سورة البقرة الآيات (46-54)
المقدمة
الحمد لله الملك الجبار الذي تنزهت صفاته عن النقائص والعيوب، وأقام الحجة بالنبوة والقرآن والعقل والآيات الباهرات في عالم الممكنات، ومنها والعقل النفس الإنسانية، وجعلها جوهراً مجرداً تدرك المعقولات والأضداد، والمجتمع والمتفرق، والعلة والمعلول، ونحوها من القوانين الكلية التي تتوصل بها على نحو البديهية إلى وجوب عبادة الله وعدم الإشراك به، قال تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
وجاءت أحكام وسنن النبوة وسطاً مباركاً بين الحق والخلق لتعاهد الحياة الإنسانية بصيغ الرشاد وإصلاح النفوس والإرتقاء في منازل التقوى، ولتحقيق القرب وعلو المنزلة بسلاح الوحي وهو من عالم الأمر الذي يعتبر أشرف من عالم الخلق، كما ان القوة العاقلة أشرف من القوة العاملة لذا جاء القرآن ليبعث في نفس المسلم قوة ملكوتية وضياء سماوياً يكون برهاناً ودليلاً للسير في دروب الهداية وإجتناب ظلمة الضلالة والغواية.
وهذا هو الجزء العاشر من معالم الإيمان الذي يتضمن تفسير الآيات(46-54) من سورة البقرة مما تتجسد فيها وظائف الرسالة وعظيم منزلتها وآثارها والمنافع التوليدية المتعاقبة التي تنبسط وتستغرق الناس جميعاً الموجود منهم والمعدوم كإفاضة من إفاضات القرآن وفيها بيان المعجزات موسى عليه السلام الحسية والعناية الإلهية به وببني إسرائيل في النجاة من فرعون وقومه، لتكون هذه النجاة مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، [قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] ( ).
ومع إنشغال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الجهاد وبناء صرح الدولة الإسلامية، والدفاع عن بيضة الإسلام، وإستقباله لوفود القبائل التي تدخل في الإسلام وبيان أحكام الحلال والحرام، وإرتقائه المنبر وتثبيت أداء الفرائض بذات الماهية التي ينزل بها القرآن والكيفية التي أداها صلى الله عليه وآله وسلم كما قال: صلوا كما رأيتموني أصلي)( )، جاء القرآن بتذكير بني إسرائيل بتفضيلهم على أهل زمانهم بقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وإن قلت يتجلى العموم في الآية أعلاه والمراد التفضيل على الناس كافة , والجواب: في القرآن مطلق ومقيد، وعام وخاص وأخبر عن إختصاص المسلمين بأسمى مراتب الأمم، قال تعالى في الثناء عليهم وتفضيلهم إلى يوم القيامة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليكون التفضيل بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخول الإسلام.
وفي الجمع بين الآيتين أعلاه ترغيب لبني إسرائيل بتعاهد التفضيل الذي إنفردت به أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية أعلاه تأكيد لحاجة الناس للمسلمين، وهي عنوان تفضيل إضافي، والكل محتاج إلى رحمة الله، لأن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان، فجاء القرآن بلغة سماوية في أمور الدين والدنيا.
وتتجلى الآيات التي يتنازلها هذا الجزء بالتفسير والتأويل والإستنباط والإستقراء الملازمة بين التفضيل والتذكير بالنعم ووجوب خشية يوم القيامة، لينتفع المسلمون من خطابات القرآن الموجهة إليهم وإلى غيرهم من أهل الملل والنحل، ويتخذوها مادة للإحتجاج، وواقية من أهل الشك والريب، وهو من مصاديق الحسن والموعظة غير المتناهية في قصص القرآن، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
قوله تعالى[الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ] الآية 46.
الإعراب واللغة
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة للخاشعين، يظنون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو: فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
أنهم: حرف مشبه بالفعل وإ سمه.
(ملاقوا) الجملة خبر إن حذفت النون تخفيفاً.
ربهم: رب: مضاف إليه وهو مضاف، والضمير (الهاء) مضاف إليه، وملاقوا ربهم: من باب إضافة الفاعل للمفعول به للتخفيف ولمجيئه بصيغة المستقبل، وحذفت النون للإضافة، والأصل: ملاقون ربهم.
وإنهم: عطف على إنهم، ويجوز أن تكون الواو إستئنافية، أي أنهم يظنون اللقاء ، ويقطعون بالرجوع إلى الله، ليكون هناك تباين رتبي بين ، ليكون هناك تباين رتبي بين اللقاء والرجوع إلى الله في الوجود الذهني، مع التشابه في الماهية بينهما في الواقع .
وبين الرجوع واللقاء عموم وخصوص مطلق , فالرجوع أعم , وكل منهما حق وصدق , ولكن العطف هو الأظهر لنظم الآية .
إليه: جار ومجرور متعلقان براجعون، راجعون: خبر ان مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
واللقاء: المواجهة والمقابلة، قال ابن الأثير: المراد بلقاء الله المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله)( ).
والرجوع : العودة والصيرورة والإنصراف.
في سياق الآيات
مع دعوة أهل الكتاب وغيرهم إلى الصلاة والعبادات جاءت هذه الآية لتظهر ما تتقوم به الصلاة ووجوه العبادة، وهو الخشوع لله عز وجل وإن نبذ الآيات وإظهار الكفر أو إخفاءه مع توطين النفس عليه صدود عن الحق, وإبتعاد عن الهدى .
وكما بدأت هذه الآية بالاسم الموصول “الذي” فقد بدأت الآية الثالثة من هذه السورة بذات الاسم الموصول، وجاءت في مدح المسلمين ونعتهم بالمتقين لأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة بالإضافة إلى إيمانهم بالغيب وتصديقهم بالقرآن والكتب السماوية المنزلة، ولا يعني مجيء الآية السابقة بصيغة الإستعانة بالصبر والصلاة على أن المراد حصراً بنو إسرائيل بل المعنى أعم فيشمل المسلمين وغيرهم من أهل الملل، فتقترن الدعوة للصلاة بالدعوة إلى الإسلام بإعتبار أنها من أم فروع الإسلام وهي عمود الدين.
وقد جاء وصف فريق من بني إسرائيل بالمؤمنين وهم الذين صبروا مع طالوت في مواجهة جالوت , قال تعالى [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وجاءت الآية التالية بالتوكيد على بني إسرائيل في إستحضار نعم الله عليهم لتكون الصلاة شكراً على النعمة، وشكر النعمة مقدمة لأداء الصلاة ويتغشاهما متحدين ومتفرقين الخشوع لله تعالى الذي هو عنوان القربة إلى الله، وقصد طاعته والإمتثال لأوامره.
ومضامين الآية السابقة [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ] وبيانها في الكتاب السالم من التحريف إلى يوم القيامة من نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل التي يجب أن يذكروها ، فهي نعمة متجددة لتكون نعم الله عز وجل التي ذكرتها هذه الآيات على وجوه:
الأول: النعم التي سبقت بعثة موسى عليه السلام , وهل تختص بما بعد يعقوب وهو إسرائيل عليه السلام بلحاظ أن الآية تقول يا بني إسرائيل، الجواب لا، فتشمل بعثة إبراهيم عليه السلام، وولادة إسحاق، بعد أن بلغ عمر إبراهيم مائة سنة وفي التنزيل حكاية عن سارة [قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ]( ).
الثاني: النعم الإلهية التي صاحبت نبوة موسى والآيات التوليدية التي جرت على يديه مثل آية العصا , قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
الثالث: النعم التي جاءت إلى بني إسرائيل بعد مغادرة موسى عليه السلام إلى الرفيق الأعلى، المستديمة والمستحدثة , ومنها التي صاحبتهم في التيه , وقبل وبعد الدخول إلى بيت المقدس، إذ تاه بنو إسرائيل أربعين سنة، ومات هارون وموسى في التيه، وقام بالأمر بعده يوشع بن نون .
فان قلت إن التيه نوع عقوبة على بني إسرائيل إذ أنهم يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا.
والجواب لقد توالت النعم الإلهية عليهم في التيه , وفي قوله تعالى[وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ] عن ابن عباس قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي فيه يوم القيامة ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر ، وكان معهم في التيه)( ).
وينزل عليهم المنّ وهو خبر الرقاق، وتأتي لهم الريح بأدام وهو السلوى، طائر سمين مثل الحمام، ولما سألوا موسى عليه السلام (فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحدكم ثوب أربعين سنة . قالوا : فما نحتذي؟ قال : لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة , قالوا : فإنه يولد فينا أولاد صغار فما نكسوهم؟ قال : الثوب الصغير يشب معه . قالوا : فمن أين لنا الماء؟ قال : يأتيكم به الله . فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر قالوا : فما نبصر تغشانا الظلمة ، فضرب له عموداً من نور في وسط عسكره أضاء عسكره كله . قالوا : فبم نستظل؟ الشمس علينا شديدة ، قال: يظلكم الله تعالى بالغمام)( )، عن وهب بن منبه.
ومن إعجاز القرآن أنه يأمر بني إسرائيل بذكر نعم الله عليهم، وإختص بنو إسرائيل بأنهم أكثر أهل الملل والأمم ذكراً لنعم الله عز وجل عليهم بعد المسلمين، إذ فاز المسلمون بنعمة عظيمة هي أم النعم تتجدد إلى يوم القيامة وهي قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، التي تأتي على كل تلك النعم، ومن الآيات أن هذه النعمة لم تحجب على بني إسرائيل بل إن قوله تعالى[اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] دعوة لهم ليكونوا من(خير أمة) ويشاركوا المسلمين النعم والبشارات التي تتصف بأنها تتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة.
وصلة هذه الآية بقوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا….]( )،
و لما أخبرت آية البحث عن المؤمنين ورجائهم لقاء الله عز وجل يوم القيامة بصيغة الظن (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أخبرت الآية أعلاه على نحو القطع بيوم القيامة وذكرت له خصائص تجذب الإنسان إلى العناية والإستعداد له.
ومن إعجاز نظم هذه الآيات مجيؤها بصيغ هذا الإستعداد وكيفية النجاة يوم القيامة، ومنها:
الأول : التصديق بنزول القرآن من عند الله، ويترشح عن هذا التصديق قهراً وإنطباقاً بالعمل بسنته وأحكامه.
الثاني : جاء ذكر لقاء الله في هذه الآية مجملاً، وبعنوان الربوبية , ( ربهم) وهو سور جامع يشع منه ضياء الهدى .
الثالث : الإيمان بما في القرآن من الإخبار عن عالم البعث والنشور , قال تعالى[يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا]( ).
إعجاز الآية
تظهر الآية الملازمة بين إتيان العبادات وبين الإيمان والإقرار بالمعاد والواسطة بينهما هو الخشوع , فكأنه ضرورة وحاجة وطريق لأداء الواجبات , وتدل الآية بالدلالة التضمنية على مدح المسلمين فالجميع يعلم أن المسلمين ملتزمون بأداء الصلاة والإندفاع في دروب الجهاد.
والإجماع في علم الأصول على عدم جواز الإستصحاب القهقري وهو إستصحاب اليقين اللاحق إلى الشك السابق، أما في علوم العقيدة وأفراد الزمان الطولية فان لعالم الآخرة أثراً وموضوعية في الحياة الدنيا، وماهية ونوع الأفعال فيها.
فالإقرار باليوم الآخر حصن من السيئات والذنوب وغلبة النفس الشهوية والغضبية، وعصمة من المعاصي، والظن بلقاء الله يوم القيامة مقدمة وباب لأداء الواجبات والفرائض.
وفي الآية بيان لفضل الله عز وجل على الناس عامة والمسلمين خاصة بالإخبار السماوي عن المعاد وعالم الحساب والجزاء، ليكون حجة وموعظة, وليدرك الناس أن الدنيا مزرعة للآخرة.
وتتصف آية البحث بأنها جاءت بصيغة الغائب من بين آيات جاءت بلغة الخطاب، وتلك آية في إعجاز القرآن وأسرار المعنى الأعم لإصطلاح الإلتفات البلاغي , والتداخل اللطيف بين الصيغتين بلحاظ أن لغة الغائب وصف للمخاطب الذي يتخذ من الصبر والصلاة بلغة للنجاة في النشأتين.
ومن مفاهيم آية البحث التخويف بيوم القيامة، قال تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( )، ليكون التذكير بالنعمة وإستحضار بني إسرائيل لها في الوجود الذهني أو إجرائها على الألسنة سبيلاً للتهيء لعالم الحساب.
ويتجلى هذا التهيء بالإيمان بالنبوة والتنزيل، وهو من عمومات قوله تعالى في وصف القرآن[مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] لتكون نعم الله والتذكير بها من آيات تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
ويمكن تس مية الآية بآية (ملاقوا ربهم). وجاء هذا اللفظ في القرآن ثلاث مرات، كلها في مدح المؤمنين.
الآية سلاح
تقسم الآية الناس على أساس الخشوع والتقوى بعلامات وأمارات ظاهرة للعيان، وهو أمر تقتضيه الحال بعد أن قام فريق بإلباس الحق رداء الباطل وقلب الحقائق جاءت هذه الآية عوناً ومدرسة تحدد مفاهيم الخشوع وهو ملكة نفسانية بما يبرز على الجوارح من الأفعال والمتمثلة بحسن الإمتثال والطاعة لله تعالى.
تبين الآية قانوناً ثابتاً من فضل الله تعالى وهو أنه سبحانه يعطي الكثير بالقليل ويرضى من عباده الظن المعتبر بلقائه ليكون هذا الظن عنده يقيناً، وينال عليه العبد الأجر والثواب.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في دلالة على إنعدام الشك أو الريب عند أي فرد من المسلمين وإخبار عن شوقهم للقاء الله عز وجل، فمتى ما ظن العبد أنه راجع إلى الله، وأن المعاد حق، والجنة والنار حق، فانه يبذل الوسع في الإستعداد لليوم الآخر، ويستحضر نعم الله تعالى عليه، ويمتنع عن فعل السيئات والمعاصي.
ومع أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية فانها تتضمن الإنشاء والدعوة إلى الإقرار باليوم الآخر وإستحضار ساعة الحساب ومواطن يوم القيامة، وهذا الإستحضار في ماهيته على وجوه :
الأول : على نحو القضية الشخصية بأن يذكره الإنسان بنفسه.
الثاني : عند الشروع في القول والعمل لأن إستحضار الآخرة يعني خشية الحساب ورجاء الثواب والخوف من العقاب فيكون هذا الإستحضار رقيباً، وحرزاً وواقية من الذنوب والمعاصي.
الثالث : الإستحضار النوعي العام، بان تستحضر الأمة لقاء الله تعالى في الآخرة سواء في سوح المعارك أو ساعة الرخاء.
وقد أنعم الله عز وجل وجعل صلاة الجماعة مناسبة لإستحضار المسلمين لنعم الله تعالى على نحو الإتحاد والإشتراك .
لذا جاءت الآية السابقة بالحث على إقامة الصلاة والإستعانة بها لقضاء حوائج الدنيا والآخرة .
ومن وجوه الإستعانة بلوغ مقامات الشاكرين بتلاوة آيات القرآن على نحو الوجوب والعبادة والطاعة لله تعالى.
وجاء قبل ثلاث آيات التوكيد على صلاة الجماعة بقوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
مفهوم الآية
لقد جاء بيان صفات الخاشعين بالإعتقاد مما يدل على لزوم النية وإرادة قصد القربة في الواجبات والمستحبات، ومن مفاهيم الآية الإخبار عن موضوعية الإقرار باليوم الآخر في مراتب الإيمان فمتى ما أدرك الإنسان أنه راجع إلى الله تعالى، وواقف بين يديه للحساب فانه يسعى للإستعداد للحساب فيتبع الأنبياء، ويتجنب الجحود بالآيات.
وبما ان الخشوع مقدمة واجبة لنيل مرتبة الصبر والتقوى جاءت الآية للبيان والتفصيل ومنع اللبس وهذا من إعجاز القرآن بذكر تفصيل المقدمة الواجبة سواء كان وجوبها ذاتياً أو غيرياً، مترشحاً عنها أو عن غيرها، والخشوع يجمع الأمرين، فهو مطلوب بذاته قال تعالى [وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ]( ) , وهو لباس ومقدمة لتنمية ملكة التقوى عند ذات الخاشع وفي المجتمعات.
وفي الآية مسائل :
الأولى : بيان صفة وحال الخاشعين الذين يؤدون الصلاة بشوق ورغبة، ومن غير ملل أو كلل.
الثانية : تجلي موضوعية الايمان باليوم الآخر في صفات المؤمنين.
الثالثة : مع قلة كلمات الآية فانها ذكرت أموراً:
الأول: كفاية درجة الظن المعتبر بلقاء الله في تحصيل مرتبة الخشوع له سبحانه.
الثاني : لقاء الله في الآخرة.
الثالث : الرجوع إلى الله سبحانه، وتفيد واو العطف في (وانهم) التعدد والمغايرة بين لقاء الله وبين الرجوع إليه سبحانه، وهو آية إعجازية في علم الكلام.
الرابعة : جاءت الآية بصيغة الجمع مما يدل على إعتبار الإيمان باليوم الآخر من أصول الدين.
الخامسة : حث المسلمين على إستحضار يوم القيامة، وما فيه من الحساب.
السادسة : في الآية رفع للبس والترديد في صفات المسلمين.
وتحتمل الصلة بين الشطر الأول من الآية وهو لقاء الله، وبين الشطر الثاني منها وهو [إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] وجوهاً :
الأول : العطف بخصوص الظن وتقدير الشطر الثاني منها (ويظنون أنهم إليه راجعون).
الثاني : القطع واليقين بالرجوع إلى الله تعالى، وتكون الواو في (وانهم) إستئنافية.
الثالث : عطف الخاص على العام، وان الرجوع إلى الله عز وجل فرع لقائه سبحانه.
الآية لطف
في الآية مسائل :
الأولى : تتضمن الآية في دلالتها مدح المسلمين، وبيان ما نالوه من الإرتقاء في المعارف الإلهية.
الثانية : في الآية بيان لمعنى الخشوع والخضوع لله تعالى وإعانة للمسلمين على بلوغ أحسن مراتبه.
الثالثة : في الآية دعوة لأهل الكتاب والناس جميعاً للإقرار باليوم الآخر وعالم الحساب، وهذا الإقرار مدخل للهداية والصلاح.
الرابعة : بيان حقيقة وهي موضوعية الإقرار باليوم الآخر في تحصيل مرتبة الخشوع لله تعالى.
الخامسة : جاءت الآية بصيغة الظن , وفيه دليل على نيل عموم المسلمين مرتبة الخشوع وتقيدهم بأحكام الشريعة الإسلامية وان كان الظن يحمل على معنى العلم.
والآية دعوة سماوية للمسلمين والناس جميعاً بإستحضار لقاء الله في الوجود الذهني ليكون مقدمة للفوز بالأمن يوم القيامة , قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( )، بتقريب أن إستحضار يوم القيامة في الذهن والتسليم بوقوعه من معاني الإيمان، وشاهد على التقوى وباعث على الصلاح، لتكون الآية من اللطف الإلهي بالمسلمين خاصة والناس عامة , وتبعث على الشوق للقاء الله .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا نبي الله أكراهية الموت ؟ فكلنا نكره الموت فقال ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)( ).
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية وتتحدث عن أهل الإيمان وإقرارهم بالمعاد .
إلا أنها تتضمن معاني الإنشاء لما فيها من دعوة الناس جميعاً للتهيء للرجوع إلى الله عز وجل وليس بعد العالم الآخر عالم دائم مثله، أو زائل كالحياة الدنيا.
إفاضات الآية
تجعل الآية اليوم الآخر قريباً من الإنسان وحاضراً في يومه وليلته، ليكون عوناً على الصبر والتحمل وحصانة من إقتراف السيئات لأن الصبر عن المعصية من أهم وجوه الصبر خصوصاً ساعات مهاجمة الإفتتان وملذات الدنيا، وتزيين الشيطان للشهوات وغلبة النفس الشهوية والسبعية، فيأتي إستحضار الحشر واقية وبرزخاً دون اقتراف الذنوب وسبباً للصبر.
وجاءت الآية بصفة (اللقاء) وهو تشريف لأهل الإيمان بأنهم في الآخرة لم ينشروا ويحشروا للحساب والعقاب بل للقاء الكريم وان فيوضات الرحمن تتغشاهم يومئذ.
فمع الدعوة إلى الصبر والتحمل تأتي البشارة والسكينة في هذه الآية بنعت الحشر بانه لقاء للمؤمنين مع الله عز وجل ويدل في معانيه على الغبطة والسعادة يومئذ لذا وصفهم الله بانهم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وتبعث الآية على الخشية من الله عز وجل، فلا تعارض بين حب لقائه سبحانه والإستعداد ليوم القيامة وبين الفزع والخوف من أهواله ليكون الجزاء هو الأمن والسكينة يومئذ، قال تعالى[وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا]( ).
وصحيح أن موضوع الآية أعلاه هو المسلمون في الحياة الدنيا فبعد أن كانوا خائفين يطلبهم الظالمون صاروا هم الأئمة والسادة لا يخشون الأعداء، ولكنها صورة تحكي حال المؤمن يوم القيامة الذين يكون الأمن فيه أعم ومتعلقا بالتقوى، فقد يغادر المؤمن الدنيا وهو في حال من الخوف والفزع من الكفار والظالمين فيفوز بالأمن يوم القيامة، ويصاب الكفار بالخوف والفزع يومئذ.
ويبعث الإقرار بلقاء الله السكينة في النفس والأمن في المجتمعات، فيترشح عنه طوعاً وإنطباقاً الغبطة والسعادة وهناء العيش، لأن الخوف والفزع النوعي يحجب الناس عن بذل الوسع في مصالحهم، ويجعل الشك والريب يسري بينهم .
فجاءت الآية لإصلاح مجتمعات المسلمين، ونماء التجارات وإزدهار الأسواق وإنتظام الأحوال السياسية وتكون مقدمة ومناسبة لأداء الفرائض والتفقه في الدين.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالاسم الموصول “الذين” مما يدل على إتصالها في مضمونها ومعناها بالآية السابقة التي جاءت في سياق أوامر ونواهي عديدة لبني إسرائيل، وتضمنت الأمر بإتخاذ الصبر والصلاة وسيلة وسلاحاً , ومن الإعجاز فيها انها لم تقيد الغايات والأغراض الحميدة التي نحتاج فيها الصبر والصلاة وسيلة ولكنها ذكرت قيداً تتجلى فيه معاني الغاية بان قالت [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] وهم الذين يخشون الله بالسر والعلانية، ويرجون فضله وإحسانه.
ثم جاءت هذه الآية لتتضمن إعجازاً آخر، وهو وصف حال الخاشعين الذي لا تكون الصلاة عليهم كبيرة، ويؤدونها بشوق ورضا وإمتثال.
وجاءت هذه الآية بذكر وصفين للخاشعين هما:
الأول: الظن بملاقاتهم لله تعالى.
الثاني: رجوعهم إلى الله تعالى.
وجاءت هذه الآية والآيات الستة التي قبلها في خطاب إلى بني إسرائيل إذ إبتدأت بالنداء والخطاب التكليفي [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي] ( ).
والآية محل البحث هي الوحيدة الخالية من الأوامر والنواهي، وهو من إعجاز نظم الآيات، إذ أختتمت هذه الآيات بوصف الخاشعين، كما أختتمت الآية السابقة بصيغة الجمع التي تفيد المدح والثناء المتحد والمتعدد والمدح الإنحلالي من وجوه:
الأول: توجه المدح إلى كل فرد ممن يستعينون بالصبر والصلاة.
الثاني: المدح والثناء للمسلمين لبلوغ مرتبة الخشوع، ورجاء لقاء الله تعالى.
الثالث: بيان أسباب الهداية بإجتماع الخشوع والظن بملاقاة الله تعالى.
وتضمنت الآية وجوهاً:
الأول: إستغراق الآية لعموم الخاشعين.
الثاني: إقرارهم بان الله تعالى هو ربهم، وفيه توكيد وبيان لخاتمة الآية السابقة وان خشوعهم لله تعالى والتقدير “وانها لكبيرة الا على الخاشعين لله ربهم” وإطلاق الخشوع في المقام شاهد على الحصر، وان الخشوع النوعي العام لا يكون إلا لله تعالى.
الثالث: ظن الخاشعين بانهم ملاقوا الله تعالى.
الرابع: التسليم بالرجوع إلى الله تعالى، ومن أسرار نظم الآيات وما فيه من الإعجاز وجوه:
الأول: الظن بملاقاة الله تعالى من منازل الخشوع والخضوع لله تعالى.
الثاني: ملازمة الظن بملاقاة الله لحالة الخشوع.
الثالث: الظن بالرجوع إلى الله تعالى والذي يعني بالدلالة التضمنية إقرارهم بان الموت حق والنشور حق، وجاء العطف بالواو في قوله تعالى [وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ].
وجاءت الآية بصيغة الجمع، وتفيد ظن كل واحد منهم رجوعه إلى الله تعالى.
الرابع: من أسرار صيغة الجمع في المقام ان ظنهم جميعاً بملاقاة الله إعانة لكل واحد منهم في الإستعداد لهذا اللقاء والعمل في مرضاة الله وظن كل واحد منهم باليوم الآخر وعالم الحساب عون للجميع.
الخامس: في الآية دلالة على ثبوت الإيمان في نفوس المسلمين وعدم إنصاتهم لأسباب الشك والريب التي يبديها أهل الضلالة.
السادس: تدل الآية على وحدة المسلمين، وعدم وقوع الفرقة والخلاف بينهم , فكلهم يرجو لقاء ربه.
السابع : الآية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، لأن المسلمين خاشعون لله ويرجون لقاءه تعالى.
الثامن: في الآية إقرار نوعي عام من قبل المسلمين بالوقوف بين يدي الله تعالى للحساب.
التاسع : بيان مصاديق الخشية من الله، بالمبادرة الى العبادات والظن بملاقاة الله تعالى، والرجوع اليه سبحانه.
والظن هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر ترجيحاً غير مانع من النقيض في الذهن، ورجاء الظن في المقام على وجوه:
الأول:إرادة التصديق بإعتباره أحد طرفيه، والطرف الآخر هو اليقين.
الثاني: إنتظار وقوع الموت في كل ساعة، فإذ جاءت الآية السابقة بأمور ثلاثة وهي الإستعانة بالصبر والصلاة والخشوع لله تعالى هذه الآية لبيان حقيقة وهي إستحضار الخاشعين الموت عند أداء الصلاة في كل يوم من أيام حياتهم.
فكل واحد منهم يصبح وهو يظن أنه سيموت في يومه ويلاقي ربه، بإعتبار ان الموت بداية عالم الآخرة، وسبب لقاء الله تعالى، وفي الحديث:”إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته”( ).
فجاءت الآية شهادة وإخبارا بذكرهم للموت في كل ساعة، وهذا الذكر من رشحات الخشوع لله، وأسباب ثبوته في النفس، وإستقراره كملكة راسخة يتولد عنها فعل الطاعات وإتيان الصالحات.
الثالث: إرادة معنى الرجاء، فالظن هنا بمعنى الرجاء والإنتظار وجاء الشوق الى اللقاء بلفظ الظن بلحاظ أيام الحياة الدنيا وعدم العلم بأوان الأجل والموت، قال تعالى[مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ]( ).
الرابع: تجلي معاني الخشوع لله تعالى بعدم القطع والجزم بأوان قيام الساعة، والوقوف بين يدي الله للحساب، فيكون متعلق الظن هو زمان قيام الساعة بلحاظ إنشطاره إلى أمرين:
الأول: القطع واليقين بوقوع يوم القيامة، ولقاء الله تعالى.
الثاني: عدم العلم بأجل وزمان قيام الساعة، وقد جاء ذكر لقاء الله
في إشارة الى الآخرة , قال تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ] ( ).
الخامس: المراد الظن بالنجاة والفوز يوم القيامة فهم من خشيتهم من الله تعالى يخافون حسابه، ومؤاخذتهم على ذنوبهم وتقصيرهم في مرضاة الله تعالى.
السادس: الظن فيما عندهم من الحسنات كسبيل للنجاة، فهم يخشون أن لا تترجح كفة حسناتهم في الآخرة، ويظنون بسبب القصور والتقصير الحرمان من لقاء الله.
السابع: جاء الظن بخصوص رحمة الله يوم القيامة مع الإقرار بيوم القيامة والقطع بالحساب، ولكن الخاشعين يرجون لقاء الله لما فيه من الرحمة الإضافية وهو مناسبة للعفو فيخشون ان يحصل حسابهم على أفعالهم ونيل ما يستحقونه من الجزاء بينما هم يرجون فضل الله ولقائه، للفوز بالرحمة والعفو منه تعالى.
الثامن: كفاية الظن بلقاء الله تعالى، وترجيح وقوعه يوم القيامة ولا يعني هذا عدم القطع واليقين بالموت والنشور، بل يشمل حال لقاء الملائكة من ساعة الموت وفي الحساب.
التاسع: كفاية بلوغ مرتبة الظن بلقاء الله لنيل مرتبة المدح.
العاشر: يبارك الله تعالى ويجعله ينمو ويزكو ليرقى الى مرتبة اليقين.
الحادي عشر: المقصود من الظن هو القطع واليقين للإتحاد وفي جهة التصديق بين الظن واليقين.
الثاني عشر: إرادة المعنى العرفي للظن الذي يساوق اليقين، ويكون معه إحتمال الخلاف موهوماً.
الثالث عشر: يرد في علم الأصول إصطلاح الظن الخاص، وهو الناشئ عن الأمارات التي قام الدليل على حجيتها، فالخاشعون وهم في الدنيا يظنون بملاقاة الله.
الرابع عشر: الإشارة إلى حقيقة وهي أن ماهية الحياة الدنيا والإنشغال بها، وبزينتها لا تشغلهم عن ذكر الموت وإستحضار أهوال الآخرة، ورجاء رحمة الله تعالى يومئذ.
الخامس عشر: إنتفاء الظن بالضد عند الخاشعين، فليس عندهم إلا الظن بلقاء الله تعالى، والرجوع إليه سبحانه.
السادس عشر: يفيد إجتماع الظن بلقاء الله تعالى، والظن بالرجوع اليه سبحانه والإقرار بحتمية الوقوف بين يدي الله تعالى للحساب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وتدل على سعة اللفظ القرآني، وتعدد معانيه وفيه بشارة ورحمة وتخفيف.
وإختلف المعتزلة والأشاعرة بخصوص هذه الآية ودلالتها على جواز رؤية الله تعالى أو عدمها، وساق كل فريق منهم طائفة من الأدلة القرآنية واللغوية في النقض والإبرام، وليتهم إنشغلوا بالسياحة في الدلالات العقائدية لهذه الآية، وما فيها من صيغ المدح والثناء على المسلمين ودعوة بني إسرائيل للحاق بهم.
ان حصر الإهتمام بالخلاف الكلامي في مسألة فرعية يشتت الأفكار والجهد، ويولد العناء، ويبعث على النفرة والخصومة , ويكون مادة للفرقة وباعثا على الغضاضة , بينما جاءت الآية بصيغة الجمع التي تدل على إتحاد المسلمين في الظن والشوق الى لقاء الله تعالى.
والآية القرآنية جاءت شراباً فراتاً عذباً يحس بطيبه وحسنه كل من يتلو أو يسمع الآية، ويتدبر معانيها حال التلاوة ويفهم منها ما يساعده في أمور دينه ودنياه.
لقد أراد الله تعالى أن يكون ظاهر للقرآن كافياً للحجة والإحتجاج، ومناسبة للإتعاظ والإعتبار بلقاء الله، ومع قلة كلمات الآية فانها تضمنت بضمائر عديدة بصيغة الجمع , وسيأتي الكلام عن آية الضمائر وهي قوله تعالى[وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ]( )، وفيها خمسة وعشرون ضميرا ظاهرا ومستترا.
وعدد كلمات آية البحث ثمانية كلمات، سبعة منها بصيغة الجمع، وواحدة بصيغة المفرد لأنها تتضمن الضمير الذي يعود الى الله تعالى وهو “الهاء” في قوله تعالى [إِلَيْهِ رَاجِعُونَ].
ومجيء الآية بصيغة الجمع مدح إضافي للمسلمين، فموضوعيتها في لقاء الله على وجوه:
الأول: يظن كل واحد منهم أنه ملاقِ الله.
الثاني: يظن الخاشعون انهم ملاقوا الله تعالى مجتمعين.
الثالث: يظن الفرد منهم أن الجماعة ملاقية الله تعالى.
وفي لقاء الجماعة والأمة لله تعالى مناسبة للشفاعة وسؤال العفو والرحمة.
وكما جاء تعليم آدم الأسماء، جاءت هذه الآيات بتعليم الناس ضرورة الخشوع لله تعالى، وبيان أهم مصاديقه إذ جاءت هذه الآية بذكر خصلتين كريمتين من خصال الخاشعين هما:
الأولى: الظن بلقاء الله تعالى.
الثانية : الرجوع الى الله تعالى، ويترشحان من الخشوع وإقامة الصلاة، وهما أيضاً مقدمة وسبب لحصول وإستقرار حال الخشوع عند المسلم.
وفي إجتماعهما في الآية وجوه:
الأول: إنهما مما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إجتمعا.
الثاني: ان لقاء الله ليس مثل الحياة الدنيا، وإنقطاعها بالموت، بل ان لقاء الله تعالى أبدي ولا موت بعده.
الثالث: إنحصار الملك يوم القيامة بالله تعالى.
الرابع: القطع واليقين بأنه لا عمل في الآخرة، بل رجوع الى الله تعالى للحساب والثواب.
الخامس: ترشح آثار مصاحبة الظن بالرجوع الى الله تعالى على عالم الأفعال في الدنيا، ومنها إتيان الصلاة بحرص ورضا، مع عدم النفرة من أداء الفرائض والعبادات.
السادس: من صفات الخاشعين الفزع من اليوم الآخر، ومواطن الحساب قال تعالى [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
السابع: العلم بان الحياة الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار.
الثامن: الإقرار بالخلق والنشوء، وأن الله تعالى هو الذي خلق الناس، وأنه سبحانه لن يتركهم وشأنهم بل انهم يرجعون إليه.
التاسع: رجوع الناس إلى الله دليل على عظيم قدرة الله تعالى وسعة سلطانه.
العاشر: إجتماع اللقاء والرجوع إلى الله تعالى دعوة للناس جميعاً للإيمان، ومنع من الركون إلى الدنيا وزينتها، وقطع لأسباب الشك والجدال والمغالطة فهو لقاء ورجوع دائم.
الحادي عشر: إرادة معنى الوقوف بين يدي الله للحساب من لقاء الله، أما الرجوع إلى الله تعالى فالمراد منه عالم الجزاء والإقامة بالنعيم الدائم، فهم يؤدون الصلاة والفرائض الأخرى بشوق ورغبة رجاء الثواب.
الثاني عشر: يمتاز المسلمون بأنهم يشتاقون إلى لقاء الله، لأنهم يعلمون حتمية الرجوع إليه تعالى.
الثالث عشر: يطرد الظن بلقاء الله الضد من الظن والوهم، فلا ظن عند الخاشعين بإستدامة الحياة الدنيا، ولا ظن بترك الإنسان بغير حساب.
الرابع عشر: لما جاءت الآيات السابقة بخلق آدم وسكنه هو وحواء في الجنة، وأكلهما من الشجرة بإغواء من ابليس وهبوطهما إلى الأرض بأمر من الله تعالى، والإقامة في الأرض بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ) جاءت هذه الآية للإخبار عن تعاهد المسلمين لمضامين هذا القول وما فيه من الوعد الكريم لأهل التقوى،وانهم ينتظرون الرجوع إلى نعيم الجنة.
الخامس عشر: يترشح الرجوع إلى الله تعالى من لقائه سبحانه، فبعد الموت يكون النشور والوقوف بين يدي الله تعالى، ليأتي الرجوع إلى الله تعالى ، وهو بالنسبة للمؤمنين رحمة لما وعد الله تعالى من الجزاء الكريم.
إن الوقوف بين يدي الله تعالى في الصلاة إستحضار للرجوع إليه تعالى، والتجاء إليه رجاء الأمن والسلامة يوم القيامة , ويعلم الخاشعون أن الناس جميعاً يرجعون إلى الله تعالى وبه جاءت آيات القرآن.
ولكن هذه الآية ذكرت ظنهم برجوعهم إلى الله , وفيه إشارة إلى إنشغالهم بالعبادة وإصلاح أنفسهم للقاء الله بالإمتثال لأوامره تعالى، وفيه درس وعبرة وموعظة لجميع الناس بلزوم إدراك حتمية الرجوع إلى الله تعالى، ويأتي أداؤهم للصلاة ليكون إقراراً يومياً بمغادرة الدنيا إلى دار الحساب ، وكل فرض يذكرهم بلقائه تعالى لذلك جاء وجوب قراءة سورة الفاتحة في الصلاة وما فيها من الشكر والحمد لله تعالى، والمسألة والدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم.
التفسير الذاتي
في الآية بيان لصفة الخاشعين الذين يقبلون على الصلاة بشوق ورغبة، ومدح للذين يؤدون الفرائض حباً لله عز وجل وإقراراً بحتمية العودة إلى الآخرة، والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب، وتسليماً بأن ما وراء الموت عالم آخر يكون فيه الجزاء والخلود , قال تعالى [وأن الدار الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( )، وذكرت الآية أمرين هما:
الأول: العباد ملك وعبيد لله عز وجل.
الثاني: الرجوع إلى الله عز وجل.
ويتعلق الأمران بعالم الدنيا والآخرة، وهو من عطف العام على الخاص، لأن الرجوع أعم وفيه إشارة إلى عالم الخلود، ( وعن الحسن ومجاهد أن معنى يظنون أنهم ملاقوا ربهم يوقنون أنهم ملاقو ما وعدهم الله( )، ولكن المعنى أعم، ويشمل إنحصار الملك يوم القيامة بالله عز وجل، ونشر الصحف، وكشف السرائر، والجزاء بالعدل والإنتقام من الكفار والظالمين والفاسقين، ونيل الثواب العظيم على الإستعانة بالصبر والصلاة.
ومن إعجاز القرآن أن الآيات المجاورة السابقةجاءت بصيغة الخطاب لبني إسرائيل، بينما جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية ووصف حال الخاشعين مع تعلقها بموضوع الآيات السابقة من وجوب الإستعانة بالصلاة، وفيه ترغيب بدخول الإسلام، وأداء الصلاة بخشوع وخضوع لله عز وجل.
وجاءت الآية لتهذيب النفوس، وإصلاح السرائر، ويمكن تقسيم الظن إلى قسمين:
الأول: الظن الحسن، ومنه المذكور في هذه الآية والظن بالمؤمنين خيراً، ورجاء الصلاح والإستعانة، وفي باب الطلاق , قال تعالى [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ]( )، ليكون هذا الظن والمبني على العزم على العدل والإنصاف والمودة بين الزوجين مدخلاً للوئام وإنجاب الأولاد.
الثاني: الظن القبيح، ومنه ما يترشح من الكفر والجحود، قال تعالى [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ]( )، وتبين الآية لزوم حسن الظن، وإستحضار عالم الآخرة في الوجود الذهني ليكون واقية من الضلالة، وسلاحاً لمواجهة الكفار ومحاربة أعداء الدين، ويترشح عن الظن بلقاء الله عز وجل القول والفعل الحسن، وفي التنزيل [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
فمن مصاديق الظن بلقاء الله التوكل عليه، والإنابة إليه، وعلى فرض أن الخطاب في هذه الآيات لبني إسرائيل فان مضامين هذه الآية دعوة للمسلمين والناس جميعاً لإصلاح النفوس، وإجتناب الشك والجدال بالباطل.
وتدل الآية في مفهومها على ذم الكفار الذين ينكرون البعث والنشور، وفيها إنذار لهم، قال تعالى [ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان صفة كريمة من صفات المسلمين.
الثانية: حث المسلمين على تعاهد مرتبة الخشوع لله تعالى.
الثالثة: توكيد حقيقة وهي بقاء حال الخشوع لله وعدم مغادرتها الأرض، وهي من عمومات ومصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) ودليل على الملازمة بين الخشوع لله وعبادته.
الرابعة: لما سألت الملائكة عن جعل الإنسان خليفة في الأرض، وهو يفسد فيها ويسفك الدماء، ومجيء الرد الإلهي عليهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) جاءت هذه الآية لتكون مصداقاً من مصاديق العلم الإلهي في أهلية الإنسان لخلافة الأرض، وتحقق هذه الأهلية بالمسلمين وإقرارهم بلقاء الله ربهم وتغشيهم برحمته يوم
وفي الآية شاهد على إستحقاق المسلمين لخلافة الأرض، وتعاهدهم لمسؤوليات الخلافة في الأرض، وتبين الآية منافع الصبر، والحاجة إلى الصلاة للفرد والجماعة والأمة، فتكفي مرتبة الظن باليوم الآخر لأداء الصلاة والمواظبة عليها.
ومن الآيات في خلق الإنسان أن الإقرار بالمعاد واقية من المعاصي وإرتكاب الذنوب، وهذه الواقية تأتي مباشرة وبالواسطة، إذ أن الإنسان يجتهد في السعي للقاء الله، وأخذ الزاد من دار الدنيا الزائلة إلى دار الآخرة الخالدة، أما الوساطة فان الخشية والشوق للقاء الله يجعل العبد يحرص على أداء الفرائض والعبادات ويتلبس بملكه الصبر والتقوى.
التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ ]
الآية الكريمة بيان لصفة الخاشعين وما يخالط خضوعهم من توجه سليم ورشاد يكون الخشوع مؤازراً له بالتخلص من الإنشغال بالدنيا وما تمثله العناية بزينتها من حجب تحول دون نفاذ البصيرة في حقيقة زوالها وضرورة الإستعداد لما بعدها.
إنهم يتوقعون ملاقاة الله عز وجل يوم القيامة باعمالهم وما كسبت أيديهم وما يعتقدونه، وهذا الإحساس بصورته المجردة ومن غير مبرز خارجي يجسده عنوان الخشوع والخضوع، ويستحقون عليه المدح من رب العزة فضلاً منه تعالى.
وهل حالتهم هذه بسيطة أم مركبة؟ إنها مركبة من الخشوع باعتباره حالة نفسانية تملأ الجوارح والأركان، ومن توقع وإنتظار اللقاء والجزاء ووجوب المعاد البدني وما فيه من الثواب والتعويض على التكليف في دار الدنيا وما يتضمنه من المشقة.
وعن الامام علي عليه السلام في قوله تعالى [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ] يعني يوقنون أنهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون، ويجزون بالثواب والعقاب.
وعن الامام الصادق عليه السلام: “اللقاء البعث”، والظن ههنا اليقين.
وتفسير الظن باليقين في المقام لا يلغي المعنى الحقيقي له في مواطن وآيات أخرى بلحاظ تعدد الأفراد والجماعات وإختلاف مراتب ظنهم وأنه من المراتب المشككة .
وعن ابن عباس أن الآية نزلت في علي عليه السلام وعثمان بن مظعون( ) وعمار بن ياسر وأصحاب لهم.
والظاهر أن الإكتفاء بالظن لنيل المراتب العالية فضل من الله تعالى، ولطف فهو سبحانه يعلم وسوسة الشيطان وتسويل النفس فيرضى من العباد بالظن المعتبر كنوع تخفيف أو أن المراد بالظن اليقين لأن العرب ترقى بالظن إلى مراتب اليقين.
ولا يعني هذا أن الثواب على اليقين بعرض واحد مع الظن فللآية مفاهيم منها قياس الأولوية وفحوى الخطاب، وهو أن المتيقن على نحو القطع والجزم بلقاء الباري له منزلة أعظم ونعت أكثر تشريفاً.
وورد في سورة هود في الثناء على المؤمنين انهم قالوا [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
لتدل على المضامين الجهادية لهذا الظن وتخبر بالدلالة الإلتزامية عن شمول معاني الصبر للجهاد ودخول المعارك وتحقيق الظفر على الأعداء، فلا ينحصر الصبر في الآية بمفهومه السلبي وتحمل المصيبة وعدم الجزع بل يشمل معناه الإيجابي وارادة المواجهة والدفاع عن النفس والملة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وإن الظن عام وشامل عندهم مما يدل على أنه ظن راجح معتبر، وأن الوهم والشك لن يطرأ عليه.
وتقع الملاقاة بين طرفين، وهي نوع مفاعلة بين إثنين أو أكثر فكل طرف يلاقي الآخر، وقال الماوردي هي كقولك عاقبت اللص، وعافاك الله، أي أنه من المفاعلة التي تكون من الواحد، وهو خلاف الظاهر والمعنى، فالملاقاة تكون يوم القيامة بين الله عز وجل وعباده، صحيح أن الله يرى الإنسان في كل لحظة من لحظات وجوده ويعلم مكانه وفعله قبل أن يأتيه، إلا أن الآية تؤكد بأن الآخرة يوم اللقاء الذي يتقوم بالحساب، وإن قلت مع الثناء عليهم في هذه الآيات ووصفهم بالخاشعين الذين يتعاهدون الصلاة والصيام كيف يكون عندهم لقاء الله بمرتبة الظن، الجواب قيل إن الظن هنا الإعتقاد الجازم لإتصاله بمعنى الخشوع في الآية السابقة.
وأستدل ببعض الشعر الذي لا يرقى إلى معاني الآية ومضامينها القدسية، منه قول(آوس بن حجر يصف صياداً رمى حمار وحش بسهم:
فَأرْسَلَهُ مُسْتَيْقِنَ الظّنِّ أنّهُ مُخالطُ ما تحتَ الشَّراسيفِ جائفُ)( ).
وهو يتعلق بحال إرسال السهم، ولم يأت الظن أعلاه وحده بل أضيفت له صبغة اليقين، وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان التخفيف عن المسلمين في كفاية الظن المعتبر بالبعث والنشور في حالات من تفكر الإنسان.
الثانية: إفادة خاتمة الآية بأنهم يظنون الرجوع إلى الله عز وجل بعد الموت والنشور.
الثالثة: وجود حذف في الآية وتقديره على وجوه:
الأول: يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم وخشيتهم من سواد الوجوه يومئذ.
الثاني: يظنون أنهم ملاقوا ربهم برحمته الواسعة، لذا لم تقل الآية(ملاقوا الله) بل جاءت بصفة الربوبية وما فيها من معاني الرأفة.
الثالث: يظنون ملاقاة الله بفيوضات الرحمة والجزاء العظيم على أدائهم الفرائض , وتحليهم بالخشوع والخضوع لله عز وجل وورد في مصحف عبد الله بن مسعود: الذين يعلمون أنهم ملاقوا ربهم)، وهو من البيان والتفسير، لأن المدار على المرسوم في المصاحف.
الرابعة: تعلق الظن بحلول الأجل، ومفارقة الروح الجسد في أي لحظة من ساعات العمر، فكل واحد منهم يظن أنه سيلاقي الله عز وجل في ساعته، قال تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
الخامسة: إرادة حال العموم المجموعي فمنهم يظن بلقاء الله، ومنهم يقطع ويجزم بلقاء الله عز وجل، ويجمعون بأن الله عز وجل هو ربهم الذي إليه يرجعون.
وجاء القرآن بالترغيب بلقاءء الموت قتلاً في سبيل الله وفي خطاب للمسلمين ورد قوله تعالى[ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ]( )، وكانوا يتمنون لقاء المشركين كيوم بدر، فوقعت معركة أحد وتعرض المسلمون لخسارة بسبب خطأ في الرماة.
علم المناسبة
ورد لفظ “أنهم ملاقوا ربهم” ثلاث مرات في القرآن:
الأولى: هذه الآية الكريمة وما فيها من المدح للمسلمين لإقامتهم الصلاة بخشوع وخضوع، ومن وجوه الخشوع فيها أداؤها جماعة، لإرادة المعنى الأعم للخشوع فيشمل القضية الشخصية والنوعية العامة والتداخل بينهما، بأن تترشح منافع الخشوع الشخصي على الجماعة، وتتجلى بركات خشوع الجماعة العامة على الفرد منهم، وعلى غيره أيضاً، لأنها في ماهيتها وكيفيتها دعوة للناس للصلاح والتقوى.
الثانية: ما جاء في المؤمنين من بني إسرائيل من أصحاب طالوت الذين [بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ]( )، ولم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فأحسنوا التوكل على الله، وتوجهوا لقتال الظالمين، فجاءهم الفتح، ليكون الظن بلقاء الله عز وجل سلاحاً في المعركة، ومادة لنزول النصر من عند الله عز وجل.
الثالثة: ما جاء على لسان نوح عليه السلام في مدحه للمؤمنين، وجاء مدحه هذا في الإحتجاج على القوم الكافرين الذين كانوا يسألونه طرد المؤمنين أنفة وإستكباراً عليهم، فجاء رد نوح مركباً من غناه عن الكافرين، وأن الثواب والأجر لا يرجوه إلا من عند الله عز وجل، وهؤلاء المؤمنون يلاقون الله عز وجل ويذكرون له حسن سمت النبي معهم، وتقريبهم من مجلسه، فيأتي الأجر والثواب لنوح عليه السلام.
وفيه ترغيب للكفار بالإيمان، وتذكير لهم بلقاء الله، وبيان قانون ثابت وهو أن التفضيل والإكرام يدوران مدار الظن بلقاء الله، وإنفردت الآية أعلاه من بين هذه الآيات الثلاث بعدم ذكرها “للظن” بلقاء الله، ويدل على هذا الظن بلقاء الله في المقام أمور:
الأول: جاءت الآية حكاية عن نبي رسول وهو نوح عليه السلام [وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ]( ).
الثاني: نعتهم بالإيمان، وبلغة المدح والإكرام .
الثالث: إمتناع نوح عن طردهم أو منعهم من الوصول اليه.
الرابع: ذم الكافرين الذين يريدون منه طردهم ونعتهم [أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ]( ).
الخامس: مجيء الآية التالية ببيان اللطف والعناية الإلهية بالمؤمنين [وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ]( ).
السادس : بيان قانون في سنن النبوة وهو احتساب الظن بلقاء الله إيمان, لمجيئه متعلقا بلفظ آمنوا.
قوله تعالى [وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ]
ترى ماذا يعني الرجوع في الآية؟ ذكرت فيه وجوه :
الأول : انهم راجعون بالإعادة في الآخرة، عن أبي العالية.
الثاني : انهم يرجعون بالموت لأنهم كانوا امواتاً فاحيوا ثم يموتون فيرجعون أمواتاً كما كانوا.
الثالث : انهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضراً ولا نفعاً غيره تعالى( ).
إن الرجوع له معانٍ متعددة ومنها قول القائل رجع الأمر اليه: أي صار اليه، وإن لم يكن إليه في الحال الأول، فيكون معنى الآية أن المصير إليه تعالى والوقوف يوم القيامة للحساب، أي أن الخاشعين يدركون أنهم صائرون إلى الحشر وأن نهايتهم إلى لقاء الله عز وجل، ومثل هذا الإدراك ينعكس إيجابياً على أفعالهم فيحرصون على تعاهد الفرائض وعمل الصالحات.
وهل يكون الرجوع متعلقاً بالميثاق في عالم الذر لقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( ).
الجواب إنه بعيد، بدليل إخبار الآية أعلاه عن يوم القيامة ووقوف الناس بين يدي الله.
ولا دليل على قول التناسخية بأن الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده وان الأرواح قديمة والأدلة النقلية والعقلية بخلافه ، وكذا قول المجسمة بان الله عز وجل جسم وان الرجوع إلى غير الجسم محال فهو باطل كبرى وصغرى.
أما الكبرى فلأن واجب الوجود ليس بجسم وغير متحيز ولا حال في غيره وأن الأجسام محدثة، وعليه إجماع المسلمين بل والمليين، لأنها لا تخلو عن جزئيات متناهية ولا تنفك عن الحركة والسكون.
أما الصغرى فلابد من تأويل معنى الرجوع بما يناسب المقام كما تقدم وإرادة المثول بين يدي الله للحساب ونيل الجزاء.
ويلاحظ وجود طرفين :
الأول : في عالم الذر يوم أخذ الله عز وجل الميثاق عليهم بالإقرار له بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة.
الثاني : وقوفهم بين أيدي الله عز وجل يوم القيامة للحساب.
وتحتمل النسبة بين الإيمان والخشوع وجوهاً :
الأول : العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الإيمان أعم من الخشوع وكل مؤمن هو خاشع وليس العكس.
الثانية : الخشوع أعم من الإيمان، وكل مؤمن خاشع وليس العكس.
الثاني : نسبة التساوي والاشتراك في تمام الافراد.
الثالث : بينهما عموم وخصوص من وجه فيلتقيان ببعض المصاديق ويفترقان ببعضها.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الأول.
ان الخشوع احد مصاديق الايمان وفرع منه ويمكن تعريفه بأنه أمارة نفاذ الإيمان إلى الجوارح وسريانه في العروق وإستقراره في الأركان , وجاءت هذه الآية لإرتقاء كل مؤمن إلى مرتبة التساوي ليكون كل مؤمن هو خاشع، إذ أن الصلاة دليل الخشوع والخضوع لله عز وجل.
نعم قد يتقدم الخشوع رتبة وزماناً ويكون مقدمة للإيمان والتسليم وبداية كريمة له ليكون الخشوع حالة إستعداد نفسي لتلقي الدعوة والإيمان، وقد يكون العكس للتداخل والملازمة بينهما، ولأن كل واحد منهما طريق للآخر.
وتؤكد الآية على ضرورة الإقرار بالمعاد واليوم الآخر، وهذا الإقرار من مصاديق الخشوع لله تعالى لما يترشح عنه من السعي إلى الآخرة بالعمل الصالح واجتناب الفواحش.
بحث كلامي
الظن: الترجيح في باب الاعتقاد. ولعل معناه الإصطلاحي في علم المنطق هو الأنسب حيث أعتبر مع اليقين وجهين للتصديق، إذ ان الظن المعتبر ترجيح لاحد طرفي الخبر , وهما الوقوع واللاوقوع وهو غير مانع من النقيض والاثبات او النفي مع تجويز الطرف الآخر.
لذا عرف بانه التصديق الخالي عن الجزم , وعن الرازي ان الظن هو التصديق العاري عن الجزم فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم، والمساوي هو الشك، ولكن الوهم لا يكون الا عند ترجيح المرجوح.
ويفيد اليقين القطع بينما يعني الظن وجود إحتمال ضعيف للطرف الآخر، فالظن أدنى مرتبة من اليقين. واعتبره أبو هاشم من جنس الإعتقاد. وعده أبو علي والقاضي جنساً برأسه سوى الإعتقاد، واليه ذهب المرتضى( )( ).
وهو في اللغة لا يبتعد عن هذا المعنى، وقيل (أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب، كأنه حديث النفس بالشيء)( ).
ودأب اغلب المفسرين على القول بتأويل جميع ما في القرآن من الظن بمعنى العلم، ولكن بعضهم قال في نفس الصفحة : وضد الظن اليقين ولكن بينهما فارق رتبي، والظن في طول اليقين وليس ضده، إلا إذا كان ظناً بالمرجوح.
قال الحسن وابو العالية ومجاهد وابن جريج( ): يظنون أي يوقنون ومثله [إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِي ]( ) أي علمت. ومثله [وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ]( ).
وصحيح انهم ذكروا بعض الآيات التي جاء فيها الظن بمعنى الشك كقوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ] ( ) ولكن الظن من الكليات المشككة وهو على مراتب ولكنه ليس من الأضداد.
والقول بان العرب ترقى بالظن إلى مرتبة اليقين ليس بحجة كافية على الاعتقاد بان ما ورد في القرآن من الظن بمعنى العلم، لقد وردت مفردات الظن في تسعة وستين موضعاً من القرآن، ويتحلى من خلال دراستها إستقراء حقيقة وهي بان للظن مراتب متعددة ومتفاوتة ولكنها تبقى دون مستوى العلم والقطع بدرجة.
وبهذا البيان يمكن ملاحظة ما في هذه الكلمة وحسب موضعها ومناسبة المقام من المعنى والمفهوم والمضمون وما تدل عليه من الإعتقاد والرأي.
نعم على العالم والمفسر الإلتفات إلى فضل الله تعالى في جعل موضوعية وأثر على الظن المعتبر بلحاظ الدليل والقرينة والحاقه بمنازل اليقين، كما ورد في الحديث:”ان الله عند ظن عبده”، والحديث القدسي” انا عند ظن عبدي المؤمن”( ) قيل أي عند يقينه, وهذا القول يحتاج إلى يقين , إنما يبين الحديث الطف الإلهي بالرضا من العبد بالظن الحسن بفضل الله
ان التفسير الإجمالي للكلمة يحجب ما لها من مضامين عقائدية ويحول دون بيان ما تجسده من وجوه الرأفة والرحمة الإلهية , ولا تتوقف رحمة الله تعالى في قربها من العبد على اليقين، ولا يتعلق فضله وعفوه ببلوغ العبد منازل اليقين وإنما تدركه الرحمة عند الظن، اما من بلغ اليقين فذلك الإرتقاء حقاً.
وقال ابن منظور: الظن شك ويقين إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر، فاما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم)( ).
ولكن هذا الكلام وإن إعترف فيه قائله بوجود فرق بين العلم والظن ظاهر ، فاليقين الذي يخالطه الشك لا يكون يقين تدبر إلا بعد أن يكون الشك مرجوحاً.
وقال المبرد ليس من كلام العرب أظن عند زيد مالاً بمعنى أعلم لأن العلم المشاهد لا يناسب باب الظن.
وفي مصحف عبد الله بن مسعود يعلمون بدل يظنون( ).
أي أنهم بلغوا درجة اليقين والقطع بالبعث وإكرام الله عز وجل لهم، وما مرسوم في المصاحف هو الأنسب (يظنون) وهو آية إعجازية لأن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان والإنسان في جهاد مع نفسه وأسباب الإفتتان، قال تعال[إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ]( )، فيؤدي المسلم الصلاة والفرائض الأخرى وهو يرجو الفوز بمرضاة الله , لتكون الدنيا له دار الرجاء.
قوله تعالى[يَابنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] الآية47.
الإعراب واللغة
يا: حرف نداء للمتوسط.
بني: منادى مضاف، إسرائيل: مضاف إليه ممنوع من الصرف.
إذكروا: فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة.
الواو: فاعل، نعمتي: مفعول به، وهو مضاف، والياء: مضاف إليه، التي: اسم موصول في محل نصب صفة لنعمتي.
أنعمت: فعل ماض، وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول، عليكم: جار ومجرور متعلقان بأنعمت .
واني: الواو حرف عطف، وان: حرف مشبه بالفعل، والياء ضمير في محل اسم إن.
فضلتكم: جملة من فعل ماض وفاعل ومفعول به، وهي خبر إن.
على العالمين: جار ومجرور متعلقان بفضلتكم.
التفضيل: الترجيح والتقديم.
والعالمون: جمع عالم وقد تقدم بيانه( ).
في سياق الآيات
بعد الدعوة إلى مناسك العبادة والتي وردت بلغة الأطلاق جاءت هذه الآية خطاباً خاصاً، وتذكيراً بنعمه تعالى على بني إسرائيل.
وتقدم في نظم الآيات هذا الخطاب قبل سبع آيات وهي الآية الأربعون وبينهما عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: توجه الخطاب إلى بني إسرائيل على نحو التعيين.
الثاني: الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل لذكر نعمة الله تعالى عليهم.
الثالث: مجيء الآية لعموم بني إسرائيل.
الرابع: كل آية من الآيتين حجة على بني إسرائيل ومدرسة في الإعتبار للناس جميعاً.
أما وجوه الإفتراق فهو مجئ الآية الأربعين بأمرين ووعد، أما الأمران فهما:
الأول: أمر بني إسرائيل بالوفاء بعهد الله تعالى.
الثاني: وجوب خشية بني إسرائيل من الله تعالى.
أما العهد فهو حاجة، إذ جاء وفاء الله تعالى بعهدهم مقيداً ومشروطاً بوفائهم بعهد الله تعالى، وجاءت هذه الآية لبيان حقيقة وهي تفضيل الله تعالى لبني إسرائيل على وموضوعية وأهمية هذا التفضيل، وأنه يستحق الحمد والثناء على الله تعالى، وإذ جاءت الآية الحادية والأربعون بالأمر إلى بني إسرائيل بالتصديق بنزول القرآن من عند الله، فان الآية التالية جاءت بدعوتهم بصيغة الأمر أيضاً إلى الخشية من يوم القيامة وما فيه من الحساب، ووقوف الناس بين يدي الله وإنعدام الشفيع والناصر لهم من دونه.
ومن النعم التي وردت في هذه الآيات ومصاديق تفضيل الله عز وجل لبني إسرائيل وجوه منها:
الأول: ما جاءت به الآية التالية من إختصاص بني إسرائيل بالأمر الإلهي بالتقوى، وأخذ الحائطة لأهوال يوم القيامة بدخول الإسلام وتصديق التنزيل والنبوة.
الثاني: نفي القول بالإنتفاع من الإنتساب الى الأنبياء وتوكيد حقيقة وهي ان عالم الحساب يقوم على الأعمال في الدنيا.
الثالث: الإخبار عن سلامة ونجاة بني إسرائيل من آل فرعون، وما كانوا يلاقونه من العذاب لقوله تعالى [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ]( ).
الرابع: عبور بني إسرائيل إلى ساحل الأمن والنجاة من فرعون وجنوده.
الخامس: نعمة عبور موسى وهارون مع بني إسرائيل، وسلامتهما من بطش وفتك فرعون.
السادس: مواعدة الله عز وجل لموسى عليه السلام، ونزول التوراة عليه قال تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ]( ).
السابع: عفو الله عز وجل عن بني إسرائيل بعد إتخاذهم العجل، وظلمهم لأنفسهم.
الثامن: النعمة الإلهية بهذه الآية وما فيها من تذكير بني إسرائيل بالنعم التي توالت دفعية من فضل الله عز وجل عليهم ليكون إستحضارها مناسبة ومقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع: نعمة نزول القرآن وذكر بني إسرائيل في آيات كثيرة منه، وتذكيرهم فيه بنعم الله، ولزوم الشكر لله تعالى على تلك النعم.
وجاء تكرار الآية( )، وحث بني إسرائيل على ذكر نعمة الله عز وجل، ومن خصائص ومنافع التكرار التهويل والإعظام، وهو شاهد على تعدد وكثرة النعم التي تفضل بها الله عز وجل على بني إسرائيل، ولزوم ذكرها، وجعلها مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وصلة هذه الآية بالآيات التالية على وجوه:
الأول: الصلة مع الآية التالية[وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت الآية التالية بحرف العطف الواو مما يدل على إتصالها موضوعاً بآية البحث.
الثانية: وردت كل من الآيتين بصيغة لغة الخطاب لجمع المذكر السالم، بالتصريح في آية البحث وإرادة بني إسرائيل، وبواو الجماعة في الآيتين(إذكروا) (إتقوا).
وهل المقصود الذكور من بني إسرائيل حسب الظاهر أم خصوص الرؤساء منهم وهم رجال، أم المقصود الرجال والنساء معاً، الجواب هو الثاني لأصالة العموم ومناسبتها للموضوع والحكم وإطلاق الفائدة.
فمن خصائص القرآن أنه يتضمن قانوناً ثابتاً وهو الإتحاد بين الرجل والمرأة في التكاليف، وظهر هذا جلياً في الآيات السابقة في سكن حواء الجنة ووقوع الأكل من الشجرة منها ومن آدم، وإشتراكهما في الهبوط، قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا]( ).
إنما وردت لغة التذكير للتغليب ولأن الرجال متصدون للتبليغ وتلقي أمور الدعوة، ولم يرد في وقائع بدايات الإسلام ظهور نساء كثيرات من بني إسرائيل بادرن إلى الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم عدم الإيجاد أخص من عدم الوجود، وقد تزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صفية بني حيي بن أخطب لتفوز بمرتبة خالدة إلى يوم القيامة لقوله تعالى[وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ) , بالإضافة إلى حقيقة وهي أن إيمان رجال وعلماء منهم يدل على لحوق عوائلهم بهم.
الثالثة: تتعلق آية البحث بحال بني إسرائيل في الدنيا، ولزوم تذكر وإستحضار نعم الله عليهم، أما الآية التالية فتتعلق بعالم الآخرة، وفيه مصداق لقانون الدنيا مزرعة الآخرة، فتذكر النعمة مقدمة ووسيلة للإستعداد ليوم القيامة.
فإن قلت جاءت الآية التالية بحرف العطف الواو الذي يدل على التعدد والمغايرة , والجواب هذا صحيح , ولكن التعدد هنا يفيد المفاعلة والتداخل، فبين إتقاء يوم القيامة وإستحضار النعم عموم وخصوص مطلق، لترشح معاني التقوى قهراً وإنطباقاً على الذي يواظب على تذكر نعم الله عليه، ويساعد إتقاء يوم القيامة على تذكر النعم الإلهية في الدنيا، فكل فرد منهما يؤثر تأثيراً حسناً في الآخر من غير أن يلزم الدور بينهما، ليكون العطف بين الآيتين على وجوه:
الأول: إنه من نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثاني: إختصاص بني إسرائيل الذين عاصروا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنعم ثلاث.
الأولى: التذكير بنعم الله عز وجل عليهم، ونزول هذ ا التذكير من الله عز وجل.
الثانية: الأمر الإلهي لبني إسرائيل كافة بالخشية والخوف من يوم القيامة.
الثالثة: إجتماع وتداخل إستحضار النعم مع الخشية من أهوال القيامة.
الثالث: مجيء الآية التالية بالأمر بتقوى الله من النعم التي تفضل بها الله سبحانه على بني إسرائيل بما في التوراة والإنجيل من عدم قبول الشفاعة في أمور التوحيد والتصديق بالنبوة , وهو الذي يفيده الجمع بين أمرين:
الأول: مجيء آيات بوقوع الشفاعة يوم القيامة , قال تعالى[لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا]( ).
الثاني: غلق باب الشفاعة، كما في آية البحث وقوله تعالى[يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الرابع: من خصائص القرآن تضمنه البشارة والإنذار، وعموم موضوعهما وعدم إنحصاره بالحياة الدنيا، أو الآخرة فهو جامع لهما معاً، وجاءت آية البحث بموضوع آخر وهو التذكير بالنعم، ومن الآيات أنه يصح أن يكون من باب البشارة ومن باب الإنذار بلحاظ أنه تكليف وأمر يتعلق به الإمتثال أو عدمه .
ولو إستحضر بنو إسرائيل نعم الله عز وجل عليهم فهل هو كاف للأجر والثواب الجواب جاءت الآية التالية جواباً عليه بعطف تقوى الله عز وجل على تذكر النعم، ليكون إستحضارها بلحاظ الآية التالية على وجوه:
الأول: تذّكر النعم مقدمة لتقوى الله.
الثاني: إنه مصداق من مصاديق التقوى.
الثالث: إنه فرع ورشحة من رشحات التقوى.
الخامس: أختتمت آية البحث بالإخبار عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين.
وجاءت الآية التالية مصداقاً لهذا التفضيل بأن خصهم الله بالأمر بالخشية من يوم القيامة وبيان خصائص وأهوال هذا اليوم، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الوجه الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ…..] ( )، وفيها مسائل:
الأولى: من إعجاز القرآن البيان والوضوح، وما يأتي مجملاً في موضوع منه يأتي مفصلاً ومبيناً في موضع آخر، ويتعقب البيان والتفصيل المجمل، ويتعقب الشاهد القانون، والمصداق الخبر في آيات ومواضع كثيرة، ومنها هذه الآيات فلما أمرت آية البحث بني إسرائيل بذكر نعم الله جاءت الآية أعلاه ببيان وذكر لشطر ومصاديق من تلك النعم.
الثانية: ترى لماذا ذكرت الآية نجاة بني إسرائيل من آل فرعون، تحكي الآية أعلاه الجواب وتبين المشقة البأساء التي كان فيها بنو إسرائيل في دولة فرعون وأن الشدة التي كانوا فيها سبيلاً إلى ضعفهم وفنائهم في تلك الأمم وبمراتب أدنى بلحاظ الأعمال البسيطـة التي كانوا يقومون بها، وتســخيرهم للخدمة .
وقد تنســي منازل الذل الإنسان شأنه ورفـعة أمته وملته، فأنعـم الله عز وجل على بني إسرائيل بالسلامة والنجاة من العذاب النوعي الذي أنزله بهم فرعون وملئه ، وكانت تلك السلامة آية في العالمين ومن مصاديق تفضيل بني إسرائيل، فلم تقف عند النجاة المجردة من العدو الظالم، بل نجا بنو إسرائيل بآية يبس البحر وعبورهم له، وغرق فرعون وجنوده، فبعد أن كانوا يستحيون نساء بني إسرائيل، أصبحت نساؤهم من غير أزواج، وقمن بالزواج من العبيد، في ذل إضافي لحق بآل فرعون بعد هلاكهم، بينما توالت نعم الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثالثة: من معاني نجاة آل فرعون والغايات الحميدة لها شهود وتلقي بني إسرائيل لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون معنى آية البحث على وجهين:
الأول: إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم حتى بقيتم لأيام بعثة خاتم النبيين.
الثاني: إني فضلتكم على العالمين لتصدقوا بنزول القرآن , وليكون من وجوه التفضيل حملهم أمانة البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: لم يأت قوله تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ] وتعداد أفراد النعم بعد آية البحث، وتذكيرها لبني إسرائيل بالنعم الإلهية عليهم بل جاءت بينهما آية التخويف من يوم القيامة ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح، قال تعالى[وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( )، وفي هذا الفيصل بين النعم ومصاديقها بيان لأولوية التهيء للآخرة الذي يتقوم بالإيمان والتصديق بالنبوة، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
وفي مجيء آية(وإتقوا يوماً) بين آية التفضيل والآيات التي تذكر مصاديق النعم على بني إسرائيل أمور:
الأول: التذكير بالنعم مقدمة لتقوى الله والخشية من يوم الحساب.
الثاني: أولوية الإستعداد ليوم القيامة بالإيمان وعمل الصالحات.
الثالث: تأكيد حقيقة وهي إستحضار بني إسرائيل للنعم أمر إنحلالي، فعلى كل واحد منهم أن يقوم بتذكرها والتدبر في آثارها ودلالاتها وهو حق بلحاظ أن تلك النعم كانت سبباً بنجاة وسلامة الفرد والجماعة منهم، إذ حفظهم الله في أصلاب آبائهم حتى كان الجيل الذي عاصر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إتخاذ الإستعداد ليوم القيامة بلغة للتفقه في الدين، والإقرار بنعم الله الخاصة والعامة.
الخامس: بيان حقيقة وهي حضور النعم الإلهية على بني إسرائيل في الحافظة والوجود الذهني فحالما يتم تذكيرهم بها تكون حاضرة عندهم، ويتحقق هذا التذكير بآية البحث وتلاوتها.
السادس: يدل نظم الآيات على صدق نزول القرآن من عند الله، إذ أن تقدم الأمر لبني إسرائيل بالخشية من يوم القيامة على أفراد نعم الله عليهم وسيلة جذب للإيمان، ودعوة للتدبر في المنافع العظيمة والغايات الحميدة للفضل الإلهي عليهم بما فيه مصلحتهم ونجاتهم في النشأتين، وكانت حال بني إسرائيل أشد وأمر من العبودية لآل فرعون، فأراد الله عز وجل لهم أداء مناسكهم بأمن وسلام وتعاهد البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنجاهم من العذاب.
الخامسة: تقدير الجمع بين آية البحث والآية بعد التالية على وجوه:
الأول: يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب.
الثاني: إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يذبحون أبنائكم.
الثالث: إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يستحيون نساءكم.
الرابع: إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم، (عن ابن عباس في قوله {بلاء من ربكم عظيم} يقوله: نعمة)( ).
الخامس: إني فضلتكم على العالمين إذ نجيناكم من آل فرعون.
السادس: إني فضلتكم على العالمين إذ نجيناكم من آل فرعون يذبحون أبناءكم.
السابع: إني فضلتكم على العالمين إذ يستحيون نساءكم.
الصلة بين المعجزة والمستقبل
فرق البحر وعبور موسى عليه السلام وبني إسرائيل على أرض يابسة من البحر الأحمر إنكشفت لمرة واحدة في التأريخ آية ومعجزة، وقد تكون أمارة على تغيير في مجرى البحر أو حصول نقص في مياه البحار في القادم من الأحقاب، وهو الأرجح، ليكون من إعجاز القرآن الإخبار عن آية إعجازية وحصولها واقعاً كما كان يأتي إلى مريم من الثمار من عند الله [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
فقد كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وتراه حاصلاً في هذا الزمان ولكن من غير إعجاز، بل بالإرتقاء العلمي، ووسائل النقل السريعة، وإذ كان على نحو القضية الشخصية، وخاصاً بمريم عليها السلام، ومقدمة لولادة عيسى، وشاهداً على الإعجاز في ولادته، فان توفر هذه الثمار والموائد أصبح عاماً، وفيه دعوة للناس للإستعداد ولقلة المياه.
وهل الآية بشارة العبور بجسر على البحر الأحمر، الجواب نعم، ولكن الآية أعم وتشمل خروج اليابسة على فرض وجود مصداق من الواقع العملي في الزمان اللاحق يأتي من غير إعجاز، لتكون المعجزة وسيلة مباركة لإنتفاع الناس كافة منه، ويكون عبور بني إسرائيل وهلاك آل فرعون دعوة للناس لإجتناب الظلم والطغيان، وحثاً لهم على التقيد بأحكام الإسلام، وأداء الفرائض لأنها الوسيلة للنجاة من العذاب والسلامة في الدنيا، وآلة للعبور على الصراط في الآخرة.
إعجاز الآية
التكرار من وجوه الإعجاز القرآني لما يتضمنه من المفاهيم وخلو ذات آياته من التعارض أو التباين، وكل آية لها معان مختلفة بلحاظ سياق ونظم الآيات، وجاءت الآية بصيغة التنبيه والإنذار ولزوم الشكر لله تعالى على النعم.
وقد ورد التفضيل على نحو الذكرى ضمن مدرسة الإعتبار والتذكرة التي تتخلل آيات القرآن لتبين المنزلة السماوية للقرآن وإستيعاب آياته للأحكام.
ويمكن تسمية الآية بآية (إذكروا نعمتي) ومن الآيات أن هذا اللفظ جاء ثلاث مرات في القرآن وكلها وردت خطاباً لبني إسرائيل وفي سورة البقرة( ).
الآية سلاح
مع ما في الآية من بيان للنعم الإلهية على بني إسرائيل فانها تحمل صبغة الإنذار والوعيد، فالدعوة إلى تذكر النعمة عبارة عن أمر بأداء الفرائض والإنخراط في الإسلام.
والآية سلاح للمسلمين في الإحتجاج , ودعوة لهم لمعرفة النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل وماهية التفضيل، وكيف أن الله عز و جل فضّل المسلمين بالقرآن والشريعة الناسخة، ونيلهم مرتبة[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الآيات أن القرآن يخاطب المسلمين ويذكر لهم تفضيله لأمم أخرى من غير أن يثير عندهم هذا الذكر حسداً، ومضامين الكتب السماوية للأمم السابقة هو عند المسلمين، فكما أن القرآن جاء بما في التوراة والإنجيل فكذا بالنسبة لمعاني ومصاديق التفضيل وتوالي النعم.
مفهوم الآية
مع أن بني إسرائيل هم موضوع الخطاب في هذه الآية فان الناس جميعاً يشتركون بتلقي الخطاب جرياً وإنطباقاً بلحاظ أن نعم الله تعالى متغشية لجميع الخلائق، وتفضيل بني إسرائيل يوجب عليهم الشكر بالأولوية أي عليهم ان يكونوا الرواد في المبادرة إلى الإسلام والإيمان بأحكام القرآن والآيات النازلة من الله تعالى.
وتحذر الآية الناس من الإنصات إلى أقوال اليهود في الإسلام وصفات نبي آخر زمان المخالفة لما في التوراة، لأن صيغة الأمر في الآية جاءت على نحو الإستنكار والتعريض، وصحيح أن الذكر يحري على اللسان إلا أن القول من مصاديق الفعل، وأن الذكر يمنع من التعدي والإساءة لأهل الإيمان، ومن منافع الذكر أنه واقية وحرز من قول الباطل والإنغماس في الإفتراء على النبوة.
ومن مفاهيم الآية الذم لبني إسرائيل لعدم إستحضارهم النعم، والإخبار بان تذكرها ينفعهم في النشأتين ويكون عوناً على معرفة الأشياء والحقائق ورؤية الآيات، والمقارنة بين الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي جاء بها موسى عليها السلام لتظهر لهم وحدة الموضوع في تنقيح المناط، واتحاد السنخية السماوية، فيكون تذكر النعم موضوعاً للصبر الذي تحث عليه هذه الآية، ومقدمة للإيمان، وعدم الجحود والصدود.
وفي الآية مسائل:
الأولى:في الآية توكيد لما جاء قبل سبع آيات من ضرورة قيام بني إسرائيل بذكر النعم الإلهية المتعددة عليهم، ويستلزم هذا الذكر الإنشغال النوعي العام من بني إسرائيل بالسعي في احصاء النعم وتعدادها وانشطارها وترشح نعم اضافية عنها، وهذا السعي والاحصاء سبب ومقدمة للهداية والكف عن ايذاء المسلمين.
الثانية: من النعم الإلهية عليهم تحملهم الأمانة بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به عند بعثته.
الثالثة: حصول التفضيل بين الأمم واهل الملل.
الرابعة: صدور التفضيل من عند الله عزوجل، فهو الذي فضل بني إسرائيل على غيرهم من اهل زمانهم، وهو سبحانه الذي فضل المسلمين على اهل الملل والنحل والناس جميعاً قال تعالى في خطاب للمسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ليكون بنو إسرائيل بعد البعثة النبوية على قسمين:
الأول: الذي دخل الاسلام وأصبح من خير أمة.
الثاني: الذي امتنع عن دخول الاسلام، فجاءت هذه الآية خطاباً له، ودعوة له للإيمان.
فبينما جاءت الآية محل البحث خطاباً خاصاً لبني إسرائيل وذكرتهم في النداء بالاسم [يَابَنِي إسرائيل] واكدت تفضيلهم، جاءت الآية أعلاه من سورة آل عمران بالخطاب التشريفي للمسلمين الذي يتضمن إكرامهم وتفضيلهم.
وجعلت الآية بني إسرائيل من عامة الناس , ولم تذكرهم بالإسم باعتبار ان وظيفتهم تصديق ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام، وأسلمت جماعات من اليهود وأحسنوا اسلامهم، ليشملهم التشريف والاكرام وعنوان الانتماء إلى[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فالتفضيل والتشريف بلحاظ دخول الاسلام الذي واجب تكليفي.
الآية لطف
في الآية بيان لفضل الله تعالى من وجوه:
الأول: فضل الله عزوجل على بني إسرائيل من وجوه:
الأول: إختصاصهم بالخطاب والنداء في الآية الكريمة , وإن كان موضوعها أعم.
الثاني: دعوتهم لذكر نعم الله، وهو نعمة اضافية متجددة.
الثالث: تعدد نعم الله عزوجل على بني إسرائيل.
الرابع: تفضيل بني إسرائيل على الناس، ومن الإعجاز في الآية ان التفضيل جاء بحرف العطف (الواو) الذي يفيد التعدد والمغايرة، الا ان يكون من عطف الخاص على العام باعتبار ان التفضيل نعمة اخرى جاء ذكرها على نحو الخصوص للدلالة على الأثر المترتب والذي يترتب عليه في أمور الدين والدنيا ، أي ان التفضيل نعمة غير النعمة المذكورة، ويحتمل الألف واللام في النعمة وجهين:
الأول: العهد، وإرادة نعمة مخصوصة يعرفها بنو إسرائيل، وتنصرف اليها الاذهان.
الثاني: الجنس والاستغراق، وارادة نعم كثيرة متعددة، والاصح هو الثاني، لاصالة الاطلاق وتعدد النعم، وهل يحتمل ارادة عطف البيان وان التفضيل هو ذات النعمة التي ذكرتها الآية كما في قوله تعالى [الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] ( ) الجواب لا.
الثاني: فضل الله تعالى على المسلمين من وجوه:
الأول: اطلاعهم على قصص الامم السابقة، وتفضيل بعض اهل الملل والملل على غيرهم.
الثاني:بيان النسخ في التفضيل،واكرام المسلمين من بين أهل الأرض.
الثالث: إبطال شبهات اليهود، وتنمية ملكة الإحتجاج عليهم وجعل المسلمين قادرين على اقامة الحجة عليهم.
الرابع: جعل المسلمين في ايمانهم وصلاحهم حجة على بني إسرائيل، ودعوة للاقتداء بهم.
الثالث : فضل الله على الناس , وفيه وجوه :
الأول: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو تفضل بعض الأمم على غيرها.
الثاني: موضوعية الإيمان والصبر في جنب الله في ملاك التفضيل.
الثالث: ترغيب الناس بالإبتعاث إلى منازل التفضيل.
الرابع: إقامة الحجة على أهل الكتاب عند الناس جميعاً بلزوم المبادرة إلى التصديق بالنبوة والتنزيل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر(عن الضحاك قال: افتخر أهل الأديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله، ونبينا أكرم الأنبياء على الله موسى خلا به وكلمه نجيا، وديننا خير الأديان. وقالت النصارى: عيسى خاتم النبيين، آتاه الله التوراة والإنجيل، ولو أدركه محمد تبعه، وديننا خير الدين. وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان وخيرها. وقال المسلمون: محمد رسول الله خاتم الأنبياء وسيد الرسل، والقرآن آخر ما نزل من عند الله من الكتب، وهو أمير على كل كتاب، والإسلام خير الأديان، فخير الله بينهم فقال {ليس بأمانيكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به} يعني بذلك اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب ، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ثم فضل الإسلام على كل دين فقال: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله})( ).
إفاضات الآية
الآية دعوة للصلاح الأخلاقي وتهذيب النفوس وهما مقدمة لرؤية الآيات بعين البصيرة وادراك النعم العظيمة التي تفضل بها الله سبحانه على بني آدم عامة وعلى بني إسرائيل خاصة.
وتحث الآية بني إسرائيل على المبادرة إلى شكر الله تعالى على عظيم النعم، وتجلى الشكر بالتصديق بنبوة خاتم النبيين بعد ان جاءهم بالآيات الباهرات العقلية منها والحسية.
وليس من حصر لنعم الله على الإنسان الواحد وعلى الجماعة والأمة، ومع هذا جاءت الآية بلفظ “نعمتي” بصيغة المفرد لإرادة الجنس والكثرة، ولكنه لا يخلو من نكتة عقائدية وهي سعة كرم الله تعالى بأن يصف نعمه اللامتناهية بصيغة المفرد ليأتي الشكر بصورة متحدة فينميه الله تعالى ويجعله كثيراً متعدداً.
وهل المراد بالنعمة في الآية هي تفضيلهم على العالمين وإن “الواو” في [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ] للبيان والتفسير، الجواب لا، فهي تفيد العطف الذي يدل على المغايرة، ومن عطف الخاص على العام جاء ذكرها للحجة، ولتكون شاهداً على وجوب شكرهم له تعالى كأمة وأهل ملة، ومن النعم مقدمات هذا التفضيل والبشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليكون إنتماؤهم للإسلام إستدامة لهذا التفضيل، لأنهم يصبحون من المسلمين الذين مدحهم الله تعالى بقوله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ومن خصائص خير أمة أن تتلو آيات الله التي تأمر بني إسرائيل على شكر الله تعالى على نحو الوجوب، وهذا الشكر أعم من أن ينحصر بالقول بل يشمل الفعل بالتصديق بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الدلالات على صيغة الجمع مجيء الخطاب في الآية بصيغة الجمع “إذكروا”.
وما هي الصلة بين قوله تعالى [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] وقوله تعالى خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الجواب من وجوه:
الأول: إن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ومنهم بنو إسرائيل، ففي زمان بعثة موسى عليه السلام كان الناس على قسمين أحدهما تفضل الله تعالى عليه بالنعم الخاصة والمتعاقبة , والثاني عامة الناس وتترى عليهم النعم أيضاً وهم بنو إسرائيل.
وقوله تعالى في خطاب المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) يفيد بيان قانون ثابت وهو مصاحبة التفضيل للمؤمنين الذي إنحصر بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وهم خير الأمم إذ ينفردون بتصديقهم بخاتم النبيين وجميع الأنبياء والمرسلين، وكل الكتب السماوية التي أنزلها الله وجهادهم في سبيل الله، وتعاهدهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأدائهم الفرائض والعبادات، وصيانتهم للقرآن من التحريف والتغيير والتبديل إلى يوم القيامة.
الثاني: يدخل بنو إسرائيل بلفظ العالمين الذين أرسل الله تعالى النبي محمداً رحمة لهم، ففي زمانهم كانوا هم المفضلين أما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم يتلقون البعثة النبوية مع عموم الناس بإعتبارها رحمة للجميع.
الثالث: كون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة هو نعمة محضة على بني إسرائيل والناس جميعاً، فليس من تعارض بين الآيتين وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالآية محل البحث خاصة ببني إسرائيل، وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بيان لنعمة الله تعالى على بني إسرائيل والناس جميعاً، ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا تتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس جميعاً إلى الإسلام وليس هي دعوة خاصة لأمة او أهل ملة، وهو ما أغاض فريقاً من أهل العناد فإستكبروا وأصروا على الجحود.
الرابع: تذكير آيات القرآن بني إسرائيل بالنعم الإلهية دليل على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم وبالناس، ليعتبر الجميع من النعم ويتطلعون إلى دوامها، والله عز وجل إذا أنعم على أهل الأرض نعمة فانه سبحانه ولكرمه لا يرفعها، فالتفضيل باقِ ولكنه يدور مدار التصديق بالنبوة والتنزيل.
الخامس: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأجيال اللاحقة والسابقة وتلك خصوصية تنفرد بها , فاذا كان المراد من لفظ العالمين في قوله تعالى [فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] إرادة أهل زمان بني إسرائيل فان المراد من هذا اللفظ في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، إرادة المتقدمين والسابقين على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل زمانها والمتأخرين عنها إلى يوم القيامة، ومن الشواهد بشارة الأنبياء السابقين وبنبوته، ورسالته والدعوة لإتباعه ونصرته ورجاء شفاعته في الدنيا والآخرة.
الصلة بين أول وآخر الآية
ورد لفظ يابني إسرائيل خمس مرات في القرآن( )، ثلاث مرات في سورة البقرة، وكلها بقوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] وذات كلمات هذه الآية تكررت في آية أخرى لاحقة من سورة البقرة مع ذات المضامين تقريباً في الآية التي بعدها، كما جاء قبل سبع آيات ذات النداء وبيان وجوب وفاء بني إسرائيل بعهد الله، وليس هو من التكرار، بل فيه آية وتوكيد، ودلالة على تفضيل بني إسرائيل في الخطاب، وهذا التفضيل إنذار ووعيد، لضرورة مقابلته بالشكر لله تعالى، بتعاهد سنن التوحيد، والتصديق بالتنزيل، ويخاطبهم القرآن على نحو التعيين وهم يصرون على إنكار نزوله من عند الله.
فمن خصائص الخاشعين الذين ذكرتهم الآيتان السابقتان التصديق بالتنزيل، ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل تودد أعظم الكتب النازلة من عند الله تعالى إليهم بذكرهم بالاسم والتخصيص، ليكونوا عبرة لغيرهم وتكون هذه الآيات وما فيها من النداء الخاص حجة عليهم، وشاهد على الصلة الذاتية لتخلصهم عن منازل التفضيل والإكرام .
ومن خصائص النداء في هذه الآية أنه جاء متعقباً لآيات تتعلق بذات النداء [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] والذي تقدم قبل سبع آيات مع التباين في متعلقه، إذ جاءت الآيات السابقة بأوامر ونواهي لبني إسرائيل خاصة، وللناس جميعاً، وجاءت الآيات التالية في ذكر مصاديق نعم الله تعالى على بني إسرائيل.
ويمكن أن تسمى هذه الآية والآية التاسعة والثلاثين المتقدمة (آيتا نداء بني إسرائيل) للتقارب بينهما، وإتصال موضوعهما، مع التباين في متعلق الآيتين وما يلحق بكل واحدة منهما من المواضيع، ويفيد الجمع بين الآيتين ومواضيعهما إقامة الحجة على بني إسرائيل، وتعدد صيغ الإنذار والوعيد لهم، ودعوتهم والناس جميعاً للإعتبار والإتعاظ.
وتختلف هذه الآية عن آية النداء السابقة أنها جاءت بالإخبار عن تفضيل بني إسرائيل بقوله تعالى [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ومن وجوه التفضيل ورودهم بالاسم في هذه الآية، وذكرهم على نحو الخصوص مع بيان النعم التي أنعم الله بها عليهم، لكيلا يقال بأن مورد التفضيل هو ذكرهم في هذه الآية بالاسم والتعيين.
فجاءت الآيات التالية بذكر أفراد من النعم الإلهية التي تفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل
وإبتدأت الآية بالنداء والخطاب الخاص ببني إسرائيل، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً للتدبر والإعتبار من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وبشارة للمسلمين خاصة بأنهم الفائزون بالنعم الإلهية بالتصديق بالقرآن والإمتال للأوامر الألهية التي جاءت في الآيات السابقة، وهذا من الإعجاز في تعاقب النداء الموجه لبني إسرائيل , ففي الآيات السبعة السابقة جاءت الأوامر والنواهي الإلهية لبني إسرائيل.
أما في هذه الآية وما بعدها فجاء ذكر النعم ومصاديقها، وفيه إشارة بان من يتقيد بالأوامر والنواهي المتقدمة يفوز بالنعم الإلهية، وهو من أسرار تقديم التصديق بالقرآن في الأوامر السابقة بقوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
ولذا أختتمت الآيات السابقة بالتوكيد على أداء الصلاة، والإخبار عن ثقلها على الناس إلا الذين يخشون الله في السر والعلانية.
ويحتمل التفضيل وجوهاً:
الأول: إرادة الإطلاق في التفضيل، وأنهم أفضل من الناس جميعاً في كل شئ.
الثاني: التفضيل بموضوع مخصوص أو مواضيع معينة وعلى نحو جهتي.
الثالث: التفضيل في التنزيل وبعثة الأنبياء لأن الله أنعم على بني إسرائيل بالتوراة والإنجيل، وكثرة الأنبياء الذين بعثوا من بينهم.
الرابع: تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم.
الخامس: ذكر بني إسرائيل في القرآن.
السادس: إرادة النعم التي ذكرتها الآيات التالية مثل نجاتهم من آل فرعون، وعفو الله عنهم بعد إتخاذهم العجل، وإنزال المن والسلوى عليهم.
والصحيح هو الثاني والرابع، والسادس، والتفضيل بالنعم خاص بأهل زمانهم، لان غير أهل زمانهم لم يكن موجوداً آنذاك.
وجاءت الآية لبيان نعمة أخرى، وهي إستدامة النعم على بني إسرائيل وفتحها أمام الناس جميعاً بالإسلام، فالنعم الخاصة أصبحت عامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء الآخرين .
وتضمنت الآية الإخبار عن التفضيل في الزمن الماضي فضلتكم، وجاءت الآيات القرآنية بتوجيه اللوم لهم ودعوتهم للإسلام، مما يدل على إنقطاع التفضيل، وفتحه من جديد بالإسلام، ولكن هذا الفتح ليس خاصاً بهم، بل هو شامل لهم وللناس جميعاً وهو من النعم الإلهية العظمى على الناس.
فجاء التفضيل هذه المرة شاملاً لكل من يدخل الإسلام، وليس على النسب والإنتماء بالبنوة للأنبياء.
وتبين هذه الآية لزوم تعاهد الناس للنعم لكي تتصل وتستديم، ومن خصائص المسلمين أنهم يتعاهدون النعم بالشكر والذكر والتسبيح والتقيد بالفرائض وعدم التثاقل في أدائها، لذا إستحقوا وصف [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن خصائص المسلمين، القيام بتبليغ بني إسرائيل بان الله فضلهم على العالمين، وإنذارهم ودعوتهم للإسلام، وذكر القرآن للنعم الخاصة على بني إسرائيل من علم الغيب، لذا فهو شاهد على صدق نزول القرآن.
ومن هذه النعم ما مرّ عليه مئات السنين، فجاء القرآن لتوثيقه وتثبيته، والإخبار عنه لكي يعلم بنو إسرائيل وغيرهم بان النعم التي جاءتهم وتأتيهم هي من عندالله، ورشحة من رشحات فضله تعالى، وانه سبحانه المنان الذي ينعم على الناس لكي يشكروه، ويكون هذا الشكر مقدمة وحرثاً لنيل الثواب العظيم، وجاءت الآية بالنداء الخاص إلى بني إسرائيل، وفيه مسائل:
الأولى: توجه الخطاب لعموم بني إسرائيل.
الثانية: تكرار ذات الخطاب الذي جاء قبل ثمان آيات، وورد لفظ (بني) بصيغة الجمع، والإضافة في القرآن على وجوه:
الأول: ذكر لفظ [بَنِي إِسْرَائِيلَ] أربعين مرة.
الثاني: ورد لفظ [بَنِي آدَمَ] سبع مرات.
الثالث: ذكر مرة واحدة كل من [بَنِي إِخْوَانِهِنَّ] و[بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ] ( )، في بيان أحكام الشريعة الإسلامية، وموضوعية صلة الرحم ومنع الحرج في الصلات الإجتماعية في الخؤولة والعمومة كما بين تفصيلاً في الكتب الفقهية( ).
الرابع: ورد [بَنُو إِسْرَائِيلَ] بصيغة الرفع مرة واحدة في فرعون [قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ] ( ).
وفي كثره ذكر لفظ [بَنِي إِسْرَائِيلَ] في القرآن مسائل:
الأولى: انه نعمة أخرى عليهم.
الثانية: فيه تحذير من الإعراض والصدود عن القرآن.
الثالثة: انه دعوة لهم للتصديق به.
لقد أراد الله تعالى لبني إسرائيل التدبر في آيات القرآن، والإعتبار من مسألة كثرة ذكرهم فيه .
الثالثة: دعوة المسلمين والناس جميعاً لإكرام الله غز وجل لبني إسرائيل وتفضيلهم موعظة وعبرة، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الرابعة: من إعجاز القرآن وأثره بين الناس، أنه جاء بذكر بني إسرائيل، وبيان نعم الله تعالى عليهم ولكن الناس أصبحوا لا ينصتون ولا يصغون لهم في إنكارهم لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في التوراة لأن الشواهد العملية لنبوته الحسية والعقلية حجة بالغة ومانع من طرو الضرر بسبب إنكارهم.
الخامسة:جاء ذكر بني إسرائيل بأن الله فضّلهم على العالمين، أما المسلمون فقد ذكرهم الله بصفة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ويفيد الجمع بين الآيتين أن التفضيل بالنعم، وان بني إسرائيل لم ولن يرقوا إلى مرتبة المسلمين الذي هم أحسن الأمم، فقد ينال الإنسان التفضيل والنعم، ولكن غيره يكون هو الأحسن منه في الفعل.
ومن باب المثال قد تجد شخصاً عنده أموال وأعيان كثيرة، ولكن ربحه قليل، وهو لم ينتفع مما عنده، وتجد غيره أقل منه مالاً، ولكنه يعمل بجد، ويزكي أمواله , وقد ترى الأول أعلاه يتخلف عن الزكاة , بينما يسارع الآخر في الصالحات .
فتتجلى البركة وتحصل الزيادة والنماء في ماله وثروته فكيف وقد نال المسلمون مراتب التفضيل بالنعم، وتعاهدوها بالشكر لله تعالى وإتيان العبادات بصبر ورضا وعرفان، لذا جاءت الآيتان السابقتان في الحث على الصلاة وبيان حقيقة، وهي أن أداءها بالكيفية التي جاء بها القرآن والسنة من وجوه التفضيل.
وتحتمل الصلة بين قوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] في هذه الآية والآية الأربعين وجوهاً:
الأول:التساوي، وإرادة ذات النعمة.
الثاني: التعدد والتباين بلحاظ الآيات التي جاءت بعد كل آية من الآيتين.
الثالث:إرادة الإطلاق في الآيةالسابقة، والخصوص في هذه الآية بلحاظ العطف والبيان في هذه الآية بالتفضيل على العالمين.
الرابع:إرادة الإطلاق في النعم الإلهية على بني إسرائيل.
والصحيح هو الأخير، فكل من الآيتين دعوة إلى بني إسرائيل بأن يذكروا النعم الإلهية عليهم، لأن لفظ النعمة اسم جنس، إن هذه الآية رحمة ببني إسرائيل، وفيها بيان للنعم العظيمة عليهم، وفي تذكر الفرد والجماعة النعمة وجوه:
الأول: إنه مقدمة للشكر لله تعالى على النعم.
الثاني: يؤدي إستحضار نعمة من النعم إلى ذكر نعم أخرى.
الثالث: ذكر النعم إقرار بأنها من عند الله تعالى، وفيها نوع شكر لله سبحانه.
الرابع: ذكر النعمة مناسبة لرجاء إستدامتها، وسؤال غيرها.
الخامس:جاءت هذه الآية لتجعل ذكر النعمة واجباً بلحاظ ما فيها من صيغة الأمر.
وجاءت الآية بثلاثة أطراف.
الأول:النداء إلى بني إسرائيل.
الثاني:الأمر إلى بني إسرائيل بذكر نعمة الله عليهم.
الثالث:تفضيل بني إسرائيل على غيرهم من الناس.
وتحتمل الصلة بين النعمة والتفضيل والعطف بينهما وجوهاً:
الأول: عطف الخاص على العام، لأن التفضيل من النعم الإلهية على بني إسرائيل.
الثاني: التساوي وأن المراد من النعمة التي أمر الله تعالى بها بني إسرائيل أن يذكروها هي نعمة التفضيل.
الثالث: المغايرة والتعدد، وأن التفضيل على العالمين غير النعمة التي أمر بنو إسرائيل بذكرها.
والصحيح هو الأول والثالث، وأن ذكر النعم عام كما تدل عليه الآيات التالية، ومن النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل نعمة التفضيل، ليكون أحدهما سبباً في ذكر الآخر، فذكر النعم مقدمة وسبب لذكر نعمة التفضيل، وكذا ذكر بني إسرائيل لنعمة التفضيل مناسبة ومقدمة لذكر النعم الأخرى عليهم.
وتمنع الآية من الجحود أو الإعراض عن الأمر الإلهي الذي جاء بذكر النعم، والذي يحمل على الوجوب لأصالته , وجاءت خاتمة الآية بذكر نعمة عظيمة ظاهرة وهي التفضيل، وهذه النعمة حجة على بني إسرائيل، ودعوة لهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن صفات أهل التفضيل المبادرة إلى التصديق بالحق، والإستجابة لأمر الله تعالى باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جاءت هذه الآية بالنداء والخطاب لبني إسرائيل مع ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم بالتخصيص في النعم وتقدمهم على الناس جميعاً، لتأتي الآية التالية وتبين لزوم تجلي تقوى الله على أقوالهم وأفعالهم، وتبعث على الإستعداد لليوم الآخر بالتصديق بالتنزيل، والنبوة.
وتبين الآية عظيم النعمة على بني إسرائيل بالتفضيل على العالمين، وهذا التفضيل باب لنزول نعم أخرى إضافية، لذلك جاءت الآيات التالية بذكر النعم الإلهية على بني إسرائيل، وفيه بيان لحقيقة وهي أن الله تعالى يفضل أهل ملة وقوم على الناس بلحاظ الإيمان وإتباع الأنبياء، فان إنقطع تفضيل أمة، فقد جاء خروج أمة للناس وصفها الله بأنها [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )، وهم المسلمون ليبقى هذا الوصف مصاحباً لهم إلى يوم القيامة.
ويحتمل العطف في الآية وجهين:
الأول: عطف التفضيل على الأمر بالذكر، والتقدير اذكروا أني فضلتكم على العالمين.
الثاني: عطف التفضيل على النعمة، والتقدير: ومن نعمتي أني فضلتكم على العالمين.
والصحيح هو الأول، وهو الظاهر في نظم وسياق الآية، فتحث الآية بني إسرائيل على ذكر نعمة تفضيلهم على العالمين، وفيه توكيد لبيان عظيم هذه النعمة، لأنها من النعم التوليدية التي تترشح عنها النعم المتصلة، وهي نعمة مصاحبة لبني إسرائيل في أمور دينهم ودنياهم، إذ تتجلى مصاديقها بالنعم الدنيوية، ومنها نزول المن والسلوى من السماء، ونعمة نزول التوراة والإنجيل والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه, قال تعالى[اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( )، ومما تتصف به النعم الإلهية.
فمن وجوه تفضيل بني إسرائيل أن جاءتهم البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان أنبياء بني إسرائيل، وفي التوراة والإنجيل،بينما لايكون عند غيرهم مثل هذه البشارات، فهناك أقوام وجماعات كانوا على الشرك والوثنية، وليس عندهم بشارات ومع هذا تلقوا رسالة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والإيمان، والتفضيل في البشارات بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: البشارة بنبوة خاتم النبيين أمانة سماوية إختص الله بها بني إسرائيل.
الثاني: من اللطف والعناية الإلهية ببني إسرائيل حملهم لوديعة البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: شرف ورفعة الطريق الذي جاءت به البشارة الى بني إسرائيل، إذ جاءت متعددة وبطريقين مباركين هما:
الأول: الكتب المنزلة من عند الله.
الثاني: مجيؤها على لسان الأنبياء السابقين.
لتكون البشارة ومصداقها العملي شاهداً على صدق نبوة الأنبياء السابقين.
أن تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النبوة موسى وعيسى عليهما السلام وموافقة القرآن للتوراة والإنجيل من وجوه تفضيل بني إسرائيل.
ويحتمل موضوع وسبب التفضيل وجوهاً:
الأول: التفضيل لنسبتهم الى نبي الله إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
الثاني: لأنهم أتباع موسى عليه السلام.
الثالث:نزول التوراة على موسى وتوارثهم لها.
الرابع: موسى وعيسى عليهما السلام من بني إسرائيل وكل منهما رسول صاحب شريعة.
الخامس:كثرة الأنبياء من بني إسرائيل.
السادس: التفضيل لطف ورحمة ومنّ من عند الله من غير إستحقاق من بني إسرائيل بالذات أو بالنسب.
السابع: يأتي التفضيل لإصلاح الناس الفاضل والمفضول، بأن يكون الفاضل أسوة وقدوة، ويكون المفضول موعظة وعبرة.
فإتيان الفاضل للعبادات دعوة للمفضول لمحاكاته، ومبادرة المفضول الى الإيمان والتصديق بالتنزيل حجة على الفاضل، وفيه آية من بديع خلق الله تعالى وهو من عمومات [خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ).
بلحاظ أن الخلق اعم من التكوين والهيئة، فإراد الله عز وجل أن يتسابق الناس في الخيرات فيأتي اللاحق ليكون متقدماً، ليصبح المفضول بالإيمان فاضلاً، وإذا أصر الفاضل على الكفر والجحود فانه يصبح مفضولاً ومتخلفاً عن مراتب الفضل.
وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون دخول الإسلام علة للتفضيل وناسخا لأسباب التفضيل السابقة من غير أن يلغي موضوع التفضيل بل زاد فيه أموراً منها:
الأول: ثبات موضوع التفضيل إلى يوم القيامة.
الثاني: عدم طرو النسخ في سبب التفضيل ليبقى الإسلام والإنتماء إليه هو الذي يتقوم به التفضيل.
الثالث: فتح باب التفضيل للناس جميعاً فلا ينحصر التفضيل بالنسب، ويستطيع كل إنسان أن يرتقي إلى منازل التفضيل بدخول الإسلام، وليس بينه وبين نيل درجة التفضيل إلا النطق بالشهادتين والتقيد بأحكام الإسلام.
الرابع: في الإسلام تفضيل مع بلوغ مرتبة خاصة أعدها الله تعالى للمسلمين وهي كونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: توالي النعم الإلهية على المسلمين، فالآيات القرآنية تأمرهم بإتيان الأفعال العبادية، ويأتي الأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة الله ليكون مقدمة ووسيلة مباركة لدخولهم الإسلام، وإجتناب الفاضل عن الإمتثال للحق وآيات التنزيل دعوة للمفضول للنفرة منه وسبب لمضاعفة الإثم، والمبادرة الى الإمتثال والتصديق بالأوامر والحكام الشرعية لإدراكه ما فيها من الصدق والحق، وضرورة عدم التفريط بها، لذا جاءت الدعوة الإسلامية خطاباً تكليفياً إلى الناس جميعاً، للفزع والندب إلى نصرة الحق، وإعلان الإقرار بالعبودية لله تعالى.
التفسير الذاتي
جاءت الآية صريحة بالأمر إلى بني إسرائيل بذكر نعمة الله عز وجل عليهم، والنعمة على قسمين:
الأول: النعم العامة على الناس كافة.
الثاني: النعم الخاصة على أمة أو فرقة أو فرد.
ويتعلق موضوع هذه الآية بالقسم الثاني بدليل خاتمة الآية [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] والذي جاء بصيغة العطف لبيان أنه مثال وفرد من النعم الكثيرة التي حبى الله عز وجل بها بني إسرائيل، ويحتمل ذكر النعم أموراً:
الأول: ذكر النعمة بالذات وللذات.
الثاني: إتخاذ هذا الذكر وسيلة لتقوى الله، ومناسبة لشكر الله تعالى.
الثالث: العنوان الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث، فذكر النعمة حسن بذاته، وتترشح عنه منافع كثيرة، تتجلى على اللسان والجوارح وهو من مصاديق إظهار العبودية لله عز وجل والتسليم بأن النعم من عنده سبحانه ومقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عون لبني إسرائيل في مضامين الأوامر التي جاءت بها الآيات القليلة السابقة بلغة الخطاب والأمر لهم وهي:
الأول: الوفاء بعهد الله.
الثاني: الخشية من عند الله( ).
الثالث: التصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل، والعمل بمضامينه.
الرابع: إجتناب الجحود بالقرآن وأحكامه.
الخامس: عدم التفريط بالآيات.
السادس: المبادرة إلى طاعة الله، والخشية منه سبحانه، والإبتعاد عن المعاصي، قال تعالى[إِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
السابع: عدم خلط الحق بالباطل، وإجتناب اللبس على الناس.
الثامن: إقامة الصلاة.
التاسع: إتيان الزكاة كواجب مالي.
العاشر: محاكاة ومشاركة المسلمين في صلاتهم، لأنها ناسخة للصلاة في الملل السابقة.
الحادي عشر: الإلتفات إلى النفس، وتسخيرها في مرضاة الله بأداء الفرائض، والتنزه عن المعاصي والسيئات.
الثاني عشر: حسن التوكل على الله عز وجل، وإتخاذ الصبر والصلاة بلغة في الدنيا والآخرة.
وهذه الآيات من الشواهد على تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم إذ خصهم الله عز وجل بلغة الخطاب فيها ، وهداهم إلى سبل النجاة في الدنيا والآخرة.
وتذكير بني إسرائيل بنعم الله عز وجل عليهم من الشواهد على تصديق القرآن لما معهم من التوراة والإنجيل، قال تعالى[مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ] ( )، إذ جاءهم الأمر بذكر نعم الله على لسان موسى عليه السلام , قال تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ] ( )، مع رجحان تذكيرهم بالقرآن بالنعم من وجوه:
الأول: جاء الأمر من الله عز وجل بذكرهم النعم، وليس من النبي.
الثاني: صيغة الجمع في التذكير بالنعم في هذه الآية، لتشمل النعم في أيام موسى وما قبلها وما بعدها وإلى حين نزول القرآن.
الثالث: القرآن ناسخ لغيره من الكتب، وهو باق إلى يوم القيامة.
الرابع: جاء القرآن بتوثيق قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل بذكر نعمة الله عز وجل.
الخامس: تلاوة المسلمين لهذه الآيات، وفيه تجديد متصل لحث بني إسرائيل على ذكر النعم.
وفي الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجة الناس إلى نبوته، ودليل على أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وجاء الأمر بذكر النعمة على نحو القضية الشخصية في عيسى عليه السلام بقوله تعالى [يَاعِيسَى ابن مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ] ( )، وقد إجتهد عيسى في أداء وظائف الرسالة، وجاهد في سبيل الله.
وذكر النعمة واقية من الجحود والكفر بالنبوة وبالنعمة ذاتها، وما يؤدي إليه هذا الكفر من الضرر العام , قال تعالى بخصوص القرية التي كانت آمنة [فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ]( ).
وجاء الخطاب بذكر النعمة إلى المسلمين، ليكون هذا الذكر سبباً لدوام النعمة، ومناسبة للأجر والثواب، وبرزخاً دون الفتور والتكاسل في العبادة قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ]( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار ذكر النعمة) والحياة ذاتها نعمة عظيمة، بذاتها للناس جميعاً، وما بعدها من الثواب خاصة لأهل الإيمان.
وهل ذكر النعمة من وجوه ذكر الله، الجواب نعم، لما فيها من الإقرار بعظيم قدرة الله، والتسليم له بالربوبية.
إن الأمر بذكر النعمة تذكير بها، والله عز وجل هو (المنّان) فمن فضل الله على بني إسرائيل أن يذكرهم بالنعم في الكتاب السماوي الخالد, ويأمرهم بذكرها وإستحضارها.
التفسير
قوله تعالى[يَابنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]
في الآية إنذار وتنبيه لبني إسرائيل إلا أنه لا يمنع من تضمنه لمضامين الإكرام بان خصهم الله تعالى بالخطاب والتذكير بالنعم والدعوة إلى الإسلام، وهذا التذكير حجة عليهم وعبرة وموعظة للناس جميعاً، وبنو إسرائيل أكثر الأمم من غير المسلمين التي ورد الخطاب إليهم، وقد ورد لفظ [يَابنِي إسرائيل]، في القرآن أربعين مرة.
إضافة إلى ذكرهم باسم (اليهود) و(هوداً) و(الذين هادوا)، قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وتظهر الآية أن الله يحب ان يشكر ولا يكفر، وهذا الشكر ليس لحاجة منه إليه فهو سبحانه غني عن العالمين، ولكنه مقدمة للإستبصار ورؤية الآيات والتسليم بالقرآن كتاباً نازلاً من عنده تعالى، وفيه حث على إجتناب مقاتلة المسلمين.
لقد تكرر قوله تعالى [يَابنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ… ] فقد ورد في الآية الاربعين أيضاً، وفي التكرار عدة وجوه ومعان منها :
الأول : لما كانت نعم الله هي الأصل في إستدامة الحياة فيما يجب شكره أحتيج إلى توكيدها( ).
الثاني : جاء التذكير الأول مجملاً، وجاء الثاني مفصلاً( ).
الثالث : قيل أنه في الأول ذكرهم نعمه على أنفسهم، وفي الثاني ذكرهم نعمه على آبائهم( ).
أما بالنسبة للقول الأول أعلاه فان الله عز وجل كريم يعطي إبتداءً، ومن غير إستحقاق، والتذكير في المقام سبيل إلى الشكر، ولابد ان يكون تكراره لغرض يعود نفعه إلى بني إسرائيل أنفسهم.
أما القول الثاني فان التفصيل جاء بكلمات إضافية جديدة. وموضوعنا هو ذات التكرار.
أما القول الثالث فانه دراسة مقارنة للإضافة في آخر كل من الآيتين مع الإقرار بالصلة بين صدر كل منهما ونهايتها وهو وجه من وجوه التكرار وغاياته، أي أن التذكير بالنعمة مدخل لبيان المطلوب ففي الآية الاولى كان الوفاء بالعهد. أما في الثانية فهو إستحضار للتفضيل.
كذلك فانه لا يمكن فصل الآية عن سياق الآيات التي جاءت في ذات السياق ومتتالية معها بغض النظر عن التكرار.
فالآية الاولى تعقبتها آيات تبين لبني إسرائيل ما يجب عليهم فعله من المبادرة إلى إعتناق الاسلام وأداء الفرائض وعمل الصالحات.
أما في المقام فسوف تأتي آيات كثيرة تبيّن مفصلاً نعم الله تعالى على بني إسرائيل في أحقاب التأريخ، وفي مختلف أبواب الحياة الدنيا وأمور الدين جاءت للعبرة والحجة والإتعاظ.
إن هذا التكرار نعمة أخرى على بني إسرائيل لما فيه من الخطاب الخاص والتوكيد والإكرام، وهل فيه عناية خاصة ببني إسرائيل يختلفون بها عن باقي الأمم.
أقول : صحيح أنهم أهل كتاب سماوي وهو التوراة وأن دخولهم الإسلام يساعد في التخفيف عن المجاهدين وفي سرعة إنتشار الإسلام في المدينة وما حولها.
ولكنها جاءت للحجة عليهم، وتذكيرهم بوظائفهم ولزوم التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية بيان لما نالوا وما أعطوا، وظاهرها أنها وردت بلغة التنبيه وأن الذكر المطلوب في الآية لابد وأن يكون سبباً وسبيلاً لغاية سامية.
علم المناسبة
تكرر الأمر من الله عز وجل “إذكروا” في آيات عديدة من القرآن، وكل فرد منها فيه أمور:
الأول: إنه مدرسة وموعظة.
الثاني: إنه مناسبة لإستنباط الدروس والعبر.
الثالث: دعوة الله عز وجل للذكر وإستحضار النعم شاهد على عظيم فضل الله عز وجل على الناس.
الرابع: فيه آية وحجة على الناس.
الخامس: ذكر نعمة الله عز وجل مقدمة وسبيل لعبادته.
السادس: لقد أراد الله عز وجل من الناس أن يشكروه على النعم، ويكون ذكرها من مصاديق الشكر عليها بفضل الله، كما أنه مقدمة للشكر عليها مجتمعة ومتفرقة، وعلى نحو الإجمال والتفصيل.
ويرد الأمر بذكر النعم على لسان الأنبياء لقومهم، وفيه دعوة للمسلمين لإستحضار النعم، وحث الناس على ذكرها، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن ذكر النعم مطلوب بذاته ومطلوب لغيره، ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل في المقام أمور:
الأول: كثرة نعم الله عز وجل عليهم.
الثاني: تذكير الله عز وجل لهم بتلك النعم كما في هذه الآية.
الثالث: قيام أنبياء بني إسرائيل بتذكيرهم بالنعم الإلهية عليهم مع بيانها وتفصيلها، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ]( ).
والجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث شاهد على تصديق القرآن للتوراة ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وأنبياء بني إسرائيل، ويمكن إعتبار قوله تعالى “إذكروا” من الصلة الدائمة بين الله عز وجل وبين الناس إذ أنه يأتي خطاباً عاماً وخاصاً، فجاء في القرآن خطاباً للناس جميعاً برهم وفاجرهم، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
لبيان النعم الإلهية على الناس عامة من الخلق والرزق وإستدامة الحياة، وصرف البلاء، وغيرها قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
كما توجه الأمر بذكر النعم إلى المسلمين في آيات عديدة تبين إختصاصهم بنعم عظيمة، وهو شاهد على تفضيلهم على الناس، ومن عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن الدلائل على أن بني إسرائيل فضلوا على غيرهم من أهل زمانهم إختصاصهم بالنعم العظيمة، وأن المسلمين فضلوا على الناس في المقام من وجوه:
الأول: نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إنتفاعهم من بعثة الأنبياء السابقين.
الثاني: تكامل الشريعة الإسلامية، ومجيء الأوامر لهم بذكر الله عز وجل، قال تعالى [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ]( ).
الثالث: تذكير بني إسرائيل بوظائفهم بلزوم شكر الله تعالى على النعم.
الرابع : وراثة الأنبياء وأتباع الأنبياء في شكر الله عز وجل على النعم.
ومن إعجاز القرآن أن قوله تعالى [فَضَّلْتُكُمْ] لم يأتِ إلا في هذه الآية، وآية أخرى مشابهة لها في عدد الكلمات والألفاظ( )، وجاء معنى التفضيل على لسان موسى حينما سأله بنو إسرائيل أن يجعل لهم إله، كما لقوم من الكفار مروا بهم قا لتعالى [قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
قوله تعالى [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ]
ذكرى لبني إسرائيل في آخر الكتب السماوية المنزلة لما أنعم الله عليهم من التقديم والترجيح والاكرام الخاص لهم دون الامم الاخرى، ترى بماذا فضل بنو إسرائيل، وما هو جزء الماهية الخاص الذي إمتازوا به عن غيرهم، والبعد الزماني لذلك التفضيل؟
لقد فضل الله عز وجل بني إسرائيل بما أرسل فيهم من الأنبياء والرسل وما أنزل عليهم من الكتب كالتوراة والزبور، بالإضافة إلى الآيات الكثيرة التي تتغشى اياماً متتالية ومتفرقة من حياة اجيالهم المتعاقبة، والكرامات الخاصة للاولياء ونجاتهم من اعدائهم كما في اهلاك واغراق فرعون وجنوده.
وقال المفسرون ان تفضيلهم كان في أشياء مخصوصة وانه (لا يوجب ان يكونوا افضل الناس على الإطلاق كما يقال حاتم افضل الناس في السخاء)( ).
ولكن هذا التقييد الوارد في المثال غير ظاهر في الآية الكريمة فقد جاء التفضيل مذكوراً على وجه الاطلاق، نعم يمكن فهم التفضيل وتحققه بأدنى ملابسة من التمييز والاكرام الخاص.
وينحصر هذا التفضيل بأهل زمانهم (والى ذلك ذهب قتادة والحسن وابو العالية ومجاهد وغيرهم)( ).
ويمكن الإستدلال على إنحصار التفضيل بأهل زمانهم بأمور :
الأول: وقع الخطاب بلغة الماضي فقال سبحانه [فَضَّلتُكُمْ.. ].
الثاني : إن لغة التذكير تعني إستحضار الماضي وان الموضوع يتعلق بسالف الزمان والترجيح بين الأمم الماضية.
الثالث : إن مادة التفضيل والدال عليه هو آياته تعالى ومننه، فمتى ما انقطعت آياته وآلاؤه عنهم زال التفضيل وإنعدم الترجيح.
الرابع : جاءت الآية وهي تحمل صبغة الإنذار وطلب الجزاء، والشكر المناسب ألا وهو دخول الإسلام والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : تفيد الآية تفضيل المسلمين التفضيل لبني إسرائيل، عقلاً وسمعاً، والمساواة غير متحققة بما أنعم الله به على المسلمين، إذ أن التفضيل يدور حيث تتوجه نعمه تعالى وحيث منازل الشكر والإخلاص والإستحقاق.
السادس : يمكن إعتبار الآية فضلاً منه تعالى على بني إسرائيل بدعوتهم خاصة للشريعة الناسخة وفيها إخبار عن إتصال تلك النعم وتوالي شطر منها بالإسلام.
وعلى مدى إستجابتهم يتوقف ما ينالون من رتبة في جنس التفضيل كصفة ضرورية وجوهرية تتسع لهم ولغيرهم لعموم الدعوة الإسلامية وإطلاق التكليف بالشهادتين وأصول الدين وهذه الدعوة الخاصة والبيان الإجمالي والتفصيلي لمسائل تتعلق ببني إسرائيل لها عدة وجوه :
الأول : إتصال النعمة عليهم فضلاً منه تعالى.
الثاني : رحمة خاصة لهم لأنهم أهل كتاب توارثوا عبر مئات السنين اليهودية وأحكام التوراة، فاكرمهم الله عز وجل باللطف في ضرورة دخولهم الإسلام.
الثالث : فيها عبرة للأمم وبيان للناس جميعاً، وأن الله هدى وعز وجل يرأف بالموحدين ويتغشاهم بعناية خاصة لما فيه مصلحتهم.
الرابع : إتماماً للحجة وتوكيداً بأن فجر الإسلام بازغ.
الخامس : التشريف المؤمنين سواء كان باختيارهم الإسلام أو بدعوة الذين فضّلوا، وقدموا على غيرهم للدخول فيما هم فيه.
السادس : إعجاز القرآن، فان الآيات تنزل بحق بني إسرائيل ومقامهم واكرامهم في وقت كانوا فيه مواظبين على إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وربما زادتهم تلك الآيات عتواً وإتخذوها شاهداً ودليلاً على مكانتهم وذريعة لمواصلة إيذائهم المسلمين وإستخفافهم بهم وتأليبهم عليهم حيث كان المشركون يستمعون لهم.
السابع : بإسلام بني إسرائيل عز للإسلام وتأثير إيجابي على شطر من الناس والقبائل.
الثامن : إن في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ]( ) دليلاً على إكرام وترجيح المسلمين ليس فقط في التفضيل، ولكن أيضاً في العمل والقبول والإستجابة وإلتزام الطاعة.
والآية أيضاً حجة بإنتهاء تفضيل بني إسرائيل وأنهم لم يتعاهدوا ويحافظوا على ذلك التفضيل بما يستلزمه من الآداب والسنن، وأن المسلمين هم المؤهلون له ويستحقون ملازمته لهم.
إن أفضلية المسلمين لا تأتي من خلال رجحان اللاحق على السابق فحسب، بل من خلال أهلية المسلمين لنيل التفضيل إعتقاداً وجهاداً وعملاً عبادياً دؤوباً ومتصلاً بدلالة الآية الكريمة أعلاه.
وورد في تفسير العسكري في قوله تعالى [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، أي فعلته بأسلافكم فضلتهم ديناً ودنيا.
وفي تفسير علي بن إبراهيم: (وانما فضلتهم على عالمي زمانهم بأشياء تخصهم)، أي ان الألف واللام للعهد وليس للجنس المستغرق للناس في أفراد الزمان الطولية.
والآية تخبر عن حقبة عقائدية جديدة يكون مدار التفضيل فيها على الإسلام، والقرآن حمل لهم هذا الإنذار ضمن براهينه الظاهرة.
قوله تعالى [وَاتَّقوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ] الآية 48.
القراءة واللغة
واتقوا: الواو حرف عطف، اتقوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو فاعل.
يوماً: مفعول به، لا تجزي: لا: نافية، تجزي فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة.
نفس: فاعل مرفوع، عن نفس: جار ومجرور متعلقان بتجزي، شيئاً: مفعول به.
ولا: الواو: حرف عطف، لا: نافية.
يقبل: فعل مضارع مبني للمجهول.
منها: جار ومجرور متعلقان بيقبل.
شفاعة: نائب فاعل مرفوع بالضمة.
ولا: عطف على ما تقدم.
هم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
ينصرون: فعل مضارع مبني للمجهول، والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية خبر.
ورد قولان في قراءة الآية: الأول (قرأ أهل مكة والبصرة لا تقبل بالتاء والباقون بالياء)( ).
والثاني قرأ كثير وأهل البصرة (لا يقبل منها بالياء)( ).
وقبول الشيء: تلقيه وأخذه او الأخذ به.
والشفاعة: طلب يعود نفعه للغير، والتدخل لإمضاء مسألة، أو تقرير طلب، أو التماس العفو والتجاوز بمرجح من ذمام أو جاه او وسيلة، وفي الإصطلاح سؤال في التجاوز عن ذنوب الغير وجرائمه.
والعدل: النظير وبدل الشيء والقيمة والفدية، والمعنى الأخير هو المقصود في الآية.
والنصرة: العون والمدد والتقوية، وفي الحديث: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ( )، ونصرته ظالما منعه من الظلم، وزجره عن المنكر، ونصرته مظلوماً إعانته ودفع الظلم عنه بالأقرب فالأقرب.
في سياق الآيات
مع الدعوة إلى الإسلام والتذكير بالنعم جاء الإنذار والتحذير من العذاب يوم القيامة بنوع من البيان والتفصيل لتجتمع الأزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، الماضي بتوالي النعم، والحاضر بالدعوة إلى الإسلام، والمستقبل بالوعد والوعيد.
وهل الخشية من يوم القيامة من النعمة التي ذكرتها الآية السابقة الجواب لا، إلا لإرادة المعنى الأعم ، لأن النعمة هي الخير المحض والإحسان الذي حصل الإنتفاع منه، لذا جاء جاء الشطر الثاني من الآية السابقة بصيغة الماضي [فَضَّلْتُكُمْ] أما هذه الآية فجاءت بالأمر بالخشية والخوف من يوم الحساب والإستعداد له، والصلة بين موضوع الآية السابقة وهذه الآية من وجوه:
الأول: ذكر النعمة الإلهية مقدمة للخشية من يوم الحساب.
الثاني: الإقرار بان الله تعالى هو المنعم على العباد نوع شكر له تعالى، وإعتراف بان مقاليد الأمور بيده سبحانه.
الثالث: الخشية من يوم القيامة وما فيها من الأهوال مناسبة لذكر نعم الله الدنيوية، ورجاء بإستدامتها في الآخرة فجاءت الدعوة إلى الإسلام لتكون مفتاحاً لهذا الرجاء.
الرابع: يأتي ذكر النعمة على ما فات وما تمتع به الإنسان من الفضل الإلهي، أما يوم القيامة فهو من علم الغيب وأمر لم يأتِ أوانه بعد.
الخامس: تظهر هذه الآيات الملازمة بين ذكر النعمة والخشية من أهوال يوم القيامة , والتداخل بينهما والحاجة لكل واحد منهما مستقلاً ومجتمعاً مع الآخر.
وتتجلى الصلة بين الآية السابقة وبين هذه الآية من وجهين:
الأول: ذكر بني إسرائيل لنعمة الله تعالى عليهم مع التذكير بتقوى يوم القيامة، إن ذكر العبد لنعمة الله مقدمة للخشية منه، ومناسبة للتدبر في الخلق، ودعوة للإقرار باليوم الآخر، ومن الشكر لله تعالى على النعم الخشية من يوم القيامة، والحذر مما فيه من الأهوال.
الثاني: تفضيل بني إسرائيل على الناس ولزوم إتقائهم ليوم القيامة، إذ يلقي التفضيل مسؤوليات إضافية على الذي نال مرتبة التفضيل ليكون أسوة للناس في التصديق باليوم الآخر،والإستعداد له بالعمل الصالح.
أما الصلة بين هذه الآية والآية التالية [وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ] فهي من وجوه:
الأول:لزوم شكر الله عز وجل على نعمة النجاة من آل فرعون، ويتجلى الشكر لله عز وجل بالتصديق بالأنبياء، وأداء الواجبات والفرائض.
الثاني: إن الدنيا دار إمتحان وإختبار، وأن الجزاء يوم القيامة.
الثالث: النجاة من آل فرعون ليست غاية بذاتها، بل هي وسيلة لقيام بني إسرائيل بوظائفهم العبادية.
الرابع: بيان ما يلقاه فرعون وقومه من العذاب يوم القيامة بسبب ظلمهم وعتوهم.
الخامس: دعوة بني إسرائيل والناس جميعاً للسعي للنجاة يوم الفزع الأكبر.
إعجاز الآية
في الآية بيان لنواميس يوم القيامة وكيفية الحساب وشدته، ومع ان الخطاب فيها خاص إلا أن موضوعها عام، فهي إنذار ووعيد للكافرين والجاحدين، ورحمة وسكينة للمسلمين.
وفي موضوع الخطاب صفة اعتبارية زائدة وإرادة بني إسرائيل وتحذير وهو أن النعم التي نالوها في الحياة الدنيا لن تكون مادة إجتياز للحساب الشديد آنذاك، لذا جاءت الآية على نحو الإنذار منعاً للبس والجهالة والظن بأن الإنتفاع منها مستديم فاقتضى التنبيه لقبح العقاب بلا بيان.
وتؤكد الآية حتمية المعاد وأنه من أصول الدين ولابد من التسليم به، والإستعداد له بالإيمان والعمل الصالح.
ومن إعجاز الآية القرآنية أن يأتي موضوعها في شيء ولكن مفهومها ودلالاتها تتغشى مواضيع أخرى بما يؤدي إلى الصلاح والإصلاح، ويأتي الخطاب فيها لقوم أو أمة ولكن مضامين الآية قوانين عامة تكون عبرة وموعظة، ويتخذها المسلمون إماماً وسبيل هدى، وكل إنسان مدعو لأن يخاف ويخشى يوم القيامة وأهواله، ويستعد له بالعمل الصالح، وهذا المقام من تجلي المقدمات الدنيوية لقوله تعالى [َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) .
فالمسلمون يتلون الآية ويشكرون الله عز وجل على إتخاذهم الإسلام طريقاً للنجاة يوم القيامة، والتصديق بنزول القرآن من عند الله هدى وحرزاً وواقية من العذاب.
ويمكن تسمية الآية بآية (واتقوا يوماً).
الآية سلاح
تكشف الآية كذب إدعاء فريق من أهل الكتاب في الإكرام الخاص لهم يوم القيامة، كما ورد في قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ] ( ) وفيها وعيد فان المعصية مع عظيم النعم تكون أشد وبالاً.
وتدعو الآية المسلمين لأخذ الحائطة والإستعداد ليوم القيامة، ويعيش الإنسان أيامه في الحياة الدنيا , والآية تأخذ بقلبه في سياحة في عالم الآخرة.
لقد جاءت آيات القرآن بالأمر بتقوى الله عز وجل والخشية منه كما تقدم في قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] ( )، في خطاب لبني إسرائيل، وجاءت هذه الآية بالتحذير من يوم القيامة بالذات , والمراد ما فيه من مواطن الحساب، وهذا التحذير والإنذار رحمة ببني إسرائيل وشاهد على تفضيلهم على غيرهم من أهل الملل بأن خصهم الله عز وجل بالخطاب في هذه الآية لتكون دعوة خاصة لهم لدخول الإسلام وعامة للناس بواسطتهم.
ومن التفضيل أيضاً أن يرى بنو إسرائيل كيف أن غيرهم من الناس يهتدون بالخطاب الموجه اليهم، فيحذرون مواطن الآخرة، ويتوقون منها بدخول الإسلام وأداء الفرائض لحصر أسباب النجاة فيها، ليكونوا بحسن إسلامهم دعوة أرضية إنسية لبني إسرائيل للوقاية من يوم القيامة إضافة إلى الدعوة السماوية التي جاءت بها هذه الآية.
مفهوم الآية
الوعيد والتذكير بالآخرة مدرسة أخلاقية، وفيه إزاحة للكدورات العالقة بالنفس الإنسانية، وفي الإحتجاج باليوم الآخر إنذار وتخويف وإبطال لدعوى شفاعة الآباء، ووفق عمومات طريقة السبر والتقسيم البلاغية تحث الآية على المبادرة إلى الطاعات والإمتثال لأوامر الله تعالى، فاليوم الآخر حق وصدق ، وإذا كانت الشفاعة لا تشمل أهل الكفر والجحود فلم يبق أمام الإنسان إلا العمل الصالح والتقوى، قال تعالى[لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( ).
وفي الآية إنذار وتخويف من العذاب الأخروي، ولزوم الإحتراز منه، وجاءت الآية بالأمر بالوقاية منه , وهي في مفهومها دعوة إلى تلمس أسباب النجاة يوم القيامة والتي تنحصر بالنطق بالشهادتين وإتيان الفرائض والعبادات .
ومع ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالآيات الباهرات، فان الإسلام الوعاء العقائدي للعبادة التي هي العلة الغائية لخلق الإنسان لا عن حاجة منه تعالى للإنسان او عبادته، بل للإمتحان والإختبار وحسن الجزاء لمن يمتثل للتكاليف والأوامر الإلهية.
وفي الآية مسائل:
الاولى: توجه الإنذار والوعيد لبني إسرائيل، وحثهم على الخشية والخوف من الحساب.
الثانية: جاء لفظ (يوماََ) بلغة التنكير والإجمال ، وإرادة يوم القيامة وما فيه من الأهوال.
الثالثة: تضمنت الإية التخويف بيوم القيامة، والمراد منه المعنى العام الشامل للحساب والجزاء ولزوم إجتناب الإنسان الدخول في النار.
الرابعة: من خصائص يوم القيامة عدم إجزاء الإنسان عن غيره , فكل إنسان يبوء بعمله ويحاسب على فعله.
الخامسة: تحذير بني إسرائيل من الإتكال على الشفاعة، لأن الشفاعة لا تشمل الذي يبوء بسخط الله عز وجل فلا يقدر ان يكون شفيعاََ لغيره ولا تدركه شفاعة غيره له.
السادسة: عدم قبول العذر من الكافر , قال تعالى[يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ]( ).
السابعة: فقدان الكافر النصير والناصر والعون و المدد، فليس له من ينقذه ، وفيه تحذير لهم من إنتظار شفاعة الصالحين من آبائهم.
وتطرد الآية الغفلة عن الإنسان، وتنمي عنده ملكة التهيء لليوم الآخر، والتدبر بما يحمله من زاد لهذا السفر الطويل الشاق الذي تشير الآية إلى عدم وجود صاحب فيه إلا العمل، فليس من طعام أو شفاعة أو نصرة للظالمين يوم القيامة.
الآية لطف
في الآية إعانة للمسلمين بتبكيت عدوهم، ودعوة لبني إسرائيل للإستعداد ليوم القيامة بالإقرار بالربوبية لله عز وجل، والتصديق بالنبوة والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وهذه الدعوة لطف بالناس جميعاً من وجوه:
الأول: الثناء على المسلمين لإيمانهم بالله والنبوة وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله سلم في سنته، وحثهم على التقيد بأحكامها والصبر في تعاهدها ومواجهة الأعداء.
الثاني:دعوة بني إسرائيل وأهل الكتاب إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارها من مصاديق الخشية من الله ومن العذاب لأن الله عز وجل هو الذي بعث النبي محمداً، ودعا الناس إلى تصديقه و إتباعه ونصرته.
الثالث: دعوة أهل الكتاب مطلقاً إلى إستحضار يوم القيامة ولزوم الاستعداد له، ومن وجوه هذا الإستعداد إجتناب تحريف علامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في الكتب السماوية المنزلة , وترك تكذيب نبوته صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت معها الآيات و الدلالات التي تؤكد صدقها.
الرابع: دعوة الناس جميعاً لإدراك حقيقة متحدة ماهية , متعددة في الموضوع من وجوه:
الأول: حتمية البعث واليوم الآخر.
الثاني: الوقوف بين يدي الله عزوجل للحساب، وحضور أعمال العباد في الدنيا، وشهادة الحواس على أصحابها، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الثالث: لزوم الخوف من يوم القيامة والإخبار للنجاة من أهواله وما فيها من وجوه الحساب والعذاب.
الرابع: بعث الناس للتفقه في الدين، ومعرفة وظائف الفرد والجماعة، قال تعالى[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ]( ).
فاذا كانت الشفاعة محجوبة عن فريق من ذراري بني إسرائيل لأنهم لم يتبعوا نهج آبائهم بتصديق النبوة، فمن باب الأولوية حجبها عن الكفار الذين توارثوا الكفر والجحود بها.
إفاضات الآية
تتجلى في القرآن صيغ التقوى والدعوة إليها تارة بتقوى الله وتارة بالوقاية والإحتراز من يوم القيامة، ومن عذاب النار، والمعاصي التي هي طريق النار.
والإنذار الوارد في هذه الآية من النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، أي أن النعم الخاصة بهم إستمرت حتى أيام نزول القرآن بإفرادهم بالخطاب وحثهم على التقوى، وليكون هذا الخطاب الخاص حجة عليهم وسبباً للعقاب الأخروي لمن يتخلف عن وظائفه العبادية، لقد ظنوا بالتفضيل ودوامه فأراد الله عز وجل التخفيف عنهم وإخبارهم بمرجوحية هذا الظن وعدم وجود أصل له.
ولم تقل الآية لا يجزي أحد عن غيره، بل جاءت بذكر النفس وإرادة ذات الإنسان وعزمه ونواياه، فليس في الآخرة همّ بالشفاعة والإحسان إلى الآخرين لأنه من العمل، والآخرة دار حساب وجزاء، وفي الآية دعوة للناس جميعاً لتهيئة زاد الآخرة من الصالحات.
لقد أراد الله عز وجل للناس الإقرار باليوم الآخر، وهو من أصول الدين , وجاءت هذه الآية لتتضمن الإستعداد له فمن يقر ويؤمن باليوم الآخر لابد وأن يخشاه ويسعى للأمن والسلامة فيه، لتكون هذه الآية شاهداً على تفضيل المسلمين في بعثهم للإستعداد ليوم القيامة وعالم الحساب، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف الواو في إشارة إلى عطف مضامين هذه الآية على الآية السابقة وما فيها من النداء إلى بني إسرائيل، وأمرهم بذكر نعم الله تعالى عليهم، وجاءت الآيات السابقة بالأمر بتقوى الله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] ( ).
وتلك آية إعجازية في القرآن بأن يأتي الأمر بالخشية والحذر من يوم القيامة بذات اللفظ والصيغة في الخشية من الله تعالى، مما يدل على لزوم جعل موضوعية ليوم القيامة والحساب في قول وفعل كل فرد من بني إسرائيل، وهو أمر لا ينحصر ببني إسرائيل، بل يشمل الناس جميعاً فجاء ذكر بني إسرائيل من باب المثال الأمثل، وفيه حجة عليهم، وإلا فان نعم الله على كل إنسان ظاهرة وباطنة، ليتحصل النفير العام لنصرة الإسلام، وحث الناس على عدم التخلف عن وظائفهم العبادية.
فقوله تعالى [اتَّقُوا يَوْمًا] خطاب عام وشامل للناس وان جاء في المقام خاصاً ببني إسرائيل، وقد قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة] ( )، وجاء الأمر بالتقوى خاصاً بالمسلمين كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( )، مما يدل على أن الخطاب الإلهي بالخشية والحيطة والإستعداد ليوم القيامة عام وشامل للناس جميعاً.
وبدأت الآية بذات الصيغة التي بدأت بها الآية السابقة وهي صيغة الأمر، مع حذف المنادى لدلالة حرف العطف (الواو) عليه، وجاءت الآية بصيغة الجمع التي تفيد الإستغراق لتشمل عموم بني إسرائيل، وفي قوله تعالى [اتَّقُوا يَوْمًا] مسائل:
الأولى: صدور الأمر من الله عز وجل.
الثانية: تضمن الآية صيغة الأمر الذي يفيد الوجوب، ولزوم الفعل، وحرمة الترك.
الثالثة: تقييد الأمر بالتقوى بيوم مخصوص يحمل صيغة الإطلاق وإرادة الحياة الآخرة.
الرابعة: توجه الخطاب الى بني إسرائيل، ولا يعني الحصر بهم، بل الخطاب عام للناس جميعاً من وجوه:
الأول: مفهوم الأمر في هذه الآية الكريمة، إذ ان المصداق الذي يتوجه له الخطاب هم بنو إسرائيل، أما المفهوم فانه يشمل الناس جميعاً .
الثاني: لزوم الخشية من يوم القيامة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ]( ).
الثالث: تعلق الخطاب بالمسلمين من جهتين:
الأولى: شمول المسلمين بالأمر بتقوى اليوم الآخر.
الثانية: الثناء على المسلمين لقيامهم بوظيفة تبليغ الأمر بتقوى اليوم الآخر إلى الناس جميعاً.
والإقرار باليوم الآخر واجب ومن الضروريات، لذا لم ينحصر الأمر به إلى الناس بالمفهوم، بل تضمنت الآيات القرآنية في منطوقها الأمر إلى الناس جميعاً تارة، والمسلمين على نحو الخصوص تارة أخرى بوجوب إتقاء اليوم الآخر، وما فيه من الأهوال ومواطن الحساب، وهو من فضل الله، وسعة رحمة الله بالناس جميعاً، فيتوجه الأمر بتقوى الله إلى كل من:
الأول: بنو إسرائيل.
الثاني:الناس جميعاً.
الثالث: المسلمون على نحو الخصوص.
وهل هذا الأمر في مرتبة ومضمون واحد، الجواب على وجهين:
الأول: إنه بمرتبة واحدة في اللفظ والموضوع.
الثاني: التباين في لغة الإنذار والتنبيه، والوعيد والوعد.
والصحيح هو الأول فلا تصل النوبة إلى توجه الإنذار إلى غيرهم بالمفهوم، فالناس جميعاً يقفون بين يدي الله للحساب يوم القيامة فيتضمن الخطاب والأمر الموجه إلى المسلمين التقيد بأحكام العبادات والفرائض، والوعد الكريم بالفوز بالسعادة الأبدية في الآخرة، ويتوجه إلى غيرهم بمفاهيم الإنذار والوعيد، والحث على التدارك والتوبة والإنابة ، ونزل القرآن بلغة إياك أعني وإسمعي ياجارة.
فمن لا يشمله الإنذار في منطوقه فإنه يشمله في مفهومه.
وجاء التحذير والتخويف من يوم القيامة، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة ذات اليوم، أي يوم القيامة.
الثاني: التحذير من أهوال يوم القيامة.
الثالث:إرادة المعنى الجامع من ذات اليوم وما فيه من الأهوال، وعالم الحساب.
فالآية أعم من ذكر المحل والوعاء الزماني وإرادة الحال، والوقائع التي تجري في يوم القيامة، بل يراد أيضاً يوم القيامة، فهو عالم آخر يختلف عن الحياة الدنيا.
ويحمل الكلام العربي على ظاهره إلا مع القرينة الصارفة كما في قوله تعالى[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ] ( )، أي إسأل أهل القرية.
والآية من اللطف ببني إسرائيل وهي حجة عليهم في الدنيا والآخرة، فمع أهوال يوم القيامة، فان هذه الآية تأتي يوم القيامة لتكون حجة إضافية عليهم.
لقد جاءت الآية تحذيراً من الحساب والشدائد في يوم القيامة، وتدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمع الأذى الذي يتلقاه النبي والمسلمون من يهود المدينة تأتي هذه الآية لنصحهم وتحذيرهم.
وفي الآية تذكير لبني إسرائيل بما في التوراة والإنجيل من آيات الوعد والوعيد، ووجوب الإستعداد ليوم القيامة، وما فيه من أهوال الحساب، وآيات الجزاء، وتدل الآية على أن الناس مخلوقون ليوم القيامة، وان كل إنسان يقف للحساب.
ومن الآيات ان جاء الأمر لبني إسرائيل بالخشية من يوم القيامة بعد الإخبار الإلهي بتفضيلهم على العالمين، ليدل على حقيقة وهي أن التفضيل لا ينجي الإنسان من أهوال يوم القيامة.
وبينما قال أهل الكتاب أنهم أحباء الله كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] ( )، [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ]( ).
جاءت الآية لإبطال تلك الأماني، ومنع المغالطات، ودعوة بني إسرائيل لترك الجدال والمراء، وحثهم على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع الإستغراقي [َاتَّقُوا] والموجهة إلى بني إسرائيل ذكوراً وأناثاً، بينما جاء (اليوم) بصيغة المفرد في إشارة إلى عدم وجود يوم مثله، فيتعاقب الناس على أيام الحياة الدنيا، وتتعاقب هي عليهم، وكل واحد منهم يشهد أياماً كثيرة من أيام الدنيا.
ويطل اليوم من أيام الدنيا على جيل من الناس ولكن ليس من يوم يجتمع فيه الناس جميعاً، ويطل عليهم بزمان واحد إلا يوم القيامة، لذا فان اليوم في الآية ليس نكرة، بل جاء معرفة بلحاظ صفاته في ذات الآية، وقد ذكرتها على وجوه:
الأول: يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يتحمل إنسان عن غيره الجزاء كلاً أو جزءً.
الثاني:لا يقبل من النفس يومئذ شفاعة.
الثالث:لا تقبل من الإنسان يوم القيامة فدية وبدل.
الرابع:إنعدام النصرة والعون والمدد بين الناس يوم القيامة، ولا يقدر أحد أن يغيث أحداً.
ومن إعجاز الآية أنها مع قلة كلماتها تتضمن أربع صفات ليوم القيامة ينفرد بها، وليس من يوم يلتقي معه بأي صفة منها.
فجاءت هذه الصفات الأربعة في وصف يوم القيامة، وهي عامة وليست خاصة ببني إسرائيل، ولكن دلالات الآية في المقام على وجوه:
الأول: الآية تحذير لبني إسرائيل.
الثاني: بعث الفزع والخوف في نفوس بني إسرائيل من أهوال يوم القيامة.
الثالث: إزالة الوهم الموجود عند فريق من بني إسرائيل بأنهم في أمن وسلامة يوم القيامة لإنتسابهم بالبنوة للأنبياء.
الرابع: تأكيد صدق نزول القرآن من عند الله بما فيه من البشارات والإنذارات.
الخامس: تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة لما يجمعها من بيان صفات يوم القيامة.
السادس:الآية إنذار وتحذير للناس جميعاً، لأن وصف يوم القيامة جاء بالذات، من غير تقييد ببني إسرائيل على نحو الخصوص.
السابع: توكيد حقيقة وهي إنقطاع أٍسباب التفضيل يوم القيامة، فالمراد من خاتمة الآية السابقة [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ) إرادة الحصر بأن محل التفضيل هو الحياة الدنيا.
وقد جاء نزول القرآن لتوكيد صيغة الزمن الماضي في تفضيل بني إسرائيل، وبيان تعيين مورد التفضيل وهو دخول الإسلام، فمن شاء تعاهد منازل التفضيل فعليه بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتصديق بنزول القرآن.
ومن الرحمة الإلهية في نزول القرآن فتح باب التفضيل للناس جميعاً، مع زيادة في الإكرام تؤكد المائز للقرآن وتفضيله على الكتب السماوية السابقة، وتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين من وجوه:
الأول: عدم حصر التفضيل بنسب مخصوص.
الثاني: دخول الإسلام تشريف ونيل مرتبة الإنتماء ل[خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث: حصر التكليف بدخول الإسلام سواء بالنسبة للرجال أو النساء، لمن ينتسب للأنبياء وكان من أهل الكتاب أو لم ينسب إلى الأنبياء ولم يكن كتابياً.
ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل ذكرهم في هذه الآية على نحو الخصوص، وتعدد صفات يوم القيامة التي تبعث الفزع والخوف في النفوس، وتدعو الإنسان إلى أخذ الحائطة لها في الدنيا، فتتضمن الآية في مفهومها وجوهاً هي:
الأول: يوم القيامة أمر حتم , قال تعالى[رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ]( ).
الثاني: منع التحريف بخصوص يوم القيامة، فقد طالت يد التحريف الكتب السماوية السابقة، ولا ينحصر أثر التحريف بعالم الألفاظ، بل يشمل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاءت هذه الآية لتمنع التحريف وأثره بخصوص يوم القيامة، وتكون كاشفة عن أهوال يوم القيامة،وعموم أحكامها، وشمولها للناس جميعاً، ومنهم بنو إسرائيل.
الثالث: إنعدام الشفاعة الإختيارية، وعدم تعلق الشفاعة يوم القيامة بالنسب والقربى والهوى.
الرابع: إصلاح النفس لمواقف يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح.
وإذ جاءت الآية بصيغة المفرد، فإن خاتمتها جاءت بصيغة الجمع الغائب[وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ] ( )، في دلالة على عدم وجود الناصر للفرد والجماعة والأمة، فالمدار يوم القيامة على الإيمان.
فمن إعجاز هذه الآية أنها لم تنف تفضيل الله لبني إسرائيل على الناس، ولكنها أخبرت عن أمور:
الأول:ذكر التفضيل بصيغة الفعل الماضي.
الثاني: إنتفاء هذا التفضيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث:عدم غلق باب التفضيل , فجاءت نعمة عظيمة وهي أفضلية المسلمين وأنهم خير الأمم.
التفسير الذاتي
جاءت هذه الآية معطوفة على الآية السابقة إذ إبتدأت بحرف العطف الواو في [وَاتَّقُوا] ومن إعجاز القرآن تقديم التذكير بنعم الله على بني إسرائيل، ودعوتهم لتذكرها وإستحضارها كما في الآية السابقة بقوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] ثم يأتي بعدها الأمر بالخشية والحذر من يوم القيامة لتكون هذه الخشية حرزاً وواقية من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن فعل السيئات، وتذكيراً إضافياً بالنعم، والتذكير بالنعم دعوة للخشية من يوم القيامة، وهل يستلزم الدور , الجواب لا، لأنهما من فضل الله عز وجل عليهم، ومصاديق إحسانه ومنّه عليهم وعلى الناس.
ولم تقل الآية (واتقوا اليوم الذي لاتجزي) بل ذكرت يوم القيامة على نحو التذكير (يوماً) وهو أبلغ في التخويف، وشاهد بعلم بني إسرائيل بيوم القيامة وما فيه من الأهوال، ليتخذ بنو إسرائيل والناس جميعاً الحائطة لدينهم، ويستعدوا للنشور والحساب والجزاء.
وإذ جاءت خاتمة الآية السابقة بالإخبار عن تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم ببعثة موسى عليه السلام ونزول التوراة والنجاة من آل فرعون، وفلق البحر وجريان الماء من الحجر الصلب ونزول المن والسلوى عليهم مائدة من السماء وغيرها من النعم، وجاءت هذه الآية لتخبر عن لزوم تعاهد هذه النعم بالتقوى والشكر لله عز وجل.
وورد قوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا] ثلاث مرات في القرآن، كلها في سورة البقرة( )، وجاء بيان هذا اليوم، وأنه الذي يرجع فيه الناس إلى الله، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ]( )، وفيه تعيين لليوم الذي تذكره الآية محل البحث، وأن المراد هو يوم القيامة الذي يقف فيه الناس بين يدي الله عز وجل للحساب.
وقد جاء القرآن بقبول الشفاعة ممن إرتضى الله عز وجل، قال تعالى [لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ]( )، ليبعث الجمع بين الآيات التي تخبر عن الشفاعة والآية محل البحث الحسرة والأسى في قلوب الذين يحرمون من الشفاعة لتخلفهم عن ذكر نعمة الله عز وجل وعدم حذرهم وخشيتهم من يوم القيامة.
وتأتي الخشية بالتصديق بالأنبياء والمرسلين، وتكرر النفي بالحرف (لا) أربع مرات في الآية الكريمة، ليكون مصير الذين لا يخشون يوم القيامة العذاب والخزي.
من غايات الآية
تبين الآية لزوم سعي كل إنسان لعالم يوم القيامة , ومن يخش ويخاف شيئاً يحذره ويستعد له ويميل إلى النجاة منه، وتعطي الآية موضوعية مستقلة ليوم القيامة فلم تقل الآية (اتقوا الله يوم القيامة) وذكر اليوم يؤكد على موضوعيته بالذات إلى جانب ما فيه من وجوه العذاب والحساب, ويأتي إتقاء الإنسان ليوم القيامة بأيامه وأعماله في الحياة الدنيا متفرقة ومجتمعة وتلك آية في اللطف الإلهي أن يتقى اليوم الطويل المتحد بآلاف الأيام من حياة المكلف في الحياة الدنيا، وهذه الأيام تنقسم إلى عدد كبير من الساعات و الدقائق وفي كل دقيقة منها يتوجه له الخطاب الإلهي بالتوبة والإيمان والبعث لأداء الوظائف العبادية.
ويأتي الخطاب أحياناً بصيغة الإنذار والتخويف والوعيد، ومنه هذه الآية التي جاء فيها الإنذار متعدداً من وجوه, وكلها تتعلق بيوم القيامة . وتؤكد الآية وجود قواعد خاصة للشفاعة, وأنها لا تشمل الكفار والجاحدين بالنبوة , وفيها قطع لظن الكافر الإنتفاع من غيره في الآخرة سواء بلحاظ النسب والبنوة من الأنبياء والصالحين أو صلة القربى والمودة، وفيه دعوة لكل إنسان أن يستعين بالعمل الصالح للوقاية والنجاة من عذاب يوم القيامة.
التفسير
قوله تعالى [وَاتَّقوا يَوْمًا ]
في الآية إعجاز قرآني من حيث الترابط العقلي بينها وبين الآيات السابقة وما فيها من إتصال النعمة والإنذار والوعد والوعيد، وتوكيد حقيقة العالم الآخر وإزالة الوهم بان لبني إسرائيل إكراماً خاصاً يوم القيامة [وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ] ( ).
والآية دعوة لهم ولغيرهم من خلالهم للإستعداد للآخرة بدخول الإسلام وإتيان الصالحات، كما تظهر الآية الكريمة [وَاتَّقوا يَوْمًا… ] سعة رحمة الله تعالى في منع الغرر والغرور، وفيها تذكير بالآخرة وموعظة وبيان لمضامين الرسالة الإسلامية وما جاءت به من الأحكام والسنن لإنقاذ الناس من ظلمات الشرك والضلالة ونجاتهم يوم القيامة.
ويدل ورود الآية بلغة التحذير على ما في يوم القيامة من أهوال، وضرورة الخشية من الحساب والعذاب وعمل الفكر بسبل النجاة يومئذ، فتكون النتيجة عقلاً وسمعاً إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى[فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا]( ).
لقد جاءت الآية بتقوى الله بلحاظ النشور والحساب في النشأة الآخرة، وحصر الإتقاء في هذه الآية بيوم القيامة توكيد على أهميته ووجوب العمل من أجل النجاة من الحساب.
وتحصر الآية سبل النجاة منه بالإيمان والعمل الصالح لأنها تنفي الشفيع والناصر، وجاءت بصيغة الجمع للإنذار العام وللإخبار عن لزوم تحذيرهم وإنذارهم لأنهم إختاروا الجحود برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما فيها من البينات.
وكأن الآية تقول لهم إن لم تسلموا فابشروا بالعقاب يوم القيامة، وإن الشفعاء يتخلون عن الذي لا يؤمن بالنبوة والتنزيل وتلك قاعدة كلية يوم القيامة، وتجعل الآية يوم القيامة وكأنه قريب حاضر.
قوله تعالى [لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]
طرد للوهم ودفع للأمل بالإنتفاع بغير حق من مقامات الآخرين ومنازل الصالحين في الآخرة , وجاءت الآية بصيغة الإنكار مما يفيد العموم في العطاء والقبول لإيجاد اليأس في نفوسهم من نجدة غيرهم ونصرته لهم يوم القيامة.
وجاءت الآية بلغة الخطاب للناس جميعاً، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا]( ).
إن إفراد بني إسرائيل بالتحذير وطلب الإستعداد والحصانة والمنعة ليوم القيامة نوع مكرمة خاصة لهم، ولكنه سوف يكون عليهم حجة في الدنيا ويوم القيامة .
وتتضمن الآية وعيداً أي أنها بداية النهاية لتلك النعم وأنهم أصبحوا أمام طريقين، طريق الهدى والإسلام، وطريق الضلالة والجحود حيث الخسارة في الآخرة، ولا نفع يأتي لهم من الآخرين، ولا يدفعون عنهم مكروهاً ولا يكونون سبباً لحجب العذاب عن أنفسهم، وليس من أحد يعتذر عنهم أو يؤدي عنهم ما وجب عليهم .
وفي الآية إخبار بأن الإيمان واجب عيني على كل مكلف , وبشارة للمؤمنين بإستعدادهم للآخرة بالتقوى وحث لهم على إجتناب السيئات وأوزارها.
علم المناسبة
ورد لفظ “اتقوا” في القرآن بصيغة الأمر تسعاً وستين مرة، كلها جاءت بلزوم الخشية من الله عز وجل، ولزوم طاعته واصلاح الذات والغير وإجتناب عقاب الله وبطشه، والحث على الإستعداد للقائه يوم القيامة لذا ورد أغلبها بلفظ “اتقوا الله” .
وجاء قوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا] في ثلاث آيات من القرآن كلها في سورة البقرة، مما يدل على تضمن سورة البقرة لآيات التحذير والإنذار من يوم القيامة وما فيه من أهوال الحساب وعالم الجزاء.
جاءت آيتان منها خطاباً لبني إسرائيل( )، وإنذاراً لهم ودعوة لدخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنجاة مما يلقاه الكفار والجاحدين بنبوته يوم القيامة.
وجاءت الآية الثالثة خطاباً للمسلمين، ضمن نظم آيات تحثهم على التقيد بسنن الشريعة، وأحكام الحلال والحرام، وإجتناب القرض الربوي والربا مطلقاً، ويفيد الجمع بين الآيات وجهة الخطاب فيها أموراً:
الأول: التحذير والإنذار من يوم القيامة في القرآن فضل من عند الله عز وجل، وهذه الآية شاهد على تفضيل بني إسرائيل بإكرامهم بالتوقي والخشية من يوم القيامة وما فيه من ضروب الحساب.
الثاني:الإنذار والتحذير من يوم القيامة عام وشامل للناس بما فيهم المسلمون.
الثالث: في هذه الآيات نكتة عقائدية وهي وقوف الناس جميعاً بين يدي الله للحساب من غير إستثناء لأمة أو أهل ملة.
الرابع: إنذار بني إسرائيل بواسطة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهم المسلمون، وفيه دعوة إضافية لبني إسرائيل للتدبر بهذه الآيات.
الخامس: تتضمن الآيات الإنذار والوعيد للكفار والمشركين من باب الأولوية القطعية.
ولم تذكر الآية الأخيرة التي تخاطب المسلمين إنعدام الشفاعة يوم القيامة، بينما ذكرت الآيتان اللتان تخاطبان بني إسرائيل إنتفاءها، فقالت هذه الآية بعدم قبول الشفاعة [وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ]، وجاءت الآية الثانية بالإخبار عن عدم نفع شفاعة نفس لنفس بقوله تعالى [وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ]( ).
ولم يرد لفظ (تجزي) إلا في هذه الآية وآية أخرى من سورة البقرة، وكلاهما بقوله تعالى [لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]( )، بينما جاءت آيات القرآن بتوكيد عالم الجزاء، ولزوم إستعداد الناس له، قال تعالى [الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ] ( )، وفيه دعوة لبني إسرائيل والناس جميعاً بإصلاح النفس ليوم اللقاء بالإيمان والعمل الصالح.
قوله تعالى [وَلاَ يُقْبلُ مِنْهَا شفاعَةٌ ]
الآية حث لبني إسرائيل على إختيار ما ينجيهم يوم القيامة وألا يعتمدوا على موضوع الشفاعة لإمتناعه وحجبه بسبب الجحود والمعاصي , وقيل (أنهم ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه وأن آباءهم يشفعون لهم…)( ).
والمراد من الآية الكفار وبنو إسرائيل لورودها في طيات مخاطبتهم وإنذارهم، ولثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي ثابتة لله عز وجل أصالة وإختصاصاً وملكية مطلقة على الدوام، قال تعالى [قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ] ( ).
وهو سبحانه الذي يتفضل على نفر من أوليائه، فيأذن لهم بالشفاعة حيث يشاء ويرضى، ولقد إتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال العلامة الحلي ويدل عليه قوله تعالى عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًاً .
وجاءت الآيات في الشفاعة صريحة ، والمقام أعم وقد ورد لفظ الشفاعة ومشتقاته في سبعة وعشرين موضعاً من القرآن، قال تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى ]( ).
وأكدت السنة النبوية بشارة الشفاعة وثبوت وقوعها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد بالاسناد (عن أنس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الانبياء ما صدقت وأن من الأنبياء نبياً لم يصدقه من أمتهِ إلا رجل واحد”( ).
وقال الوعيدية( )، بأن الشفاعة طلب الزيادة في النفع لأهل الايمان والذين يستحقون الثواب، وهو خلاف ما قال به المشهور عند علماء الإسلام من أن الشفاعة لأهل المعاصي والذنوب كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي”( ).
أي أن الشفاعة تتعلق بالتجاوز عن ذنوب المؤمنين وإسقاط العقاب عمن إستحقه منهم والعفو عن سيئاتهم، ولا مانع من المعنى الأعم مع الدليل، والله واسع كريم.
إن الشفاعة رحمة من الله عز وجل مدخرة إلى يوم القيامة ووجه من وجوه رأفته وباب فتحه الله ليتنعم المؤمنون بالكرامة والعز بما ينالونه من العفو الإلهي، ولكنها محصورة بمنازل مرضاته تعالى.
لقد أخبر الله سبحانه في هذه الآية عن خروج غير المؤمنين من موارد الشفاعة وأنها لن تنالهم لإبتعادهم عن مرضاته تعالى بما إختاروه من الجحود بالرسالة مع توالي وتتابع النعم عليهم.
بحث بلاغي
ورد عن ابن مسعود أنه قال: ذكّروا القرآن) وفهم بعضهم منه أن ما أحتمل تأنيثه وتذكيره فيقرأ بالتذكير، ومنهم من قيد قوله بما إذا لم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف في تذكيره.
ولعل هذا القول وراء قراءة حمزة والكسائي وهما من الكوفة، بالتذكير في بعض الآيات مثل [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ]( ) بالياء (يشهد) باعتبار جوازه نحوياً لأنه مؤنث غير حقيقي.
والمدار على المدون في المصاحف، وقد يكون تذكير ما ورد في المصحف بالتأنيث تضييعاً لمعاني قدسية ويحول دون إستخراج العلوم.
ولعل ابن مسعود أراد معنى آخر من التذكير أو تعلقه بلفظ القرآن، أو أنه قصد البيان والتوضيح بالتذكير مع بقاء القراءة على حالها.
قوله تعالى [وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ]
أي لا تقبل منها فدية أو عوض أو بدل يوم القيامة، (وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن العدل المذكور في الآية هو الفدية، وهو قول ابن عباس)( ).
والآية إنذار ووعيد ومنع من الظن بالفداء يومئذ للتكفير عن الذنوب ودفع وإعطاء ما يعادلها سواء كان ذلك من الأعمال الحسنة أو الأموال ونحوها، لأن الأفعال الحسنة لا تقبل إلا بالاسلام، بل أن صحتها تتوقف عليه لأنه شرط صحة الفعل العبادي
ترى من هي النفس التي لا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل هل هي الأولى أم الثانية من قوله تعالى [لاَ تَجْزِي نفْسٌ عَنْ نَفْسٍ.. ]، صحيح أنهما وردتا بلغة الإنكار وأن موضوع الآية خاص بالكفار، وانه ينطبق عليهما معاً إذا كان كل منهما يريد الشفاعة لصاحبهِ أو يتطلع إلى شفاعته، ويتطلع إلى شفاعة رؤسائه الذين صدوه عن الإسلام.
أما إذا كان اليهود أو الكفار يتطلعون إلى شفاعة آبائهم من الأنبياء والصالحين فان الآية تتعلق بأولئك اليهود أو الكفار الذين يريدون شفاعة آبائهم، أي أن المقصود من قوله تعالى [وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ] النفس الثانية الواردة في الآية الكريمة لتكون الآية إنذاراً وتحذيراً وإبطالاً لظن الكفار بأن الشفاعة سوف تنالهم.
قوله تعالى [وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ]
ليس لهم معين أو ناصر يذب عنهم ويدفع عنهم العذاب يوم الحساب لأن الملك يومئذ لله عز وجل، وتؤيد الآية المعنى الأول فيما يخص التي لا يؤخذ منها عدل ، فقد ورد قوله تعالى [وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ] بلغة الغائب والضمير المضمر من المعرفة، وهذا لا يمنع من المعنى الثاني بالدلالة الإلتزامية والتضمنية.
ولقد بدأت الآية بصيغة الخطاب [يَابَنِي إسرائيل] وأختتمت بصيغة الغائب [وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ] لإرادة الحكم العام الشامل للناس جميعاً يوم القيامة وللإخبار بإنقطاع التفضيل لبني إسرائيل، ولنفي وجود الناصر والشفيع وأن المدار على العمل الصالح في الدنيا.
وترى في الآية جوامع الكلم وبيان الوجوه المتعددة لأحكام يوم القيامة وضرورة إستعداد الناس لما فيه من الأهوال والحساب الشديد، وفيها عون للمؤمنين ومساعدتهم على أعدائهم وخاصة اليهود وما يزعمونه من أنهم أحباء الله وأنه لن يعذبهم أو أنهم سينجون يوم القيامة بشفاعة آبائهم وما فضلهم الله تعالى به.
وفي الآية الكريمة إنذار وتحذير وتوبيخ وحجة ونعمة مستحدثة لليهود بالبعثة النبوية الشريفة، وموعظة وتذكرة وشاهد وإخبار بأن ليس لهم إلا الإسلام والايمان بالرسالة المحمدية.
قوله تعالى[وَإِذْ نَجيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ] الآية 49.
الإعراب واللغة
قرأ الزهري وابن مُحيص يذبحون – بالتخفيف – وهي قراءة شاذة , وقرأ عبد الله يقتلون( ).
(وقال ابن جني ان فعلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير وذلك لدلالة الفعل على مصدره والمصدر اسم جنس، وحسبك بالجنس سعة وعموماً)( ).
الواو: حرف عطف، والجملة معطوفة على قوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي].
إذ: ظرف لما مضى من الزمان.
نجيناكم: فعل ماض، مبني على السكون، والضمير (نا) في محل رفع فاعل، والكاف: ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة في محل جر بإضافة الظرف اليها.
من آل فرعون: من آل: جار ومجرور متعلقان بنجيناكم، وآل مضاف، فرعون: مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
يسومونكم: يسوم: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل، الضمير الكاف: مفعول به.
وجملة يسومونكم في موضع نصب حال من آل فرعون، ويجوز ان تكون للإستئناف، والأول أرجح.
يسومونكم: أي يبغونكم ويطلبون الإضرار بكم، قال عمرو بن كلثوم:
( إذا ما المَلْكُ سامُ الناسَ خَسْفاً …. أبَيْنا أنْ نقرَّ الخَسْفَ فينا( ))
سوء: مفعول به ثان، وقيل صفة المصدر محذوف أي يسومونكم سوماً سوء العذاب، يذبحون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل.
أبناءكم: أبناء: مفعول به منصوب بالفتحة، والضمير الكاف مضاف إليه.
ويستحيون: عطف على يذبحون، نساءكم: مفعول يستحيون، وهو مضاف، والضمير الكاف مضاف اليه.
وفي ذلكم: الواو: إستئنافية، والجار والمجرور خبر مقدم.
بلاء: مبتدأ مؤخر.
من ربكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبلاء.
عظيم: صفة ثانية لبلاء.
والإنجاء: التخليص والسلامة، يقال نجاه وأنجاه إذا خلصه.
والآل القرابة الخاصة وأقرب الأتباع، وبين الأهل والآل عموم وخصوص مطلق، فالأهل أعم من الآل (قال أبو عبيدة: سمعت إعرابياً فصيحاً يقول أهل مكة آل الله، فقلنا ما تعني بذلك؟ قال: أليسوا مسلمين، المسلمون آل الله)( ) .
وعن الكشاف: أصل آل أهل، ولذلك يصغر بأهيل فابدلت هاؤه ألفاً وخص إستعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم، ولا يقال آل الحجام والإسكافي، وفي معاني الأخبار سئل عليه السلام: “من آل رسول الله؟ فقال: ذريته”.
واما المقصود بآل فرعون في الآية الكريمة فهم أتباعه وشيعته ورؤساء وأفراد عسكره ومن تعلقت به صفة إستضعاف وإيذاء بني إسرائيل بهذه العناوين، ولا يستبعد ان يكون بعض القادة من أهل فرعون وذوي قرباه.
وقال الطبرسي: (ويجوز ان يريد بآل فرعون نفسه كقوله [مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ] يعني موسى وهارون)( ).
ولكن هذا القول وإتخاذه مثالاً خلاف الظاهر، فالأرجح أن المراد آل موسى وآل هارون ووراثة ذريتهما العلم بالتعاقب أو تلقيه مباشرة.
وفرعون اسم إعجمي لا ينصرف لأنه عرّف في حال تعريفه لا تنكيره، وهو على وزن برذون وجمعه فراعنة، وهو اسم لملك العمالقة في مصر كما يقال لملك الفرس آنذاك كسرى، ولملك الروم قيصر، ولملك اليمن تبّع.
وقال ابن الجوزي: وهو ثلاثة:
الأول : فرعون الخليل وإسمه سنان.
الثاني: فرعون يوسف وإسمه الريان بن الوليد،وورد فيه مدح .
الثالث : فرعون موسى وإسمه الوليد بن مصعب).
ويشمل الاسم أكثر عدداً من الثلاثة أعلاه، وهو لقب للملك في مصر لبيان أهميتها في التأريخ ، ونصر الإسلام في فتحها ، وهداية أهلها إلى يوم القيامة ، إنما أصبح هؤلاء الثلاثة معروفين لحدوث الوقائع التي تخص هؤلاء الأنبياء في أيام حكمهم.
(وذكر ابن إسحاق أيضاً: أن اسم فرعون الوليد بن مصعب ولم يكن من الفراعنة أحد أشد غلظة ولا أقسى قلباً منه) ( ).
وعن وهب بن منبه: إن أهل الكتابين قالوا إن اسم فرعون كان قابوس وكان من القبط، وذكر أنه من العرب.
ويسومونكم: أي يريدون منكم ويكلفونكم.
وأصل السوء ما يكره يقال ساءه يسوءه سوءً إذا أتاه بما يكرهه، ويقع على الأذى والعذاب والبلية والمعصية، وتدل إضافته للعذاب على إرادة الأفراد الأشد منه، لذا يمكن القول أن سوء العذاب وأليمه وشديده نظائر. وقال صاحب العين: السوء اسم العذاب الجامع للآفات والداء.
والذبح قطع الأوداج من الحيوان، وقد يستعمل عنواناً لقتل الإنسان عن قصد أو بالكيفية التي يذبح بها الحيوان هيئة أو معنى.
وأبناء: جمع إبن، وهو جمع قلة، والابن ولد الرجل، ويطلق على الابن الصلبي وعلى ابن الابن بالتبعية والحاق الفرع بالأصل.
ويستحيون: أي يستبقون، (وفي حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر:”إقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم أي إستبقوا شبابهم”( ).
والنساء: جمع كثرة لا واحد له من لفظه، وجمع امرأة بلحاظ المعنى وجمع القلة النسوة.
والبلاء: الإمتحان والإختبار، وقيل البلاء على ثلاثة أوجه نعمة وإختبار ومكروه، وقد يكون البلاء بالخير والإنعام.
في سياق الآيات
تتضمن الآية الكريمة تذكيراً متشعباً ومتعدداً بنعم الله تعالى على بني إسرائيل لإقامة الحجة، ولتكون عوناً على دعوتهم للإسلام من باب الشكر له تعالى، إن إستحضار وتثبيت النعم على بني إسرائيل ضمن آيات الوعيد والتخويف والدعوة إلى الإسلام له دلالات عقائدية، وفيه حجة وبرهان.
وتتجلى الصلة بين هذه الآية والآية السابقة [وَاتَّقُوا يَوْمًا] من وجوه:
الأول: الشكر لله عز وجل على نعمة النجاة من آل فرعون، ويتجلى الشكر في المقام بالإستعداد ليوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح.
الثاني: علة نجاة بني إسرائيل من فرعون هو تصديقهم برسالة موسى عليه السلام، وقد جاء موسى بالإقرار باليوم الآخر.
الثالث: لزوم تعاهد بني إسرائيل للإيمان والذي يكون بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتصديقه وإتباعه ونصرته.
الرابع: ان الذين إتبعوا موسى عليه السلام وأنجاهم الله عز وجل من فرعون، وعبروا البحر مشياً على الأرض اليابسة منه لا يشفعون للمتأخر، فكل مكلف يوم القيامة يأتي بعمله.
والصلة بين هذه الآية والآية التالية [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ] ( ) بيان لكيفية النجاة من فرعون، فقد يقال كيف كانت نجاتهم، فجاءت الآية لمنع التحريف والتبديل في سبيل ووسيلة النجاة وبما يكون كتماناً للمعجزة، وقد ورد قبل ثلاث آيات [وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ]( )، وجاءت هذه الآية بالإخبار عن نجاة بني إسرائيل مع ذكر العذاب الأليم الذي كانوا يلاقونه من آل فرعون على نحو التفصيل، بينما جاءت الآية التالية بالإخبار عن كيفية نجاتهم وهلاك فرعون، لتتجلى فيه مصاديق التفضيل لبني إسرائيل من وجوه:
الأول: توكيد خبر نجاتهم، ومنع التشويه والتحريف فيه.
الثاني: التوثيق السماوي لوجوه العذاب الأليم التي لاقاها بنو إسرائيل في سبيل الله.
الثالث: تعيين الجهة الظالمة لبني إسرائيل، وهم آل فرعون، وذم القرآن لها.
الرابع: عموم العذاب وشموله للرجال والنساء والأولاد من بني إسرائيل.
الخامس: مجيء الآية التالية بتوكيد نجاة بني إسرائيل (فأنجيناكم).
السادس: بيان حقيقة وهي إنحصار الأمر بنجاة بني إسرائيل بل شمل هلاك آل فرعون ليكون إنذاراً ووعيداً للظالمين، وفي الآية وجوه:
الأول: تأكيد تفضيل المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لسلامتهم بفضل الله من مثل هذا العذاب.
الثاني: هذه السلامة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على تفضيله على الأنبياء السابقين، وتفضيل أمته على الموحدين من الأمم السابقة.
الثالث: دعوة بني إسرائيل لدخول الإسلام، ونيل ما فيه من مراتب العز والأمن , قال تعالى[لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وفي الجمع بين هذه الآيات شاهد على عدم إمكان كتمان معجزة العبور، ودعوة للشكر لله على هذه النعمة، وحجة عليهم إلى يوم القيامة.
إعجاز الآية
في الآية توثيق سماوي لأظهر مراتب العناء التي لاقاها بنو إسرائيل مما لم يستطيعوا النجاة منه لولا فضل الله تعالى، لذا جاءت الآية لتنسب صرف أشد أنواع البلاء عنهم بمشيئته وإرادته تعالى كما تبين الآيات القرآنية الأخرى نجاة بني إسرائيل وغرق آل فرعون.
والقدر المتيقن من الآية أن نجاتهم كانت بمعجزة وخلاف قوانين العلة والمعلول، وهو أمر معروف في يبس البحر وعبورهم دون فرعون وجنوده، وكان ظهور الأرض اليابسة من تحت ماء البحر مناسبة لكي يهتدي فرعون وقومه، لأنها آية عقلية وحسية، ولو آمن فرعون وقومه بموسى عليه السلام حينما رأوا الآية وعبروا وراءه للحاق به كي يعلنوا إسلامهم فهل يغطيهم الماء، الجواب لا، فاذا تغير الموضوع تبدل الحكم، ولأنهم حينئذ يلحقون بكيفية عبور موسى وجنوده.
ويمكن تسمية الآية بآية (نجيناكم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
كما تبين الآية فضل الله تعالى على بني إسرائيل فانها تشد من أزر المسلمين وتجعلهم يتطلعون إلى النصر والنجاة من كيد الكافرين والمشركين , وتدعوهم للإجتهاد في سلاح الدعاء .
والآية حجة على بني إسرائيل ومصداق من التذكير بالنعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهم.
إن إختصاص ملك مصر باسم فرعون في مقابل ملك الروم وفارس يدل على ما لملك مصر من الشأن في الزمن السابق، ويدل فتح مصر على قوة الإسلام وصدق التنزيل، وفيه حجة على بني إسرائيل إذ أذاقهم ملك مصر أشد أنواع العذاب، ولم يؤمن برسالة موسى عليه السلام مع الآيات الحسية التي جاء بها.
ليأتي الإسلام وتفتح مصر، ويؤمن أهل مصر بالنبوة والرسالة ويكونوا من أهل الإيمان، ويتعاهدوا الصلاح والتقوى ويخشوا يوم القيامة ويستعدوا له بالعمل الصالح.
فان قيل إنه قياس مع الفارق وأن الإسلام جاء في زمان ليس فيه فرعون أو ملك من العمالقة، فالجواب من وجوه:
الأول: كانت هناك دولة في مصر وملك للأقباط.
الثاني: لم يكن فرعون يقاتل وحده، بل معه جنده من أهل مصر لذا جاءت الآية بقوله تعالى [آلِ فِرْعَوْنَ] بينما تلقي أهل مصر الدعوة الإسلامية بالقبول والغبطة مما يدل على أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر أثراً وأمضى حجة.
الثالث: إن دخول أهل مصر في الإسلام، وتمسكهم بأحكامه تمسكاً تاماً في كل الأزمنة ومنذ أيام الفتح وخشيتهم من يوم القيامة حجة على بني إسرائيل في لزوم مبادرتهم لدخول الإسلام.
الرابع: بيان رحمة الله في نجاة بني إسرائيل ونعمته عليهم لأنهم مؤمنون برسالة موسى عليه السلام، وفيه إنذار لمن يتخلف منهم عن دخول الإسلام لأن رحمة الله تتغشى المؤمنين بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم أهل مصر.
الخامس: هذه الآية نعمة على بني إسرائيل بتذكيرهم بالضرر والعذاب الذي تعرضوا له من القوم الظالمين فرعون وجنوده، ويدل بالدلالة التضمنية على صبر بني إسرائيل في ذات الله.
السادس: لم يدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أرض مصر ومع هذا آمن أهل مصر بنبوته وصدقوه وإتبعوه، بينما أصر آل فرعون على الجحود وإختاروا العذاب الأبدي بالعقاب والظلم للمؤمنين برسالة موسى عليه السلام وأحكام التوراة فإنتقم الله تعالى من فرعون وجنوده وهلكوا في البحر بآية خالدة في العالمين.كما يأتي في الآية السابقة بقوله تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ]( ).
ومن إعجاز الآية إفتتاحها بذكر نجاة بني إسرائيل من آل فرعون لأنها في مقام ذكر النعم الإلهية عليهم، وهو لا يتعارض مع صيغ الإنذار والتذكير باللوازم والمقدمات وأسباب لتلك النعم، وآثار فقدانها والإلتفات إلى زوالها، وكيفية الفوز بها من جديد بدخول الإسلام، فيكون أهل مصر بايمانهم وصلاحهم وتصديقهم بالنبوة والتنزيل مرآة وأسوة ودعوة لبني إسرائيل وغيرهم في الدعوة إلى الإسلام.
وكان نفر من بني إسرائيل قد بادروا إلى الإسلام قبل فتح مصر فكانوا أسوة لأهل مصر لتزول بينهم الضغائن التي حصلت بسبب الصراع في أيام موسى عليه السلام بسبب إيمان بني إسرائيل وكفر آل فرعون، فيلتقي الجميع تحت لواء الإيمان وراية الشهادتين، وتتوجه الدعوة إلى من تخلف من بني إسرائيل من عند الله بالحذر والخشية من يوم القيامة، والتي تتضمن في مفهومها الإعتبار والإتعاظ ممن تجلت خشيته من يوم القيامة بالإيمان وحسن الإسلام والتقيد بالعبادات والفرائض.
مفهوم الآية
من مفاهيم الآية أن النجاة والتخلص من الإبتلاء والأذى والمكر باب لإمتحان جديد، فبعد السلامة في البدن من الظالمين وحفظ الذرية وستر الأعراض يأتي الإختيار العقائدي ليكون إجتيازه مناسبة لشكر الله تعالى بتعاهد الإيمان وإتباع الأنبياء وما جاءوا به من عند الله تعالى.
إنها مدرسة الإيمان التي يكون فيها أداء التكاليف وحسن الإمتثال نوع شكر لله تعالى، وتظهر في الآية مضامين اللطف الإلهي في صيغ التذكير وهي وإن كانت خبرية إلا أنها تفيد الإنشاء والأمر بلغة التقريع والتهديد والإنذار.
وفي نسبة إنجاء بني إسرائيل لله تعالى بقوله تعالى(وإذ أنجيناكم)مسائل:
الأولى:إنه مناسبة ودعوة للشكر لله , قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل[ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية: منعهم من الغلو بالأنبياء، فهم لم ينجوا بإرادة موسى عليه السلام بل بمشيئة الله تعالى وان كانت العصا آية نبوة موسى عليه السلام.
الثالثة: الآية ثناء على الله عز وجل وتعظيم لمقام الربوبية.
الرابعة: فيها بيان لواقعة تأريخية ونصر عظيم على الكفار من غير قتال.
الخامسة:إنها عبرة للكافرين والظالمين.
السادسة: توكيد لنصر وحفظ الله تعالى للمسلمين.
السابعة: توثيق طغيان وعتو آل فرعون.
الثامنة: عدم دوام الحكم مع الظلم والتعدي.
التاسعة: الدعوة لإجتناب ذبح أبناء المسلمين، والتعدي على أعراضهم وحرمانهم، والإخبار بأن من يفعله يستأصل من الأرض.
العاشرة: ذكر الإبتلاء والإختبار الذي لاقاه بنو إسرائيل.
الحادية عشرة: الدعوة إلى الصبر والتحمل.
الثانية عشرة: إظهار الشكر لله تعالى بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة عشرة: مجيء النجاة بلغة العموم الإستغراقي الشامل لجميع بني إسرائيل من غير إستثناء، مما يدل على عظيم فضل الله عز وجل عليهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تذكير بني إسرائيل بنعمة أخرى من نعم الله عليهم.
الثانية: تعدد وجوه هذه النعمة فلم تكتف الآية بالإخبار عن نجاتهم من الظالمين بل ذكرت الضرر والعذاب الذي كان بنو إسرائيل يتلقونه من آل فرعون , وهو على أقسام هي:
الأول: إنزال العذاب ببني إسرائيل.
ومن الآيات وصف العذاب في الآية مقيداً بالشدة والضرر الكبير في قوله تعالى[سُوءَ الْعَذَابِ]ومن مفاهيم الآية توكيد قدرة الله عز وجل على نجاة الإنسان من الظلم والتعدي ونزول العذاب, كما تبين الآية الكفر والتعدي والطغيان الذي كان عليه آل فرعون.
الثاني: قيام آل فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل خشية خروج النبي موسى عليه السلام من بينهم لتكاثرهم.
الثالث: تعدي آل فرعون على حرمات بني إسرائيل وإيذاء النساء , وما فيه من قصد الإذلال.
الثالثة: التذكير بآية في ماهية الحياة الدنيا وأنها دار إبتلاء وإمتحان، وتفضل الله تعالى بصرف البلاء عن أهل التوحيد ولزوم مقابلته بالشكر والتصديق بالنبوة.
وتتكلم الآية الكريمة عن تفضل الله تعالى بنجاة وتخليص بني إسرائيل من العذاب الذي كانوا فيه وهم في مصر أيام حكم الفراعنة، وفيها إشارة إلى إختيار بني إسرائيل السكن في مصر بالتسبيب، وإعراضهم عن نعمة نزول المن والسلوى من السماء، والتغلب على الجبارين وسؤالهم ثمار الأرض والزراعة ، فقال تعالى [اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]( ).
ولو شكروا الله عز وجل على نعمة المن والسلوى والأمان، ولم يسألوا العناء والتعب طلباً للدنيا وتعدد الطيبات لما نزل بهم البلاء والعذاب لأن هذا السؤال صار كالمقدمة والسبب لذهابهم إلى مصر، وكذا بالنسبة للبعثة النبوية الشريفة.
فلو أنهم آمنوا بالمعجزات والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما أخرجوا من ديارهم وقتلوا وأسروا، ولو قاموا بدفع الجزية وعدم محاربة المسلمين وتحريض الكفار عليهم ونقض العهود لبقوا في ديارهم وبساتينهم وتجارتهم.
وفي الآية إشارة إلى القضاء على أعداء الإسلام، فاذا كان آل فرعون تعرضوا للهلاك والغرق بسبب إصرارهم على عذاب بني إسرائيل، فان الله عز وجل نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على أعدائهم.
الآية لطف
السلامة والأمن والنجاة من البلاء لطف وفضل إلهي، وفيه دلالة على تفضل الله تعالى بالعناية بأهل التوحيد وأتباع الأنبياء إذ أن بني إسرائيل كانوا على شريعة موسى عليه السلام فحاربهم الجبارون، وتلقوا العذاب من آل فرعون، فتغلب بنو إسرائيل على الجبارين بعد أن إنتقم الله عز وجل من آل فرعون وأغرقهم في البحر.
ومن اللطف الإلهي تذكير بني إسرائيل بالنعم في القرآن، وفيه وجوه:
الأول: القرآن كتاب الله الخالد، ويتضمن تبيان كل شئ.
الثاني: في الآية دعوة لتوثيق النعم الإلهية على الأمم السالفة، وهي حجة على من تخلف عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب وغيرهم.
الثالث: نسبة النجاة من العذاب إلى الله تعالى، وليس لبني إسرائيل أو قوانين السببية، والعلة والمعلول في الحوادث والوقائع، كما لو ضعفت دولة آل فرعون بسبب الحروب المتكررة والعداوات.
فنسبت الآية الإنجاء إلى الله تعالى، ومادة الإنقاذ معجزة جسية ظاهرة إذ تعرض آل فرعون للغرق والهلاك في البحر، وإنفلاق الماء بين جنباته بالكاف والنون، وعبور بني إسرائيل البحر قرينة على إمكان عبوره من قبل آل فرعون من باب الأولوية القطعية لما عندهم من الوسائل، وأسباب النجاة من الغرق لو كان العبور بالأسباب وليس بمعجزة.
إفاضات الآية
الفرج بعد الشدة، والخلاص بعد المحنة من الأمور التي ينجذب إليها الذهن الإنساني ويتمنى وقوعها من غير تأخير ولا إبطاء، فأخبرت الآية بأنهما حصلا بالمعجزة لبني إسرائيل وأنهما حاضران للمسلمين عند الإبتلاء والشدة، وما رزقه الله الملل السابقة فان عز وجل يرزقه المسلمين بفضله، وقد خفّف عنهم فليس من يسومهم سوء العذاب، وجعل للإسلام دولته وجيوشه التي تغزو القبائل والقلاع والثغور تدعوهم للإسلام وتنشر السلام والعدل والإنصاف.
وتبين الآية أفضلية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأمن الذي يتغشى المؤمنين أيام بعثته فإن قلت قد حصل أذى وإضطهاد للمسلمين خصوصاً في مكة.
قلت: إنه وقع على نحو القضية الشخصية والأفراد، وفيه الأجر والثواب وهو بلاء وإمتحان مستمر، وسرعان ما إندحر الكفر والشرك، أما في هذه الآية فبينت البلاء الذي تعرض له بنو إسرائيل كأمة وملة وشعب، وهو الأمر الذي نجّا الله المسلمين منه.
التفسير الذاتي
بعد الأمر بالخشية من يوم القيامة، وما فيه من أهوال الحساب، جاءت هذه الآية لبيان ما أنعم الله عز جل به على بني إسرائيل في النجاة من آل فرعون ليكون هذا التذكير مناسبة لشكر الله عز وجل على النعم.
لقد كتب الله عز وجل السلامة لبني إسرائيل من فرعون ليتعاهدوا أحكام التوراة والإنجيل، ويتوارثوا البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقوموا بنصرته عند بعثته، وتظهر الآية أن ما يفعله آل فرعون حرب إبادة تشمل الرجال والأولاد والنساء، على الوجوه المحتملة لسوء العذاب وهي:
الأول: إن عذاب بني آل فرعون لبني إسرائيل هو ما مذكور في الآية من ذبح أبنائهم وإستحياء نسائهم.
الثاني:تكليف بني إسرائيل بالأعمال الشاقة.
الثالث: فرض الجزية على القادرين على العمل منهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكان الرجال من بني إسرائيل يتلقون العذاب والإهانة بأشخاصهم مثلما يؤذون في أولادهم ونسائهم، ولم تذكر الآية بنات بني إسرائيل، ويحتمل وجوها:
الأول: إرادة العموم بقوله تعالى [يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ] والمراد من الأبناء الذكور والأناث.
الثاني: تدخل البنات مع لفظ النساء وإستحيائهن المذكور في الآية الكريمة.
الثالث: لا يتعرض آل فرعون لبنات بني إسرائيل إلى أن يبلغن مبلغ النساء، أو إلى أن يتزوجن.
والصحيح هو الثاني من وجوه:
الأول: تغليب لفظ النساء وجاء اللفظ بصيغة جمع الكثرة، بينما جاء في سورة يوسف بلفظ القلة [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ]( ).
الثاني: جاءت الآية خطاباً لبني إسرائيل أيام نزول القرآن، ومن إعجاز القرآن أنه ذكر لفظ النساء وليس البنات لبيان العموم في العذاب، ولأن بنات اليهود أيام الدولة الإسلامية في ذمة الإسلام.
ومن الآيات أن النساء من أهل الكتاب لم تفرض عليهن الجزية، وقد يتزوجهن المسلمون على إختلاف بين فقهاء المسلمين، والمختار الجواز على كراهة، وتزول الكراهة مع وجود الراجح( ).
الثالث: يقع اسم النساء على الكبيرات والصغيرات.
الرابع: إستقراء عموم العذاب الذي تلقاه بنو إسرائيل من آل فرعون من نعته في الآية بأنه (سوء العذاب) ومجيئه بلغة الخطاب، ومن الشكر لله عز وجل على السلامة من سوء العذاب السعي الحثيث للنجاة من أشد العذاب يوم القيامة والذي ينتظر الكفار والظالمين.
لقد كان الأذى والضرر الذي تلقاه بنو إسرائيل من فرعون وجنوده بلاءً عظيماً، وإمتحاناً عسيراً لتكون نبوة موسى عليه السلام وسيلة للنجاة، والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعثاً للأمل في نفوسهم بالأمن والسلامة بإتباعه ونصرته حين بعثته.
وفي خاتمة الآية مواساة لبني إسرائيل، وإخبار بأن الله عز وجل يعلم ما يجري من العذاب عليهم، لذا إنتقم الله عز وجل من فرعون وجنوده بأن أغرقهم في البحر كما ورد في الآية التالية بقوله تعالى [وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ]( ).
من غايات الآية
في الآية دعوة لبني إسرائيل لإستحضار نعمة النجاة من آل فرعون، وما كانوا يسومونهم بآيات النبوة، باعتباره شكراً لله تعالى على نعمة السلامة من العذاب.
ولان إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمان ونجاة من العذاب في الآخرة فبإتباع موسى عليه السلام كانت النجاة من عذاب آل فرعون ومغادرة بلادهم، ودار حكمهم، اما إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففيه الخلود الدائم في النعيم والنجاة من عذاب النار وشدته، وهو شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، وإشارة إلى المنافع الدنيوية والأخروية التي تترشح عن إتباعه ونصرته.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعذَابِ]
بعد أن تفّضل الله سبحانه ببيان نعمه على بني إسرائيل إجمالاً، والمنزلة والأفضلية التي نالوها وبعد أن ذكّرهم بالآخرة بصيغة الإنذار ولغة الوعيد وهو أيضاً فضل منه تعالى، لأن الذكرى رحمة ونوع إكرام عام وان كان لله فيها حجة، جاءت هذه الآية الكريمة لبيان بعض أفراد تلك النعم، وذكرها على سبيل التفصيل وهو أبلغ في الحجة والإعتبار والأثر.
وهل في الآية دعوة لبني إسرائيل لدخول الاسلام؟ الجواب نعم، وهذه الدعوة من أهم أسباب هذا التذكير لأن السبيل إلى النجاة من الوعيد وعذاب يوم القيامة هو الإسلام.
إن الله عز وجل الذي نجّاهم من عذاب آل فرعون مع شدته ذكّرهم في الآية بأنه محدود بزمان حياتهم في الدنيا وهو سهل يسير بالقياس مع عذاب الآخرة، وفي الصبر أجر وثواب.
ونوع العذاب يتصور على وجوه:
الأول: إن فرعون وأتباعه جعلوهم خولاً وخدماً له، وصنفوهم في أعمالهم أصنافاً، صنف كانوا يبنون لهم، وصنف كانوا يحرثون لهم، وصنف كانوا يزرعون لهم، فكانوا في اعمال فرعون , ومن لم يكن في نوع من اعماله كان يؤمر بأن يوضع عليه جزية يؤديها، وبه قال محمد بن اسحاق( )، ونسبه الطبرسي إلى القيل( ).
الثاني: إنه جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة مثل كنس المبرز وعمل الطين ونحت الجبال، وبه قال السُدي( ).
الثالث: التضييق في الرزق والتشديد عليهم ومحاولة منعهم من أداء العبادات.
وكل هذا من المصاديق والوجوه تدل على أن آل فرعون كانوا يواصلون بإصرار وإستكبار إستضعاف بني إسرائيل يومياً وتكليفهم بالشاق من الأعمال.
وذكر أن قوله تعالى يذبحون ويذبحون وما بعده تفسير للسوم( ).
فسوء العذاب أمر غير ذبح الأبناء وإستحياء النساء، فلو قلنا أن سوء العذاب هو ذبح الأبناء وإستحياء النساء فانه يفيد في مفهومه أنه ليس من عذاب يلقون من آل فرعون أشد في أشخاصهم وعملهم، وهو بعيد وخلاف ظاهر الآية وتعدد حرف العطف (الواو) فيها والذي يفيد المغايرة.
ومن الإعجاز ما تحمله ألفاظ الآية وصيغة الخطاب والغائب فيها من الدلالات، إذا جاء أول الآية بلغة الخطاب وأن العذاب موجه إلى بني إسرائيل ويدل عليه ضمير الجمع “الكاف” في يسومونكم.
وورد ذكر الأبناء ثم النساء، وما يلحقهم من الأذى الشديد، وقد جاءت آية المباهلة بذكر الأبناء والنساء في بيان أثر الإيمان في إكرام أهل بيت النبوة وذرية ونساء المؤمنين، قال تعالى [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
لم يرد لفظ “نجيناكم” في القرآن إلا في هذه الآية بينما ورد لفظ “أنجيناكم”ثلاث مرات كلها جاءت في بني إسرائيل أيضاً لتكون لهذه الآية خصوصية في اللفظ.
ولتعدد الآيات التي تخبر عن نجاة بني إسرائيل من آل فرعون دلالات عقائدية ذات صبغة إعجازية منها:
الأولى: بيان فضل الله على بني إسرائيل.
الثانية: إقامة الحجة على بني إسرائيل بنعمة الإنجاء.
الثالثة: تفضيل بني إسرائيل بتكرار تذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم.
الرابع: تكرار ذكر نعمة الإنجاء رحمة من عند الله من جهات:
الأولى: رحمة باليهود بحثهم على إستحضار فضل الله عز وجل عليهم، ودعوتهم للتصديق بنزول القرآن.
الثانية : رحمة بالمسلمين لبيان أن الله عز وجل قادر على أن ينجيهم من الكفار والظالمين، وتتجلى الشواهد على هذه النجاة بمعارك الإسلام الأولى، فقد جاءت قريش بجيش عرمرم لقتال المسلمين في السنة الثانية للهجرة، وبرز المسلمون على قلة وضعف، فإنهزم الكفار من قريش شر هزيمة ليلحقهم الخزي والعار إلى يوم القيامة.
ومن وجوه تفضيل المسلمين في المقام أن نعمة الله عز وجل على المسلمين في معركة بدر متعددة من وجوه:
الأول: نجاة المؤمنين من الكفار.
الثاني: إنتصار المسلمين في المعركة , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثالث: نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الرابع: أخذ المسلمين لسبعين أسيراً من كبار رجال قريش، وكانت الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تترى للتداخل النسبي والقبلي بين المسلمين والكفار، فمثلاً الحمزة مع المؤمنين، والعباس مع المشركين، وكل واحد منهما عم النبي ، وتقدم حمزة للقتال والمبارزة بأمر النبي( إذ نظر إلى حمزة فقال قم ياعم) ( )، ليخرج لمبارزة العدو.
أما العباس فلم يرد أنه قاتل يوم بدر إلى جانب الكفار ، وذكر أنه خرج مكرهاً.
الثالثة: التذكير المتعدد في القرآن بنجاة بني إسرائيل رحمة بالناس جميعاً، ودعوة لهم للتوبة والإنابة وإجتناب التعدي على المسلمين، وإلتماس النجاة بدخول الإسلام، وعمل الصالحات.
وجاء الإخبار عن نجاة بني إسرائيل في هذه الآية على نحو الإجمال، وجاء قوله تعالى [وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ]( )، لبيان نعمة أخرى على بني إسرائيل، وهي سلامة جميع أفراد بني إسرائيل مع كثرتهم من فرعون وجنوده، كما ذكرت الآية موسى عليه السلام لوجوه:
الأول: توكيد حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرحمة الله عز وجل.
الثاني: سعي فرعون للبطش بموسى عليه السلام.
الثالث: إستمرار الرسالة وآيات النبوة مع بني إسرائيل وإذ قام موسى بضرب البحر بعصاه فعبر منه بنو إسرائيل، وكان يضرب به الحجر في التيه، فتتدفق منه ينابيع الماء العذب.
ترى مم كانت نجاة بني إسرائيل , الجواب فيه وجوه:
الأول: النجاة من ظلم وجور آل فرعون، وتكليفهم أشد الأعمال لبني إسرائيل.
الثاني: النجاة من الوقوف عند البحر والعجز عن عبوره حتى يصل لهم فرعون وجنوده فيذبحونهم.
الثالث: النجاة من الغرق، فلم يقتحموا الماء، وحينما يبس وعبروا لم يأت عليهم ويغرقهم.
الرابع: إنقطاع إستحياء وذل النساء بهلاك آل فرعون.
الخامس: سلامة الأبناء من الذبح.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل بالنجاة من فرعون، أو من فرعون وجنوده، بل ذكرت النجاة من آل فرعون على نحو الإطلاق، سواء الجنود أو الملأ أو النساء أو الأبناء لذا كانت حياة بني إسرائيل في التيه نعمة عظيمة، وإبتعاد عن القوم الظالمين، ومناسبة للإجتماع للإنصات لموسى عليه السلام وما يوحيه له الله عز وجل، والتدبر في الآيات التي تترى عليهم بالعصا والمائدة والغمام .
(وعن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التيه -بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام؛ ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى)( ).
ترى هل تتعلق النجاة من بني إسرائيل بما ورد في هذه الآية الكريمة من البلاء والمحنة، أم أنها أعم موضوعاً وحكما، الجواب هو الثاني .
ومن ضروب نجاة بني إسرائيل من آل فرعون:
الأول: النجاة من سلطان وجور آل فرعون.
الثاني: سلامة وفرار بني إسرائيل بدينهم، وغياب وهلاك الذي كان يمنعهم من الصلاة والتلاوة، وفي التنزيل[وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً]( )، (قال أكثر المفسّرين : كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلاّ في كنائسهم وبيعهم، وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أَمرَ فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت، ومنعهم من الصلاة، فأُمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفاً من فرعون)( ).
الثالث: النجاة لتعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الإنتقال إلى بيت المقدس وإلى يثرب لكي يكونوا قريبين من موضع بعثته المذكور في كتبهم ليبادروا إلى التصديق به ونصرته، وأخرج من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصارى قال : حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبياً يبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروا به، ففينا والله وفيهم أنزل الله{وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا…} الآية كلها)( ).
الخامس: وإذ نجيناكم من آل فرعون كي تدخلوا في الإسلام وتكونوا من[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: لحاظ الآية السابقة، وأن النجاة من آل فرعون مقدمة وطريق لتقوى الله وأخذ الحائطة ليوم لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً.
السابع: ليرى بنو إسرائيل وغيرهم بطش الله عز وجل بالجبارين، ويكون فرعون عبرة للطواغيت، فلا يدّعي بعده أحد الربوبية، وفعلاً بعد هلاك نمروذ، ثم فرعون، لم يذكر التأريخ ملكاً قال للناس أنه رب، وتفضل الله عز وجل بتعاقب الأنبياء وإجهارهم بوجوب عبادة الله ونبذ تقديس الأوثان.
الثامن: أنجيناكم كي يبعث الله فيكم الأنبياء من ذرية موسى وهارون وغيرهم، فقد بعث الله عز وجل طالوت ملكاً وهو ليس من سبط النبوة، فأبى بنو إسرائيل تسليمه الملك ولكن الله آتاه الحكم وبسطة من العلم والجاه ليكون مقدمة للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن من أسباط بني إسرائيل.
وأخرج ابن إسحق وابن جرير عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التوارة وأمر الله حتى قبضه الله، ثم خلف فيهم كالب بن يوقنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله، ثم خلف فيهم حزقيل بن بورى وهو ابن العجوز، ثم أن الله قبض حزقيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونسوا ما كان من عهد الله إليهم حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث إليهم إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هرون بن عمران نبياً وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أجان وكان يسمع منه ويصدقه ، فكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله وجعلوا لا يسمعون منه شيئاً إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرقة بالشام كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك لإِلياس: ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، أرى فلان وفلاناً يعدد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان، وهم يأكلون ويشربون ويتنعمون ما ينقص من دنياهم، فاسترجع إلياس وقام شعره ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه وعبد الأوثان.
ثم خلف من بعده فيهم اليسع فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا وعندهم التابوت يتوارثونه كابراً عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون ، وكان لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويرجعون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو ، فلما عظمت أحداثهم وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استلب من أيديهم، فمرج أمرهم عليهم ووطئهم عدوهم حتى أصاب من أبنائهم ونسائهم، وفيهم نبي لهم يقال له شمويل، وهو الذي ذكره الله في قوله{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم…}( ). فكلموه وقالوا{ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله}.
وإنما كان قوام بني اسرائيل الاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو يسير بالجموع والنبي يقوم له بأمره ويأتيه بالخبر من ربه، فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم، فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل، ففريقاً يكذبون فلا يقبلون منه شيئاً وفريقاً يقتلون، فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له{ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء، ولا صدق، ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنا كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، إنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطأها أحد فلا يظهر علينا عدو، فأما إذا بلغ ذلك فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع أبناءنا ونساءنا وذرارينا , فلما قالوا له ذلك سأل الله شمويل أن يبعث لهم ملكاً. فقال الله له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه عليهم، فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلاً عليه ، وكان طالوت رجلاً دبَّاغاً يعمل الأدم ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكان سبط بنيامين سبطاً لم يكن فيهم نبوة ولا ملك، فخرج طالوت في ابتغاء دابة له أضلته ومعه غلام، فمرا ببيت النبي عليه السلام.
فقال غلام طالوت لطالوت : لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير. فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام النبي عليه السلام فأخذه، ثم قال لطالوت: قرب رأسك فقربه، فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم، وكان اسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أشال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أنس بن يامين بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، فجلس عنده , وقال الناس ملك طالوت.
فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم فقالوا له: ما شأن طالوت تملك علينا وليس من بيت النبوة ولا المملكة، قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا؟! فقال لهم{إن الله إصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم})( ).
التاسع: أنجيناكم لتكونوا عبرة وموعظة للناس في بيان حسن العاقبة للمؤمنين ونجاتهم من القوم الظالمين.
العاشر: إنذار جبابرة قريش بسوء العاقبة من باب الأولوية القطعية، فإذا كان فرعون مع سعة سلطانه وكثرة أعوانه هلك في البحر هو وجنوده مرة واحدة فإن الهلاك ينتظر الذين يجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤذون المؤمنين، ولم تتعظ قريش بل خرجت بخيلها وخيلائها في معركة بدر وأحد والخندق، فأدبروا بالخيبة والخسران , قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( ).
وقد يقول قائل لماذا لم يرزق الله المسلمين مثل بني إسرائيل، والسلامة والنجاة من مشركي قريش والخروج إلى ميادين القتال دفاعاً عن الإسلام، والجواب لقد تفضل الله عز وجل ونجّى المسلمين من المشركين، ولم يسلط عليهم جباراً مثل فرعون يقتل رجالهم ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وأنعم الله على رسوله الكريم إذ بعثه من أوسط قومه، تهاب شأنه القبائل فلا تجهز عليه، لتكون هذه الهيبة والتردد في إيذائه مناسبة للتدبر في معجزاته ودعاءً زمانياً للإنصات لآيات القرآن، ودخول الناس في الإسلام وقوة شوكته .
ولم يستطع كفار قريش منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة في البيت الحرام مع أنهم لم يكونوا يألفوها، ويعلمون أن أداءها دعوة للإسلام وتقويض لسلطانهم , قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
(قال ابن عباس: لمّا نهى أبو جهل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة انتهرهُ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم , وقال أبو جهل: أتُهدّدني؟ فواللّه لأملأن عليك إن شِئت هذا خيلا جرداً أو رجالا مرداً، فأنزل اللّه سبحانه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي قومه {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأخذته الزبانية عياناً، {كَلا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} وصلّ واقترب من اللّه سبحانه وتعالى)( ).
ولم تتعرض أجيال المسلمين للإستضعاف والقهر كالذي لاقته أجيال متعاقبة من بني إسرائيل في مصر، وقد تفضل الله عز وجل وأمر النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى الطائف ثم إلى يثرب ليبنى صرح الدولة الإسلامية ويدخل مكة فاتحاً قاهراً للشرك وحاملاً رؤوس الشرك على الإسلام، وهو من مصاديق الرحمة وعموماتها في نبوته لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وقريش قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم أولى بالإنتفاع من هذه الرحمة، وفيه نكتة وهي لا يأتي أحد في آخر الزمان ويقول أن قومه أنفسهم لم يؤمنوا بنبوته، بل دخلت قريش والعرب في الإسلام وأحسنوا إسلامهم ولم يرجعوا إلى عبادة الإصنام، ولم يشركوا بالله عز وجل، لذا أثنى الله عز وجل على أجيال المسلمين المتعاقبة بقوله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ),.
قوله تعالى [يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ]
أي يقتلون أبناءكم من الذكور، وإن ذهب بعضهم إلى القول بان المقصود الرجال دون الأطفال في مقابل النساء البالغات، لقوله تعالى [وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ]، وليس من ملازمة بينهما، بالإضافة إلى أصالة الإطلاق في إرادة الأبناء وإن كانوا صغاراً، (وقال الرازي: وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين)( ).
وليس من سبب يمنع شمول الفريقين وتعرضهم للقتل، بل أن سوء العذاب والتكاليف الشاقة قد تؤدي إلى الهلاك وتلف النفوس، خاصة وأن مادة الأبناء تقع على الكبار والصغار.
فسوء العذاب وقتل الأبناء في الجملة سبب لظهور قلة الذكور وإنقطاع النسل، أي أن الآية تذكير لبني إسرائيل بأنهم ما كان أن يبقى منهم ذراري لولا نعمته تعالى، وأن تلك النتيجة يجب أن تشكر بالتسليم لخاتم الأنبياء بالرسالة.
فالآية الكريمة تتضمن سؤالاً إستنكارياً وهو أنكم لم تبقوا وتتناسلوا إلا بفضل ورحمة منه تعالى فكيف يقابل هذا الفضل بالجحود، ولذا يمكن القول أن فيها انذاراً لهم.
ترى لماذا يفعل آل فرعون مثل هذا البطش ببني إسرائيل، فيه وجوه:
الأول : انه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك، وإتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، فلما رأوا كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون، خافوا الفناء فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة فصاروا يقتلون عاماً دون عام، وهو قول ابن عباس.
الثاني : (ان فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى إشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك؟ فقالوا يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده، وهو قول السُدي)( ).
وقيل (ان السحرة والكهنة والقافة قالوا له انه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل من أهل مملكته، فقال لهن لا يسقط على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل، ولا جارية إلا تركت، ووكل بهن، فكنّ يفعلن ذلك( ).
واسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤوس القبط على فرعون، فقالوا له: ان الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها)( ).
الثالث: ان المنجمين أخبروا فرعون بما سيقع، وعيّنوا له السنة، فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، بل أن الوجهين الأخيرين فرعان وخبران عن الوجه الأول، وكانت معالم العز والرفعة ظاهرة على بني إسرائيل بحكم انها ملازمة للإيمان مما جعل الحسد والبغض يدب في نفوس آل فرعون، والأولى في المسألة الخلاف العقائدي وإقرار بني إسرائيل بالتوحيد وإتخاذ مناهجه مسلكاً في الحياة وسلاحاً للنفوذ في المجتمعات، ولتعريض حكم آل فرعون إلى الزوال بسبب قيامه على الكفر والشرك والتجبر , الكبرياء.
ويمكن القول أن هذا هو الموضوع، والوجوه التي ذكرت إنما هي محمول عرضي، فلقد كان الخلاف عقائدياً وفكرياً ويتعلق بحكم آل فرعون الذين قابلوا بني إسرائيل بالإضطهاد والإبادة الطويلة الأجل.
وتفضل الله عز وجل وتعاهد الإيمان، وحفظ حملة راية التوحيد ببعث الأنبياء فيهم كموسى عليه السلام وإعانتهم في النجاة وما يوجب بقاءهم وهلاك عدوهم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشر رجلاً، فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها ذكراً فاذبحوه، وإن كانت أنثى فخلوا عنها، وذلك قوله {يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم…} الآية)( ).
(قال أبو عبيد: وبلغني عن الحسن أنه قيل له: هل كان فرعون يعبد شيئاً؟ قال: نعم كان يعبد تيساً)( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة، إذ يقول: بلغني، ولم يذكر الذي أبلغه، ولم يرد عن الحسن البصري بطرق أخرى خصوصاً ممن سمع منه والحديث مخالف لصريح آيات القرآن لما ورد حكاية عن فرعون[فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ).
وورد عن ابن عباس في تفسير الأعلى الذي يقصده فرعون (قال: كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنّه صنم كان عابده يحن إليه.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: كان فرعون يصنع لقومه أصناماً صغاراً ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم: أنا رب هذه الأصنام)( ) , وهذا الخبر أقرب من سابقه أعلاه.
قوله تعالى [وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ]
أي يستبقونهن أحياء للخدمة والتمتع بهن بالنكاح، وفيه غاية الذل والحسرة الدائمة، فالأسرة لا تفرح بولادة البنت لرجحان تعرضها الأذى، ومن نعم الله تعالى على بني إسرائيل أنهم لم يلجأوا إلى الوأد كما فعل العرب في الجاهلية إحترازاً من السبي حال الغزو، بل إن الله عز وجل إنتقم من عدوهم، وكذا بالنسبة للعرب فعندما أسلموا جاءت آية من آيات القرآن لتقضي على الوأد إلى يوم القيامة.
(وقيل ان المراد بقوله تعالى [وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكمْ ] يفتشون حياء المرأة أي فرجها هل بها حمل أم لا)( ) .
والآية في ظاهرها ومفهومها أعم منه فهي وثيقة تبين ما كانت تعانيه نساء بني إسرائيل أيضاً في سبيل الله من الأذى والصبر في ذات الله، وتدل الآية في مفهومها على العز الذي جعله الله للمرأة المسلمة وان الجهاد كان حاجة لحفظ نفوس وأعراض وأموال المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتدل الآية على التخفيف الذي ناله المسلمون ومبادرتهم إلى الجهاد والغزو، فلو ظلوا في ديارهم والإكتفاء بالتبليغ لإنقض عليهم الكفار واستحيوا نساءهم.
ويمكن الإستشهاد بالآية على حاجة الإسلام لإستخدام السيف لقاعدة وحدة الموضوع في تحقيق المناط، وتدل عليه الوقائع والشواهد فان كفار قريش والأعداء سعوا في محاربة الإسلام، وأرادوا إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صغره للتخلص من دعوة الإسلام.
قوله تعالى [وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ منْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ]
كان الذي أصاب بني إسرائيل من سوء العذاب والقتل والسبي والاذلال والهوان إمتحاناً وإختباراً في الحياة الدنيا باعتبار أنها مزرعة الآخرة، وليجزى الصابرون على صبرهم وتحملهم في ذات الله.
وفي الآية تنبيه لهم بأن الذي يدعون إليه من دخول الإسلام هو نعمة مستحدثة لا تنفصل عن نعمة الإنجاء من آل فرعون.
والآية الكريمة إنذار وتذكير وبيان لإتصال نعم الله تعالى على بني إسرائيل، وهي حث لهم على إغتنام الفرصة بالدخول في الإسلام باعتباره النعمة الكبرى والغاية القريبة التي تجسد واقعاً نجاتهم من الظلم والهتك.
وهي أيضاً حجة عليهم أو على من يصر على التخلف عن مسار عقائد التوحيد وما في أحكام الشرائع من النسخ.
إن نسبة بلاء بني إسرائيل الى الله تعالى بشارة الثواب والأجر، وإخبار بان ما يحصل بعلم الله عز وجل فلابد ان يكون فيه منافع عظيمة، واذا بلغ الإنسان هذا الإدراك لفلسفة البلاء فانه يتلقاه بالصبر والسعادة , وجاء في القرآن خطاب للمسلمين[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، مع بيان النفع العظيم الذي يترشح عن الصبر والإسترجاع( ).
وجاء اسم الإشارة (ذلكم) لإفادة البعيد، وبيان الشأن والأثر، وفيه وجوه:
الأول: حصول البلاء والضرر في الزمن الماضي السحيق.
الثاني: إنقضاء أيام البلاء، وزوال ملك آل فرعون.
الثالث: بيان قصص الأنبياء والأمم السالفة.
الرابع: دعوة المسلمين للإتعاظ من قصص بني إسرائيل وأهل التوحيد.
الخامس: دعوة بني إسرائيل للعناية بحالهم وزمانهم ولزوم التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم الوقوف عند الماضي والتباكي وإظهار الظلامة من أجل التخلف عن الواجبات العقائدية والتكاليف العبادية.
وفي المراد من اسم الإشارة (ذلكم) وجوه:
الأول: الأذى والشدة التي لاقاها بنو إسرائيل من آل فرعون، وهي على وجوه:
الأول: العذاب الشديد وتكليف آل فرعون لبني إسرائيل ما لا يقدرون عليه.
الثاني: قتل أبناء اليهود.
الثالث: إستحياء نسائهم.
الثاني: النجاة من آل فرعون.
الثالث: السلامة والأمن من الأعداء وهلاك فرعون.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لإرادة المكروه والخير من البلاء مع بيان فضل الله تعالى في تعقيب الخير والغبطة للأذى والمكروه، لتكون العاقبة مناسبة لشكر الله تعالى، وسبباً للإقبال على الطاعات، وذكر النجاة من الظالمين إجتناباً للتعدي على المسلمين وظلمهم ومحاولة إخراجهم من ديارهم.
ويدل على إرادة ذكر نعمة الله تعالى بالنجاة من بني إسرائيل قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث مسائل:
الأولى: التذكير بنعمة النجاة من آل فرعون ليس جديداً على بني إسرائيل بل هو مستمر من أيام موسى عليه السلام الذي كان يحث بني إسرائيل على شكر الله على النعم، وتجلي هذا الشكر بالعبادة والصلاح.
الثانية: إنه من عمومات تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة.
الثالثة: فيه دعوة للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد قبل آيات قوله تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
الرابعة: جاءت آية البحث من غير واو عطف في(يذبحون) للتفصيل وتضمنت الآية أعلاه العطف(ويذبحون) لبيان التعدد والغيرية بالعطف.
ووردت في آية أخرى[يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ]( )، وفيه شاهد على إرادة القتل وزهوق الروح من الذبح حقيقة وليس معنى مجازيا.
قوله تعالى[ وَإِذْ فَرَقْنَا بكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ] الآية 50.
القراءة والإعراب
قرأ الزهري (وإذ فرّقنا بكم) بتشديد الراء لإرادة التشديد وكثرة التفريق، وتعدد الفرق وإعتبرت من الشواذ، والصحيح ما مرسوم في المصاحف لإرادة معنى شق البحر وشطره إلى قسمين، لذا ورد قوله تعالى [فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] ( ).
إذ: ظرف للماضي من الزمان، وقال نفر من النحويين أنها تقع للإســتقبــال، و تأتي للتعــليــل، و تكــون للمفـاجأة وهي التي تقع بعد بينا وبينما، وقيل بحرفيتها في المعنيين الأخيرين.
فرقنا: فعل ماض، والضمير (نا) في محل فاعل، وهو عائد إلى الله تعالى، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
البحر: مفعول به منصوب.
فأنجيناكم وأغرقنا: عطف على ما تقدم.
آل: مفعول به، وهو مضاف، فرعون: مضاف إليه.
وأنتم: الواو: حالية، أنتم: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.
تنظرون: جملة فعلية في محل رفع خبر أنتم، والجملة الإسمية (وأنتم تنظرون) في محل حال من الكاف في (فانجيناكم).
والفرق ما يميز ويفصل بين شيئين، وفي الحديث: “محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرّق بين الناس”( )، وتعني بالتشديد أنه ميّز بين الناس بلحاظ الإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل.
والفرق – بكسر الفاء – الطائفة من الشيء).
والبحر معروف وهو الماء الكثير في وعائه الأرضي، ويقابله البر، وقيل سمي بحراً لإستبحاره أي سعته وإنبساطه.
ويقال غرق في الماء غرقاً فهو غرق أي رسب في الماء، ومن مات غرقاً فهو غريق.
واللّج الذي لا ترى حافتاه من وسطه لكثرة مائه وسعته.
والبحر المقصود في الآية الكريمة البحر الأحمر، وكان العرب يعرفونه باسم بحر القلزم( ).
في سياق الآيات
بعد مجيء الآية السابقة بالإخبار عن نجاة بني إسرائيل من فرعون وملئه ووصف ما كان يعانونه من البلاء الشامل للرجال والأبناء والنساء جاءت هذه الآية الكريمة لتبين نعمة أخرى من النعم على بني إسرائيل تذكيراً وسبيلاً للإعتبار والإتعاظ .
وتأتي النعم الإلهية على نحو الدفعة الواحدة أو التدريج، وتبين هذه الآية المعنى الأول، لذا ترى نظم الآيات ينتقل من بيان ما يلاقيه بنو إسرائيل من العذاب الأليم من آل فرعون إلى النجاة والأمن والسلامة، وهلاك عدوهم الذي كان يبطش بهم، وفيه دلالة على أن القوة لله جميعاً وأن مقاليد الأمور بيده سبحانه، وهو الذي يرأف بالمؤمنين، وينصر أنبياءه ومن إتبعهم من المسلمين.
وجاءت الآية التالية لتبين نزول أحكام الشريعة مع ذهاب الفزع والخوف والعذاب عن بني إسرائيل بتلقي موسى عليه السلام لها، وتخلف بني إسرائيل عن تعاهد مبادئ التوحيد عند غيابه، وفيه ثناء على المسلمين لتلقيهم أحكام الحلال والحرام في القرآن والسنة بالقبول والرضا، وحرصهم على الإحتفاظ بها والعمل بسننها جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة.
ومن الآيات أن تأتي الآية بعد التالية لتبين عفو الله عز وجل عن بني إسرائيل وفتح صفحة جديدة لهم لتكون مناسبة لشكرهم لله عز وجل بحسن إتباع موسى عليه السلام، وتوارث الأحكام والبشارات التي جاء بها.
وفي هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة دليل على عظيم النعم على بني إسرائيل.
وجاءت الآية التالية للإخبار عن نعمة أخرى وهي المواعدة الإلهية مع موسى عليه السلام وذهابه إلى الطور، ومع الفاصلة بين الآيتين وتعلق قوله تعالى(وأنتم تنظرون) بإغراق آل فرعون، فإن الآية التالية تتصل به موضوعاً، ويمكن أن يقرأ(وأنتم تنظرون واعدنا موسى أربعين ليلة) أي لم يكن بنو إسرائيل بعيدين وفي منأى عن مواعدة موسى عليه السلام.
وهل يختص المعاصرون لموسى عليه السلام من بني إسرائيل بموضوع الآيتين وأنهم كانوا ينظرون إلى غرق فرعون ومواعدة موسى عليه السلام، بينما يختص الذين عاصروا نزول القرآن منهم بلغة الخطاب في الآيتين، الجواب لا، إذ يتغشى موضوع هذه الآيات الذين عاصروا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل توجه الخطاب لهم، مما يدل على أن هذه النعم معروفة عندهم، وأن يد التحريف لم تصل إليها، فهم يتوارثونها ويفتخرون بها، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى قبل آيات[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( )، الذي يتضمن نكتة عقائدية وهي أن القرآن لم يكتف بالإخبار عن شواهد التصديق بين القرآن والكتب السماوية السابقة بل تضمن الدعوة للإيمان به، وهو الفرد الأهم، وفيه حرب على التحريف , وندب إلى التقوى والخشية من أهوال يوم القيامة الذي جاء قبل آيتين بقوله تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]( ).
وإذ أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] أي إلى آية البطش بفرعون وجنوده ، جاءت خاتمة الآية الكريمة بذكرم إفتتان بني إسرائيل بإتحاذهم العجل وتلبسهم بالظلم والجور.
ويفيد الجمع بين خاتمتي الآيتين التوبيخ لأن رؤية آيات الظفر والنصر والبطش الإلهي بالعدو يجب أن يترشح عنها الإنقطاع إلى عبادة الله تعالى، ومع هذا تضمنت خاتمة الآية التالية الإخبار عن رجاء تدارك بني إسرائيل وتوجههم بالشكر لله تعالى.
إعجاز الآية
في الآية فصل تام بين المؤمن بالكتاب السماوي وبين الكافر تمثل خارجاً بالحياة والموت، وكأن الإيمان بالنبوة هو الحياة، والكفر بها هو الموت.
وتذكر الآية آية حسية فاز بها بنو إسرائيل، وفيها دليل على تفضيلهم وتشريفهم وإكرامهم، وإخبار عن صدق نبوة موسى عليه السلام وحجة في لزوم إتباعهم له فيما جاء به من الأحكام والبشارات فاذا كان موسى عليه السلام قادهم في طريق النجاة والسلامة من عذاب بني إسرائيل فان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بعثته بالعز والرفعة ودعاهم لإتباعه لبيان أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتظهر لنا الآية تقسيماً للمعجزات بلحاظ الحاجة لها، وهي على أقسام منها:
الأول : إقامة الحجة والبرهان كما في عصا موسى وإنشقاق القمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : هداية الناس وإرشادهم إلى الحق.
الثالث : دفع المرض والشدة عن الناس كما في إبراء عيسى عليه السلام الأعمى والأبرص، وفي التنزيل حكاية عن لسانه بيان لفضل الله عليه {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ}( ) .
الرابع : السلامة من البلاء والفتنة.
الخامس : النجاة من القتل والإستئصال، ومنه آية نجاة بني إسرائيل من آل فرعون.
جاءت هذه الآية لبيان نعم متعددة في موضوع واحد، وتلك آية إعجازية وسر من أسرار إختيار اسم الجنس “نعمة” في هذه الآية للإشارة إلى كثرة النعم الإلهية على بني إسرائيل.
والنعم في هذه الآية هي:
النعمة الأولى: نعمة إظهار الأرض في قعر البحر بفرق الماء إلى قسمين، ليعبر بنو إسرائيل.
النعمة الثانية: إختصاص بني إسرائيل بهذه النعمة العظيمة.
النعمة الثالثة: الذي إنفلق ليس النهر أو الرافد بل البحر العظيم لتكون الحجة أعظم والآية أكبر، وفيه بيان عظيم قدرة الله وسلطانه.
النعمة الرابعة: أن نصر المؤمنين أعم من أن يكون بالغلبة على العدو في سوح المعارك، بل يشمل النجاة والسلامة من الأعداء، ومن الإيمان مجيء النصر في المقام بالنجاة والسلامة، وهلاك العدو، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ويمكن إستقراء قانون كلي في آيات الله وأن الآية والنعمة إذا نزلت على قوم أو أهل ملة أو جماعة فانها درس وموعظة ونفع للناس جميعاً، بما فيهم الظالمون والكافرون، فإنفلاق البحر لموسى وبني إسرائيل آية تدعو آل فرعون الذي يقتفون أثرهم ورأوا بأم عيونهم الآية أن يكفوا عن بني إسرائيل ولا يصروا على الظلم والتعدي.
وكانت هذه الآية إنذاراً وتحذيراً لآل فرعون ودعوة لهم للرجوع إلى مصر، والإقامة في بلادهم خصوصاً وأنه ليس لهم حق يطلبونه عند بني إسرائيل، وكانت آية العصا وما جاء به موسى من عند الله عليه السلام من المعجزات، ووقوع بعضها في حضرة فرعون نفسه زاجراً لآل فرعون عن تعقب بني إسرائيل إلى خارج بلاد مصر، لأن البحر كان آنذاك حاجزاً بين الإمارات والبلدان، ومن الآيات إستمرار موضوعيته في حدود وسلطان الدول والحكومات التي على جنبيه إلى يومنا هذا.
ولو نوى آل فرعون اللحاق ببني إسرائيل إيماناً وتسليماً بالمعجزات، وتصديقاً بنبوة موسى عليه السلام، ففيه وجهان:
الأول: ذات العاقبة وهي غرق آل فرعون لوجوه:
الأول: إن مدة إنفلاق البحر موقوتة ومحصورة بعبور بني إسرائيل.
الثاني: عدم إعتبار ما أستحدث في نية آل فرعون.
الثالث: أخذهم بما كانوا يسومونه لبني إسرائيل من العذاب الأليم.
الرابع: جعل الآية عبرة للظالمين.
الخامس: إحتمال تغيير النية عند الإجتماع ببني إسرائيل، وإنكار آية إنفراق البحر كمعجزة لموسى عليه السلام، وتأويلها بأمور طبيعية تتعلق بجريان الماء والمد والجزر.
الثاني: نجاة آل فرعون لوجوه:
الأول: تغير النية، وعمومات إذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
الثاني: سعة رحمة الله وإنتفاع الحاضر من النعمة، وآل فرعون شاهد على نعمة إنفلاق البحر.
الثالث: إمهال آل فرعون وإعتبار إنفلاق البحر آية أخرى وحجة عليهم.
والصحيح هو الأول لأن غرق آل فرعون عقوبة لهم لسوء فعلهم وإجتماع الكفر والظلم عندهم، وإدعاء فرعون الربوبية.
النعمة الرابعة: رؤية بني إسرائيل لهلاك آل فرعون.
ولم تقل الآية “وإذ فرقنا لكم البحر”بلام الإختصاص أوالغاية بل جاءت بحرف الباء وليس هم سبباً مادياً لإنفلاقه فقد ضربه موسى بعصاه، ومجيء حرف الباء في “فلقنا بكم” آية إعجازية من وجوه:
الأول: إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.
الثاني: فلق البحر نعمة خاصة بهم.
الثالث: بقاء البحر منفلقاً ما داموا يعبرون فيه.
الرابع: نزول السكينة عليهم بان لا يخافوا عودة الماء عليهم وهم في البحر.
الخامس: جاء فلق البحر مقدمة لعبور بني إسرائيل، قال تعالى[فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا]( ).
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (وإذ فرقنا) ولم يذكر لفظ (فرقنا) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
تعطي الآية الحجة للمسلمين على بني إسرائيل إذ توثق أعظم النعم فبقاؤهم أحياء وإستمرار التناسل والتكاثر في أجيالهم إنما هو بسبب فضل الله تعالى مما يعني لزوم مقابلته بالشكر، والتصديق بالنبوة والكتاب المنزل المقرون بالآيات.
من خصائص المسلمين التصديق بنبوة الأنبياء جميعاً، وجاء القرآن ببيان عظيم منزلتهم، وما لهم من الشأن والجاه عند الله، وجاءت هذه الآية بذكر منزلة موسى عليه السلام وان الله عز وجل واعده كي يخرج إلى الطور , قال تعالى[وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً] ( ).
والله عز وجل ليس في جهة ولا يتغير ولا يحل في مكان، وهو تعالى مع الإنسان أينما كان، ومع هذا تفضل سبحانه وواعد موسى عليه السلام لتكون هذه الدعوة حجة على بني إسرائيل، ودعوة لهم للتصديق بالنبوة، فالمعروف ان النبي ينزل عليه الوحي من عند الله.
وجاءت هذه الآية بأمر آخر وهو مواعدة الله عز وجل للنبي، وخروج النبي للموعد، وفيه تشريف لمقام النبوة، وحث للناس على التصديق بلقاء الله تعالى والإستعداد لما بعد الموت من الحياة، والحرص على إختيار الإيمان بالأنبياء والتنزيل طلباً للأمن والسلامة يوم الحساب.
مفهوم الآية
من منافع التذكير بالنعم تأكيد موضوعيتها في الوقائع وحياة الناس ولزوم مقابلتهــا بحسن الإستجابة لما يأتي به الرسل من عند الله تعالى، بالإضافة إلى قانون توثيقها في القرآن، وهو الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة.
ومن مفاهيم الآية أنها تخبر عن الجزاء العاجــل للظالمين، وبطش الله تعالى بهم في الدنيا، فما لاقاه فرعــون من الهـــلاك والزوال الســريع لملكه آية وعبرة للظالمين ووعيد لهم، وتحذير من التعدي على المسلمين.
لقد كانت النجاة بالإيمان، والهلاك بالكفر والظلم، فالآية تحذر من إجتماع الكفر والظلم، فقد يكون الســـلطان كافراً ولكنه لا يتعــرض للمؤمنين ومصالح عامة الناس، أما فرعــون فأراد إستئصال المسلمـــين، وأعلن الحرب على الإسلام فجاءه العقـــاب عاجلاً، والآية دعـــوة لبني إسرائيل إلى الإعتبـار وتوظيف نجاة الآباء في إكرام المسلمين، وعدم الكيد والمكر بالمؤمنين.
وكما أنه ليس من برزخ بين الإيمان والكفر، فان البرزخ بين الحياة والموت معدوم، وفيه مصداق وشاهد على يوم الحشر ودخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
ومن الإعجاز أن ذكرت الآية قيد [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] أي ليس لكم أن تنكروا هذه النعمة، فلا يجوز الظن بأن فرعون وقومه إختاروا الرجوع حينما رأوا الآيات، بل إنهم أصروا على الظلم فجاءهم الهلاك والغرق.
وقيل إنهم بعد هلاك فرعون كانوا لا يعقدون صفقة بيع إلا بعد الإستئذان من الزوجات، وسببه انه لما هلك فرعون وقومه تزوجت النساء العبيد، وإشترطن عليهم ان لايفعلوا شيئاً إلا بعد الإذن منهن وفيه مسائل:
الأول: زواج نسائهم بالعبيد نوع من البلاء والإنتقام الإلهي لسوء ما فعلوه بنساء المسلمين.
الثاني: أهل مصر أعم من آل فرعون، فالذين هلكوا هم فرعون وجنوده، وقيل كانوا من أصول عربية أيضاً بما فيهم فرعون.
الثالث: وجود الإستشارة أيام الإسلام وهي نابعة من إكرام الإسلام للمرأة، كما أنها في حال وجودها ليست على نحو الكبرى الكلية ، ولم ينقل التأريخ ان عقود البيع كانت تؤخر لحين مشاورة النساء، وفي التنزيل [يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ] ( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى: بيان آية فرق البحر وإنقسامه إلى شطرين، ليعبر بنو إسرائيل بسلام.
الثانية: تفضل الله تعالى بنجاة بني إسرائيل مع كثرتهم، وقلة وسائل العبور عندهم، وطلب العدو لهم.
الثالثة: غرق فرعون وجنوده في البحر، لأن الآية جاءت خاصة لبني إسرائيل، وفيه دلالة على النقمة من الكفار.
الرابعة: توكيد نعمة الإنجاء، وكونها مركبة من أمرين:
الأول: النجاة من الغرق.
الثاني: السلامة والأمن من آل فرعون.
وجاء كل فرد من فردي النعمة تاماً:
الأول: هلاك آل فرعون.
الثاني: إنعدام الطلب في أثر بني إسرائيل.
الخامسة: حضور بني إسرائيل وهلاك آل فرعون، ومشاهدتهم لغرقهم لتكون آية حسية تدل على إتصال نعم الله عليهم.
وتكرر لفظ (نجيناكم) في هذه الآية والآية السابقة , والمراد من النجاة في الآية السابقة الأمن والسلامة من آل فرعون، وفيه إشارة إلى تمادي آل فرعون في الطغيان، وقيامهم باللحوق ببني إسرائيل مع أنهم خرجوا منهزمين فارين من وطأة الظلم.
وجاءت هذه الآية للإخبار عن نجاة بني إسرائيل من الغرق في البحر، ومن آل فرعون أيضاً مع الإشارة إلى تمام نعمة النجاة بغرقهم في البحر.
وفي رؤية بني إسرائيل لغرق آل فرعون شفاء لصدورهم لما تحملوه منهم من الأذى والعذاب، وكذا بالنسبة للمسلمين، فلم تمر الأيام والليالي حتى شاهدوا أعداءهم وهم قتلى في بدر، وفيه إنذار وتحذير من محاربة الإسلام، وإيذاء المسلمين.
الآية لطف
تلازم النجاة الإيمان، فالأمة التي تصدق بالنبوة وتتبع الرسول الذي يأتي من عند الله يصاحبها النصر، وان تعرض أفرادها للأذى والضرر، وتلقى بعضهم القتل في سبيل الله، فان الخاتمة هي النصر والغلبة على الكفار والظالمين الذين يعتدون عليهم.
وجاءت الآية في تذكير بني إسرائيل بنعمة النجاة من آل فرعون وحثهم على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحذيرهم من محاربة المسلمين لأن النتيجة هي نصر المسلمين، قال تعالى[إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ]( ).
وتبين الآية قدرة الله عز وجل في رزق المسلمين آيات بينات لنجاتهم من الظلم والتعدي، وإبطال كيد ومكر عدوهم، فقد يهيئ العدو نفسه ويجمع جيشه وعدته فيرجع الله كيده إلى نحره، ويجعله ينشغل بنفسه، او يمحقه ويهلكه ومع ظلم وعتوا آل فرعون، فإن آيات الإنذار جاءتهم متوالية , قال تعالى[وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ]( ).
وفي الآية بشارة للمسلمين للنجاة من عدوهم والغلبة عليه.
إفاضات الآية
الآية بشارة حفظ الإسلام وأجيال المسلمين بقواعد الأسباب والمسببات وبالآيات العظمى، فلقد سخر الله عز وجل ما في الأرض للإنسان.
وورد في هذه الآية تسخير البحار وحصول آية فيها للمسلمين لنجاتهم وسلامة حملة مبادئ التوحيد وحفظه في الأجيال، ونقل بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرحام وعند الأبناء، فقتل الأولاد وإستحياء النساء مانع من تعاهد البشارة فجاء حفظ بني إسرائيل كمسلمين وأتباع نبي ولأنهم حملة البشارة بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه دعوة للمسلمين لشكر الله تعالى على العز وحفظ الأولاد والأزواج ودفع الظلم عنهم.
وروي أن الله عز وجل أوحى إلى موسى ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي)( )، وتذكره الكتب الحديث ولم تبين جهة الصدور لذا قال الثعلبي(يقال بدل روي)( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار النجاة ) إذ يدفع الله عز وجل عن المسلمين كيد الظـالمين، ويبطــش بالكــافرين، ويجعل المؤمنين أئمة في الأرض، وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فأنه أكرم من أن يرفعها وإذ جاءت الآية بنجاة بني إسرائيل من فرعون، فإن القرآن جاء لنجاتهم في الدنيا والآخرة، بالتصديق به والعمل بأحكامه، وإن كانت النجاة من الغرق نعمة من الله على بني إسرائيل فإن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة مستديمة عليهم وعلى الأجيال المتعاقبة من الناس إلى يوم القيامة.
الصلة بين أول وآخر الآية
من إعجاز الآية أنها مع قلة كلماتها تتضمن ذكر نعم عديدة منّ الله تعالى بها على بني إسرائيل وهي:
الأولى : نعمة فرق البحر، والفصل بين مائه، بجعله قسمين أو أكثر بين كل قسم وآخر فاصل وأرض يابسة يمشي فيها الراكب والراجل، وتلك نعمة لم ينلها إلا بنو إسرائيل، وجاءت فضلاً من الله تعالى، وحجة بالغة عليهم سواء لإنحصار نجاتهم بها إذ كان آل فرعون من خلفهم يريدون قتلهم وإبادتهم أو أنها آية جاءت عن سعة ومندوحة في الأمر للتخفيف عن بني إسرائيل في النجاة، ولابد أن موسى عليه السلام وبني إسرائيل يعلمون أن فرعون سيلحق بهم وأنهم عاجزون عن تهيئة وسائل نقل بحرية مناسبة تنجيهم من فرعون وملئه، وإذا كانوا يملكونها فإن آل فرعون يملكون أفضل وأحسن منها مما يمكنهم من إدراكهم قبل العبور أو بعده.
والجواب أن موسى لم يخرج إلا بأمر من الله، وهذا الأمر نعمة أخرى على بني إسرائيل بذاته وبما يتضمنه من البشارة بالنجاة والعبور على اليابسة في البحر , قال تعالى[ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى ] ( ).
فالنعمة والفضل الإلهي مصاحبان لبني إسرائيل من حين التبليغ بالخروج.
الثانية: جاء وصف بني إسرائيل بالآية أعلاه بلفظ(عبادي) وهو ثناء ومدح لهم، وفيه وجوه:
الأول: تصديق بني إسرائيل بموسى عليه السلام .
الثاني: إتباعهم أمره وخروجهم معه من غير خشية من فرعون وجنوده أن يلحق بهم ويبطش بهم.
الثالث: إخفاؤهم أمر الخروج، فمع كثرتهم لم يفش بعضهم نبأ الخروج ومغادرة مصر إلى فرعون وقومه فرقاً أو رياء أو طلباً للزلفى، والتخفيف من البؤس والشقاء الذي يلاقون.
الرابع: التسليم بأن موسى يأمرهم بما يوحي له الله تعالى، فيتلقون أمره بالقبول والإستجابة، وفيه موعظة ودرس للمسلمين بضرورة طاعة الله ورسوله، وحجة على بني إسرائيل في لزوم تعاهد منازل التصديق بالوحي والنبوة وإن تباين شخص النبي .
الثالثة: التخفيف عن بني إسرائيل بغرق وهلاك الكفار الظالمين لبني إسرائيل في البحر.
الرابعة: رؤية بني إسرائيل لآية هلاك آل فرعون، إذ أن رجوع ماء البحر إلى جريانه وكيفيته الأصلية آية أخرى غير آية فرقه وإنشطاره إلى قسمين.
ومن الإعجاز أن كل آية من الآيتين تترشح عنها آية أخرى مع التباين في الموضوع، وأيهما أكبر آية فرق البحر ونجاة بني إسرائيل أم آية رجوعه إلى صورته الأولى وهلاك آل فرعون، الجواب الآية الأولى هي الأكبر، ومن نعم الله على بني إسرائيل أن الله عز وجل كفل لهم عبور البحر سالمين، قال تعالى[وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ] ( ).
وجاءت الآية بتعيين موضوع فرق البحر، وجعل فرجة فيه كأمر خاص ببني إسرائيل بقوله تعالى {فَرَقْنَا بِكُمْ} ويحتمل حرف الباء في الآية وجوهاً:
الأول:التعدية والإلصاق.
الثاني:السببية، فدخول بني إسرائيل هو السبب بفرق البحر.
الثالث: الإستعانة، وكأن بني إسرائيل هم آلة فرق البحر إلى طائفتين.
الرابع:مرادفة اللام أي ( فرقنا لكم البحر) وهذا المعنى للباء لم يذكره شطر من النحويين.
وجاءت الباء دون اللام للدلالة على عدم حصول الفرق إلا عند دخول بني إسرائيل البحر وليس قبله.
وبإستثناء الوجه الثالث أعلاه، فلا تعارض بين الوجوه الأخرى، وكلها مصاديق للآية الكريمة.
وهذه الآية من الشواهد على تفضيل بني إسرائيل بقيد الإيمان، ولم ترزق أمة أو قوم هذه النعمة، نعم رزق الله تعالى المسلمين ما هو أعظم بأن نزل الملائكة لنصرتهم في معارك الإسلام الأولى ووصفتهم الآيات بصفة الإيمان ، قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، وجعلهم أعزة في بلادهم، ويفتحون البلدان ويبرمون العهود والمواثيق مع الملوك والرؤساء بما فيه قوة الإسلام وتثبيت أحكامه وسننه.
وهو من الشواهد على تفضيل المسلمين على غيرهم وانهم (خير أمة أخرجت للناس) ( )، ويحفظ المسلمون للأمم والملل الأخرى ما لها من الحقوق بإنصاف وعدل ليكون هذا الحفظ دعوة للآخرين لإنصاف المسلمين والإقرار بفضلهم وتفضيلهم.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب [فَرَقْنَا بِكُمْ] مع التباعد والتباين في أفراد الزمان الطولية بين أوان آية النجاة بفلق البحر وأهلها، وبين الذين عاصروا نزول القرآن، وفيه مسائل:
الأولى: جاءت النعمة للآباء، والخطاب تذكير للأبناء.
الثانية: تشمل هذه النعمة الأبناء بالإلحاق، فلولا نجاة الآباء من بني إسرائيل لما كان لليهود من وجود أصلاً، وهو ظاهر بلحاظ هبوطهم جميعاً إلى مصر، وإستعباد فرعون وقومه لهم، وعمله لقطع نسلهم، وعجزهم عن الهروب منه ومن قومه.
الثالثة: بيان قانون ثابت في نواميس الخلق، بإحتساب النعمة على الآباء نعمة على الأبناء أيضاً.
الرابعة: جاءت النعمة بخصوص بني إسرائيل، فكل من ينتمي إلى إسرائيل بالبنوة تشمله النعمة وان ولد لاحقاً وبعد أجيال متعاقبة من الناس، وهو ظاهر من ذكر الآيات والنعم التي جاءت لبني إسرائيل فمع أنها لم تأت لجيل واحد منهم إلا أنها وردت بلغة الخطاب إلى الموجود منهم أيام البعثة النبوية المباركة.
ولا يشمل الخطاب من أسلم منهم لأنها جاءت بصيغة اللوم والتذكير والدعوة إلى شكر الله تعالى على تلك النعم بدخول الإسلام، ومدح الذي إستجاب لأمر الله تعالى وتلقى مصاديق بشارة التوراة والإنجيل بالقبول والرضا والحرص على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع أن القرآن ذكر الأنهار وجريانها وجاء حكاية عن فرعون وزهوه وغروره في التنزيل [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( )، فإن الآية جاءت بخصوص إنفلاق البحر للدلالة على عظيم قدرة الله عز وجل، ونصرته للمؤمنين , والأشياء جميعها مستجيبة له، فاذا كان البحر ينفلق وينقاد ماؤه مع كثرته إلى أمر الله فمن باب الأولوية ان يستجيب له ماء النهر.
والآية من مصاديق نفاذ حكم الله تعالى في الحياة الدنيا، وعدم إمهال الكفار إلى حين الحساب في الآخرة، وفيها إنذار للكفار مطلقاً من التعدي والتمادي في الظلم وإيذاء المسلمين وتعذيبهم في أنفسهم وأولادهم ونسائهم.
والآية الكريمة من مصاديق حكمة الله تعالى في جعل الإنسان خليفة في الأرض، وفيها رد عملي على قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) إذ جاءت الآية بهلاك الكفار الظالمين، وسلامة المسلمين وعوائلهم ونجاتهم من العذاب بآية من عند الله تعالى خارقة للأسباب.
ويدل قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] بالدلالة الإلتزامية على رؤية ونظر الملائكة لهلاك فرعون وقومه، وكيف أن عاقبة الإفساد في الأرض الإستئصال والإجتثاث من الأرض، وكان جبرئيل حاضراً ساعة غرق فرعون للإنتقام منه، وفيه آية إضافية أخرى وهي أن قوة وعدة وكثرة جنود الظالم لم تنفعه ولم تدرأ عنه العذاب بل جاء الهلاك للتابع والمتبوع منهم لتجلي معاني الظلم وقبحه لهم جميعاً.
فيزاولون عذاب بني إسرائيل وهم يعلمون أنه ظلم وتعد فاستحقوا جميعاً العذاب لتطوى بهلاك فرعون وجنوده صفحة من صفحات الكفر المقترن بالظلم والعناد والطغيان , وليكون غرقهم سبباً لعدم بناء دولتهم من جديد وبذات المفاهيم من الجحود والظلم.
ولم تأت النجاة بخصوص موسى وهارون عليهما السلام، بل جاءت لعامة من كان معهما من بني إسرائيل، ويدل عليه قوله تعالى (فأنجيناكم) الذي يفيد الإطلاق إلا مع ورود المخصص، كما قيل مثلاً (أن شاباً من أصحاب موسى إستأذنه أن يرجع إلى أبيه وكان مع آل فرعون ليكلمه ليلحق بهم فأذن له،ولما رجع له وأخذ يكلمه عبر قوم موسى البحر، ثم أراد بعدهم قوم فرعون العبور فغرقوا في الماء، وغرق معهم هذا الشاب، وعندما سئل موسى عليه السلام قال انه إلى الجنة وان مات معهم) للتباين في النية والقصد وثباته على الإيمان، والنعم في الآية على وجوه:
النعمة الأولى: نعمة فلق البحر، وهي آية حسية في ذاتها، وأثرها , ومن الآيات أن منافعها متجددة وباقية إلى يوم القيامة، وجاءت هذه الآية لتوثيقها، والمنع من التحريف فيها موضوعاً ودلالة وأثراً.
النعمة الثانية: إنها نعمة إنحلالية تنشطر وتترشح عنها عدة نعم منها:
الأولى: عدم وقوف بني إسرائيل على سيف البحر ينتظرون العبور.
الثانية: إنتفاء الحاجة إلى مراكب وسفن للعبور.
الثالثة: عدم خشية الغرق أثناء العبور.
الرابعة: ذهاب الخوف والحزن عن بني إسرائيل من لحوق فرعون وجنوده بهم.
الخامسة: رؤية آية حسية من آيات الله لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
السادسة: فوز بني إسرائيل بمرتبة نعمة إنفلاق البحر.
السابعة: هذه النعمة مناسبة لتجديد الإيمان، والتوجه إلى الله تعالى بالشكر والثناء , قال تعالى في خطاب بني إسرائيل[ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثامنة: طرد الإفتتان بفرعون وجنوده، فقد يفتتن الإنسان بالظالم، وزينته وجنوده، فجاءت هذه الآية لجذب بني إسرائيل إلى منازل الإيمان.
النعمة الثانية: نجاة بني إسرائيل، ويدل قوله تعالى [فَأَنْجَيْنَاكُمْ] على أن نعمة الإنجاء غير نعمة فلق البحر وأن الأحكام والمسائل المستنبطة من فلق البحر أعم من أن تكون مقدمة للإنجاء، والله عز وجل قادر على أن يجعل نجاة بني إسرائيل بأسباب أخرى، و تكون تحذيراً لآل فرعون، ودعوة لهم للإيمان بنبوة موسى عليه السلام، أو الكف والإمتناع عن اللحوق ببني إسرائيل.
وجاءت كل من الآية السابقة وهذه الآية بالإخبار عن نجاة بني إسرائيل، وبينهما عموم وخصوص مطلق، وتتضمن كل منهما تعدد النعم مع تعيين وإتحاد الموضوع .
وفي قوله تعالى [فَأَنْجَيْنَاكُمْ] وجوه:
الأول: النجاة من آل فرعون.
الثاني: إنقطاع العذاب الذي كانوا يلاقون من آل فرعون.
الثالث: السلامة من تعرض الأبناء للقتل.
الرابع: ستر العرض، وحفظ النساء.
الخامس: بداية عهد جديد لبني إسرائيل يتصف بالأمن.
السادس: الآية بشارة بأن ليس أمام بني إسرائيل ظالم آخر مثل فرعون.
السابع: في الإطلاق الزماني للفظ [فَأَنْجَيْنَاكُمْ] بشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها رحمة ونجاة لبني إسرائيل وأن التصديق به وإتباعه نجاة لهم وهو الذي دلت عليه الشواهد التأريخية، إذ فاز من أسلم من بني إسرائيل بالأمن والسلامة.
وهذا المعنى لا يتعارض مع صيغة الماضي التي وردت في الآية بلحاظ أن النجاة من آل فرعون والغرق مقدمة للنجاة من الكفر والجحود بالنبوة بدخول الإسلام.
الثامن:السلامة من الإكراه على الكفر والضلالة والشرك الذي كان عليه فرعون وقومه.
التاسع:النجاة من الغرق في البحر، وبيان علة فرق البحر وأنه كان لسلامة وأمن وخلاص بني إسرائيل.
وجاءت الآية بحرف العطف الفاء {فَأَنْجَيْنَاكُمْ}لبيان حصول النجاة دفعة واحدة من غير تدريج، وتفيد الفاء التعقيب وأن الذي بعدها واقع عقب الذي قبلها بغير فصل بينهما.
لقد أراد الله تعالى إزالة الخوف من قلوب بني إسرائيل وإدخال السكينة إلى نفوسهم، والإنشغال بذكره تعالى، بعبورهم البحر، وغرق عدوهم الذي كان يذيقهم شتى وجوه العذاب.
وجاءت الآية بصيغة الجمع {فَأَنْجَيْنَاكُمْ}للإشارة إلى عدم إنحصار النجاة بموسى وهارون وأهلهما، بل شملت عموم بني إسرائيل بلحاظ الإيمان وإتباع النبي كما في قوله تعالى {أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}( ) ولإفادة معنى الإطلاق في النجاة والسلامة من الضرر والعذاب.
النعمة الثالثة: غرق القوم الذين ظلموا بني إسرائيل وهم آل فرعون، إذ أنهم لم يكتفوا بظلم بني إسرائيل وقتل أبناءهم وسبي نساءهم، بل لحقوا بهم عندما خرجوا بأمر الله تعالى .
لقد كان خروج بني إسرائيل من مصر فرصة لآل فرعون للكف عن ظلمهم بعمومات العصمة بإنتفاء المعصية، فإذا إبتعد بنو إسرائيل عن آل فرعون ينعدم موضوع ظلم آل فرعون لهم، وعندما لحقوا بهم، جاءت آية إنفلاق البحر إذ عبر بنو إسرائيل ليعتبر آل فرعون، ويروا الآية ويدركوا أنهم خرجوا بأمر الله، ويمتنعوا عن اللحاق بهم، ولكنهم أبوا إلا الإصرار على الظلم والجور، وإذا كانوا يحصرون القتل بالأبناء من بني إسرائيل، فإنهم سعوا هذه المرة للإبادة وقتل الكبار أيضاً بسبب خروجهم وهروبهم من مصر، لقد أرادوا قتل موسى وهارون عليهما السلام أيضاً، فجاء البطش الإلهي بغرقهم، ليكونوا عبرة، وفيه تحذير وإنذار من وجوه:
الوجه الأول: إنذار الظالمين من التمادي في الظلم والقتل بغير حق، فجاء غرق آل فرعون وذكرهم في القرآن لتحذير الظالمين في كل زمان، وزجرهم عن الظلم والقتل وإستحياء النساء، وإخبارهم بأن عاقبة الظلم الهلاك وزوال الملك، وفيه مسألتان :
الأولى : زوال وهلاك السلاطين الذين يظلمون المؤمنين.
الثانية : هلاك السلاطين الذين يظلمون الناس مطلقاً، سواء وقع ظلمهم على أهل الإيمان أو على الكفار.
والصحيح هو الثاني، من وجوه:
الأول:الظلم القبيح ذاتاً
الثاني: الناس عباد الله تعالى،خلقهم في أرضه وجعل لهم الحياة الدنيا دار إمتحان وإختيار.
الثالث: إن الله تعالى رحيم بالعباد في الدنيا والآخرة، ومن رحمته في الدنيا إمهال الناس، وفتح باب التوبة لهم.
الرابع: ترشح الظلم عن الهوى وغلبة النفس الغضبية , قال تعالى[بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ] ( ).
الخامس : يأتي إستحقاق العقاب لإجتماع صفات هي:
الأولى: الظلم والجور.
الثانية: الكفر والجحود.
الثالثة: نيل مراتب السلطنة والحكم، وإتخاذها وسيلة للبطش بالعباد، وإشاعة الكفر والفساد.
أما آل فرعون فاتصفوا بصفات إضافية أخرى وهي :
الأولى: الظلم والتعدي على المؤمنين.
الثانية: عدم إستثناء آل فرعون في ظلمهم أحداً من المؤمنين والمؤمنات.
الثالثة: قتل الأطفال.
الرابعة: الحرب على النبوة وتكذيب الرسول موسى عليه السلام مع مجيئه بالآيات البينات , قال تعالى[عَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( ).
الخامسة: إرادة قتل موسى عليه السلام جوراً وتعدياً وتحدياً، مع أنه لمنفعة الناس في النشأتين، وجذبهم إلى منازل الإيمان، قال تعالى[وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ]( ).
لذا جاء العقاب عاماً لآل فرعون وبما يؤدي إلى إستئصالهم وإنقراض ملكهم، فبعد أن كانوا يستحيون نساء بني إسرائيل، أصبحت نساؤهم بلا أزواج، وفيه دعوة للنساء عموماً بتحذير الآباء والأزواج من الظلم والتمادي في الجور، لأن عاقبته وخيمة عليهن أيضاً.
لقد جاء بيان ما لحق آل فرعون من الخزي والهلاك بكلمات قليلة في القرآن ليكونوا عبرة وموعظة للظالمين إلى يوم القيامة، إن حدوث الآية بخصوص سلامة المؤمنين وسوء عاقبة للظالمين زجر عن التعدي وتجاوز الحد، إذ حددت الآية على نحو التعيين سبيل وعاقبة الظلم والظالمين، لتدل بالدلالة الإلتزامية على أمور :
الأول: التحذير من التعدي على المسلمين .
الثاني: النهي عن الفساد في الأرض وإشاعة الفزع والخوف والقتل بين المسلمين.
الثالث: بعث للسكينة في قلوب المسلمين بأن الذي ظلمهم إلى زوال وهلاك.
الرابع: دعوة الناس إلى الإسلام، وجعل الظلم سبباً لحجبهم ومنعهم عن دخول الإسلام.
الوجه الثاني: تحذير بني إسرائيل من التعدي على المسلمين، وإجتناب لحوق العذاب بهم ببطش من الله تعالى، أو على أيدي المؤمنين.
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات الباهرات التي تكون حجة تدعو الناس عامة وبني إسرائيل خاصة إلى تصديقه وإتباعه، ومن الظلم المركب الجحود بنبوته ومحاربته والتعدي على من آمن به ونصره.
الوجه الثالث: كما تخبر الآية عن نجاة بني إسرائيل وغرق آل فرعون، فإنها تتضمن الإشارة إلى نجاة المسلمين من الظلم، وعدم إستمرار وقوعه عليهم، بل يرفعه الله عنهم , قال تعالى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَار}( ).
وفيه دليل على تفضيل المسلمين، ووقايتهم من الظلم الشديد.
النعمة الرابعة: العموم في طرفي النجاة والغرق، فقد أنجى الله بني إسرائيل، وأهلك جميع آل فرعون الذين خرجوا للحاق ببني إسرائيل لذا ذكر أنه لما خرج آخر من كان مع موسى من البحر، ودخل آخر من كان مع آل فرعون البحر أطبق الله عليهم الماء، فغرقوا جميعاً، ونجا موسى ومن معه.
ترى ماذا كان يفعل فرعون وجنوده ببني إسرائيل لو أدركوهم.
الجواب هو قتلهم، لذا أرسل فرعون الكتب والرسل إلى الأمصار للحث على اللحوق ببني إسرائيل والبطش بهم.
كما ورد حكاية عنه في التنزيل {إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}( )، وتجهيز الجيوش للحوق بهم مع الإخبار عن الشعور بالأذى منهم مقدمة للإنتقام من موسى عليه السلام ومن بني إسرائيل.
فجاء الأمر اللإلهي بجمع أمرين متضادين، نجاة وهلاك، وكأنه مثال لعالم الجزاء في الآخرة إذ يكون المؤمنون في الجنة والكفار في النار، وفيه درس وحرز للمسلمين بأن الله يحفظهم ويدفع عنهم الضرر والكيد ويهلك عدوهم إلى جانب لزوم شكرهم لله تعالى على نعمة العز الذي جعلهم فيها، وعدم ولاية الكفار عليهم، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد مبادئ الإسلام وأحكام الشريعة ودعوة للناس بمغادرة أرض الكفر والضلالة، قال تعالى[ يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ]( ).
فمن أسرار الخلق سعة وكبر الأرض وتعدد أمصارها وكثرة الخيرات فيها، وعجز أي دولة عن الإستيلاء على شطر منها ومنع إستدامة عبادة الله فيها.
وجعل الله المسلمين في مندوحة لا يضطرون إلى ترك بعض المناسك أو التفريط بالشعائر.
النعمة الخامسة: رؤية بني إسرائيل لآل فرعون وهم يغرقون في البحر، ولم تحصل هذه الرؤية إتفاقاً وصدفة , بل جاءت بأمر وآية من عند الله، وهو الذي تدل عليه وتؤكده هذه الآية الكريمة، ولو لم يروا غرق فرعون وجنوده لظلوا في فزع وخوف منهم، ولم يصدقوا خبر غرقهم.
فأراد الله تعالى أن ينعم على بني إسرائيل بنعمة إضافية أخرى وهي رؤيتهم كيف يغرق فرعون وجنوده، وأن يبس البحر حين عبورهم ليس من المد والجزر ولم يحدث عن أسباب طبيعية، بل هو آية من عند الله تعالى، ومعجزة خارقة أراد الله تعالى بها نجاة بني إسرائيل من الغرق ومن آل فرعون، ويترك آل فرعون فلعلهم يتوبون، أو أن المؤمن الذي يكتم إيمانه منهم يجمع له الأنصار والأعوان خصوصاً وأن آل فرعون رأوا آية إنفلاق البحر لبني إسرائيل، وفيه مسائل :
الأولى: إنذار فرعون وقومه من اللحاق ببني إسرائيل للبطش بهم .
الثانية: دعوة آل فرعون للندم والتوبة عن ظلمهم وجورهم على بني إسرائيل، فالقوم الذين ينشطر لهم ماء البحر شطرين يجب ألا يعذبوا ويقتلوا ظلماً
الثالثة: حث فرعون وقومه لدخول الإسلام، والإقرار بالتوحيد،والتصديق بنبوة موسى عليه السلام
الرابعة : دعوة آل فرعون للإمتناع عن اللحاق ببني إسرائيل وإجتناب إيذائهم .
لقد كان إنفلاق البحر لبني إسرائيل نعمة على آل فرعون، وحجة دامغة عليهم ليكون وداع موسى عليه السلام لمصر وأهلها بآية حسية لم يشهد مثلها التأريخ.
فقد وفد على فرعون بآية العصا وغادر بآية إنفلاق البحر لتكون رحمة بآل فرعون ودعوة لهم للإيمان، قال تعالى[اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى]( ).
ويحتمل إنفلاق البحر وجوهاً:
الأول: إنه جاء خاصاً بنجاة بني إسرائيل .
الثاني: معجزة إنفلاق البحر لإستدراج آل فرعون وهلاكهم في أليم.
الثالث: الأصل فيه نجاة بني إسرائيل، وجاء هلاك آل فرعون لقيامهم بالعبور خلفهم، فلو توقفوا ولم يعبروا خلف بني إسرائيل لما هلكوا غرقاً .
الرابع: آية إنفلاق البحر لنجاة بني إسرائيل وهلاك آل فرعون بعرض واحد، ليكون رحمة بالمؤمنين، وإنتقاماً وبطشاً بالكافرين.
والصحيح هو الثالث والرابع من غير تعارض بينهما، والله عز وجل يعلم ما يؤول إليه حال آل فرعون، ويدل عليه قوله تعالى {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أي أن غرقهم لم يكن إتفاقاً بل بأمر من الله تعالى.
لقد أراد آل فرعون إبادة بني إسرائيل، وإستئصال الإيمان من الأرض وقتل النبي الرسول موسى عليه السلام فهلك القوم الظالمون بمرأى ومسمع من بني إسرائيل، لتبدأ حياة جديدة لهم خالية من العذاب والقهر، وفيه دعوة لهم لإتباع موسى عليه السلام، والتصديق بالبشارات التي جاء بها، والتي تتضمن سلامتهم من القتل وإستحياء النساء.
النعمة السادسة: تعدد النعم الإلهية على بني إسرائيل مع إتحاد الزمان والمكان , وتلك آية وإعجاز ومصداق من مصاديق تفضيل بني إسرائيل، فبعد التعذيب والقتل وإستحياء النساء، ينفلق لهم البحر ليعبروا على أرض يابسة، فلم يكونوا في البر ولا في الماء، بل في حالة ليس لها مثيل، فالماء يحيط بهم كأنه جبلان من غير خوف ولا فزع منهم، ثم يهلك عدوهم الذي أذاقهم سوء العذاب برجوع الماء إلى حالته السابقة وجريانه بهدوء، فعبر بنو إسرائيل بين جبلين من الماء، وغرق آل فرعون بعودة الماء إلى حاله.
ولو تأخر آل فرعون في العبور أو الوصول إلى البحر لما إستطاع بنو إسرائيل أن يروا آية غرقهم لأنهم سيجدون السير هرباً منهم بعد العبور.
وماذا يحصل لو إختار آل فرعون التريث في العبور وإنتظار عودة الماء إلى حاله والعبور في مراكبهم، الجواب من وجوه:
الأول: يحتاج العبور إلى وقت طويل، وعدم وجود مراكب خاصة للعبور، وحتى مع وجودها فإن كثرة جيش فرعون تستلزم تعدد ذهاب وإياب المراكب في البحر , أخرج ابن عبد الحكم ن طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن الله أوحى إلى موسى: أن أسر بعبادي. وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون حلياً وثياباً. إن لنا عيداً نخرج إليه فخرج بهم موسى ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف. فذلك قول فرعون {إن هؤلاء لشرذمة قليلون} وخرج فرعون ومقدمته خمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب، فلما انتهى موسى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه، فمشى على الماء، واقتحم غيره بخيولهم فوثبوا في الماء، وخرج فرعون في طلبهم حين أصبح وبعدما طلعت الشمس ، فذلك قوله {فأتبعوهم مشرقين، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون} فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل له : اضرب بعصاك البحر. ففعل {فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم} يعني الجبل. فانفلق منه اثنا عشر طريقاً فقالوا: انا نخاف أن توحل فيه الخيل. فدعا موسى ربه فهبت عليهم الصبا فجف، فقالوا: انا نخاف أن يغرق منا ولا نشعر، فقال بعصاه فنقب الماء فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر.
وأقبل فرعون حتى انتهى إلى الموضع الذي عبر منه موسى وطرقه على حالها فقال له أدلاؤه: إن موسى قد سحر البحر حتى صار كما ترى، وهو قوله {واترك البحر رهواً} يعني كما هو . فحذ ههنا حتى نلحقهم وهو مسيرة ثلاثة أيام في البحر.
وكان فرعون يومئذ على حصان، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، ففرقوا الناس وتقدم جبريل فسار بين يدي فرعون وتبعه فرعون، وصاحت الملائكة في الناس: الحقوا الملك. حتى إذا دخل آخرهم ولم يخرج أولهم؛ التقى البحر عليهم فغرقوا . فسمع بنو إسرائيل وجبة البحر حين التقى فقالوا: ما هذا؟ قال موسى: غرق فرعون وأصحابه. فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل)( ).
الثاني: ليس كل الخيل قادرة على عبور البحر، وقد ذكر أن فرعون إتبع موسى وقومه بألف ألف حصان أي مليون حصان وهو عدد عظيم ويحتاج عبوره إلى جهد ومشقة وصبر من الجنود، كما يتعرض بعضهم للغرق والهلاك ولم يأت بأناث الخيل لعدم قدرتها على العبور .
الثالث : سرعة عبور بني إسرائيل ليبس أرض البحر الأحمر.
الرابع : لقد شاء الله أن ينتقم من آل فرعون بعبورهم البحر، وقيل لما إنتهى فرعون إلى ساحل البحر هاب دخول الماء، فإستدرجه جبرئيل بفرسه كما سيأتي بيانه( ).
النعمة السابعة : نجاة بني إسرائيل بالعبور السريع، والإبتعاد عن سلطان وسطوة فرعون، لذا تضمنت الآية الكريمة تعلق نجاة بني إسرائيل بفلق البحر لهم بقوله تعالى {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}فجاءت نجاة بني إسرائيل أولاً ثم غرق آل فرعون، وإختلف النحويون في إفادة الواو الترتيب وبه قال الفراء، أو أنها لا تفيد الترتيب ولا المعية، وبه قال أكثر النحويين.
وقد أسسنا قاعدة جديدة في المقام وهي التفصيل بلحاظ القرائن.
وجاءت الآية في المقام لإفادة الترتيب وبما يؤكد آية أعجازية، ونعمة أخرى على بني إسرائيل، أي سواء غرق آل فرعون أو لم يغرقوا، هموا بالعبور أو لم يهموا فإن بني إسرائيل نجوا منهم، وتخلصوا من ظلمهم وعذابهم، وإن كان الله عز وجل يعلم غرق آل فرعون، ولكنه سبحانه بيّن عظيم فضله على بني إسرائيل، وسلامتهم ونجاتهم بالعبور.
وإبتدأت الآية بشطر ماء البحر إلى قسمين متراصين ومتصافين ، وأختتمت الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] وفيه وجوه:
الأول: ينظر بنو إسرائيل إلى ماء البحر كيف إنشق وإنقسم قسمين ليعبر بنو إسرائيل.
الثاني: ينظرون إلى أرض يابسة في قعر البحر، إذ فازوا ورأوا تلك البقعة التي لم تطلع عليها الشمس إلا في تلك الساعة بمعجزة من الله عز وجل، ليكون هذا المنظر المترشح عن المعجزة جزاء عاجلاً لهم لصبرهم في ذات الله، ولم ير أحد غيرهم أرضاً يابسة يحيط بها الماء من الجانبين كالجبلين، وهو من وجوه تفضيل بني إسرائيل.
الثالث: يشاهد بنو إسرائيل هلاك عدو الله وعدوهم.
الرابع: يتدبرون في عودة البحر إلى جريانه وحالته.
الخامس: ينظر بعضهم إلى بعض بعين السلامة والأمن والغبطة.
السادس: ينظرون إلى معجزات موسى عليه السلام الحسية.
السابع: يبصر بنو إسرائيل الآيات مجتمعة ومتفرقة وإنفلاق ماء البحر وعبورهم على أرض يابسة مع ضعف وقلة ما عندهم من أسباب العبور ووسائط النقل والمؤون، وهلاك عدوهم.
الثامن: ينظر بنو إسرائيل إلى فرعون الذي كان يقول{ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى}( )،كيف أنه هلك في البحر في نفس الوقت الذي نجا فيه موسى عليه السلام وبنو إسرائيل .
التاسع: ينظرون إلى طريقهم وحالهم والغاية والمقام الذين يقصدون بعيداً عن الظلم والجور.
التفسير الذاتي
لما جاء قبل ثلاث آيات الأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة الله عز وجل عليهم جاءت الآية السابقة بذكر نجاة بني إسرائيل وأهليهم من العذاب الذي كانوا يتلقونه من فرعون وآل فرعون والذي لم ينحصر بالرجال من بني إسرائيل بل يشمل الأبناء ذكوراً وأناثاً والنساء، تضمنت هذه الآية بالأمر بأن يذكر بنو إسرائيل نعماً أخرى تفضل الله عز وجل بها عليهم وهي:
الأولى: شطر البحر شطرين، وعبور بني إسرائيل في البحر.
الثانية: مع إنفلاق البحر تبقى الأرض تحته وحلاً، ومن نعمة الله عز وجل يبس الأرض تحت أقدام بني إسرائيل لتيسير عبورهم، وعدم شعورهم بالأذى وإرباكهم أو تخلف بعضهم، قال تعالى في خطاب لموسى عليه السلام [أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا]( ).
الثالثة: نجاة بني إسرائيل بقوله تعالى [فَأَنْجَيْنَاكُمْ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وتحتمل مصاديق النجاة في المقام وجوهاً:
الأول: النجاة من آل فرعون وعداوتهم، كما تدل عليه الآية السابقة [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ].
الثاني: النجاة من الغرق والهلاك في البحر.
الثالث: النجاة من وقوعهم في يد فرعون وجنوده، إذ أنه تبعهم لينتقم منهم، فاذا كانوا يعانون من سوء العذاب عند فرعون، فحينما هربوا يشتد عليهم العذاب ويقوم آل فرعون بقتلهم لذا جمع فرعون الجيوش وخرج في طلبهم مع جنوده وهو في حال غضب كما ورد في التنزيل حكاية عن لسانه في ندبه للجنود من مدن مصر [وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ]( ).
الرابع: النجاة من العذاب وحال الذل، قال تعالى [وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ] ( ).
الرابعة : إغراق آل فرعون، وما فيه من شفاء الصدور بني إسرائيل للعذاب الذي أنزله بهم.
الخامسة: رؤية بني إسرائيل لآية هلاك وغرق فرعون وجنوده، بحيث لا يحصل عندهم شك به وجاء القرآن لتوثيقه من السماء إلى يوم القيامة.
ولم يرد لفظ(فرقنا) في القرآن إلا في هذه الآية، ولم تحصل آية فرق البحر إلا لبني إسرائيل ومرة واحدة، وهو من مصاديق تفضيلهم على أهل زمانهم في قوله تعالى [وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ويتصل تفضيلهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم للإسلام لأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وورد ذكر آية إنفلاق البحر بقوله تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الخطاب لبني إسرائيل الموجودين أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن آية الإنفلاق حدثت أيام موسى عليه السلام.
لقد إجتمعت أربعة من النعم في آن واحد، وواقعة متحدة، وجاءت نجاة بني إسرائيل متعقبة لفرق البحر وليس لهلاك آل فرعون، فلم تقل الآية (وإذ فرقنا بكم البحر واغرقنا آل فرعون فانجيناكم) ولكنها ذكرت نجاة بني إسرائيل عقب فرق البحر، لبيان نكتة في المقام وهي أن آل فرعون لا يستطيعون عبور البحر بالمراكب وإدراك بني إسرائيل، فحال فرق البحر ببني إسرائيل تحققت نجاتهم.
والظاهر أن فرعون وجنوده لايستطيعون عبور البحر وهو البحر الأحمر والذي كان يسمى بحر القلزم كما تقدم، سواء أنهم لم يأتوا بالمراكب الكافية لعبورهم أو ليس من مراكب تسع جيشهم العرمرم، ولم يكن فرق البحر يتسع لغير بني إسرائيل لأنه آية إعجازية خاصة بهم بدليل تقييد الفرق بهم خاصة [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ].
وفي الآية إنذار للظالمين الذين يعتدون على المؤمنين ويعذبونهم بأن بطش الله عز وجل شديد.
وكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجاة لليهود في المدينة إذ كان الأوس والخزرج يؤذونهم، فكانوا يتطلعون لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويستنصرون به، قال تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
من غايات الآية
تبين الآية فضل الله تعالى على بني إسرائيل، وعدم إنحصار أسباب نجاتهم في واقعة معينة، وفيه توكيد لقاعدة كلية وهي ملازمة النجاة للمسلمين، وفي كل مرة يهم العدو بالإعتداء عليهم تأتي النجاة والسلامة والأمن للمسلمين من عند الله عز وجل.
ومن الآيات أن سبل نجاة المسلمين لا تختص بقوانين السببية والعلة والمعلول، بل تأتي أيضاً بآية إعجازية كما في هذه الآية الكريمة , وفي الآية مسائل:
الأولى: تذكير اليهود بنعم الله عز وجل على آبائهم وعليهم.
الثانية: منع التحريف والتبديل في التأريخ والوقائع والحوادث التي جرت لأهل الكتاب، ليكون القرآن كاشفاً للتحريف في الكتب السابقة، ومانعاً من التحريف في الوقائع , قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، ومن وجوه الحسن في قصص القرآن أنها توثق الوقائع التأريخية وتخبر عنها.
الثالثة: الآية من الشواهد على تفضيل بني إسرائيل بأن جاءت ببيان النعم الإلهية عليهم.
الرابعة: لزوم شكر بني إسرائيل لله عز وجل بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
الخامسة: بيان حقيقة وهي أن حكم الظالمين يزول بآية من عند الله.
السادسة: لم يأت الغرق لفرعون وحده بل جاء لأعوانه وجنوده لإصرارهم على البطش بالرسول وأصحابه وفيه زجر لكفار قريش والذين ظلموا من التعدي على المسلمين.
السابعة: تدل الآية في مفهومها على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الكفار، والشواهد عليها سابقة لنزول الآية ومتأخرة عنها , قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ]
في الآية الكريمة بيان وتذكير بنعمة أخرى أنعم الله عز وجل بها على بني إسرائيل لا على سبيل الحصر بل من باب المثال، نعم إنه من المثال الأمثل إذ جاء الإنجاء من الهلكة والقتل الجماعي.
وجاءت الآية بحرف الباء [ بِكُمْ ] لبيان عظيم فضل الله على موسى عليه السلام وما له من المنزلة عند الله، فصاروا سبباً لإنشطار ماء البحر إلى شطرين لتخرج اليابسة من تحت الماء مرة واحدة بآية اعجازية.
وهل في الآية إخبار عن جفاف بعض الأنهار ونقص ماء البحار في الأزمنة اللاحقة , الجواب نعم، فقد تنكشف أرض جديدة من تحت الماء بالقصد والعمران والري، أو بنقص المياه، أو تكون جسور وأنفاق في البحار، كما حصل في هذا الزمان.
مما يملي على الناس الشكر لله على النعم، والتدبر للنجاة والسلامة وإجتناب الظلم والطغيان.
لقد إنتفع بنو إسرائيل من الآيات التي جـاء بها موسى عليه السلام، أما الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد إنتفع منها الناس جميعاً ولا تــزال تلقي كنوزها على المسلمين، وتبعث ضياءها للناس عامة، ومنها بيان ما لاقاه الأنبياء وأتباعهم وإتخاذ قصصهم عبرة وموعظة.
وورد عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر فسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً، فاتبعــهم فرعـون في جيوشه، وذكر ان موســى كان في سـتمائة ألف وعشرين ألفاً، فلما عاينهم فرعون قال كما ورد في التنزيل[إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ]( ).
(وقال ابن أبي شيبة وقول كان في ستمائة الف هو من الإسرائيليات)، وقد جاء ذلك في سفر العدد.
لقد وصل يعقوب النبي إلى مصر مع أولاده وأحفاده وعددهم سبعون نفراً، وليس بينه وبين موسى إلا أربعة بطون على قوله مشهور، لأن موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، ومع هذا فاذا ورد التنزيل الخالي من التحريف أوالنص الصحيح السند بهذا العدد، فالتصديق أولى وهو غير مستبعد عقلاً وشرعاً خصوصاً مع الإلتفات إلى مسألة تعدد الزوجات وقد تزوج يعقوب من الأختين وولد له منهما، وقامت كل واحدة منهما بادخاله على أمتها لينجب منهما أيضاً.
وقد تكون البطون بين لاوي وموسى أكثر من أربعة، بالإضافة إلى طول الأعمار آنذاك وقيل بين إبراهيم وموسى خمسمائة عام.
ويمكن ان تكون إقامة بني إسرائيل متأخرة عن زمان يعقوب وان أولاد يعقوب رجعوا إلى الشام ويدل عليه قوله تعالى [اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]( )، لأن الهبوط وسكن مصر كان أيام موسى عليه السلام.
وتبين سورة يوسف عليه السلام حال نقص الغذاء عند آل يعقوب وهو دليل وسبب لعدم الميل إلى كثرة النسل والأولاد لكنه لم يستمر طويلاً، إذ أنعم الله عز وجل عليهم بوزارة يوسف عليه السلام في مصر وإلتحاقهم به، ثم أن القحط لم يستمر طويلاً، قال تعالى [ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ] ( ).
وموضوع الآية هو هلاك فرعون وجنوده، ولا يتوقف إستعدادهم للحرب وكثرة عددهم على عدد بني إسرائيل بل يجذبون الجنود والأفواج الكثيرة لوجوه:
الأول: كثرة جنود فرعون.
الثاني: قوة سلطان وحكم فرعون.
الثالث: خضوع أرض مصر لحكم فرعون.
الرابع: خبر ة آل فرعون في القتال والحرب.
الخامس: خشية فرعون وجنوده من المعجزات التي يأتي بها موسى عليه السلام فبدل الإيمان والإعتبار فانهم يحاولون مواجهة الآيات بكثرة الجنود والعتاد فجاءهم الهلاك جميعاً، وفيه تنبيه للناس بعدم الركون للظالم، والقتال تحت لوائه لكثرة أعوانه وأنصاره وقوة شوكة رجاله وسعة ملكه، فان الله تعالى ينتقم من الظالم وجنوده بآية منه تعالى ويأتيهم الهلاك من حيث لا يعلمون.
وعن ابن عباس: سرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فاذا هم برهّج( )، دواب فرعون، فقالوا يا موسى أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا، هذا البحر أمامنا وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه، فقال موسى عليه السلام[عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( )، فقال يوشع بن نون بم أمرت، قال: أمرت ان أضرب بعصاي البحر. قال: أضرب، وكان الله تعالى أوحى إلى البحر أن أطع موسى إذا ضربك.
قال: فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري في أي جوانبه يضربه، فضرب بعصاه البحر فانفلق وظهر إثنا عشر طريقاً، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه فقالوا: إنا لا نسلك طريقاً ندياً، فأرسل الله ريح الصبا حتى جففت الطريق، كما قال تعالى [ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا] ( ).
فلما أخــذوا في الطريق قال بعضــهم لبعض ما لنــا لا نــرى أصـحابنا، فقالوا لموسى أين اصحابنا؟ فقال في طريق مثل طريقكم، فقالوا لا نرضـى حتى نراهم , فقال عليه السلام: اللهم أعني على اخلاقهم السيئة، فأوحى الله تعالى اليه ان قل بعصــاتك هكذا وهكذا يميناً وشمالاً فأشار بعصاه يميناً وشمالاً، فظهر كالكُــري ينظر منها بعضهم إلى بعض.
فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر وكان على فرس حصان أدهم فهاب دخول الماء فمثل له جبريل على فرس أنثى وديق وتقحم البحر فلما رآها الحصان تقحم خلفها ثم تقحم قوم فرعون، فلما خرج آخر من كان مع موسى من البحر ودخل آخر جنود فرعون الماء فغرقوا جميعاً ونجا موسى ومن معه)( ).
وحكي انه لما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم الحقوا آخركم بأولكم، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله الماء حتى نزل عليهم)( ).
وروي ان فرعون لما بلغه خروج موسى ببني إسرائيل دعا عند الصبح بشاة فذبحت وقال: لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع اليّ ستمائة ألف من القبط.
وقال قتادة إجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس كل واحد منهم على فرس حصـان فتبعوهم نهاراً، وهو قوله تعالى [ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ]( ).
وفي هذه الأخبار دليل على دقة التنظيم، وكثرة الرجال عند فرعون وانه يتعذر على بني إسرائيل محاربتهم أو مواجهتهم خصوصاً وأنهم حرصوا على أن يبقى بنو إسرائيل مستضعفين عزلاً من السلاح، وان إستطاعوا فيما بعد النجاة من آل فرعون وتنظيم صفوفهم وزيادة عددهم ومواجهة الظالمين كما في إنتصار طالوت وأصحابه على الجبارين، وبناء دولة داود وسليمان عليهما السلام.
وستبقى نجاة بني إسرائيل آية عند المليين تؤكد قرب رحمة الله تعالى من المؤمنين وفضله في ديمومة كلمة التوحيد في الأرض بحفظهم والذب عنهم بالأسباب والآيات.
لقد أكد المفسرون من قبل على بيان موضوع القصة والواقعة التي تضمنتها هذه الآية وهو توكيد لطيف يبين ما فيها من دلالات، وفي الآية إشارة إلى حفظ الله عز وجل للإسلام وتعاهده لأحكامه والحصانة الملكوتية لإستدامة الإيمان وحفظ الأمة المؤمنة إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
إنها تحذير من معاداة الإسلام وإخبار بان الله عز وجل سيهلك أعداء خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، وفعلاً فإن الوقائع التي تتعلق ببني إسرائيل التي أعقبت هذه الآيات كانت مصداقاً عملياً للآية الكريمة كما في غزوة بني قريظة في سنة خمس من الهجرة النبوية الشريفة، وبنو قريظة طائفة من اليهود حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين ليلة.
وقام كعب بن أسد وهو كبيرهم بدعوتهم إلى الاسلام بقوله لهم: (نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وانه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، فقالوا له: لا نفارق حكم التوراة أبداً)( ).
وقد ورد إنفلاق ماء البحر وإنفصاله على نحو التفصيل بقوله تعالى [فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] ( )، لتوكيد عظيم الآية ساعتها وشد الأبصار والأذهان لها حيث يتعذر تفسيرها بالأسباب، وتجعل هذه الآية الحسية الباهرة كل فرد من بني إسرائيل يدرك أنها إعجاز وآية لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
وهذه الآيات القرآنية مدرســة وموعظة لما فيهــا من الوعيـد والإنذار، فبعـــد تلك الآيــة وإغراق آل فرعون أورث الله بني إسرائيل أرضهم وأموالهم، وعندما أعرض بنو إسرائيل عن الدعوة إلى الإسلام أورث الله عز وجـل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أرضهم وديارهم فقسمت خيبر، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسـلم لأنه لم يوجــف عليها بخــيل ولا ركاب.
بحث بلاغي
لقد جعل العرب للتخفيف والتشديد موضوعية في الدلالة في الجملة، فمثلاً يقال فرق بالتخفيف ويراد به في المعاني لأنها رقيقة ولطيفة، ويأتي التشديد أما التشديد(فرّق) فيستعمل في الأجسام الكثيفة، بلحاظ أن كثرة الحروف تدل على كثرة المباني بكثرة أو زيادة أو شدة المعنى .
وأشكل أحد علماء البلاغة بأنه وقع في كتاب الله تعالى بهذه الآية، بأنه خفف في البحر وهو جسم، وقوله تعالى[فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]( )، وجاء على القاعدة قوله تعالى[وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]( )، ويجاب على إشكاله: أن التخفيف في البحر راجع لوجوه:
الأول: تقديم قاعدة لها الحكومة والأولوية في المقام وهي عظيم قدر ة الله.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن البحر واحد، وماؤه متحد وليس هناك فصل بين أجزاء ماء البحر وكأن الفرق حصل في ذات بسيطة واحدة.
الثالث: الإشارة إلى عدم إستدامة التفريق، ولو قالت الآية فرقنا لظن وجود تباين بين الماءين.
الرابع: بقاء صدق البحر مع إنقسامه إلى قسمين على إسمه ومسماه، أما التشديد في قوله تعالى(وأن يتفرق) ففيه وجوه:
الأول: مجيء الفعل من العباد.
الثاني: الأصل هو عدم الإتحاد والنكاح تم بعقد، فيفرق بينهما بإيقاع الطلاق.
الثالث: إرادة الإتحاد والتعدد في الطلاق.
قوله تعالى[فَأَنْجَيْنَاكُمْ]
ذكرت الآية نجاة بني إسرائيل مطلقاً من غير تعيين لمتعلق وموضوع النجاة، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد نجاة بني إسرائيل التي ذكرتها الآية السابقة ومضامينها وهي:
الأول: تلقي بني إسرائيل العذاب الشديد من آل فرعون.
الثاني: ذبح آل فرعون لأولاد بني إسرائيل، وليس من شئ أشد على الإنسان من ذبح ولده الرضيع بغير حق.
الثالث: إستحياء النساء، وإلحاق الذلة ببني إسرائيل.
الثانية: إرادة النجاة من الغرق في البحر.
الثالثة: النجاة من إدراك آل فرعون لبي إسرائيل عند سيف البحر، وعجزهم عن العبور.
الرابعة: قتل وإبادة آل فرعون لبني إسرائيل عند اللحاق بهم في الطريق إلى البحر.
الخامسة: النجاة من آل فرعون وعبورهم البحر خلف بني إسرائيل وإدراكهم في صحراء سيناء، إذ تدل الآية على عزم فرعون وجنوده العبور خلفهم، وإقتفاء أثرهم إلى حين القبض عليهم.
السادسة: النجاة من البقاء في مصر، وأنواع العذاب والآذى الذي كانوا يلاقونه من فرعون وجنوده.
السابعة : سلامة ونجاة موسى وهارون عليهما السلام من فرعون وبطشه.
الثامنة: النجاة من الشرك والضلالة والتخلف والتقصير في أداء العبادات تحت وطأة العذاب والإكراه الذي يقوم به آل فرعون.
التاسعة: النجاة من الخوف والهم الذي يتفرع عن ظلم آل فرعون لهم، وقال الله عز وجل في موسى [وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ] ( )، وقد تفضل الله عز وجل ونجّا نوحاً من الغرق، بأن ركب والذين آمنوا معه في السفينة , قال تعالى[فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ]( )، وتفضل ونجّا موسى وبني إسرائيل بفلق البحر وعبورهم إلى اليابسة، وتفضل ونجا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته بالهجرة وبناء دولة إسلامية قوية عجز الكفار عن إلحاق الأذى بها إلى أن جاء الفتح واصبح ذات الكفار الذين أخرجوه وقاتلوه مسلمين، ويقاتلون تحت لوائه، وفيه شاهد على أن الإسلام دين الرحمة والأمن , وبشارة إنتشاره بالحكمة والموعظة الحسنة والسلامة من الآفات الأرضية والسماوية العامة وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قوله تعالى [وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ]
لقد كان هلاك آل فرعون حجة لموسى وبني إسرائيل، والتذكير به من عند الله دعوة للمسارعة بدخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكما كانت نجاتهم بالإيمان وإتباع موسى، فهي اليوم تنحصر بإتباعهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الاسلام.
لقد نال بنو إسرائيل تلك المعجزة بالايمان بالرسالة السماوية، أي أن مدارها الإيمان والهداية وأنها ستكون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا به.
لقد جاءت الآيات بذكر غرق آل فرعون ونعتتهم بالكافرين قال تعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا] ( ) وفيه تحذير من تكذيب الآيات والهلاك بالإغراق كوجه وصيغة من صيغ الإستئصال والعذاب الإلهي للكافرين، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا]( ).
ويمكن معرفة عظم ودلالات الآية بلحاظ سلطان آل فرعون آنذاك وقوة ملك مصر وظن فرعون بأنه لا يقهر، والأسباب والشواهد أمامه تدل على سعة ملكهوعدم وجود عدو له ينافسه، فبغى في الأرض وأدعى الربوبية ولم يطق سماع الدعوة إلى الله التي لابد وان تكون موجودة في كل زمان وتنبت بين ثنايا الكفر وفي منتديات السلطان والطواغيت، فإستكبر وبغى وأراد أن يهلك الحرث والنسل، ويقطع نسل الموحدين، وأبى الله إلا أن تبقى مناهج النبوة غضة طرية، ويتوارثها المسلمون فجاء العذاب لآل فرعون من حيث لا يتوقعون.
قوله تعالى [ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]
وقع إغراق آل فرعون، وبنو إسرائيل ينظرون إليه كآية حاضرة، وهي نعمة، ولكن التذكير بها هنا يحمل أيضاً عنوان الحجة والموعظة ويدل على أنها نعمة ذات شعبتين دنيوية ودينية، فهي تدل على نجاتهم من عدوهم، وزوال الخوف منهم لينقطعوا إلى العبادة ولكنها لا تدل على وراثتهم لأرضهم كما ذهب إليه بعض كبار المفسرين.
وقال الزجّاج : معناه وأنتم بمنظر ومشهد منهم حتى لو نظرتم اليهم لأمكنكم ذلك ) ،وظاهر الآية لايستلزم الواسطة إذ تخبر عن حصول النظر والرؤية.
لذا قال الطبرسي: “وتظاهرت أقوال المفسرين على ان اصحاب موسى عليه السلام رأوا إنفراق البحر والتطام أمواجه بآل فرعون حتى غرقوا” ( )، ويترشح هذا المعنى من منطوق الآية، وما فيها من الدلالة التي يفهمها القارئ والسامع لقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ].
وفي الآية بيان لحضور المعجزة وعدم تخلفها أو تأخر زمانها وان الهلاك قد يصيب أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أية ساعة وبمشهد من المسلمين.
لقد حدثت معجزة إغراق آل فرعون بمرآى من بني إسرائيل لتكون دعوة للتصــديق بموسى عليه السلام والتسليم له، وتكذيب فرعون وعدم الإنقياد لأهوائه، كذلك فإن الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لهم لدخول الإسلام، وترك كبرائهم الذين ينهونهم ويمنعونهم عن الإسلام والنطق بالشهادتين.
ويحتمل الخطاب في قوله تعالى(وأنتم تنظرون) وجوهاً:
الأول: إرادة بني إسرائيل من قوم موسى عليه السلام الذين عبروا البحر الأحمر، ولما وصل فرعون (إلى البحر فرآه منغلقاً، قال لقومه: إنظروا إلى البحر انفلق لهيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا وأقتلهم، أدخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه ولم يكن في خيل فرعون أنثى، وإنما كانت كلها ذكور، فجاء جبرائيل على فرس أنثى وديق فتقدّمهم فخاض البحر،
فلما شمّت الخيول ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم في البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويقول لهم : إلحقوا بأصحابكم، حتى إذا خرج جبرائيل من البحر وهمَّ أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى البحر أن يأخذهم والتطم عليهم فأغرقهم أجمعين؛ وذلك بمرأى من بني إسرائيل)( ) .
الثاني: إرادة بني إسرائيل الذين كانوا في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القدر المتيقن من الخطاب.
الثالث: المقصود الفرد الجامع من الذين رأوا غرق آل فرعون رأي العين وهم بنو إسرائيل الذيم كانوا مع موسى عليه السلام، والذين عاصروا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذراريهم ممن بقي على ملتهم.
والصحيح هو الأخير، ولا يشمل الخطاب الذين دخلوا الإسلام منهم لأنهم أقروا بالنعم، وجعلوها بلغة لتلقي نزول القرآن بالتصديق وأوامره بالإمتثال، ونواهيه بالإنزجار ترى ما هي كيفية نظر المخاطبين بالآية من بني إسرائيل لآل فرعون وهم يغرقون، مع تقدم زمان وواقعة الغرق أحقاب عديدة، الجواب من وجوه:
الأول: إرادة نظر الآباء لغرق آل فرعون، وإختصاص النعمة ببني إسرائيل، فيتبعهم في الحكم اللاحق من أجيالهم.
الثاني: توارث بني إسرائيل ذكر الآية والمعجزة بنجاتهم وغرق آل فرعون، فهي جزء من تراثهم وخزائن تفضيلهم على أهل زمانهم.
الثالث: تضمن آية البحث وآيات أخرى لقصة غرق فرعون وجنوده، فصار المسلمون وغيرهم كأنهم ينظرون إلى غرقهم، قال تعالى في ذم فرعون وبيان دفاع الله عز وجل عن بني إسرائيل[فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا]( ).
الرابع: جاء قوله تعالى(وأنتم تنظرون) بصيغة المضارع وتقديره على وجوه:
الأول: وأنتم تنظرون غرق آل فرعون.
الثاني: وأنتم تنظرون توالي نعم الله عز وجل عليكم.
الثالث: تنظرون تفضيل الله عز وجل لكم على العالمين.
الرابع: وأنتم تنظرون نزول آيات القرآن علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تنظرون تصديق القرآن لما في التوراة والإنجيل.
السادس: تنظرون جحود فريق منكم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن مع توالي المعجزات الباهرات على صدق نبوته، قال تعالى[وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ]( ).
السابع: بعد أن نجاكم الله من آل فرعون صرتم تنظرون دخول الناس في الإسلام جماعات وقبائل، قال [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
الثامن: وأنتم تنظرون هلاك الذين يكفرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي قريش وغيرهم، قال تعالى بخصوص معركة أحد وأيام سطوع شمس الإسلام على ربوع الجزيرة.
قوله تعالى [وَإِذْ وَاعدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ]الآية 51.
القراءة والإعراب
وإذ: عطف على وإذ من الآية السابقة، واعدنا: فعل ماض، والضمير (نا) فاعل، ويعود لله عز وجل.
موسى: مفعول به أول.
أربعين: مفعول به ثان منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، ليلة: تمييز منصوب.
ثم: حرف عطف للترتيب والتراخي، إتخذتم: فعل ماض، وفاعل، العجل: مفعول به أول، والمفعول به الثاني محذوف وهو ظاهر من سياق الآية، والتقدير إتخذتم العجل معبوداً أو إتخذتم العجل فتنة .
وأنتم: الواو حالية، أنتم: مبتدأ، ظالمون: خبره.
(قرأ أبو عمرو ويعقوب وعدنا بغير ألف) ( )، وقالا بأن المواعدة نوع مفاعلة لا تتم إلا بين إثنين، وذهب بعضهم إلى أنها لا تتم إلا بين البشر ولا دليل عليه خاصة وأن موسى كليم الله إلا أن يخرج من القاعدة لندرته وشرف المواعدة , أو أنهم أرادوا عالم المخلوقات الأرضية، والوعد هنا ما جاء في قوله تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ] ( ).
ومنهم من أدغم الذال في التاء من إتخذتم بإعتبار أن الذال قريب من مخرج التاء والأقرب أنهما متباينان وقرأ ابن كثير وخصص(أتخذتم) بإظهار الذال( ).
وموسى عليه السلام أحد الأنبياء الخمسة أولي العزم، وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وقيل بين ابراهيم وموسى عليهما السلام خمسمائة عام، كما تقدم ذكره في الآية السابقة وبين موسى ويوسف عليهما السلام حوالي أربعمائة سنة ولا بد أن عدداً من آباء موسى لم يذكروا، وإلا فان جده الثالث هو لاوي وهو أخو يوسف، وإبراهيم هو الجد الثاني ليوسف فكيف يكون الفرق بين موسى ويوسف أربعمائة عام، وبين يوسف وإبراهيم مائة عام.
وفي تسميته موسى وجوه:
الأول : لأنه التقط من بين الماء والشجر، والماء بلغة القبط اسمه مو ، والشجر سا، فركبا وجعلا إسماً لموسى.
الثاني : إن الاسم مشتق من اوسيت الشجرة اذا اخذ ما عليها من الورق كأنه سمي به لصلعه.
الثالث : أخذت من ماس يميس إذا تبختر في مشيته، وكان موسى عليه السلام عــزيزاً في مشيته بما أنعم الله عليه ولعـمومات قوله تعالى [ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابع : وردت أقوال عديدة من اللغويين تفيد أن الاسم عربي ومنها :
الأول : قال الليث إشتقاقه من الماء والساج، فالمو ماء، وسّا شجر لحال التابوت في الماء) ( )، أي التابوت الذي وجد فيه موسى لقوله تعالى خطابا لأم موسى[أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ]( ).
الثاني : قال ابن منظور : موسى اسم النبي صلوات الله على محمد نبينا وعليه وسلم وعليه ، عربي معرب.
الثالث : سئل أبو العباس عن موسى وصرفه، فقال: إِن جعلته فُعْلى لم تَصْرفه وإِن جعلته مُفْعَلاً من أَوْسَيْتَه صرفته)( ).
وظاهر الوجهين الثاني والثالث أن التسمية في الأصل عربية، وإن كان الصلع يأتي الإنسان متأخراً في الغالب، ولا تعارض بينهما وبين النصـوص التي تدل على تذلل موسى عليه السلام لله عز وجل , والتواضع والخشوع ظاهر في سيرة الأنبياء جميعاً.
والوجه الأول ممكن وهو معروف في قصة موسى عليه السلام وأن أمه لما خافت عليه من فرعون وجنوده وضعته في تابوت ثم ألقت التابوت في البحر فدفعه الموج حتى دخل بين أشجار بيت فرعون، فقامت جواري آسيا امرأة فرعون اللائي خرجن ليغتسلن بالمكان بأخذه، روي عن السُدي.
والعجل – بالكسر – معروف وهو ولد البقرة، والعَجَل – بالفتح – الإسراع خلاف البطء، وقيل أن العجل بلغة حميّر هو الطين ويتعلق هذا المعنى بقوله تعالى [ خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ… ]( ).
وفي الآية ورد عن ابن عباس: أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام، وأنه لما بلغ الروح صدره أراد أن يقوم( ).
في سياق الآيات
قد تقدم ذكر نعمة النجاة من آل فرعون بآية ظاهرة، لولاها لكان هلاك بني إسرائيل أمراً حتمياً لقوة وبطش فرعون وسهولة إدراكه لهم.
وهذه هي النعمة الثالثة التي جاء ذكرها والتذكير بها بعد حث بني إسرائيل على العبادة والصلاح والإستعداد ليوم القيامة بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على الملازمة بين النعم الإلية النازلة والعبادة كقوس صعود ، والإشارة إلى أن شكرها لا يتجســد إلا بالعبادة، كما تبين وتحذر من سوء الرد أيام تلقي النعم.
وهذه هي الآية الثالثة على التوالي التي تبدأ بــ(إذ) وهو ظرف لما مضى من الزمان والوقائع , تقول: إذ كان كذا: فهو أعم من الوقت والزمان إلا أن يكون المرادمن الزمان الوعاء للوقائع المنصرمة .
وإذ من حروف الجزاء، ولا يجازى به إلا أن تزاد(ما) معه تقول: إذ ما تشهد الهلال فصم، قال العباس بن مرداس يحدو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطِيَّ وَمنْ مَشَى فَوْقَ التُّرَابِ إِذَا تُعَدُّ الأَنْفُسُ
بِكَ أَسْلَمَ الطَّاغُوتُ وَاتُّبِعَ الهُدَى وَبِكَ انْجَلَى عَنَّا الظَّلاَمُ الحِنْدِسُ
إِذْ مَا أَتَيْتَ عَلَى الرَّسُولِ فَقُلْ لَهُ حَقًّا عَلَيْكَ إِذَا اطْمَأَنَّ المَجْلِسُ( )
ويبقى القرآن غضاً طرياً والوقائع التي تذكر فيه تبقى حية حاضرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، فمن وجوه حسنها أمور :
الأول : إنها نازلة من عند الله عز وجل.
الثاني : إختارها الله عز وجل لخاتم النبيين وسيد المرسلين لتكون مدرسة لأجيال المسلمين.
الثالث : صبغة القرآنية التي تترشح منها إشراقات تنفذ إلى شغاف القلوب.
الرابع : عذوبة ألفاظ القصة القرآنية، وتعدد وجوه معاني كل لفظ منها.
الخامس : حكاية قصص القرآن لتأريخ الأمم والملل والملوك، ليكون المسلم حاضراً في تلك الأزمنة ببركة القرآن، وفيه تفقه في الدين، وإرتقاء في المعارف، وأكتساب للعلوم، ومقدمة للحكم بين الناس، وهو من عمومات قول الله في الرد على إحتجاج الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
إن تفضل الله عز وجل على المسلمين بقصص القرآن وجهاد الأنبياء السابقين وأخبار الأولين، لإصلاحهم لأمور الخلافة وتعاهد الحياة في الأرض بالعبادة والتقوى.
ومن أعظم وأكثر القصص ذكراً في القرآن قصص بني إسرائيل وما لاقاه أنبياؤهم من الأذى في جنب الله، قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وقصص القرآن من عمومات الخطاب الإلهي الموجه للمسلمين بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه والآية المتقدمة من سورة يوسف هو: كنتم خير أمة أخرجت للناس بأحسن القصص) فلم تتلق أمة غير المسلمين مثل هذه القصص بسرد إعجازية في ألفاظه ومعانيه ودلالاته وغاياته العظيمة.
وجاءت الآيتان السابقتان بذكر نعم عظيمة على بني إسرائيل، أما آية البحث فجاءت بذكر النعمة مع ذكر ما صدر منهم من سوء فعل عند غياب موسى وإنقطاعه لمناجاة الله عز وجل، وفيه درس للمسلمين بلزوم حضور الإمام والقائد بين ظهراني جنوده، وأن الغياب عنهم وإن كان لضرورة فقد يؤدي إلى أضرار وشرور، وفيه موعظة للمسلمين بألا يكونوا مثل بني إسرائيل عندما يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بل عليهم الثبات على سنته، قال تعالى[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
إعجاز الآية
العناية الإلهية الخاصة بنبي الله موسى عليه السلام وبواسطته بعامة بني إسرائيل، وإتخاذ النعم للموعظة والذكرى وكيف أنهم واجهوا بعض النعم بالجحود وقبيح الفعل.
وتبين الآية عظيم منزلة موسى عليه السلام والأنبياء مطلقاً عند الله، وتنهى عن الظلم الفادح في الإفتتان ببعض المعجزات.
وجاءت الآية لبيان نعم متعددة في موضوع واحد، وتلك آية إعجازية وسر من أسرار إختيار اسم الجنس “نعمة” في هذه الآية للإشارة إلى كثرة النعم الإلهية على بني إسرائيل .
ومن الآيات إستمرار موضوعيته أي البحر الأحمر في حدود وسلطان الدول والحكومات إلى يومنا هذا.
ولو نوى آل فرعون اللحاق ببني إسرائيل إيماناً وتسليماً بالمعجزات وتصديقاً بنبوة موسى عليه السلام، ففيه قسمان:
القسم الأول: ذات العاقبة، وهي غرق آل فرعون لوجوه:
الأول: ان مدة إنفلاق البحر موقوتة ومحصورة بعبور بني إسرائيل.
الثاني: عدم إعتبار ما أستحدث في نية آل فرعون.
الثالث: أخذهم بما كانوا يسومونه لبني إسرائيل من العذاب الأليم.
الرابع: جعل آية الغرق عبرة للظالمين.
الخامس: إحتمال تغيير النية عند الإجتماع ببني إسرائيل، وإنكار آية إنفلاق البحر كمعجزة لموسى عليه السلام، وتأويلها بأمور طبيعية تتعلق بجريان الماء والمد والجزر.
القسم الثاني: نجاة آل فرعون لوجوه:
الأول: تغير النية، وعمومات إذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
الثاني: سعة رحمة الله وإنتفاع الحاضر من النعمة، وآل فرعون شاهد على نعمة إنفلاق البحر.
الثالث: إمهال آل فرعون وإعتبار إنفلاق البحر آية أخرى وحجة عليهم.
إن غرق آل فرعون عقوبة لهم لسوء فعلهم وإجتماع الكفر والظلم عندهم، وإدعاء فرعون الربوبية.
ولو نوى فرعون الإلتحاق بموسى وأظهر جنوده الندم والتوبة لعبروا بسلام والله واسع كريم .
ورؤية بني إسرائيل لهلاك آل فرعون.
ولم تقل الآية “وإذ فرقنا لكم البحر”بلام الإختصاص والغاية بل جاءت بحرف الباء، وليس هم سبباً مادياً لإنفلاقه فقد ضربه موسى بعصاه، ومجيء حرف الباء في “فرقنا بكم” آية إعجازية من وجوه:
الأول: إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.
الثاني: جاء فلق البحر نعمة خاصة بهم.
الثالث: بقاء البحر منفلقاً ما داموا يعبرون فيه.
الرابع: نزول السكينة عليهم بان لا يخافوا عودة الماء عليهم، وهم في البحر.
ويمكن تسمية الآية بآية (أربعين ليلة) ( ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين وكلاهما في موسى عليه السلام
الآية سلاح
تظهر الآية موضوعاً للإحتجاج وخللاً عند بني إسرائيل يكون معه عنادهم وخصومتهم وإعراضهم عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمراً غير مستغرب، وإن كان قبيحاً ذاتاً.
وفي الآية إرشاد للمسلمين بطاعة الله ورسوله، وتعاهد أحكام الشريعة في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن خصائص المسلمين التصديق بنبوة الأنبياء جميعاً، وجاء القرآن ببيان عظيم منزلتهم، وما لهم من الشأن والجاه عند الله، وجاءت هذه الآية بذكر منزلة موسى عليه السلام وأن الله عز وجل واعده أربعين ليلة، يمكث موسى فيها عليه السلام على الطور.
والله عز وجل ليس في جهة ولا يتحيز في مكان وهو مع الإنسان أينما كان، ومع هذا تفضل سبحانه وواعد موسى عليه السلام لتكون هذه الدعوة حجة على بني إسرائيل، ودعوة لهم للتصديق بالنبوة، فالمعروف ان النبي ينزل عليه الوحي من عند الله، وجاءت هذه الآية بأمر آخر وهو مواعدة الله عز وجل للنبي موسى، وخروج النبي للموعد،إذ أنزلت عليه التوراة والشرائع تشريفاً لمقام النبوة، وحثاً للناس على التصديق بلقاء الله تعالى والإستعداد لما بعد الموت من الحياة، والحرص على إختيار الإيمان بالأنبياء والتنزيل طلباً للأمن والسلامة يوم الحساب.
مفهوم الآية
تكرار التذكير بالنعــم نعمة أخرى مستقلة بذاتها، فهــي دعـــوة عقلية وحافز شـــرعي للإيمان بما جاء به الرســـول الأكرم محـمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونبذ الجحود والإنغماس في الباطل ومفاهيم التعدي.
ومن مفاهيم الآية انها إنذار ووعيد من الكفر وملازمــة العناد وعبادة غير الله عز وجل، وتبين الآية فعلاً قبيحاً ويزداد قبحه بلحاظ مناسبته وأوانه، فمع وجود موسى بين ظهرانيهم والآيات التي جاء بها فانهم توجهوا إلى عبادة العجل جهلاً وضلالة.
والآية دعوة لمحاسبة الذات والإنتفاع من الأخطاء، وإتخاذ الماضي عبرة وموعظة، والتدارك بالمبادرة إلى دخول الإسلام وإتباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تفضل الله تعالى بمواعدة موسى عليه السلام.
الثانية: تعيين عدة المواعدة وأنها أربعون ليلة.
الثالثة: مواعدة الله لموسى عليه السلام نعمة من عند الله عليه وعلى بني إسرائيل، يجب أن تقابل منهم بالشكر لله تعالى.
الرابعة: توكيد ظلم فريق من بني إسرائيل لأنفسهم.
الآية لطف
تبين الآية إكرام الله عزوجل لموسى عليه السلام وهو شاهد على عظيم منزلته، ومنزلة الأنبياء عند الله عز وجل والمواعدة نعمة على بني إسرائيل عامة لما فيها من الإكرام، ومناسبة بيان الأحكام،ويجب ان تقابل بطاعة الله ورسوله، ومنها التصديق بالبشارات التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله والخاصة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مصاديق تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم ما خص الله عز وجل به موسى عليه السلام من التكليم والمواعدة، وتلقي الأحكام من عند الله لزيادة هدى بني إسرائيل وإعانتهم على أمور دينهم ودنياهم.
فجاءت هذه الآية للتذكير بها، ليكون التذكير بها مناسبة للتدبر في الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التفريط بها.
إفاضات الآية
إن الله عز وجل يتفضل بإكرام أنبيائه، ومن خلالهم أتباعهم من المسلمين، ويتلقى الأنبياء الوحي فضلاً منه تعالى، وفي الآية دعوة للمسلمين للإنقياد للوحي والتقيد بأحكام الشريعة في حال حضر وسفر الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمحافظة على الفرائض وسنن الإسلام عند إنتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وتظهر الآية في مفهومها ثبات المسلمين على الإيمان وتصديقهم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم جحودهم، وعدم وجود رائد للفتنة والكفر بينهم.
الصلة بين أول وآخر الآية
من إعجاز الآية الكريمة أنها جاءت في سياق تعداد النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، والشواهد التاريخية والحسية التي تدل على تفضيلهم على الناس قال تعالى[وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وذكرت إتخاذهم العجل عند غياب موسى.
لقد إبتدأت الآية بذكر نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل وهي مواعدة الله تعالى لموسى، فبعد أن نجى بنو إسرائيل من الغرق ومن فرعون، وهلاك فرعون وجنوده في البحر، أخبر الله تعالى موسى بأن يصعد الطور لتلقي الألواح وفيها التوراة وهي نعمة عظيمة أخرى، فبعد النجاة من القوم الظالمين تأتي نعمة أخذ الأحكام الشرعية وتلاوة التوراة.
لتكون النجاة من البحر وفرعون مقدمة للعمل بأحكام الشريعة، وفيه حجة على بني إسرائيل بلزوم تعاهد الأحكام والبشارات التي جاءت بها التوراة وفيها البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أراد الله عز وجل للإنسان أن يعمر الأرض بالعبادة، فخّلص ونجاّ بني إسرائيل من العذاب والظلم والقتل حتى جاء الأمر الإلهي بتلقي التوراة، فموسى عليه السلام الذي ضرب البحر بعصاه وإنفلق الماء ليعبر بنو إسرائيل، يصعد إلى الطور لتلقي التوراة.
وعلى بني إسرائيل الشكر على نعمة النجاة والسلامة بآية من آيات الله وعلى يد موسى عليه السلام بأن يستبشروا بصعود موسى إلى الطور، ويجعلوا يوم نزول التوراة عليه عيداً ومناسبة للشكر لله، ويعقدوا العزم مجتمعين ومتفرقين على العمل بما في التوراة من الأحكام، والأخذ ببشاراتها.
ولكن الآية أخبرت عن جحودهم خلال الأربعين يوماً التي مكث فيها موسى في الطور بعيداً عنهم، وفي الآية دليل على تفضيل المسلمين وأهليتهم لتعاهد العبادة وسنن الأنبياء في الأرض فمن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) السلامة من الشرك والضلالة , فمن تفضيل المسلمين في المقام وجوه :
الأول: كان مع بني إسرائيل نبي وهو هارون، فحينما غادرهم موسى لم يتركهم بدون نبي، وتلك نعمة أخرى على بني إسرائيل بأن يغادرهم الرسول أياماً معدودات، ويخلفه أثناءها نبي آخر هو أخوه هارون.
بينما كان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في الغزو، ويخلف على المدينة أحد أصحابه، ويرجع ليجد المسلمين فيها كما تركهم من الإيمان والتقيد بأحكام الصلاة، مع شوق لعودته وسماع أخبار الوحي والتنزيل، بالإضافة إلى الآيات التي تجري على يديه في حله وترحاله، وفيه بشارة إستدامة العمل بأحكام الإسلام حتى بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( ).
الثاني: لم يشرك المسلمون في الله تعالى أبداً، وتعاهدوا العبادة والذكر، ولم يتخذوا صنماً.
الثالث: لقد إجتهد صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت أحكام الشريعة وجعلها أمانة شرعية بيد التابعين لينقلوها بذات الإجتهاد والحرص إلى من بعدهم.
الرابع:قيام المسلمين بتلاوة هذه الآيات التي تذكّر بني إسرائيل بنعمة الله عليهم وجحودهم بها، وفيه درس وموعظة للمسلمين أنفسهم.
فمن إعجاز القرآن أنه يتضمن تأديب المسلمين بقصص غيرهم من الأمم السالفة.
ومن الآيات ربط القصة القرآنية بين الماضي والحاضر، بين الآباء والأبناء، وإقتباس الدروس والحكمة منها.
وجاءت الآية بصيغة الوعد والموعود، ويحتمل وجهين:
الأول: إرادة الزمان وله معنيان:
الأول: المدة الزمانية التي تسبق الموعد والحدث، يقال: واعده شهراً لقضاء الدين أي يحل أجل الدين بعد إنقضاء مدة الشهر.
الثاني: إرادة زمان الفعل نحو: واعده شهر رمضان أي وقت المواعدة هو شهر رمضان سواء كانت المدة السابقة قصيرة أو طويلة.
الثاني:إرادة موضع المواعدة، كما في قوله تعالى [وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ]( ).
والمراد هو المعنى الأول من الوجه الأول، فمدة المواعدة لأمر التنزيل وتلقي التوراة أربعون ليلة، وموضع المواعدة هو الطور إذ لبث عليه موسى عليه السلام أربعين ليلة .
ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ{وَاعَدْنَا}فيه إلا مرتين كلاهما في ذات الموضوع، والآية الأخرى هي قوله تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ]( )، ومكث هناك وجاءت الآية بقوله تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى]لإرادة خصوص موسى عليه السلام في تلقي التوراة، ولكنه بشارة ووعد كريم لبني إسرائيل بأن الله تعالى سينزل التوراة في أربعين ليلة وهي نعمة عظيمة بعد نعمة النجاة والسلامة والأمن كي يتفرغوا إلى العبادة ويؤدوا الصلاة والمناسك. وإخبارهم بالمواعدة ومدتها لبعثهم إلى إنتظار التوراة، والإستعداد للعمل بأحكامها، وطرد أسباب الشك والريب إن جاءت بعض أحكامها مخالفة لهوى جماعة منهم خصوصاً وأن الشرائع تتضمن الفرائض والتكاليف، وذكرت الآية المدة بالليالي دون الأيام، فلم تقل الآية أربعين يوماً، وفيه وجهان:
الأول: تضمن الليالي الأيام، وبه قال المبرد، أي إذا ذكرت الليالي فإن الأيام تدخل فيها، خلاف ما لو ذكرت الأيام فإن الليالي لا تدخل فيها.
الثاني: إن العرب كانت تراعي في حسابها الشهور والأيام والأهلة، قال الطبرسي(فأول الشهر الليالي، فلذلك أرخت بالليالي، وغلبتها على الأيام، فقالت: لعشر خلون، ولخمس بقين، جرياً على الليالي) ( ).
ونضيف لهما وجوهاً:
الأول: جاء لفظ(يوماً) بالإتحاد والنصب في القرآن ست عشرة مرة، كلها بخصوص يوم القيامة،وفيه تعظيم له، ودعوة للناس للإستعداد له، والسعي للنجاة مما فيه من الأهوال فلم تذكر هذه الآية اليوم إلا بالتنكير، لتوكيد موضوعية يوم القيامة في حياة الناس كافة.
الثاني: بيان ثقل الوحي وأنه يتم في الليل والنهار، وإتخاذ موسى عليه السلام الليل للمناجاة وتلقي الوحي.
الثالث: توكيد جهاد موسى عليه السلام في تلقي الوحي، وأنه ذاهب إلى الطور لا لينام بل ليكون الليل وعاء لتلقي التنزيل والألواح التي فيها التوراة.
الرابع: طرو الظن بإن موسى عليه السلام يذهب الى الطور في النهار دون الليل، وقد يقال يرو ذات الإشكال بخصوص ذكر الليل وأنه يذهب في الليل دون النهار، ولكن هناك فارق بينهما لأن النهار يحتسب مع ليلته.
الخامس: التباين الزماني بين أربعين يوماً، وأربعين ليلة، ففي الأول تبدأ المدة من طلوع فجر اليوم الأول وتنتهي عند غروب اليوم الأربعين، ويكون مجموع الليالي الوسطية هو تسع وثلاثون ليلة، وفي الثاني الذي جاءت به الآية القرآنية تبدأ المدة من غروب الشمس وظهور الحمرة المشرقية، وتنتهي المواعدة عند طلوع فجر الليلة الأربعين، ويكون عدد الأيام تسعة وثلاثين يوماً.
السادس: تكون عودة موسى عليه السلام إلى قومه بحساب الليالي الأربعين في النهار، إذ أنه يغادر الطور عند طلوع الفجر، فيأتيهم بالتوراة وعليه آثار الوحي والإجتهاد في العبادة والأصل أن يكون بنو إسرائيل منتظرين لهذا اليوم العظيم، وعودة موسى بالتوراة وأحكام الشريعة.
وفي ذكر الليل في المقام مسائل:
الأولى: دعوة المسلمين للمناجاة في الليل.
الثانية: بيان أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين من وجوه:
الأول: قيامه الليل إلا قليلاً منه في أيام نبوته كلها، قال تعالى [قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً] ( ).
الثاني: نزول القرآن عليه طيلة سنوات نبوته.
الثالث: تكامل أحكام شريعته.
الرابع: تلقي المسلمين الوحي بالحفظ والتلاوة والعمل.
الخامس: نزلت التوراة على موسى في الألواح، وكان القرآن ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتلاوة.
السادس: نزول جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر والسفر، والليل والنهار، وإعتكف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أول أيام النبوة في غار حراء إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ].
وجاءت الآية بنسبة المواعدة إلى الله تعالى فهو الذي واعد موسى عليه السلام، وفيه وجوه:
الأول: إكرام بني إسرائيل وتوالي النعم الإلهية عليهم.
الثاني: بيان منزلة موسى عليه السلام عند الله، وجاءت الكتب السماوية بالوعد والوعيد، وإختص الله عز وجل كليمه موسى عليه السلام بالمواعدة.
الثالث: جاءت المواعدة إمتحاناً وإختباراً لبني إسرائيل إذ غاب عنهم موسى أربعين ليلة فإتخذوا العجل، مع أن هارون النبي كان بين ظهرانيهم، ولا تعارض بين الإكرام والإختيار، فالنعمة إمتحان وكذا النقمة والبلاء.
الرابع: جاء ذكر المواعدة في نظم الآيات التي تبين النعم الإلهية على بني إسرائيل بذاتها ولما يترشح عنها.
الخامس: في الآية دعوة لبني إسرائيل للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من الدلالة على مقامات النبوة، ومنزلة الأنبياء عند الله تعالى، خصوصاً وان الوحي ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الليل والنهار، وبحضور الناس، فيرون ما يتغشى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ساعة الوحي ولاينفصل عنه إلا وقد وعى ما أخبره به جبرئيل فيتلوه على أصحابه ليحفظوه ويكتبوه ويعملوا بمضمونه.
وتتضمن الآية ذكر النعمة الإلهية مع بيان مقابلة بني إسرائيل لها، وفيها ثلاثة أطراف:
الأول: نعمة الله تعالى بمواعدة موسى عليه السلام.
الثاني: إتخاذ بني إسرائيل العجل من بعده.
الثالث: ظلم بني إسرائيل لأنفسهم.
وبعد ذكر نعمة المواعدة جاء الذم لبني إسرائيل لعكوفهم على العجل، وجاءت الآية بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب والتراخي في إشارة إلى أنهم إتخذوا العجل بعد مغادرة موسى لهم وذهابه إلى الطور، ومواضع المواعدة.
وفي الضمير(الهاء) في قوله تعالى [مِنْ بَعْدِهِ] وجوه:
الأول: من بعد خروج موسى عليه السلام إلى المواعدة.
الثاني: بعد وعد الله تعالى بتنزيل التوراة.
الثالث: من بعد غرق فرعون وجنوده .
الرابع: من بعد وقوع الآيات الباهرات، والنعم العظيمة على بني إسرائيل قال تعالى[ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ]( ) .
الخامس: من بعد الأمن والسلامة من زمان الظلم والعذاب والقتل وإستحياء النساء.
والصحيح هو الأول لعودة الضمير على موسى عليه السلام بحسب سياق الكلام، قال تعالى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَار}( ).
ولكن هذا لا يتعارض مع الوجوه الأخرى أعلاه، لبيان جحودهم بالنعم، فإتخاذ العجل أمر حرام ومخالف لإدراك العقل والوجدان مع النعم المتعددة أو بدونها.
ومن مفاهيم الآية:
الأول: لزوم المواظبة على الشكر لله تعالى على النعمة ودوام إستحضارها لتكون واقية من الجحود، فإن قيل لا يجزي الشكر على النعمة الحسية في زمان حدوثها.
والجواب المدار على منافع تلك النعمة، فكل نعمة من النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل دائمة النفع والثمر، تنهل منها الأجيال المتعاقبة من بني إسرائيل، وهو من أسرار لغة الخطاب في الآية وتوجهه إلى الموجود من بني إسرائيل مع أن الآيات جاءت في زمان موسى عليه السلام.
الثاني: بيان حاجة الأرض إلى أمة تتعاهد التوحيد وسنن النبوة في الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}( ).
الثالث: في الآية تشريف ومدح أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين ةأصحابه صصدّقوا برسالته، إذ تنزل آيات القرآن عليه وهو بينهم، فيتلقون الوحي بالقبول والتصديق، فلا يحتاج لمغادرتهم والذهاب لموضع الوحي.
فكانوا جنوداً للوحي والتنزيل، وحراساً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساعة نزول الوحي عليه.
الرابع: تدل الآية في مفهومها على تفضيل المسلمين لثباتهم على التوحيد، ونبذهم للشرك، ومحاربتهم للكفر والضلالة، ومن خصائص (خير أمة)( ) تعاهد سنن التوحيد، والبقاء على نهج الأنبياء، وعدم مغادرة منازل الإيمان والتقوى.
لقد جاءت هذه الآية لذم الذين إتخذوا العجل إلهاً نتيجة لفتنة السامري الذي رآى أثر فرس جبرئيل عليه السلام فأخذ تراباً من أثر فرسه، وأختلف في العجل على أقوال:
الأول: أنه صار لحماً ودماً، وبه قال الحسن البصري .
وأشكل عليه بأن هذه الحال خاص بمعجزات الأنبياء، ورد بأن القبضة من أثر الملك لها ذات الأثر من غير موضوعية لصفة الذي يفعلها، فمن خصائصها أنها إذا طرحت على الصورة صارت بها حياة، ولا تصل النوبة للمعجزة، لأن الذي يلقي القبضة يكون كالآلة.
الثاني: صاغ السامري عجلاً، وجعل فيه خروقاً، يدخلها الريح فيخرج منها صوت كالخوار ودعاهم إلى عبادته فأجابوه وعبدوه، عن أبي على الجبائي( ).
الثالث: ورد عن ابن عباس أن السامري قال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان البلاء والفتنة، فقال: هذا إلهكم وإله موسى عليه السلام.
لقد وردت الآية بلغة الإطلاق {اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ} التي تنصرف إلى المعنى الحقيقي ذي الروح إلا أن يرد دليل يدل على التقييد والمعنى المجازي، والإفتتان بالعجل أمارة على المعنى الحقيقي، ولكن لماذا لم يقم المؤمنون منهم بقتله وإفنائه، خصوصاً وأن النبي هارون بينهم، الجواب كانوا قلة ومستضعفين بين عموم بني إسرائيل كما في جواب هارون لموسى له[إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي] ( ).
وإذ إبتدأت الآية بذكر نعمة مواعدة موسى عليه السلام التي جاءت رحمة لبني إسرائيل جميعاً بأجيالهم المتعاقبة.
أختتمت الآية بذمهم ونعتهم بأنهم ظالمون حال إتخاذهم العجل لما فيه من الضلالة والجحود، وفيه دعوة للتدارك والإنابة وإجتناب ظلم النفس والغير بالجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين الآية حاجة بني إسرائيل وغيرهم للقرآن لما فيه من بيان وجوه الظلم، وما فيها من القبح الذاتي والغيري، ولزوم إجتنابها .
وجاءت الآية بصيغة الجمع، لإرادة الأكثر من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، فمنهم من لم يعبد العجل ودعاهم إلى التريث وإنتظار عودة موسى عليه السلام، وإلى نبذ عبادة العجل ولزوم تركها.
وكان جماعة منهم مع هارون عليه السلام في البقاء على التوحيد وعدم الإفتتان بالعجل، كما كان مع موسى في الطور سبعون من صلحاء وأخيار بني إسرائيل.
لذا قيل أن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور هم الذين قتلوا ممن عبد العجل سبعين ألفاً وهو بعيد .
إن ورود الآية بصيغة الجمع دعوة لبني إسرائيل لزجر الذين يجحدون بآيات النبوة، وحث لهم للمناجاة بالصلاح والتصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التفسير الذاتي
لقد جاءت الآية السابقة بذكر أربعة من النعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل في دعوة لهم لإستحضارها وإتخاذها مقدمة ووسيلة لطاعة الله ورسوله، والتصديق بنزول القرآن من عند الله، ليترشح عن هذا التصديق العمل بمضامينه القدسية.
وجاءت هذه الآية بذكر نعمة أخرى مع توجيه اللوم لهم، بما قابلوا به تلك النعمة من الصدود، فذكرت الآية نعمة مواعدة الله لموسى عليه السلام إذ أوحى الله عز وجل إليه أن يؤتيه الألواح فيها التوراة بعد مرور أربعين ليلة يقضيها على الطور بعيداً عن بني إسرائيل، فاستخلف عليهم أخاه هارون، ولكنهم أفتتنوا عند غياب موسى بعبادة العجل مع وجود هارون بين ظهرانيهم وهو نبي، وفي الآية وجوه محتملة:
الأول: إستقراء سمو منزلة النبي والرسول في المقام بلحاظ أنهم لم يفتنوا إلا عند غياب موسى عليه السلام.
الثاني: كان موسى وهارون يتعاونان على جذب بني إسرائيل لمقامات الإيمان ومنعهم من الجحود وفي التنزيل[اجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي]( )، فعند غياب موسى لم يستطع هارون وحده منعهم.
الثالث: إن فتنة عبادتهم للعجل تحصل حتى وإن كان موسى موجوداً بين ظهرانيهم.
والصحيح هو الأول والثاني، وتبين الآية فضل المسلمين على الأمم والملل الأخرى إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى الغزو، ويغادر المؤمنون المدينة للغزو والقتال، ولم يحصل عندهم إفتتان أو شك وليس من نبي بينهم إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا نبي من بعده.
ترى لماذا لم تنزل التوراة على موسى وهو بين بني إسرائيل، كي لا تقع فتنة السامري، وعبادة العجل، والجواب من وجوه:
الأول: لقد تعاقبت الآيات والنعم على بني إسرائيل مما يترشح عنه تعاهدهم لعبادة الله، وقيامهم بشكره والإمتناع عن الظلم والجحود والكفر.
الثاني: مدة المواعدة مقدمة لنزول التوراة ، وتهيئة لموسى عليه السلام لتلقيها.
الثالث: نزلت التوراة في الألواح دفعة واحدة.
وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتحنث في غار حراء قبل النبوة، فتنزل آيات القرآن عليه وهو بين أهله وأصحابه في مكة والمدينة لتكون كيفية التلقي وما يظهرمن آثاره على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية ودليلاً على صدق نبوته، إذ يأخذه العرق ساعة نزول الملك بالوحي في اليوم البارد.
وورد لفظ (العجل) في القرآن عشر مرات، إثنتين في ضيف إبراهيم عليه السلام من الملائكة وذبحه العجل لهم، قال تعالى[فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ]( )، وثمانية في إتخاذ بني إسرائيل العجل.
وعن الحسن أن مدة إتخاذهم العجل سبعة أيام، وعن الربيع إنها أربعون يوماً، بلحاظ أن غياب موسى عليه السلام عنهم وذهابه إلى الطور لتلقي التوراة كانت مدته أربعين يوماً، ولكن الآية لا تدل على الملازمة بين تلك المدة وإتخاذ العجل بل تفيد العكس بدليل قوله تعالى [ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ] وما يدل عليه الحرف (ثم) من إفادة التراخي والإبطاء، ومن إعجاز القرآن أن اللفظ أعلاه تكرر ثلاث مرات في القرآن ( ).
من غايات الآية
تدعو الآية إلى نبذ الشرك، وتحث أهل الكتاب على التمسك بمبادئ الإسلام، وتعاهد النعم الإلهية، وتؤكد الآية الملازمة بين الشرك والظلم، وكل كافر هو ظالم لنفسه ولغيره، أما لنفسه فلقبح فعله وإضراره بنفسه في الدنيا والآخرة لأن عاقبة الكفر هي النار، وأما لغيره فإنه يكون قدوة في سبل الظلم، وسبباً للإفتتان والضلالة.
التفسير
إنها نعمة أخرى من النعم الكثيرة التي نالها بنو إسرائيل تفضل الله سبحانه وتعالى بتذكيرهم بها، والتذكير هنا أيضاً نعمة ورحمة ودعوة إضافية خاصة لدخولهم الإسلام وتجنيب أنفسهم وأهليهم الهلاك والعذاب الأخروي.
وهي بيان بأن الإيمان ملاك النعم، وأنها تتوجه صوب أهله، وتبقى مع بقاء موضوعه وتغيب بغيابه، أي أنها حجة لمنع الغرور وتوهم بقاء النعم مع حال الكفر والجحود.
قوله تعالى [ وَإِذْ وَاعدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ]
أي يا بني إسرائيل إذكروا هذه النعمة وهي أن الله عز وجل واعد موسى بإنزال التوراة، وأنه ذهب إلى الطــور لتلقيها، والقرآن يفســر بعضه بعضاً فالآية إشارة إلى قوله تعالى [ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ… ]( ).
وكان غياب موسى عليه السلام عن بني إسرائيل للمواعدة موقوتاً ومدته معلومة قبل ذهاب موسى عليه السلام إلى الطور وكذا موضوعه وهو تلقي التوراة ، ولعل فيه موضوعاً لإبتلاء بني إسرائيل ومدا تأثرهم بفتنة السامري وجعل النبي موسى عليه السلام يستعد للمواعدة، ويتلقاها بنو إسرائيل بالإيمان والتصديق.
وروي عن ابن عباس أنه قال: كان السامري رجلاً من أهل باجرما قيل كان اسمنسيا( )، وعنه أيضاً:إسمه موسى بن ظفر من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وقد كان أظهر الإسلام في بني إسرائيل.
فلما قصد موسى إلى ربه، وخلّف هارون في بني إسرائيل، قال هارون لقومه قد حملتم أوزاراً من زينة القوم، يعني آل فرعون فتطهروا منها فإنها نجس، يعني انهم إستعاروا من القبط حلياً وإستبدوا بها، فقال هارون طهروا أنفسكم منها فإنها نجسة وأوقدوا لهم ناراً، فقال إقذفوا ما كان معكم فيها، فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي فيقذفون به فيها.
قال وكان السامري رأى أثر فرس جبرائيل عليه السلام فاخذ تراباً من أثر حافره ثم أقبل إلى الـنار , فقال لهــارون: يا نبي الله أّلقي ما في يــدي، قال: نعــم، وهو لا يدري، ويظــن أنه مما يجــيء به غيره من الحلي والأمتعـة، فقذف فيها وقال كن عجلاً جسداً له خوار، فكان البــلاء والفتنة فقال: هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا مثله شيئاً قط، قال ابن عباس فكان البلاء والفتنة.
وعن أبي علي الجبائي: ان السامري صاغ عجلاً وجعل فيه خروقاً يدخلها الريح فيخرج منها صوت كالخوار ودعاهم إلى عبادته فأجابوه وعبدوه( ).
ولا ينحصر الذم بوقائع بالحادثة بعينها، بل له أبعاد عقائدية تتعلق بمسيرة التوحيد وحاملي راية الإيمان عبر العصور، إنه إمتحان بسيط أخفق بنو إسرائيل في إجتيازه، ورسولهم بين ظهرانيهم، ولم يخلف فيهم إلا نبياً وهو هارون عليه السلام. وفي التنزيل [ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ]( ).
ولعل في الآية إشارة إلى وجود المنافق والمفسد فيهم، وأن موسى كان يخشى غلبتهم سواء بالحس والوجدان منه عليه السلام، أو بالوحي الإلهي، وما فعله السامري من مصاديق قوله تعالى حكاية عن الملائكة{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ( )
لأن فعل السامري إفساد محض ، ولكن الله عز وجل أبطل سحره، وأرجع كيده إلى نحره.
وفي الآية توبيخ وذم للذين عبدوا العجل، وفيها رد على ما يحتمل أن يطرح من التساؤل الإستنكاري عن أسباب نقل النبوة منهــم، ونسـخ شريعتهم بالإسلام، وهي ميثـاق للمسلمين وتأديب لهم بأن لا ينحرفوا عن مبادىء التوحيد ولا يبتعدوا عن منهج الرسالة وأحكام النبوة وأن يحفظــوا أمانـــة الديــن ولا يحرفوا ولا يبدلوا، وان لا يدخل الريب إلى نفوسهم عندما يمتنع أو يتردد بنو إسرائيل في دخول الإسلام.
لقد إنتفع المســلمون من هذه الآيــات أكــثر من إنتفاع بني إسرائيل منها وهو أمــر يتناسب والغايــات الأساسية من نزول القرآن، ومن مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ ]( )، فكانت مقابلة طائفة من بني إسرائيل لأعظم النعم بوجوه الجحد درساً للمسلمين يساعدهم في الحرص على تلك النعم بتعاهد الإيمان ومواصلة الجهاد في سبيل الله تعالى، وتكون سلاحاً في أيديهم لدفع معاندة اليهود وتفاخرهم بآبائهم وما خصهم الله به من النعم وعظيم المنزلة، وهذه المسألة حجة عليهم لما إتصف به أسلافهم من العناد والجهل وإيذاء الأنبياء.
وفي الآية مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان يلقاه من مشركي العرب، والصدود والتكذيب، ودعوة له للصبر على أهل العناد والجحود برسالته، والذين أنكروا الرسالة مع أن قلوبهم إستيقنتها، قال تعالى [ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ… ] ( ).
لقد رأوا ولمسوا وعاشوا آيات إنجائهم وإهلاك آل فرعون ثم ما برحوا أن إتخذوا العجل.
وصحيح أن المشركين رأوا الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه النبي الذي بشر به الأنبياء من قبله، إلا أنهم كانوا في مرحلة الوعيد والإنذار، ولم يروا آية الإهلاك، وفيها تحذير للمشركين من إقحام أنفسهم في أمواجها المتلاطمة، كما أقحم فرعون نفسه وجنوده في أمواج البحر.
لذا يمكن القول بأن الآية بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنــوا معه بما فيهم الذين إنتقلوا إلى الإسلام من الملل الأخرى بالنصر والظفر وهلاك الذين كفروا برسالته، وأن المسلمين سيرون تلك الآيات ويشهدون هلاك المعاندين.
وتبين الآية حقيقة كلامية من الإرادة التكوينية وهي أن الوعد الإلهي لا ينحصر بعالم الآخرة بل يشمل الدنيا أيضاً، وفيه دعوة للمسلمين للصبر وإنتظار الفرج والرضا بقضاء الله تعالى، والتوجه إلى الله بالمسالة والدعاء لقضاء الحوائج والعز والرفعة في النشأتين.
وجاء موضوع مواعدة الله تعالى لموسى عليه السلام بإعتباره نعمة على بني إسرائيل، وفيه وجوه:
الأول: لقد بعث الله تعالى موسى عليه السلام نبياً رسولاً إلى بني إسرائيل، فالمواعدة فضل من الله عليه وعلى بني إسرائيل
الثاني: من مضامين التوراة البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية جاءت للتذكير بلزوم التصديق بنبوته.
الثالث: بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ينزل عليه جبرئيل بالوحي في أي ساعة من الليل والنهار، وفي الحضر و السفر.
علم المناسبة
سأل بنو إسرائيل من نبات وبقول الأرض أثناء التنعم بآية ونعمة نزول المن والسلوى من السماء عليهم كل يوم، فقال لهم الله تعالى [اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]( ) للإمتحان والإبتلاء.
ثم دخلوا مصراً ليشتغلوا في زراعة الأرض، وما فيها من العناء والشقاء، ولم يكن عندهم كتاب ينتهون إليه ويصدرون عنه، فواعد الله عز وجل موسى عليه السلام أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً : ذا القعدة وعشر ذي الحجة.
وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء، والمسلمين على الأمم الأخرى لأن القرآن نزل نجوماً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة إلى الإسلام، وكان المعجزة العقلية المصاحبة لنبوته وآمن بها أهل البيت والصحابة ولم يسألوا مثل عصا موسى، وهو من الشواهد على كون المسلمين[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولكن عندما زحفت قريش في معركة بدر وأحد للقضاء على الإسلام، جاءت آية سماوية أعظم من عصا موسى، إذ نزل الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين، فإنهزم الكفار وأصابهم الفزع وخسروا في معركة بدر سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً من كبرائهم , قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
وليس في نزول القرآن مواعدة وصعود على الجبل، ومغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، ليروا آية الوحي، وكيفية نزوله، وما فيه من الأسرار والدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان جبرئيل ينزل عليه بالوحي إكراماً له في الحضر والسفر، والليل والنهار.
وجاءت هذه الآية بالذم للذين إتخذوا العجل من بعد مضي موسى إلى الطور لتلقي التوراة، وفي نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه تخفيف عن المسلمين، ورحمة بهم، ودعوة لهم لتلقي الآيات بالقبول والتصديق والإمتثال لما فيها من الأحكام.
وورد لفظ “أربعين” في القرآن أربع مرات، منها إثنتان في موسى عليه السلام ومواعدة الله عز وجل له،كما تقدم ذكره ، وواحدة في تيه بني إسرائيل.
وروي انهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يمشون كل يوم جادين فاذا جاء المساء وجدوا أنفسهم في الموضع الذي إرتحلوا منه مع نعمة الغمام الذي يظللهم من حر الشمس، ونزول المن والسلوى من السماء عليهم.
وأختلف هل كان موسى وهارون مع بني إسرائيل في التيه، والذي نفى وجودهما مع بني إسرائيل في التيه قال انه عقوبة وقد سأل موسى ربه ان يفرق بينهما وبين بني إسرائيل، والأصح أنهما مع بني إسرائيل، وذكر ان هارون مات في التيه، ومات بعده موسى عليه السلام.
وإذ ذكرت الآية محل البحث مواعدة الله عز وجل لموسى عليه السلام أربعين ليلة فقد جاءت آية أخرى بتمام الميقات , قال تعالى [فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً]( ).
وفي الجمع بينهما نكتة عقائدية، وهي ان إتخاذ بني إسرائيل العجل من بعد موسى عليه السلام لم يقطع الميقات، ولم يعجل له الله نزول التوراة كي يرجع إلى قومه لإصلاحهم، فالله عز وجل غني عن العالمين، وإذا تفضل بوعد فانه يفي بوعده، ولو رجع لهم موسى قبل الأربعين ليلة، لإفتروا عليه بسبب التباين بين أصل المواعدة، والليالي التي قضاها على الطور، (وذكر ان موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر ان أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان مايأتون وما يذرون) ( ).
فلما هلك فرعون سأل موسى الله عز وجل أن ينزل عليه الكتاب، فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة، وهل هذه الأيام هي من مصاديق فريضة الصيام في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، الجواب لا، بل جاءت حكماً خاصاً لرسول من الرسل الخمسة أولي العزم يتعلق بالمواعدة، والمراد من الكتابة في الآية أعلاه فريضة الصيام ولكنها تلتقي في المدة وأيام الصيام مع ما فرض على المسلمين، ومن مصاديق الآية أعلاه فرض الصيام على الأمم السابقة أيضاً.
قوله تعالى [ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ]
ذم ونعت بالجحود والصدود للذين إتخذوا العجل من بني إسرائيل،وجاء هذا الجحود متعقباً لغياب مؤقت لنبي الله موسى عليه السلام، وذهب في أمر إلهي ولنعمة تعم بني إسرائيل، ومنها نزول التوراة.
وفي الآية توبيخ لهم على تعجيلهم الولوج في مسالك الجحود بعكوفهم على العجل، وعدم تريثهم حتى مجيء موسى عليه السلام على الأقل، فلم يصــبروا ويقاوموا فتنــة تدفع بأقل تدبر وتوظيف للعقل خصوصاً مع وجود هارون والصالحين من بني إسرائيل بين ظهرانيهم ينهونهم عن المنكر وركوب جادة الفتنة، قال تعالى{ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ }( ).
إنها حجة عليهم في عجزهم عن إســتمرار المحافظـة على حمل لواء التوحيد في الأرض، فمن لم يتعاهــد الأمانـة ساعة غياب الرسول كيف يحافظ عليها في الأحقاب المتعاقبة.
وفي الآية دعوة لهم إلى التأني وعدم التعجيل في إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لا يعكفوا على غيرهم وما يسعون فيه من الإبطاء في الإستجابة للإسلام والتحريض على الصد والإعراض عن القرآن.
ومن الإعجاز في قصص القرآن أن موضوعها لا ينحصر بمضامين آية مخصوصة بل لابد من الجمع بين الآيات التي تتعلق بموضوع واحد وان كانت كل آية تختص بجهة أو قصة وموضوع فرعي منه، فجاءت هذه الآية بذكر إحدى هذه النعم وهي مواعدة الله تعالى لموسى عليه السلام وما يترشح عنها من النعم الكثيرة، وذكرت الآية إتخاذ بني إسرائيل العجل، بحرف العطف (ثم) الذي يفيد التراخي.
ويحتمل قوله تعالى[ مِنْ بَعْدِهِ] أمرين:
الأول: من بعد خروج موسى للمواعدة.
الثاني: من بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى.
والصحيح هو الأول بدليل قوله تعالى [قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى] ( ) وتقدمت الإشارة إليه في باب الصلة بين أول وآخر الآية.
وهو موضوع ذم إضافي لان غياب موسى عليه السلام كان محدوداً ولمدة قليلة، وفي رحلة ملكوتية تتضمن تشريف بني إسرائيل وتعدد النعم عليهم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (إتخذتم) وفيه دلالة على كثرة عدد الذين أفتتنوا بالعجل من بني إسرائيل، وتدل الآية في مفهومها على دعوة المسلمين إلى تعاهد مبادئ الإسلام وسنن النبوة وإجتناب الفتن والضلالة، وتؤكد سيرة المؤمنين وطاعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله وإقتفاء عموم المسلمين لأثرهم على أفضلية المسلمين على الأمم الأخرى، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
تفسير قوله تعالى [ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ]
الظلم لغة النقص، وفي الإصــطلاح الشــرعي تعدي حــدود الله لقوله تعالى [ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ]( ). والظلم من الكليات المشككة وموضوعه أيضاً متعدد ومختلف، وأشد وجوه الظلم التي تعرض الإنسان للحساب ظلمه للآخرين.
أما الظلم الوارد في هذه الآية فهو ظلمهم لأنفسهم، وإتخاذهم العجل وجه من وجوه الشرك، فقوله تعالى [ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ… ] ( )، يدل على أن شطراً من بني إسرائيل أفتتنوا بعبادة العجل ونهاهم هارون عنه فأصروا وإستكبروا [ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ]( )، وهذا الظلم أشد وجوه الظلم وأخطرها فكيف إذا كان ممن رأى الآيات.
وظلمهم لأنفسهم واضح، وهو مركب من عكوفهم على العجل وحبهم له، ومن جحودهم بالنعم وصدودهم عن الآيات وإعراضهم عما فيها من الدلالات والبراهين.
وإن كان قولهم (حتى يرجع إلينا موسى) تسليم بنبوة موسى وإعلان للإستعداد بالتصديق والعمل بكل ما يقوله موسى عليه السلام.
لقد بينت خاتمة الآية حالهم عند إتخاذهم العجل، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم غير محترزين بسلاح الإيمان، فمع توالي الآيات يجب أن لا يتسرب الشك إلى النفوس مع أدنى إفتتان.
ويحتمل الظلم في المقام وجوهاً:
الأول: ظلم بني إسرائيل لأنفسهم.
الثاني: الآية إنحلالية، والمراد ظلم كل واحد منهم لنفسه.
الثالث: ظلمهم لأبنائهم وذراريهم، ومنه موضوعية عبادة العجل في إصرار شطر من بني إسرائيل على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: ظلم الذين عبدوا العجل من بني إسرائيل لإخوانهم الذي بقوا على الإيمان وهم يرجون رجوع موسى عليه السلام إليهم.
الخامس: تعديهم على هارون عليه السلام الذي لم يغادرهم مع موسى إلى الطور، وبذل الوسع في زجرهم ونهيهم عن عبادة العجل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ] وعظم الذنب وتعدد أفراد الظلم، وسعة ضرره يدل على عظم النعمة الإلهية على بني إسرائيل في العفو عنهم، ولزوم مقابلتهم للعفو بالشكر.
وورد لفظ(الظالمين) قبل هذه الآية مرة واحدة في خطاب تحذير إلى آدم وحواء[وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( )، وبينها وبين نعت بني إسرائيل بالظلم في هذه الآية عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: صفة الظلم للنفس.
الثاني: لغة الإنذار، والإشارة إلى الأثر المترتب على الظلم.
الثالث: تأكيد قبح الظلم ومعصية الأوامر الإلهية.
الرابع: تعقب العفو من بعد الظلم وبخصوص آدم وحواء جاءت الآية التالية للآية أعلاه بالبشارة والعفو[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ]( ).
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: جاءت الآية أعلاه بخصوص آدم وهو نبي، أما آية البحث فموضوع الذم فيها فريق من بني إسرائيل عبدوا العجل عند غياب موسى عليه السلام.
الثاني: أكل آدم وحواء من الشجرة وهما في الجنة قبل هبوطهما إلى الأرض، أما بنو إسرائيل فأفتتنوا بالعجل بعد خروجهم من مصر بآية من الله تتضمن نجاتهم جميعاً، وغرق فرعون وجنوده كلهم، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، ولو كان قتال فلابد أن يكون ضرر وقتلى من الطرفين، وينجو شطر من كل فريق .
قوله تعالى[ ثُمَّ عَفَونَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ ] الآية 52.
الإعراب واللغة
ثم: حرف عطف يقتضي التشريك والترتيب والتراخي، وقد تفقد معنى التراخي فيقال: أقمت ثم صليت.
وفي المقام تفيد التراخي سواء جاء العفو إبتداء وفضلاً من الله تعالى أم بالدعاء والتوسل والهداية.
عفونا: فعل ماض وفاعل، عنكم: جار ومجرور متعلقان بعفونا.
من بعد: جار ومجرور، ذلك: اسم موصول مضاف إليه إشارة إلى المصدر من اتخذ أي من بعد الإتخاذ.
لعلكم: حرف مشبه بالفعل مع إسمها.
تشكرون: جملة فعلية في محل رفع خبر لعل.
أصل العفو الترك، ومنه قوله تعالى [ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ]( ) أي ترك.
وفي الإصطلاح هو الصفح والمغفرة ومحو الذنب وترك العقوبة، والتجاوز عن الخطيئة.
وفي الدعاء: “أســألك العفو والمعافاة”، فالعفو هو التجاوز عن الذنوب ومحوها، والعافية دفع الله الاسقام والبلايا عن العبد.
لعل: تفيد الترجي والطمع وتوقع الممكن وقد تقدم الكلام عنها( ).
في سياق الآيات
بعد نجاة بني إسرائيل من بطش آل فرعون، وإظهار الجحود بعدئذ بإتخاذ العجل جاءت هذه الآية لبيان نعمة أخرى على بني إسرائيل تمثلت ببداية مرحلة جديدة يتجلى فيها العـفو بارتفاع الإبتلاء وندرته كمناسبة للشكر.
ومن إعجاز نظم الآيات إتصال النعمة في هذه الآية بما في الآية السابقة من النعم الإلهية، والجحود الذي قابلها به بنو إٍسرائيل ، وحينما تعقب الظلم منهم للنعمة والآية الظاهرة، جاء العفو من الله متعقباً للظلم والجحود، والعفو ماح للذنب.
ولم يعفُ الله عن بني إسرائيل عن حاجة منه لهم، فهو الغني عن العالمين، ولكن لبيان عظيم فضله تعالى على بني إسرائيل ورحمته بالخلائق، وفيه بعث للأمل والسكينة في قلوب المسلمين، ودعوة لأصحاب الذنوب الصغيرة منها والكبيرة بان يطردوا اليأس عن قلوبهم ويبادروا إلى التوبة والإنابة.
وجاءت الآية السابقة بحرف العطف والتراخي (ثم) في (ثم أتخذتم العجل) أي أن بني إسرائيل لم يتخذوا العجل حال غيبة موسى على جبل الطور، وآية البحث أول آية في نظم القرآن تبدأ بحرف العطف (ثم) وهذه البداية عنوان الرحمة والرأفة الإلهية بالناس.
ومن نعم الله عز وجل على بني إسرائيل وإعجاز القرآن أن يأتي ذكر النعم فيه على نحو السرد القصصي، وكأن الآية تخبر عن حال بني إسرائيل بينما هي تتضمن دلالات عقائدية عظيمة، فمع مقابلتهم للنعم بإتخاذ العجل وإستحقاقهم صفة الظالمين فإن الله عز وجل تفضل بالعفو عنهم ومغفرة ذنوبهم، وقال الرازي (فقالت المعتزلة: المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتوبة وهي قتل بعضهم بعضاً، وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: أن قبول التوبة واجب عقلاً فلو كان المراد ذلك لما جاز عده في معرض الإنعام لأن أداء الواجب لا يعد من باب الإنعام والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله تعالى عليهم.
الثاني: أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحق فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فذاك لا يسمى عفواً ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك ذلك العذاب لايسمى ذلك الترك عفواً فكذا ههنا)( )، وترد على قول الرازي مسائل:
الأولى: نزول التوبة بسبب قتلى بعضهم لبعض من وجوه تفسير الآية ولم ينفرد به المعتزلة بل هو ظاهر آيات القرآن، وسيأتي بعد آيتين قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ]( ).
الثانية: لا دليل على القاعدة التي ذكرها الرازي: قبول التوبة واجب عقلاً) وليس من واجب على الله عز وجل، ولابد من تغيير هذا المصطلح الكلامي.
الثالثة: قبــول التوبة من أعظــم النعم ولا يصــح كلامه لما جاز عده في معرض الإنعــام) ويمكن الإســتدلال بمجيء ســياق الآيات بــذكر نعــم الله عز وجل على بني إسرائيل بأن قبول التوبة نعمة عظيمة من الله تعالى.
الرابعة: قول الإمام الرازي: إسقاط ما يجب إسقاطه) ولا يجب على الله إسقاط عقاب لقيام الحجة على الناس إذ خلقهم لعبادته وهداهم إلى سبيل الإيمان، ورزقهم العقل للتمييز والفصل بين الحق والباطل، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامسة: إستدل بأن الظالم لم يجز له تعذيب المظلوم فإذا ترك ذلك لا يسمى ذلك لترك عفواً فكذا ههنا، وهو قياس مع الفارق وبعيد موضوعاً وحكماً إنما جاءت الآية بالعفو عن الظالمين مع إستحقاقهم للعقوبة وفي التنزيل[وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( )، والأولى أن ينقطع العالم في التفسير إلى أقوال المخالفين له في المذهب والإجتهاد في إبطال قولهم فعلم التفسير كالماء كل المسلمين فيه سواء، وعلومه تراث وثروة لأجيال المسلمين، ومن الخطأ القول بأن التفسير الفلاني يعود للمذهب والطائفة الفلانية إلا أن يصدر صاحب التفسير عن مذهبه ويسعى جاهداً لتفسير الآية بما يلائمه.
وقال الثعلبي(ثم عفونا عنكم) أي تركناكم فلم نستأصلكم، من قول له: أحفوا الشّوارب واعفوا اللحي، وقيل: محونا ذنوبكم)( ).
وإذ ذكر المعنى الثاني أعلاه بصيغة التضعيف الذي يدل عليه لفظ(قيل) وجعل المعنى الأول أعلاه هو الأرجح فإن المثل مغاير لمضمون الآية والتعدي فيها جاء بــ(عن) بينما جاء عفو اللحى لتركها بالذات، وجاء الإستئصال في القرآن بصيغة الإنتقام والهلاك , فمحو الذنوب هو الأنسب خصوصوا أنه في بيان وتعداد النعم .
وورد في آل فرعون[فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ]( )، فلأن الإنتقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً جاء البيان بعده بالنص على إغراقهم في اليم أي البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته، فكما[بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا]( )، وكذبوا بالآيات وأصروا على قتل موسى وبني إسرائيل فإن الله أبدل اليابسة التي دخلوا فيها أول الأمر إلى هيئتها الأولى بحرا غزير ماؤه.
من الآيات أن الهلاك لم يكن في النيل مع عمق قعره ولكنه كان في بحر القلزم وهو البحر الأحمر وفيه مسائل:
الأولى: إقامة الحجة على فرعون وجنوده لأن موسى خرج ببني إسرائيل من أرض مصر.
الثانية: لما جاء موسى عليه السلام بالآيات والمعجزات لفرعون سأله أن يخلي بينه وبين بني إسرائيل وأن يخرجوا معه ، وفي التنزيل[قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
الثالثة: البقاء الأطول للمصداق المكاني لهلاك فرعون، فقد يأتي زمان على نهر النيل ينقص ماؤه ويصبح بإمكان الإنسان عبوره مشياً على الأقدام فضلاً عن مراكب الفرس عبوره، بينما تكون أعمار ومدة البحار أطول زماناً بمئات السنين.
الرابعة: يستطيع الفارس إقتحام نهر النيل بفرسه وعبوره، ويتعذر عليه ذلك في البحر .
الخامسة : بيان عظيم قدرة الله بأن أطبق ماء البحر عليهم كالجبل دفعة واحدة.
وأصل العفو ترك الأثر، ويستعمل لإرادة الصفح عن الذنب بمعنى المغفرة ولكن العفو في الآية شامل للدنيا والآخرة بخصوص إتخاذ العجل لأصالة الإطلاق ولأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى.
وقال تعالى[كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ]( )، فذكرت الآية الخاص والعام ممن جحد بالنعم الإلهية عذاب الإستئصال، ثم رجعت إلى الخاص الذي إبتدأت به وبينت كيفية هلاكهم بقوله تعالى(وأغرقنا آل فرعون) لشدة ظلمهم، ثم أختتمت الآية بالحكم المتواطئ على الجميع وهو أنهم كانوا جميعاً ظالمين لأنفسهم بالكفر والجحود.
ويدل السور الجامع (كل) الوارد في الآية أعلاه على عدم وجود أمة مؤمنة من بينهم، بينما كان الذين إتخذوا العجل فرقة من بني إسرائيل، وكان بينهم هارون النبي الذي نهاهم وكذا عاد لهم موسى عليه السلام ليرجعوا إلى منازل الإيمان.
وجاءت الآية التالية للإخبار عن نعمة عظيمة على بني إسرائيل هي نزول التوراة من عند الله على موسى عليه السلام.
وجاءت خاتمة الآية التالية بذات اللغة التي أختتمت بها هذه الآية، وهي لغة الحث والندب، إذ تدعو هذه الآية بني إسرائيل إلى التوجه بالشكر لله تعالى.
وتحثهم خاتمة الآية التالية على الهداية والصلاح والرشاد.
إعجاز الآية
في الآية حجة على بني إسرائيل بما يوفره لهم العفو من مناسبة للإلتفات إلى وظائفهم العبادية وإقرارهم بالنبوة ويتجسد الشكر بدخول الإسلام , والغمل بأحكام الشريعة.
وتبين الآية وجهاً من وجوه النعم الإلهية على بني إسرائيل وهو العفو عن المعصية، وعدم تعجيل العقوبة على بني إسرائيل للإخبار عن علم الله تعالى بما فعله بنو إسرائيل من المعاصي وعدم رضاه عنهم، ولكنه سبحانه عفا عنهم، ليكون العفو والإخبار عنه برزخاً دون التمادي في المعاصي، ومناسبة للتوبة والإنابة والشكر لله تعالى.
وتتضمن الآية مسألتين:
الأولى: العفو من الله تعالى.
الثانية: الشكر من العباد , قال تعالى[وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]( ).
وكل من العفو والشكر أمر يحتاجه الإنسان في الدنيا والآخرة، لذا فان هذه الآية تتضمن ذكر نعم عظيمة على بني إسرائيل لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
ويمكن تسمية الآية بآية (عفونا عنكم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية تذكير لبني إسرائيل بفضل الله تعالى، لعلهم يتداركون تقصيرهم وعنادهم وتطاولهم على المسلمين بالمغالطة والإيذاء، وفيها درس وموعظة بانفتاح باب العفو عن الظلم والجحود، وتوكيد لرحمة ولطف وإحسان الله تعالى، والآية حجة بيد المسلمين، ودعوة متجددة للناس لدخول الإسلام, قال تعالى [وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( ).
وتبين الآية قانوناً في الإرادة التكوينية في العفو، ويحتمل وجوهاً:
الأول: قانون العفو بعد المعصية خاص ببني إسرائيل، لأن الله عز وجل فضلهم على العالمين.
الثاني: قانون يأتي العفو على شطر من الذنوب التي يرتكبها الإنسان، ويدخل فيها ما فعله بنو إسرائيل.
الثالث: قانون من رحمة الله تعالى على الناس في الدنيا العفو عما يرتكبونه من الذنوب عسى أن يقوموا بالشكر لله تعالى على العفو.
الرابع: قانون العفو بعد المعصية قانون عام في الحياة الدنيا.
الخامس: قانون العفو لطف ورحمة من الله تعالى ينعم بها على من يشاء من عباده.
والصحيح هو الأخير , قال تعالى[وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، فقد أخبرت الآية عن حلول العفو ببني إسرائيل وفيه مسائل:
الأولى: العفو نعمة أخرى من الله على بني إسرائيل.
الثانية: فيه شاهد على تفضيلهم.
الثالثة: إنه مصداق من مصاديق هذا التفضيل.
الرابعة: العفو من الله دعوة للتدارك.
الخامسة: ترغيب بني إسرائيل الحفاظ على معاني التفضيل بالتقوى والصلاح والشكر لله.
السادسة: تفقه المسلمين في الدين ومعرفة قانون العفو وكيفية الإنتفاع منه، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
مفهوم الآية
يمكن تقسيم النعم الواردة في هذه الآيات تقسـيماً إستقرائياًً إلى نعم مادية محسوسة , ونعم عقائدية، وأخلاقية، وبدنية، ونعمة العفو شاملة للجميع لأن مصاديق العفو تتغشى كل هذه الوجوه، والعفو باب للنعم المستحدثة الأخرى ومنها الإسلام وبعثة النبــي محمد صـــلى الله عليه وآله وسلم، فما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل نعمة على بني إسرائيل أيضاً لنجاتهم وتخليصهم من الظلم والجحود، وليكون الإيمان بالقرآن وإتيان الشـــهادتين أصــدق عناوين الشــكر لله عز وجل.
في الآية مسائل:
الأولى: تغشي العفو الإلهي لبني إسرائيل بعد إتخاذهم العجل، وهذا العفو من وجوه تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، وإشراقة تملأ النفوس بالسكينة وتبعثهم على العمل بأحكام التوراة.
الثانية: إفادة (ثم) التراخي بقرينة قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ] قال تعالى [فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ] ( ).
الثالثة: العفو دعوة لبني إسرائيل لشكر الله تعالى على النعم.
الرابعة: توكيد تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، ودعوتهم لتعاهد هذا التفضيل بدخول الإسلام.
الخامسة: بيان حقيقة وهي أن العفو مقدمة للشكر لله عز وجل.
السادسة: من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل أنه يزيد عليهم من النعم , ويعفو عنهم ويتجاوز عما فعلوه من الكبائر كي يشكروه فقوله تعالى(لعلكم تشكرون) أعم من أن ينحصر بمضامين هذه الآية بل يشمل أموراً بلحاظ الآيات السابقة وهي:
الأول: الأمر لبني إسرائيل بذكر نعمة، فهذا الأمر بذاته نعمة على بني إسرائيل.
الثاني: تفضيل بني إسرائيل على العالمين( ).
الآية لطف
تبين الآية سعة العفو الإلهي، وعدم إنحصاره بمواضيع او أحكام مخصوصة، فجاء هنا متعقباً لجحود الإنسان لنعم عظيمة، وفيه دعوة للناس جميعاً للسعي لنيل العفو الإلهي بالتوبة النصوح، والرجوع إلى أحكام الشريعة وسنن الأنبياء.
وفي الآية تأديب وتعليم وإخبار عن لزوم المبادرة إلى شكر الله عز وجل على نعمة العفو والمغفرة، ومن أسمائه تعالى (العفّو) وهو الذي يعفو عن الذنوب جميعاً.
وفي التهذيب قال: وكل من إستحق عقوبة فتركتها فقد عفوت عنه) ( ).
ولكن بين العفو وترك العقوبة عموم وخصوص مطلق , وتدل الآيات على أن عفو الله أعظم وأوسع من ترك العقوبة وهو باب لنعم مستحدثة , إلى جانب إستدامة أخرى .
وتكشف الآية عن حقيقة ولطف إلهي وهي نيل العفو الإلهي على الذنب العظيم في الحياة الدنيا، وعدم ترتب الأثر والعقوبة على الذنب لا في الدنيا ولا في الآخرة بعد نيل العفو عنه، وتبين حاجة الإنسان إلى العفو الإلهي، وإنه قريب من الإنسان ويأتي لطفاً وفضلاً منه سبحانه.
وعلى فرض ان بني إسرائيل لم يشكروا الله تعالى على نعمة العفو على الذنب العظيم بعبادة العجل، فهل يعاقبوا عليها في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً أي هل العفو معلق ومشروط بقيام بني إسرائيل بالشكر لله تعالى، الجواب لا، من وجوه:
الأول: الإعجاز القرآني في مجيء لفظ “لعل” الذي يفيد التمني والترجي، ويفيد في المقام البعث والندب للفعل فلم تأتي الآية بصيغة الشرط , ولم تقل “ثم نعفو عنكم من بعد ذلك ان كنتم تشكرون”.
الثاني: جاءت الآية بالإخبار عن وقوع العفو بصيغة القطع والفعل في الزمن الماضي، مما يعني حصول العفو فلم تقل الآية “ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لأنكم تشكرون” بل جاءت بأمرين:
الأول: أمر واقع وحاصل، وهو العفو الإلهي.
الثاني: أمر لم يقع بعد، وهو صدور الشكر من بني إسرائيل.
الثالث: جاء ذكر العفو الإلهي ضمن بيان النعم الإلهية وتعددها وكثرتها، ويمكن أن نؤسس قاعدة كلية في الفضل الإلهي وهي لو دار الأمر بين حصول الفضل والنعمة الإلهية وعدم حصولها , فالأصل هو حصولها.
إفاضات الآية
يتبادر إلى الذهن إستحقاق العقاب العاجل على الجحود المتعقب للنعم المتتالية، وأخذ الظالمين بقوة كما إتخذوا العجل وضلوا وأرادوا إضلال الأجيال من بعدهم، ولكن رحمة الله تعالى أوسع من ان تحيط بها عقول الناس، وما ظهر لنا منها مع سعته وعظمته أقل كثيراً مما لا ندركه ولا نعلمه، فجاء العفو بعد الظلم نعمة إضافية على بني إسرائيل لتبعث الشوق والأمل في نفوس المسلمين في نيل مرضاته والفوز برحمته.
وتؤكد الآية موضوعية مقامات الشكر لعامة المسلمين وليس للخاصة والسالكين وحدهم ، فكل مسلم يدرك حاجته إلى الشكر وما يناله من الإرتقاء في مراتب المعرفة بالشكر لله على النعم
والخطاب في الآية متوجه إلى بني إسرائيل، وفيه دلالات عقائدية تخص المسلمين منها :
الأول : البعث إلى سؤال العفو الإلهي والتلذذ بالسعي لنيله.
الثاني : اذا كان بنو إسرائيل سألوا العفو فضلاً من الله تعالى فمن باب أولى ان يفوز به المسلمون.
الثالث : تحث الآية على مقامات الشكر , والثناء على الله تعالى أمر حسن ذاتا وأثرا.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (ثم) الذي يقتضي التشريك والترتيب والتراخي، وقد تفقد معنى التراخي بحسب القرينة، وتبين الآية نعمة أخرى على بني إسرائيل بالعفو عنهم، وعدم ترتب الأثر والعقوبة على سوء فعلهم، وفي الآية مجئ العفو بعد الذنب لقوله تعالى[مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ] أي لم يأت العفو عند إرتكاب المعصية، وفيه شاهد على إقلاع وترك بني إسرائيل للمعصية وظلمهم لأنفسهم ببركة وجهاد النبي موسى عليه السلام، وحرقه للعجل وتوبيخه للسامري ولومه لبني إسرائيل على سوء فعلهم , وفي التنزيل حكاية عن موسى في خطابه للسامري[وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا]( ).
وتدل الآية في مفهومها على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى إذ رزقهم الله الإستغفار والتوبة، وجعله طريقاً شخصياً وعاماً لنيل العفو الإلهي وسلاحاً بيد أجيال المسلمين المتعاقبة للرجوع عن الذنب والمعصية مع إحترازهم من الضلالة والشرك وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فلم يتخذ المسلمون عجلاً ونحوه، ولم يفتتنوا بما يشغلهم عن ذكر الله تعالى، فمن الآيات في الشريعة الإسلامية تكامل مبادئ التوحيد وعدم إمكان حصول شرك أو كفر عند المسلمين.
وذكرت هذه الآية ثلاثة نعم على بني إسرائيل هي:
الأولى: نعمة العفو الإلهي على بني إسرائيل، وفيه دلالة على أن العفو بيد الله تعالى وليس بيد الأنبياء، فلا يستطيع أحد أن يعفو إلا الله، نعم بابه مفتوح للسائلين.
الثانية: ترك بني إسرائيل لعبادة العجل، بعد عودة موسى عليه السلام من الطور والذي يدل عليه قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ] والآية شاهد على أن هجران المعصية وحده لا يمنع من العقاب عليها، فلا بد من نيل العفو الإلهي الذي يأتي فضلاً ورحمة منه تعالى، كما في هذه الآية ويدرك بالإستغفار وطاعة الله ورسله.
فلم تبين الآية إستحقاق بني إسرائيل للعفو، بل تخبر عن كونه نعمة من عند الله، ومن أراد العفو فلابد أن يقلع عن الذنب ويتوجه إلى الله تعالى بالإستغفار والتوبة وهو الذي تدل عليه الآية والتالية آية (توبوا الى بارئكم)( ).
والآية دعوة للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً لنشر مفاهيم العفو والتسامح والصفح والتجاوز عن الإساءة، وهي مدرسة في محو الذنوب، فمع كثرة وعظمة النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل بعد أن أذنبوا وعصوا إذ إتخذوا العجل وفي أيام تتغشاهم فيه النعمة، ومواعدة موسى نعمة على عموم بني إسرائيل ومناسبة كريمة لتلقي التوراة والعمل بأحكامها وسننها، جاء العفو الإلهي لهم جميعاً ليبقى وثيقة قرآنية تطرد اليأس عن القلوب المنكسرة.
وتدعو الآية الناس إلى عدم القنوط من رحمة الله، وتحثهم على ولوج باب الرحمة والعفو الإلهي الواسع الذي يستوعب الناس جميعاً من غير زحام أو تدافع بينهم، إذ يتجلى في هذه الآية نزول العفو على نحو دفعي وعلى نحو العموم الإستغراقي الشامل لبني إسرائيل جميعاً، وهذا العموم نعمة أخرى فرعية تتولد عن نعمة العفو، ولم يستثن من العفو رؤساء الضلالة والذين حرضوا الآخرين على عبادة العجل على فرض وجودهم مع السامري، بل جاء العفو عاماً لبني إسرائيل، وفيه تأديب وترغيب للملوك والأمراء بالتوبة ودعوة للإصلاح، لأن العفو مقدمة وباب لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، والمباردة إلى الخيرات.
الثالثة: نعمة نجاة بني إسرائيل من عبادة العجل، إذ أنها فتنة وبلاء، وقد تخلصوا منها بجهاد موسى وهارون عليهما السلام، ومن بركات التوراة التي جاء بها موسى لبني إسرائيل القضاء على فتنة العجل، وجاء حرف الجر (من) في قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ] لبيان الجنس وإرادة عموم السيئات التي إرتكبوها سواء عبادة العجل أو ما كان مصاحباً لها.
الرابعة: إطلالة عهد جديد على بني إسرائيل بالعفو والصفح الإلهي وفيه دعوة لهم للإصلاح والعمل بأحكام التوراة.
الخامسة: من بركات نزول التوراة إقتران العفو بها، وفيه آية ودعوة لتلمس البركات المصاحبة لنزول القرآن على المسلمين والناس جميعاً.
السادسة: بيان علة العفو بأن يتوجه بنو إسرائيل إلى شكر الله تعالى على نعمة العفو، والنعم الأخرى التي تفضل الله تعالى بها عليهم، ولبيان أن الله تعالى غير محتاج لبني إسرائيل وان العفو رحمة وفضل منه تعالى عليهم، ولم تجعل الآية حداً لمقدار الشكر، فهو خير محض، ولأن الكثير منه لا يعادل معشار نعمة من النعم التي تفضل بها الله تعالى على بني إسرائيل.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ليتوجه بنو إسرائيل مجتمعين ومتفرقين لمنازل الشكر والعبادة والدعاء، والإنقطاع إلى الشكر وهو حرز من الشرك والضلالة، لذا فان الآية تأديب لبني إسرائيل وإرشاد لهم للوقاية من الغواية والضلالة بالإنقطاع إلى الشكر لله وإتخاذه سلاحاً.
التفسير الذاتي
بعد أن جاءت الآية قبل السابقة بذكر أربع نعم على بني إسرائيل وهي فرق البحر بهم، ونجاتهم، وإغراق آل فرعون وهم ينظرون، وتضمنت الآية السابقة بذكر نعمة واحدة وهي مواعدة موسى أربعين ليلة يقضيها على الطور لتلقي التوراة بعدها، وإفتتان بني إسرائيل من بعده بالعجل.
جاءت هذه الآية بذكر نعمة أخرى وهي العفو عنهم، وجعلها مناسبة لشكر بني إسرائيل لله عز وجل، وجاء الشكر نعمة قائمة بذاتها فان الله عز وجل يحب لعباده أن يشكروه، وقد فضّل بني إسرائيل على أهل زمانهم.
ومن وجوه التفضيل تقريبهم من منازل الشكر لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] فالعفو ينجي بني إسرائيل من العذاب العاجل في الدنيا، والعذاب في الآخرة، ويكون مناسبة لتلقي وإتصال النعم الإلهية عليهم.
والشكر لله مطلوب بذاته، كما أنه مقدمة لنيل نعم أخرى من عند الله , قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( )، وجاء العفو عاماً لبني إسرائيل ليشكروا الله مجتمعين ومتفرقين، ومن وجوه الشكر لله عز وجل تعاهد التوراة وما فيها من الأحكام، والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وورد لفظ (عفونا) مرتين في القرآن، كلاهما في بني إسرائيل وذات الموضوع، قال تعالى [ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ]( )، وفيه حجة عليهم لأن الأصل هو تلقي البينات بالثبات في منازل الإيمان.
ومن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل عدم مقابلة جحودهم بالعقوبة العاجلة، وعدم التخلية بينهم وبين المعصية، والإفتتان بالعجل، وفيه دعوة لهم لأخذ وتلقي التوراة بتدبر وتوارث ما فيها من البشارات، والآية مدرسة في سعة رحمة الله، وعفوه عن الكبائر والصغائر إن شاء ، وعدم تأخر العفو عن أوان المعصية، وهو من فضل الله على الناس بأن تبقى أمة من أهل الأرض تعبد الله , وفيه تأديب للحكام والسلاطين بالمبادرة إلى العفو وعدم التشديد في العقوبة والإصرار عليها، والبخل بالعفو باسم القوانين الوضعية، والآثار العرضية عنه، وعدم إدراك أن العفو حسن ذاتاً، وهذا الحسن غالب على قبح بعض الآثار العرضية التي تكون على نحو السالبة الجزئية , مثل تجدد صدور الجريمة من بعضهم.
وقد جاءت آيات كثيرة تحث على العفو بين الناس وتندب إليه ، وتبين منافعه، قال تعالى [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ]( )، أي أن العفو يعود بالنفع على من يعفو ويصفح، أما عفو الله على بني إسرائيل فهو لمنفعتهم في الدنيا والآخرة، فالله غني عن العالمين غير محتاج إلى الخلائق، وكذا بالنسبة للشكر فان المبادرة إلى شكر الله على نعمة العفو مناسبة لتوالي النعم، وبرزخ دون إنقطاعها.
من غايات الآية
بيان فضل الله عزوجل على بني إسرائيل، وأنه لا ينحصر بتوالي النعم الحسية والمادية، بل يشمل العفو عن الجحود والضلالة، وهذا العفو ترغيب وحث لبني إسرائيل على الشكر لله تعالى، وتؤكد الآية عدم إنغلاق باب العفو عن الناس، ومما ينفرد به الله سبحانه هو تعقب العفو منه للجحود بالنعمة، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى , وفي الآية مسائل:
الأولى: مجيء الآية بصيغة الخطاب، وإرادة اليهود زمان النبوة مع أن موضوع الآية هو موسى عليه السلام من غير تعارض بين الأمرين، لمخاطبة الفرع وتذكيره بما فعل الأصل ليكون الخطاب والتذكير موعظة وزاجراً عن تكرار ذات الفعل.
الثانية: دعوة اليهود للإنتفاع من العفو الإلهي.
الثالثة: توكيد حقيقة في الإرادة التكوينية وهي أن العفو عن الذين عبدوا العجل ينتفع منه اليهود أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الشكر عليه بقوله تعالى (لعلكم تشكرون) يتجلى بدخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: مجيء العفو عاماً لبني إسرائيل، من غير إستثناء إلا ما خرج بالدليل.
الخامسة: توكيد مجيء العفو بعد عبادة العجل بقوله تعالى( بعد ذلك) لبيان عظيم النعمة على بني إسرائيل، وأن العفو عام وشامل بجميع المعاصي والسيئات التي إرتكبوها.
السادسة: بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن العفو من الله مقدمة للتوجه إليه تعالى بالشكر، وهو خير محض , قال تعالى[وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).
التفسير
قوله تعالى [ثُمَّ عَفَونَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ]
ثم تفيد الترتيب والتراخي، أي أن الله تعالى يخاطب بني إسرائيل ويذكرهم بنعمة أخرى من نعمه تعالى عليهم، فبعد أن جحدوا النعمة وقابلوا الآيات بالصد والعكوف على العجل تلقاهم العفو من الله تعالى فضلاً وإحساناً منه وباباً للتوبة ودليلاً على رحمته المتصلة.
و(الكاف) ضمير يعود إلى بني إسرائيل، وظاهره أن المخاطب اليهود الذين عاصروا نزول القرآن وشملتهم الدعوة الإسلامية والرسالة المحمدية والذين لم يولدوا بعد، وانما أسلافهم الذين عبدوا العجل، وفي التنزيل [ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ]( ).
لقد شاء الله عز وجل ألا تبقى عبادة العجل في بني إسرائيل ولا تمتد إلى أجيالهم المتعاقبة بما تصدى به النبي موسى عليه السلام ووأدها في مهدها، وصحيح ان مورد العفو خاص , ويتعلق بالذين عبدوا العجل وهم ظالمون، إلا أن بركاته بفضل الله تعالى إتصلت لتعم ذراريهم بالبقاء على شريعة موسى عليه السلام ونبذ فتنة العجل، أي ان العفو تغشى جميع الآباء والأبناء الذين تخلصوا من أوزار سوء الفعل وعواقبه , وما يترتب عليه من الإنحراف في العقيدة والسلوك.
وجاء وجودهم وتوالدهم بترك معاجلتهم بالعقاب والهلاك والإستئصال، ولعل من مصاديق قوله تعالى [ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ] الإشارة إلى أمرهم بقتل أنفسهم كما سيأتي بيانه عقب الآية التالية وإن كان بلحاظ رحمته تعالى أعم من أن ينحصر بفعل معين يصدر منهم، فقد يكون رحمة مستحدثة من الله تعالى أو بركات ومضاعفة ثواب أعمال تدريجية صغيرة.
ولم يرد لفظ (عفونا) في القرآن إلا مرتين، وكلاهما في بني إسرائيل وفي ذات الموضوع وهو عبادة العجل , قال تعالى [ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ] ( )،
مما يدل على أن اتخاذهم العجل لم يكن عن جهالة أو غفلة بل بعد أن توالت عليهم الآيات الباهرات التي تدل على وجوب الإخلاص في الوحدانية ونبذ الشرك والضلالة.
وفي الآية وجوه:
الأول: إن الصالحين من بني إسرائيل ممن لم يرضوا بعبادة العجل سألوا الله العفو، فعفى الله عزوجل عن بني إسرائيل عامة.
الثاني: لقد أدرك بنو إسرائيل سوء فعلهم وضجوا إلى الله تعالى بالإستغفار والمسألة فعفى الله عز وجل عنهم.
الثالث: جاء عفو الله عز وجل إبتداء وفضلا , ومن غير إستحقاق من بني إسرائيل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه .
ويحتمل العفو في الآية وجهين:
الأول: خصوص العفو في الحياة الدنيا وعدم نزول بلاء عظيم بهم.
الثاني: عموم العفو فيشمل محو ما يترتب على المعصية والظلم من الأثر والعقاب في الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الثاني لوجوه:
الأول: إن الله عزوجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
الثاني: أصالة الإطلاق والمتبادر من العفو هو العام الشامل للحياة الدنيا والآخرة.
الثالث: جاءت الآية في مقام لبيان النعم الإلهية العظيمة على بني إسرائيل.
وهل يتعلق العفو بفريق من بني إسرائيل أم بهم عامة، الجواب هو الثاني فالعفو عام وشامل لبني إسرائيل خصوصاً وان الآية جاءت متعقبة لمسألة عبادة العجل، مما يدل على شمول الباقين من عبدة العجل بالعفو ليكون بداية مباركة للصلاح والإصلاح.
وجاء الضمير “ذلك” اسم إشارة للبعيد، ويحتمل وجهين:
الأول: الإزدراء.
الثاني: التفخيم، ومن الإعجاز إجتماع الوجهين في الآية لأنها تتعلق بكبائر فعلوها، وقبائح إرتكبوها، بعد نعم عظيمة أنعم الله بها على بني إسرائيل، والمراد من “ذلك” على قسمين:
الأول: النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل وهي:
الأولى: تفضيل بني إسرائيل على الناس من أهل زمانهم، وفي التنزيل حكاية عن موسى عليه السلام في خطابه ووعظه لبني إسرائيل[قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثانية: نجاة موسى وقومه من ظلم وبطش فرعون وقومه.
الثالثة: سلامة ذراري بني إسرائيل.
الرابعة: نجاة نساء بني إسرائيل من أذى وعذاب آل فرعون.
الخامسة: إنفلاق البحر لبني إسرائيل، ونجاتهم من آل فرعون.
السادسة: مواعدة الله تعالى لموسى عليه السلام لنزول التوراة.
الثاني: إتخاذ العجل رباً والإفتتان به.
وجاء اسم الإشارة “ذلك” لبيان عظم الذنب والظلم في عبادة العجل وفيه دليل على ان العفو نعمة عظيمة وهبة من عند الله لبني إسرائيل وشاهد على تفضيلهم، وفيه حجة بأن تفضيل المسلمين تترشح عن عبوديتهم المحضة لله تعالى والتقيد بالتكاليف والفرائض بفضله تعالى، وإجتناب الشرك والضلالة وهو من عمومات[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويتعلق العفو الإلهي بوجوه:
الأول: العفو عن عبادة العجل.
الثاني: العفو عن ظلمهم لأنفسهم.
الثالث: تقصير بني إسرائيل في مواطن الشكر لله تعالى.
ويحتمل قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] وجهين:
الأول: قيامهم بالشكر على عظيم النعم، وجاءت الآية للأمر بالشكر لله تعالى على نعمة العفو.
الثاني: تخلف بني إسرائيل عن التوجه بالشكر لله تعالى على النعم التي خصهم بها.
ولا تعارض بين الوجهين، وهما من العام والخاص بلحاظ آيات القرآن أي أن الآيات السابقة جاءت بالعام والمتعدد من النعم التي يجب أن يشكر بنو إسرائيل عليها الله تعالى.
وجاءت هذه الآية بالنعمة الخاصة وهي العفو فيجب أن يشكروا الله تعالى، ولكن لماذا جاء ذكر الشكر بعد نعمة العفو فيه وجوه:
الأول: بيان عظيم الذنب في عبادة العجل.
الثاني: ما تستحقه عبادة العجل من العذاب وسلب النعم الخاصة.
الثالث: العفو بداية مباركة للعمل الصالح، ومناسبة لإستحضار نعم الله تعالى.
الرابع: الشكر بعد العفو دعوة لإجتناب تكرار فعل المعصية، وواقية منها.
وبين الشكر لله تعالى وذكره عموم وخصوص مطلق، فكل شكر لله تعالى هو ذكر له سبحانه وليس العكس، وهل إستحضار النعمة من ذكر الله , الجواب نعم، لأنه إقرار بفضل المنعم وهو الله تعالى وإعتراف برحمته ولطفه وقدرته سبحانه، لذا جاء قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ترغيباً بالشكر لله عز وجل على النعم.
علم المناسبة
ورد في أسماء الله عز وجل “العفّو” في أربع آيات من القرآن، وهو الذي يتجاوز عن السيئات، ويغفر الذنوب العظام، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالعفو والندب إليه، وجعله نفقة وبراً وعملاً صالحاً [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ]( ).
ومع كثرة ورود مادة العفو في القرآن وبصيغة الفعل والإسم، فانه لم يذكر لفظ “عفونا” فيه إلا مرتين، وفي موضوع واحد وهو إتخاذ بني إسرائيل العجل والإفتتان به بعد ذهاب موسى الى الطور لتلقي التوراة.
وجاءت الآية محل البحث بقوله تعالى [عَفَونَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ]( ) وجاءت الآية الأخرى بقوله تعالى [ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ] ( )، مما يدل على أن المراد من اسم الإشارة “ذلك” في الآية محل البحث أعم من مغادرة موسى إلى الطور، والمراد كثرة الآيات والمعجزات التي جاءت لبني إسرائيل كما ذكرتها الآيات السابقة، منها آية النجاة من فرعون، وهلاكه وهم ينظرون، وضرب موسى الحجر بعصاه، وجريان الماء من الحجر ونزول المن والسلوى على بني إسرائيل، وكل آية عصمة وواقية من إتخاذ العجل، ووسيلة سماوية لثباتهم على الإيمان سواء كان موسى بين ظهرانيهم أو غائباً عنهم، كما ان النبوة لم تغب ولم يغادرهم هارون مدة ذهاب موسى إلى الموعد ، فمن الحجج والبراهين في المقام ان موسى عليه السلام لم يأخذ معه هارون النبي إلى الطور بل أبقاه مع بني إسرائيل لإمامتهم وإرشادهم إلى سبل الهداية.
وأختتمت الآية بقوله تعالى ” لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ ” أي جعل الله عز وجل العفو مناسبة للشكر، وموضوعاً لإبتلاء بني إسرائيل، وإمتحاناً لمقابلته بالشكر ووسيلة مباركة لبني إسرائيل للشكر لله عز وجل، وقال سيبويه في قوله تعالى [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( )، الرجاء منصرف إلى المخاطب كأنه قال: كونا على رجائكما في ذكرهما).
ولو شاء الله عز وجل أن يشكر بنو إسرائيل الله، لما تخلفوا عن الشكر لأنه لا راد لأمره، ولكنه سبحانه أراد من “لعل” في المقام التوكيد على أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وأن الله خصّ بني إسرائيل بنعم عظيمة منها تجدد العفو عنهم ليكون مناسبة مستحدثة لشكرهم لله عز وجل، وللإخبار بأن العفو عن بني إسرائيل آية عظمى ونعمة أخرى تضاف للنعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها عليهم.
قوله تعالى [ لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ ]
العفو مناسبة كريمة لبني إسرائيل والناس جميعاً ليتخذوا من الشكر على النعم باباً للهداية والاقرار بالربوبية لله عز وجل والايمان برسله، ومن وجوه الشكر إظهار النعمة والإقرار بها وإبرازها خارجاً بإتيان افعال الطاعة وإجتناب المعصية، ويتجسد ذلك باتباع خاتم النبيين والتصديق بما جاء به من عند الله، ونبذ صيغ الجحود والإعراض التي أصروا على مواجهة الآيات بها.
وفي الآية إشارة إلى أن العفو كان إمتحاناً وحجة عليهم فبالشكر تدوم النعم، وأن العفو عن الذنب نعمة تستحق الثناء والشكر، ولا ينحصر الشكر بالقولي منه بل يتعدى إلى العملي وجعل الجوارح تبرزه خارجاً، والشكر وسيلة لدوام النعم وزيادتها، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وتدل الآية في مفهومها على ما فضّل الله عز وجل به المسلمين على الأمم السابقة من إتخاذ الإستغفار سبيلاً للعفو.
ويحتمل الشكر في المقام هنا وجوهاً:
الأول: أنه قيد للعفو، فاذا لم يشكروا الله عز وجل لا يكون عفو.
الثاني: التخيير لبني إسرائيل في الشكر لله عز وجل على نعمة العفو، لذا وردت الآية بلفظ الرجاء (لعل).
الثالث: الشكر لله غاية العفو، وهو لمنفعة بني إسرائيل، والله عز وجل غني عن العالمين.
والصحيح هو الثالث، وهو من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل بأن يتعقب العفو منه تعالى ذنوبهم كي يشكروا الله عز وجل على نعمة العفو، ويكون الشكر مقدمة لمنافع عظيمة في النشأتين ، وكأن في الآية حذفاً وتقديره على وجوه:
الأول: لعلكم تشكرون فتعملوا بالميثاق وأحكام التوراة.
الثاني: لعلكم تشكرون فتظهروا البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتجنبوا التحريف والتبديل فيها.
الثالث: لعلكم تشكرون فتدوم عليكم النعم والفضل الإلهي.
الرابع: لعلكم تشكرون نعمة العفو عليكم.
الخامس: من فضل الله عز وجل أن يأتي عفوه بعد الظلم عن بني إسرائيل، وقد ورد قوله تعالى [ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ]( )، ويفيد الجمع بين الآيتين عظيم النعمة والفضل الإلهي عليهم بالعفو بعد التعدي.
بحث فلسفي
إن الله عز وجل يريد من العباد الشكر لا لحاجة منه تعالى إليه لأنه الغني الذي لا يحتاج إلى شئ، وأن الإحتياج من لوازم الممكن، ولكن الحكمة صفة فعلية إلهية فهو تعالى يعلم الخير والكمال للناس بما يؤدي بهم إلى الصلاح وسلوك السبل المؤدية إلى الخلود في النعيم بالإعتبار والإتعاظ من موارد الإبتلاء الذاتية، ومن قصص الأمم السابقة باعتبار أن الناس لا يعيشون عرضاً في حقبة زمانية معينة، بل إن وجودهم على الأرض بالتعاقب في تغير للإشخاص وإنعدام ونمو وظهور مستحدث بالواسطة والتكاثر.
ويتغذى الابن بنفقة الأب وينتفع الصغير من الكبير، واللاحق من السابق بحب للخير والفلاح زرعه الله في النفوس لبلوغ درجات الكمال وفق الإمكان والمخلوقية, ولما تقتضيه العناية، والحكمة الإلهية في الذي جعله الله خليفة له في الارض وهو الذي يطلق عليه الفلاسفة (النظام الأحسن).
بحث كلامي
قال الزمخشري في الآية معناه إرادة أن تشكروا، وقال أحمد في حاشية الكتاب : أخطأ في تفسير لعل بالإرادة، لأن المراد لله تعالى كائن لا محالة، فلو أراد منهم الشكر لشكروا ولابد، وإنما أجراه الزمخشري على قاعدته الفاسدة في اعتقاد ان مراد الرب كمراد العبد، منه ما يقع ومنه ما يتعذر، تعالى الله عن ذلك.( )
ولكن الخلاف لفظي، لاسيما إذا عرفنا أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وأن الإختلاف في معنى الإرادة بعد ان أجمع المسلمون على أنه تعالى مريد، ولا بد من مخصص للأفعال وحصولها في وقت دون غيره.
وأختلف في معنى الإرادة على أقوال منها:
الأول : هي علم الله تعالى بما في الفعل من المصلحة، قاله أبو الحسين البصري( ).
الثاني : عبارة عن علم الله بأفعاله وأمره بأفعال غيره وانها لم تصدر منه جهلاً ولابد ان هذا العلم مقيد بالمصلحة لأن العلم المطلق بما هو علم ليس بإرادة.
الثالث : الله تعالى غير مغلوب ولا مستكره في الإرادة والإختيار في مقابلة القهر، أي ان معناها سلبي وأخذت بنحو النفي والمنع وهو تفسير باللوازم والحواشي.
الرابع : إنها صفة زائدة مغايرة للعلم والقدرة، وبه قال الأشاعرة والكرامية والحنابلة ومن المعتزلة الجبائيان.
أما مغايرتها للعلم فلأن العلم متعلق بتعيين الممكن، وتصوير لخارجه قبل ان يقع، وعلم الله تعالى بالشئ قبل وقوعه كعلمه به بعد وقوعه، لذا قيل ان كل علم تابع لمعلومه من جهة تصويره له.
أما مغايرتها للقدرة فلأن نسبة الأشياء إلى القدرة متساوية بالإمكان والحدوث لكل مقدور، ولكن الله أوجد بعض الممكنات دون البعض الآخر وهو لا يوصف بالعجز، فلابد من مخصص غير القدرة , ولحاظ مرجح للفعل بالنسبة للفاعل، وللقابل أيضاً وهذا من أطهر الأدلة على ثبوت الإرادة لواجب الوجود.
الخامس : للإرادة معنى جامع مرادف للحب , ولكنها في الإنسان تعرف بكيفية نفسانية تنفعل بالمؤثرات الخارجية والمتضادات الباطنية حتى تتبلور بمرجح، وينفرد واجب الوجود سبحانه بعدم التأثر , وبالتنزه عن التضاد , والتجرد عن الإنفعال واللوازم المادية , فتكون إرادته وإختياره مرتبة خاصة متميزة بخصائص إلهية.
السادس : إنها عقد العزم، وهناك فرق بين القصد والإرادة، وأن القصد خاص والإرادة عامة فيقال أراد الله ولا يقال قصد الله.
السابع : قصد إنجاز فعل، وقد ورد عن صفوان قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق، فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله فإرادته إحداثه لا غير، لأنه لا يروي ولا يهم و لا يتفكر( ) .
الثامن : أختلف في الإرادة هل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل والأنسب أنها منهما معاً.
قوله تعالى [ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ] الآية 53.
الإعراب واللغة
وإذ : الواو حرف عطف، إذ : إسم للزمن الماضي في محل نصب على الظرفية الزمانية.
آتينا : فعل ماض، والضمير (نا) فاعل، يعود إلى الله تعالى، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
موسى: مفعول به أول، الكتاب: مفعول به ثان، والفرقان: الواو: حرف عطف، الفرقان: معطوف على الكتاب.
تهتدون: فعل مضارع، والواو: فاعل، والجملة الفعلية خبر لعل.
آتينا: أعطينا،.
لعلكم تهتدون: حرف مشبه بالفعل مع إسمه وخبره، والجملة حالية.
والفرقان: لغة ما تفرق به بين شيئين، يُقال أفرق فرقاً فرقاناً (وكل ما فرق به بين الحق والباطل، فهو فرقان) ( ).
والفرقان : الحجة، قال تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، وهو يوم بدر لأن الله عز وجل نصر المؤمنين، ورجحّت كفة الإسلام، وإنفتح للناس باب الدخول إليه من غير خوف أو خشية من قريش والكفار مطلقاً.
في سياق الآيات
تأتي الآية ضمن بيان النعم العظيمة على بني إسرائيل للذكرى والموعظة والتحذير من الإقامة على الجحود، فبعد نعمة النجاة من الطواغيت والعفو عن الظلم الذاتي، جاءت هذه الآية لبيان النعم العقائدية والهداية التشريعية لبني إسرائيل.
وهل تدل هذه الآيات على توالي النعم الإلهية بلحاظ تعاقب الآيات بحيث جاء نزول التوراة بعد العفو الإلهي، الجواب لا، فان كل آية تبين موضوعاً ونعمة مستقلة، لأن من وظائف المؤمنين الإقرار بالنعم الإلهية عليهم، والشكر لله تعالى على نعمة نزول الكتاب بالإضافة إلى إعجاز النظم في هذه الآيات إذ جاءت هذه الآية والآيتان التاليتان بذكر اسم موسى عليه السلام وفي الآية قبل السابقة[وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً]( )، ليكون الموضوع متصلاً في أربع آيات ذكر موسى عليه السلام في آيتين متعاقبتين منها.
وفيه بيان موضوعي يكون عوناً للناس عامة، وبني إسرائيل خاصة على التدبر والإعتبار، وحثاً للمسلمين على التفقه في الدين وإكتساب المعارف.
وتتضمن هذه الآيات بياناً تفصيلياً للنعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل وبعد العفو عن بني إسرائيل بإفتتانهم بالعجل، وظلمهم لأنفسهم مع أن غياب موسى كان لأربعين يوماً بلياليها هي مدة المواعدة أخبرت الآية عن فضل الله عز وجل بنزول التوراة على موسى عليه السلام آية سماوية لكل بني إسرائيل مع بيانها لأحكام الشريعة.
وبعد إخبار هذه الآية بمجيء الكتاب لموسى عليه السلام جاءت الآية التالية لتخبر عن قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ] أي يتضمن قوله هذا توجيه اللوم لقومه وجاء بعد الرسالة ونزول الكتاب عليه، ليكون كلامه حجة عليهم.
إعجاز الآية
تبين الآية عظيم منزلة الكتاب السماوي كنعمة تستحق الثناء والشكر وأنه مفرق بين الحلال والحرام، ومن التفريق أنه يهدي إلى الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتتضمن الآية بيان عظيم منزلة التوراة وما لها من الشأن بين الكتب السماوية، مما يترتب عليه من الأثر بين الناس ولزوم تقيد بني إسرائيل بمضمامينها وأحكامها.
ان عطف الفرقان على التوراة في النزول على موسى آية إضافية في إكرام موسى عليه السلام والإشارة إلى أنه من الرسل الخمسة أولي العزم، وتوكيد الشأن العظيم للتوراة.
وهل البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته من الفرقان الذي جاء به موسى عليه السلام , الجواب نعم، وهو من أسرار إضافة الفرقان للكتاب، وهل يتحقق مصداق الفرقان بين الحق والباطل في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند حصول بعثته، أم من أيام موسى عليه السلام.
الجواب هو الثاني لنا في التصديق بها من دلائل الإيمان، ولزوم الإستعداد لها والتهيء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذا التهيء الأجر والثواب حتى وإن لم يدرك صاحبه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليكون التصديق بنزول القرآن من عمومات الهداية التي أرادها الله عز وجل لبني إسرائيل والتي أختتمت بها آية البحث (لعلكم تهتدون).
ويمكن تسمية الآية بآية (وإذ آتينا موسى) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، بلحاظ إبتدائها بظرف الزمن الماضي(إذ) إذ وردت آيات عديدة بلفظ[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ]( ).
الآية سلاح
في الآية تنبيه بضرورة إكرام القرآن وتعاهده كنعمة عظيمة من باب الأولوية لأنه أعظم وأشرف من التوراة، وحجة على المليين في لزوم حفظ ما نزل عليهم، ودعوة للمسلمين للإقرار بالتوراة وموضوعيتها في الأحكام أيام شريعة موسى عليه السلام.
والآية عون للمسلمين في الإحتجاج والإحتراز من أسباب الشك والريب التي يثيرها بنو إسرائيل، وفيها حجة عليهم بأن الله عز وجل أنعم عليهم بنعمة التوراة مما يلزم تعاهدها وأحكامها وسننها.
والآية مصداق لقانون كلي وهو أن القرآن يدافع عن الأنبياء ويشهد لهم بتلقي التنزيل من الله عز وجل، وفيه بيان لحقيقة وهي أن القرآن ليس أول كتاب ينزل من السماء بل سبقته كتب عديدة، وكل كتاب نزل على رسول من رسل الله.
وتبعث الآية على تفقه المسلمين في الدين، فصحيح أنها جاءت خطاباً لبني إسرائيل إلا أنها عون للمسلمين لمعرفة أسرار التنزيل وتقدمه زماناً على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراك المسلمين لوظائفهم العقائدية في هداية الناس جميعاً للإيمان، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، شهادة المسلمين بنزول التوراة والإنجيل ودعوة الناس للتصديق بنزول الكتب السماوية كبرهان عقلي وحسي على الصلة بين الله والعباد.
مفهوم الآية
الآية دعوة للعمل بما جاء به موسى عليه السلام , ولم تذكر التوراة بالاسم والتعيين بل جاء ذكرها بوصف الكتاب ليكون من مفاهيم الآية الحث على العمل بالقرآن لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، فكل منها كتاب سماوي نازل من عند الله تعالى، والتوراة تدعو للقرآن وتبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك جاءت خاتمة الآية تذكيراً وتنبيهاً وإشارة إلى إجتماع مضامين الهداية برسالته صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين الآية عظيم إحسان الله تعالى وأنه لم يجعل بني إسرائيل بلا كتاب وشريعة، بل شرّفهم وأنزل كتاباً سماوياًً يتضمن الأحكام الشرعية ويكون كافياً لهم ومانعاً من الشك والريب واللبس والخلط، إذ كان مفرقاً بين الحلال والحرام، فمن النعم على بني إسرائيل مجيء التوراة رشاداً وهداية ومانعاً من الفرقة والتشتت وأسباب الظلم، قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ]( ).
وفي الآية مسائل:
الأولى: تذكير بني إسرائيل بنعمة نزول التوراة على موسى.
الثانية: توكيد فضل الله عز وجل على بني إسرائيل بنزول التوراة والأحكام التي تفرق بين الحلال والحرام.
الثالثة: بيان عظيم النعمة الإلهية بنزول التوراة.
الرابعة: بيان حقيقة في الإرادة التكوينية وهي أن نزول التوراة على موسى سبب وعلة لهداية بني إسرائيل.
ومن مفاهيم الآية حث بني إسرائيل على إتباع التوراة وما فيها من الإخبار عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم نصرته وإتباعه، والإخبار بأن المسلمين تعاهدوا آيات القرآن الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعملوا بأحكامه، ومن مفاهيمها حث المسلمين على التقيد بأحكام الكتاب وعدم التفريط بها.
وهل تتضمن في مفهومها سؤالاً إستنكارياً لبني إسرائيل وهو أقمتم بحق التوراة وعملتم بها كما ذكر في بعث كتب التفسير , الجواب لا، فالقدر المتيقن من الآية هو بيان النعم الإلهية على بني إسرائيل وتذكيرهم بها.
وتتضمن الآية تأكيداً للطف الإلهي في إعانة الناس على تحقيق مصداق العبادة في الأرض والعمل بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بأن يتفضل الله عز وجل بإنزال الكتب السماوية والفرقان ليواظب الناس على العبادة الأمر الذي يستلزم الشكر لله على هذه النعم.
وبالإسناد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل جزاء الإِحسان إلا الإِحسان} وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة)( ).
وورد أيضاً عن الإمام علي عليه السلام وعن جابر بن عبد الله وابن عباس وابن عمر يرفعونه، مما يدل على أن الحديث متواتر.
الآية لطف
التذكير بالنعم الإلهية مدرسة وموعظة ووسيلة للإصلاح، وتثبيت لحقائق في التنزيل والفضل الإلهي على بني إسرائيل، مع بيان فردي نعمة التنزيل وهما الكتاب والفرقان، ومن الآيات أن الفرقان عام ولا ينحصر بزمان موسى عليه السلام، فيشمل البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه ونصرته.
ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل على غيرهم من أهل زمانهم ملازمة الكتاب والفرقان لهم في حياتهم لإصلاحهم وحثهم على طاعة الله والتصديق بنبوة عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاء تفضيلهم بنسبة الفعل إلى الله[فَضَّلْتُكُمْ] بينما جاء الثناء على المسلمين بالمدح الذاتي لهم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولقد إهتدى المسلمون بنزول القرآن وتعاهدوه وأحكامه ويكون المصداق العملي للهداية في الآية على أقسام:
الأول : من إهتدى أيام موسى عليه السلام وما بعدها.
الثاني : من إهتدى أيام بعثة عيسى عليه السلام.
الثالث : الذين إهتدوا من بني إسرائيل عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود والنصارى وصدّقوا بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] شامل أيضاً لأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها باللحوق بالمسلمين وترك الإصرار على الجحود والعناد.
إفاضات الآية
لقد أنعم الله على المسلمين إذ جعلهم ورثة الملل السابقة وأنزل القرآن فيه تبيان كل شيء، ومنه قصص الأمم السابقة ليتعظ المسلمون ويتخذوا من سننهم وسيرتهم عبرة، وسبيلاً لتثبيت مفاهيم الهداية والصلاح.
لقد أراد الله عز وجل تذكير بني إسرائيل والناس جميعاً بالتوراة ليكون الإقرار بها من معاني الإيمان، وحجة على بني إسرائيل في إخبارها عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتضمنها البشارة ببعثته ولزوم نصرته وإتباعه الأمر الإلهي بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مفهومه على ظهوره على الدين، وسيادة أحكام الإسلام، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
وصحيح أن الخطاب في الآية موجه للمسلمين إلا أنه مدرسة كلامية وتأديب للمسلمين، من وجوه :
الأول : لزوم الإقرار بنزول التوراة من موسى عليه السلام , وفي التنزيل خطاب للمسلمين [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الثاني : إكرام موسى والأنبياء السابقين.
الثالث : توجه المسلمين بالشكر لله تعالى وإتخاذهم نزول التوراة على موسى موضوعاً من مواضيع الهداية.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية لحث بني إسرائيل لإستحضار نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها عليهم وهي تفضله بإنزال التوراة على موسى عليه السلام , وفيه مسائل:
الأولى : التوراة كتاب نازل من عند الله.
الثانية : الدعوة للتصديق والتسليم بنبوة موسى عليه السلام، وطرد الشك والريب فيها.
الثالثة : توكيد حقيقة وهي ان نزول التوراة نعمة عظيمة على بني إسرائيل، فالله عز وجل غني غير محتاج، وأنزل التوراة لنفع بني إسرائيل، وهو من أسمى وجوه تفضيلهم على أهل زمانهم بأن جعل عندهم كتاباً سماوياً نازلاً من عنده تعالى، ويتضمن أحكام الشريعة، ويمنع من الضلالة والشرك.
إن عبادة بني إسرائيل للعجل شاهد على حاجتهم لنزول التوراة، فتفضل الله تعالى وعفا عنهم وغفر لهم ذنبهم، وأنزل على موسى التوراة لتكون واقية من الشرك، وتلك آية وفضل عظيم من عند الله بإن يغفر الذنب، ويمنع من وقوعه مرة أخرى بالتنزيل، وشاهد على موضوعية التنزيل، وما فيه من المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة.
الرابعة : دعوة بني إسرائيل للتدبر في الصلة بين نزول التوراة على موسى عليه السلام، ونزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنزول القرآن، والعمل بأحكامه، قال تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ]( ).
ومن وجوه الصلة بينهما تسمية كل من التوراة والقرآن بالكتاب للدلالة على تضمن كل واحد منهما الأحكام الشرعية النازلة من عند الله، وإلتقاء التوراة والقرآن في إسم الكتاب دعوة لبني إسرائيل للتصديق بالقرآن، وأنه الجامع للأحكام إلى جانب سلامته من التحريف، وأخذ المسلمين له من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، وتدوينهم له وحفظه في صدورهم.
وتبين الآية منزلة موسى عليه السلام عند الله، ومقامه بين بني إسرائيل بنزول الكتاب عليه، ومن فضل الله تعالى عليه وعلى بني إسرائيل أن الله تعالى آتاه الفرقان مع التوراة، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ] ( ).
وذكرت الآية نزول التوراة على موسى وأنها وسيلة سماوية مباركة لهداية بني إسرائيل، وجاءت الآية بلفظ (لعل) وما فيه من بيان موضوعية إختيار الهداية أو عدمه، لأن الدنيا دار إمتحان وإختبار، ولو شاء الله عز وجل لهداهم على نحو القهر ولقال ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لتهتدوا) فيكون الإهتداء رشحة ومعلولاً لنزول الكتاب، والمعلول لا يتخلف عن علته، ولكن الآية جاءت بلفظ (لعل) للدلالة على الثواب والجزاء الحسن على الهداية والرشاد، وشكر الله تعالى لمن يتخذ من نزول التوراة وسيلة للنجاة، وضياء للعمل بأحكام الشريعة، وبلغة للإهتداء إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة صفاته والتصديق به حين بعثته.
ويفيد الجمع بين خاتمة هذه الآية والآية السابقة لزوم الجمع بين الشكر لله تعالى وبين الهداية للإيمان والعمل الصالح، وصدور الشكر من منازل الإيمان والتقوى، وإتيانه بقصد القربة لله تعالى، وأن العفو الإلهي مقدمة للعمل بأحكام الشريعة، وهذا العمل واجب على كل مكلف ومكلفة.
وتدل الآية على حقيقة وهي عدم إنحصار النعم الإلهية ببني إسرائيل بذات النعم بل تشمل كيفيتها وموضوعيتها، وتعاقبها فبعد العفو عن بني إسرائيل عن عبادتهم العجل، أنعم الله تعالى على موسى عليه السلام وعليهم بالتوراة وما يفرق بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، لتكون التوراة واقية من الضلالة، ومانعاً من إتباع الشيطان وأهل الغواية .
ومن الآيات عدم ظهور سامري آخر في حياة بني إسرائيل، لأن التوراة أمن وحرز، لذا أختتمت هذه الآية ببيان علة نزول التوراة بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ولا تكون الهداية إلا لنفع بني إسرائيل أنفسهم، والله تعالى غني عنهم.
التفسير الذاتي
في الآية بيان لمنزلة موسى عليه السلام عند الله، وما رزقه من الآيات التي تدل على نبوته وأنه رسول من عند الله عز وجل، وإخبار بأن نبوته نعمة عظيمة على بني إسرائيل، يجب أن يشكروا الله عز وجل عليها، وهذه الآية من مصاديق تصديق القرآن للكتب السابقة وقوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] ( ).
ونزول التوراة والفرقان على موسى عليه السلام لدفع الظلم من وجوه تفضيل بني إسرائيل، وقد خاطب الله عز وجل المسلمين بأنه أتم نعمته عليهم لتكون سبباً لهدايتهم وثبات أقدامهم في منازل التقوى، قال تعالى [وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
وبعد إخبار الآية السابقة عن عفو الله عز وجل عن بني إسرائيل جاءت هذه الآية لبيان نعمة أخرى، تكون سلاحاً لهم من الضلالة والجحود وعبادة العجل والإفتتان، وتتضمن أحكام الحلال والحرام لمنع الإختلاف والفرقة بينهم، ومقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من البشارات بنبوته.
وتذكر هذه الآية ثلاثة من النعم هي:
الأولى : نزول التوراة على موسى.
الثانية : إتيان موسى الفرقان وفصل الخطاب.
الثالثة : تقريب بني إسرائيل من منازل الطاعة، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته.
من غايات الآية
في الآية مسائل.
الأولى : توكيد نزول التوراة على موسى عليه السلام.
الثانية : إكرام موسى عليه السلام بإنزال الكتاب والفرقان عليه.
الثالثة : التذكير بنعمة التنزيل التي أنعم الله بها على بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام.
الرابعة : تقريب بني إسرائيل للهداية والطاعة بإنزال الكتاب والفرقان.
الخامسة : إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الهداية التي أنزل الله عز وجل بسببها التوراة.
السادسة : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو عدم إنحصار النعم الإلهية بالحسية فتشمل العقلية والنقلية.
السابعة : لما أخبرت هذه الآيات عن تفضيل الله عز وجل لبني إسرائيل[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، جاءت آية البحث بالإخبار عن نزول الكتاب وأصول الحكم على موسى عليه السلام.
الثامنة : بيان حقيقة وهي أن المراد من الكتاب الذي أنزل على موسى هو التوراة.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ]
الآية الكريمة تذكير بنعمة أخرى وهي نزول الكتاب، وهو في المقام التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام رحمة وهدى لبني إسرائيل، قال تعالى [ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ… ]( ).
وتبين الآية ما لنزول الكتاب على النبي من نعمة عظيمة على أمته، أي أن الآية في مفهومها تدل على لطف الله تعالى بالمسلمين في نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تعاهده بالعمل بأحكامه.
إن الله عز وجل لا يفعل ما فيه عبث أو لهو، والغرض من نزول الكتاب السماوي هو الإصلاح والإرشاد إلى العبادة، فالتذكير بنزول التوراة ليس مطلوباً لذاته بذاته، بل إنه نوع طريقية للحث على التقيد بأحكام التوراة وبما جاء بها من البشارات.
وتبين الآية إكرام الله تعالى لموسى عليه السلام ولقومه بنزول التوراة، فكل كتاب سماوي كنز عقائدي وثروة ومائدة نازلة من السماء يكون تلقيها والمحافظة عليها بالعمل بما جاء بها، وإتباع ما فيها من الأوامر وإجتناب ما فيها من النواهي، والتسليم بما تضمنته من البشارات ومنها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل يدل مجيء لفظ ظرف الزمن الماضي(إذ) على تحريف بني إسرائيل للتوراة بلحاظ إخبار الآية عن الزمن الماضي وأنها تعرضت للتحريف فيما بعد، أو يدل على إنقضاء زمان العمل بالتوراة، الجواب إنما جاءت الآية لبيان عظيم الإنعام وتوالي الإحسان من الله عز وجل على بني إسرائيل.
قوله تعالى [وَالْفُرْقَانَ]
لقد ورد ذكر الفرقان في القرآن سبع مرات، وفي معناه وجوه:
الأول : إنه المفرق بين الحلال والحرام وقيده قوم بأنه المذكور في التوراة.
الثاني : الفرق بين موسى عليه السلام وأصحابه المؤمنين، وبين فرعون وأصحابه الكافرين.
الثالث : إنفراق البحر لبني إسرائيل والفرج الذي أتاهم.
الرابع : الفاصل بين الحق والباطل كما في نجاة موسى عليه السلام وأصحابه وهلاك فرعون وأصحابه غرقاً ونصر المسلمين يوم بدر، قال تعالى [ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ]( ).
الخامس : القرآن، وفي الآية يكون التقدير (وآتينا موسى التوراة، وآتينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الفرقان ليكون سبيلاً لهدايتكم يا أهل الكتاب) وفيه حذف لدلالة المعنى عليه , وبه قال الفراء وقطرب( ) وثعلب.
وصحيح أن القرآن ورد بهذا الإسم بقوله تعالى [ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ]( ). إلا ان هذا التأويل في المقام بعيد.
وظاهر الآية موضوع البحث ان موسى عليه السلام هو المقصود ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ]( ). ولماهية الفرقان وموضوعه مراتب متعددة، وتفصيل الكلام في مبحث فلسفة تعدد أسماء القرآن( ).
السادس : ورد في الحديث ان الفرقان المحكم الواجب العمل به والقرآن جملة الكتاب.
السابع : انه التوراة، وبه قال ابن عباس، والعطف بينهما لإختلاف اللفظين، ولكن معاني القرآن أعم من ان تنحصر باختلاف اللفظين، فلابد أن هذا الإختلاف معلول لعلة وليس أمراً قائماً بذاته.
الثامن : النصر والهداية كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ]( ).
التاسع : ما أوتي موسى عليه السلام من الحجج التي فيها التفرقة بين الحق والباطل( ).
العاشر : الكتاب الذي أتاه يفرق فيه بين الحق والباطل، روي عن ابن عباس( )،وأبي العالية ومجاهد. قال تعالى [ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ]( ).
الحادي عشر: المعجزات والآيات التي جرت على يد موسى عليه السلام فنزول التوراة لم يعطل الوظائف الإعجازية لعصا موسى ومن إعجاز لفظ الآية مجيؤها بظرف الزمن الماضي[آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ] ولو تردد الأمر بين تعاقب الآيات وتداخلها, فالأصل هو الثاني.
الثاني عشر: لعلكم تهتدون لسبل التوبة، وتتضمن الآية التالية ندب موسى عليه السلام قومه إلى التوبة.
إن ذكر الفرقان ودلالته اللفظية والعملية وجعله موضوعاً للتذكرة والموعظة وإقترانه بالتوراة وعطفه عليها بيان لإجتماع أسباب الهداية عند بني إسرائيل ولزوم عدم تخلفهم عن نصرة الإسلام والنبوة .
وجاء عطف الفرقان على التوراة , وفيه وجوه:
الأول: إنه من عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى] ( ).
الثاني: أنه من عطف العام على الخاص ويفيد العموم والشمول، كما في قوله [إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي]( )، وبين الصلاة والنسك عموم وخصوص مطلق , فالصلاة نسك وعبادة، والنسك أعم.
الثالث: إنه عطف البيان والتفسير.
الرابع: عطف مغايرة وتعدد، وأن الفرقان غير التوراة.
الخامس: عطف أحد المترادفين على الآخر كما في قوله تعالى [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ] ( ).
ويمكن أن نؤسس قاعدة بلاغية وكلامية في العطف، وهي أن الأصل فيه هو التعدد والمغايرة وأن المعطوف غير المعطوف عليه، فإذا قيل صل الظهر والعصر، فان صلاة العصر غير صلاة الظهر، نعم لو وردت قرينة على إفادة معنى آخر من العطف فترجح تلك القرينة وموضوعها كما في قوله تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ]( )، فجبرئيل وميكال من الملائكة، والمراد من العطف في هذه الآية في قوله تعالى [وَالْفُرْقَانِ] هو عطف العام على الخاص، ليشمل الفرقان والمعجزات الحسية التي جاء بها موسى عليه السلام.
قوله تعالى [ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ]
بيان لنعمة أخرى على بني إسرائيل بنزول التوراة بلحاظ الغاية من نزولها رجاء هداية بني إسرائيل وصلاحهم، والهداية هنا تتعلق بأجيال بني إسرائيل أما مباشرة أو بواسطة توارثها بالإقرار لموسى عليه السلام بالنبوة والتقيد بما في التوراة من الأحكام والبشارات.
ولعل في الآية توبيخاً لهم بأن بعث لهم رسولاً بالكتاب السماوي والشريعة الأمر الذي قد لا يكون علة تامة لهدايتهم، والوصف في الآية متعلق بموضوع الآية وليس بحكم الهداية، أي أن الآية لا تنفي الحكم عند إنتفاء الوصف ويبقى الحكم على اطلاقه.
وإثبات شئ لشئ لا ينفيه عما عداه، أي أن الآيات الأخرى كالآيات الكونية وما في خلق الإنسان من أسرار وإتقان صنع مما يدركه الإنسان بنفسه وتستبين آفاقه مع تطور العلوم يبقى على حاله في حجية التأثير وعلة للهداية قال[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
وهل إرادة هداية بني إسرائيل علة تامة لإختيار موسى للنبوة ونزول التوراة الجواب لا الآية أعم، والهداية ببعثة موسى تشمل الناس جميعاً، بالإضافة إلى كونها مناسبة وحجة في الإنتقام من طاغوت إدّعى الربوبية وهو فرعون، والتقدير في الآية على وجوه:
الأول: لعلكم تهتدون لعبادة الله.
الثاني: لعلكم تهتدون للعمل بأحكام الحلال والحرام.
الثالث: لعلكم تهتدون إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته والتصديق بنزول القرآن، ليكون هذا المعنى من مصاديق قوله تعالى[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
الرابع: لعلكم تهتدون للنجاة من بطش فرعون والملأ من قومه وفي قوله تعالى[لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى]( )، ورد عن ابن عباس قال: {لا تخاف دركاً} قال : من آل فرعون {ولا تخشى} من البحر غرقاً)( ).
الخامس: لعلكم تهتدون إلى الإقرار بنبوة موسى عليه السلام وعيسى عليهما السلام.
السادس: لعلكم تهتدون للنجاة من فرعون وبطشه بإتباع موسى والخروج معه.
السابع : لعلكم تهتدون إلى السكينة والأمن ، بعد عذاب وإمتهان آل فرعون لكم .
بحث أصولي
هل الهداية في الآية واجب عيني بمعنى تعلقه بكل مكلف من بني إسرائيل، أم انه جزئي وكفائي أي تتحقق الهداية بوجودها من أي منهم وتسقط بفعله عن الآخرين، ويتحصل بصرف الوجود وأقل أعداد الجمع.
الجواب إنه واجب عيني وشامل للرجال والنساء، للآيات والنصوص فضلاً عن أن إطلاق صيغة إفعل تقتضي أن يكون عينياً , والعقل يحكم بلزوم الإمتثال ما دام الظهور لا يشير إلى سقوطه بفعل الآخرين، ولأن التكاليف موجهة إلى سائر المكلفين أو المخاطبين.
وأن الكفائي يحتاج إلى قرينة وبيان زائد متعلق بالمكلف بينما الهداية في الآية تشمل المكلفين موضوعاً والتكليف محمولاً لتعلق الإرادة بالجامع سواء كان بالأفراد العرضية للأمة في زمان واحد أو الطولية وفق الأزمان المتعاقبة، قال تعالى [ وَمَا خلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ]( ).
والهداية في الآية واجب تعييني، وليس هناك واجب آخر يصلح ان يكون بديلاً عنها لأن إطلاق الأمر يقتضي لغة وعرفاً وشرعاً وجوب الإمتثال وعدم سقوطه أو جواز إستبداله أو نسخه إلا بالقرينة ومزيد بيان، كما أنها واجب نفسي بمعنى ان الهداية لم يأمر بها لأجل تكليف آخر ذاك الذي يسمى بالوجوب الغيري كما في وجوب المقدمة لوجوب ذيها، نعم يترشح عن الهداية حسن الإمتثال والتقيد بأداء الفرائض والصالحات.
ومما هو ثابت في مرتكزات المتشرعة ان العلم بجنس الوجوب يجعله منجّزاً ويجب الإتيان به لقاعدة “الإشتغال اليقيني يوجب الفراغ اليقيني”، وحكم الهداية في الآية كواجب عيني تعييني نفسي يشمل كل أفراد اليهود ويستلزم إمتثالات متعددة بتعدد المكلفين، وان الثواب بتعدد المطيعين ويتعلق بهم أفراداً وجماعات، ووجود هذا الفعل لا يمنع من توجه العقاب إلى العاصين وشمولهم به لمقتضى العينية والإستقلال بالتكاليف وإنحلال الخطاب بتعدد المكلفين.
ويفيد توجه الخطاب لبني إسرائيل بلغة الجمع العموم وهو تنجيزي ويسمى بالعموم الإستغراقي لشموله وسريانه لكل فرد منهم، فكل واحد من بني إسرائيل موضوع للحكم بنحو الإستقلال، أي ان الخطاب ورجاء الهداية ينحل ويتعدد حسب كثرتهم أو قلتهم عرضاً ووفق الأطوال الزمانية لا لأنه موضوع للماهية المهملة التي تعني السريان والشمول والإستغراق فقط.
ولابد ان تتجلى الهداية بمصاديق قولية وفعلية لا تنحصر بأيام نزول التوراة، بل إنها منبسطة على كل أيامهم وتتعدد وجوهها بحسب الحال والشأن، وتتجلى أوان نزول القرآن بالإقرار به كتاباً من عند الله تعالى , قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وهذا الاقرار يتفرع عنه جرياً وإنطباقاً التقيد بأحكامه، أي ان نزول التوراة وإكرام بني إسرائيل مقدمة علمية للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكأن الخطاب أيام النزول فيه حذف، والتقدير: لعلكم تهتدون إلى الاسلام.
قوله تعالى[ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ] الآية 54.
الإعراب واللغة
خففت الهمزة في بارئكم، (وأبو طاهر عن ابن مجاهد قلبها ياء) .
واذ قال: عطف على ما تقدم، موسى: فاعل، لقومه: جار ومجرور، متعلقان بقال، يا قوم: يا: حرف نداء، قوم: منادى، مضاف لياء المتكلم المحذوفة، وتجوز القراءة بأربعة وجوه:
الأول: ياقومي، بإثبات الياء وإسكانه.
الثاني: ياقوميَ، بإثبات الياء وتحريكه.
الثالث: ياقومُ بإعتباره منادى مفرد.
الرابع: القراءة في هذه الآية (ياقومِ) بحذف الياء، وتدل عليها الكسرة، وفي القرآن لا تصح إلا القراءة الأخيرة لوجوه:
الأول: القراءة سنة متبعة.
الثاني: هذه القراءة هي المرسومة في المصاحف.
الثالث: إرادة المعنى المخصوص والآية، ونسبت موسى لقومه، وفيه شاهد على جهاده من أجلهم، وتحميله الأعباء والأذى لهدايتهم لسبل الإيمان.
الرابع: دعوة بني إسرائيل لدخول الإسلام لنسبتهم للنبي الرسول.
إنكم: حرف مشبه بالفعل وإسمها.
ظلمتم: فعل ماض، والتاء : فاعل، والجملة الفعلية خبر إن.
أنفسكم: مفعول به منصوب بالفتحة، وهو مضاف، والضمير الكاف مضاف إليه، باتخاذكم: جار ومجرور، والضمير الكاف مضاف اليه، العجل: مفعول به للمصدر إتخاذ.
والباء في [ بِاتِّخَاذِكُمْ ] للسببية ، أي بسبب إتخاذكم.
الفاء في [ فَتُوبُوا ] للترتيب المعنوي أي ان ما بعدها يأتي في الزمان بعد الذي قبلها، وقيل أن الفاء تعليلية لأن الظلم سبب التوبة.
توبوا: فعل أمر مبني على حذف النون.
إلى بارئكم: جار ومجرور، والضمير مضاف إليه.
فاقتلوا: الفاء للعطف، أنفسكم: مفعول به، والضمير مضاف إليه.
[ ذَلِكُمْ ] اسم إشارة مبتدأ و[ خَيْرٌ ] خبر مرفوع. و[ عِنْدَ ] ظرف متعلق بمحذوف حال.
بارئكم: بارئ: مضاف إليه، وهو مضاف، والضمير الكاف: مضاف اليه، فتاب: الفاء عاطفة على محذوف، عليكم: جار ومجرور متعلقان بتاب.
إنه: إن وإسمها: هو: ضمير فصل، التواب: خبر إن الأول.
الرحيم: خبر إن الثاني
ومن أسمائه تعالى (البارئ) وهو الذي خلق الخلق من غير مثال، أي هو المبدئ المحدث.
والله البارئ المميز للخلق بعضهم عن بعض بالأشكال المختلفة. وخلقهم لا عن مثال سابق، وأصل مادة برئ يدل على إنفصال شئ وتميزه عنه، ولكن لا بد من لحاظ الإثنينية والفاعلية في المقام لأن واجب الوجود منزه عن التغيير ومصاديق الحدوث. ويدل على ذلك القول: برئ المريض من مرضه إذا زال عنه المرض، فالمرض غير المريض ).
والخالق هو المقدر لما يُوجد، فالبارئ اسم فاعل وإستعماله في خلق الإنسان والحيوان هو المتعارف.
أما الفاء في [ فَاقْتُلُوا ] فهي للترتيب الذكري بمعنى أنها عطف متصل على مجمل نحو (حج فلان فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة)، وقد تكون للترتيب المعنوي اذا كان القتل فرع التوبة ومتعقباً لها، لذا قيل انها هنا للتعقيب وهي الفاء التي يكون ما بعدها واقعاً عقب الذي قبلها من غير فاصل موضوعي، سواءً كان بين الإثنين وقت قصير نحو (رأينا الكسوف فصلينا صلاة الآيات)، أو طويل نحو (تزوج زيد فوُلِد له).
وليس من فارق كبير بين المعنيين، أي الترتيب والتعقيب، إنما الإختلاف باللحاظ وإن جعلهما النحاة وجهين متباينين لمعنى الفاء.
في سياق الآيات
تبين الآية نعمة أخرى على بني إسرائيل وموضوعها تدارك الخطيئة والظلم بالتوبة ولكن بافشاء القتل توبة، لذا قال بعضهم بان هذه الآية منقطعة عن النعم المذكورة في الآيات السابقة لما فيها من القتل، وليس بتام، نعم التوبة في هذه الآية فيها عسر وشدة وقتل.
لقد جاءت الآية قبل السابقة بالعفو عن بني إسرائيل، من عند الله [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ] من غير شرط أو قيد للتوبة، بينما جاءت هذه الآية بالأمر على لسان موسى عليه السلام بالقتل توبة.
ولم يأمرهم موسى عليه السلام من عنده بل بالوحي، ومن الآيات ان الآية ذكرت بني إسرائيل بلفظ قوم موسى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ] وهو نوع إكرام إضافي لبني إسرائيل , فلم تذكرهم الآية بالاسم لأنها في مقام القتل توبة وتأديباً ولأنها عامة لبني إسرائيل وتشمل العصاة منهم على نحو الخصوص، وفي نوح عليه السلام وما لاقى من قومه ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ] ( ).
وتضمنت ذات الآية الإخبار عن توبة الله على بني إسرائيل، وان التوبة لطف منه تعالى أنه هو التواب الرحيم , والأصل في التوبة أن تكون باباً لفعل الصالحات.
ولكن الآية التالية تخبر عن سؤال بني إسرائيل لموسى ما هو ممتنع لتحل بهم الصاعقة.
ويكون الترتيب الموضوعي للتوبة على ثلاثة وجوه:
الأول: العفو إبتداء بفضل الله تعالى.
الثاني: التوبة على بني إسرائيل لإمتثالهم للأمر بقتل شطر منهم للشطر الآخر.
الثالث: نزول الصاعقة بعد حصول سؤال المتضرر والممتنع الا ان يقال بان موضوع العفو في الآية قبل السابقة وهذه الآية واحد، وان الآية قبل السابقة جاءت بالإخبار عن حصول العفو، أما هذه الآية فجاءت بتفاصيل العفو وترتبه على قول موسى عليه السلام.
إن تعقب العقوبة للمعصية والتعدي من فضل الله، ولا يخرج عن مصاديق النعمة والإكرام الخاص لبني إسرائيل لما فيها من التأديب والزجر عن السيئات، وفيه دعوة لهم لدخول الإسلام وعدم محاربته أو مقاتلة المسلمين.
وذكرت قبل آيات نعمة الله في نجاة بني إسرائيل من فرعون وقومه وعدم إكتراثه بإحتمال إستئصال بني إسرائيل لولا فضل الله ببعثة موسى عليه السلام بالآيات والمعجزات الباهرات.
(عن السدي قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه -يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم)( ).
والأصل هو مقابلة بني إسرائيل للنعم الإلهية المتعددة بالشكر وزينة التقوى، ولكنهم إفتتنوا بالعجل وعبادته.
ويحتمل موضوع هذه الآية وجوهاً:
الأول: إنهم ذات الطبقة والأمة التي أنجاها الله عز وجل من فرعون وجنوده.
الثاني: إنهم غير الطبقة التي رأت وعاشت معجزات السلامة والنصر.
الثالث: إنهم أمة ممن شهد آيات يبس البحر وعبورهم له وغرق فرعون وجنوده وممن ولدوا أو نشأوا بعد معجزة العبور.
والصحيح هو الأول والثالث ، وفيه ذم إضافي لهم لذا جاءت صيغة التوبة.
وبين الهداية والشكر لله عموم وخصوص مطلق, فالهداية أعم .
ومن الآيات في خلق الإنسان وأسرار نفخ الروح فيه أن الشكر طريق للهداية, والهداية ملكة يصدر ويتفرع عنها الشكر لله جل وعلا , ويكون شاهداً عليها .
ترى لماذا قدمت الآيات الشكر على الهداية, الجواب : ليس المدار في المقام على التقديم والتأخير, فالموضوعية موضوع الآية, فجاءت آية البحث بالإخبار عن التنزيل وبيان أحكام الشريعة التي تكون سبيلاً للهداية والرشد في زمان نزولها وما بعده من الأحقاب, ومنها الإهتداء إلى التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا لا بد من أسرار لتقدم الشكر لعفو الله عنهم نعم بلحاظ أن التوراة جاءت لأمة عفا الله عنها لتشكره سبحانه, وليكون شكرهم الله عز وجل نعمة أخرى ومقدمة للعمل بالفرقان وأحكام الحلال والحرام .
وهل إمتثال بني إسرائيل للأمر بقتل أنفسهم من وجوه تفضيلهم على العالمين, كطريق محصورة به التوبة, أم أنه أمر أخر يتعلق بالعقوبة العاجلة.
الجواب هو الثاني, بدليل أنه حكم القتل جاء متعقبا لظلمهم أنفسهم, وإقدامهم على عبادة العجل مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي تدل على لزوم نبذ الشرك وأسباب الضلالة.
وتضمنت خاتمة الآية السابقة ندب بني إسرائيل لشكر الله عز وجل، وجاءت خاتمة هذه الآية بجذبهم إلى منازل الهداية , وفيه مسائل:
الأولى: إنه من مصاديق إكرام بني إسرائيل، وتقريبهم إلى منازل الصلاح.
الثانية: من إعجاز القرآن بيان مصاديق القوانين التي ترد فيه، فلما ورد قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] جاءت هذه الآيات ببيان مصاديق للتفضيل لم تطرأ في الوجود الذهني لولا الإقرار بسعة رحمة الله.
وفي الآيـات تقديم وتأخير إذ ســرى فيهم القتــل الذاتي بعد عبادة العجل، بينما تقـدمت في نظــم الآيات آية العفــو ووبعث بنـي إسرائيل إلى الشكر لله عز وجل على نعمة العفو، ولابد من دلالات لهذا التقديم والتأخير، ومنها:
الأولى: قانون تعدد وقوع العفو على بني إسرائيل.
الثانية: قانون تبيان ظلم بني إسرائيل لأنفسهم بعد نزول الكتاب والفرقان على موسى عليه السلام لدفع الظلم، لذا جاءت خاتمة الآية السابقة بقوله تعالى(لعلكم تهتدون).
إعجاز الآية
في الآية علم مستقل موضوعه إمكان مجئ التوبة متعقبة للذنب ولكنها غالية الثمن محفوفة بالمخاطر الجسيمة وتستلزم الصبر بأعلى مراتبه، ولكن التوبة في الإسلام خالية من تلك المشاق وتتمثل بالإستغفار.
وتظهر الدراسة المقارنة التخفيف والتيسير في الإسلام، فاذا كانت توبتهم آنذاك تستلزم قتل بعضهم البعض فان الإنتماء للإسلام توبة ونجاة ورحمة دائمة لهم ولأبنائهم.
وتتجلى في الآية معاني اللوم والذم بصيغة الإحتجاج النافع والذي يتضمن أموراً:
الأول: كلام موسى وخطابه لقومه بلغة الوحي.
الثاني: بيان مصداق من مصاديق الفرقان الذي آتاه الله لموسى وذكرته الآية السابقة[وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ].
الثالث: تأكيد حقيقة وهي عمل الأنبياء بالوحي والتنزيل حالما يأتيهم بقصد إنتفاعهم وقومهم والناس جميعاً منه، وإذ إنقضى زمان موسى عليه السلام فإن تبكيته وإنذاره لقومه باق إلى يوم القيامة، ويتجلى هذا البقاء وعموم الإنتفاع منه بمجيء القصة في القرآن وبصيغة إعجازية تستنبط منها المسائل والمواعظ في كل زمان.
الرابع: مضامين هذه الآية شاهد عملي لخاتمة الآية السابق(لعلكم تهتدون).
ويمكن تسمية الآية بآية (توبوا إلى بارئكم) ولم يرد لفظ بارئكم إلا في هذه الآية، وعلى نحو مكرر.
الآية سلاح
في الآية تنبيه للمسلمين من أولئك الذين ظلموا أنفسهم وجاءوا يجادلون في الله، والآية ترغيب بدخول الإسلام ونبذ الجحود والظلم والتعدي.
وفيها دعوة إلى بني إسرائيل للتدبر في الإسلام، وما فيه من النعم العظيمة، فاذا كان القتل الذاتي بعد الذنب والمعصية من النعم التي خص الله بها بني إسرائيل ومصاديق تفضيلهم على أهل زمانهم فان الله عز وجل أنعم على المسلمين بان خفّف عنهم وحرّم القتل بينهم بغير حق.
وجاء القرآن ببيان موضوعية الإستغفار وما له من الآثار المباركة وفيه ترغيب لبني إسرائيل بالإسلام، وشاهد على تفضيل المسلمين ومصداق مركب لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فالمسلمون خير أمة لأن الإستغفار توبة وإنابة وهو أعظم كفارة ولأنهم جاءوا إلى الناس بدعوتهم إلى السلامة والنجاة بالتوبة اللسانية والعملية بإعتبار أن دخول الإسلام توبة وإنابة.
وتتضمن الآية دعوة المسلمين لأخذ الحائطة للدين، وإجتناب الإفتتان والغلو والغي والغرور، ومن الآيات أن القرآن عون للمسلمين في السلامة من الغلو، والنجاة من الإفتتان، فلا يمكن للعقل تصور حال الإفتتان بالعجل مع رؤية المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام، لا لشيء إلا لأن موسى غاب عنهم أياماً معدودة لمواعدة إلهية، وبما فيه خير بني إسرائيل في الدنيا والآخرة، ليخبرهم موسى أنهم أفتتنوا بالعجل، ويكون شاهداً على تفضيل المسلمين لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في الكتائب ويعود للمدينة وليس من فتنة أو إفتتان.
وتمر السنون والأحقاب على إنتقاله إلى الرفيق الأعلى وليس من فرقة أو ضلالة أو فتنة مستقرة بين المسلمين، ولا عبرة بالشاذ النادر، والفتن التي تولد ميتة مفضوحة معارضة بالشرع والعقل والوجدان والعرف الإسلامي العام, وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
مفهوم الآية
لقد كانت قصص الأنبياء عبرة وموعظة للأمم جميعاً لما فيها من معالم النبوة وأسرار الوحي والتنزيل، ومفاهيم المنهاج العقائدي السليم والمتكامل
والآية في مفهومها مدح للمسلمين على عدم تحريفهم الكتاب ونبذهم وإلى الأبد الشرك بالله عز وجل، وهي دليل على التكامل العقائدي في الشريعة الاسلامية باعتباره سلاحاً وقائياً ضد الإفتتان المهلك.
وإذا كان قتل النفس توبة فان دخول الإسلام توبة ومناسبة للمغفرة، (الإسلام يجّب ما قبله) ( )، أي ان بعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وتخفيف عن بني إسرائيل ومناسبة كريمة للتدارك والتخلص من ظلم النفس والغير.
وتدعو الآية إلى طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يأتي به من عند الله والإستعداد لخوض معارك الجهاد والفتح والدفاع عن الإسلام لما فيها العز والمغفرة ومحاربة الظلم والكفر، لقد أُمر من قبلنا بقتل النفس توبة، والإسلام يدعو إلى الجهاد ولا يعني القتل الحتمي بل إن النصر والظفر هو أقرب لمن يتوكل على الله ويقدر على المواجهة.
وفي الآية مسائل:
الأولى: ذكر خطاب وإحتجاج موسى عليه السلام على بني إسرائيل.
الثانية: مخاطبة موسى عليه السلام بلفظ (ياقوم) وليس في القرآن خطاب من النبي محمد إلى المسلمين بلفظ (ياقوم) مما يدل على عالمية الرسالة الإسلامية وعدم إنحصارها بقوم مخصوصين، لاسيما وان شطراً من قريش قابلوا دعوته صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض والتكذيب , قال تعالى [وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ] ( ).
الثالثة: بيان جهاد الرسول موسى عليه السلام في إصلاح قومه، وما كان يلاقيه منهم.
الرابعة: توكيد ظلم بني إسرائيل لأنفسهم حتى مع وجود موسى عليه السلام بين ظهرانيهم، وتعدد الآيات والبراهين التي جاء بها والتي تتضمن النفع العظيم لهم.
الخامسة: ذكر موضوع ظلم بني إسرائيل لأنفسهم وهو عبادتهم العجل وافتتانهم به، وفيه حجة ومنع للجهالة واللبس.
السادسة: دعوة موسى بني إسرائيل إلى التوبة والإنابة.
السابعة: إخبار موسى عليه السلام لبني إسرائيل بقبول توبتهم بأن يقتلوا أنفسهم، ليبدأوا حياة إيمانية جديدة تكون مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الثامنة: مجئ التوبة فضلاً من عند الله، وهي من مصاديق فضل الله العظيم على بني إسرائيل والإنذار من مقابلة الآيات بالجحود.
الآية لطف
تبين الآية تعدد وجوه تقريب بني إسرائيل لطاعة الله، وجهاد الأنبياء لإصلاحهم، فلم يتردد موسى عليه السلام في توبيخهم وتقبيح فعلهم، ولم يكتف بالتوبيخ والذم، بل هداهم لسبل الصلاح وكيفية التوبة والإنابة، ومن الآيات إستجابة بني إسرائيل لدعوة موسى وقيامهم بالقتل إلى إن تاب الله عليهم، والأصل ان تكون هذه التوبة عبرة وموعظة لهم، وواقية من الكفر والجحود، ومقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء موسى عليه السلام بالبشارة بنبوته.
لقد قصد بنو إسرائيل أيام موسى عليه السلام مرضاة الله بالإنابة والتوبة وأدركوا ما كانوا عليه من الغواية والضلالة.
وجاءت هذه الآية برهاناً وحجة لتدعوهم إلى التوبة والإنابة ولكن ليس بقتل أنفسهم، بل بتصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكما دعاهم موسى عليه السلام للتوبة، فان النبي محمداً يدعوهم إلى الاسلام، ومعه آيات القرآن وما في كل آية منها من الإعجاز.
إفاضات الآية
تبين الآية وجوب الطاعة وإجتناب ظلم النفس، وإمكان التدارك في كل حال بالتوبة التي يتلقاها الله عز وجل بالقبول، وتدعو المسلمين إلى الفناء في مرضاته تعالى والإمتثال لأوامره.
وتبين الآية عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه لم يقل لأصحابه إلا عبارات المدح، وكانوا مواظبين على الطاعة والإمتثال لما يأتي به من عند الله.
لقد جاءت قصص القرآن عبرة وموعظة، وكون الآية بصيغة الجملة الإنشائية والأمر الصادر إلى بني إسرائيل لا يمنع من كونها تحكي قصة الأمم السالفة لتكون عبرة وموعظة للمسلمين وأهل الأرض جميعاً، وهل يشمل الذم الوارد في الآيات اليهود الذين أسلموا، الجواب لا، فكما أنكر جمع من بني إسرائيل قيام بعضهم بعبادة العجل، فكذا بادر جمع منهم لدخول الإسلام وأنكروا على قومهم الإصرار على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فتتضمن الآية في مفهومها فيضاً مباركاً من وجوه:
الأول: المدح والثناء لليهود الذين تلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتصديق وبادروا إلى دخول الإسلام.
الثاني: دعوة اليهود الذين تخلفوا عن إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دخول الإسلام، والتنعم بنعمة نيل مرتبة التوبة بالإستغفار.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين وإدراكهم لتفضيلهم على أهل الأرض وإظهارهم الطاعة لله ورسوله، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع: دعوة القرآن المسلمين إلى التآخي والتمسك بأحكام القرآن والسنة, قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية بياناً لنعمة أخرى تفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل والأجيال المتعاقبة منهم، وهي قول موسى لهم بأنهم ظلموا أنفسهم بإتخاذهم العجل، ويجب عليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى بقتل أنفسهم، وتدل الآية وما فيها من ذكر مضامينها كنعمة من الله عز وجل بأنه هو الذي أمر موسى عليه السلام بإن يتوبوا عن الشرك بقتل بعضهم بعضاً، وفيه دليل على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى من وجوه:
الأول: أنهم لم يتخذوا شريكاً لله تعالى.
الثاني: إتخاذهم الإستغفار طريقاً للتوبة وهو أعظم كفارة.
الثالث: تعاهدهم للصلاة والمناسك وفيه غفران للذنوب بفضل من الله تعالى وتوجه الخطاب الإلهي لهم بالإستعانة بالعبادات كواقية من الشرك والضلالة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
ولقد جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن عفو الله تعالى على بني إسرائيل بفضل من عند الله، ثم جاءت هذه الآية بالإخبار عن الأمر بقتل بعضهم بعضاً.
وفي الجمع بينهما وجوه:
الأول: العفو غير التوبة.
الثاني: إن الله تعالى عفى عن بني إسرائيل، ولم يأت القتل بأمر من موسى تقرباً إلى الله تعالى، وتأديباً لقومه بل جاء من عند الله.
الثالث: مجئ العفو بعد حصول القتل، وإرادة الإخبار عن العفو عن الباقين بعد القتل وعن الذين قتلوا منهم توبة.
الرابع: العفو مع القتل أحسن وأفضل لبني إسرائيل من العفو من دون القتل لذا ورد قوله تعالى في هذه الآية [ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ] فجاء العفو من عند الله تعالى، وجاءت التوبة من بني إسرائيل بقتل بعضهم بعضاً توبة وندماً وإصلاحاً للذات.
الخامس: حصول العفو بعد القتل، وهو الذي يدل عليه الجمع بين الآيتين، ولا يضر بمضامينه تقديم الإخبار عن العفو قبل آيتين، لأنه ظاهر بالجمع بين الآيتين، وجاء تقديم العفو للإخبار عن فضل الله تعالى، وإن قتل النفس لايترتب عليه العفو ترتب المعلول على علته، فمع قتل النفس توبة لله تعالى أن يعفو لأن بني إسٍرائيل أشركوا بالله عند غياب موسى عليه السلام، ولقيام الحجة عليهم بتوالي النعم ونجاتهم من آل فرعون، وإدراكهم لموضوع النجاة وهو الإيمان والإقرار بالتوحيد، فلما ذهب عنهم البلاء وأمنوا من القتل وإستحياء النساء عبدوا العجل، فجاء الأمر من موسى عليه السلام بالقتل فيما بينهم ليعلموا أن الشرك يؤدي إلى القتل.
وليس من تعارض بين الآيتين، وتترشح المسائل والأحكام عن الجمع بينهما، وفيه تحذير لبني إسرائيل من القتل إن تعمدوا إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحريف صفاته، وقد وقع القتل فيهم بمحاربتهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وقتل بعض كبرائهم مثل حي بن أخطب وأخوه.
وتؤكد الآية ظلم بني إسرائيل لأنفسهم بالشرك والضلالة، وفيه درس ووعظة للأجيال اللاحقة منهم وللناس جميعاً بإن المشرك لايضر إلا نفسه , وإن الله تعالى غني عن العالمين، قال تعالى[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، ويحتمل الظلم في الآية وجوهاً:
الأول: الظلم في الدنيا بإختيار المنهي عنه، وترك المأمور به.
الثاني: الظلم في الآخرة بسوء عاقبة ظلم النفس.
الثالث: المعنى الأعم والعنوان الجامع.
والصحيح هو الأخير , فان الشرك ظلم للنفس في الدنيا والآخرة، ويأتي الإثم فيه من إختيار الشرك , ومن إتباع الغير للمشرك في ضلالته ليحمل أوزاره وأوزار من أخذ وتعلم منه.
ومع أن الذين عبدوا العجل من قوم موسى طائفة منهم وليس كلهم، فقد جاء الخطاب في الآية بصيغة الإطلاق، ومتوجهاًَ من موسى إلى قومه[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ] وفيه وجوه:
الأول: إحتساب ذنب الطائفة الكبيرة على الأمة.
الثاني: لزوم قيام الذين لم يعبدوا العجل من بني إسرائيل بزجر أصحابهم، وأمرهم بالمعروف، ودعوتهم إلى الثبات على التوحيد.
الثالث: مع مجئ الآية بصيغة الإطلاق فانها مقيدة بإرادة الذين عبدوا العجل خاصة، لخروج غيرهم من الخطاب بالتخصص.
وتجلى التقييد بقوله تعالى [ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ] فهارون النبي ومن معه، والسبعون الذين مع موسى عليه السلام على الطور , والصالحون بني إسرائيل لم يعبدوا العجل ولم يظلموا أنفسهم، لذا ذكر أن هارون جاء باثني عشر ألفاً ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة أي الحادة الرفيعة.
لقد أُمتحن بنو إسرائيل بالقتل بسبب الشرك ليعلموا ضرورة التقيد بالتوحيد، ونبذ الشرك والكفر، وذكر ان الذين عبدوا العجل تعبدوا بالصبر على القتل، ليكون شهادة لمن قتل، وتوبة لمن بقي منهم، وجاء خطاب موسى عليه السلام بيناً واضحاً خالياً من الترديد واللبس، وبدأ بذكر ظلم بني إسرائيل لأنفسهم في دلالة على غنى الله تعالى عن عبادتهم وتوكيد قانون ثابت وهو ان الشرك بالله ظلم للنفس، وإن الله تعالى لم يظلم بني إسرائيل في مسألة العجل، قال تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، ويحتمل الظلم في الآية وجوهاً:
الأول: ظلم كل فرد منهم لنفسه.
الثاني: ظلم الفرد منهم للجماعة، فكل فرد يعبد العجل يضر بالأمة، ويكون سبباً لإفتتان غيره به، وبرزخاً دون نزول الفضل الإلهي عليهم.
الثالث: ظلم الجماعة للفرد، فاذا كانت الجماعة على الباطل والضلالة فان الفرد منهم يصعب عليه رؤية ضياء الحق والهدى.
وهذا التعدد في وجوه الظلم من دلالات صيغة الجمع التي جاءت بها الآية الكريمة، وفيه دعوة لكل مكلف منهم لإجتناب ظلم النفس والجماعة، وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترشح فرد إضافي من ظلمهم لأنفسهم بمحاولة حجب المشركين وأفراد الملل الآخرين عن دخول الإسلام بتحريف صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنع الناس من التصديق، وجاءت هذه الآية وقتل النفس للزجر عن تحريف البشارات، والإمتناع عن دخول الإسلام.
وبعد أن ذكر موسى عليه السلام ظلم بني إسرائيل لأنفسهم بيّن سبب وموضوع هذا الظلم والذي ورد بقوله تعالى [بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ] ويفيد حرف الجر الباء السببية والتعيين، أي أن ظلم النفس كان بسبب عكوفهم على العجل في أيام يتطلعون فيها لعودة موسى عليه السلام من الطور، وهو حامل لهم أعظم هدية وهبة سماوية وهي الألواح التي فيها التوراة.
وجاءت آية أخرى تبين أن إتخاذ العجل فرع الكفر والضلالة , قال تعالى [وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ] ( )، وذكرت الآية إتخاذهم العجل، ولم تبين موضوع وماهية الإتخاذ والمراد إتخذتم العجل معبوداً أو فتنة , ولعل بقاء لفظ الإتخاد على نحو التنكير للإشارة إلى التباين وتعدد مراتب إتخاذه معبوداً أو مادة للإفتتان والإعراض عن أحكام النبوة، والإنشغال به، ونحوه من أسباب الظلم وإستحقاق العقاب الشديد، ولم ينكر بنو إسرائيل إتخاذهم للعجل، ولم يقولوا أن العقوبة شديدة أو أن الذنب لا يستحق هذه العقوبة، بل تلقوا القول بالتقرير والإمتثال كما أن الموجود منهم أيام نزول القرآن لم يذكر ما في الآية من الوقائع والأخبار، وفيه حجة عليهم، ودعوة للتصديق بنزول القرآن من عند الله تعالى.
فمن الآيات في قصص القرآن أنها شواهد على نزوله من عند الله، وبرزخ دون تحريف التأريخ , ودلائل على حاجة الناس إلى التأريخ الخالي من التغيير والتبديل، والقصص التي تحكي الوقائع والأحداث كما جرت، وهو أمر لا يتم إلا بالتنزيل اللاحق لها، والمعصوم من التحريف والتبديل، فجاء القرآن خاتماً للكتب السماوية، ومرآة لقصص الأمم السالفة، لتبقى درساً وموعظة للناس جميعاً، ومنها هذه القصة، فبعد النعم التي خص بها الله عز وجل بني إسرائيل من بين الناس صدر منهم فعل مذموم، فتصدى له موسى عليه السلام لإرجاعهم إلى جادة الصواب، ومن الآيات أنه لم يترك الأمر عند لوم السامري وإحراق العجل، بل توجه إلى بني إسرائيل باللوم والذم.
وبيّن لهم سوء ما إرتكبوه وأمرهم ان يقتل بعضهم بعضاً لتكون توبة نصوحاً، وعبرة وموعظة، ولم يرد لفظ “إقتلوا أنفسكم” في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة مما يدل على موضوعيتها وتضمنها لأسرار خاصة، ولم يرد الأمر بقتل أمة بعضها لبعض في القرآن إلا بخصوص بني إسرائيل وما في هذه الواقعة على نحو الخصوص، مما يدل على الذنب العظيم الذي إرتكبوه في عبادتهم للعجل .
ومن النعم التي أنعم الله تعالى على بها على المسلمين النهي عن قتل النفس قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( )، وجاءت الآية بعد تفضل الله تعالى بالإخبار عن إرادة التوبة والتخفيف عن المسلمين( ).
لقد قُتل شخص من بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يذبحوا بقرة كما سيأتي إذ كان القتل عظيماً عند بني إسرائيل، وتفضل الله تعالى وفضح القاتل بأن أحيا المقتول بعد ضربه ببعض البقرة فأخبر عمن قتله في آية من آيات الله تعالى ونعمة على بني إسرائيل، بينما جاءت الآية محل البحث بالأمر بالقتل المتعدد، ومن إعجاز القرآن أنه في قصة البقرة جاء ذبحها بأمر من الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( ).
أما في هذه الآية فجاء الأمر من عند موسى عليه السلام [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ]( )، وهو وحي أيضاً، ومما يدل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين رحمة الله بالمسلمين ولجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الإستغفار والدعاء وسؤال التوبة والمغفرة له وللمسلمين، وكل نبي دعّاء، (وروي ان موسى وهارون وقفا يدعوان الله ويتضرعان اليه، وهم يقتل بعضهم بعضاً حتى نزل الوحي برفع القتل، وقبلت توبة من بقي( ).
ولم يرتكب أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكبائر والشرك بل تعاهدوا التوحيد بأنفسهم وأموالهم فقاتلوا في سبيل الله تحت لوائه دفاعاً عن بيضة الإسلام، وجذباً للناس للإيمان وإنقاذاّ لهم من براثن الشرك والضلالة.
وأستشهد عدد منهم، وفي إسلام كل واحد منهم قصة تكون نبراساً ودرساً للأجيال اللاحقة من المسلمين والمسلمات وعشاق الرسالة، والباحثين عن الصراط المستقيم وسبل الهداية.
لقد توارث بنو إسرائيل الإيمان، وصاحبتهم النبوة، فكان الأنبياء يبعثون من بينهم إلى أن بعث الله تعالى موسى بآيات بينات، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه بعث بين قوم مشركين، وحاربه أقرب الناس إليه، ولم يكن أصحابه من قبيلة أو جنس واحد ولم تجمعهم ملة سابقة قبل الإسلام، فآمن به أهل بيته وشطر من قريش والقبائل الأخرى، واليهودي والنصراني والفارسي والرومي والحبشي ليكون كل واحد منهم إماماً وسابقاً لأمم أخرى من بعد تجد صلة بينها وبين شخص النبي الكريم بواسطة الصحابة، وهذه الصلة دعوة لها للتمسك مبادئ الإسلام، وتلك آية من آيات الله، وسلاح ضد الشرك والضلالة.
لقد أدرك الصحابة إنحصار النجاة والسلامة في النشأتين بدخول الإسلام، وإخلاص العبادة لله، فإنقطعوا الى أداء الفرائض والتفقه في الدين ليكونوا أئمة في سبل الهداية فلا ينفذ لهم الشيطان، وتبين الآية ما لاقاه موسى من بني إسرائيل من الأذى والعناء فجاء الأمر بالقتل توبة، ومن إعجاز الآية أن موسى عليه السلام بيّن منافع القتل بانه خير لبني إسرائيل عند الله تعالى.
ومن إعجاز الآية أنه ورد اسم “بارئكم” في الآية، وفيه وجوه:
الأول: لم يرد لفظ “بارئكم” في القرآن إلا في هذه الآية.
الثاني: ذكرت الآية لفظ “بارئكم” مرتين، وهو إعجاز إضافي لها، أي ان لفظ “بارئكم” لم يذكر في القرآن إلا في هذه الآية وعلى نحو مكرر، وجاء اسم “البارئ” مرة في القرآن في الثناء على الله تعالى [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( )، وذكر في الفرق بين البارئ والخالق ان البارئ هو المبدئ المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال.
الثالث: لقد جاءت الآية بذكر الله تعالى بأمرين:
الأول: انه البارئ.
الثاني: إضافة الاسم إلى بني إسرائيل للدلالة على أن الله تعالى هو الذي أوجدهم من العدم، وهو القادر على إحيائهم وبعثهم مرة أخرى، وفيه حث لهم لقبول أمر القتل.
ومن الآيات إخبار الآية عن تعقب توبة الله تعالى على بني إسرائيل لشروعهم بالقتل، وتقدير الآية: فقتلتم أنفسكم فتاب عليكم)، وبدأت الآية بكلام موسى عليه السلام إلى قومه وأمره بالقتل فيما بينهم، لتختتم بما يبعث على الغبطة والسرور، والتوكيد على قانون ثابت بان الله تعالى يقبل التوبة وهو الرحيم بعباده , وجاءت الخاتمة على أقسام:
الأول: خاص، وهو قبول الله تعالى لتوبة بني إسرائيل.
الثاني: عام، إن الله تعالى هو الذي يقبل التوبة على نحو الإطلاق وهو على شعبتين:
الأولى: إن الله يقبل التوبة من الناس جميعاً، على وجوه:
الأول: إتيانهم الذنب والمعصية مجتمعين، كما في عبادة بني إسرائيل للعجل.
الثاني: إرتكاب الفرد منهم الذنب.
الثالث: الإجتماع في الإستغفار والتوبة، كما في سعي بني إسرائيل للتوبة مجتمعين.
الرابع: قيام الفرد الواحد بالإستغفار والتوبة.
الثانية: يتوب الله عز وجل على العباد الذين يفعلون الذنوب العظيمة، فحتى على القول بتقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر فان الله تعالى يغفرها جميعاً، وهو رشحة من رشحات اسم “التوّاب”.
الثالثة: يقبل الله تعالى التوبة عن عباده مرة بعد مرة, قال تعالى[لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
الرابعة : وصف الله تعالى بانه “الرحيم” ومن الآيات إقتران اسم التواب بالرحيم في هذه الآية لتبين أن عاقبة التوابين هي المكث في الجنة.
الرابع: دخول الإسلام هو الطريق المبارك للتوبة والإنابة وفي التنزيل[فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ]( ).
وفي الآية توكيد بأن الأمر بالقتل هو رحمة من الله تعالى، ومنها غلق باب القتل الذاتي على بني إسرائيل والناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاء بها الإستغفار سبيلاً للتوبة والإنابة، وجاء القرآن ببشارة المغفرة والتوبة للناس جميعاً، ومن الذنوب مطلقاً بدخول الإسلام وأداء الفرائض، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
لقد جاء ذكر قصة بني إسرائيل في هذه الآية خطاباً للموجود منهم أيام البعثة النبوية المباركة , وتقدير الآية “إذكروا إذ قال موسى لقومه”.
وإذ أختتمت الآية السابقة والتي قبلها بلغة الخطاب لعلكم تشكرون، لعلكم تهتدون، جاءت هذه الآية بالأمر بالقتل والتوبة، ولكنها أختتمت بالإخبار عن كون الله تعالى هو التواب الرحيم الذي يتوب على المذنبين، وفيه دعوة لبني إسرائيل للتدارك والإمتناع والكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وحث لهم على دخول الإسلام، وأنه سبيل التوبة على نحو الحصر والتعيين، فجاءت هذه الآية بذكر قصة القتل والتوبة على بني إسرائيل، وتدعو الموجود من بني إسرائيل للإنابة بدخول الإسلام.
التفسير الذاتي
هذه الآية معطوفة على الآيات السابقة في بيان نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، وتذكيرهم بها لإتخاذها مناسبة لشكر الله عز وجل وتعاهد أحكام الشريعة والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي موعظة وعبرة للناس جميعاً، فاختصاص بني إسرائيل بلغة الخطاب لا يمنع من إنتفاع الناس جميعاً من الآية، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
ومن إعجاز وأسرار هذه الآيات التي تذّكر بني إسرائيل بنعم الله عز وجل عليهم مبادرة الناس لدخول الإسلام وعدم إصغائهم لأهل الشك والريب والجدال، إذ جعلت بني إسرائيل مشغولين بأنفسهم، عاجزين عن الرد على ما في هذه الآيات من البينات والحجج الدامغة.
فبعد أن جاءت الآية السابقة بالإخبار عن عفو الله عن بني إسرائيل بافتتانهم بالعجل ذكرت هذه الآية لوم موسى عليه السلام لهم على سوء فعلهم، وخاطبهم بالنداء [يَاقَوْمِ] في إشارة إلى رأفته وشفقته عليهم، وإقامته الحجة عليهم بذكر موضوع الظلم وقيده بأنه ظلم لأنفسهم، وفيه مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل غني عن العالمين، وهو غير محتاج للناس وعبادتهم قال تعالى[وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ] ( ).
الثانية: حرمان بني إسرائيل لأنفسهم من الثواب والأجر وتعاقب النعم.
الثالثة: في الآية تبرئة لموسى عليه السلام، فليس هناك تقصير في أداء الرسالة يكون سبباً لظلم بني إسرائيل وعبادتهم العجل.
الرابعة: إنتفاء العلة والسبب لقيام بني إسرائيل بعبادة العجل.
الخامسة: إنه من الجحود بالنعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل.
ويفسر القرآن بعضه بعضاً، فجاء قبل آيتين بان بني إسرائيل إتخذوا العجل وهم ظالمون، وجاءت هذه الآية لتعيين جهة الظلم وأنه ظلم لأنفسهم وتفويت للمنفعة ليبين لهم طريق التوبة بالقتل فيما بينهم، وقد جاء قبل آيتين الإخبار عن عفو الله عز وجل عن بني إسرائيل وعبادتهم العجل.
وجاءت هذه الآية بأمر موسى لهم بقتل أنفسهم، وفي الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول: موضوع العفو غير موضوع التوبة.
الثاني: تعقب التوبة بالقتل للعفو الإلهي.
الثالث: مجئ العفو بعد التوبة بالقتل، أي أن تقدم آية العفو على التوبة في نظم الآيات لايعني تقدمه رتبة وزماناً.
الرابع: جاء العفو من عند الله لقوله تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ] أما القتل فهو بأمرموسى تقرباً إلى الله عز وجل وتأديباً لبني إسرائيل، سواء على القول بأن النبي يجتهد ويستنبط الحكم أحيانا، أو أن كلامه وحي من الله.
والأقوى هو الوجه الثالث أي أن العفو جاء بعد التوبة بالقتل، ويدل عليه قوله تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا] وما في (ثم) من معنى التراخي والإشارة إلى موضوعية الزمان، وما جرى في الأيام التالية لعبادتهم العجل، وقوله تعالى في هذه الآية [فَتَابَ عَلَيْكُمْ].
وظاهر آيات القرآن أن القتل ليس كثيراً بينهم لقوله تعالى [وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ] ( )، إلا أن يقال بموضوعية التباين الزماني في موضوع الآيتين، وتبدل الأحوال.
وتدل خاتمة الآية على أن أمر موسى عليه السلام بالقتل ليس من عنده بل بأمر الله لبيان النعم العظيمة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونيل مرتبة التوبة والمغفرة بالإستغفار إلى جانب تفقه المسلمين في الدين، وجعل أداء المكلفين الصلاة على نحو متعدد في اليوم، برزخاً دون الإرتداد والشرك وأسباب الضلالة، وهو من معاني خاتمة هذه الآية بقوله تعالى [إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ].
من غايات الآية
تعتبر الآية وثيقة سماوية تبين قبح ما قام به بنو إسرائيل من الإفتتان بالعجل وترك عبادة الله، وجهاد وصبر موسى عليه السلام معهم، ودعوتهم للتوبة، فليس لهم أن يتفاخروا بالفضل الإلهي عليهم إذا كانوا لم يتعاهدوه.
ومن وجوه تعاهده أيام البعثة النبوية الشريفة التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت الآية بصيغة الإطلاق (يا قوم) والذين عبدوا العجل شطر منهم وليس كلهم ومع هذا ورد الخطاب بصيغة الجمع.
وهل يدل في مفهومه على توجيه اللوم إلى الذين لم يعبدوا العجل منهم لأنهم لم ينصحوا قومهم، ويحذروهم، الأقرب لا، وان جاء في التنزيل لوم موسى عليه السلام لهارون في عدم زجرهم ومنعهم ولكنه قبل عذر هارون كما ورد في التنزيل [قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسرائيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي *] ( ).
وفي الآية مسائل :
الأولى : بيان نعمة عظيمة على بني إسرائيل وهي توبة الله عز وجل عليهم مع إتخاذهم العجل .
الثانية : تأكيد حقيقة وهي ليس من ذنب ومعصية إلا وتأتي عليهم التوبة, وفي الآية نكتة وهي صدور الظلم من أمة أنعم الله عز وجل عليها, ومع هذا تغشتهم المغفرة عند توبتهم بالكيفية التي أمرهم عليه السلام .
الثالثة : ترغيب المسلمين بالتوبة, وبعثهم على الإنابة والتدارك.
الرابعة : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة الإستغفار, وصيرورته سبيلاً لعفو الله عز وجل عنهم, وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ]
الآية الكريمة إستحضار لنعمة أخرى على بني إسرائيل وهي فرع وجود النبوة بين ظهرانيهم، وتفيد بالدلالة الإلتزامية الإشارة إلى نعمة أخرى وهي بعثة موسى عليه السلام نبياً من بينهم وجهاده في سبيل إصلاحهم وإنقاذهم، ولم يتركهم الله عز وجل في ضلالتهم وظلمهم لأنفسهم ولغيرهم، بل جعل لهم نبياً رسولاً يبين لهم عند رجوعه إليهم ما أقدموا عليه من سوء الفعل الذي يستحقون عليه العقاب بإتخاذ العجل معبوداً.
لقد سعى موسى عليه السلام في كشف الغشاوة التي نشأت بفتنة السامري وإستغلاله لغيابه، ترى لماذا العجل بالذات من بين الدواب؟ الجواب من وجوه محتملة:
الأول: إنه جنس البقر من الخصب والبركة والنماء المتصل والمنفصل وقوة التحمل.
الثاني: حاجة بني إسرائيل للبقر عند خروجهم من مصر.
الثالث: لحاظ ذات الفتنة الشخصية التي أخذتها السامري.
الرابع: قال بعضهم أنه يمثل مركبة الباري أو موطئ قدميه، تعالى الله عن التجسيم والحد علواً كبيراً.
وفي التوراة المتداولة ما يفيد بأن بني إسرائيل لما أبطأ عليهم موسى عليه السلام جاءوا إلى هارون عليه السلام وقالوا له “قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا” وان هارون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي وأخذها وسكبها في صنم على صورة عجل. فقالوا: هذه آلهتكم يا بني إسرائيل( ).
ولكن هارون عليه السلام نبي معصوم ومنزه عن هذا الفعل إذا كان مقدمة للضلالة، ولقد جاءت آيات القرآن بمدحه وتنزيهه وجهاده لصدهم عن الضلالة وذم السامري باعتبار انه صاحب الفتنة كما سيأتي في تفسير سورة طه إن شاء الله إلا أن يقال إن هارون كان مكرهاً ولا دليل عليه، والنبي يواجه مثل هذا الإكراه، بالإضافة إلى نفي وقوع هذا الفعل من هارون، وأخبرت الآيات أنه رآهم ظلوا[مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا]( ).
وتتمثل النعمة في هذه الآية مما تفضل به الله سبحانه على بني إسرائيل، بحضور النبوة لتدارك الخطأ والزلل، وتؤكد حاجتهم إلى النبي والكتاب لمنعهم من الزيغ والضلالة وللتأثير عليهم، وجعلهم منصتين له، فلو نبههم ونصحهم غير النبي لربما قابلوه بالجفاء والإستخفاف.
وهذا التعاهد لبني إسرائيل لحفظهم على إيمانهم وعقيدتهم إلى أوان نزول القرآن وظهور الآيات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي أنه حفظ بالنبوة للنبوة وإن إختلف شخص النبي، ففي التعاهد كان موسى عليه السلام، وفي النتيجة والغاية الشريفة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على أن جهاد الأنبياء واحد ومتصل.
وتبين الآية تعدد وجوه النعم وانها لا تنحصر بحال دون حال، وان فضل الله تعالى على بني إسرائيل لم ينحصر بنزول التوراة بل بإجتناب الكفر والضلالة وما يؤدي إلى ترك العمل بالتوراة.
كما تبين الآية الوظائف الجهادية للنبوة والعناء والمشاق التي يلاقيها النبي، فمع جهاد موسى عليه السلام، وكثرة الآيات التي جاء بها إتجهوا صوب تقديس العجل وعبادته، وتبين الآية الحاجة إلى حفظ أحكام الكتب السماوية وتعاهدها.
وتظهر الآية نعمة إضافية على بني إسرائيل تتجلى بالتعدد في شخص النبي وخلافة نبي للرسول عند غيابه المؤقت، كما تبين فضل المسلمين فعند غياب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب يقوم المسلمون بتعاهد وحفظ أحكام الشريعة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن رأفته ولطفه تعالى انه لم يذكر عبادتهم للعجل بل جاءت الآية بلفظ إتخذتم وهو أعم من العبادة، ولم يرد لفظ (ظلمتم أنفسكم) إلا في هذه الآية مما يدل على الذنب العظيم الذي إرتكبه بنو إسرائيل بالجحود والكفر مع حضور شخص النبي بين ظهرانيهم، وتوالي النعم عليهم من بين الأمم، فمقتضى الأصل وحكم العقل ان يظهروا مضامين الإيمان والعرفان والصلاح، ولكنهم جحدوا وكفروا مما يؤدي إلى إنتشار الفساد بين الناس، وإقامة المشركين على الكفر وتمادي الناس في الغي والكفر.
وإضافة الآية الخير لهم بقوله تعالى (خير لكم) إشارة إلى منافع التوبة والقتل في الآخرة، وأن الله عز وجل هو المبدئ والخالق، ويريد من عباده الشكر وأداء الفرائض وإجتناب الكفر.
وقد ورد لفظ (إذ قال موسى لقومه) في القرآن ست مرات، وهذه هي المرة الأولى في نظم القرآن التي تأتي بهذا اللفظ، وفيه بيان لحقيقة وهي أن قول موسى لبني إسرائيل نعمة من عند الله، ومن إعجاز القرآن إخبار الآية السابقة عن إنزال التوراة والفرقان على موسى عليه السلام، وفيه إشارة إلى تقدم إقرار بني إسرائيل بنبوة موسى عليه السلام قبل أن يأمرهم بالتوبة بقتل النفس، فلا تصدق جماعة وأمة أمراً بقتل النفس إلا أن تكون آمنت بأنه من عند الله سبحانه .
ولو ألح بنو إسرائيل بالدعاء بالعفو والتضرع بالمغفرة عندما أمرهم موسى بقتل أنفسهم , فهل يبقى حكم القتل أم يعفو عنهم الله, الجواب هو الثاني, وقد تقدم قوله تعالى[ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
قوله تعالى [ فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ ]
الآية دعوة جلية لترك الشرك وهجران الفتنة , وندب للجوء إلى الله عز وجل بندم، وإظهار للطاعة واقرار بالتوحيد وهي دليل على سعة رحمة الله تعالى وبقاء باب التوبة مفتوحاً حتى عند أسوء واقبح مراتب الظلم والتعدي، وتلك نعمة أخرى إذ خاطبهم موسى عليه السلام بالحكمة والموعظة الحسنة وبتوكيد الإنتساب إليهم وأنهم قومه لحرصه عليهم وما في كلامه من قصد المنفعة الجماعية لهم، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ..]( ) وتؤكد الآية على قانون في الإرادة التكوينية وهو عدم وجود قيد أو شرط في التوبة إلى الله، وليس من واسطة بينه سبحانه وبين عباده، لقد جاء بنو إسرائيل إلى موسى وسألوه التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة في الحوائج، كما في قوله تعالى في قصة البقرة[ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ]( ).
وجاء ذكر التوبة بعدم وجود واسطة وأن التوبة لا تستلزم رجوع بني إسرائيل إلى موسى ليكون طريق التوبة مفتوحاً إلى بني إسرائيل بحضور النبي أو عدم حضوره، وفيه إشارة إلى التوبة بدخول الإسلام.
وجاءت الآية بصيغة الأمر التي تحمل على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الإستحباب وهي معدومة في المقام.
قوله تعالى [ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ]
أمر صريح بالقتل للذات الذي ينحل بالإصطلاح الشرعي إلى تعدد القاتل والمقتول لا إتحادهما فيما يسمى بالإنتحار، وفي الآية وجوه وأقوال:
الأول : يقتل بعضكم بعضاً بقتل البريء المجرم، ذهب إليه ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وغيرهم من أهل العلم( )، أي أن الذين لم يعبدوا العجل يقتلون الذين عبدوه.
الثاني :أن يستسلموا للقتل ليكون هذا الإستسلام بمنزلة القتل لأنفسهم وإستعدادهم لقبوله، نسب إلى ابن عباس.
الثالث : إن السبعين الذين إختارهم موسى عليه السلام للميقات أمروا بالقتل لمن سأل الرؤية من بني إسرائيل. وقيل أنهم قتلوا أنفسهم كما أمروا، عمدوا إلى الخناجر وجعل بعضهم يطعن بعضاً، ونسب هذا القول أيضاً إلى ابن عباس.
الرابع : قال الزمخشري [ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ] على الظاهر وهو (البخع)( ). قتل النفس غماً ووجداً، وقد تعني قهر النفس وإذلالها، وفي التنزيل [ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ.. ]( ).
ولكن الظاهر يفيد معنى أعم كما تذهب اليه النصوص، لذا أردف الزمخشري: وقيل معناه قتل بعضهم بعضاً، ونسبته إلى القيل مع إلحاقه بغيره نوع تضعيف له.
الخامس : قال ابن جريج: إن الله علم أن أناساً منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم إن ينكروا إلا خوف القتل، فلذلك بلاهم الله أن يقتل بعضهم بعضاً.
السادس : إن الذين عبدوا العجل تعبدوا أن يقاتلوا من لم يعبد ويصبروا على ذلك حتى يقتل بعضهم بعضاً، وكان القتل شهادة لمن قتل وتوبة لمن بقى، رواه الشيخ الطوسي عن أهل السير.
السابع : المراد بقتل الأنفس تذليلها ومنع غرورها وعتوها.
والظاهر أن الآية الكريمة أعم مما ذكر في الوجه الثاني والثالث والرابع والخامس.
وهل تعني ان يقتل الذين لم يعبدوا العجل الذين عبدوه ، أم ان القتل كان عشوائياً عاماً، أم ليس من فرق بين الوجهين لإشتراك جميع بني إسرائيل في عبادة العجل والعكوف عليه وإن إختلفت مراتب التلبس بها كماً وكيفاً، وان بقاء قلة منهم على التوحيد والإيمان، وإتباع موسى وهارون عليهما السلام لا يمنع من الخطاب بصيغة العموم والإطلاق وان كانت هذه القلة بمنأى عن الفتنة ومصاديق العقوبة.
وعلى فرض القول بإن القتل عشوائي، ترى لماذا وقع القتل في الذين لم يعبدوا العجل؟ قلت: كان الجميع مأمورين بالنهي عن المنكر وبعضهم لم يردع العاصين مخافة القتل، فجاء القتل المحتمل توبة ومغفرة كما في عقوبة أهل القرية التي كانت حاضرة البحر.
ولعله مما أبتلي به بنو إسرائيل وهو ان الآيات والنعم تأتيهم بصورة العموم المجموعي، أي شمول الأفراد بنحو الإجتماع وان مجموع بني إسرائيل فيها موضوع واحد والحكم فيها ثابت للمجموع مع الإنحلال بتعدد الأفراد، لذا فإن العقوبة تتغشاهم جميعاً ولكن ذلك لا يعني أنها قاعدة كلية في الأحكام السماوية وان كانت لها شواهد عديدة بالإضافة إلى موضوع النسخ والتحقيق كما في مسألة التطهر.
وهل يمكن حمل القول الثاني في باب تفسير الآية الكريمة بانه من المجاز المرسل، وبلحاظ ما يؤول اليه أي أن تسليم النفس للقتل قد لا يتعدى موضوعه النية والعزم على الفعل والغاية هي تطهيرها، وان المراد بالقتل التذليل، الجواب إن الظاهر والنصوص بخلافه، بالإضافة إلى إعتبار أصالة الحقيقة وعدم القرينة الصارفة إلى المجاز.
وفي كيفية القتل ذكرت وجوه :
الأول : روي أن موسى عليه السلام أمرهم أن يقوموا صفين فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وجاء هارون باثني عشر ألفاً ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة( ) وكانوا يقتلونهم فلما قتلوا سبعين ألفاً تاب الله على الباقين وجعل قتل الماضين شهادة لهم.
الثاني : ان السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الطور هم الذين قتلوا ممن عبد العجل سبعين ألفاً.
الثالث : إنهم قاموا صفين فجعل بعضهم يقتل بعضاً ثم إنجلت الظلمة فأجلوا عن سبعين ألف قتيل( ).
الرابع : روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه من المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم إصبروا فلعن من مد طرفه أو حل حبوته أو إتقى بيد أو رجل فيقولوا آمين.
الخامس : ان موسى عليه السلام وهارون وقفا يدعوان الله ويتضرعان إليه وهم يقتل بعضهم بعضاً حتى نزل الوحي برفع القتل، وقبلت توبة من بقي، وسقطت الشفار من أيديهم.
السادس : ورد في تفسير علي بن إبراهيم في الآية أن موسى عليه السلام لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم [ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ] فقالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى عليه السلام: إغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سكين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضاً.
فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كانوا يعبدون العجل إلى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى عليه السلام وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضاً حتى نزل جبرئيل فقال: قل لهم يا موسى إرفعوا القتل فقد تاب الله عليكم فقتل عشرة آلاف وأنزل الله [ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ].
السابع : عن علي عليه السلام في الآية: قالوا يا موسى ما توبتنا؟ قال موسى عليه السلام يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين , فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وإبنه والله لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقى , الإسلام يجّب ما قبله) ( ).
وظاهر الآية والنصوص أن خطاب قتل الأنفس موجه للذين عبدوا العجل وأن الإطلاق الوارد في الوجه الأول والثالث والرابع والخامس أعلاه يقيده ما جاء في الوجه السادس والسابع بلحاظ قاعدة التسامح بأدلة السنن، بل إن اعتبار القواعد الرجالية في السند يؤكد هذا الترجيح، ولكن القتل لم يأت على كل من عبد العجل لتحقق التوبة بالإقدام على القتل النوعي وإخلاصهم النية وإظهارهم الندم , ولسعة رحمته تعالى.
وفي نبوة إبراهيم المتقدمة زماناً رأى رؤيا بذبح إبنه إسماعيل، وشرع في الإمتثال بلحاظ أن رؤيا الأنبياء وحي لولا أن تداركته الرحمة الإلهية، قال تعالى[وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ]( ).
فإن قلت ليــس من فداء في بني إسرائيل، والجواب هناك تباين في الموضوع، فإن القتــل في بني إسرائيل جاء عقوبة ولإرادة التوبة والعفو من عند الله عز وجل.
أما بالنسبة لإبراهيم عليه السلام فإنه إمتحان وإبتلاء ولعله من عمومات قوله تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( )، وتوبة بني إسرائيل وكيفيتها من الفرقان الذي آتاه الله عز وجل موسى عليه السلام.
وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين من وجوه:
الأول : لم يعبد المسلمون غير الله , ولم يفتتنوا بإتخاذ ند أو شريك لله سبحانه .
الثاني: تولى المسلمون ومن سني البعثة الأولى كسر الأصنام والأوثان التي تعبد من دون الله، وأخرج عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)( ).
الثالث: يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو والقتال، ويغيب عن المدينة والمسلمون وعوائلهم يتعاهدون الصلاة، وسنن الإيمان، ومن الآيات أنه كان أحياناً ينيب على المدينة ابن أم مكتوم وهو أعمى وهو من أوائل المهاجرين إلى المدينة وعن أنس أن النبي إستخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بمن بقي من المسلمين( )، وعن الشعبي إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستخلف ابن أم مكتوم على المدينة في غزوة بدر)( )، وفيه آية وهي أن الجهاد لا يجب على الأعمى ورد الإستثناء الضرري بقوله تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ]( ).
قوله تعالى [ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ]
أي ان الإقدام على قتل النفس هو أفضل وأحسن لكم عند الله عز وجل و(خير) أفعل تفضيل وفيه وجوه :
الأول : قتل النفس أفضل من البقاء.
الثاني : القتل عنوان صدق التوبة.
الثالث : التوبة مع القتل أفضل وأحسن من التوبة من دون قتل.
الرابع : التوبة هي الأفضل والأحسن، والقتل أمر إضافي حسن، فالمدار على التوبة، والنصوص وردت بحصول القتل، فمع تعددها وتباين كيفية القتل فانها تدل على حصوله ووقوع القتل.
وقد يقال ان الله تعالى لا يحب للعبد ان يقتل ويكتفي منه بالتوبة، قلت: تلك نعمة عظيمة، وفاز بها المسلمون بالإضافة إلى تمادي بني إسرائيل في الظلم والجحود والكفر وإتخاذهم العجل بعد قيام الآيات والبينات والحجج عليهم، فلم يأتوا لعبادة العجل عن جهل وتوارث غفلة وفترة عن النبوة بل ان موسى عليه السلام وهو من الرسل الخمسة أولي العزم، والنبي هارون بين ظهرانيهم.
والظاهر أن اسم الإشارة (ذلكم) متعلق بالتوبة مع قتل النفس مجتمعين.
وفيه إعجاز وهو أن الآية لا تنفي قبول التوبة وحدها من غير قتل، فلو أنهم راجعوا موسى عليه السلام كما راجعوه في واقعة وهي ذبح بقرة( ) والحوا بالدعاء والتوسل لأسقط الله عزوجل عنهم القتل ولرضي منهم التوبة وحدها والإستغفار والإنابة فقوله تعالى (خير) أي أفضل من غيره ان تنفي الآية فضل التوبة وحدها بل جعلتهما مجتمعين أفضل , وعطفت الآية القتل على التوبة مما يدل على التعدد والغيرية بينهما.
وهل يصح القتل وحده , الجواب لا، لأن المدار على التوبة.
وهذا الكشف سر من أسرار القرآن، وكنز من كنوزه في إنتفاع المسلمين منه بالتنزه عن مفاهيم الشرك , وبالتوبة النصوح .
وليس في القرآن أو السنة النبوية الشريفة دعوة لقتل المسلمين أنفسهم، صحيح أنهم لم ولن يقترفوا ما إقترفه بنو إسرائيل بالجحود بالنعم مع انها تترى وتتوالى عليهم، إلا أن أحكام الشريعة الإسلامية تحث على التوبة والإستغفار وتجعلها مجزية وماحية للذنب بفضل الله تعالى.
لقد أشار موسى لبني إسرائيل بهذا المعنى، والإكتفاء بالتوبة والصلاح وإجتناب القتل، ولكن ظلم النفس يجعل غاشية ظلمانية على الأبصار.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (يا قوم) مما يدل على عموم الكفر والجحود عند الأكثرية فإستحقوا الذم والتقبيح.
وكررت الآية اسم الله تعالى (بارئكم) ولم يرد إسمه تعالى (البارئ) إلا ثلاث مرات في القرآن، مرتين في هذه الآية ومرة بصيغة الثناء والمدح لمقام الربوبية [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ] ( ) وهذا من الإعجاز، ودليل على وجود خصوصية في هذه الآية، وإشارة إلى الحاح موسى على بني إسرائيل بالتوبة والإنابة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع، وتفشي الفضل والإحسان لجميع بني إسرائيل إن إرتقوا إلى منازل التوبة، وفيه دليل على إمكان وقوعها منهم جميعاً.
قوله تعالى [فَتَابَ عَلَيْكُمْ]
أخبرت الآية عن التوبة من غير ذكر متعلقها من القتل او عدمه، وفيه تخفيف ورحمة وان كانت القرائن المقالية والنصوص تؤكد حصول القتل، ولم تقل الآية “فقتلتم أنفسكم” ولفظ قتلتم لم يرد إلا في قوله تعالى [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا] ( )، ففي الآية من جهة الإعراب واللغة حذف والتقدير “فامتثلتم فتاب عليكم”.
وتبين الآية فضل الله تعالى في قبول التوبة وعدم مؤاخذة الظالمين بعد ندمهم وإنابتهم وان التوبة والعفو عن الذنوب فضل وإحسان منه تعالى، وجاءت الآية بلغة القطع والجزم التي تدل عليها صيغة الفعل الماضي[َتَابَ] ولغة العموم الشاملة لجميع بني إسرائيل.
وتدل الآية على منزلة موسى عليه السلام عند الله بأن يخبر بني إسرائيل عن قبول توبتهم، ليكون هذا القبول صفحة جديدة وبداية مباركة للتقيد بأحكام التوراة، وتعاهد البشارات التي جاءت بها.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: مجيء العفو في الآية الثانية والخمسين بعد إتخاذهم العجل، وجاء العفو في هذه الآية بعد سؤالهم رؤية الله جهرة.
الثاني: جاء العفو في الآية أعلاه بعد إتخاذ العجل وقتل بني إسرائيل بعضهم لبعض، أما آية البحث فجاءت بالبعث بعد الإماتة المؤقتة.
الثالث: جاء العفو في الآية أعلاه بعد ظلمهم لأنفسهم لقوله تعالى(وأنتم ظالمون).
وجاء البعث في آية البحث بعد الصاعقة وما ترشح عنها من الإماتة
قوله تعالى [إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]
إن الله عز وجل يقبل توبة عبادة ويغفر لهم ذنوبهم، وهو الذي يهديهم إلى التوبة ويأمرهم بها، وهذا ما لا يفعله غيره تعالى فهو سبحانه .
الأول : يأمر الله عباده بالتوبة.
الثاني : من لطف الله أنه يدل الناس على طرقها.
الثالث :يحبب التوبة التوبة لهم.
الرابع : يبين الله أضرار الإصرار على الذنب وتفويت فرصة الحياة الدنيا كوعاء زماني للتوبة.
الخامس : يغفر الله الذنوب للمسلم عندما يقول أستغفر الله وأتوب اليه.
السادس : ليس من لفظ مخصوص للتوبة , فالله سبحانه التواب الذي يقبل التوبة القولية والفعلية، وحبس النفس عن المعاصي والمعاودة في الذنب.
وخاتمة الآية وعد كريم بقبول التوبة وبعث للسكينة في القلوب، وإقترن إسمه تعالى التواب بإسمه الرحيم في تسع آيات من القرآن( )، لتوكيد عظيم رحمته وأنه سبحانه يزيد من فضله على التوابين فتتغشاهم رحمته في النشأتين لأن الآية جاءت على الإطلاق.
ومن الرحمة لبني إسرائيل في الدنيا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.