن الصحابة إذا تعلموا بعض آيات من القرآن .
عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)( )
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبين الا الشيء اليسير ولم يفسر الا آيات قليلة ومما إستدلوا به حديث عائشة أنها قالت: “ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفسر شيئاً من القرآن الا آيات لقد علمه إياهن جبرئيل”( )، ويحمل الحديث على التفسير بالمعنى الأخص.
ويمكن الجمع بينهما أنه لا إفراط ولا تفريط بل منزلة بين المنزلتين، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع القواعد الكلية والمنهجية السليمة والضوابط الصحيحة لعلم التفسير والتأويل بالمصاديق وبيان تفسير جملة من الآيات والتي يصلح أن تكون قواعد كلية في علم التفسير.
لقد شاء الله عز وجل حفظ المؤمنين وتعاهد أجيالهم مقدمة لظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليكونوا مادة الدعوة الإسلامية وموضوعها الذي به وفيه تترشح وتنتشر بركات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متقدمة على زمانه لا تنحصر بما بعد ولادته وبعثته صلى الله عليه وآله وسلم بل كانت البشارات بنبوته عنوان عز وفخر للمؤمنين المتقدمين منهم والمتأخرين وسبباً لبعث الهيبة لهم في نفوس السلاطين والملوك، ولعلها تقف وراء عدم تجرأهم على غزو الجزيرة وأرض الحرمين، لتهيئة المقدمات والتوطئة لبعثته صلى الله عليه وآله وسلم.
فلسفة كلام الله في الأرض
لم تكن الأرض مكاناً لخلق آدم فإنه خلق ونفخت فيه الروح في الجنة كما هو صريح الآيات القرآنية، (وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض)( ).
ولم يهبط إلى الأرض الا بعد أن أكل من الشجرة التي نهي عن الإقتراب والأكل منها، وفي جعل الجنة موضعاً لخلق من يسكن في الأرض نوع تشريف للأرض وللإنسان معاً، فإكرام الإنسان لم يبدأ بنفخ الروح فيه بل من حين تكوينه وخلقه، ولم تنحصر تلك النعمة بالخلق بل تغشت حال السكن والإقامة وإن أصبحت غير دائمة.
قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالمِينَ]( ).
وتدل هذه الآية على ما لآدم من المنزلة الرفيعة ليس فقط لشخصه وسيرته فهو نبي، ولكن بخلقه وتفضل الله تعالى بإنزاله من الجنة مع سعة في العيش وهو أيضاً نوع إكرام إضافي يتصف بالاتصال والدوام، وحق الإختيار في الأكل والمكان آية ولطف من الله تعالى .
والظاهر أن قوله تعالى [ اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ ]( ) أمر إباحة، وموضوع خال من المشقة والتكليف، وفسر الإقتراب هنا بالأكل، والقرب ضد البعد , في الزمان أو المكان أو المنزلة أو النسبة .
ولا يمنع من حمل الآية على الدنو منها بإعتبار أن الإقتراب مقدمة عقلية للأكل، أو أن الإقتراب يسهل الإفتتان ويزيل الحواجز النفسية عن الأكل ويهيئ لإبليس فرصة للإغواء والإغراء.
ويجد المتتبع للآيات والنصوص أن الإنسان يمتلك واقية وحرزاً حينما يكون مبتعداً عن الشبهات ومواطن الشك ومظان التهمة، وعندما يكون قريباً منها ينشط حينئذ الشيطان بمعاونة النفس الأمارة بالسوء.
وأختلف في الشجرة التي أكل منها آدم على أكثر من ثمانية أقوال، ولغير المسلمين فيها قول أيضاً، وهل كان النهي تحريمياً او تنزيهياً وصلة ذلك بعصمة الأنبياء.
إن أكل آدم من الشجرة أمر لم يتم الا بعلم الله تعالى ومشيئته وهو قادر عالم مريد , وفي التنزيل [وَمَا تَشَاءُونَ الاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ] ( )، عالم بما يشتمله الفعل من المصلحة الداعية إلى إيجاده، وبما يخصص قوله في وقت دون آخر وعلمه تعالى حضوري ذاتي.
والعلم الحضوري هو ما لا يتوقف على آلة، وهو حضور الأشياء عند العالم وجعلوا من العلم الحضوري علمنا بوجودنا بإعتبار أنه لا يستدعي صورة المستدعى و العلم الحصولي وهو الذي يتوقف على آلة وحصول صور الأشياء في القوى المدركة.
ولكن نحن بحاجة إلى تقسيم للعلم ينفرد في فرع منه علم الله تعالى ، فهو تعالى ينفرد بعلمه بجميع الجواهر والأعراض وحضور الموجود والمعدوم منها عنده سبحانه، أي كل موجود سوى الله من الممكنات وما يطلق عليه العالم.
وهي ظاهرة عنده تعالى وعلمه قديم لا يتصف بكونه ضرورياً ولا كسبياً، والعلوم المحدثة هي علوم الخلق من الناس والبهائم والملائكة والجن وغيرهم من الحيوانات ومع أن علمه تعالى لم يكن عن حس ولا عن فكر ونظر فإن الأشياء جميعها حاضرة عنده غير غائبة عنه.
ولم يحل الله سبحانه بين آدم وزوجته وبين الأكل من الشجرة بالجبر والقدرة لذلك لا يعني اكلهما منها أن مشيئتهما غلبت مشيئته تعالى لأنه لا يوصف بالعجز، ولكنه سبحانه منعهما بالنهي والزجر ضمن باب التكليف ومسؤولية ما رزقهما من العقل والتمييز، ولإقامة الحجة في فتح باب الإبتلاء لتكون الحياة الدنيا طريقاً إلى الجنة والخلود فيها.
وغادر آدم الجنة نازلاً إلى الأرض، وظاهر الآيات القرآنية يبين أن ذلك النزول كان عقوبة ولكنه يدل على أن آدم لم يخلق الا ليكون خليفة في الأرض، وأنها موضعه ولا تصلح الا له، والعيش في الأرض بالطاعة خير له من البقاء في الجنة مع الخطيئة، أي أن المشاق مع التكاليف ذات عاقبة كريمة، والملائكة بقوا يتنعمون بالجنة لأنهم لم يخطئوا ولكنهم أيضاً ليس عندهم ما عند الإنسان من أسباب التكليف،وما فيه من الخصوصية والصراع بين العقل والشهوة فللتكليف ثمرات أخروية عظيمة قد لا ينالها الملائكة أنفسهم.
من هذا يمكن القول أن التكليف لطف فالله تعالى حينما كلف الناس أعد للمطيعين منهم الثواب الجزيل، وآدم من أئمة وسادة أهل الطاعة فهو نبي.
لقد كان هبوط آدم إلى الأرض بداية التكليف ليس الشخصي بل التكليف النوعي والذي يكون على نحو العموم الإستغراقي، ومن وجوه التكليف وجود إبليس قاعداً لهم على الصراط.
فهل كان الهبوط بداية صلة آدم بالأرض، الجواب: لا، فآدم خلق من أديم الأرض وعليه الآيات والنصوص المتواترة التي تؤكد خلقه من الأرض.
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها , فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني ، فرجع ولم يأخذ شيئاً وقال : يا رب إنها أعاذت بك فأعذتها . فبعث الله ميكائيل كذلك . فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء ، وبيضاء ، وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به ، فبل التراب حتى صار طيناً { لازباً } واللازب : هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة : إني خالق بشراً من طين ، فخلقه الله بيده لئلا يتكبر عليه إبليس ، فخلقه بشراً سوياً ، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ، ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدهم منه فزعاً إبليس ، فكان يمر به فيضربه ، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخار يكون له صلصلة فيقول : لأمر ما خلقت! ويدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه فإن ربكم صمد وهذا أجوف ، لئن سلطت عليه لأهلكنه .
فلما بلغ الحين الذي يريد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس فقالت الملائكة : الحمد لله فقال : الحمد لله فقال الله له : يرحمك ربك . فلما دخلت الروح في عنقه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت إلى جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة . وذلك قوله تعالى { خلق الإِنسان من عجل }( )
وتظهر الرواية عزم ملك الموت على إنجاز ما أمره الله تعالى به وإعطاءه الأولوية، ولكن ذلك لا يعني قصور الملائكة الذين رجعوا بسبب إستعاذة الأرض، وورد في الرواية أن أمر الله تعالى لملك الموت كان على وجه الحتم أي أن أمر الله تعالى إلى من تقدمه من الملائكة لم يكن على وجه الحتم والوجوب .
وفي اسم آدم وإشتقاقه وجوه :
الأول : إنه من صفات الارض وأنه خلق من أدمة الأرض ولونها، وعن الإمام الصادق قال : “سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آدم لم سمي آدم؟ قال: لأنه خلق من طين الأرض واديمها”.
الثاني : إنه من الأدم بمعنى الالفة والإتفاق( ).
الأول : أنه اسم سرياني أصله آدام.
الثاني : قال الجواليقي: أسماء الأنبياء كلها أعجمية الا أربعة آدم وصالح وشعيب ومحمد.
ولا مانع من إجتماع عدة أسباب وعلل في تسمية آدم ومنها ما يتعلق بالأرض فوجود آدم في الأرض عودة الفرع إلى الأصل ولكن بإضافة تشريفية وهي النفخ فيه من روح الله تعالى ، ولم يكن خلق آدم بعيداً زماناً عن خلق الأرض، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله خلق الأرض يوم الأحد والإثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الشجر والماء والعمران والخراب يوم الأربعاء فتلك أربعة أيام، وخلق الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم.
وتشريف الله لآدم والنفخ فيه من روحه تعالى ملازم لكلام الله معه وذكر الطبري أنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.
ويتضمن هذا الخبر بغض النظر عن سنده تشريفاً مركباً لآدم أن آدم خلق يوم الجمعة، وأنه أفرد بالذكر من بين المخلوقات والا فإن كثيراً من المخلوقات لم يرد ذكرها في الحديث.
قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ]( )، والخطاب وإن كان موجهاً إلى آدم وحواء وإبليس فإنه بيان وتبليغ بواسطته إلى ولد آدم جميعاً لذا نقول بأن الناس أكثر من بني آدم بإضافة آدم وحواء.
وورد عن الإمام الصادق أن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم أمره بالحرث والزرع وطرح عليه غرساً من غروس الجنة فاعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان وغرسها لتكون لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها).
وتلك مقدمة عقلية وحاجة غريزية لينشغل الإنسان في عبادة الله تعالى، ولتكون مناسبة للشكر والتدبر في أصل الخلق والتكوين , وحسن الإبتلاء.
وهذا وجه من وجوه عناء آدم وفقره في عالم الأرض وحاجته إلى التدبير والسعي والتأمل بضعف الإنسان وعجزه وقصر مدته في الأرض، ولكي يكون هذا الإحساس مقدمة ومناسبة وفرصة لذكر الله تعالى .
إن وجود كتاب الله في الأرض هو الأمانة العظمى والتكليف فيها على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي وخطاب عام ينحل بعدد أهل الأرض وهو موضوع للإكرام في الآخرة والنجاة من العذاب بحفظ هذه الأمانة وصيانتها وتعاهدها بالالتزام بما جاء به القرآن من الأحكام.
سفر الدعاء في القرآن
والسفر هو الكتاب وقيل هو الكتاب الكبير والجمع أسفار ويرد الدعاء بمعنى الإستغاثة وقد يكون عبادة، والدعاء كتاب وعلم لا يحيط بموضوعه مجلد وبحث،من وجوه:
الأول: كثرة أبواب الدعاء.
الثاني: ما يتفرع عنه من المسائل.
الثالث: ما يلحق به.
الرابع: ما يترتب عليه.
الخامس: ما يترشح عن تركه من الأضرار.
السادس: وفي حديث عرفة: “أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير) ( )، لأن التهليل والتحميد ذكر لله عز وجل وهو بمنزلة الدعاء وفيه ثواب الله تعالى .
السابع: والذكر وقراءة القرآن باب لقضاء الحوائج وإن لم يسألها العبد، أي من يشتغل بطاعة الله وذكره يتكفل الله عز وجل حاجته.
قوله تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالمِينَ]( ) وبداية القرآن بقوله تعالى في سورة الفاتحة [ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالمِينَ] يعني أن المؤمن يبدأ حياته بالحمد لله لتنتهي في الجنة بالحمد لله ، وأول ما نطق به الإنسان هو كلمة الحمد لله مما يدل على موضوعية الحمد لله في الدعاء، وفي حياة الإنسان.
الثامن: الدعاء الرغبة إلى الله، والتوجه اليه وسؤاله، إنه نوع إنقطاع والتجاء اليه تعالى فببركة الدعاء تتغشانا أحكام الإسلام، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام[ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتكَ ]( ) لتكون سنة لإبراهيم في الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وحثاً لهم على أن يكون عملهم مرآة لدعاء الأنبياء.
التاسع:الدعاء سؤال المراد من الغير فهو فوق الطلب في الرتبة ورجاء القدرة، وفي الإقتصاد قال: الكلام إذا صدر ممن يفهم مع من يفهم، فيما يفهم وكان فوقه سمي دعاء.
وأختص في الإصطلاح بالتوجه إلى الله تعالى في السؤال والحاجة اليه تعالى .
العاشر: لا يتعلق الدعاء بالشخص خاصة بل يشمل غيره ومن بعده ينتفع منه، كذا تحفظ الأعقاب بدعاء الآباء وفعلهم من الصالحات، فمن أراد أن يحفظ في ذريته فليشتغل بالدعاء، فمنافع الدعاء لا تنحصر بالداعي ومن حوله بل يبقى أثره ونفعه يفيض على أبنائه من بعده كما في قوله تعالى [ وأَمَّا الجِـــدَارُ فَكان لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكان تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكان أَبُوهُمَا صَالحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أن يَبْلُغَا أَشُـــدَّهُمَا وَيَسْـتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ]( ).فقد حفظ الأبناء ومالهم بأحد آبائهم إذ كان يتصف بالصلاح، فالآية تظهر الدعاء كميراث وتركة مباركة وتحرس تركة المال.
الحادي عشر:قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، حث على الدعاء ولما فيه منفعة الناس وهو سلاح وإنابة إلى الله، فبالدعاء تتخلص النفوس من أدران الرذيلة، وترتقي في مراتب الكمالات الإنسانية.
الثاني عشر: من منافع الدعاء في الآخرة أنه نور وكنز وعمل صالح، ويدل بالدلالة التضمنية على الإقرار بالربوبية والإعتراف بالحاجة والنقص من منازل الرق والعبودية.
الثالث عشر:منزلة الدعاء في حياة الأنبياء فهو السلاح المبارك الذي جعله الله بإيديهم وقريباً منهم، وحينما أمر الله تعالى المسلمين بدعائه فقد جعلهم ورثة الأنبياء وآتاهم ما آتى الأنبياء من سلاح وهو الدعاء، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوجه بالدعاء في ساعات الشدة ويدعو بالرخاء، وفيه مدرسة أخلاقية وعرفانية وتأديب للمسلمين إنتفعوا منه بالذات وبإتخاذه أسوة.
الرابع عشر : سيبقى الدعاء ذخيرة السماء في الأرض كما نفخ الله عز وجل في آدم من روحه كذلك لم يترك الإنسان مجرداً من صلة ووسيلة قرب إلى الله ، فأمده بالدعاء وحضوره ، فهل من شيء أكثر قوة وحصانة وفتكاً منه.
الخامس عشر: الدعاء في القرآن نموذج لمدرسة النبوة ودعوة للإقتداء بالأنبياء والرسل والسير على نهجهم فهو الملاذ والمفزع والملجأ.
لقد أمرنا الله سبحانه أن نأتيه سائلين مضطرين محتاجين ولابد من الإستجابة والرد، وهو سبحانه منزه عن القبيح فإذا وعد وفى.
السادس عشر: أنك تحتاج دعاء غيرك لاسيما الذي ظلمته وأسأت اليه والذي أنعمت اليه، الإمام علي بن الحسين كان يعتق عبيده في شهر رمضان ويطلب منهم أن يقولوا اللهم أعف عن علي بن الحسين كما عفا عنا، وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق، فيقولون ذلك، ويقول بعدهم راجياً الإستجابة اللهم آمين رب العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم واعتقت رقابكم للعفو عني.
السابع عشر: قيل لسفيان الثوري أدع الله فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء( ).
ويذكر هذا القول من غير تحقيق وتعليق ، فلذا نقف عنده ونقول هذا خلف، ترك الذنوب وإن كان أمراً وجودياً حسناً لما فيه من القصد والعزم ولكنه غير الدعاء، فإن موضوع الدعاء مختلف فهو نوع عبادة ومصاديق العبادة متعددة، فترك الذنوب إحتراز وإمتناع ذاتي، أما الدعاء فهو إتصال إختياري بالباري عز وجل من غير واسطة أو فاصل زماني. لقد أمر الله العباد بدعائه, قال تعالى[ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً]( ).
ومن الآيات في الدعاء هتا أنه خلاف للنواميس فلا ينقطع حتى بعد مغادرة الإنسان للدنيا مع أن الآخرة دار حساب بلا عمل، ولا تعارض بينهما لأن دعاء الكافرين حينئذ لا يسمع وهم حينما عرفوا هذه الحقيقة ويأسوا من الإستجابة ضجوا وتوسلوا لعدم وجود رصيد في الدعاء لهم في الدنيا [قَالوا فَادْعُوا وَمَا دُعَـــاءُ الكَافِرِينَ الا فِي ضَـــلال]( )، وإحتاج أهل النار الواسطة، وقال الذين في النار لخزنة جهنم [ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ العَذَابِ]( ).
الثامن عشر:الدعاء سفر روحي يصعد بالعبد إلى عالم الملكوت فهو عالم خاص له قواعده وآدابه وأحكامه، وللدعاء آداب: المدحة ثم الثناء ثم الإقرار بالذنب ثم المسالة.
التاسع عشر : ولا تعارض بين ما يستحدث بسبب الدعاء وبين القاعدة الكونية أن الله جعل الأشياء بأسبابها، فالدعاء سبب ملكوتي يمحو الله بسببه ما يشاء وهو يمتلك مقومات السببية على نحو الإستقلال كما أنه سعي وقول وعمل.
العشرون:الإنتفاع من الغير وغبطته لا حسده والدعاء بالأكثر[هُنَالكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أنكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ]( )، ويمكن الإستدلال بها بأن طريق المسلمين هو الإنتفاع الأشمل والأكثر من دعاء الأنبياء فقد كان في قصصهم عبرة وموعظة، الدعاء يفوق ويتعدى بإفاضاته القواعد والنواميس المحسوسة والمقدرة من قبل البشر.
لقد إنتفع زكريا من المناسبة وإتخاذها فرصة للزيادة، واللام حرف يفيد البعد، لذا قيل بأن هنالك تستعمل للمكان خاصة وتسمى الكاف كاف الخطاب ويحتمل أن يكون مكاناً مباركاً لأن عيسى كان فيه فهو من الأماكن التي هي مظان الإستجابة.
الحادي والعشرون: يستحب للداعي أن يلبس في يده خاتماً من العقيق والفيروزج لما ورد من المزية الخاصة لهما فالعقيق في رواية هو أول من آمن بالله من الأحجار، وعن الإمام الصادق عليه السلام: “قال ما رفعت كف إلى الله عز وجل أحب اليه من كف فيها عقيق”.
الثاني والعشرون:التضرع ومشاركة الجوارح في الدعاء وذلك برفع اليد أثناءه، وزيادة المباني تفيد زيادة المعاني مع التضرع بإعتباره كيفية نفسانية، خضوعاً وخشوعاً ظاهراً بين طيات كلمات الدعاء ويمنع من إنشغال القلب أثناءه بالدنيا، ولا غرابة في ذلك فمع الخشوع لله عز وجل يأتي العز أو أن التضرع يضفي على الدعاء قدسية خاصة ويكون مقوماً لما يعنيه من معاني الصدق والعبودية والتوسل والإستعانة ومضامين اللجوء إلى الله تعالى .
الثالث والعشرون:وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع يديه إذا إبتهل ودعا كما يستطعم المسكين ليكون تأديباً للمسلمين وتعليماً لهم في مسالك الدعاء .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأجدني استحي من عبدي يرفع يديه اليّ ثم أردهما . قالت الملائكة : إلهنا ليس لذلك بأهل . قال الله : لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويقول الله: إني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإِسلام ثم أعذبهما بعد ذلك في النار( ).
الرابع والعشرون : مواصلة الدعاء وإتصاله في ساعات الليل والنهار كجزء من المواظبة والإنشغال بالدعاء سلاحاً عسى أن يتفق ذلك مع ساعة مباركة، والإنشغال بالدعاء صفة الأنبياء وسجية الأولياء وفي قوله تعالى [ إن إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ]( ) .
وعن جابر : أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر فقال رجل : لو أن هذا خفض صوته . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعه فإنه أوّاه( ).
الخامس والعشرون:إتخاذ الدعاء وسيلة مباركة لقضاء الحوائج، ومدداً دائماً يساهم في التخفيف عن النفس والبدن , ويختزل المراحل ويقرب البعيد، ويمهد السبيل، ويهون العواقب.
السادس والعشرون:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من عدوكم، ويدر رزقكم ؟ قالوا: نعم، قال: تدعون بالليل والنهار، فان سلاح المؤمن الدعاء”( ).
السابع والعشرون: الدعاء باب لمحو الذنوب ومغفرتها لما فيه من التسليم لله عز وجل واللجوء اليه والاقرار بربوبيته.
الثامن والعشرون: إظهار حال الذل والخضوع والمسكنة عند الدعاء خاصة وأن الإنسان في مقام الحاجة وسؤال الرحمة والفضل الالهي ورجاء القرب من منازل العفو والمغفرة، فالأصل وجوب
إظهار المسكنة أزاء مقام الربوبية في مطلق الأحوال، ولكن طرو الحاجة واللجوء إلى الدعاء يجعله أكثر ضرورة، وعوناً في سبيل إنجاز الحاجة وقضائها.
التاسع والعشرون:في مرسلة علي بن يقطين عن الامام جعفر الصادق قال: “أوحي الله إلى موسى أتدري لم إصطفيتك بكلامي دون خلقي، قال: يارب ولم ذلك، قال: فأوحى الله عز وجل اليه يا موسى أني قلبت عبادي ظهراً لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذل لي نفساً منك يا موسى إنك إذا صليت وضعت خديك على التراب”.
والحديث دعوة للمسلمين لفعل ما كان عليه موسى وعلة لما له من عظيم المنزلة، وفيه موعظة وحث لهم للإقتداء به لأنه على نحو العلة لا الحكمة، لذا ورد في النصوص إستحباب التعفير ووضع الخد على الارض لاسيما في سجود الشكر وهو مستحب عند تجدد نعمة أو دفع بلاء، أو إستدامة فضل سابق من الله تعالى وعند تأدية فريضة او نافلة أو فعل خير أو معروف أو إصلاح بين إثنين وباستحبابه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة أنها ليست مشروعة روي عن عامر بن سعد عن أبيه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ المَدِينَةَ فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ عَزْوَرَا نَزَلَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلاً ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلاً ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ ثَلاَثًا قَال « إِنِّى سَالتُ رَبِّى وَشَفَعْتُ لأُمَّتِى فَأَعْطَانِى ثُلُثَ أُمَّتِى فَخَرَرْتُ سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّى ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِى فَسَالتُ رَبِّى لأُمَّتِى فَأَعْطَانِى ثُلُثَ أُمَّتِى فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّى شُكْرًا ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِى فَسَالتُ رَبِّى لأُمَّتِى فَأَعْطَانِى الثُّلُثَ الآخَرَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّى ( ).
ويكفي فيه مجرد وضع الجبهة على الأرض مع النية ولا يشترط فيه الذكر ولكن يستحب أن يقول شكراً لله أو عفواً عفواً وهو نوع دعاء، ويتحقق بسجدة واحدة ويستحب مرتين، ويتحقق التعدد بالفصل بينهما بتعفير الخدين أو الجبين.
الثلاثون:من آداب الدعاء طرد الملل واجتناب الضجر ومنعه من الالتصاق بالدعاء موضوعاً ومحمولاً ومسالة وقصداً، فكما يضر الرياء بالعبادة فإن الضجر والملل يكونان حاجباً دون الإستجابة، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما فتح لأحد باب دعاء الا فتح الله له فيه باب إجابة فإذا فتح لأحدكم باب دعاء فليجتهدن فإن الله لا يمل حتى تملوا”( )، أي أنه تعالى يستجيب الدعاء الا في حال ضجركم وسأمكم وتكاسلكم لما في الضجر والسأم من ضعف اليقين وقلة الأمل والقعود عن السؤال والتضرع.
الحادي والثلاثون: يستحب مسح الوجه والرأس والصدر باليدين عند الإنتهاء من الدعاء باستثناء الدعاء والقنوت في الفريضة ليس فقط أنه رمز للإستجابة بل على الحس والتقدير معاً بأن الله عز وجل لا يرد اليدين فارغتين، وفيه رضا وقبول وشكر لعطاياه سبحانه وأن لم نعلم نوع ومقدار ذلك العطاء، وعدم العلم غير مخل به، وقد يكون بسبب كبره وعظمة الفصل والعطاء وعدم إمكان استيعابه بأوهامنا وحسابنا.
الثاني والثلاثون:لا ينحصر الدعاء بالحاجة بل حتى بعد إنقضائها كما في قول إبراهيم [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا] ( )، وجاء سؤاله ودعاؤه بعد رفع القواعد من البيت.
الثالث والثلاثون: آنات الزمان وإن كانت أفراداً طولية متساوية حتى قيل ينقسم الزمان إلى أزمنة كثيرة لا تقبل القسمة لقصرها، كما عرف بأنه نسبة المتغير إلى المتغير وأن السرمد نسبة الثابت إلى الثابت، فالسرمد مستمر الوجود بين الأزل والأبد، والأزلي هو المصاحب لمجموع الأزمنة المحققة والمقدرة بالنسبة للماضي، أما الباقي فهو المستمر الموجود في جميع الأزمنة، والأبدي هو المصاحب لجميع الأزمنة محققة و مقدرة بالنسبة إلى المستقبل، والسرمدي يعمها جميعاً، أي أنه لا بداية ولا نهاية له، والزمان أخص إذ أنه يعني مقدار حركة العالم من الأيام والليالي والشهور والسنين والقرون، وحياة وعمر الإنسان من الزمان منقطع.
الا أن فيها تفاوت من حيث الأعراض كضياء النهار وظلام الليل والتقسيم النهاري من صبح وظهر وغروب، والتقسيم الليلي وذلك كله آيات من الله تعالى ودعوة للتفكر في الخلق، وحث على العبادة وأداء الفرائض، وتفضل سبحانه وجعل أوقاتاً للترغيب في الإجتهاد، والحث عليه سواء على نحو الوقت الراتب المحدد في كل يوم أو في كل أسبوع أو عند حدوث حادثة اذ أن الزمان معلوم الآنية مجهول الماهية، والدعاء الة لإستثمار الوقت والله عز وجل جعل الأوقات خزائن لفضله ومناسبة لنزول بركاته وجعل في بعضها خصوصية معينة وأسراراً ملكوتية تتعلق بحركات الأفلاك ومقاديرها، وصحيح أن تلك الأوقات أخفاها الله عز وجل في ساعات الليل والنهار كما أخفى ليلة القدر بين الليالي فقد تفضل أيضاً ببعض الشواهد، إذ وردت بعض النصوص في تحديد ليلة القدر وأوان الدعاء من وأشرفها أوقات الصلوات اليومية الخمسة.
وعن الصادق عليه السلام: “ساعات الليل إثنتا عشرة ساعة وساعات النهار إثنتا عشرة ساعة، وأفضل ساعات الليل والنهار أوقات الصلاة، ثم قال عليه السلام: أنه إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء وهبت الرياح ونظر الله عز وجل إلى خلقه وأني لأحب أن يصعد لي عند ذلك إلى السماء عمل صالح، ثم قال: عليكم بالدعاء في أدبار الصلوات فإنه مستجاب” .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : إن النهار اثنتا عشرة ساعة ، فأول الساعة ما بين طلوع الفجر إلى أن ترى شعاع الشمس ، ثم الساعة الثانية إذا رأيت شعاع الشمس إلى أن يضيء الاشراق . عند ذلك لم يبق من قرونها شيء ، وصفا لونها ، فإذا كانت بقدر ما تريك عينك قيد رحمين فذلك أول الضحى ، وذلك أول ساعة من ساعات الضحى ، ثم من بعد ذلك الضحى ساعتين ، ثم الساعة السادسة حين نصف النهار فإذا زالت الشمس عن نصف النهار فتلك ساعة صلاة الظهر ، وهي التي قال الله[ أقم الصلاة لدلوك الشمس] ثم من بعد ذلك العشي ساعتين ، ثم الساعة العاشرة ميقات صلاة العصر وهي الآصال ، ثم من بعد ذلك ساعتين إلى الليل( ).
وفيه نكتة عرضية وهي أن تقسيم الفلكيين الحالي لساعات الليل والنهار مأخوذ من النظام الإسلامي المبني على تحديد ساعات الصلاة وفرائضها اليومية الخمسة، بالإضافة إلى الفضل الالهي في إمتداد بركة الصلاة إلى ما بعدها لذا جاءت النصوص باستحباب التعقيب.
الرابع والثلاثون: قد تكون للفعل مقدمة، وتلك المقدمة قد تكون شرطاً فهي حينئذ واجبة لوجوب المقدمة لوجوب ذيها كما في الوضوء كمقدمة واجبة للصلاة، وقد تكون المقدمة صفة كمال متقدمة وباب تقريب واستحباب ومن ذلك تقديم الصدقة عند الشروع بالدعاء، اذ أنها باب لنزول الرحمة والتقرب إلى الله تعالى ونوع رأفة وإحسان بين الناس إبتغاء رحمته تعالى ورجاء فضله، وبالإسناد عن معاوية بن عمار عن الامام جعفر الصادق قال: “كان اذا طلب حاجة طلبها عند زوال الشمس، فإذا أراد ذلك قدّم شيئاً فتصدق به وشم شيئاً من طيب وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله”.
الخامس والثلاثون: من فلسفة الدعاء أن منافعه لا تنحصر بالداعي وزمان الدعوة بل تدخر وتحفظ، ويتعاهدها الله لتبرز بآثار مباركة على الذرية والأهل، وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “أنا دعوة أبي إبراهيم”( ).
السادس والثلاثون: إسباغ الوضوء أي الإتيان به تاماً كاملاً شاملاً لجميع مواضعه إستعداداً للدعاء وحسن أدب في ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل وسؤاله، وقد ورد إستحباب الوضوء للحاجة مطلقاً، وعن الإمام الصادق قال: “إني لأعجب ممن يأخذ في حاجة وهو على وضوء كيف لا تقضى حاجته”.
السابع والثلاثون: التضرع إلى الله وسؤاله بأسمائه الحسنى لما فيها من الثناء على الله عز وجل وتعظيمه، كمقدمة مباركة للدعاء تتضمن الإقرار بالوحدانية وإنحصار الإستعانة والإستغاثة به تعالى، بالإسناد عن عبد السلام بن صالح الهروي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن علي قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل تسعة وتسعون إسماً من دعا الله بها استجيب له ومن أحصاها دخل الجنة، وقال الله عز وجل [وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
وأخرج أبو نعيم وابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لله مائة اسم غير اسم ، من دعا بها استجاب الله له دعاءه.
وأخرج الدارقطني في الغرائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل : لي تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد، من أحصاها دخل الجنة( ).
الثامن والثلاثون: يستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واله في كل دعاء في أوله وآخره، ومنهم من أوجبه.
التاسع والثلاثون: من المقدمات المباركة للدعاء الصلاة على النبي واله وبه وردت نصوص عديدة ولأن الله عز وجل أمر بالصلاة على النبي وهي عنوان التسليم والإنقياد لله تعالى بإتباع من إجتبى وإصطفى من خلقه، وورد في نهج البلاغة: إذا كانت لك إلى الله حاجة فابدأ قبل مسالتك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سل الله فإن الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى.
الأربعون: للدعاء مقدمات وله متممات ملازمة له ومنها البكاء او التباكي عند التضرع إلى الله تعالى ، وهو إعلان لصدق الالتجاء واللجوء بالحاجة والقصد والسؤال والإنقطاع إلى الله تعالى ، وعدم إنحصار السؤال باللسان .
فتساهم الجوارح والأركان في المسألة , وصيرورة العبد أقرب إلى الله عز وجل.
الحادي والأربعون : قد يرد الدعاء بمعنى التسبيح والحمد، فليس من تكليف في الجنة ومع هــذا ورد قوله تعالى في مدح أهل الجنة[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أن الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالمِينَ ]( ).
وفي تفسيرها ورد عن ابن عباس أن أهل الجنة كلما إشتهوا شيئاً قالوا سبحانك اللهم فيجيئهم كل ما يشتهون فاذا طعموا قالوا الحمد لله رب العالمين فذلك آخر دعواهم.
إن ورود وتجدد موضوع الدعاء في الجنة وبخصوصية ظاهرة كخاتمة للدعاء والرجاء يدل على الحاجة اليه.
الثاني والأربعون: الدعاء دعوة إلى الله وباب للهداية إلى الدين والرشاد والإمتثال للأحكام الشرعية، كما يعني الإقرار بالربوبية والتسليم بالإرادة الالهية، واللجوء إلى الله تعالى إعتراف صحيح بأن مقاليد الأمور بيده تعالى وله المشيئة.
الثالث والأربعون: الدعاء عنوان سؤال والتماس حاجة , فهو من الإنشاء ولكن قد يرد جملة خبرية التي تأتي أحياناً بصيغة الثناء على الله فيحتسبها الله تعالى دعاء فضلاً منه تعالى وهو سر من أسرار الدعاء وكنز من كنوزه.
الرابع والأربعون: قد يرد الدعاء بمعنى التسمية كما في قوله تعالى [قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَان أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى]( ) فالدعاء هنا بمعنى التسمية يتعدى إلى مفعولين أي سواء تسألونه وتخاطبونه باسم الجلالة أو بالأسماء الحسنى فإنها تدل على الله عز وجل، وقيل إن هذا العطف يصح بالواو ولا يصح ب(أو) لأنها لأحد المتغايرين ولكن الآية جاءت بمعنى التقرير والإمضاء وإتمام الحجة.
الخامس والأربعون: قد يرد الدعاء بمعنى العبادة كما في قوله تعالى [ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ) أي عبادتكم، فالدعاء إقبال على الله ويتضمن قهراً وإنطباقاً الإشتغال بذكر الله وتمجيده تعالى , والإعراض عن غيره.
السادس والأربعون: الإجتماع والإشتراك في الدعاء والتوجه إلى الباري عز وجل على نحو العموم المجموعي سواء كانت المسالة شخصية أو نوعية لموضوعية تعدد السائل والمسألة ولما يعنيه الإجتماع في المسالة من التضامن والالتقاء والإقرار الجماعي بتعلق الحاجات بمشيئته تعالى ، كما أنه مناسبة للإندفاع في العبادة .
السابع والأربعون: التأمين( ) على الدعاء فإنه مشاركة في الدعاء وسؤال الحاجة وتوسل إضافي، وتوكيد للحاجة، وعنوان للصدق في المسالة، وفي المرسل عن الإمام جعفر الصادق قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعا موسى وأمن هارون وأمنت الملائكة فقال الله تعالى : قد أجيبت دعوتكما فاستقيما”( ).
الثامن والأربعون: من القواعد الإمتنانية في الدعاء السعة في صيغته فيجوز أن يكون الدعاء بما جرى على اللسان من بيان للحاجة وذكر للفاقة والمسالة، ويجوز بل يستحب إختيار الدعاء المأثور.
الدعاء والسعي
لقد ترك الأنبياء تراثاً عظيماً في علوم الدين والدنيا تجلت بآيات قرآنية تضمنت أنواراً مباركة على سيرتهم الشـريفة وكيفية إستثمار الزمان والمكان والحال في تعظيم شعائر الله، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
لقد كانت حياة الأنبياء دعاءً وذكراً وتسبيحاً وسعياً في سبيله تعالى . والدعاء بذاته رحمة إذ جعله الله عز وجل باباً لقضاء الحوائج وإذن به تخفيفاً وفضلاً، وإمتاز المسلمون بأن أمرهم الله عز وجل بالدعاء وحثهم عليه وتلك خصوصية ونوع تشريف، وهي لا تتعارض مع تفضيل الله سبحانه لبعض الأمم كبني إسرائيل على أهل زمانهم لأن الأمر بالدعاء يشملهم على نحو عرضي بدخولهم الإسلام لتغير الموضوع، وصدق اسم المسلم على من يأتي بالشهادتين منهم.
عرفت الدنيا بأنها دار فناء، والعلماء هم الأطباء , أما الدواء فهو القرآن والإعراض عنه هو السم، وقد يكون القرآن هو الطبيب والدواء معاً والنفوس قابلة للتداوي، والنقص في العلم والعمل هو المرض، ومن المرض ما هو مركب حينما يظن الشخص جهله معرفة وعلماً.
ولابد من الملازمة بين الدعاء والعمل، بالعمل يصلح الغير وينتفع منه، بالرزق الحلال وتنزيه البطن وطيب المكسب يسمع الدعاء.
وفي الحديث: “أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب أن يستجاب دعائي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم طهر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام”( ) وفيه وجوه:
الأول: هذا الحديث مخصــص لإطــلاق الآية الكريمة [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) التي هي تشريف مركب.
الثاني: تتضمن الآية بالذات هذا التخصيص بورودها بلغة الخطاب، والقدر المتيقن منه أهل الإيمان والذين اقروا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلموا بأن القرآن كتاب من عند الله، أي لا تصل النوبة للحديث الا على أنه مبين للآية وليس مخصصاً لها.
الثالث: هناك منزلة بين المنزلتين وبرزخ وهو أن الرزق الحلال يستجاب فيه الدعاء على الوجه الأتم والأكمل، بعكس إختلاط الحرام بالحلال في الكسب فإنه لا يجعل الإستجابة الا على نحو الموجبة الجزئية لما في التوجه له تعالى من خصوصية بفضله تعالى ولأن من أسمائه سبحانه السميع مما يعني الإطلاق والعموم في سمعه وعلمه تعالى بالدعاء وصاحبه.
والحوائج على نوعين كبيرة وصغيرة، وبينهما مراتب متفاوتة والصغيرة قد تكون كبيرة بلحاظ الحاجة اليها وندرتها أو إنعدامها، أو ترتيب أمور أخرى عليها، فتكون الحاجة اليها كمقدمة وطريق بمقدار الحاجة إلى ذي المقدمة وما تؤدي اليه .
ولا يختص التوجه إلى الله بالدعاء بالحوائج الكبيرة ولا الصغيرة التي يترتب عليها أمر أهم بل مطلقاً في كل ما يحتاجه الإنسان، لأن كل شيء بيد الله تعالى وخاضع لمشيئته، ومستجيب لأمره، ولأن الإطلاق في التوجه اليه عنوان الإيمان وحسن الإتكال وصدق التسليم.
وفي الحديث القدسي: ياموسى سلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك( )، وبالإسناد عن سيف التمار قال: “سمعت الإمام الصادق يقول: عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار”.
في كل آية دعاء
لقد ورد في الحديث أن الدعاء مخ العبادة، مما يدل على موضوعيته والقرآن فيه تبيان لكل شيء، فنستطيع أن نتبين هذا الحديث من الآيات القرآنية التي تتعرض للدعاء، ويمكن القول أن في كل آية من آيات القرآن مناسبة للدعاء أما في منطوقها او في مفهومها سواء كان مفهوم موافقة وهو المعنى غير المذكور فيها ولكنه موافق للمنطوق سلباً وإيجاباً، أو مفهوم المخالفة وهو المعنى المخالف غير المذكور، وكأن الأول من الدلالة المطابقية او التضمنية، والثاني من المداليل الالتزامية، كما في الآيات التي فيها ذكر الجنة وتدعو العبد لدخول الجنة والفوز في المقام فيها والنجاة من النار، أي الدعوة للنجاة من النار لا تنحصر بالآيات التي فيها ذكر النار والوعيد والتخويف بها بل تشمل الآيات البشارة بالجنة إذ تكون في مفهومها مناسبة للدعاء بالنجاة منها.
الدعاء والصلاة
ذكر من وجوه إشتقاق الصلاة أنها الدعاء، فالصلاة نوع دعاء ورجاء وإن كانت فعلاً تعبدياً يؤتى به بداعي أمر المولى، لذا تجد الدعاء يتخلل أفعال الصلاة كلها فالقراءة فيها دعاء وإن جيء به بقصد القرآنية كما في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] ( )، وهناك حالات في الصلاة يتخللها الدعاء ولو على نحو إستحبابي، ومنها القنوت الذي هو مستحب، والدعاء عند التشهد قبله وأثناءه وبعده، والصلاة قربان كل تقي، وخير ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل.
وتعتري النفس الإنسانية خواطر، وهي على قسمين، أما أن تكون للرجاء أو الطمع بما عند الله عز وجل، أو ما يدعو إلى الشر من نزغ الشيطان.
الأول: يسمى الالهام , وهو حسن ومحمود.
الثاني: مذموم , ويسمى الوسواس.
وقسّم أهل العرفان الأول إلى الرحماني والملكي، والثاني إلى الشيطاني والنفساني، وكل قسم يتقدم رتبة على الثاني سواء من الالهام أو من الوسواس.
وهذا التقسيم وإن كان إستقرائياً الا أنه يعكس الصراع بين الإنسان والشيطان في أهم ميادين المعركة بينهما وهي النفس إذ تتجلى مظاهر العداوة وأنواع الأسلحة على حقيقتها وبأشد وجوه الفتك والمقاومة، وقد تنحسم أحياناً لصالح أحد الفريقين فيرتقي الإنسان في مسالك الرشاد ويعيش القلب في أنوار الشريعة، وتلتزم الجوارح بأحكام الحلال والحرام، وتتهيأ النفس لقبول التوفيق وما يعنيه من اللطف والإشتغال بالدعاء , قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ الاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي]( ).
والدعاء قهر للنفس الإنسانية على فعل الصالحات، فهي مع صفائها وفطرتها على التوحيد تمتلك أيضاً القابلية لتلقي أسباب الهوى والإنكباب على اللذات والشهوات الفاسدة وقد تكون مرعى للشيطان، والباب الذي ينفذ منه، فالدعاء جهاد وإصلاح للنفس وسلطان على الجوارح، وتسليط للإرادة الإيمانية عليها.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما منكم أحد الا وله شيطان، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، الا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم ( ).
وهذا الحديث في مفهومه دعوة للتغلب على الشيطان والدعاء من أسمى الوسائل التي يمكن بها قهره والإنتصار عليه بعد أداء الفرائض، ويتصف الدعاء بإمكان ملازمته للإنسان والفزع اليه في كل وقت، إلى جانب حضور المدخر منه في ساعة الغفلة والسهو والإنشغال بالدنيا، والنفس تمتلك مؤهلات الإتصال بالملك والشيطان سواء كان بتوسط القوة العقلية للملك أو القوة الوهمية للشيطان، وإبليس من الجن , قال تعالى [الاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( )، وقيل أن الجن يتصف بالخيال والتمثيل.
والإيمان على قسمين.
الأول: مستقر.
الثاني: مستودع.
فالأول ما كانت التقوى سنخية ثابتة فيه وملكة تصدر عنها أعمال العبد، فيتوجه إلى الدعاء كوظيفة وسلاح وملاذ، أما الثاني فهو الذي تداهمه الشهوات ويسعى الهوى لخذلانه وزحزحته عن منازل الإيمان، فالشيطان يقف على قلبه لإغوائه بمكره وكيده، بينما يتربع العقل على باب الأول أي صاحب الإيمان المستقر وينير سراجه دروب الحياة، والحق أن كلاً منهما المستقر والمستودع يحتاج الدعاء، نعم النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، فكل منهما يحتاج الثبات على الإيمان، الأول بارادة دوام الثبات، والثاني وهو المستودع يحتاج سؤال الثبات.
لقد إحتل الدعاء مكانة عظيمة في تأريخ المسلمين وسيرتهم، فكان غذاء يومياً وسلاحاً حاضراً يلجأ اليه المسلم عند الحاجة وغيرها، والدعاء يطرد الغلو ويمنع من التعدي، والدعاء إلى الباري عز وجل إقرار بالربوبية وإعتراف من منازل الذل والعبودية وإعتبار الإيمان والخضوع والحاجة لله تعالى في الحياة اليومية وإرتكازه في الذهن في حال الرخاء والشدة.
والدعاء باب في المعرفة الالهية فهو إشعاع فكري مبارك للإرتقاء في مسالك الهدى، وسبل النجاة في الآخرة لما يتضمنه من الإخلاص في العبودية واليقين، وهو طريق وسبيل مبارك لمعرفة الباري عز وجل وهو سبحانه غني عن العالمين.
فلسفة الالحاح بالدعاء
الإلحاح في الدعاء والمواظبة في المسألة، والإعتقاد الجازم بأن الحكمة الإلهية تقتضي تأخير الإستجابة وأن الله تعالى أحاط بكل شيء علماً، والإلحاح في الدعاء مدخل كريم لقضاء الحوائج وبلوغ الآمال، وهو نوع إنقطاع لله تعالى ، وتوكيد ذاتي على أن اللجوء له تعالى على نحو الدوام والثبات، وهذا الالحاح مع إستدامته لا يمنع من السعي في الأسبباب بل أن الدعاء سبيل إلى تيسير الأسباب وإضفاء البركة عليها.
ومن منافع الالحاح في الدعاء أنه واقية مما هو أسوأ من أحوال الضيق والشدة، وهو حاجز عن السيئات وإرتكاب الذنوب فمن يرجو يلتزم بأحكام الرجاء، وما يؤدي إلى غاياته، وهو وجه من وجوه الإيمان ومظهر من مظاهره، والنصوص التي وردت في إستحباب الدعاء كثيرة وتبين موضوعيته وما له من إعتبار، وعن زبور داود، يقول الله عز وجل: “يا ابن آدم تسالني وإمنعك لعلمي بما ينفعك، ثم تلح علي بالمسالة فأعطيك ما سألت).
والإلحاح في الدعاء غذاء روحي، ونوع تسلية وإيناس للنفس وللجوارح، وأركان البدن، وفيه دوام الأمل الذي له آثار تبرز في الأعمال، وعن الصادق قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله عبداً طلب من الله عز وجل حاجة فالح في الدعاء أستجيب له او لم يستجب، وتلا هذه الآية [ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى الا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا]( ).
تخصيص الكتاب بخبر الواحد
لقد أصبح من الشائع القول ما من عام الا وقد خص، والقرآن كما فيه عام ففيه خاص، ومن مسائل البحث:
الأول: هل الخاص في القرآن يشمل كل عموماته بحيث نستغني في هذا الباب عن السنة في باب تخصيص عمومات القرآن أي أن القرآن جاء بالخاص لكل عام خصوصاً أن الإجماع والوجدان على أن القرآن يتضمن العام والخاص، والمطلق والمقيد.
الجواب لا، لأن السنة النبوية الشريفة بيان للقرآن، وهي نوع وحي وإخبار سماوي، فمثلاً ورد الحكم بقطع يد السارق والسارقة مطلقاً في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، ولكن السنة النبوية خصصته وأخرجت منه ما كان قيمة العين المسروقة أقل من ربع دينار , وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: القطع في ربع دينار فصاعدا
ولقد ثبت في علم الأصول إعتبار أصالة الإطلاق، فالعام القرآني يبقى على حاله الا أن يخصص بآية أخرى أو بالسنة.
الثاني:نحتاج إلى السنة لتخصيص ذات العمومات أو غيرها.
الثالث: ترك التنزيل موضعاً وباباً للسنة بتخصيص بعض عموماته.
الرابع:تفيد السنة بذاتها تخصيص عمومات الكتاب على نحو إنطباقي فلابد من العمل بالسنة.
وفي الحديث أعلاه دعوة للأخذ والعمل بالسنة الشريفة، وتحذير من الإعراض عنها، ونهي عن تركها وعدم إعتبارها، فلو جاء حديث يتضمن تخصيصاً لعام في القرآن فأما أن نعمل به فيكون مخصصاً، أو نطرحه فنكون قد خالفنا أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن الإجماع والبرهان على أن أمره مدرسة شرعية تتضمن كنوزاً من العلم.
وهناك أحكام في القرآن وردت على نحو الإجمال والإطلاق ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمها بالعلم الحضوري وبالوحي والإخبار الملكوتي على نحو التفصيل رحمة بالأمة وسعة في الحكم، ولو عرضنا هذا الحديث على القرآن فلا تجد في البين معارضة بينهما، ولا يعني هذا أن من الوقائع ما ليس له حكم في القرآن، ولكنه من الفضل الالهي والحجة البالغة على الناس, قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
والحديث لغة هو الجديد من الأشياء، ونقيض القديم، كما يأتي بمعنى الخبر وهو المقصود في المقام، والجمع أحاديث، كقطيع وأقاطيع، وقيل أنه يجمع على حِدثان وحُدثان، ولكن الأول هو المتعارف.
وما إمتاز به الإسلام علم الحديث وهو بالمعنى الإصطلاحي السنة الشريفة، ومع أنه لغة يختص بالخبر، الا أنه في الإصطلاح يشمل السنة الفعلية والتقريرية، وهو بيان وتفسير للقرآن وتفصيل لأحكام الشريعة.
وينقسم الحديث إلى أقسام منها :
الأول : المتواتر وهو الخبر الذي ينقله جماعة عن جماعة تعتبر كثرتهم دليلاً وقرينة على عدم تواطئهم على الكذب، ويحصل بخبرهم العلم والقطع مع إختلاف في عموم القطع به مثل حديث : من كذب عليّ فليتبوأ مقعده في النار).
وفي عددهم في كل طبقة منهم من قال في كل طبقة ثلاثة, ومنهم من جعله أربعة, خمسة,عشرة, أربعين, ومنهم من أوصله إلى السبعين في كل طبقة والأكثر أنه العدد الذي يحصل به اليقين ، والإتفاق على حصوله سواء كان التواتر لفظياً أو معنوياً.
الثاني : خبر الواحد، وهو على أقسام تلتقي كلها بعدم الوصول إلى حد التواتر كالمستفيض الذي يكون رواته في كل طبقة إثنين أو ثلاثة، وخبر الواحد في كل طبقة أو بعضها، والظاهر أن المستفيض قسيم لخبر الواحد لصيغة التعدد في رواته في كل طبقة، وليس قسماً منه، وهو واسطة وبرزخ بين خبر الواحد والخبر المتواتر.
وهذا التقسيم لا يمنع من وجود الخبر الضعيف في المستفيض إذا ما أتفق إتصاف راويه أو رواته في طبقة واحدة بالضعف والجرح وعن القاضي الماوردي : المستفيض أقوى من المتواتر، وليس بتام لأن المستفيض صنف من الآحاد لأنه لم يبلغ مرتبة التواتر , وكل متواتر مشهور وليس العكس.
وأختلف في تخصيص الكتاب بالخبر الواحد أو عدمه على أقوال :
الأول : الجواز.
الثاني : المنع.
الثالث : التوقف.
ولفظ الخبر الواحد فيه عموم ويحتاج إلى بيان وتخصيص بطرح الضعيف منه وعدم إعتبار الحديث الا اذا كان صحيح السند أو أنه مجبور بعمل الفقهاء، وصحيح الدلالة وأن يكون جامعاً لشرائط الحجية، وليس بدليل الإنسداد الذي يعني حجية مطلق الظن، فالعمل بمطلق الظن لا يصلح للتخصيص لأنه يكون حينئذ من باب الإحتياط وهو أصل عملي لا يصلح لتخصيص الكتاب لعدم صلاحية الأصل العملي مع وجود الدليل الذي هو القرآن وإن كان على نحو الإطلاق والعموم.
ويدل هذا المبحث في مفهومه على إمضاء تخصيص الخبر المتواتر للكتاب العزيز للأولوية القطعية ولحجيته مما يستلزم إستحضار نوع مقارنة بينهما فيما يخص موضوع التخصيص، وهو أن الكتاب قطعي الصدور، والخبر الواحد ظني الصدور، لذا إستشكل جماعة وقالوا كيف يقدم الظني على القطعي.
وعندما يرد خبر عادل يخصص عموم الآية القرآنية فتكون هناك إحتمالات :
الأول : طرح الخبر وتكذيب راويه.
الثاني : التصرف بظاهر القرآن وهو العموم والإطلاق، وعدم التصرف بمضمون الخبر وتكون له الحكومة بمعنى التوسعة والتضييق.
الثالث : التصرف في الخبر بما يتلائم مع ظاهر القرآن وتأويله خصوصاً مع الرجوع إلى أحاديث المعارضة مع الكتاب وعموماتها، وإن كان التخصيص غير المعارضة.
الرابع : ترك الأمر وعدم البحث عن الصلة بين الآية والخبر.
وهل نأخذ بالظن بصدق الخبر، أو نأخذ بعموم الآية وطرح دليل حجية الخبر، خصوصاً وأن الخبر لم يصدر الا لبيان الحكم الواقعي مع حكم العقل بوحدة الموضوع في منطوق الآية، ومضامينها، وبين ما جاء به الخبر إذا تم من حيث حجية الظهور وأصل الصدور، وجهة الصدور الجواب في القرآن بيان لغيره, فمن باب الأولوية بيانه لكنوزه ومضامينه القدسية, قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
وقيل بتقديم القرينة على ذي القرينة، والمراد من القرينة هي أصالة عدم كذب الراوي.
أما الأصل الجاري في ذي القرينة فهو أصالة العموم.
وقيل : لولا جواز التخصيص بالخبر المعتبر لزم الغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك، أي لو سلم وجود خبر لا يخالف عموم الكتاب فهو نادر مما ينتج عنه أن طرح النصوص والأخبار المخالفة للكتاب فإن معظم الأخبار تكفى ولا يبقى منها الا القليل النادر).
ولكن هذا القول ليس بتام إذ أن إجراء إحصائية للأخبار أو الخبر الواحد خاصة تظهر أنها موافقة للكتاب في الجملة والحق أن أحكاماً كثيرة تبين بخبر الواحد وبحجية خبر الواحد، وينفتح باب العلمي وينغلق باب الإنسداد، وباب العلمي هو الوصول إلى الأحكام الشرعية الفرعية بالطرق الموصلة لها للعلم بها وإمضائها من قبل الشارع في معظم الأحكام.
وحجية خبر الواحد من المسائل الأصولية المهمة، ومسالة تخصيص الكتاب بخبر الواحد فرع حجيته.
ويمكن إثارة تساؤلات بخصوص الخبر الواحد :
الأول : هل يصح خبر الواحد للعمل به وعدم طرحه.
الثاني : هل العمل به مطلق.
الثالث : أنه ينحصر بالتوصليات والمواعظ.
الرابع : أنه ليس بحجة في تخصيص الكتاب العزيز.
الخامس : أن حجيته مطلقة وليس من دليل على تقييدها.
وخبر الواحد هو الخبر الذي إتحد طريق سنده، ولم يحصل منه القطع بثبوت مؤداه في قبال الخبر المتواتر الذي يرويه جماعة عن جماعة مع إمتناع تواطئهم على الكذب مما يفيد العلم, ولا يوجد خبر الواحد العدل العلم ولكنه موجب للعمل.
وهو من أهم ما يبحث في علم الأصول كوسيلة تعبدية لإحراز صدور الدليل من الشارع، وتتوقف عليه جملة من الأحكام الشرعية لإعتبار جهة الصدور والوثوق بالخبر الواحد الذي يقع في طريق الحكم الشرعي، وكون هذا البحث ليس معروفاً في أيام الإسلام الأولى لا يعني أنه مستحدث، بل أن كثيراً من النصوص تدل في مفهومها على إطلاق حجة خبر الثقة إطلاق المسلمات في ذلك الزمان.
ويمكن الإستدلال بالسنة الفعلية بإرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمراء والسعاة وغيرهم آحاداً إلى القبائل والأمصار ليقوموا ببيان السنن وتبليغ الأحكام الشرعية .
وإجماع علماء الإسلام على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولا عبرة بخلاف بعض متكلمي المعتزلة, ولم يحصل الإجماع على قبول الحديث المرسل,ولكنه ثروة علمية لا تترك .
وهناك شواهد من السنة التقريرية تدل على عدم ردع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عند عملهم بخبر الواحد.
هذا بالإضافة إلى إرشادهم إلى ما وافق الكتاب والسنة، والإعراض عما خالفهما من غير تفصيل بين الخبر المتواتر أو خبر الواحد، كما كان أئمة المسلمين يحثون على تدوين الحديث وضبطه.
وفي كتاب القضاء نصوص كثيرة تدل على الأخذ بخبر الواحد منها الأخبار العلاجية عند التعارض بين خبرين للأخذ بأحدهما، أما على سبيل التعيين أو التخيير من دون الإشارة إلى جهة الصدور ومدخليتها في الترجيح.
وإستدل المشهور على حجية خبر الواحد بالكتاب والسنة، ومنها مفهوم آية، النبأ وهي قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ]( ).
ففي الآية أمر بالتبين عن النبأ بشرط أن يكون الذي يأتي به فاسقاً وهذا هو المنطوق، أما المفهوم فهو أن خبر العادل لا حاجة إلى تبيينه لوضوحه وقربه من الدليل القطعي، وبالإضافة إلى مفهوم الشرط أستدل بها من باب مفهوم الوصف.
إن وجوب التبين ملازم لفسق حامل النبأ ومعلق عليه فينتفي بإنتفاء هذه الصفة فيقبل ويصدق عليه إن كان المخبر عادلاً، ويعتبر مفهوم هذه الآية عند المشهور دليلاً على حجية خبر الواحد.
وأستدل على الحجية بمفهوم الشرط وهو وجوب التبيين عن الخبر الذي إنحصر بإتيان الفاسق له وهو يدل في مفهومه على القبول عند إتيان غير الفاسق به لإنتفاء المشروط بإنتفاء شرطه خصوصاً وأن الجزاء لم يتوقف على الشرط كما في صورة إن رزقت ولداً فاختنه، فعند عدم الولد ينتفي الموضوع، والأمر مولوي تعبدي.
وأستدل أيضاً بآية النفر، وهي قوله تعالى [ وَمَا كان المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا اليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، إذ تدل الآية على موضوعية الإنذار وتعقبه بالحذر العام الذي يكشف عن ترتب الحجة على إخبار الفقيه المنذر.
وأســـتدل على حجية خبر الواحـد بآية الكتمان، وهي قوله تعالى [ أن الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنزَلْنَا مِنْ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ ]( ) ، وتحريم الكتمان يدل في مفهومه على وجوب الإعلان الذي له أثر بالحجية والقبول.
وأستدل أيضاً بآية السؤال وهي قوله تعالى [ فَاسْالوا أَهْلَ الذِّكْرِ أن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ]( )، والأمر بالسؤال يدل على حجية الجواب وإفادته للعلم.
وقد ناقش القائلون بعدم حجية الخبر الواحد في الإستدلال بالآيات المتقدمة، ففي آية النبأ قالوا بأنه لا مفهوم للجملة الشرطية إذ كانت مسوقة لبيان موضوع الحكم، ولا يعقل فرض الحكم بدون الشرط فالحكم فيها الأمر بالتبيين فلا يعقل فرض التبيين إذا لم يأت الفاسق بالنبأ لأنها تكون سالبة بإنتفاء الموضوع، فلا يمكن إن يقال إن لم يأتكم فاسق بالنبأ فلا تتبينوا، إذ أن الأصوليين إتفقوا على إنعدام المفهوم لهذا النوع من الجملة الشرطية.
والحكم بالتبيين معلل في الآية الكريمة بالإحتراز من الوقوع في الجهالة وهو طبيعي كلي لأخبار الآحاد لعدم ثبوت العلم فيها فتكون كالقرينة على نفي المفهوم.
واجيب على الإستدلال بآية النفر بوجوه منها أن حجة قول المنذر متعلقة برأيه وإستنتاجه لا بما هو إخبار وشهادة.
واجيب على الإستدلال بآية السؤال بوجهين :
الأول : أن كان المراد بأهل الذكر أهل الكتاب فأن مورد الآية أصول العقائد وعلائم النبوة، وخبر الواحد ليس بحجة في أصول العقائد والسؤال أعم منه، وإن كان المراد بأهل الذكر أئمة المسلمين فلا صلة للسؤال بحجية خبر الواحد، وقد يُراد من السؤال التعدد والكثرة، وتلك الردود قابلة للطعن, وهي من الدقة العقلية التي تتضمن التشديد والتضييق وتفويت ثروة علمية عظيمة.
وتابع النافون لحجية خبر الواحد كلام القائلين بحجيته بالإستدلال بالكتاب والسنة والاجماع والعقل، ومن الكتاب قوله تعالى [ أن الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الحَقِّ شَيْئًا ]( )، فإن الآية تنهى عن العمل بالظن، وخبر الواحد وإن كان أمارة ظنية ولكنه غير مشمول بإطلاق النهي عن العمل بالظن للسيرة القطعية بالأخذ بأخبار الثقاة وإمضاء العمل بها في الشرعيات، وعدم الردع عن الأخذ بخبر الثقة كما أن خبره يفيد عند العقلاء الإطمئنان.
وهذه الآيات تفيد وجوب العلم لدفع الضرر وإن كان أخروياً، والنهي عن الظن غير المعتبر الذي لا ينتج عنه نوع طمأنينة، كما أن القدر المتيقن من النهي هو خبر الفاسق، أي بسبب عرضي وهو الفسق ولا واسطة بين العادل والفاسق لعمومات قوله تعالى [ إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ]( ).
وإستدل السيد المرتضى على عدم حجيته بالإجماع، وجعل العمل بخبر الواحد مثل العمل بالقياس، ولكن الإجماع لم يثبت وإن تابعه ابن إدريس ونفر معه بل الإجماع بخلافه.
ولكن إجماع السيد المرتضى يمكن أن يناقش لأن المشهور بين المتقدمين والمتأخرين هو حجية الخبر الواحد، والإجماع المنقول هو من أفراد الخبر الواحد.
وحمل قولهم عدم حجية الخبر الواحد على الخبر الضعيف غير الموثق، ولكن بعض أقوال المنكرين في المباحث الفقهية تفيد عدم إعتبار خبر الواحد وإن كان ثقة.
وأستدل المنكر بالروايات التي تنهى عن العمل بالخبر المخالف للكتاب والسنة ومما ليس عليه شاهد من الكتاب والسنة وهي نصوص متواترة، ولكنها أجنبية عن المقام فحتى الذي يقول بحجية الخبر الواحد لا يأخذ بها، لأن التخصيص غير النسخ خصوصاً وأن السنة لا تنسخ القرآن على المختار، وإن إدعى في معالم الدين الإجماع على نسخها للقرآن.
أما بالنسبة للأخبار التي تدل على المنع عن العمل بالخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنها تحمل على حال التعارض والتنافي، والتخصيص خارج عن موضوعنا بالتخصص.
ومع القول بحجية خبر الواحد لابد من الإشارة إلى أمور تتعلق بالعمل بخبر الواحد وهي :
الأول : أن لا يكون مخالفاً لدليل قطعي الصدور كالقرآن الكريم، وبذا يكون النزاع صغروياً، فالمدار على القرآن، ومن بعده الخبر المتواتر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط)( ).
الثاني : أن يكون الخبر حسياً لأن عمدة أدلة حجيته الأدلة اللفظية والسيرة التي مناط العمل فيها الخبر الحسي لا الحدسي.
الثالث : وثاقة الراوي كشرط في العمل بخبره بالإضافة إلى شرط الإسلام والعقل.
وفي هذا الزمان إتسعت الدراسات في كل ميادين العلوم وإزدادت تشعباً وتفصيلاً، فمن المناسب أن توضع رسالة خاصة يذكر فيها كل خبر من أخبار الآحاد أعتمد طريقاً ودليلاً، وما إذا كان هناك دليل آخر يفيد العلم شارك خبر الواحد في بعض الأحكام الشرعية بما يفيد الحصر والإستقراء.
الإدغام
الإدغام لغة الإدخال، يقال أدغم الفرس اللجام أي أدخله في فيه، قال ساعدة بن جؤية :
بمقربات بأيديهم أعنتها
خوص إذا فزعوا أدغمن باللجم( )
وقال الأزهري : إدغام الحرف مأخوذ منه، وقيل إشتقاق هذا من إدغام الحروف، (قال ابن منظور : وكلاهما ليس بعتيق إنما هو كلام نحوي.
أما في الاصطلاح فهو التقاء حرف ساكن بحرف متحرك فيصيران وكأنهما حرف واحد بسبب شدة إتصالهما، ويرفع اللسان عنهما رفعة واحدة شديدة نحو شدّ ومدّ.
وعلة الإدغام ما في التكرار من ثقل فغايته التخفيف وحروف الإدغام ستة وهي : الياء والراء
والميم واللام والواو والنون، جمعت بكلمة يرملون وتدغم النون مع كل حرف من هذه الحروف.
وللإدغام تقسيمان :
التقسيم الأول : بلحاظ نقصه وتمامه وهو على ضربين :
الأول : إدغام ناقص: وهو إدغام بغنة, وحروفه الياء والنون والميم والواو تجمعها كلمة ينمو، وسمي هذا الإدغام ناقصاً لبقاء النطق بالنون مع الغنة، فاذا سبق النون أحد هذه الحروف فإنها تقلب إلى حرف مماثل ثم تدغم مع إظهار الغنة، فالنون يبقي أثرها، ولكنها تخرج من الخيشوم، أي من الأنف وعندي أن إخراج الكلام من الأنف من المولودين في الإسلام والفتوحات, ولا أصل له في كلام العرب والبادية، وقد أختلف في مخارج الحروف والأعضاء التي تصدر منها الحروف، وعدّها الخليل سبعة عشر مخرجاً، أما سيبويه فجعلها ستة عشر مخرجاً، ومنها :
الأول : أقصى الحلق.
الثاني : وسط الحلق.
الثالث : أدنى الحلق.
الرابع : أقصى اللسان، ولكل منها حرف أو أكثر يخرج منها.
والخيشوم يخرج منه النون والميم المشددان، وكيفية معرفة مخرج الحرف فتح الفم بالألف ثم النطق بالحرف فتعرف بمخرجه مقره وإستقراره، أي إستقرار الحرف، فتقول (اب) لبيان مخرج الباء وهو الشفتان والميم وتسمى الحروف الشفهية، وأقصى الحلق الهمزة، ووسط الحلق العين والحاء، وقيل أن لكل حرف مخرجاً.
ولا يجب على المكلف معرفة مخارج الحروف على طبق ما ذكره علماء التجويد، ومن أهم الحروف التي يلزم مراعاة قواعد النطق عند التلفظ به (الضاد) وقد ينشغل بعض أهل العلم في كيفية التلفظ به تمريناً وإتقاناً، ومخرجه من بين أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس، ويكفي الصدق العرفي للتلفظ بهذا الحرف، وإن خرج من غير التفات إلى الكيفية التي يخرج بها.
وإذ أجمع أهل التجويد على الغنة بحرفي النون والميم المشددين مع النون الساكنة أو مع غيرها، فإنهم إختلفوا في الياء والواو, فقد روى خلف عن حمزة الزيات أنه كان يدغمها مع النون الساكنة من غير غنة.
ومن أمثلة الإدغام بغنة :
عن نفسي : تقرأ : عنّفسِ( ).
فضلاً من الله: تقرأ : فضلمن الله( ).
ومن يعمل : تقرأ : ومي يعمل( ).
كتاب مبين : تقرأ : كتابمبين.
وتظهر النون في نون والقلم، ويس والقرآن أي عدم الإدغام فيها.
الثاني : إدغام كامل : وهو إدغام بغير غنة، وحروفه هي اللام والراء، ويراد بالإدغام الكامل عدم بقاء أثر للنون الساكنة أو للتنوين، أي أن أثرهما لفظي ينعدم وتزول الغنة أيضاً، لذا يسمى كاملاً أي الغنة هي الأخرى غير موجودة فالنون إذا لاقت لاماً تقلب لاماً، وإذا لاقت راء تقلب راء وتدغم فيهما، وقيل العلماء متفقون على إدغام النون مع اللام والراء من غير غنة.
ومن أمثلة إدغام النون مع اللام والراء :
أن لا تقرأ، تقرأ : الا تقرأ.
يبين لنا( )، تقرأ : يبيلنا.
ولكن لا يعلمون( )، تقرأ : ولكل لا يعلمون.
من ربهم : تقرأ : مر ربهم.
غفور رحيم : تقرأ : غفورحيم.
وقال علماء القراءة في سورة الفاتحة تقرأ بالإدغام في الله، الرحمن، الرحيم، الدين، الصراط، الضالين، والإدغام هنا للام فلا تظهر في القراءة بل تتحول إلى حرف مماثل للحرف الأول من الإسم، وتظهر خفيفة بالتشديد في تلفظ للحرف الأول ولكنها تبقى في الكتابة، أما في المصحف فتوضع شدة فوق الحرف الشمسي مثل الرحمن، الصلاة الزكاة.
ويحتمل الإدغام بلحاظ إعتباره وجوهاً :
الأول : له موضوعية في اللغة العربية.
الثاني : متعارف للرسوم في النهج العربي السليم.
الثالث : إنه نوع طريق لإحراز الإتيان باللفظ وفق القواعد والأصول.
الرابع : إنه من التخفيف اللساني الذي جاء مع كثرة المولدين وصعوبة تلفظ جماعات من الذين دخلوا الإسلام وسعوا جاهدين لتعلم العربية، مع وجود أدلة على قواعد الإدغام.
ويستحب الإدغام في مثل إذهب بكتابي، ويدرككم، مما إجتمع فيه كلمتان متماثلتان مع كون الأول ساكناً، وتظهر اللام الموجودة في الحرف مثل بل [بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ]، الا إذا وقع بعدها لام أو راء، فتدغم على وجهين :
الأول : للتماثل مع اللام : مثل قوله تعالى[ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ]( ).
الثاني : إذا جــاء بعدها راء فللتقارب بينهما كما في قوله تعالى[بَل رَبُّكُمْ].
أما لام الفعل أي التي وقعت في وسطه أو آخره وسواء كان الفعل ماضياً أو مضارعاً أو أمراً فحكمها الإظهار، مثل قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ](1).
التقسيم الثاني : للإدغام وهو بلحاظ تباين هيئة وحركة الحرفين، فالإدغام الكبير هو الذي يكون أول الحرفين فيه متحركاً، أما الإدغام الصغير فما كان الحرف الأول فيه ساكناً وهذا السكون على وجوه :
الأول : واجب.
الثاني : ممتنع.
الثالث : جائز.
وسمي بالكبير لوجوه منها:
الأول : كثرة وقوعه ولأن الحركة فيه أكثر من السكون، أو لتعدد وجوهه فإنه يشمل أقسام المثلين، وهما ما إتفقا مخرجاً وإختلفا صفة، والجنسين وهما ما إتفقا صيغة وإختلفا مخرجاً، والمتقاربين ما تقاربا مخرجاً أو صفة مثل الباء مع الفاء[وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ]( ).
الثاني : كثرة العمل به.
من قواعد الإدغام أنه ليس مطلقاً بمعنى أن هناك مواضع في اللغة مستثناة من الإدغام ولا تجري فيها قواعده فالإدغام يتحقق إذا التقت النون الساكنة أو التنوين مع أحد حروف يرملون في كلمتين، والتقييد بكلمتين يخرج التقاؤهما بكلمة واحدة، فتظهر النون حينئذ مثل (بُنيان) [أن اللَّهَ يُحِبُّ الذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كانهُمْ بُنيَان مَرْصُوصٌ ]( ) ، ومثل قنوان [وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَان]( )، ومثل بنا، أنا، وأستشهد بما يبدأ بالنون كالناس باعتبار أن النون من الحروف الشمسية.
وقيل بالإدغام إذا كان بعد النون الساكنة أو التنوين أحد حروف يرملون فيما عدا اللام والراء.
وأحتج على وجوب الإدغام بدليل أنه مقتضى النهج العربي المعتبر في أداء الكلمات، وأدعي عدم ظهور الخلاف من الفقهاء في وجوبه وإن ترك الإدغام من الغلط، ولكنه أول الدعوى ويحتاج إلى بينة ودليل نقلي أو عقلي.
والمتيقن من الإجماع في حال ثبوته هو إعتبار الفصاحة في الجملة وقد أستعمل في القرآن بالإدغام وغيره، ومن الأول مد الأرض ومن الثاني (فليمدد له الرحمن مداً) ( )، وتحصيل الإجماع على الإدغام ورفعه أمر ليس بالسهل.
مسائل
الأولى : الإدغام إذا كان بعد النون الساكنة أو التنوين احد حروف يرملون مستحب، والأقوى عدم وجوبه لصدق الكلام بدونه وللأجر والثواب بقراءة كل حرف من القرآن، وكذا عدم وجوب الغنة وصحة الكلام بدونها وأحياناً تنفر النفس من إخراج الغنة.
الثانية : المدار في إخراج الحروف على صدق التلفظ بها، فلا تجب معرفة مخارجها وفق ما ذكره علماء التجويد لأنه نوع طريق لإحراز صدق التلفظ، وليس من دليل تعبدي على لزوم تلك القواعد كجعل أول احدى حافتي اللسان وما عليها من الأضراس مخرجاً للضاد، وطرف اللسان، وطرف الثنايا مخرجاً للظاء والذال والثاء.
الثالثة : المد الذي يتوقف أداء الكلمة مادة أو هيئة عليه مثل ضالين واجب بالمقدار الذي تصدق معه صحة اللفظ وإفادة المعنى، اما المد الذي يكون بعد أحد حروف المد، وهي الواو المضموم ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها، والالف المفتوح ما قبلها فهو من المحسنات في الجملة وبحسب المتعارف تكون من المستحبات، كما لو كان المد بمقدار حرف الالف مرتين، وقيل أربع مرات، والمدار على عدم خروج الكلمة عن معناها.
مس المصحف
قال تعالى[أنهُ لَقرآن كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ الا المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ]( ) اللام في لقرآن مزحلقة والجملة جواب لقسم لا محل لها من الاعراب.
لا : نافية، ويمسه : فعل مضارع ومفعوله، وإلا : أداة حصر، المطهرون : فاعل يمسه.
وقيل لا : ناهية، ويمسه يكون حينئذ فعلاً مضارعاً مجزوماً بلا ولكنه لما أدغم حرك آخره ورفعت السين بدل سكونها لأجل الإدغام فكانت الحركة ضمة إتباعاً للهاء، والأول ورد في قراءة عبد الله بن مسعود البيانية ولعله لإظهار أن عبد الله بن مسعود قرأها للبيان والتفسير والإيضاح ولم يثبت أن تلك قراءته، وإصطلاح (البيانية) يفتح لنا باباً لدراسة القراءات القرآنية فما قيل عن قراءات مخالفة قرأها عبد الله بن مسعود قد يكون أكثرها للبيان.
ومثل هذا الفعل البياني يتكرر في أداء الصلاة وقراءة القرآن لأن المسلمين في كل زمان يسعون إلى القراءة الصحيحة التي إستقرت على الذي بين الدفتين.
وقال الرازي : إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ، فالصحيح أن الضمير في [ لاَ يَمَسُّهُ ] للكتاب، فكيف يصح قول الشافعي : لا يجوز مس المصحف للمحدث.
والمعروف أن الدلالة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : الدلالة المطابقية.
الثاني : الدلالة التضمنية.
الثالث : الدلالة الالتزامية.
فالأولى : تعني دلالة اللفظ على تمام ما وضع له كدلالة المركبة على جميع ما تتضمنه من الأجزاء.
والثانية : دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة لفظ الدار على بعض غرفها، أو دلالة لفظ البستان على بعض أشجاره ، وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ] ( ) إذ قال جماعة من المؤمنين : إذا لقينا العدو لن مفر ولن نرجع عنهم ، وعندما وقعت معركة أحدلم يقوا بما وعدوا وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشج وجهه .
والثالثة : دلالة اللفظ على لازم معناه كدلالة المصباح على الإنارة والدرس على العلم.
وهل لنزول القرآن من السماء دلالة على وجوب الوضوء عند مس المصحف من الأدلة الثلاثة بما يفيد إكرامه وعدم إهانته.
وصحيح أن الإكرام قد يتحصل مسماه بالقراءة والعمل بأحكامه وإجلال القرآن وتعاهده الا أن ذلك لا يمنع من الإستدلال بالدلالة الالتزامية بأن القرآن كلام الله، ومن وجوه إكرامه عند مسه .
وكما أننا لا نقف بين يدي الله في الصلاة الا على طهارة ووضوء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) كذلك مس كلامه ولكنه من القياس الذي لا يفيد الظن المعتبر كأن يقال تحتاج الصلاة إلى طهور لأنها وقوف بين يدي الله، وقراءة كلام الله كأنها وقوف بين يديه تعالى فتستلزم القراءة الوضوء والطهارة، وقد يقال أنه من الإستحسان وهو رجحان ينقدح في نفس الفقيه يتعلق بحكم خاص لموضوع معين عند ملاحظة القرائن والأمارات في بابه من غير دليل عليه بالخصوص.
وفي الفقه مثلاً يقال حرمة تخيل صورة المرأة الأجنبية بواسطة حرمة حال النظر واللمس والتقبيل ونحوها، والمدار على حرمة المس من غير طهر على النصوص المعتبرة شرعاً منها ، وفي معنى المطهرين في الآية وجوه :
الأول : لا يطلع على الكتاب المكنون في اللوح إلا الملائكة المطهرون وهم مطهرون من الكدورات الجسمانية .
الثاني : لا يمس القرآن إلا المطهرون من الأحداث ، فيكون النفي في الآية بمعنى النهي ، فلا يجوز للجنب والحائط والمحدث مس المصحف (وأخرج عبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبدالله بن أبي بكر عن أبيه قال : في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم : لا تمس القرآن إلا على طهور .
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ، فخرج إلينا فقلنا : لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن ، فقال : سلوني فإني لست أمسّه إنما يمسه المطهرون ، ثم تلا { لا يمسه إلا المطهرون } .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يمس القرآن إلا طاهر ) ( ).
الثالث : لا يطلبه إلا المنزهون والمطهرون من الكفر ، لذا قال تعالى [أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ] ( ) أي تتعمدون التهوان .
(وأخرج ابن سعد وأبو يعلى والحاكم والبيهقي في الدلائل ، عن أنس قال : خرج عمر متقلداً بالسيف لقيه رجل من بني زهرة فقال له : أين تغدو يا عمر ، قال : أريد أن أقتل محمداً . قال : وكيف تأمن بني هاشم وبني زهرة؟ فقال له عمر : ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك! قال : أفلا أدلك على العجب؟! إن أختك وختنك قد صبآ وتركا دينك ، فمشى عمرا زائراً حتى أتاهما ، وعندهما خباب ، فلما سمع خباب بحس عمر ، توارى في البيت ، فدخل عليهما فقال : ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم وكانوا يقرأون { طه } فقالا : ما عدا حديثاً تحدثنا به . قال : فلعلكما قد صبأتما . فقال له خنته : يا عمر ، إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديداً : فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها ، فنفخها نفخة بيده فدمى وجهها . فقال عمر : أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأه ، فقالت أخته : إنك رجس وإنه { لا يمسه إلا المطهرون }( ) فقم فتوضأ ، فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ { طه } حتى انتهى إلى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } فقال عمر : دلوني على محمد ، فلما سمع خباب قول عمر ، خرج من البيت فقال : أبشر يا عمر ، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك ليلة الخميس اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ، أو بعمر بن هشام فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .) ( ).
والكريم الذي تجتمع فيه وجوه الفضل والذي لا يلجأ إلى غيره عن حاجة، لذا يسمون الذي لا يسال الناس كريم النفس، والكرم صفة لازمت السخاء والعطاء وهي تصدق على القرآن وكل ما يطلب تجده فيه ويعطيه، فصفة الكرم له سماوية وليست كسبية بل هي بالأصل والذات، ففيه أحكام الشريعة والعلوم وأبواب الرزق والمغفرة وهو سلاح إلى الآخرة، ثم ما المراد من الكتاب في الآية خصوصاً وأن الجملة وردت في معنى الظرفية مما يدل في ظاهره على الغيرية، فالكتاب هو المصحف والمحتوى هو القرآن كما قيل، ووصفه الله تعالى بالمكنون الذي يعني أنه محفوظ بعناية تمام الحفظ موضوعاً ومضموناً وغرضاً وإفاضة.
ومن الإعجاز أن ترى المسلمين والمسلمات يتعاهدون النسخ الشخصية من المصحف الجديدة والقديمة، المطبوعة والمخطوطة، وتزداد النسخ لتبلغ الملايين ونقول الحاجة إلى المزيد، ومعها تحفظ وتكرم هذه النسخ مع الإستعداد على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي لحفظ القرآن.
وقد لا ترى في قوانين الحكومات العربية والإسلامية أنظمة سنت لمعاقبة الذين يحاولون هتك القرآن على نحو الخصوص والتعيين، فهل هو تقصير، الجواب: لا، لأنها سالبة بإنتفاء الموضوع فلا تستلزم قانوناً وضعياً لها بالخصوص للإكرام العام لأحكام الشريعة، ونسال الله تعالى أن يكون ذلك مستديماً باللازم والملزوم معاً، والظاهر أن الكتاب غير المصحف بالذات كوعاء للقرآن، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى [ بَلْ هُوَ قرآن مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ]( )، وقيل أن اللوح المحفوظ مستور لا يطلع عليه الا ملائكة مخصصون.
وقوله تعالى [لاَ يمَسُّهُ] الضمير يعود فيه إلى القرآن، وقيل إلى الكتاب، والظاهر أن المراد هو القرآن، والجملة خبرية، ولكن هل تكون بمعنى الإنشائية ويستفاد منها الأمر.
والخبر كما يعرف في علم المنطق هو المركب التام الذي يصح أن يوصف بالصدق او الكذب، وهو متعلق التصديق، وتارة لا يكون للكلام نسبة تامة ظاهرة في الواقع تطابق الكلام أو لا تطابقه، بل أن المتكلم يوجد المعنى بلفظ المركب والذي يسمى الإنشاء إذ لا يصح أن نصفه بصدق او كذب لأن معانيه توليدية من اللفظ كالأمر والنهي والاستفهام والتمني والتعجب والايقاع.
فهل الآية أمر بالوضوء حين إرادة مس كتابة القرآن أم لمس الكتاب مطلقاً أي غلافه وأوراقه لإطلاق اسم القرآن، وربما نوقش في الكبرى وهي تعلق الآية بالمقام وأحكام المس، وأن المطهرين غير المتطهرين، والأقوى إفادة ذات المعنى، ولكنه لا يمنع من حمل الآية على فهم معاني الكتاب ومعرفة تأويلها.
فعمومات تفسير السنة للقرآن يدل على المعنى الأعم للآية،
فقد كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمرو بن حزم: “لا يمس القرآن من هو على غير طهر”( ).
والأقوى أن الوضوء مستحب نفسي لمحبوبيته عند الله وواجب غيري وهو المشهور، وإن أنكر جماعة الإستحباب النفسي للوضوء وقالوا أنما يترشح عليه الإستحباب من غاياته المستحبة.
وللوضوء غايات واجبة أهمها أنه مقدمة للصلاة الواجبة كالفريضة اليومية، والطواف الواجب الذي يكون جزء من الحج أو العمرة وإن كانا مندوبين، ومس الكتاب موجب للوضوء وفيه تفصيل يتعلق بسبب المس وموضوعه، فاذا وجب فلابد من الوضوء كمقدمة لمسه لوجوب المقدمة بسبب وجوب ذيها، كما لو كان مس كتابة القرآن واجباً بالنذر، أو أنه وقع في موضع يجب إخراجه منه، أو لتطهيره إذا صار متنجساً حال الإخراج، أو توقف التطهير على مس كتابته بشرط أن لا يكون التأخير بمقدار الوضوء موجباً لهتك حرمته.
أما لو لم يكن مس الكتابة واجباً، كما لو كان يقرأ القرآن فهل يجب الوضوء، الأقوى: لا، مع عدم جواز تعمد المس من غير وضوء .
ويجوز النذر بالوضوء عند قراءة القرآن، وفيه تفصيل بلحاظ النية واللفظ، فاذا نذر أن يتوضأ عند قراءته القرآن فلا تجب القراءة، ولكن لو أراد القراءة فلابد من الوضوء لعمومات أدلة النذر ورجحانه لأن القراءة مع الوضوء أفضل من القراءة من غير وضوء.
أما لو نذر أن يقرأ القرآن مع الوضوء فلابد حينئذ من الجمع بين الأمرين لأن النذر مركب منهما.
وهل تنحصر حرمة مس كتابة القرآن على المحدث بيده أم تشمل الحرمة سائر البدن، ولو بالأجزاء الداخلية للبدن كالأسنان واللسان، الجواب: أن الحرمة عامة لإطلاق الدليل وصدق اسم المس على جميع الأجزاء، أما المس بالشعر فالأقوى عدم حرمته والأحوط إجتنابه، ومنهم من فرق بين الشعر الخفيف والكثيف، وقال بصدق المس في الأول كما لو مس الكتابة بشعر لحيته الخفيف أو بشعر ذراعه فيصدق عليه أنه مس الكتابة فيشمله الدليل الدال على حرمة مس الكتابة من غير طهر، ولكن إطلاقات الأدلة حاكمة وبالامكان التفرقة بين مس الوجه وشعر اللحية، وبين مس اليد وشعرها.
والأقوى شمول الحرف الذي يُقرأ ولم يكتب، كالالف في رحمن ولقمان إذا كتب كرحمان ولقمان لأنه صحيح حسب قواعد الكتابة ولأنه جزء من القرآن المقروء وإن لم يكن جزء من القرآن المكتوب بين الدفتين في المصحف، وإنما كتب القرآن المتعارف أيام الخليفة عثمان بن عفان بالكيفية الحالية رحمن، لقمن، وظل عليها إلى الآن وهو الأنسب، أي بقاؤه على نفس الهيئة والكيفية، وعدم الإجتهاد والتغيير في كتابة حروفه، فلو كتبت كلمة الرحمن بالالف فلا يجوز مسه أيضاً، خصوصاً وأن الحرمة تشمل ما اذا كانت الكلمة القرآنية في المصحف.
والأقوى جواز مس ما على الدراهم والنقود لتغير الموضوع ولعدم الجزئية من القرآن ولقاعدة نفي الحرج وفي خبر محمد بن مسلم عن الامام الباقر قال : “سالته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب؟ فقال: أي إني والله لأوتى بالدرهم فآخذه وأنا جنب”، والدرهم الابيض عليه سورة من القرآن، ويمكن مناقشة الرواية سنداً ودلالة خصوصاً وأن الحكم لا ينحصر بالدرهم، بل يمكن إستظهار الجواز للأعم من الدرهم لعدم خصوصية الدرهم بل يشمل غير المصحف مما هو مستعمل كالإناء والثوب والكفن، والرواية ضعيفة سنداً بالإرسال.
قاعدة رجالية جديدة
الذي لم يرد فيه مدح ولا ذم أعم من الضعيف، فإذا روى عنه الثقة فهو أرقى من الضعيف وإن لم يرق إلى الحسن أو الموثق وكأنه برزخ بين الحسن وبين الضعيف، فلا بأس بأن نستحدث عنواناً وصفة لمثل هذا ونطلق عليه عنوان (المعتمد) وهو الذي روى عنه الثقات ممن لم يذكر بمدح أو ذم، وكذا يشمل من كان من مشايخ الإجازة، وإن لم يكن مذكوراً في كتب الرجال وإنما ذكر في الطرق وهو كاف لعدم إسقاطه من الإعتبار.
وحرمة المس مطلقة بلحاظ أوان الفعل وإستدامته فلا فرق فيه بين الإبتداء والإستدامة، فلو كانت يده على الخط فاحدث فلا يجوز إبقاؤها بل يجب رفعها فوراً، وقد يستلزم الأمر التوضأ أو التيمم، أو لا يستلزم كما لو كان الحدث النوم أو الريح فله حينئذ أن يستمر على القراءة من غير أن يمس الكتابة، ولا تنحصر بالآية القرآنية بل تشمل الكلمة والحرفالقرآني وإن كان لا يقرأ كالالف في قالوا وآمنوا، ولو مسه غفلة ثم التفت أنه محدث فلا يجوز له المس حينئذ.
وحرمة المس تشمل وجوه الكتابة المختلفة، فالخط بلحاظ المكتوب عليه ونوع الكتابة ينقسم إلى :
الأول : الخط الظاهر الذي يبرز كنتوء على سطح القرطاس او الجلد.
الثاني : الخط العادي الذي لا يبرز على سطح القرطاس والجسم المكتوب عليه، وهو المتعارف في الزمن الحاضر، ومنه المطبوع بأنواعه والإستنساخ.
الثالث : الخط المحفور كما لو كانت الكتابة حفراً للحروف والكلمات على الخشب او النحاس.
ولا خلاف في حرمة المس في القسم الأول والثاني، ولكن هل تنتفي الحرمة بالنسبة للثالث باعتبار أن الحفر يجعل الحرف غير قابل للمس لقيام الخط فيه في الهواء فلا يصدق عليه المسمى عرفاً، والأقوى شموله بأدلة الحرمة، لأن الأحكام الشرعية لا تنزل على الدقة العقلية والتحقيق الهندسي والفلسفي المحض بل تبتنى على الدقة العرفية، فبالإضافة إلى صدق الكتابة على كل ما هو محفور فأن أطراف اللفظ والحرف القرآني تشملها أدلة حرمة المس، بالإضافة إلى عمومات إكرام القرآن.
وتشمل الحرمة الحروف والخطوط المهجورة والمتروكة لصدق اسم القرآنية عليها، وتشمل الإستنساخ ونحوه من الكتابة، وإذا تمّ مس الكلمة القرآنية على شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر فلا يصدق عليه المس للتباين الموضوعي، ولأن الشاشة الة تتبدل بها الكلمات ولا يصدق عليها الكتابة قبل أن تصل النوبة إلى أن الشاشة يكسوها غطاء رقيق تخرج الكتابة من تحته، والحرمة لا تشمل المترجم من كلام الله، ولكنه الاحوط.
فائدة
من إعجاز القرآن تعدد المعاني والمضامين القدسية للآية القرآنية والحكم القرآني، فكما يحرم مس كلمات القرآن فإن معاني الآيات القرآنية تتعدى المتفاهم في صيغ الخطاب، وتترك في النفوس أثراً مركباً وتدعو بالحاح إلى تدبرها مع الإحساس الذاتي بأن الخطاب القرآني يتضمن معاني قدسية وتشريفية لأنه من عند الله عز وجل.
وتجب إزالة النجاسة عن ورق المصحف الشريف وعن جلده وغلافه مما يمكن إعتباره من ضروريات الدين وإكرام القرآن وعدم هتكه، ومن وجوه الإكرام تعاهد المصحف أي النسخة الواحدة من القرآن، والمنع من تنجيسه أو هتكه إذ أن الهتك أعم من التنجيس.
وهل تنحصر الحرمة بصورة الهتك لأصالة البراءة عن الزائد بعد فقد الدليل، أم تكون مطلقة، أي لو حصل تنجيس وليس فيه هتك فعلى الأول ليس بحرام، وعلى الثاني هو حرام لأن التنجيس منهي عنه بالذات وليس بالعنوان الثانوي والإعتباري الزائد، الجواب: هو الثاني فالتنجيس حرام سواء بعنوان الهتك والتعدي أو عدمه خصوصاً مع صعوبة إنفكاك اللازم عن الملزوم إذ أن الهتك من الكلي المشكك الذي يقع على مسميات بمعنى واحد وبينها تباين في الكثرة والقلة، والشدة والضعف، وبعض الأفراد أولى بالكلي من البعض الآخر أو أشد، وقد يكون عند بعض بذات المعنى وعند غيرهم بغيره، كما في موضوع الهتك فقد يكون فعل فيه هتك عند قوم وعند غيرهم لا يعد هتكاً، فتنجيس المصحف محرم تكليفاً من غير مدخلية لعناوين الهتك، بل إنها تترشح قهراً وإنطباقاً عن التنجيس وإن لم تكن مقصودة بالذات.
ويقابله الكلي المتواطئ وهو عنوان جامع لأعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، أي أنه ينطبق على مصاديقه على السواء كالكتاب ينطبق على أفراد الكتاب المتعددة، والإنسان ينطبق على الأشخاص، والحيوان ينطبق على جنس الحيوانات، فالهتك من الأول من الكلي المشكك فلا تنحصر الحرمة بعنوان الهتك وقصده من الفاعل، بل يشمل الهتك عرفاً أو أثراً، أو يدل على نوع جفاء وإعراض، ويكفي تحقق الهتك عند البعض ليترتب الحكم التكليفي برفعه ومنعه.
ثم أنه مخالف للأمر بتطهير القرآن وإجلاله، وليس من منزلة برزخ بينهما على القول بأن الأمر بالشيء يعني النهي عن ضده، ولا يجوز حرق المصحف وأوراق القرآن البالية من غير حاجة وضرورة لعدم خلو الحرق من الهتك والقسوة، والنار صفة وعنوان عقوبة، بل يلزم حفظ الورق البالي منه او دفنه في الأرض أو القاؤه في الماء الجاري او إعادة تصنيعه، والأولى حينئذ إعادة طبع القرآن به.
وحرمة التنجيس مطلقة سواء كان المصحف ملكاً خاصاً او ملكاً للغير لأنها حرمة ذاتية لا تتعلق بملكية وإعتبار إضافي، وهتك المصحف الشخصي والنسخة الخاصة هو تعد على الغير لما فيه من الإساءة لعموم المسلمين وإيذاء لهم.
ويمكن عده من الحقوق المركبة من وجوه :
الأول : حق الله والثاني : حق القرآن والثالث : حق المالك والرابع : حق المسلمين.
نعم في ملك الغير يستلزم الضمان لعمومات قاعدة اليد والإتلاف بما فيه ضمان الأرش والنقص فيه والأوصاف التي لها إعتبار في ماليته، ويضمن النقص الحاصل بتطهير المصحف وكذا الأجرة والمؤونة التي تصرف في تطهيره وتطهير الكتابة القرآنية لو كانت مكتوبة على الورق أو الفرش او الجدار، بالإضافة إلى التجرء الإضافي في خصوص ملك الغير، فالحرمة في الملك الخاص أيضاً بالفتوى وليس بالإحتياط الوجوبي.
ولا فرق في حرمة التنجيس سواء كانت حرمة تنجيس ورق المصحف أو جلده أو غلافه لترشح الشرف وأسباب الحرمة على الجلد والغلاف بالإضافة إلى القرآن وإكتسابها الإحترام لإحتوائها على كتاب الله وكلامه وعدّه عرفاً قرآناً، فالعرف لا يفرق بين الموضع الذي كتب عليه الحرف القرآني وبين ما جاوره منها ومطلق الورقة فيما يتعلق بحرمة الهتك، وإن كان للحكم فيه تفصيل فهو في الكيفية والإعتبار، وليس في أصل الحرمة، ووجوب الإزالة بل هما ثابتان للإثنين معاً.
وقيل : الإستدلال على وجوب ازالة النجاسة بفحوى حرمة مس المحدث الكتاب من غرائب الكلام ولكن الإستدلال بها وجيه لأولوية ومفهوم الموافقة وعمومات الأدلة وإن لم تصل النوبة اليه، لذا تسالم بلزوم تنزيه الكتاب ومنع هتكه.
وحرمة التنجيس بالأولوية القطعية ففي القرآن بيان لكل شيء مما يعني استنباط حكم حرمة التنجيس من النهي عن مسه لغير المطهرين، فالآية سور جامع، والظاهر أن الآية وتفسيرها دليل على حرمة تنجيس الكتاب بالإضافة إلى أنه من المتسالم عند المسلمين، وتشهد له سيرتهم وأحكامهم، والدليل العقلي يفيد تنزيه وإكرام القرآن.
ويحرم وضع المصحف على الأعيان النجسة لأنه هتك لحرمته ويجب رفعها عنه وإن كانت يابسة مبخرة، نعم لو لم يكن موضوعاً للهتك بل كان للحفظ مثلاً كما لو وضع المصحف في صندوق من جلد الميتة، فالأقوى عدم الحرمة مع عدم سريان نجاسة برطوبة ونحوها لأن الحكم تابع للموضوع ولأن القصد هنا الحفظ والتعاهد في وعاء متعارف.
ولا يجوز إعطاء الكافر المصحف، وجعله في يده ولا يجوز تمكينه من المصحف، وإن قلنا بأنه ليس من الإعانة على الحرام وهل يمكن استحضار حرمة دخول الكفار للبيت الحرام, قال تعالى [ إنمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ]( )، الجواب : إنه قياس مع الفارق.
وقال أحد الأعلام : (أنهم يعيشون في بلاد المسلمين على حريتهم ويعامل معهم بأحكامهم وقوانينهم ولا يعامل معهم معاملة المسلمين بأحكامهم، فاذا علمنا أن احداً منهم يشرب الخمر في داره لم يجز لنا ردعه دفعاً له لعدم كونه منكراً في مذهبه، وعليه فلا يجوز اخذ المصحف من يد الكافر دفعاً لمسه وتنجيسه لأن تنجيس المصحف ليس بمنكر على مذهبه).
ولكنه قياس مع الفارق وإختلاف اللحاظ إذ أن الإذن لهم بالعمل وفق أحكامهم أنما هو للنص والإجماع وهو أيضاً منحصر بأهل الكتاب، والكافر يشمل غير الكتابي والوثني الذي يدعى إلى الإسلام ولا يرضى منه بالجزية، واذا تعلق الإذن بأحكامهم فلا معنى للتعدي إلى غيرها، وليس في أحكامهم جواز مس وتنجيس المصحف، فهو من شؤون دين المسلمين ومختصاتهم، وللمسلمين أن يحفظوه ويتجنبوا هتكه والإساءة له وفق القواعد الشرعية، وعلى الذمي أن يلتزم بأحكام الذمة وعدم الإساءة إلى الإسلام وعدم التجاهر بما هو غير جائز في الإسلام مما هو حلال عنده وعلى الكفار إجتناب هتك القرآن لأنه نازل من عند الله, قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( )، فاذا تعين في موضوع أنه عنوان لهتك القرآن فيجب أن يلتزم به الذمي من باب أولى, وقيل: “أن المصحف لو وجب أخذه من يد الكافر بهذا المناط لوجب أن يؤخذ منه غيره من الكتب السماوية كالتوراة وغيرها لإشتمالها على أسماء الله وأسماء الأنبياء بل وعلى أحكامه سبحانه لعدم كونها مفتعلة بأسرها فلو بقيت عنده لمسها وهو حرام” .
ولكنه من القياس مع الفارق إذ أن حرمة مس الكافر للقرآن جاءت خاصة به لأنه كلام الله الخالي من التحريف، وللتنزيه والآيات والنصوص الخاصة ولا تمس المستحاضة القرآن الا مع الوضوء والغسل.
ومن المس ما هو واجب ومنه ما هو مندوب، أما المس الواجب كما في المس مقدمة لواجب لوجوب المقدمة لوجوب ذيها لو كان المصحف في مكان موجب لهتكه فيجب مسه لرفعه وتنزيهه.
نعم لو كان الوضوء يستغرق مدة يكون فيها تأخير إبقاء القرآن في ذات المكان هتكاً حينئذ تمسه من دون وضوء، ولو كانت المستحاضة قد توضأت للصلاة فيكفيها الغسل لها، ولو أرادت تكرار المس فيجب عليها تكرار الوضوء، والأحوط ترك المس لها مطلقاً.
والمشهور بأن المستحاضة إذا اتت بوظائفها فتكون بحكم الطاهرة فيتعلق بأدائها الصلاة وإتيان العبادات، وتعني أن الدم الخارج منها بعد الغسل والوضوء لا يعتبر حدثاً.
ومع أن المس أمر مستحب وليس من عباداتها اليومية المفروضة فالإجماع على جواز مس المستحاضة إذا أتت بوظائفها وتدل عليه إطلاقات الطهارة وأحكام الأولوية، وقاعدة نفي الحرج، وأصالة البراءة وقاعدة نفي الحرج.
وشروط المس تعود إلى أحكام تنزيه القرآن وإجلاله لأنه الكتاب السماوي في الأرض لا إلى أمور ترجع إلى القارئ أو السامع، فالتشريع الإسلامي مبتنى على إكرام المقدسات وهو معنى ظاهري للالتزام الروحي والنفسي بأحكامها، فما لا يكون مهاباً في الظاهر لا تنجذب النفوس للعمل به وفق أوامره أو تجتنب نواهيه.
ومن التكامل في الشريعة الإسلامية التخفيف عن الحائض وسقوط الصلاة عنها، وهو أمر يدل بالدلالة الالتزامية على تنزيه الصلاة ايضاً وكل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر، ينزل عليها الدم وتستعد للولد خلقة فيخفف عنها في العبادة، ولكنه في أحكام القراءة يجمع بين الأمرين ولا يمنع عنها الإتيان بالقراءة على نحو محدود يمنع عنها المس إعتباره دليلاً على عدم إجتماع الضدين,لأن الصلاة طهارة وتطهير, والحيض حدث وخبث الجواب : نعم، لتكون القاعدة العامة عند المسلمين هي تنزيه القرآن وإكرامه من غير أن يتعارض هذا التنزيه مع دوام ذكر الله تعالى .
فقوله تعالى [ لاَ يَمَسُّهُ الا المُطَهَّرُونَ] ( )، ورد في القرآن، والآية وإن كانت جملة خبرية الا أنها أوكد في البعث والتحريك، والنهي أعم من أن يتعلق بعنوان الهتك بل هو حكم تكليفي، ولا ملازمة بينه وبين الكتب الأخرى من التوراة والإنجيل في باب أحكام المس.
فالمسلمون مأمورون بحفظ وتعاهد القرآن بالخصوص مع الإقرار بالكتب السماوية الأخرى وتلك الكتب مما أقرهم الإسلام عليه, ومن شرائط الذمة الالتزام بأحكام القرآن الذي نزل هدى ورحمة للناس جميعاً، ولكن المسلمين وحدهم الذين إنتفعوا منه وتعاهدوه.
ولو تنجس المصحف فالإجماع على وجوب الإزالة، ولكن فيه صور :
الأولى : إختصاص الوجوب بمالك المصحف.
الثانية : إختصاصه بمن قام بالتنجيس.
الثالثة : عدم إختصاصه بمن نجسه.
ولا مانع من إجتماع هذه الوجوه بلحاظ المناسبة والقرائن، وقد يكون وجوب الإزالة عينياً، ولو قام به غير المالك فله أن يرجع عليه بمؤونة الإزالة.
وحكم المصحف في رفع النجاسة كحكم المسجد، وسيأتي بيانه بالإستدلال إن شاء الله, وإجماع علماء الإسلام على عدم جواز مس الكافرللمصحف, وإختلفوا في الجنب والحائض والمحدث والمشهور قال بحرمة مسهم له, فقال به المالكية والإمامية ومنع أبو حنيفة والشافعي قراءة الجنب للقرآن , وقال أحمد بن حنبل والظاهرية بجواز مس القرآن من الجنب والحائض والمحدث حدثاً أصغر وذكر أن منع المحدث من مس المصحف قال به علي, وابن مسعود, وسعد بن أبي وقاص( )، ولا بد من التفكيك بين المس والقراءة, والقراءة على وجهين :
الأول : القراءة في المصحف .
الثاني : القراءة عن ظهر قلب .
والجنابة والحيض والحدث ليست برزخاً دون قراءة القرآن عن ظهر قلب خصوصاً السور التي يحفظها المسلم والمسلمة, وفي القراءة نوع تطهير للذات وتهذيب للنفس, وتعظيم لشعائر الله, وحرز من المعاصي, وفي مس الصبيان للمصحف وجهان :
الأول : المنع لشرط البلوغ في المس ومعرفة أحكام تطهير المصحف.
الثاني : الجواز .
والصحيح هو الثاني, مع تأديب الصبي على لزوم إكرام القرآن وتطهيره لتنمو معه ملكة تعظيم شأن وقدسية القرآن, وهذا المس لتعلم الصبي للقرآن وحفظ آياته.
قراءة سور العزائم
ومما يحرم على الجنب والحائض قراءة سور العزائم الأربعة وهي سورة حم السجدة وفصلت والنجم والعلق، وهل تتعلق الحرمة بالسورة كلها أم بالآية التي فيها السجدة فقط، مع الإقرار بالكبرى الكلية وهي تعلق الحرمة بتنزيه القرآن وتعظيمه عند المسلمين، فمع كونه مسلماً فإن النجاسة جاءته بالعارض ويحرم مسه فكيف بالكافر، فقد وقع خلاف وإن كان أكثر الفقهاء أثناء البحث لا يذكرون تلك الآيات التي فيها السجدة خشية إتيان السجود من قبل القارئ ونحوه، ولكن البحث يقتضيه إذ أن عدم الإتيان بها وعدم تكرار ذكرها في مجالس الدرس حال دون حفظها وتعاهدها ومعرفتها من قبل كثير من طلاب العلم وكيف بغيرهم مع أن السجود لها فيه أجر وثواب ويجزي المسمى منه بالإضافة إلى حرمة قراءتها بالنسبة للجنب والحائض، فقد لا يلتفت للسجدة الا عند القراءة في المصحف , ورؤية العلامة الخاصة بها ,أو عند معرفة السورة بالنسبة للخاصة ويصعب ذلك على المستمع منهم.
والحرمة على خمسة وجوه :
الأول : تحريم قراءة الجنب والحائض تمام السورة التي فيها آية السجدة لأنه يستلزم سجدة التلاوة وللنص.
الثاني : تحريم خصوص آية السجدة.
الثالث : تحريم كل آية من السورة بما في ذلك البسملة للقول بأنها جزء من السورة.
الرابع : تحريم كل آية من السورة، وإن لم تكن آية السجدة لسريان الحرمة اليها عدا البسملة.
الخامس : قراءة بعض الآية أي اللفظ الذي فيه السجود، وهذا الوجه ولم يقل به احد.
وبين آيات وسوّر العزائم عموم وخصوص من وجه في خصوص القراءة، فموضوع الالتقاء القرآنية، أما موضوع الإفتراق فأن آيات العزائم فيها سجود تلاوة، وفيها نصوص على اجتناب الجنب والحائض لقراءتها ولعله مترشح عن سجود التلاوة كواجب.
الجنب أخص من غير المتطهر، فيجوز مثلاً لغير المتوضأ أن يدخل المسجد الحرام وأن يطوف الطواف المندوب، في الوقت الذي لا يجوز للجنب أن يجتازه.
وفي حكمة المنع من قراءة الجنب والحائض لسوّر العزائم او آياتها وجوه :
الأول : خصوصية في هذه السوّر بالذات.
الثاني : ما فيها من ذكر للسجود, وعن ابن عباس في السجودفي {ص} ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها( ).
الثالث : ما يتعلق بها من الحكم والأمر بالسجود.
الرابع : ورد النهي عن قراءتها في الفريضة خصوصاً وأنها بعرض واحد في القرآنية مع غيرها من السوّر.
الخامس : الإكرام والتنزيه الإضافي لبعض السوّر للالتفات للأحكام الشرعية التفصيلية.
السادس : مواضع السجود في القرآن , وفي خبر عبد الله بن عمروا إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان) ( ).
وهي الأول : قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ]( ) وعند الشافعي أربع عشرة سجدة, وعند مالك إحدى عشرة سجدة, وليس في المفصل منها شيء وقال أحمد هي خمس عشرة سجدة .
والظاهر هو إجتماع الوجوه أعلاه خصوصاً وأنه لا تعارض بينها.
وما المراد بالسجدة هل هو اسم السورة بكاملها أو فقط الآية بعد خروج المعنى اللغوي بالمخصص، إذ لا معنى لإرادة السجدة وإطلاقها على القراءة، فذكر القراءة في النصوص يدل على أن المطلوب هو قراءة الآية وليس السجود عندها او السورة التي فيها السجدة، وهذه النصوص مجملة لم تحدد النهي هل هو منحصر بالآية أم يشمل السورة بكاملها لاسيما وأنه يحتمل من السورة ذكر الكل وإرادة البعض وهو معروف في اللغة ويلحق به أقوال بعض الفقهاء أيضاً , ولكنه خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة، لذا فإن الشك في معاقد الإجماعات يجعلنا نأخذ بالقدر المتيقن وإن كانت تلك الإجماعات إجتهادية وليست تعبدية مما يعني أنها ليست بحجة تامة , والمراد من السجدة هو الآية التي فيها السجود.
وقال إمام الحرمين: ولا تكره القراءة للمحدث، وفي الإتقان عن شرح المهذب: وأما الجنب والحائض فيحرم عليهما القراءة، نعم يجوز لهما النظر