معالم الإيمان في تفسير القرآن – سورة الفاتحة ج1

الجزء الأول

سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
الحمد لله الذي [ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا.. ] ، وجعله سبيل هدى وحاجزاً عن الضلالة ونوراً سماوياً في ربوع الأرض يضيء دروب السالكين إلى الله ويبدد الظلمات، وآلة للعصمة من الزلل، وإماماً يقود إلى النعيم الخالد في الآخرة.
لقد جعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ]( )، فكان للمسلمين فخراً وعزاً إذ أصبحوا به أغنياء وبالتمسك بأحكامه وسننه يطردون جميع وجوه الفقر وأبوابه المختلفة , وهو وثيقة سماوية تهدي إلى سبل الصلاح والفلاح وأسباب التوفيق في ميادين الحياة المختلفة.
ومن خصائص القرآن المباركة تضمنه لأسرار العلوم وخزائن المعرفة ومنار الحكمة، وفيه أمران:
الأول : علم الله تعالى بأهلية المسلمين واستحقاقهم لنعمة القرآن ومقدرتهم على تعاهد أعظم نعمة عند أهل الأرض .
الثاني : ضرورة إرتقاء المسلمين إلى مستوى الجدارة في المحافظة على القرآن وحمل لوائه ليؤدي وظائفه بين الناس باعتباره حبلاً مباركاً ممدوداً بين السماء والأرض.
والقرآن ميزان أعمال الناس وبه تستمر الحياة على الأرض وتوجه التطورات العلمية السريعة في العالم ويواجه جانبُ الشر من الإختراعات, وتمنع قوة السلاح والعدد من الطيش المبيد، وتبقى العودة إلى الدين ومبادئه قائمة في النفوس ومتعارفة في الأنظمة ، وبديهية في الأحكام ومنبع القرار.
لقد كانت بداية خلق الإنسان وطرو الحركة فيه بان نفخ الله فيه من روحه، وبما ان حاجة الإنسان كممكن الى الله سبحانه لا تنحصر بالخلق الإبتدائي بل تستمر وتتصل مستديمة بالنشأة والحياة والى ما بعد الممات تفضل الله سبحانه مرة أخرى وجعل الكتاب الموحى به إلى الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم متوارثاًَ عند المسلمين وفي إستطاعة كل إنسان سماع آياته وتدبر معانيه والتفكر فيما يدعو إليه وتلك رحمة متجددة على أهل الأرض، وأبقى الله باب التوبة مفتوحاً والتزود من المعارف الإلهية ممكناً بالغوص في كنوز القرآن ومناهل آياته بغية إبانة وكشف المغطى من الجواهر في كل آية ومعرفة الظاهر منها لتبقى الأفهام الثاقبة والأبصار النيرة سائحة في خزائنها.
ففي القرآن محكم ومتشابه، ومجمل ومبين، وناسخ ومنسوخ، وآيات للأحكام ، ومواعظ وحكم وأبواب لمختلف المعارف إلى جانب الأهمية الخاصة لأسباب النزول والمقاصد الشريفة وإشراقات البيان في القرآن التي لها تأثير كبير في الإستفادة من علومه وأحكامه كما إنها تمنع الناس من التورط في المهالك ومن خلط الإباحة بالحظر.
فكان ((علم التفسير)) حاجة وبصيرة، ووسيلة إلى التزود النافع من الفيض الرباني والوحي الجامع لما فيه صلاح الفرد والجماعة، فلا غرابة من ظهوره منذ السنين الأولى من نزول الوحي إلا أنه لم يكن واسعاً أو شاملاً لجميع الآيات والسور النازلة آنذاك لأسباب من أهمها معرفة العرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم بمعاني آياته ومقدرتهم على تدبر بلاغته وقوام فصاحته وعلو حكمته ، الأمر الذي يكون أحد أبرز وجوه إعجازه آنذاك وحجة ونصراً مباركًا ودعوة إلى الإسلام وميل العرب إليه والتسليم بالنبوة والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وكان واقية لمنع أذى المشركين إذ أقر أقطابهم مذعنين بهذا الإعجاز.
وبما أن آيات القرآن خزائن سماوية وكل آية منها مدرسة مستقلة للعلوم والمبادئ صار من الضروري الاجتهاد في السعي لبيان ما فيها من الجواهر والأحكام والأسرار وبرز في مقدمة العلوم الإسلامية علم التفسير الذي يكتسب أهميته ومكانته العالية بين العلوم وأفراد المجتمعات من شرف موضوعه وعظيم منفعته في صلاح الأمم وإعانة الناس في التفقه في أمور دينهم ودنياهم وإرشادهم إلى الطرق المؤدية إلى الفلاح والسبل المؤدية إلى الخلود في جنات النعيم.
ولقد تصدى نفر من رجال الإسلام لتفسير القرآن وسوره وموضوعات آياته وتناول بعض منهم جوانب محددة من بحار أنواره، ودرس آخرون بعض علومه بصورة خاصة كالجانب اللغوي أو المباحث العقلية أو آيات الأحكام أو علم البديع في نظمه ونحوها مما يستحق بحوثاً مستفيضة متصلة متجددة فيما تبعثه من أنوار ملكوتية تتماشى مع حاجات كل زمان وجيل وتكون مبشرة بآفاق المستقبل باستنباط من آيات القرآن ينبىء عن أمور ووقائع وأحداث واقعة أو إثبات إنها لم تكن غريبة عن عالم القرآن .
فيجب ان يرتقي علم التفسير إلى مستوى وظائفه الحقيقية التي تشمل كل الميادين وهي في توسعة وازدياد مطرد ليصبح قادرا على سد جانب من حاجات الناس وأهل الإيمان خاصة في هذا الباب ويسهم في توسعة وبروز وظائف آياته، هذا مع الإقرار بملازمة القصور للعلوم الانسانية عامة، وعلم التفسير خاصة عن سبر أغوار القرآن وآلائه ودرره الظاهرة والخفية [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]( ).
لقد جعل الله عز وجل كلمات القرآن المحدودة والتي تبلغ نحو (77430) كلمة محيطة بالعالم اللامحدود في آية تحث أهل العلم والمعرفة والإيمان على تثوير القرآن وإستظهار علومه وإستخراج كنوزه وما فيه من المعارف في مختلف أبواب العلوم وما يتفرع عنها في كل زمان.
ومع ما في هذا التفسير من السعة وبلوغه مراتب لم يصلها علم التفسير تفسيراً وتأويلاً وبياناً وعدد اجزاء فانه خال من الإطناب، ولا تجد فيه الأخبار والقصص والحوادث إلا على نحو محدود وبإيجاز غير مخل وبقدر تعلقها بموضوع الآية أو أسباب النزول، مع مبادئ في تنقيحها عند الحاجة خصوصاً عند ما تذكر مطلقة وكأنها من المسلمات وتصل أجزاء هذا التفسير إلى أكثر من ثلاثة ملايين جزء إن شاء الله وفق منهجية سياق الآيات، ببحث الصلة بين كل آية قرآنية والآية الأخرى منها ليكون مجموع العلوم حسب هذا العلم المستحدث هو6236×6235=38،881،460 علماً.
وسنصدر إن شاء الله خمسين جزءً فقط في الصلة بين آية[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وبين الآيات التي قبلها لتكون تأسيساً لهذا العلم، ونسال الله عز وجل أن يوفق علماء الإسلام في الأجيال اللاحقة لإتمامه، بجهود تكافلية متآزرة بأن يشترك في تفسير كل آية عالم التفسير، واللغة، والقانون، والتأريخ، والبلاغة، والنحو، والفقه، والأصول والكلام والفلسفة والأخلاق والإقتصاد والطب، والجغرافية، والفلك، والهندسة والرياضيات والزراعة، والجيلوجيا، وسائر العلوم.
أسأل الله عز وجل أن يهديني في هذا الكتاب المبارك إلى التعرض لتفسير آيات القرآن وألفاظه من جوانب وأبواب متعددة وفي فروع متشعبة والإهتمام بتفسير القرآن بالقرآن وبالسنة الشريفة التي هي بيان عملي لآيات القرآن وأحكامه وأن يتفضل علي بالإعانة والمدد لإتمام أجزائه التي أكتبها بافاضات من الله تعالى ظاهرة وباطنة ، كما تتجلى في مضامينه وقوانينه ، ليكون شفاء وهبة وصلة مودة مع كل مسلم ومسلمة وطمعاً في دعاء الموجود منهم والذي يأتي في قادم الأيام، وتنقيحاً لفلسفة الأخوة الاسلامية، وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ]( ).
وإذا كان موضوع علم الفقه هو فعل المكلف وفق الأحكام التكليفية الخمسة وما فيها من الأوامر والنواهي، وهي لواحق ذاتية لما فيها من الإقتضاء والتخيير والترك والوجوب والحرمة، وموضوع علم النحو الكلمة والجملة أي المفردات والمركبات من جهة الإعراب والبناء والحيثيات المناسبة لموضوعات المسائل فبلحاظ الفاعلية تكون الكلمة مؤهلة للرفع، وبلحاظ المفعولية للنصب، والجر بالنسبة للمضاف اليه ونحوه من عوارض الكلمة التي هي موضوع علم النحو)( ).
والموضوع في علم المعقول مثلاً هو الوجود، وينقسم الى واجب الوجود والممكن، والممكن ينقسم الى الجوهر والمقولات العرضية، اذ ان الممكن اذا استغنى في وجوده عن الموضوع فهو جوهر، والا فهو عرض لأن العرض قائم بالموضوع)( ).
وموضوع علم الأصول هو العلم بالدليل وما يقع في طريق إستنباط الحكم الشرعي وموضوع علم المنطق هو التعريفات والحجج وموضوع علم التأريخ هو دراسة الحوادث والوقائع في الزمن الماضي والإتعاظ منها، والتدبر في سنن الحياة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، ليكون آلة للقياس والفصل بين الصحة والفساد.
وموضوع علم الفيزياء هو الطبيعة وقوانينها العامة وقد يتحد موضوع علمين أو أكثر ولكن التباين بينها بلحاظ الجهة والحيثية فالكلمة موضوع لعلم اللغة والنحو والصرف، فيلحظ في اللغة معنى الكلمة وفي النحو الإعراب والبناء، وفي الصرف تصريف ووزان الكلمة وهكذا باقي العلوم، ولكن موضوع آيات القرآن يستغرق هذه العلوم كلها فهي رشحة من رشحاته، وهو يشمل عمل الإنسان في الدنيا وعاقبته في الآخرة، وعلة إستدامة الحياة في الأرض، ومقدمات الرزق الكريم وإكتناز الصالحات ونزول البركات.
ولقد أنعم الله علي بإتمام مائة وثمانية أجزاء من التفسير , وأتولى بمفردي والحمد لله التأليف والتصحيح والمراجعة والإشراف على الطباعة لا يؤازرني إلا ولدان صغيران في التنضيد يعملان بصبر وجد في النهار والليل مع إنشغالي بالتدريس اليومي للبحث الخارج في الفقه والتفسير والأصول أسأل الله التخفيف والسعة بما يجعلني أصدر الجزئين والثلاثة بدل الجزء الواحد.
وأسعى في هذه الطبعة للتوسعة والإضافة في الأجزاء ومنها الأبواب التي تم تأسيسها في الأجزاء الأخيرة مثل الآية لطف، إفاضات الآية، علم المناسبة، ومن غايات الآية، فالآيات التي يتضمنها جزء واحد صارت في ثلاثة أجزاء أو أكثر، وهو من لطف الله ونعمه العظيمة عليّ وعلى المؤمنين في زمن العولمة وتداخل الحضارات بإخراج شذرات من ذخائر القرآن من مضامين الآيات ذاتها، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).

قوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)

فاتحة الشيء أوله وبدايته وهي في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالصادقة بمعنى الصدق
ثم أطلقت على أول الشيء تسمية للمفعول بالمصدر ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية كما في النطيحة وإرتكز القول الأخير على إعتبار قلة فاعلة في المصادر، والفاتحة باب المسألة والطلب إلى الله عز وجل كما في حديث أبي الدرداء: “ومن يأت باباً مغلقا يجد إلى جنبه باباً فتحاً”( ) أي واسعاً وتأتي بعنوان الحكم يقال فاتحه مفاتحة فتاحاً.
وفي صفات الله تعالى (الفتاح) وهو الحاكم الذي يفتح أبواب الرحمة والرزق وفي التنزيل [ قُلْ يَجْمعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ]( ) يفتح بيننا أي يقضي بيننا. والفتح: الحكم والقضاء بين المتخاصمين. وأهل اليمن يقولون للقاضي: الفتاح، ويقول أحدهم لصاحبه عند المنازعة تعال حتى أفاتحك إلى الفتاح، والفتاحة بضم الفاء أو كسرها: الحكومة.
وللفتح في اللغة العربية معان عديدة أخــرى فالفتــح نقيض الإغلاق، وما يفتح به الباب أو المستغلق من الأشياء فهو مفتاح.
والفتح: إفتتاح دار الحرب( )، والفتــح: ان تفتــح على مــن يســتقرئك ويأتي بعنوان التلقين، والفتح: الماء الجاري في نهر أو من عين أو نحوها والمستعمل للسقي، والفتح: الماء والنهر، وفواتح القرآن: أوائل السور، والواحدة فاتحة، وإفتتاح الصلاة: التكبيرة الأولى، والفتح حركة النصب وفق صناعة النحو.
وقد ورد لفظ(الفتح) في القرآن ثمان مرات بالرفع، وأربع مرات بالنصب، ويوم الفتح هو يوم فتح مكة، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
اليوم غيّر مجرى التأريخ وقطع فيها دابر الذين كفروا وتعديهم وهجومهم على بيضة الإسلام، فبعد زحف جيوش قريش في معركة بدر وأحد والخندق والنسبة التضادية في عدد أفراد جيشهم ومؤونهم عجزوا عن صد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ثم لم يلبثوا أن دخلوا الإسلام ورسّخ الله به مبادئ التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة لتشع أنوار الإسلام على القلوب المنكسرة في مشارق الأرض ومغاربها ليتوجه المسلمون منها خمس مرات نحو البيت الحرام على نحو الوجوب العبادي، وليقرأوا في كل ركعة من الصلاة اليومية سورة الفاتحة على نحو التعيين، وسورة وآيات أخرى على نحو التخيير، وكأن الصلة بين سورة الفاتحة ويوم الفتح أعم من التشابه اللفظي، وأنها تتضمن معاني عقائدية في بناء صرح الإيمان.
بحث أصولي
إن معرفة أسماء السوّر والمعارف الربانيــة الكامنـة في كل منها سر من أسرار علوم القرآن وعلم شــريف فيه دقائــق تســـتلزم الفطنة والنباهة والتحقيق لاستنباط الدروس والعبر من ذات الاسم ومن صلته مع السورة وموضوعها بالدلالات الثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية وما تكشفه من حقائق الاشياء وبالخصوص ما لسورة الفاتحة من الأسماء.
إن كثرة ما لهذه السورة من الفضائل وما تتضمنه من العناوين العبادية والإشارات الدقيقة في عالم التوحيد وكنوزه أضفت عليها قدسية خاصة تجسد جانباً منها بما إنتزعته من أسماء مباركة إنفردت بها إلى جانب تسميتها من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدة أسماء، الأمر الذي يؤكد فضل هذه السورة ووظيفة النبوة في بيان أهميتها ومنزلتها ومنافعها.
لقد تعددت أسماء سورة الفاتحة بصورة تفوق كثيراً حال التعدد للسور الأخرى مع ما لهذه السور من الشرف والخصوصيات والمقامات السامية والمضامين القدسية التي يترشح بعضها من طول السورة ايضاً، فسورة البقرة يبلغ عدد آياتها نحو أربعين ضعفاً من سورة الفاتحة وأكثر من هذه النسبة بلحاظ عدد الكلمات، لأن عدد الكلمات في آيات سورة البقرة إجمالاً أكثر من عدد الكلمات في سورة الفاتحة، بالإضافة إلى إحتواء سورة البقرة على آية الكرسي( ) وهي من أعظم آيات القرآن وفيها الكثير من الاحكام والسنن ومع هذا ليس لها معشار ما لسورة الفاتحة من الأسماء، وصحيح أن هذا يجعلنا نســتنبط أمراً وهـو أن العبرة ليست بالاسم إنما بالمسمى، وتلك قاعدة عقلية كلية، ولكن إنفراد سورة الفاتحة بهذه الأسماء يدل على خصوصية وفيه دعوة للبحث والاستنباط ودراســـة علل ونتائج إنفراد هذه الســورة بهذه الأسماء مجتمعة ومنفردة.
وإذا كانت زيادة المباني دلالة على زيادة المعاني فهل تعدد أسماء سورة الفاتحة دليل على تعدد معانيها وأسرارها القدسية ومنافع تلاوتها والإستماع إليها في النشأتين، الجواب نعم فكل اسم من أسمائها مدرسة في التأويل ومناسبة لإستقراء المسائل، وإستنباط الأحكام ومناسبة للسياحة في عالم الملكوت.
إن تعدد أسماء سورة الفاتحة مناسبة كريمة لتلمس ما فيها من وجوه البركة والإتعاظ، وإضافة السورة إلى الفاتحة من إضافة العام إلى الخاص كبلدة الكوفة مثلاً، ومن أظهر أسمائها:
الأول : فاتحة الكتاب
معنى فاتحة الكتاب أوله، وقالوا إنها صارت بالغلبة علماً لسورة الحمد ووردت الرواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاسم فهو اسم توقيفي وعلم في صيغته الأساسية ومنذ أيام النزول وعهد النبوة المبارك، كما أنه اسم مناسب بلحاظ الدلالة والإعتبار والمناسبة والمقام، فلابد من خصوصية وأسرار قدسية لإفتتاح القرآن تحظى به السورة التي يبدأ بها وليس من مانع للقول بالأهلية الذاتية لسورة الفاتحة والدلالة العقائدية لكلماتها ومضامينها القدسية التي جعلتها تستحق هذه المنزلة الرفيعة من بين سور القرآن.
وقد وردت روايات عديدة تحمل هذا الاسم (ما روي عن أبي بن كعب قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة)( )، وعن أبي ســعيد الخدري قال ان رســـول الله صلى الله عليه وآله وســلم قال: “فاتحة الكتــاب شفاء من السم”( ).
وقد أسسنا في علم الدراية قاعدة رجالية جديدة باسم (التواتر السندي) وهي ان الخبر الضعيف إذا جاء عن طرق متعددة في الإسناد فأن هذه الكثرة جابرة لضعفه كما أن عمل المشهور يجبر الخبر الضعيف، وقد يكون الانجبار بهذه القاعدة من باب الأولوية، وسيأتي تفصيلها في الأجزاء التالية.
وقيل سميت السورة بهذا الاسم لافتتاح المصاحف بها وإن كان اسم المصحف لم يطلق على ما بين الدفتين من كلام الله الا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخرجه ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: “لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر التمســوا له إسماً فقال بعضـــهم السفر، وقال بعضهم المصحف”( )، وحكاه المظفري بصــورة أدق حيـث ذكر في تاريخه أن ابن مســـعود قال: “رأيت في الحبشة كتاباً يدعونه المصحف فسموه به”ً.
وقد وردت الرواية بأن سورة الفاتحة هي أول سورة في مصحف أبي بن كعب، وذكر ابن أشتة في كتاب المصاحف أن محمداً بن يعقوب أنبأه قال: “حدثنا أبو داود حدثنا أبو جعفر الكوفي قال: هذا تأليف مصحف أُبي: الحمد ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة..” الحديث( ).
وقيل سميت فاتحة الكتاب لأنها أول سورة أنزلت من القرآن ولكن أخباراً وروايات كثيرة تفيد بأن أول سورة نزلت من السماء هي سورة [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ … ]( ).
وفي صحيحة ابن خالد، عن الرضا، عن أبيه عليهما السلام قال : أول سورة نزلت ” بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك( ).
الثانية : سورة الفاتحة
وهو اسم علم آخر للسورة أما أن يكون إختصاراً لفاتحة الكتاب واللام كالخلف عن الإضافة، وأما ان يكون اسم علم بإعتبار أن اللام لازمة، أو هما معاً وهو الأنسب فهي أول سورة تواجه القارئ، ولورود الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسمية السورة بهذا الإسم، والقول بأن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تسميتها بهذا الاسم موضوع، تطرده كثرة وشهرة الروايات الواردة بهذا الإسم.
وإعتبار ومنافع هذا الاسم لا تنحصر بتسميتها بل تتعداه إلى ميادين العبادة وسبل التقوى والصلاح وأسباب الإستعانة والإلتجاء، فهي فاتحة القراءة في الصلاة، فعند الدخول في الصلاة والاتيان بتكبيرة الإحرام لابد من قراءة سورة الفاتحة، فاذا كانت الصلاة تفتتح بتكبيرة الإحرام، فان القراءة تفتتح بسورة الفاتحة، ولا يجوز تقديم السورة على الفاتحة سواء قرأها مرة أخرى بعد الفاتحة أم لم يقرأها، ولو فعله عمداً فعليه إعادة الصلاة، ولو قدمها سهواً وتذكر قبل الركوع قرأ الفاتحة ثم أعاد السورة أو غيرها، أما لو تذكر بعد الدخول في حد الركوع صحت صلاته، وسجد سجدتي السهو.
والقراءة في الصلاة واجب ولكنه غير ركني فلو تركها وتذكر بعد الركوع صحت صلاته وسجد سجدتي السهو، ولو تركهما أو أحدهما وتذكر في القنوت أو بعده قبل الوصول إلى حد الركوع رجع وتدارك، وكذا لو ترك الحمد وتذكر بعد الدخول في السورة رجع وأتى بها ثم بالسورة.
ويجوز الإقتصار على الفاتحة من غير قراءة سورة أخرى بعدها في حال المرض والإستعجال وضيق الوقت والخوف ونحوه من أفراد الضرورة.
الثالثة : سورة الحمد
سميت بهذا الاسم لأن في أولها لفظ الحمد، ولأنها عنوان الحمد ورمزه.
وذكر سبب آخر لتسميتها بسورة الحمد، ولولا ما لها من تسمية في القرآن لكان لهذا الاسم شيوع وإنتشار واسع، وهو اسم تميل له نفوس أهل الإيمان لما يحمله من معاني الشكر لله عز وجل، ولما في قاعدة تسمية السورة بأول كلمة من كلماتها من التيسير والتخفيف، بالإضافة إلى الصفات المباركة الخاصة ببداية هذه السورة وما فيها من مضامين الحمد والثناء والشكر لله عز وجل.
ولقد جاءت الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الحمد لله ربّ العالمين، سبع آيات أوّلهنّ (بسم الله الرَّحْمن الرحيم)، وهي السبع المثاني، وهي أمّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب”( )، فأصبح علماً عليها خاصة في كتب التفسير وبعض الكتب الفقهية.
بالإضافة إلى مدلولات خاصة تتعلق باختيار الاسم بذكر أول كلمة من السورة وكثيرة هي السور التي سميت باسم أول كلمة منها.

الرابعة : الحمد لله رب العالمين
سميت السورة بهذا الاسم عنواناً وإشارة لأول آية تلي البسملة في السورة ولإجتماع الثناء على الله تعالى فيه مع الإقرار له سبحانه بالربوبية، إلى جانب ملاءمته لحال المسلمين في أيام التنزيل وحاجتهم إلى التعليم والبيان والمساعدة على التفقه في الدين والإقبال على القرآن وآياته، فهذا الاسم عون لهم على معرفة المقصود وهو سورة الفاتحة ذاتها.
وقد ورد عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ان القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة”( )
وفي هذه التسمية مناسبة للشكر المقرون بالإقرار والتسليم بالربوبية ، انه مدرسة رسالية في التأديب، بالإضافة الى ما فيها من مراتب الثواب فالإتيان باسم السورة وحده ثناء وعبادة ومدخل للهداية والصلاح.
بالإسناد(عن ابن جابر قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ. قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا خلفه حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيبًا حزينًا، فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر، فقال: ” عليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله ” ثم قال: ” ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأَخْير سورة في القرآن؟ ” قلت: بلى يا رسول الله. قال: ” اقرأ: الحمد لله رب العالمين، حتى تختمها “)( ).
قال ابن كثير( ): وعبد الله بن جابر هذا الصحابي ذكره ابن الجوزي انه هو العبدي ويقال انه جابر بن عبد الله الانصاري البياضي فيما ذكره ابن عساكر وابن حجر في الإصابة.
وأخرج الدارقطني والبيهقي في السنن بالإسناد ان الإمام علياً عليه السلام سئل عن السبع المثاني فقال الحمد لله رب العالمين ليكون هذا الاسم تعريفاً ومشبهاً به وهو أبين من المشبه مما يدل على شيوع هذا الاسم بين المسلمين لأن الحكم في المشبه به أقوى منه في المشبه.
الخامسة : أم القرآن
لما تتضمنه السورة من الأصول والمعارف الإسلامية من الإلهيات والمعاد واثبات القضاء والقدر لله تعالى ومقاصد عالية أخرى، والعرب يسمون ما يجمع الأشياء المتعددة اُماً كما يسمون الجلدة الجامعة للدماغ وحواسه أم الرأس، ويسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش أماً، وقد وصف ذو الرمة راية لهم معقودة:
وأسمر قوام إذا نام صحبتي

خفيف الثياب لا تواري له أزرا

على رأسه أم لنا نقتدي بها

جماع أمور لا نعصي لها أمرا

إذا نزلت قيل انزلوا وإذا غدت

غدت ذات تزريق ننال بها فخرا

لقد وردت روايات عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطلق فيها اسم أم القرآن على الفاتحة مما يؤكد عظمة هذه السورة وقدسيتها بالإضافة إلى ما تعنيه من تضمنها لفيض من الأسرار الربانية والمنافع الدنيوية والأخروية.
ومن تلك الروايات ما ورد عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سئل”( ).
وعن أبي سليمان قال: “مرّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزوهم على رجل قد صرع فقرأ بعضهم في إذنه بأم
القرآن فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء”( ).
ولان أم الشيء تعني أصله فان تسمية السورة بأم القرآن جاءت لأنها تتضمن العلوم الأساسية في القرآن وهي أربعة :
الأولى : الإلهيات ويدل عليه قوله تعالى [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
الثانية : المعاد ويدل عليه قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ).
الثالثة : النبوات ويدل عليه قوله تعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ويدل على نفي الجبر والتفويض ووجوب الإقرار بقضاء الله وقدره الذي تثبته أيضا هذه الآية وآية الصراط من السورة.
الرابعة : الهداية إلى مسالك الإيمان وسبل الرشاد كما يشير إليها قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وتجعل تسمية سورة الفاتحة بأم القرآن تستحق تقديساً خاصاً وتفتح الباب أمام دراسات قرآنية وعقائدية في أسباب هذه التسمية والأسرار الكامنة فيها والدلالات التي تتضمنها ليكون هذا الاسم متعارفاً لها وملازماً لذكرها، وقد يطلق عنواناً عليها من غير استغراب ، وفيه دعوة إلى التحقيق والبيان وإستظهار المسائل والأحكام من هذه التسمية وكره ابن سيرين تسميتها أم القرى( ) ، ولا موضوعية لهذه الكراهة إذا ثبت النص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

السادسة : أم الكتاب
اسم يبعث في النفس إجلالاً إضافياً وإهتماماً إستثنائياً، لا يمكن تصور منع آثاره من الظهور على الحواس، وسورة الفاتحة أهل لهذه القدسية، وأم الكتاب: “فاتحته لأنه يبتدأ بها في كل صلاة”( )، ولكن ليس من دليل شرعي أو لغوي للحصر بهذا التعليل والملازمة لم تثبت عقلاً ونقلاً، لاسيما وإن الموضوع متعلق بالصلاة والتسمية بالكتاب، وكان الحسن البصري وابن ســيرين يكــرهان أن يقال لســـورة الفاتحة (أم الكتاب) لورود هذا الاسم لعنوان آخر أكثر سعة، ولما ورد في التنزيل[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ …]( ).
وجاء عن ابن عباس أن أم الكتاب القرآن من أوله إلى آخره، كما فسر بعضهم أم الكتاب في قوله تعالى [ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ]( ) بأنه اللوح المحفوظ، وعن ابن عباس في قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) أن أم الكتاب: الذكر)( )، ولكن الرواية وردت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسمية هذه السورة بأم الكتاب في أحاديث كثيرة فلابد من إمضاء تلك التسمية المباركة، خصوصاً وان النص ورد بتسميتها أم القرآن، وهو لا يتعارض مع المعنى الأعم لأم الكتاب .
وورد(عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن)( ).
ويأتي الكتاب مرادفاً للقرآن في الغالب بالإضافة إلى ان آيات السورة تتعلق مضامينها بأصل الشرائع، وقصور الأوهام عن إدراك كنه وأسرار وجوب قراءتها في الصلاة يجب أن لا يؤثر سلباً في قبول تلك التسمية.
وليس هناك ما يمنع من وقوع اسم (أم الكتاب) على عدة مسميات مستقلة تكون أمارات الإرتباط والتجانس بينها ليست خافية فيستحق ان يكون من المشترك اللفظي.
وقد روى العياشي مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجابر بن عبد الله: “الا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه”، فقال: بلى بابي أنت وأمي يا رسول الله علمنيها، قال: فعلمه الحمد أم الكتاب، ثم قال: يا جابر الا أخبرك عنها قال: بلى بابي أنت وأمي فاخبرني فقال: هي شفاء من كل داء الا السام يعني الموت)( )، ولكن التسمية هنا (قال فعلمه الحمد أم الكتاب) تفيد الظـن بان القائل بالتسمية هو أحد رجال الإسناد وان التعليم كان لذات السورة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأها له وهو الأنسب لإرادة التعليم.
والمراد بالكتاب في التسمية هو القرآن لا جنس الكتاب، إذ روي في إسمائها فاتحة القرآن ولما ورد في القرآن من تسميته بالكتاب، قال تعالى [ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ]( ).

السابعة : السبع المثاني
لقد إشتهر هذا الاسم للسورة لما يتضمنه من معاني الإجلال والتعظيم المستنبطة من القرآن والسنة، وفي سبب تسميتها بهذا الاسم وجوه:
الأول: إنه اسم توقيفــي لما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى [ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ]( ) وبيان عظيم إحسان الله تعالى وإنعامه على المسلمين بإنزال سورة الفاتحة وجعل قراءتها واجبة في صلاتهم، ولفت الأنظار إلى أهميتها وإستثمار قراءتها والتماس بركاتها، فقد قال ألإمام علي عليه السلام “ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أن الله تعالى قال لي: (يا محمد ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) فأفرد الإمتنان عليّ بفاتحة الكتاب وجعلها بأزاء القرآن العظيم وان فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش وأن الله خص محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وشرّفه بها ولم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان فانه أعطاه منها بسم الله الرحمن الرحيم حكى عن بلقيس حين قالت” [ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ]( )( ).
الثاني: سميت السبع المثاني لأنها سبع آيات، وهذا الوجه لا يتعارض مع الأول ويمكن إعتباره تعليلاً وتفسيراً لهذه التسمية.
الثالث: لأنها مستثناة من سائر الكتب السماوية التي أنزلت قبل القرآن.
الرابع: لأن قراءة كل آية منها تعدل سبع القرآن، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن.
الخامس: للإتيان بسورة الفاتحة مرتين في كل صلاة إذ تقرأ في الركعة الأولى والثانية مما يعني تثنيتها وإعادتها، وفي حديث صلاة الليل انها تصلى مثنى، مثنى أي ركعتين، ركعتين.
السادس: لأنها تثنى مع كل ســورة، وأظهر هذه الوجــوه هو الأول لـورود النص به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللتعليل فيه بالآية القرآنية، ولا يمنع ان تكون الوجوه الأخرى في طوله ومن باب الجري والتطبيق.
السابع: التحديد بالعدد (سبع) لتخصيص سورة الفاتحة من مجموع آيات الحمد والثناء على الله عز وجل في القرآن.
الثامنة : المثاني
تحمل كتب التفسير هذا الاسم عنواناً لسورة الفاتحة وتذكره أيضا كتب اللغة وقواميسها، وفيه وجوه:
الأول: المثاني لغة جمع مثنى على صيغة المفعول من التثنية وهي التكرار، لأن سورة الفاتحة تتكرر قراءتها في الصلاة وغيرها على نحو الوجوب والإستحباب، وتثنى في كل صلاة.
الثاني: إنه من الثناء لما تتضمنه سورة الفاتحة من الثناء على الله عز وجل بعظيم أفعاله وصفاته الحسنى، وما في سوره من الحمد له وتوحيده والإقرار بالملكية المطلقة له يوم القيامة.
الثالث: سُــميت به لأن نصـــفها ثناء العبد للــرب، ونصفها عطاء الرب للعبد.
الرابع: لأنها سبع آيات كل آية تعدل قراءتها سُبعاً من القرآن فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن.
الخامس: سميت مثاني لأنها نزلت مرتين( ) وان لم يثبت تعدد النزول.
ولا تعارض بين هذه الأسباب، ويمكن الجمع بينها , وإتحادها متضامنة في التسمية مدح وشكر لله تعالى وأمل ورجاء لتوالي إحسانه تعالى وهو الكريم الذي ينفق كيف يشاء.
السادس: في خبر يونس بن عبد الرحمن عن الإمام جعفر الصادق قال: “سميت المثاني لأنها تثنى في الركعتين”( ).
وهذا من أحسن وجوه التسمية، وبه تظهر وحدة موضوع التسمية في السبع المثاني والمثاني، وكأن الثاني منهما جاء بحذف المضاف، إلا أن المثاني من المشترك اللفظي ويأتي على عدة معان فيها.
السابع: المثاني عدد من السور المتواليات واختلف فيه وانه يبدأ من البقرة وينتهي ببراءة، وقيل ما دون المئين أي أن المثاني هي التي تلتها وجاءت متعقبة لها وتثنية لها.
ويمكن أن نضيف وجوهاً أخرى:
الثامن: بتثنية قراءتها يتجـدد العفو وتثنى وتضاف الرحمة الإلهية على العبد.
التاسع: إنها عنوان تثنية الأجر والثواب وكتابة العمل الصالح.
العاشر: بقراءة الفاتحة يثنى ما تكتبه الملائكة للمؤمن من الثواب.
الحادي عشر: ليس لها مثيل في القـــرآن، وينظــر لها على نحـــو مســتقل ولها حكمها الخاص في الصلاة إذ تنفرد من بين سور القرآن بوجوب قراءتها.
الثاني عشر:كل آية منها متممــة للأخرى، متلازمة معها، لا يمكن إنفكاكها عنها، فالآية الثانية تثنــية للأولى، والآيــة الثالثــة تثنية للثانيــة وهكذا.
وقال الشاعر
الحمدُ لله الـــذي عَــــافَانِي … وكــــــــــلَّ خَيْر بعدَهُ أَعْطـــــانِي
مِنَ القــُرَآن ومِنَ المَثـــَاني( )
الثالث عشر: إختلف علماء المسلمين في الإجتهاد في قراءة السورة فشطر منهم ذهب إلى وجوب قراءة سورة بعد الفاتحة ولا تقل عن ثلاث آيات، وليس من سورة في القرآن أقل من ثلاث، وشطر آخر قال بجواز قراءة ثلاث آيات بعد الفاتحة من آية سورة، أما قراءة الفاتحة فالنص وإجماع علماء المسلمين على وجوب قراءتها كاملة فيصدق عليها أنها مثاني كل آية تأتي ثانية بعد الأخرى ولعل فيه توكيداً بأن البسملة جزء من سورة الفاتحة، فآية (الحمد لله رب العالمين) ثانية بالنسبة للبسملة.
الرابع عشر: ورد في حديث عبد الله بن عمرو: إن من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار، ويفتح القول، ويخزن العمل وتعمل المثناة في الملأ ليس فيهم لها مغير، قيل: وما المثناة؟ قال: من اكتسب شيئا ليس في كتاب الله)( ).
كأنه جعل ما إستكتب من كتاب الله مبدأ وهذا مثنى.
التاسعة : الصلاة
وفي تسمية هذه السورة المباركة الصلاة وإختصاصها بهذا الاسم من بين سور القرآن مسائل:
الأول: لمنزلة السورة في الصلاة إذ أنها أهم جزء من واجب غير ركني وهو القراءة.
الثاني: تدل بالدلالة الإلتزامية على أن الدعوة انحلالية لكل إنسان لإتيان الصلاة والتقيد بأحكامها.
الثالث: لزوم الإتيان بالسورة في الصلاة اليومية.
الرابع: للفت الأنظار إلى أهمية موضوعيتها في الصلاة سميت بهذا الإسم.
الخامس:إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء وهي لغة معروفة.
السادس: ما تتضمنه من مضامين عالية من الدعاء وهو المعنى اللغوي لأصل لفظ الصلاة على القول المشهور.
(روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قال العبد [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] يقول الله حمدني عبدي، فإذا قال [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] يقول الله أثنــى عليّ عبدي، فإذا قال العبد [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] يقول الله مجدني عبدي، فإذا قال [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] يقول الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سئل، فإذا قال [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] إلى آخره قال الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل”( ).
فلفظ (الصلاة) الوارد في الحديث صفة واسم لسورة الفاتحة.
وقد وردت الرواية عن طريق أهل البيت أيضا ولكن باسم فاتحة الكتاب بدل الصلاة حسب ما ورد في العيون عن الإمام الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله عز وجل قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي..” الحديث.
(وبالإسناد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سئل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال حمدني عبدي..” وساق الحديث مع إختلاف في ذيله يسير عن الرواية المتقدم ذكرها( ).
السابع: لعل في تسمية الفاتحة بالصلاة إشارات دقيقة إلى مضاعفة اجر قراءتها في الصلاة، وكأن قراءتها في الصلاة أكثر أجراً وثواباً من خارج الصلاة، وهذه حالة تدرك بالعقل والوجدان فيترشح الثواب الإضافي للفعل إذا كان جزءً من عمل شرعي ذي أولوية والظاهر ان للكل ثواباً خاصاً ينحل وينقسم على الأجزاء بالإضافة إلى الثواب الخاص لكل منها فجاءت هذه التسمية للتذكير بفضل الله تعالى في هذا الثواب.
ويضفي هذا الاسم على سورة الفاتحة لباساً فقهياً ملازماً لها لوجوبها في الصلاة وتكرار قراءتها من قبل المسلمين أفراداً وجماعات عدة مرات في كل يوم اذ يستقبلون يومهم بها لتعانـق آياتها الخيوط الأولى من الفجر ولتعم البركة وروح الإيمان الأرض وتتـزين الآفــاق بعد سكون الليل بما ينتشر في أجوائها من أصوات المسلمين وهم يتلون سورة الفاتحة في صلاتهم ليس في صلاة الصبح وحدها بل تتكرر التلاوة بآيات ظاهرة وخضوع، وامتثال نوعي وتوكيد لأحكام سماوية متكاملة، وسياحة في عالم الملكوت.
فتسمع أصوات المصلين يتلون آيات ســـورة الفاتحة عند الظهيــرة لتطرد عن النفوس ما تسلل إليها من معالم الدنيا ومباهجها عبر نهار عمل وساعات كسب واشتغال، كما تدفع عن النفس والبدن في الصلوات اليومية الأخرى أسباب التعب ومظاهر الكسل وليكون ذلك اليوم شاهداً لكل مسلم ختمه بتلاوة سورة الفاتحة في صلاة العشاء وعوناً له يوم الحساب.
وبسبب لزوم قراءة سورة الفاتحة في الصلاة أصبحت هذه السورة أكثر سور القرآن ترتيلاً وقراءة في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الأرض ووجود بني آدم عليها، إن إجراء عملية حسابية بسيطة لعدد الذين تجب عليهم الصلاة من المسلمين أو لمن يؤدي الصلاة اليومية من أهل الإسلام وعدد المرات التي تقرأ فيها الفاتحة في كل صلاة منها يظهر أرقاماً عالية، تبهر العقول وتكون حجة إعجازية ودعوة للتدبر في القدرة الإلهية على إنقياد الناس للإسلام ولقراءتها ،وفيه إشارة إلى حملها لأسرار تتعلق بأهل الأرض وأحوالهم واستمرار معيشتهم ودرء البلاء عن الجماعات والأمم، وكذا الأمر بالنسبة لعدد الركعات ومجموعها عرضياً.
أن سورة الفاتحة حبل رباني مبارك ممتد بين القرآن وبين الصلاة وطريق يومي يسلكه المسلم مرات عديدة لتلاوة القرآن والامتثال لأمره تعالى.
لذا فان تسمية سورة الفاتحة بالصلاة تتضمن دلالات خاصة وآلاء تحث على التأمل والدراسة والإجتهاد في الإستنباط وإستنتاج الثمرات المشتركة بين قراءة السورة وأداء الصلاة وتضفي على السورة شرفاً وقدسية إضافية وتجعلها مناسبة للأجر والثواب.
العاشرة : سورة الدعاء
لتضمن السورة على قوله[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ]( ) ومع أن آيات الدعاء موجودة في الغالبية العظمى من سور القرآن إن لم يكن في كل آية منها منطوقاً أو مفهوماً وأن قراءة القرآن بحد ذاتها شكر ودعاء وباب لقضاء الحوائج، إلا أن هذه التسمية جاءت لسورة الفاتحة خاصة لقيام كل مسلم مكلف بقراءتها عدة مرات في اليوم فيكون بها مواظباً على الدعاء ومبتعداً عن الغفلة، وملتجئاً إلى الله عز وجل قاصداً المسألة بعنوان أولي مستقل أو أن الدعاء والإلتجاء يأتي ضمناً وعرضاً بأداء فريضة الصلاة وقراءة الفاتحة فيها.
وسورة الفاتحة شاهد في باب الدعاء على أهلية المسلمين لوراثة الأنبياء، لتعاهدهم لسلاح الأنبياء وهو الدعاء، فبسورة الفاتحة يتوجه المسلمون إلى الله لطلب الرغائب، ومن الآيات أن هذه الرغائب ذات صبغة إيمانية محضة، وتدل على الإنقطاع إلى الله ورجاء فضله في الدنيا والآخرة، فيردد المسلم كل يوم مرات عديدة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] بالصلاة الواجبة وغيرها.
ومن الآيات أن يأتي الدعاء في سورة الفاتحة بصيغة الجمع (اهْدِنَا) مع اتحاد الموضوع وهو الصراط المستقيم، ليتلقى كل مسلم أجر وثواب الدعاء بألسنة كثيرة متعددة لم يعص الله بها، لقيام كل مسلم بالدعاء لنفسه وللمسلمين جميعاً، ودعاؤه لنفسه يؤهله للسؤال لغيره من المسلمين، وهو سر من أسرار الآية القرآنية ووجوب قراءتها في الصلاة اليومية.
فإن قلت إن المسلمين فازوا بهذه النعمة بفضل الله بنزول القرآن، قلت: لذا أفتتحت السورة بالثناء على الله تعالى، وتعظيم مقامه لتصبح قراءة الفاتحة سياحة في حضرة الملك الجبار، وشهادة حضورية ، وإخباراَ عن فتح باب الإنتماء للإسلام لكل إنسان .
الحادية عشرة : سورة الشكر
لأنها ثناء على الله تعالى ومدح له وإقرار بنعمه وتوالي أياديه وإحسانه وإفتتاح السورة بالحمد الذي هو رأس الشكر كما ورد في الحديث، وللمبالغة في الثناء وإفادته الاستغراق لأفراد الزمان إلى جانب ما فيه من مضامين الثبوت والدوام وظهور تعظيم الباري لإنعامه على اللسان بحسن الوظيفة.
والشكر من مقامات السالكين، ويتألف المقام هنا من علم يتم به تعيين المنعم وموضوع الإنعام، ويتفرع عن العلم الحال وهي الغبطة التي تحصل بتلقي النعمة،والإحساس بها ، ويترشح إنطباقاً إظهار حال الحب والإمتنان للمنعم.
فجاءت الآية شكراً لله تعالى على النعم مع صيغة التعظيم والتفخيم لمقــام الربوبية بما يؤكــد علم المسلم بأن النعم التي عنده فضل من الله عز وجل وأنه سبحانه يستحق الشكر المقرون بالتعظيم.
ومن فضل الله تعالى أن هدى المسلمين إلى شكره والثناء عليه بتلاوة آيات سماوية تفضل الله بتلاوتها على النبي محمد بواسطة الملك جبرئيل لتكون ضياء ينير لهم دروب الحياة، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ] ( )،
الثانية عشرة : الشفاء
وهو لغة ما يبرئ من السقم كالدواء، وسميت هذه السورة بهذا الاسم لبيان أهميتها في ساعة المرض ولثبوت نجاح العلاج فيها ولما روي عن النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم بأنها شفاء وسبيل علاج لما يلم بالإنسان المؤمن من مرض.
روي عن النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم قال: “فاتحة الكتاب شفاء من كل داء”، وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: “من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شيء”( ).
هذا إلى جانب الشواهد والآيات التي رآها المسلمون بأجيالهم المتعاقبة بخصوص منافع هذا السورة وأثرها الفاعل في الشفاء والنجاة من المرض.
الثالثة عشرة : الشافية
ذكر هذا التسمية لسورة الفاتحة الزمخشري في الكشاف، وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “فاتحة الكتاب شفاء من السم”( ).
والسم: القاتل وإطلاق هذه التسمية على سورة الفاتحة ومن قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة ملكوتية وبشارة وحرز وتوكيد على اعتبارها وقاية وعلاجاً فتسميتها بالشفـاء على لسان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وان جاءت بصيغة الخبر إلا أنها دعوة لإتخاذها علاجاً ووقاية وحــرزاً، وكثيرة هي الشواهد التي تدل على صدق وإنطباق هذا الاسم عليها، فيمكن القول أن هذه التسـمية من الأدلة على صدق ما يخبر به النبي صــلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا ينحصر بالقرآن بل يشمل غيره ومن ذلك علوم القرآن وأسرار آياته وسوره.
ومن هذا الحديث ونحوه تستظهر الحاجة لتأليف مجلدات خاصة بأسرار وفوائد وعلوم السور والآيات القرآنية من السنة النبوية الشريفة.
الرابعة عشرة : الوافية
الوافي لغة التام الذي لا نقصان فيه واستوفى حقه إذا أخذه تاماً وكاملاً، وسميت سورة الفاتحة بهذا الاسم لأن من لازمها أن تستوفى في كل صلاة سواء كانت فرضاً أو نافلة، ولا يجوز تجزئتها أو قراءة شطر منها في الركعة الواحدة، وقيل أن سفيان بن عيينة كان يسميها بهذا الإسم.
والإستيفاء بالفاتحة أعم من أن ينحصر بالقراءة، بل يتعلق بمضامينها القدسية، وما فيها من أسباب الهداية والرشاد، وهي مدرسة في الدعاء والإلتجاء إلى الله تعالى.

الخامسة عشرة : الأساس
وهو لغة أصل البناء وقاعدته التي يقوم عليها، ولتسمية الســورة بهذا الاسم وجوه منها أنها أول سورة من القرآن على قول لم يثبت، وأنها مشتملة على أشرف المطالب وإسمى الغايات، ولما روي عن ابن عباس أن لكل شي أساساَ وساق الحديث إلى أن قال وأساس القرآن الفاتحة، وأخرج الثعلبـي عن الشعبي “أن رجلاً شــكا إليه وجــع الخاصرة فقال: عليك بأســاس القرآن، قال: وما أساس القرآن قال: فاتحة الكتاب”( ).
السادسة عشرة : الكافية
يقال كفى الشيء يكفي كفاية إذا حصل به الإستغناء عن غيره فهو كاف، وسميت هذه السورة بالكافية لأنها تكفي عن سواها ولكن غيرها لا يكفي عنها، وذكر الطبرسي تأييداً لهذه التسمية ما رواه عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها( ).
ومجيء الاسم بصيغة الإطلاق (الكافية) يفيد الأعم في موضوع الكفاية، فهي حرز للمسلم وواقية من الشرور، كما أنها تكفي في القراءة عند الضرورة وضيق الوقت في دلالة على وجود مصداق عملي حاضر لكفاية سورة الفاتحة.

السابعة عشرة : سورة الكنز
أصل الكنز المال المدفون ثم إتسع ليشمل كل ما يقتنيه الإنسان ويجمعه ويدخره متخذاً إياه لعاقبته، وسميت السورة بهذا الاسم لإشتمالها على أصول معاني القرآن ولأنها كنز وخزينة من عالم الملكوت، وتشير التسمية في دلالتها إلى أهمية السورة وما في قراءتها من المنافع الدنيوية والثواب العظيم وما يدخره المسلم ليوم الحساب بمواظبته على قراءة سورة الفاتحة وإستغنائه بها يوم الفقر الأكبر، لما تتضمنه من الإقرار بالعبودية لله والإستعانة بالله تعالى والإنقطاع إليه بالمسألة.
هذا إلى جانب ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “بأنها أشرف ما في كنوز العرش”( ).

الثامنة عشرة : الرقية
الرقية كدمية وهي لغة العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغيره من الآفات، ذكر هذا التسمية ابن كثير في تفسيره.
وسبب التسمية ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: “انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على قوم فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم( ).
فلُدغ سيد القوم فسعوا له بكل شيء، فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا فأتوهم فسألوهم فقال بعضهم نعم والله اني لأرقى ولكن والله لقد إستضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال .
فأنطلق يمشي وما به قلبة، فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم أقسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا له فقال وما يدريك أنها رقية ثم قال: اصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً ، وضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”( ).
وتدل الرواية على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أطلق هذه التسمية والصفة على السورة، وفي القصة مضامين أخلاقية وعرفانية تستدعي الوقوف عندها بإجلال مقرون بالتحليل وإستنباط المعارف ووجوه الحكمة شأنها في ذلك شأن الروايات الأخرى للعهد الإسلامي الأول.
لقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فعلوا، ومن السنة تقريره صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جانب إستبشاره بفضل الله وشركته بقسمة الجعل رمزاً للإمضاء والود وروح التواضع.
لقد بادر هذا الصحابي إلى اتخاذ سورة الفاتحة رقية من غير نص بسبب صدق اليقين والهام آني قذفه الله في روعه حجة وتخفيفاً وتعويضاً عما لقوه من الجفاء وعدم الاستضافة ولزيادة إيمانه وأصحابه، خاصة وان حادث اللدغ جاء بعد صدهم وما أصاب سيدهم بالذات ليكون شفاؤه دعوة لهم لإعتناق الإسلام والاعتصام به، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
وتجسد هذه الوقائع عملياً المنزلة الرفيعة لسورة الفاتحة والوظيفة التي أنزلت من أجلها وتجعل الإنسان يتحسس عملياً ويدرك بالواقع الملموس ما روي في حقها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحثنا برفق على السعي الدائم للإستفادة من هذه السورة المباركة والحرص على حضورها في الذهن في أوان الحاجة وعند الفراغ أيضاً ولعل الأسرار التي تحتويها هذا السورة أكثر من تلك التي ظهرت منها.
وقد ذكر السيوطي في الإتقان أن اسم السورة”الراقية” والمعنى واحد ويدل على أهلية الموضوع لتعدد الإسم.
التاسعة عشرة : القرآن العظيم
القرآن اسم لكتاب الله الذي أنزله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مصدر كالغفران، وقد يطلق على الصلاة لما فيها من قراءة لبعض سور القرآن الكريم تسمية للشيء ببعضه، وعلى القراءة نفسها يقال: قرأ يقرأ قراءة وقرآناً.
وقيل سميت الفاتحة به لإشتمالها على المعاني التي في القرآن، وروي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الفاتحة: “هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم”( ).
وعن أبي سعيد بن المعلى قال: “كنت أصلي فدعاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم أجبه، قلت يا رسول الله: اني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ]( ) ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد فاخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله انك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن، قال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته( ).
العشرون : السبع
لأن السورة سبع آيات وهي الوحيدة من سور القرآن التي لها هذا العدد من الآيات ولبيان أن البسملة آية منها، وفيها سبع آداب في كل آية أدب، وقيل لأنها خلت من سبعة أحرف هي الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والطاء، ولكن التسمية تأتي بما يكون موجوداً في الشيء لا بالذي غاب عنه.
ومع هذا فان خلوها من سبع أحرف لا تخلو من حكمة وتوكيد للتناسق العددي فيها ووجود مفاهيم للصفات السلبية لها.
وكان العرب يحسبون السبعة ومضاعفاتها من الأعداد الكثيرة، وفيه تفخيم لسورة الفاتحة، وجاء القرآن على لغة العرب ليكون حجة عليهم، ومن وجوه الإحتجاج عليهم أن جاءت سورة الفاتحة بسبع آيات فقط، ولكنها تتضمن المعارف الالهية وتبين الصلة بين الرب والمربوب، التي تتقوم بالإنقطاع إليه تعالى بالشكر والثناء والدعاء.
الحادية والعشرون : سورة الحمد الأولى
بإعتبار أنها أول سورة فيها الحمد وكانت هادية إليه، وبها فتح باب الحمد وشكر الله عز وجل في القرآن سواء بلحاظ النزول أو الترتيب في سور القرآن.
وجاءت آيات كثيرة في القرآن بالحمد لله والثناء عليه تعالى، وجاءت هذه السورة بكاملها بالحمد.
الثانية والعشرون : سورة الحمد القصرى
في القرآن خمس سور تبدأ كل واحدة منها بالحمد لله بعد البسملة، وسورة الفاتحة أقصرهن وأقلهن في عدد الآيات، فآيات كل سورة منهن تساوي أضعاف عدد آيات سورة الفاتحة لذلك سميت بالقصرى ولبيان سهولة قراءتها وحفظها، والتقسيم والإفراد يدل على الأهمية، وهو دعوة لإكرامها وإيلائها عناية خاصة.
الثالثة والعشرون : فاتحة القرآن
لأن القرآن يبتدأ بها وأنها أول سورة تفتتح بها قراءته، وهذا الاسم للسورة ذكره السيوطي عن المرسي( ).
وجاء اسم سورة الفاتحة مطلقاً، وفيه وجوه:
الأول: هذا الاسم مقيد بأنها فاتحة القرآن، فهل يحمل المطلق على المقيد حسب قواعد علم الأصول، وأن اسم الفاتحة مطلقاً يراد منه فاتحة القرآن، للتبادر وظهور الموضوع، وهو إختصار لفاتحة الكتاب كما تقدم ذكره في تسمية (سورة الفاتحة).
الثاني: اسم الفاتحة أعم، ويراد منه الإبتداء في القرآن وغيره.
الثالث: اسم الفاتحة اسم علم جاء خصيصاً لهذه السورة ولا ينحصر بموضوع الإبتداء.
والصحيح هو الأول، والتعدد في أسماء السورة لموضوعيتها وعظيم نفعها وجزيل ثوابها ودلالة الأسماء المتعددة على ذات المسمى.
الرابعة والعشرون : سورة السؤال
سميت به لأن فيها طلب الهداية، ورجاء حسن الإنابة.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، والحاجة ملازمة لعالم الإمكان، ثم تفضل الله سبحانه وفضل المسلمين على غيرهم من الأمم، قال سبحانه [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن مصاديق تفضيل المسلمين على غيرهم من الأمم سورة الفاتحة فهي سلاح في السؤال من عند الله، والذي يدل بالدلالة التضمنية على الإقرار بالعبودية لله تعالى، وعدم إمكان الإستغناء عن رحمته، وأنه سبحانه القادر على قضاء الحوائج، وتيسير سبل الهداية ومن السؤال في السورة قوله تعالى [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الخامسة والعشرون : سورة تعليم المسألة
سميت الفاتحة بهذا الاسم لما فيها من آداب السؤال بالإضافة إلى إبتدائها بالثناء على الله تعالى كمقدمة لطلب الحاجة.
وسورة الفاتحة نعمة من عند الله، ومدرسة في المعارف الإلهية، فمن اللطف الإلهي أن يهدي الله عز وجل المسلمين إلى كيفية وموضوع المسألة، فلم يأت فيها السؤال عن حوائج الدنيا وحدها ، بل تضمنت سؤال السلامة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
السادسة والعشرون : سورة النور
لما تولـــده السورة في الصـــدور من إشـــراقات مباركــة، ونزعــة للإيمان وتوجه للهداية والرشاد وما تتضمنه من المعارف والعلوم وأبواب الحكمة.
وتبعث كل آية من آيات القرآن النور في قلب المسلم، وتأتي سورة الفاتحة لتقذف النور والبهجة في قلوب المسلمين لما فيها من مفاهيم العبودية والمسألة ، والشوق إلى مقام الربوبية، وإستحضار ذكر الله تعالى بالثناء عليه سبحانه.
السابعة والعشرون : سورة المناجاة
المناجاة لغة: الإستخلاص للسر يقال ناجاه مناجاة أي ساره، وسميت السورة بهذا الاسم لأن المسلم يناجــي بها ربه ويخاطبه ويتحدث إليه بروح التقوى ولسان الصلاح، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ]( ).
والمناجاة في سورة الفاتحة هي قول العبد [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] وتفيده أيضاً آيات أخرى من السورة ومضامينها العامة، وتتجلى معاني المناجاة واضحة في الفاتحة لكل إنسان.
الثامنة والعشرون : سورة التفويض
يقال فوض إليه الأمر تفويضاً أي رده إليه وخوله إرادة التصرف وجعله الحاكم فيه، وفي التنزيل[وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ]( ) وسميت الســورة بهذا الاسم لإشتمالها على قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] كما أن التفويض في السورة لا ينحصر بهذه الآية فقط، بل بالإقرار بالمعاد وإنفراد الله تعالى بالملك والسلطان يوم القيامة وبسؤال الهداية.
ويدل التعدد في عناوين اسم السورة على قدسيتها، وما تتضمنه من العلوم، وما لها من مكانة عند المسلمين وسمو مراتب الفضل التي تمتاز بها وما أولاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عناية إلى جانب ما في قراءتها من الثواب.
وهو توكيد على تعاهد حفظها واستحضارها والمبادرة الى تعليم الصبيان قراءتها وتدبر الكبار في معانيها ومضامينها السامية التي تجمع أصول العلوم ومناهل الحكمة وسبل الرشاد.
ويمكن أن تقسم تلك الأسماء حسب روايتها إلى أقسام :
الأول : الأسماء التوقيفية الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبار أنها عناوين ثابتة ذات وظائف محددة تشم منها رائحة البركة ولها مدلولات وغايات رسالية وفيها غنى وإكتفاء، خاصة وأن عددها ليس بالقليل، وكان الأئمة من آل محمد الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً يذكرون السورة بالأسماء التي ورثوها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الأسماء يمكن تقسيمها إلى شطرين:
الأولى: علم أصلي.
الثانية: تفسيري وتبعي.
فالرواية المذكورة في التسمية الثالثة”سورة الحمد” تبين إن اسم الحمد علم أصلي، و(أم القرآن) تفسيري وهكذا.
الثاني : الأسماء التي وردت عن صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاصرتهم لأيام نزول القرآن، ولمعرفتهم للمدى الذي يستطيع التحرك في إطاره من المباحات والمندوبات، وللزوم النظر بعين الإحترام لتلك الأقوال مجردة لموضوعية الصحبة بعناوينه الإجمالية ومفاهيمه التأريخية ولما كانوا عليه مجتمعين ومتفرقين من الحيطة والحذر من التكلم في القرآن بالرأي.
الثالث : الأسماء التي وردت عن التابعين باعتبار أنهم سمعوا صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخذوا عنهم إلى جانب عنايتهم بالقرآن وإشتغالهم اليومي بتفسيره، وإجتهادهم في البحث والتحقيق بأحكامه وعلومه، وحذرهم وتوقيهم من التعدي.
الرابع : الأسماء التي ذكرها المفسرون والفقهاء مما لم يرد ذكر لها في العصر الإسلامي الأول.
الخامس : الأسماء التي أستلت بألفاظهــا من بيان النبـــي صلى الله عليـه وآله وسلم لمنزلة ســـورة الفاتحة، وعظيم منافعـها كما في اسم الشفاء.
السادس : الأسماء التي أستنبطت عناوينها من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفسيره للسورة، والأخبار عن فضائلها وثواب قراءتها كما في تسميتها بالكافية.
ويمكن أن نقسم الأسماء حسب ما يتعلق بوظيفتها وما يرتبط بماهية المطالب وأبواب العلوم التي تتضمنها السورة، وهناك صور متعددة للتعامل مع وجوه التسمية أهمها:
الأول : إقرار الأسماء التوقيفية الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والنظر بعين الدراسة والتحليل للأسماء التي ذكرها غيره، وإختيار ما هو مناسب منها وفق أسس إسلامية ذات صيغ موضوعية وأحكام منهجية هادفة.
الثاني : أن نمضي جميع تلك الأسماء بإعتبارها تراثاً إسلامياً لا يخلو كل فرد منه من منافع كانت علة لإيجاده أو غاية له.
الثالث : دراسة كل اسم بصورة مستقلة دراسة منهجية تتناول جميع جوانبه وإستنتاج وإستخراج المناسب منها، أو توزيع تلك الأسماء على أبواب متعددة حسب إعتبارات علمية محددة.
الرابع : التحقيق في أسماء السورة بلحاظ السنة والدلالة وجهة الصدور والوظيفة العملية.
الخامس : الإكتفاء بذكر الأسماء التي ذكرت للسورة من غير النظر في الإختلاف بين طبقاتها وسمات كل منها بإعتبار أنها مجتمعة ومتفرقة تمثل تراثاً إسلامياً وعناوين قرآنية تضمنتها بطون كتب التفسير وأمضاها كبار الفقهاء والمفسرين عبر القرون الماضية.
السادس : إتخاذ أسماء سورة الفاتحة والبحوث المتقدمة الخاصة بها منهجاً ونبراساً في دراسة أسماء السور القرآنية الأخرى.
وإذا كان الإلتقاء عند رأي محدد أزاء تسمية السورة القرآنية أمراً ليس سهلاً فإنه أيضاً ليس بالمتعذر، ولا يكون الوصول إلى ساحله صعب المنال، خاصة وأن التراث الإسلامي قد وثّق الأسماء بتشخيص جهة الصدور وتحديد دلالاتها.
السابع : أن نتسامح في بقاء باب التسمية مفتوحاً ليؤتى بأسماء جديدة للسورة مستنبطة من آيات السورة وأحكامها ونضيف لها أسماء جديدة مناسبة وتعليل هذا الفعل بأنه زيادة في الحث على التدبر في مضامين السورة وتوسع في التفسير وتفصيل في التأويل خاصة وأن مثل هذا الفعل بعيد عما نهي عنه من القول في القرآن بالرأي، وأن بعض الأسماء التي مر ذكرها جاء بها تابعوا التابعين وربما إبتداءً وبياناً ويمكن أن نضيف أسماء أخرى لأسماء السورة ، تستقرأ من معانيها ومضامينها القدسية وما لها من الدلالات العقائدية وهي:
التاسعة والعشرون : سورة الثناء
لما فيها من الثناء على الله عز وجل، وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ليس شيء أحب إليه الحمد من الله تعالى ولذلك أثنى على نفسه فقال الحمد لله”( ).
والثناء المدح و الفخر، وهو المراد في المقام، وتتضمن سورة الفاتحة المدح والثناء على الباري عز وجل، إذ تبدأ بالحمد والشكر له تعالى، وحتى آيات الدعاء في السورة فانها تتضمن الثناء والشكر لله تعالى باللجوء إليه والإقرار له بالربوبية وأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه.

الثلاثون : سورة الإقتران:
للملازمة بين دخول الإسلام وقراءة الفاتحة ولزوم تعلم قراءتها وحفظها.
وما أن يصل المسلم أو المسلمة سن البلوغ حتى يتوجه لهما الخطاب التكليفي بأداء الصلاة والتي تتضمن وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعاتها، وكذا الذي يدخل الإسلام يجب عليه تعلم سورة الفاتحة وقراءتها في الصلاة، ومن شرف السورة أن حفظها واجب على كل مسلم ومسلمة.
الحادية والثلاثون : سورة الإبتداء:
لإبتداء المسلم القرآن بها وكذا دلالته وتفسيره وبها، يبدأ ترتيب سور القرآن.
لابد للسورة التي يبدأ بها القرآن من خصوصية، لذا جاءت آيات سورة الفاتحة مدحاً لله تعالى ومسألة وتضرعاً والتجاء وإحترازاً مما أصاب الأمم السابقة.
ومن الآيات تحقق الملازمة بين إفتتاح القرآن وإفتتاح القراءة في الصلاة، فكلاهما يبدآن بسورة الفاتحة.
الثانية والثلاثون : سورة المناسبات:
إذ أن الفاتحة تقرأ عند الإجتماع في المآتم وهو متعارف في كافة أنحاء العالم الإسلامي وتقرأ في المنتديات والمجالس.
الثالثة والثلاثون : سورة العقود : تقرأ الفاتحة عند إبرام عقود النكاح والبيع وغيرها وكأنها شاهد قرآني على العقود لتوثيق شهادة البينة.
الرابعة والثلاثون : ســورة العلوم: لما فيــها من المعــارف الربانيـــة والأصــول والقواعـد.
الخامسة والثلاثون : المنجية: لأنها باب للنجاة من الأذى والشر والهلكة، وقد تكون سبباً للنجاة من الموت جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ما يؤكد المنافع الدنيوية العظيمة لاتخاذ هذا الكنز سلاحاً وسبيلاً للشفاء والنجاة والفوز فقد قال في سورة الفاتحة: “انها من كنوز العرش وأنها لو قرأت على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجباً”.
السادسة والثلاثون : سورة الأصول والفروع: لما تتضمنه من الاحكام التكليفية والوضعية ومبادئ الإرادة التكوينية والشريعية.
السادسة والثلاثون : السورة البكر: لأنها لم ترد في الكتب السماوية السابقة فقد جعلها الله عز وجل هبة للمسلمين واكراماً لهم، وفيه دلالة على إستحقاقهم لهذه المنزلة والعز والتشريف بتعاهدهم لها وحفظهم لها هيئة ومادة وقولاً وعملاً فلا تجد مسلماً الا وهي مكتوبة في صدره وتملأ جوانحه.
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “والذي نفسي بيده ما انزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وأنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته”( ).
السابعة والثلاثون : الميسَّــرة: ورد قــولــه تـعـالى [ فَاقْــرَءُوا مَا تَيَسّـَرَ منْ القُرْآنِ ]( ) وكانت سورة الفاتحة هي التي تقرأ في كل فريضــة، فقد يســر الله عز وجل لكل مســلم حفظها، ومن اللطف لــزوم قراءتها في الصلاة اليومية وبذا تنفرد بخصوصية إعجازية، وكانت نموذجاً للقرآن المدخر في القلـــب والذي تجتمع الأمة على حفظـــه وتعاهده، إنه تشريف سماوي خاص بســورة الفاتحة، لذا ترى شــطراً من المســـلمين حينــما يقرأ ســـورة في الصـلاة يخشـى أن يخطـأ فيها أو ينســى بعض كلماتهــا أو حروفهـــا إلا ســورة الفــاتحة.

الثامنة والثلاثون : سورة الكمال : لأن بها تتم الصلاة وعليه الإجمــاع والنصوص وهي من دونها وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب”،( ) وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: “سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صــلاته قال: لا صــلاة إلا أن يقرأ بها في جهر واخفات”، ونسب إلى أبي حنيفة القول بان قراءة الفاتحة غير واجب، ونقل الرازي قوله: (ان صحة الصلاة غير موقوفة عليها، وأضاف وهذا من العجائب)( ).
ولكن عدم توقف صحة الصــلاة على جزء من أجزائها أعم من الوجوب وعدمه إذ أن واجبات الصلاة تنقســـم إلى قسمين واجبات ركنية وواجبات غير ركنية، فالقراءة من الواجبات غير الركنية وهي التي تبطل الصلاة بتركهــا عمداً ولا تبطـــل بتركهـــا ســـهواً ونسياناً أي لو نسـى المصلي قراءة الفاتحة حتى ركــع صحت صلاته مع إقراره بأنها واجب(وقال بعضهم: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي، أو قرأتها يعاتبني أبو حنيفة، فأخترت الإمامة)( ).
ولا تصل النوبة لمثل هذا الكلام وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)( )، ودخل حرف النفي على الصلاة مما يدل على أن قراءة الفاتحة شرط في صحتها، وليس هو سبب كمال.
التاسعة والثلاثون : الواقية: يقال وقيت الشيء اقيه اذا صنته وحفظته من الأذى القادم وورد التوقي في القرآن والســنة بالسعي لإجتــناب دخــول النار، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..]( ).
ومن أسباب الإحتراز من النار والوقاية منها قراءة سورة الفاتحة والمواظبة عليها في الصلاة.
روي ان جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: “يا محمد، كنت أخشى العذاب على أمتك، فلما نزلت الفاتحة أمنت، قال: لم يا جبريل؟ قال: لأن الله تعالى قال [ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ]( )، وآياتها سبع فمن قرأها صارت كل آية طبقاً على باب من أبواب جهنم، فتمر أمتك عليها منها سالمين”( ).
الأربعون : سورة الإتحاد: لأن المسلمين جميعاً يلتقون في قراءتها في الصلاة، العالم والجاهل، والسيد والعبد، والأب والولد، والرئيس والمرؤوس والذكر والأنثى.
الحادية والأربعون : الحاضرة : من الآيات في سورة الفاتحة انها تحضر في الوجود الذهني ساعة الحرج والعسر والخوف لأمور:
الأول: أنها لجوء إلى الله عز وجل.
الثاني: تتضمن الآية التمجيد والثناء على الله تعالى.
الثالث: السورة وثيقة سماوية تؤكد عظيم قدرة الله عز وجل، وانه لا تستعصي عليه مسألة.
الرابع: في الآية إخبار عن الربوبية المطلقة لله تعالى في الدنيا والآخرة فهو رب العالمين، وهو مالك يوم الدين.
الخامس: تتضمن الآية في مفهومها الوعد الكريم بالرحمة الإلهية والمطلقة، والإنسان ممكن محتاج لرحمة الله تعالى في السراء والضراء، ومن الآيات ان يأتي إسما الرحمن والرحيم في البسملة في آية مستقلة من السورة(روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية، الحمد لله رب العالمين آية، الرحمن الرحيم آية، مالك يوم الدين آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، إهدنا الصراط المستقيم آية، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية، وهذا نص صريح)( ).
الثانية والأربعون : سورة الذكر: في قراءتها يذكر الله عز وجل وصفاته الحسنى فهو الرحمن الرحيم ورب العالمين ومالك يوم الدين، وكثير من المسلمين وفي كل زمان حين يريد ذكر الله ويشتاق اليه يبادر الى قراءة سورة الفاتحة وتكرارها برضا وسعادة .
الثالثة والأربعون : سورة العوض: تكون هذه السورة بدلا لغيرها , ولكن غيرها لاتكون بدلاً وعوضاً عنها، كما في القراءة في الصلاة، وورد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها( ).
النزول
ترشح عن تلاوة سورة الفاتحة ووظيفتها في الصلاة وما لها من منزلة في نفوس المسلمين شوقاً لمعرفة مكان نزول السورة وجعل المفسرين والفقهاء يتحدثون عن موضوع النزول بعناية وحرص، خاصة وان الأمر يتعلق بالسورة التي تقرأ كل يوم في الصلاة ولها منزلة خاصة في تأريخ الإسلام، وفي نزولها ذكرت أقوال وهي:
الأول: هي مكية، أي أنها نزلــت على النبي محمــد صلى الله عليه وآله وسلم بمكة المكرمة قبل هجرته الى المدينة المنــورة واستدل على ذلك بأمور منها قوله تعالى [ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ]( ) من سورة الحجر وهي مكية، والروايات الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلـم حاكمة بان سورة الفاتحة هي السبع المثاني، ولغة الماضي الذي تنطق بها الآية تشير إلى الأخبار عن تقدم نزول سورة الفاتحة، و[آتَيْنَاكَ] وتفيد انه تم إعطاؤك هذا على فرض أن السبع المثاني اسم شخصي خاص لسورة الفاتحة وأن المقصــود في هذه الآيــة هـو سورة الفاتحة.
ولقد عززت قراءة المسلمين لسورة الفاتحة في الصلاة القول بانها مكية إذ أن الصــلاة شرعــت في مكة وليس هناك دليــل على عدم قراءتها في الصلاة قبل الهجرة من مكة، وربما ذهبوا الى هذا القول باعتبار أصالة عدم النقل لأنه أصــل عقلائي ولكنـــه أمر ينظـر فيه في باب وضع الألفاظ خاصة كما لو علمنــا أن لفظ الســفينة مثلاً هــو الفلك الجاري في البحــار فربما أوجب ذلك الظــن بانه كان قديماً، وكذا في الصلاة باجــزائها المتعارفــة الآن ولكنـه باب لا يصلح لإثبـات حكم كلي ولا دليل لحجيـة مثل هذا الظن كما تقـرر في علم الأصول.
إن اليقين بثبوت صفة مثلاً في الزمان اللاحق والمتأخر لا يستلزم بالضرورة الظن بثبوتها في الزمــان السابــق والمتقــدم عليه الذي كانت فيه تلك الصفة مشكوكة الوجود، وإن جاء القول بأن ما ثبت يمتلك أسباب الدوام.
وإعتبار (الإستصحاب القهقري) وهو ان يكون المشكوك مقدماً والمتيقن متأخراً فيأتي الإستصحاب بعكس عنوانه المصطلح أمر لم يقل به احد من الأصوليين حتى في باب الأخبار، لعدم دخوله ضمن قاعدة لا تنقض اليقـين بالشك) ولإنعدام وجود مستلزمات اليقين وزمانه، تلك المستلزمات التي تحول دون ترتيب آثار الشك.
لذا قد يتم التساؤل عما يدل على كونها جزءً من الصلاة قبل الهجرة عندما كان المسلمون في مكة وان الصلاة في بداية تشريعها كانت كما هي عليه في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وإلى يومنا هذا.
والظاهر أنها كانت موجودة جزء من الصلاة في مكة، وتسالم المسلمون على وجودها في الصلاة يبعث على الطمأنينة بأنها كانت تقرأ في مكة خصوصاً وأن أصل تقسيم القراءة في الصلاة إلى جهرية وإخفاتية كان في مكة، لأن المشركين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهار، والفاتحة عمود القراءة في الصلاة ولو كانت قراءة الفاتحة مستحدثة في المدينة لظهر ذلك في أخبار الصحابة وأحاديثهم وبيانهم لمراحل الإرتقاء في الأحكام والسنن، وترى موضوع النسخ في القبلة متعارفاً وثابتاً تأريخياً وعليه شواهد من آيات القرآن وردت على نحو الإخبار وفي التنزيل[وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ]( ).
ولم يتحدث أحد عن الركوع والسجود وإحتمال إستحداثهما في المدينة للتسالم على كونهما ركناً من أركان الصلاة، فكـذا بالنســبة لسورة الفاتحة، إن ما تتصف به سورة الفاتحة وما تحتله من عظيم المنزلة أمارة على كونها من أوائل الســور القرآنية النــازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإضــافة إلى النص الذي يــدل على نزولها في مكة.
إن الظن بعدم ثبوت قراءتــها في الصـــلاة قبل الهجرة لا يؤثـر سلباً في القول بان السورة مكية إستناداً الى الأخبار والقرائن الأخرى خصوصاً وأن كثيراً من السور هي مكية مع غياب الدليل على قراءتها في الصلاة آنذاك ولا يجب الإصرار المجرد على اعتبارها مكية لإعتبارات تتعلق بالصلاة وماهيتها وعناوينها التشريعية والحرص على قدسيتها ففي الصلاة ما نسخ في المدينة وهو اتجاه القبلة التي هي واجب في الصلاة، نعم يمكن الإستدلال بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم “لا صلاة الا بفاتحة الكتاب” على إعتبار السورة مكية لان الصلاة شرعت في مكة ولم تعهد صلاة في الإسلام بغير فاتحة الكتاب.
هذا بالإضافة إلى الأخبار عن أهل البيت عليهم السلام والصحابة بهذا الصدد.
وقد روي عن الإمام علي عليه السلام انه قال: “نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش”( ).
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال: “فاتحة الكتاب نزلت بمكة”.
وروي عن إسحاق بن يســار عن رجل من بني ســلمة قال: “لما أسلم فتيان بني سلمة وأسـلم ولد عمــرو بن الجمــوح قالت امرأة عمرو له: هل لك أن تسمع من إبنك ما روي عنه فقال: أخبرني ما ســمعت من كــلام هذا الرجل، فقرأ عليه الحمد لله رب العالمين الى قوله الصــراط المستقيم، فقال: ما أحســن هذا وأجــمله وكــل كلامـه مثل هذا؟ فقال: يا أبتاه وأحسن من هذا وذلك قبل الهجرة”( ).
وقد روي عن الإمام جعفـر الصادق عليه السلام انه قال: “رن إبليس أربع رنات أولهن يوم لعن، وحين أهبط إلى الأرض، وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حين فتـرة من الرســل، وحين نزلت أم الكتاب…”( ) الحديث.
وليس فيه ما يــدل على نزولهـــا بمكة إلا بالدلالة الإلتزامية لأنها عنوان الصلاة، ولموضوعيتها في القراءة عند المسلمين ولما فيها من المطالب السامية ولأن هذه المنزلة العظيمة تفيد بالبرهان حاجــة المسلمين إليها، خصوصاً في أيام الإسلام الأولى في مكة.
الثاني: نزلت مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة مبالغة في تشريفها فهي “مكية مدنية”، وقد ذكر أنها سميت مثاني لأن الله عز وجل أنزلها مرتين، وذكر هذا القول السيوطي المتوفى سنة 911 هجرية قائلاً: وذهب بعضهم إلى أنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة( ).
ولكنه لم يوضح من هو هذا البعض وزمانه والدليل الذي إستند إليه، وقال فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هجرية: قال بعض العلماء هذه السورة نزلت بمكة وبالمدينة مرة أخرى( ).
وما ذكر لا يصلح أن يكون معارضاً لما ورد من كون السورة مكية لأن الدليل في اعتبارها مكية يوفر لها عدة مزايا وأسباباً للترجيح لأن صلاح الرواية في إستنباط الحكم متوقف على أصالة الصدور المتعلقة بالسند كعدالة الراوي وإشتهار الرواية بين أهل التفسير والحديث، وكذلك جهة الصدور أي أن الخبر في بيان الحكم الواقعي وأصالة الظهور أي أنها نص ظاهر.
وعلل بعضهم نزولها مرتين بجواز نزولها في المرة الأولى على حرف واحد ونزولها في الثانية ببقية وجوه القراءة نحو ملك ومالك، والسراط والصراط وشبه ذلك وهو ضعيف.
وقال بعضهم قد يتكرر نزول الآية تذكرة وموعظة أو تعظيماً وتوكيداً لمنع النسيان وإحتماله، لذا ذهب جماعة إلى القول بنزول بعض آيات القرآن بتكرار.
الثالث: من أنكر نزول القرآن وآياته مرتين، وقال بأنه تحصيل لما هو حاصل، وهو قول إعتبره آخر مفتقراً إلى معرفة وملاحظة وجه الفوائد المتقدمة في تكرار النزول إن كان واقعاً، ويمكن التساؤل هل النزول الثاني بنفس منزلة وعنوان النزول الأول وبعرض واحد معه، أم أنه أدنى منه ولكن يصدق عليه أنه تنزيل.
والأقوى أنها نزلت مــرة واحـــدة في مكة وإذا كان هناك دليل على نزولها مرة أخرى فيحمل على النزول مجازاً ولكن مثل هذا الدليل لم يثبت.
ولقد كان جبرئيل يعارض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل ســنة مـــرة وفي السنة الأخيرة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا عارضه به مرتين، والمعارضة في المقــام تعني المقابلة والمدارسة ولا تكون نزولاً ثانياً ونحوه.
الرابع: نزلت الفاتحة نصفين، نصفها في مكة ونصفها في المدينة، حكاه أبو الليث السمرقندي( )، ونقله القرطبي عنه , وهذا القول خلاف ظاهر التنزيل والسيرة وليس من دليل معتبر عليه.
صحيح أن آيات من بعض السور المكية نزلت بالمدينة وهي مذكورة ومحددة مع بيان أسباب النزول باعتبارها قرائن ودلالات، ولكن القائل بأن الفاتحة نزلت نصفين لم يتمكن من بيان ما نزل منها بالمدينة، وقول السيوطي: الظاهر أنه النصف الثاني ضعيف ولذلك إستدرك قائلاً: لا دليل لهذا القول.
إن مثل هذا القول قد يكون في نقله مجرداً خالياً من الرأي مع ضعفه سنداً ودلالة فيكون سبباً للإنشغال والإرباك عند غير ذوي العلم من أهل الإسلام خاصة وأنه لا يمتلك مقومات التعارض والحجية , والكشف عن المراد.
والمعروف أن السور المكية تتصف بالقصر وقلة عدد الآيات وان كل سورة نزلت مرة واحدة في مكة، والفاتحة تتصف بخصوصية زائدة وهي أنها جزء واجب في الصلاة على القول بقراءة المسلمين لها في مكة في صلاتهم.
الخامس: إنها نزلت بالمدينة، ذكرو ا هذا القول عن مجاهد .
(قال الحسين ابن الفضل لكل عالم هفوة وهذه بادرة من مجاهد لانه تفرد بهذا القول والعلما ء على خلافه ومما يقطع به على أنها مكية قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) يعني الفاتحة( ) .
وقال الطبراني حدثنا عبيد بن غنام انبأنا ابو بكر بن ابي شيبة انبأنا أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة: “أن ابليس رنِّ حين أنزلت فاتحة الكتاب ونزلت بالمدينة”، ويحتمل إن الجملة الأخيرة مدرجة من قول مجاهد.
وإذا كان منشأ هذا الاحتمال نقل آخرين القول ذاته عن مجاهد فهناك أيضاً من نقل(عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة)( ) “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا برز ســمع مناديــاً يناديه يا محمد فقال: لبيك، قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: قل الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين حتى فرغ من فاتحة الكتاب)( ).
ونسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، القول بنزولها في مكة، مما يعني ان موضوع الخبر والواقعة في مكة، ولا تدل الرواية في مفهومها على أن الفاتحة أول سورة أنزلت .
ويمكن الجمع بين هذه الرواية والروايات التي تنص على أن سورة العلق هي أول ما نزل من القرآن والنداء أعم من النزول بلغة القرآن.

قوله تعالى
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] الآية 1

الإعراب واللغة
الباء حرف خفض كسر لبيان الفرق بين الحرف وبين ما يخفض وقد يكون إسماً نحو الكاف، وأطلق النحاة الكوفيون على حروف الجر اسم الإضافة بإعتبار أنها تضيف الفعل إلى الاسم وتربط بينهما، وسُميت حروف الصــفات لأنها تحدث صــفة في الاسم كالظــرفية مثلاً، وقالوا بأن الباء وما بعدها متعلقة بمحذوف، وموضعها عند البصريين الرفع على تقديــر: إبتدائي باسم الله)، فيكون الظــرف من الجــار والمجــرور خبراً للمبتدأ.
وقال الفراء ان موضعها النصب بمعنى ابتدأت باسم الله أو ابدأ باسم الله الرحمن الرحيم فيكون [ بِسْمِ اللَّهِ ] في موضع النصب مفعولاً به، وهذا القول هو الاقرب لقــولــه تـعالى [ اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ ]( ) بلحاظ أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، او ان الباء متعلقة بمحذوف تقديره باسم الله إقرأ بجعل اسم الله مقدماً على عنوان القراءة.
وتقديم اسم الجلالة مناسب لفلسفة الوجود وعلم الكلام فالقراءة كفعل من الممكن متأخرة زماناً، وللقارئ فيها حاجة لفقره ونقصه، ويصدر تأخر الفعل رتبة عن الاسم لأن الفعل مركب من الذات والحركة والحيز الإضافي.
(وقيل الباء للمصاحبة والمعنى متبركاً باسم الله تعالى أقرأ)، أو إقرأ مصاحبة إسمه تعالى كما تقول: اذهب بامان الله وحفظه وهذا القول قد لا يرتقي إلى درجة ما سبقه لأن مفهوم باء المصاحبة هو إمكانية مجيء (مع) في موضعها أو الاستغناء بالحال عنها وعن مصحوبها مثل [ وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ ]( ) أي معه أو كافرين.
وقال الكسائي الباء لا موضع لها من الإعراب، والمرور واقع على مجهول إذا قلت: مررت بزيد( ).
الألف في (إسم) للوصل لأنك تقول سمى، ويترجح الضم فيها على الكسر، كما أنها تحذف لفظاً وخفضـاً في (إبن) عندما يتوسط علمين بشــرائط محددة، كذلك قيــل بحذفــه في بســم الله الرحمن الرحيم خاصة.
وإستشهد بعض علماء العربية بشعر لا يمكن إعتباره حجة في المقام فضلاً عما فيه من البعث على التأمل، وهو قول:

أفي الحق أن يعطي ثلاثون شاعراً

ويحرم ما دون الرضا مثلي

كما سامحوا عمراً بواو مزيدة

وضويق ((بسم الله)) في ألف الوصل

لقد ذكــرت أقوال متعددة في حذف ألف اسم من الخط في بسم منها:
الأولى : ما قاله الفراء وهو كثرة الإستعمال.
الثانية : لأن الباء لا تنفصل.
الثالثة : حذفت لأنها ليست من اللفظ، ذهب إلى هذا القول الأخفش.
الرابعة : لأن الأصل سم، (بكسر الأول) وسم وقد ورد في النوادر لأبي مسحل سبحان من في كل سورة سِمه (بكسر الأول)، وربما حذفت حسب علم الرسم- لأنها جاءت بعد الباء في مضاف لاسم الجلالة بينما تراها ثابتة في (باسم ربك).
ومما يــرد عــلى القول الأول أنـه ورد في ســورة هــود أيضاً [بِاسم اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمرْسَاهَا]( )، بحذف ألف، وعلى غيره أيضاً إتصال الباء باسم من غير حذف للألف في أربعة مواضع من القرآن، قال تعالى[فَسَبِّحْ بِاسم رَبِّكَ الْعَظِيمِ]( )، وأجاز الكسائي حذف الألف في قول باسم الخالق وباسم الباري ولكن العمل المتعارف على خلافه.
وأضيف اسم إلى ((الله))، والرحمن صفة لله عز وجل مجرور ولا يثنى ولا يجمع لأنه لا يكون إلا لله عز وجل، والرحيم صفة أيضاً مجرور والعامل في الصفة هو العامل في الموصوف، وقال الأخفش: العامل فيهما معنوي وهو كونهما تبعاً، قالوا ويجوز نصبهما على إضمار يعنى على المدح، والرفع على إضمار مبتدأ بتقدير هو، ويجوز خفض الأول ورفع الثاني، ورفع احدهما ونصب الآخر، وهذا القول يمكن النظر له في باب أوجه الصناعة النحوية لأن القراءة بكسرهما متواترة.
الباء حرف هجاء من حروف المعجم، ولها إثنا عشر معنى أحدها الإستعانة وهي الداخلة على آلة الفعل حقيقة نحو كتبت بالقلم أو مجازاً كما في بسم الله الرحمن الرحيم وتقدير المحذوف.
ومن معانيها أيضاً المصاحبة وهو أكثر إستعمالاً من الإستعانة في الباء خاصة في المعاني ونحوها، والأٌقوى أن الباء في البسملة جاءت للإستعانة لما تتضمنه من وجوه الأدب والإستكانة والإلتجاء إلى الله وإظهار الضعف والعجز والإفتقار إلى أسباب الحول والقوة، وغير ذلك مما لا يخفي من الحسن واللطف في الإستعانة.
ولكن معنى الإستعانة لا يمنع من تضـمن باء البسملة لعنوان المصاحبة وفيه إشراقات من وجوه الفصاحة والبيان ومناســبة الحال والموضــوع وما يتعلق بمقام الربوبيــة وعظيم جــلال الألوهــية وموافقــة التبرك باسم الله تعالى لمظاهر التأدب والخضوع له المقرون بالتعظيم، إلى جانب أنه حرب على المشــركين الذين كانــوا يبتدأون بأسماء آلهتهم وفيه رد عليهم وصـد لسريان أسباب الشرك واعمال الكفر إلى غيرهم ومحاولة جهادية لتخليصهم من واقع الجهل والضلالة الذي كانوا يعيشون.
والتبرك باسم الله تعالى دعوة ظاهرة للتوحيد ولجميع الناس من غير حاجة إلى التوقف على التأويل بأنه آلة ما لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق مع غير قصده ذاتاً والجمع بينهما أمر ممكن ومعقول.
والحقيقة أن كلا المعنيين مناسبان للمقام ويصلحان للتعريف ويمكن أن تكون الباء للسببية كما تقول أكرمت زيداً بإيمانه أي بسبب إيمانه فبسبب حاجتي لله عز وجل ولأنه هو الرحمن الرحيم فاني أقرأ بإسمه تعالى.
وتكون الباء للإلصاق أيضاً كما لو قلت أمسكت بزيد ولو على نحو المجاز , ويصدق الإمساك ولو بجزء تابع له كالثياب فإن الإبتداء باسم الله كنز وذخيرة في النشأتين هدى الله المسلمين للتمسك به وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وجاءت الباء في [بسم الله] للإلصاق والمعنى ابدأ باسم الله تلاوة القرآن وفعل الطاعات لتكون البداية مباركة ويتغشى اسم الله والعمل العبادي المسلم ليكون في حرز وواقية.

في سياق الآيات
يتضمن هذا المبحث الشريف دراسة وتفسير الآية بلحاظ موضعها في القرآن والملازمة بينها وبين الآيات التي سبقتها أو جاءت متعقبة لها، وتنفرد البسملة هنا بعدم وجود آية قرآنية سابقة لها فيكون بحثها منحصراً بصلتها مع الآيات اللاحقة، وهذه الصلة أيضاً تتصف بخصوصية لما في البسملة من أنوار قدسية تفيض على القارئ وتملأ جوانحه وتساهم في إقباله وتأهيله لقراءة الآيات القرآنية الأخرى وتفتح صدره لفهمها والتدبر في معانيها.
ومع ان البسملة تتعلق في علم سياق الآيات بما بعدها فقط فانها أعظم وأفضل الآيات في هذا الباب فيتعلق موضوع الآية القرآنية بالآيات التي قبلها وبعدها.
أما البسملة فتترشح فيوضاتها على تلاوة جميع آيات السور وإن كثرت، لأنها تتضمن الإعلان بإفتتاح التلاوة ببسم الله عز وجل وهذا الإفتتاح يتغشى آيات السورة كلها.
ويتجلى اللطف الإلهي بالمسلمين بإبتداء القرآن بالبسملة لتكون واقية ووسيلة سماوية مباركة لإنجاز الأمور وقضاء الحوائج وإزالة الموانع، وعوناً للإنبعاث نحو المقاصد السامية .
إعجاز الآية
لقد وردت النصوص بقرب بسم الله الرحمن الرحيم إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها، وفي بعضها أنها أعظم آية في كتاب الله، وبالإضافة إلى ما تحتويه هذه الآية من الأسرار فان تكرارها الدائم وإفتتاح القراءة والأقوال والأعمال بها سر قرآني وجزء من فلسفة وجود الإنسان في الأرض، بالإضافة إلى ما في قراءتها من الثواب وعظيم نفعها في الآخرة.
وستبقى البسملة شعاراً إسلامياً حاضراً في كل مناسبة وملاذاً ودليلاً، ووجودها في أول كل سورة من سور القرآن إلا براءة دعوة للمواظبة على قراءتها وتعاهدها وحفظها وملازمتها وعدم التفريط فيها لعظيم نفعها وبركاتها خصوصاً وأنها تتضمن مع قلة كلماتها ثلاثة من أسماء الله عز وجل.
وبلحاظ قراءتها في الصــلاة اليوميــة فإنها عنوان وحدة المسلمين وهذا من الإعجــاز الغيري للقــرآن، فلا يختلف إثنان من المسلمين وفي كل الطبقــات والأماكن في وجــوب قراءة ســورة أو عدة آيات مع الفاتحــة في الصلاة.
وهذه الآية من وجوه تفضيل المسلمين بنزولها في أول القرآن وافتتاح السور كلها بها، وتلاوة المسلمين لها في الصلاة ، وعند كثير من المعاملات والحاجات وتسليمهم بموضوعيتها في حياتهم اليومية الخاصة والعامة، وما من مسلم أو مسلمة إلا ويقر بالحاجة إلى البسملة وما لها من المنافع العظيمة.
والبسملة جزء من الإعجاز البلاغي للقرآن فمع قلة كلماتها فانها تتضمن قوة المعاني وجزالة الألفاظ والإختيار الإلهي لاسم الجلالة واسم الرحمن واسم الرحيم ، وذكر كل واحد منها ، وإجتماعها في هذه السورة أمور تستلزم الشكر لله تعالى على لطفه وفضله تعالى على المسلمين.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “البسملة”
إفاضات الآية
يتطلع الناس جميعاً إلى أول آية من آيات أفضل كتاب في الوجود وهو القرآن من وجوه:
الأول: انه آخر الكتب السماوية، فليس هناك كتاب بعده.
الثاني: هو الناسخ لغيره من الكتب وليس لأي آية من آياته ناسخ من غيره.
الثالث: القرآن جامع لعلوم التنزيل، وأسرار التأويل.
الرابع: نزل القرآن على أفضل الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع الإقرار بان كل آية منه ذات خصوصية، وأنه ليس من فضل لآية على آية لأن آيات القرآن كلها كلام الله عز وجل، وليس من فارق رتبي بينها بلحاظ التقديم أو التأخير، أو الموضوع والحكم.
ومن الناس من يحب أن يعلم ما هي أول آية في القرآن وما هي منافعها ودلالاتها، فتطل على الأرض بإشراقة قدسية آية “بسم الله الرحمن الرحيم” بإعتبارها كنزاً سماوياً مدخراً للمسلمين لكونهم[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويتخذ كل مسلم ومسلمة البسملة ملاذاً وملجأ وهي حبل مبارك ممتد من السماء إلى الأرض يدعو المسلمين للتمسك به، ومن الآيات أن كلمات البسملة قليلة وسهلة النطق والحفظ، وخالية من غير أسماء الله تعالى، وليس فيها إلا اسم الجلالة واسم الرحمن الرحيم وكل واحد منها يدل على توالي النعم الإلهية، وسعة رحمة الله وتغشيها للناس جميعاً، وفيه سلامة من الغلو، وحرز من الإستعانة بغير الله، دعوة لنبذ الشرك.
وفي الدعاء عن الإمام علي عليه السلام: “يا من دل على ذاته بذاته”( ) وجاءت البسملة هنا لتكون دلالة على وجوب عبادة الله، فهي سبيل الى الهدى والتفكر بآيات الله وبديع صنعه، وتجعل البسملة قلب المسلم روضة من رياض الجنة وينبوعاً للخير والصلاح.

الآية لطف
بداية القرآن بالبسملة شاهد على أن القرآن لطف محض وفيض متصل، وتبعث البسملة الأمل في نفس المسلم عند قراءتها، لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان ونفخ فيه من روحه ليكون صلة بين الرب والمربوب، وتفضل وجعل بدايته “بسم الله الرحن الرحيم” لتسبح روحه في عالم الملكوت ويتخذ التوكل على الله سلاحاً يقهر به الصعاب، وفي البسملة أمور:
الأول: أنها جذبة من جذبات الخالق للعبد بقيد الإسلام.
الثاني: إنها نعمة ورحمة إختص الله بها المسلمين.
الثالث: هي حرز من الآفات وأسباب الهلكات.
الرابع: واقية من غلبة النفس الشهوية والغضبية، ومن وسوسة الشيطان.
الخامس: البسملة وسيلة سماوية مباركة للإرتقاء في مراتب المعراج.
والبسملة سر من أسرار خلق الإنسان وشاهد على تعاهد الإنسان لوظائف الخلافة بان يتلو البسملة ويجعلها بداية لعمله ومفتاحاً لقوله، وفيها تأديب للمسلمين والناس جميعاً، ودعوة لإستحضار ذكر الله تعالى في حال الشدة والرخاء.
وحينما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، رد الله عز وجل عليهم بقوله سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فأذعن الملائكة مسبحين، ومن علم الله عز وجل في المقام إمتلاك المسلمين لسلاح البسملة وإبتداؤهم به في عباداتهم وأعمالهم، وهو من مصاديق الفلاح والذكر المتصل في الأرض.
وهل البسملة من مصاديق الذكر في قوله تعالى في وصف المتقين[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، الجواب نعم لأن البسملة نوع توكل على الله، وعزم على الشروع بما يرضي الله.
وورود البسملة في بداية القرآن من مصاديق إمامة القرآن للناس جميعاً، لما فيها من الهداية إلى الرشاد وسبل النجاة، والحث على إفتتاح الأعمال الفردية والعامة ببسم الله تعالى، وتلاوة البسملة نزع لرداء الكبرياء عن الإنسان سواء من يقوم بتلاوتها أو من يستمع له أو يسمعه، وهي حرب على الشرك والضلالة، وسلاح سماوي لجذب الناس إلى منازل التوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى.
من غايات الآية
للبسملة غايات كريمة على وجوه:
الأول: ما يتعلق بكلماتها وما فيها من الأسماء الحسنى، فكل اسم فيها مدرسة في المعرفة الإلهية، ودليل ينير دروب الهداية للمسلمين، فمع كثرة أجيال المسلمين المتعاقبة، وإتساع رقعة الإسلام فان البسملة سلاح مبارك ينحل بعدد المسلمين ليكون نفعاً محضاً، وخيراً متصلاً.
الثاني: إبتداء سورة الفاتحة بالبسملة، وإختلف المسلمون في جزئية البسملة من السورة أو عدمها، ولكنهم إتفقوا على أنها آية من سورة الفاتحة، وتلك آية في تفقه المسلمين بالقرآن وعلومه، وشاهد على عدم وجود زيادة او نقيصة في القرآن.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التشريف والإكرام بأن تلهج ألسنتهم بأسمائه الحسنى ويتغشاهم النفع العام من ذكر الله تعالى والخشية منه، وإقتران الخشية بالحب لله تعالى، فكما أن نزول البسملة عنوان لحب الله للمسلمين، فان قراءة المسلم للبسملة شاهد على حب المسلم لله تعالى، وغرقه في جلاله وإقراره بكرمه وجوده وإحسانه وواسع رحمته تعالى.
الثالث: ما في البسملة من المعاني القدسية، ومضامين البركة، وتجزي البسملة عن الإستعاذة، وهي مناسبة كريمة للإقبال بشوق على آيات القرآن، ومقدمة للتزود والنهل من علوم التنزيل , وفيها نزع للإنشغال بالدنيا وهمومها، ومنع للكدورات الظلمانية والحجب الجسمانية،.
ومنافع البسملة أعم من أن تنحصر بالدنيا، فتشمل أمور الدين والدنيا، وتنفع القارئ والسامع من المسلمين في الدنيا والآخرة، وجعلها الله قريبة من كل مسلم بلحاظ وجودها في أول كل سورة، وقراءتها في الصلاة اليومية لتكون لها موضوعية في حياته، وتصير ملجأ يلجأ إليه لقضاء حوائجه وطلب الرزق وهي جزء من بلاغة القرآن.
والبسملة مقدمة كريمة للدعاء، بل هي ذاتها دعاء وإستغاثة ولجوء إلى الله تعالى، تفضل سبحانه وجعلها فاتحة كريمة للكتاب ، وبداية لفاتحة أول سورة منه.
الآية سلاح
إجماع عامة المسلمين على أن البسملة سلاح وعون في الشدائد وواقية وحرز وهداية ورشاد، ويشعر الجميع بالحاجة لها في الضراء والسراء.
وهي الآلة المعنوية للشروع في العمل، وتبعث على التوجه نحو المعبود عند إبتداء العمل لتكون مناسبة للشكر القولي والقلبي، وإستحضاراً لذكر الله تعالى، ومن الآيات في ماهية المسلم أن يبادر إلى البسملة عند الشروع في فعل أوإتخاذ قرار أو إيقاع أو إجراء عقد .
ومن أسرار تفضيل المسلمين في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ورود آية البسملة في القرآن وإعتبارها في الحياة العملية، وفيه وجوه:
الأول: تشريف المسلمين بنزول هذه الآية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيهم لها.
الثاني: الآية شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين ونيله مرتبة تلقي هذه الآية من عند الله وتعاهد أمته لها.
الثالث: إختصاص القرآن بالإفتتاح بآية البسملة دليل على تفضيل القرآن على الكتب السماوية.
الرابع: إنتفاع المسلمين من آية البسملة في أمور الدين والدنيا.
لقد إقترنت البسملة بالمسلمين، وهي صاحب كريم لهم إلى يوم القيامة لا تفارقهم ولا تغادرهم لتكون وسيلة ملكوتية لدفع الشرور والنحاسة وأسباب الكدورة.
بحث أصولي
تمتلك الألفاظ خصــوصية تؤهلها للدلالـــة على معانيـها التي وضعت لها وإن لم تكن ذاتية كدلالة إحمرار الوجه الطارئ على حال الخجل، أو دلالة التسخين على النار، وإنما دلالة الألفاظ على معانيها تكون بالجعل والتخصيص وبتوسط الوضع، لذا تراها تختلف من لغة إلى لغة، فالكتاب مثلاً يسمى بألفاظ مختلفة بتعدد اللغــات العالمية وان كان المسمى واحــداً، ولكن الوضع لكل أمــة يجمــع في التصــور بين اللفظ والمعنى.
وينقسم الوضع على المشهور إلى أربعة أقسام وفق التقسيم العقلي الإستقرائي: أحدها هو الوضع عام والموضوع له خاص، فالموضوع له لم يقصد بذاته ومن هذا القسم الحروف، وأسماء الإشارة، والضمائر ، وأسماء الإستفهام.
وبلحاظ المقارنة أو الجمع بين وضع الحرف والاسم وجوه :
الأول : إتحاد الموضوع بين الاسم والحرف إذا كان يقصد بكل منهما ذات المعنى فكأنهما من المترادف كما في (الباء) والسبب، و(على) والإستعلاء، و(من) وإرادة الإبتداء بها أو كلمة الإبتداء، أي ان المعنى واحد إن قلت الفاتحة إبتدائي، أو: ابتدأت من الفاتحة، والفرق أن الحرف ليس له معنى مستقل.
الثاني : ليس للحروف معان في الأصـل والوضع بل أن معانيها تترشح على ألفاظها من الإستعمال وينتقل السامع في تصوره إلى معناها بحسب كثرة الإستعمال والتوظيف.
الثالث : التباين بين المعنى الإسمي والحرفي فالاسم له معنى مستقل في ذاته، أما الحرف فقد عرف كما هو شائع بأنه ما دل على معنى في غيره، وهذا لا يعني نفي ما له من موضوعية واعتبار في المعنى، ولكنه غير مستقل بالمعنى كالاسم وكأنه نسب وارتباط.
إن عدم إستقلال الحرف بالمعنى ذاتاً كالحرف الباء، من، إلى، لا يعني عدم اعتباره وتعدد وظائفه بل بالعكس إن الماهية المهملة وعدم تكون معنى مستقل للحرف لضعفه ونقصه إلا مع غيره تجعلنا لا نحصر مفهومه في الآية القرآنية تفسيراً وتأويلاً بمعنى دون غيره وإنما ننظر لها وفق ما أطلقنا عليه قانون (المعنى الأعم) في علوم القرآن، وبالسعة والشمول خصوصاً في موضوع إبتلائي متجدد يتكرر عدة مرات كل يوم، وفي ميادين متعددة وهو الإتيان بالبسملة إذ نحتاجها في الصلاة والتذكية وتستحب في أفعال كثيرة سواء آلة ومقدمة لفظية مباركة للإبتداء أو للتبرك والإلتجاء والإجزاء عن الإستعاذة.
وحري بعلماء التفسير أن ينظروا بعين السعة وبيان تأويل الآيات وإتخاذ الصناعة النحوية وقواعدها وسائل وأبواباً للمعرفة في العلوم الربانية والســياحة الفكــرية في مطلـع الآية وحدها وأوجـه الكلمة القرآنية المتعددة وعدم الوقوف عند وجه نحوي أو بلاغي واحد أو النظر من زاوية وعلم واحد، خصوصاً وأن هذا التقسيم والتفصيل في معاني الباء إستقرائي.
مفهوم الآية
وإفتتاح القرآن بالبسملة إشراقة نورانية دائمة تبعث الفيض والبركة على الأرض والسكينة لمن تحتها من الأموات، ومجيء البسملة باسم الجلالة والتقديس المطلق عنوان التشريف لأهل الأرض بذكر مرتبة الألوهية الجامعة لمضامين الربوبية والقيمومية وصفات الجمال، والكمالات التي تتضمنها الأسماء الحسنى.
إنه جذب للعقــول ودعــوة للإيمــان واثبات لعجــزها عن درك الذات المقدسة وتوكيد ظهور اسم الله تعالى في القرآن وحجة على كل مخلوق تدل على الخالقية والربوبية المطلقة وانفراده بالتأثير في الذوات والأعراض والأكوان، وما من فعل لملك مقــرب أو نبي مرســل إلا بأذنه وأمــره فعلاً أو محــلاً، إيجـاداً أو محواً وهذا الإذن يأتي على نحو القضية الشخصية وزمان مخصوص وبرهاناً وحجة ودعوة للإيمان ولا يتنافى مع إنفراد الله سبحانه بالولاية التكوينية، قال تعالى[يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ]( ).
ولم يأت ذكر الله عز وجل في البسملة بصــفة من صفاته الحسنى فقط لأن كل صفة تدل على لحاظ قدسي معين فالرزاق يدل على بسط الرزق لمن يشاء من عباده والرحيم عنوان نشر رحمته وإستدامة رأفته وهكذا بالنسبة للأسماء الحسنى فجــاء اسم الجلالة في إفتتاح القرآن مدخلاً للإستغراق في المعرفة الإلهية وعنواناً جامعاً لصفات الجلال والإكرام، ويبعث في النفس الشوق إليه سبحانه وهو من اجل المقامات وأكرم الأحوال.
والغبطة والسعادة بقراءة القرآن والتدبر في آياته، والشوق آية ذاتية تجعل النفس تنجذب إلى الشيء وتصل إلى المرام والغاية والسعي والتحرك نحو الكمال الإنساني، وتنفــي البسملة عن النفس الخوف والحزن من لقاء الله تعالى لأن ذكره يجعل النفس تميل إليه ولا تنفر منه.
وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من احب لقاء الله احب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه( ).
ومن مفاهيم البسملة وإفتتاح القرآن بها أنها ذكر لله تعالى، والذكر مطلوب بذاته وهو وسيلة لقضاء الحــوائج بإعتــبار أن الإنسـان ممكن فقير دائم الحــاجة لابد ان يســأل المنعــم بصــيغة وأدب مناســــب فجاءت البسملة لتكــون عند الله تعــالى ســؤالاً والتجـــاء وشــكراً على نعمة الخلق ولو علم الناس ما في تكرار البسملة من قضاء الحوائج ونزول النعم ودفع للنقــم لما فارقــت ألسنتهم، ولا غابت عن أذهانهم، وهو المســـتقرأ من النصـــوص المســـتفيضة التي وردت بخصوصها وإبتداء القرآن بها علامة على عظيم فضلها وجليل قدرها وهو دعوة لتعاهدها.
وتقديم الرحمن على الرحيم له دلالات ومفاهيم تتعلق بعظيم رحمة الله وآثارها يدركها أهل الإشارة وأصحاب العبارة وفي أحوال المبدأ والمعاد ولأن صفة الرحمن ينتفع منها الناس جميعاً في الحياة الدنيا دون الآخرة جاء تقديمها لدعوة الناس إلى الإسلام والتدبر في آيات القرآن ونيل الجزاء العاجل، ومن التلفظ بها ثم ترد صفة الرحيم وهي خاصة بالمؤمنين وعامة لأحوالهم في النشأتين.
ومن مفاهيم البسملة أمور:
الأول: ترسيخ لواء التوحيد في الأرض.
الثاني: طرد الشرك من النفوس.
الثالث: المنع من سلطان الطواغيت على القلوب وعالم الألفاظ.
الرابع: إنها سلاح عقائدي لمحاربة الكفر والجحود.
الخامس: إنها هوية إيمانية وعنوان الوحدة بين المسلمين وإن تباعدت أقطارهم وتعددت جنسياتهم وهي من أفراد الأخوة بينهم في قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
السادس: البسملة حرب على الضلالة.
السابع: فيها دعوة لنبذ مفاهيم الجحود.
الثامن: إنها سيف موجه إلى الكفار ليبعث في نفوسهم الفزع والخوف ويجعلهم يندمون على إقامتهم على المعاصي والذنوب.
التاسع: في البسملة دفع ورفع للجهل والغفلة.
أنها مدرسة علمية قائمة بذاتها وتدل تلاوتها والحرص على تكرارها على التفقه والإرتقاء في منازل المعرفة، وفي مجيء صفة الرحمن والرحيم في بداية القرآن مع الإقتران باسم الجلالة مسائل:
الأولى:إنه لطف إلهي محض.
الثاني: فيه دعوة للتوبة والإنابة.
الثالث: منع من تسلل الشك واليأس إلى القلوب المنكسرة، والبسملة من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الرابع: إنه مناسبة لشكر العباد لله تعالى لذا جاءت آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) بعد البسملة مباشرة بإعتبار أن البسملة نعمة تستحق من المسلمين الشكر لله تعالى وتدل صفة [رَبِّ الْعَالَمِينَ] على تغشي رحمة الله تعالى للخلائق كلها.
التفسير
الاسم مشتق من السمو والعلو، لأنه تنويه وإكرام وعنوان العلو، فلو ناديت شخصاً باسم الإشارة وليس الإسم، فقد يكون عرفاً إنتقاصاً واستخفافاً بشأنه، وأختلف في تقدير أصله قيل فعل (بكسر الفاء) وفيه أربع لغات اسم واسم وسم (بالكسر) وسم.
ويمكن أن يكون مشتقاً من السمة على مذهب الكوفيين ولكن حجته التي تنبع من أصل الإشتقاق في لسان العرب واسم الشيء وسمه- بحركات السين الثلاثة – وسماه: علامته( )، وقيل مشتق من السمو بمعنى الرفعة، والألف فيه ألف وصل وربما جعله بعض الشعراء ألف قطع للضرورة الشعرية كقول الأحوص:

وما أنا بالمخسوس في جذم ما بك

ولا من تسمى يلتزم الإسما

والاسم أحد الأسماء العشـــرة( ) – وفي المفصــل أحـد عشر – التي بنيت أوائلها على السكون وتزاد همزة عند الإبتداء بها إجتناباً وتحاشــياً من الإبتداء بالســـاكن وان كان ذلك جائزاً – لإعتبارات البراعة ورصانة الألفاظ وأحكام الكلام وســلامة اللغة وتهذيبها واجتناب اللكنة.
وكره الإبتداء بالساكن نطقاً وسمعاً، وكذا الوقوف على المتحرك باعتبار أن الاول كالأس في تشييد البناء، والثاني كالانتهاء منه وضده، وتسقط هذه الهمزة التي يتوصل بها إلى النطق بالساكن عند وصل الكلمة بما قبلها.
والاسم لفظ للدلالة على جوهر أو عرض وعنوان يرمز إليه بمعزل عن الزمان، جعل للتمييز بين الأشياء وللتنويه قال لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولاً كاملاً فقد إعتذرا

وأختلف في تعريف ومفهوم الاسم فمنهم من جعله عين وذات المسمى، ومنهم من جعله صفته أي غيره لأن الصفة غير الموصوف وقد يراد منه الهوية والوجود، أو اللفظ والمعنى اللاذهني او مدلول اللفظ أي بينه وبين المسمى خارجاً.
ونسب إلى الأشعرية القول بأن الاسم نفس المسمى وقال المعتزلة ان الاسم غير المسمى وتبدو كفة القول الثاني هي الراجحة ويمكن اعتبارها من البديهيات فلماذا هذا الإختلاف؟ الجواب: أن النزاع صغروي وأصله التباين في معنى الإسم، فالمعروف أن الاسم هو الصوت المتكون من حروف مؤلفة تنصرف إلى معنى مقصود من القائل ويفهمه السامع ومنهم من قال: إن الاسم هو المسمى بعينه وذاته، وعرفه ابو الحسن الأشعري بانه المسمى والعبارات عنه تسميات له، لذا إعتبر الأشعرية التسمية ذات الاسم .
والاسم بالدلالة قد يتبدل أو يختلف بلحاظ الزمان والمكان واللغة والمسمى لا يتبدل، والعكس في الحدوث ممكن أحياناً، والاسم متأخر في وجوده عن المسمى، والشيء لا يتقدم على نفسه ولا يتأخر.
وقد تكون للشيء أسماء كثيرة، وهو المسمى (بالمترادف) وقد يكون لفظ الاسم واحداً ولكنه يقع على أعيان عديدة وهو المسمى (بالمشترك اللفظي) ومع ظهور الفرق بين الاسم والمسمى فان وظيفة الاول تجعل هذا الفرق يبدو واضحاً في حالات القصد والإعتبار، فاسم الله عز وجل يدل عليه , وإحاطته بهالة من القدسية أدب تفرضه صيغ الإيمان، وتقرر في الفقه عدم جواز مس الجنب والمحدث لاسم الجلالة (الله) وسائر الأسماء الحسنى والصفات الخاصة للباري عز وجل.
وقيل تعمد اهانة اسم الله في اللفظ والكتابة كفر.
وجاء ذكر الاسم في البسملة لعظيم شأن القرآن وبيان أنه نازل من عند الله، وأنه يقرأ من روح الوحي، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء به مبلغاً من عند الله عز وجل، وإن آياته وأحكامه نازلة منه تعالى لتثبيت دعائم العبودية في الأرض، ولينال المسلمون الثواب في الدارين وفق القواعد والأنظمة التي وضعها وجعل منها أسساً للشريعة وموازين الثواب والعقاب، كما دأب الناس على ذكر اسم السلطان والملك ذي الشأن العظيم إذا أرادوا فعل أمر لأجله , ويقول القائل: أعمله باسم فلان، وإن كان قياسا مع الفارق، إذ يتخلف المثل مراتب لا متناهية عن المقام.
إن الإتيان بإسمه تعالى عند الابتداء بقراءة القرآن نعمة دائمة على أهل الأرض لما فيها من معاني التسليم وإظهار الإنقياد والإنصياع لإرادته تعالى إلهاً وملكاً كجزء من الإقرار له بالربوبية ومن دون الخروج عن أحكام العبودية وآدابها وطرداً للجهل والتوهم.
بالإسناد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سر أمره وعلانيته فأولئك هم المؤمنون حقاً”، (وفي العيون عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في معنى قوله [بِسْمِ اللَّهِ] قال: يعني اسم نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة، قيل له ما السمة؟ قال: العلامة)( ).
إن الإبتداء باسم الله تعالى نــوع إلتجــاء وإســـتغاثة وقد تقدم أن الإتيان بالبســملة يغنــي عن الإســـتعاذة , وهي مدرسة أخلاقية وعرفانيــة تجعل الإنسان يســـتحضر ذكـر الله تعالى عند إبتدائه بكل عمل مطلقاً كما تساهم هذه الإستعانة بتدبر القراءة ووعي معاني الآيات لأن البسملة سور وقائي مبارك يحصن النفس من إتباع الهوى والغفلة عند القراءة، ويضفي الحسن على الفعل، ولكل اسم من أسمائه تعالى قدسية خاصة، وجاء ذكر الاسم في البسملة بصيغة الإطلاق والتعظيم وفيه دلالات:
الأولى: التوكل على الله تعالى فبذكره يفتتح العبد قراءته.
الثانية: اسم الجلالة في البسملة للدلالة والبيان , وتأكيد الإيمان.
الثالثة : للإجزاء وكفاية المعنى الإجمالي للاسم والتبرك ولمصاحبة الإستعانة.
الرابعة : المعنى الأعم من هذه الوجوه الثلاثة وهو الظاهر فضلاً من الله تعالى ولأن المقام من مقامات المدح والثناء ومن مصاديق الإرادة التكوينية والتشريعية.
الخامسة : إلتماس البركة المترشحة عن ذكر اسم الله فهو سبحانه الذي يفيض البركات لا الصوت ولا الحرف، ولكن الكلام العربي يحمل على الحقيقة , وليس من مانع أن الله تعالى أضفى بركات خاصة على ذات الاسم لما فيه من عناوين الذكر واللجوء إليه تعالى.
ولم يرد ذكر الاسم بصورة مستقلة مجردة من الإستعانة بالاسم كواسطة لها وآلة وسمة إجلاًلاً لمقام الربوبية.
وردت مادة البركة على قسمين.
الأول: ما يتعلق بالذات المقدسة كقوله تعالى[تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمينَ]( ).
الثاني: ما يأتي عنوان إفاضة وفضــلاً من الله تعالى[رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ]( ) هذا كتــاب أنزلنــاه مبارك [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ]( ) [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
فهل البركات الخاصة باسم الله:
• من القسم الأول.
• من القسم الثاني.
• قسيم لهما ينتزع الإستقلال بالرتبة والمعنى.
• الجامع بينها.
الجواب لا تعارض بين الوجوه الأربعة جميعاً إذ يحتل اسم الله هذه المنزلة العظيمة في حياة كل مسلم بترديد البسملة كل يوم لما يتضمنه من رحمة وبركات وأسباب هداية وأدب في العبودية.
السادسة : كما يتجلى المائز بين واجــب الوجـــود وبين مخلوقاتـه، يظهر الفرق بيناً في الآثار المترتبة على اسم الله سبحانه، فالمعروف أن الأسماء مجـــرد عناوين وألفــاظ تــدل على المســمى كلفظ النار فإنه لا يحـــرق بل ذات النار هـي التي تحرق، وكذا بالنسبة للفظ المـــاء فأنه لا يــروي عن العطـــش لأنه عبـــارة عن حـــروف وضعت على نحو مخصـــوص لإرادة المـــاء، أما المــاء نفسه وهو تلك المادة الخارجيــة فأنه الــذي يــروي العطشـــان، ولكن اسم الله عــز وجــل له منافــع وبركـــات أعظـم من ان تحيــط بــها أوهــام البشر.
السابعة : في ذكر اسم الله تعالى إقرار بانحصار الوجود الواجب به تعالى وان صفاته تعالى تتجلى مجتمعة بإسمه وتظهر فيه الإضافة الإشراقية فتمتلأ النفوس بالحكمة ويندفع عنها الذهول والغفلة وتنجذب إلى العلة الفاعلية والكمال المطلق.
الثامنة: اسم الله عز وجل عنوان جامع لأمهات الأسماء، ومطلق أسمائه تعالى تدل على الذات المقدسة وهي متحدة، لا تقبل التجزئة أو التركيب فواجب الوجود بسيط.
العاشرة : الاسم عند أهل العرفان هو الذات الإلهية بلحاظ صفة من صفاته تعالى وقالوا ان هذا لا ينافي القول بأن صفاته تعالى عين ذاته فالعرفاء يعتبرون الجهة واللحاظ والمفهوم والمعنى لا بحسب الهوية والوجود والمتحد غير المركب والذي لا تقبل ذاته الإنفعال او الكثرة.
الحادية عشرة: بدأ الكتاب باسم الله تعالى نوع تشريفاً ليحصل التطابق بين نظام التكوين وهو الخلق وبين نظام التدوين وهو القرآن.
الثانية عشرة : تفضل الله تعالى ببدأ اشرف الكتب السماوية بإسمه تعالى، ودعوة للمسلمين بأن يبدأوا أعمالهم بسم الله الرحمن الرحيم.
الثالثة عشرة : ذكر اسم الله عز وجل للإبتداء بالفعل والعمل العبادي الدنيوي بطاقة تثقل الميزان يوم القيامة، فالعبد وان لم يقصد بالتلفظ بها الثواب على نحو تفصيلي كما يحدث أحياناً ويكتفي بنية التبرك أو الحصانة المعنوية والمادية على الأعيان والأفعال، فان ما أعد الله عز وجل من النفع والجزاء للذي يتلفظ بها أكبر بكثير من الأمل المحسوس والمرجو في الدنيا (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم)( ).
الرابعة عشرة : تكرار التسمية وملازمتها للحياة اليومية للمسلمين وقاء لحفظ الدين والأشخاص.
الخامسة عشرة : الحضور المستمر للبسملة حاجز دون الشرك ومنع من التداخل بين أسمائه تعالى وأسماء غيره من المخلوقين وان كانوا ملوكاً وسلاطين فاسم (الله) مخصوص به تعالى لفظاً ومعنى ومفهوماً لذا جاءت فاتحة القراءة باسم الجلالة وكذا سورة الاخلاص.
السادسة عشرة : بسماع إسمه تعالى (الله) يتبادر الى النفس طوعاً وقهراً مفهوم الربوبية ويشهد الإنسان بالضعف والنقص والتقصير امام الكمال المطلق والإلوهية الدائمة.
السابعة عشرة : جاءت كلمات التوحيد (أشهد أن لا إله إلا الله) بذكر اسم الجلالة حصراً وتعييناً وبها تباح المناكح وتحقن الدماء، ولم ترد بعنوان اشهد أن لا اله إلا الرحمن الرحيم أو الجبار ونحوه من أسمائه تعالى، وكأن هناك ملازمة بين ذكر اسم الجلالة وبين الإسلام فترديد اسم الجلالة عنوان وهوية المسلم لذا ترى قلوب المؤمنين تنجذب الى اسم الجلالة وفيه منع للإجمال والترديد واللبس.
الثامنة عشرة : ان نبي الله نوحاً عليه السلام حينما ركب السفينة وسط الطوفان والخطر المحدق بالجميع قال[وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسم اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا]( )، والباء للملابسة أي إركبوا ملابسين لاسم الله فكانت حرزاً واماناً له ولمن معه، وهي نصف كلمات البسملة ولكن فيها اسم الجلالة مما يدل على أمور:
الأول: إن العمدة فيها هو اسم الجلالة.
الثاني: إن الله عز وجل أنعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبسملة كاملة.
الثالث: إن المسلمين درجة الشرف وغاية الكمال الإنساني والإخلاص في العبودية بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باتيانهم بالبسملة.
الرابع: البسملة من مصاديق وأفراد كمال الدين قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الخامس: لا ينحصر إتيان المسلمين للبسملة بحال الخوف وخشية الهلكة بل يأتون بها في الرخاء والشدة، وعند الأفعال العبادية وخصوصاً في الصلاة التي هي عمود الدين، وشرّفهم الله ان جعلها مكررة في بدايات سور القرآن ونوراً يضيء لهم دروب الحياة.
السادس: إذا كان نوح عليه السلام جاء بنصف كلمات البسملة ونجى من الطوفان فان إتيان المسلمين بالبسملة كاملة يجعله الله عز وجل لهم وقاية ونجاة من التعرض لأسباب الطوفان والهلكة.
التاسعة عشرة: لقد كانت إفاضات البسملة ظاهرة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين بكثرة عددهم وانتصارهم في المعارك على نحو إعجازي كما يظهر تحققه مع قلة عددهم وعدتهم في كثير من معارك الجهاد والغزو، ولقد كان المسلمون يرددون البسملة ويواظبون عليها فجاء المدد والنصر بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ليكون إتيان المسلمين للبسملة من أسباب المدد الإلهي وتقريب النصر، ويكون تعاهدهم لها من مصاديق التقوى وإستدامتها.
العشرون: في قــولــه تعــالى [ إِنَّهُ مِـنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ]( ) ظاهر الآية إن بلقيس قرأت الكتاب وبينت لقومها جهة الإرسال، وموضوعه ويمكن أن تستقرأ مسألة عقائدية في تأريخ الملل وهي أن البسملة موضوع مستقل يكفي في الدعوة والإنذار والفتح كما حصل في إسلام بلقيس وقومهــا ولا يمنـع من الإستدلال بهذه الآية في التعرض لاسم الله الأعظم وكيف أن الكافر ينطق بها قهراً.
الحادية والعشرون: تأثير التلفظ بها مجرداً من غير إيمان كما هو حال بلقيس أو حال فرعون فهو مع ادعائه الربوبية فان الله عز وجل أخر عنه العذاب لكتابته (بسم الله) على باب داره وفيها أمان مؤقت من الهلاك كفرصة للتوبة والتدارك وترى هلاكه لم يحصل في بلده بل عند خروجه خلف موسى عليه السلام تجبراً وعتواً.
عن الإمام علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما اسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: ماشطة بنت فرعون وأولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي، قالت بل ربي وربك ورب ابيك، قالت: الك رب غير أبي؟ قالت نعم قالت: فاخبر بذلك ابي؟ قالت: نعم فاخبرته فدعاها فقال: ألك رب غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله الذي في السماء، فامر ببقرة من نحاس فاحميت ثم امر بها لتلقى فيها وأولادها قالت أن إليك حاجة قال وما هي؟ قالت تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعاً، قال ذلك لك لما لك علينا حق فالقوا واحداً واحداً حتى بلغ رضيعاً فيهم، قال قعي يا امة ولا تقاعسي فذاك على الحق( ) فألقيت هي وولدها.
الثانية والعشرون: ذكر البسملة في قصة نوح وفي قصة سليمان مدخل لإجراء دراسات وبحوث قرآنية ونبوية عن تأريخ البسملة , وهو من الشواهد على وراثة المسلمين لسنن الأنبياء بتعاهدهم الفرائض والعبادات والمناسك.
الثالثة والعشرون: كما يرى المسلم منافع الإفتتاح والإبتداء بالبسملة في اعماله في الدنيا فانه سيدرك الحاجة لها وضرورتها عند دخول القبر وما ينتظره فيه من الأهوال وتزداد تلك الحاجة باطراد يوم البعث والنشور وفي مواطن الحساب والصراط، فمن يعتاد على إتيانها ولو في صلاته وحدها فهي سلاحه في عبور الصراط , وإن كانت موارد إستحبابها المؤكد أكثر من أن تحصى , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لربيبه عمرو بن أبي سلمة: قل باسم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك)( ).
الرابعة والعشرون: تتضمن البسملة صفات الرحمة بأعلى مراتبها بشارة النجاة من النار فهل تراه سبحانه يدخل من لهج بها لسانه وتعانقت معها اعضاؤه وسرت في كيانه وجرت في عروقه.
الخامسة والعشرون: كثرة التلبس بالبسملة بمعنى التلفظ الدائم بها مع الإعتقاد لا يجعل للشيطان سبيلاً ينفذ منه على الإنسان وتلك حالة يدركها المؤمنون بوضوح.
السادسة والعشرون: يرد اسم الجلالة في المهمات وجلائل الأمور وعظيم التنزيل فترى لفظ (كلام الله) ورد بالإضافة إلى الله عز وجل ثلاث مرات في القرآن ولم يرد الكلام مضافاً إلى اسم آخر من أسمائه تعالى.
فقد ورد في التنزيل مثلاً [ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ..]( ) بالإضافة إلى النسبة فيه لاسم الجلالة لعظيم قدر كلام الله تعالى.
والآية توبيخ وتقبيح لفعل الذين يحرفون الكتاب، وتنبيه ومدح للمسلمين لحفظهم كلام الله تعالى مما يعني أن إسمه تعالى خير مادة للإنذار والتنبيه.
السابعة والعشرون: ورد لفظ (كتاب الله) في آيات عديدة وفيها ينسب الكتاب لله تعالى بذكر اسم الجلالة دون غيره فلم يرد كتاب الخالق او كتاب الرب مع انه من أمهات أسمائه تعالى، وفيه منع للتحريف والتجرأ وتغشي صيغ الضلالة والإيهام الى جانب الأصل وهو دلالته على الإكرام والإجلال لمقام الربوبية وعظمته تعالى.
الثامنة والعشرون: من سنن الوضوء المفروضة على جميع المسلمين الإتيان بالتسمية عند الشروع فيه وصورتها (بسم الله وبالله) أو (بسم الله الرحمن الرحيم) والإجماع على استحبابها وذهب أحمد بن حنبل إلى وجوبها للخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها، وعن الإمام الصادق عليه السلام “إذا سميت في الوضوء طهر جسدك كله، وإذا لم تسم لم يطهر من جسدك إلا ما مر عليه الماء” وهي ظاهرة بالاستحباب.
وأوانها عند اغتراف الماء أو صبه في اليد لأنها البداية الفعلية للشروع في الوضوء لما ورد في صحيحة زرارة عن الباقر عليه السلام: “إذا وضعت يدك في الماء فقل: بسم الله وبالله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فإذا فرغت فقل الحمد لله رب العالمين”، ولكن ورد في الخصال عن الأمام علي عليه السلام: “لا يتوضأ الرجل حتى يسمي”( )، ولا يتعارض مع الصحيحة أعلاه كما ظنه بعضهم لأن أفعال الوضوء تبدأ يغسل الوجه المقرون بالنية .
وإجماع المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله، ولا عبرة بالقليل النادر، ويقتضي هذا الإجماع أن البسملة قرآن.
ولفظ الجلالة (الله) علم مبارك للذات المقدسة الواجب الوجود الموصوف بالكمالات كافة ويستدل بكونه علماً لكونه يوصف لجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال الله القوي العزيز، ويقال: غفر الله، رحم الله، و لا يأتي اسم الجلالة صفة لشيء منها.
وفي اشتقاقه وجوه:
الأول : انه مرتجل غير مشتق من شيء وإنما هو علم، ولا يجوز حذف الألف واللام منه، واليه ذهب الأكثر.
الثاني : وحكي عن سيبويه أنه مشتق، وأصله أله دخلت عليه الألف واللام فبقي الإله، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وسقطت فبقي اسم الجلالة، فأسكنت اللام الأولى وأدغمت وفخم تعظيماً لكنه ترقق مع كسرة ما قبله).
الثالث : الأصل في لفظ الجلالة الالاه، فـألقيت حركة الهمزة على لام المعرفة ثم سكنت وأدغمت في اللام الثانية، والتفخم من خواص هذا الإسم، وتفخم اللام إذا لم يكن قبلها كسرة، وترقق إذا كانت قبلها كسرة، وقال بعضهم بترقيقها في كل حال.
الرابع : أن همزة إلاه أصل وهو من إله يأله إذا عبد، فالإله مصدر في موضع المفعول أي المألوه وهو المعبود الذي تتقرب إليه الخلائق بالعبادة والتسليم، وقيل أصل الهمزة واواً لأنه من الوله.
فالإله تميل إليه القلوب وتتحير فيه النفوس وتتجه إليه الخلائق بشوق وانقياد.
الخامس : وقيل أصله لاه على فعل، وأصل الألف ياء لأنهم قالوا في مقلوبه لهى أبوك، ثم أدخلت عليه الألف واللام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وهي انعكاس لإمتلاء العيون بضياء أنوار الربوبية وجلالة عظمة الله تعالى، واسم الجلالة دائر على الألسن ويتوارث معرفته الناس منذ أيام أبينا آدم عليه السلام فالعرب تعرف الله عز وجل ومعرفتهم هذه من بقايا الحنيفية وتركة ابراهيم خليل الله.
وقال تعالى [ وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ]( ).
السادس : وقال البلخي أنه لفظ غير عربي وأنه ســرياني أو عبراني معرب لاها ومعناه ذو القدرة ولا دليل عليه، والذي عليه أكثر الفقهاء والأصوليين وإختاره الخليل وسيبويه أنه لفظ عربي.
السابع : أنه علم من أصله لذاته واسم الله خاص به تعالى ومع انه لفظ مركب من عدة حروف ولكنه يبدو وكأنه بسيط في معناه فحينما تحذف الألف عنه يبقى لله يفيد ذات المعنى [ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ]( ) وكذا لو حذفت اللام الأولى يبقى (له) وينصرف للباري عز وجل إلا مع القرينة الصارفة وكذا لو حذفت اللام وبقيت الهاء كما في قوله تعالى [ وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ]( ).
وعن هشام بن الحكم أنه سأل الإمام الصادق عن أسماء الله واشتقاقها: “الله مما هو مشتق، فقال له: يا هشام الله مشتق من اله والإله يقضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام؟ فقال: زدني، قال: أن لله تسعة وتسعين إسماً”.
فلو كان الاسم هو المسمى لكان لكل اسم منها اله ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام، الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع الله جل وعز غيره؟ قلت: نعم، فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام، قال هشام: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا)( ).
إن الابتداء باسم الله تعالى إعلان للإخلاص في منازل العبودية بروح الاستكانة والخضوع وإرادة التوكل ونية الإستعانة به تعالى الأمر الذي يجب أن لا يؤثر فيه البحث عن حقيقة هل الاسم عين المسمى أو لا، وأن لا يؤدي الاهتمام الفلسفي بهذا المبحث ونحوه إلى التأثير تأثيراً سلبياً بالمفاهيم المتعلقة بالابتداء باسم الله عز وجل وما في ذلك من منافع دنيوية وثواب أخروي عظيم وخالد، فيجب أن يكون الاشتغال متوجهاً إلى الإتيان بأوجه العبادة وحسن أدائها.
عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتبت إلى الباقر عليه السلام أو قلت له: “جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ فقال: إن من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء فقد أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئاً، بل اعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء، إن الأسماء صفات وصف بها نفسه”.
أن اسم الله عنوان تلتقي عنده جميع معاني الأسماء الحسنى لما يتضمنه من دلالة إجمالية عليها ولما يحمله من مضامين الإلوهية كونه معبوداً تؤلهه الخلائق بإقرار وخضوع وتعظيم وتفزع إليه في طلب الحاجات، وعن الإمام موسى بن جعفر قال: “ســئل عن معنـى الله فقال: إستوى على ما دق وجل”.
وقال الطبري(إن معنى الله تعالى ذكره المعبود، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي، وبحسَنٍ وهو قبيح)( ).
بحث فلسفي
معرفة صفات الله تعالى ضرورة في معرفة الباري عز وجل فهي مدرسة المعرفة وموضوعها، وهذه المعرفة عقلية حسية وبعيدة عن التجسيم والصفات الجسمانية وعن المشبهة أي تشبيهه بمخلوقاته تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً لذا ورد عن الأئمة عليهم السلام أنهم قالوا: عالم لا كعلمنا، قادر لا كقدرتنا شيء لا كالأشياء، إذ إن صفاته تعالى منتزعة من الذات الإلهية سواء على القول بأنها عين ذاته أو أنها زائدة على الذات بما فيها الصفات التي ينتزعها العقل في مقام الفعل لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام كمال التوحيد نفي الصفات عنه.
وهناك تقسيم آخر للصفات تقسيمها إلى الصفات الإيمانية والسلبية وهذا التقسيم ليس فيه ما ينافي التنزيه المطلق لواجب الوجود لذا تراهم يؤولون الصفات الإيمانية بالمعاني السلبية، لما فيها من سلب الشريك والتركيب والنقص، والرحمن والرحيم صفتا كمال ايجابيتان وصيغة توحيد الرحمن الرحيم على نحو الإلتصاق والملازمة مع اسم الجلالة في المقام تدل على انهما من الصفات الذاتية جاء ذكرهما في البسملة سلاحاً وبشارة وحرزاً وكنزاً قريباً جعله الله عز وجل في متناول كل مسلم بل أن كثرة نطق المسلمين به في الصلاة وغيرها يجعله هيئة لفظية شائعة ومتعارفة على السن الجميع يلجأ إليها الناس عند الحاجة والضرورة والشدة.
وقد تقدم في البسملة اسم الله على اسم الرحمن والرحيم لبيان موضوعية اسم الجلالة وإستحضاره في العبادة والذكر ولأن الصفات تابعة له، ومن عادة العرب إذا أرادوا الإخبار تقديم الاسم ثم ذكر الصفات والنعوت التي تفيد الحصر والتعيين، وجاء ذكر الصفات في البسملة للثناء على الله ودعوة المسلمين للإنقياد لأوامره ورجاء الرحمة والفضل منه تعالى.
و[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمن صيغة مبالغة على وزن فعلان تدل على الكثرة، وقالوا انه يفيد المبالغة للصفات الطارئة كعطشان وغرقان ولكنه قياس مع الفارق لأن صفاته تعالى ثابتة وصفة رحمن أزلية دائمة كباقي صفاته سبحانه، والرحيم أيضاً مبالغة إلا أن فعلان أبلغ من فعيل.
والرحمة في بني آدم رقة القلب ومظاهر العطف، وعند الله عز وجل بره ورزقه وإحسانه فهو سبحانه منزه عن الكيفية.
والرحمن ذو الرحمة ويمتلك سمات الكمال في درجاتها وهو وصف خاص بالله عز وجل لا يوصف غيره به ولا يعتد بشأن قول بني حنيفة في مسيلمة الكذاب رحمن اليمامة، وقول شاعرهم فيه:

وأنت غيث الورى

لا زلت رحمانا

وهذا القول متروك لأنه لســان كـفر ونعت غواية لا يعبأ به في الإستدلال والتفســير والتحليــل، ولقد عجل الله لهم العقاب في الدنيا، بل إن متعلق البيــت وموضوعه وســـنده ونسبته بحاجة إلى تحقيق إذ أن المتعارف هو رحمن اليمامة بالإضافة، كما في قولك (رب الناقة) واشــعار العرب في الجاهليـــة تنص على إنفـراد الله تعالى بصفــة الرحمــن فمن بــاب أولى في أصـــحاب مسيلمة الكذاب وإدعــاؤه النبــوة وان كان كـــفراً وكـــذباً ولكنــه يملــي عليهم قهـراً اختصاص الله تعــالى بصفــة الرحيــم والرحـــمن وإنهمــا لا يجتمــعــان إلا لله عز وجل، وإدغــمت اللام في الــراء لقربهـا منهــا في مخــارج الحروف.
والرحمن بنــاء فعــلان يحمـــل معاني السعة والشمول كما في غضـبان للمتلئ غضــباً وندمــان للذي تمكــن منه النــدم واســـتحوذ عليه، بالإضافة إلى ورود اسم الرحمــن في أوائـل السور أي في البسملة فقد جاء في مواضع كثيرة من القرآن الأمر الذي يظهر ما لهذا الاسم من منزلة عظيمة، فتتجلى في كل موضع منها مضامين التوحيد وإحاطة الله تعالى بالمخلوقات وان اسم لله عند الأمم السابقة معروف.
وفي التنزيـل [لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا]( )، [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا]( ).
هذا وقد ورد لفظ الرحمن في أشعار العرب قال الشنفري( ):

الا ضربت تلك الفتاة هجينها

الا قضب الرحمن ربي يمينها

وقال سلامة بن جندل( ):
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق

وروى ابن كثير عن عبد الرحمن بن عوف انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “قال الله تعالى أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت له إسماً من إسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته”( ).
مما يدل على موضوعية وشأن هذا الاسم والتجليات والإفاضات التي تتفرع عنه وتنقدح في النفوس بأقدس صفة إنسانية وهي الرحم لتكون مدخلاً لنيل رحمة الله تعالى، وكأنه سبحانه جعل صلة الرحم والقربى وديعة وأمانة يثيب عليها بإفاضة وتنزيل الرحمة وتلك مدرسة إسلامية ذات فلسفة متقدمة.
وفي الخــبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ان لله عز وجل مائة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهــوام فيها يتعاطــفون ويتراحمون، وأخــر تسعاً وتســعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة”( )، مما يعني ان الناس يرحم بعضهم بعضاً بما جعل في نفوسهم من الرفق والعطف وحب الخير.
ويدرك العقل حسن الإنصاف والإحسان وينظر الى الظلم والجفاء على انهما فعلان قبيحان، ومن الأدلة على الإرادة التكوينية في صلة الرحم انك تراها عند المسلمين والمليين وعند غيرهم من الأمم، ولا يمكن فصلها عن أسرار نفخ الله تعالى الروح في أبينا آدم عليه السلام وتوالي انعكاس وظهور هذا النفخ على الإنسان مطلقاً في سيرته وسلوكه، وفيه عوض ومادة لقبول أحكام الشرائع، وإن كانت الروح يتجدد بعثها بواسطة الملكين عند إتمام الجنين الشهر الرابع من عمره.
وفي تقديم الرحمن على الرحيم ذكرت أسباب منها أنه اسم علم لا يوصف به الا الله فاقتضي تقديمه لاسيما وان الرحيم يطلق عليه تعالى وعلى غيره.
وعن الإمام علي عليه السلام: “الرحمن العاطف على خلقه بالرزق لا ينقطع عنهم مواد رزقه وان انقطعوا عن طاعته”( )، وقيل ان الرحمن يختص بالتكوين ومتطلباته ومستلزماته التي تعين على العبادة وتؤلف الحجة، بينما يعم الرحيم التكوين والتشريع.
وروي عن الإمام جعفر الصـادق عليه السلام أنه قال: “الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة)( )، أي أن الرحمن خاص بالدنيا وحاجـات الناس فيها وأرزاقهم وأحوالهم والذب عنهم وصرف البلاء عنهم قبل حــلول اجله بغض النظر عن هوية الإيمان أو التلبس بالكفر، لأن ملاك الرحمة كونهم خلق الله كما ترى انه ســبحانه يرسل السحــاب وينزل المطــر فيصــيب به البر والفاجر، وقد تجد قوماً يتنعمون مع ضلالتهم بخيرات الأرض وكنوزها لرحمة من الله في الخلــق جــارية وحكمــة سماوية للإستدراج وإقامة الحجة البالغة.
ولو نظرنا الى هذا القول على نحو الإطلاق والإنحلال على عدد العناوين الإضافية، فالرجل لو علم بعيوب امرأته لجفاها، ولو علم الرجل بعيوب جاره لإزدراه , أذن لتعطلت المعايش ويتنافر الناس فيما بينهم ويقل النسل يضعف الرحم لذا فان رحمة الله بالناس ضرورة وحاجة تتقوم بها الحياة الدنيا وأنها تستحق أن تكون دار إبتلاء وإمتحان.
قال بعض اهل العرفان: “من كمال رحمته ستره لعيوبك، وهو يعلم منك ما لو علمه ابواك لفارقاك، ولو علمت به امرأتك لجفتك، ولو علمه جارك لسعى في خراب دارك، فأي رحمة أكمل من رحمته”.
أما الرحيم فهو اسم لله عز وجل يختص بشؤون المؤمن وحاجاته وأسباب رزقه وجوانب أموره ومستلزمات عبادته في الحياة الدنيا وتقلبه في أحوال الدار الآخرة وتخفيف أهوال البرزخ والحساب عليه ولتتغشاه رحمته تعالى في مواقف يوم القيامة.
أي أن المؤمن ينتفــع مستفيداً من صفة الرحمن والرحيم في دار الدنيا، ومن الرحيم في الدار الآخرة، بينما لا ينتفع الكافر الا من صفة الرحمن وفي الحياة الدنيا فقط لتكون عليه في الآخرة حجة وحسرة دائمة.
وروي عن ابي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:”الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة”( ).
لقد اتفق المسلمون على قراءة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] عند إفتتاح كل ســورة تبدأ بها بإســتثناء سورة التوبة واختلفوا في اعتبارها آية من كل سورة، أو لا، على أقوال :
الأولى : إنها آية من سورة الفاتحة دون سواها من سور القرآن غير سورة براءة.
الثانية : البسملة بعض آية من الفاتحة.
الثالثة : هي آية من كل سورة من سور القرآن غير سورة براءة.
الرابعة : ليست البسملة آية من أي سورة من السور أصلاً باستثناء سورة النمل لأنها لم تأت في أولها.
الخامسة : هي آية مستقلة كانت تنزل لبيان الفصل بين السور وتعظيماً للمقام وتحديداً لرؤوس السور وتعريفاً ببداية كل منها.
السادسة : إنها آية من سور الفاتحة وجزء آية من السور الآخرى.
السابعة : إنها بعض آية من جميع السور، ولعل هذا القول جاء للجمع بين إعتبارها قرآناً، وما ورد أن سورة الكوثر ثلاث آيات وسورة الملك ثلاثون آية، فان الاشكال باخراج البسملة من السورة يسقط بجعلها جزء من السورة، وقد لا يقوى هذا المعنى على معارضة النصوص الكثيرة التي تدل على قرآنيتها وجزئيتها من السور القرآنية لأنه لا يدل تصريحاً على نفي البسملة من السورتين.
الثامنة : قيل أن “بسم الله الرحمن الرحيم” ليســــت من القرآن وإنها زائدة، ونسب هذا القول الى ابن مسعود ومذهب مالك ومشهور قدماء الحنفية( )، وان عثمان أثبتها فيه على رأس السور فضلاً بين الســورتين، وهذه دعــوى لا تســتطيع معارضـــة الدراسة بتثبيتها في القرآن والنصوص الواردة بجزئيتــها من الســورة، بالإضافة إلى حجية الظاهر.
ولعل القول بعدم جزئيتها من القرآن إجتهاد , والخطأ في الفتوى حال يتعرض لها غير المعصوم، باٌلإضافة إلى أن الذي أنكر قرآنيتها من الفقهاء قال بأفضلية قراءتها واقر كباقي المسلمين بوجودها بين الدفتين بحسب مواضعها الحالية كإشراقة قدسية في أول كل سورة، ووجودها المتكرر هذا مع أهميته يحمل أسراراً ملكوتية لم نستطع إدراكها.
ولا بأس في إجراء دراسات تبين موضوعية موقع البسملة في حفظ القرآن وتعاهد سوره ومنع التداخل بينها، لقد حالت البسملة دون وقوع الفتنة بين علماء المسلمين بخصوص حدود وعدد آيات كل سورة ومنعت الإختلاف بعدد آيات بعض السور أو إلحاق بعض آيات سورة بالتي قبلها أو بعدها، وساهمت بضبط عدد آيات كل سورة وتعاهدها وتيسير حفظها وتوثيق وتأمين آخر السورة السابقة لها.
قيل لعمرو بن دينار: إن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن، فقال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل الله عليه بسم الله الرحمن الرحيم علم أن تلك السورة قد ختمت وأفتتحت غيرها)، والتنزيل صبغة السور القرآنية واستحداثه دليل التعدد وتثبيت لموقعها في بداية السورة.
والبسملة عنوان وحدة المسلمين في باب القراءة الحاضرة في ميادين العمل وإفتتاحه بها، والأولى أن ننظر بمنظار الإعجاز القرآني ونتلمس وجوه النفع العظيمة والمتشعبة من وجودها وتوظيف النصوص والعقل والعلم لاستخراج الكنوز الكامنة في تعدد البسملة.
إن مجرد مواضع البسملة هو آية إعجازية تدل على القرآنية والتنزيل بالإضافة إلى الأسرار الكامنة فيها والمضامين التي تحتويها من تعظيم الله والثناء عليه تعالى وأنها من الذكر والحمد.
التاسعة : أنها آيات فذة مستقلة نزلت للفصل بين السور كل واحدة منها نزلت بذاتها.
العاشرة : أنها جزء آية من سورة الفاتحة وآية من كل سورة من السور الأخرى.
الحادية عشرة : يجوز جعلها آية من كل سورة وغير آية لتكرر نزولها بكلا الوصفين.
ويجب الا يؤدي هذا التعدد في عرض الأقوال إلى الظن باحتمال التعادل بينها فان عناصر الترجيح في بعضها قوية، كما أن بعض تلك الأقوال متأخر زماناً عن البعض الآخر، بالإضافة لإختلاف منازل أصحاب الأقوال والتباين بين الأدلة، وان بعضها تتوفر فيه شرائط الحجية دون البعض الآخر، وربما افتقر بعضها إلى الدليل والحجة الأمر الذي يجعله متخلفاً عن الدخول في باب التعارض بل وحتى التزاحم، كما أن بعضها يتقدم متميزاً في السند وجهة الصدور والدلالة وهي الأصول الأساسية التي يتوقف عليها إستنباط الحكم وعناصر الترجيح في الوارد من الروايات.
وأسباب الترجيح هذه لا تمنع من الإطلاع والاهتمام بالأقوال جميعها على نحو العموم الإســتغراقي والبدلي والنظر إليها بسماحة والفة فكــرية بعــيداً عن العنت أو الســـأم وما يـؤدي إلى إرباك البال ومن غير إلزام للنفس على التحيز لقــول معــين لإعتبارات مذهبية خاصة ونحـوها، فاحد كبار المفسرين ومع جلالة منزلته عندما يذكر الرأي المشهور من المذهب الذي ينتسب إليه يقول: وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج على إثباته وتوهين أدلة نفاته..الخ
وبالنسبة للأقوال المتقدمة فان أئمة أهل البيت على القول الثالث، وهو النسوب إلى ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي هريرة وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي والآخرين، عدا حمزة وذهب إلى هذا القول ابن المبارك والإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه واسحق بن راهويه وأكثر أصحاب الشافعي ومن التابعين عطاء وطاووس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري، وبعض منهم على القول الخامس مما تقدم واليه ذهب مالك وأهل الشام ومنهم الأوزاعي وأبو عمرو من البصرة ويعقوب من الكوفة.
وقال صاحب تفسير روح المعاني وهو المشهور من مذهبنا، وقال داود أنها آية مستقلة في أول كل سورة وليس منها، ونسب إلى مالك والأوزاعي أنهما قالا: لا يقرأ لا سراً ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان.
ولابد من التفكيك بين جزئية البسملة من القرآن أو عدمها، وبين قراءتها في الصلاة أو عدم قراءتها، وفيها ثلاث مسائل :
الأول : أنها جزء من القرآن والتنزيل.
الثاني : أن البسملة جزء من كل سورة.
الثالث : وجوب قراءتها في الصلاة.
ولقد وردت الأخبار بأن [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] آية من السورة الفاتحة، وعن الإمام علي “أنها مــن سورة الفاتحة وان رسول الله صلى عليه وآله وسلم كان يقرأها ويعدها آية منها ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني”( ).
وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة قال: “قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها”( ).
لقد اعتنى المسلمون بمسألة عدم كتابة أي شيء في القرآن مما هو خارج عنه حتى أصبحت هذه الحقيقــة قاعــدة أســاسية في حياتهـم وباب رحــمة وتخفيفاً منع الاختــلاف ووضــع الحــدود للـرأي والحواجز أمام الشطط في أوجه الاحتمال، فكلمة آمين مثلاً لم تكتب في القرآن لأنها ليست منه .
وأجمع المسلمون على أن كل ما بين الدفتين قرآن، ولا عبرة بالشــاذ النادر والتأويــل المخــالف للظــاهــر من غير قرينة معتبرة.
وأنت ترى أن [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ] مكتوبة في القرآن في أول كل سورة، كما وانها جزء من سورة النمل (الآية 30 منها) وهي سورة مكية، وليس من الإتفاق والصدفة أن بسم الله الرحمن الرحيم تكررت في سورة النمل وخلت منها سورة أخرى من القرآن وهي براءة في كتاب سماوي احكمت آياته، فلابد من وجود معنى وحساب وحكمة وأسرار في الأمر مما يحث على البحث والاستنباط.
(هذا وقد ورد عن الامام علي عليه السلام “أن التسمية في أول كل سورة آية منها وانما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى، وما أنزل الله كتاباً من السماء إلا وهي فاتحته”، وكذا روي عن الصادق عليه السلام )( ).
وورد في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم”، وجاء عن ابن عباس أنه قال: “أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم كان لا يعرف فصل السورة (وفي رواية انقضاء السورة) حتى ينزل الله عليه بسم الله الرحمن الرحيم”.
وعنه أيضاً أن المسلمين كانوا لا يعرفون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت عرفوا أن السورة قد انقضت، وتواتر النصوص وتسالم النقل بلفظ النزول يدل على إن البسملة آية نازلة من عنده تعالى كجزء من القرآن وان تكرار النزول يعني في الظاهر التعدد في المعنى وسياق الآيات وإن إتحد اللفظ.
ويستلزم جمع النصوص الواردة بخصوص البسملة والتحقيق فيها كتاباً مستقلاً ويظهر البحث فيها وفي تواترها جزئيتها من القرآن ومن سورة الفاتحة كما أن النصوص الواردة بجزئيتها من الفاتحة اعم من أن ينحصر موضوعها بالفاتحة بل جاء للبيان ولأن سورة الفاتحة هي الفرد الغالب ذو الإبتلاء اليومي.
وقد أورد البيهقي في شعب الإيمان والواحدي عن ابن مسعود أنه قال: “كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم” وبيان وظيفة البسملة بأنها للفصل بين السور هو الذي جعل فريقاً من العلماء يقول بعدم جزئيتها من السورة.
وظهور موضوعية البسملة في الفصل بين الآيات لا يعني انحصار وظيفتها به بل انه جاء للبيان ومعرفة أهميتها وفيه تأديب للمسلمين وتوكيد على عظيم منزلتها كما أن النصوص الأخرى لها الحكومة أي التوسعة في تحديد منزلتها وجزئيتها من السورة (ورد عن أم سلمة “أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدّها آية)( ).
(وعن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: “نزلت بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة)( ).
والبسمــلة وثيقة سماوية خالدة في الأرض وتبعث ضياء بركاتها في الآفاق وتنفذ إلى النفوس لتمتلأ طمأنينة وشعاعاً إيمانياً نافعاً, والنطق بها أو كتابتها عون على التقرب إلى الله عز وجل والنيل من رحمته، ورد عن طاوس عن عباس “أن عثمــان بن عفان ســأل رســول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيـم فقال: اسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين ســواد العين وبياضها من القرب( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها”.
وفي اسم الله الأعظم ومنافع الدعاء ومضان الاستجابة وقضاء الحوائج لمن أنعم الله عليه بمعرفته مبحث خاص سيأتي في الأجزاء التالية أن شاء الله، وقيل أن لله عز وجل ألفاً وواحداً من الأسماء وان ذلك مشتهر بين العلماء.
ومن الصعب جداً أن يقال بأن الإنسان يستطيع الاستغناء عن بسم الله الرحمن الرحيم في سعيه لحوائج الدنيا والآخرة وهي بيان وتوكيد لرحمته تعالى وسلاح ملكوتي تفضل به الله ووهبه لأهل التوحيد، وورد في الكافي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: “أن أول كتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم فإذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ وإذا قرأتها سترتك في ما بين السماء والأرض”.
كما ورد عن أبي سعيد الخدري أنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له عيسى: وما بسم الله، قال المعلم: لا أدري فقال له عيسى: الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة”( )، ومثله روي في مجمع البيان عن الأمام الصادق إلا أنه قال: “الميم مجد الله، والله اله كل شيء، الرحمن لجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة”.
وذكر أن أول الإنجيل هو قوله ((بسم الاها ورحياناً)) وهو ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يعني هذا ان البسملة مأخوذة منها بل أنها جاءت في التوراة مقدمة للبسملة العربية الموجودة في القرآن، أنها ذكر لله عز وجل وتوكل عليه وتلمس لطرق الحياة والسير في دروبها بسمة من سمات الله عز وجل.
ومن الذين حرصوا على ذكر اسم الله (تبع) فكان يبدأ كتابه : بسم الله الذي ملك براً وبحراً، وهو الذي الذي سار بالجيوش وحيّر الحيرة، وبني سمرقند، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تسبوا تبعاً فانه قد أسلم، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ما أدري كان تبع نبياً أو غير نبي)( ).
وفيه بيان للتقارب بين مرتبة بعض أهل التقوى وأنبياء زمانهم، وذكر أنه هو الذي كسا الكعبة، وقد ذم الله عز وجل قومه ولم يذمه ، قال تعالى [وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ]( ).
والبسملة أول كلمة تستقبل الولد في الحياة اذ يستحب أن تنطق القابلة بالبسملة ساعة تلقي الولد من الأم لتكون شعاعاً ينير للمولود سبل الدنيا ومسالك الإيمان، وكلمة ترحيب مباركة ومفتاح تعارف مع الحياة وأهلها يبعث على السكينة والأمن والتفاؤل، وهي آخر ما يسمعه الإنسان في الحياة الدنيا فيقال إذا مات وأدخل في قبره (بسم الله) لتكون له قريناً ملازماً يشارك في الذب عنه في عالم البرزخ.
وورد عن الأمام علي عليه السلام: “إن الله عز وجل هو الذي يتأله( ) إليه كل مخلوق عند الحوائج والشدائد إذا انقطع الرجاء من كل ممن دونه وتقطع الأسباب من جميع من سواه، تقول: بسم الله الرحمن الرحيم ” أي أستعين على هذا الامر بالله الذي لا تحق العبادة لغيره، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي)( ).
لذا أجمع العلماء على استحباب التسمية وذكر الله عند الابتداء بأي أمر أو فعل صغيراً كان أو كبيراً.
وقد يظن المرء أن الإتيان بالبسملة خالٍ من المتاعب في الأيام الأولى للإسلام وإن النطق بها ليس فيه ضرر على أحد، ولكن ذلك خلاف الواقع فقد عانى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صد قريش ومحاربتهم لذكر الله بلسان التوحيد.
“روي عن ابن عباس انه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بسم الله الرحمن الرحيم فقالت قريش؛ دق الله فاك”( ).
فكانت البسملة عنوان الدعوة إلى الإسلام ومفتاحاً لنشره وتهيئة لأذهان الناس لتلقي وسماع ما انزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي، ومصداقاً من مصاديق الجهاد ويمكن القول أنها باب لمخاطبة الناس ودعوتهم فان ذكر الله تعالى مجرد عن ذم آ لهتهم لا يتضمن إستفزازاً مباشراً لهم وربما إنهزموا عند سماعها، وفيه واقية للإسلام والمسلمين في بداية الدعوة وإجتناب لشر الكفار.
عن الإمام محمد الباقر قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع صوته بها فإذا سمع المشركون ولوا مدبرين”.
وروي عن ابن عباس أنه قال: “أول ما نزل به جبريل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا محمد إستعذ وقل بسم الله الرحمن الرحيم”، وبالإسناد عن عكرمة والحسن البصري قالا: “أول ما نزل من القرآن[بِسْــمِ اللَّهِ الرَّحْــمَنِ الرَّحِيمِ] فهو أول ما نزل من القرآن بمكة( ).
وهذه الرواية تؤكد أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مكية وأنها فاتحة الوحي وبها يبدأ كل مرة، تبدأ به سورة قرآنية بإستثناء براءة والتي تسمى أيضاً التوبة الأمر الذي يجسد قدسية خاصة لها ويحث على تدبر وجوه عظمتها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلن ويبين هذه الحقيقة.
روي عن ابن عمر “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان جبريل إذا جاءني بالوحي أول ما يلقي عليّ بسم الله الرحمن الرحيم”.
لقد كانت[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] آية في الأرض وشعاراً إسلامياً لذلك ترى كفار قريش في يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: “اكتب بسم الله الرحمن الرحيم يقولون: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم”( )، وهو جحود منهم وصد وعزيمة على الفرار من الإسلام خاصة إذ أن الصفتين كانتا معروفتين لله عز وجل عند العرب في الجاهلية وأشعارهم.
ولم يلبث هذا الجحــود حتى إنحســر وتلاشــى ببزوغ شمس الإسلام وأصبح المؤمنــون يتذوقــون طعم وبركة الآية الشريفة ويرددونها بشوق بعد أن أدركوا إستحباب الجهر بها مطلقاً، لما ورد في كتب المسلمين وأهل الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع”( ).
إنها رمز للتوحيد وتمسك حاضر به في كل واقعة وفعل، وطرد للشرك وتحصين للنفوس منه، وبسم الله الرحمن الرحيم سبيل نجاة وكهف أمان يلجأ اليه الإنسان عند الشدة والبلاء.
(أخرج عن الإمام علي  مرفوعاً : “إذا وقعت في ورطة فقل بسم الله الرحمن الرحيم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فان الله يصرف بها ما يشاء من أنواع البلاء”( ).
لقد أحاطت بها عند النــزول هــالة من القدســية والتعظــيم في الآفاق وخشعت الخلائق ســاعة سماعها خاصة وان الله عز وجل جعلها باباً للزيادة والنماء النافع، أخــرج عن جـــابر بن عبـد الله قال: “لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم إلى الشرق، وسكنت الريح وهاج البحر وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من السماء وحلف الله بعزته وجلاله أن لا يسمى على شيء إلا بارك الله فيه”( ).
فلا غرابة أن تردد الجبال بالذكر والتسبيح قول المؤمن بسم الله الرحمن الرحيم فرحاً بذكره في الأرض بمضامين التعظيم والتقديس والرحمة والرافة إذ أن الآية إفاضة كريمة من رحمته تعالى على الأرض وعمارها، وقد اخرج عن عائشة إنها قالت: “لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها، فقالوا: سحر محمد الجبال فبعث الله دخاناً حتى أضل أهل مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقناً سبحت معه الجبال إلا أنه لا يسمع ذلك منها”( )، وقريب منه ورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام.
إن قراءة[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فعل إيماني لا يخلو من المنافع المادية والتي تكون ساعة النطق بها إلى جانب ما فيها من الثواب ذاته مصدراً مباشراً لشعب من تلك المنافع.
أخرج عن بن مسعود انه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب له بكل حرف أربعة آلاف حسنة، ومحي عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة”( ).
وهذا الثواب العظيم يدل على المنزلة الخاصة للبسملة في العقيدة الإسلامية وهي دعوة لإستنباط الدروس والمواعظ منها.
لقد جاءت السنة النبوية الشريفة ببيان المواضع التي يستحب فيها قول (بسم الله الرحمن الرحيم) لما فيه من موضوعية في بناء الإسلام وترسيخ عقائده، وصلاح الفرد المسلم، ومن تلك المواضـع مناسبة وطــئ الزوجــة.
وروي في الصحيحين عن عبد الله بن عباس “إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لو أن أحدكم أراد أن يأتي أهله قال بسم الله الرحمن الرحيم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فانه أن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً”( ).
وبذا تستوعب منافع البسملة الموجود والمعدوم وتضفي على الحياة إشراقة ورونقاً إيمانياً لأن طمع ورغبة الإنسان في الولد يصاحبها خوف من المستقبل المجهول وما تخفيه الأيام للأبوين أو الولد، فجعل الله عز وجل البسملة وثيقة رجاء وصول النعم وشهادة ضمان لدفع الضرر المحتمل في المستقبل ومناسبة كريمة للثقة والإطمئنان والسكينة وقوة دواعي حصول المقاصد والآمال.
إنها سلاح لمنع الشيطان وتاثيره على الاولاد في حالة التكوين وايام النشــأة واســتحضار لذكر الله تــعــالى والابتداء بإسمه في اهم عملية تكوين إنســـاني ولجوء إلى أسمائه تعالى وكلماته التامة للاستعاذة من شر الشيطان وجنوده، ووقاية والتفات إلى صيغة التحذير الواردة في قوله تعالى [ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ ]( ).
وعن عبد الرحمن بن كثير قال كنت عند الإمام الصادق جالساً فذكر شرك الشيطان فعظمه حتى أفزعني قلت جعلت فداك فما المخرج من ذلك؟ فقال: إذا أردت الجماع فقل: بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو…” الدعاء( ).
أن تعليم البسملة للصبيان في المدارس ذو منافع دنيوية إلى جانب ما فيه من الثواب العظيم الذي يبهر عقول أهل الحساب والذين ينظرون بلغة المقادير في الأخذ والعطاء و الله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب وهو الواسع الكريم فما أكثر الذين ينتفعون من بركات تعلم كل صبي البسملة.
روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إذا قال المعلم للصبي قل: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم، كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم”( ).
وبإعتبار أن الحسن في علم الكــلام هــو الفعــل الذي وافق الأمر، أو ما حسنه الشرع وجعله سائغاً مستحباً وإستحق عليه مدحاً ولا يستحق عليه ذماً، فان ظاهر هذه الرواية الحسن الإضافي للبسملة والمترشح على الوالدين والمعلم والمتعلم لتوكيد عمومات واستغراق بركات البسملة مما يدل على أهميتها في تثبيت لواء التوحيد في الأرض والحاجة الشخصية لها في الدارين لذا تفضل الله سبحانه، وجعل الثواب في البسملة متعدداً ومستوعباً للذي جاء بها ولمن علمه وللسبب التكويني للتلفظ بها.
ويستلزم البحث في البسملة إســتقراء ودراســة ما لها من العوارض الذاتية وما يترشــح عنهــا من المنافع، ويستحب أن يؤتى بها من غير تقييــد بشــرط ولا تقــارن بشــيء من العـوارض وهي التي تسمى الماهية بشرط لا أي المجردة.
فالبسملة مستحبة بذاتها وان لم يكن في البين غايات وقضايا متحدة أو متعددة تتعلق بها كما يؤتي بالبسملة على نحو مطلق أي لا بشرط بإعتبار إنها عنوان مستقل ومغاير للأغراض والإعتبارات التي تكون بداية مباركة لها، وتنبسط بركاته على الغايات التي جيء بالبسملة لها وكذا التي لم تقصــد لعموم بركاتها، ومن الآيات إن منافعها لا تنحصر بأيام الحياة الدنيا بل تتعدى لتشمل الآخرة أيضاً.
وستبقى قراءة البسملة حرزاً وأماناً من سطوة الملائكة الذين يتولون أمر النار يوم القيامة وسلطانهم، كما في قوله تعالى [عَلَيْهَا تِسْعَةَ عشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً …]( ) الآية التي قابلتها قريش بالتهكم، وقال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبى كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وانتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ … إلى أخر القصة.
هؤلاء الملائكة الغلاظ ذوو الشدة والبأس الذين يفعلون ما يؤمرون من غير أن تأخذهم بأهل العذاب رأفة أو رحمة يمكن النجاة من بطشهم في ذلك اليوم العصيب ومن الفزع منهم يوم الخوف الأكبر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم لتكون وثيقة وعهد سلام وكتاب أمان دائم.
عن ابن مسعود قال: “كل من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فإنها تسعة عشر حرفا ليجعل الله كل حرف منها جُنة من واحد منهم”( ).
إن قراءة البسملة وسيلة إلى صعود الدعاء وسبيل مبارك لتحقيق الإستجابة فالملائكة تستحي أن تتباطأ في رفع دعاء فيه اسم الله وشهادة برحمته وعظيم رأفته، وربما تضرعوا إلى الله عز وجل في تعجيل الإستجابة، وهي أيضاً باب شفاعة وإكرام لأسمائه الحسنى هذا إلى جانب ما في تقديم البسملة في الدعاء من ثواب سواء كانت الاستجابة فيه أو في غيره.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “لا يرد دعاء أوله[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] فإن أمتي يأتون يوم القيامة وهم يقولون بسم الله الرحمن الرحيم فتثقل حسـناتهم في الميزان فتقول الأمــم: ما أرجــح موازيــن أمــة محمد صلى الله عليه وآله وســلم، فيقول الأنبياء: أن ابتداء كلامهم ثلاثة أسماء من أسماء الله تعالى لو وضعت في كفة الميزان ووضعت سيئات الخلق في كفة اخرى لرجحت حسناتهم”( ).
والبسملة تركة معنويـة وأخلاقية دنيوية وأخروية، فالمعروف أن المال تركة للدنيـا، فإذا كانت الدنيا زائلــة فمن باب أولى أن تكــون التركــة الشخصيــة عرضـــة للزوال وربما كــانت وبالاً عـلى الشــخص في جمعها وتحصيلها وفي بقائها آلة للحرام وسبباً للمعصية، أما البسملة فهي تركة بذاتها ووعـاء ومقدمــة وعرض لغيرها فهـي وقــاء وحفظ لتركة المال.
ويصل ثواب تعلم وقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) إلى الأموات من الآباء أيضاً فضلاً منه تعالى، عيسى بن مريم مرّ على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً فلما إنصرف في حاجته مرَّ على القبر فرأى ملائكة الرحمة معها أطباق من نور فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى كان هذا العبد عاصياً ومذ مات كان محبوساً في عذابي وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولداً وربته حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر إسمي على وجه الأرض”( ).
وكما أفادت بعض النصوص وجود منافع دنيوية وأخرى تتعلق بعالم الحساب والجزاء للإتيان بالبسملة فان هذا الخبر يؤكد الإنتفاع في عالم البرزخ من قراءة الغير والولد الصالح الذي ينتفع منه الإنسان بعد موته.
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء يتيه الإنسان في غمرة مشاغلها وتنقله كل آن من حاجة إلى أخرى من حوائجها ومن إبتلاء إلى آخر، يصيب فيها الإنسان ويخطأ ويربح ويخسر ويأخذ ويعطي وتفرحه حيناً وتحزنه حيناً آخر، وتضعف قدرته على العمل ويصيب أعضاؤه الوهن وهو أمر ظاهر بالوجدان تظهر أماراته وإنذاراته بالشيب الذي يزحف متسللاً بتوئدة وثبات وإصرار، وفي كل أحواله يكون الإنسان مأموراً بذكر الله والإستعانة به، ومن وجوه الإستعانة قول[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] والنطق به واستحضاره عند كل مناسبة وعند إتيان كل فعل سواء كان كبيراً أو صغيراً، جليلاً أو دقيقاً.
والإتيان بها له موضوعية وتأثير على هذه الأفعال والكيفيات في إتساع وتعدد وجوه الصلاح فيها وإنحسار الضرر والشر فيما يواجه الإنسان في حياته اليومية وبذا تكون البسملة سلاحاً حاضراً وواقية وحرزاً.
وقد ورد بالإسناد عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه عن علي في حديث قال: “أن الله يقول أنا أحق من سئل، وأولى من تضرع إليه، فقولوا عند إفتتاح كل أمر صغير أو عظيم بسم الله الرحمن الرحيم أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحق العبادة لغيره، المغيث إذا أستغيث… إلى أن قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حزنه أمر يتعاطاه فقال بسم الله الرحمن الرحيم وهو مخلص لله يقبل بقلبه إليه، لم ينفك من إحدى اثنتين، إما بلوغ حاجته في الدنيا، وإما يعدله عند ربه، ويدخر له لديه وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين”( ).
إن الإتيان بالبسملة وان حمل على الندب في غير القراءة الواجبة في الصلاة وما دل عليه الدليل إلا إن التقصير وعدم قول بسم الله الرحمن الرحيم عند إفتتاح أمر ما يجلب على الإنسان الإبتلاء ويعرضه للامتحان ويفقده فرصة التيسير واللطف الإلهي إلا أن يشاء سبحانه فرحمته أعم من أن تنحصر بفعل العبد وثوابه فقد تأتي فضلاً منه، أي قد لا يبتدأ العبد بالبسملة ولكن الله يبتدئه بالرحمة والفضل.
وعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث قال: وان الله يقول لعباده أيها الفقراء إلى رحمتي أني قد ألزمتكم الحاجة اليّ في كل حال وذلة العبودية في كل وقت فاليّ فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم بسم الله الرحمن الرحيم أي استعين على هذا الأمر بالله”.
وقال رجل هو عبد الله بن يحيى للإمام علي عليه السلام أن رأيت أن تعرفني ذنبي الذي امتحنت به في هذا المجلس فقال: تركك حين جلست أن تقول بسم الله الرحمن الرحيم، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثني عن الله عز وجل انه قال كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر”( ).
ويدل الحديث على عدم إنحصار إعتبار البسملة في افتتاح عمل مقصود بل هي سلاح ووقاء ملازم للإنسان في تبدل أحواله وكأنها حصانة وقرين فلاح.
إن الإكثار من قول بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الزلل باعتبار أن قولها ذكر لله وسؤال للرحمة والفضل الإلهي، وفيه دعوة إلى عدم التفريط بها عند قراءة القرآن وإشارة إلى استقلال كل بسملة عن الأخرى بلحاظ الصورة التي تفتح بها.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: أن رجـلاً توضأ وصلى فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعد وضــوءك وصلاتك ففعــل فتوضأ وصلى، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعد وضوئك وصلاتك ففعل وتوضأ وصلى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعد وضوئك وصلاتك، فأتى أمير المؤمنين عليه السلام فشكا ذلك إليه فقال له: هل سميت حيث توضـأت؟ قال:لا، قال: ســمي على وضــوئك فسمى وتوضأ وصلى، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يأمره أن يعيد”( ).
والحديث مدرسة لإتقان آداب الاستعانة بالله وعدم ترك التسمية حتى عند إتيان الواجب ولتعلم الحرص على المواظبة عليها لنيل تمام الأجر في الفعل العبادي وللتحصن من شر الشيطان، ومن وجوه تفسير هذا الحديث ما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام إذ قال: “إذا توضأ أحدكم ولم يسمَِ كان للشيطان في وضوئه شرك، وإن أكل أو شرب أو لبس، وكل شيء صنعه ينبغي له أن يسمي عليه فان لم يفعل كان للشيطان فيه شرك”( ).
وبذا تكون منافع البسملة مركبة ومتعددة ولا تنحصر بزيادة الأجر والثواب بل أنها آلة الوقاية والإحتراز من الشيطان ومكره وإغوائه، إنه نوع إلتجاء إلى الباري بالتلفظ بإسمائه، فلا غرابة أن تجد البسملة تتضمن اسم الجلالة مع إسمين من الأسماء الحسنى يحتاج إليها الإنسان في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة، ويأتي بالبسملة وكأنه ينطق حرفاً وكلمة واحدة، مما يدل على الإعجاز والتخفيف والتيسير وإقامة الحجة في إدراك منافع البسملة بمجرد التلفظ بها وان عظيم نفعها ينعكس عليها بالذات والعرض.
إن ذكر الله على الوضوء توجه روحي لأداء الفعل العبادي ونقاء للقلب وهجران للدنيا وإعراض عن أسباب الكفر والبدع.
ومن أسرار الحكمة ما جاء في السنة النبوية الشريفة من توكيد الاعتناء بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم على نحو خاص لبيان قدسيتها، روي عن انس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كتب بسم الله الرحمن الرحيم مجوّدة تعظيماَ لله غفر الله له”( )، والحديث قاعدة مباركة في الرسم القرآني والخط العربي مستنبطة من عالم الوحي والرسالة بإحاطة كتابة بسم الله الرحمن الرحيم بهالة من القدسية وبروح من الخشــوع وبقصد الإجلال بالإضافة إلى الطمع بجزيل الثواب.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الإمام علي بن أبى طالب عليه السلام انه قال: “تنوّق( ) رجل في بسم الله الرحمن الرحيم فغفر له”( ).
فلا بأس بإقامة معرض للخط العربي يقام كل سنة أو سنتين أو ثلاث خاص ببسم الله الرحمن الرحيم وآيات القرآن والأحاديث الخاصة بالبسملة تعرض فيه أفضل وأحسن الخطوط لتعتمد في المصنفات والمراسلات والهدايا ونحوها،وإستثمار شبكة ومواقع الأنترنيت للبسملة وأسرار الحرف القرآني ، وفيه ببركة البسملة تطوير وتعاهد للخط العربي ورسم المصحف كما يدخل ضمن عمومات إحياء علوم القرآن خصوصاً إذا إقترن بندوات ومحاضرات عن رسم المصحف وتأريخه وأسرار البسملة ونحوها.
ولقد جاءت الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإرشاد والتوجيه في رسم حــروفها وتفصيل خطها لما فيه من وقع في النفوس وأثر في نشأة الأجيال وتوارث إجلال القرآن والحفاظ على كلماته، أخرج ابن عساكر في تأريخ دمشق عن زيد بن ثابت أنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه”، (واخرج أيضا عن ابن عباس انه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:لا تمد الباء إلى الميم حتى ترفع السين”( ).
وتدل هذه المنزلة الرفيعة للبسملة في السنة القولية والفعلية والتقريرية على مضامين قدسية لها وفلسفة تعبدية بالإتيان بها ورسمها ولزوم تعاهدها خطاً ولفظاً وإحاطتها بهالة من الإكرام والتقديس والعناية الشخصية والنوعية ومن لدن عامة الناس وأهل الحل والعقد والأمراء والرؤساء.
وتولى عمر بن عبد العزيز بنفسه الإشراف على كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ويقول لكاتبه: طول الباء واظهر السينات ودور الميم، وذكر انه ضرب كاتباً كتب الميم قبل السين فقيل له فيم ضربك أمير المؤمنين؟ فقال: في سين، وقد يستغرب المرء هذا الفعل منه مع ما اشتهر به من الزهد وعلى خلاف سيرة من سبقه من بني أمية.
ولكن هذا الإستغراب يتلاشى عند النظر للفعل من جهة تعظيم القرآن وكتابته وما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب وهو جزء من مدرسة إكرام القرآن بتعاهد رسمه بما يتناسب وعظيم منزلته، فالمؤمن يشعر أنه يكتب أو يقرأ إفاضة سماوية لها آثار مباركة على العين والأذن والأركان، وكأن عطراً طيباً ملكوتياً ينطلق من الحرف القــرآني فيملأ نفس الكاتب أو القــارئ بضـياء الإيمان فتظهر على جوارحه تجليات الخشوع والخضوع ليكون تركة كريمة خاصة بالبسملة.
وروي عن ابن عون أنه كتب لابن سيرين (بسم) فقال: مه.. اكتب سينا، إتقوا أن يأثم أحدكم وهو لا يشعر، والظاهر أن ابن عون لم يظهر السين.
وقيل أن الباء طولت للتعويض عن حذف الألف في محاولة رمزية للجمع بين قاعدة الخط وواقع الاستعمال ولكنه للتعظيم، وكره مجاهد والشعبي أن يكتب الجنب بسم الله الرحمن الرحيم.
ولا ينحصر تقديس البسملـة في كيفية كتابتهــا وقراءتهــا بل يتعداه الى ضرورة الاهتمام بالظرف الذي يحتويها والشيء الذي تكتب فيه، فالقرطاس الذي تدون فيه يجب أن يولى عناية خاصة إكراماً لشرف ما فيه.
روي عن عمر بن عبــد العزيز مرســلاً “أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرّ على كتاب في الأرض فقال لفتى معه ما في هذا؟ قال [بِسْمِ اللَّهِ] قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لعن من فعل هذا لا تضعوا بسم الله إلا في موضعه”( )، ولقد جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذا شعبتين:
الأولى: النهي عن وضع بسم الله الرحمن الرحيم وما تكتب فيه في غير المكان اللائق والمناسب.
الثانية: ضــرورة المبادرة إلى نقلهــا من المكان الذي لا يتلاءم مع صيغ التكريــم وإعتبار الآداب الإسـلامية خاصة وفيه مسائل أخرى:
الأولى: إن القيام بهذا النقل يعود بالنفع العام لما فيه من المحافظة على تعظيم جانب القرآن وإجلال آياته.
الثانية: دوام الاستعانة بالبسملة مفتاح للأعمال.
الثالثة: خطورة وسوء إلقاء الورقة التي دونت فيها البسملة على الأرض لما ظهــر عـلى النــبي صــلى الله عليه وآله وســلم ولعــنه من فعلها، ومصاديق اللعن على لسان النبي في المكروهات والآداب ليس بكــثير مع كــثرة الأحــاديث النبوية في هذا الباب أمراً ونهياً .
وهل يحتمل علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذي ألقى هذا الكتاب في الأرض من الكفار أو المنافقين فلعنه، الجواب نعم والمسألة التالية أمارة عليه.
الرابعة: مبادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسؤال عن الظرف في آية إعجازية وظاهرها الإخبار السماوي مما يدل على مشاركة الوحي في لزوم تنزيه البسملة من الإلقاء على الأرض وتعريض كتابتها للهتك.
الخامسة: ترشح الفضل والإجلال على الظرف والورق والصحيفة التي تكتب فيها مما يدل بالدلالة الإلتزامية على التركة الإضافية لكتابة البسملة في الكتاب والرسالة وطلب الحاجة.
السادسة: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مركب ينحل إلى أمرين، الأول ذم الفعل وإظهار قبحه، والثاني النهي الصريح عن إتيانه وفعله، كما أن النهي جاء بصيغة الجمع مما يعني انه خطاب لجميع المسلمين في كل زمان ومكان.
السابعة: النفع الخاص لمن يقوم بالرفع والتطهير والتعاهد والحفظ وبيان ما فيه من عظيم الثواب له ولوالديه.
وكذا من أمــر به تعظيــماً لشـعائر الله وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ومحافظة على القدسية الخاصة لكلام الله والبسملة خاصة في النفوس.
الثامنة: لم يأمر النبي بإبتداء الكلام بغير البسملة.
وقد (روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “من رفع قرطاس من الأرض فيه بسم الله الرحمــن الرحيــم إجــلالاً له تعالى كتب عند الله من الصديقين وخفف عن والديه وان كانا مشركين”( ).
وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة، فقد نقل في سبب توبته انه وجد في الطريق قطعة كان مكتوباً فيها (بسم الله الرحمن الرحيم) وقد وطأتها أرجل المارة، فآخــذها وطيبها بغالية اشتراها لها، ثم جعل القطعة في شق الحائط، فرأى في النوم كأن قائلاً يقول له: يا بشر طيبت إسمي فلأطيبن إسمك في الدنيا والآخرة، فتاب من يومها ثم اشتهر بالورع والزهد والتقوى”.
وكثيرة هي الشواهد التي تدل على صدق التوبة وتفضل الله تعالى بالهداية على من يشاء من خلقه، ولكن موضوع التوبة بإجلال البسملة أصبح مدرسة أخلاقية وعرفانية خاصة تصل طوعاً وقهراً إلى أكثر المسلمين في آية قرآنية وإعجازية لتعميم الفائدة والإنتفاع الأمثل من رحمة الله تعالى بالبسملة فهي فضل الهي فاز بنيله المسلمون وكان من اللازم تعاهده والحرص عليه الأمر الذي تراه واضحاً في جميع الأحوال والأزمان والأجيال المتعاقبة للمسلمين .
وفي البسملة عز للمسلمين وإظهار للإمتثال لأمر الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم أمر ذو شأن وخصوصية لأن طريقة النطق بها وصيغة حروفها تعكس ما تحتله من منزلة رفيعة في النفس وتجسد صدق الإيمان، والإتيان بها وفق الأصول يبعث لدى السامع إجلالاً لها واستجابة ومشاركة في التقديس.
وقد ورد عن انس بن مالك لما سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كانت مداً ثم قرأ [ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم”( )، واجمع القراء على أن الوقف على بسم ناقص وقبيح، وعلى قول [ بِسْمِ اللَّهِ ] وكذلك [ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ ] كاف وصحيح، أما الوقف على [ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] فانه تام كامل.
وروي بالإسناد عن أبى كريب قال حدثنا عثمان بن سعيد قال: حدثنا أبو درق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا محمد قل استعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: قل بسم الله يا محمد يقول اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله”( ).
إن النطق ببسم الله الرحمن الرحيم بناء في صرح الإيمان وصرخة حق في وجه الكفار وأهل الشرك وهو لواء من ألوية الإسلام، وتنمية لملكة التقوى في النفس، وتثبيت لحسن التوكل وإجهار بذكره تعالى وإعلان للشروع بأعمال عبادية.
وذهب بعضهم إلى القول بان البســملة من الخصوصــيات لما جـاء في الرواية بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتب (بسمك اللهم) إلى أن نزل[بِاسم اللَّهِ مَجْــرَاهَـا]( ) أمر بكتابة [بِسْمِ اللَّهِ]، حتى نــزل [قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسماء الْحُسْنَى]( ) فأمــر بكـتــابــة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ]، إلى أن نزلــت [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] في آية النمل فأمر بكتابتها.
ولكن الرواية جاءت بأنها فاتحة كل كتاب، وفي القرآن الكريم شواهد تؤيدها أو تشير إلى وجودها قبل الإسلام، ففي حكاية عن بلقيس ملكة سبأ في بلاد اليمن ورد في التنزيل [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( ).
وتبين الآية أعلاه حرص الأنبياء على الإتيان بها في افتتاح كتبهم مع أن كتب الأنبياء عليهم السلام كانت جملاً مختصرة وخالية من الإطالة وفيها إجتناب واضح للإكثار والإطناب، ورسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك الروم وكسرى والنجاشي بيان وتوكيد ومدرسة ودليل في هذا الباب، ويمكن إعتبار البسملة هبة خاصة للمسلمين بوراثتهم للنعمة التي كانت عند الأنبياء.
وقال الشــيخ الطوسي “وقولــه [ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] حكــاية ما قالته على المعنى باللغة العربية وان كانت لم تقل هي بهذا اللفظ”( ).
ولكن بلقيس قارئة كاتبة عربية وكان أبوها ملك اليمن وليس له ولد غيرها وهو من سلالة كلهم ملوك إلى أربعين ظهراً، فبلقيس هذه من نسل تبع بن شراحيل الحميري، وسليمان الذي يكلم الطير ويعرف لغاته لابد وانه يخاطب الملوك بألسنتهم كجزء من وظائف وأخلاق النبوة ولبيان الحجة عليهم لأن العربية لغة القرآن ولسان خاتم الأنبياء وآلة الخطاب عند أهل الجنان.
وليس من قرينة في المقام تصرف الحكاية عن اصل دلالتها وهو اللفظ والمعنى معاً فيحمل على الإطلاق.
إن الآية الكريمة من سورة النمل شهادة سماوية بأفضلية أهل الإسلام وعز وفخر لهم في أحقاب التأريخ وسجلاتهم القديمة منها والآتية، فالمسلمون هم الذين حفظوا هذه الآية السماوية العظيمة وتعاهدوها في الأرض حتى أصبحت شعاراً إيمانياً يسمع صداها في جميع أنحاء الأرض بفضل الله بعد أن فرط بها أهل الكتاب وغيرهم مع معرفتهم بعظيم قدرها وإحساسهم بالهيبة لها وظهور حرص الأنبياء عليها.
وقيل أن كرم الكتاب في قوله تعالى [ كِتَابٌ كَرِيمٌ.. ]( ) الوارد على لسان بلقيس يعود إلى ابتدائه باسم الله، وإنما قالته من منازل الكفر التي كانت وقومها عليها، ويمكن اعتبار هذا القول سبباً لتوكيد الروايات واهتمام المسلمين بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم سبيلا لتعاهدها ووسيلة للانتفاع من بركتها.
ووجود البسملة قبل الإسلام لا يمنع من نزولها على نحو التدريج والتجزئة في حال ثبوته والنصوص والظاهر بخلافه.
لقد ورد عن الإمام العسكري عليه السلام أن الجهر بالبسملة من علامات الإيمان وقد تقدم عن الإمام الباقر عليه السلام أنها أول كتاب نزل من السماء.
وهذه الأولوية لها دلالات ومضامين تشريف وتقديس وإجلال للبسملة فكما انها فاتحة كل سورة فانها فاتحة التنزيل وبداية الوحي وفيها خصوصية باعتبار انها اول ما تلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كلام الله عز وجل إذ إستبشرت الكائنات بإطلالة فجر الإسلام.
وتبين الآية ان المشركين في أيام الرسالة الأسلامية أشد كفراً وجحوداً وعتواً من المشركين أيام الأنبياء الذين سبقوا الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبلقيس حينما جاءها كتاب سليمان أخبرت قومها به بلسان الإجلال وإعترفت بعلو شأنه.
ويصير جواب وجهاء قومها إقراراً بعظيم منزلة المُرسل وما في كتابه من دلالات، كما وان الفصول اللاحقة للقصة إمضاء وتوكيد لموضوعية البسملة بينما تجد مشركي العرب يسخرون ويعرضون عند سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها بل يتوعدونه في تهديد، فلا غرابة أن تقترن بالحروف المقطعة تنزيلاً من عنده تعالى.
وفي خبر أبي حمزة عن الباقــر عليه السـلام: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع صوته بها فاذا ســمع المشــركون ولوا مدبــرين فانزل الله [ وَإِذَا ذَكَــرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُـــرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَــلَى أَدْبَارِهِمْ نُــفُـورًا]( )، وبالإسناد عن علي بن إبراهيم في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام إنها الآية التي قال الله عز وجل[وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( ).
وفي بيان معجزة القرآن الكريم أن حروف البسملة وهي تسعة عشر حرفاً فان هذا العدد أو مضاعفاته جاءت في تكرار كلماتها في القرآن، فكلمة اسم تكررت تسع عشرة مرة، وكلمة الرحمن تكررت سبعاً وخمسين مرة أي تسعة عشر مضروباً بثلاثة، وكلمة (الرحيم) تكررت مائة وخمس عشرة مرة .
كما وأن بسم الله الرحمن الرحيم وردت فيه مائة وأربع عشرة مرة أي تسع عشرة مضروباً بستة، ولابد أن للعدد تسعة عشر أسراراً ملكوتية كما ورد في إحصائية تشير إلى إعجاز القرآن، وهو أمر يبعث على التدبر وسر قرآني تكمن في ثناياه حقائق علمية ومعارف خفية ربما توصل إلى شطر منها أولوا الألباب وأرباب العقول واستنبطوا منها الدروس خاصة مع التطور المتصل للعلوم وإرتقاء مستلزماتها.
وذكر أن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها، ونسب هذا القول للإمام علي عليه السلام , ولا أصل له.
وإجتهد بعض الفلاسفة المتأخرين في تحقيقه وأفرد له فصلاً في أحد كتبه، واستدل بالبرهان الحكمي أن بسيط الحقيقة كل الأشياء وان جميع الصحف المنزلة في نقطة تحت باء بسم الله، وان ذلك يراه السائرون إلى ملكوته تعالى بالمشاهدة العيانية.
ويرون أيضا إن جميع الموجودات في تلك النقطة الواحدة ومثل له بأن جميع الموجودات في كلمة واحدة وهي [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ) وأن التفصيل يحتاج إلي مجلدات كثيرة، وإن الذي يخرج من هذا الوجود المجازي الحي ويتصل بدائرة الملكوت السبحاني يشاهد وجوده تحت نقطة باء السببية لمسبب الأسباب ( )، وقد وجد أهل علم الإشارات في الحديث ضالتهم، والحديث ضعيف سنداً ودلالة.
ولعل فيه إبتعاداً عما في القرآن من عظيم البيان والتفصيل الذي لا يمكن الإستغناء عنه، والإتيان بالآية الكريمة أعلاه مثلاً واستشهاداً قياس مع الفارق لأن مضمونها وما فيها من الكلمات تدل على معنى معين ودلالة واضحة بخلاف الباء ونقطتها.
وذكر أن الباء في [بِسْمِ] مشتق من البر , فالله سبحانه هو البار على المؤمنين بأنواع النعم ومن أسماء الله تعالى ((البار))، والسين مشتق من إسمه السميع فهو الذي يسمع دعاء الخلائق جميعاً، وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه تعالى، كما يرد مضمونه في علم الحروف.
وللبسملة مضامين قدسية، وهي سر سماوي له مفاهيم سامية وإفاضات تعم الخلائق، وإتيان المسلم بالبسملة مدخل كريم لرحمة تتغشى أهل الأرض، إن ورود تفسير البسملة بصفات الله عز وجل الحسنى يدل على عظيم منزلتها والحاجة المستديمة لها وفي مفهومه دلالة على جزئيتها من القرآن.
لقـد تضمنت الأخــبار بأن البســملة حجــاب يســتر المؤمــن ويدفع عنه الأذى، انه يبادر تلقائياً إلى النطق بها كوجه من وجوه الاستعاذة وسبيل إلى الالتجاء إليه تعــالى، (وقــد ورد عن انس بن مالـك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم”)( ).
والظاهر أن نزع الثياب جاء من باب المثال الغالب لحال الإنفراد وإقتراب الوسوسة وليس الحصر، وجاء بوصف ( بني آدم) أي بصيغة الإطلاق وليس المسلمين مما يدل على انه حاجة وسلاح يحتاجه كل إنسان إلا أن المسلمين هم الذين انتفعوا منه.
وفي الحديث نكتة أخلاقية وأدبية وهي عدم ترك البسملة في ساعة الغفلة وعند الوحدة والإنفراد، فعندما ما يكون الإنسان في العمل وبين الناس يشــعر بالحاجــة الذاتية إلى الإتــيان بالبســملة أو الغــيرية ايضاً، مما يدل على التعدد في البسملة التي في أوائل السور القرآنية واستقلال كل واحدة منها ذاتاً وموضوعاً ومنطــوقاً وكأنها من المشــترك اللفظي مثل الاسم الذي لفظــه واحد ومعناه جمع كما في الملك من قوله تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا]( ) ففي بداية كل سورة (بسم الله الرحمن الرحيم) غير التي جاءت بداية وفاتحة للسورة الأخرى.
وروي عن ابن عباس انه قال من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى)( )، أي بعدد سور القرآن ولكن سورة براءة خالية منها، وعلل قوله هذا بوجوه، روي عن ابن عمر وغيره “بان من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرةُ آية”.
ولا تنحصر منافع البسملة في أهل الإسلام بل تتغشى بركاتها من يأتي بها طلبا لرحمته تعالى ورجاء للرأفة، أنها باب مفتوح للسائلين وسبيل التجاء لعامة الناس وعطية متجددة وثمرة سماوية متدلية وفيض خلده القرآن وتعاهده المسلمون لتكون ربيعاً للقلوب ولتخلص النفوس من الحزونات المذمومة والظلمات المؤذية، وستبقى البسملة سلاحاً لإختراق حواجز المادة وأداة انتقال من واقع النقص الى مراتب الكمال وكأنها حاجة أخلاقية لمحاربة الشرور والآفات العرضية وهي منبع الوحدة والصلاح.
والحديث يدل على منافع عظيمة للبسملة وأنها لا تنحصر بأهل الإيمان بل يمكن لكل من يتلفظ بها أن يستثمر ما فيها من البركات والخيرات ولو على نحو الموجبة الجزئية وما يتعلق بالحياة الدنيا فقد تقدم أن الرحمن اسم ينتفع منه المؤمن والكافر في الحياة الدنيا فيحل الإمهال والتخفيف عند الإتيان بالبسملة ما دام لحظة التلفظ بها مدركاً لحقيقتها وان لم تكن عنده كيفية إستعدادية للإيمان أو فعل ومنهجية محسوسة، وهذا لا يمنع من كونها حجة على الكافر والجاحد, فحكم الشارع يقضي بالتوبة عند الإتيان بالبسملة ساعة الحاجة والإبتلاء وظهور الحجة وانقداح البرهان بالإنتفاع منها وكشف الضيق ورفع الغمة.
ويمكن دراسة منافع البسملة عبر العوالم التي يمر بها الإنسان وانه يحتاج إليها في اللاحق منها أكثر من السابق، فتكون الحاجة إليها في عالم البرزخ أكثر من الدنيا، ويوم القيامة أكثر منها في عالم البرزخ، ومن منافعها وبركاتها يوم القيامة ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مرّ المؤمن على الصراط فيقول بسم الله الرحمن الرحيم طفيت لهب النار وتقول جز يا مؤمن فان نورك طفى لهبي.
وجاء النعت بالإيمان وهو أعلى مرتبة في الإسلام للتنبيه بان المؤمن يواظب على العبادات والذكر ولا يقف عند الإتيان بالشهادتين وتقف البسملة في أحسن حلة يوم القيامة لتكون ناصراً وعوناً وعملاً مباركاً وكنزاً مدخراً للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي، وعنوان ترجيح لأعمالهم وسبباً لنشر السكينة بينهم ودفع الخوف والفزع عن نفوسهم.
وفي ربيع الأبرار مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم فإن أمتي يأتون يوم القيامة وهم يقولون بسم الله الرحمن الرحيم فتثقــل حسـناتهم في الميزان فتقول الأمم ما أرجح موازين امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول الأنبــيــاء أن إبتــداء كلامهم ثلاثة أسماء من أسماء الله تعالى لو وضــعت في كفة الميزان ووضعت سيئات الخلق في كفة أخرى لرجحت حسناتهم.
أي من فضل الله تعالى الأذن العام للمسلمين بالنطق بالبسملة يوم القيامة ابتداءً كما ينطقون مجتمعين ومتفرقين بالتلبية في الحج، وكما يأتون بالبسملة في بداية كل سورة ويكررونها في كل يوم في الصلاة، لتكون البسملة يوم القيامة هوية وشهادة وتزكية لهم ودليلاً وقائداً وحرزاً سواء الذين كانوا يجهرون بها بالقراءة او يخفتون، يقولون بجزئيتها من السورة او بعدم جزئيتها منها، والله واسع كريم.
والبسملة تجزي عند المبادرة إلى الإتيان بها عن الاستعاذة وفيها تمام التحرز وهي سبيل للأمان من شر الشيطان ونزغه , وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام”فإذا قرأتها سترتك ما بين السماء والأرض”.
علم المناسبة
ورد لفظ (إسم) من غير ألف ولام ثمان عشرة مرة في القرآن، وجاءت كلها مضافة لله تعالى، وجاء بالتعريف مرة واحدة بالتحذير من الخطاب بين المسلمين بالاسم الفسوق قال تعالى [وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ] ( ).
وجاء لفظ [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] في بداية سورة الفاتحة، وبداية كل سورة عدا سورة التوبة، وجاء مرة واحدة في نظم آيات سورة النمل بقوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
في خطاب نبي الله سليمان عليه السلام إلى بلقيس ملكة سبأ وهي مدينة مأرب وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وكان أبو بلقيس شراحيل ملك اليمن كلها، فأخبر الهدهد سليمان عن عرشها وملكها، وقيل كان عرشها ثمانين ذراعاً في ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، فجاءت البسملة في بداية كتاب سليمان لجذبها إلى الإيمان، وإخبارها عن ضعفها وحاجتها وفيه توكيد سماوي لجزئية هذه الآية من القرآن وأنها كنز من كنوز العرش نزلت هبة ورحمة بالمسلمين، وبيان لموضوعيتها في دعوة الناس إلى الإسلام، وشاهد على أن المسلمين ورثة الأنبياء لحفظهم معالم التوحيد وسنن الشريعة.
وتتضمن هذه الآيات تأديب المسلمين، وهدايتهم إلى كيفية ومواضع النطق ببسم الله، ومنها موضوعية ذكر اسم الله عز وجل على الصيد والأنعام والأكل، وتعظيم شعائر الله في الحج ومناسكه وافتتاح التلاوة به، قال تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( )، وذكر اسم الله في آيات الليل والنهار لما فيه من البركة ونزول الخير.

بحث منطقي
حينما ينسب الكلي إلى الكلي تكون النسبة بينهما أحدى النسب الأربع.
الأولى: التساوي وفيها يتناسب الكليان تناسباً تاماً بحيث يصدق كل منهما على جميع أفراد الآخر، فهما متساويان مثل الإنسان والناطق.
الثانية: التباين وهو الإختلاف والتنافي والبينونة الكاملة بينهما بحيث لا يصدق احدهما على الآخر لا على نحو الكلية ولا الجزئية كالموجود والمعدوم، والحجر والماء.
الثالثة: العموم والخصوص المطلق: إذ يصدق احدهما على جميع أفراد الآخر أي من كل جهة ولكن الآخر لا يصدق إلا على بعض أفراد الأول، كالعبادة والصلاة، فالصلاة تصدق على بعض أفراد العبادة والعبادة تصدق على جميع أفراد وأجزاء الصلاة.
الرابعة: الأعم والأخص من وجه: وهو الذي يصدق فيه كل منهما على بعض أفراد الآخر ويختلف معه في أفراد أخرى، أي يلتقيان ببعض المصاديق ويفترقان بالبعض الآخر كالوضوء وغسل الجنابة، فمادة الإلتقاء أنهما عبادة وطهارة مائية، ومادة الإفتراق الأسباب والوضوء لأعضاء مخصوصة والغسل للبدن كله.
وقالوا إذا كانت النســبة بين الكليين التساوي فان النسبة بين نقيضيهما التساوي أيضاً ولكنه لا يصح إلا بذات الجهة والموضوع فلو نظرنا إلى النسبة بينهما من جهة أخرى لوجدناها احد النسب الأربع بحسب الحال والحد المشترك بينهما وكذا الحال بين نقيضي النسب الثلاثة الأخرى.
وبين الذكر والتسمية عموم وخصوص مطلق، فكل تسمية ذكر وليس كل ذكر هو تسمية، وبين التسمية والبسملة عموم وخصوص مطلق أيضا فكل بسملة هي تسمية وليس العكس، لذا تكون البسملة تسمية وذكراً.
والبسملة من مصاديق الذكر في بيان صفات المتقين الذين هيئ وأعدّ الله عز وجل الجنة بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، سواء جاء المسلم بالبسملة بقصد القرآنية أو إرادة الذكر بعد فعل الفاحشة أو مطلقاً فضلاً من الله عز وجل.
بحث فقهي
التسمية عند الشروع في الوضوء مستحبة وعلى استحباب التسمية الإجماع كما عن جماعة، وقال العلامة: هذا مذهب العلماء في إشارة إلى إتفاق علماء المسلمين في الجملة، وقال الإمام أحمد إنها واجبة، وبه قال: إسحاق بن راهويه، وتدل على الإستحباب نصوص مستفيضة ويكاد يكون من المسلمات عند المسلمين.
وروى الشيخ في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: “قال: إذا وضعت يدك في الماء فقل بسم الله وبالله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فإذا فرغت فقل الحمد لله رب العالمين”، وبهذه الصحيحة تظهر سورة التسمية وهي بسم الله وبالله وبه قال في الروض.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: “إذا سميت في الوضوء طهر جسدك كله وإذا لم تسمه لم يطهر من جسدك إلا ما مر عليه الماء”، أي لما يترشح من الفضل والثواب المطلق في طهارة البدن عند الإتيان بالبسملة كمصداق لمنافع الذكر.
والظاهر شيوع التسمية وإنتشارها في هذا الزمان، وثبوت العمل بها لما فيها من عظيم الفائدة، وعن الذكرى أن الرواية تفيد إستحباب الإعادة أي أن الذي ينسى التسمية يستحب له الإعادة وهو بعيد، وعن الشيخ الطوسي أنه حمل التسمية على النية، وهو خلاف الظاهر ولكفاية الداعي في النية وعدم الإخطار وما أمره به أمير المؤمنين هو التلفظ بالتسمية.
والتسمية تصح بقولك (بسم الله) ونحوه مما فيه اسم الله، بينما البسملة كلمات مخصوصة فيها ثلاثة من أسماء الله، وهي (بسم الله الرحمن الرحيم) ( ).

قوله تعالى
[ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ] الآية 2

القراءة والإعراب واللغة
الحمد: مبتدأ مرفوع بالضمة، ولله: اللام حرف جر، واسم الجلالة اسم مجرور، وهما في محل رفع خبر، وربّ: صفة لله مجرورة بالكسرة وهو مضاف، والعالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
وضم الدال في (الحمد) هو القراءة المأثورة، ويحمل معنى الأخبار عن حمد القارئ وغيره لله عز وجل بخلاف النصب الذي يشير بالدلالة على الحمد الشخصي، إلى جانب ما في الرفع من جودة اللفظ باعتباره اسم معرفة اخبر عنه.
والنصب قد يكون على المصدر بمعنى أحــمدُ الحمـدَ لله وقيل هي لغة قيس وبني الحارث بن سامة، وبعض البدو يقولون الحمد لله (بخفض الدال)، وروى إسماعيل بن عياش عن زريق عن الحسن البصري هذه القراءة وحكيت عن رؤبة( )، وهي لغة تميم لأنها أخــف من الضم خاصة وان كسرة تأتى بعدها، فاتبعوا الكسرة بالكسرة وصارت بمنزلة شــيء واحــد، ولكنها لغة لا يعبأ بها ولم تنـل من الأهمية شيئاً يذكر، وقد اعتبر كسر الدال أو فتحها من الشــواذ في القراءة وكذلك ضم الدال واللام معا.
أن قراءة إبراهيم بن أبى عبلة ((الحمد لله – بضم اللام – إتباعاً للضم بالضم والتجاء البعض إلى كسر الدال لكراهتهم الخروج من الضم إلى الكسر، والقراءة بنصب الدال لجوازه في النحو عند جعل الحمــد مصدراً لا تعــني جــواز هذه القــراءات الثلاثــة في أم الكتاب وان كانت سائغة في اللغة العربية وقواعدها، بالإضافة الى إنها لم ترتق الى عهد الصحابة في دلالتها الإلتزامية واعتبار السيرة.
والقراءتان الأخيرتان رويتا عن الحســن البصـري، وشاركه في الأولى منهما رؤبة، وقراءة الحمد لا تكون إلا بما هو متواتر وثابت في المصاحف بضم الدال وكسر اللام، وهو الشائع والمتعارف في عموم الامصار.
والأصل في(الحمد) النصب وتقديره:أحمد الله حمداً وإنما ورد بصيغة الرفع للدلالة على أمور:
الأول: عموم الحمد، وصدوره من الخلائق كلها.
الثاني: إطلاقه في أفراد الزمان الطولية المقدرة وغير المقدرة.
الثالث: ثبات إستدامة الحمد لله.
الرابع: إنه من الشواهد على إستغناء الله عن الخلائق فالأصل هو الحمد له سبحانه، وإن تخلفت الناس عن الحمد، قال تعالى[لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الخامس: إرادة الإستغراق من الألف واللام في الحمد، وهو لا يتعارض مع معنى العهد والمعهود حمد الله من الخلائق.
واسم الجلالة مرتجل جامد، والألف واللام فيه ملازمة وجزء منه وليست للتعريف، وهي مثل حرف ميم من محمد، وقيل أنه ليس مشتقاً من صفة كالرزاق والحكيم والسميع(وقال الغزالي: كل ما قيل في إشتقاقه فهو تعسف).
وفي (لله) ثلاثة لامات لدخول لام التحقيق عليها أي استحق الله الحمد، ووجود لامين في الأصل لام اسم الجلالة، لام التعريف، والأخرى لام سنخية على القول بان الأصل (لاه)، ولكن الخط جاء بلامين لكراهية اجتماع ثلاثة منها باعتباره اشد استثقالاً من اجتماع صورتين الذي يدغم العرب فيه.
وشددت الباء في (ربّ) لأنها في الباءين اللتين في رببت، وعن الفراء انه يقال: ربَّ وربُ – بتشديد الباء وتخفيفها – وانشد:

وقد علم الأقوامُ أن ليس فوقَه

ربٌ غيرُ من يعطي الحظوظ ويرزقُ

وقال الكسائي بجواز ربّ العالمين كما في القول: الحمد لله ربّاً وإلهاً أي على الحال، وقال أبو حاتم النصب بمعنى احمد الله رب العالمين، وقيل بنصبه على المدح، واختلف في جــواز النصـب على النداء المضاف.
وروي نصــب الباء عـن زيد بن علي وحمل على بيان جوازه لا انه قراءة.
والقراءة المتواترة والتي عليها رسم المصحف هي بالتشديد والكسر أي (ربِّ).
وفي الياء التي في (العالمين) ثلاث علامات: علامة الجر، والجمع والتذكير، وفتحت النون لالتقاء الساكنين – الياء والنون – وللفرق بينهما وبين نون الاثنين التي تأتى مكسورة دائماً.
والعالمون – بفتح اللام- أصناف الخلائق كل صنف منهم عالم، والعالم جمع أيضاً ولكن لا واحد له من لفظه، واختلف هل له واحد من غير لفظه، قيل ليس له واحداً من غير لفظه لأنه جمع لأشياء مختلفة، وذكر بأن له واحد من غير لفظه مثل نساء وامرأة أو نحوها، ويرد على الرأي الأول انه قد يكون العالم جمعاً لأشياء متشابهة او ليست مختلفة، قال العجاج:

فخندف هامة هذا العالم

والعالم اسم بني على مثال فاعل كما قالوا: خاتم وطابع ودانق.
في سياق الآيات
بعد البسملة يأتي الثناء والحمد لله عز وجل فيكون هذا الإقتران بين البسملة والحمد لله مدرسة عقائدية وأخلاقية فالشروع بالحمد لله عنوان العبودية والإقرار بالنعم.
لم يأت بعد الإفتتاح بالبسملة سؤال الحاجة، بل جاء الشكر لله تعالى بلغة المدح والثناء وانه سبحانه رب العالمين، وكأن الشكر هو أسمى حاجة عند المسلم، كما انه مقدمة لسؤال الحوائج وتلخصت تلك الحوائج بطلب الهداية[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) والنجاة من الضلالة والغواية.
ومن الآيات أن الحمد لله يأتي بين إسمي الرحمة لله تعالى فقد تقدمها “الرحمن الرحيم” كجزء من البسملة، وجاءت بعدها آية مستقلة تتضمن الإسمين ذاتهما من الأسماء الحسنى وهما “الرحمن الرحيم”، وجاءت هذه الآية باسم من الأسماء الحسنى وهو الرب مع بيان أن الله عز وجل رب العالمين، لتكون هذه الآية مع البسملة مدرسة في العلوم الكلامية، ويؤدي التدبر في مضامينها القدسية إلى الغرق في جلال الله ومن الآيات التداخل والترابط والاتحاد الموضوعي بين آياتها وتشملها وحدة الموضوع في التوجه إلى الله تعالى بالنداء والاستغاثة والرجاء، ويتجلى هذا التداخل والاتحاد بوصف هذه الآية بان الله رب العالمين ثم مجيء الآيات التالية بوصفه بصفات حسنى أخرى متصلة بها ولم تؤثر في هذا الإتحاد مسألة الإلتفات وفق المصطلح البلاغي، والإنتقال من لغة الخبر إلى الخطاب.
ويبين نظم الآيات الحاجة إلى الثناء على الله تعالى في الدعاء والمسألة، وتقديم هذا الثناء الذي يتضمن في دلالته الإقرار بالقدرة الإلهية وأن الأمور بيد الله تعالى.
ويبين نظم الآيات أن قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ] ليس من ثناء الله تعالى على نفسه وحده بل من تلقين الله تعالى للمسلمين الحمد والثناء عليه ومن خصائص خير أمة التي أخرجها الله تعالى بالناس وهم المسلمون لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أن أفرادها جميعاً يشكرون الله تعالى كل يوم بصيغة الحمد والشكر باللسان بصيغة التلاوة وقصد القرآنية لينعكس هذا الحمد على الجوارح والجوانح.
إعجاز الآية
إن إفتتاح القرآن بالحمد بعد البسملة توكيد على موضوعية الثناء والشكر لله عز وجل في الدين الإسلامي ، وبرهان على سماوية القرآن لما في هذا الترتيب من الإعجاز.
والآية تأديب عام للمسلمين، وتهذيب لأخلاقهم، ودرس وموعظة في التدبر في الحياة، ومعرفة أسرار الخلق، والحاجة الدائمة إلى رحمة الله عز وجل، وفيها إقرار بربوبيته المطلقة.
وفي الآية دلالة على لزوم توجه الناس جميعاً إلى الله تعالى بالحمد والشكر على نعمة الخلق ونعمة الإنقياد له، فمن فضل الله تعالى على الناس أن جعلهم عباداً له، وهذه العبودية من أشرف مصاديق الحاجة في عالم الممكنات.
والثناء على الله باللسان مرآة لقلب المسلم وامتلائه بحب الله تعالى وشكره والثناء عليه.
وتفيد الألف واللام في “الحمد” الإستغراق فكل الحمد لله تعالى على نحو الإختصاص، لأن كل نعمة عند الإنسان هي من عند الله تعالى.
ولا ينحصر إعجاز هذه الآية بذاتها بل يشمل أموراً:
الأول: منزلتها في بداية القرآن وافتتاح أول سورة منه بالحمد لله ليكون جامعة تعليمية للمسلمين في ميادين الحياة، وباباً للأجر والثواب عند التلاوة الواجبة والمستحبة.
الثاني: فرض قراءة سورة الفاتحة في الصلاة مطلقاً اي الواجبة والمندوبة ليكون الحمد صاحباً ملازماً للمسلم في حياته كلها.
الثالث: تلاوة المسلمين اليومية المستمرة لهذه الآية من مصاديق شكر المسلمين لله تعالى على النعم الدنيوية والأخروية.
الرابع: مجيء هذه الآية بعد آية البسملة من غير فاصلة بينهما، وإذ تتكرر البسملة في بداية كل سورة فان قوله تعالى [[ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية لتبقى ضياء سماوياً متجدداً يملأ قلوب المسلمين بالرضا والغبطة وهو من أسرار القرآن وموضوعية سورة الفاتحة ، وأهمية قراءتها في الصلاة ، فمع الحاجة إلى هذه الآية ، ومضامينها القدسية ، فإنها لا تأتي في القرآن إلا في سورة الفاتحة .
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (الحمد لله) ولا تعارض بينه وبين تسمية سورة الفاتحة بذات الإسم.
الآية سلاح
الآية رحمة الهية تضمنها القرآن وتفضــل الله سبحانه وجعلها في أوله وفي السورة التي تقرأ في كل فريضة ليفتتح المسلم يومه بالثناء على الله عز وجل.
لقد إصطفى الله المسلمين بهذه الآية لتكون ضياء ينير لهم دروب الهداية، وشاهداً على تقيدهم بمفاهيم الشكر لله، ليتعاهدوا مدرسة النبوة في الأرض التي تتقوم بالشكر والثناء على الله تعالى، والإقرار بان كل ما في الخلق هو رشحة من رشحات رحمته، ومنقاد إليه، وعلامة كاشفة عن بديع صنعه تعالى وأنه سبحانه يتعاهد الخلق باللطف ومضامين الربوبية.
وتنزع الآية عن الإنسان رداء الكبر والتعالي، وتجعل نفسه ممتلئة بالخضوع والخشوع لله تعالى.
وتلاوة هذه الآية من مقامات العبودية لله وإنقطاع إليه سبحانه، وهي سلاح في أمور وحوائج الدنيا والدين وأما في الدنيا فمضامين الرضا والقبول بأمر الله وما فيه الإنسان من الحال في المتغير، فقد جعل الله الدنيا دار امتحان وبلاء واختبار، فتأتي أحوال وأيام على الإنسان بالسعادة والخير والبسط، وأيام بالشقاء والخوف أو الحزن وتصاحبه هذه الآية في جميع تلك الأحوال ليكون حامداً شاكراً لله تعالى في السراء والضراء، فينفعه هذا الحمد في الدنيا بان يكون سلاحاً مركباً فهو يمنع من الغرور والطغيان والزهو في حال البسط والغنى والجاه.
ومن القنوط اليأس والجزع في حال البأساء، ويبين مجيء هذه الآية في أول سورة الفاتحة وتكرارها في الصلاة حاجة الإنسان إلى [الْحَمْدُ لِلَّهِ] بصيغة الشكر القولي، وبقوله تارة بصيغة التلاوة والقرآنية وفيها اجر إضافي وهو أجر التلاوة والإقرار بنزول القرآن من عند الله تعالى وتلك خصوصية ينفرد بها المسلمون، فليس من أحد يتلفظ بالحمد الله بقصد القرآنية إلا المسلمين، وفيه دعوة للناس للحوق بهم ونيل الثواب في الآخرة.
وأما في الآخرة فان قيام المسلم بالشكر لله تعالى مناسبة لنيل الثواب وزيادة الحسنات وارتقاء الدرجات.
لذا فمن منافع تلاوة هذه الآية في الصلاة الأجر والثواب وزيادة النعم لعمومات قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ) وهذه الزيادة من خصائص خير أمة أخرجت للناس لان المسلمين يواظبون على الحمد لله في الليل والنهار، وفي الصلاة وغيرها.
وآية (الحمد لله) برزخ من عذاب النار في الآخرة، ووسيلة للنجاة من الفزع والخوف الشديد يوم الحشر، وهي باب النيل الرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة.

مفهوم الآية
الآية إشاعة لمفاهيم الشــكر وتثبيت لعظيــم نعم الله تعالى وإقرار بعظيم مقام الباري وإن كل خير منه تعالى، وفيها ترويض للسان لدوام ذكره تعالى وإستحضار نعمه سبحانه في النفس وتوكيد على حاجة الإنسان لتلقي النعم وعدم إستغنائه كممكن عن واجب الوجود، والحمد لله سعي للكمال الإنساني وبيان لأصل الخلق ونشأة العالم وحاجته إلى المحدث والمتعاهد لوجوده، وهاتان الوظيفتان لا يقدر عليهما أحد من الخلائق فإستقل الله سبحانه بالربوبية.
والآية حرز ووقاية من اللجـوء إلى غير الله وتوجيه الشــكر على نعمة الخلق واستدامة الحياة لغيره سبحانه، وهي دعوة للتدبر في النعم المتوالية منه سبحانه في النفس والجماعــة والعقيدة والآيات الكونية، وهذه الآية ادخار كريم لعالم البرزخ ولليوم الآخر وهي وثيقة وشاهد على الهداية والإمامة.
ومن مفاهيم الآية الكريمة أمور:
الأول: موضوعية الحمد لله في حياة الإنسان، فما أن يصل إلى سن التكليف ألا ويتوجه إليه الخطاب الإلهي بالقول كل يوم مرات عديدة [الْحَمْدُ لِلَّهِ] في الصلاة الواجبة.
الثاني: التدبر في معاني هذا اللفظ وما فيه من النعمة على الإنسان، فقول العبد [الْحَمْدُ لِلَّهِ] نعمة تستلزم الشكر لله تعالى، وتوفيق يدعو الإنسان إلى المواظبة على الشكر لله بلسان العبودية والخضوع له سبحانه.
الثالث: لم تقف الآية عند قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ] بل جاءت بوصفه تعالى بأنه رب العالمين ومالك الخلائق كلها، وفيه دلالة على هداية المسلمين إلى التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام، ولزوم العمل بالأوامر الإلهية، وإجتناب ما نهى الله عنه من المعاصي.
الرابع: زجر الناس عن الجحود والكفر بنعم الله وتحذيرهم من الغفلة عن الآيات التي جعلها الله في أنفسهم وفي الآفات، وما في كل آية من النعم على كل إنسان.
الخامس: لزوم نطق الرجل بالحمد، ويتجلى هذا اللزوم بتوجه الخطاب التكليفي بتلاوة هذه الآية إلى المرأة بعرض واحد مع الرجل، إقراراَ بالنعم الإلهية التي رزقها الله تعالى.
إفاضات الآية
جاءت الآية بياناً لحقيقة وهي أن الله عز وجل خالق ومالك كل شيء، مما يبعث في نفس المسلم الغبطة والسعادة لمعرفة ذاته والصلة بينه وبين الله عز وجل وهي صلة العبد والمعبود، ومن خصائص ربوبيته تعالى أن جعل العالم بأبهى صورة ، وعالم التكوين وفق النظام الأحسن ليكون دليلاً على انقياد كل الكائنات له سبحانه وأنه أحاط بكل شيء علماً، ومن عظمة الآية أنها تتضمن أموراً:
الأول: التوجه بالحمد والشكر لله تعالى.
الثاني: إنحصار الحمد به تعالى.
الثالث: الإقرار بان الله عز وجل هو الإله ومالك الخلائق كلها.
الرابع: ان الله عز وجل أهل لأن يحمد ويشكر.
وهذه الآية مدرسة في الصبر ، وتبين الملازمة بين الشكر لله وبين الصبر والتداخل بينهما وان كل واحد يصح أن يكون مقدمة للآخر من غير تعارض او تزاحم، فمرة يكون الحمد لله وتلاوة هذه الآية مقدمة للصبر وسبباً لبعث السكينة في النفس لذا ورد أن الإنسان يقول عند المصيبة والبلاء (الحمد لله على كل حال).
ومرة يكون الصبر مقدمة للشكر وتلاوة هذه الآية عنوان لإظهار الرضا بأمر الله تعالى.
وتفتح هذه الآية آفاق العلم والعمل على الإنسان وإن كان في أقسى الأحوال فعندما يقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] يعلم ان مقاليد الأمور كلها بيد الله تعالى وانه سبحانه يستحق الحمد والثناء في كل حال وزمان ومكان، مما يطرد اليأس عن النفس ويكشف عنها الحجب والكدورات الظلمانية، ويجعل الإنسان يتدبر في نفسه وعمله وماله، وينظر الى الغد بعين الرضا والأمل ويسعى في در رب الحياة مع الرجاء من غير أن يغادره الشكر والحمد وما يترشح عنه من الصبر .
فيكون الحمد والصبر مقدمتين للوصول الى الغايات الحميدة، وتقييد الغايات بالحميدة عنها لان الحمد لله واقية من المعصية والجحود، فمن يواظب على شكر لله تعالى يزداد تفقهاً في الدين، ويحرص على اجتناب المعاصي والسيئات، قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عبادة قال تعالى , [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ), ويحتمل الشكر والحمد لله معاً وجوهاً :
الأول : إنه من رشحات العبادة .
الثاني : إنه من مقدمات العبادة .
الثالث : إنه من مصاديق العبادة .
الرابع : إنه ليس من ذات العبادات أعلاه .
بإستثناء الوجه الأخير فإن الوجوه الثلاثة أعلاه من مصاديق الآية الكريمة أعلاه , ومن بدثع قدرة الله عز وجل , ومن منافع وغايات الآية القرآنية ومن خصائص القرآن إحاطة كلماته المحدودة باللا محدود من الوقائع والأحداث , ومن الآيات في المقام :
الاول : إبتداء القرآن بعد البسملة بالحمد لله .
الثاني : إقتران ذكر الحمد لله بالربوبية المطلقة لله تعالى .
الثالث : قيام كل مسلم ومسلمة بتلاوة الآية أعلاه عدة مرات في اليوم وهذا لتواعد من مصاديق قوله تعالى , [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) . ولو لم يقرأ المسلمون سورة الفاتحة كل يوم فهل تستمر الحياة والرزق على ما هو عليه أم أن قراءتهم لها نفع عام للناس , والجواب هو الثاني , وهو من مصاديق قوله تعالى , [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الآية لطف
من بديع خلق الله، ومصاديق رحمته تعالى توالي النعم منه تعالى على الخلائق فلا يشغله مخلوق عن مخلوق، ولا نعمة عن أخرى فأتي النعم على نحو متحد ومتعدد، ودفعي وتدريجي لكل مخلوق وليس من مانع أو برزخ يحول دون النعم من الله سبحانه، فيأتي الحمد من المسلمين ليكون وسيلة لإستدامة رحمة الله بالعباد، وسبيلاً لنيل المزيد من النعم قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
والآية مدرسة في المعارف الإلهية، وفرار إلى الغني القادر الذي أحاط بكل شيء علماً، ومن معاني الشكر أنه دليل على معرفة المنعم وانه الله تعالى ولم تذكر الآية نعمة مخصوصة مما يدل على مجيء الحمد على النعم كلها والإقرار بالعجز عن إحصاء نعمه تعالى.
وإذ سأل الملائكة الله عن علة جعل الإنسان خليفة في الأرض، فان هذه الآية وتلاوة المسلمين لها شاهد على أهلية الإنسان للخلافة.
لما فيها من إظهار لمصاديق العبودية لله تعالى، ومن الآيات أن المسلمين يقومون بالشكر لله على نحو الإجتماع والتعدد، فليس من مسلم أو مسلمة أن يتخلفا عن الثناء على الله تعالى.
ويتجلى الإجتماع والتعدد بقراءة المسلمين للآية في الصلاة وتلاوتها، وما تبعثه في نفوسهم من السعادة والرضا، وهذه الآية فضل من عند الله إختص به [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومن الدلائل على تفضيل المسلمين وبقائهم بمنزلة (خير أمة) تعاهدهم لهذه الآية وتلاوتها في الليل والنهار بشوق ورغبة.
وفيه دعوة للناس جميعاً للتوجه بالشكر لله تعالى على نعمة الخلق والرزق واستدامة الحياة الشخصية والعامة فعلى الإنسان أن يشكر الله تعالى على إستدامة حياته، وحياة الناس ودوام الحياة، لحاجة الإنسان إلى غيره في مأكله وملبسه ومشربه، ومن الآيات في الخلق أن جعل الله عزوجل التكاثر وزيادة النسل بالرجل والمرأة معاً، فلا يستطيع أحدهما الإنجاب بمفرده.
ومن اللطف الإلهي في الآية إقتران صفة رب العالمين باسم الجلالة في مقام الحمد والثناء، وفيه إشارة إلى وجوب توجه كل الخلائق بالحمد لله تعالى، وعدم استحقاق غير الله تعالى الحمد والثناء على نحو الإطلاق لأن النعم جميعاً منه تعالى.
مما يدل على ان الحمد شكر وزيادة ويتضمن الإقرار والرضا بالنعمة وظهور أثرها، ومن الآيات ان نعم الله عزوجل على العبد ظاهرة ومستديمة في ذاتها وأثرها.
ومن اللطف الإلهي أن الله سبحانه يرضى بالقليل عن الكثير ومنه قبول الله تعالى شكر العباد له مع قلته على النعم العظيمة التي أنعم بها عليهم ولو انقطع الإنسان طيلة أيام عمره إلى النطق بالحمد لله في ليله ونهاره فان حمده هذا لا يعادل نعمة واحدة من النعم اللامتناهية التي رزقه الله تعالى.
وأختص المسلمون بالقيام بالحمد اليومي المتكرر لله تعالى، ومن كل فرد منهم.
لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: لواء الحمد بيدي يوم القيامة) ( ).
واللواء عنوان للرياسة والإمامة ووجود الأتباع والأعوان، وفيه إشارة إلى تعاهد تلاوة هذه الآية، ومن الآيات أن يكون اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشتقاً من الحمد وجاءت تسميته بمحمد وأحمد في القرآن تشريفاً، وبياناً لأثر نبوته في دوام الحمد لله في الأرض.
من غايات الآية
الآية حصانة من نزغ الشيطان والإنقطاع الى قوانين الأسباب والمسببات، والعلة المادية ومعلولها فهي عنوان للتفاني المحض في عشق رب العالمين وسياحة في عالم الملكوت وإقرار بان كل شيء من الله وله والأشياء جميعاً مستجيبة له.
والآية تأديب للمسلمين في باب الشكر اللساني مع موضوعيته في صرح الإسلام ، وهي من آيات الشكر لله تعالى، وفيها تأديب للمسلمين وإرشاد لكيفية الشكر لله، وتأتي قراءة هذه الآية في الصلاة لتكون شكراً لله تعالى على نعمه وإحسانه.
وفي الآية تذكير للإنسان بضعفه وعجزه وحاجته لرحمة الله تعالى إذ يتضمن قوله الحمد الإقرار بنعمه تعالى وتوكيد حاجة الإنسان إليها رجاء استدامتها، وتبين الآية انحصار الربوبية بالله سبحانه، فليس من إله غيره، وكل ما سواه محتاج إليه تعالى ابتداء ورحمة ليبقى كل مخلوق عبداً وملكاً لله تعالى، وفي الآية إشارة لعدم طرو الخوف من غير الله، فمن يحمد ويرجو الخالق لا يخشى المخلوق.
وتبعث الآية الرحمة في قلوب المسلمين بالناس جميعاً لالتقاء الناس جميعاً، بالعبودية لله تعالى، وهو سبحانه ربهم جميعاً، ومن وجوه هذه الرحمة الإجتهاد في دعوتهم للإسلام، وجعلهم يتنعمون بنعمة الحمد لله ويشاركون المسلمين تلاوة هذه الآية ونيل الأجر والثواب على تلاوتها الى جانب ما يترشح عنها من الأثر الذي يتجلى بالأخلاق الحميدة والصلاح واجتناب الرذائل والفواحش.
التفسير
في [ الْحَمْدُ ] مسائل:
نقيض الذم، وقد حمده يحمده حمدا ومحمداً ومَحمدَةً فهو محمود وحميد.
الأولى : والحمد هو الثناء باللسان على الجميل بقصد التعظيم والتبجيل والإطراء الحسن ومدح المنعم على النعم، والشــكر المقرون بالرضا، وفي علم الكلام اشترط في الحمد صدوره عن علم وليس عن ظن.
الثانية : يمكن ان يدخل الحمد في سلك الأعمال لأنه فعل للسان وبه يثقل الميزان.
الثالثة : الحمد والمــدح والشــكر متقاربة المعـنى، وتتصــل في مضامينها، وتلتقي في غاياتها مع الإغماض عما بينها من خيوط للفرق دقيقة، فالفرق بين الحمد والمدح والشكر أن الحمد نقيض الذم، والمدح نقيض الهجاء، والشكر نقيض الكفران.
الرابعة : قد يأتي الحمد من غير نعمة تتغشى الشخص، وهو اعم من الشكر لأنه يأتي عن نعمة وإحسان أو بدونها.
الخامسة : الشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم في رد فعل لإحسانه وإقرار ضمني بكونه محســناً، والحمد أخص مورداً بظهوره على اللسان وفي القول فقط، والشكر يكون باللسان أو الجنان أو الأركان.
السادسة : بين الحمد والشكر عموم وخصوص من وجه اذ ينطبق كل واحد منهما على بعض مصاديق الآخر، فهما يلتقيان في صدق الثناء باللسان على الإحسان، ويستقل كل منهما في الانطباق على مصاديق أخرى.
السابعة : الحمد اعم من جهة المتعلق فتأتي بالحمد سواء كان الأنعام واصلاً اليك او الى غيرك، اما الشكر فيتعلق بالإنعام الذي يصل اليك وأخص من جهة المورد، والشكر على العكس منه، وموضوع المدح اعم من الإحسان، فقد يمدح الإنسان غيره من غير ان يتلقى منه احساناً، اما الحمد فيأتي متعقباً للإحسان وقد جمع الشاعر موارد الشكر بقوله:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا( )

الثامنة : في الحديث: “الحمد راس الشكر”، أن ذكر النعمة باللسان إعلان بالإقــرار بها وثناء صــريح ومباشــر على موليها ودلالة على مكانها.
التاسعة : قد قسم الحمد تقسيماً إستقرائياً عقلياً الى:
الأول : حمد لغوي: وهو الوصف بالجميل بقصد التعظيم.
الثاني : حمد عرفي: أي إتيان فعل يرمز إلى تعظيم المنعم ويكون دلالة على كونه منعما فهو أعم من أن يكون باللســان أو الأركان فقد لا يكون صريحاً بيناً مباشراً، بل يدرك بالعرف والوجدان انه شكر.
الثالث : صــرف الطبيعـة من الحمد: وهو ما يدل عليه ولو على نحو المسمى.
الرابع : حمد قولي : وهو الثناء باللسان بما مدح الله عز وجل به نفسه سبحانه مما جاء به الأنبياء وما تضمنته الكتب السماوية والآيات القرآنية واحاديث السنة مملوءة بمصاديق من هذا المدح، وفيها تخفيف عن المسلمين باعانتهم على إيجــاد صيغ المـدح وتثبيتها ومنع اللبس او التردد او التوقف والخشية من عدم مناسبة بعض الصيغ المخترعة، بالإضافة الى توفير الجهد الشخصي والنوعي والإتيان بها على نحو المجموع والإستغراق وبذا تكون مصاديق وصيغ الحمد هذه منطلقاً للوحدة الإيمانية والإلتقاء على عمل عبادي مندوب مشترك.
الخامس : حمد فعلي: هو الإتيان بالواجبات والأعمال البدنية ابتغاء مرضاة الله تعالى وتعبيراً عن الإقرار بنعمه.
السادس : حمد حالي: وهو الذي يتجلى بصفاء الروح وسلامة القلب والاتصاف بالكمالات والسعي لها والتأمل في عظيم قدرة الله تعالى وسعة ملكه والتزام الاستكانة والخضوع لسلطانه والاشتغال الدؤوب بالعبادة.
السابع : الحمد لله: جملة خبرية وفي المعنى إنشائية أي قولوا الحمد لله.
الثامن : أنها جملة إسمية جاءت لقصد بيان الثبوت والدوام إذ ناب المبتدأ مناب الفعل، ليس في عمله ولكن في معناه باستثناء دلالة الحدوث التي يدل عليها الفعـل فقولك احمد الله وحمداً لله كل منهما جملة تدل على الحدوث والتجدد، ففي الجملة الأولى جيء بالفعل وفاعله، وفي الجملة الثانية اختزل الفعل وفاعله لانتفاء الحاجة لذكرهما ليؤتى بالمصدر نائباً منوب الفعل وهو المفعول المطلق.
التاسع : المصدر أقوى ركيزة ودلالة من الفعل في المقام، والجملة التي تبدأ بمصدر منصوب هي أيضا جملة فعلية لأنها منصوبة بفعل محذوف فإذا رفعت هذه المصادر صارت الجملة إسمية.
العاشر : بيان الفرق بين الجملة الفعلية والإسمية أن دلالة الفعل على اقتران الحدث بزمن معين تبدو واضحة في مفهوم الجملة الفعلية ومعناها فإذا جئــت بالفعـل الماضي وقلت (حمدت الله) كان الفعل قد مضى وانقضــى، وإذا جئت بالفعل المضارع وقلت (احمد الله) ففيه دلالة على ثبوت الحمد واتصاله وإطلاقه لعناوين الأزمنة الثلاثة من غير تخصيص بزمن معين، أما إذا قلت(سأحمد الله) فالمراد المستقبل القريب، وإذا قلت(سوف أحمد الله) فالمقصود المستقبل البعيد.
الحادي عشر : الحمد في هذه الآية أكثر شـمولاً وإتســاعاً وأوضح دلالة على الثبوت والدوام، وقد ظهر رجحان الرفــع في قوله تعالى[قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ]( ).
فقد رد إبراهيم عليه السلام عليهم بجملة إسمية تدل على الثبوت إختياراً للأحسن على الرد بالمثل لقوله تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا]( )، وهو شاهد قرآني على وراثة المسلمين للأنبياء في باب التحية والسلام.
ومعنى [قَالُوا سَلاَمًا]: أي سلموا سلاماً، ولم تثبت القاعدة التي إشتقها بعض الأصوليين من هذه الآية وذكرها السيوطي في الإتقان بأن المصدر إذا جاء منصوباً فالإتيان بالفعل مستحب لأن الابتداء بالسلام مستحب، وإذا جاء المصدر مرفوعاً فإن الأمر يفيد الوجوب لأن رد السلام واجب.
الثاني عشر : ومن الفرق بين النصب والرفع انك إذا نصبت تظهر العمل والسعي لإثبات الفعل في حال حديثك، وإذا رفعت فانك تبتدأ شيئاً قد ثبت عندك ولتشير إلى إستقراره ودوامه، والدوام لا يثبت إلا بالرفع، وقيل لو لم يعدل إلى الرفع لم نعثر على ما يدل على الدوام للإقتران الدائم بين النصب والتجدد لما في النصب من ملاحظة الفعل وتقديره.
أجمع المليون على وجوب شكر الله تعالى وانه مستحق للحمد، واختلف المتكلمـون من المسلمين هل أن الشــكر ثابت نقــلاً أي من خلال القرآن والسنة أم ثابت عقلاً وان العقول تدرك وجوب شكره تعالى.
والقائلون بالأول استدلوا بقوله تعالى (الحمد لله) لأنها تفيد إستحقاقه تعالى الحمد على نحو الإطلاق وصحيح أن الجملة الإسمية تدل على الثبوت والدوام والإنبساط على آنات الزمان المختلفة إلا أن حمده تعالى أعم من أن ينحصر بالدليل السمعي، بل أن العقل كحجة يحكم بوجوب شكر المنعم، وافتتاح آدم لكلامه بالحمد لله آية عقلية فحالما عطس عند بعث الروح فيه قال الحمد لله.
فثبت أنه تعالى يستحق الحمد على نحو الإطلاق ليس هذا فحسب بل النقل والعقل يحكمان بان تعاهد الحمد والثناء لواجب الوجود حاجة مستديمة لكل إنسان وللناس على نحو العموم المجموعي، فقد يشكر أنسان الله عز وجل فينعم عليه أو يصرف عنه بلاء نازلاً وان كتب عليه البلاء وقضي قضاءً مبرماً والله واسع كريم.
أنه لفظ وقول يرقى إلى مستوى العمل كي يؤجر ويثاب الإنسان عليه، كما يتحلى بإيمان الجوارح وظهوره على الأفعال، والحمد لا ينحصر متعلقه بما يصل إليك من الإنعام بل يشمل الغير على نحو الإشتراك او الإستقلال الإتحاد أو التعدد.
في قول (الحمد لله) على نحو الثبوت والدوام فضل الهي متجدد، إذ أن مدة حياة الإنسان محدودة فحينما يقول (الحمد لله) تبقى كلمته هذه تسبح في الفضاء وتحفظ في سجلات الأعمال ويتعاهدها الله عز وجل بالنماء وزيادة الأجر والثواب، وكأنه يقولها كل يوم فلا غرابة أن تنزل شآبيب الرحمة على المؤمن في عالم البرزخ ويكون قبره روضة من رياض الجنة لأن قوله (الحمد لله) يبقى حياً بعد حياته وكأنه روح الأعمال ومادتها، فكما تبقى الأرواح ولا تفنى بالموت كذلك قول (الحمد لله).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: قد علمنا سبحان الله، ولا إلَه إلا الله، فما الحمد؟ قال علي: كلمة رضيها الله لنفسه، وأحب أن تقال( ).
وبقاء قول العبد (الحمد لله) إلى ما بعد مماته فضل منه تعالى بان جعله ادخاراً كريماً وأوكله ملائكة كراماً.
ولم ترد اللفظة بحمد الله لأن الحمــد ليس إختراعــا وإبتداعاً وتفضلاً من العبد، أو أنه لم يأت بها إلا مع اليقين بحصول النعمة، فلأن الله عز وجل مستحق بذاته الحمد جاءت الآية على نحو الإطلاق والدوام.
ومع كثرة الأحكام المتعلقة بالرياء وموضوعه وإمكان تسربه إلى العبادات فان قول (الحمد لله) خال من الرياء في الجملة لأنه ليس أمراً إختياراً وإجتهاداً من العبد، بل أمر إنتزاعي قهري متولد عن حقيقة ولزوم إستحقاقه تعالى للحمد.
أما (أل) في الحمد فهي جنسية تفيد الإستغراق، وتقسم (أل) المعرفة إلى قسمين: عهدية وهي التي تدخل على فرد واحد من أفراد الجنس، وجنسية: وهي التي تدخل على الجنس مطلقاً دون أن يكون المراد منها واحداً معينا من تلك الأفراد.
وتنقسم (أل) الجنسية أيضاً إلى قسمين: أحدهما لتعريف الحقيقة وهي التي لا تأتى (كل) بدلا عنها، والأخرى التي تأتى للاستغراق، وهي أيضا على نوعين:
الأولى : وهي التي تفيد استغراق جميع أفراد الجنس وتخلفها (كل) حقيقة فقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ] أي كل حمد لله بلا إستثناء.
والأخرى: وتسمى الكمالية وتفيد استغراق جميع خصائص الأفراد تجاوزاً، فقول (الحمد لله) للمبالغة في المدح والثناء والإتيان بالحمد على وجه الكمال وما في عنوان الحمد من مضامين ومعان متفرقة ومتنوعة فأنها تلتقي في هذا الحمد الذي ينحصر بمجموعه بالله تعالى، أي أن قسمي الاستغراق موجودان في الحمد لله، والمعارف الإلهية تفوق حد التصور والقواعد اللغوية والنحوية التي وضعها الإختصاصيون وقال بعضهم : أن الألف واللام في الحمد عهدية.
قال الفاكهي: سمعت شيخنا أبا العباس المرسى يقول: “قلت لابن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية؟ فقال: يا سيدي قالوا أنها جنسية، فقلت له: الذي أقول أنها عهدية وذلك أن الله تعالى لما عَجٍزَ خلقه عن كنه حمده حَمَدَ نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن نحمده، فقال أشهدك أنها للعهد وأستأنس له ما صح عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”.
وقد ذهب بعض أهل الإشارات إلى أبعد من هذا. والحقيقة أن مثل هذا القول لا يمنع من أن تكون جنسية أيضاً والله واسع كريم.
فان مصاديق الحمد النوعية والشخصية المقرونة بالتبجيل وصفات الكمال لله عز وجل.
واللام حرف جر أصلي له معان أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين من أظهرها:
الإستحقاق: وهي التي تقع بين معنى وذات.
والإختصاص مثل قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) والجائزة للفائز.
وجاء ذكر اسم الجلالة لتوكيد إستحقاق الله تعالى للحمد وبيان أهمية موضوع الحمد وتعلقه باسم الذات والألوهية، ولم يأت بالصفة أو احد الأسماء الحسنى الأخرى لمنع التوهم باختصاص الحمد وإستحقاقه بوصف دون وصف، ولبيان ان الأمور وأسباب المنافع من الله عز وجل فيكون الحمد والثناء في مجموعه وحقيقة صدقه لله عز وجل، ويصبح الحمد وجهاً من وجوه العبودية ودعوة وسبيلاً للتفكر في بديع صنعه تعالى ومفتاحاً لذكره ووسيلة للمزيد من فضله وإحسانه.
قال الإمام علي عليه السلام: “الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه”( )، أي ان بديع خلقه آية حاضرة تدل على واجب الوجوب وتهدي الى العبادة.
والرب هو الله عز وجل وهو رب كل شيء أي أنه مالك الأشياء جميعاً، وفي اللغة رب الشيء: سيده ومالكه وصاحبه ومصلحه ومدبره ومربيه والقيم والمنعم عليه،والله عز وجل رب الأرباب ومالك الملوك والأملاك.
وفي معنى السيد المطاع قال لبيد:

واهلكن يوماً ربّ كندة وابنه

وربّ معد بين خبت وعرعر ( )

وفي معنى المالك قول النبي صلى الله عليه وآله لرجل: “أرب غنم أم رب ابل”.
فقال: من كل ما أتى الله فأكثر وأطيب( ).
وفي حديث إجابة الدعوة “اللهم رب هذه الدعوة” أي صاحبها، والمتمم لها والزائد في أهلها والعمل بها.
ويمكن تقسيم لفظ الرب في معناه إلى ثلاثة أقسام :
الأولى : الرب هو المالك.
الثاني : السيد المطاع، قال تعالى [ فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ]( ) أي سيده.
الثالث : المصلح، رب الشيء إذا أصلحه كما في قول الشاعر:

يربُّ الذي يأتي من العرف انه

إذا سُئل المعروف زاد وتمّما( )

وربّه يربّه كان له رباً، ومن المجاز ربّ المعروف والصنيعة والنعمة يربّها ربّا: نمّاها وأتمها وأصلحها.
ولا يأتي (الرب) باللام وبعنوان الإطلاق إلا لله عز وجل، ويقال هذا الاسم لغير الله بالإضافة ليكون مقيداً كرب الدار ورب الناقة، ولا يعتد بما ورد بإطلاق اللفظ في الجاهلية لغير الله لافتقاره إلى المسوغ الشرعي ولطبيعة الكفر السائدة آنذاك.
قال الحارث بن حلزة في المنذر بن ماء السماء:
وهو الربّ والشهيد على

يوم الحيارين والبلاءُ بلاءُ( )

بل يمكن تأويله وصرف الضمير لله عز وجل لأن آثار حنيفية إبراهيم الخليل كانت موجودة عند العرب قبل الإسلام وهي جزء من المقدمات الموطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتيسير تصديقه.
وأختلف في الأبعاد العرضية والطولية لسعة لفظة العالمين، ففي إطار اللغة قيل أن الواو والنون تأتي لجمع القلة، والحال يذهب بالمعنى إلى جمع الكثرة، والظاهر أن جمع المذكر السالم يفيد إرادة القلة والكثرة، والعالم اسم جامع لما يعلم به، والمراد في المقام كل ما سواه سبحانه من الأشياء والكائنات مما يعلمه الله عز وجل.
وعلم الله تعالى قديم لم يــأت عن نـظر أو حس أو تدبر، كما انه ليس بضروري ولا مكتسب، وعلمه بالأشياء عبارة عن حضورها عنده تعالى وظهورها لذاتها لا بمعنى أنها كانت خافية وانكشفت.
وورد لفظ (العالمين) في القرآن ثلاثاً وسبعين مرة ليس فيها رفع ولا نصب بل جاءت الباء علامة لإعرابها باعتبارها إسماً مجروراً أو مضافا إليه. وفي إطار الشريعة وعلم التفسير يقع العالم على الناس والملائكة والجن.
وقال ابن عباس في قوله تعالى [رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) ربّ الجن والإنس، وقال قتادة: رب الخلق كلهم، ومال الأزهري إلى قول ابن عباس وإســتشهــد على صحــة قوله بدليــل ما جــاء في ســورة الفرقان [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ) وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلــم ليس نذيــراً للملائكة مثلاً وهم خلق الله وإنما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا للجن والإنس.
ومما يرد على هذا القول أن مقام استعمال اللفظ يختلف بلحاظ القرائن والمقاصد السامية مما يظهر احتمال التباين في المعنى والقصد، فالربوبية في الآية الكريمة تفيد الإطلاق والعموم وما هو أعم من الإنذار والتبليغ.
ففي سورة الفاتحة ورد بمعنى الربوبية العظمى والإحاطة التدبيرية لعالم التكوين وبما يؤكد وجوب إستحقاق الله تعالى للحمد خاصة وان اللغة تساعد على الاتساع في المعنى والمفهوم.
(وأخرج عن ابن عباس في قوله تعالى [رَبِّ الْعَالَمِينَ] قال: إله الخلق كله السموات كلهن ومن فيهن والارضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم)( ).
ويجوز أن يفهم من لفظ العالمين في الآية الكريمة ما سبق من العوالم والأجناس وما سيأتي منها مستقبلاً.
وقيل أن المراد من العالمين هم الناس لأنهم المقصودون بالتكليف وأداء الفرائض وإرسال الرسل، وعالم الإنسان واحد بل هو نفسه يمر بعوالم طولية وهي عالم الدنيا وعالم البرزخ وعالم النشر والحشر والحساب وعالم الخلود، وفي كل من هذه العوالم عوالم فرعية أخرى، وما روي من شعر منسوب للإمام علي عليه السلام لا يفيد الحصر لأنه جاء بلغة المفرد وفيه من المجاز التأديبي:

دواؤك فيك وما تبصر

وداؤك منك وما تشعر

تزعم انك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر( )

(وروي عن وهب بن منبه أنه قال: لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد، وما العمران من الخراب الا كفسطاط في الصحراء)( ) ولكن وهب لم يرفع هذا القول.
وان كان مثل هذا الخلق أمراً هيناً في قدرة الله عز وجل وعظيم صنعه، وروي في بعض الأخبار: “أن الله تعالى خلق مائة ألف قنديل وعلقها بالعرش، والسماوات والأرض وما فيهن حتى الجنة والنار في قنديل واحد ولا يعلم ما في القناديل إلا الله تعالى”( ).
(وورد عن العباد بن عبد الخالق عمن حدثه عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “أن لله عز وجل أثنى عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع ارضين ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالماً غيرهم”( )، والرواية ضعيفة بالإرسال ولكنها لا تتعارض مع بقاء معنى العالم متسعاً قابلاً للزيادة والتعدد.
وروي عن الإمــام علي عليه الســلام: “أن أول ما خــلق الله تعالى في عالم الماديات الماء”، وفي بعــض الأخبار: “أن أول ما خلق الله في عالم الأعراض الحـروف”، إلى غير ذلك في بيان بدايات ومفاهيم العالم.
وقد ورد تفسير عن الإمام علي عليه السلام لمعنى رب العالمين في الآية الكريمة إذ قال: “مالك الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، يقلّب الحيوانات بقدرته ويغذوها من رزقه ويحوطها بكنفه ويدير كلا منها بمصلحته، ويمسك الجمادات بقدرته ويمسك المتصل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بأذنه، والأرض أن تنخسف إلا بأمره”.
ويظهر الحديث القدسية التي ينطوي عليها هذا الاسم والمنزلة العظيمة له بإعتباره من أمهات المسائل المقدسة وما فيها من خصوصية وشأن في نشأة الخلائق وترتيب عالم التكوين وتنظيم شؤون الموجودات جميعا في أحسن تدبير وأكمل نظام.
وورد ذكر الحمد ومشتقاته في القرآن خمساً وأربعين مرة كلها لله عز وجل بإستثناء واحدة هي أيضا لم تستوف مستلزمات الحدوث والفعل إذ قال تعالى [وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ]( ).
وتظهر آيات الحمد إشتراك الخلائق في الثناء على الله عز وجل وحمده ويمتد زمان الحمد من قبل خلق آدم إلى أيام الحياة الدنيا ثم يلازم أصحاب الخلود من أهل الجنة، ولم ينحصر الحمد في مكان دون آخر فهو يغطي السماوات والأرض ويسمع في أركانها في كل وقت فمن فلسفة الخلق والتكوين ملازمة الحمد للممكنات، قال تعالى [وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ]( )، ودائرة الحمد وموارده متسعة تارة تكون لنعم شخصية وأخرى للجماعات وأخرى لبديع صنعه تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
والحمد باب للمدح والثناء وإستحضار عظم مخلوقاته كدعوة للتفكر في صنائع الله عز وجل وقدرته اللامتناهية واتصال وجوه نعمه الظاهرة منها والباطنة، وهي جسور ترسخ في النفس الإنسانية روح العبودية والخضوع لله عز وجل.
إن إبتداء القرآن بالحمد لله رحمة للمسلمين وإشارة إلى موضوعية الحمد في ميزان الهداية والإيمان وتشريع تكرار وجوبه في إفتتاح كل صلاة من الفرائض اليومية ليتصل الإتيان به بالنعم النازلة المتجددة مع الليل والنهار.
ومن الضروري ملاحظة ودراسة منازل الحمد في إبتداء الخلق وإستمراره وخاتمته بغية التوصل إلى معـرفة بعض وجوه الحكمة في فلسفة ومضامين إظهاره وتكراره فهي أول كلمة قالها أبونا آدم وافتتح بها كلامه فحينما بلغت الروح سرته عطس، وقال[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
أي أن إبتداء العالم ووجود الإنسان مبني على الحمد، كذلك كان إبتداء القرآن بالحمد بهذه الآية بإعتبار أن القرآن له الحكومة وفيه البيان على نحو الإطلاق قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، أي من التبيان مجيء الحمد في بداية القرآن , ويكون الحمد آخر دعوة أهل الجنة والفائزين بالخلود فيها، قال تعالى[وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ولتكون أحوال الإنسان تجسيداً وموافقة لأحوال العالم الكبير ولاقتران قراءة القرآن ببدايات مرحلة التعليم، وتلقي المعارف وضرورة تعلقها بالحمد لأن كل النعم من الله تعالى، ولما فيه من الشكر على النعم المتقدمة في الزمن الماضي وما يحدثه من إستعداد لتجدد النعم وإستحقاق المزيد منها في المستقبل لقوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ورد عن الإمام علي عليه السلام لما سُئل عن تفسير (الحمد لله) قال: “هو أن الله عز وجل عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملاّ إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها اكثر من أن تحصى أو تعرف فقال: قولوا الحمد لله على ما انعم علينا”( ).
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه قال يا رب ما جزاء من حمدك فقال الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته( ).
إن الإتيان بالحمد لله والنطق به تقرير لإثبات الصانع وإقرار بنعمه علينا ودعوة للذات للسعي في دروب الشكر والإجتهاد في طلب رضاه سبحانه، بالإضافة إلى إجتناب ما نهى عنه إستحياءً منه تعالى وعرفاناً للجميل، لتبقى [الْحَمْدُ لِلَّهِ] مدرسة عبادية وأخلاقية ينتفع منها أفراد المجتمع من قائل وسامع وقارئ ومتأدب ومتدبر.
وهي حجاب ومانع من الضلالة وسلاح لصرف البلاء، لأن الحمد أحد وجوه الشكر وشعبة منه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده” فالحمد كاشف عن حقيقة الشكر وتعبير لما في الجوارح والأركان والجنان من الرضا والإمتنان وعدم الكفران.
إن شكر المنعم واجب كما هو مرسوم في علم الأصول وهو بين العبد وخالقه وجوب العبادة، لذا فان الشكر على عظيم النعم لا تستوفى أسبابه إلا بالالتزام والتقيد بأداء الفرائض لإن العبادة أساس الوجود الإنســـاني وعــلة خلــق أهل الأرض، وهــي لا تصــح إلا لله عز وجل القادر على أصول النعم وقيامه بتنزيلها على العباد رأفة منه وإصلاحاً لشأنهم.
والله تعالى أولى بالشكر في كل نعمة تأتى للإنسان وان كانت تأتيه من قبل الناس من حيث البشارة لأن الله عز وجل هو الذي خلق تلك الإرادة وبعث هذه الداعية في قلب ذلك المحسن، أي انه لم يكن إلا سبباً متصلاً سخره الله لينال بسببه الثواب والكرامة وليكون الإحسان بين الناس سبيلاً ومناسبة لتجــدد الحمد له تعالى من الذي إسـتقبل النعمة ومن وفقه الله لإسدائها إلى الآخرين على يديه، وليبقى ثواب هذا الحمد وأجره محفوظاً للعبد ومتناميـاً للزيادة لأنه غير متناه وان كانت تلك النعمة متناهية.
ومما يبدو واضحاً لكل إنسان أن الحمد والشكر لا يساوي معشار نعم الله عز وجل، كما أن النعم أمور مادية محسوسة وجواهر وأعراض، والحمد لا يعدو أن يكون ثناء باللسان والله عز وجل غني عنه وعن قائله.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:”إذا أنعم الله على عبد نعمة فيقول العبد الحمد لله فيقول الله تعالى: أنظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له”.
ثم يتعاهد الله الشكر والحمد الذي لم يوفق له العبد إلا بفضل الله تعالى ورحمته ولولاه لم يستطع الناس الاهتداء إلى الحمد، الأمر الذي يستلزم الشكر على أصل الحمد وخلقه في الذات الإنسانية وجعله ركناً من أركان البصيرة في الدين والدنيا.
ونقل أن داود عليه السلام قال: “يا رب كيف أشــكرك وشــكري لك لا يتم إلا بأنعامــك عليّ وهو أن توفقني لذلك الشكر، فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك”( ).
إن الله عز وجل يرضى بالقليل على ما يعطيه من كثير النعم وعظيمها وجعل قول العبد الحمد لله ثمناً لها وسبباً لدوامها وعنواناً للواجب من الشكر ورابطة آدمية بين أفراد النعم، لتكون شاهداً على الإستحقاق وعدم تعقب العقاب.
أخرج بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: “سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لئن ردها الله لأشكرن ربي، فوقعت في حي من أحياء العرب منهم امرأة مسلمة، فوقع في خلدها أن تهرب عليها، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فأصبحت بها في المدينة، فلما رآها المسلمون فرحوا بها ومشوا بمجيئها حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآها قال (الحمد لله) فإنتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوماً أو صلاة فظنوا انه نسي، فقالوا: يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردها الله لأشكرن ربي قال: ألم أقل (الحمد لله)( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعطاء درس أخلاقي وعرفاني يتضمن الإكتفاء بالقليل مع عظيم النعمة وإعلان الإستعداد للشكر وإنتظار المسلمين ما يناسب النعمة والكرامة والفضل ومقام النبوة في وجوه الشكر المستحدثة لتوثق في السنة القولية والفعلية فجاءت بسيطة لتؤكد ان المتعارف القليل من الشكر فيه نفع عظيم وهو مناسبة للصلاح.
لقد ورد في السنة النبوية الشريفة التي هي تفسير للقرآن والمصدر الثاني في التشريع من بعد القرآن ما يجعل التلفظ بالحمد لله وقوله أداءً للشكر ووظيفته، فقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: “بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية من أهله فقال: اللهم لك عليّ أن رددتهم سالمين أن أشكرك حق شكرك، فما لبثوا أن جاؤا سالمين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحمد لله على سابغ نعم الله، فقلت: يا رسول الله ألم تقل أن أشكره حق شكره، فقال: أولم أفعل( ).
وكانت كيفية شكره صلى الله عليه وآله وسلم من جوامع الكلم ودرساً وموعظة وتخفيفاً وحثاً على الشكر وتيسير صيّغه.
وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق انه قال: “ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال الحمد لله إلا أدى شكرها”.
ولا يعني الإلتقاء والتشابه في صيغة الشكر المساواة بين النعمة والشكر فان قضاء العمر كله في شكر المرء نعم الله التي لا تحصى لا يرقى إلى ما يوازي أصغر مقدار أو نسبة منها، وان كانت كل نعمة منها عظيمة وجسيمة ولكن اعتبار الشكر هذا يتحقق بفضل الله تعالى واتصال كرمه وواسع رحمته ورأفته.
وجاء في دعــاء الإمــام علي بن الحســين زين العابديــن عليـه السلام: “أنك المنان بجسيم المنن، الوهاب لعظيم النعم، القابل يسير الحمد”( ).
لقد زاد الله في فضله على الناس فجعل الحمد ثمن النعمة بل وأفضل منها لما فيه من معاني العبادة والشكر واستحضار ذكر الله وتوظيف العقل في ادراك نعم الله والتدبر في مصدرها الاساسي من الفيض الرباني والمشيئة الالهية.
وعن أنس قال: “قال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: لو ان الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك”( ).
لبيان آية ونعمة أخرى منه تعالى فالكثير الذي للعبد يرجح عليه الحمد والثناء، أما الذي لا يحمده تعالى على النعمة سواء كانت في البين أو الجاه أو العلم وغيرها فان تلك النعم تكون موضوعاً للحساب الشديد والعقاب الأليم.
فالحمد نعمة منه تعالى برزت إلى الخارج على لسان العبد وباختيار منه مع أن الله عز وجل هو الواسع الكريم فالخزائن التي أعطى منها النعم لا تنفد ولا ينقص منها شيء مهما خرج منها للخلائق، والعبد هذا الممكن المتناهي خصص جزء من عمله لشكره تعالى.
وفي روايه عن الحسن البصري مرسلة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ما أنعم الله على عبد نعمة يحمد الله عليها إلا كان حمد الله أعظم منها، كائنة ما كانت”( ).
لقد أنزل الله عز وجل الحمد منزلة يغبط عليها أهله، وفيها حث ودعوة للناس للمبادرة إليه والتزامه إلى جانب ما فيها من رحمة وتتضمن التخفيف عن أهل التقوى من المؤمنين الذين يدركون واقع العجز عن شكر نعمه تعالى وعما ألهمهم من الشكر والثناء والتوفيق إلى قول الحمد الله.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: “أوحى الله عزو جل إلى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حق شكري، فقال: يا رب وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به عليّ، قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت ان ذلك مني”، وفي رواية قال موسى عليه السلام: إلهي أمرتني بالشكر على نعمك وشكري إياك نعمة من نعمك”.

وفي هذا المعنى قال الشاعر:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

عليّ له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله

وإن طالت الأيام وإتصل العمر

وقيل أن من إعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك وإن هذا معنى قول الواسطي الشكر شرك.
ولكن المقام أعم من أن يكون مقام توحيد أو شرك، كما أن جعل هذه المقولة تأويلاً لقول الواسطي يفتقر إلى القرينة والدلالة، خصوصاً وان قول الواسطي نفسه مخالف في ظاهره للواقع وبعيد فيما يتبادر من فهمه عن لغة الإيمان، والحقيقة والمجاز وصيغ العرفان ويمكن أن يستغله الذي في قلبه مرض فيأوله على وجه ضار ولم يلتفت إلى المضامين المجازية ولغة أهل الإشارات والصوفية، ولعل نسبة هذا القول إلى الواسطي لم تتم.
وقال الرازي بأن (الحمد لله ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية فمن قال هذا الثمانية عن صفاء قلبه إستحق ثمانية أبواب الجنة)( ).
والقول إذا لم يرفع يحتاج إلى دليل أو قرينة معتبرة مباشرة أو ضمناً، نعم، الالتقاء بالعدد بين أبواب الجنة والحمد لله لم يقع إتفاقاً ومصادفة، ولكن الملازمة بينهما تحتاج إلى دليل تحقق مثل هذا القول وما هو على الله بمستعصٍ أو بعيد، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون إيماناً عفوياً بما يقرأون طمعاً برحمته تعالى وثقة بالعلماء المسلمين، بالإضافة إلى رحمته تعالى بمن يحسن الظن به وعدم خيبة من رجاه وأحاديث من بلغ.
ولم يرد في القرآن بيان بأن عدد أبواب الجنة ثمانية، نعم ذكر عدد أبواب النار وأنها سبعة.
ويمكن أن يكون الحمد غالقاً لأبــواب النيران وفاتحاً لأبواب الجنان بما يتضــمنه من الإقــرار بالله عز وجــل إلهاً ورازقــاً إلى جانب ما فيه من عناوين الشكر لله عز وجل وان كانت مزروعة في النفس بفضله تعالى.
إن الحمد لله سبيل إلى الجنة بإعتبــاره ضــياء ينير دروب الحياة بتقوى الله، فالإعتراف بان النعم كلها من عند الله عز وجل طريق لحفظها وحائل دون زوالها وأنه يجزي لسان الحمد والشكر لدوامها والزيادة فيها.
ومن فلسفة الدعاء انه عنوان جامع للخوف منه تعالى ورجائه وسبيل إلى فعل الصالحات وإتيان أعمال البر في حرص على دوام تلك النعم وأمل في المزيد منها إذ أن الله عز وجل جعل الحمد طريقاً لنيل المزيد من النعم.
إن قول الحمد لله بلغة الإطلاق في كل نعمة فردية أو جماعية تخص الأبدان أو الأرزاق أدب حسن في مقام العبودية، ودليل على الرشد وحسن توظيف العقل وقد استدل العدلية على وجوب شكر المنعم بإحتمال الضرر في تركه واستحقاق تاركه العقاب وقيام الحجة عليه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
عن صفوان بن يحيى عن الكاهلي قال كتبت إلى الإمام عليه السلام في دعــاء: “الحمـد لله منتهــى علمـه، فكتــب إليّ: لا تقولــن منتهى علمه فليس لعلمــه منتهى ولكــن قل منــتهــى رضاه”( ).
ويعكس الحمد حالة العلم عند الإنسان وإدراكه للعلل الحقيقية لما يتنعم به وإقراره بعظمته تعالى في إجلال وحب وثناء مطلق، كما جاء الحمد باسم الذات وليس باسم آخر من أسماء الله الحسنى لأن الحمد لا ينحصر بنعمة معينة أو باب محدد من أبواب النعم، فكل نعمة تستحق حمداً وثناء ولا مانع من قصد نعمة معينة بالحمد، فمرة تحمده تعالى على العافية، وأخرى على السلامة من الأمراض وأخرى على الرزق، ولكن صيغة الإنفراد لا يمكن أن تحيط بنعمه تعالى لأنها دفعية وتدريجية وفي كل منهما نِعم متعددة بما يعجز الإنســان عن الإحــاطة بها، فجاء التنكير والإطلاق وقصد العموم المجموعي بالحمد لله تخفيفاً ورحمة وتسهيلاً منه تعالى ليكون مجزياً ولينبسط على النعم كلها على نحو العموم الإستغراقي.
وورد الرب إسماً لله عز وجل في القرآن تسعمائة وخمساً وثلاثين مرة ، وتبدو خلال التدبر في مضامينها ومواردها القدسية التي يجسدها هذا الاسم والمرتبة الخاصة التي يحتلها باعتباره عنوان الملك ورمز السيادة، بالإضافة إلى ما يتضمنه من معاني التدبر والقيمومة ومصدر الأنعام على أهل الأرض والخلائق كافة، كما انه دعوة إلى طاعة الله عز وجل وإشارة إليها وتذكير بما أمر به من العبادة.
أن هذا العدد لاسم (الرب) في القرآن له دلالات ويتضمن أصولاً ومفاهيم ويستحق أن يكون علماً مستقلاً يبحث من خلاله في الحجج التي تــدل على وجــود الصــانع وإثبــات صـــدق الربوبية ولزوم العبودية ودفع الشــبه عن حقائق التوحيد، واستظهار ما فيها من التأويل.
فاسم الرب من أمهات الأسماء المقدسة لما يرمز إليه من دلالات لعالم التكوين وأســباب تنظيم شــؤون الخلائق وقوام الموجودات، وتقدير للأسباب والعلم المطلق وإحاطة بجميع الأشياء، لذلك ترى هذا اللفظ محــاطاً حين وروده في القرآن بهالة من التعظيم والإجلال
كما في هذه الآية والآيات الأخرى مثل قوله تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ] ( )وقوله سبحانه[سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ]( ).
ومن التعظيم إتيان المسلمين لاسم الرب كل يوم خمس مرات في صلواتهم اليومية وأنت ترى التعظيم له في قلوب المسلمين كما أن الخشية تظهر عليهم عند قراءة الفاتحة.
لقد أفاد هذا الاسم ضمن مدلولاته السامية حالة الانقطاع إلى الله عز وجل والايمان به والتسليم لأمره كما ورد في التنزيل [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ]( ).
وفيه توكيد وتصديق لما ثبت في الفلسفة بأن كل شيء في الوجود يحتاج إلى الله تعالى في إســتمرار البقاء ودوام الحياة مثلما احتاج إليه في أصل الخلق وبدايـة التكــوين، أي أن كل مخلــوق محتاج إلى ربوبيته تعالى في كل لحظة إحتياجاً يتعلق بذات المخلوق وديمومة وجوده وبما ينعكس عليه من التغيير والتبدل الحاصل في عالم الموجودات ومسيرة نظامه والإفاضات النازلة منه تعالى.
وقيل أن الربوبية لها مراتب تختلف باختلاف مراتب المربوب والمتــعلــق واســتشهد بقــوله تعــالى [ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ]( ) وقــال تعالى [وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ]( )، وليس من تفاوت في الربوبية ذاتهــا، وهي عنــوان الكمــال المطلق وبمعنى ومفهوم مقدس واحد، لذا ترى لغة الدعاء في القرآن كلها تبدأ باسم الرب.
كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ) [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]( ) [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، ولكن الإختلاف في توجه المربوب وإرادته وإيمانه وما يستطيع الإرتقاء إليه من منازل الخضوع والعبودية لله تعالى.
وكأن الدنيا ميدان يتبارى به الناس للإرتقاء في منازل العبودية ولا تنحصر الأطراف بالأقرب والجار أو الأحياء من الناس بل تشمل السابق في زمانه واللاحق، لذا جاءت قصص الأنبياء والصالحين دعوة للإقتداء بهم وإتخاذهم أسوة وقادة في دروب الهداية.
أن الدراسات والبحوث الخاصة بلفظ الرب إسماً لله تعالى متخلفة عن وظيفتها وقاصرة عن استيفاء ما يتضمنه هذا الاسم من المضامين العالية وما تتفرع عنه من الإفاضات الملكوتية، إذ أن تسليط الأضواء عليها وسبر أغوارها يساهم في لفت الأنظار إلى ما يمثله هذا الاسم من الحضور الإلهي الدائم ووجوب تعزيز روح التوكل وإرادة الإستعانة إلى جانب ما يتعلق به من معاني الكمال وتوفير حاجات الوجود ومستلزماته.
بحث فلسفي
قوله تعالى [الْعَالَمِينَ]: جمع عالم كالقوم والرهط، وقيل أن إشتقاقه من العلامة وهي الدلالة والأمارة فكل شيء في العالم آية كاشفة عن وجود الصانع وحجة في بيان عظمة الخالق, وقد ثبت في علم الفلسفة أن الجائز لا يستغني عن المؤثر، وهذه القاعدة طريق إلى إثبات الصانع إذ أن الاختلاف في العلة والمعلول يكون في ثلاثة وجوه: بالتقدم والتأخر، والإستغناء والحاجة، والوجوب والإمكان.
والبديهية يدرك أن العلة المؤثرة أقوى لذاتها من معلولها سواء في وقوع العلية أو في غيرها، وأن المعلول يحتاج إلى العلة لذاته وطبيعته وسماته الخاصة مما يقتضي إختلافه في الماهية عن العلة التي تكون مفيدة ونافعة، والمعلول يتلقى تلك الفائدة من وجوده المتأخر عن العلة التي تكون أقوى وأقدم في الوجود وأوجب.
ويأتي عنوان الربوبية وما فيه من معاني قدسية وإفاضات إلهية بياناً لعظيم فضله تعالى بإيجاد هذه الخلائق بمشيئته وإبداع الكائنات بلطفه، وان ما في العالم من المخلوقات يفتقر الله تعالى في دوام وجوده وأنه يحتاج إلى فيض رحمته في كل لحظة من لحظات حياته.
فالربوبيــة رمز حفظ هــذه العــوالــم , ولولا أمــر الله تعالى إلى السماوات وإمساكها وتثبيتها لتهافتت ولبادت الأملاك وتساقطت الكواكب والنجوم وتفجرت الأنهار ولدثر العالم بلحظة واحدة , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
إن قوله تعالى [رَبِّ الْعَالَمِينَ] طرد للفكرة القائلة بان العالم مستقل بذاته مستغن في وجوده عن أحكام مشيئة الله تعالى، وفيه دفع لوهم قدرة الإنسان الذاتية في أذهان الناس، والآية تحصين للأفكار بإدراك حقيقة أن العالم محدث مبتدع، منشأ بقدرته، يتعاهده الله تعالى بالربوبية التي تستحق الحمد والثناء لما تتضمنه من النعم والإحسان المتصل والرحمة الواسعة.
وتشير الآية إلى ماهية وجود العالم فهو بالنسبة للباري عز وجل لا يشبه في وجوده وجود الدار عن البناء، والكتابة عن الكاتب فحسب، بل كوجود ضوء الشمس في الآفاق عندما تكون الشمس طالعة من جهة وجود الأثر وعدم الجزئية إذ أن الضياء الذي يرى وإشعاعاته في الجو ليس جزءً من الشمس ولكنه فيض منها، كذلك ما ينبعث في الليالي البيض وغيرها من نور القمر بإعتباره رمز الواسطة لما ثبت أن القمر يأخذ نوره من ضياء الشمس.
وجئنا بهذا المثال التقريبي مع الفارق في الإختيار وغيره للدلالة على أن وجود العالم ليس جزءً من الذات المقدسة بل هو فضل من الله تعالى وفيض تجلت فيه كبرياؤه وظهرت آلاؤه ليلتمس الناس عظمة القدرة ويلتزموا بأحكام الربوبية وآداب العبودية لله عز وجل، كما وأن الربوبية في الآية تؤكد أن إيجاد العالم تم بإرادته تعالى وإختياره ولطف مشيئته وحسن اختياره الذي ينبع من علمه الذي لا حدود له، قال تعالى [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
أن ذكر الحمد والثنـاء لله عز وجــل في الآيــة الكريمة وبعنوان الربوبية للعالمين إقرار بان المؤثر في الوجود وديمومته هو الله تعالى, وإعتراف بأن الرزق وجميع النعم تترى علينا بأمـره وعن مشيئته وهو أمر يســتحق الشــكر والثناء الذي لا نتردد في إتيانه ولا نتكاسل عن ولوج ساحته.
لقد كان قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] حرباً على الوثنية والإلحاد ومرتبة في الإعتقاد ينالها من يتلفظ بها ويواظب على قراءتها كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: “أن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار”( ).
بحث كلامي
تبين الآية الكريمة أن الممكنات حادثة فالله سبحانه الصانع لها والمؤثر دائماً فيها وهو القديم الذي كان قبل كل شيء, ولأن عقول البشر وأوهام الخلائق لا تحيط ببديع صنعه وعظيم إحسانه جاء الحمد في هذه الآية مطلقاً.
والآية حصانة فكرية لعقول المسلمين لكي لا يظن الناس أن العالم مســتقل في وجــوده أو أنه خال من الخضــوع والإنقيــاد لسلطان الربوبية، وهي عون لهم على التماس طرق الإيمان بإدراك أن العالم يعود في نشــأته وديمومته إلى علــة موجبة منفصلة عنه، فكل موجود بغيره هو ممكن الوجود بذاته وإن العالم وما فيه لا يستطيع أن يستغني عن فضل الله وإفاضاته ورحمته في الإبقاء على أسرار الحياة وأدامة البقاء والإمساك بالسماوات والأرض، وأن العالم فعل من أفعال الله عز وجل منقاد لأمره تعالى ولا تأثير فيه إلا لله عز وجل، وما يحدث بين المخلوقات والكائنات وفيها من تغيير إنما بأسباب من عنده تعالى ولا تجري إلا بعلمه.
ولقد إشتهر بين الفلاسفة الأقدمين أن المؤثر في الوجود مطلقاً هو الواجب تعالى والفيض كله منه سبحانه.
أن الربوبية المطلقة لله تشمل جميع الخلائق, وهي إحدى ركائز عقيدة التوحيد وأنه تعالى يتعاهد العالم بالإصلاح الدائم المتصل وفي ذلك منع لإنتشار الفلسفة القاصرة وتأثير العقيدة التي تنحرف عن مسار جادة الحق، وبالإسلام وانتشاره وثبات مبادئه وبالآيات المباركات التي جاءت في بيان حقيقة التوحيد ومفاهيم الربوبية أمكن التصدي للآراء ذات الزيف والبطلان.
بحث أخلاقي
القرآن مدرسة الإصلاح وجامعة الآداب ففيه مقومات تهذيب النفس وصيغ نبذ الرذائل وكيفية الإبتعاد عن القبائح، وتجد الدروس فيه مركبة تتناول عدة مطالب سنية في آن واحد ولكل منها عدة جهات مباركة وفروع.
وأصبحت (مدرسة الحمد) مثال الإرتقاء الإنساني والنقاء النفسي والصلاح النوعي العام فان بلوغ مراتب الحمد يستلزم التخلص من الشوائب وتلك مهمة شاقة لما تحتاجه من هدم وإزاحة للعوائق التي تحول دون امتلاء القلب بالشكر وتوجه النفس لقصد أبرازه على اللسان ليتحقق انشغال تام بضرورة الشكر وكيفيته وبذا تتولد ملكة نفسانية تصون الإنسان وجوارحه من إتيان الفواحش والسيئات لتشع أمامه أضواء الهداية فيستطيع التمييز بين الحق والباطل في كافة أحواله ما دام الحمد لله مصاحباً له.
وترى الحمد في الآية لم يرد بصيغة الأمر الإلهي إلى العبد بل يصدر منه طواعية وليتدبرها الإنسان ويأتي بها عن إيمان وإقرار بعظيم مقام الربوبية، والحمد إقرار بالنقص والضعف والحاجة إلى المنعم الكامل، مما يجعل الفرد خائفاً راجياً.
بحث عرفاني
ذكر الله تعالى من أفضل منازل الدنيا وهو عنوان الشوق إلى المعشوق ولا غرابة أن يصاحب الذكر رجاءُ الرضا كما انه يتضمن السؤال قهراً وانطباقاً لان الحبيب يقابله بالعطاء الجميل .
فإذا قلت يا رزاق فانه تعالى يفتح أبواب الرزق من حيث لا تحتسب لتزداد حباً وشوقاً له.
وإن قلت يا غفور فانه تعالى يمحو الذنوب ولا يطلع عليها الملائكة المقربون، مع أن الحمد في الأصل لطف وتوفيق منه تعالى، والحمد والثناء إرتقاء في مقامات النفس وسعي لبلوغ مقاصد البهجة العظمى وإزاحة لأدناس علائق الدنيا لتستفيق النفس وتعترف بالذنب وتغترف من المعارف وتتعلم المنافع والمضار وكيفية الرجوع إلى دار القرار.
بحث تأريـخي
التأريخ مدرسة الأجيال لما فيه من الموعظة والعبرة واستخلاص الدروس وإستنتاج الأحكام وزيادة المعارف وبلوغ مراتب الحكمة، وهناك شواهد تأريخية كثيرة تدل على قدسية وموضوعية الحمد.
إلتقى الإمام علي بن الحسين عليه السلام بالخليفة عبد الملك بن مروان ليشفع لنفر كانوا في السجن ولما رآه استعظم أمره ورق لحاله وســيماء الســجود وآثار كــثرته بادية عليه فقال عبد الملك: لقد بان عليك الإجتهاد ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم قريب النسب، وكيد الســبب وانك لذو فضل عظيم على أهل بيتك، وذوي عصرك ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته احد مثلك، ولا قبلك إلا من مضى من سلفك.
وبعد إن ذكر مآثر الإمام وفضله قال له الإمام: كل ما ذكرته من فضل الله سبحانه وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم؟
لقد كان الجواب درساً بليغاً بلزوم شكر الله تعالى بالحكم بالعدل والإحسان والتوكيد قاعدة كلامية وهي أن تكرار الأفعال العبادية يرسخ ملكة التقوى ويمكن من سيطرتها على النفس، لقد كان الجواب نهياً عن الإنكباب على شهوات الدنيا وإغراءات الشيطان إذ أن الشكر لله تعالى نوع ذكر وسبيل رشاد.
ولقد كان رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم يقف للصلاة حتى تتورم قدماه، ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه، فقيل له يا رسول الله الم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال صلى الله وعليه وآله وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً.
ثم أردف: الحمد لله على ما أولى وأبلى وله الحمد في الآخرة والأولى والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتا عيني على صدري لن أقوم لله جل جلاله بشكر عشــر العشــير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولا يبلغ أحـد نعمة منها، على جميع حمد الحامـدين، لا والله أو يراني الله لا يشــغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار، ولا سر ولا علانية ولولا أن لأهلي علي حقاً ولسائر الناس من خاصهم وعامهم علي حقوقاً لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم لرميت بطرفي إلى السماء، وبقلبي إلى الله، ثم لم ـردهما حتى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين.
وبكى الإمــام من خشــية الله توكيداً لســعادته في التزام الإنقطــاع إلى العبادة، واثر ذلك في نفس عبد الملك وقال: شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته ما له في الآخرة من خلاق، ثم استجاب له وشفعه فيمن سأله وأطلق سراتحهم( ).
علم المناسبة
ورد لفظ الحمد لله في القرآن ثلاثاً وأربعين مرة وكلها لله تعالى، منها أربع وعشرون مرة بلفظ الحمد.
وجاءت آيات القرآن بذكر حمد الناس والملائكة وكل المخلوقات لله تعالى، وقد احتجت الملائكة بأفضليتها على الإنسان في موضوع خلافته في الأرض بأنها تسبح بحمد الله , كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] ( ).
وفيه بيان لمقام من يقوم بالحمد لله تعالى، مع أن الملائكة أقروا بان تسبيحهم وتنزيههم لمقام الربوبية إنما جاء بفضل الله تعالى وانه سبحانه هو الذي هداهم للتسبيح، وتلك آية في أدب العبودية عند الملائكة إذ نسبوا ما يتفاخرون به على الإنسان إلى الله تعالى وانه نعمة منه تعالى تستحق الشكر والثناء بإعتبار أن الباء للإستعانة كما في قولك كتبت بالقلم، فهم يسبحون الله بفضله ولطفه والثناء عليه وان نطقهم بالحمد لله طريق وسبيل إلى التسبيح وتنزيه مقام الربوبية، فأجابهم الله بأنه يعلم ما لا يعلمون.
وعلم الله آدم الحمد والثناء عليه سبحانه فكانت أول كلمة نطق بها آدم هي الحمد لله، ليأتي تكرار المسلمين للفظ (الحمد لله) بفضل من الله أيضاً ويجعل الحمد له سبحانه بأول القرآن مع قراءة المسلمين له في كل يوم مرات متكررة وإضافة كريمة منه تعالى وهي وصف الله تعالى بأنه رب العالمين، فمع قول المسلمين الحمد لله فأنهم يقرون بأنه رب العالمين وانه الرحمن الرحيم، ومن رحمته تعالى أن هداهم لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] وجعلهم أهل التحميد أي يكثرون من حمد الله تعالى مرة بعد مرة بالمحامد والذكر الحسن، ومنه صفات الله تعالى الواردة في سورة الفاتحة، والتحميد ابلغ من الحمد، وقد فاز المسلمون به بنعمة وفضل من الله تعالى.
وجاءت هذه الآية وتلاوتها في الصلاة شاهداً على هذا الفوز، وهو نعمة تستحق الشكر المتصل منهم لله تعالى، وتضمنت آيات القرآن بالإخبار عن قانون من الإرادة التكوينية وهو مواظبة الخلائق كلها على الشكر والحمد لله تعالى، قال سبحانه [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا] ( ).
وفيه دليل على لزوم تعاهد الإنسان للحمد لله من باب الأولوية القطعية لإنفراد الإنسان بنعم عظيمة، فإذا كان المخلوق الأدنى من الإنسان يتعاهد تنزيه مقام الربوبية والثناء على الله فعلى الإنسان أن يقوم بالحمد له سبحان بالأولى وجاءت هذه الآية لإعانة الإنسان وهدايته لهذه النعمة وبلحاظ التفسير الذاتي للقرآن فقد جاءت الآيات الأخرى لبيان معنى الربوبية المطلقة لله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
ومع موضوعية الحمد لله تعالى في حياة المسلمين وكثرة عدد المرات التي جاء بها في القرآن فانه جاء في سورة الفاتحة ثم لم يرد في كل من سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في آية إعجازية تدل على أهمية وموضوعية هذه الآية ومجيئها في أول القرآن وتلاوة المسلمين لها في الصلاة اليومية.
الصلة بين أول وأخر الآية
لقد إبتدأت الآية بالحمد والثناء على الله تعالى، وجاء الحمد مطلقاً في ذاته وموضوعه ومتعلقه، فليس من حصر للنعم وللمواضيع والعلل التي يستحق الله تعالى إليها الحمد، لأن نعمه سبحانه من اللامنتهي سواء على الفرد أو على الجماعة أو عليهما معاً متحدين.
فجاءت الآية بذكر (الحمد لله) من غير ذكر متعلقه، وفيه دعوة للتدبر في الآيات والنعم التي أنعم الله تعالى بها على الناس عامة والمسلمين خاصة.
ومن الآيات إن جملة (الحمد لله) خبرية إلا أنها تفيد إنشاء الحمد وجاءت الجملة إسمية لتفيد إستمرار وإستدامة وتجدد الحمد ليكون مصاحباً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة.
ومن الآيات أن المسلمين يتلون هذه الآية في صلاتهم اليومية لتكون عهداً وصلة بينهم وبين الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ] إذ يأتي الإعتصام بالقرآن بتلاوة آية الحمد وثبات المسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي في ميادين الحمد وتعاهدهم رجالاً ونساءً للحمد لله.
وجاء آخر الآية صفة لله تعالى وأنه رب العالمين ليكون الحمد والشكر لله مقترناً بالتعظيم لمقام الربوبية، وهو شاهد على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، وإقرارهم بالقدرة المطلقة لله تعالى وإحاطته علماً بالمخلوقات وأنها جميعاً مستجيبة له، والعالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه كالجيش، وإشتقاق العالم من العلامة لأنه يدل على صانعه ومبدعه وربه، وقيل من العلم لأنه يدل على العلم به ولكن لفظ العالمين أعم من العقلاء وان جاء بصيغة جمع المذكر السالم العاقل تغليباً، والمراد منه العوالم المختلفة للمخلوقات والكائنات وما في السموات والأرض.
ويتضمن هذا اللفظ الإطلاق والشمول لأنه يشمل الأنواع المختلفة التي تقع تحت كل واحد منها أجناس كثيرة تعجز الخلائق عن إحصائها، ويبعث إختتام هذه الآية بصفة التعظيم والتقديس لله تعالى الشوق في نفوس المسلمين إلى الحمد والمواظبة عليه ويجعلهم يدركون حقيقة وهي أنه سبحانه أهل للحمد والثناء.

قوله تعالى
[ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] الآية 3

الإعراب واللغة
الرحمن صفة لله عز وجل مجرور بالكسرة وكذلك الرحيم في إعرابه، ونصبهما زيد وأبو العالية وابن السميقع وعيسى بن عمرو، ورفعهما أبو زين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجولي والأولى قراءتهما بالخفض وهو المرسوم في المصاحف.
في سياق الآيات
بعد الثناء على الله عز وجل وحمده بأجزل الألفاظ وأعظم المعاني والمقترن بالتسليم له تعالى بالعبودية، جاءت هذه الآية لتوكيد صفات الرحمة والرأفة والعفو لله عز وجل تعالى.
ولما أخبرت الآية السابقة عن كون الله رب العالمين، جاءت هذه الآية متممة لهذه الصفة ليكون الجمع بينهما دليلاً على انه تعالى رؤوف بالعباد،فمع إنقياد كل شيء لله تعالى فانه سبحانه يتغشى الخلائق بالرحمة، وكأن هذه الآية شكر لله تعالى على الهداية للثناء عليه في الآية السابقة، وتعليم المسلمين كيفية حمده وشكره مع التعظيم وبلغة الخشوع والخضوع.
ومجموع كلمات هذه الآية والآيتين السابقتين عشر كلمات، كلها أسماء حسنى لله تعالى إلا كلمة واحدة هي [الْحَمْدُ] ويأتي ذكر الحمد في القرآن لله عز وجل وحده لتلحق هذه الكلمة بالأسماء الحسنى لأن المراد منها أنه تعالى المحمود على آلائه ونعمه التي لا تقدر الخلائق على إحصائها مع إشتراكها جميعاً بالحمد والثناء عليه تعالى، كما تأتي الآية التالية [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] بإرادة اسم من أسماء الله تعالى والإخبار عن عائدية ملك كل شيء يوم القيامة لله تعالى , فكل شيء يومئذ مملوك لله تعالى.
ويدل نظم الآيات على تغشي الرحمة الإلهية للخلائق في الحياة الدنيا والآخرة، فلم تخبر الآيات عن ربوبية الله تعالى إلا بعد الإخبار عن كون الله تعالى هو الرحمن الرحيم، ولم تذكر ملكيته ليوم القيامة وعالم البعث والنشور الا بتقديم ذات الإخبار وبآية مستقلة قائمة بذاتها، لبعث الناس للسعي لنيل رحمته تعالى في الآخرة من غير تعارض مع السعي والرجاء لنيل الرحمة في الحياة الدنيا.
ويظهر سياق هذه الآيات التداخل والملازمة بين عالم الدنيا والآخرة ويتجلى هذا التداخل في تغشيهما برحمة الله وأسمائه الحسنى، وهذه الآيات من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
فان الخوف والحزن يطرد عن المسلمين لأنهم في رحمة الله، فتكون واقية لهم من العذاب ومقدماته وأسبابه، ومن رحمة الله تعالى بالمسلمين هدايتهم إلى الإيمان وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بالمعجزات التي جاء بها ومعجزات الأنبياء السابقين، ووصف الله تعالى بصفة الرحمن الرحيم بعد الحمد له سبحانه بيان لموضوعية الحمد وأن الله سبحانه أهل للثناء والحمد للرحمة المطلقة التي يتغشى الخلائق بها.

إعجاز الآية
في الآية على دليل مصاحبة الرحمة المتصلة لحاجة الإنسان الدائمة وبشارة العفو والمغفرة، واقتران الحمد من العبد مع الرحمة من عند الله يدل على نوع ملازمة بينهــما وأن المواظبة على الحمد والثناء على الله عز وجل مفتاح تلقي الرحمة.
ومن إعجاز الآية أن صفات الرحمة هي التي تطل علينا في فاتحة الكتاب وهو فضـل مركب لتضمن السورة لها، ولموضع هذه السورة وموضوعيتها في العبادة.
تكرار صفة (الرحمن الرحيم) إخبار إلهي عن تغشي الرحمة للناس بفضل من الله تعالى وليس عن إستحقاق منهم، وفيها رحمة إضافية للمسلمين، لأن الرحمن صفة تشمل الناس جميعاً في الدنيا، أما الرحيم فاسم عام لصــفة خاصة فهو خاص بالمؤمنــين ويســتوعب الدنيا والآخرة .
فالآية تدعو الناس جميعاً إلى تلمس شآبيب رحمته التي تأتي دفعة وفيها إشارة إلى أن الدنـيا خلقــت للرحمة، ولتكــون مصداقاً واقعياً لرحمته تعالى.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “الرحمن الرحيم” وهذه هي الآية الوحيدة في القرآن التي يكون هذان الإسمان مجموع كلماتها.
الآية سلاح
تبعث الآية السكينة والأمن في النفس الإيمانية، وتحث على قراءة سورة الفاتحة وتكرارها، وهي مدرسة في اللطف الإلهي بتقدم رحمة الله تعالى على غضبه، وهي حجاب دون غضبه، وفي الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي) ( ).
والآية سلاح ملازم للمؤمن بل للناس جميعاً ولكن بمراتب متفاوتة والمسلم ينتفع منه في الدارين، وتنفي الآية اليأس وتطرد القنوط عن القلوب المنكسرة .
وتبين هذه الآية حاجة الخلائق عامة والناس خاصة إلى رحمة الله تعالى، وتفضله بقضاء حاجة الانسان بأحسن وأتم وجه، إذ ان الله تعالى يتغشاه بالرحمة في النشأتين وليس من أحد من الخلائق يستطيع ان يواظب على رحمة غيره على نحو الإستمرار والدوام والإنسان الذي يرحم غيره تلازمه الحاجة إلى رحمة الله.
فجاءت هذه الآية لتبين سعة رحمة الله بالخلائق كلها، وفيه دعوة للإنسان للجوء اليه تعالى في السراء والضراء.
وهذه الآية سلاح وقائي ودفاعي للإنسان وسبيل للنجاة والفوز، فكل سلاح مادي عند الإنسان يتخلف عن نصرته أحياناً ويقصر عن الذب عن صاحبه، وقد لا ينتفع منه الإنسان بما ينجيه، أما هذه الآية فهي سلاح مصاحب للإنسان يطرد عنه الغفلة، ويصونه في ليله ونهاره.
فجاءت تلاوتها في الصلاة لترسيخ مفاهيم التوحيد في أذهان المسلمين، ويحمل الإنسان السيف ونحوه لدفع عدوه وإيقاع الضرر به، أما هذه الآية فهي سلاح يدفع عن الإنسان الضرر والأذى الظاهر والخفي من غير أن يلحق بعدوه الضرر والأذى، أما رجوع كيد الكفار إلى أنفسهم فتدل عليه آيات أخرى بلحاظ تبدل الموضوع والحكم كما في قوله تعالى [وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( )،، وفيه دلالة على تغشي الرحمة الإلهية للناس جميعاً، وعدم نزول الغضب الإلهي إلا بعد الجحود والإعراض عن رحمة الله.
مفهوم الآية
جاءت هذه الآية مستقلة لتبعث في نفوس المسلمين السكينة والطمأنينة ولتكون جزاء عاجلاً على الإنتماء العقائدي للإسلام والتسليم بان القرآن من عند الله تعالى.
ومن مفاهيمهــا أنها بشارة وأمــان يوم القيامــة لمن يتلوها وهو مؤمن، وشـهادة وإقرار بإستحقاق الخالق سبحانه الحمد لربوبيته المطلقة وصفاته الحسنى وعظيم إحسانه وإتصال نعمه ودوام رحمته.
وإجتماع صفتي الرحمن الرحيم عنوان جامع للرحمة والمغفرة والعفو والرأفة والرزق والهداية، وفي الآية استعانة بالله من غضبه وبطشه وإنتقامه .
وتتضمن الآية دعوة الناس للتدبر في مصاديق وأفراد رحمة الله تعالى بهم في الدنيا، والنعم التي أنعمها عليهم، وحلمه ولطفه بهم، وهي وسيلة لجذب الناس للإيمان، وإخبار بأن التكاليف العبادية هي من رحمة الله تعالى بالناس، فإن قيل في أداء التكاليف تعب وعناء وجهد فكيف تكون من رحمة الله.
والجواب من وجوه:
الأول: التكاليف إمتحان مقصور على أيام الحياة الدنيا.
الثاني: تعقب البركة والرحمة لأداء التكاليف.
الثالث: الثواب العظيم والأجر الجزيل في الآخرة على أداء التكاليف.
الرابع: من رحمة الله تعالى أنه يعطي الكثير بالقليل، فقيام العبد بأداء التكاليف من القليل في مدته وفعله، أما ما يناله عليه العبد من الجزاء فهو أكثر من أن يحصى.
الخامس: مع أداء التكاليف تترى النعم الإلهية على الفرد والجماعة، وينتفع من أدائها الموجود والمعدوم، فيقوم الشاب بأداء الصلاة اليومية فيأتي الثواب إلى والديه وآبائه الأحياء منهم والأموات ويكون سبباً لصلاح ذريته من بعده، وباباً لنزول الرحمة عليه، وهذا التعدد في مواضيع الثواب على الأداء الواحد من مصاديق وإطلاقات قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
إفاضات الآية
جاءت الآية بإسمين من أسماء الله تعالى، ويؤكدان منفردين ومجتمعين على سعة رحمة الله تعالى، وإقتران الربوبية بالرحمة، وجاء الوصف على نحو الإطلاق والإستغراق الشامل لأمور:
الأول: تغشي رحمة الله للخلائق كلها.
الثاني: تسع رحمة الله المواضيع والأحكام المختلفة.
الثالث: عدم إنحصار رحمة الله بالحياة الدنيا، بل تشمل العوالم المتعاقبة بعرض واحد فتشمل رحمته أيضاً عالم البرزخ والنشور والحساب، مع إختصاصها في الآخرة بمن يؤمن بالله ويتلو آياته.
وهذه الآية سياحة في عالم الملكوت، وتأخذ بيد المسلم في عالم الصفات الحسنى وما في كل واحدة منها من الدلالة على القدرة الإلهية وعظيم الفضل الإلهي، وهي إشراقة تطل على النفوس فتملأها نوراً وبهاء لما فيها من البشارة والوعد الكريم، الى جانب ملازمتها للعبد في أطوار حياته كلها، فهي حاضرة عند النعمة، وعند البلاء والشدة، لذا جاء قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، لبيان التسليم والرضا برحمة الله تعالى المصاحبة للمصيبة والمتعقبة لها.
ولا تكون الآية سبباً للتفريط والتقصير في الواجبات لأن الله تعالى هو الرحمن الرحيم، ولإدراك المسلمين لحقيقة وهي أن التكاليف والواجبات وإجتناب النواهي من رحمة الله تعالى بالعباد، بالإضافة الى رحمته تعالى بتيسير أداء الواجبات وإعانة المسلمين عليها، ولغة الإنذارات والوعيد على تركها والتفريط بها.
الآية لطف
آية قرآنية كاملة تتكون من إسمين من أسماء الله الحسنى ليس معهما حرف زائد أو كلمة أخرى، وتنجذب النفوس لكل منهما وتغرق في جمالهما وجلالهما ومضامينهما القدسية، وما يدلان عليه من التذكير بنعم الله على العبد في نهاره وليله.
ومن النعم الإلهية نزول القرآن وتضمنه هذه الآية الكريمة وما فيها من البشارة والوعد الكريم، والدعوة إلى الثناء عليه تعالى، ومن رحمته تعالى أن جعل المسلم يذكر الله كل يوم بصفة الرحمن والرحيم ليكونا واقية له من الآفات والهلكات، وحرزاً من الغفلة والجهالة.
الصلة بين أول وآخر الآية
جمعت هذه الآية بين إسمين من أسماء الله تعالى، وكثيرة هي الآيات التي تجمع بين إسمين من أسمائه سبحانه وفيها شاهد على بديع صنعه، وثنائه على نفسه، ودعوة للناس جميعاً للتسليم بربوبيته والإنقياد لأوامره، ولكن هذه الآية تختص بخصوصية من وجهين:
الأول: إنحصار كلماتها بإسمين من أسماء الله تعالى.
الثاني: مجيء الإسمين في موضوع الرحمة وهي أهم ما يحتاجه الناس والخلائق جميعاً.
وجاء اسم (الرحمن) في القرآن سبعاً وخمسين مرة، و(الرحيم) مائة وخمس عشرة مرة، واجتمعا في خمس آيات تتضمن معاني التوحيد وأخبار التنزيل وإحاطة الله تعالى علماً بكل شيء ، بالإضافة إلى آيات البسملة في أوائل السور باستثناء سورة براءة.
والآية محل البحث هي الوحيدة التي تنحصر كلماتها بالإسمين المباركين لتكون آية وموعظة ومدرسة تدل على حضور رحمته تعالى في كل الأمور.
وجاءت صفة (الرحمن) على وزن فعلان لإرادة الكثرة والتعدد، لأن رحمة الله وسعت كل شيء، أما الرحيم فجاء خاصاً بالمؤمنين في الدنيا والآخرة ليتضمن البشارة والوعد الكريم.
وحكى الأزهري عن أبي العباس في قوله الرحمن الرحيم : جمع بينهما لأن الرحمن عبراني والرحيم عربي ، وأنشد لجرير :
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم
بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا
أو تتركون إلى القسين هجرتـــكم
ومسحكم صلبهم رحمان قربانا( )
ولا أصل لهذه القسمة، وكلا الإسمين عربيين لوحدة الإشتقاق من الرحمة كما يقال نديم وندمان،والرحمة العطف والإحسان والرزق والنماء والبركة، وتدل الآية على توالي أسباب الرحمة على المسلمين من غير ان يلحقهم ضرر أو أذى،قال تعالى [وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ]( )،أي حياً وخصباً بعد مجاعة، أو فرجاً بعد ضيق، ورخاء بعد شدة.
وجاء اجتماع الإسمين لبيان فضل الله تعالى على المسلمين بحجب أسباب الضيق والشدة عنهم، وبلحاظ العطف على وحدة السياق مع الآية السابقة فان هذه الآية جاءت لتوكيد الثناء على الله تعالى من وجوه:
الأول: إن الله تعالى هو أهل أن يحمد في قوله تعالى[ الْحَمْدُ لِلَّهِ] لأنه رب العالمين ولعجز الخلائق عن تعداد نعمه[تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الثاني: إقتران الربوبية بالرحمة والرأفة.
الثالث: بشارة دوام عالم الخلق والإمكان، لأن الرحمة تتغشاه.
الرابع: إنفراد الله تعالى بالرحمة المطلقة.
الخامس: إن الله تعالى خلق الخلائق ليرحمها ويرأف بها.
السادس: تنمية ملكة الرحمة في قلوب المسلمين.
السابع: في الآية إخبار عن إمهال الله تعالى للكافرين والمشركين لأن الخلائق جميعها تعيش في كنف رحمته.
الثامن: الآية دعوة للإستغفار والإنابة، ومناسبة لطرد اليأس والقنوط من رحمة الله، فلابد أن تدرك الإنسان إفاضات صفة (الرحمن) أو (الرحيم) أو هما معاً.
ومن وجوه الجمع بين الآيتين إفادة الثناء بصيغ متعددة:
الأولى: الحمد لله رب العالمين الرحمن.
الثانية: الحمد لله الرحمن، لأن رحمة الله المطلقة تستحق الحمد والثناء.
الثالثة: الحمد لله الرحيم لأنه تعالى رحيم بالمؤمنين، وان سعة ملكه لا تمنعه من إختصاص المسلمين بأفراد ومصاديق خاصة من الرحمة، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن يرحمهم الله تعالى بآيات من الرأفة والعطف كما أن خروجهم إلى الناس رحمة بهم أي بالمسلمين وبالناس جميعاً، وهو من مصاديق رحمته تعالى.
من غايات الآية
الآية رحمة بالمسلمين وإخبار عن رحمة الله تعالى بالناس جميعاً، فقد يستغرب بعضهم نزول النعم على الكافر والجاحد، فتأتي هذه الآية لتخبر عن تغشي رحمته تعالى للخلائق كلها، ومن رحمته إمهال الناس إلى يوم الحساب.
وتبين الآية سراً من أسرار العبودية لله تعالى، وهو إقتران الشكر له تعالى بتعظيمه والإقرار بالتقصير والقصور عن بلوغ أدنى درجات الشكر له تعالى لأن رحمته للعباد متجددة ومستمرة، وهي أكبر وأعم من أن يحيط بها حمد قولي أو فعلي.
ومن اللطف الإلهي أن يقبل الله من العباد القليل من الشكر، ومن رحمته تعالى أن يكون هذا القليل كثيراً في ميزان الحسنات.
لقد أراد الله تعالى للمسلمين تلاوة هذه الآية كل يوم عدة مرات في الصلاة على نحو الوجوب لتكون مدرسة كلامية، وتأديباً لهم ولغيرهم من الناس لما تبعثه من الضياء، وما تدخله على النفوس من السكينة والرجاء والبشارة والأمل، ففي كل يوم يتوجه المسلمون الى الله تعالى بالمدح والثناء وبوصفه أنه الرحمن الرحيم، وتتضمن تلاوة هذه الآية أموراً:
الأول: صبغة الدعاء والمسألة لحوائج الدنيا والآخرة، وكأن التلاوة تفيد معنيين:
الأول: اللهم أنت الرحمن فارحمني.
الثاني: اللهم أنت الرحيم فارحمني في الدنيا والآخرة.
الثاني: اللجوء إلى الله تعالى للأمن والسلامة من المهالك والآفات.
الثالث: الآية حرز للوقاية من العذاب الأليم في الآخرة، والسلامة من الغضب الإلهي.
الرابع: تلاوة الآية رجاء نزول البركة والخير على الفرد والجماعة والأمة.
ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الفوز بتلاوة هذه الآية باعتبارها من فضل لله، وشاهداً على رحمته ورأفته تعالى بالناس جميعاً، وفيها دعوة للإنابة والتوبة وتفضله تعالى بقبول التوبة، وتمنع الآية من تسرب القنوط إلى نفس المسلم في أمور وحاجات الدنيا والآخرة فالله تعالى رب العالمين وبيده تعالى مقاليد الأمور وهو الرحمن الرحيم الذي تترى نعمه على الناس في ميادين الحياة كلها.
ومن رحمة الله بالناس بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدايتهم بنبوته والقرآن إلى سواء السبيل، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
التفسير
لما جاء الحمد والثناء على الله عز وجل مع صفة الربوبية المطلقة على الخلائق جاءت هذه الآية المباركة لبيان ماهية هذه الربوبية وان قوامها الرحمة والرأفة بالخلائق سواء في علة الخلق والتكوين أو في تعاهد الكون وأنظمة سيره وما كتب الله على نفسه من الرحمة في التصرف بشؤون الخلائق وإصلاح أمورها، ومن أهم مصاديق الرحمة الإلهية في الحياة الدنيا تربية الناس وعدم المبادرة إلى مؤاخذتهم بما يرتكبون من سيء الأعمال مع إستحقاقهم للعقاب.
وقد آثار بعضهم مسألة التكرار للآية باعتبار ان [ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] آية من سورة الفاتحة و( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) شطر منها، ويجاب عليه بعدة وجوه منها:
الأول: تضمنت الآية فائدة إضافية أعم من مسألة التكرار.
الثاني: ورود الرحمة بوجهيهــا العــام والخاص مع عنوان الربوبية وبلغة الثناء توكيد لإستمرار الصلة بين الخالق والكائنات ومنها الناس وبقــاء تلك الصــلة قائمة وفاعــلة في كــل حال وفي كـل زمان ولكي يطمئن المؤمنون لذكره تعالى وتسكن النفوس عند إستحضار عظيم سلطانه ودوام ربوبيته، ولبيان تعاهد الله للعالمين ولمواجهة النظريات الإلحادية وتلك التي غلب عليها طابع الغفلة، وعدم فهم أسـرار الطبيعة

وواقــع نظام التكوين، فارســطو مثلاً الذي ينظر له كمدرسة فلسفية متطورة في زمـانه يقول بان الله اوجد هذا الكون ثم لم يعره اهتماماً لأنه أرفع وأعز من أن يفكر بما هو دون ذلك، انه لا يفكر إلا في نفسه)، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
الثالث: إن تكرار وذكــر صــفة الله الدالة على الرحــمة والرأفــة رحمة متجددة وشعبة مستحدثة منها وباب فتحه الله لأهل الإسلام خاصة، وهو حجة على الكفار.
الرابع: لو كان قوله تعالى (الرحمن الرحيم) تكراراً مجرداً من أية زيادة في المعنى والمفهوم فهو نعمة إلهية ورحمـة نتلقاها باستبشار فكيف وهي تحمل مضامين سامية ومعاني مباركة مستحدثة معها، منها ما يتوصل إليه المفسرون، ومنها ما نعجز عن بلوغ مراميه تقصيراً وقصوراً.
الخامس : إن وصف الله عز وجــل بالرحمــة بعد الحمــد والإقرار له بالربوبية ثناء حسن ومدح وشــكر مركب لينال العبد فيه ثواباً أوفى.
السادس: ورد عن عبد الله بن عمر “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا ان عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل وهو اعلم بما قال عبده: وما الذي قال عبدي؟ قالا: يارب انه قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها”.
السابع: ورد ذكر (الرحمن الرحيم) في البسملة بالمعنى العام باعتبارهما صفتين للذات الأقدس تبركاً وتيمناً وتزلفاً إلى الله تعالى عند افتتاح كل سورة، وفي المقام جاءتا عنواناً وبياناً لإستحقاقه المدح وتعلق بعض جوانب الحمد بها في خصوصية تظهر الفرق، وتوجب الإختلاف، وتبدد القول بالتكرار.
إن إقتـران صــفــة الرحمــــة بالربــوبــية دعــــوة للتوجــــه إلى الله عــز وجل في سؤال الحوائج وأمل متجدد، وحالة من الرضا تملأ النفوس ونزوع إلى الدعاء لطلب الحاجات صغيرها وكبيرها.
وكما في الحديث إن الله عز وجل قال لموسى: “يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك”( ).
إن الحمد والثناء والشكر لله بصفة الربوبية وما يلازمها من عناوين الرحمة والرأفة إقرار بنعمه تعالى الظاهرة والباطنة وتفضله بتعاهد الناس بإســتمرار الحيــاة وإتصـال الرزق ودفع البلاء والحفظ من الآفات.
روى ذو النون( ) انه قال: كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي، وصرت بحيث ما ملكت نفسي فخرجت من البيت وأنتهيت إلى شط النيل، فرأيت عقرباً قوياً يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعاً واقفاً على طــرف الوادي، فوثــب العــقرب على ظهــر الضفدع واخذ الضفدع يسبح ويذهب فركبت السفينة وتبعته، فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل ونزل العــقرب من ظهره واخذ يعدو فتبعته فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة، ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى، فوثب العقرب على الأفعى فلدغه والأفعى أيضاً لدغ العقرب، فماتا معاً وسلم ذلك الإنسان منهما( ).
تتغشى رحمة الله تعالى عباده وهي قريبة من أهل الصلاح ومن نعمه عز وجل على المخلوقات إن الرحمة صفة ثابتة من صفاته فهو الجواد المطلق الذي يفتقر كل شيء في وجوده إليه، والآية تأديب للمسلمين وزرع للإيمان في قلوبهم وجعلها تميل إلى عشق المعبود والإشتغال بمناجاته، وهي بيان على أن الإسلام دين الرحمة.
إن تكرار (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) في السورة التي يفتتح بها القرآن والتي تنفرد بمائز كريم وهو وجوب قراءة كل مسلم لها عدة مرات في اليوم مدرســة أخلاقية تظهر موضوعية الرحمة والرأفة في الإسلام وهي حجة على الأمم الأخرى للزوم التفكر والتدبر واجتناب التحريف ومحاولات تشويه الإسلام، والتركيز على أثر السيف في إنتشاره، وهذه الآية تثبت أن الدعــوة إلى القرآن فرع الرحمة الإلهية وان منافعه أكثر من أن تحصى.
إن جهل الآخرين بحقيقة الدين الإسلامي وان تعددت أسبابه وتوزعت مسؤولياته يجب إن لا يؤدي إلى التعجل في النقد، أو مدح الضلالة وليس القرآن وحده جاء بصفات العظـمة والسلطان لله عز وجل وهو حق ورحمة أيضاً، كما أن مقامات ورودها في القرآن قليلة بالقياس إلى صفات الرحمة والرأفة، فصفة الجبار والمتكبر لم ترد في القرآن صفة لله عز وجل الا مرة واحدة ومسبوقة بصفات الرحمة في قوله تعالى [ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ]( ).
وفي بيان الفرق بين صفة الرحمن والرحيم وجوه منها :
الأول : الرحمن هو الذي تتصف ذاته بالرحمة، فلأن تعالى هو الخالق والمبدع والمنشأ فهو الرحمن، والرحيم صفة له تعالى لأنه يتغشى الخلائق برحمة مستديمة وهذه الرحمة متعددة الوجوه والأبعاد والكيفيات، فهو الذي يجيب الدعاء ويدفع الأسقام والبلاء ويغفر الذنوب والسيئات.
الثاني : الرحمن صفة لله عز وجل لتفضله بالإنعام بجلائل النعم وعظيم المنن، وهو الرحيم لتفضله بدقائق النعم.
الثالث : الله هو الرحمن الذي خلق النعم في أصولها كخلقه للإنسان وللموجودات الأساسية في الكون مما يتعذر على جميع الخلائق الإتيان بها أو التمكن من المحافظة على إستمرار وجودها وإستقرارها في مواضعها، فماذا يحدث لو سقط جرم من السماء على الأرض، والله هو الرحيم لأنه أنزل المطر وأرسل الرياح وجعل خلق الإنسان في أحسن تقويم وسخر له أسباب القدرة على العيش.
الرابع : أنه الرحمن لأنه نفخ الروح في آدم وجعل الأرض مسكناً للناس، والرحيم لأنه تعاهدهم ونظم معايشهم.
الخامس : الرحمن لواسع رحمته، فتشمل البر والفاجر والمؤمن والكافر في الحياة الدنيا، والرحيم لإتصال رحمته وشمولها للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
السادس : الرحمن اسم يؤكد عظيم سلطان وعزة الله واستيلائه على كل ما دق وكبر وعلو عرشه، وفي بيانه وتوكيده رحمة للخلائق في خضوعـها لربوبيتــه وانقيادها لأمره وعدم تعدي بعضها على بعض.
السابع : هو الرحمن الذي ينتقم من أهل البغي والفساد، وفي هذا الإنتقام رحمة وحفظ لبني الإنسان وارشادهم لحكم الشريعة وسيرة العقلاء.
الثامن : هو الرحيم الذي يرأف بعبـاده ويأخذهم بلطف ويعفو عن سـيئاتهم ويرزقهم ابتداءً، ومن غــير إستحقاق ويقربهم إلى منازل التقوى.
التاسع : الرحمن صفة لله تعالى لربوبيته المطلقة ودليل وحدانيته وهو ظاهر شــواهد كثيــرة في القــرآن منها [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ]( )، وقوله تعالى [ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا]( )، وهو الرحيم الذي فتــح للعباد بــاب الدعــاء والمسألة، ولم يغلق أبــواب التوبة، بل حثهــم عليها وجـعل رحمته قريبة منهم.
لقد ورد في الحديث “أن لله عز وجل مائة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهايم والهوام فيها يتعاطـفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين رحمة”، ويمكن النظــر في مضامين الحديث بخصــوص رحمته في الآخــرة بالمؤمــنين وبين أسمائه تعالى التي هي تسعة وتسعون إسماً لأنهم أهل معرفة بإسمه وهم الذين حملوا في الدنيا لواء التوحيد وأدوا وظائف العبودية، وان الكافر لا ينتفع إلا من رحمة الله تعالى في الدنيا ولأنه جحد ولم يؤد ما إفترض عليه من واجبات العبودية وأفعال الطاعة، ورحمته الواسعة في الآخرة تكون لأهل الإيمان والمبادرين إلى التوبة.
عن عمران بن حصين قال: “كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاب فيه إتراف ورهق، وكان له أب يزجره فلا يزدجر فلما فارق الدنيا لم يصلّ عليه أبوه ولم يصلح من تجهيزه ما ينبغي أن يفعله فلما جن عليه الليل رأى إبنه في المنام في قصر على سرير يجل حسنهما عن الوصف وعليه حلل خضر ووجهه يتهلل إشراقاً فسأله عن حاله فقال: لما بلغت روحي التراقي ندمت على ما سلف مني ولم أر منك إشفاقاً ورحمة فقدمت على ربي مجفواً مهجوراً يبرأ مني ولم يرحمني أقرب الناس مني سبباً وأخصهم بي نسباً، فرحمني ربي ولم يقنطني من رحمته فأدخلني هذه الروضة كما ترى”.
ومن رحمة الله تعالى أن أرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين ، فهو سبحانه رحيم بالواسطة وبلا واسطة، ووجوه رحمته متعــددة تشــمل الحياة الدنيــا والآخــرة، والنبوة من أهم مصاديق الرحمة.
إن إطلاق صفة الرحمة لله تعالى وعلى نحو التعدد والتداخل “الرحمن الرحيم” بشــارة العفــو والمغفرة وعــدم القنوط من رحمته تعالى بعد المــوت .لذا ورد في الحــديث: “اذا مات ابن آدم انقطع عمله من الدنيا الا من ثلاث صدقة جارية، او علم ينتفع به من بعده، او ولد صالح يدعو له”( ).

علم المناسبة
لقد ورد لفظ (الرحمن الرحيم) في البسملة , وفي هذه الآية لكريمة وجاءا في مواضع من القرآن:
الأول: قوله تعالى [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( )، وفيه دلالة على الملازمة بين إنحصار الربوبية بالله تعالى وأنه هو الرحمن الرحيم، وانه تعالى لا يظلم الخلائق بل يتغشاهم برحمته، وليس من حاجب أو برزخ دون وصول رحمته للخلائق جميعاً، فقد يكون عند شخص غلُ على آخر ويتمنى كل واحد منهما نزول الضرر والبلاء بصاحبه، ولكن رحمة الله تتغشاهما معاً، ولا يستطيع أحدهما منعها من الوصول إلى الآخر، وقد يمنع سلطان أو غني نواله وعطاءه عمن اعتاد عليه، فتأتي هذه الآية للإخبار بان رحمة الله عز وجل دائمة ومتصلة ولا يستطيع احد حجبها، وفيه دعوة للجوء إليه تعالى.
الثاني: قوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، أي أن كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس ملكة سبأ مصدّر ببسم الله، وفيه بيان للدعوة إلى الإسلام، والإخبار على لزوم الإقرار بالوحدانية لله تعالى، وكانت كتب الأنبياء جملاً وخالية من الإطالة والتفصيل لتوكيد حقيقة وهي أن الإيمان بسيط جلي واضح، وتؤكد الآية ذكر الأنبياء لصفة الرحمن الرحيم مع التسمية لبعث الأمل في نفوس الملوك والناس جميعاً بالتوبة والإنابة، وورثت بلقيس الملك عن أبيها، وقيل ولده أربعون ملكاً، ولكنه لم يعقب غيرها، (وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس، وكان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل واحد على عشرة آلاف)( ).
وجاءت دعوة سليمان عليه السلام لهم جميعاً بما ورد في التنزيل [أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( ).
ليكون إفتتاح الكتاب باسم الله وذكر صفتي (الرحمن الرحيم) له سبحانه سبباً لبعث السكينة في قلوب الذين تتوجه إليهم الدعوة ومنع النفس الغضبية والشهوية من الإستحواذ عليهم والتغلب على جوارحهم وأقوالهم وأفعالهم.
وورد قوله تعالى [بِاسم اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا] ( )، بذكر التسمية من قبل نوح عليه السلام حينما ركب ومن آمن معه في السفينة التي صنعها بيده في البر قبل الطوفان الذي حل بقومه، ولم يذكر نوح صفة الرحمن الرحيم مع التسمية، وفيه احتمالان:
الأول: جاءت الآية على نحو الإختصار والحذف والتقدير (إركبوا فيها بسم الله الرحمن الرحيم مجراها ومرساها).
الثاني: ليس في الآية حذف وان نوحاً عليه السلام اكتفى بذكر بسم الله أي متبركين وذاكرين اسم الله على السفينة في رحلتها الشاقة والطويلة.
والصحيح هو الثاني لوجوه:
الأول: السفينة ذاتها رحمة من عند الله.
الثاني: إن نوحاً لم يصنعها إلا بأمر من الله تعالى، قال سبحانه [وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا] ( ).
الثالث: كفاية ذكر اسم الله على الفعل، وكانوا إذا أرادوا أن تجري السفينة قالوا: بسم الله مجراها، وإذا أرادوا أن تقف قالوا: بسم الله مرساها فتقف.
الرابع: مع كفاية المعنى الظاهر من اللفظ لا تصل النوبة إلى تقدير محذوف.
الخامس: جاءت خاتمة الآية حكاية عن نوح عليه السلام بالتوكيد بان الله عز وجل هو الغفور الرحيم[وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاسم اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وفيه دعوة للإسلام والإخبار بان المواظبة على ذكر اسم الله رحمة ومجلبة بالمغفرة، وسبب للنجاة من الآفات والهلكات، وموضوع للصلاح ودوام عمارة الإنسان للأرض.

قوله تعالى[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] الآية 4

القراءة والإعراب واللغة
مالك: صــفة لله مجــرور وعلامة جــره الكسرة في آخره وهو مضاف. يوم: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة في آخره وهو مضاف.
الدين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة في آخره.
وفي قراءتها وجوه:
الأول: ذكر ابن خالويه أن انس بن مالك قرأ [مَلَكَ يوم الدين] جعله فعلاً ماضياً ونصب يوم مفعولاَ به( )، وقيل هي قراءة الإمام أبي حنيفة وقرأها جبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي.
وقال ابن عطية: هذه قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقال أيضاً أنها قراءة الحسن البصري ويحيى بن يعمر.
الثاني: قرأ انس بن مالك وأبـو نوفــل عمـــرو بن مسلم البصـــري [ملك يوم الدين] بنصب الكاف من غير ألف.
الثالث: روي أن سعد بن أبي وقاص وعائشة قرءا ملكُ، برفع الكاف.
الرابع: وروي عن أبي هريرة ثلاث قراءات مالك يوم الدين على النداء المضاف، مالك يوم الدين، ملك يوم الدين على وزن سهل، وقرأها الجحدري ورواها الجعفي وعبد الوارث عن ابي عمرو وهي لغة بكر بن وائل، وإنما نزل القرآن بلغة قريش مالك يوم الدين بالرفع والإضافة، وقرأها أيضاً أبو رجاء العطاردي.
الخامس: روى الحلبي القراءة أعلاه عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
السادس: بالإسناد عن داود بن فرقد قال: “سمعت الصادق عليه السلام يقرأ ما لا أحصي [ملك يوم الدين]( )” وتصح القراءة في الصلاة على الوجهين (ملك يوم الدين) (مالك يوم الدين) والأخير هو الأولى لأنه المرسوم في المصاحف ولقاعدة زيادة المباني تفيد زيادة المعاني.
السابع: وقرأ مِلك بكســر الميم على وزن عجــل أبو عثمان والشعبي وعطية.
الثامن: وقرأ (مالك) بالنصب الأعمش وله قراءة أخرى سيرد ذكرها وابن السميقع وعثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند، وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان.
التاسع: روى ابن عاصم عن اليماني مالكاً بالنصب والتنوين.
العاشر: وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين ونصب اليوم، روي عن خلف وابن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم.
الحادي عشر: قرأ (مالك) بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني( ) وبين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي( )، والحجازيون لا يميلون إلا قليلاً، وقال أبو علي الفارسي: لم يمل احد، وعلل قوله هذا بأنه لم يطلع على هذه القراءة.
الثاني عشر: ذكر أن أبا علي الفارسي قرأ ملاك بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف.
الثالث عشر: قرأ أبو حياة شريح بن يزيد:
• مَلكُ يوم الدينِ.
• ملَكَ يوم الدين.
• ملُكَ يوم الدين بالنصب والإضافة.
الرابع عشر: قرأ ملكي بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع.
الخامس عشر: قرأ بعضهم مَلْك على وزن فلس.
السادس عشر: قرأ بعضهم مليك يوم الدين على وزن فعيل.
السابع عشر: روى عبد الوارث عن أبي عمرو: ملك يوم الدين بسكون اللام، وقال ابن منظور هذا من إختلاس ابي عمرو( ).
ان هذه الكثرة من القراءات لكلمة واحــدة من القرآن أمر لا يخلو من التأمل لغرابة وقوعها واحتمال عــدم قــراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشطر غير قليل منها، مما يلح بالوقوف عندها للدراسة والتحليل وإستنباط النتائج.
والمتواتر منها قراءة (مالك) و(ملك) إذ قرأ (مالك) كفاعل مخفوضاً عاصم والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة كثير من الصحابة منهم ابن مسعود ومعاذ وابن عباس وابي بن كعب وبعض التابعين منهم قتادة والأعمش.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ مالك يوم الدين بالألف.
وقرأ ملك يوم الدين على وزن فعل بالخفض أبو الدرداء وزيد وابن عمر والمسور وعدد من الصحابة والتابعين .
قال ابن خالويه وفي ملك لغات أحسنها ملك ومالك وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر: “إن إعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه إمرأته , فقال:

اليك اشكو ذربة من الذرب

يا مالك الملك وديّان العرب( )

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك الله”، ونقل عن الزهري مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقرؤون (مالك يوم الدين) وأول من قرأها بغير ألف مروان، وروي أيضاً عن ابن شهاب.
ومن حيث العربية ذكر بعضهم فيه أربع لغات مالك وملك وملك – بكسر اللام – ومليك، ويجوز فيها وفق الصناعة النحوية أربعة وعشرون وجهاً:
الأول: مالك يوم الدين، على الصفة.
الثاني: الرفع على إضمار مبتدأ.
الثالث: النصب على المدح.
الرابع: على النداء.
الخامس: على الحال.
السادس: على الصفة على قراءة ربَّ العالمين.
فهذه ستة أوجه، وفي كل من اللغات الأخرى مثلها.
ولكن القراءة سنة ولا تخضع لقياس العربية وما يجوز من أوجه النحو وصناعتها التي قد تتعدى الأصول الموضوعة لها في يوم ما ويدخل في معتركها رجال متخصصون ذوو إبداع وإجتهاد في ميادين اللغـة وإســتنباط قواعدهــا، الأمر الذي يضــغط بشــدة ويدعــو لضــرورة العناية ببيان القراءة التوقيفية المتواترة وإظهارها على نحو مستقل.
في سياق الآيات
بعد آية الرحمة والإخبار عن إتصاف الله تعالى بالرحمة المطلقة، وما فيها من المدح والثناء عليه سبحانه، جاءت هذه الآية لتبين إنحصار الملك والسلطنة في الآخرة به تعالى، ومجيء الإخبار عن ملكيته المطلقة بعد صفات الرحمة بيان للمواضيع المترتبة على الحاجة إلى رحمته تعالى وأنها متصلة ومستمرة في الدارين.
وفي الآية توكيد لنفي الظلم عن الله تعالى وإخبار عن الرحمة والمغفرة والعفو الإلهي في الآخرة وإنتقلت الآية التالية إلى صيغة الدعاء، ولغة النداء والتضرع والإعلان عن إقرار المسلمين بالعبودية لله تعالى، ومواظبتهم على العبادة، ومجيئها عن معرفة وتفقه في الدين، لتكون العبادة في الدنيا طريقاً إلى التنعم في ملك الله عز وجل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيتجلى بقوله تعالى [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) إلى جانب ما يترشح عن الإيمان من نزول الفضل الإلهي، ومن إعجاز سياق الآيات في القرآن إفادة الجمع بين هذه الآية والآية التالية النداء والإستغاثة في تلاوة هذه الآية بتقدير ( يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين).
كما يدل الجمع بينهما على حاجة الناس للعبادة كواقية وحرز ليوم الحساب لذا جاء التوسل بالآية بعد التالية بسؤال الهداية من الله تعالى ويفيد الجمع بين هذه الآية وآية (إهدنا الصراط المستقيم)( ) طلب الصلاح في الدنيا للنجاة في الآخرة.
إعجاز الآية
مع قلة كلمات الآية الكريمة فانها تكشف عن العالم الآخر وما يميزه بانحصار الملك بالله تعالى، ووصف يوم القيامة بانه يوم الدين حث على التقوى والعبادة.
والآية حرب على الشرك، وتدل بالدلالة التضمنية على حتمية يوم القيامة وأنه يوم الجزاء ، ومن الآيات أن يأتي الإقرار عن المسلم بانحصار الملك يوم القيامة بالله تعالى.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “مالك يوم الدين”
ومن مضامين الآية الإخبار عن الحساب في الآخرة، ونيل المحسن الثواب، والمسيء العقاب، وفيها إنذار من الظلم والشره والتعدي على الآخرين وأموالهم لأن الملك كله يرجع إلى الله تعالى في الآخرة، ولم تقل الآية مالك يوم القيامة، أو مالك اليوم الآخر بل ذكرت الآخرة باسم يوم الدين لإرادة ما فيه من الحساب والجزاء، واتصاله وتعقبه لها، وإدراك المسلمين هذه الحقيقة فبعد الإخبار عن ملك الله تعالى ليوم الجزاء والحساب جاءت الآية التالية للجوء المسلمين إليه تعالى في العبادة والإستغاثة.
ونعت يوم القيامة بأنه يوم الجزاء والحساب شاهد على عظيم قدرة الله تعالى، فهو الذي يجمع أجزاء الإنسان المتفرقة في التراب والشجر وغيره ويفصلها عن غيرها، ولا يؤثر التداخل والإستهلاك بين الأشياء في دقة الجمع فلا يحصل إشتراك أو لبس بل يعود كل إنسان الى ما كان في الدنيا من غير نقص.
ولا عبرة بما ذكر من شبهة الآكل والمأكول لأن القوة لله جميعاً وهو الذي أحاط علماَ بالموجودات والمعدومات، والقادر على الممكنات كلها وتخبر الآية عن حتمية وقوع يوم القيامة لأن اسم المالك يدل على وجود الملك، والإخبار عن ملكية الله تعالى مع تأخر أوانه وزمانه إلى ما بعد إنقضاء الحياة الدنيا دليل على انه واقع حتماً وتفيد الآية جعل يوم القيامة وما فيه من إقامة المؤمنين في النعيم الدائم، والكفار في العذاب المهين ملحقاً بالأمر الحال والواقع وذكر ملكيته لله تعالى.
الآية سلاح
الآية عز للمسلمين في الدنيا والآخرة فالقطع بان الملك والسلطان بيد الله تعالى يوم القيامة بشـارة للمؤمنين ودعوة لهم للإلتزام بالفرائض، وفي الآية تأديب لهم للإقرار بالبعث والنشور والإستعداد ليوم الحساب.
وفيها حجة على الكفار والمشركين والمنافقين، لما فيها من الإخبار عن كون الموت إنتقالاً من الدنيا إلى الآخرة وليس انعداماً على نحو السالبة الكلية الدائمة، وإن التنعم بالحياة الدنيا من رحمة الله بالناس جميعاً لقوله تعالى في الآية السابقة [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
وجاءت هذه الآية للدلالة على عدم ترك الكفار وشأنهم يعيثون في الأرض فساداً ويظلمون الناس، ويعتدون على المسلمين وثغورهم بل يمهلهم الله في الدنيا برحمته لعلهم يتوبون إليه، والآخرة موعد لوقوفهم جميعاً للحساب، قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، ومن وجوه حاجته مصاحبة هذه الآية ومضامينها له في الحياة الدنيا ليكون عالم الحساب حاضراً عنده، وهذا الحضور واقية من فعل السيئات، ودعوة ملحة لعمل الصالحات.
ومن فضل الله تعالى وجوب تلاوة المسلم والمسلمة لهذه الآية في الصلاة، لما فيها من إحضار لمضامين ودلالات الآية في الذهن، ومنه النطق بها باللسان جهراً في صلاة الصبح والمغرب والعشاء عدة مرات في اليوم.
مفهوم الآية
لا تنحصر آيات الله تعالى وظواهر آثاره بالحياة الدنيا بل تشمل الدار الآخرة وفيها تزول الغشاوة عن الأبصار وينكشف الغطاء وتتجلى أنوار الربوبية.
ومن مفاهيم الآية أن المنتهــى إلى الله تعالى، وكـل ملك زائل إلا ملكه تعالى الذي يقترن بالقدرة والإستيلاء على كل شيء بالتدبير والحكمة والرحمة.
وتبين الآية موضوعية الإعتقاد والديانة يوم القيامة وان المدار في الجزاء على الدين وهذه الحقيقة التكوينية حث واقعي متجدد على دخول الإسلام، وتنبيه على إنتفاء الإنتفاع يومئذ إلا من الدين والعقيدة الواجبة على نحو الحصر والتعيين وهـو الإسلام ، ولذا ترى الأعمال لا تقبل إلا بالنية كما يشـترط في العبادات إتيانها بقصد القربة إلى الله.
والآية تذكير دائم بسفر الآخرة وتثبيت لقوانينه وحقائقه التي تفيض على الإنسان في الدنيا الصلاح والتقوى، ومنها الملكية الكاملة لله تعالى يومئذ، وفيها دعوة للحرص على الجسد والروح بالإستعداد لليوم الآخر، والنجاة مما في عالم البرزخ والنشور من الأهوال وشدة الحساب.
وتقسم الآية في مفهومها الملك إلى قسمين:
الأول: الملك في الدنيا.
الثاني: الملك في الآخرة، وتؤكد الآية على قانون من عالم والخلق الإرادة التكوينية وهو عدم وجود مالك غير الله في الآخرة، وفيه حث على قطع الرجاء والأمل إلا بالله عز وجل، والإلتجاء إليه، والإستجارة به تعالى لأمور الدين والدنيا.
ومن مفاهيم الآية طرد الوهم بعدم وجود عالم آخر بعد الدنيا كما ورد على لسان الكفار في التنزيل[إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ] ( )، والأحوال الزمانية الطولية ثلاثة وهي الماضي والحاضر والمستقبل , وبالنسبة للإنسان فان ماضيه على قسمين:
الأول: انه كان معدوماً، ولم يك شيئاً فأخرجه الله تعالى من نطفة وخلقه فسواه.
الثاني: أيام الرضاعة والصبا والأيام الماضية من عمره.
وأما الحاضر فهو الأوان والوقت الذي هو فيه، وأما المستقبل فهو على قسمين:
الأول: ما تبقى من أيامه في الحياة الدنيا ولحين مفارقة الروح الجسد.
الثاني: عالم الآخرة، الذي يتضمن الدوام والبقاء والخلود.
وجاءت هذه الآية بذكر القسم الثاني من زمان المستقبل، وهو أطولها واكبرها وأهمها للإنسان، إذ أن عدمه انقطع بخلقه، والماضي بالحاضر ، وينقطع الحاضر بالموت ، أما عالم الآخرة فانه لاينقطع ابداً، ومن الآيات تعلق احوال الإنسان في الآخرة بالحياة الدنيا.
ومن رحمة الله تعالى ورود هذه الآية وما فيها من الدعوة للإستعداد لليوم الأخر، وتطرد الآية الخوف والفزع عن نفوس المسلمين من الآخرة وما فيها من الحساب، وقد يدخل الخوف أو الحزن قلوب جماعة منهم بسبب ما يأتيهم من الظلم والتعدي في الدنيا، فتأتي هذه الآية لتبــعث الصــبر وتلقي السكينة في نفوسهم، وتذكرهم بما أعد الله عز وجل لهم من النعيم الدائم، وما يناله عدوهم الذي ظلمهم من العذاب المهين.
وفي الآية مسائل:
الأولى: وجود الملك في الدنيا والآخرة، وإنحصاره في الآخرة بالله تعالى.
الثانية: قد يملك الإنسان في الدنيا الأموال والأعيان , أما في الآخرة فيغادره ملكه ليكون بعرض واحد معه في ملكية الله تعالى لهما وللخلائق، فلا يستطيع التصرف في ملكه في الدنيا ويحضر للشهادة عليه كما تشهد عليه جوارحه.
الثالثة: ملكية الزمن مطلقاً لله تعالى، فالآخرة كلها ملك له سبحانه، ومن وجوه الملك فيها الحساب والجزاء.
الرابعة: موضوعية الحساب والجزاء في عالم الآخرة، بحيث سمى الله تعالى الآخرة يوم الدين، ويوم الجزاء والحساب، بإعتبار أن خلود المؤمن في النعيم، والكافر في الجحيم من مصاديق الجزاء.
الخامسة: دعوة الناس إلى نبذ وإجتناب الشرك ومفاهيم الضلالة.
ومن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أمور:
الأول: الإقرار باليوم الآخر والمعاد.
الثاني: أن الآخرة دار حساب وجزاء، فينال المحسن الثواب، والمسيء العقاب.
الثالث: التسليم بان الملك في الآخرة لله تعالى، وليس من مالك غيره سبحانه.
الرابع: حاجة الإنسان في الدنيا والآخرة إلى الإقرار بالوجوه الثلاثة أعلاه، بمعنى أن يقر ويعترف بها في الدنيا، فيأتيه النفع العاجل ويكتب له الثواب في الآخرة، وقد فاز المسلمون بهذه النعمة، وتعاهدها.
إفاضات الآية
كما أنعم الله عز وجل على الأنبياء بالإصطفاء بالرسالة، فانه سبحانه تفضل على المسلمين واصطفاهم للتوجه إليه بالدعاء والمسألة وإظهار معاني العبودية المحضة لله تعالى، والإقرار بملكه المطلق في الدنيا والآخرة، وتتجلي هذه الحقيقة بوضوح في عالم الآخرة لأن الناس جميعاً يقفون للحساب ولا يملكون إلا الأعمال التي صاحبتهم من الدنيا.
ومع أن أحوال الآخرة من عالم الغيب فإن الآية تجعلها من المحسوسات والأمور القريبة من النفس ليتدبر الإنسان في مضامينها ويستحضر يوم الحساب، ويترشح عن هذا الإستحضار إدراك حقيقة وهي لزوم الإستعداد له.
وتدعو الآية المسلمين للتضرع والخشوع لله تعالى وسؤال الأمن والأمان يوم القيامة، والإحتراز له بإكتناز الصالحات.
وتطرد الآية عن النفس الإنسانية حب الدنيا والإنقطاع إليها، واللهث وراء زينتها وزخرفها لما فيها من البيان والكشف عن حقيقة رجوع الملك كله لله تعالى، ويبعث الإقرار بهذه الحقيقة الضياء في النفس، ويزيل عنها غشاوة الهوى وحب الدنيا، ويجعل الإنسان يسعى إلى عالم الآخرة بشوق ورغبة، ويحرص على الإقرار بالعبودية لله تعالى.
وتدعو الآية إلى التحلي بالصبر وإجتناب المعاصي والظلم والتعدي بغير حق على أموال وحقوق الآخرين، لأن الملك يعود لله تعالى إبتداء وإستدامة وعاقبة، ولا يبقى من حطام الدنيا إلا الحساب عليه كما تدعو الآية إلى المبادرة إلى فعل الصالحات والتعاون في أعمال البر والإحسان رجاء الثواب.
ويدل توكيد الآية على ملكية الله تعالى لعالم الآخرة على ملكيته للحياة أيضاً، ولكنه تعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة، ودار إختبار وإمتحان، أما الآخرة فدار الحساب والجزاء.
الآية لطف
كما يتضمن القرآن أحكام الحلال والحرام وبيان التكاليف والفرائض، فانه يتضمن الإخبار عن عالم الآخرة وما فيه من الأهوال، وجاءت هذه الآية لبيان حقيقة وهي عائدية كل شيء في الآخرة لله تعالى، فليس من شريعة، وليس من مالك مجازي أو حقيقي غير الله تعالى، بل الملك المطلق كله لله تعالى، ويعجز الإنسان عن التصرف فيه يوم القيامة، وهذا البيان لطف إضافي وعون للمسلم على التقيد بأحكام الحلال والحرام والتفقه في الدين، وعدم اللهث وراء الدنيا وزينتها، لأن الملك يعود لله، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ] ( )، وفيها حث للتطلع إلى رحمة الله في النشأتين لذا جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
والآية حجة على الكفار، وسلاح بيد المسلمين في الجدال والإحتجاج لما فيها من توكيد وجود حياة أخرى بعد الدنيا، وتتصف هذه الحياة بأمور منها ما بينته هذه الآية وهو ملك الله تعالى لكل شئ في الآخرة، وأنها دار الحساب والجزاء، فلا يستطيع الإنسان يومئذ الهرب من الحساب، ولا يقبل منه فداء أو عوض، ومن شاء التدارك فليتجه صوب التوبة، ويرتدي رداء الإيمان، ويدخل في ملك الله تعالى من غير خوف من العقاب، أو حزن على ما فاته.
الصلة بين أول وآخر الآية
لقد جاءت الآية في موضوع واحد خاص بعالم الآخرة، فبعد أن أخبرت الآية السابقة بأنه تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وبيان رحمته تعالى المطلقة جاءت هذه الآية لتخبر عن ملكه المطلق لعالم الآخرة ليجتمع أمران يوم القيامة، وهما إنحصار الملك المطلق بالله تعالى، وهو الرحمن الرحيم.
فبعد الإخبار عن ربوبيته وملكه تعالى للخلائق جميعا بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]، جاءت هذه الآية لتبعث السكينة في نفوس المسلمين والناس جميعاً بخصوص مواطن يوم القيامة، وتذهب الفزع عن نفوسهم من أهوالها وظلماتها لأنها لا تخرج عن مضامين الرحمة الإلهية، ولم تقل الآية بأنه تعالى[مالك يوم القيامة] بل جاء نعت اليوم بأنه يوم الدين في إشارة إلى موضوعية العبادة والتقوى في الدنيا بموازين يوم القيامة ونيل أسباب الرحمة فيه.

من غايات الآية
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التفقه في الدين، وأمور الدنيا والآخرة، ومعرفة حقيقة الخلق وان الدنيا دار عبور إلى الآخرة، وأراد للناس التدبر والتبصر في ماهية المال والملك وما يصير إليه وانه يعود هو والناس إلى ملك الله تعالى.
فالدنيا عالم الإختيار والإختبار، أما الآخرة فهي عالم عودة المال ومالكه، والدار ومن ينالها والراحلة ومن ركبها إلى ملك الله تعالى، ومن الآيات أن تأتي تسمية يوم القيامة في المقام بأنه اسم الجزاء والحساب والحكم على الإختيار الشخصي والنوعي للجماعة والأمة، لتكون هذه التسمية درساً وموعظة وبشارة وإنذاراً وإخباراً بان ما يقتنيه الإنسان في حياته مادة وموضوع للحساب يوم القيامة، فإذا كان الإقتناء بالطرق الشرعية وان العبد يقوم بإخراج حقوقه وأداء الشكر القولي والفعلي على نعمة المال فإنه يقوده إلى الجنة، وأما إذا كان جمعه بالباطل، أو أنه جعله وسيلة للهو والفجور ، ومقدمة للمعصية فانه يسوق صاحبه إلى النار.
ومع أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية، وتبين معالم الآخرة فان وظائفها في الدنيا أكثر من أن تحصى وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة لها عدة مرات في كل يوم.
ومن إعجاز القرآن مجيء الآية بكلمات قليلة وبخصوص عالم الآخرة، لتبعث المسلمين أمة وأفراداً إلى فعل الصالحات والسعي في مرضاة الله، والجهاد بالأموال والأنفس في سبيله تعالى، وتجعلهم يرون منازلهم في الجنة والنعيم الدائم وهم في الدنيا.
وهذه الآية حرب على الشرك، ومانع من إستحواذه على النفوس، ودعوة إلى الناس جميعاً للإقرار باليوم الآخر والتفقه في أحكامه ومعرفة منازله ومواطنه كما بينه القرآن والسنة، وهي ثمرة من ثمار بشارة الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على حاجة الأمم إلى هذه البشارة وتوارثها لما في التصديق بمضامين هذه الآية من أسباب الهداية والصلاح، وترشح النفع العظيم من إخبارها بملكية الله تعالى لكل شيء في الآخرة.
التفسير
ما وضع من السنن والأخبار والتوثيق في أحكام القراءات والتعدد الذي لم يزاحم أو يضر الدقة والإتقان فيها أمر يدعو إلى التفاؤل ويبعث على الإطمئنان، ويمكن إعتماده لترســيخ أســس القراءة الصحيحة والسليمة للآية الكريمة بإعتبارها منهاجــاً وســبيلاً آمناً لنيل مرضاة الله ومنع تضييع أي مقدار من الأفعال العبادية سواء الواجبة منها أو المندوبة، فان القراءة في الصلاة مثلاً تبطل عند الإخــلال المتعمد بكلمة أو بحــرف منها لذا ورد البيان بجــواز قــراءة مالك يوم الدين، وملك يوم الدين.
ومع ما في القراءة من الدقة والضبط فان مفهومها يدل على الإلتزام بقراءة كلمات القرآن على نحو الإتحاد وعدم التعدي إلى التعدد إلا مع البينة والحجة، وبذا تظهر آيات من هذا التعدد في القراءة ومناسبته وموضوعه، أي أن التعدد ظهر في سورة الفاتحة التي تتكرر قراءتها كل يوم ليكون هذا الدرس وقواعد جواز التعدد في القراءة مع الدليل، وان الأصل فيها الإتحاد الذي يكون راسخاً ومعروفاً عند عامة المسلمين كواقية وحرز ونبراس.
والملك مشتق من الملك، أما المالك فهو مأخوذ من الملك – بكسر الميم – يقال ملكه يملكه ملكاً وملكاً بكسر الميم وملكاً: إحتواه إستيلاء، وقدر عليه إستبداداً.
والملك هو القادر الذي له السياسة والتدبير والسلطان في حدود مملكته، وقيل أن الملك هو الذي يملك الكثير من الأشياء والممتلكات ويشارك غيره من الناس في ملكهم.
والمالك: القادر على التصرف في ماله ولا يجوز لغيره منعه، وكل من يملك يحسب مالكاً بتقريب وتأويل الفعل كما يقال: مالك الدار ومالك المال، والله عز وجل يملك إقامة يوم الدين.
وقيل كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً، ولكن هذا القول لا يصلح أن يكون قاعدة عامة فقد يقال ملكاً بعنوان الرياسة وهو لا يملك ويبدو سلطان المالك أكثر قهراً منه في الملكية، إذ يمكن للرعية الإنفلات من سلطان الملك أو الفرار منه ، والخروج من دائرة سطوته ولكن الناس جميعاً لا يستطيعون الفرار في الآخرة، مما يعني سقوط هذا المبحث والمقارنة في المقام، لأن الملك والمالكية لله تعالى يوم القيامة، نعم هو نافع كمبحث كلامي لبيان عظيم سلطانه تعالى يومئذ هذا بالإضافة إلى أن مقام ملكية العبودية لله أعظم شأناً في الآخــرة، وأكثر مناســبة من منصـب الملك في الرعية.
واليوم على وجوه :
الأولى : اليوم عند الفلكيين الزمان المحصور بين طلوع الشمس وغروبها.
الثانية : لا يختص بالنهار دون الليل كما ترى أهل هذا الزمان يطلقونه على مجموع الليل والنهار.
الثالثة : قد يراد باليوم مطلق الوقت.:
الرابعة : في الإصطلاح الشرعي هو مقدار من الزمان معروف يمتد بين الفجر الثاني إلى غروب الشمس وبه تتعلق أحكام الصيام( ).
الخامسة : يوم العمل، أي الذي يعمل فيه الأجير سواء من ارتفاع الشمس إلى ما قبل الغروب بقليل كما كان متعارفاً او بحسب الشرط والاتفاق والتراضي وحصره في عدد معين من الساعات.
ويوم الدين هو يــوم القيامــة وســاعة الجزاء ومواقــف الحساب ، قال تعالى[الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( )، ويمكن إعتبار علة وصف يوم القيامة بأنه يوم الدين لأن المحور الأساسي فيه الدين، وعليه يكون الجزاء وبه تنال المنازل الكريمة في دار الخلود، والدين وضع إلهي يشمل الأصول والفروع لجعل الناس في أحسن نظام وأكمل حال ينقاد له ذوو العقول باختيارهم.
وعن الإمام محمد بن علي عليه السلام وابن عباس وابن مسعود: “الدين- الحساب”، وعن ســعيد بن جبيــر وقتادة: “الدين مــعـناه في الآية: الجزاء”، انه يوم يدين الله العباد بأعمالهم كما في الحديث القدسي: “ابن آدم كن كيف شئت كما تدين تُدان” أي كما تجازي تجزى بما فعلت.
وذكر في الأصل فيه “إن امرأة في أيام نبي الله داود عليه السلام كانت تتعرض لإستكراه على نفسها من قبل رجل، فألقى الله في قلبها فقالت:لا تأتيني مرة إلا وعند أهلك من يأتيهم، فذهب الرجل إلى بيته فوجد رجــلاً عند أهــله , فجاء به إلى داود عليه الســلام، فقال يا نبي الله: أتى إليّ ما لم يؤت إلى أحد , فقال: وما ذاك , فقال: وجدت هذا الرجل عند أهلي، فأوحى الله إلى داود عليه السلام قل له: كما تدين تُدان”.
والمراد من يوم الدين أعم منه لأن شطراً من الناس لا خوف عليهم يوم القيامة ولا إدانة، أي أنه يوم الجزاء بالخير .
وعن ابن عباس يوم الدين قال: “يوم حساب الخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم أن خيراً فخير، وان شراً فشر، إلا من عفا عنه فالأمر أمره”.
وفي سورة الفاتحة خمسة من أسماء الله عز وجل وهي: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، المالك، مع أن مجموع كلماتها تبلغ تسعاً وعشرين كلمة ومنها كلمات البسملة الأربعة التي هي كنز سماوي يصاحب ويتصدر كل سورة .
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال في الفاتحة: أولها تحميد وأوسطها إخلاص وآخرها دعاء.
بعد أن إبتدأت السورة بالتسمية والحمد والثناء على الله تعالى بعنوان الربوبية وبيان سعة رحمته ومدى شمولها بما يبعث في النفس الإنسانية الإطمئنان والسكينة في ميادين الحياة الدنيا ضمن إطار الإيمان وأنماط ومسار الهداية، جاءت الآية الكريمة لبيان أحوال يوم القيامة ومسائل المعاد والحساب والميزان وخلق حالة الإستعداد عند المسلم لأهوال ذلك اليوم بالتزام العبادة وفعل الطاعات ليحرز الأمن من فزع الآخرة، وتأكيد الإرتباط الشرطي بين الاعتقاد وما يترشح عنه من أفعال، وبين الحساب، والعروج إلى الجنة، والصلة بين الدار الدنيا والآخرة باعتبار الأولى سبيلاً إلى الآخرة، فان الدنيا دار عمل بغير حساب، والآخرة دار حساب بغير عمل.
فالآية تذكير بالحساب وتنبيه إلى وجوب السعي الجاد للنجاة ودفع البلاء والحرج من ساعته والتعلق بإنتظاره والشوق إليه لما فيه من حسن الجزاء وثواب الصالحات المكتنزة في الحياة الدنيا، والآية حث على رجاء لطف الله والتطلع بشوق إلى عفوه تعالى فبعد الخلق والربوبية والرحمة تأتي مرحلة إيصال الجزاء إلى العبد في غياب تام لما عبد وأطاع المشركون من دون الله.
وقد يقال بإن إعتبار الملكية للشيء لا تكون إلا إذا كان موجوداً، ويوم الدين غير موجود الآن، ولكن الآية جاءت لتحقيق وتوكيد قيامه لتستعد العقول لوجوده حقيقة حتمية، وفي هذا الإخبار بلاغ ونعمة على أهل الإسلام بإطلاعهم على الأحوال التي يتعرض لها الناس وجميع الخلائق في عالم ما بعد الموت.
وبالنظر من خلال تأويل وتفسير قراءة مالك يوم الدين تكون الآية بياناً وإخباراً على أن الملك آنذاك خالص لله عز وجل دون الخلائق كافة، فليس لأحد أية ملكية صغيرة أو كبيرة، دائمة أو مؤقتة، أو إعتبارية أو مجازية أو غيرها، حيث تغيب هناك عروش ملوك الأرض وينفرد الباري عز وجل بالسلطان والعظمة والجبروت لا ينازعه الملك أحد.
والآية تذكير للناس وتنبيهاً لهم بحقيقة وواقــع يوم القيامة وحثـاً لهم على الإســتعداد بالإقبــال على طــاعة الله وإدخــار الصالحات وفعل الطاعات التي ترضي الباري عز وجل يوم الجزاء، قال تعالى [ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ]( ).
والأخبار عن إطلاق ملك الله تعالى ليوم الدين وما فيه من الرحمة بشارة ونعمة عظيمة على المسلمين، وهو نوع إنذار ووعيد وتخويف للكافرين، فهذه الملكية لا تكون عليقية لأنها حتمية، ولا تكون حينئذ مستحدثة بل هي ثابتة منذ الأزل، ويمكن الإستدلال به على أن الجنة والنار مخلوقتان.
وعلى تأويل قراءة (مالك يوم الدين) تكون الآية إخباراً وبياناً وتوكيداً بان الله عز وجل هو الذي يملك الحكم بين الخلائق، ويفصل بينهم، ويقضي بما يشاء ضمن سلطان عرشه وملكيته المطلقة يوم القيامة، عن الضحاك عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] يقول: لا يملك في ذلك اليوم معه حكماً لملكهم في الدنيا، ثم قال: [لاَ يَتَكَلمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا]( ) وقال: [وخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ]( ).
وقيل أن لفظ ملك أعم من مالك لأن ما يقع في حياطة الملك من الموجودات أكثر شــمولاً وســعة وأهــمية مما يقــع في حياطة المالك بعنوان التملك مجــرداً، هذا بالإضافة إلى أن الملك أكــثر قـــدرة على فعل ما يشــاء من الفعل والتصــرف والتدبير وأقوى إسـتيلاء على ما تحت يده.
وربما كان هذا القول بالنسبة للمخلوقين في الوصف مع أن وصف الملك فيه من العظمة والسلطان، ولكن الوصف بالمالك أعم من الوصف بالملك، وهناك من قال بأنه لا فرق بين المالك والملك كصفتين لله عز وجل، وإن الملك والمالك سواء، ولكن الفرق في المعنى والدلالة والتعريف الخاص لكل صفة منهما، وقيل أن حاجتنا للمالك أكثر لما له من الرأفة وما عنده من الرحمة والملك له هيبة وسياسة.
والحق أن حاجتنا لكل من الصفتين دائمة وهما بعرض واحد من جهة الضرورة لنا لعدم إمكان انفكاك كل منا عن الفقر والفاقة إلى ملكه تعالى، وهذا التعدد والعموم والخصوص من وجه بين آثار ومنافع الصفتين فضل عظيم منه تعالى.
روى الزهري أن الإمام علي بن الحسين عليه السلام “كان إذا قرأ (مالك يوم الدين) يكررها ويكاد أن يموت”( ) فزعاً من أهوال يوم الحساب وشدته، وإستحضاراً للحشر وما يعانيه الناس في منازله.
والخشية مركبة ولا تنحصر باستحضار يوم الحساب فالآية تهدي الإنسان إلى معرفة ربه بالتدبر في عظيم سلطانه وتجلي آيات ملكه يوم القيامة على نحو الحقيقة وفيها إشارات جذب وشوق إلى لقاء المحبوب وإنكشاف زيف زخرف الدنيا.
ولا بأس بالنظر في أسباب النزول وواقع المجتمعات آنذاك عند تناول الآية بالتفسير والتأويل، فمن الناس من كان يؤمن بوجود الله عز وجل خالقاً وإلهاً ولكنه ينكر وجود يوم للجزاء يحاسب فيه أهل الأرض بعد بعثهم و منهم من لا يكترث لهذا الأمر، ويمكن تلمس هذا الواقع في كل زمان لذا جاءت الآية موثقاً سماوياً لتوكيد هذه الحقيقة وضرورة إعتناء الناس بها والتهيؤ لها.
وجاءت الكــتب التي نزلت قبل القــرآن مبشــرة بيــوم القيامة ومخبرة عن حقيقة حــدوثه فمثلاً ورد في سفر إشعيا 3: 9-13 “هو ذا يوم الرب قادم بسخط وحمو وغضب ليجعل الأرض خراباً ويبيد منها خطاتها فان نجــوم الســماوات وجبابرتهــا لا تبرز نورها، تظلم الشمس عنــد طلوعهــا، والقمر لا يلمع بضــوئه وأعاقــب المسكونة على شرها، والمنافقين على إثمهم، لذلك أزلزل السماوات وتتزعزع الأرض من مكانها في سخط رب الجنود، وفي يوم حمو غضبه”.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تدل الآية بالدلالة التضمنية على الإخبار عن يوم القيامة وحتمية حدوثه وان مدار الثواب والعقاب يكــون يومــئذ على الدين والإنتماء العقائدي.
الثانية: فيها إشارة إلى النقص وعدم الدوام في ملك الدنيا وما يقتنيه الإنسان فيها.
الثالثة: في الآية بيان لأهــم حيثيات يــوم القيامة وهو ملكيته وعائديته لله، وهو الحاكم والسلطان فيه، إذ يتجلى فيه المائز بين واجب الوجود وبين الممكنات فليس فيه إلا مالك ومملوك، ولا واسطة بينهما.
الرابعة: الآية بشارة للمؤمنين وإخبار عن نشر رحمة الله يومئذ لأن من مالكيته تعالى رأفته ورحمته بعبيده.
الخامسة: جواز القراءة ب (ملك، مالك يوم الدين) حكم لا ينحصــر موضــوعه بأحكــام القــراءة والتــلاوة بل يتعــداه إلى ما فيها من الإشـــارات الملكوتية والنظــر إليها بالمعنـى الأعــم , ليكون أكثر نفعاً وجامــعاً لعــنوان القــدرة والرأفــة والسلطان وعدم الحاجة.
السادسة : مما تسالم عليه العقلاء وضبط في أحكام المعاملات أن الملكية لا تصدق إلا مع وجود العين المملوكة، فالإخبار عن ملك الله ليوم الدين مع عدم تحققه وحلول أوانه وعــد ووعيد وتوكــيد وتعليق لأمر حتمي.
وهل هو من المجاز كما في مبحث المشتق وإطلاق الملكية على ذات لم تتلبس بعد بالمبدأ كما تقول للذي يريــد أن يشــتري الــدار في الغد انه مالك، او الذي ينوي السفر غداً بأنه مسافر لأن زمان النسبة الآن وزمان التلبس هو الغد والإجماع على أنه من المجاز، ولكن ملكيته تعالى ليوم الدين حقيقة وليست مجازاً لإجتماع شرائطها في الزمن الحاضــر ولا يمنــع منه عدم حصول يوم الدين بعد ما دام حتمي الوقوع.
السابعة : في الآية قطع للأمل والرجاء من غير الله، فلا نافــع يومئذ إلا هو، وهذا القـول لا يتعارض مع الشــفاعة إذ أنها لا تكــون يومئذ إلا بأذن منه، وتنبسط ملكيته يومئذ على الأشخاص فلا يتكلم العبد الا ان يرضى ويأذن سبحانه، قال تعالى[لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ]( ).
الثامنة: ان دخول المؤمــن الجنة بفضــل واحسان من الله تعالى لأنه المالك المطلق فليس لأحد قصر ومنزل في الجنة لا على نحو الإستحقاق المتقدم ولا على نحو الجزاء المتأخر، وتلك المنازل والقصور وان كانت مخصصة لأهل الجنة فانما هي فضل ولطف واحسان من الله تعالى، يتعلق به رجاء الشهداء والصالحين عسى أن تكون من نصيبهم.
عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة ، فلقي العدوّ فسمعته يقول : يا { مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين } قال : فلقد رأيت الرجال تصرع ، تضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها( ).
لبيان إتخاذ آيات سورة الفاتحة موضوعاً للإستغاثة ومادة للنصر والغلبة على الأعداء.
قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نسْتَعِينُ] الآية 5
الإعراب واللغة
إياك: إيا ضــمير منفصــل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم والكاف للخطاب زيدت للبيان لا محل لها من الإعراب كالتاء في أنت، وقال بعض النحويين الكاف في موضع خفض واحتجوا بما حكاه العــرب: “إذا بلغ الرجل سـتين سنة فإياه وإيا الشــواب”( )، والشواب البنات.
نعبد: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، وإياك: الواو حرف عطف جملة على جملة، وإياك معطوف على الأول أي في محل نصب مفعول به مقدم.
نستعين: فعل مضارع مرفوع، والأصل فيه نستعون على وزن نستفعل ونقلت الكسرة إلى العين لإستثقالها تحت الواو فانقلبت الواو ياء بسبب انكسار ما قبلها، والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن.
وقرأ وإياك بقلب الهمزة واواً، وهناك قراءات في المقام يمكن إعتبارهـــا من الشــواذ، فقد قــرأ الفضــل بن عيــسى الرقاشي أيــاك بفتح الهمزة، وقرأ بعضهم هياك بقلبها هاء، وقرأ عمر بن فائد إياك مخففاً.
وقرأ الأعمش نستعين بكسر النون الأولى وهي لغة بني تميم فأنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم يضم ما بعدها، وقيل هي لغة بني أسد وقيس وربيعة، وقراءة أهل البيت والجمهور إياك بالكسر والتشديد.
والعبودية أصلها الخضوع والتذلل ولا يقال عبد يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله، ويقال للمسلمين عباد الله لأنهم أخلصــوا في التوحــيد ووجــوه الطاعة والتعبد والتنسك، ويقال: هذا طـريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة السير والوطء.
والإستعانة: طلب العون والمدد والمساعدة، والعون: الظهير على الأمر.
في سياق الآيات
بعد الإخبار الإلهي عن ملكيته لعالم الآخرة والحساب جاءت هذه الآية لإعلان الإخلاص في العبادة وهي ضرورة من ضروريات الحياة الدنيا واللجوء إليه تعالى.
ولما جاءت الآية السابقة بالإخبار عن الملك والقدرة المطلقة وصفات الكمال والجلال لله تعالى، جاءت هذه الآية بالخشوع والخضوع له سبحانه.
وفي الجمع بين الآيتين أمور:
الأول: إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية.
الثاني: إنقطاع المسلمين إلى العبادة.
الثالث: التفقه في الدين وجعل موضوعية لعالم الحساب في ميادين العمل.
الرابع: الإقرار بالعبودية لله تعالى .
الخامس: أداء العبادة بشوق ورغبة ورجاء الثواب في الآخرة.
السادس: الحرص على أداء الفرائض والمناسك في أوقاتها وعدم الإنشغال عنها بالدنيا وزينتها.
السابع: توكيد ملكية الله للحياة الدنيا أيضاً، ويقبل فيها المسلم على العبادة وإكتناز الحسنات لرجحان كفة الصالحات في ميزان الآخرة.
وتفيد الصلة بين هذه الآية وآية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( )، أموراً هي:
الأول: إن الله عز وجل أهل للعبادة، ولا تصح عبادة الإنسان إلا لله تعالى.
الثاني: من رحمة الله تعالى بالعباد هدايتهم لعبادته.
الثالث: فوز المسلمين بنعمة عبادتهم لله، ونيل الرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة.
الرابع: من رحمة الله تعالى أن جعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بقيامهم بعبادة الله، ودعوتهم الناس للإيمان.
الخامس: عدم ذهاب العبادة وأعمال التقوى سدى.
السادس: أن الله عز وجل يجزي على العبادة القليلة بالثواب الجزيل والخلود في النعيم وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله الرحمن الرحيم.
السابع: الإخبار بان الإستعانة بالله تعالى مقدمة لقضاء حوائج الدنيا والآخرة، لأنه تعالى هو الرحمن الرحيم.
الثامن: جاء ذكر الإستعانة في الآية وفيها أطراف:
الأول: المستعين.
الثاني: المستعان به.
الثالث: موضوع الإستعانة.
وقد ذكرت الآية الطرف الأول بصيغة الجمع، فكل المسلمين يستعينون بالله، كما يستعين المسلم الواحد بالله لقضاء حوائج الجماعة وهو من أسرار صيغة الجمع في الآية الكريمة وتلاوتها في الصلاة سواء بقصد القرآنية أو الدعاء، أو هما معاً.
ولم تذكر الآية موضوع الإستعانة ، والأصل هو الإطلاق وشمولها لأمور الحياة الدنيا والآخرة، وتدل عليه الآية السابقة وما فيها من الإخبار عن ملك الله تعالى ليوم الدين والجزاء وليس من حصر لموضوع الإستعانة لأن الله تعالى هو الرحمن الرحيم الذي بيده الخير وهو على كل شي قدير.
وجاءت الآية التالية لتوكيد موضوعية الهداية في موضوع الإستعانة، فلأن الملك كله يوم القيامة لله تعالى فإن المسلمين يسألون الله عز وجل الهداية إلى سواء السبيل، والتوفيق لأداء الفرائض واجتناب المعاصي، لقد جاء أول الآية بتعريف المسلمين والناس جميعاً بمقام الربوبية لتأتي العبادة عن خشوع وخضوع، وجاءت معها الإستعانة التي تفيد التسليم والإنقياد لأمر الله وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة , وفي التنزيل[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
إعجاز الآية
تظهر في الآية لغة القطع بتوجه العبادة إلى الله تعالى الذي بيده مقاليد الأمور، والآية شاملة لأفعال الإنسان وتعيين إجمالي لها، لأن الإستعانة سور جامع لحاجات الدنيا والآخرة.
ومن الآيات إقتران الإستعانة بالله تعالى بعبادته سبحانه، وفيه بيان لموضوعية الإستعانة في مفاهيم العبودية .
لقد جاءت الآية بأمرين وهما عبادة الله تعالى والإستعانة به بصيغة الحصر فلا عبادة لغيره ولا إستعانة إلا به سبحانه وفيه بيان لخصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وإخلاصها في ميادين التوحيد التي لا تقف عند العبادة بل تشمل الإستعانة والرجاء والتوسل لبلوغ الغايات ، و شاهد على إقرار المسلمين بان الله عز وجل قادر على كل شيء وان ملكه يشمل الحياة الدنيا والآخرة وأنه سبحانه هو السميع البصير .
ومن إعجاز القرآن بيان السورة للصفات الحسنى لله تعالى وتوكيد ربوبيته المطلقة ثم مجيء آية العبادة والإستعانة به تعالى للإخبار عن بلوغ المسلمين مراتب التفقه في الدين، وثقتهم بنيل ما يسعون إليه برحمة الله، وأنهم لا يستطيعون التوفيق في أداء العبادات والمواظبة عليها إلا بعون ومدد من الله تعالى فجاءت الإستعانة مصاحبة وملازمة للعبادة.
ومن إعجاز الآية أنها تتضمن الإخبار عن مواظبة المسلمين على عبادة الله إلى يوم القيامة وعدم لجوئهم إلى غيره سبحانه، وتدل على خلو القرآن ومبادئ الإسلام من التحريف والتغيير، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي)( ) لتبقى صلاة المتأخر من المسلمين كالمتقدم في موافقتها لصلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا بالنسبة للفرائض الأخرى من الصيام والزكاة والحج.
ويمكن أن نسمي الآية آية “إياك نعبد” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.

مفهوم الآية
من مفاهيم الآيــة امتلاء النفس بالغبطة والسعادة بتوجهها لعبادة الله تعالى دون غيره بإعتبار أن هذه العبادة أحســن إختيار يقدم عليه الإنسان في حياته لما يعنيه من مضامين السلامة من الشرور والكدورات الظلمانية ولأنها أفضل أنواع المعرفة وتجسيد عملي لها بالجوارح والأركان.
وفيها توكيد لشرف منازل العبودية , وإظهار التســليم لحال الفقر والذل الملازم له كممكن ومخلوق ضعيف لا يفارقه الإحتياج , ويدل تأخر الإستعانة على العبادة على الفنــاء في ذات الله ولزوم تقــديم الحاجة اليه والشكر والثناء عليه وأداء الفرائــض والنوافل مــقدمـة لقضاء الحوائج، وفي الحديث القدسي:وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه( ).
ومن مفاهيم الآية تأديب المســلمين وردعـهم عن الإستعانة بغير الله في قضاء الحوائج من غير أن يتعارض هذا الردع مع اتخاذ الأسباب والوسائط لإنجازها ومنها تنمية ملكة التوكل على الله عندهم على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي وتبعث الآية القوة والمنعة لدى المسلمين،
وتتضمن الآية في مفهومها مسائل:
الأولى: إعلان المسلمين جميعاً إنقطاعهم الى عبادة الله.
الثانية: إنتفاء الشرك الظاهر والخفي عند كل مسلم ومسلمة.
الثالثة: حصر العبادة بالله تعالى.
الرابعة: وحدة المسلمين في أسمى مسألة وهي العبادة، فحينما جاء قانون الإعتصام بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ] ( )، جاءت هذه الآية لتخبر عن تمسك المسلمين جميعاً بحبل الله بقيامهم بالعبادة.
الخامسة: الإقرار بان القدرة والتدبير المطلق لله تعالى، والإعلان عن الإستعانة به تعالى في أمور الدين والدنيا، وتدل الإستعانة بالله في مفهومها على إنحصار النفع به سبحانه وهو وحده النافع الضار .
وجاء ذكر الإستعانة مطلقاً في موضوعها من غير تعيين له، وفيه وجوه:
الأول: انه خاص بالعبادة، فان قيل ان الإستعانة تأتي قبل الفعل، وجاءت هنا بعد الإخبار عن عبادة المسلمين لله ففيه وجوه:
الأول: جاءت الآية لسؤال الله عزوجل الإعانة في المواظبة على العبادة واداء الفرائض.
الثاني: في الآية سؤال للإنقطاع الى العبادة وعدم انشغال القلب اثناء الصلاة إلا بذكر الله.
الثالث: سؤال إطالة العمر والسلامة من الأمراض والآفات للتوفيق في أداء الفرائض من غير موانع.
الرابع: مصاحبة الإستعانة للعبادة، لأنها لا تتم الا بتوفيق من عند الله عز وجل.
الثاني: الإستعانة بالله في أمور الدنيا، وأسباب الرزق، ودوام العافية.
الثالث: يفيد الجمع بين العبادة والإستعانة وحصرها بالله تعالى رجاء نيل ثواب العبادة في الدنيا والآخرة.
الرابع: أخبرت الآيتان السابقتان عن ان الله تعالى هو الرحمن الرحيم وان ملك يوم القيامة له وحده سبحانه، وجاءت هذه الآية للإستعانة به تعالى في نيل ثواب العبادة والفوز بالجنة يوم القيامة ليس بالعبادة وحدها، بل بفضل الله ورحمته.
الخامس: إطلاق الإستعانة في أمور الدين والدنيا، والعبادات والمعاملات والأحكام.
والصحيح هو الأخير، وتبين الآية لجوء المسلمين الى الله تعالى جماعات وأفراداً، واقرارهم بان القوة له جميعاً.
وجاءت الآية بصيغة المضارع في موضوع العبادة والإستعانة لافادة استدامتها ، وتمسك المسلمين بها وعدم ترك أحدهما.
وتبين الآية حاجة الإنسان الى اللطف والتوفيق الإلهي وفوز المسلمين بمعرفة حاجتهم الى الله، وهذا المعرفة حرز من العجب والكبر والغرور، وكما تقدمت صفات الله الحسنى على الإخبار عن العبادة والمسألة، فقد تقدمت العبادة على الإستعانة لتكون الأخيرة صادرة من منازل العبودية والخضوع لله تعالى، وفيه عون لإحراز الإستجابة، ومقدمة للشكر لله تعالى على كل نعمة من الله، ويمكن استقراء قوانين كلية في المقام وهي النعم التي تترشح من الإستعانة بالله تعالى سواء تلك التي تأتي إبتداء، أو التي تكون إستدامة وزيادة ونماء في النعم.
والآية حرب على مفاهيم الشرك في النفوس والمجتمعات، ومانع من مقدماته وأسبابه وفيها دعوة متصلة ودائمة للفرار الى الله، وبلوغ المقاصد، وتحقيق الرغائب بالتوحيد وحصر الإستعانة بالله تعالى والتوكل عليه.
إفاضات الآية
ليس من حد لنعم الله على الإنسان، ويتعذر إحصاؤها، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )، ومن الآيات ان يعجز العبد عن إحصاء منافع وبركات النعمة الواحدة مثل هذه الآية الكريمة التي تتغشى المسلمين جميعاً، ففي كل يوم يتوجه المسلمون إلى الله مرات متعددة بتلاوة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
ومن الشواهد على ان المسلمين أفضل الأمم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، أنهم يرددون هذه الآية في الصلاة اليومية التي هي أم العبادة، وعمود الدين، لتوكيد حقيقة عقائدية وهي إنتفاء النفاق والرياء عن المسلمين متحدين ومتفرقين.
لقد أصبحت هذه الآية جزء من الواقع اليومي للمسلمين، وفيه تأديب عظيم وإصلاح لأجيالهم، وتوارث للعلم والمعارف الإلهية.
فأراد الله عز وجل ان يباهي الملائكة بالمسلمين وهم يتلون هذه الآية ومن الآيات ان تلاوتها وترديدها لا ينحصر بالمسجد وزمان مخصوص بل يشمل الدور والأسواق والمنتديات، وينبسط على آنات الليل والنهار، وتتجلى في العبادة مفاهيم حب المسلمين لله تعالى ويسمى الحب الإلهي، ويترشح عن كمال المعرفة وإدراك النعم العظيمة التي أنعم الله بها على المسلمين .
فعندما قال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاءت بعثة الأنبياء عامة والبعثة النبوية خاصة لتكون مصداقاً لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في بيان أهلية الإنسان لخلافة الأرض، بمواظبة المسلمين على العبادة وتعاهدهم لميراث النبوة، فان قال بعض من الكفار ان الأنبياء نالوا مرتبة الخلافة وبلغوا إسمى مراتب التقوى بالوحي ورؤية الآيات الفعلية والحسية، وجريانها على ايديهم، قلنا بان المسلمين إنقطعوا إلى عبادة الله وأخلصوا في طاعته بتصديقهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه وتعاهدوا عبادة الله تعالى في الأرض وحافظوا عليها، فهم بعد الإنبياء حجة على غيرهم من الناس، وداعية إلى الله بعبادتهم وإستعانتهم به تعالى.
الآية لطف
هذه الآية من اللطف الإلهي الظاهر والمحسوس، وهي إمام تقود المسلمين الى منازل التقوى والصلاح، وفيها تجديد للإيمان وتذكير بوظائف العباد أزاء مقام الربوبية، وحجة على الناس جميعاً في لزوم الإنقطاع الى عبادة الله، كما تبين عز ومنعة المسلمين بعبادته تعالى والتوكل عليه والإستعانة به سبحانه فمع ان العبادة أشرف الأعمال فقد جمعت معها الآية الإستعانة بالله عز وجل للدلالة على إنقطاع المسلمين إلى الله تعالى في أمور الدين والدنيا، وإظهارهم الإنجذاب التام الى مقامات الربوبية بالتحلي بمعاني العبودية المحضة.
والآية شهادة على إخلاص المسلمين في عبادتهم لله، وتوجههم بالشكر له سبحانه على نعمة الهداية، وتبين حاجة الناس الى القرآن في تعليمهم آداب العبودية والخضوع لله، واللجوء إليه والإستغاثة به سبحانه في المهمات .
لما جاءت الآيات السابقة بالمدح والثناء على الله تعالى وبيان صفاته الحسنى جاءت هذه الآية لتتضمن أموراً:
الأول: الشكر والثناء على الله تعالى بعبادته سبحانه.
الثاني: إظهار القرآن لصفات الله الحسنى سبحانه، وانه مالك عوالم الدنيا والآخرة.
الثالث: حاجة الإنسان لعبادة الله ، فالله عز وجل هو المالك المطلق وهو غني عن الناس وعن عبادتهم فجاءت هذه الآية لتخبر عن عبادتنا له سبحانه لحاجتنا لها في النشأتين.
وتتجلى الحاجة باعلان الإستعانة به سبحانه دون غيره، وهذه الإستعانة تعالى مقدمة للإخلاص في العبادة واستدامتها لانها تدل بالدلالة التضمنية على عدم الخضوع او الخشوع لغير الله تعالى، لان الخضوع لغيره قد يكون برزخاً دون العبادة والصدق فيها.
وهذا المعنى من أسرار الملازمة بين العبادة والإستعانة وفيه شاهد على ان الله عزوجل عند حسن ظن المسلمين في الإستعانة به فهو الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وينال المستعين به كل خير , ويكون في سعادة وغبطة.
لقد أراد الله تعالى للمسلم عبادته بشوق ورغبة وعدم وجود موانع تحول دون أدائه الفرائض والمناسك فجاء سؤال الإستعانة بالله والإخبار عنه شاهداً على بلوغ المسلمين مراتب المعرفة الإلهية، ويأسهم مما في أيدي الناس، وتوجههم إلى الله تعالى وهو الغني الحميد.
من غايات الآية
لقد جمعت الآية بين أمرين بين عبادة المسلمين لله والإستعانة به سبحانه، وقدمت العبادة لأنها الأصل، وبين العبادة والإستعانة بالله عموم وخصوص مطلق فكل إستعانة هي عبادة لأنها تأتي بالإقرار بالعبودية لله والإعتراف بان مقاليد الأمور بيده سبحانه، ولذا قدمت العبادة على الإستعانة، لتدل الإستعانة على التفاني المحض في عبادة الله تعالى ونيل رضاه تعالى، ولتكون الإستعانة عنواناً للدعاء والمسألة وباباً لنيل الأجر والثواب.
وفي الآية دعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وتخبر هذه الآية عن تقيد المسلمين بأحكامها وهي رسالة سماوية وأرضية الى الناس جميعاً إذ انها تؤكد تعاهد المسلمين لمصاديق الآية في الواقع العملي، لتكون ومصداقها الخارجي حرباً على الكفر، وحجة على الكافرين، ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
وفي الآية إخبار للمسلمين بوظائفهم العبادية وحينما يصبح الصبي والصبية من المسلمين قادرين على تمييز الكلام والفعل يسمعان هذه الآية ويدركان ان آبائهم وأمهاتهم يتوجهون الى الله تعالى كل يوم بتلاوتها في الصلاة فتترشح في أذهانهم، ويتلقونها كتركة مباركة عظيمة تنفعهم في الدنيا والآخرة، واذ يتفاوت المسلمون فيما يتركونه لأولادهم وورثتهم من بعدهم من الأموال، فانهم يشتركون في أعظم وأحسن تركة في تأريخ الإنسانية وهي عبادة الله والإستعانة به، وتلك التركة تنفع الوارث والمورث ومن يأتي بعدهما في الدنيا والآخرة، ولاتكون سبباً للخصومة والشقاق والفتنة، بل بالعكس تكون سبباً لإستدامة الأخوة ومعاني المحبة والعدل بين المسلمين قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
التفسير
العبادة خضوع للمعبود وانقياد ينبئ عن الذل والإستكانة الناشئة من الإعتقاد بجلال عظمة المعبود وكمال مقامه، والعبادة وظيفة كل انسان والسر الكامن في خلقه والذي يرتكز عليه نوع المنزلة التي ينالها في الآخرة قال تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيعْبُدُونِ ]( ) فحددت هذه الوثيقة الإلهية الخالدة مسار عمل الإنسان والجان في الحياة الدنيا والماهية التسخيرية في أصل هيئة الخلق ووجود الإستعداد الفطري للإنقهار والإنجذاب لمقام الباري عز وجل.
ولقد تفضل الله عز وجل مـرة أخرى فبعث الأنبياء داعين الى عبادة الله قال تعالى [ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ ]( )، وتحمل الأنبياء والمرسلون المشاق الكثيرة ولكنهم لم يحققوا مثل الذي ناله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التوفيق والكرامة وأسباب الهداية لأمته.
لقد أعلن المسلمون ومن غير تردد اقبالهم الصادق على عبادة الله عز وجل وحصر العبادة به تعالى دون غيره واظهروا الثبات الدائم على الإخلاص في العبودية بتلاوة هذه الآية وذكرها في الصلاة اليومية وفرائضها الخمسة.
إنها إقرار بالرق والعبودية وإستكانة ظاهــرة ومقــدمة لســؤال الحوائج وسبيل لإنجـاحها، فالعبادة مطلوبة من الناس طلباً لازماً، كما وأن التذلل لله تعالى وإعلان الخضـــوع المطـلق لمــقــام الربوبية ســبيل لإرتقــاء منــازل العز والرفــعــة في الدارين، فانت ترى أن الإسراء جاء بعنوان العبودية، قال تعالى [ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.. ]( ) لبيان منافع العبودية وضرورة إظهار آدابها والإفتخار بملازمة وجوهها في مختلف الميادين كدروس في الإيمان ولسان في التوحيد ومفاهيمه العرفانية.
قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إتخذني الله عبداً قبل ان يتخذني نبياً)( )، مما يدل على موضوعية العبادة في سلم الكمالات الإنسانية ولعل ما ورد في تسمية الصلاة بانها معراج المؤمن جاء لما تحمله من مضامين العبودية وعناوين الطاعة والخضوع والذل بين يدي الباري عزوجل.
وقيل ان العبادة هي الطاعة للمعبود ولكن العبادة أعظم وأعم، وقد تكون الطاعة من قبل الابن لأبيه في أوامره من غير ان تكون عبادة له، كما يطيع العبد مولاه ولا يكون عابداً له بل يشتركان معاً في عبادة الخالق وطاعته، ويقف الأب وابنه، والسيد والعبد معاً في الصلاة خاضعين خاشعين لله عز وجل، وعبادة الكفار للأصنام ونحوها مما لا يتصور صدور الأوامر من قبلها امر ساقط عن الإعتبار لأنه فعل جهالة وضلالة، فبين العبادة والطاعة عموم وخصوص من وجه وهي النسبة التي تكون بين المفهومين اللذين يلتقيان في بعض المصاديق المشتركة بينهما ويفترقان في مصاديق اخرى يختص كل منهما ببعض منها.
مادة الإلتقاء الإنصياع والإســتجابة ، ومادة الإفــتراق العــبودية المطلــقة في العبادة والتبعية التكليفية المقيدة في الطاعة ويمكن القول أن النسبة بينها هي العموم والخصوص بلحاظ أن الطاعة فرع العبادة ومصداق لها.
ولا تختص العبودية لله بالإنسان فقط , قال تعالى [ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ]( ) ولكن الإنسان لشرف عنصره ولما رزقه الله من عقل وما اكرمه به من بين المخلوقات الى جانب ما تحمله من اعباء الأمانة والخلافة في الأرض يجب ان يبادر إلى إظهار معالم العبودية على ظهر الأرض واثناء ايام الحياة وينصب نفسه في منزلة الذل والخضوع والمملوكية لله عز وجل بعيداً عن روح الإستكبار عن عبادته تعالى.
ويتجلى الإخلاص في العبودية بالعمل بما ينافي مظاهر الشرك ومقدماته , وفي حديث للإمام علي عليه السلام قال:وبالإخلاص يكون الخلاص”( ).
لقد تضمنت الآيات السابقة مدحاً وثناء لله عز وجـل وإقــراراً بعظمة سلطانه في دار الحياة الدنيا وفي الآخــرة وربوبيتــه المطلقـة وإلوهيته لكل ما في الســماوات والأرض وحــتمية الرجـوع اليه والوقــوف بين يديه للحســاب في يوم عصــيب لا ينفــع فيه مال ولا بنــون إلا مــن جاء متوقــياً بالعبادة والطاعــة لتأتي هذه الآية بيانــاً لوظيفة الإنســان ضمن مقام العبودية، وعبــارة عن الإتيان بالفعــل المجسد لها واقعياً ليمثل مرتبة متقدمة في الكمال ودرجة في منازل الســالكــين ســبل الإرتقــاء في مياديــن العقــيــدة ومنهــا كـان الإلـتفـات( ).
في هذه الآية من الغيبة الى الخطاب لإقتراب القلب والروح إلى منازل الحضور وأبواب التوجه الى الله، وهي إعلان عملي للإعتراف بإلوهيته تعالى وسعي في دروب الطاعة فجاء التصريح بالعبادة بعد تمجيده تعالى كتأخر المعلول عن علته وستبقى تلاوة هذه الآية عنواناً للعلم بوجوب الخضوع والإنقياد لأوامر الله تعالى والإنقطاع اليه حباً وشوقاً .
قال الإمــام جعفــر الصـادق عليه السلام: “ان الناس يعبــدون الله عز وجــل على ثلاثــة أوجــه فطـبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عــبادة الحرصــاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة، ولكني اعبده حباً له عز وجل فتلك عبادة الكرام وهي الأمن لقوله عز وجل [ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ]( ) ولقوله عز وجل [ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ) فمن أحب الله عز وجل أحبه الله تعالى ومن أحبه الله كان من المؤمنين”( ).
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام بيان لمضمون العبادة وكشف لأسرارها حيث قال: “ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك”.
أي ان العبادة لله واجب على الإنسان للزومها بالإستحقاق , وهي ليست مترشحة عن العناوين الإعتبارية الزائدة التي جعلها الله عز وجل ثواباً أو عقاباً.
ولا يعني هذا الحديث خطأ اختيار العبادة خوفاً من النار او طمعاً في الجنة إذا كان عن إعتراف بان الله عز وجل بيده مقاليد الأمور بل فيه أمران:
الأول : العبادة على مراتب وافضلها ما كانت إقراراً بالربوبية وحباً لله عز وجل.
الثاني : النهي عن إعتبار الخوف من النار علة تامة للعبادة، او الطمع بدخول الجنة هو السبب الوحيد والمقتضي للعبادة .
لقد جــاء النــص في القــرآن بالأمــر بالعــبادة لله عز وجــل قال تعالى [ يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ]( ) وغيرها من الآيات، جاء الندب إلى العبادة على لسان الأنبياء والمرسلين في مواطن كثيرة من القرآن منها ما ورد في قوله تعالى [ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ]( ) وورد نظير هذه الآية الكريمة في نبي الله هود مع قومه عاد، وصالح عليه السلام مع قومه ثمود، وشعيب عليه السلام مع قومه مدين( ).
أما هذه الآية فجاءت ضــرباً من الشــكر وإقــراراً بالخضــوع وإعترافاً بأصول النعم من واهب الحياة والخلق وأسباب القدرة والسعي، انها توجه إختياري من أهل الإسلام وباوهام القلوب وأفعال الأركان وهو وجــه من وجــوه الإخــلاص في العبــادة وعشـق في إنقـياد ورضا بمقام العبودية وإستثمار صحيح لملكة العقل وحسن توظيف للإرادة.
وقال ابن القيم:ان الفاتحة خلاصة القرآن و[ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ] خلاصة الفاتحة، ولكن كل آية من آيات القرآن كيان وكنز عقائدي وعلمي قائم بذاته ليس له بديل او عــوض، وان لغـة (الخلاصة) لا وجود لها في القرآن لأنه جامع للإرادة التكوينية والتشريعية وقصص الأمم السالفة واشــراقات المستقبل والوعد والوعيد، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وهو المحدد في كلماته المحيط بالامحدود، بالإضافة الى تفسير آيات القرآن بعضها لبعض، وكل آية شاهد على صدق نزول الآية الأخرى من عند الله تعالى.
وقالوا ان الإستعانة هي التوكل، ولكن بينهما عموم وخصوص مطلق فكل توكل هو استعانة وليس العكس لذا ترى التوكل لم يرد في القرآن الا بالله عزوجل وفي آيات كثيرة، بينما جاءت الإستعانة بالله عزوجل ووجوب عبادته كواسطة ووسيلة للتقرب إليه سبحانه، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: “لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: اقبل فاقبل، ثم قال له: ادبر فادبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب اليّ منك، ولا اكملتك إلا فيمن أحب، أما اني إياك آمر وإياك انهى وإياك أعاقب وإياك أثيب”( ).
فمع نعمة العقل جاءت الفرائض والتي سميت تكليفاً لما فيها من المشقة والعناء، لتكون شكراً على التشريف بالعقل الذي يكون مادة للإرتقاء واقتناء ما هو حسن ونيل الوصف بالمدح.
ان تقديم إياك في الآية الكريمة [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ] للعناية بأمر العبادة والتنبيه اليها وتوكيدها باقرار ثابت ودائم، وان تقديم المفعول وإطلاق العبادة يفيد إختصاص وحصر العبادة بالله تعالى وعليه إجماع وإتفاق المليين، ويتفق أهل البيان في الجملة على إفادة تقديم المفعول الحصر سواء كان مفعــولاً او ظــرفاً وأفضل مصاديقه [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] معناه نقصدك ونخصك بالعبادة والإستعانة.
ومنهم من قال: (انما أخرت الاستعانة لاجل فواصل السورة)( )، ولكن ترتيب ألفاظ القرآن أعم من فواصل الآيات، فلابد ان الدلالات والمضامين والعلوم لهذا التأخير تتعدى الوجه البلاغي وان كانت بلاغة القرآن إعجازاً مستديماً.
والإستدلال على الحصر لا ينحصر بعلوم اللغة والبلاغة بل ان موضوع العبادة هو الذي يصلــح دليلاً لتثبيت علوم اللغة واحكام البلاغة ووجوه البديع والبيان، هو من إعجاز القــرآن لأن حجــته ذاتية وغيرية، بمعنى أنه حجــة لإثبات ســماويته ولتــثبيت العـلوم والكتب الأخرى.
ولم تقل الآية[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]، بل تكرر فيها لفظ إياك، وفيه مسائل:
الأولى: تأكيد التعدد والإختلاف بين العبادة والإستعانة.
الثانية: العبادة أمر بين العبد والله عز وجل، أما الإستعانة فتشمل أمور الدنيا والآخرة.
الثالثة: للعبادة أوقات وأماكن مخصوصة، كما في أوقات الصلاة اليومية , وإستيعاب الصيام الواجب لشهر رمضان، وأداء مناسك الحج عند البيت الحرام وفي عرفة ومنى والسعي بين الصفا والمروة، أما بالنسبة للإستعانة فتتعلق بعالم الأفعال والأقوال والمكاسب مطلقاً , وبالأمر الوجودي والعدمي .
الرابعة: لما ورد قوله تعالى (إياك نعبد) جاء قوله تعالى (إياك نستعين) للتوفيق في أداء العبادات وتهيئة مقدماتها، وإزاحة الموانع التي قد تحول دونها.
فيحتاج أداء الصيام الصحة والسلامة من الأمراض , قال تعالى[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( )، ويشترط لأداء الحج الإستطاعة في الزاد والراحلة ، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ليكون من منافع (إياك نستعين) في باب العبادة سؤال الصحة والسلامة من الأمراض لأداء الصيام في شهر رمضان، والسعة والغنى لأداء فريضة الحج، ومن رحمة الله أن رزقه لا ينحصر بموضوع السؤال, أي أنه تعالى يرزق المسلم والمسلمة الصحة التي تعينهما على أمور الحياة، وتكون سببا في طول العمر، ويرزقهما السعة والنماء في المال لأداء الحج والبحبوحة في العيش.
والآية مدرســة في علم الكلام والفلسفة الإلهية وتتضمن المبادئ الأولية لتقسيم الوجود الى واجب وممكن وحاجة الممكن الى الدائم

وعدم استغنائه بذاته ولذاته .
وتمنع الإنسان من الغرور والتعدي والظلم، وفيها بيان لماهية الصلة بين العبد والخالق وهي الخضوع التام غير المقيد بوصف او شرط او رجاء نفع او دفع ضرر، أي بشرط لا، واننا نعبده سبحانه لأنه رب العالمين المستحق للعبادة.
والآية سور عقائدي لأنماط العبادة , وضروب الفرائض , وشاهد على إنقياد الجوارح والأركان لمسؤوليات العبودية وعون على الإجتهاد بالطاعة وملازمة قصد القربة في الصالحات.
وللغة الخطاب في الآية مدلولات كثيرة منها تجديد الإيمان والثبات على الإسلام وإعطاء الميثاق على أداء الفرائض ، وهي تصريح وإقرار بان الله عز وجل معنا يسمع الكلام ويرى الأفعال وان الحضور في حضيرة القدس متحقق ساعة العبادة.
وقد ورد في الحديث: أن تعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فهو يراك( ).
وصحيح أن العبادة لغة هي الخضوع إلا أنها عقلاً وشرعاً واصطلاحاً مرتبة متقدمة على الخضوع ومفاهيمه ، وتتضمن الأقرار بالمملوكية لله عز وجل والإستسلام لإرادته تــعالى، والإنقــياد المطلق فكــراً وعمــلاً لمشيئته تعالى والإعتراف بأنه الخالــق الدائم الباقي الذي إليه يكون الرجوع وبيده ملكوت السماوات والأرض، وبأمره يتحدد مصير الإنسان إلى الجنة أو إلى النــار، بالإضافة إلى قصــر مدة أيام الإنسان في الحيــاة الدنيا الأمر الذي يضغط عليه بإلحــاح في وجوب مباشــرة العبادة وإتصــالها وظـهور آثارها على مجمل سلوك الإنسان ليكون بياناً لمعالمها ولسان شهادة في الدارين.
وفي تأريخ الصحابة واهل البيت والتابعين شواهد كثيرة على الإقبال على العبادة وهي مدرسة عقائدية في الإنقطاع الى الملك المعبود بعد إدراك عائدية جميع الأسباب والوسائط إليه تعالى بحســب سلســلة العلل والمعلولات، وجعل الله عز وجل أدنى مراتب هذه المعرفة تدرك بالعقل وكلما تقدم الإنسان في ميادين الكسب وصناعة الجدل والكلام فانه يزداد إيماناً ويقيناً.
ويزخر التأريخ الإسلامي بمسالك التقوى والإنقطاع إلى العبادة لتكون سيرة الأولياء حجة في لزوم عبادته وعدم التفريط في أداء الفرائض من الصلاة والزكاة والحج والصيام والخمس لتشمل العبادة البدن والمال وتنفذ الى الأركان وتدهن النفس بطلاء الإخلاص والتسليم والإمتثال في الأحكام الشرعية.
ان قوله تعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ] ثورة عارمة ضد الوثنية تحمل سمات الثبات وآيات الدوام اذ هدمت صروح الكفر ومعالم الفكر الوثني بالتوجه العام للجماعات في عبادتها لله عز وجل واعراضها عن غيره، وهجران الأمم والشعوب لما كان راسخاً من عقائد الشرك واوهام الضلالة وقد ورد عن تفسير الإمام: “قال الله تعالى: قولوا يا ايها الخلق المنعم عليهم اياك نعبد ايها المنعم علينا نطيعك مخلصين موحدين مع التذلل والخضوع بلا رياء وسمعة”.
ان رائحة الصــدق وعبير الإخلاص يفوح من أركان الناطــقين بالآية وترددها السماوات والأرض بزهو وافتخار مع القراء لتمتلأ الآفاق بمظاهــر العبوديــة والخضوع لله عز وجل وهو صاحب الفضل والهادي الى هذا السبيل من الرشاد ،وتوظيف البصيرة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام انه قـال: في [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ] لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك”.
ان اعلان العبودية التجاء الى الله عز وجل وتوسل ورجاء الأمن لما فيه من خلع لرداء الإستكبار، عن عبد الله بن سنان عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: “قال الحواريون لعيسى بن مريم: يا معلم الخير أعلمنا أي الأشياء أشد؟ فقال: أشد الأشياء غضب الله عز وجل.
قالوا: فبم يتقى غضب الله؟ قال: بان لا تغضبوا، قالوا: وما به الغضب؟ قال: الكبر والتجبر ومحقرة الناس( ).
لقد جاء الإقرار بالعبودية بلغة الخطاب رمزاً للوعي بحقائق التكوين وكأن التدرج يقود الى مقام العلم واليقين بعد طرد الغفلة، وإلى العيان والحضور بعد الغيبة على عادة العرب وقواعد الفصاحة والبلاغة عندهم، قال لبيد بن ربيعة صاحب احدى القصائد السبعة الجاهليات واللاتي سميت فيما بعد بالمعلقات:

باتت تشكي ألي النفس مجهشة

وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا( )

ان الخطاب في الآية صيغة في الجد والإجتهاد والإرادة المخلصة في التوحيد والبراءة من الشرك وتقديم ما هو مقدم في الوجود، وشهادة على معرفة الخالق تعين على تحمل النفس والجوارح لأعباء العبودية وثقل التكاليف.
أما قوله تعالى [ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ] فقد جاء بعد ان قدمت العبادة بحسب ترتيبها المتقدم في الوجود كوجوب في اصل الخلق والتكوين اتخذت وسيلة ضرورية على الحاجات وتيسير الأمور بعد الإقرار بالربوبية وخضوع جميع الأشياء لمشيئته تعالى وانقيادها لحكمه.
والآية الكريمة عنوان للثــقة المطلقة بقدرته تعالى وسلامة الركــون إلى التوكل عليه فهو الذي يهدي إلى التي هي أقوم، واختيار سبل العبادة وأفعالها يحتاج إلى توفيق منه فهـو الذي يبعــث في الإنســان القدرة والطاقة والإرادة حالاً بعد حال.
كما تحتاج مناسك العبادة المستأنفة إلى إعانة ومدد منه تعالى.
لقد جاءت لغة الإستعانة بعد المعرفة وصدق العبودية ورؤية آثار النعم وعظيم آلاء الله تعالى على الذات الإنسانية والخلائق فكان طلب التمكين وعزيمة الرشاد نتيجة علمية وسؤالاً مهذباً.
وفي الخبر لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “أنا بك كان الجواب له: إن كنت بي فأنا لك”، فان الباء واللام متعاقبان فعرج به إلى المنازل الرفيعة والمراتب العالية حيث توقفـت عنده علــوم غيره مــن البشر وصار في مكان الدنو والإقتراب ليفوز بمناجاة العزة والكبرياء بفضل منه تعالى على نبيه وعلينا معاشــر المسلمين، لذا فان الإستعانة باب للإقتراب من رحمته وسعي لنيل الفيض الإلهي، وبلوغ مقام الكمال ومدخل كريم للدعاء ومظنة للإستجابة.
بعد بيان عظمة وسلطان الباري عز وجل وامتزاج جبروته برحمته والإقرار بالخضوع التام لمقام عزه جاءت هذه الآية المباركة إعترافاً بالعجز والذلة والمشقة بلغة الجمع لأن الحاجة إلى الإستعانة به تعالى سور يضم كل الخلائق، بالإضافة إلى ما فيها من بيان وأهمية لموضوع التوكل.
وفي الآية الكـريمة مضــامين وإفاضــات ملكوتية يصعــب الوقوف على أبعادها، فبعد إعلان الذل والانقياد الواجب والخضوع والتسليم لإرادته تعالى ظهرت أمارات الحب على العبد بالتفويض والإلتجاء المطلق، (وفي الحديث: “أن من أحب عباد الله عبد أعانه الله على نفسه”.
فمن أسباب الإعانة قهر النفس الأمارة بالسوء ومنعها من القبائح وإصلاحها للطاعات وفعل الخيرات وإستثمار العقل في مسالك الحياة اليومية ودروبها المتداخلة خاصة في هذا الزمان الذي تزاحمت فيه الإفكار والآراء في مختلف جوانب الميادين، ولم تستطع مدارك الإنسان أن تبقى في إطار الأسرة والمنزل.
كما وأن بيئة الإنسان ذات التأثير الكبير في سلوكه أخذت أبعاداً واسعة جديدة وآفاقاً عالمية ذات منحنيات متشعبة في الإنشطار دائبة لتصبح المسارعة إلى الإستعانة بالله ضرورة يومية ملحة وسبيل نجاة وسلاحاً وقائياً وعملاً إحترازياً ملازماً على الدوام لصفة العبودية التي يجب أن تكون صبغة لمجموع أعمال الإنسان وعدم إنحصارها بالفرائض والطاعات ولا تختص بأوان العبادة وأماكنها، وإن كانت العبادة ذاتا وأداء تحتاج إلى الإستعانة.
ومن وظائف الواو التي وردت في الآية :
الأولى : عطف ما تتضمنه العبادة على الإستعانة بإعتبار أن المعطوف تتعلق به مزية خاصة، أي أننا نطلب منك الإعانة على عبادتك والتوفيق إلى أدائها على الوجوه المناسبة، وما يوافق شعورنا كعبيد بما يستحقه مقام الربوبية من مراتب العبادة والنسك.
الثانية : الواو حالية، أي نعبدك مستعينين بك.
الثالثة : تكون الواو لعطف الشيء على مرادفه فالإستعانة باعتبارها توكلاً وتفويضاً هي أيضاً وجه من وجوه الهداية والعبادة، وصحيح أن العبادة لا يرقى إلى مســتواها أي فعل آخــر وان اجتمعــت منه أفراد كثيرة إلا أنه يمكن النظر بالمعنى الأعم لتكون من الكليات المشككة فتدخل الإستعانة فيه وإن كانت أدنى مرتبة من العبادة وفرائضها.
الرابعة : العطف التلفيقي: فبعد العبادة وصدورها بلغة الخطاب والإستحقاق لابد وان يأتي طلب التمكين وسؤال الرشاد والسداد.
الخامسة : عطــف ما تضمنه الأول أو جــزء منه لإعتــبار ودلالــة خاصــة نحــو [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( ) بإعتبار أن الإستعانة شعبة من شعب العبادة وفروعها، فمن إعجاز القرآن أن مفردات الإستعانة ذكــرت في القرآن ست مرات: أربــعاً منها إستعانة بالله عز وجل، ومرتين جاءت الإستعانة بضربين من العبادة بل هما أسمى مراتب العبادة، لقوله تعالى [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ] الذي تكرر في آيتين من سورة البقرة( ).
السادسة : روي في الكافي والفقيه وتفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: “إن قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ] يعني الصيام”.
لما توجه العباد إلى الله عز وجل مستعينين به على حوائج الدنيا والآخرة فانه هداهم إلى عبادته بالفرائض ومنافع الصلاة والصوم الدنيوية والأخروية والأبواب الكثيرة التي تفتح بها، ولتسلط أضواء على عطف الإســتعانة على العـبادة في الآية الكريمة من سورة الفاتحة القرآن يفسر بعضه بعضاً مما يؤكد أن عبادة الله سبحانه إستعانة به تعالى وأن الإستعانة من ثمراتها فان الله عز وجل يتكفل شؤون وحاجات المتنسك ويكفي من يلتزم بأداء الفرائض ويقدمها على تلك الحاجات والمشاغل اليومية الأخــرى مما يتعلق بالمعاش ونحوه.
ولو إنكشف الغطاء لرأى العبد ما دفع الله عنه من البلايا بالصلاة وما صرف عنه من الأسقام بالصيام لما فرط الإنسان في مناسك العبادة، ولبالغ في الحرص على أداء النوافل منها، ولكن الستر والإمهال جزء من اللطف ومقومات الإمتحان باعتبار ملاك الحياة الدنيا وهو وجه من وجوه الرأفة.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: “في التوراة مكتوب يا ابن آدم تــفــرغ لعبادتي أمــلأ قلبك غنـى ولا أكلك إلى طلبك وعليّ أن أسد فاقتك وأملأ قلبك خوفاً مني، وإلا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شــغلاً بالدنيــا ثم لا أســد فاقتــك وأكلك إلى طلبك”( ).
لقد جاءت الآية بلغة الجمع (نعبد)، ولغة الجماعة أقرب للإستجابة وأكثر بياناً وصيغة في التأديب ضمن مقامات السالكين دروب الهدى وفيها تعبير عن النفس والآخرين من الأهل والأقربين بل المسلمين جميعاً، ويبدو ما فيها من إشراقة بالقراءة في صلاة الجماعة وفيها تلقين للآخرين وتعليم لهم وزيادة في العلم يفيض المسلمون بعضهم على البعض الآخر بها وبآيات القرآن والأوقات اليومية المتكررة لقراءتها من غير أن يتسرب الحرج إلى الصدور، ولغة الجماعة تعين الفرد على الإقبال على وظيفته ضمن المسلك العام لجماعته.
فتكون الآية الكريمة باب تأديب وسبيل هداية يلازم المسلم في واقعه ومحيطه منذ نعومة أظفاره فيشب مدركاً لحقيقة شمولية خالدة وهي أن لا يعبد إلا الله ولا يستعين إلا به تعالى وعليه أن يجعل نظام حياته وأحواله المختلفة منقادة إلى عالم التوحيد ومرتبطة بأحكام الشريعة في تأثير إيجابي متبادل مع مجتمعه في ذات المفاهيم والقيم، فيكون متأثراً ومستفيداً من التوجه الحسن والإيجابي العام للمجتمع في أطار العبادة ومضامينها ويكون نافعاً ومساهماً في توثيق صروح الإيمان ومشاركاً في حمل لواء التوحيد بما يظهره من سمات العبودية والخضوع والذل لمقام الربوبية.
ان الآية الكريمة تبرز حقيقة وجوب العبادة وانه لا مناص من المواظبة على اظهارها والتقيد بالإتيان بشرائعها وما تستلزمه من الفرائض والطاعات والآداب فلما يقرأ المسلم [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ]، يرجع الى نفسه محاسباً ومدققاً في تصديق جوارحه ونفسه لما امر اللسان بنطقه ووفق لإتيانه، وهذا التلفظ عبادة وذكر لله عز وجل وان لم يأت له بقصد القرآنية وجزئيته من سورة الفاتحة باعتبار ان النطق عمل بجارحة اللسان.
في مرسلة الحسن بن محمد الجمال قال: “بعث عبد الملك بن مروان الى عامل المدينة، ان وجه الى محمد بن علي بن الحسين ولا تهيجه ولا تروعه واقض له حوائجه، وقد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية فحضر جميع من كان بالشام فاعياهم جميعاً، فقال ما لهذا إلا محمد بن علي فكتب الى صاحب المدينة ان يحمل محمد بن علي اليه فاتاه صاحب المدينة بكتابه، فقال له ابو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: اني شيخ كبير لا اقوى على الخروج وهذا جعفر ابني يقوم مقامي، فوجهه اليه فلما قدم على عبد الملك ازدراه لصغره وكبر ان يجمع بينه وبين القدري مخافة ان يغلبه، وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدرية.
فلما كان من الغد اجتمع الناس لخصومتهما، فقال عبد الملك لأبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام: انه قد اعيانا امر هذا القدري وانما كتبت اليك لأجمع بينك وبينه فانه لم يدع عندنا احداً إلا خصمه، فقال: ان الله يكفينا، قال: فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد الله الصادق سل عما شئت، فقال له: اقرأ سورة الحمد، قال: فقرأها، فقيل : وانا معه ما في سورة الحمد علينا انا لله وانا اليه راجعون، قال: فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتى بلغ قول الله تبارك وتعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ] فقال له جعفر الصادق عليه السلام: قف من تستعين وما حاجتك الى المعونة ان الأمر اليك، [ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ]( )( ).
وهذا من اسرار الآية الكريمة وجعلها قريبة عند كل مسلم بقراءتها في الصلاة اليومية لتكون سلاحاً حاضراً وحجة قائمة وبرهاناً ساطعاً وحرزاً نوعياً عاماً من دعوة الضلالة ، وصحيح ان الحديث ضعيف السند الا انه صحيح دلالة واستدلالاً، وفيه مدرسة للإحتجاج بالآيات القرآنية المعروفة لدى العامة والغالب من الناس، أي ان كل مؤمن يستطيع ان يجادل بالحكمة ويقيم الحجة بما تيسر له من الآيات القرآنية والشواهد الكونية ونحوها.
في الآية مسائل:
الأولى : العبادة عنوان لغاية التعظيم من منازل الرق وتبين الآية عدم اهلية غير الله للعبادة وانفراده باستحقاقها وليس للعباد فيها فضل أو إختيار.
الثانية : فعل العبادة والإستعانة جاء بصيغة الجمع والفعل المضارع الذي يدل على الإستدامة والإتصال والدوام، فالآية عهد ووثيقة ووعد مثلما هي اقرار واعتراف لذا تضمنت الآية التي بعدها سؤال الهداية للثبات على العبادة والإرتقاء في منازلها.
الثالثة : بعد ان جاءت الآيات السابقة ببيان صفاته تعالى الرحمن الرحيم، رب العالمين، مالك يوم الدين جاءت هذه الآية باعلان الإذعان المطلق لعظمته تعالى، وكأنه من ترتب المعلول على علته وعدم تخلفه عنها وترتب المسبــب على السبب، ولتوكيد عــدم وجــود أي طريق آخر امام البشر غير عبادته فلا غرابة ان تأتي الآية بصيغة الحصر.
الرابعة : تدل العبادة بالدلالة الإلتزامية على ان الإنعام كله من عند الله تعالى وكأنها شكر واجب له تعالى على مصاديق النعم.
الخامسة : حق الإستعانة بالله تعالى توكيد للحاجة المطلقة اليه تعالى وأنه سبحانه هو الكافي.
السادسة : إعلان العبودية لله يعني بالدلالة التضمنية الإخبار عن ذلة النفس ومهانتها.
السابعة : قال الرازي: “ولما كان الله تعالى اشرف الموجودات واعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره”( ).
لكن إنحصار العبودية وإختصاصها بالله عز وجل رب العالمين، والتضاد بين الخالق والمخلوق يجعل العبادة من المتواطئ المتحد الذي لا يقبل التعدد، وليس من مراتب في استحقاق العبودية، ولم تبن على الأشرفية بل على الإنحصار وإنفراده تعالى بإستحقاقها.
الثامنة : الآية نبذ لعبادة الأوثان واتخاذ الأصنام واعلان للبراءة من الكفار والمشركين ، وابطال للأضداد والأنداد.
التاسعة : حق الإستعانة به تعالى اعتراف بعظيم قدرته سبحانه لأن وجوه الإســتعانة متعــددة ومتشــعبة ولا تنحصـر باحوال الإنسان في الدنيا.
العاشرة : لقد اقترنت الإستعانة بالعبادة، والرغبة بالخضوع، والأمل بالخشوع، والرجاء بالتسليم بالربوبية.
الحادية عشرة : اقتران الإستعانة بالعبادة ومجيئها عقبها مباشرة ومن غير فصل في القرآن فضل منه تعالى له دلالات منها انه تلقين وتعليم لنا جزاء واستحقاقاً، أي ما دمتم لا تعبدون الا الله فالزموا الإستعانة به لأنه يعين عبيده الذين اخلصوا له الدين ويقضي حوائجهم في الدارين، وكأن مضامين الآية تتكون من اقرار وتعليم وامتثال وجزاء.
الثانية عشرة : الآية ابطال للشرك الظاهر والخفي، فاختصاصه تعالى بالعبادة يعني النفي المؤبد للشرك والكفر والضلالة لما ثبت في الفلسفة من عدم اجتماع النقيضين، اما حصر الإستعانة به تعالى فانها نفي للشرك الخفي كما عن الصادق عليه السلام.
الثالثة عشرة : ما في الآية من العبادة والاستعانة اعم من الإختصاص ففيه دلالة على التعظيم وانه وحده المعبود من الخلائق جميعها، وليست العبادة حصراً علينا، وفي تقديم العبادة نفي للجهل والغفلة.
الرابعة عشرة : في الآية تقديم للمعرفة واظهار لأهمية العلم ونبذ للجهل وعدم المعرفة سواء على القول بان المعرفة والعلم من النظائر او ان بينهما عموماً وخصوصاً من وجه وان المعرفة ادراك الجزئيات والعلم ادراك الكليات، فان الآية جاءت بتقديم المعرفة والعلم واليقين بربوبيته تعالى وان مقاليد الأمور كلها بيده وانه اهل للعبادة وهي ضرورية للعباد.
الخامسة عشرة : في تقديم [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ] تخفيف لمشاق العبادة وما فيها من التكاليف وفي تقديمه في شطر الإستعانة توكيد للإلتفات وعدم الغفلة وان اللجوء اليه تعالى يأتي عن ادراك وعلم ومعرفة.
السادسة عشرة : العبادة والاستعانة وسيلة للتقرب اليه وليست غاية مطلوبة، فالمطلوب وجهه تعالى.
السابعة عشرة : الآية توكيد لمعرفة الطريق القويم للوصول الى مرضاته تعالى.
الثامنة عشرة : الآية جهاد في سبيل الله تعالى ودعوة الى نبذ الشرك وسلاح لطرده وحث على الإيمان وفيها موضوع للمباهلة مع الكفار والمشركين فلينظروا هل نفعتهم آلهتهم التي يعبدون او الوسائط التي بها يستعينون.
التاسعة عشرة : في الآية وقراءتها ازاحة لسلطان الشرك والكفر والنفاق عن القلب ومنع لتأثيرها على النفس، وهي تنقل النفس من مراتب النفس البهيمية والشهوانية الى منازل النفس المطمئنة.
العشرون : النون في [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ] تحتمل امرين اما انها للجمع او للتعظيم، والحق انها للإثنين معاً اما بالنسبة للجمع فان الآية تدل على عبادة جميع المسلمين لله عز وجل وانه تعالى يقبل عبادة الفرد وكأنه امة وقد ورد في ابراهيم الخليل عليه السلام قوله تعالى [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ]( ).
الحادية والعشرون : اما بالنسبة للتعظيم فالظاهر ان العبد او المسلمين جميعاً في مقام العبادة وهي نقيض التعظيم وتحتاج الى الخشوع والخضوع، ولكن منازل العبودية لا تمنع من التعظيم المقيد الذي اراده الله عز وجل للمسلمين بعبادتهم لله عز وجل، فقوله تعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ] تعظيم للمعبود وتعظيم للعابد مقيد بقرينة انه عابد ومخلوق.
وعظمته بالمقارنة مع غيره من الناس وعظمة المسلمين بعبادتهم بالمقارنة مع غيرهم من الملل فهي عظمــة مخلوقــية بلحــاظ الغير، كما ان العظــمة تترشــح علـى المسلــم بعبادتــه لله تعالى فيجعــل الله عز وجــل له هيــبــة وحشــمة في قلــوب الآخــرين، قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُــوا الصَّالِــحَــاتِ سَيـــَجْعَــلُ لَهُــمْ الرَّحْــمَـنُ وُدًّا ]( ).
والنون تكون للأعم من التعظيم فيشمل العزة وهـو الإنسب في المقام فان الإنسان باخلاص العبادة لله عز وجل عزيزاً مهاباً قال تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( ) بصفة الإيمان استحقوا العزة التي تترشح عليهم من فيض عزته وفضله سبحانه بدليل قوله تعالى [ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( ).
الثانية والعشرون : إن حصر العبادة به تعالى وتقديمه في الآية حرب على ابليس والشياطين جميعاً.
الثالثة والعشرون : في الآية طرد لوساوس الشيطان ومنع من تسربها الى النفوس، فالآية تجعل القلوب منقطعة الى حبه تعالى مغلقة عن الشوائب والكدورات.
الرابعة والعشرون : بالإضافة الى ان الآية اعلان واقرار وعهد بالإقامة على عبادته تعالى ففيها بالذات ومجردة نوعُ تقرب اليه تعالى.
الخامسة والعشرون : العبادة في الآية جاءت على نحو العموم المجموعي والمراد به ترتيب حكم واحد للجميع على نحو الاتحاد، والعموم الإستغراقي وهو ترتب الحكم على كل فرد من افراد المفهوم على نحو مستقل، والإستغاثة من المسلمين جميعاً بدفعة وهيئة واحدة مبنية على التوحيد واداء الفرائض وايضاً يأتي بها المسلمون على نحو الإنفراد والإستقلال، وكذا بالنسبة للإستعانة فالمسلمون جميعاً يستعينون على نحو الإتحاد والإجتماع والسؤال الدفعي المتحد لقضاء حوائج الملة والأمة، وايضاً فانهم جميعاً يستعينون كلا على انفراد واستقلال لقضاء ذات الحوائج والمسائل الشخصية، هذا بالإضافة الى العموم البدلي الظاهر للوجدان فكل مسلم يأتي بالآية على نحو القضية الشخصية والمفردة وان كانت بصيغة الجمع.
السادسة والعشرون : في الآية فضل منه تعالى لتدارك التقصير واتمام النقص الواصل في عبادة كل فرد من المسلمين، ففيها رجاء من العبد وامل يضم عبادته الى عبادة المسلمين وجميع المؤمنين الذين قرأوا الآية في الازمان السابقة، عسى ان يقبل الله عز وجل العبادة بقبول شطر منها.
السابعة والعشرون : في الآية احياء للشريعة وتعظيم لشعائر الله وتعاهد لحفظ صيغ العبادة والتوحيد في الأرض وتأديب للنفس والغير بالتوجه له تعالى.
الثامنة والعشرون : في الآية اعلاء لكلمة الإسلام ورفعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدارين فان تحديد الآية من قبل المسلمين اخبار واقعي ومصداق عقائدي لصدق نبوته ، وأدائه لرسالته.
التاسعة والعشرون : في الآية توفير للجهد وتخفيف عن المؤمنين بمنعهم من اللهث وراء مشاغل الدنيا وحاجاتها باخلاص العبادة وصدق الإستعانة بالله عز وجل، وكان لأحد اهل التقوى حاجة فقيل له لو تذهب الى فلان لقضـائها فقال اخشى ان اكون قد كذبت في صلاتي لأني قلت فيها [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ].
الثلاثون : الآية حجة علينا في لزوم ملازمة مناسك العبادة وسبل الإستعانة بالله عز وجل وعدم التفريط، ليس فقط بالإستعانة بالغير، بل بالعــزة التي جعلها الله عز وجل عند المؤمنين بالعبادة، وهناك أحكام فقــهية خاصـة تتفرع عن قوله تعالى [ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ]( )، ومنها قاعدة (نفي السبيل).
الحادي والثلاثون : لقد جعلت القراءة في الصلاة لتعاهد القــرآن وتلك القــاعدة الكـلية تنحــل إلى عدة قواعد فرعــية منها ما يتعلق بهذه الآية، فالمجـيء بها في الصــلاة تعاهــد للعبادة ولوجــوه الإســتعانة به تعالى.
الثاني والثلاثون : الآية تذكير يومي متصــل بلزوم عبادة الله والإستعانة بالله تعالى لا لحاجة منه تعالى لعبادتنا ولكن لإتمام فضله ولحثنا على الطاعة والتقوى وإستثمار هذه الآية في القول والعمل وعلى نحو المجموع والإنفراد.
الثالث والثلاثون : منهم من قال أن العبودية أشرف من الرسالة لأن بها أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً]( ) ولأنها إنصراف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق وكرره أهل العرفان وهذا الإنصراف ليس قاعدة قرآنية كلية أو من السنة كي تبنى عليها المقارنة والأفضلية في مسألة عقائديــة وتكوينيــة وتشــريعية، والرسالة إكرام خاص انفرد به أفضل البشر ويتصف بخصوصية تبليغ الوحي وأداء الرسالة.
والعبودية حالة إنقـياد وخشوع ذاتي , ولم تأت النبوة إلا مترتبة على حسن العبودية وتمام الخضوع وقد انغلق باب النبوة بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبقت العبودية تدعو الناس لإقتفاء آثار الأنبياء والإهتداء بسننهم، والمتبوع في الخير والصالحات اشرف في المرتبة من التابع.
الرابعة والثلاثون : الآية عنوان إستبشار ورضا وفرح بفضل الله تعالى على هدايتنا لعبادته، فعندما يرى المسلم أنه وأخوانه المؤمنين متوجهون إليه تعالى ومنقطعون إلى الكمال والغنى المطلق جاءت الآية بصيغة الخبر السعيد والبشارة الكريمة لهدايته.
الخامسة والثلاثون : الآية دعوة والتماس وتوسل لدوام حال التقوى على المسلمين وبقائهم مقيمين على مسالك التقوى والرشاد.
***********

قوله تعالى
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] الآية 6

الإعراب
اهدنا: اهد فعل طلب مبني على الوقف، والهمزة مكسورة لأن ثالث الفعل المضارع منه مكسور، والفاعل ضمير مستكن فيه يعود لله تعالى، والضمير (نا) في محل نصب مفعول أول ، والصراط: مفعول به ثان منصوب بالفتحة، والمستقيم: صفة تابعة له في حركة آخره.
ولو قلنا (إيانا اهد الصراطَ المستقيم) لتغير المعنى إذ يصير المعنى اجعل الصراط يهتدي الينا فيختلف مقصود السؤال تماماً , انما الحياة الدنيا دار امتحان واختبار , فنسأل الله ان نكون نحن المهتدين وفيه الصلاح والأجر , وليس الصراط يهتدي إلينا خاصة وأن الصراط صراطان في الدنيا والآخرة.
وكما في قوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً]( )، فالكاف ضمير مفعول به أول يعود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، و(هم) ضمير مفعول به ثان ، قليلاً : مفعول به ثالث.
ولو تغير ترتيب المفعول به لتغيرالمعنى ولو كان الضمير (هم) هو المفعول الأول لتعلقت رؤية القليل بهم , ولا يصح لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي رآى وهو مفرد , وأمة وحده , فليس من مكة ، نعم ورد بعدها بصيغة الجمع في قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ]( ).
القراءة
روي عن زيد بن علي والحسن البصري والضحاك أنهم قرأوا صراطاً مستقيماً دون تعريف، وقرأ الإمام جعفر الصادق عليه السلام قرأ صراط المستقيم بالإضافة”( )،ورواه الحلبي.
ووردت القراءة عن أهل البيت عليهم السلام بالصاد، وكذا قراءة الجمهور وهي لغة قريش التي نزل القرآن بها وهي الأفصح، وقرأ حمزة باشمام الصاد زاياً، والزاي الخالصــة لعذرة وكعب، وليكون أقرب إلى المبدل منه، وقيل السين هي الأصـل وبذلك قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقــوب، وأنها قلبت صـاداً لمجيء الطاء بعدها ولإعتبارات الإنطباق فتكون في الصراط أربع لغات وكلها قد قرئ بها.
قال ابن خالويه: أخبرني دريد عن أبي حاتم قال: اختلف اثنان في السقر والصقر فقال أحدهما بالسين وقال الآخر بالصاد، فسألت أعرابياً: كيف تقول أبالصاد أم السين؟ فقال: أما أنا فأقول بالزاي وانشد ابن دريد في مثله:

ولا تهيبني الموماة اركبها

اذا تجاوبت الأزداء بالسحر( )

وأخرج البخاري في تاريخه وابن الأنباري عن ابن عباس انه قرأ (اهدنا السراط ) بالسين، والمستقيم مستفعل وقيل الأصل مستقوم: فاستثقلوا الكسرة على الواو فنقلت إلى القاف فانقلبت الواو ياء لإنكسار ما قبلها( ).
وقال الأخفش: أن أهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسور، ولكن الصراط ورد في القـرآن بلغة التذكير والقرآن نزل بلغة قريش وهي أخص من لغات الحجاز، وبنو تميم يذكرونه والتذكير هو الأكثر والغالب.
اللغة
من أسماء الله تعــالى: الهـادي، قال سبحانه [إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى]( )، وقد هداه يهديه هدى وهدياً وهداية قاده باتجاه الصواب وبصره سبيل الرشاد، والهدى مذكر وبعض بني أسد يؤنثه وهو ضد الضلال ويأتي بمعنى الدلالة والدعوة.
وتفرد الله عز وجل بالهدى الذي يفيد معنى التوفيق، وذكر التفصيل والقول بأن الهداية أن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الدلالة الموصلة إلى المطلوب، وان تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى الدلالة على ما يوصل، ولا دليل على هذا التفصيل.
والصراط: الطريق وقيل أصله بالسين من السرط وهو اللقم، وسمي لقماً كأن سالكه يبتلعه عندما يطويه، أو أن الصراط يبتلع سالكه يؤدي بمن يسلكه إلى مقصده وغايته.
وقام الشيء وإستقام: إعتدل وإستوى فهو مستقيم، وتأتي الإستقامة بمعنى إلتزام الطاعة وفي الحديث: “قل آمنت بالله ثم استقم”.
في سياق الآيات
بعد إعلان التوجه النوعي والشخصي في العبادة لله تعالى يأتي سؤال الهداية والرشاد وطلب النجاة.
وكأن هذه الآية تفسيراً لإجتماع مضامين العبادة والإستعانة بالله تعالى، وتدل على إنقطاع المسلمين للعبادة، وعشقهم للقاء الله فجاءت الآية مصداقاً للإستعانة، وأنها ليست لحب الدنيا، بل لإعمارها بالصلاح والتقوى والهداية إلى الصراط المستقيم عبادة لله ومقدمة للعبادة من غير أن يستلزم الأمر الدور بينهما، بل هو فيض من عند الله ونعمة متداخلة.
ولما تقدم قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فان هذه الآية تبين طمع المسلمين برحمة الله تعالى وأنهم لم يسألوه الدنيا وزينتها بل سألوه نيل رحمته بالهداية إلى الصراط المستقيم، ولما جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن إنحصار الملك في الآخرة بالله تعالى.
جاءت هذه الآية لتبين معرفة المسلمين بحتمية يوم الحساب والحاجة فيه إلى التقوى والصلاح، فسألوا الله تعالى سلامتهم ونجاتهم من فعل المعاصي، وإنقاذهم من حر نار جهنم.
ولما جاءت الآية السابقة بتسليم المسلمين بالعبودية لله تعالى وعدم انحصار الأمر بأداء الفرائض والعبادة، بل بالإستعانة بالله عز وجل دون غيره في أمور الدين والدنيا.
جاءت هذه الآية لتخبر عن أهم مصاديق الإستعانة وانه ليس طلب الدنيا بل طلب الصلاح في الدنيا ليكون مقدمة للعيش بالنعيم الدائم في ملك الله عز وجل في الآخرة، فإذا كان الإنسان عامة والظالم والكافر خاصة يحجب عن المؤمن التنعم بالنعم الدنيوية، فليس من أحد يستطيع حجبها عنه في الآخرة.
ولما جاءت هذه الآية بسؤال المسلمين الهداية إلى الصراط المستقيم، جاءت الآية التالية لبيان ماهية هذا الطريق وأنه سبيل الأنبياء والصالحين من الأمم السابقة ليكون الإشتراك معهم في التقوى والصلاح وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان حاجة المسلمين إلى الله تعالى، فان قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ) في الآية قبل السابقة لا يعني أن ملك الدنيا يشاركه فيه غيره سبحانه، ولكن ما يحصل من ملك في الأموال والأعيان للناس في الدنيا هو على نحو الإمتحان والإختبار.
وتخبر الآية المتقدمة عن حتمية رجوعه إلى الله تعالى، فسأل المسلمون الهداية إلى الصراط المستقيم في أمور العقيدة والعبادة والمعاملات، وأما في العقيدة فبالثبات على الإيمان ونصرة الإسلام وحفظ مواريث الأنبياء، والتفقه في الدين وتعاهد آيات وسور القرآن ومنع طرو التحريف عليه نصاً وتأويلاًَ وتفسيراً.
وأما في العبادات فبالحرص على أداء الفرائض كما جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تغيير أو تبديل، وهذا الأمر من مصاديق تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، فليس من أمة أو أهل ملة تعاهدوا ما جاء به نبيهم إلا المسلمين فلذا إستحقوا مرتبة (خير أمة) لدعوتهم إلى الهدى والرشاد.
ومن الهداية في باب العبادات قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير كلل ولا تعب.
لقد سأل المسلمون الله تعالى إجتناب الإفراط والتفريط في أمور الدنيا وأحكام الشريعة، وقد انعم الله عز وجل عليهم بالسلامة من الغلو والغفلة ليكونوا في حصن وعصمة من الجهالة والضلالة والإنحراف عن جادة الهدى، وأما في المعاملات فإن المسلمين يسألون الهداية في أحكام الحلال والحرام والعصمة من ظلم الغير والتعدي.
إعجاز الآية
صحيح أن آيات الفاتحة كلها سؤال ودعاء إلا أن هذه الآية دعاء محض جاء بصيغة الجمع رجاء تثبيت المعرفة الإلهية في أركان وجوانح المسلم وإنعكاسها على الأفعال.
أنها آية البصيرة والتوفيق وهي مطلقة، تشمل صراط الدنيا المبني على الطاعة والإمتثال للأوامر الإلهية، وصراط الآخرة المتمثل بجسر على جهنم في الآخرة وعبوره والنجاة من النار .
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “إهدنا الصراط” ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
وتؤكد الآية بأن المسلمين، يسلموّن بأن الله سميع بصير، يسمع دعاءهم، ويجيب مسألتهم، ويقضي حوائجهم، وجاءت استعانة المسلمين بالله رجاء الهداية والرشاد، وإحترازاً من الشبهات والضلالة.
الآية سلاح
تبعث الآية الإيمان والسكينة في النفوس، وفيها توكيد بان أسباب الهداية بيده تعالى.
وتبين الآية حرص المسلمين على تعاهد كلمة التوحيد، وعدم الخروج عن منازل الطاعة لله تعالى، وجاءت الآية بصيغة الجمع مع أن الذي يتلوها أحياناً فرد واحد من المسلمين، وفيه توكيد على معاني الأخوة بين المسلمين، وأن كل واحد منهم يحب لعموم المسلمين ما يحب لنفسه.
وفي قراءة الآية في الصلاة اليومية إلحاح بالدعاء والمسألة، وإخبار عن حاجة المسلمين للهداية والتوفيق.
وهذه الآية مدرسة في الأخلاق الحميدة، لأن الهداية إستقامة فجاءت الآية لتبين للناس تمسك المسلمين بالأخلاق الحسنة، وهو من وجوه تفضيلهم على الأمم الأخرى بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفيه درس وموعظة للناس جميعاً للإقتداء بهم، والآية سلاح في الدعوة إلى الله تعالى إذ يسمع الناس ترديد المسلمين كل يوم لهذه الآية فيشتاقون للصراط المستقيم ويعلمون موضوعيته والحاجة إلى بلوغ مراتبه، وسواء كان معنى الصراط المستقيم هو الإسلام والقرآن أو غيرهما من وجوه الهداية فان هذه الآية دعوة للمسلمين للتمسك بمبادئ الإسلام، وحث للناس جميعاً على دخوله، والسعي في طلب رضا الله تعالى.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توجه المسلمين إلى الله بالدعاء والمسألة.
الثاني: إنتقال المسلمين بالدعاء من العام إلى الخاص، فبعد أن أعلنوا إنقيادهم التام إلى الله تعالى في أمور الدين والدنيا سألوا الله سبحانه الهداية إلى سواء السبيل.
الثالث: بيان حاجة المسلمين متحدين إلى رحمة الله تعالى.
الرابع: إن الصراط المستقيم مرتبة عالية لا يستطيع الفرد والجماعة بلوغها إلا بالإستعانة بالله تعالى، فجاءت هذه الآية لتخبر عن فوز المسلمين ببلوغ مرتبة السؤال لنيل هذه المرتبة.
الخامس: وصف الصراط بالإستقامة لبيان النفرة من الإعوجاج والميل والتجافي عن الحق والهدى.
السادس: جاءت الآية بصيغة الجمع، ليكون سؤال المسلم نيابة عن إخوانه المسلمين والمسلمات وسؤال المسلمة نيابة عن المسلمين، وليتعدد الدعاء بصيغة القرآنية في اليوم والليلة بصدوره من المسلمين في الصلاة.
السابع: لقد سأل المسلمون التوفيق لأداء الطاعات، وتعاهد العبادات.
وهذه الآية نعمة سماوية على المسلمين أفراداً وجماعات فهي بذاتها وسيلة لهدايتهم وإرشادهم إلى قانون من الإرادة التكوينية , وهو لزوم سعي الإنسان في مرضاة الله، وبذله الوسع في سبيله تعالى، وإتباعه نهج الأنبياء وتقيده بأحكام الحلال والحرام.
وجاءت هذه الآية لتبين حب المسلمين للقاء الله وتفانيهم في مرضاته، ولجوئهم اليه، وفرارهم من المعصية ومقدمات الضلالة، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن) ( ).
وتتجلى في هذه الآية مضامين الإستعانة وإخلاص المسلمين العبادة لله تعالى، ويدل السؤال بصيغة الجمع على وحدة المسلمين في مرضاة الله قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )، فيجتمع المسلمون في مسائل الهداية وهو من أحسن معاني الوحدة والإعتصام بالقرآن والسنة، فحينما أمر الله المسلمين بالتمسك بالقرآن إستعانوا به سبحانه، وسألوه العصمة العامة لهم بالهداية إلى طريق الرشاد والفلاح، ونيل المنازل العالية في الجنة.
مفهوم الآية
وهذه الآية من أمهات المعـارف الإلهية ومدرســة في انكشــاف البصيرة وإرادة اليقين ويمكن اعتبار هذه الآية فرع الآية السابقة بشطريها العبادة والإستعانة لأن عبادته تعالى والإستعانة به هما أهم مصاديق الصراط المستقيم.
ومن إعجاز الآية أنها قيدت الصراط بالمستقيم مع أن الصراط هو الطــريق والطــرق إلى الله كثيرة وهي بعــدد أنفاس الخــلائق للإخبار عن اتحادها بصيغة الإستقامة والتقوى وهــو الواسع الكريم يهدي ابتداء وتفضلاً من غير مسألة، فجاءت هذه الآية على نحو الدعاء ليكررها المسلمون في كل يوم بعدد الفرائض والنوافل لتهذيب النفوس وتخليصها من الحجب الظلمانية وإغواء الشيطان، ولتكون حرباً على الجهل النوعي العام بلحاظ صــيغة الجمـع فيها (اهدنا) وعلى الجهل الشخصي لقراءة المسلم لها كما يترشح الدعاء النوعي العام على الأفراد وظاهرهم وباطنهم.
وهو من منافع وأسرار أداء المسلمين الصلاة جماعة والندب إليها، وهي دفع للعمى وإحتراز من الجحود، وسلامة في الدين والدنيا ومدخــل كريم لصالح الأعمال وتثبيت للأقدام.
ومن معاني الآية إنها التجاء إلى الله وإنجذاب إلى العبادة وشوق إلى الهداية والحاجة الى الإيمان وإعلان عن الخوف والوجل من الزلل، وبغض الكفر والنفرة والضلالة .

الآية لطف
لقد خلق الله عزوجل الإنسان، ورزقه العقل وسيلة للتمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، وطريق الهدى وطريق الضلالة، ثم تفضل وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين لإصلاح النفوس والمجتمعات وجذب الناس لسبل الهداية.
وتفضل سبحانه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين ليقرأ المسلمون هذه الآية في الليل والنهار على نحو الوجوب والندب لتكون عوناً لهم في سلوك سبل الرشاد، ودعوة للناس جميعاً للإقتداء بهم ، فمن التوفيق ان يسأل العبد الهداية من الله تعالى.
والآية دعوة متجددة لكل مسلم ومسلمة للإرتقاء في المعرفة، وزيادة التحصيل، لأن الإقرار بان الهداية من عند الله، وانه سبحانه قادر على كل شئ هو كسب ومرتبة عالية في العلم.
الصلة بين أول وآخر الآية
لقد جاءت الآية الكريمة من ثلاث كلمات إذ بدأت بسؤال الهداية من الله (اهدنا) وجاء السؤال بلغة الجمع في إشارة إلى تخلف الهداية الشخصية عن التأثير في عالم الأفعال والمجتمعات، بل أن المهتدي إذا كان منفرداً فانه لا يقدر على مواجهة أسباب الشر والضلالة، وقد تعرض شطر من الأنبياء لأنواع الضرر والأذى من قومهم ومنهم من قتل مع أنهم جاءوا بالآيات والمعجزات التي تدل على نبوتهم.
فمن إعجاز هذه الآية مجيؤها بصيغة الجمع (إهدنا) وتتعلق هذه الصيغة بمضامين الآيات السابقة لأن الله تعالى هو الرحمن الرحيم فهو الذي يستجيب الدعاء، ويحب أن يكون عاماً شاملاً، والهداية من أعظم مصاديق الرحمة فبالرحمة الإلهية يهدنا الله جميعاً، بما يجعلنا ننال المرتبة والمنزلة الرفيعة يوم الدين حيث الملك لله تعالى وحده.
فالملك يوم القيامة للرحمن والرحيم الذي يهدي المسلمين عموماً إلى فعل الخيرات وإقامة الفرائض، والفوز بالنعيم المقيم، والسلامة والأمن من عذاب النار.
لقد توسل المسلمون بصفة الرحمن والرحيم في سؤال الهداية، وذات الهداية رحمة، ولم ينسبوا الهداية لأنفسهم، وتدل الآية على تخلف الناس عن بلوغ مراتب الهداية الا بفضل الله، ومن رحمته تعالى أن يجعل أسباب الإستجابة قريبة من المسلمين.
أما الكلمة الثانية في الآية فهي (الصراط) وهي مدرسة في علم الكلام، لأنها تدل على وجود نهج وسبيل يحتاج الناس السعي فيه نحو غايات حميدة وتستقرأ موضوعيته من الكلمة التي سبقته، وهي (إهدنا) والكلمة التي جاءت بعده وهي (المستقيم) لتدل الآية على عظيم رحمة الله بان يعلّم ويرشد المسلمين الى كيفية الدعاء وموضوعه.
وتبين الآية أن القرآن مدرسة للأجيال، والجامعة الكبرى التي يستطيع من يدخلها سلوك سبل النجاة لما تبعثه من الضياء الذي ينير وسط وأطراف الصراط المستقيم.
فمن إعجاز الآية أنها قيدت الصراط الذي يسأله المسلمون بأنه (المستقيم) لتكون هذه الكلمة وهي الثالثة والأخيرة في الآية تقييداً مباركاً يجعل المسلمين يرتقون في مراتب المعارف الإلهية.
وتبين الآية إحاطة المسلمين علماً بالصراط وحاجتهم إلى الهداية له ولمصاديقه من أداء الفرائض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من أحكام الشريعة الإسلامية.
لقد توجه المسلمون إلى الله تعالى بسؤال الثبات على دين الحق، وعدم الزيغ عنه، لأن الإستقامة تعني عدم الإعوجاج وعدم وجود فترة ضلالة، أو زلل جهتي في باب أحكام التكاليف، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا]( ).
وهذا الثبات من أسرار تقييد الصراط بأنه مستقيم، ومن معاني الإستقامة في المقام إستقرار الإيمان في النفوس.
من غايات الآية
تبين الآية حاجة المسلمين جميعاً إلى بلوغ مراتب التقوى والصلاح، ولا تنحصر هذه الحاجة بهم، بل تشمل غيرهم من أهل الملل والنحل من باب الأولوية القطعية لذا فان الآية تأديب للناس جميعاً ولا غرابة أن يتلوها المسلمون في أقطار الأرض في صلاتهم لتكون مدرسة عقائدية لتنقيح الأعمال وإصلاح الأحوال، وجذب الناس لمنازل الهداية والإيمان.
وتدل الآية على تفقه المسلمين في الدين، وإخلاصهم وثباتهم في منازل العبودية لله تعالى، وسعيهم لنيل رضاه تعالى، وهو سبحانه يهديهم إلى دعائه ومسألته ويرشدهم إلى سبل الهداية، ويدلهم إلى الطريق المستقيم ويقربهم من الطاعات، ويمدهم بعونه وتوفيقه لأداء العبادات ويعصمهم من المعاصي والهلكات، قال تعالى[قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( ).

التفسير
يرشد الله عز وجل عباده إلى طريق معرفته، ويوفقهم في سبل طاعته ومسالك العبودية والتوحيد ويعينهم على الإقرار بربوبيته وتوحيده.
ولقد تفضل سبحانه ببعث الأنبياء والرسل وانزل الكتب السماوية ليهدي الناس إلى طرق الإيمان ويوجههم نحو النجــاة والفوز في الدارين بإنتهاج طريق التكليف والإختبار، وليس عن طريق القهر والإجبار بإعتبار أن الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاغ إلى الآخرة ويؤكده قوله تعالى [ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ]( ).
وليثبت الفعل للعبد وعزيمته وإختياره وفق قضاء الله عز وجل ومشيئته، والآية إبطال للقول بان الفعل كله من العبد ويكون من التفويض، وللقول بانه لا فعل للعبد ويكون من الجبر، وورد عن الإمام عليه السلام: “لا جبر ولا تفويض ولكن امر بين الأمرين”( ).
وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل( ) “انه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قالت له اليهود إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، فقال: انا من غضب الله افر، وقالت النصارى انك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا استطيعه، فاستمر على فطرته وجانَبَ عبادة الإوثان ودين المشركين ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود اذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه وآمن بما وجد من الوحي”.
والهداية إلى الطريق المستقيم ضرورة دائمة للإنسان ضمن النظام الأحسن للموجودات والغايات النهائية لعمار الأرض في الحياة الدنيا، والآية تظهر الحاجة الى الإفاضة الربانية لتقويم سبل الهداية والرشاد للجماعات والأفراد ومن تلك الإفاضات آية البحث بإعتبارها حجة ودعاء وبصيرة وإلتجاء اليه تعالى.
عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ضرب الله صراطاً مستقيماً، على جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، على الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا ايها الناس إدخلوا الصراط جميعاً ولا تخرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط.
فاذا أراد الإنسان ان يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فانك ان تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسور حدود الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم”، رواه ابن ابي حاتم وابن جرير والترمذي( ).
وجاءت هذه الآية بياناً لحالة الإيمان والتسليم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة الى ما وعد الله به من هداية لأهل الإيمان، قال تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وفي معنى الصراط ذكرت وجوه ومصاديق :
الأولى : أنه كتاب الله، وهو المروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإمام علي عليه السلام وعبد الله بن مسعود، وبالإسناد عن الحارث الأعور عن الأمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصراط المستقيم كتاب الله”.
الثانية : الإسلام، وهو المروي عن جابر وابن عباس( ).
الثالثة : دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وهو المروي عن محمد ابن الإمام علي( ).
الرابعة : سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاجه واهل بيته على جادة الحق والشريعة، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام في الآية انه قال: “صراط محمد واهل بيته”.
الخامسة : حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومودة اهل بيته التي وردت بنص القرآن الكريم بإعتبارها سبيل هداية وطريق فلاح وتمسكاً بعرى الإيمان، لذا ورد عن ابن عباس في الآية قوله: “قولوا معاشر العباد ارشدنا الى حب محمد واهل بيته”.
السادسة : نهج الأنبياء والمرسلين حملوا راية التوحيــد وتغشاهم الله عز وجل بنعمة الهداية والإيمان.
السابعة : ورد عــن الإمــام علــي عليه السلام في تفســـير قــولــه تــعــــالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] أدم لنا توفيقك الذي به اطعناك في ما مضى من أيامنا حتى نطيعك ايضاً في مستقبل اعمارنا لتكون العبادة متصلة وتستوعب الحياة الدنيا.
الثامنة : في العيون ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسير الآية وما فيها من مضامين الدعاء قال: “يعني ارشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا ونهلك”.
التاسعة : إنه الطريق الحق.
العاشرة : عن الإمام الصادق عليه السلام : “إنه الطريق إلى معرفة الله عز وجل”( ).
الحادية عشرة : جسر ممدود على جهنم يعبر المؤمنون عليه بسرعة وأمان وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط مرة، ويكبو أخرى ، ويمشي مرة ويحبو أخرى، وتصفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال: الحمد لله الذي نجاني منك لقد أعطاني شيئا لم يعطه أحد من الأولين، ولن يعطيه أحدا من الآخرين)( )، وعن عبد الله بن مسعود قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطائفة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود الإبل والبهائم، ثم يمرون والملائكة تقول: رب سلم سلم)( ).
الثانية عشرة : وعنه أيضاً: “أن الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو وأرتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة”.
ويؤكد ظهور التداخل والتقارب بين هذه الوجوه من التفسير شمول الآية في تأويلها للمتعدد من السبل وان كلاً منها طريق مؤدية الى مرضاة الله وسبيل إلى محبته وطاعته.
وقال الرازي: قال بعضهم: الصراط المستقيم: الإسلام وقال: بعضهم: القرآن، وهذا لا يصلح لأن قوله “صراط الذين انعمت عليهم” بدل من الصراط المستقيم، إذا كان كذلك كان التقدير اهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد إهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة( ).
هذا من جهة نسبة القول والسند، أما من جهة الدلالة فلا يلزم في الآية التطابق في مصاديق الصراط , بل يكفي الإلتقاء في موضوعه وإتحاد جنسه، فكل يكون صراطه المستقيم بحسب تكليفه والمأمور به والكتاب الذي بين يديه .
والجمع بين الآيتين بلحاظ التفسير الوارد للصراط في هذه الآية هو الأظهر وتتفرع عنه آية إعجازية وهي إرتقاء المسلمين ونيلهم لمراتب من الشرف لم تصل إليها الأمم السالفة والملل السابقة الأمر الذي إستلزم قراءة الآية في الصلاة فتحتسب عند الله تعالى دعاء وتضرعاً وأهلية لحمل الرسالة وإستحقاقاً لهذه المنزلة الرفيعة.
الثالثة عشرة : لقد جاء الصراط في خمس وأربعين آية من القرآن , كلها في الهداية إلى سبل معرفة الله والعمل الصالح بإستثناء موضع واحد منها متعلق بالآخرة في قوله تعالى [احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ]( ).
الرابعة عشرة : ورد الصـراط بنعــت الإســتقامة في ثلاث وثــلاثين آية منها، كما ورد بالإضافة الى البــاري عز وجل وأسمائه الحسنى، وفي آيتين منها صراطاً سوياً مرة من غير تعريف، وأخرى بتعريف بقوله تعالى [فَستَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى]( ).
الخامسة عشرة : يفسر القرآن بعضه بعضاً رحمة من الله تعالى , وبياناً وباب هداية وسبيل توفيق وطريق رشاد , وأماناً في مسالك التأويل، وورد في القرآن تفسير الصراط بقوله تعالى [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
السادسة عشرة : جاء الصراط بعنوان العبادة والثبات على الإلتزام بالتوحيد وفي التنزيل [وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( ).
إن الإقرار بالعبودية لله عز وجل والإيمان بإنعدام الشريك والتسليم بما جاء به الأنبياء والرسل وان الآخرة حاصلة قطعاً وجزماً هو الإعتقاد الصحيح الذي يجب ان يتجسد في واقع الأفعال وميادين الأعمال بالإلتزام بأداء الفرائض وإتخاذ جادة الحق سبيلاً ومنهاجاً ودليلاً، والتمسك بأحكام الشريعة وإجتناب ما نهى الله عنه من الفواحش والسيئات في سعي حثيث بدأب ووعي إيماني ورشاد وتسديد نابع من روح التوكل والهداية كسبيل مبارك تتغشاه البشارة بسلامة الوصول إلى الغايات السعيدة في الدار الآخرة.
لقد جاءت الآية مناسبة وكنزاً وسلاحاً للهداية والتوفيق الى هذا السبيل ولتؤكد في مضامينها ضرورة الإلتزام بالصلاة والصيام وإتيان الفرائض حيث الحاجة للهداية الى العبادة قائمة في كل وقت وملازمة للعبد في ساعات حياته في دار الدنيا حتى وإن كان متلبساً في أداء العبادة ذاتها، والقول بان هذا تحصيل لما هو حاصل فيه عدم التفات للحاجة المتجددة إلى الهداية والرشاد بتجدد الفرائض والواجبات مع توالي الأيام.
وقال أحد علماء التفسير: واما في الأعمال فنقول: “من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود، والصراط هو الوسط وهو العفة”( )، وايضاً “من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن، فالصراط المستقيم هو الوسط وهو الشجاعة، وانه عموماً الوسط الحقيقي بين الأخلاق المتضادة كالسخاء بين التبذير والبخل، والإقتصاد بين الإسراف والتقتير، والتواضع بين التكبر والمهانة ونحو ذلك، فان الوسط بين هذه السجايا المتناقضة هو السبيل المحمود وان طرفي التفريط والإفراط مذمومان وان الصراط المستقيم هو الوسط الحق الذي لا ميل له الى احد الطرفين ولا عوض له وهو ادق من الشعر، هكذا قال الحكماء”.
وهذا القول فيه نظر وتأمل وهو غير مناسب لتفسير الآية الكريمة ولا يرقى الى مستوى التأويل، وصحيح ان الوسط كثيراً ما يكون هو المناسب وفعله صحيح إلا أن صحة الفعل بالمعنى الإصطلاحي والعبادي لا تتأتى من كونه وسطاً بل لأنه يأتي مطابقاً لأحكام الشريعة، إذ أن ملاك الأعمال وأشكالها تحددها الشريعة وما تضعه للمسلمين من ضوابط وأحكام تلتقي مع هذا القول في مواطن كــثيرة في الحياة الدنـيا من غير ان تكون له الحكومة عليها، وقد يكون الوسط أدنى مرتبة في الصالحات وقد لا ينفع العــبد في عبادته فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد لا ينفع فيه إلا أعلى مراتبه مع إمكانها وعدم الحرج فيها وقد تترتب المفسدة على ترك تلك المرتبة العالية، والعبادات المشروطة والمقيدة لابد ان يؤتى بها جامعة للشرائط.
ومعنى الصراط في الآية أوسع من أن ينحصر بالوسط من الأفعال، وموضوعه يختلف معه , وان كان الوسط في الغالب من مصاديق الصراط .
وجاءت السنة في ظاهرها بإمتناعه عن الحد بهذا التعريف، ويحتاج المرء احياناً للمبادرة الى فعل يبتعد عن الوسط يميناً او يساراً لمصلحته في دينه، عزة في الله أو تقية دون أن يخرج عن الصراط وإختيار منهاج العمل لا يأتي من عنوان الوسطية ونحوها بل بإعتبار التكليف الشرعي والأمر الإلهي.
ويحتاج دوام الهداية لدى العبد إلى فضل من الله تعالى ورحمة وفي التنزيل [ربَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]( )، وفي الحديث “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك”.
والدعاء ورد من منزل الهداية لسؤال الثبات على الدين في مستقبل الأعمال ولمنع مغادرة الإيمان أو أن يكون مستودعاً ليس مستقراً ولدفع البلاء والإمتحان الذي تحضر معه ملكة الصبر وارادة التحمل لكي لا تزل القدم في الآخرة.
إذ جاءت الروايات والأخبار بوجود صراط في الآخرة يمشي عليه الناس يوم الحساب وهو آية من آيات الآخرة وربما ليس له أبعاد ثابتة، وإتساعه وضيقه ومجموع هيئته يختلف بالنسبة إلى العباد حسب أعمالهم في الدنيا وإلتزامهم بأحكام وآداب الصراط المستقيم فيها وتقيدهم بسنن الشريعة اذ أن الدنيا دار عمل وإختبار وإمتحان وهي السبيل الى المقام في الآخرة والترابط بين الدارين معروف وظاهر.
وفي رواية يصف فيها الإمام الصادق الصراط الأخروي بانه دقيق ولكن قدرة العبد على اجتيازه تتعلق باعماله في الحياة الدنيا، فالتقيد التام بالفرائض واحكام الدين يجعل العبد يمر عليه مسرعاً وهكذا فان مروره على الصراط يتناسب مع حاله واعماله في الدنيا.
قال: “هو ادق من الشعر، واحد من السيف، فمنهم من يمر عليه مثل البرق، ومنهم من يمر عليه مثل الفرس، ومنهم من يمر عليه ماشياً، ومنهم من يمر عليه حبواً، ومنهم من يمر عليه متعلقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً”( ).
وظاهر الخبر أن الصراط واحد ومتواطئ وإن الإختلاف بين الأفراد في إجتيازه بحسب الأعمال وفعل الصالحات.
ومن هذا أهوال هذا الموقف طول الصراط ومدته , فقد ورد عن جعفر بن نبات قال وصف الإمام جعفر الصادق عليه السلام الصراط فقال: “ألف سنة صدور، وألف سنة هبوط، وألف سنة حُدال”( ).
ولعل شدة الإمتحان فيه تكمن في مواضع دقيقة منه تمثل نقاط عبور وحيدة لا يمكن تركها إلى غيرها أو إستبدالها تكون حال العبد فيها بمثل باب من أبــواب العــبادة في الدنـيا ففـي قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ]( ) قال عليه السلام: “إن قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة وقال: ما مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبه عليها عوناً إلا الله تعالى”( ).
ولقد أنعم الله على أهل الأرض بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسله رحمه للعالمين، فجعله يخبر المسلمين بسبيل إجتياز الصراط الأخروي ونوع العمل الصالح الذي يجب أن يتسلح به الإنسان للنجاة من الهاوية.
ومن فلسفة الصراط أنه داعــية إلى الحــق وسبيل هداية في الدنيا لما في الأخبار عنه من وعد ووعــيــد، في الكافي عن الإمــام محمـد الباقر عليه السلام عن أبي ذر رضي الله عنه قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: حافتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فاذا مر الوصول للرحم المؤدي للأمانة نفذ الى الجنة، وإذا مر الخائن للأمانة القطوع للرحم لم ينفعه معهما عمل وتكفئ به الصراط الى النار”( ).
ولعل الأمانة هنا أعم من الأمانة التمليكية والوديعة إذ أن أهم أفراد الأمانة هي الأمانة العقائدية وتعاهد لواء التوحيد الذي يتمثل بابهى صورة بأداء الفرائض العبادية.
ولا تخرج الآية الكريمة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] عن مدار الإيمان فهي مرتبطة مع الآية التي قبلها بإعتبار أن الإقرار بالعبودية لله عز وجل توسل اليه تعالى وإقتراب من رحمته وباب للهداية الى الصراط المســتقيم، قــال تعــالى [وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وقراءة الآية السابقة وهي [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ] والإعتقاد بمضمونها وثيقة عبادية وخطوة في طريق التوحيد وجاءت هذه الآية لسؤال الهداية التي وعد الله بها أهل الإيمان والمنة التي تفضل بمنحها للذي يتمسك بعرى التوحيد، وكأن الآيـة الســابقة هــي آية الإيمان والآية اللاحقة التي نحن بصدد تفسيرها هي آية الهداية فمن أراد من الله عز وجل ان يرشده الى سبيل الرشاد والسداد والفوز في الدار الآخرة فعليه ان يعبد الله الذي له ملك السماوات والأرض ويستعين به في جميع شؤونه.
وبالجمــع بين الآيتين يظهــر أن الإنسان لا يستطيع إجتياز الصراط إلا بفضل الله وإعانته تعالى سواء بالهداية إلى الأعمال والأسـباب المؤدية إلى عبور الصراط وإجتيازه أو بالإعانة يوم القيامة على عبور الصراط لأن العمل وحده لا يكفي فيحتاج العبد حينئذ الدعاء سواء الدعاء للهداية والرشاد أو على تقدير مضاف أي أهدنا إجتياز الصراط المستقيم.
والصراط مفرد، ويجمع في الكثرة على صرط ككتاب وكتب، وفي القلة قياسه: صرطة، ولكنه لم يرد في القرآن الا بلغة المفرد وفيه بيان ومنع للإختلاف في التأويل وإخبار إلهي بأن طريق الحق والسلامة في الدارين واحد.
والظاهر أن لغة المفرد في الصراط مع كثرة مفاهيمه المتقاربة ومواضعه في القرآن مصداق للأخبار القائلة بأن الشريعة المحمدية ناسخة للشرائع الأخرى وأنها سبيل النجاة وجادة الحق وسنامه ومن منفعة العباد أن يسألوا الإعانة على التمسك الدائم بأحكامها والثبات في مسالكها المقدسة وأن يطلبوا الزيادة في الهدى لتتغشى الإفاضات الربانية تفاصيل الحياة الشخصية وميادينها المختلفة، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى]( ).
وفي الآية الكريمة ضوء مبارك على النظام الذي يجب ان يلتزم به أهل الأرض وهو روح الهداية والسعي في سبلها بإخلاص سواء في الإعتقاد أو العمل مما يظهر مؤثراً وحساساً في النشأة الآخرة حيث ينعدم التكليف ويكون العبور وضعياً.
هذا وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إذا مر المؤمن على الصراط فيقول بسم الله الرحمن الرحيم طفيت لهب النار وتقول: جز يا مؤمن فان نورك قد اطفى لهبي”.
وفيه بيان إضافي لأهمية البسملة والمواظبة على إتيانها في الحياة الدنيا وأوان الحاجة المتصلة في الآخرة.
السابعة عشرة : من أسماء الله تعالى الشكور فهو الذي يشكر العباد ويجازيهم على عبادتهم، ولأن شكره وإحسانه تعالى لا ينحصر بالحياة الدنيا بل يشملها والآخرة فأننا نطمع بثوابه العاجل والآجل على العبادة وحصر الإستعانة به تعالى.
الثامنة عشرة : في الآية إخبار عن تعقب فضل الله تعالى لحسن الإمتثال والطاعة، فليس ثمة فاصلة زمانية بينهما، وتنتهي العبادة والإستعانة من العبد تنتهي بإنقطاع أيامه في الدنيا لأن العمل محصور بها بينما طلب الهداية والرشاد إلى الصراط المستقيم مطلق وشامل للحياة الدنيا والآخرة وهو الأمر الذي يؤكد سعة جزائه سبحانه.
التاسعة عشرة : الآية تأديب وتعليم للدعاء وإختيار قهري لنوع المسألة ضمن عموم التكليف فبعد أن أستجاب المسلم لأداء الصلاة جاءت الآية بالدعاء والسؤال والرجاء مما يدل على أن تفكيك التكاليف يدل على أنها رحمة وحرز وكنز وإدخار.
العشرون : لغة الجمع في الآية عنوان الصلاح والإجتماع ونبذ الفرقة، فالآية حرب على التشتت والنفرة والقطيعة بين المسلمين سواء كان المعنى سؤال الهداية للمسلمين أو الهداية لكل مسلم على نحو الإستقلال والإنفراد.
الحادية والعشرون : في الآية رحمة مستحدثة وهي الإنتفاع من دعاء الغير واعتباره في الشريعة مما لا ينكر وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها، قالوا يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة، قال: يدعو بعضكم لبعض، لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك)( ).
الثانية والعشرون : في لغة الجمع في هذه الآية والآية السابقة تأسيس ودعوة للعمل الجماعي والإنضواء تحت لواء الجماعة والحرص على اداء الصلاة جماعة.
الثالثة والعشرون : لم ترد الآية بسؤال الصراط وحده وان كان نعمة عظيمة، بل قيدته بالإستقامة، وفيه إعجاز وفضل إلهي لأن الله تعالى يعطي بالأوفى والأتم والأكمل وأن المسلمين يستحقون هذه الدرجة سواء في باب السؤال أو باب العطية والجزاء.
الرابعة والعشرون : الآية دعوة للناس للإنتماء إلى الإسلام لأن الإستقامة والهدى ينحصران به.
الخامسة والعشرون : إنفراد الإسلام بسلامة الإختيار والطريق الذي يوصل إلى الغايات الحميدة.
السادسة والعشرون : الإستقامة عنوان الرشاد وعدم الإعوجاج أو التيه والضلال.
السابعة والعشرون : الآية ثناء على الله عز وجل لما فيها من الإلتجاء اليه وحسن الظن به وبعظيم قدرته وسعة رحمته.
نظرية جديدة في الإعجاز
هناك صلة وملازمة بين اللفظ والوجود الذهني لمعناه الذي يستحضر بمجرد سماع اللفظ، ونوقش في العلاقة بين اللفظ والمعنى وذكرت فيها أقوال منها:
الأول: وجود عامل خارجي مترشح عن الجعل والتخصيص للعلاقة بين ذات اللفظ والمعنى، ويطلق عليه الوضع وهو المشهور لأن دلالة الألفاظ على المعاني ليست ذاتية.
الثاني: العلاقة السببية بين اللفظ والمعنى، أي ان اللفظ سبب لوجود المعنى لذا يستحيل تخلف المعنى عن اللفظ.
ومن النظريات التي تفسر الصلة بين اللفظ والمعنى نظرية التعهد ومضمونها التوافق النفسي والتفاهم على معنى معين، وسُميت بنظرية التعهد بإعتبار أن المتكلم والمتلقي تعاهدا على ملازمة مخصوصة بين اللفظ والمعنى، وأصبحت حجة على كل منهما على نحو الإخبار والقصد، لذا إعتبرت من الدلالــة التصديقية وليس من الدلالة التصورية.
ومن إعجاز القرآن ان اللفظ القرآني يتعهد بالإلتزام المتعارف على معنى مخصوص أو عدة معان متعارفة مما ينحل إليها المشترك اللفظي، ففي الحرف القرآني معان ظاهرة وأخرى متجددة ومستحدثة من غير خروج عن أصل اللغة ومدلولاتها وقواعد النطق والنحو والتصريف، تسمعها وتدرك أنها جديدة لكن أصولها ظاهرة وكأنها تنكشف للملأ لأول مرة من غير ان تكون من الرأي في القرآن.
ويدل اللفظ الواحد في تركيبه على معنى معين في اللغة، وقد ينتقل إلى غيره مجازاً، بينما يدل اللفظ القرآني على عدة معان تتعدى حدود الملازمة بين اللفظ والمعنى، وبذا تكون علوم القرآن غير متناهية تنقدح منها للأبصار والبصائر مضامين قدسية مستحدثة على نحو دفعي أو تدريجي.

بحث في علم الاخلاق
ينقسم كل علم إلى ثلاثة أقسام:
الأولى : الموضوع. الثانية : المسائل. الثالثة : المبادئ.
والعلم بالنسبة لموضوعه كالاسم للمسمى والعنوان للمعنون.
وموضوع كل علم هو عوارضه الذاتية ويطلق العرض على الكليات وبذا يطابق مفهومه اللغوي، وموضوع علم الأخلاق السجايا النفسية والملاكات التي تتحكم بالسلوك والباعثة عليه، ومباحثه تنمي الفضيلة في النفس وتساهم في تهذيب المجتمعات من الرذيلة والكدورة، وتحول دون غلبة النفس الشهوية والغضبية لتبقى السيادة للقوة الناطقة والعاقلة سعياً للسعادة الحقيقة وبلوغ منازل التقوى والإرتقاء في سلّم الإيمان.
فموضوع الفقه الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب، والندب أي الإستحباب، والإباحة، والكراهة، والحرمة، وعوارضه الذاتية أفعال المكلفين.
وعلم أصول الفقه هو الكتاب، والسنة، والأدلة الأخرى المترشحة عنهما، على خلاف في بعضها كالإجماع والعقل والقياس و الإستحسان وحجية الأمارات الظنية والظواهر ونحوها.
وموضوع علم النحو الكلمة العربية وتركيب الجملة لحفظ اللسان من الخطأ، ويرتكز على قواعد في الكمال والفضيلة تساهم في جلب النفع أو دفع المضرة، ويجعل الدنيا دار أمان وإلفة، لذا فإن مسائله تتعلق بحسن الخلق والسيرة والأخلاق المحمودة والحكمة والعفة، وكل علم لا يتقوم إلا بمسائله.
وسجايا الإنسان وطبعه ومزاجه وحالته النفسية قابلة للحسن والقبح، والمدح والذم، ويمكن معرفة خلق الشخص من خلال سلوكه وسيرته بالبرهان الإني وهو الإستدلال بالمعلول على العلة، وإتخاذ المعلول بعد معرفته سبيلاً لمعرفة العلة، والإستدلال بعدم المعلول على عدم العلة، ولعل مدارس التحليل النفسي التي ظهرت حديثاً منه.
كما يمكن معرفة سلوكه من خلال خلقه وطبعه وهو المسمى بالبرهان اللمّي وهو الإستدلال بالعلة على المعلول، وبعدم العلة على عدم المعلول، لذا يكون من الفراسة معرفة رد وجواب شخص ما بسبب معرفة سجاياه ومزاجه.
وفي الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”( )، وفيه إكرام لمن قبله من الأنبياء، ولطف في وصف أفعال الناس وأنها لم تكن على نحو الموجبة الجزئية، وأن الإسلام يضفي على الصفات الحميدة صفة كمال.
ومن الصفات الحميدة التي تحمل أمارات الكمال الإنساني الهداية إلى الصراط المستقيم، لذا جاءت هذه الآية هبة الهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتفضل الله سبحانه وجعل المسلمين يقرأونها كل يوم عدة مرات لتكون سؤالاً ملحاً وتضرعاً دائماً، واقراراً بالحاجة الى رحمته وهدايته تعالى.
قوله تعالى[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] الآية 7

القراءة والإعراب
ومنهم من قرأ (ولا الضالين، بهمز الألف، لكراهة التقاء الساكنين الألف واللام، فحرك الألف لإلتقائهما فانقلبت همزة لأن الألف حرف ضعيف واسع المخرج لا يتحمل الحركة) ( ).
والصحيح هو المرسوم في المصاحف بالألف، ولا تصل النوبة إلى ضرورة تحريكه وقلبه إلى أقرب الحروف إليه وهو الهمزة واذا كانت الألف في بعض الكلمات تقرأ أيضاً بالهمز مثل مأده وشأبه، فلا يعني هذا قراءة الألف مطلقاً بالهمز بالإضافة إلى حجة القراءة المتواترة والموروثة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة الضالين بالألف على نحو الإستغراق مع كثرة قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة اليومية، واتبعه على ذات القراءة الصحابة وأهل البيت والتابعين وأئمة المسلمين.
صراط: بدل من الصراط في الآية السابقة وهو بدل الكل من الكل.
الذين: اسم موصول في محل مضاف اليه.
أنعمت: فعل ماض وفاعل.
عليهم: جـار ومجــرور، وجمــلة (أنعمت عليهــم) صلة (الـذين) وبها يتم اسم مفرد يكون في موضع جر بإضافة صراط إليه، والضمير في [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ] على وجوه ثلاثة وفق الصناعة النحوية:
الأولى : بدل عن الضمير (هم) في عليهم.
الثانية : بدل من الذين.
الثالثة : صفة للذين.
الظاهر أن الوجه الثاني هو الأقرب، لأن نعم الله على جميع الناس متصلة، وبعض منها إستدراج ومنها ما لا تقابل بالشكر ولتعدد فضل الله تعالى وإكرامه وتشريفه للمؤمنين، وحكي شاذاً اللذون بدل الذين كما حكي الشياطون في حال الرفع لكلمة الشياطين.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي صراط من انعمت عليه وهو المروي عن عمر وعبد الله بن الزبير، وقد اورد اهل اللغة في عليهم لغات عديدة:
الأولى : كسر الهاء واسكان الميم وهي قاعدة الجمهور ولغة نجد.
الثانية : ضم الهاء واسكان الميم وهي قراءة حمزة.
الثالثة : كسر الهاء والميم وياء بعدها (عليهمي) وهي قراءة الحسن وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمرو بن فائد.
الرابعة : كسر الهاء – والميم والياء بعدها (عليهم) .
الخامسة : كسر الهاء وضم الميم بواو بعدها عليهم وهي قراءة ابن كثير.
السادسة : ضم الهاء والميم وواو بعدها وهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة.
السابعة : وضمها – بغير واو – نسبت لابن هرمز.
الثامنة : كسر الهاء وضم الميم بغير واو نسبت للأعرج والخفاف عن ابن عمرو.
التاسعة : وضمها وكسر الميم بعدها وكذلك بغير ياء وقرئ بهما ايضاً وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم او ضمها باشباع او دونه او كسرها باشباع او دونه.
وفي (غير المغضوب) روى الخليل عن عبد الله بن كثير بالنصب، وقال الأخفش ان (غير) نصب على الحال وان شئت على الإستثناء، وقال الكوفيون: لا يكون إستثناء لأن بعده (ولا) ولا تزاد (لا) في الإستثناء، وقال أبو العباس: هو إستثناء ليس من الأول.
وتتعلق المسألة بعلم التفسير فان الغضب في الإستثناء الأول صادر من مقام العزة والجبروت، بينما الضلالة صادرة في الإستثناء الثاني من العبيد، وأن أسباب غضبه وسخطه تعالى مختلفة بتباين نوع الفعل الذي يقترفه العبد مما نهى عنه تعالى، والضلالة من الكليات المشككة والغضب الإلهي أعم من أن تنحصر أسبابه بالضلالة، ولا يحتسب (الضالين) عطف بيان الذي يأتي فيه المعطوف تابعاً لتوضيح متبوعه ويخصصه.
وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً وقال: “هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه ويساره هذه سبل وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى [ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ]”( ).
(لا) زائدة عند البصريين جاءت لتوكيد النفي وبمعنى (غير) عند الكوفيين.
وهمز أيوب السختياني الضالين فقرأ (ولا الضالين) بقلب الألف إلى همزة ثم تحريكها على طريقة بعض العرب في التخلص من إلتقاء الساكنين، وقيل أن الأصل في الضالين: الضاللين ثم أدغمت اللام في اللام فأجتمع ساكنان لأن في الألف مدة والثاني مدغم.
وروي أن عمر بن الخطاب والزبير كانا يقرءان وغير الضالين، وذكر الزمخشري أن الإمام علي عليه كان يقرأها( )، وعن الخليل أن النصب بفعل محذوف أعني، وقال بعضهم بوجود حذف في الآية الكريمة والتقدير غير صراط المغضوب عليهم.

اللغة
قد تقدم معنى الصراط في الآية السابقة، والنعمة والنعيم والنعماء: الخفض والدعة والمال، والنعمة: الصنيعة والمنة والعطاء الجزيل.
و(غير) لفظ يأتي لبيان المغايرة وقيل انه من مفردات اللغة العربية ومبتدعاتها اذ لا تشاركها فيه اللغات السامية الأخرى.
وهو في الأصل صفة تفيد في مضمونها مغايرة مجرورها الذي يليها لموصوفها السابق لها ذاتاً او صفة، فتقول مثلاً: العالم غير الجاهل وتقول: المتحرك غير الساكن.
وفي مواضعها لا يصح إستعمال (إلا) التي تفيد معاني الإثبات والنفي، ولكن (غير) يمكن أن تأتي محل (إلا) في المغايرة نفياً واثباتاً بغض النظر عن إعتبارات الذات والصفة مع إختلاف يسير في المعنى للحصر والإستثناء الذي يكون فيما بعد (لا) وللسعة والشمول الذي يكون قبل (غير).
وقد يستعمل لفظ (غير) للكناية والتعريض وهناك فرق بين (انا لا افعل الفواحش) و (غيري يفعل الفواحش) ففي الجملة الأولى يثبت الإنسان او يدعي نزاهته ونفى المنكر عن شخصه وذاته وفي الجملة الثانية أضاف إلى هذا النفي نسبة أتيان الفواحش إلى شخص أو أشخاص آخرين .
وقال أهل اللغة بخلو المقام من التعريض او قصد انسان بعينه، ولكن هذه اللغة تستعمل في الجدال والخصومة وقد يفهم منها اولوا الألباب التعريض بالمخاطب او غمز شخص او جماعة معينة.
ومن الفقهاء من رتب عليها حكم القذف وليس بتام لأصالة البراءة ولطرد احتمال ارادة عدم التعريض والجرح.
ولقد وردت (غير) في الآية الكريمة معرفة لمكان الإضافة ولأنها جاءت بين متضادين معرفتين، والمعروف ان غير اذا اضيفت الى معرفة له ضد واحد تكون معرفة لإنحصار الغيرية بفرد واحد وكأنه من ملحقات السبر والتقسيم في البلاغة.
ويقال غضب عليه يغضب غضباً فهو غضبان والغضب نقيض الرضا، والغضب عند الإنسان عبارة عن حالة الإنفعال وشدته مع تولد إرادة الإنتقام، ولكن غضب الله سخطه على أهل المعصية بعد قيام الحجة عليهم وإستحقاقهم لما يعرضون أنفسهم له من العقاب، وفي الحديث القدسي: سبقت رحمتي غضبي.
والرحمة والغضب من صفات الفعل وليسا من صفات الذات، وفي حديث الإمام الباقر عليه السلام: “ان الله خلق الرحمة قبل ان يخلق الغضب”.
والمفاعيل إذا تقدمت الصفات فإن التذكير والتأنيث والجمع يلحق الأخيرة لتترك المفاعيل على هيئاتها، تقول: هو مغضوب عليه، وهي مغضوب عليها: وهم مغضوب عليهم.
والضلال والضلالة ضد الرشاد والهدى، والضلال: الضياع والسير في دروب الهلاك والإتجاه نحو الهاوية، ويقال: ضل الشيء يضل ضلالاً إذا ضاع، وضل عن الطريق: إذا جار.
في سياق الآيات
بعد ان كان موضــوع الآية الســابقة ســؤال الهدايــة والرشـاد جاءت هذه الآية الكريمة بلغة الوقاية التي تتضمن النجاة من مسالك الضلالة.
بعد توكيد الآيات على ان الله عز وجل هو الرحمن الرحيم، وإن مفاتيح الرحمة بيده تعالى، وما من مخلوق إلا وتتغشاه رحمة الله إبتداء وإستدامة وليس من عبد إلا وهو محتاج إلى رحمته في الدنيا والآخرة، وأنه مالك يوم القيامة، وإليه يتوجه السؤال بالنجاة يوم القيامة بالهداية إلى سواء السبيل وطرق السلامة من العقاب.
وجاءت هذه الآية لوصف وتفصيل الصراط الذي يسأل المسلمون الله عز وجل بالإهتداء له، ومن الآيات أن المسلمين جميعاً وفي أجيالهم المتعاقبة وإلى يوم القيامة يسألون الله عز وجل ذات الصراط مما يدل على سعة رحمة الله وأنه سبحانه يهدي المسلمين جميعاً إلى الصراط وهو يسعهم من غير تزاحم أو ضيق فهو مصداق لرحمة الله تعالى وأسباب الهداية والنجاة التي خص بها المسلمين.
إعجاز الآية
يدل ظاهر الآية على وجود صراط هدى، وهو أمر يدرك بالوجدان بطريق الحق والرشاد الذي يقود الى الجنة، أما طريق الضلالة فانه يسوق إلى النار.
وفي الآية براءة من الكفار والجاحدين، وتنزه عن أفعالهم لتكون حرزاً وتحذيراً دائماً من الركون إليهم.
لقد أظهرت الآية رحمة الله عز وجل بالمسلمين وتلقينه إياهم صيغ الدعاء بقصد القرآنية والتلاوة ليكون فيها أجر مضاعف، وهي لطف ورأفة ورحمة بكل مسلم ومسلمة ووسيلة سماوية للتفقه في الدين والإرتقاء في مراتب المعرفة الإلهية.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “صراط الذين” ولم يرد هذا اللفظ الا في هذه الآية.
الآية سلاح
تهدي الآية إلى صدق الإيمان والتقيد بأحكام العبادة والتنزه عن الشرك الظاهر أو الخفي، وتساهم في تهذيب النفوس بالإنقطاع إلى الله لعبادته والإستعانة به.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وصراع بين الخير والشر، وبين الإيمان والكفر، ولم يترك القوتين تتصارعان على نحو مجرد، مع ظهور الحسن الذاتي للخير، والقبح الذاتي للشر، بل تفضل وبعث الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب من السماء.
وجاءت هذه الآية لتبين التباين والتضاد بين أهل الإيمان وأهل الكفر في العمل والمناهج والسبل، وثبات المسلمين في السعي للفوز بالدرجات العالية في الجنة.
مفهوم الآية
الآية تضرع إلى الله والحاح بالدعاء وبيان للمسألة بلغة الخشوع والمسكنة , وإحتراز من الغواية , وإدراك لضعف النفس الإنسانية, وإعلان عن عدم الإعتماد عليها في الإختيار والحسم , فقد لا تهتدي بذاتها إلى الطرق الرشيدة والغايات الحميدة.
ومن مفاهيم الآية أنها إخبار عن عظيم نعمة الله تعالى على أمم وجماعات المؤمنين في الملل السالفة بالهداية إلى دين التوحيد وعقيدة الإيمان، وفيها سعي لتثبيت دعائم الإسلام بإظهار الحرص على التقوى واللجوء الى الله عز وجل، وفيها إعلان عن كره الضلالة ولزوم الإلتفات الى لزوم الحذر منها وإجتناب غضب الله وبطشه تعالى، إنها دعوة إلى الإسلام وإظهار لحال الخشوع والخضوع له تعالى بلسان الشوق إلى سبل الصلاح والإنجذاب إلى مسالك الإستقامة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ذكر صفة واقعية للصراط المستقيم بأن يكون معلوماً ظاهراً لأن الأنبياء والصالحين ساروا فيه.
الثانية: الإقرار بأن الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة وفضل وإحسان من عند الله مما يستلزم الشكر من المسلمين على الهداية اليه.
الثالثة: الملازمة بين إستقامة الطريق وبين الإقتداء بالأنبياء والصالحين وإقتفاء آثارهم.
الرابعة: سؤال النجاة من الكفر والضلالة وطريق الذين جحدوا بالربوبية، وأنكروا النبوة، وأصرّوا على المعاصي.
الخامسة: لجوء المسلمين إلى الله تعالى للنجاة من غضبه تعالى والحلول في سخطه.
السادسة: إدراك المسلمين للقبح الذاتي لمفاهيم الضلالة ولجوئهم إلى الله تعالى لدوام النجاة منها.
إفاضات الآية
هذه الآية فرار إلى الله تعالى، وغرق في أنوار جلال قدسه وإقرار بان الهداية والنجاة، والفوز أمور بيد الله تعالى، وهي دعوة للناس جميعاً للتدبر في الخلق والتدارك والإنابة، وإجتناب أسباب الضلالة والفسوق.
لقد أراد الله عز وجل بيان حقيقة في هذه الآية وهي وجود سبيل سلامة وأمن سار عليه الأنبياء والصالحون من الأمم السابقة، وأن المسلمين يرثونهم في ذات النهج بالدعاء والتضرع والمسأله إلى الله تعالى.
ومن أعظم النعم على الإنسان الهداية , والتي تجعل قلب المسلم أشرف البقاع، ويرى ببصره وبصيرته الصراط المستقيم فيقتفي آثار الأنبياء بإتباع أحكام القرآن وسنن النبوة .
ويفزع كل مسلم الى الله كل يوم من الضلالة والغواية ويلجأ الى الله تعالى للأمن من غضبه سبحانه.
الآية لطف
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين وراثة الأرض وحفظ لواء الوحيد الى يوم القيامة، فتفضل عليهم بهذه الوثيقة السماوية لتكون مدرسة في الهداية، وواقية من مسالك الغواية والضلالة، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وتبين الآية ماهية الحياة الدنيا وأنها دار إمتحان وإختبار، ولكنها تهدي الى إجتياز ما فيها من الإبتلاء والإفتتان باللجوء الى الله تعالى وتلاوة آيات القرآن وإرتداء لباس التقوى والسعي في دروبها.
ومن الآيات أن الآية تقسم الناس إلى قسمين:
الأول: الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم.
الثاني: أهل الكفر والجحود وهم على شعبتين:
الأولى: الذين غضب الله عليهم.
الثانية: أهل الضلالة الذين إختاروا العناد والكفر.
ولم تكتفِ الآية بالإخبار عن القسمين بل جاءت بصيغة الدعاء والمسألة واللجوء إلى الله عز وجل للنجاة من دروب الضلالة واذ كان هناك تضاد بين صراط أهل الإيمان وضلالة الكفار فلماذا لم تكتفِ الآية بسؤال صراط الهداية والرشاد، فيه مسائل:
الأولى: البيان والتفصيل.
الثانية: إظهار الخشية من الله، وتوكيد حب المسلمين لله تعالى.
الثالثة: الحذر والحيطة من الضلالة وأهلها ومسالكها.
الرابعة: السعة والزيادة في الدعاء والتفصيل في المسألة والمناجاة، مع الإلحاح الذي يتجلى بقراءة المسلمين جميعاً للآية في كل صلاة.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت هذه الآية متعلقة بمضامين الآية السابقة، وآيات سورة الفاتحة الأخرى، إذ ان البسملة باب كريم للمسألة والدعاء، وإستفتاح باسم الله وهو الرحيم والهادي والمنعم، والبسملة طلب لنيل مرتبة العمل بالأحكام الشرعية، ثم جاء قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) لبيان أدب العبودية ، ويفيد الجمع بينه وبين هذه الآية التوسل والتضرع للثبات في منازل الشكر لله تعالى .
إن وضع القدمين على الصراط المستقيم تبصرة وأمن وهداية، ولأن الله تعالى هو الرحمن الرحيم فقد هدى الأمم السالفة من الموحدين الى الصراط المستقيم، وجعله طريقاً مألوفاً سالكاً معروفاً لدى الصالحين بل وغيرهم من الناس، إذ ان الطريق السالكة الآمنة يعرفها الناس جميعاً ويتناقلون أخبارها وتستقر إليها نفوسهم وإن لم يسيروا فيها ويروا معالمها.
فجاءت هذه الآية ومافيها من ذكر للأمم السابقة دعوة وترغيباً للناس بالصراط المستقيم، وتبين الآيات حاجة المسلمين والناس جميعاً الى رحمة الله تعالى فهو الرحمن الرحيم .
ومن رحمة الله سماع الدعاء والهداية إلى الصراط المستقيم، وهذه الحاجة أعم من ان تنحصر بالدنيا او الآخرة وحدها، بل تشمل الدنيا والآخرة لذا جاء قوله [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) قبل [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ) لإفادة عموم الرحمة الإلهية متصلة في أفراد الزمان والعوالم الطولية المتباينة , فيحتاج الناس رحمته في الدنيا وعالم البرزخ ومواطن يوم القيامة.
وفي الآية إخبار بأن الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة عظيمة فاز بها المسلمون من الأمم السالفة، والذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن رحمة الله تعالى أنه إذا أنزل رحمة لأهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ] ( ).
ثم جاءت خاتمة الآية والسورة معاً باللجوء والإستعاذة بالله تعالى من مكر أهل الضلالة والجحود عموماً الذين إستحقوا اللعنة والعقاب بسوء إختيارهم وإقامتهم على المعاصي، وكما سأل المسلمون الهداية الى الصراط المستقيم فانهم سألوا العصمة من السيئات والمعاصي، وخلط العمل الصالح بالسيء والقبيح.
من غايات الآية
جاءت الآية خاتمة كريمة لسورة الفاتحة وهي تتضمن دروس الحكمة والموعظة، والسؤال لحاجات الآخرة والنجاة فيها، ولا يعني هذا ان المسلم لا يلتفت ولا يكترث بالدنيا مطلقاً،فورود الآية بذكر إسمين من الأسماء الحسنى “الرحمن الرحيم” عنوان لرجاء فضل الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومهما يبذل الإنسان من الجهد والسعي والكسب في الدنيا فانه لا يستطيع بلوغ غاياته ومقاصده وتحقيق آماله، وتحصيل الأحسن له، لذا يلتجأ المسلمون إلى رحمة الله تعالى الواسعة، ويرجون خير الدنيا والآخرة، ويسألون الفوز بالبقاء على مناهج الأنبياء.
وتبين الآية القبح الذاتي للذنوب والفواحش، وتحث المسلمين على إجتنابها والإبتعاد عنها، والتوقي منها بالدعاء والصلاة وتلاوة آيات القرآن والتدبر بما فيها من المعاني الإعجازية .
لقد سأل المسلمون الوقاية من إغواء الشيطان على جانبي الطريق وفي التنزيل [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
فتفضل الله تعالى ولقن المسلمين بآيات سورة الفاتحة المباركة كلمات النجاة والأمن في النشأتين باللجوء اليه وطلب الهداية الى طريق الايمان والخضوع الى الله تعالى والتقيد باداء الفرائض والعبادات.
التفسير
بعد ان بدأت سورة الفاتحة بالبسملة المباركة والحمد والثناء من موضع الخضوع وبلباس الذل ولسان الخشوع لمقام الربوبية والسلطان المطلق على جميع المخلوقات والتقرب إلى الله تعالى بأعظم صفاته وما نحن بحاجة دائمة إليه من الرأفة والعفو والرحمة في الحياة الدنيا والدار الآخرة بأن الأمر كله يومئذ لله عز وجل بعد غلق باب العمل وفرصه وختم سجله لتبرز أمام الإنسان حقيقة ثابتة وهي وجوب إستثمار الحياة الدنيا للعمل الصالح كسبيل إلى النجاة في الآخرة.
فجاءت صيغة الدعاء وسـؤال الهــدايــة في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) جامعة لوجوه الصلاح والمسألة، ومانعة للإنغماس في المعصية، ولغة الإجمال فيها كالتفصيل المنجز بفضل الله تعالى، وهذا من اعجاز القرآن ان يرد السؤال وموضوع الآية مجملاً فيكون أثره ومنافعه متعددة ومستديمة , فوردت الآية أعلاه بمفهـوم الإجمال لتأتي آية البحث[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( )، بعناوين التوكيد والتفسير والتكرار والأشعار للعزيمة في السؤال والصدق في الإيمان , والإخلاص في النية والعمل.
ولتكون بياناً وتزييناً لروح الإيمان وإدراكاً لمظان الدعاء وعظيم ما أنعم الله به على المسلمين وتنبيهاً وإرشاداً إلى تلك النعم وتذكيراً بها وتحريضاً للفكر الإنساني على إستحضارها والإقرار بها وعدم نكرانها، ولكي يكون المسلمون بعيدين عن أولئك الذين ذمهم الله تعالى في القرآن بقوله [يَعْرِفونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ]( ).
وفي الآية إعتراف من المسلمين بأن ما عندهم من النعم الفردية والجماعية إنما هي من عند الله سواء الظاهرة منها او الباطنة ليحول هذا الشعور الذاتي والإعتراف الدائم دون الغرور والجحود وليكون عنواناً للشكر قال تعالى [ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ…]( ).
لقد كان القرآن صريحاً بذمه للذين لم يضعوا النعمة في منزلتها الحقيقية ولم يؤدوا ما يجب عليهم أزاءها من الشكر والعرفان، ومن أجلى مصاديقه إلتزام جادة الحق وسواء السبيل، قال تعالى [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ…]( ).
وجاءت الآية إحترازاً من هذه الصفة التي كانت متفشية بين الناس، وواقية تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين إلى إتخاذها سبيل رشاد وطريق نجاء وإستعانة به تعالى لإتمام النعم مع توارث وظيفة غرس هذا الإعتراف في الأجيال المتعاقبة وبقائه مصدر إشعاع وهداية لأهل الأرض وليدفع به البلاء.
ويحتاج هذا الإعتراف الى تجسيد في واقع الأفعال وعالم الأعمال بانتهاج طريق الحق والصلاح والحرص الدائم على مظاهر العبودية والإخلاص في العبادة، لذا جاءت هذه الآية ببيان مضمون الهداية في المقام وكيفية سؤالها , والأمل المبتغى في سنخ الطريق الذي يرضي الله عز وجل وفيه الشكر على النعم والفوز في الآخرة والنجاة من صحبة ومحاكاة أهل الكفر والضلالة.
وفي تفسير أهل الصـراط المســتقيم الذين أنعم الله عليهم عــدة وجوه وأقوال:
الأول: صراط الإسلام( ).
الثاني: عن ابن عباس هم اصحاب موسى قبل ان يغيروا( )، وفي قول أضيف لهم أصحاب عيسى قبل التحريف والنسخ.
الثالث: هم الأنبياء.
الرابع: إنه كتاب الله.
الخامس: الذين تلوا آيات القرآن واتبعوا احكامه.
السادس: وبالإسناد عن ابن عباس: طريق من أنعمت عليهم من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين الذين أطاعوك وعبدوك)( )، قال تعالى [فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا]( ).
السابع: روي عن الإمام علي عليه السلام: “ان معنى[صِرَاطَ الَّذِينَ] الآية أي قولوا اهدنا صراط الذين انعمت عليهم بالتوفيــق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة فانهم قد يكونون كفاراً او فساقاً، قال وهم الذين قال الله [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُــولَ فَأُوْلَئِكَ مَــعَ الَّذِينَ أَنْعَـمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا]( ).
الثامن: هم المؤمنون مطلقاً.
التاسع: هم أصحاب وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
العاشر: المعنى صراط من انعمت عليهم بطاعتك.
الحادي عشر: ان النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم هو المقصود.
ولا تعارض بين هذه الاقوال فكل آية من القرآن تتضمن في منطوقها نعمة أو أكثر، وتتعدد النعم بلحاظ المفهوم والدلالات الثلاث المطابقية والتضمنية والإلتزامية.
لقد ورد لفظ (النعمة) من الله تعالى على عباده بصيغة المفرد والجمع في خمسة وستين موضعاً من القرآن، منها ما كان يعم جنس الإنسان ويتعلق باصل الخلق والتكوين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
ومنها ما كان ذا تخصيص ومتوجها، إلى فرد شريف من البشر، قال تعالى[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْــظُـومٌ* لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْــمَــةٌ مِنْ رَبِّــهِ لَنُبِذَ بِالْعَــرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ]( ).
ومنها ما كان يخص جماعة معينة لما إمتازوا به من إرادة الإيمان، وبركات الهداية وأنـوار النبوة، قال تعالى [ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ]( )، ومن النعم ما كانت خاصة بقوم او شعب قال تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ…]( ).
وجاء القرآن بذم الذين أساءوا إستقبال النعم , ولم يؤدوا ما تستلزمه من وجوه الشكر وجلبوا على أنفسهم وأهليهم ومن بناحيتهم البلاء والوبال، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( ) لذا يمكن إعتبار الآية الكريمة من سورة الفاتحة حرزاً ووقاية من هذه العواقب , وإجتناباً للجحود , وطرداً للكفر ووجوهه وصيغه بلحاظ إستثناء وإخراج الذين باءوا بغضب الله والذين ضيعوا طريق الهدى وضلوا عن جادة الصواب وسبيله والتوسل بالدعاء وقراءة القرآن من الإقتداء بهم.
لقد جاءت الآية الكريمة بسؤال الإهتداء إلى طريق أصحاب النعم وهو غير النعمة، فالنعم أمر وهبة نازلة من عند الله عز وجل.
وهناك مغايرة بين الطريق وذات الغاية.
والصراط: الطريق الذي إختاره هؤلاء لسيرتهم في الحياة الدنيا وضمنوا به الأمن من سخط الله وامتنعوا به من الهلاك فكانوا مثلاً ايمانياً يشع نوراً وعلماً للهدى، ودرباً للتوفيق والفوز سالكاً.
إن ورود الآية وطلب الهداية بلغة الجمع (اهدنا) رحمة تتغشى عامة المسلمين فهم أهل السؤال من الله وانهم يطلبون الإقتداء بغيرهم ممن توالت عليه نعم الله ومننه فأدى شكرها بالسير على جادة الحق والصواب.
ويمكن أن يكون المسلمون بالمعنى الأعم المقصودين بأهل الصراط الذي أنعم عليهم في الآية الكريمة , سواء الذين أظهروا التسليم بالربوبية وإتباع الأنبياء السابقين , أو الأوائل بالنسبة للطبقات اللاحقة من الأمة.
أما ما جاء في الوجه الثاني أعلاه وأنهم أصحاب موسى قبل أن يغيروا فأن بني إسرائيل نالوا قسطاً وافراً من النعم المخصوصة التي جاءتهم متوالية، ولم يظهر تمسكهم بالصراط السوي على نحو العموم الإستغراقي، والإقرار بأنهم قد غيروا , وفيه دعوة لمعرفة أوان وكيفية هذا التبدل والتغيير من القرآن والسنة.
وأما ما ورد في الوجه الثالث وأن الأنبياء هم المقصودون في الآية الكريمة , فلم يرد مخصص متصل أو منفصل يكون دليلاً عليه أو أمارة تشير الى الأنبياء دون أتباعهم من أهل الإيمان , قال تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
ومع الإقرار بأن الأنبياء مقدمون بالأولوية القطعية بمنطوق هذه الآية ومفهومها إلا أنها تشمل ايضاً غيرهم من المؤمنين الذين حملـوا راية التوحيد وتعاهدوا مبادئها في الأرض فكانوا من الذين أنعم الله عليهم وسلكوا الطريق السوي وسبيل الرشاد والفوز ولم يكونوا ممن عرّضوا أنفسهم لغضب الله أو ضلوا عن مسالك الهداية.
وما ورد في الوجع الرابع وأنه القرآن ربما يرجع الى ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والأنباري في المصاحف وابن مردويه وغيرهم عن الإمام علي عليه السلام انه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ستكون فتن.
قلت: وما المخرج منها.
قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل وليس بالهزل وهو حبل الله المتين وهو ذكره الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضــي عجائبــه: هو الذي لم تنته الجن اذ سمعته حتى قالوا انا سمعنا قرآناً عجباً يهدي الى الرشد، من قال به صدق ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل ومن دعا اليه هدى الى صراط مستقيم( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لعموم المعاني المباركة للآية , وليس على نحو الحصر حكماً وموضوعاً , قال تعالى [ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ]( ) لقد انعم الله على نفر من خلقه فاجتباهم لدينه وكانوا حريصين على الإلتزام بأحكام العبودية وأداء مناسك الطاعة بهداية وتسديد منه تعالى.
ولقد ورد في تفسير للصراط المستقيم في قوله تعالى [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
أما غضب الله عز وجل فقد نال قوم قسطاً يسيراً منه في الحياة الدنيا كما أخبر القرآن إجمالاً وتفصيلاً مع البيان عن الأفعال السيئة التي تكون سبباً لإستحقاق غضب الله تعالى [وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]( ).
وهناك آيات أخرى تؤكد غضب الله عز وجل على اليهود الذين إنحرفوا عن سواء السبيل ولم يلتزموا بما جاء به موسى من الشرائع والأحكام، قال تعالى[مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ]( ).
وفي الآية دلالة على إمكانية معرفتهم السوء والإنحراف في مسارهم لظهور الشر في أفعالهم والضياع والتيه في أعمالهم بما رزق الله الإنسان من ملكة التمييز والفرز العقلي وما سلحه به من أصول ملكة الهداية التكوينية.
ولقد إختار شــطر من الكفـار طريق الجحود والإلحاد فظلــموا أنفـســهم والقوا بأبدانهــم في محــن العذاب، قال تعالى [وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
ومنهم أصحاب النفاق وأهل الشرك الذين ساءت عقائدهم، قال تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
ترى هل تقدم أصالة العموم بحكم جريانها في تحديد المقصود ام يتجه إلى إبراز المراد الواقعي الحقيقي بقرينة ما ورد في السنة النبوية الشريفة التي هي بيان وتفسير للقرآن، ولتكون هناك أولوية وتخصيص لبعض المعاني , ويقدم الأظهر على الظاهر.
ويكون النص بياناً وتخصيصاً وتفسيراً، وقد يكون من باب الفرد الأقرب والمثال الواضح والتطبيق وإلا فان الآية أعم، وفي إطلاق الوصف وعدم حصره بقوم أو طائفة من أهل الكفر والضلالة فضل إلهي ونوع تفويض إلى الله في الإلتجاء إليه من جميع العقائد الباطلة والأعمال القبيحة والأخلاق المذمومة والسبل التي تحجب الأجر والثواب وتؤدي إلى النار، والإجمال وعدم حصر وتعيين جماعة (المغضوب عليهم) دعوة للتفكر والتدبر والغوص في اعمــاق التأريخ لدراســة احوال الناس وعقائدهم وما حل بالكافرين والجاحدين من العذاب والسخط الإلهي وللتوقي والحذر بالإحتراز بالفرائض والإلتجاء إلى الله عز وجل.
أما لفظ ضلال فقد ذكرت له في الوجوه والنظائر( ) ثمانية وجوه وهي الغي، والخسران، والشقاء وإبطال الأعمال والخطأ والجهل والنسيان والزلل عن الحق وجادة الصواب، ولكل وجه من هذه الوجوه جيء بمثل وآية تكون شاهداً عليه ففي قوله تعالى [إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ]( )، قيل ان الأولين غووا فكفروا.
أما الضلال في قوله تعالى [أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ) فقيل أن معناه الخسران( ).
وهكذا بقية الوجوه مع الشواهد على كل منها من القرآن الكريم واستبدال بعض تلك الوجوه بالبعض الآخر من حيث الموضع لا يجانب الصواب ولا يبعد المرء عن الحق في التفسير.
وتدل الأمارات على جواز انطباق عدة وجوه ومفاهيم للفظ في كل موضع منها، وترى إمكان تطبيق كل من الوجوه المذكورة أعلاه على كلمة ضلال في الآية المتقدمة وان معناها لا ينحصر في الخسران.
وهكذا يمكن القول بالنسبة إلى كلمات القرآن الأخرى والمعاني المتعددة لألفاظه ومنها كلمة (الضالين) الواردة في هذه الآية الكريمة من سورة الفاتحة خاصة وإنها جاءت بلسان وصيغة الدعاء الذي يستحب أن يكون شاملاً جزيلاً والله واسع كريم يحب ان يسأل من فضله، روي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملاً واحداً فيرى أحدهما صاحبه فوقه فيقول: يارب بما أعطيته وكان عملنا واحداً فيقول الله تعالى سألني ولم تسألني، ثم قال اسألوا الله وأجزلوا فانه لا يتعاظمه شيء( ).
لقد وردت الرواية بطرق متعددة كلها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قال الله عز وجل: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل.
إذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله جل جلاله: بدأ عبدي بإسمي وحق علي أن أتمم له أموره وأبارك في أحواله.
فاذا قال: [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ] قال الله جلا جلاله: حمدني عبدي وعلم ان النعم التي له من عندي وأن البلايا التي دفعت عنه بتطولي أشهدكم أني أضـيف له الى نعم الدنيا نعم الآخرة , وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.
وإذا قال: [ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه.
فاذا قال:[ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ].
قال الله تعالى: أشهدكم كما إعترف باني أنا المالك يوم الدين لأسهلن يوم الحســاب حســابه ولأتقبلن حســناته ولأتجــاوزن عن سيئاته.
فاذا قال:[ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ]
قال الله عز وجل: صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالف في عبادته لي.
فاذا قال: [ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ]
قال الله تعالى: بي استعان عبدي وإلي التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه.
فاذا قال: [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ] الى آخر السورة.
قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وأمنته مما منه وجل( ).
وفي الرواية بيان وكشف لعظمة هذه السورة ومنافعها المتصلة في الدارين وإستقلال كل آية بخصوصية ومنزلة سامية ويتعقبها ثواب وعطاء وفضل الهي قبل الإنتقال الى الآية الأخرى كما وان التدبر في مضامينها والغور في اسرارها يؤكد أنها حبل متين في سلم العبودية والسالكين سبل مرضاة الله تعالى.
أخرج الطبراني في الأوسط عن ابي بن كعب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب ثم قال: قال ربكم: ابن آدم أنزلت عليك ســبع آيــات ثلاث لي وثلاث لك وواحدة بيني وبينك، فاما التي لي [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ]، والتي بيني وبينك [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ] منك العبادة وعليّ العون لك واما التي لك [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ].
وذكر أن العلوم التي نشأت على أسسها الشرائع أربعة تتجسد معالمها في سورة الفاتحة، فعلم الأصول الذي يســتند إلى معـرفة الخالق عز وجــل وصفاتــه تأتي الإشــارة اليـه في الســورة بـ [ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
ومعرفة النبوة والرســالة يتضــمنها قولــه تعالى [الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].
ومعرفة المعاد واليوم الآخـر تأتي في قوله تعالى [ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ].
وعلم العبادات يرد مفهومه في الآية الكريمة [إِيَّاكَ نَعْــبُــدُ وَإِيَّــاكَ نَسْتَعِينُ].
وعلم السلوك وهو توجيه الإنسان وأفعاله في سبل الشريعة وأحكامها يرد في [ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ].
وعلم القصص وهو معرفة أحوال الأمم السالفة واخبار الأيام الماضية من اجل التدبر والإتعاظ والرشاد جاء بيانه بقوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ].
لقد جاءت سورة الفاتحة جامعة لهذه المقاصد الشريفة وفيها بيان مختصر لمضامين الكتاب لتكون واجهة وإشراقة من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن.
ولم تقل الآية “غير المغضوب عليهم والضالين” مع ان لفظ “غير” يفيد النفي، وعطف الضالين على المغضوب عليهم يكفي في التبرئة والتنزه من الضلالة ومن أفعال روادها، ولكن الآية جاءت بلفظ “لا” في قوله تعالى [ولا الضالين] لتوكيد النفي، وزيادة التوسل إلى الله تعالى بالعصمة من مسالك وأفعال القوم الضالين.
وليكون فيها تشديد لمعنى النفي الذي تفيده “غير” في قوله تعالى [غير المغضوب عليهم] وفيه نكتة إضافية تستقرأ من هذا التشديد وهي أن الحاجة إلى السلامة والوقاية والإبتعاد عن أهل الضلالة والكفر أشد من الحاجة إلى الإبتعاد عن المغضوب عليهم مع إتحادهما في الجحود والعناد.
ولم يرد لفظ “المغضوب” في القرآن إلا في هذه الآية، وإرادة فريق من أهل الكتاب، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]( ) وجاء التشديد والتغليظ في الوعيد على الكفار وأهل الجحود والضلالة ، قال تعالى [لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ] ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من لم يسأل الله يغضب عليه”)( ).
بحث فقهي
لقد فرض الله عز وجل على المسلمين الصلاة فرض عين على كل مكلف خمس مرات في كل يوم وفي أوقات مخصوصة لكل منها لتكون عنوانا للهداية وسبيلاً للمزيد منها ووسيلة لمحو الذنوب.
وتتكون الصلاة من أفعال واجبة وأخرى مندوبة، والقراءة في الصلاة من أجزائها الواجبة ولكنها ليست ركناً بمعنى أن الصلاة لا تبطل بنقصها أو زيادتها سهواً أو نسيانها وعدم تذكرها إلا بعد الوصول الى حد الركوع، فيجب قراءة سورة الفاتحة وسورة أخرى من القرآن في كل من الركعتين الاولى والثانية من كل صلاة فريضة، كما تجب قراءة فاتحة الكتاب في صلاة النافلة.
إن قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة آية في فلسفتها , ومدرسة عبادية وفعل يومي يتغشى ربوع الأرض وآفاقها المختلفة وليتعاهد أهل الارض القرآن ويبرهنوا على التزامهم جانب الحرص في الحفاظ عليه ودفع ما ينزل من البلاء ببركته وتلاوته من الجماعات والأفراد.
عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: “أمر الناس بالقرآن في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجوراً مضيعاً وليكون محفوظاً مدروساً فلا يضمحل ولا يجهل”( ).
لقد إقترنت قراءة سورة الفاتحة ببدايات أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة، وجاءت الرواية بأن تشريعها في ليلة الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرتقائه في عالم الملكوت.
عن إسحاق بن عمار قال: “سألت موسى بن جعفر عليه السلام كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين، وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟، فقال: اذا سألت عن شيء ففرغ قلبك لتفهم ان أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك وتعالى قدام عرشه جل وجلاله –إلى أن قال– قال: يا محمد أدن من صاد فاغسل مساجدك وطهرها وصلٍّ لربك، فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث أمره الله تبارك وتعالى فتوضأ وأسبغ وضوءه ثم إستقبل الجبار تبارك وتعالى قائماً، فأمره بافتتاح الصلاة ففعل. فقال يا محمد اقرأ: [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ..] إلى آخرها، ففعل ذلك، ثم أمره ان يقرأ نسـبة ربه تبارك وتعالى [بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ]، ثم أمسك عنه القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَــدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]… الحديث”( ).
وتبرز موضوعية بشأن الفاتحة في الصـلاة بضرورة الاتيان بها في كل ركعة منها، إذ تسقط السورة التي معها عن المريض والمحتاج إلى الإستعجال والذي ضاق وقته والخائف من أمر ينجم عن مضي الوقت بقراءتها،ونحوه من أفراد الضرورة فان وجوب قراءة سورة الفاتحة يبقى قائماً في صور المشقة المتقدمة.
وتجب في الصلاة قراءة سورة الفاتحة بصورة صحيحة مع الحرص على إتقان النطق بالحروف من مخارجها حسب أصول اللغة العربية والتقيد بحركات الإعراب وغيرها من أحكام القرآن.
ويجب على المكلفين من الرجال قراءة سورة الفاتحة والسورة في صلاة الصبح والركعتين الأوليتين من المغرب والعشاء بصورة جهرية، وإخفات القراءة في الركعة الثالثة من صلاة المغرب، وفي الركعة الثالثة والرابعة من صلاة العشاء، والإخفات أيضاً في صــلاة الظــهر والعصر من الصلاة اليومية عدا صلاة الجمعة فيستحب الجهر فيها وفي ظهرها، أما النساء فلا يجب عليهن الجهر في الصلاة ولكن تتخير المرأة في الجهرية بين الجهر والأخفات.
وفي حين تسقط قراءة السورة في الصلاة عند العجز عن تعلمها، فان سورة الفاتحة وقراءتها لها ملاك وحكم خاص , فاذا تعلم المكلف بعض سورة الفاتحة وضاق الوقت عن تعلم الباقي منها، فعليه ان يقرأ في الصلاة هذا البعض الذي تعلمه، والأحوط إستحباباً ان يقرأ من سور القرآن الأخرى ما يتناسب والمقدار الذي عجــز عن قراءته منها، وإذا لم يستـطع المكـلف أن يتعلم سورة الفاتحة فيجوز له أن يقرأ عوضا عنها آيات من القرآن وبقدر سورة الفاتحة، وإذا كان عاجزاً عن قراءة شيء من القرآن له ان يأتي بدلاً عن السورة بالتكبير والتسبيح.
وورد بالاسناد عن عبادة بن الصامت انه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب”، وايضاً ورد عنه: “ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضاً عنها”( )، وهذا الحديث قاعدة فقهية وتصلح أيضاً للإستنباط.
والأمر بالإتيان بسورة الفاتحة في الصلاة أمر مولوي( ) من أجل الالتفات إلى جزيئتها من الصلاة , ووجوب قراءتها فيها , وعدم تعمد تركها.
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج( ) غير تام”.
مسائل
الأول : يجب في صلاة الصبح والركعتين الأوليتين وسائر الفرائض قراءة سورة الفاتحة وسورة كاملة بعد الفاتحة.
الثاني : لا يجوز تقديم السورة على الفاتحة، سواء قرأها مرة اخرى بعد الفاتحة ام لم يقرأها ولو فعله عمداً فعليه اعادة الصلاة، ولو قدمها سهواً وتذكر قبل الركوع قرأ الفاتحة ثم اعاد السورة او غيرها، اما لو تذكر بعد الدخول في حد الركوع صحت صلاته.
الثالث : في النوافل يجوز الإقتصار على الفاتحة ولا يجب قراءة السورة , وتكون السورة المعنية الوارد بها النص في نوافل مخصوصة ولكن على نحو الإستحباب غالباً لأن المستحب لا يعني التقييد بل الأرجح والأولى من تعدد المطلوب.
(1) الأقوى عدم وجوب تعيين السورة قبل الشروع فيها ولكنه الاحوط، أي حينما تبدأ بالبسملة تعرف انك ستقرأ أية سورة، وصحيح ان مذهب أهل البيت عليهم السلام وجمع من الصحابة وأئمة المذاهب إعتبار التسمية في أول كل سورة جزء منها، ولكنه أعم من إستحضار ذات السورة عند الإبتداء لأصالة البراءة وقاعدة نفي الحرج ولخصوصية البسملة بتكرارها في أول كل سورة، ولاحتمال ان هذا المبحث مستحدث خصوصاً وان النصوص لم تتعرض له مع انه عام البلوى.
الرابع : لو كان معتاداً على قراءة سورة معينة فيكفي قصده الاعتيادي في الاتيان بالبسملة، نعم لو عين البسملة لسورة معينة فانها لم تكف لغيرها، فلو جاء بالبسملة بنية قراءة سورة معينة ثم عدل الى غيرها فعليه ان يعيد البسملة.
الخامس : يجب على الرجال الجهر بالقراءة في الصبح، والركعتين الأوليتين من المغرب والعشاء، ويجب الإخفات في الظهر والعصر الا في صلاة الجمعة فيستحب مؤكداً الجهر فيها، ويستحب ايضاً الجهر بصلاة الظهر ليوم الجمعة على الاقوى.
السادس : يستحب مؤكداً الجهر بالبسملة في الظهرين للفاتحة والسورة.
السابع : إذا جهر في موضع الإخفات الواجب، أو أخفت في موضع الجهر الواجب عمداً عليه الإعادة، وان كان ناسياً أو جاهلاً ولو بالحكم صحت صلاته.
الثامن : يلحق القاصر المعذور بالجاهل كما لو لم يتضح عنده أن صلاة الصبح مثلاً جهرية أو إخفاتية , وإن كان يدرك تقسيم الصلاة إلى جهرية وإخفاتية، وكذا من كان جاهلاً بمعنى الجهر والإخفات، أو كان مأموماً ولكنه جاهل بوجوب الإخفات في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة.
التاسع : لا يجب على المرأة الجهر في الصلوات الجهرية، فتتخير بينه وبين الإخفات فيها إذا لم يسمعها الأجنبي، وفي حال وجود الأجنبي فالأحوط لها الإخفات، أما في الصلاة الإخفاتية فيجب عليها الإخفات كالرجل، وتعذر في ما يعذر فيه.
العاشر : لو إختارت المــرأة الجهــر في القــراءة الجهرية وسمعها من يحرم عليه الإستماع لصوتها فانها تؤثم، ولكن صلاتها صحيحة.
الحادي عشر : إذا أمّت المرأة النساء تجهر بقدر ما تسمع المأمومات قراءتها في الصلاة الجهرية مع إعتبار عدم سماع من يحرم إستماعه لصوتها.
الثاني عشر : مناط الجهر في القراءة ظهور جوهر الصوت ورفعه على نحو يسمعه نفسه ومن كان بجانبه، ولا يجوز الصياح وما يشبهه، أما الإخفات فهو عدم اظهار جوهر الصــوت وان سمعه من كان قريباً منه.
الثالث عشر : من لم يكن حافظــاً للفاتحــة او الســورة يجوز أن يقرأ في المصحف.
الرابع عشر : يجوز للمصلي اتباع من يلقنه آية فآية عند تعذر الحفظ والإتقان أو خوف اللحن والخطأ وعدم القدرة على التلفظ لآفة في اللسان، وإن كان الأولى في هذه الحالات الإئتمام.
الخامس عشر : الأخرس يحرك لسانه ويشير بيده إلى ألفاظ القراءة بقدرها والأولى له الجماعة.
السادس عشر : من لا يحسن القراءة يجب عليه التعلم وإن كان متمكناً من الإئتمام، وكذا يجب تعلم سائر أجزاء الصلاة، وإن ضاق الوقت فالأحوط الإئتمام.
السابع عشر : لو دار أمره بين الإئتمام في أول الوقت أو الصلاة في آخر الوقت بالميسور من القراءة مع اللحن، أو التسبيح وأن كان عن تقصير في التعلم، فالأولى صلاة الجماعة لعموم إستحبابها النفسي المؤكد ولأنها في أول الوقت ولقاعدة نفي الحرج في الدين ولأنها من أحسن مصاديق مطابقة المأتي به للمأمور به.
الثامن عشر : القادر على التعلم إذا ضاق وقته ولم يصل جماعة قرأ من الفاتحة ما تعلم، وقرأ من سائر القرآن عوض ما بقي من السورة، وإذا لم يعلم من الفاتحة شيئاً قرأ من آيات القرآن بمقدار آيات الفاتحة حروفاً وكلمات، وأن لم يعلم من القرآن شيئاً سبح وكبر وذكر بقدرها، والأحوط أن يأتي بالتسبيحات الأربعة أي سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر، وتكرارها بما يعادل سورة الفاتحة أو آياتها التي لا يستطيع الإتيان بها.
التاسع عشر : وجوب التعلم لا ينحصر بســورة الفاتحة بل يجب تعلم السورة التي يقرأها بعدها والظاهر عدم وجوب البدل لها في ضيق الوقت.
العشرون : الأحوط عدم جواز أخذ الإجرة عند تعليم أجزاء الصلاة الواجبة ومنها سورة الفاتحة والسورة إلا أن يكون تعلمهما أو أحدهما لغير الصلاة والواجب مطلقاً، ويجوز أخذها على المستحبات تعليماً واداءً.
الحادي والعشرون : يجب الترتيب بين آيات الحمد والسورة، وبين كلماتها وحروفها كما تجب الموالاة.
الثاني والعشرون : لو اخل بشيء من الكلمات او الحروف او بدّل حرفاً بحرف فان كان عن عمد بطلت تلك الكلمة ويستأنف على الوجه الصحيح وتصح الصلاة على الأقوى وان لم يستأنف عليه إعادة الصلاة، وأن كان عن سهو او نسيان وتذكر في المحل وجب الإستئناف ايضاً، وان تذكر بعد الدخول في الركن اللاحق كما لو تذكر في الركوع صحت صلاته لحديث لا تعاد وحديث الرفع، وقاعدة نفي الحرج في الدين، وقاعدة التجاوز.
الثالث والعشرون : يجب حذف همزة الوصل في الدرج مثل همزة اسم الجلالة والرحمن الرحيم من الأسماء الحسنى في البسملة وهمزة اهدنا ونحوها، ويجب اثبات همزة القطع كهمزة أنعمت، ولو خالف عن سهو او نسيان او جهل او عدم قدرة صحت صلاته.
الرابع والعشرون : الأقوى جواز الوقف بالحركة والوصل بالسكون والاحوط تركه، لأن الأصل عدم الوجوب، واجماع علماء اللغة على أن إعتبار الوجوب لم يثبت وليس من دليل تعبدي عليهما.
الخامس والعشرون : المدار في اخراج الحروف على صدق التلفظ بها، فلا تجب معرفة مخارجها وفق ما ذكره علماء التجويد لأنه نوع طريق لإحراز صدق التلفظ، وليس من دليل تعبدي على لزوم تلك القواعد كجعل أول احدى حافتي اللسان وما عليها من الأضراس مخرجاً للضاد، وطرف اللسان وطرف الثنايا للظاء والذال والثاء.
السادس والعشرون : المد الذي يتوقف اداء الكلمة مادة او هيئة عليه مثل (الضالين ) واجب بالمقدار الذي يصدق معه صحة اللفظ وافادة المعنى، اما المد الذي يكون بعد احد حروف المد، وهي الواو المضموم ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها، والألف المفتوح ما قبلها فهي من المحسنات في الجملة وبحسب المتعارف تكون من المستحبات كما لو كان المد بمقدار حرف الألف مرتين , وقيل أربع مرات والمدار على عدم خروج الكلمة عن معناها.
السابع والعشرون : يجوز الإئتمام بمن لا يتقيد تمامـاً باحكام المد ونحوهــا من المحسنات، الا اذا كانت قراءته مخالفة للوجه العربي الصحيح او الحركات الإعرابية والسكون ونحوه، ولا يظهر الحركات ويبينها بياناً شافياً.
الثامن والعشرون : إذا حصل فصــل بين حــروف كلمة واحــدة اختــياراً أو إضــطراراً بحيث خرجت عن الصدق بطلت الكلمة ووجب إعادة قراءتها.
التاسع والعشرون : مما تعارف في احكام القراءة ترقيق اللام من اسم الجلالة اذا كان قبله مكسوراً وتفخيمه اذا كان قبله مفتوحاً او مضموماً وجعلها الفقهاء قاعدة كلية لإعتبارهم ما تكون له موضوعية عند القراء وعلماء النحو، ولم يثبت عندي وجوبه، بالإضافة الى ان اسم الجلالة واحد هيئة ومادة، ولكن إعتبار ترقيق اللام من خصائص هذا الاسم الشريف إجلالاً وتكريماً وتعظيماً، والإتيان بما هو متعارف عند القراء يجعلان إستحبابه أمراً راجحاً.
الثلاثون : يجوز قراءة مالك وملك يوم الدين، والصراط بالصاد والسين لا لأن كلاً منهما قرأ به بعض القراء السبعة فحسب بل لورود النص بخصوصهما، والأولى قراءة مالك بالألف، والصراط بالصاد لضبطه ورسمه في المصاحف ولأنه المتعارف .
الحادي والثلاثون : في الركعات الأخيرة من الصلاة وهي الثالثة من صلاة المغرب والثالثة والرابعة من صلاة الظهر والعصر والعشاء، يتخير في كل ركعة منها بين قراءة الفاتحة او التسبيحات الأربعة وهي “سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر”، والأقوى كفاية الإتيان بها مرة واحدة، ويســتحب ثلاث مرات، ويجــوز إضـافة الإستغفار إليها.
الثاني والثلاثون : إذا كان المكلف قادراً على قراءة سورة الفاتحة ولا يعرف التسبيحات تعينت الفاتحة حينئذ، وكذا العكس لقاعدة التعيين عند تعذر التخيير.
الثالث والثلاثون : اذا نسي الفاتحة في الركعتين الأوليتين فالأحوط استحباباً قراءتها في الأخيرتين، ولو جاء بالتسبيحات فيها صحت صلاته والمشهور بقاء التخيير.
الرابع والثلاثون : يجوز أن يقرأ في إحدى الأخيرتين الفاتحة وفي الأخرى التسبيحات للإطلاق وعدم لزوم اتحاد القراءة فيهما.
الخامس والثلاثون : يجب الإخفات في الركعتين الأخيرتين سواء قرأ الفاتحة أو جاء يالتسبيحات وهو المشهور، والأقوى الجهر بالبسملة إذا قرأ الفاتحة فيهما، ويجوز الإخفات بها ايضاً.
السادس والثلاثون : إذا كان عازماً من أول الصلاة على قراءة الفاتحة يجوز له ان يعدل عنها الى التسبيحات وكذا العكس، بل يجوز العدول في أثناء أحداهما إلى الأخرى.
السابع والثلاثون : لو قصد الفاتحة فسبق لسانه الى التسبيحات او جاء بها عن غفلة وخلاف عادته إجتزء بها وصحت صلاته، وكذا العكس لحصول قصد الإمتثال وتحققه إجمالاً وإرتكازاً.
الثامن والثلاثون : إذا قرأ الفاتحة بتخيل أنه في إحدى الأوليتين فذكر أنه في إحدى الأخيرتين إجتزأ بقــراءته ولا يلزم الإعادة او قراءة التسبيحات وإن كان قبل الركوع، ولو قرأ معها السورة كسورة القدر قطعها حيث يلتفت ويكبر للركوع، والأقوى عدم وجوب سجدتي السهو.
التاسع والثلاثون : لو قرأ التسبيحات بتخيل انه في إحدى الأخيرتين ثم ذكر قبل الركوع انه في احدى الأوليتين يجب عليه قراءة الفاتحة مع السورة، ولو تذكر بعد الدخول في حد الركوع صحت صلاته.
الأربعون : يستحب السكوت القليل بين الفاتحة والسورة، وكذا بعد الفراغ من السورة أي بينها وبين التكبير للركوع او القنوت.
الحادي والأربعون : يستحب ان يقول بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة اذا كان مأموماً “الحمد لله رب العالمين”.
الثاني والأربعون : يجوز قراءة المعوذتين في الصلاة، وهما جزء من القرآن.
الثالث والأربعون : سورة الفاتحة سبع آيات والبسملة آية منها، ومنهم من عد انعمت عليهم آية مع تقيده بالعد سبع آيات لأنه لا يعد البسملة آية.
الرابع والأربعون : قصد القرآنية شرط في صحة القراءة، ولو قصد معه انشاء الخطاب او الدعاء فالاقوى الجواز لعدم التنافي او التعارض بينهما كما في الآية الكريمة [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ]، والآية [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ].
الخامس والأربعون : لو تحرك حال القراءة قهراً بحيث خرج عن حال الاستقرار لا يجب عليه اعادة ما قرأه في تلك الحالة ولكنها أحوط.
السادس والأربعون : اذا شك في صحة قراءة آية او كلمة يجب إعادتها اذا لم يتجاوز المحل.
السابع والأربعون : إذا شك في حركة كلمة او مخرج حروفها لا يجوز ان يقرأ بالوجهين مع فرض العلم ببطلان أحدهما، نعم له ان يختار احد الوجهين مع البناء على إعادة الصلاة لو كان باطلاً، او يقطع قراءتها ويقرأ غيرها مع الإمكان.
بسم الله الرحمن الرحيم بين الجهر والاخفات
لقد تقدم الكلام عن عظيم منزلة بسم الله الرحمن الرحيم والروايات التي تؤكد ما لها من قدسية وانها عنوان التوحيد ولواء من ألوية الدعوة الى الله عز وجل وفق الله المسلمين لحسن تعاهدها والانتفاع من بركاتها.
وقد جــاءت الروايات بان النبــي صلى الله عليه واله وسلم كان يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وهو ايضــاً مذهب أهل البيت عليهم السلام، كذلك ورد عن احمــد بن حنبــل ان عــمر بن الخطــاب جهر بالبســملة وكان الامــام علــي عليه السلام يجهــر بها.
روي الجهر بالبسملة عن الامام علي بن الحســين والامـام محمد الباقر عليهما السلام، ومن الصحابة رواه ابو هريرة وابن عمر وابن عباس، ومن التابعين محمد بن علي بن ابي طالب وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وسالم وعطاء وطــاووس ومحمـد بن كعب القرظي، الى جانب الروايات التي تؤكد ذلك منها ما تقدم عن ام سلمة قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته ببسم الله الرحمن الرحيم”، وروي عن ابن عباس “ان رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم”( ).
واحتج القائلون بالاخفات في البسملة في الصلاة بما روى عن انس بن مالك قال: “صليت خلف النبي صلى اله عليه وآله وسلم وابي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها”( ).
ومع ضعف سند الحديث فقد جاءت الرواية ايضاً عن انس بالجهر مما يؤدي الى التعارض، والقول المروي عنه بالاخفات علل بالخوف من بني أمية، وقيل بجواز نسبة الاخفات الى جهة راوي حديثه، لقد وردت الاخبار بان معاوية بن ابي سفيان لما جاء الى المدينة المنورة وصلى بالناس صلاة يجهر بها قرأ الفاتحة ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والانصار من كل ناحية انسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟ فاعاد معاوية الصلاة وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم”( ).
وهذا الخبر وثيقة يتجلى فيها حرص المسلمين الاوائل على ضرورة اتيان الصلاة بتمامها وكما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يترددوا في اجبار معاوية على الجهر بالبسملة في الصلاة، الامر الذي يؤكد ايضاً اجماع الصحابة على ان البسملة من القرآن وانها جزء من سورة الفاتحة، وان تركه للبسملة لم يكن عن دليل.
(وروي ان الدارقطني صنف كتاباً في الجهر فاقسم عليه بعض المالكية ليوفه الصحيح فقال: لم يصح في الجهــر حديث)( )، وذيل الرواية فيه تأمل فالكتاب دراية وشهادة، ونقل قول منسوب اليه مغاير لمضمون الكتاب منطوقاً ومفهوماً ورواية من الصعب التسليم به خاصة وانه من رجال الحديث وبعض كتبه مما يرجع اليه.
و[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] آية من سورة الفاتحة وهو ظاهر نظم الآيات وجاءت به الأخبار وفيه إجلال وإكرام لمنزلة هذه الآية، وفي عيون أخبار الرضا عن الإمام علي عليه السلام: “أنها من سورة الفاتحة وان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقرأها ويعدها اية منها ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني”.
وفي قراءة البسملة في الصلاة وجوه :
الأولى : روي عن أحمد بن حنبل ان التسمية آية من الفاتحة الا انه يسر بها في كل ركعة.
الثانية : وأما الشافعي فقال بأنها آية من سورة الفاتحة ويجهر بها وعنده أنها آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة وكذا قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما.
الثالثة : لم يقل أبو حنيفة في جزئية البسملة أو عدمها فظن بعضهم أنه يقو البسملة ليست من السورة، ويدل على خلافه أن محمداً بن الحسن سُئل عن البسملة فقال: ما بين الدفتين كلام الله ونسب إلى أبي حنيفة إلا أنه يسر بها في كل ركعة.
قال: مالك لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً، وأما في النافلة فان شاء قرأها أو أن شاء ترك.
وإحتج القائل بان التسمية ليست آية من الفاتحة بما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ولكن الحمد لله رب العالمين اسم من أسماء الفاتحة فلعلها تشير إلى اسم السورة وليس إلى إبتداء اللفظ فيها وهو الظاهر من قولها (بقراءة) وعلى فرض أنه مجرد إحتمال فأنه يكفي للتوقف بالإستدلال بها.
لذا قال الشافعي: لعل المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه كان يقدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد لله رب العالمين المراد منه تمام هذه والسورة , والظاهر والمتسالم آنذاك عند السامع الإتيان بالبسملة عند قراءة الفاتحة.
وورد عن أبي هريرة أنه قال: “كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال (الحمد لله رب العالمين) فقال: يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة، أما علمت أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته”( ).
وقال الرازي: نقل ان علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات، واقول ان هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين( ).
فضل الفاتحة
روي ان رجلاً يسمى عبد الرحمن كان معلماً للأولاد في المدينة فعلم ولداً للحسين عليه السلام يقال له جعفر فعلمه الحمد لله رب العالمين فلما قرأ على أبيه الحسين عليه السلام استدعى المعلم واعطاه الف دينار والف حلة وحشى فاه دراً فقيل له في ذلك فقال عليه السلام وانى تساوى عطيتي هذه تعليمه ولدي الحمد لله رب العالمين.
والحديث مدرسة أخلاقية وأدبية وإجتماعية تدل على الشأن العظيم لتعلم سورة الفاتحة بالنسبة للصبيان لأنها عون على أداء الصلاة لا بمعنى أنها واجب في الصــلاة فحســب، بل لأنها قوام إتيان الصــلاة بالنسـبة للصبي فإذا حفظ سورة الفاتحة تمكن من أدائها وسهل عليه تعلم أجزائها الأخرى مثل التسبيح وأقبل عليها بشوق وإفتخار وفي أول أوقاتها، وإذا شق عليه حفظها فانه لا يميــل إلى أداء الصلاة أو يشعر معها بالحرج والخوف، خصوصاً وأنها ليســت واجبـة عليه ولهيبة وجلالة منزلة الصلاة في نفسه وخشيته من إقتحام هذا الفعل العبادي والدخول فيه.
ولقد أعطى الإمام الحسين للمسلمين درساً في أولوية تعليم الأبناء سورة الفاتحة وإعتباره مدرسة وميداناً للتعلم والسير في طريق الحكمة والمعرفة واظهر في هذا الباب كرماً وجوداً وفرحاً بفضل الله واعتزازاً بمناسبة تعلم أحد أبنائه سورة الفاتحة وما فيها من البشارة وتعظيم شعائر الله، وهي عبرة لبيان عظيم النعمة بحفــظ الابن لســورة الفاتحة وما يتعقبه من الخير والفضل والأجر، وتعلم الفاتحة طريق ومدخل لأداء الصلاة فانه حاجة مقصودة ذاتاً، وعرضاً.
إن المضامين الملكوتية الرفيعة التي تشتمل عليها سورة الفاتحة وإفتتاح القرآن بها ينبئ عن أسرار عظيمة قي هذه السورة، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ان فاتحة الكتاب اشرف ما في كنوز العرش”( ) أي ان للسورة منزلة رفيعة في أرفع مراتب السماء وأنها نعمة تفضل الله بها على المسلمين وفضلهم بها على العالمين وجعلها كنزاً في الكتاب الذي خصهم نبيهم بها لتكون سلاحاً وعوناً ومرشداً , ونزولها وتلاوتها في الصلاة والإنتفاع الأمثل منها من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ولابد أن للفاتحة مضامــين قدســية تؤكد افضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين باعتبار انها هبة تفضيل وتشريف.
ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ان فاتحة الكتاب أفضل سورة أنزلها الله في كتابه وهي شفاء من كل داء الا الموت”.
إنها إثبات لعظمة الله تعالى وكمال سلطانه وإنعدام الشريك كما أنها تؤكد ضرورة المبادرة إلى عبادته بإعتبارها وظيفة أهل الارض.
لقد كانت سورة الفاتحة محل إفتخار من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ترمز إليه من عناوين التفضيل في النبوة وما تقابله في المنزلة والدلالة والموضوعية من الكتب السماوية الأخرى، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “أعطيت الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل سبع وستين سورة”( ).
لقد علم أهل السماء ما لسورة الفاتحة من فضل وإستبشر جبريل بنزولها مخبراً عما لها من الشرف والشأن، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: “بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالســاً وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً من السماء من فوق، فرفع جبريل بصـره إلى السماء فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قــط، قال فاتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سـورة البقرة لن تقرأ حرفاً منهما الا أوتيته”( ).
وتلقى المسلمون تلك الهالة من التقديس لهذه السورة بإعتزاز وفخر وتعظيم لشأنها وإعتبارها جزء من حياتهم اليومية وسلاحاً ملازماً في السفر وبابا للخير وحجة في الإيمان.
عن خارجة بن صلت التميمي عن عمه “أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ أَهْلُهُ إِنَّا قَدْ حُدِّثْنَا أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ فَهَلْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُدَاوِيهِ قَالَ فَرَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ وَكِيعٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَبَرَأَ فَأَعْطَوْنِي مِائَةَ شَاةٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ خُذْهَا فَلَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ( ).
ومن أسرار وبركات سـورة الفاتحة إنها شفــاء وعــلاج فبالإضــافة إلى الروايات التي تقدمـت بالخصوص فهناك روايات أخــرى ووقائــع تؤكــد هذه الخصوصية لها .
أخرج عن رجاء الغنوي: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إســتشفعوا بما حمد الله به نفسه قبل ان يحمــده خلقــه، وبما مــدح الله به نفســـه، قلنــا وما ذاك يا نبـــي الله، قال: الحـمد لله وقل هــو الله احــد، فمن لم يشــفه القـرآن فلا شفاه الله.
أما مصاديق إنتفاع المسلمين من سورة الفاتحة وتلاوتها فهي أكثر من أن تحصى موضوعاً وحكماً وأفراداً.
إن كل آية من القرآن شفاء وتبعث في النفس الطمأنينة وتنزل السكينة وتجعل العافية تدب في البدن ولكن ذكر سورة الفاتحة على نحو التعيين في هذه النصوص يدل على إمتلاكها لأسباب الأولوية والتفضيل في هذه المسألة الإبتلائية العامة.
وكان النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم يتخذ سورة الفاتحة وقاءً وعلاجاً , وفيه دعوة للمسلمين لإدراك موضوعيتها والإنتفاع منها وبيان المواضع التي يمكن إستحضارها، عن السكوني عن الصادق عليه السلام قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كسل أو أصابته عين أو صداع بسط يديه فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم مسح بها فيذهب عنه ما كان يجده”( ).
لقد أشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ضرورة إتخاذ سورة الفاتحة حرزاً عند ساعة النوم وعندما يغط الإنسان في سبات وسكون يجهل معه ما يحدث حوله.
أخرج ابن عساكر في تأريخ دمشق عن شداد بن أوس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أخذ أحدكم مضجعه ليمتد، فليقرأ بأم القرآن وسورة فان الله يوكل به ملك يهب معه إذا هب”.
وروي عن أنس “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد فقد آمنت من كل شيء إلا الموت”( ).
إن قراءتها عندما يأوى الإنســان إلى فراشه تدخل ضمن عمومات ما جاء في قراءة آيات من القــرآن عند النوم وأنها تطــرد الغفلة خاصة وأن آيات سورة الفاتحة والتوحيد ليست بالكثيرة بالإضـــافة إلى التخفيف في قراءة القرآن مطلقاً، وقد حـث رسول الله صلى الله عليه وآله وســلم على قراءتها كل ليــلة بقوله صــلى الله عليه وآله وسـلم: “من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين( ).
لقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن شرف سورة الفاتحة قبل نزولها لذا تراه صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد على عظيم منزلتها بين سور القرآن لإستثمارها كهبة كريمة انفرد بها المسلمون ولبيان بعض أسرار مجيئها في أول القرآن وللإشعار بأنه لم يتم الا بتوقيف ووحي ومقاصد سماوية لتوفيق وفلاح عامة المسلمين وجعل سبل الثواب قريبة متدلية ثمارها.
أخرج الحاكم والبيهقي عن أنس أنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسير له فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه فألتفت إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إلا أخبرك بأفضل القرآن، فتلا عليه الحمد لله رب العالمين”، وقد تقدم قربياً منه عن عبد الله بن جابر( ).
وبينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي في بعض فجاج المدينة إذ سمع رجلا يتهجد يقرأ بأم الكتاب فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإستمع حتى ختم القارئ قراءته فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما في الأرض مثلها”، رواه أبو زيد الذي كان ماشياً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعتها.
وفي هذا التوكيد والبيان المتكرر عن فضل الفاتحة من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إظهار لبعض وظائف النبوة وفلسفة الرسالة .
ويمكن إعتباره مدرسة تأديبية جامعة تساهم في تثبيت حقيقة عقائدية وترسيخها في أذهان المسلمين من أجل دوام العمل فيها ولتعاهد حفظها وجعلها من التركة العلمية المتوارثة للأمة ومن حق الأب أن يفرح بفضل الله تعالى ان ترك لإبنه سورة الفاتحة قراءة وحفظاً مع إظهار العزم على المواظبة عليها.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها عند الشدائد ومناسبات الحاجة لما لها ولقراءتها من منافع ولإرشاد المسلمين لمصالحهم والتماس قضاء حوائجهم من أفضل الأبواب وبأحسن الصيغ والطرق السليمة المعبدة.
روي عن عائشة أنها قالت: “شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضعه في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال: أنكم شكوتم جدب دياركم وإستئخار المطر عن أوان زمنه عنكم وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، وأجعل ما أنزل قوة وبلاغا”( ).
وقد تقدم أن بسم الله الرحمن الرحيم شديدة القرب من اسم الله الأعظم وربما يتم بالأسماء الحســنى الأخرى التي تتضــمنها السورة وهي الرب ومالك والرحمن والرحيم والكلمات الأخرى التي في السورة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يلقى العدو أثناء الغزو يقول: يا مالك الدين إياك نعبد وإيــاك نســتعين، رواه أنس عن أبي طلحة.
ومع قلة عدد آيات سورة الفاتحة بالقياس إلى مجموع آيات القرآن وهي 6236 آية فإن الله عز وجل عدلها بالقرآن وجاءت السنة النبوية المباركة لتؤكد على عظيم منزلتها، وفيه رحمة بالمسلمين لسهولة قراءتها وحفظها وإستحضارها .
وقد أخرج “عن ابن عباس بسند ضعيف يرفعه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن”( ).
وهناك وظائف كثيرة لسورة الفاتحة يحتسب فيها لمن يقرأها أجر وثواب عظيم، لتكون منافع قراءة سورة الفاتحة مركبة ومتجددة ومنبسطة على الأزمان المتعددة والمتباينة إبتداء من حال القراءة ونيل ثواب ما إنعدم موضوعه حينئذ أو قصر القارئ عن إحراز إتيانه فقد أخرج عن أبي قلابة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “من شهد فاتحة الكتاب حين يستفتح كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله، ومن شهد حتى ختم كان كمن شهد الغنائم حتى تقسم”( ).
وقال الرازي: إن في قـراءة الفاتحــة إنفتاح أبــواب الجنة الثمانيــة ففي معرفتها وأبوابها باب المعرفة، والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم، والباب الثالث باب الشكر وهو في قولك الحمد لله رب العالمين، والباب الرابع باب الرجاء وهو الرحمن الرحيم، والباب الخامس باب الخوف وهو قولك مالك يوم الدين، والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وهو إياك نعبد وإياك نستعين، والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال تعالى[أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ]( )، والباب الثامن باب الإقتداء بالأرواح الطــيبة الطــاهــرة وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وقال: بهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها أنفتحت لك ثمانية أبواب الجنة”( ).
وقد تقدمت الإشارة إلى قوله بأن [الحمد لله] ثمانية أحرف وأن قارئها يستحق ثمانية أبواب الجنة، ولم يرفع الحديث او يصرح بجهة الصدور وليس من دليل نقلي أو عقلي عليه.
وورد في الخبر عن أنس عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “أن للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة ابواب( ).
وقد جاء في الأخبار أن الفاتحة واقية من العذاب الأخروي إكراماً لها ولعظيم ثواب قراءتها وتعاهدها بالحفظ والإجلال.
ومما ذكر في فضل سورة الفاتحة وقراءتها أن أبواب النيران تغلق بقراءتها، وكأن قراءتها حرز وأمان من النار أو أن النار لا تصل إلى بدن وأعضاء ولسان من قرأها.
وأخرج عن ابن سيرين أنه قال: “كــتب أبي بن كــعب في مصــحـفه فاتحة الكتاب والمعوذتــين واللهم أنا نستعينك اللهم إياك نعبد، وتركـهن ابن مسعود وكتب منهن عثمان فاتحة الكتاب والمعوذتين”.
ومن المستبعد أن يكون مصحف عبد الله بن مسـعود خالياً من الفاتحة وهو الذي تلقى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من السابقين الأولين المستجيبين للدعوة الاسلامية ولقد قال: “لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا”( )، وهو ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وبيعة الرضوان وهاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وكان من أول الصحابة الذين نزلوا الكوفة حيث وفد عليها أيام عمر بن الخطاب معلماً ووزيراً لعمار بن ياسر، وأخذ منه قراء الكوفة وتمسكوا بقراءته وكان رائدهم في القراءة ومن هؤلاء عاصم وحمزة والكسائي إذ تنتهي قراءتهم إلى الأمام علي عليه السلام وعبد الله بن مسعود.
وأخذ نفر من القراء القراءة عرضاً عن عبد الله بن مسعود مثل مسروق بن الأجدع وعلقمة بن قيس وزر بن حبيش والحارث بن قيس وغيرهم وكلهم يقول بأن سورة الفاتحة من القرآن وليس من مسلم إلا ويقرأها في القرآن، وربما كان مصحف عبد الله بن مسعود مرتبة سوره حسب النزول، والأرجح أن المقصود (بتركهن ابن مسعود) المعوذتان واللهم إنا نستعينك، ولو تنزلنا وقلنا بخلو مصحفه من الفاتحة فأنه يحمل على التسالم على قرآنيتها وحفظ جميع المسلمين لها وسيأتي مزيد بيان( )، وفي المجلس قال ابن حزم فى أول كتابه المحلى هذا كذب على ابن مسعود وموضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عنه وفيها المعوذتان والفاتحة( ).
وورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: “لو شئت لاوقرت سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب( ).
وإستبعد بعضهم نسبة هذا الحديث إلى أمير المؤمنين وشكك في صحته وقال أنه من مخترعات غلاة الشيعة، ولكن القول في حال ثبوت نسبته إلى أمير المؤمنين وبمضمونه مستقلاً مفخرة لأهل الإسلام ودرس في تعظيم القرآن وهم آنذاك كانوا يكتبون على الرقاع وسعف النخيل والرَق ذي الحجم والسُمك العريض.
ولا تزال العلوم المستنبطة من سورة الفاتحة في بدايتها من حيث التفصيل والبيان , لاسيما وأن أمهات العلوم في سورة الفاتحة، أي أنه أمر ممكن دلالة وعقلاً، وفيه دعوة للبحث والتحقيق وإستخراج المسائل من سورة الفاتحة , وبيان الحقائق خصوصاً مع تفرع العلوم وتشعبها في هذا الزمان.
(وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك عذر، أو حسنة؟” قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك. فيخرج له بطاقة فيها: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله”
فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: “فتوضع السجلات في كفة [والبطاقة في كفة]، قال: “فطاشت السجلات وثقلت البطاقة” قال: “ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم”)( ).
بحث بلاغي
تقسم فواصل القرآن إلى قسمين :
الأولى : المتماثلة.
الثانية : المتقاربة.
وأختلف في وقوع السجع في القرآن او عدمه، ويتعلق بفواصل الآيات المتماثلة كما في قوله تعالى [فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِي الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ]( )، وقوله تعالى [فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر* وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ]( )، وسيأتي مبحث مفصل عن فواصل الآيات في الجزء العشرين وأن نظم القرآن أرقى من إصطلاحات الشعر والنثر ولابد من إختيار إصطلاح مناسب للنظم القرآني يتناسب وإنفراده بالإعجاز المطلق، والإجماع على إعتبار سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الإختلاف حصل في كيفية التقسيم وفي أحد مواضع روؤس الآي على قولين: إختار الشافعي إعتبار قوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( )، آية واحدة، أما أبو حنيفة فجزءها إلى آيتين وإعتبر[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] آية وقوله تعالى [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] آية.
والسبب ان الشافعي جعل البسملة آية مستقلة وهو المشهور، أما أبو حنيفة فقد أسقط البسملة من الفاتحة خلاف المشهور، وكل آية من سورة الفاتحة يبلغ عدد كلماتها ثلاث أو أربع كلمات بل حتى إثنتين كما في قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] أما في الآية الأخيرة فان عدد كلماتها تسع كلمات، وعدد حروفها ثلاثة وأربعون حرفاَ، والأولى أن يكون الإختيار بلحاظ النقل، وما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراءته الشريفة وسنته المباركة، وتعدد وجوهها يعني المندوحة والسعة بمعنى أن ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائماَ فهو فاصلة ، وما كان يقف عنده أحياناَ دون أحيان أخرى , فالوقف فيه على نحو الجواز، وفيه سعة في القراءة ولتعليم الأمة والإخبار عن مكان إختيار الوقف للإستراحة أو لغيرها بما لا يتعارض مع آداب وقواعد التلاوة

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn