سورة البقرة الآيات (55-61)
المقدمــــــــة
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن صراطا وضياء يهتدي به الناس في دار الغرور ومواطن الإفتتان والإبتلاء، والصلاة على الذي نزل عليه بالقرآن جبرئيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تستطع أيدي التحريف محو ذكره في التوراة والإنجيل.
لقد جاء القرآن نوراً عقلياً , ومن سمات النور الظهور وإنكشاف غيره به، وليس من حجاب يحول دون بيان ما في القرآن من المعارف الربوبية والأحكام الشرعية والسنن الأخلاقية والإجتماعية، والقرآن كنز سماوي يفيض بالعلم والسكينة على النفوس والضمائر والبصائر، وهو كالشمس في عالم الحس فتراها لشدة ضيائها لا يستطيع الناس النظر إليها إلا بواسطة حجاب رقيق.
فكذا ذخائر القرآن تستلزم التخلص من الكدورات والإمتناع عن النفس الشهوية فلا حجاب في الأصل , ولكن القرآن يدعو النفوس كل يوم لتكون مستعدة للمكاشفة العقلية والمعنوية والصورية لتتصل بعالم الوحي ونظام الملكوت، وتتلقى المعارف السماوية والمغيبات الزمانية في ثنايا آياته المباركة وعبر بيانه ولآلئ تفسيره ونفائس تأويله.
لقد جعل الله عز وجل علوم القرآن من اللامتناهي وصيَرها قريبة من المتقين بلحاظ إجتماع العقل والإيمان عند المسلمين، وعشقهم لكلام الله، وسعي العلماء لإستنباط الأحكام والفرائد الكلامية والعقائدية والإجتماعية والعلمية من آيات القرآن، وكل واحدة منها خزينة مدخرة للأجيال المتعاقبة من غير أن ينقص من ذخائرها شيء، قال تعالى في وصف القرآن[وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
ومن كنوزه التي لم يشرع العلماء بعد بإستخراج ثرواتها العلوم المستقرأة من الصلة بين الآيات والتي سوف تبهر العقول لمئات من السنين وقد تم إصدار ثمان أجزاء من هذا السفر من أصل خمسين جزء بصلة قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بالآيات التي قبلها في فتح علمي مستحدث يضيء للعلماء طريق تثوير القرآن والنهل من علوم نظم الآيات.
وهذا هو الجزء الحادي عشر من معالم الإيمان في تفسير القرآن بطبعته المنقحة والمزيدة , ويتضمن تفسيراً لعدة آيات من سورة البقرة نسأل الله تعالى المدد والتوفيق [وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، وعن ابن عباس في قول الله عز وجل[بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( )، قال: بلسان قريش، ولو كان غير عربي ما فهموه. وما أنزل الله عز وجل من السماء كتاباً إلا بالعبرانية، وكان جبريل عليه السلام يُترجم لكل نبي بلسان قومه. وذلك أن الله عز وجل قال (وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إلّا بِلِسانِ قَومِهِ لِيُبَينَ)، وليس من الألسنة مثل اللغة العربية فجاء القرآن بها هبة سماوية متجددة لأهل الأرض جميعاً.
ويتضمن هذا الجزء تفسير الآيات 55-61 من سورة البقرة التي هي أجمع سور القرآن للأحكام والمواعظ والتي تضمنت تفصيل خلق آدم وقصص بني إسرائيل الذين خصهم الله بالتفضيل على أهل زمانهم، وتفضل الله وقدمها في نظم السور بلحاظ كبرى كلية , وهي أن ترتيب سور القرآن توقيفي.
وجاءت كل آية من الآيات التي إختص هذه الجزء بتفسيرها موعظة وشاهداً على صدق رسالة موسى عليه السلام، ونبوة محمد ، ودليلاً على بركة ونفع القرآن لبني إسرائيل مع إعراضهم عنه ، وبرزخاً دون الإصرار على الجحود، وزاجراً للناس عن الإقامة في منازل الكفر، وتذكيراً لبني إسرائيل والناس جميعاً بنعم الله عز وجل عليهم، فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وذكر نعم الله عز وجل على بني إسرائيل لا يدل على إنعدام أو قلة النعم على غيرهم من الناس.
وهو من وجوه العناية الإلهية المتصلة بالناس , ومن أسرار نفخ الروح في آدم ، واللطف الإلهي بالناس وتقريبهم إلى منازل الهداية وحسن الإمتثال، وفيه دعوة لهم للتصديق بالنبوة وبشاراتها .
وذكرت في البحث الخارج للفقه في ترجمة العياشي صاحب التفسير من رجال القرن الثالث أن داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قارئ أو معلق، مملوءة من الناس، وأنفق تركة أبيه سائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار، وترجمه ابن النديم في الفهرست وأهم ما وصل من كتبه تفسيره للقرآن بجزئين من سورة الفاتحة إلى آخر سورة الكهف، وظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من الفقدان، وخال من الإسناد.
وقد أنعم الله عز وجل عليّ بأن أقوم بالتأليف والتصحيح والمراجعة بمفردي يؤازرني ولدان صغيران في التنضيد، وقاربت أجزاء التفسير مائة جزء إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية , وهي نعمة عظيمة في تأليف أفضل صرح في علوم القرآن، أسأل الله عز وجل أن أكون وذريتي شاكرين لفضله وأن ينعم علينا بدوام البركة والفيض، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
قوله تعالى [ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ] الآية 55.
الإعراب واللغة
وإذ : تقدم إعرابها، قلتم : فعل ماض وفاعل، والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها، يا : حرف نداء، موسى : منادى علم، لن : حرف نفي ونصب وإستقبال، نؤمن : فعل مضارع منصوب بلن، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن، والجملة مقول القول.
لك : جار ومجرور، متعلقان بنؤمن.
حتى : حرف جر وغاية، ومجرورها المصدر المؤول من أن المضمرة وما بعدها، ومعناها مرادفة (الى)، أي إلى رؤية الله جهرة.
اسم الجلالة : مفعول به، جهرة: حال منصوب.
والفاء في [ فَأَخَذَتْكُمْ ] عاطفة، ونسب إلى الإمام علي عليه السلام انه قرأ: “فأخذتكم الصعقة”( )، (وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن عمر بن الخطاب. أنه قرأ: فأخذتهم الصعقة)( ).
أخذتكم : فعل ماض، والتاء تاء التأنيث الساكنة، والكاف : ضمير متصل في محل نصب مفعول به مقدم، الصاعقة : فاعل مرفوع.
[ وَأَنْتُمْ ] الواو حالية، أنتم : ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ،
تنظرون : فعل مضارع، والواو فاعل، وجملة [ تَنظُرُونَ ] خبر أنتم. الإيمان هنا بمعناه اللغوي وهو التصديق ويُراد به ايضاً الطاعة.
والجهر : العلو والإظهار كما في قوله تعالى [ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ..]( )، أي لا ترفع بها صوتك.
في سياق الآيات
بعد الإخبار عن تفضله الله سبحانه بانزال التوراة على موسى وما أظهره بنو إسرائيل من التقصير والتخلف عن الوظائف الشرعية , ونعت موسى عليه السلام لهم بأنهم ظلموا أنفسهم وبين لهم صراحة بما لا لبس فيه ماهية الظلم وموضوعه وهو إتخاذهم العجل، ودعوته لهم للتوبة التي تدل بالدلالة لتضمنية على عدم إستحالة الإنابة والرجوع، وأن التوبة باب فتحه الله للناس من غير تقييد بذنب مخصوص، جاءت هذه الآية لتبين قبائح فريق من بني إسرائيل وإشتراطهم مقدمة لإيمانهم الممتنع بلحاظ القابل .
وتضمنت الآية التالية تعقب اللطف الإلهي بالبعث والإعادة إلى الحياة بعد الموت التعليقي بالصاعقة، ليكون البعث مناسبة لشكر بني إسرائيل لله تعالى، وتجلي معاني الشكر على أقوالهم وأفعالهم، وليكون شاهداً على الندم والتوبة والإنابة ورسوخ الإيمان في قلوبهم، وجاء قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ثلاث مرات في سورة البقرة، واحدة قبل ثلاث آيات، وواحدة في الآية التالية وكلاهما في بني إسرائيل , والثالثة في نعمة الله على المسلمين بالتوفيق لأداء فريضة الصوم( ).
وإبتدأت خمس آيات من مجموع الآيات السابقة بظرف الزمن الماضي (إذ) وكل واحدة منها بيان لنعمة عظيمة على بني إسرائيل تترشح عنها نعم متعددة بذات الماهية والكيفية أو تكون فرعاً لها.
وإبتدأت آية البحث بذات الظرف فهل تتضمن نعمة أخرى على موسى وبني إسرائيل, وفق نسق ونظم الآيات أم أنها تتضمن اللوم والتوبيخ للذين سألوا الروية , الجواب : إنها جامعة للوجهين معاً, وليس من تعارض بينهما, وهو من إعجاز القرآن إذ تأتي الآية بذكر النعمة بلغة التبكيت, وكذا العكس, وفيه تأديب للناس, وإرشاد لسبل الصلاح, وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي ) ( ) .
لقد جاء القرآن بالقصة ولغة الأمثال, قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) ليكون الحسن في قصص القرآن من اللامتناهي ذاتاً وأثراً, ومنه آية البحث التي تبين كيفية مذمومة في سؤال قوم موسى له, ليكون تأديباً وهداية للمسلمين فلا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يجوز لهم, ولم يكتف القرآن في مواضيع الهداية والصلاح بلغة القصة , بل جاء بالنص الممتنع عن التعدد في التأويل, قال تعالى [لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] ( ).
وهل إمتثل المسلمون لمضامين الآية أعلاه وإجتنبوا ما نهوا عنه , الجواب : نعم, وفيه آية لإكرامهم وبيان إختصاصهم بخصال حميدة ما بين الأمم, وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فإن قلت لقد بلغ المسلمون هذه المرتبة السامية بمدد وعون من الله عز وجل وإقتباسهم الدروس من الأمم السابقة, وإنتفاعهم من مصاديق تفضيل بني إسرائيل على العالمين , والجواب [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) ثم أن الأمم الأخرى أنعم الله عليها بالكتب السماوية وبعثة الأنبياء, وقصص أمم سابقة حاضرة عندها.
ومن إعجاز الآية أنها تضمنت ذكر التعدي في سؤالهم النبي بما لا يصح، ومجيء العقاب وذكر صبغته وسرعة وقوعه وهو الصاعقة، وشهادة بني إسرائيل أنفسهم لذات العقاب.
ترى لماذا لم تأت الآية بلوم بني إسرائيل لقبح السؤال عن رؤية الله وبيان أنه أمر يستحق العقاب، جاءت الآية بما هو أبلغ بتعقب العقاب الأليم للسؤال مما يدل على تقدم التحذير وسبق الإنذار.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن نوف البكالي. أن موسى لما اختار من قومه سبعين رجلاً قال لهم: فِدوا الى الله وسلوه فكانت لموسى مسألة ولهم مسألة ، فلما انتهى إلى الطور المكان الذي وعده الله به قال لهم موسى: سلوا الله. قالوا {أرنا الله جهرة} قال: ويحكم…! تسألون الله هذا مرتين؟ قال: هي مسألتنا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة فصعقوا، فقال موسى: أي رب جئتك سبعين من خيار بني إسرائيل، فأرجع إليهم وليس معي منهم أحد، فكيف أصنع ببني إسرائيل، أليس يقتلونني؟ فقيل له: سل مسألتك: قال: أي رب إني أسألك أن تبعثهم. فبعثهم الله فذهبت مسألتهم ومسألته، وجعلت تلك الدعوة لهذه الأمة)( ).
إعجاز الآية
تبين الآية شدة بطش الله تعالى بمن علق إيمانه على معجزة باختياره ويفتقر إلى قابلية رؤيتها، ويدل تعجيل العقاب على وجود النعم العظيمة بين أيديهم مما يكفي للإيمان والتسليم بالنبوة.
وفي الآية توثيق لسؤال عناد وإصرار على آية مخصوصة بذاتها، وتعقبه بالعقاب العاجل وتوثيق سماوي لسؤال الرؤية وجعل النفوس تنفر منه خصوصاً وانه جاء من بني إسرائيل بعد رؤيتهم الآيات.
وتبين الآية الإعجاز في نزول الصاعقة بهم، ورؤيتهم لها، ليتحقق موضوع رؤية آية الصاعقة.
ومن الإعجاز إختتام الآيتين بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] وهو آية إعجازية من جهة الإتحاد اللفظي والتباين في الموضوع والحكم، ففي الآية أعلاه ينظر بنو إسرائيل لهلاك عدوهم وكيفية غرق فرعون وجنوده، أما في هذه الآية فينظرون إلى أنفسهم وقد نزلت بهم الصاعقة وأهلكتهم لولا أن منّ الله عز وجل عليهم بالبعث والحياة من جديد كما تدل عليه الآية التالية.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (وإذ قلتم ياموسى) ولم يرد هذا لفظ في القرآن إلا مرتين إذ جاء بعد ست آيات في ذات المعنى، وسؤال بني إسرائيل طعام الأرض في وقت كان ينزل عليهم المن والسلوى( ).
الآية سلاح
تظهر الآية العناد بسؤال المعجز مع عدم أهلية القابل وسؤال موسى عليه السلام ما لم يستطع عليه، وفيه درس للمسلمين بمعرفة حقيقة ما يسألون، وهي تأديب لهم وللناس للزوم ترك سؤال المحال وفي الذين سألوا موسى رؤية الله قولان:
الأول: هم السبعون الذين إختارهم للميقات وهم شيوخ بني إسرائيل.
الثاني: عامة بني إسرائيل، وهم نحو عشرة آلاف منهم، وعن سفر التثنية من التوراة في مناجاة موسى عليه السلام قيل: لما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار تقدم إليّ جميع رؤساء أسباطكم وشيوخكم وقلتم هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار… إن عندما نسمع صوت الرب إلهنا أيضاً نموت…. تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلخ. فهذا يؤذن أن هنالك ترقباً كان منهم لرؤية الله تعالى وأنهم أصابهم ما بلغ بهم مبلغ الموت).
وليس فيها ما يدل على سؤال الرؤية، وفيه مسائل:
الأولى: عدم الإيجاد أعم من عدم الوجود.
الثانية: ظاهر الخبر أنهم يخشون سماع كلام الرب، وأنهم أدنى من أن يسمعوه.
الثالثة: جاء القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) وهو حجة في تأكيد سؤال الرؤية، وهو من إعجاز القرآن، فإذا وجد تعارض بين القرآن وما في الكتب السابقة فالترجيح لمضامين القرآن القدسية لأمرين:
الأول: الأصل هو إنتفاء التعارض بين الكتب السماوية.
الثاني: سلامة القرآن من التحريف، وعدم طرو التغيير أو التبديل على كلماته.
عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل))( ).
والآية مدرسة في الإعجاز وتعيين ماهية المواضيع التي يسألها المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد خفف الله عنهم اذ جاء القرآن معجزة عقلية دائمة.
مفهوم الآية
في الآية وعيد وتحذير من التشديد في السؤال والإلحاح في طلب الآيات التي يتعذر على الإنسان كممكن رؤيتها , وفي المتعدد من الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام حجة وبرهان قاطع كآية العصا وهي آية توليدية تتفرع عنها معجزات حسية يومية عظيمة، وما في الآية من التوبيخ مقدمة علمية للتسليم بمعجزة القرآن والإكتفاء بها كحجة عقلية دائمة.
ومن مفاهيم الآية أنها مدح للمسلمين فهم لم يسألوا الآيات واكتفوا بما رزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات والبراهين الدالة على نبوته، والآية تحذير لبني إسرائيل وغيرهم، ومنع من الإصرار على سؤال الآيات المستحدثة والشخصية، وحرز وواقية للمسلمين لعدم الإنقياد وراء تلك المسائل والإلحاح على الآيات فقد يكون من مكر الذين كفروا مواصلة طلب الآية فكل جماعة وكل فرد يريد معجزة كي يسلم ولا يكتفي بالمعجزات الباهرات الظاهرات للبصر والبصيرة، فجاءت هذه الآية للتنبيه والإتعاظ والإعتبار وفضح المقاصد السيئة.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب لبني إسرائيل , ويتضمن هذا الخطاب تقبيح فعلهم وقولهم لبيان ما لاقاه موسى عليه السلام منهم , ففي الآية أمور وهي:
الأول : مجيئهم لموسى وطلبهم رؤية الله تعالى.
الثاني : تعليق ايمانهم على رؤيته تعالى.
الثالث : التناقض ظاهر بين طلب الرؤيا والإيمان بموسى لأن موسى عليه السلام عبد الله اختاره للنبوة وموضوع الرؤية امر خاص به تعالى وقد جعلها الله ممتنعة على الخلائق بمعنى انهم طلبوا المستحيل ذاتاً وعرضاً، فالرؤية ممتنعة عقلاً وشرعاً وفق الإرادة التكوينية، وليس للنبي موسى وكل نبي من الأمر من شيء ولا يستطيع تغيير الإرادة التكوينية بخصوص الرؤية، وبذا يظهر عظيم فضل الله تعالى على المسلمين بهذه الآية.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تذكير بني إسرائيل بسؤالهم لموسى عليه السلام ويتضمن هذا التذكير اللوم والذم.
الثانية : إصرار بني إسرائيل على رؤية الله تعالى، وهو سبحانه منزه عن رؤية العباد له.
الثالثة : نزول العذاب ببني إسرائيل.
الرابعة : من الآيات أن بني إسرائيل يرون نزول البلاء بهم من غير علة مادية خارجية بل عقوبة من عند الله لسؤالهم ما لا يصح، وتجرأوهم على الله، وقد ورد قبل آيات قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] وجاء في رؤية بني إسرائيل لغرق آل فرعون عقوبة ودفعاً للشر والأذى عن بني إسرائيل، ولكنهم لما عصوا نزل بهم العذاب وهم ينظرون أيضاً , وفيه دلالة على لزوم تعاهد نعم الله عزوجل , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ]( ).
الآية لطف
تحث الآية الناس على وجوب الإيمان وإجتناب التجرأ في السؤال، وتدعو للإكتفاء بالمعجزات التي يأتي بها الأنبياء للتسليم بالربوبية لله تعالى، ومن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل أن بعث فيهم موسى عليه السلام نبياً رسولاً مصحوباً بالآيات والمعجزات التي تدعو لإتباعهم له وتصديقهم به، وجاءت الصاعقة لتكون تأديباً للناس، وزجراً عن السؤال الذي ينم عن العناد والإصرار والجحود . وفي ذكر سؤال الرؤية , ونزول العقاب الإلهي في هذه الآية إرشاد للمسلمين بالإكتفاء بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم سؤال ما لا يكون.
ومن دلائل تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى أنهم لم يسألوا عناداً وإصراراً، بل جاءت أسئلتهم بخصوص الأحكام الشرعية ولمعرفة سنن الإسلام، ومسائل الحلال والحرام، مثل قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( )، ليكون سؤالهم مناسبة لتدبر وتفكر أجيال المسلمين وإقتباسهم الدروس والعبر من الآيات.
وجاءت الآية خطاباً لبني إسرائيل أيام البعثة النبوية ولكن الذين سألوا موسى رؤية الله هم النفر السبعون الذين إختارهم ، ومع هذا جاءت الآية بقوله تعالى [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] وكذا بالنسبة لقوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] فلم ينظر نزول الصاعقة بهم إلا نفس القوم، وفيه وجوه :
الأول : مخاطبة الأبناء بما فعل الآباء.
الثاني : نسبة الفعل الى الأجيال المتعاقبة من بني إسرائيل.
الثالث : لو كان الموجودون أيام البعثة النبوية منهم حاضرين أيام موسى عليه السلام فربما فعلوا مثلما فعل آباؤهم لإتحاد السنخية.
الرابع : ثبوت الواقعة عند بني إسرائيل، وتواتر خبرها عند أجيالهم المتتالية.
الخامس : إدراك بني إسرائيل لحقيقة هذه الواقعة، وكأنها أمر حاضر يشاهد بالعيان في كل زمان لهول الصاعقة .
السادس : تحذير بني إسرائيل والمسلمين من سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤية الله.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة , وفي نزول الصاعقة لطف ببني إسرائيل من وجوه :
الأول : إثبات علم الله تعالى بقولهم.
الثاني : نزول العقوبة في الحال، فلا يقدر على إنزال الصاعقة والفصل بين أهل السؤال وبين موسى عليه السلام وبقائه سليماً معافى مع وحدة المحل والمكان إلا الله تعالى.
الثالث : قدرة الله تعالى على محو العذاب عن بني إسرائيل وغيرهم.
لقد سأل القوم رؤية الله فأراهم الله عزوجل آية من عظيم قدرته، وبديع صنعه، وبيّن لهم شاهداً حسياً على إحاطته علماً بكل شئ وأنه لا يرضى للعباد إلا الطاعة والتسليم بما جاء به الأنبياء من عند الله إذ أماتهم بآية حسية، ثم بعثهم وأحياهم من جديد.
وفي الآية لطف بالناس جميعاً في إجتناب السؤال الخالي من النفع ولزوم إمتناع العبد عن طلب معجزة خاصة له، فلا يصح أن يسأل كل إنسان معجزة خاصة به، بل عليه الإكتفاء بالآيات والبراهين العامة الدالة على صدق النبوة، وقد جاء القرآن معجزة عقلية خالدة، وحجة على الناس، ودليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وجوه تفضيل المسلمين والشواهد على انهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، هذه الآية وأنهم لم يسألوا ما لا يحق لهم، ولم تنزل بصحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاعقة، نعم ورد قوله تعالى[ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ] ( )، وهو قضية في واقعة وإرادة شخص معين.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب مع وقوع قصة الآية في أيام موسى عليه السلام، وليس في أيام نزول القرآن إلا أحفاد بني إسرائيل وفيه وجوه :
الأول : توثيق قصة الذين سألوا الله الرؤية , وفيها مسائل :
الأولى : منع التحريف في قصة طلب الرؤية.
الثانية : بيان القبح الذاتي لسؤال الجماعة رؤيتهم لله تعالى .
الثالثة : التفصيل في الأضرار الفادحة لسؤال الرؤية.
الرابعة : إستقراء سوء المسألة والضلالة في الإلحاح في طلب الرواية، مع وجود الآيات والبراهين العظيمة التي تدل على صدق نبوة موسى عليه السلام.
الخامسة : توكيد قانون وهو أن القرآن تبيان وشاهد على تأريخ الأمم قال تعالى [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : ذكر تخلف بني إسرائيل عن شكر الله على نعمة التفضيل وجعلهم أفضل أهل زمانهم لذا جاءت الآية السابقة بحثهم على الشكر لله عز وجل .
الثالث : دعوة اليهود إلى عدم التمسك بما كان عليه أسلافهم، لأنهم كانوا يؤذون موسى عليه السلام في حياته، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ] ( )، وسؤالهم الرؤية من مصاديق إيذائهم لموسى عليه السلام، فأراد الله عز وجل لبني إسرائيل الإسلام من غير إيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ولأنفسهم، وهو من عمومات قوله تعالى في خطاب للمسلمين[وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ]( ).
الرابع : ورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدل في مضامينها ومواضيع الأسئلة على مراتب الإيمان والفقاهة التي بلغها المسلمون لأنها جاءت عن الأحكام الشرعية، وفيه شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى.
الخامس : بيان قانون ثابت وهو لزوم الإيمان بالتوحيد والنبوة من غير تعليق الإيمان على شرط أو قيد، ولابد من المبادرة إلى الإيمان لوجوه :
الأول : الإيمان والعبادة علة خلق الإنسان , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثاني : مجيء موسى عليه السلام بالآيات والمعجزات البينات.
الثالث : نزول التوراة من عند الله تعالى.
الرابع : توالي النعم الإلهية على بني إسرائيل مع الدلالة على أنها من عند الله، وجاءت فضلاً وإحساناً منه سبحانه.
الخامس : لقد سألوا موسى عليه السلام المعجزات فرزقهم الله تعالى النعم والآيات على نحو التعدد والكثرة، ومنها عصا موسى التي تتفرع عنها معجزات كثيرة، وكان فيها الكفاية وتمام الحجة والبرهان على وجوب عبادة الله تعالى، وحرمة الشرك به، ولزوم إتباع موسى عليه السلام.
وكأن الآية تجعل لإسلامهم شرطاً مع وجوبه عليهم، وهذا الشرط هو لزوم إجتناب سؤال الممتنع، وإن سألوه فإنهم لن يروا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أسباب الهداية والصلاح، خصوصاً وأنهم لم يكونوا خاصته وكبراء قومه وهذا من وجوه تفضيل المسلمين وهو ان الذي يسأل الممتنع ويضع الشرط لدخول الإسلام ليس له سلطان على عامة المسلمين، ودخول الصحابة وأهل البيت في الإسلام سبقه وإنتظم أمر الدين وتلقى المسلمون القرآن بالتصديق والإيمان , ويواجهون السؤال بالممتنع بالنفرة والإعراض والإنكار، ولا تجد جماعة منهم يتفقون على مثل هذا السؤال، ومن يدخل في الإسلام من بني إسرائيل يتبع نهجهم، بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب أسباب الشك والريب.
السادس : هذه الآية حرز وواقية من سؤال اليهود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الممتنع بالذات أو بالعرض، وحجة للنبي محمد صلى في إجابتهم لسؤالهم، وإنذار لهم من السؤال لأجل الإفتتان وحصن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ترك إجابتهم.
وتدل الآية في مفهومها على الإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إجابة سؤالهم الآيات الخاصة، لأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت عامة وحجة على الناس جميعاً , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
إفاضات الآية
لقد إنتفع المسلمون من نبوة موسى عليه السلام وقصص بني إسرائيل، فكان موسى عليه السلام مبشراً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموطئاً لها باصلاح النفوس وتنقيح الطبائع، وتحذير الناس مما وقع فيه قومه من العناد والتحدي وسؤال الممتنع شرعاً وفق قواعد الإرادة التكوينية، وتبين الآية الغبطة والسعادة والسكينة التي تترشح عن الإيمان، فهو حصن من البلاء والعقاب العاجل والآجل.
وفي الآية دروس عقائدية مستقرأة من قصص الأمم السابقة، وعبرة من كيفية تصرفهم مع الأنبياء، ولقد انتفع المسلمون من قصص القرآن غاية الإنتفاع وجلبوا لأنفسهم الفخر بين الملائكة والناس ولم يسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يصلح حالهم ويزيدهم تفقهاً في الدين وييسر لهم العمل بأحكام الشريعة، وجاء القرآن بذكر أسئلتهم التي تنم عن الرضا والتسليم بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من الشواهد العملية لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
عادت هذه الآية إلى صيغة الخطاب[وَإِذْ قُلْتُمْ] ولكنها تتضمن القرينة التي تدل على وقوع القول والفعل أيام موسى عليه السلام، ولا تمنع هذه القرينة من إرادة الموجود من بني إسرائيل أيام البعثة النبوية وحثهم على التدبر في مضامين القصة والخطاب، قصة آبائهم وما لاقاه موسى عليه السلام منهم، وجهة الخطاب الموجه إلى الموجود من بني إسرائيل أيام البعثة النبوية المباركة.
ومعنى قوله تعالى[وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى] أي إذ قال أسلافكم وآباؤكم لموسى، فتوجه اللوم في الآية إلى الأسلاف لسوء قولهم، والتحذير والزجر للأبناء من إتباع طريقتهم، وتتجلى في أيام البعثة النبوية المباركة بالنهي عن الإحتجاج وسؤال غير الممكن عقلاً، والكف عن طلب الآيات الشخصية، فليس لكل شخص السؤال بآية حسية يراها بنفسه كي يسلم، فقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات عقلية وحسية عامة تكفي للتصديق بنبوته.
وجاء موسى بالتوراة من عند الله، كما أنه ضرب البحر فإنفلق ليعبر بنو إسرائيل وتكون نجاتهم من آل فرعون قال تعالى [وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ]( )، ولكن طائفة لم يكتفوا بهذه الآيات بل سألوا موسى أن يروا الله عز وجل جهرة كي يؤمنوا ويصدقوا بنبوته، مع تقدم وإستمرار الآيات الدالة عليها , فاستحقوا الذم على نحو مركب من جهتين :
الأولى : عدم الإكتفاء بالآيات التي جاء بها موسى عليه السلام مع كثرتها ودلالتها على صدق نبوته.
الثانية : سؤال ما لا يصح موضوعه وهو الرؤية .
وجاء القرآن ليؤكد معجزات موسى عليه السلام، ويبينها بجلاء، ويجعل المسلمين يقرون بنبوته ويصدقون به، ويأخذون الدروس والعبر من نبوته , ومن كثرة سؤال بني إسرائيل وماهية سؤالهم، ومنه طلبهم رؤية الله عز وجل، وفيه آية إعجازية ونصرة من القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يستطع أحد الوقوف في وجه أسئلة بني إسرائيل ذات الغايات المتعددة والمتباينة، وقد يميل شطر من الناس إلى نصرة اليهود في أسئلتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتطلعون إلى إجابتها لإثبات النبوة، فجاءت هذه الآية سلاحاً من وجوه :
الأول : دعوة اليهود للكف عن سؤال المعجزة، والقبول بالمعجزات العامة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن النبوات الأخرى، بأن معجزته عقلية وهو القرآن، وسماع وتدبر آياته متيسر للجميع، ولليهود وغيرهم دراستها في منتدياتهم ومجالسهم.
الثالث : إن الله تعالى هو الذي يتفضل بتعيين نوع وزمان ومكان المعجزة، وليس الناس، وحينما أراد الله تعالى نجاة بني إسرائيل من فرعون أمر موسى عليه السلام بأن يخرج بهم , قال تعالى[وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا] ( )، ولم يتوقع بنو إسرائيل الفرج والسلامة دفعة واحدة وبهذه الآية المعجزة، وتكفي وحدها للتصديق بنبوة موسى عليه السلام وتملي عليهم إتباعه.
الرابع : منع إمتثال الناس بسؤال بني إسرائيل المعجزة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذا الإمتثال على جهات :
الأولى : تأييد اليهود في سؤالهم معجزة مخصوصة.
الثانية : متابعة أخبار سؤال المعجزة، وأثره وموضوعه.
الثالثة : التوجه بسؤال معجزة أخرى، فاذا كان الكتابي يطلب معجزة خاصة ، يأتي المشرك والكافر ليطلب معجزة أخرى , وجاءت بعثة النبي محمد لبناء صرح دولة الحق والهدى, قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ]( ).
الرابعة : تعدد سؤال المعجزة وإتباع الهوى في تعيينها، من غير معرفة بقوانينها وضوابطها.
الخامسة : إتخاذ سؤال المعجزة وسيلة للتشكيك بالنبوة.
الخامس : دعوة اليهود والنصارى والناس جميعاً للتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإكتفاء بها وما فيها من مضامين التحدي، والسلامة من المعارضة.
السادس : الزجر عن سؤال المعجزة تلو المعجزة، بأن يسأل شخص أو جماعة معجزة ثم يأتي غيرهم ويسأل وهكذا، لأن وظائف النبوة تلقي الوحي والتنزيل، وبيان الأحكام، ودعوة الناس للإمتثال للأوامر الإلهية، وأداء الفرائض والعبادات.
لقد رأى بنو إسرائيل الآيات الباهرات تترى على يد موسى عليه السلام، وقربه من الله تعالى في المسألة وتلقي الوحي والإستجابة فضلاً منه تعالى، فألحوا وأكثروا في المسألة، فسألوا الممتنع وأرادوا من موسى عليه السلام أن يروا الله تعالى، ولم يكتفوا بسؤال الرؤية بل جعلوها شرطاً للإيمان والتصديق بنبوة موسى عليه السلام، وهو إثم إرتكبوه إذ أن هذا السؤال جاء بعد آيات الإنقاذ من آل فرعون وضرب موسى البحر بعصاه وإنفلاقه لبني إسرائيل بأمن وسلام , وهلاك فرعون وجنوده، ومجئ موسى بالتوراة.
إن تقييد الإيمان بنبوة موسى عليه السلام بشرط الرؤية أشبه بالإنكار والجحود لتلك الآيات.
لذا جاء العقاب العاجل الشديد بأن أخذتهم الصاعقة، فبدل أن يشكروا الله تعالى على تلك النعم التي أدركها كل واحد منهم ، وكان الإعجاز فيها ظاهراً لايقبل الشك أو الترديد ، فجددوا السؤال، وكان متعلقه الممتنع.
وتبين الآية صدور السؤال منهم على نحو العموم المجموعي[حَتَّى نَرَى اللَّهَ] فجاءت الصاعقة لتأخذ الذين سألوا الرؤية، وورد الذم في المسألة من وجوه :
الأول : سؤال الممتنع.
الثاني : تقييد التصديق بنبوة موسى عليه السلام بآية ومسألة مخصوصة.
الثالث : الجحود بالآيات والمعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله تعالى.
وقد ورد قوله تعالى قبل آيات [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] في ذات جهة الخطاب مع التباين في الموضوع، إذ كان بنو إسرائيل ولإيمانهم ينظرون إلى هلاك آل فرعون، وغرقهم في البحر، بينما جاءت هذه الآية في نظرهم إلى أنفسهم وكيف أن الصاعقة تأتي عليهم لتكون آية أخرى وحجة عليهم، ولبيان أن موتهم ليس عن سبب وحالة من أحوال الطبيعة والصواعق والزلازل التي تأتي فجاة ولا يستطيع الإنسان رؤية نفسه ومن حوله.
بينما جاءت الصاعقة في المقام على نحو تدريجي تأخذهم وهم ينظرون، ليكون بعثهم آية أخرى، وشاهداً على هلاكهم بالمعجزة، وان النار التي جاءتهم عقوبة من عند الله لسوء فعلهم ومسألتهم، وليتوبوا إلى الله تعالى عند بعثهم، ويكونوا عبرة وموعظة لغيرهم.
والأصل أن تكون عبادة العجل وعقوبة القتل الذاتي بينهم وعفو الله تعالى عنهم درساً وحجة عليهم، وبرزخاً دون سؤال الممتنع وتقييد الإيمان بنبوة موسى عليه السلام برؤية الله تعالى، مع المعصية والذنب العظيم في سؤال الرؤية، قال تعالى [فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً]( ).
لقد جاءت آية العفو عن عبادة العجل بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ومن الشكر لله تعالى تلقي التوراة بالقبول والتصديق، ولكن بني إسرائيل لما أدركوا أنها تتضمن الفرائض والتكاليف سألوا الرؤية، وقيدوا التصديق بنبوة موسى ونزول التوراة والعمل بأحكامها برؤية الله تعالى علانية، وبذا خالفوا مضامين الشكر لله تعالى (لذا قيل : أنه لما جاءهم بالألواح وفيها التوراة، قالوا : لن نؤمن بأن هذا من عند الله حتى نراه عياناً) ( ).
ومن الإعجاز في الآية قلة كلماتها مع إحاطتها بالقصة كاملة من وجوه:
الأول : ذكرت الآية قول بني إسرائيل لموسى وإيذائهم له، وإصرارهم على سؤال الممتنع، وبدايتهم لعصيان عام جديد , بينه وبين عبادة العجل عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي الجحود، ومادة الإفتراق أن العكوف على العجل كفر، وتقييد الإيمان بالرؤية قيد باطل، وتعليق للإيمان، وإنكار للآيات الباهرات والنعم العظيمة التي جاءتهم بالمعجزة والتفضيل من عند الله تعالى.
الثاني : قدم بنو إسرائيل عدم الإيمان وعلى نحو التأبيد الذي تدل عليه (لن) وهو خلاف معاني العبودية لله ووجوب التصديق بأنبيائه، ومن إعجاز القرآن توثيق هذه القصة خالية من التحريف والتبديل والتغيير، فالأجيال اللاحقة من اليهود يتبعون موسى عليه السلام، فجاءت هذه الآية لتبين ما لاقاه موسى من إسلافهم.
ولم تبين الآية إحتجاج موسى عليه السلام عليهم، ووعظه لهم، وزجره لهم عن هذه المسألة ووجوب الكف عنها، لأنها جاءت على نحو الشرطية، فهم صموا آذانهم عن موسى عليه السلام وما يقوله، وجعلوا شرطاً ممتنعاً للإستماع عليه، لذا أخبرت الآية بأخذ الصاعقة والنار لهم، وفيه دعوة لليهود والناس جميعاً للإنصات لما يتلوه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من آيات القرآن والتدبر في معانيها القدسية، والتحذير من وضع الشروط والقيود للإيمان والتصديق بنبوته، وفيه تنبيه للناس بعدم إتباع من يعلق إيمانه بشرط وقيد ممتنع.
فجاءت هذه الآية تخفيفاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمسلمين عموماً، وحثاً لهم للإقبال على العبادات وعدم الإنشغال بأهل الشك والريب والضلالة.
وجاءت الآية التالية [ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ] لتبين كيف تأخذهم الصاعقة فيموتوا، وان قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]لم يستمر طويلاً لتعقب الموت له، فنظرهم كان إلى الصاعقة ونزول نار من السماء تستحوذ عليهم، وتأخذهم من الحياة الدنيا، وهو نوع عذاب أليم، قال تعالى[وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ] ( ).
ويفيد الجمع بين هذه الآية والآية التالية التي تتضمن البعث والحياة، والعطف على هذه الآية بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترغيب والتراخي أن الصاعقة مهلكة ومميتة، وأن نظرهم إلى الصاعقة إنقطع بأخذها لهم، ومغادرتهم بسببها الحياة الدنيا ولو إلى حين.
وهل يحتمل قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] حصراً بموسى عليه السلام، أي أنه كان ينظر إلى أصحابه كيف تأخذهم الصاعقة، الجواب إن موسى عليه السلام كان ينظر لهم ولأخذ الصاعقة لهم، ولكن الآية ليست حصراً به بل يشمل الخطاب في الآية [وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ذات الذين أخذتهم الصاعقة لإقامة الحجة وبيان آية من آيات سخط الله تعالى، وعظيم قدرته وسلطانه، ولزوم الإمتثال لإوامره وإجتناب سؤال الممتنع، ووضع الشروط للإيمان إذ أن الله عز وجل خلق الناس ليعبدوه، ويعمروا الأرض بالعبادة والطاعة وليس لهم فرض الشروط ووضع القيود للإيمان.
وهل يحتمل أخذ الصاعقة لبعضهم , وبعضهم الآخر كان ينظر لهم وبقي على قيد الحياة ليكون شاهداً، الجواب لا، لأصالة الإطلاق، وعموم الحكم، وترتيب العقوبة على جعلهم رؤية الله شرطاً للإيمان بنبوةموسى عليه السلام ، فالذين سألوا الرؤية أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون إليها، ليكون آخر نظرهم في الحياة إلى الصاعقة والنار وكيف تهلكهم.
وفي الآية شاهد على أن المقتول يرى قاتله ويكون شاهداً عليه يوم القيامة، وأن الأنسان مطلقاً يرى كيفية موته , ويستحضر معها أعماله في الحياة الدنيا، وهناك نوع ملازمة بين تلك الكيفية وذات الأعمال وهو نوع إبتلاء قهري تختتم به حياة الإنسان في الدنيا.
وجاءت الآية في سياق ذكرالنعم الإلهية على بني إسرائيل فهي نعمة عظيمة من وجوه :
الأول : الصاعقة عقوبة تأديبية للذين سألوا الممتنع وجعلوه شرطاً للإيمان.
الثاني : الزجرعن وضع القيود والشروط للإيمان بعد قيام الحجة، وتجلي الغايات والبراهين التي تدل على صدق النبوة.
الثالث : الآية نعمة في منع إفتتان عامة بني إسرائيل بالقيد الذي وضعه هؤلاء، لقد إفتتنوا بالسامري، وبدعة العجل مع زجر هارون لهم عنها، وبيان الضلالة فيها، وحينما يأتي كبراؤهم بقيد الرؤية شرطاً للإيمان فان عامة بني إسرائيل يصغون إليهم، فجاءت الصاعقة نعمة ورحمة ببني إسرائيل،وشاهداً على اللطف الإلهي في التخفيف عنهم.
الرابع : لقد أراد الله عز وجل أن يتلقى بنو إسرائيل التوراة بالقبول، فمنع بالصاعقة البرزخ والمانع من قبولهم لها، وفيه بيان لقانون ثابت وهو أن الله تعالى إذا أنعم على قوم منع الأسباب التي تحول دون وصول تلك النعمة إليهم فهو الرحيم القهار , قال تعالى [وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ]( ).
التفسير الذاتي
جاءت هذه الآية بنظم الآيات التي تذّكر بني إسرائيل بنعم الله عز وجل، ومصاديق تلك النعم، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : تذكر الآية بشطر من نعم الله عز وجل على بني إسرائيل.
الثاني : جاءت الآية لتوبيخ بني إسرائيل على سؤالهم رؤية الله عز وجل.
الثالث : العنوان الجامع من التذكير بالنعمة، والتوبيخ على سؤال الرؤية.
والصحيح هو الثالث، إذ ان وجود موسى عليه السلام بين ظهرانيهم نعمة عظيمة، ولم يذكر لفظ جهرة في القرآن الكريم إلا ثلاث مرات، منها قوله تعالى [قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ]( )، وفيه إنذار للكافرين والجاحدين، وبيان لعظيم قدرة الله وشدة بطشه بالظالمين.
لقد جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن نزول التوراة والفرقان على بني إسرائيل، وفيه كفاية لإيمانهم بالله ورسوله والتقيد بالأحكام والسنن التي جاءت بها التوراة، ولكنهم سألوا الممتنع وجعلوه شرطاً للإيمان والتصديق بنبوة موسى عليه السلام، وفيه وجوه :
الأول : نزول الصاعقة أيضاً لأن نزولها مقترن بسؤال الرؤية.
الثاني : يصيبهم بلاء وضرر أقل مرتبة من نزول الصاعقة.
الثالث : إمهال بني إسرائيل إلى حين، عسى أن يكفوا عن السؤال.
الرابع : العفو عنهم وعدم مؤاخذتهم على هذا السؤال، وهو من وجوه تفضيل بني إسرائيل، والقدر المتيقن في نزول العذاب بالصاعقة هو إجتماع سؤال الرؤية مع الشرط.
وفي الشرط الوارد في الآية ثلاثة وجوه :
الأول : لو قالوا لموسى “لن نؤمن لك” وعلقوا إيمانهم بآية أخرى ممكنة الوقوع فهل ينزل عليهم العذاب بلحاظ ان موسى جاء لهم بالبينات والحجج الباهرات منها إنفلاق البحر وعبورهم على الأرض اليابسة وسط البحر.
الثاني : سؤال رؤية الله على نحو الدعاء ورجاء زيادة الإيمان.
الثالث : سؤال آية أخرى ممكنة الوقوع في عالم الدنيا.
وقد سأل الحواريون عيسى عليه السلام بأن ينزل الله عز وجل عليهم مائدة من السماء فحذّرهم وأنذرهم عيسى وجاء في التنزيل حكاية عنه [قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ). فإعتذروا بالرغبة للأكل منها وزيادة الإيمان وطرد الشك والريب بنبوته فأنزلها الله عز وجل مع قيد لزوم شكر الله عز وجل عليها بعدم الكفر أو الجحود بعدها.
ولكن بني إسرائيل سألوا ما لا تستطيع أوهام البشر إدراكه، وقيدوا إيمانهم بنبوة موسى عليه السلام بتلك الرؤية، وكأنهم لم يعتبروا من الآيات التي كانت تترى عليهم، فجاءهم العذاب.
الرابع : سؤال رؤية الله من غير تعليق التصديق بنبوة موسى عليه السلام بتلك الرؤية، فينهاهم موسى عليه السلام عن هذا السؤال وينصتون له للإقرار بنبوته، لذا فانهم حينما قيدوا الإيمان به بالرؤية، وأرادوا عدم الإصغاء للموعظة والإنذار من هذا السؤال، وضيّعوا على أنفسهم فرصة معرفة لزوم إجتناب هذا السؤال، والإقرار بإستحالته لوجود المانع وإنتفاء المقتضي.
فالمانع هو عجز الإنسان في خلقته أن يرى الله عز وجل، بل جعل الله عز وجل الدنيا مملوءة بالآيات الدالة على وجوده تعالى ولزوم عبادته، فانه ليس من حاجة إلى مثل هذا السؤال، إذ أن التفكر بآيات الله عز وجل يقود إلى الإقرار بوجوده وقربه من الناس.
وتبين الآية سرعة نزول العذاب في بني إسرائيل بدليل وجود الفاء في قوله تعالى [فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ] ولم تقل الآية “ثم أخذتكم.
وكانوا ينظرون إليها وإلى ما حل بهم من أسباب الموت، وفيه وجوه :
الأول : منع الشك بالواقعة.
الثاني: عدم إنكار آية الصاعقة.
الثالث: دفع القول بأنهم كانوا نياماً.
الرابع: كيلا يفتري بعضهم على موسى عليه السلام ويقول انه سحر.
الخامس: جاءت آية الصاعقة ليتعظ بنو إسرائيل ويكفوا عن سؤال الممتنع، فجاءهم العذاب وهم ينظرون إليه وإلى ما حل بهم من الموت المؤقت ليكونوا عبرة لغيرهم من المليين.
السادس: منع التحريف في موضوع الصاعقة.
وجاءت الآية التالية لبيان أثر الصاعقة بأنها سببت الموت لبني إسرائيل قال تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ] ( ).
وهل يحتمل أن يكون المراد من الموت في الآية المجاز والإغماء والغشي، من أثر قوة الصاعقة، الجواب يحمل الكلام العربي على الحقيقة ولا ينتقل إلى المجاز إلا مع وجود القرينة الصارفة، ليأتي بعثهم نعمة أخرى وآية عظمى يتفضل بها الله عز وجل على بني إسرائيل.
نعم جاء في موسى قوله تعالى [فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ]( )، فانه أفاق بعد أن أغشي عليه.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : التوثيق السماوي لقول بني إسرائيل وإحتجاجهم على موسى بغير الحق.
الثانية : إنذار بني إسرائيل من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقابلتها بالصدود والعناد.
الثالثة : تحذير بني إسرائيل من تجديد سؤال الرؤية، فكما سألوا موسى عليه السلام أيام بعثته، فقد يسأل أحفادهم الذين عاصروا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات السؤال ويصرون على طلب رؤيتهم لله تعالى ويحصل بسبب السؤال شك وشبهة وريب، ويظن بعض الناس لزوم إجابتهم، فجاءت الآية لبيان قبح مثل هذه السؤال، وإستحالة حصول الرؤية.
فمن إعجاز الآية دفع الوهم، ومنع الحرج، ورفع اللبس والريب واستباق الأمور، وتحذير بني إسرائيل وغيرهم من سؤال ما لا يكون، وتحذيرهم من تجدد نزول الصاعقة بهم كما نزلت بآبائهم، وحثهم على الإقتداء بالمسلمين الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتبعوه ونصروه.
التفسير
قوله تعالى[وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً]
تكررت الآيات التي يخاطب بها بنو إسرائيل موسى عليه السلام باسمه وبما فيه العناد، فذكر قولهم وصيغة الخطاب فيه ذم إبتدائي لهم ، ودعوة النبي بعنوان النبوة إقرار وتسليم بنبوته ويترشح على ماهية وموضوع القول والسؤال.
لذا ورد نهي المسلمين عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا] ( )، وقد إمتثل المسلمون لهذا الأمر الذي جاء لأهلية المتلقي للقبول والإمتثال.
وجاء الوصف بصيغة الجمع (قلتم) مما يدل على عموم القول وصدوره من الغالبية والملأ منهم إن لم يكن من الجميع، ولو كان من نفر قليل منهم لما توجه لهم الخطاب باللوم على نحو العموم.
والآية ذم لبني إسرائيل بتذكيرهم بقبح ما قالوه إصراراً وعناداً وتشديداً على النفس، أي لن نصدق بنبوتك ولن نتبعك فيما جئت به وما تخبر عنه من صفات الله عز وجل حتى نرى الله جهرة، وربما كان لها معنى آخر وهو الرواية الجماعية التي لا يشوبها وهم أو شك، كما انها قيدت بالجهر لمنع رؤيا المنام ورؤية القلب أو الإيماء والتخيل، لقد أرادوا الإدراك بحاسة البصر.
ووربما يظن أن صفة الجهر تعود إلى سؤالهم على صيغة اللف والنشر، أي أن قولهم كان جهرة وهذا الظن خلاف الظاهر , سواء كان الكلام بالدلالة التصورية الأسرع إنسباقاً عند سماع الآية، أو بالدلالة التصديقية فيما يراد بها من المعنى لأن الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي، كما انه المعنى الظاهر من الآية لغة إذ أن الصفة تكون للأقرب ولا تكون للأبعد إلا مع القرينة الصارفة.
وتتوقف حجة الظهور على مقدمة وهي أن سيرة الصحابة والتابعين ترتكز على العمل بظواهر الكتاب والسنة وإعتبار الظهور قواماً للفهم.
وقد أمضى الشارع هذه السيرة لذا أعتبر الظهور حجة شرعية واطلق عليها في علم الأصول (أصالة الظهور).
وقد ورد عن ابن عباس في قوله تعالى [ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ] قال : علانية. وقال قتادة: أعياناً( ).
وفي الآية توبيخ لهم على ترددهم ووضعهم الشروط والقيود على إيمانهم برسالة موسى عليه السلام، لأن الآيات نوعاً وكماً وزماناً تكون بأمر وبإذن الله تعالى، وما تفضل الله عز وجل به منها على بني إسرائيل متعددة وتكفي للإقرار لموسى عليه السلام بالنبوة من عند خالق السماوات والأرض، ثم أن سؤالهم تناول مسألة تتعدى قدرة البشر في خلقهم وتكوينهم وقدرتهم المحدودة القاصرة.
بحث كلامي
من صفات الله تعالى السلبية أي تلك التي يجب ان تسلب عنه وتسمى صفات الجلال إستحالة رؤية الخلائق له تعالى , لإنتفاء مستلزمات الرؤية الجهة المحسوسة التي يُشار إليها بالحس أو تصوب إليها حاسة البصر، أو تكون في مقابل الرائي وتنعكس صورة المرئي على محل قابل للإنعكاس فيكون المرئي جسماً.
وقد ثبت في الفلسفة أنه تعالى ليس بجسم مما له طول وعرض وعمق، كما أنه ليس بعَرَض لأن الماديات لابد لها من مكان، وتفتقر إلى المحل ولا تستطيع الإنفكاك عن الحوادث لإمكانها، فهو سبحانه في كل مكان، أي عالم بالأمكنة كلها وبما فيها، ومدبر لشؤونها ومحيط بها، وانه تعالى ليس بمكان ولا يحل في الأجسام، خلافاً للحلولية الذين قالوا قد يحل فى بعض الأجسام دون البعض وأنه حل فى بعض الأولياء، وخلافاً لجماعة من الصوفية الذين قالوا بأنه حال في بدن العارفين، ولليعقوبية من النصارى الذين وان لم يثبتوا الحلول لكنهم قالوا بالإتحاد بين الجوهر الإلهي والجسماني.
كما تستحيل رؤيته تعالى لتجرده عن المادة وحس الطبيعة للقصور عن الإحاطة بالمجرد الذي لا تناله الحواس، وقال بعضهم بصحة رؤيته مع إعتقادهم بتجرده، وانه ليس المراد من الرؤية إنطباع صورة المرئي في حاسة الرائي أو إتصالها بالمرئي أو خروج الشعاع من حاسة الرائي وإتصالها بالمرئي.
أما المجسمة والكرامية فقالوا بجواز رؤيته سبحانه بالبصر مع المواجهة، وقال قوم: إن رؤية الله عز وجل تنفي التكليف، لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري، والعلم الضروري ينافي التكليف، أي أن طلب الرؤية سؤال لرفع التكليف ولا دليل على اللازم فضلاً عن الملزوم.
وتصلح هذه الآية أن تكون جواباً وتفسيراً لسؤال موسى عليه السلام الرؤية بما ورد في التنزيل [ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ..]( )، أي ان سؤال قومه وإشتراطهم الرؤية سبيل للإيمان والتصديق بنبوته، سأل الرؤية ليبين لهم إمتناعها وإستحالتها وأنهم لا يستطيعون رؤية واجب الوجود.
ولقد ورد ذمهم في القرآن لتجرئهم بطلب الرؤية ونعتهم بالظلم , وفيه بالدلالة التضمنية إنذار ووعيد، قال تعالى [ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ..]( ).
والذي عليه عموم المسلمين والمسلمات هو أن الله تعالى لا يراه أحد من الناس في الدنيا بدليل الآيات والنصوص والعقل ولإنتفاء الجهة والحيز، ولأنه تعالى ليس مقابلاً أو في حكم المقابل كي تصح رؤيته، ولكنهم إختلفوا في إمكان رؤيته تعالى في الآخرة (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: نور أنّى أراه) ( ).
وفي العقوبة الواردة في الآية قولان من جهة أصل متعلقها , فقد قال قوم أنهم سألوا ما لا يجوز عليه فأخذتهم الصاعقة، وسؤال موسى عليه السلام حجة على قومه وليبين لهم الحق بعد ان رأى تعنتهم.
أما الأشاعرة فقالوا بدلالة سؤال موسى عليه السلام على علمه بعدم إمتناع أصل الرؤية ، وقد نتعرض للمسألة بالبيان والتفصيل إن شاء الله في قوله تعالى [ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ]( ).
قوله تعالى [ فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ ]
في الصاعقة المذكورة في الآية الكريمة وجوه :
الأول : المعنى اللغوي: وهو كل عذاب مهلك، ويدل عليه قوله تعالى [ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ]( ).
الثاني : المعنى الاصطلاحي: وهو شقة من نار لطيفة حديدة تنقدح من السحاب عند إصطكاك أجرامه، ولا تمر بشئ إلا أتت عليه، ويدل عليه قوله تعالى [ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ]( ) لذا قيل أنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم.
الثالث : الموت : كما في قوله تعالى [ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ]( ) وبه قال الحسن البصري وقتادة، ورد عليه الرازي في تفسيره (بأنه لو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة)( ).
ولكن قوله تعالى [ تَنظُرُونَ ] يحتمل عدة وجوه منها أنها حال لهم كما سيأتي .
الأول: الغشي وفقدان الحس , كما في قوله تعالى [وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا]( ).
الثاني : مقدمة وسبب للموت.
الثالث : صيحة جاءت من السماء.
الرابع : إن الله عز وجل أرسل جنوداً فسمع بنو إسرائيل بحسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة.
الثامن : العجز عن الحركة مع بقاء الحواس .
ولا تعارض بين الوجه الأول والثاني والسادس والسابع، وبين بعضها البعض عموم وخصوص مطلق، كذلك لا تعارض بين القول الثالث والرابع والخامس والثامن , ولكن بينها تفاوت في الدرجة والقوة والضعف، وليس من مانع من تعدد وجوه الصاعقة في المقام لاسيما مع التباين في الظلم وعبادتهم العجل والدعوة لها أو الوقوف عند مقدمات الإستجابة وتقييدها بالشرط.
ووردت في الآية أقوال منها:
الأول : لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال وحرق العجل وألقاه في البحر، واختار موسى سبعين رجلاً من خيار قومه, فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى عليه السلام : سل ربك حتى يُسمعنا كلامه.
فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله اليه، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه، فقال للقوم ادخلوا وعوا، وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام , يقول له: افعل ولا تفعل، فلما تم الكلام إنكشف عن موسى عليه السلام الغمام الذي دخل فيه، فقال القوم بعد ذلك : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً.
وقام موسى عليه السلام رافعاً يديه الى السماء يدعو ويقول يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع اليهم وليس معي منهم واحد، فما الذي يقولون فيّ، فلم يزل موسى عليه السلام مشتغلاً بالدعاء حتى رد الله اليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا ان يقتلوا أنفسهم( ). قاله محمد بن إسحاق ولم يرفعه.
الثاني: لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم، أمر الله تعالى أن يأتي موسى عليه السلام في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً فلما أتوا الطور قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا.
فقام موسى يبكي ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بقيتهم هؤلاء فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد، فماذا أقول لهم؟
فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن إتخذوا العجل إلهاً , فقال موسى [إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ] إلى قوله [إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ]( ) ثم أنه تعالى أحياهم فقاموا ونظر كل واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى، فقالوا: يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً إلا أعطاك فأدعه يجعلنا أنبياء فدعاه بذلك , فأجاب الله دعوته. قاله السُدي( ) ولكنه لم يرفعه.
والفارق بين الروايتين يخص المتعلق وهو ترتيبها الزماني بحدوثها قبل قتل بعضهم بعضاً كما في الرواية الأولى، أو حدوثها بعد القتل كما في الثانية وهو الأنسب لسياق الآيات وما تشير إليه من الترتيب الزماني.
وتدل الآية على أن عقاب الله وبأسه لا ينحصر بالموت والقتل بل يمكن أن تكون الإماتة المؤقتة عقاباً وبطشاً وآية وموعظة ومناسبة للتوبة والإنابة.
لذا كانت نعمة أخرى على بني إسرائيل جاء التذكير بها في القرآن بصيغة الإنذار، وهي مناسبة كريمة للإعتبار وفضل من الله تعالى على المسلمين في إتعاظهم من الأمم السابقة، وأن التفضيل والإكرام يجب أن لا يؤدي الى العتو والعنت بل إلى الإرتقاء في مراتب الإخلاص والطاعة والتلبس الصادق بأسمى معاني الخضوع والإنقياد لمقام الربوبية في إبراز يسير لجزء من وجوه الشكر والثناء والحمد على عظيم النعم.
قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] وفي الذي ينظر إليه بنو إسرائيل وجوه:
الأول : أسباب الموت.
الثاني : النار والصاعقة.
الثالث : ما كان ينزل على موسى والنور الساطع الذي يتغشاه.
الرابع : الآيات الكونية , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
الخامس : الآيات والنعم والمعجزات التي رُزقتم ولا زلتم تعيشونها وتحسونها.
السادس : لم تأتكم الصاعقة بغتة بل كانت عقاباً وشاهداً على تعذر الرؤية وعدم إمكانها.
والمخاطب بالآية الكريمة اليهود الذين سألوا موسى عليه السلام رؤية الله عز وجل أي أنهم آباء الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود، وجاءت بلغة الخطاب لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وللنهج المشابه الذي سلكوه في عدم اتباع الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالهم المتوالي الآيات والمعجزات مع إصرارهم على العناد والجحود، ولبيان النعمة عليهم لإتصال آثارها في وجودهم وتوارثهم وتعاقب أجيالهم.
إنها تذكير وموعظة وإنذار ودعوة إلى نبذ عنت أسلافهم , وبيان لما أصابهم نتيجتها من الهلاك والخسران، وفي الآية نفي لإدعائهم الأفضلية على الأمم واخبار عن مجيء العقاب شديداً وعاجلاً، وفيها درس للمسلمين بالإطلاع على قصص الأمم السابقة وعبرة للإتعاظ منهم واجتناب سؤال الممتنع والالحاح في طلب الآيات والمعجزات.
ويلاحظ في الآية الإعجاز في الدقة الحكمية، ففي عبادة العجل كانت العقوبة القتل الإختياري العاجل، وفي هذه الآية وعند إنحصار الذنب بسؤال الرؤية كانت الصاعقة ثم البعث مع عدم إعتبار الترتيب الزماني في زيادة مقدار العقوبة المستحقة تصاعدياً رحمة من الله تعالى، ومن غير أثر للعفو عما سلف من الذنب مع أن سؤال الرؤية ظلم، بدليل قوله تعالى [ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ]( ).
وقيل (وبعثهم أنبياء لأجل أنهم كانوا عارفين بخصوصيات شريعة موسى عليه السلام، والظاهر أنهم كانوا جميعاً أنبياء في عصر واحد كجمع من علماء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عصر واحد لأنهم كانوا يبلغون أحكام التوراة).
ويرد من وجوه :
هذا القول ذهب إليه السُدي بقوله أنهم سألوا بعد الإفاقة ان يبعثوا أنبياء فبعثهم الله أنبياء( )، ولكنه بعيد وليس عليه دليل لاسيما وان الله عز وجل قد وصفهم بالظلم, وأخبر عن نزول العقاب بهم في الدنيا [ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ] .
والظلم له مراتب متفاوتة كما يختلف متعلقه والظاهر أنهم إستحقوا العقوبة العاجلة بظلمهم لأنفسهم عقب النعم العظيمة التي جاءتهم.
وفي الآية تحذير للأمة والجماعة من إتيانهم مجتمعين الظلم والتعدي، ولذا ورد في بيان علة الثناء على المسلمين ونيلهم مرتبة خير أمة للأمر بالمعروف والزجر عن الظلم والفواحش، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
لا ملازمة بين تبليغ التوراة والنبوة فقد يبلغ التوراة من ليس بنبي خاصة مع وجود النبي في زمانه , وان كان يحدث في بني إسرائيل وجود أكثر من نبي في زمان واحد.
وفي العيون عن الرضا عليه السلام: “أنهم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام وصاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنك قد رأيت الله فأرناه كما رأيته، فقال لهم: إني لم أره، فقالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة”.
وفي الآية دلالات منها :
الأولى : التذكير بنعمة أخرى.
الثانية : بيان العقوبة العاجلة للعتو القولي.
الثالثة : تحذير بني إسرائيل من الظلم في شؤون الدين والدنيا.
الرابعة : نبذ العنت والإنكار لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : إجتناب سؤال الممتنع، وجاء التحذير مما هو أعم , قال تعالى [فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] ( ).
السادسة : في الآية تأديب للمسلمين وتثبيت لقلوبهم وتنبيه لهم ودعوة لعدم الإنصات أو الإنقياد لمحاولات فريق من أهل الكتاب في الإنكار وكثرة السؤال والتساؤل وأنهم يمتلكون سلاحاً للتأثير على الناس باعتبارهم أهل كتاب.
السابعة : تتضمن هذه الآيات سراً إلهياً، ما كان للنبي الأمي أن يطلع عليه لولا الوحي أي أنه حجة على بني إسرائيل ودعوة لهم لدخول الإسلام.
الثامنة : مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيما كان يلاقيه الرسل من قبل.
التاسعة : إن بني إسرائيل هم الذين سألوا الرؤية , وسألها موسى عليه السلام دفعة واحدة إستجابة لتحديهم وعتوهم , ولإقامة الحجة عليهم.
العاشرة : عدم إفتتان المسلمين بصيغ التشكيك والتردد الذي عليه بنو إسرائيل.
الحادية عشرة : الرأفة بالمسلمين وإعانتهم بما في الآية من مدد عقائدي في مواجهة ما يقوم به اليهود بلحاظ أنهم أهل كتاب وأتباع نبي، فجحودهم بالإسلام يفتن عامة الناس ويغري الجهلاء.
والصاعقة نار لطيفة شديدة الوهج تحرق ما تمر عليه ولكنها سريعة الخمود.
وتبلغ قوة التيار الكهربائي الذي يتولد عن الصاعقة نحو مائة مليون فولت، ويكفي لدخوله الجسم وقتل الإنسان، وتأتي الصاعقة غالباً في الحقول والبراري والأماكن العالية.
والصاعقة على وجوه:
الأول: كل عذاب مهلك.
الثاني: الموت المفاجئ والسريع، قال تعالى[فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ]( ).
الثالث: نار تسقط من السماء ولا تنزل في موضع إلا بمشيئة وإرادة من الله عز وجل , فمع البعد الشاسع بين مبدأ نزولها والأرض فإنها تقع في موضع مخصوص ومعين، قال تعالى[وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ]( ).
وهل العمود من الحديد الذي يوضع في أعلى المنزل يقي من الصواعق، الجواب نعم، قد يمنع، ولكن وجوه البلاء متعددة فقد يأتي العذاب والبلاء بصيغة أخرى، ويصرفها الدعاء والصدقة والصلاح.
الرابع: الغشي، وفقدان الحس برهة قليلة من الزمن، وفي التنزيل[وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا]( ).
الخامس: الرعد الشديد المصاحب للجسم الناري النار.
قوله تعالى [ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]الآية56.
الإعراب واللغة
ثم : حرف عطف للترتيب والتراخي، بعثناكم: فعل ماض وفاعل والضمير في محل مفعول به
[ مِنْ بَعْدِ ] جار ومجرور متعلقان ب[ بَعَثنَاكُمْ ]، وجملة [ بَعَثْنَاكُمْ ] عطف على جملة [ فَأَخَذَتْكُمْ ]، موتكم: موت: مضاف إليه، مجرور بالكسرة، وهو مضاف، والضمير (الكاف) مضاف إليه.
لعلكم : حرف مشبه بالفعل وإسمه، تشكرون: الجملة فعلية خبر لعل.
أصل البعث إثارة الشئ من موضعه. ويأتي بمعنى الإرسال كما في عدة آيات من القرآن منها قوله تعالى [ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ.. ]( )، وقد يكون إحياءً ونشوراً، كما في قوله تعالى [ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ]( ).
في سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآيات المجاورة على شعبتين :
الأولى : الصلة بين هذه الآية والآيات السابقة، وفيها وجوه:
الأول : الصلة بين آية [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى : إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، ومجيؤها بخصوص بني إسرائيل.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين تخلف بني إسرائيل عن منازل الشكر لله على نعمة النجاة من آل فرعون.
الثالثة : تعدد فضل الله عز وجل على بني إسرائيل.
الرابعة : مجئ النجاة في الآية أعلاه لعموم بني إسرائيل رجالاً ونساءً، أما هذه الآية فتتعلق بخصوص عدد من بني إسرائيل.
الخامسة : أختتمت هذه بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ويدل الجمع بين الآيتين على لزوم شكر بني إسرائيل على كل من نعمة :
الأولى : النجاة من آل فرعون.
الثانية : إنقضاء العذاب الذي يلاقونه بالخروج من مصر.
الثالثة : بعثة موسى عليه السلام وما فيها من النفع العظيم لبني إسرائيل والنجاة من الذل والعذاب.
الرابعة : السلامة من ذبح الأبناء.
الخامسة : العز والأمن من إستحياء آل فرعون لنساء بني إسرائيل، ولو كانت زوجة الإسرائيلي من القبط فهل تُستحيا وتذل أيضا , الجواب لا, فالمراد في قوله تعالى[وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ]( )
والمراد النساء الإسرائيليات بالذات لأن علة سوء العذاب الذي يتلقونه من فرعون هو الإيمان وتوارثه في ذراري بني إسرائيل، والنساء من بني إسرائيل وهن أوعية للتكاثر , وفيه دلالة بأن إيذاء بني إسرائيل أعم من أن ينحصر بمسألة ولادة موسى عليه السلام.
وفي سوء حال بني إسرائيل أيام فرعون، قال وهب(كانوا أصنافا في أعمال فرعون، فذوو القوة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفة ينقلون الحجارة، وطائفة يبنون له القصور، وطائفة منهم يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة يؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته غلت يمينه إلى عنقه شهرا، والنساء يغزلن الكتان وينسجن)( ).
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على أن الأقباط لا يزوجون بني إسرائيل , ولا عبرة بالقليل النادر , وقد إبتلاهم الله بعد غرقهم في البحر الأحمر أن تزوجت نساؤهم عبيدهن لبقائهن من دون أزواج.
ويتجلى الشكر الذي تذكره هذه الآية بدخول الإسلام ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من وجوه ودلالات مجئ الآية بصيغة الخطاب لليهود في أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن النجاة كانت في أيام موسى عليه السلام.
الثاني : الصلة بين آية [وَإِذْ فَرَقْنَا] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : تصف الآية أعلاه هلاك فرعون وجنوده، وهم أعداء بني إسرائيل, أما هذه الآية فجاءت بخصوص بعث بني إسرائيل من الموت.
الثانية : مجئ الآيتين خطاباً لبني إسرائيل.
الثالثة : في الآية دعوة لبني إسرائيل للإتعاظ والإعتبار، وحث على دخول الإسلام.
الرابعة : ذكرت الآية أعلاه حضور بني إسرائيل هلاك فرعون وجنوده وغرقهم في البحر، أما هذه الآية فذكرت بعث بني إسرائيل، وكل منهما نعمة عظيمة على بني إسرائيل تستلزم الشكر لله عز وجل , لذا أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].
الخامسة : يفيد الجمع بين الآيتين لزوم شكر بني إسرائيل على كل من نعمة :
الأولى : فلق البحر لهم.
الثانية : عبور بني إسرائيل البحر بأمن من عدوهم الذي يعدو ويسعى خلفهم طلباً لهم.
الثالثة : نجاة بني إسرائيل من فرعون وجنوده.
الثالث : الصلة بين آية [وَإِذْ وَاعَدْنَا]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : ذكرت الآية أعلاه نعمة مواعدة الله لموسى أربعين ليلة، وذكرت هذه الآية بعث بني إسرائيل من الموت.
الثانية : جاءت الآيتان بصيغة الخطاب لبني إسرائيل.
الثالثة : تضمنت الآية أعلاه الإنذار والوعيد لبني إسرائيل، وجاءت هذه الآية بالترغيب بالشكر لله عز وجل، وكل من الوعيد والترغيب سبب للهداية والصلاح.
الرابعة : جاءت خاتمة هذه الآية بالندب إلى الشكر لله على النعم [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] والشكر والثناء على الله واقية من الظلم، وسبيل للتنزه والإستغفار منه، وهو من وجوه تفضيل بني إسرائيل بأن يأتي القرآن بدعوتهم للشكر، وتذكيرهم بحث آبائهم على الشكر، وتسهيل طرقه وأسباب ولوج أبوابه ومنها البعث والحياة بعد الموت.
الرابع : الصلة بين آية [وَإِذْ آتَيْنَا]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، وتوجهه فيهما إلى بني إسرائيل.
الثانية : جاء بعث السبعين من بني إسرائيل آية، وكذا نزول التوراة مما يدل على تعدد الآيات عليهم.
الثالثة : كل من التوراة والبعث نعمة من عند الله.
الرابعة : إختتام الآيتين برجاء هداية بني إسرائيل وانقطاعهم إلى شكر الله عز وجل.
الخامس : الصلة بين آية [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : تكرر التوبة والمغفرة من عند الله على بني إسرائيل.
الثانية : جاءت التوبة لبني إسرائيل في الآية أعلاه عن عبادتهم العجل، وجاء بعثهم في هذه الآية بعد سؤالهم الممتنع، وطلبهم من موسى أن يروا الله عز وجل.
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين لوم بني إسرائيل على عدم الإعتبار من التوبة الأولى.
الرابعة : جاءت الآية أعلاه في عموم بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، أما هذه الآية فتتعلق بالسبعين الذين إختارهم موسى للميقات.
الخامسة : كل من الآيتين مناسبة ليتوجه بنو إسرائيل بالشكر لله عز وجل.
السادس : الصلة بين الآية السابقة آية [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : بيان حدوث موت بني إسرائيل الذي جاء منه البعث.
الثانية : شدة وطأة الموت الذي جاء بالصاعقة وفضل الله عز وجل في بعثهم منه.
الثالثة : بيان عظيم قدرة الله عز وجل في موت بني إسرائيل ثم بعثهم، لأن ذات الموت الجماعي المتعدد بآية الصاعقة آية لا يقدر عليها إلا الله، وكذا بعثهم من موتهم.
الرابعة : حمل بني إسرائيل على أداء وظائفهم بالشكر لله عز وجل، وإنشغالهم به عن سؤال الممتنع.
الشعبة الثانية : الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول : الصلة بين هذه الآية وآية [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ]( )، وفيها مسائل:
الأولى : بيان تعدد وتوالي النعم الإلهية على بني إسرائيل، فبعد البعث جاءت نعمة الغمام ونزول المن والسلوى.
الثانية : الجمع بين الآيتين من الشواهد على تفضيل بني إسرائيل.
الثالثة : أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] وليس من مانع من إنبساط لزوم الشكر على النعم الواردة في الآية التالية، بل هو ظاهر بلحاظ نظم الآيات ومضامينها، فلما وجب الشكر على نعمة البعث فكذا يجب على نعمة الغمام ونزول المن والسلوى.
الرابعة : الشكر لله واقية من ظلم النفس.
الثاني : الصلة بين هذه الآية وآية [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا]( )، وفيها مسائل :
الأولى : دعوة بني إسرائيل لشكر الله عز وجل على نعمة دخول القرية.
الثانية : بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم، إذ توالت النعم على بني إسرائيل بعد بعثهم من موتهم.
الثالثة : أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] والشكر من مصاديق الإحسان وشاهد عليه، وباب للزيادة التي تأتي للمحسنين، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الثالث : الصلة بين هذه الآية وآية [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا]( )، وفيها مسائل:
الأولى : تجدد الظلم من بني إسرائيل.
الثانية : قد يكون الذين ظلموا المذكورون في الآية أعلاه غير السبعين الذين أماتهم الله ثم بعثهم.
الثالثة : بيان قانون كلي وهو لزوم الإتعاظ والإعتبار من الوقائع والأحداث، والإنتفاع من فتح باب التوبة .
الرابعة : بينت هذه الآية عفو الله عن السبعين الذين سألوا رؤية الله، أما الآية أعلاه فاخبرت عن نزول العذاب من السماء بالذين بدلوا القول , مما يدل على أن المعصية بتبديل القول من الفسق والظلم، وهي أشد من سؤال الممتنع إثماً، إلا أن يقال أن البعث من الموت جاء بدعاء موسى عليه السلام كما ورد في الخبر ، وقد يستجيب الله عز وجل للنبي في دعوته بما هو أعظم من رفع العذاب .
الرابع : الصلة بين هذه الآية وآية[وَإِذْ اسْتَسْقَى]( )، وفيها مسائل :
الأولى : دعوة بني إسرائيل لشكر الله عز وجل على نعمة إنفجار الماء من الحجر لموسى عليه السلام.
الثانية : حث بني إسرائيل والناس على إستقراء وجوه التداخل والإشتراك بين المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : مجئ نعمة الإستسقاء لعامة بني إسرائيل.
بيان توالي النعم وأنها تارة تأتي إبتداء , وتارة لإقامة الحجة والبرهان فعدم الإستجابة لسؤالهم في الآية السابقة لم يترك مجرداً، فجاءت آية إماتتهم دفعة واحدة , وتلك معجزة تتعلق بموضوع الرؤية بالمعنى والدلالة ثم أعقبتها هذه الآية والنعمة.
وجاءت الآية في سياق تعدد النعم على بني إسرائيل والدلالة على ان سؤالهم الرؤية في الآية السابقة لم يترك سدى، بل ضربهم الله عز وجل بما يكون آية وبرهانا على عظيم قدرة الله تعالى وحجة عليهم والناس جميعاً، ولو مات هؤلاء القوم الذين إختارهم موسى عليه السلام بالصاعقة لقيل إن آفة سماوية أهلكتهم، ولكن بعثهم من جديد يؤكد ان الصاعقة آية ومعجزة، وأن البعث آية أخرى.
ومن الآيات أن تأتي آية لتثبت حجتها وحجة غيرها من الآيات، وقد ذكرت هذه الآية وقوع البعث بعد الموت “من بعد موتكم” فقد يظن أنهم بقوا على قيد الحياة بعد حلول الصاعقة بهم بقرينة خاتمة الآية السابقة [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ].
ولكن عندما أخبرت هذه الآية عن موتهم بالصاعقة تجلت آية إعجازية أخرى في نظرهم لأنفسهم أثناء نزول الصاعقة بهم وموتهم خلافاً للصاعقة الطبيعية التي تنزل دفعة واحدة وبقوة لا تترك للإنسان أن ينظر كيف يموت هو أو غيره.
وجاءت الآية التالية في بيان نعم إضافية متعددة فبعد البعث والحياة لكبراء بني إسرائيل جاءت النعم العامة عليهم، وإبتدأت الآية بحرف العطف “ثم” فهل جاء البعث متراخياً زماناً عن الموت , أم ليس من فترة بينه وبين الصاعقة.
الجواب تفيد “ثم” في المقام التراخي , ولكن ليس التراخي الزماني الممتد في أفراد الزمان الطولية.
إعجاز الآية
لقد حصلت آثار ونتائج الرؤية بأبدانهم حساً وإدراكاً وليس تقديراً ومع المعجزة جاءت الدعوة للإيمان صريحة وظاهرة في الآية، وتبين الآية أن بقاء الإنسان حياً إلى حين دعوة للإسلام تنحل الى جميع آنات عمره تلح عليه بالإستجابة والإمتثال لما جاء به الأنبياء من البراهين والدلالات التي تؤكد أمرين :
الأول : ثبوت وجود الصانع، ولزوم عبادته.
الثاني : التصديق بالنبوة والأنبياء.
ومن الآيات تجلي الملازمة بين الأمرين، وفيه شاهد على إكرام الله عز وجل للأنبياء، ودعوة الناس لإتباعهم , فهم الوسائط المباركة بينه وبين خلقه، والذين يأتون بالأحكام وأسباب دخول الجنة والنجاة من النار.
ولم تقل الآية (وبعثناكم) بل إبتدأت بحرف العطف (ثم) الذي يفيد التراخي، وأن البعث تأخر عن البعث تأخر عن الموت، وفيه مسائل :
الأولى : توكيد حصول الموت.
الثانية : حصول التباين الزماني بين الموت والبعث، كما لو ماتوا أول النهار، ثم بعثوا بعد الزوال، ليتيقن هؤلاء السبعون من حصول الموت، وفيه مانع من الشك والوهم والريب بالآية.
الثالثة : إنه مناسبة لتوجه موسى بالدعاء، وسؤال الله عز وجل إحيائهم، وفيه حجة عليهم وبيان لمنزلة موسى.
الرابعة : في بعثهم أحياء زجر لهم عن سؤال موسى رؤية الله، ودعوة للإقرار بنبوته، فلم يعودوا بعدها إلى القول[لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً]،ولم يعلقوا إيمانهم بنبوته بعدها على أمر ومعجزة أخرى.
الخامسة : جاءت الآية مقدمة ووسيلة لإتباع بني إسرائيل عموماً لموسى عليه السلام.
ويمكن تسمية الآية بآية ( ثم بعثناكم) ولم يرد لفظ بعثناكم , وبصيغة الماضي إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية بيان الفضل عظيم من الله ودعوة بالمعجزة وتوثيق لها ومنع من إنكارها، وفيها لفت نظر إلى لزوم الشكر، وتفضله سبحانه على المسلمين بالسلامة والنجاة من الكفار ومحاولاتهم التخلص منهم بالقتل والتشريد وأن هذه النجاة يجب ان تتجسد بالشكر وحسن الإيمان.
لقد أكدت الآية على أن البعث والنشور من الممكنات وأنه بيد الله، فلا تدل الآية على عدم إجابة سؤال بني إسرائيل، ولكن الله عز وجل أجابهم بما يفيدهم في أمور دينهم ودنياهم، فالرؤية ممتنعة عليهم وجاءت نعمة البعث لدعوتهم إلى الإيمان.
وتحتمل لغة الخطاب في البعث وجوهاً :
الأول : إرادة السبعين الذين إختارهم موسى.
الثاني : عموم بني إسرائيل أيام موسى عليه السلام.
الثالث : الذين قتلوا كما في قوله تعالى في الآية قبل السابقة [فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ].
وتتضمن صيغة الخطاب في الآية الإشارة إلى أن شطراً من بني إسرائيل في أيام البعثة النبوية من ذرية الذين بعثهم الله بعد موتهم، وان نعمة البعث بعد الموت إنتفع منها هؤلاء، ومن الشكر لله تعالى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس لإتباعه.
وتتضمن الآية في مفهومها وجوهاً :
الأول : تأديب المسلمين بإجتناب سؤال الرؤية.
الثاني : نزول العقوبة العاجلة لسؤال الممتنع وجعله قيداً للإيمان.
الثالث : قدرة الله تعالى على بعث الموتى في الحياة الدنيا.
الرابع : لزوم الصلاح والتقوى عند البعث لأنه حياة جديدة مترشحة عن آية حسية وعقلية خصوصاً وأن الذين أماتهم الله في الصاعقة ثم بعثهم هم من خيرة بني إسرائيل، ليكونوا بالبعث دعاة التوحيد وأئمة في الصلاح والإصلاح.
الخامس : المدح والثناء على المسلمين وأئمتهم لأنهم لم يسألوا الرؤية ولم تنزل عليهم الصاعقة فتميتهم، بل أنهم يسلمون بالبعث والنشور وقدرة الله تعالى الإحياء، ويواظبون على الشكر لله تعالى، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
مفهوم الآية
في الآية تذكير بعظيم قدرة الله تعالى وإحيائه الموتى وفضله على بني إسرائيل، وترى الآيات تجعل إظهار النعم وبيانها مناسبة للشكر له تعالى، سواء كان الشكر قولياً أو فعلياً، فكل منهما يؤدي إلى الهدى ويكون جزء منه.
فمن مفاهيم الآية أنها دعوة للتدبر في الآيات والبراهين والحجج التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتمنع الآية من اليأس والقنوط، وتحث على نسبة الآيات له سبحانه.
ومن الآيات أن الله عز وجل لم يترك سؤالهم سدى ولم يجعلهم يرجعون شاكين ان العقاب الذي أصابهم هو آية في ذاته ونتائجه عليهم وعلى غيرهم ممن خلفهم ومن بعدهم وإلى يوم القيامة.
لقد سألوا ما هو ممتنع شرعاً وتركهم من غير إجابة يجعلهم يتيهون في الشك والريب، وإن قام موسى عليه السلام باقناعهم للرجوع عن سؤالهم فان ذات السؤال يبقى على حاله يردده غيرهم من بعدهم لأنه يعبر عن سنخية معينة وما دأبت عليه نفوسهم وإستأنسته من كثرة السؤال وطلب المعجزة وكأنهم يأتمرون في منتدياتهم ثم يأتون لموسى عليه السلام بسؤال المعجز فجاء العقاب الذي يساهم في تهذيب نفوسهم وتخليصهم من داء الشك والريب ويجعلهم يتوجهون إلى منازل الإنابة والشكر ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تفضل الله عزوجل على بني إسرائيل بالبعث وإعادة الحياة بعد نزول الصاعقة بهم.
الثانية : توكيد حصول الموت بنزول الصاعقة.
الثالثة : إرادة شكر بني إسرائيل على نعمة البعث والحياة بعد نزول الصاعقة، ومن مصاديق شكره تعالى إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إفاضات الآية
تحث الآية على التزام الشكر القولي والفعلي على نعمة الإسلام وعدم سؤال الممتنع، وتبين فضل المسلمين وتدعو بني إسرائيل إلى رؤية الآيات والبراهين القاطعة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وساهمت الآية في تحصين مجتمعات المسلمين عن سؤال الممتنع في ذاته، وهذا التحصين لا ينحصر بأيام النبوة وأشخاص الصحابة بل يشمل المسلمين في كل زمان في الرد على الإحتجاج والجدل، كما لو جاء أحد الكفار وقال ان موسى لم يمكن بني إسرائيل من رؤيته تعالى , فلماذا لم يفعلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وانكم تقولون بانه أفضل من الأنبياء الآخرين، لقد نزّه الله عزوجل المسلمين من هذا السؤال، وجعل موضوعه عبرة وموعظة, وهو في مفهومه سبب للتوجه لسؤال ما فيه النفع والتفقه.
الآية لطف
جاء نزول الصاعقة ببني إسرائيل عن إستحقاق لما إرتكبوه من الإصرار على سؤال ما لايصح، وإصرارهم على رؤية الله بينما إمتلأت الآفاق بآياته تعالى، وكل آية تدل على بديع صنعه وقدرته تعالى، ثم تفضل عليهم وبعثهم وأعاد لهم الحياة كي يكونوا شهوداً على عظيم قدرته تعالى، وعوناً لموسى عليه السلام في جذب الناس للإيمان، وحفظه للبشارات التي جاء بها موسى عليه السلام بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وأنهم خيرة بني إسرائيل ليتوارثها أبناؤهم من بعدهم.
وتبين الآية حب الله تعالى لشكر عباده له، وانه تعالى يتفضل عليهم من غير حاجة لهم وهو الغني عن العباد، ولكنه يريد منهم الشكر على النعم المستديمة، والنعم المستحدثة، والشكر على قسمين شكر قولي، وشكر عملي.
والمقصود بخطاب الشكر على وجوه :
الأول : خيرة بني إسرائيل الذين إختارهم قومهم للقاء الله.
الثاني : عموم اليهود أيام نزول الصاعقة، فصحيح أن الصاعقة نزلت بقوم منهم إلا أنها درس لهم جميعاً، خصوصاً وأن عموم بني إسرائيل إشتركوا في إختيار هؤلاء القوم الذين سألوا الرؤية، لذا عليهم جميعاً التوجه بالشكر لله تعالى.
الثالث : اليهود أيام البعثة النبوية الشريفة.
الرابع : الأجيال المتعاقبة من بني إسرائيل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وشاهد على عموم المعنى والدلالة.
ويمكن شمول المسلمين بالأمر بشكره تعالى على نعمة البعث بعد نزول الصاعقة، لما فيها من البرهان القاطع والحجة الدامغة على عظيم قدرة الله عز وجل، وفضله على بني إسرائيل ولزوم إقرارهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب تكرار العناد والإصرار.
ومن اللطف الإلهي ذكر الآية لنعمة الإحياء بعد الموت وحصولها في الحياة الدنيا، وفيه شاهد على الحياة بعد الموت، وبعث الناس للحساب والوقوف بين يدي الله.
وفي الآية إشارة إلى مسألة وهي أن مسألة الرؤية تتجلى بعد الممات , وفي الآخرة بالوقوف بين يديه تعالى للحساب وحضور الأعمال ودخول الجنة أو النار، وإن كانت الحياة الدنيا مملوءة بالآيات والبراهين الدالة الوحدانية.
الصلة بين أول وآخر الآية
مع قلة كلمات الآية فقد جاء فيها ضمير المخاطب الجمع ثلاث مرات، وكلها تخص أصحاب موسى عليه السلام، وجاءت واو الجماعة، في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] للمعنى الأعم الشامل لهم ولأجيال بني إسرائيل المتعاقبة، من وجوه :
الأول : لولا بعث الحياة في السابق لما ولد اللاحق.
الثاني : البعث نعمة على عموم بني إسرائيل.
الثالث : في البعث فضل عظيم على بني إسرائيل.
الرابع : البعث بعد الموت شاهد على تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم، وتفيد (ثم) التشريك والترتيب والتراخي، ويتجلى التشريك في بيان وذكر النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، والترتيب لتوكيد حقيقة وهي أن البعث جاء بعد الموت بالصاعقة كما ورد في الآية السابقة [فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ].
ويفيد الترتيب بين الآيتين أن البعث والإحياء جاء متعقباً للموت بالصاعقة وبعده، مما يدل على أن الصاعقة كانت مهيئة لهم جميعاً لأنهم سألوا رؤية الله عز وجل وهو من الممتنع في الحياة الدنيا، وجعلوا تلك الرؤية شرطاً لتصديقهم بنبوة موسى عليه السلام والإيمان دين الفطرة وجاء موسى لبني إسرائيل بالمعجزات الحسية الباهرة التي تفيد القطع بنبوته.
فاذا رجع هؤلاء وهم من خيرة بني إسرائيل إلى قومهم ,وقالوا لهم: إشترطنا للإيمان بنبوة موسى ان نرى الله، ولم نستطع رؤيته، فانهم يصيرون سبباً في فتنة أخرى في بني إسرائيل مثل فتنة عبادة العجل أو أشد منها، لأن عامة بني إسرائيل تتبعهم،وسوف لن يلتفتوا إلى التوراة التي ينزل بها موسى عليه السلام من الطور وما فيها من الأحكام والفرائض، خصوصاً وأنها تتضمن التكاليف ومشقة الأداء والإمتثال.
لقد جاء سؤالهم الرؤية وتقييد الإيمان بها في أشد أحوال بني إسرائيل حرجاً، لقد أرادوا تعطيل التوراة والعمل بها في أول ساعات نزولها، وكأنهم أرادوا من غير قصد منع بني إسرائيل من قبولها والأخذ بها، فحلت بهم الصاعقة والعذاب بإعتبار سؤالهم مقدمة للفتنة، وصداً عن الحق والهدى.
فبدل أن ينزلوا إلى قومهم بدعوتهم الى العمل بالتوراة وينقلوا بشارة تلقي موسى عليه السلام لها، ويكونوا قادة وأسوة في الإمتثال لأحكامها ويعملوا على ترغيب العامة على العمل بها، وحث إخوانهم وأسرهم على قبولها والإستبشار بها كنعمة من عند الله تعالى أظهروا الخلاف وأرادوا إغواء العامة، والدعوة إلى الضلالة فلم يمهلهم الله تعالى بل جاءت الصاعقة عقوبة.
وتدل (ثم) على التراخي بين الصاعقة والموت وبين البعث في إشارة إلى توسل ودعاء موسى عليه السلام،وتضرعه إلى الله تعالى بأن يبعثهم من جديد، ويروا الوقت الفائت بين الموت والبعث كما لو أخذتهم الصاعقة في الصباح، وبعثوا عصراً بعد زوال الشمس عن كبد السماء ليكونوا على يقين من وقوع الموت فيعتبروا ويتعظوا.
ومن فضل الله تعالى على بني إسرائيل مجئ البعث على نحو العموم الإستغراقي، فجميع الذين أخذتهم الصاعقة يومئذ بعثوا من جديد، ولم يستثن واحد منهم عبرة وشاهداً على موتهم.
وفي بعثهم جميعاً نعمة أخرى على بني إسرائيل، ودرس وموعظة لهم، وحث على التصديق بنبوة موسى عليه السلام، ومن بركات نزول التوراة على موسى عليه السلام بعثهم من جديد ليبادروا الى العمل بها، ويدعوا قومهم للأخذ بها وعدم التفريط بما فيها من الأحكام والبشارات.
وإذ جاءت الآية السابقة بذكر الصاعقة فان هذه الآية بينت بما يمنع من اللبس والشك أثر الصاعقة وأنها أدت إلى موتهم وهلاكهم مما يدل على إنقطاع قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] بالموت ومغادرة الروح الجسد، بينما جاء قوله تعالى قبل ست آيات [وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] في نظرهم إلى هلاك فرعون وجنوده في أليم، وشعور بني إسرائيل بالغبطة والسعادة للسلامة والأمن من القتل والعذاب وإستحياء النساء.
وقد حثت الآيات السابقة بني إسرائيل على الشكرلله تعالى، والتقيد بسنن وآداب الهداية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ][ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] وجاء سؤال الرؤية منهم مخالفاً لآداب الشكر والهداية، وشاهداً على الجحود والضلالة [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( )، وتكون التوراة منهاج عمل المسلمين أيام موسى عليه السلام، ويتوارثون العمل بها، وما فيها من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد نزلت التوراة كي يعمل بها بنو إسرائيل، ونجّاهم الله تعالى من فرعون وجنوده كي يتلقوا التوراة ويعملوا بها، وكأن القتل على عبادة العجل عقوبة ومقدمة لتلقي التوراة بالقبول ثم جاء إصرارهم على الرؤية وجعلها شرطاً للتسليم بنبوة موسى عليه السلام والذي يتفرع منه التصديق بالتوراة، ومعنى كلامهم [لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ] أي لن نصدق نزول التوراة من عند الله، ولا نعمل بأحكامها ومضامينها وما فيها من التكاليف حتى نرى الله تعالى علانية، فجاء العقاب بالموت ليكون مقدمة للعمل بالتوراة وتأديباً لبني إسرائيل، وشاهداً على تقوم تفضيلهم بقيد الإيمان، فاذا أبوا إلا الكفر والجحود فان العذاب يحل بساحتهم، ويؤخذون أخذاً شديداً.
لقد شرّف الله تعالى المسلمين بهذه القصص، وجعلها أمانة سماوية عندهم، تحكي تأريخ الأمم، وتبين فضله تعالى على الناس عامة، وعلى بني إسرائيل خاصة، وتدعوهم لتلقي القرآن بالقبول والتصديق ومن غير وضع قيود وشروط تتصف بالإمتناع الذاتي، فالقرآن حجة وآية معجزة يدعو للتوحيد ، وخطاب سماوي يخاطب أولي الألباب.
ومن إعجازه مجئ هذه الآيات لتبين وقوع واقعة تأريخية حدثت في الأزمان الغابرة، وقد طالت يد التحريف حتى التنزيل والكتب التي نزلت في تلك الأزمنة، وجاء القرآن ليجدد أحداث تلك الوقائع، ليراها المسلمون والناس وكأنها واقعة أمام أبصارهم، الأمر الذي لم يأت به كتاب غير القرآن، ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، أما الذاتي فمن وجوه :
الأول : تضمن القرآن الوقائع التأريخية ذات الصبغة العقائدية.
الثاني : مجئ الآية بالكيفية التي وقعت فيها الحوادث.
الثالث : إحاطة لغة الإختصار في القرآن بمضامين وماهية الوقائع، ففي بضع كلمات يبين القرآن قصة كاملة حدثت لبني إسرائيل.
الرابع : عدم وجود تعارض أو تزاحم بين آيات القرآن مطلقاً وبخصوص الحوادث وقصص الأمم السالفة.
الخامس : موافقة أخبار وقصص القرآن للواقع من غير زيادة , وهو من مصاديق الحسن في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
وأما الإعجاز الغيري فمن وجوه :
الأول : إقامة الحجة على بني إسرائيل.
الثاني : إخبار اليهود بحال أسلافهم، وعظيم فضل الله تعالى عليهم.
الثالث : حث بني إسرائيل على التوبة والإنابة والتصديق بنزول القرآن من عند الله.
الرابع : إطلاع الأمم جميعاً على حقيقة الفضل الإلهي على بني إسرائيل، وحث الناس على تلقي الفضل والنعم الإلهية بدخول الإسلام.
الخامس : جعل الناس ينفرون من سؤال الممتنع، ويرضون بالآيات والبراهين التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي يدل كل فرد منها على صدق نبوته ولزوم إتباعه ونصرته، فمن إعجاز القصة والخبر القرآني إعتبار الأجيال المتعاقبة منها، والإحتراز من التعدي على الإسلام، وإجتناب إتباع أهل الشك والجدال والنفاق.
وأختتمت الآية ببيان علة البعث بعد الموت بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] إذ تفيد اللام هنا التعليل، ولم تذكر الآية متعلق الشك إلا أنه متعدد يشمل :
الأول : نعمة البعث بعد الموت، وفيه شاهد بأن إستدامة حياة الإنسان رحمة ونعمة تستحق الشكر لله تعالى، ويتجدد لزوم الشكر في كل ساعة وأوان، ومن مصاديق تفضيل المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أداؤهم للصلاةخمس مرات في اليوم يتوجهون فيها بالشكر القولي والفعلي لله تعالى إذ تبدأ القراءة الواجبة فيها بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، يتلوها الملايين من المسلمين عدة مرات في اليوم بانبساط على أوقات الليل والنهار وبدايات وخاتمة كل منهما، في آية إعجازية تدل على فضل الله تعالى في تعاهدهم للشكر، وحفظهم وسلامتهم بالشكر لله، وهو واقية الموت الجماعي، ومنه ما يحصل بالحروب وأسلحة الدمار الشامل.
الثاني : نعمة نزول التوراة، لقد أراد الله تعالى لبني إسرائيل أن يشكروه على هذه النعمة العظيمة ولكنهم إختاروا الجحود ووضع القيود، وهو خلاف وظائف العبودية لله تعالى.
وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب، فجاءت عقوبة الموت، ثم نعمة البعث منه ليدرك بنو إسرائيل الفضل الإلهي العظيم بنزول التوراة، ويعلموا منزلة موسى عند الله إذ إستجاب دعاءه ومسألته في إحيائهم من جديد.
الثالث : لقد ذكرت الآيات السابقة نعماً عظيمة على بني إسرائيل، كل نعمة منها معجزة مستقلة يترشح عنها عدد غيرمتناه من النعم، وجاء البعث من الموت لتجديد الشكر لله تعالى عليها، ولو أنهم واظبوا على الشكر عليها لما وقعوا في الضلالة وتعليق الإيمان بالنبوة على الممتنع، فقد عفى الله تعالى عنهم ومحى قبح فعلهم بعبادة العجل لكي يشكروه، قال تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، وفيه إشارة على أن التلبس الدائم بالشكر وقاية من الجحود والضلالة والشرك , فلو دأبوا على الشكر لله تعالى من حين العفو عنهم لتلقوا التوراة بالقبول والتصديق بلطف من الله .
الرابع : شكر بني إسرائيل على النعم اللاحقة التي تأتيهم ،سواء تلك التي تترشح عن النعم السابقة، أو التي تأتي إبتداء ومنها نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت هذه الآية لحث اليهود على شكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة بالتصديق بنبوته، ونبذ وضع القيود والموانع دون دخولهم وغيرهم الإسلام.
لقد جاءت هذه الواقعة ودفع الموت عن بني إسرائيل قضية في واقعة، وعبرة وموعظة، وآية خاصة ونعمة على بني إسرائيل على نحو الخصوص، ومقدمة لقبولهم التوراة، ولو دار الأمر بين كونها جاءت من باب المثال الذي له مصاديق عديدة في الواقع الموجود والمعدوم، أو أنها جاءت من باب الحصر والتعيين، فالجواب هو الثاني وجاءت آيات أخرى مشابهة كما في قوله تعالى [فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ]( )، وكما في عيسى عليه السلام وأحيائه بضع من الموتى بآية من عند الله تعالى , وورد حكاية عنه في التنزيل [وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وقد سأل إبراهيم عليه السلام الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى فأراه آية إحياء أربعة من الطير وبعث الحياة فيها من جديد كما في قوله تعالى [قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا]( ).
ويظهر في القصة التباين بين موسى عليه السلام وأصحابه الذين ذهبوا معه إلى الطور، إذ أخذتهم الصاعقة وماتوا، أما موسى فحينما قال [رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ] ( )، فالموت لم يصب موسى عليه السلام ولكن غشي عليه، لأن الإفاقة من الغشيان سلامة وحياة.
والقدر المتيقن هو الحياة بعد الإماتة , والبعث لغة إثارة الشئ من كله، يقال: بعث الغلام لحاجته، إذا ندبه لحاجة مخصوصة، ومنه يقال ليوم القيامة: يوم البعث لأن الناس فيه يبعثون من قبورهم للحساب والجزاء، وفي التنزيل [وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى]( ).
التفسير الذاتي
تذكر هذه الآية نعمة أخرى تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل بأن أحياهم وبعثهم من موتهم المؤقت، وسمي يوم القيامة يوم البعث، لأن الله عز وجل يبعث فيه الناس من جديد ليقفوا بين يديه للحساب.
لقد سأل بنو إسرائيل رؤية الله فأراهم الله عز وجل آية تدل على وجوده وعظيم قدرته وأنزل بهم عقاباً عاجلاً، يكون عبرة لهم، ولمن بعدهم من الناس فلا ينحصر النفع من هذه الآية بالذين سألوا الرؤية ونزلت بهم الصاعقة بل يشمل الناس جميعاً.
وفيه شاهد على تفضيل المسلمين وانهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن إتعظوا من قصص الأمم السابقة، وتلقوا بالتصديق الحجة التي تمنع الناس من هذا السؤال.
ولم يرد لفظ بعثناكم إلا في هذه الآية الكريمة، وورد بصيغة الغائب “بعثناهم” مرتين، وكليهما في أهل الكهف , قال تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا]( )، وفيه شاهد بأن البعث في الدنيا لم ينحصر ببني إسرائيل بل شمل أهل الكهف مع الفارق، وبينهما عموم وخصوص من وجه.
فمادة الإلتقاء على وجوه :
الأول : كل واحدة منهما آية ومعجزة.
الثاني : فيهما موعظة وعبرة للناس.
الثالث : كل آية منهما إنتهت بالبعث والعودة إلى عالم الحياة الدنيا.
وأما مادة الإفتراق فهي على وجوه :
الأول : كثرة عدد بني إسرائيل الذين أماتهم الله بالصاعقة، وقلة عدد أهل الكهف إذ يبلغون نحو عشرة أضعافهم.
الثاني : جاء موت بني إسرائيل عقوبة لهم، بينما جاء رقود أهل الكهف رحمة بهم وبعد دعائهم وسؤالهم الهداية والنجاة.
الثالث : ورد لفظ الموت بالنسبة لبني إسرائيل كما في هذه الآية، أما أهل الكهف فذكرهم القرآن بلفظ الرقود، وقوله تعالى[وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ]( ).
الرابع : كان نبي الله موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ويتلقى الوحي، وسأل الله عز وجل بعثهم، وليس مع أهل الكهف من نبي , قال تعالى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( ).
الخامس : ذكرت الآية محل البحث بعث بني إسرائيل بصيغة الخطاب “ثم بعثناكم” أما أهل الكهف فذكرهم القرآن بلغة الغائب.
السادس : جاء بعث بني إسرائيل ليشكروا الله عز وجل، أما أهل الكهف فان الشكر نوع ملكة عندهم.
وأختتمت الآية محل البحث بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] وفيه وجوه:
الأول : إنحصار موضوع الشكر على البعث بعد الموت.
الثاني : الشكر لله عز وجل على جميع النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل.
الثالث : شكر الله على نعم مخصوصة.
والصحيح هو الثاني ليكون الشكر عند بني إسرائيل سجية ثابتة , وتقدير الآية “لعلكم تشكرون الله” ومن وجوه الشكر لله طاعة الله ورسوله، وعدم الإشتراط في التصديق بنبوة موسى عليه السلام، ليكون مقدمة للتصديق بنزول القرآن عند الله عز وجل وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن المسلمين، ومنع من الجدال بالباطل وسؤال الممتنع.
من غايات الآية
جاءت الآية بالإخبار عن إحياء القوم الذين سألوا موسى رؤية الله عز وجل، ولو ظلوا ميتين من الصاعقة، لقيل إن أجلهم وأوان هلاكهم بالصاعقة، ولكن بعثتهم آية إعجازية أخرى أكدت ان نزول الصاعقة آية إعجازية وليس من قوانين السببية , والعلة والمعلول، وهذا سر من أسرار الإرادة التكوينية وعلم خاص يتعلق بآيات الله، فتأتي الآية لتثبيت وتأكيد آية أخرى، فلولا آية البعث لما أدرك بنو إسرائيل آية الصاعقة، بالإضافة الى ما فيها من التأديب بكف بني إسرائيل عن سؤال الرؤية، والتوجه إلى التدبر بآيات الربوبية والنبوة، وتدعو الآية بني إسرائيل إلى شكر الله تعالى على أمور :
الأول : الموت بالصاعقة بعد سؤال الرؤية.
الثاني : نزول العقاب عند سؤال المستحيل، وسبب إستحالة الرؤية عدم أهلية الإنسان بسنخيته وخلقه لرؤية الله عزوجل وهو الذي [لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ]( ).
الثالث : نعمة البعث بعد الموت، ورجوع القوم الذين أحياهم الله إلى عموم بني إسرائيل وإخبارهم بما حصل لهم، ودعوتهم لشكره تعالى.
الرابع : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها مصداق للبشارات التي جاء بها موسى عليه السلام، وتذكير بما ورد في التوراة والإنجيل من لزوم إتباعه ونصرته، ويشمل الشكر وجهين :
الأول : الشكر القولي باللسان على نعمة البعث بعد الموت بالصاعقة.
الثاني : الشكر العملي وهو متعدد المصاديق منه الإنصات لآيات القرآن والتدبر في معانيها، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته.
لقد أراد عز وجل للمسلمين واليهود والنصارى والناس جميعاً إجتناب كثرة السؤال، والإلحاح في المسألة، والإجتهاد في التجرأ.
وفي الآية حث للناس للإرتقاء في منازل الشكر لله تعالى، وتنزيه القلوب من أدران العناد والإصرار، وفي الشكر لله تعالى إقرار بربوبيته وتسليم بالعبودية له سبحانه، وإعتراف بان كل ما عندنا هو نعمة ورشحة من رشحات فضله وإحسانه تعالى.
التفسير
قوله تعالى [ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ]
بيان لفضل الله تعالى في إحيائهم بعد الصاعقة التي نزلت بهم بسبب عتوهم وظلمهم.
وفي البعث بعد الموت في الآية وجوه :
الأول : الإحياء بعد الموت وزهوق الروح.
الثاني : بعثهم أنبياء.
الثالث : البعث من النوم وشبهه كما في دعاء الإنتباه بعد النوم: “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور” ( ). فبالنوم تزول الحركة ويسكن العقل عن وظائفه.
الرابع : البعث من الجهالة وعودة القوة العاقلة بعد زوالها , كما في قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ]( )، وقوله تعالى [ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى..]( ).
أما الوجه الأول فعليه أكثر المفسرين، وأما الثاني فهو خلاف الظاهر لاسيما وان الخطاب مشافهة مع الذين أخذتهم الصاعقة في أيام موسى عليه السلام وقد تقدم الكلام فيه.
وأما الثالث والرابع فهو من المجاز إلا أن تعدد مصاديق الآية تشملهما فبعد الكفر والذل جاء العز والهداية لتكون وسيلة للإيمان بما يأتي به الأنبياء، ثم أن البعث في الآية ورد لبيان النعمة والإحسان الذي يستحق الإنفراد بالذكر والتذكير وجاء متعقباً للصاعقة والإماتة الفعلية.
ترى هل الموت في الآية هو زهوق الروح وانعدام الحياة، أم انه يحمل على معانٍ أخرى كالصعق والغشي، الجواب هو الأول لحمل الكلام على ظاهره وللتبادر، ولبيان عظيم الآية وإقامة الحجة.
وجاءت الآية في سياق وذكر النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، والنعمة في المقام على وجوه :
الأول : النعمة مركبة من جهتين :
الأولى : نعمة الموت بعد سؤال الممتنع.
الثانية : نعمة البعث بعد الموت.
الثاني : نعمة نزول الصاعقة وهم ينظرون فكانت تأديباً وشاهداً على عظيم قدرة الله تعالى، ونعمة البعث بعد الموت .
الثالث : نعمة وجود نبي رسول بينهم.
وجاءت هذه الآية في سياق تعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم ليذكروا الله، ومن مصاديق الذكر الإيمان والتسليم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإعتبارها نعمة من عند الله تعالى على الناس عامة وعلى بني إسرائيل خاصة لأنها مصداق البشارات التي جاء بها النبي موسى عليه السلام.
علم المناسبة
لم يرد لفظ “بعثناكم” بصيغة الخطاب في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة, وكذا لم يرد لفظ “موتكم” إلا في هذه الآية الكريمة مما يدل على انه نعمة إختص الله عز وجل بها بني إسرائيل وهي من وجوه تفضيلهم على الناس لما في البعث من مناسبة للإستغفار والإنابة لذا قال الله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم في واقية من سؤال الممتنع، فهم لم يسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن أحكام الحلال والحرام وعالم الآخرة وسبل النجاة في الدنيا والآخرة , قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
وورد لفظ “بعثناهم” بصيغة الغائب مرتين في القرآن، وكلاهما في سورة الكهف وبخصوص أهل الكهف، وقصتهم كما تقدم ذكره.
ومن الآيات أن القرآن لم يذكر في قصة أهل الكهف الموت فلم تقل الآيتان أو إحداهما “ثم بعثناهم من بعد موتهم” قال تعالى [وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ]( )، لإفادة النومة في أهل الكتاب مع أنها أطول زماناً بكثير من موت بني إسرائيل ولبيان الفارق، فقد كان موت بني إسرائيل عقوبة لهم أما نومة أهل الكهف فآية إكرام وحفظ لهم، مع إتحاد الأمرين ببيان عظيم قدرة الله عز وجل ولزوم الشكر له سبحانه.
قوله تعالى [ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ]
(لعل) تفيد الرجاء والإشفاق. ولكن جمعاً من المفسرين قالوا أنها من عند الكريم الرحيم تجري مجرى وعده المحتوم، وأن كلامه تعالى يأتي بلغة الإطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد، ونسب هذا المعنى إلى ابن عباس.
ولكن الكلام العربي يحمل على معناه الحقيقي الذي وضع للإستعمال فيه، وللعلاقة اللغوية القائمة بين اللفظ وموضوعه بحيث ينتقل ذهن السامع وبالتبادر إلى قصد المعنى من دون شرط ولا ينتقل إلى غيره كالمجاز إلا بالقرينة.
ثم أن متعلق الإشفاق فعل العبد الذي إمتحنه الله بالتكليف وهو من اللطف ونوع توبة وباب مستحدث للصلاح وأهم مصاديق الشكر تتجلى في كل زمان بطاعة الله عز وجل وإتباع الأنبياء وما جاءوا به من عنده تعالى , وهذا المعنى لا يتعارض مع إرادة الوعد المحتوم الذي هو من فضل الله.
وقال الشيخ الطوسي : (معناه لكي تشكروا، وفيه دليل على فساد قول المجبرة أن الله تعالى ما أراد من الكفار الشكر لأنه لو أراد كفرهم لقال: لتكفروا وذلك خلاف القرآن)( ).
ووردت في باب الموعظة والذكرى حدوثاً وإستحضاراً، أي فيما يخص الذين أنعم الله عز وجل عليهم بالآية والذين خاطبهم الله في هذه الآية من القرآن، وقد انتفع بها قوم وكانت باب هداية لهم.
وقد ثبت في علم الأصول ان شكر النعم واجب وليس من إنسان الا ولله عليه نعم في بدنه ورزقه وإستدامة حياته وجاءت هذه الآية لتؤكد نعمة الحياة الشاملة للناس جميعاً.
وإسلام شطر من اليهود أمر ثابت ومعروف، بل ان نفراً منهم أصبحوا من الصحابة البارزين الذين حسن إسلامهم، فلا يمكن الإستدلال بهذه الآية على قول المجبرة لأنه أجنبي عنها، ثم أن قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ] ورد خطاباً للناس جميعاً في قوله تعالى [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وورد خطاباً خاصاً للمسلمين كما في آية الوضوء، قال تعالى [ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لقد عفى الله عز وجل عن بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل كما تقدم في قوله تعالى [ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ منْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ].
وفي الآية الكريمة بحوث :
الأول : كأن البعث هنا عفو يتجسد خارجاً بالفعل بالإحياء بعد الإماتة، وما في الإحياء من تكليف.
الثاني : التكليف رحمة متجددة ونعمة يمنّ بها الله عز وجل على الناس خاصة أولئك الذين أساءوا وأذنبوا لما في إطالة أيامهم في الحياة الدنيا من فرصة ومناسبة لفعل الطاعات وإتيان الصالحات.
الثالث : كان سؤال الرؤية ذنباً وظلماً سواء بتجرده عن الخصوصية أو بضميمة الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام وما أنعم الله عز وجل به عليهم من النجاة من آل فرعون بآيات بينات .
وكان موسى عليه السلام حريصاً على تذكير بني إسرائيل بنعمة النجاة من فرعون وقومه، إلى أن جاء القرآن فوثقها إلى يوم القيامة وهو من الشواهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية متجددة , وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] ( ).
الرابع : توجه الخطاب إلى بني إسرائيل الذين صاحبوا أيام الدعوة الإسلامية ومن لم يولد منهم، ويتضمن حثهم على دخول الاسلام مصداقاً للشكر على عظيم النعم.
الخامس : الآية دعوة لشكر نعم الله تعالى مما كان قبل الصاعقة أي أن البعث باب لإلتفاتهم إلى النعم العظيمة التي يتمتعون بها وإستحداث الشكر عليها.
السادس : العلة الغائية للبعث ووجودها الذهني وتصورها هو العلم بما في الشكر من الخير والفلاح، ويقول الفلاسفة إن العلم يُوجد الشوق.
السابع : في الآية الثانية والخمسين المتقدمة جاء العفو من عنده تعالى، وهنا جاءت بإرادة التوبة من عندهم ومتعلقهما واحد، والإجماع على ان التوبة واجب، وتعني الندم على الذنب، وإرادة عدم العودة إليه.
قوله تعالى [ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] الآية 57.
الإعراب واللغة
وظللنا : الواو : عاطفة، ظللنا : فعل وفاعل.
عليكم : جار ومجرور، متعلقان بظللنا.
الغمام : مفعول به، وأنزلنا : عطف على وظللنا، المن : مفعول به، والسلوى : عطف على المن.
كلوا : فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل.
من طيبات : جار ومجرور متعلقان بكلوا.
ما رزقناكم : ما : اسم موصول في محل جر بالإضافة.
وما ظلمونا : الواو : حرف عطف، ما: نافية.
ولكن : الواو : حالية، لكن : حرف استدراك لا محل له من الإعراب لأن نونه مخففة.
كانوا : فعل ماض ناقص، والواو : اسمها، أنفسهم : مفعول به مقدم ليظلمون، يظلمون : فعل مضارع، الواو : فاعل، والجملة الفعلية خبر كانوا.
الظل : الستر، ويقال أتانا في ظل الليل أي في سواده.
والغمام : السحاب الأبيض، والقطعة منه غمامة، يقال غمه الشئ من باب قتل أي غطاه وستره.
والمن – بالفتح لغة الإنعام والإحسان، والاسم المنة والجمع منن، ومن أسماء الله تعالى المنان، والمن في الآية هو ما كان منزلاً على بني إسرائيل نعمة منه تعالى.
والسلوى : طائر السُّماني، وعن الأخفش أنه طائر نحو الحمامة وهو أطول ساقاً وعنقاً، وقيل (السلوى عند العرب العسل) ( ).
في سياق الآيات
بعد البعث والإحياء الذي جاء متعقباً لظلم النفس وسؤال الرؤية، جاءت هذه الآية لبيان فضله تعالى في نعمة أخرى تتصف بالإستدامة والإتصال، وتوكيد عظيم إحسان الله على بني إسرائيل وأنه يتوب عليهم ثم يرزقهم الآيات والنعم والهبات الظاهرة.
ويدل نظم الآيات على أن الله تعالى إذا أنعم على الناس ينعم بالأوفى والأتم والمتعدد، وليس الفرد المتحد، فمع البعث من الموت جاءت نعم متعددة تذكرها هذه الآية هي :
الأولى : الستر والتغطية بالغيم والغمام.
الثانية : نزول المن والسلوى على بني إسرائيل.
الثالثة : الأمر الإلهي لهم بالأكل من الطيبات.
وجاءت الآية التالية ببيان نعمة أخرى وهي دخول بني إسرائيل إلى البلد مع الأكل من الطيبات فيها، وإعانتهم على إظهار الخشوع لله تعالى، والبشارة بالأجر وزيادة الثواب.
وإذ بدأت الآية السابقة بحرف العطف “ثم” الذي يفيد الترتيب والتراخي فان هذه الآية بدأت بحرف العطف “الواو” مما يدل على عدم وجود فترة وفاصلة زمانية بين بعثهم وتضليل الغمام على بني إسرائيل، وهو أمارة على عدم تعلق هذه النعمة على قيامهم بالشكر على النعم الإلهية الأخرى.
وأختتمت الآية السابقة بقوله تعالى(لعلكم تشكرون) في بيان لجزء علة لنعم الله على بني إسرائيل مع غناه سبحانه عن الناس وشكرهم وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ). وتضمنت هذه الآية ذكر النعم الإلهية على بني إسرائيل وأختتمت بقانون كلي يتألف من أمرين:
الأول: إن الناس لا يضرون الله شيئاً، وعن ابن عباس في قوله(وما ظلمونا) قال: نحن أعز من أن نظلم)( ).
الثاني: ظلم الجاحدين لأنفسهم، ولم تبدأ هذه الآية بظرف الزمن الماضي(إذ) بل إبتدأت بحرف العطف والفعل الماضي(وظللنا) وفيه مسائل:
الأولى: تأكيد توالي النعم الإلهية على بني إسرائيل.
الثانية: بيان مصداق من مصاديق تفضيل بني إسرائيل.
الثالثة: مجيء الآية بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى إنقضاء زمان تلك النعم.
ويلاحظ في هذه الآيات بيان نعم الله على بني إسرائيل على نحو التفصيل والتعداد والتداخل، وكثرة حروف العطف، ثم , الفاء، الواو الذي ورد في هذه الآية خمس مرات وجاء العطف في الآية التالية خمس مرات أيضاً لتأكيد توالي النعم على بني إسرائيل وبما يمنع من إنكار التفضيل فيها.
وحتى ظرف الزمن الماضي إذ لا يخلو من دلالة على إرادة معنى الزمن الماضي .
وأخبرت هذه الآية عن النعم السماوية التي تترى على بني إسرائيل، وبما يقطع الناس مجتمعين ومتفرقين بأنها فضل ومنّة من الله ولا يقدر عليها غيره سبحانه وإبتدأت الآية التالية بظرف الزمن الماضي(إذ) لبيان نعمة عظيمة على بني إسرائيل توثق خروج بني إسرائيل من التيه ودخولهم الحضر.
وورد لفظ (كلوا) في القرآن سبعاً وعشرين مرة، ورد في آيتين متعاقبتين مرتين، وكلاهما في بني إسرائيل وفي ذات الموضوع، إحداهما في هذه الآية والآية التالية، والثانية في سورة الأعراف وبذات المعنى، قال تعالى[وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ]( ).
ومن نعم الله عز وجل على بني إسرائيل إباحة الطيبات لهم في كل الأحوال، وهل فيه دلالة على بركة وحضور النبي موسى عليه السلام بين ظهرانيهم، الجواب نعم، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت]( )، وتجلت البركات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين بالفيض الإلهي والغنائم ثم إستبانت في هذا الزمان بكنوز الأرض من النفط وغيره في أرض الرسالة وبلاد المسلمين.
وفيه معجزة حسية ظاهرة، وآية في تفضيل المسلمين على نحو مستديم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن المراد من(خير) هنا أعم من الفضل والحسن الذاتي فيشمل الإفاضات والرزق الكريم من الله عز وجل، ليكون من مصاديق الآية : كنتم خير أمة بكثرة وإتصال النعم عليكم .
وإذا كان بنو إسرائيل دخلوا قرية بعد التيه أربعين سنة فإن المسلمين هاجروا إلى المدينة ليدخلوا أم القرى ويفتحوا البلدان في السنة الثامنة للهجرة النبوية ، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وجاءت قبل أربع آيات ذات الخاتمة(لعلكم تشكرون)( )، والنسبة بينها وبين خاتمة هذه الآية هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: إتحاد جهة الخطاب إذ يتوجه في كل من الآيتين لبني إسرائيل.
الثاني: تعلق الخاتمة بفعل الآباء وليس للمخاطبين أيام الرسالة المحمدية، وهل هو من عمومات مقولة إياك أعني وإسمعي ياجارة، الجواب لا، فالمقصود ذات الأبناء في التبكيت والإنذار لأن الوظيفة تقتضي دخولهم الإسلام.
الثالث: إبتداء كل من آية البحث والآية أعلاه بحرف العطف (ثم) والذي يفيد التراخي.
الرابع: تعقب رجاء الشكر للعفو عن بني إسرائيل.
الخامس: تقريب بني إسرائيل والناس جميعاً من مقامات الشكر لله عز وجل.
السادس: تغشي العفو والبعث لعموم بني إسرائيل ويعطي الله عز وجل بالأوفى والأتم والأعم الشامل.
إعجاز الآية
تخلد الآية الكريمة نعمة مركبة على بني إسرائيل تتضمن التفضيل والإكرام والحجة عليهم بلزوم الإيمان بما يأتي من عند الله تعالى، فالنعمة قوس نزول مبارك لابد أن يلازمه قوس صعود عبادي وهو الإيمان وتخلف الإنسان عن ظلمه لنفسه وتعريضها لأنواع العذاب , ليكون تقدير قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
تفضل الله عز وجل بتهيئة مقدمات العبادة بالتنزه عن ظلم النفس، لتكون عبادة الإنس والجن لله برشحة من لطفه تعالى بازالة الموانع الخاصة والعامة التي تحول دون العبادة، وليس من حصر لهذه الموانع ولا للكيفيات والسبل التي تمحى وتزول بها وهذه السبل من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
والآية حجة في بيان حقيقة عقائدية وهي ان الإنسان لا يضر بجحوده إلا نفسه وأن الله سبحانه غني عن العالمين، وهو القوي العزيز الذي لا يحتاج العبادة.
ومن إعجاز الآية بيان النعمة والمنافع العظيمة التي تترشح عنها، فالغمام آية ونعمة، وسلامة من حر الصحراء، وأضرار إستدامته، ومن مصاديق الخطاب الإلهي لبني إسرائيل [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، أنهم يعيشون في الظل وهم في الصحراء، وكأنهم في حياة حضر مع السلامة من مشقة الكسب وما فيه من الجهد والعناء، وجاء الشطر الأول من الآية بصيغة الخطاب، بينما جاء الشطر الثاني منها بلغة الغائب لبيان قاعدة كلية وإخبار بأن الجحود بالنعم يضر أهله.
وتبين الآية حقيقة وهي أن النعم في الحياة الدنيا لا تنحصر بما يأتي وفق النظام الكوني الراتب كنزول المطر في موسم مخصوص، وجريان الأنهار في إخدود معين , فتأتي نعم دفعية تكون معجزة حسية خارقة، ومنها إستدامة نعمة السحاب الأبيض على بني إسرائيل الذي ليس فيه ماء ولا تنزل منها الأمطار لأن وظيفته لطافة الريح والتظليل من الشمس , وبعث السكينة في النفوس.
وهل في الآية دعوة للعلماء بتحريك السحاب وتصعيد الأبخرة من البحار بوسائل علمية، الجواب نعم، وهو الذي تجلت مقدماته بالإرتقاء العلمي والتقني في هذا الزمان، وعلى فرض صيرورته واقعاً , فهل يكون معجزة الجواب لا، لأنه من عمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، وقد تكون المعجزة الحسية إبتلاء وعقوبة كما تقدم قبل آيتين حينما سأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام عند رجوعه من الطور وأخذه نفراً من قومه للإعتذار والإستغفار، فلما سمعوا كلام الله أرادوا رؤيته رؤية عيان، فنزل العقاب، قال تعالى[فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، ليتصف بنو إسرائيل بين الأمم بإجتماع أمور :
الأول: نزول النعم العظيمة عليهم .
الثاني: رؤية حلول عذاب الموت غرقا بأعدائهم، وهم فرعون وجنوده وفيه آية نجاة التخلف من آل فرعون عن اللحاق بموسى وقومه من الغرق فان قلت قد يكون الذي تخلف أشد إيذاء لبني إسرائيل , فكيف نجى هو وهلك أصحابه في أليم، والجواب من وجوه:
الأول: إقتضت الحكمة الإلهية أن يكون اللحاق بموسى عليه السلام علة لهلاك أفراد الجيش الذي أراد إبادة بني إسرائيل.
الثاني: هلاك فرعون ورؤساء جنده بخيلهم وأفضل أسلحتهم ومؤنهم وهن وضياع لمن بقي منهم.
الثالث: إن عذاب الله للظالمين أعم من أن ينحصر بالحياة الدنيا، قال تعالى[وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى]( ).
وحينما رأى موسى وقومه فرعون وجنوده يهلكون في البحر وكان عدوهم اكثر من مليون مقاتل لماذا لم يرجع موسى بقومه إلى مصر ويستولون على الحكم فيها , والجواب فيه وجوه محتملة:
الأول:لم يخرج للحاق بموسى وقومه كل جنود فرعون وأنه حشّد جزءً من جيشه وأن المدن التابعة لفرعون عديدة ومتباعدة، وكان الجيش الذي جمعه على عجل، وفي مدة ذبح شاة وأكله الكبد منها , ويدل على سعة وتعدد الأقطار التي يحكمها فرعون ما ورد في التنزيل[قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ]( ).
الثاني: يدل عدم رجوع موسى وقومه إلى مصر حال رؤيتهم هلاك فرعون وجنوده على أنه لا يطمع بحكم مصر وأن بني إسرائيل لم يبغوا مزاحمة فرعون في ملكه، وهو من الشواهد على أن إضرار فرعون وقومه بهم ظلم عظيم.
الثالث: التحريم الإلهي لدخول بني إسرائيل مصراً، قال تعالى[فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ]( )، ولكن هذا التحريم بعد إيذائهم لموسى عليه السلام وإمتناعهم عن قتال الجبارين.
الرابع: عجز موسى وبني إسرائيل عن الرجوع إلى مصر لعدم توفر وسائط عبور البحر الأحمر، فقد عبروا منه بإنفلاقه ويبسه مرة واحدة لنجاتهم.
الخامس: تراكم حال الفزع والخوف في نفوس بني إسرائيل من آل فرعون يجعلهم عاجزين عن العودة لقتالهم.
السادس: لم يتأهل بنو إسرائيل للقتال، وليس عندهم لوازمه وعدته.
السابع: لقد جاء الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بالخروج من مصر[وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى]( )، ولم يوح إليه الله بالعودة إلى مصر.
الثامن: بعد عبور موسى وقومه البحر ترتبت وظائف عقائدية عليهم كمسلمين، قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا]( ).
التاسع: ليس كل نبوة ورسالة فيها قتال , وفي كل أوان منها ليختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشرف المواظبة على الجهاد وتكلله بالظفر والفتح.
والصحيح هو الأول والثاني والسابع والثامن والتاسع.
الثالث: نزول العذاب بهم ليكون موعظة وعبرة لهم.
ولم تكتف الآية بذكر نعمة الغمام ونزول طعام المن والسلوى بل تضمنت الإخبار عن الأمر الإلهي لبني إسرائيل بالأكل من الطيبات وتأكيد حقيقة وهي أن هذه الطيبات رزق من الله عز وجل، مع الإشارة إلى كثرة النعم الإلهية على بني إسرائيل بلغة التبعيض التي يدل عليها حرف الجر في(كلوا من طيبات) وفيه إشارة إلى وجود زائد عن حاجتهم في كل آن والتخفيف عنهم بعدم الإدخار لأنه سالبة بإنتفاء الموضوع.
ويمكن تسمية الآية بآية (المن والسلوى) وقد جاء لفظ (المن والسلوى) في ثلاث آيات في القرآن متلازمات، وفي ذات الموضوع وهو نزولها على بني إسرائيل( )، وهذا التعدد والحصر شاهد على تفضيل بني إسرائيل، وحجة عليهم في لزوم دخولهم الإسلام.
الآية سلاح
نزول القرآن بهذه النعم إخبار عن إمكان حيازة المسلمين لها، وفيه تنبيه لهم بتلقيها بالشكر ومقابلتها بالإيمان، وتحذير من التقصير في العبادات، وهي دعوة لسؤال النعم.
فالآية بشارة للمسلمين بأكلهم الطيبات من الرزق عليهم، ونزول البركات عليهم، ومن الشواهد عليه إظهار الأرض كنوزها لهم، وهي بذاتها نعمة وتكون وسيلة ومقدمة لنعم أخرى عديدة كما يتجلى هذا الأمر بالوجدان .
والآية سلاح وعون لبني إسرائيل لدخول الإسلام والشكر لله تعالى على هذه النعم بالإقرار بنزول القرآن من عند الله، وهو من خصائص مجيء الآية بصيغة الخطاب “ثم بعثناكم” مع ان البعث والنعم لم تحصل لليهود الذين كانوا في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي سابقة عليهم في زمانها، ولكن لبيان أثرها عليهم بإعتبارهم ذرية للذين إنتفعوا وتنعموا بها، مما يملي عليهم الشكر على النعم من وجوه :
الأول : مجيء النعم لآبائهم.
الثاني : إنتفاع الأبناء من النعم التي رزقها الله للآباء.
الثالث : إختصاص بني إسرائيل كأمة وملة بهذه النعم، ويتعلق هذا الإختصاص بالأمة والأفراد الذين نالوا النعمة, وبالذين تلقوا آثارها من أجيالهم اللاحقة ومنهم اليهود المعاصرون للنبي محمد وأيام نزول القرآن وهو من معاني توجه الخطاب القرآني لهم .
الرابع : مجيء آيات القرآن بذكرهم على نحو الخصوص، والقرآن كتاب الله الخالد، والخطاب السماوي الموجه للناس جميعاً وبنو إسرائيل قلة قليلة من مجموع أهل الأرض سواء في زمن النبوة أو في الأزمان اللاحقة، فلماذا جاء ذكر بني إسرائيل في آيات عديدة ومنها هذه الآيات المتتاليات، فيه وجوه:
الأول : بيان نعم الله تعالى على بني إسرائيل وهو من عمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : الآية توثيق سماوي لنعم الله على أمة من الموحدين.
الثالث : عدم الإيجاد أعم من عدم الوجود، فذكر النعم الخاصة على بني إسرائيل لا يعني عدم وجود نعم خاصة على الأمم الأخرى.
الرابع : لما بينت الآيات السابقة أن الله عز وجل فضّل بني إسرائيل على العالمين جاءت هذه الآية لبيان وجوه ومصاديق هذا التفضيل، وهو تفضيل مركب ومتعدد، أما التركيب فان النعم تأتي بعد العنت والعناد والموت التعليقي عقوبة وتأديباً، وأما التعدد فيتجلى بكثرة النعم التي تذكرها هذه الآيات.
الخامس : دعوة بني إسرائيل لشكر الله تعالى على هذه النعم بدخول الإسلام، والتصديق بالمعجزات.
السادس : حصانة المسلمين ومنع الإفتتان بجحود بني إسرائيل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أصل الإستصحاب وهو أصل عقلائي، لأن ذكر النعم الخاصة على بني إسرائيل يبين حقيقة وهي لزوم مبادرتهم إلى الإسلام قبل غيرهم، فإذا جحدوا بالنبوة فان الناس لا يصغون لهم، ويأتيهم اللوم من المسلمين وغيرهم، ويدل عليه عموم وتعدد جهة صدور اللوم في صيغة المبني للمجهول في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ] ( ).
مفهوم الآية
من مفاهيم هذه الآيات أنها بشارة للمسلمين بنيل النعم الجزيلة وإحراز المنزلة الرفيعة عند الله عز وجل وبين الأمم، لمجيء شطر من نعم الله سبحانه بلحاظ الإيمان والتسليم بالنبوة فعندما تنحرف عن طريق الهداية فان النعم تبقى في الأرض فضلاً وإحساناً منه , فمن فضله تعالى أن لا ترفع النعمة عن الناس، نعم قد لا تأتي هذه النعم بصورة دفعية بل تأتي على نحو تدريجي وقد لا ترد الطيبات من السماء دائماً , فربما تخرج من باطن الأرض على نحو الكنوز والثروة، وهي دعوة لتعاهد النعم بالشكر وأداء الفرائض والإلتزام بسنن النبوة.
ومن مفاهيم الآية أنها إخبار عن علة حجب النعم عن بعض الأمم وهي ظلمهم لأنفسهم وإتباعهم الهوى وإعراضهم عن أحكام الشريعة السماوية، فكأن الآية تأسيس لقاعدة كلية وهي أن زوال النعم ملازم للجحود والمعصية.
ومن الآيات أن كل آية من هذه الآيات تذكر نعمة من نعم الله تعالى على بني إسرائيل في تذكير بها ولزوم نبذ الجحود والعناد وصيغ الشك والريب، فالآية تتضمن :
الأول : نعمة تغشي بني إسرائيل بسحاب يقيهم حر الصيف في التيه والبيداء.
الثاني : إنزال المن كنوع فاكهة سماوية وطائر السلوى من السماء في التيه لبيان أن الله سبحانه لم يتركهم وحالهم ولم يغضب عليهم، بل تكفل لهم رزقهم بأحسن حال، وإذا كان المن والسلوى من الرزق البدني والمادي، الذي يعتبر تصديقاً لنبوة موسى، فان الله عزوجل رزقهم والناس جميعاً نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل القرآن من السماء لينهلوا من مائدته ويقودهم الى سبل النجاة، ومن فضله على بني إسرائيل بالخصوص ان التوراة جاءت بالبشارة بالقرآن.
وجاءت نسبة التظليل وإنزال المن والسلوى الى الله تعالى لتوكيد تفضله تعالى ولطفه وعنايته ببني إسرائيل , وكأنه يعدهم ليوم بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للتصديق به وجذب الأمم الأخرى معهم.
الثالث : الأمر بالأكل من الطيبات، في إشارة إلى نيلها من غير تعب او عناء أو جهد وليس فيها ما يضر الإنسان في بدنه وصحته وجاء حرف الجر في (من طيبات) للإخبار بأن ما ينزل أكثر من حاجتهم وانهم يأخذون منه كفايتهم.
الرابع : إن الله عز وجل يقابل الجحود والظلم بتوالي النعم في الدنيا، وان الإنسان مطلقاً المسلم وغيره يعيش في الدنيا بنعمة الله.
الخامس : دعوة بني إسرائيل للنهل والإنتفاع من النعم التي تأتي للمسلمين، وهي عامة ولا تنحصر بفرد أو موضوع مخصوص، قال تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
وفيه الآية مسائل :
الأولى : توالي النعم على بني إسرائيل، فبعد نعمة البعث وإعادة الحياة تفضل الله سبحانه بتظليل الغمام عليهم لوقايتهم من حرارة الشمس وأسباب والأذى.
الثانية : نزول المن والسلوى على بني إسرائيل من السماء، وجاءت نعمة البعث خاصة بالقوم الذين إختارهم موسى، أما نعمة المن والسلوى فانها عامة وشاملة لهم جميعاً , قال تعالى [وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا]( )، وورد في الآية أعلاه والمراد من الرجفة فيها قولان :
الأول : المراد الميعاد الأول، المذكور في الآية محل البحث.
الثاني : أنه ميقات ثان بعد الميقات الأول، وأن الرجفة هي الرعدة وحركة الأعضاء اللا إرادية .
وعن ابن عباس: أن السبعين الذين (قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)( ) فأخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة و إنما أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم , وبرز بهم ليدعو ربهم فكان فيما دعوا أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا و لا تعطيه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة( ).
الثالثة : الإذن الإلهي لبني إسرائيل بالأكل والشرب من الطيبات وإنها رزق من عند الله.
الرابعة : إن التعدي والظلم من العباد لا يضر الله شيئاً، والله عز وجل هو القوي العزيز، ولكن الظالم يضر نفسه في النشأتين، وفي الآية تحذير من الظلم والتعدي مطلقاً.
الآية لطف
جاءت الآية بالعطف على الآيات السابقة التي تتضمن تذكير بني إسرائيل بالنعم الإلهية التي تفضل الله بها عليهم، وفضّلهم بها على عامة أهل زمانهم، فكانت النعم تتغشاهم وتصاحبهم، ومنها وقايتهم من حر الشمس وإنزال المن والسلوى، وتعدد الطيبات.
وتحتمل النسبة بين المن والسلوى وبين الطيبات التي رزق الله سبحانه بني إسرائيل وجوهاً :
الأول : التساوي وأن المن والسلوى هي نفسها الطيبات، والمراد من التبعيض ان يأكل بنو إسرائيل من المن والسلوى.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، فالمن والسلوى جزء من الطيبات.
الثالث : التعدد والمغايرة فالطيبات غير المن والسلوى.
والصحيح هو الثاني للأصل بتعدد نعم الله عز وجل وعظيم فضله وإحسانه، وصيغة الجمع الطيبات، ولغة التبعيض فيها، وإرادة نزول المن والسلوى كل يوم، فالطيبات بلحاظ التعدد والنزول والتكرار كل يوم، وفيه بشارة دخول بيت المقدس وأكل الثمار , قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا] ( ).
وفي قوله تعالى [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] حجة على بني إسرائيل بانه لم يكن عندهم طعام واحد حتى على فرض أنهم لا يأكلون إلا المن والسلوى أو أن كلامهم ينصرف إلى إرادة إتحاد جهة الطعام، ونزوله من السماء، وهذا الإتحاد سبب لنعتهم له بأنه طعام واحد لذا جاء رد موسى عليه السلام عليهم بأن يهبطوا مصراً لينالوا الأطعمة التي لا تأتي إلا بالجهد والعناء.
ومن اللطف الإلهي تعدد النعم على الناس عامة، وعلى بني إسرائيل خاصة، وهذه النعم مقدمة وتوطئة للإيمان برسالة موسى والأخذ بالبشارات التي جاء بها بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت لغة الذم والتقبيح في بيان ظلم بني إسرائيل لأنفسهم حجة عليهم، وشاهداً على أنهم تخلفوا عن شكر النعم التي أنعم الله بها عليهم، وفيه دعوة للمسلمين للتقيد بأحكام الشريعة وإجتناب الظلم والتعدي , زهذا التقيد من مصاديق قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
إفاضات الآية
تبين الآية منزلة المسلمين في مقامات الجهاد والصبر وأنهم واجهوا المشاق والعناء ودخلوا سوح المعارك لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض وإنقاذ الناس من ظلم أنفسهم مع التطلع لإشراقة الأمل والفوز بالثواب العظيم في دار الخلد.
لقد جعل الله تعالى الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء، ويتلقى فيها الإنسان أسباب الغبطة والسعادة، وتارة يلاقي المشاق والمحن بالأسباب والعلل الظاهرة، ولكن هذه الآية جاءت بالنعم العظيمة ومن غير أسباب مادية ظاهرة، فلم تأت السحابة والغيوم في أوان الأمطار ، وتتكون وتمطر ونزول كباقي الغيوم المتعارفة، بل تجري السحابة مع بني إسرائيل وتقف حيثما نزلوا، وتلك آية حسية عظيمة تملي عليهم إظهار أرقى مصاديق التقوى، وأصدق معاني العبادة والصلاح .
وجاء التذكير بها في القرآن ضمن دعوتهم للإسلام ليكون إسلامهم إعترافاً بالنعم وشكراً لله تعالى عليهاعلى إفرادهم بالذكر في هذه الآيات وإخبار الناس الذين يطلعون على هذه الآية أنهم يشكرون الله تعالى بالإنتماء للإسلام وحسن الإيمان.
وتبين الآية أفضلية المسلمين الذين دخلوا الإسلام ولم يعيشوا هذه النعم، بل أنهم مستمرون على الجهاد في سبيل الله تعالى وتحمل الأذى والمشاق في جنب الله تعالى وهو من عمومات قوله تعالى[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
وإذ إبتدأت الآية السابقة بحرف العطف (ثم) وما فيه من معاني الترغيب والتراخي، إبتدأت هذه الآية بحرف العطف الواو، الذي يدل على التتابع والتعاقب وعدم وجود فترة بين نعمة البعث من الموت وتظليل السحاب على بني إسرائيل.
وهو من اللطف الإلهي المتعدد في الموضوع المتحد، وليكون قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ]( ) بين نعمتين عظيمتين تستحق كل واحدة منهما الشكر والثناء على الله تعالى، وتصديق نبوة موسى عليه السلام، وهو من مصاديق تفضيل بني إسرائيل بإغراقهم في النعم المتتالية بعد إغراق عدوهم في أليم.
وذكرت هذه الآية نعماً خصّ الله بها بني إسرائيل وهي :
الأولى : جعل الله تعالى السحاب ظلة لهم تقيهم من حر الشمس في التيه.
الثانية : نزول المن من السماء، وهو نوع ثمر ينزل من السماء على الشجر له طعم طيب ونكهة لذيذة.
الثالثة : نعمة نزول السلوى عليهم وهو طائر أبيض صغير.
الرابعة : إباحة الأكل من الطيبات وجعل بني إسرائيل يتنعمون بالأكل والشرب من المباح اللذيذ الحلال من غير تعب ولا جهد ولا سعي للكسب والطلب.
وتلك نعمة أخرى يتفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل، وشاهد على تفضيلهم وإكرامهم مع لزوم الشكر لله تعالى على هذه النعم، وقدمت الآية نعمة التظليل بالسحاب على نعمة إنزال المن والسلوى، لوجوه :
الأول : حاجة بني إسرائيل إلى الظل ليخفف عنهم حر الشمس في التيه، وقيل انهم بقوا في التيه أربعين سنة.
الثاني : الغمام نعمة دائمة ملازمة لهم طيلة ساعات النهار.
الثالث : مع السحاب تأتي الرغبة بالأكل والإقبال عليه بشوق، لذا قال تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ].
الرابع : وجود السحاب والظلال في النهار واقية من فساد أو تلف الطعام.
الخامس : سبق نعمة التظليل على الأكل والشرب، وهي تبدأ مع طلوع الشمس وتنتهي عند الغروب، وقيل: كان ينزل عليهم في الليل من السماء عمود من نور يضئ لهم مكان السراج( ).
وكل من الغمام، والمن والسلوى عون على أداء العبادات والتفقه في الدين، والعمل بأحكام التوراة إلى جانب كونها نعمة من عند الله، فمن الآيات في النعم الإلهية أنها خيرمحض، ويترشح عنها النفع والخير، وتكون مقدمة لمنافع عديدة، وعوناً لأداء الوظائف والواجبات، وحصانة من الضلالة والغواية، فكل نعمة هي سلاح ضد الكفر والجحود لأنها تذكير بالله تعالى، والحاجة اليه ولزوم عبادته والتصديق بأنبيائه.
وأن الجحود بها ظلم للنفس وإضرار بالذات والغير لذا جاءت خاتمة الآية للإخبار عن الجحود بهذه النعم وان الجاحدين لايضرون إلا أنفسهم، وأن الله تعالى غني عن العالمين، ونعمه على الخلائق متصلة ومتتالية لا يحجبها الجاحدون بها، وقد لا يحجبونها عن أنفسهم إستدراجاً من الله، فمن باب الأولوية القطعية أنهم لا يحجبونها عن غيرهم على نحو السالبة الكلية أو الجزئية.
وتتضمن خاتمة الآية في مفهومها بشارة للمسلمين في إتصال النعم الإلهية عليهم، وحثاً لهم للإجتهاد في العبادة والدعاء وسؤالاً للمزيد من النعم، وتعاهدها بالشكر لله تعالى.
ويرى بنو إسرائيل المسلمين في تعاهدهم لمنازل الشكر لله تعالى بأداء العبادات والفرائض في أوقاتها، وبحسب الكيفية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، وقد أصابتهم الدهشة مثلاً عندما رأوا المسلمين يغيّرون القبلة ويتوجهون الى البيت الحرام حالما جاء جبرئيل بنسخ القبلة , وفي التنزيل [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]( ).
ومع الظلال والغمام يكون الطقس جميلاً، والأبدان نشطة، ومع هذا لم يأمرهم الله بالعمل والزراعة بل أنزل عليهم المن والسلوى، ليأكلوا الطيبات ومن غير جهد ونصب وعناء وتستديم النعم على بني إسرائيل وهم في أحسن حال، وليتوجهوا لدراسة التوراة والتفقه في الدين، والتدبر في البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن وجود السحاب في النهار ونزول المن والسلوى آيات حسية شاهدة على صدق نزول التوراة من عند الله، وقد تعجل النفر من بني إسرائيل إذ إشترطوا الرؤية قيداً للتصديق بنزول التوراة.
فمن الإعجاز أن تتعاقب الآيات الحسية التي تحث على التصديق بالتوراة وتؤكد وجوب العمل بأحكامها وسننها وفيها دعوة لهم للإستغفار والإنابة والتوبة.
وكما جاء نزول التوراة على موسى عليه السلام بعد العفو عن بني إسرائيل في عبادتهم العجل، فقد جاءت نعمة التظليل ونزول المن والسلوى بعد نعمة الإحياء من الموت، وفيه نعمة إضافية تتعلق بتعاقب النعم ومجئ النعمة تلو النعمة، وعقب الظلم والتعدي من بني إسرائيل، فمن فضل الله تعالى على بني إسرائيل أن المعصية التي يرتكبونها لم تحجب عنهم النعم المتعاقبة، ليدركوا حاجتهم للشكر لله تعالى والإقامة على عبادته، والكف عن العناد والجحود.
وفي الآية شاهد على تفضيل المسلمين وانهم [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فقد أنزلت التوراة وبنو إسرائيل في نعم حسية يومية ظاهرة تدعوهم للأخذ بالتوراة وتعاهدها والتقيد بمضامينها، والحرص على إتباع موسى عليه السلام، بينما نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يباشرون الجهاد والدفاع عن الإسلام أمام هجمات وريب المشركين والكفار.
ومع هذا فان الصحابة حرصوا على حفظ آيات القرآن، والعمل بأحكامها، وتلقوها بالتقديس والقبول والغبطة وكانوا يجمعون بين العلم والعمل، والتلاوة والتفسير،وتركوا للأمة ثروة عظيمة وهي تركة سلامة القرآن من التحريف والنقص والزيادة، فتلك المعارك والأهوال لم تمنعهم من تعاهد كل آية من آيات القرآن إلى أن تركوها أمانة عقائدية وشرعية بأيدي التابعين، ومدونة في المصاحف المتكثرة والمنشرة في الأمصار.
وكانت حياة الصحابة وأهل البيت المعاشية ذات مشقة، ولم تمنعهم قلة المؤون والزاد من الإنقطاع إلى العبادة وبحسب الكيفية التي جاء بها القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يسألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون لهم مثل تلك النعم التي نالها بنو إسرائيل، وما تفضل الله تعالى من الغمام والمن والسلوى، بل جاهدوا صابرين بسيوفهم ودمائهم وأموالهم ليفتح الله تعالى لهم خزائن كسرى وقيصر، ويدخل الناس أفواجاً في الإسلام، وأكثروا من السؤال عن أحكام الحلال والحرام وتقيدوا بالتأديب الإلهي في باب السؤال بقوله تعالى [لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( )، وفيه دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام، وحجة عليهم ودليل على إستحقاق المسلمين لنيل مراتب التفضيل.
لقد جاءت نعمة المن والسلوى إبتداء من عند الله ولحفظ نسل بني إسرائيل، فكما أنجاهم الله تعالى من فرعون وجنوده وأحياهم من الموت الذي نزل عليهم بالصاعقة، فانه سبحانه تفضل عليهم بالسلامة من ضربة وحر الشمس، وأنزل عليهم الطيبات ليفوزوا بنعمة وهي نزول الكتاب والطيبات معاً من السماء.
وتتكون هذه الآية من شطرين، بينهما تباين في الموضوع والأثر وهما :
الشطر الأول : النعم التي تفضل الله تعالى بها على بني إسرائيل وهي على شعب :
الأولى : تظليل بني إسرائيل بالسحاب أينما ساروا، فهو لا يتبعون السحاب، ولا يضطرون للوقوف في المحل الذي فيه السحاب، بل أن السحاب اللطيف يتغشاهم في حلهم وترحالهم، ويتنقل أكثر الناس في هذا الزمان بالمركبات والسفر بالوسائط الحديثة إلا أن المشاق التي يلاقيها الراجل وراكب الدابة من حر الشمس شاخصة في الوجود الذهني، وغير خافية على أحد، وجاء السحاب آية حاضرة ساعات النهار، ومن منافع التظليل بالسحاب أمور :
الأول : وحدة بني إسرائيل المكانية، وحرصهم على عدم التفرق والتشتت.
الثاني : الإقرار بنبوة موسى عليه السلام.
الثالث : إجتناب الزيغ والكفر والضلالة خشية فقدان هذه النعمة العظيمة.
الرابع : التذكير المتصل بوجوب عبادة الله تعالى.
الخامس : دراسة التوراة والتفقه في الدين، وحفظ البشارات التي جاءت بها التوراة ، فمن خصائص الإنسان رسوخ البشارة والنبوءة في ذهنه وتطلعه إلى زمان وقوعها وحكايتها، وجاءت التوراة بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من تجديد النعم الإلهية على بني إسرائيل بدخول الإسلام وفوز المسلمين بالثواب والنعيم الدائم في الجنة، والتظليل بالسحاب حث على السعي إلى الجنة ونيل الظلال، واللبث المؤبد في القصور التي تجري من تحتها الأنهار.
السادس : الوقاية من لهيب الشمس وحر التيه والصحراء.
السابع : لزوم الحرص على الرجوع إلى موسى عليه السلام، والصدور عنه، وعدم الخروج عن طاعته.
الثانية : نعمة نزول المن من السماء.
الثالثة : نزول طائر السلوى من السماء، وجاءت الآية بالعطف (المن والسلوى) وتدل الأخبار على عدم الملازمة الزمانية بين نزولهما، إذ ينزل المن من السماء بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ومن الآيات أن الرجل منهم إذا أخذ من المن والسلوى ما يزيد على طعام يومه فان الزائد يفسد إلا الزائد يوم الجمعة لأنهما لا ينزلان عليهما يوم السبت، وفيه دعوة لهم للرضا بفضل الله التطلع إلى النعم المتجددة، وإشارة إلى البركات في يوم الجمعة على نحو الخصوص.
الرابعة : نعمة الأمر الإلهي بالأكل والشرب من الطيبات، وفيه تفضيل لبني إسرائيل لأن الطعام يأتيهم من السماء وخالياً من العناء والجهد، والآثام التي تصاحب البيع والشراء أحياناً، فلا يحتاج بنو إسرائيل التفقه في أمور البيع والعقود، ولا يخشون من الجوع والفاقة في الغد، بل يأتيهم ما يكفيهم من الطيبات ومعه زيادة.
وجاء لفظ (الطيبات) في الآية بصيغة الجمع، وفيه أمور :
الأول : إرادة المن والسلوى.
الثاني : المتعدد والمتكرر من المن والسلوى، ففي كل يوم يأتيهم منه طعام جديد.
الثالث : تدل الآية على التعدد والتباين في نكهة المن والسلوى، كما لو إختلف طعم ومذاق المن في الشتاء عنه في الصيف، وكان طائر السلوى مختلفاً في الصغر والكبر والطعم.
الرابع : إرادة الجمع في الطيبات ويشمل :
الأول : المن .
الثاني : السلوى.
الثالث : الماء الذي ينفجر من الحجر بآية عصا موسى عليه السلام.
الرابع : المعنى الأعم الشامل للمن والسلوى وما أنعم الله عز وجل به على بني إسرائيل من الزروعات والحبوب والثمار.
والصحيح هو الوجه الرابع، فالآية وإن جاء أولها بخصوص نعمة المن والسلوى، ولكن الأمر الإلهي بالأكل من اللذيذ والطيب المباح أعم ويشمل أجيال بني إسرائيل المتعاقبة، وفيه حث لهم على الإيمان ودعوة لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات، وهو مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنعم بما فتحه الله عليه من كنوز قيصر وكسرى.
الشطر الثاني : وفيه شعبتان :
الأولى : إن الله تعالى هو القوي العزيز، الذي لا تضره معصية أهل الجحود، ومقام الربوبية منزه عن الظلم مطلقاً.
الثانية : الإخبار عن ظلم بني إسرائيل لأنفسهم بالكفران بالنعم العظيمة التي تفضل الله تعالى بها عليهم، لقد جعل الله تعالى الأولوية عند الإنسان للنفس، فيحرص عليها، ويدفع عنها، ومع هذا ترى المؤمنين يسارعون إلى سوح القتال، قال تعالى [وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ]( ).
فجاءت الآية لبيان أهم مصاديق سلامة النفس وهو الشكر على النعم وعدم الجحود بها، وهذا الشكر إصلاح للنفس، ومقدمة لأداء العبادات والإرتقاء بها عن الكدورات الظلمانية، وهو إمامة لهانحو الخلود في النعيم الدائم، فما النعم الدنيوية إلا مقدمة وتذكيراً بنعم الآخرة، وحثاً على السعي الدؤوب لبلوغ الغايات السامية في الآخرة.
وإذ إبتدأت الآية بذكر النعم الإلهية على بني إسرائيل والتذكير بها، جاءت خاتمتها في ذمهم لظلمهم أنفسهم بالجحود بتلك النعم،والصدود عن نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع بيان قانون ثابت هو أن الجحود والصدود عن النبوة لن يضر إلا أهله.
وفيه بشارة للمسلمين بأن إمتناع اليهود عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لن يكون برزخاً دون إسلام الناس من الملل الأخرى، لحصر الآية لظلمهم بأنفسهم، وعدم تعديه إلى غيرهم.
التفسير الذاتي
لقد إبتلى الله عز وجل بني إسرائيل بالتيه بعد أن إمتنعوا عن الذهاب إلى بيت المقدس وحرب العمالقة وقالوا لموسى كما ورد في التنزيل [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( )، فندموا على قولهم وتخلفهم عن القتال مع أن نعمة التظليل بالسحاب، ونعمة نزول المن والسلوى والأكل منهما حجة وبرهان ومقدمة للإمتثال لأمر الله ورسوله.
وهذه النعم من مصاديق تفضيل بني إسرائيل، فمع الندم جاءهم الفضل الإلهي، والتخفيف من وطأة الحر وشظف العيش في التيه مدة ليست بالقليلة إذ بقوا فيها أربعين سنة.
وورد لفظ [ظَلَّلْنَا] مرتين في القرآن كليهما في ذات الموضوع، إذ جاء في سورة الأعراف ولكن بصيغة الغائب “وظللنا عليهم”( ).
وأختتمت كلتا الآيتين بقوله تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] أي أن الله عز وجل يذّكر عباده بنعمه عليهم كي يشكروه ليزيدهم من فضله، ووردت في هذه الآية أربعة من النعم على بني إسرائيل هي :
الأولى : التظليل عليهم بالسحاب.
الثانية : نزول المن.
الثالثة : نزول طائر السلوى.
الرابعة : الأمر الإلهي لهم بالأكل من الطيبات .
ومن الآيات إن كل نعمة منها متجددة كل يوم وهي إنحلالية على كل بني إسرائيل، فلم تحجب عن بعضهم، ولا يستطيع سبط أن يحجبها عن سبط آخر.
وفي هذه النعم مسائل :
الأولى : كل نعمة تذكر بالله عز وجل، وتدعو إلى عبادته وطاعته وطاعة رسوله.
الثانية : كل نعمة متجددة كل يوم.
الثالثة : إتصال وإستمرار هذه النعم ما داموا في التيه.
الرابعة : لم تنقطع نعمة المن والسلوى إلا عندما قالوا [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] ( ) وإتجهوا صوب مصر.
وجاء ذكر “المن” في القرآن ثلاث مرات، كلها في نزوله على بني إسرائيل، وإقترن معه فيها طائر السلوى، قال تعالى [وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]( ).
لقد بدأت الآية بذكر الغمام ونعمة التظليل ، وقدمته على المن والسلوى, وفيه مسائل :
الأولى : الغمام نعمة مستديمة طيلة ساعات النهار، وفيه دعوة لهم للهداية والتقوى، وكأنه سكن وبيت عام لهم.
الثانية : أراد الله عز وجل لهم أن يأكلوا مما ينزل من السماء، وهم في سكينة وغبطة.
الثالثة : إن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم، فشدة حر الشمس تسبب الأذى لبني إسرائيل، فتفضل الله ووقاهم الحر والبرد بالسحاب، وكان بنو إسرائيل خلقاً عظيماً، وهم إثنا عشر سبطاً، ومع الحر والجوع في التيه تحدث فتنة بينهم، وقد لا يستجيب شطر منهم لموسى، ولقال بعضهم إن وجودهم في مصر وتحت عذاب فرعون أهون عليهم من شدة الحر والجوع لسنوات عديدة في التيه، فتفضل الله عز وجل وأنعم عليهم بالسحاب والطيبات.
وإنتقلت خاتمة الآية الى لغة الغائب وهو المسمى في علم البديع “الإلتفات” لبيان حقيقة وهي ان الله عز وجل لم يقطع أو يحجب النعم عن بني إسرائيل، وهم في التيه، بل كانوا في أمن وسلامة تأتيهم المائدة يومياًً من السماء [وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ).
وتتضمن خاتمة الآية الحجة عليهم مع لغة التحذير والإنذار لذا جاءت خاتمة الآية التالية بالترغيب بالعمل الصالح والوعد بالزيادة بالنعم بقوله تعالى [وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ].
من غايات الآية
تتضمن الآية بيان عظيم فضل الله على بني إسرائيل، وتعدد النعم عليهم، وكل نعمة آية حسية متجددة، وتلك آية أخرى في الفضل الإلهي، فلم تكن نعم التظليل بالغمام متحدة، بل كانت متعددة ومتجددة، وهذا التعدد مصداق لتوالي النعم، وبرزخ دون الشك والريب ونسبتها الى الأمور الكونية والأحوال المناخية خصوصاً وأنها تتغشاهم في الصيف وأيام الحر والقيض.
ولو كان الأوان موسم أمطار ففي السحابة التي تظلل ببني إسرائيل وجوه :
الأول : تأتي سحابة ممطرة في الشتاء وموسم الأمطار فتمطر بني إسرائيل.
الثاني : ذات السحابة غير الممطرة تتغشاهم فلا يصل إليهم ماء المطر والبلل، وهم يرون المطر ينزل حواليهم.
الثالث : يصيب بني إسرائيل المطر، ولكن الثلج والبرد لا ينزل عليهم من السماء لإنكشافهم لها.
الرابع : ينزل عليهم المطر القليل دون الكثير الذي يسبب الأذى , والظاهر الثاني أعلاه لأصالة الإطلاق وان الغمام يتغشى بني إسرائيل في كل الأحوال ويمطرون من حولهم مع وقاية الغمام لهم من حر الشمس والمطر والبلل.
وكذا بالنسبة لنعمة المن والسلوى فانها آية ظاهرة ومعجزة حسية متكررة تدعو بني إسرائيل إلى التقيد بأحكام التوراة وإجتناب تحريفها وما فيها من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتؤكد الآية غنى الله تعالى عن العالمين، وعظيم سلطانه، ومن أسمائه تعالى [الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ].
التفسير
قوله تعالى [ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ ]
نعمة أخرى تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل، وهي مصاحبة نعمة السحاب لبني إسرائيل في التيه وتتعلق بحياتهم الدنيا من حيث رفع المشقة والنكد في مواجهة أحوال الطبيعة القاسية ولبيان نعم الله تعالى عليهم وانها لا تنحصر بالجانب العقائدي بعد أن إبتلاهم الله عز وجل بالتيه كما في قوله تعالى [ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ.. ]( ).
وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين وهي إثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، ويكون الميل الواحد خمسة كيلومتراً ونصف تقريباً.
لقد كان السحاب لهم وقاءً من حر الشمس. وعن ابن عباس ومجاهد: لم يكن بالسحاب ولكنه الذي عين في قوله تعالى [ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ ]( )، وهو الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر، ولم يكن لغيرهم. قال ابن عباس : كان معهم في التيه( )، ولكن الغمام الذي ذكر فيما يخص قوله تعالى [ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً ]( ).
والإشتراك بينهما في المعنى اللغوي والآية الكونية له مجرداً عن الخصوصية، أما الوجود اليومي الدائم فكان آية وفضلاً منه تعالى، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام تفسير آخر للغمام في قوله تعالى [ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ]( ).
والأقرب ان الغمام في المقام هو السحاب المتعارف حملاً لمنطوق الآية على المعنى الظاهري ولعدم ثبوت قرينة صارفة، وهل الغمام الذي ظلل به بنو إسرائيل رقيق كما ذهب إليه بعض المفسرين، أم أنه كثيف كما قال آخرون، وأن التظليل لا يحصل إلا به ليمنع من حر الشمس.
ونضيف إليه وجوهاً :
الأول : هل كان منخفضاً وقريباً من رؤوسهم، أم كان مرتفعاً في عُلُوه.
الثاني : وهل كان متحركاً حركة سريعة أو معتادة أو بطيئة، أو أنه ثابت ولا يتحرك إلا معهم.
الثالث : هل هو ذو أبعاد وسعة تشملهم وإن تحركوا أو تفرقوا أسباطاً أو أفراداً، وهل هو دائم ويمكن رؤيته في أي وقت أم أنه لا يُرى إلا أوان الحاجة.
لا نستطيع أن ننفي بعض تلك الوجوه لصلاحيتها مبرزاً خارجياً للآية الإلهية التي هي إكرام بني إسرائيل، فالتظليل والإكرام يحصل بأي وجه من الوجوه أعلاه كنعمة ، لأن المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي وسالم عن المعارضة ولأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم .
الرابع : التباين والتعدد في ماهية وذات الغمام، والقول بأنها مرة كانت كذا، وأخرى كذا، مثلاً مرة يكون الغمام منخفضاً وأخرى مرتفعاً، ونحوه لا يمنع من ترجيح بعضها دون البعض الآخر، والأقرب هو إنخفاضه وتحركه معهم وإتساعه بحسب الحاجة، وتوكيد الآية وإتمام الحجة وأنه يحضر أوان الحاجة.
لقد كانوا في التيه فتفضل الله عليهم بالسحاب يظلهم ويحجب عنهم حرارة الشمس ويسير معهم لحفظهم وبقاء نسلهم وهو من مضامين تفضيلهم.
(وعن الزمخشري : وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى)( )، ولكنه لم يرفع الحديث ولم يذكر سنده وفيه تفصيل لا يتصل بظاهر الآية الكريمة.
لقد أراد الله عز وجل حضور الآيات عند بني إسرائيل وملازمتها لهم في أيام حياتهم في حضرهم وسفرهم، ولبيان ان الفضل الإلهي يدرك العبد في أشق الأحوال فتتغشاه السعادة والغبطة، ويعيش الآيات فيتعاهد ذكر الله تعالى ولا يجزع من الحر والتيه والضياع.
قوله تعالى [ وَأَنزَلْنا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ]
تبين الآية تعدد النعم الإلهية وأنها لا تنحصر بقوانين الأسباب والمسببات، بل أعم , وفيه دعوة للمسلمين والناس كافة لرجاء رحمة الله وإنتظار الخير والرزق مما يطرأ على الذهن، فإذا كان الذين ظلموا أنفسهم يتفضل الله سبحانه برزقهم هذا الرزق الكريم والآيات الباهرات، فان كل انسان يرجو رحمته وان كان فاسقاً ظالماً، فكيف بمن نذر نفسه لتعظيم شعائر الله وحرص على أداء العبادات والفرائض وإمتثل للأحكام الشرعية والسنن التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المن أقوال :
الأول : إنه المن الذي يعرفه الناس يسقط على الشجر، عن ابن عباس.
الثاني : إنه شئ كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد والعسل، عن مجاهد( ).
الثالث : إنه الخبز المرقق، عن وهب.
الرابع : قيل هو الزنجبيل( ).
الخامس : جملة المن ما منّ الله تعالى على عباده مما لا تعب فيه ولا نصب. قاله الزجّاج.
السادس : هو الترنجين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع، قاله الزمخشري( ).
كما في حديث سعيد بن زيد بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين( ).
وبغض النظر عن تأويل مائها وانه أول مطر يجيء في الخريف، وما فيه من لغة التبعيض فان المن له عدة أنواع من الأطعمة، ليكون أقرب الى المن بمعناه اللغوي والإجمالي.
وذلك لا يمنع من الإشارة الى أنه من طعام الجنة وقد نزلت المائدة على عيسى عليه السلام كما ورد في التنزيل [ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ]( ).
وأنزلت المائدة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث الطير، المستفيض عند المسلمين.
لما أبى بنو إسرائيل الذهاب الى بيت المقدس وقتال العمالقة كما ورد في قوله تعالى [ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ] ( ) امتحنهم الله عز وجل بالتيه وهي المفازة يتاه فيها.
وفي الخبر ان موسى عليه السلام مات في التيه. فكانوا يسيرون من الصباح وعند المساء يشعرون أنهم في الموضع الذي غادروه بآية منه تعالى لأنهم كانوا خلقاً عظيماً لا يمكن أن يجتمعوا على عدم الإهتداء إلى الطريق في سنوات، ولكن الله عز وجل كان يرد الجانب الذي إنتهوا إليه من الأرض إلى الجانب الذي ساروا منه.
وعانوا من حرارة الشمس وقساوة الأرض وأحسوا بالندم لما إقترفوا، فتفضل الله عز وجل عليهم بالغمام ليقيهم حرارة الشمس، وأنزل عليهم المن والسلوى فيسقط عليهم من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ويأخذون ما يحتاجونه في يومهم، تساعدهم في ذلك ريح الجنوب التي تحشره عليهم.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ” كان ينزل المن على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى بعد طلوع الشمس( ).
ولا يعني هذا أن هذه الساعة خصصت لنزول الرزق من تلك الحادثة، إنما هي مسألة كونية وهداية تكوينية سابقة ولاحقة لها، لذا وردت النصوص بالحث على الإنتباه في هذه الساعة والإجتهاد بالدعاء والذكر والتسبيح فيها.
وفي تفسير علي بن إبراهيم قال : “لما عبر بهم موسى عليه السلام البحر نزلوا في مفازة فقالوا : يا موسى أهلكتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل فيها، ولا شجر ولا ماء، فكانت تجيئ بالنهار غمامة تظلهم من الشمس، وينزل عليهم بالليل المنّ فيأكلونه، وبالعشي يجيء طائر مشوي فيقع على موائدهم فإذا أكلوا وشبعوا طار عنهم”.
فنسبوا ما أصابهم من الأذى والإبتلاء إلى موسى عليه السلام الذي كان يدعوهم إلى الهدى والإيمان وما فيهما من الفلاح والتوفيق والعز والرشاد، ويقولون هذا بعد أن رأوا الآيات الباهرات مثل نجاتهم وهلاك فرعون وجنوده.
ومع ما في هذه النسبة من الجهالة ترى موسى عليه السلام لا يتردد في التوجه بالدعاء لهم، كما أن مجادلتهم وخصومتهم لم تمنعه من توبيخهم لاسيما وأن موسى عليه السلام لا تأخذه في الله لومة لائم فكانت وظيفة النبوة تتجسد بالدعوة إلى الله وما فيها من الوعد والوعيد , وإتخاذ سلاح الدعاء رفيقاً وعوناً ورحمة مع علمه وإياهم بأن الله عز وجل يستجيب له، وكذا الأنبياء في قومهم غالباً ما يقابلون الأذى بالعفو وسؤال الرحمة مطلقاً من غير أن يحصروا متعلق الدعاء.
قوله تعالى [ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ]
ورد هذا اللفظ في ثلاثة مواضع أخرى من القرآن، مرة خطاباً للذين آمنوا( )، ومرتين( ) تتعلقان ببني إسرائيل في ذات الموضوع. قال تعالى [ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ]( ).
وفي الآية إنذار وتحذير من إتصال تجاوز الحد بما في ذلك البقاء على العناد والصدود، وقد يصح القول أن بين الشكر والجحود واسطة وهي غياب الحالتين مما قد يستحق التنبيه.
وفيها تفصيل للنعمة المركبة، فمع إنزال المن والسلوى نعمة أخرى هي الإنتفاع اليومي المتصل من تلك النعمة في مدة التيه التي إستمرت أربعين سنة ومن غيرها أيضاً. والآية تشير إليه في موضوع الشرب إلى جانب الأكل خاصة وأنهم كانوا في صحراء وتيه، ولعل في السحاب مطراً، وقد لا ينحصر الشرب ونعمة وجوده يومئذ بما يتدفق من الحجر.
وظاهر الآية يدل على كثرة النعم كماً وكيفاً، ولا غرابة في كثرتها من حيث جهة الصدور ومناسبتها لأن الله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب إبتداءً ومن غير إستحقاق، وهي بشارة وباب للأمل لنيل المسلمين تلك النعم والمحافظة عليها بالتقوى والهداية، وذات الباب مفتوح لبني إسرائيل أيضاً ولكن بواسطة الإسلام ولبس ردائه المبارك ونبذ العتو والجحود الذي قابلوا به تلك الآيات.
أى أن تلك النعم التى جاءتهم بموسى عليه السلام إبتداءً أو لمدة كانت محدودة بسبب عصيانهم وعدم إمتثالهم للأحكام التي بعث بها بإمكانهم إقتناؤها بها وبقاؤها عندهم مستديمة بانخراطهم في جماعة المسلمين.
والقدر المتيقن من الخطاب أنه خاص ببني إسرائيل، ولكنه عام يشمل الناس جميعاً لأن الله سبحانه يرزق برهم وفاجرهم , والطيبات من الكلي المشكك فتشمل ما ينزل من المساء، وما يخرج من الأرض وما يأتي بالأسباب والعلة المادية وما به الوجود.
ولقد إشترك الناس جميعاً بنعمة المطر النازل من السماء وإنتفعوا منه أحسن إنتفاع بالذات والواسطة , قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ]( )، ونزل القرآن فتلقاه المسلمون بالقبول وجاهدوا لتثبيت أحكامه إلا أن فوائده تتغشى الناس جميعاً وكل جماعة وأمة تأخذ منه بقدر مخصوص ولو بالواسطة والإعتبار من المسلمين في الحث على اللجوء الى الله تعالى
قوله تعالى [ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ]
أي في الجحود والتعدي وكفران النعم ولا يضرون إلا أنفسهم، لأن خزائن الله عز وجل لا تنقص وانما رزقهم كل هذه النعم لا لحاجة منه تعالى اليهم، فواجب الوجود غير محتاج، والإحتياج من سمات الممكن، ويصدر الظلم من الضعيف , والله تعالى منزه عن الظلم، ولكنه تعالى أراد ان يستعبدهم بهذه النعم ويهديهم ويكونوا عوناً للنبوة.
وفي الآية إخبار للمسلمين وللناس جميعاً بأن صدهم وإعراضهم عن الإسلام إضرار بأنفسهم، ولن يوقفوا تنامي وإنتشار الدعوة الإسلامية. فهي إنذار لبني إسرائيل لما في تعريض أنفسهم ورزقهم للضرر الخالي من النفع بالجحود بالرسالة الإسلامية.
إن إشراقة الإسلام وما خصهم الله بآيات من القرآن مناسبة كريمة لهم للإستدراك والتدبر والندم وإظهار التوبة، وفي الآية تحذير لهم إذ نعتهم الله عز وجل بالظلم مع تخويفهم من الإستمرار على تجاوز الحد وإصرارهم على ظلم وإيذاء المؤمنين وان مثل هذه الأفعال لا تضر عواقبها إلا أهلها.
ويدل البيان التفصيلي لجملة من النعم التي رزق الله بني إسرائيل ومجيئها بلغة الخطاب على عنايتهم البالغة بما ينزل من آيات القرآن وهو يعني ضمناً اقرارهم بصدق النبوة , وفيه شواهد كثيرة , وفي التنزيل[أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ] ( ).
وجاءت خاتمة الآية إعجازاً إضافياً وشاهداً على تخلف بني إسرائيل عن شكر الله تعالى على النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، ومن مضامين ظلمهم لنفسهم إصرارهم على عدم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه جاء بالآيات والمعجزات من عند الله تعالى.
وتتضمن الآية لغة الإنذار والتخويف لبني إسرائيل لذا فان التذكير بالنعم نعمة وفضل إلهي عليهم ودعوة للإنابة والتوبة، والتوجه بالشكر إلى الله تعالى على النعم بالإيمان بالنبوة والتنزيل.
وتتضمن الآية قسمين :
الأول : بداية ووسط الآية وما فيها من بيان النعمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل .
الثاني : نعتهم بظلمهم لأنفسهم، وتنزيه مقام الربوبية عن الظلم مطلقاً قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ]( )، وذكر عدم ظلم الله تعالى لهم نعمة إضافية على بني إسرائيل.
ترى ما هي الصلة بين القسمين، الجواب هو الإشارة إلى تخلف بني إسرائيل عن شكر هذه النعم، وعدم إتخاذها وسيلة للعبادة والصلاح لله تعالى لذا جاءت الآية التالية بالأمر الإلهي بإظهار معاني العبادة والخشوع لله تعالى على الجوارح واللسان بقوله تعالى [وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ] ومن الإعجاز وأسباب الحجة عليهم أن تتضمن الآية التي بعدها تبديلهم القول الذي أمروا به , ولو على نحو السالبة الجزئية.
قوله تعالى[ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَريَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]الآية 58.
القراءة والإعراب واللغة
(قرأ أبو جعفر ونافع يغفر بالياء المضمونة( )، ومنهم من قرأ بالتاء أيضاً وعلى البناء للمفعول، والباقون بالنون وهو الأنسب في سياق الآيات والعطف المتعلق بالنعم، والمشهور بين القراء إظهار الراء عند اللام كما في نغفر لكم.
وقرأ ابن أبي عبلة حَطة بالنصب على الأصل بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة.
وإذ : (تقدم إعرابها)، قلنا : فعل ماض وفاعل، والجملة في محل جر باضافة الظرف (إذ) إليها، ادخلوا : فعل أمر مبني على حذف النون، الواو : فاعل، والجملة في محل نصب مقول القول، هذه: الهاء حرف تنبيه ، وهذه اسم إشارة في محل نصب على المفعولية.
فكلوا : الفاء: حرف عطف، كلوا، عطف على ادخلوا، منها: جار ومجرور متعلقان بكلوا، وحيث ظرف مكان، وهو اسم مبني وانما حرك آخره لإلتقاء الساكنين، وهو بمنزلة حين في الأزمنة، وحيث شئتم أي أين شئتم.
شئتم : فعل ماض وفاعل، والجملة في محل جر باضافة الظرف اليها (حيث)، رغداً : مفعول مطلق او حال، وادخلوا : عطف على ادخلوا هذه، ويجوز ان تكون للإستئناف وهو الأرجح.
الباب : مفعول به، سجداً : حال، وقولوا : عطف على وادخلوا، حطة : خبر لمبتدأ محذوف، اي مسألتنا حطة، والجملة الإسمية مقول القول، نغفر : فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، لكم : الجار والمجرور متعلقان بنغفر، خطاياكم : مفعول به.
وسنزيد : الواو : إستئنافية، نزيد : فعل مضارع، وفاعله : ضمير مستتر تقديره نحن، المحسنين : مفعول به.
القرية بدل من اسم الإشارة.
وحطة مرفوع على الحكاية، (وعن الزجّاج والزمخشري أنه خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة) والرفع هنا أو العدول إليه يفيد معنى الثبات وإتصال الحط ودوامه. وأساس الإختلاف راجع إلى علم التفسير والمقصود من الكلمة في الآية، ولا مانع من كثرة الوجوه النحوية لتعدد المضامين التفسيرية للآية.
وهو مصدر على وزن فعلة من حط الشئ يحطه إذا أنزله، وفي الحديث: من ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو له حطة، أي تحط عنه خطاياه وذنوبه( ).
والدخول معروف وهو الولوج، ونقيضه الخروج.
والقرية : الضيعة والمدينة سميت به لأن الماء يقرئ فيها أي يجمع لساكنيه , ومعناها أعم.
(وقال الخليل– القرية والقِرية بفتح القاف وكسرها لغتان والكسر لغة يمانية)( )، ويجمع القرية على قرى من غير قياس، ومن ينسب الى القرية يقال قروي – بفتح القاف والراء – وأم القرى من أسماء مكة شرفها الله تعالى، وعرفاً يُقال للمجمع الريفي الصغير القرية. والمدينة والبلد أكبر.
في سياق الآيات
بيان لنعمة أخرى على بني إسرائيل وفيها ترغيب وحث ووعد بالزيادة في النعم وتواليها , وكأنها خالية من الإبتلاء والإمتحان الا صرف الطبيعة.
لم يبق بنو إسرائيل في التيه مع ما تغشاهم فيه من النعم الظاهرة والباطنة فتفضل الله سبحانه وأمرهم بدخول عالم الحضر والمدن ليكونوا دعاة الى الله ويساهموا في إستقرار كلمة التوحيد في الأرض.
وتبين الآية قانوناً ثابتاً وهو ملازمة النعم التي تأتي بالإعجاز لبني إسرائيل، وهي لا تنفك عنهم في البدو والحضر، ولتكون دعوة سماوية متصلة ودائمة للإيمان، وحجة عليهم.
ومن الآيات أن القرآن جعل حجة هذه الآيات عليهم مستمرة ودائمة الى يوم القيامة، وجاءت الآية التالية بلغة التبعيض في ظلم النفس، والإخبار بأن فريقاً من بني إسرائيل ظلموا أنفسهم.
ويفيد الجمع بين الآية السابقة وهذه الآية أن الذين ظلموا عصوا أمر الله عز وجل في دخول الباب شطر منهم وليس الجميع ويدل عليه التقييد بالتبعيض في ذات الموضوع والوارد في سورة الأعراف[فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ]( )، والقرآن يفسر بعضه بعضاً, وفيه المطلق والمقيد، ومن إعجاز القرآن أن إرادة معنى التبعيض في الذين ظلموا ظاهرة أيضاً في سورة البقرة قبل أن تصل النوبة للرجوع إلى المقيد، إذ جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب , وأختتمت بقوله تعالى(وسنزيد المحسنين) فلابد من تحقق مصداق على الإحسان وعلى نحو متعدد في المخاطبين لأنها وردت بلغة الجمع , وهل يشمل معنى الإحسان الذين عاصروا النبي محمدا من بني إسرائيل.
ويبين نظم الآيات توالي النعم على بني إسرائيل وتكاملها فالنجاة من آل فرعون مطلوبة بذاته، كما في قوله تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ]( )، وهذه النجاة نوع طريق لنعم إضافية أخرى، كل واحدة منها لا تأتي إلا بمعجزة خارقة تدل على التوحيد وصدق نبوة موسى عليه السلام، ولزوم التصديق بالبشارات التي جاء بها، وبعد نعمة الفحام في التيه تضمنت آية البحث الأمر إلى بني إسرائيل الحضر ليكون كذات العيش في مصر وعمرانها مع فارق عظيم وهو أن سكن بني إسرائيل في القرية بعز وخال من الذل والهوان.
إعجاز الآية
تبين الآية امكان توالي النعم واتساع الفضل ومراتبه باعلان الإيمان وكيف ان بني إسرائيل تخلفوا عنها تقصيراً.
وتمنع الآية من اليأس والقنوط من رحمته تعالى، وتخبر عن بقاء باب التوبة مفتوحاً الى يوم القيامة.
وفي الآية وجهان :
الأول : تأتي بعض النعم الإلهية مقيدة بفعل مخصوص يدل على الإيمان والخشوع كما في هذه الآية إذ تؤكد لزوم دخولهم الباب وهم في حال سجود وخضوع وان يقولوا (حطة) كشرط لأمور :
الأول : دخول بني إسرائيل القرية.
الثاني : اكلهم منها غداً.
الثالث : الأمر الجامع لهما أي لدخول القرية والأكل منها رغداً.
الثاني : جاءت النعم فضلاً من عند الله، وغير مقيدة بشرط او قيد، وجاء الواو في [وَادْخُلُوا] للإستئناف، وأن المغفرة مترتبة على دخول الباب في حال سجود وخضوع مع قولهم حطة.
والواو في (وادخلوا) هي واو عطف، ولكن الواو في [وَقُولُوا حِطَّةٌ] للإستئناف فتكون مغفرة خطايا بني إسرائيل مترتبة على قولهم حطة.
والأرجح هو الوجه الثالث أي أن الواو في (وادخلوا) للإستئناف لتكون نعمة دخول القرية والأكل من أي موضع أو نعمة منها من غير تقييد او منع، وفي الآية هداية وإرشاد الى سبل نيل المغفرة والعفو من الله .
والنافلة في الفضل بأمرين :
الأول : دخول الباب في حال سجود .
الثاني : قول حطة.
وفيه نوع إكرام وتفضيل لبني إسرائيل وتخفيف عنهم.
ويمكن تسمية الآية بآية (حطة) وورد هذا اللفظ مرتين في القرآن وبذات الموضوع، وجاء قول(حطة) على دخول الباب في سورة الأعراف بقوله تعالى[وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا]( ).
الآية سلاح
دلالة الآية على توالي النعم على بني إسرائيل وتعددها سلاح بيد المسلمين للاحتجاج عليهم ومعرفة ما قابل به الإسلاف النعم العظيمة، وهي عبرة للمسلمين بلزوم الإمتثال والإنصياع للإمر الإلهي وإستثمار النعمة رجاء المزيد , ومقدمة وتمهيد لتعاهدهم النعم التي تترى عليهم بمقامات[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بتقريب أن النعم التي تنزل على خير أمة هي أعظم النعم، وأنهم يتصفون بأداء الشكر لله عليها ويحافظون عليها بأداء الفرائض والعبادات، ويدل عليه إقتران صفة الأفضلية بهم على نحو الحصر إلى يوم القيامة، فهم في كل زمان [خَيْرَ أُمَّةٍ] وليس من كتاب يتضمن ذمهم أو التعريض بهم.
وتبعث هذه الآيات الرجاء في قلوب المسلمين لنيل النعم الظاهرة والباطنة والتي تأتي بالأسباب أو إبتداء من غير إسباب وكله من فضل الله لأن بني إسرائيل نالوا هذه النعم بفضل الله ولأنه سبحانه أنعم عليهم بتفضيلهم على أهل زمانهم، والمسلمون هم أفضل الأمم السابقة واللاحقة وتدل الآية أعلاه مما يعني نيلهم الرزق الكريم من عند الله، وفوزهم بالمغفرة والعفو الإلهي.
وفي الآية دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام والتصديق بالقرآن، وإجتناب العناد والجحود والصدود.
وهذه الآية من عمومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، من وجوه:
الأول: الآية من الدعوة إلى الله ببيان فضله على أمة من الموحدين، وعنايتهم بهم في توجيههم إلى الجهة والموضع الذي يسكنون ويقيمون فيه، ليدل على أن توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأوائل وأهل بيته إلى المدينة المنورة كان بلطف وعناية من الله عز وجل وأن ما رزقه الله سبحانه للأنبياء، وأتباعهم من الأمم السابقة رزقه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فإن قلت إن موسى وهارون ماتا في التيه قبل دخول القرية، والجواب من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين تحقق الهجرة وبناء صرح الدولة الإسلامية في المدينة قبل أن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
ويتصف بنو إسرائيل بكثرة بعث الأنبياء فيهم(وروي أن هارون مات في التيه. ومات موسى بعده فيه بسنة. ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر. ومات النقباء في التيه بغتة، إلا كالب ويوشع)( ).
الثاني: الآية من وجوه ومصاديق الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل لما يتجلى فيها من بيان النعم الإلهية على بني إسرائيل، وجعل هذا البيان دعوة إلى تعاهد التوحيد وإلى الإيمان.
الثالث: الآية من الموعظة الحسنة في تهذيب النفوس، وإصلاح المجتمعات، ودعوة بني إسرائيل إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: الآية من الجدال والإحتجاج على بني إسرائيل بالأحسن، والأفضل وهذا الحسن من وجوه:
الأول: الإحتجاج بذكر النعم العظيمة على بني إسرائيل.
الثاني: بيان فضل المسلمين بالتقيد بالأوامر الإلهية وقول ما يؤمرون به ومنها أداء الصلاة بقراءتها وركوعها وسجودها، والفرائض الأخرى، وفي كل عام يقف المسلمون عند مواقيت الحج ويحرمون بالتلبيات الأربعة التي تتجلى فيها أسمى مصاديق العبادة وهي(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) وهو من عمومات الإمتثال في قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، فقد فرض الله عز وجل الحج على المستطيع من الناس، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(خذوا عني مناسككم)( ).
الثالث: دعوة بني إسرائيل للشكر لله عز وجل على النعم التي خصهم الله عز وجل بها.
الرابع: يتجلى الحسن يكون ذكر فضل نعمة الله على بني إسرائيل بدخول القرية من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
مفهوم الآية
من مفاهيم الآية أنها تأديب للمسلمين وتنبيههم على لزوم عدم التفريط في الأوامر سواء كانت تكليفية او ارشادية والتبصر بعلل الأحكام والحكمة منها وما يترتب على إمتثالها من عظيم النفع بالإضافة الى دلالتها على حسن الإنقياد والتسليم والإقرار بالربوبية وان الأنبياء جاءوا بالأحكام والسنن من عنده تعالى.
ومن مفاهيم الآية ان الله عز وجل لم يترك بني إسرائيل في التيه بل هداهم لدخول القرية، وهذا الأمر يعني في دلالته الإلتزامية تهيئة أسباب الدخول ومنع أهل القرية من التصدي لهم وصدهم عن دخولها خصوصاً وان الكثرة من الناس اذا دخلت بلدة تؤثر سلباً على الحالة الإجتماعية والنظام المعاشي فيها , وقد جاء بنو إسرائيل بعد الخروج من مصر والتيه في الأرض، فتتنافى الطباع والعادات والقرائح، والملة، لذا فان أهم الوظائف التي تجب على بني إسرائيل حينئذ تعاهد الإسلام ونبذ الشرك.
وفي الآية مسائل :
الأولى : توجه الأمر الإلهي لبني إسرائيل بدخول قرية مخصوصة.
الثانية : إقتران الأمر بدخول القرية بضمان الأكل من الطيبات.
الثالثة : نعت الأكل بأنه وعد , وفيه مسائل :
الأولى : إنه وعد كريم من عند الله عزوجل لبني إسرائيل في دخوله بيت المقدس.
الثانية : طرد الخوف من نفوسهم، والخشية من حال الفقر والعوز والحاجة عند دخولها.
الثالثة : توكيد ملازمة النعم الإلهية لهم سواء كانوا في التيه أو داخل البلدة.
الرابعة : بيان البركة التي جعلها الله في بيت المقدس، وهو من مصاديق قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( ).
الخامسة : عدم الحصر في مواضع الطيبات وأكل النعم، ويتجلى الإطلاق المكاني في تيسير الأكل والطيبات بقوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمَ].
السادسة : الأمر الإلهي بان يدخل بنو إسرائيل الباب وهم في حال سجود وخضوع لله تعالى.
السابعة : أن يقولوا اثناء الدخول (حطة).
الثامنة : الوعد الكريم لبني إسرائيل بالمغفرة عند تقيدهم بالأوامر الإلهية التي ذكرتها هذه الآية وفي ثلاثة :
الأول : دخول القرية.
الثاني : دخول الباب في سجود وخشوع.
الثالث : تلفظهم بقول مخصوص , ويسمع بعضهم بعضا ليكون هذا التلفظ شاهدا على حسن الإمتثال , وعلى دخولهم القرية بلباس التقوى, وقد أنعم الله على المسلمين بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم , ومنها صلاة بقراءة جهرية هي صلاة الصبح والمغرب والعشاء , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
التاسعة : الأكل من الطيبات فضل من الله، ونعمة مصاحبة للأوامر الإلهية وعون لبني إسرائيل عند الإمتثال لها , وهو شاهد على قاعدة كلية في فضل الله عزوجل على بني إسرائيل تتجلى بوجوه :
الأول : ملازمة النعم الإضافية المتعدد للأمر الإلهي المتوجه اليهم، كي يسهل عليهم الإمتثال والأداء، وفيه غاية التخفيف.
الثاني : مصاحبة الوعد الكريم للأمر الإلهي فحالما يؤدي بنو إسرائيل ما أمرهم الله به فانه سبحانه يغفر لهم خطاياهم.
الثالث : اليسر وإنعدام العسر والشدة في أفراد التكليف الإلهي لبني إسرائيل، فدخول القرية نعمة وتخفيف.
الرابع : البشارة بالزيادة والفضل الإضافي لمن أحسن من بني إسرائيل.
العاشرة : الإشارة إلى الفضل الإلهي على من يتعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويصدق به حين بعثته، وفيه إحسان للذات وللغير ومنهم أبناء وذرية الذي يعلن إسلامه لتوارث ذريته الإسلام.
الآية لطف
يدل تعداد النعم الإلهية على بني إسرائيل في هذه الآيات على موضوعيتها ولزوم تجلي آثارها بتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء بخصوصها من البشارات في التوراة، ولظهور المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الآية الكريمة تذكير بنعم الله على بني إسرائيل، وتتضمن اللطف الإلهي من وجوه :
الأول : ا لعناية الإلهية ببني إسرائيل، وتفضل الله تعالى بتعيين موضع سكنهم وإرشادهم إلى مكان من أفضل البقاع على الأرض وهو بيت المقدس، ليدخر الله سبحانه أشرفها وأفضلها وهو البيت الحرام لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : جاءت الآية بذكر القرية على نحو التعيين (هذه) لمنع اللبس والترديد والإختلاف في إختيار المكان.
الثالث : مخاطبة الله عزوجل لبني إسرائيل مباشرة، وفيه حجة عليهم في لزوم تعاهد هذه النعمة العظيمة، والتي إنتقلت بنزول القرآن إلى المسلمين كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]، وقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] والأصل أن ينتقل بنو إسرائيل إلى منازل التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى صيغة الخطاب الإلهي تتوجه إليهم إلى يوم القيامة بإعتبارهم من المسلمين.
الرابع : البشارة بالمغفرة عما سلف من الذنوب والخطايا، وإتخاذهم العجل، وسؤال رؤية الله، وظلمهم لأنفسهم.
الخامس : تدل الآية على نعمة إضافية على بني إسرائيل، وهي بداية حياة جديدة تتغشاهم فيها النعم والأمن والسلامة مع المغفرة والتوبة من عند الله، ومن أسمائه تعالى [الْغَفُورُ] قال تعالى[نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
ويأتي الوعد الكريم بالمغفرة لتقريب العباد للطاعة، وحثهم على المبادرة الى الإستغفار، ولا تنحصر دعوة بني إسرائيل للتوبة والإنابة بزمان النعمة أيام موسى عليه السلام، وزمان نزول الآية هذه بل هي مصاحبة لهم تطل عليهم في كل يوم تدعوهم للتوبة والإنابة.
وصحيح أن الآية جاءت بخصوص بني إسرائيل وتذكيرهم بالنعم الإلهية، إلا إنها عامة وشاملة في مضامينها، فهي تدعو الناس جميعاً للتوبة والفوز بمرتبة محو الذنوب والخطايا، ويتجلى هذا الفوز ونيل المغفرة بدخول الإسلام، وإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية حث على الإحسان ويتجلى في المقام بوجوه :
الأول : الإمتثال التام لما في الآية من الأوامر.
الثاني : حث الآخرين على التقيد بأحكام الآية.
الثالث : المبادرة إلى الإمتثال في القول والعمل.
الرابع : تعاهد سنن الشريعة بعد الإمتثال للأوامر الإلهية في هذه الآية، فمن أفراد الإحسان في المقام البقاء على الخشوع والطاعة لله، وإستدامة الإمتثال للأوامر الإلهية.
الخامس : تعاهد التوراة، وعدم تحريفها.
السادس : التصديق بالبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه عند بعثته.
إفاضات الآية
لقد جاء الإسلام ليفتح للمسلمين الأمصار داعين الناس الى الشهادتين والعمل بأحكام السماء، وما مرت سنوات على بداية البعثة النبوية حتى ساد الإسلام القرى والمدن في الجزيرة وما حولها وتلقى أهلها أحكام العبادات والمعاملات بقبول ورضا، وإجتهدوا في عبادة الله وهو من أفضل مضامين الإحسان الذاتي.
وإذ جاءت الآيات السابقة بحث بني إسرائيل على ذكر نعم الله تعالى على بني إسرائيل، فان هذه الآية جاءت بنعم متعددة وهي :
الأول : الأمر الإلهي بدخول القرية وهي مسائل :
الأولى : نجاة بني إسرائيل من التيه وإنقضاء مدته.
الثانية : تعيين القرية والبلدة التي يدخلون إليها.
الثالثة : لولا هذا التعيين لحصل إختلاف كبير بين بني إسرائيل في إختيار الموضع والبلد الذي يتجهون إليه، ولإفترقوا وإختار كل سبط بلدة معينة، ولقام بعض أهل تلك البلدان بطردهم وإخراجهم منها.
الرابعة : يدل اسم الإشارة (هذه) على قرب القرية المكاني، وفيه تخفيف عن بني إسرائيل.
الثاني : إباحة الأكل في القرية، ويدل في مفهومه على أمور:
الأول : إنعدام التعب والنكد والعناء في طلب الرزق وأسباب الكسب.
الثاني : النجاة والسلامة من ظلم وعذاب آل فرعون، فقد كانوا في مصر يقيمون في بلدة وعمران , ولكن هذه الإقامة مقترنة بالعذاب والأذى، وجاء دخول القرية مع إباحة الطيبات وهو دليل على عدم وقوع بني إسرائيل تحت وطأة ظلم آل فرعون وأمثالهم.
الثالث : دعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله.
الرابع : إتصال النعم على بني إسرائيل وتجليها بآيات حسية ظاهرة، فكما كان المن والسلوى ينزل عليهم من السماء، فان الأكل المباح بكثرة وسعة من القرية نعمة عظيمة، وآية ظاهرة خصوصاً وأنها تأتي لهم جميعاً، والذي يتجلى بصيغة الجمع التي جاءت بها الآية.
الثالث : عدم الحصر والتقييد المكاني أو النوعي في التنعم بالطيبات في القرية، وفيه بعث للسكينة في نفوس بني إسرائيل، وعدم الخشية من منعهم أو الحيلولة دون كل الطيبات.
لقد جاءت العودة والرجوع إلى المدينة تصاحبها النعم عسى أن يشكر بنو إسرائيل الله تعالى عليها، ليكون الشكر وسيلة لدوامها وبرزخاً دون زوالها وضياعها، وجاء التذكير بها في القرآن للإعتبار والموعظة.
الصلة بين أول وآخر الآية
تبين هذه الآية نعمة أخرى على بني إسرائيل، والله تعالى هو المنّان الذي يتفضل على عباده بالنعم ويذكرهم بها، وهذا التذكير نعمة أخرى من عند الله عز وجل من وجوه :
الأول : التذكير بالنعم مناسبة للتدارك والإنابة , قال تعالى[فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ).
الثاني : إستحضار النعمة وان مرت عليها أحقاب من الزمان، إذ تكون بالذكرى حاضرة في الوجود الذهني، وفي المجتمعات.
الثالث : منع إنكار تلك النعم أو الجحود بها.
الرابع : بيان مصاديق تفضيل بني إسرائيل على الأمم الأخرى من أهل زمانهم، فليس لأحد أو جماعة أن تنفي هذا التفضيل بعد مجئ الآيات القرآنية بذكر النعم الخاصة التي نالها بنو إسرائيل كأمة وأهل ملة.
الخامس : توكيد رشحات تلك النعم على الأجيال اللاحقة من بني إسرائيل، وهو الذي يتجلى بصيغة الخطاب في الآية.
السادس : دعوة المسلمين للإتعاظ من الأمم السالفة.
السابع : حث المسلمين على الإلتفات إلى النعم الإلهية عليهم، ومقابلتها بالشكر لله تعالى.
الثامن : دعوة بني إسرائيل للتصديق بنزول القرآن من عند الله، لما فيه أمور من الغيب، وقصص لا يعلمها إلا الله , قال تعالى[ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( ).
التاسع : توكيد بطلان التحريف وإنعدام أثره، فهذه الآيات تفضح التغيير الذي جرى على تلك القصص، وفيه مسائل :
الأولى : حاجة بني إسرائيل والناس للقرآن فهو نعمة من عند الله.
الثانية : حث الناس على الرجوع الى القرآن والصدور عنه.
الثالثة : توكيد مضامين خاتمة الآية السابقة [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] فتحريف الوقائع لن يضر إلا أصحابه، وقد جاء القرآن بذكرها على حقيقتها، وبيان النعم العظيمة التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، وكذا التحريف في التنزيل والبشارات التي جاءت في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لا يضر إلا أهله .
إذ جاء القرآن بالآيات التي تدل على صدق نبوته، وتوكيد البشارات الواردة في نبوته، ودعوة التوراة والإنجيل والأنبياء السابقين إلى تصديقه ونصرته وإتباعه.
لقد جاء القرآن وثيقة سماوية لبيان النعم الإلهية على بني إسرائيل رحمة للأجيال اللاحقة منهم، ومحو الآثار السلبية للتحريف والفترة الزمانية بين الوقائع وأيام نزول القرآن وما بعده، لتبقى تلك النعم حية غضة طرية بالقرآن، تدعو المسلمين والناس جميعاً للإعتبار والإتعاظ منها، وتلمس نيل مثلها والله واسع كريم.
وتبين الآية الكريمة أن دخول بني إسرائيل المدينة بأمر من عند الله، وهو نعمة عليهم، وأنهم ما كانوا يتوجهون إلى مدينة مخصوصة إلا بفضل ولطف من عند الله وورد في آية أخرى[ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ]( )،في إشارة إلى بيت المقدس وما جعل الله تعالى فيه من البركة، وما أحاط بالقرية من الأشجار المثمرة.
وهل تشمل هذه النعمة ذراري بني إسرائيل، ومنهم اليهود في المدينة أيام نزول القرآن , الجواب نعم لإستدامة الآثار المترتبة على نعمة دخول القرية بحفظ الآباء والذراري وسلامتهم من عذاب الإستئصال، كما تقدم في بطش آل فرعون بهم الوارد في قوله تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ]( ).
وفي الآية أعلاه شاهد بأن العذاب على وجوه منها قتل الأبناء لذا نعته الله بأنه سوء العذاب وأشده فدخلوا القرية للأمن ولتبقى ذراريهم لحين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبتعاهد وتوارث بشارة موسى وعيسى عليه السلام بنبوته ووصيته بإتباعه ونصرته.
ويدل وصف البلدة بالقرية على عمارتها قبل دخول بني إسرائيل لها، وأن الناس سبقوهم في السكن فيها، لذا قيل كان فيها بقايا من قوم عاد، وهم العمالقة، ورأسهم عوج بن عنق، ويحتمل الأمر بدخول القرية وجوهاً:
الأول : إرادة الإذن الإلهي بالدخول إلى القرية.
الثاني : السكن والإقامة في القرية.
الثالث : السلامة والتخلص من التيه قال تعالى [فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ] ( )، فجاءت موعدة موسى عليه السلام أربعين ليلة وسأل بنو إسرائيل موسى أن يريهم الله جهرة، وتاهوا في الأرض أربعين سنة، كلما أصبحوا ساروا وإذا أمسوا كانوا في مكانهم الذي إرتحلوا منه، وهل من ملازمة بين الأمرين وأن التيه عقوبة على سؤال الرؤية , الجواب لا دليل عليه، وقد قال تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الرابع : إستبدال السكن في مصر بالفزع والذل والهوان والعذاب الذي يلقاه بنو إسرائيل من فرعون وقومه، بالإقامة في بيت المقدس بعز وسكينة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ]( )، والضمير الهاء في من (بعده) يعود إلى فرعون.
الخامس : الإنقطاع إلى عبادة الله تعالى، والعمل بأحكام التوراة في الحضر.
السادس : التخفيف عن بني إسرائيل، وجعلهم يبدأون حياة المدن، ويعملون على تثبيت سنن التوحيد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيها توكيد لفضل الله تعالى على بني إسرائيل بالسكن في بيت المقدس، وأنه لم يأت عن إختيار وإجتهاد منهم بل بوحي وهداية من عند الله تعالى، مما يدل على العناية الإلهية التي تتغشاهم مدة سكنهم فيها بقيد تعاهدهم للشكر لله تعالى، والعمل بأحكام التوراة، والتصديق بما فيها من البشارات، وإجتناب ظلم النفس.
وقد جاء لفظ (قلنا) في الآيات المتقدمة من سورة البقرة أربع مرات كلها في سجود الملائكة لآدم وسكن آدم وحواء في الجنة، وهبوطهما وإبليس إلى الأرض، وجاء لفظ (قلنا) في هذه الآية خطاباً لبني إسرائيل، وذكر نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم وهي الدخول إلى القرية وما في هذا الدخول من البركة التي تترشح من أمر الله تعالى.
وجاء لفظ (قلنا) في القرآن سبعاً وعشرين مرة، كلها قوله لله تعالى يتضمن الوعد والوعيد إلا ثلاثة منها، واحدة حكاية عن أهل الكهف وثباتهم على التوحيد، وإثنتين حكاية عن الكفار.
وجاءت الآية باسم الإشارة (هذه) الذي يفيد القرب والتعيين، وفيه وجوه :
الأول : إنعدام المشقة في الوصول إلى القرية فهي قريبة منهم.
الثاني : منع الترديد والشك والإختلاف بين بني إسرائيل في تعيين القرية.
الثالث : في الآية إخبار عن عدم ترك إختيار لهم في تعيينها، لأن الإختيار سبب للفتنة والشقاق.
وتعيين موضع الإقامة بأمر من الله عز وجل نعمة عظيمة على بني إسرائيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع (ادخلوا) وفيه دلالة على العموم الإستغراقي، وشمول النعمة لبني إسرائيل كافة من أجل غبطتهم وتكاثرهم، ويكون إجتماعهم وإستقرارهم مناسبة للعمل بالتوراة، وطاعة الأنبياء, والإبتعاد عن معالم حياة البداوة.
وجاءت هذه الآية بذكر عدة نعم في موضوع واحد وهي :
الأولى :نعمة الدخول إلى القرية وبداية عهد جديد لبني إسرائيل.
الثانية : نعمة الأكل من ثمار القرية، فجاء قوله تعالى [وَكُلُوا مِنْهَا] والمراد الحبوب والطيبات والأنعام التي فيها، وما حولها.
الثالثة : سعة وكثرة النعم والطيبات في تلك البلدة، ويدل عليه قوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمْ] الذي يفيد الشمول،وتعدد مصاديق النعم والطيبات، وكما جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] وما فيه من معاني السعة والإختيار في الرزق، جاءت هذه الآية بقوله تعالى[حَيْثُ شِئْتُمْ] للإخبار عن كفاية وكثرة الطيبات واللذيذ المباح في تلك القرية رحمة وفضلاً على بني إسرائيل ومنعاً لحصول الفتنة والإختلاف بينهم بخصوص الرزق والطعام.
الرابعة : الرغد والسعة في الأكل من طيبات البلدة، والإستمتاع بطعامها، فبعدد نعمة نزول المن والسلوى من السماء جاءت نعمة الأكل من الطيبات في البلدة بإستمتاع وراحة وسكينة لعموم بني إسرائيل.
الخامسة : تدل مضامين الآية على إرادة السكن والإقامة في البلدة وليس الدخول وحده بالأكل وإختيار مواضع الأكل والسكن والسعة والإستمتاع بالطيبات منها، فجاء الدخول مقدمة للسكن، وإشارة إلى بداية عهد جديد على بني إسرائيل يتصف بالإستقرار والسكينة، والتفرغ لعبادة الله.
السادسة : دخول الباب سجداً، وبصيغ الخضوع والخشوع لله تعالى، فهو وان جاء بلغة الأمر والتكليف إلا أنه نعمة أخرى على بني إسرائيل كمقدمة لتعاهد سنن الإيمان في تلك البلدة، والإخبار عن شرط الخضوع والخشوع لله تعالى في الأكل من الطيبات، وفيه دعوة لبني إسرائيل للشكر لله تعالى على نعمة السكن والإقامة في البلدة.
ومن وجوه تفضيل بني إسرائيل أنهم شهود على كثرة النعم الإلهية التي تنزل بآيات من عند الله، ومن غير أسباب ظاهرة، فيجب أن يكونوا أسوة للناس بالشكر لله تعالى على تلك النعم، ولأن الشكر دليل على الإقرار بان تلك النعم من عند الله، وفيه حرب على الشرك والضلالة.
السابعة : نعمة مصاحبة الخشوع والخضوع لله لتلقي النعم الإلهية، فاذ جاءت الآيات التالية ببيان النعم مع ندب بني إسرائيل إلى الشكر عليها كما في آية سابقة[ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، وقوله تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( )، جاءت هذه الآية بضرورة إقتران العبادة والخضوع لله تعالى لنعمة الدخول للبلدة من وجهين:
الأول : دخول بني إسرائيل الباب وهم في حال السجود والخضوع لله تعالى، عن ابن عباس هو شدة الإنحناء والدخول بحال السجود أو الركوع من مصاديق الشكر الفعلي لله تعالى، وكأنه عهد بتعاهد العبادة والصلاة والتصديق بالنبوات، وإجتناب الإعراض عن الدعوة الى الإسلام لما فيه من وجوب الصلاة الي تتضمن الركوع والسجود وقد تقدم قوله تعالى في سياق هذه الآيات قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( )، كما جاء تجديد الدعوة الى السجود والركوع في مريم عليها السلام بقوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، لتكون أسوة وإماماً لبني إسرائيل في حفظ معالم الخضوع والخشوع لله تعالى، والتقيد بآداب وسنن العبادة والصلاح كمقدمة لولادة عيسى عليه السلام.
الثاني : أمر بني إسرائيل بقول (حطة) ليكون هذا القول شكراً قولياً، ومدرسة في الإستغفار، ومنهجاً في الإنابة والتوبة، فمن فضل الله تعالى على بني إسرائيل تلقينهم صيغ الإستغفار عند نزول النعم ليكون واقية لها، وسبباً لإستدامتها وبقائها ، وبرزخاً دون الجحود بها، لقد جاءت الآية بأوامر وهي على قسمين :
الأول : النعم الإلهية وهي على شعب :
الأولى: دخول القرية والإقامة فيها.
الثانية : الوعد الكريم بالأكل مما فيها من الطيبات بما يكفي حاجة بني إسرائيل وعوائلهم،الموجود منهم والذي سيولد فيما بعد، مما يدل على تضمن الآية الندب إلى كثرة النسل، وتعويض الخسارة والنقص الذي لحقهم بقتل فرعون وقومه لأولادهم، فمن يدرك تيسر المؤونة للأولاد لا يخشى كثرتهم.
الثالثة : جاء قوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمْ] للإشارة إلى التوسعة والإنشطار في الأسر والعوائل، وتعدد السكن، وتمدد البلدة وكثرة بيوتها، فكل واحد منهم يختار المسكن والمكان الملائم له، و(حيث) ظرف مكان، وهو إنحلالي في المقام، فكل فرد وجماعة وسبط يختارون المكان الذي يريدون، والطيبات قريبة من كل موضع منها.
الرابعة : نعمة الإستمتاع بالطيبات بقوله تعالى [رَغَدًا] فمع أنها كلمة واحدة، إلا أنها تدل على نعمة عظيمة متجددة كل يوم، وتتغشى الرجال والصبيان والنساء من بني إسرائيل، فبعد إستحياء آل فرعون لهن، جاءت نعمة التوسعة عليهن وعلى أولادهن مما لذ وطاب من الحلال المباح ليتوجهن مع عموم بني إسرائيل الى الله عز وجل بالشكر والثناء، ويتركن الشكر تركة وعهداً لأبنائهن.
الثاني : الأوامر العبادية ومنها :
دخول بني إسرائيل الباب وهم في حال السجود والخضوع والخشوع لله تعالى، وفيه منع من الإفتتان والإنشغال بالنعم، وزجر عن ترك العمل بأحكام التوراة، وهو تفضيل لبني إسرائيل من جهات :
الأولى : انه نوع شكر حاضر لله تعالى، جاء بأمر منه سبحانه.
الثانية : تأديب بني إسرائيل على الإبتداء والشروع بالأعمال بقول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وفيه تخفيف عن المسلمين وشاهد على تفضيلهم ويدل إلتزامهم وتعاهدهم للبسملة على أنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وفي الحديث : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر( ).
ومن الآيات أن البسملة لم تكن مخترعة في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل جاء الخبر أنها كانت تدّرس في بني إسرائيل وأن عيسى عليه السلام بينها للمعلم والتلاميذ.
كما ورد عن أبي سعيد الخدري أنه قال : “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه فقال له المعلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له عيسى : وما بسم الله، قال المعلم: لا أدري فقال له عيسى : الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة”( )،
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله لتبقى البسملة مصاحبة للوجود الإنساني إلى يوم القيامة، وليتلوها المسلمون كل يوم خضوعاً وخشوعاً لله تعالى، وتسليماً وإنقياداً لأمره وتوكلاً عليه، ورجاء المزيد من فضله وإحسانه لذا أختتمت هذه الآية بقوله تعالى [وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ].
الثالثة : لابد من القول (حطة) حال السجود عند دخول الباب وتقديره (حط عنا ذنوبنا) وفيه وجوه :
الأول : إنه عنوان الإمتثال لأوامر الله تعالى بالفعل والقول.
الثاني : منع إنشغال بني إسرائيل بأسباب الخلاف والشك والجدال.
الثالث : توكيد موضوع الإستغفار والإنابة إلى الله تعالى عند نزول وتوالي النعم، فالآية مدرسة في اللجوء إلى الإستغفار عند النعمة، وهو وسيلة لإستدامتها، ومناسبة لشكر الله تعالى عليها، والتدبر بعظمتها .
الرابع : نطق بني إسرائيل بكلمة واحدة في آوان ومكان وهيئة واحدة، لتكون هذه الكلمة شاهداً على توبتهم وهي من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في رد الله عز وجل على الملائكة الذين قالوا له (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، بإن يرى الملائكة كيف أن بني إسرائيل يتوجهون إلى الله بالإستغفار متحدين ومجتمعين ومتفرقين.
وقد أنعم الله تعالى على المسلمين، وجعلهم يتوجهون الى الله تعالى بالإستغفار وسؤال الهداية إلى الصراط المستقيم عدة مرات كل يوم، والتي تصدر من جميع بقاع الأرض فيتلون جميعاً قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، في القراءة الواجبة في الفرائض اليومية.
لقد أراد الله تعالى أن يذّكر بنو إسرائيل ذنوبهم ساعة النعمة، ليتعاهدوها ويتوبوا إلى الله تعالى منها، فالمواظبة على الإستغفار حرز من تجدد إرتكاب الذنوب.
وأختتمت الآية بالوعد الإلهي المتعدد وهو على قسمين :
القسم الأول : العفو ومغفرة خطايا بني إسرائيل، بقوله تعالى [نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ] وجاءت الآية على نحو الإطلاق في طرفيها , وهما :
الأول : المغفور له، وهم عموم بني إسرائيل.
الثاني : مطلق الذنوب التي إرتكبوها، وهذا الوعد نعمة على بني إسرائيل في ذاته وإطلاقه، وفيه توكيد لموضوعية الإستغفار، والتوبة من الذنوب والمعاصي، وجاء قوله تعالى [نَغْفِرْ] جواباً للأمر، ويحتمل في تعلقه معنيين :
الأول : تقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم.
الثاني : تدخلوا الباب سجداً وتقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم.
وعلى المعنى الأول يكفي قولهم (حطة) لنيل مرتبة مغفرة الذنوب، وعلى المعنى الثاني لابد من إجتماع أمرين:
الأول : دخولهم الباب سجداً.
الثاني : قولهم حطة حال الدخول وهيئة السجود، وقد ذكر لفظ (حطة) في القرآن مرتين في ذات القصة والموضوع إذ وردت سورة الأعراف مضامين القصة، ولكن بلغة (وإذ قيل، بدل: وإذ قلنا) مع تقديم قول حطة على دخول الباب سجداً، وإنفراد هذه الآية من بينهما بكلمة (رغداً).
وهذه الآية من مصاديق تفضيل بني إسرائيل، لما فيها من النعم العظيمة عليهم، وكأن ما رزقهم الله عز وجل مثل الذي رزقه آدم وحواء في الجنة وإن كان أدنى منه رتبة، قال تعالى في آدم وحواء [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا] ( )، ثم جاءت هذه الآية [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا]( ).
وجاء الأمر بالدخول مطلقاً من جهة أفراد الزمان الطولية، فليس لإقامتهم فيها حد، والمدار على تعاهدهم للإقامة بالإيمان والتقوى والصلاح، والتقيد بأحكام التوراة، وتعاهد البشارات، والتصديق بالنبوات , لكنهم بدلوا القول عند الدخول، فجاءت الآية التالية في ذمهم والإخبار عن نزول العذاب بالذين ظلموا منهم .
وصحيح أن (حيث) ظرف مكان إلا أنه في المقام أعم ويشمل الزمان والإختيار من الطيبات في آية من فضل الله تعالى على بني إسرائيل.
إن مجئ الآية التالية بالإخبار عن تبديلهم القول الذي أمروا به يدل على تعلق المغفرة بقول (حطة) المصاحب ، وهو فضل ونعمة إضافية على بني إسرائيل، وفيه إرشاد لهم لسبل الإسغفار وكفاية النطق به والبدء بحياة جديدة تتصف بالإيمان والصلاح.
وفاز المسلمون بالسجود والركوع لله تعالى كل يوم مع الإستغفار والتسبيح، فاذا جاء الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل بدخول الباب وقول حطة، فان الأمر الإلهي توجه إلى المسلمين، للإنحناء وطأطاة الرأس ووضع الجبين على الأرض وقول (سبحان ربي العظيم وبحمده) في الركوع، وقول (سبحان ربي الأعلى وبحمده) في السجود، مع الإستغفار في الصلاة، ليكون ركوعهم وسجودهم عنواناً لميراثهم الأرض، وخروج كنائز الأرض لهم، وخروجهم إلى الناس بالصلاح والتقوى، وهما أي الركوع والسجود مقدمة لدخول الجنة، ونيل مراتب الخلود في النعيم الدائم.
القسم الثاني : الوعد الإلهي الكريم بزيادة المحسنين من بني إسرائيل من فضل الله تعالى، وفيه ندب إلى فعل الصالحات، ودعوة إلى الإحسان فلما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] جاءت هذه الآية بالحث على الإحسان ومحاربة الظلم والفساد، ويحتمل الإحسان وجوهاً :
الأول : الإحسان إلى النفس، بالتقيد بأحكام هذه الآية وما جاء به موسى عليه السلام مطلقاً، ومنه تلقي ونقل البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا.
الثاني : الإحسان إلى الغير من عموم بني إسرائيل بالدعوة الى الصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على تعاهد التوراة، وتصديق البشارات التي جاءت فيها بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : المعنى الأعم، وهو الإحسان إلى الآخرين مطلقاً، والدعوة إلى الله تعالى.
والصحيح هو الثالث، فقد جعل الله تعالى الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ليفوز المحسنون بالثواب والأجر العظيم، وتحتمل زيادة المحسنين وجهين :
الأول : زيادة عدد المحسنين، بإن يصبحوا كثيرين، يستطيعون غلبة أهل المعاصي.
الثاني : زيادة ثواب وأجر المحسنين.
ولا تعارض بين الوجهين ، ومن الآيات في خلق الإنسان وأسرار الإبتلاء في الدنيا أن الأول أعلاه يترشح عن الثاني، فان زيادة أجر المحسنين والوعد بها سبب في كثرة وزيادة عدد المحسنين لأن نفس الإنسان تميل بالفطرة إلى الإحسان، والسعي لنيل الوعد الكريم، لذا جاءت الآية بالحث على الإستغفار وسؤال مغفرة الذنوب ليستطيع المتأخر اللحوق بالمتقدم من بني إسرائيل والناس جميعاً، وجاء الإسلام ليكون باب الإستغفار والتوبة والفوز باللحوق بالصحابة والسابقين من المسلمين مفتوحاً إلى يوم القيامة فضلاً من عند الله سبحانه.
وتحتمل الزيادة في أجر وثواب المحسنين وجوهاً :
الأول : الزيادة في الحياة الدنيا، قال تعالى [وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه] ( )، وتتجلى الزيادة بوجهين :
الأول : ذاتي، بالثبات على الإيمان، وتعاهد الإستغفار، والمبادرة إلى فعل الخيرات، والتصديق بالنبوات.
الثاني : غيري: صيرورة المحسن مرآة للهداية والإمتثال لأحكام التنزيل، وإماماً يدعو الناس إلى الهداية والرشاد.
الثاني : الفوز بالزيادة والفضل الإلهي في الآخرة، بمضاعفة الثواب إذ يأتي الثواب على أقسام :
الأول : الإمتثال لأحكام هذه الآية بدخول الباب بحال السجود والقول (حطة).
الثاني : فعل الصالحات، والأمر بالمعروف ونشر معاني الإيمان، والتفقه في الدين، ودرء السيئة بالحسنة، والتصدي للمنكر وأسباب الضلالة.
الثالث : زيادة النعم الدنيوية والخيرات والطيبات من الرزق وكثرة النسل والذرية للمحسنين.
الرابع : مضاعفة ثواب الفعل المأمور به بسبب الإحسان وفعل الخيرات، وتلك آية في الثواب والفضل الإلهي.
الخامس : الإمتثال لأحكام هذه الآية هو نفسه إحسان، لتكون مضامين خاتمة الآية وفق القياس الإقتراني هي :
الكبرى : من يدخل الباب ساجداً ويقول حطة فهو من المحسنين.
الصغرى : يزيد الله تعالى ثواب المحسنين.
النتيجة : من يدخل الباب ساجداً ويقول حطة يزيد الله تعالى ثوابه.
ومن مصاديق زيادة ثواب المحسنين في الآخرة قوله تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثالث : المعنى الأعم، وشمول الزيادة لعالم الدنيا والآخرة، والله تعالى هو الواسع الكريم.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقيد وصف المحسنين بأنهم من بني إسرائيل فلم تقل الآية (وسنزيد المحسنين منكم) بل جاءت قانوناً ثابتاً وفيه دعوة لأهل الكتاب للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من أفضل مصاديق الإحسان، وحث المسلمين والناس جميعاً على فعل الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات وأداء الفرائض وفعل الخيرات والله ذو الفضل العظيم.
التفسير الذاتي
تدل هذه الآية في مفهومها على نعمة عظيمة على بني إسرائيل، وهي إنتهاء مدة التيه، إذ كانوا يسيرون في الصباح، وعند المساء يرون أنفسهم في ذات المكان الذي إرتحلوا منه، مع وجود نعمة الغمام والمن والسلوى، والله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وإذا أنعم على الناس بنعمة لا يرفعها، فلم تنقطع نعمة الطيبات , وهو من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
فقد ذكرت الآية السابقة المن والسلوى والأمر بالأكل من الطيبات التي رزقهم الله عز وجل، وجاءت هذه الآية بقوله تعالى [فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ]، لبيان السعة وكثرة الثمار في القرية وما حولها.
لقد كان بنو إسرائيل خلقاً كثيراً فجاء الأمر بالأكل من القرية وتقييده بالرغد والسعة باعثاً للسكينة في نفوسهم، ومانعاً من الكدورات والنزاع على المكاسب والملكية , ومانعاً من الحرص والإستحواذ بالقهر.
فمن نعمة الله عز وجل على بني إسرائيل أن يدخلوا القرية بأمن وسلامة، ومن غير ضغائن وغل بينهم بسبب الأكل والشرب، ليكون هذا الدخول وسيلة لتعاهد عبادة الله عز وجل وشكره على النعم المتتالية، وهو من وجوه تفضيل بني إسرائيل بقوله تعالى [فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت هذه الآية ضمن الآيات التي تذكر نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، وتذكرهم بها، والنعم التي ذكرتها هذه الآية على وجوه :
الأول : الأمر الإلهي بدخول بني إسرائيل القرية.
الثاني : إنقطاع أيام التيه، وبداية السكن في الحضر.
الثالث : إقتران الأمر بدخول القرية بالأمن، فبعد أن غادر بنو إسرائيل أرض مصر هرباً من عذاب فرعون وجنوده، وإستحيائهم لنساء بني إسرائيل، وقتل أولادهم، إبتدأت بدخولهم القرية حياة آمنة مستقرة.
الرابع : شرف القرية التي إختار الله عز وجل لهم سكنها.
الخامس : عدم تفرق بني إسرائيل في قرى متعددة، متقاربة أو متباعدة فمع انهم إثنا عشر سبطاً فانهم جميعاً يقطنون في القرية، وقد جاء على لسان موسى في التنزيل [يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ] ( )، وقد توفى هارون ثم موسى في التيه، لتكون البشارة بانقطاع مدة التيه على لسان موسى.
السادس : الإباحة المكانية والزمانية لبني إسرائيل في الأكل من القرية، مما يدل على كثرة وتعدد أنواع الثمار فيها.
السابع : الأمر الإلهي بدخول الباب ساجدين، وما فيه من معاني الشكر والخضوع والخشوع لله عز وجل ليكون مقدمة للزيادة في الرزق كماً وكيفاً قال تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ]( ).
ومن الآيات فيه انه تكليف سهل يسير ولكن منافعه ليس لها حصر.
الثامن : النطق بما يدل على الإمتثال لأمر الله عز وجل بالقول “حطة” على نحو عموم بني إسرائيل الإستغراقي والمجموعي، واللجوء إلى الإستغفار والدعاء.
التاسع : الوعد الإلهي بغفران ذنوب بني إسرائيل.
العاشر : بشارة الزيادة في الرزق للمحسنين منهم إذ أختتمت الآية بقانون وهو تفضل الله عز وجل بالزيادة في الرزق والثواب للذين يمتثلون لأمر الله عز وجل.
وهل في خاتمة الآية بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وأحكام الحلال والحرام عليه، الجواب نعم لتكون النعم على بني إسرائيل بدخولهم الإسلام متجددة ومتصلة.
وأختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]، ويدل في مفهومه على تخلف بني إسرائيل عن وظائفهم العبادية، والتحذير والإنذار من الصدود والجحود بالنعم وهذا الإنذار من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل لأن الدنيا دار عمل وباب التوبة والتدارك بالعمل الصالح، ونشر معاني البر والإحسان والوعد الكريم بزيادة الرزق والفضل الإلهي عليهم بقوله تعالى [وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ].
وتبين خاتمة الآية حث بني إسرائيل على الإحسان للنفس والغير، وان دخولهم القرية يستلزم منهم فعل الصالحات، وقد جاءت الآيات بالإخبار عن حب الله عز وجل للمحسنين قال تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، لبعث الشوق في النفوس للإحسان والبر وإجتناب القبيح من الأفعال، وإبتدأت الآية بالخطاب من الله عز وجل إلى بني إسرائيل من غير واسطة، فلم تقل الآية “يا موسى أدخل أنت وقومك” ويحتمل الأمر وجوهاً :
الأول : مجيء الأمر وحياً إلى موسى، وهم في التيه.
الثاني : نزول الأمر بواسطة يوشع بن نون وصي موسى.
الثالث : مجيء الأمر وحياً لبعض أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى.
والأرجح هو الثالث فان الأمر جاء إلى بني إسرائيل بواسطة بعض الأنبياء ، وظاهره الفورية في الدخول فليس هو وعداً مؤجلاً بل جاء الأمر إعلاناً لإنقضاء فترة التيه .
وبداية مرحلة جديدة من حياة بني إسرائيل يتجلى فيها الإستقرار والأمن والرزق الكريم وهو من فضل الله عليهم، ومناسبة للإنقطاع إلى شكر الله تعالى، وتعاهد التوراة وما فيها من الأحكام والبشارات.
وفي الآية أربعة أوامر كلها جاءت بصيغة العموم الإستغراقي :
الأول : ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ.
الثاني : فَكُلُوا مِنْهَا.
الثالث : َادْخُلُوا الْبَابَ.
الرابع : َقُولُوا حِطَّةٌ.
من غايات الآية
بيان مصاحبة النعم الإلهية لبني إسرائيل في حياتهم اليومية، وتغشيها لهم جميعاً.
وفيه دعوة لهدايتهم وحث لهم على توارث الإيمان، وتعاهد البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه ونصرته حين بعثته.
وكأن كل نعمة على بني إسرائيل آية حسية تدعوهم للهداية والإيمان، وتزجرهم عن مفاهيم الجحود والكفر بالنعم، وأراد الله عزوجل من بني إسرائيل عدم مغادرة منازل الخشوع لله تعالى.
إن التذكير بنعم الله على بني إسرائيل نعمة إضافية أخرى عليهم وعلى المسلمين جميعاً، وبيانها وتعددها في القرآن من مصاديق نزول القرآن من عند الله، قال تعالى[وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ]( ).
لقد كان وجود اليهود في المدينة المنورة أيام نزول القرآن آية إعجازية ساهمت في تعيين منازل الأمم وكيفية معاملة المسلمين لليهود وأهل الكتاب والناس جميعاً، وإقامة الحجة عليهم، وهو حرز وواقية من الغواية والضلالة، ويحتمل قوله تعالى [وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ] في جهته وجوهاً :
الأول : إنه خاص ببني إسرائيل أيام دخولهم بيت المقدس.
الثاني : عام وشامل لبني إسرائيل، ويتجلى أيام البعثة النبوية بدخول الإسلام وهذا الدخول عنوان الإحسان للذات والغير.
الثالث : الآية قاعدة كلية وهي أن كل محسن يزيده الله من فضله ونعمه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , ومن إعجاز القرآن مجئ اللفظ المتحد بالمعنى الخاص والعام , والآية قاعدة كلية مطلقة وان وردت بخصوص بني إسرائيل إلا أنها تتضمن الإخبار عن صفة من صفات الله تعالى وهي أنه سبحانه يزيد للمحسنين النعم، وتحتمل الزيادة وجوهاً :
الأول : الحكم، بان تزداد مقادير وعدد النعم التي عند أهل التوبة والإنابة.
الثاني : الكيف، بان تأتي نعم أخرى بسنخية ومواضيع غير النعم التي عند أهل الإيمان لهدايتهم وإيمانهم وصلاحهم.
الثالث : التعدد والكثرة، وإستحداث نعم أخرى جديدة غير التي عندهم، فضلاً من عند الله.
الرابع : زيادة عدد المؤمنين، وشيوع البر والإحسان بينهم وفي عموم الأرض.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، والله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم والأكمل.
ومن الزيادة وتعدد فضل الله على المحسنين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من النعم المستحدثة وعظيم فضله تعالى على الناس ليكون من إختار الإسلام من أفضل وأحسن أمة، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وتحتمل الزيادة من عنده تعالى للمحسنين وجهين :
الأول : الحصر والتقييد.
الثاني : الإطلاق.
والصحيح هو الثاني، فليس من حصر للزيادة في فضله تعالى، لتكون مضامين الآيات تعدد النعم الإلهية على بني إسرائيل وبقاء باب الزيادة في الفضل مفتوحاً عليهم وعلى الناس جميعاً , وفيه ترغيب بالإيمان وحث على طاعة الله والتقيد بأحكام وسنن الشرائع، وقد إنتفع المسلمون من خاتمة هذه الآية، ولا زالوا ينتفعون منها إلى يوم القيامة بإستدامة ما عندهم من النعم وإستحداث وجوه عديدة منها، وتشمل الزيادة وجوهاً :
الأول : الزيادة في فضل الله على نحو القضية الشخصية.
الثاني : الزيادة النوعية على الأمة والجماعة.
ومن الزيادة التكامل في الشريعة الإسلامية ونزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وجاءت الآية بصيغة الجمع (المحسنين) وفيه وجوه :
الأول : الآية إنحلالية، فتشمل كل محسن يصدر منه الإحسان بصورة فردية، ويبادر الى الخير ويتقيد بمضامين الهدى.
الثاني : لغة العموم الإستغراقي، فتشمل الآية صدور الإحسان من أفراد الأمة بالتقائهم واجتماعهم على فعل الخيرات وقيامهم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : العموم المجموعي بان تكون الأمة كلها علماء يهدون إلى الصراط المستقيم، والتصديق بنزول القرآن من عند الله تعالى.
التفسير
قوله تعالى [ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَريَةَ ]
إبتدأت هذه الآية بنعمة تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل جاءت هنا من بين آلائه الكثيرة عليهم للتذكير والموعظة وباباً للهداية والتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لقد أمروا بدخول القرية، واسم الإشارة هذه للمؤنث القريب لحقته هاء التنبيه في أوله، ومن اغراض الإشارة التعريض بالمخاطب، فكأن في الآية امتحاناً واختباراً لهم ولصدق ايمانهم، والآية التالية تدل على فشلهم ونكوصهم.
ومن اغراضها أيضاً ارادة تعظيم المشار اليه سواء كان بلفظ القريب أو البعيد، وصحيح ان اسم الاشارة القريب قد يأتي للدلالة على ما هو بعيد وبالعكس بقصد التعظيم أو التحقير، إلا انه لا قرينة عليه في المقام فيحمل المعنى على ظاهره وان الآية تفيد قرب القرية وانها معروفة عندهم على نحو التعيين وليس التخيير، مما يمنع الخلاف والتردد والترديد او تفرقهم الى عدة قرى خصوصاً مع مشقة تأمين حاجاتهم في قرية واحدة , فجاءت الآية بتعيين قرية مخصوصة ودخولها كان بداية لحياة مباركة جديدة ولكنها لا تخلو من الموعظة والحاجة إلى التسلح بالإيمان.
وهل الأمر بالدخول تكليفي أو أمر ارشاد وإباحة، وأستدل الرازي على أنه أمر تكليفي بوجهين :
الأول : أمرهم الله تعالى بدخول الباب سُجداً، ولا يخلوا من مشقة فكان الأمر به تكليفاً، ودخولهم الباب سُجداً مشروط بدخول القرية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فثبت ان الامر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة.
الثاني : ان قوله تعالى [ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ]( )، دليل على ما ذكرناه( ).
ويمكن ان يناقش، أما الأول فالأمر بدخول الباب سُجداً يتحد مع دخول القرية في الموضوع فيبقى العنوان الأولي على حاله، كما ان الاصوليين اختلفوا في وجوب مقدمة الواجب شرعاً وان أجمعوا على وجوبها عقلاً.
وأما الثاني فإن ظاهر الآية يفيد أن موضوعها مختلف ويتعلق بقتال الجبارين، وقيل إن يوشع بن نون فتحها بعد موت موسى بن عمران عليه السلام في التيه، كما سيأتي في تفسير سورة المائدة إن شاء الله، نعم هو أمر تكليفي لظاهر صيغة الأمر في الآية التي تحمل على الوجوب خصوصاً مع عدم وجود القرينة الصارفة إلى الإستحباب.
ومن نعم الله تعالى على بني إسرائيل ان يأتي الوجوب بما فيه نفعهم وإرشادهم وسلامتهم وبقائهم ليكونوا شهداء على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد الأمر في بيان الآلاء التي أنعم الله عليهم بها وقرب المغفرة والعفو منهم، ومن مصاديق تفضيل بني إسرائيل أن النعمة تأتيهم على نحو الوجوب.
فقد توجه الأمر لهم بالدخول، وهذا الأمر فضل منه تعالى ونعمة أخرى.
وفي القرية المذكورة في الآية أقوال :
الأول : انها بيت المقدس، وهو اختيار قتادة( ).
الثاني : انها نفس مصر.
الثالث : انها أريحا قريب من بيت المقدس وهو قول ابن عباس، ونسب هذا القول الى ابن زيد وعن السدي هي قرية بيت المقدس.
والخلاف صغروي خاصة وان القرآن لم يعينها، ثم ان أريحا قريبة من بيت المقدس وتعد في العرف الشرعي منها وعلى حدودها، وانها كانت محمولاً ومحلاً لموضوع الابتلاء والاختبار.
وظاهر الآيات ان هذا الدخول جاء بعد خروجهم من مصر وعبورهم البحر بآية من عند الله، ثم أن مصر ذكرت باسمها في قوله تعالى [اهْبِطُوا مِصْراً] وهي أعم وأكبر من القرية وكان هبوطهم لمصر بعد سؤالهم من نبات الأرض، فلاقوا العناء والتعب، أما هذه الآية فجاءت بلفظ الدخول وليس الهبوط، وتتضمن الأكل من الطيبات من غير مشقة وعناء.
ترى لماذا لم تقل الآية (إدخلوا هذا البلد) خاصة وأن عدد بني إسرائيل ليس بالقليل، وأنهم بقوا في التيه أربعين سنة يتزاوجون ويتكاثرون إذ تتغشاهم النعم وهي:
الأول: التظليل بالسحاب الأبيض الخالي من المطر.
الثاني: نزول طعام المن والسلوى كل يوم.
الثالث: تدفق وجريان الماء من عصا موسى والحجر الذي معه.
وتبعث هذه النعم مع إنعدام العمل والكد في طلب المعيشة على كثرة الطروقة ويترشح عنها وعن إتصال وتعدد النعم كثرة الإنجاب والرغبة فيه، ومع هذا جاء أمر الله لهم بدخول القرية فإن قلت جاءت تسمية مكة بالقرية أيضاً مما يدل على أنه لفظ القرية لا يدل على صغر البلد، قال تعالى[لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيِمٍ]( )، والجواب قد ورد ذكر مكة بصفة البلد ومن أيام إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ]( ).
وهل يمكن القول إن إبراهيم يريد مكة في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها، الجواب الأصل هو الإطلاق الزماني وسؤال الأمن للبلد من حين الدعوة، ومنه نظر إبراهيم بعين النبوةلحالها في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أبقى إبراهيم إسماعيل وحيدا[بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]( )، لبعث النبي محمد من ذريته وهم أمة , وجاء القرآن لتوثيق وصف مكة بصيغة الشأنية والسعة , والدلالة على إرادة الدوام وبقاء الدعاء ومضامينه إلى يوم القيامة، لورودها في الكتاب الباقي إلى يوم القيامة وتعتبر تلاوة المسلمين للآية أعلاه دعاء متجدداً وسؤالاً.
وفي قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، وتضمنت الآية أعلاه قسمين:
الأول: جملة خبرية.
الثاني: جملة إنشائية جاء فيها الأمر إلى المسلمين بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ترى هل تبدأ صلاة الله والملائكة مع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته , الجواب هو الأول لأصالة الإطلاق، ومن مصاديقه وتفسيره النصوص الواردة بخصوص توبة آدم وأنه رأى مكتوباً على ساق العرش (محمد رسول الله، فتشفع به)( ) وهي الكلمات الواردة في قوله تعالى[فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ]( )، وصلاة الله عز وجل على النبي تغشيه بالرحمة وأسباب المدد والنصرة، وصلاة الملائكة تزكية وإستغفار وصلاة المؤمنين دعاء وثناء وتسليم بنبوته، وليكون من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الإشتراك في موضوع الصلاة مع الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته.
علم المناسبة
ورد لفظ (ادخلوا) ثمان عشرة مرة، ولفظ (القرية) ثلاثاً وثلاثين مرة، وليس فيه (ادخلوا هذه القرية) إلا في هذه الآية الكريمة، نعم ورد قوله تعالى [اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ] ( )، والمراد موضوع واحد، وتحتمل الصلة بين الآيتين وجوهاً :
الأول : إتحاد الأمر، وأن الدخول هو ذاته السكن.
الثاني : تأخر الأمر بالسكن رتبة على الدخول، فبعد أن دخل بنو إسرائيل القرية أمرهم الله بالسكن فيها.
الثالث : تأخر الأمر بالدخول على الأمر بالسكن.
والصحيح هو الثاني، لأن الأصل هو التعدد في الأمر للتباين بين لفظي (ادخلوا) و(اسكنوا)، وفيه مسائل :
الأولى : يبعث الأمر بالسكن السكينة في نفوس بني إسرائيل، ويطرد عنهم الطيرة والخوف من الظالين.
الثانية : جاءت الآيتان بالأمر والبشارة بالأكل من الطيبات وإختيار نوع ومكان الأكل ضمن حدود القرية لقيد (منها) والذي يفيد الحصر والتبعيض.
وتبين الآية قاعدة كلية وهي أن الله عز وجل ينعم على بني إسرائيل بالنعم الوافية التامة لتكون مناسبة لشكرهم لله عز وجل، وشاهداً على تفضيلهم على غيرهم فلم يجعلهم، قبل وأثناء دخولهم القرية متحيرين بكيفية المعيشة والإنشغال بالتدبر بتوفير أسباب المعيشة والكسب بل أخبر الله سبحانه عن البركات فيها وإباحة أكلهم للطيبات بقيد التقوى الذي يتجلى بدخول الباب سجداً، وقول حطة لتتعقبه التوبة والمغفرة من عند الله عز وجل.
قوله تعالى [ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ]
نعمة أخرى جاءت متعقبة لحياتهم في التيه، بالإنتقال إلى حياة الحضر مع إباحة المأكل والمشرب بكثرة وسعة الطيبات كماً وكيفاً، لبيان إتصال النعم عليهم يتنقلون فيها من حال إلى أحسن منه، ليكون حجة عليهم في الإمتثال لأوامر الله تعالى والإنقياد للأنبياء، وطرد السأم والضجر عن نفوسهم.
إنه لطف إلهي ومناسبة للإنابة والتوبة والإستعداد لتلقي أحكام الشريعة والمحافظة على التوراة وما فيها من العهود والبشارات، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها خير الدنيا والآخرة .
وفي الآية مسائل :
الأولى : لقد جاءت الآية بصيغة الجمع مما يدل على تنعم عموم بني إسرائيل بنعمة الأكل والحياة الرغيدة.
الثانية : ورد لفظ (منها) والمراد من طيبات القرية، وما فيها من النعم ففي الآية حذف للمضاف كما في قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ] أي أسالوا أهل القرية.
الثالثة : فيما يؤكل من القرية وجوه :
الأول : الفواكه والثمار.
الثاني : الحنطة والشعير.
الثالث : الخضروات والبقول، وتحتمل كيفية الحصول على الطيبات والأكل منها وجوهاً :
الأول : الزراعة والحرث والسقي، ولكن من غير ذلة وعذاب من قوم جبارين كما في آل فرعون في مصر.
الثاني : رؤية بني إسرائيل الأشجار والنباتات مزروعة وهي تخرج من غير عناية وتعب، من وجوه :
الأول : البركة التي جعلها الله تعالى في القرية كما في بيت المقدس في آية الأسراء [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ].
الثاني : كثرة الماء والأشجار والزرع مع قلة سكان القرية.
الثالث : وفرة الطيبات بآية من عند الله.
الثالث : وجود أمة وأناس في القرية بادوا وهلكوا فدخل بنو إسرائيل اليها.
الرابع : القرية وما فيها من الطيبات نعمة أعدها الله تعالى لبني إسرائيل.
الخامس : كثرة الأشجار والثمار في القرية، وكفايتها لأهلها ولبني إسرائيل.
السادس : توفر الأموال عند بني إسرائيل ومزاولتهم التجارة بما يكفي للحياة الرغيدة.
السابع : مبادرة أهل القرية إلى إطعام بني إسرائيل وإكرامهم وإباحة الأكل لهم.
الثامن : فتح القرية لبني إسرائيل، والإشتراط على أهلها إباحة أكلهم من ثمارها وطيباتها وجعل سهم لهم في الحاصلات.
التاسع : حاجة أهل القرية لبني إسرائيل في الدفاع عنهم ودفع عدوهم.
العاشر : إجتماع أكثر من وجه من الوجوه أعلاه في الأكل الرغد.
ولا مانع من إجتماع الوجه الأول والثاني والخامس، ودخول القرية نعمة وفضل من عند الله تعالى على بني إسرائيل ومع وجود أهل وأناس في القرية فان قوله تعالى [حَيْثُ شِئْتُمَ] يخرج منه بالتخصيص ما يكون ملكاً خاصاً من غير أن يتعارض مع لغة الإطلاق في القرية وإباحة الأكل مما فيها من الثمار والمزروعات.
وبعد نعمة رؤية بني إسرائيل لهلاك فرعون وجنوده بقوله تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، أنعم الله عز وجل عليه بنعمة رؤية نزول المن والسلوى من السماء، ورؤية الغمام يتغشاهم، تم رؤية القرية وإباحة ما فيها من الطيبات.
قوله تعالى [ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا ]
ذكرت في الباب وجوه :
الأول : باب حطة من بيت المقدس وهو الباب الثامن، قاله مجاهد والسٌدي.
الثاني : باب القبة التي يصلي إليها موسى عليه السلام، نسبه الشيخ الطوسي والزمخشري إلى القيل( ).
الثالث : باب القرية التي أمروا بدخولها.
الرابع : جهة من جهات القرية ومدخل لها( ).
وبغض النظر عن تحديد الباب فإن الدخول مناسبة للسجود الذي هو عنوان الخضوع والخشوع، ودلالة على إبراز التوبة إلى الخارج في عمل الجوارح والشكر لله عز وجل.
وهل يُراد بالباب المعنى المجازي الذي يشير إلى الإعتبارات المعنوية والعقائدية مما فيه هداية النفوس والشروع بالصالحات كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إطلاق لفظ الباب على مدخل العلم: “أنا مدينة العلم وعليٌ بابها”( ).
الأقرب هو المعنى الظاهر والحقيقي للباب لأصالة الظهور والحقيقة ولأن الآية تشير إلى إنتقاء مكاني مبارك وتشريف.
إنه إقرار أولي بالنعم وانها من عند الله عز وجل، وعن ابن عباس معناه ركعاً، وهو شدة الإنحناء، لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل منه الى الانحناء، كما ان الأمر بالسجود يدل على الإختيار والإختبار، ومال إليه الرازي معللاً بأن حمل السجود على ظاهره ممتنع، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود، ولكن الأمر يتعلق بالسجود بمعناه الإصطلاحي فيكفي تحقق مسمى السجود ساعة دخول الباب المحصور مكاناً.
قوله تعالى [ حِطةٌ ] فيه وجوه :
الأول : إنهم أمروا أن يستغفروا، وأن يقولوا هذا الأمر حق، وكلا القولين رويا عن ابن عباس.
الثاني : حط عنا ذنوبنا، عن الحسن البصري وقتادة.
الثالث : (ان هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية)( )، (عن ابن عباس انهم امروا بهذه اللفظة بعينها) ( ).
الرابع : امرنا حطة أي نحط في هذه القرية ونستقر فيها، قاله أبو مسلم الإصفهاني.
الخامس : اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا انما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك فحط عنا ذنوبنا، قاله القفال.
السادس : لقد كان القول مصداقاً للتوبة وإظهاراً قولياً للندم، وفيه دلالة على الإقرار بالربوبية والبعث والإذعان للمشيئة الإلهية والإنقياد لأقوال الرسول، وتثبيت لأركان التوحيد في الارض بدخول المدينة وعالم الحضر برداء الايمان وإبراز قابلية المحل لما في التنزيل من أوامر وأحكام ونسخ.
قوله تعالى [ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ]
نعمة أخرى ذات شعبتين، الأولى عامة والثانية خاصة من غير مانع من كونها مع الأخرى عامة ولكنهما معاً معلقتان على قول وفعل، قول حطة وإتيان السجود عند دخول الباب، والمغفرة تشمل الجميع مع زيادة فضل للذين يقيمون ويواظبون على إتيان الصالحات.
وهل المقصود أنهم المحسنون في أيام التيه قبل نزول الآية، أم انها تتعلق بأهل الزمان الذي بعدها باعتباره زمان ما بعد التوبة والمغفرة، ظاهر الآية يفيد العموم لاسيما مع وجود الأنبياء والصالحين في تلك الفترة، وقد يظن بعضهم، وهو الحق أن هذا الإبتلاء أمر سهل ويسير ولا يحتاج إلى مشقة زائدة في التكليف، ولكن الآية وردت في باب بيان النعمة ثم الإستغفار، وإتخاذه باباً للتوبة بالنسبة للمسلمين ولبعض المليين.
وفي القرآن شواهد كثيرة عليه، وهي أعم من أن تنحصر بزمان دون زمان، لذا يمكن القول أن أهم مصاديق الزيادة والبركة هو الإسلام ونزول القرآن.
وهو حجة عليهم لكي لا يقولوا بأن باب التوبة فتح بالإستغفار للمسلمين دون غيرهم، والآية تدل على ذات الصيغ في الإنابة والتوبة وانها كانت في متناول بني إسرائيل، وجاءتهم بعد مشاق وإبتلاء عسير مما يعني الإتعاظ والدعوة للمبادرة إلى إغتنامها والتلبس بمقدماتها وأسبابها، وهي بشارة للمسلمين ودعوة لهم لفعل الصالحات وما يؤهلهم للإحسان ومنازله
قوله تعالى [ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ] الآية 59.
الإعراب واللغة
[ فَبَدَّلَ ] : الفاء استئنافية، بدل : فعل ماض.
[ الَّذِينَ ] : اسم موصول فاعل.
وجملة ظلموا لا محل لها لأنها صلة الموصول، قولا: مفعول به منصوب، غير: صفة لـ(قولاً).
الذي : اسم موصول مضاف إليه، قيل: فعل ماض مبني للمجهول.
لهم : جار ومجرور، فانزلنا : الفاء : حرف عطف، أنزلنا : عطف على الجملة السابقة، على الذين : جار ومجرور متعلقان بأنزلنا، ظلموا : فعل ماض، والواو : فاعل.
والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول، رجزاً: مفعول به، من السماء: جار ومجرور متعلقان بانزلنا، بما : الباء حرف جر، ما: مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالياء، أي : بسبب فسقهم، كانوا: فعل ماض ناقص، والواو: إسمها.
يفسقون : فعل مضارع، والواو: فاعل، والجملة الفعلية خبر كان.
التبديل : تغيير الشئ عن حاله، والرجز بكسر الراء في المقام العذاب، وفي الطاعون (قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : انه رجزٌ عُذب به بعض الأمم الذين قبلكم) ( ).
وفسق فسوقاً : خرج عن الطاعة , والاسم الفسق , ويأتي بمعنى الكذب والحرام وهما من مصاديقه الإصطلاحية، والقراءة المعروفة والمشهورة بضم السين، وحكي عن بعضهم بكسر السين.
في سياق الآيات
تتداخل مضامين الآيات بسبب توالي النعم على بني إسرائيل، فبعد بشارة رغد العيش والمغفرة جاء الصدود منهم والعناد ورفض الإمتثال والإنتفاع من النعم المتوالية.
جاءت هذه الآية لتخبر عن تبديلهم للكلمة التي أمروا بها على نحو التعيين، ومخالفة المأتي به للمأمور به الأمر الذي يستحق معه العقاب.
الأولى : الصلة بين آية [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ] ( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : توكيد جحود بني إسرائيل بنعمة النجاة من عذاب آل فرعون.
الثانية : إستمرار الإبتلاء على بني إسرائيل مع تخفيفه , فبعد العذاب والأذى الشديد، جاء الإمتحان بقول مخصوص أثناء نزول النعمة.
الثالثة : عدم التعارض بين التفضيل والإبتلاء.
الرابعة : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو صدور الظلم من الجماعة بعد النعمة سبب لنزول العذاب، وإذا كان العذاب قد نزل بالذين فضّلهم الله على العالمين فمن باب الولوية أن يصيب غيرهم ممن يظلمون أنفسهم ويأتون بخلاف مايؤمرون به عناداً ومعصية.
الثاني :الصلة بين آية[وَإِذْ فَرَقْنَا]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي توالي النعم الإلهية على بني إسرائيل ولكنهم ما لبثوا أن ظلموا أنفسهم.
الثانية : قبح الظلم بعد نزول النعمة.
الثالث : الصلة بين آية [وَإِذْ وَاعَدْنَا]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : مجئ الآية أعلاه بذكر نعمة عظيمة على بني إسرائيل وجحودهم بعدها، ومجئ هذه الآية بذكر معصية وهي تبديلهم القول الذي أمروا به.
الثانية : إتحاد الآيتين في الإخبار عن ظلم بني إسرائيل لأنفسهم.
الثالثة : جاءت الآيتان بلغة الخطاب لبني إسرائيل، والإخبار عن وقائع جرت في أيام أنبياء بني إسرائيل، ليتعظ اليهود أيام البعثة النبوية المباركة، وأيام نزول القرآن.
الرابعة : إتخاذ العجل أشد ظلماً من تبديل القول، وكل منهما معصية.
الرابع : الصة بين آية [ثُمَّ عَفَوْنَا]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل على بني إسرائيل بالعفو ليأتوا بما أمرهم به من القول.
الثانية : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الظلم بعد العفو سبب لنزول العذاب .
الثالثة : أختتمت الآية بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ولكن الذين ظلموا من بني إسرائيل بدلوا القول المعين الذي أمرهم الله عز وجل به، وظلموا أنفسهم.
الرابعة : العفو ومقابلته بالشكر علة لتوالى النعم، ومع الظلم يأتي العذاب والرجز.
الخامس :الصلة بين آية [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : تفضل الله ببعثة موسى عليه السلام كيلا يظلم بنو إسرائيل أنفسهم.
الثانية : الإعراض عما أنزل الله من الكتاب ظلم ومقدمة للظلم الأعم.
الثالثة : لقد أراد الله عز وجل لبني إسرائيل الهداية، ومن مصاديقها دخولهم الباب ساجدين وقول (حطة) ولكن فريقاً منهم إختاروا المعصية وتبديل القول.
الرابعة : تفضل الله بانزال الكتاب والآيات على موسى سبيل للهداية والإمتثال لأوامر الله عز وجل، ولكن فريقاً من بني إسرائيل أصروا على الظلم والتعدي.
السادس : الصلة بين آية [يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : إخبار الآيتين عن ظلم بني إسرائيل لأنفسهم.
الثانية : بيان رأفة موسى عليه السلام ببني إسرائيل وحثه لهم على التوبة.
الثالثة : من سنن الأنبياء حث قومهم على التوبة والإنابة، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحث الناس جميعاً ومنهم اليهود على التوبة والصلاح .
الرابعة : إخبار الآية أعلاه عن ظلم بني إسرائيل لأنفسهم ثم توبة الله عز وجل عليهم ومجئ هذه الآية بالإخبار عن ظلم فريق منهم لأنفسهم ونزول العذاب بهم .
ترى لماذا لم يتب الله عليهم مع أن تبديل القول أقل ظلماً وتعدياً من إتخاذ العجل، والجواب من وجوه :
الأول : التوبة على إتخاذ العجل حجة وموعظة.
الثاني : تمادي فريق من بني إسرائيل بالمعصية.
الثالث : جاءت هذه الآية بالإخبار عن إستمرار الذين ظلموا بفعل القبيح والإقامة على المعصية، وهذه الإقامة علة نزول العذاب بقوله تعالى [فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا]( ).
السابع : الصلة بين هذه الآية وآية [فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : مجئ الآيتين بنزول العذاب بفريق من بني إسرائيل.
الثانية : تتضمن الآيتان تحذير بني إسرائيل من الجحود والإصرار على المعصية، ومن الصدود عن بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن، وما فيه من الأحكام.
الثالثة : ذكرت كل من الآيتين قولاً مذموماً لفريق من بني إسرائيل.
الرابعة : مجئ الآيتين بالإخبار عن نزول العذاب بالذين ظلموا من بني إسرائيل.
الثامن : الصلة بين آية [ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : جاءت هذه الآية بعفو الله عز وجل عن الذين ظلموا، وفيه دعوة لبني إسرائيل لرجاء العفو بدخول الإسلام.
الثانية : إن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة، وليس من حدود لعفوه ورحمته , [وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً]( ).
الثالثة : العفو مناسبة ومقدمة لشكر الله، ومن مصاديق الشكر إجتناب العودة إلى المعصية.
الرابعة : إقامة الحجة على بني إسرائيل بمجيء الأمر بالقول حطة بعد العفو والرحمة.
التاسع : الصلة بين آية [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ]( )، وبين هذه الآية، وفيها مسائل:
الأولى : ذكر نعمة الغمام ونزول المن والسلوى حجة على بني إسرائيل في لزوم طاعة الله.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين نزول النعم العظيمة على بني إسرائيل، وتخلف فريق من بني إسرائيل عن قول أمرهم الله به ، وهو من الظلم للنفس.
الثالثة : جاءت الآية أعلاه بخصوص أيام التيه في الصحراء، وأخبرت هذه الآية عن بداية دخولهم الحضر وحياة الإستقرار في المدن.
الرابعة : إبتداء فريق من بني إسرائيل حياة المدن والسكن فيها بالمعصية، وفيه تحذير من مقابلة الدعوة الإسلامية بالصدود وتحريف الآيات والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : يفيد الجمع بين الآيتين أن أهل المعاصي لا يضرون إلا أنفسهم.
العاشر : الصلة بين هذه الآية والآية السابقة آية [ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : جاءت الآية السابقة بالبشارة بحياة جديدة لبني إسرائيل مع قيد قول مخصوص، وأخبرت هذه الآية عن تحريف فريق منهم له.
الثانية : مجئ الأمر الإلهي بقول(حطة) لعموم بني إسرائيل، أما الذين بدلوا القول فهم فريق منهم.
الثالثة : توكيد حقيقة وهي أن الأمر بالقول مولوي وعلى سبيل العزيمة والحتم.
الرابعة : جاءت خاتمة الآية السابقة بالبشارة بالزيادة للمحسنين، وأخبرت هذه الآية عن إرتكاب فريق منهم بالمعصية.
الشعية الثانية : الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيها وجوه :
الأول : الصلة بين هذه الآية وآية [وَإِذْ اسْتَسْقَى]( )، وفيها مسائل :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على بني إسرائيل باستسقاء موسى عليه السلام وآية تدفق الماء من الحجر.
الثانية : جاء إستسقاء موسى ونعمة جريان الماء من الحجر متقدم زماناً على دخول بني إسرائيل إلى القرية، إذ أن موسى عليه السلام غادر إلى الرفيق الأعلى وهم في التيه.
الثالثة : توالي النعم على بني إسرائيل حجة في لزوم صلاحهم وإجتنابهم المعصية.
الرابعة : ملازمة التحذير والإنذار من الفساد لبني إسرائيل وهو نعمة إضافية عليهم.
الثاني : الصلة بين هذه الآية وآية[لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : بيان فضل الله على بني إسرائيل في التيه والمدينة.
الثانية : مجئ الآيتين بالإخبار عن نزول العقوبة والعذاب على بني إسرائيل بسبب جحودهم، وجاءت هذه الآية بنزول العقاب بخصوص فريق منهم.
الثالثة : جاءت كل من الآيتين بذكر المعصية، وذكر العقوبة الخاصة بها.
الثالث : الصلة بين هذه الآية، وبين هذه الآية، وفيها مسائل :
الأولى : جاءت هذه الآية بالتوبيخ على المعصية،، وجاءت الآية أعلاه بالبشارة على الإيمان والعمل الصالح.
الثانية : الثناء على المسلمين لإيمانهم.
الثالثة : دعوة الناس للتوبة والإنابة.
إعجاز الآية
تبين الآية التعجيل بالعذاب لمن قابل النعمة بالجحود، والأمر المقترن بالنعمة بالإستكبار ليصبح هذا الإقتران جزء علة في شدة العقاب وسرعة نزوله.
ومن الإعجاز أن نعتتهم الآية بالظلم , وظلمهم هذا موجه إلى أنفسهم، بقرينة قوله تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ولم ينزل العقاب عليهم كأتباع نبي أو كبني إسرائيل، ولكنه نزل عليهم باعتبارهم ظالمين لأنفسهم.
وجاءت هذه الآية بذكر النعم الإلهية على بني إسرائيل مقترناً بلغة الإنذار والوعيد لكل ظالم وفاسق، والتحذير من الإصرار على الجحود، ومن إعجاز الآية لغة التقييد، وعدم الإطلاق في العذاب وأنه خاص بالذين ظلموا أنفسهم بتبديل القول الذي قيل لهم، مما يدل على وجود أمة مؤمنة منهم لم تبدل القول، قال تعالى [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] ( ).
والآية وثيقة سماوية لواقعة مخصوصة وشاهد على أن كتمان البينات لن يحول دون إظهارها وبيانها مع فضح الفعل القبيح الذي يؤيد قيامهم بكتمان الآيات وعدم ترددهم في إخفاء البشارات، وفي الآية دعوة لهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوبة والإنابة والتبرأ من فعل الذين ظلموا أنفسهم من الأجيال السابقة، وبغث للإقرار بصدق نزول القرآن من عند الله سبحانه.
ويمكن تسمية الآية بآية (فبدل الذين ظلموا) وورد هذا اللفظ مرتين في القرآن( ).
الآية سلاح
الآية وثيقة سماوية تظهر سوء فعل بني إسرائيل وإستحقاقهم للعقاب وكذب إدعائهم الهداية والرشاد، وشاهد بأن أوان نزول القرآن مناسبة لنزول النعم على المسلمين فعليهم أن يتلقوها بالشكر وحسن الإمتثال، وتحذر الآية من التحريف وتغيير الوحي وأخبار السنة النبوية الشريفة.
ومع ان الآية السابقة تضمنت الأمر الإلهي بالقول حطة، فان هذه الآية ذكرته بصيغة القول [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ].
وفيه دلالة على وجوب العمل بما يأتي به موسى عليه السلام وما يخبرهم به الأنبياء من الوحي، إن هذه الآية تأديبية تزجر عن الظلم والتعدي والتحريف، وتبين تفضيل المسلمين لأنهم لم يقوموا بتحريف القرآن بل تعاهدوا ألفاظه وكلماته وأحكامه وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، وتدل في مفهومها على دعوة بني إسرائيل إلى دخول الإسلام والتقيد بسننه.
مفهوم الآية
ذكر قبيح ما فعل الذين ظلموا من الملل الأخرى حجة عليهم ومناسبة للتدارك بالإسلام، ومن مفاهيم الآية أنها تنبيه وتأديب للمسلمين ومنع من تبديل أحكام الشريعة وتحريف أقوال الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذلك ترى المسلمين يتعاهدون آيات وكلمات القرآن على نحو العموم المجموعي والإستغراقي ويحرصون على تنقيح وسلامة أخبار السنة النبوية الشريفة من الوضع والتغيير والتبديل لأنها المصدر الثاني للتشريع.
وتظهر الآية حصول العقوبة العاجلة في الدنيا وأن قاعدة الدنيا دار عمل بلا حساب ليست مطلقة , فهناك إستثناءات تتعلق بنوع الظلم وهو في المقام التجرأ والتحريف للكلام المنزل والمعصية المركبة من عدم الإمتثال ومن الإتيان بخلاف المأمور به إلى جانب الإمتناع عن الإمتثال.
ومن مفاهيم الآية :
الأولى : بيان جحود شطر من بني إسرائيل بعدم تقيدهم بما أمروا به.
الثانية : تدل الآية على بلوغ الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل كافة، وحصول تبديل القول عن عمد وإصرار، وليس عن سهو ونسيان.
الثالثة : نزول العذاب الإلهي على الذين ظلموا، وهذا الرجز عقوبة عاجلة في الدنيا.
الرابعة : بيان علة نزول العذاب وهو إصرارهم على الخروج عن طاعة الله، وفي تلقي الأمر الإلهي وكيفية العمل أزاءه وجوه :
الأول : الإمتثال التام.
الثاني : الإمتثال على نحو الموجبة الجزئية كما لو أكتفي بدخول الباب، أو قول حطة.
الثالث : البرزخية بين الإمتثال والمعصية.
الرابع : المعصية، وهي على أقسام :
الأول : ترك الإمتثال.
الثاني : التبعيض بين الإتيان بالسجود، وإختيار السكوت وعدم القول (حطة).
الثالث : تحريف القول.
اما الوجه الأول فهو ظاهر بمفهوم الآية، وقيام فريق من بني إسرائيل بالإمتثال لأمر الله , أما الثاني فليس من تبعيض للأوامر الواردة في الآية فلابد من التقيد بها على نحو العموم المجموعي وهي :
الأول : دخول القرية التي ذكرها الله عز وجل لهم على نحو التعيين.
الثاني : الأكل من الطيبات التي جعلها الله فيها.
الثالث : دخول الباب بهيئة السجود والخضوع.
الرابع : قول حطة.
اما الثالث فليس من برزخية في المقام بين الإمتثال والمعصية، فاما ان يكون العبد مطيعاً لله وينال المغفرة وأما أن يكون ظالماً لنفسه.
وقد ذكرت الآية حصول المعصية بخصوص القول، ويحتمل وجهين :
الأول : إرادة مضامين الآية السابقة من دخول القرية، ودخول الباب سجداً، وقول حطة.
الثاني : خصوص قول حطة.
الآية لطف
تبين الآية حقبة من تأريخ بني إسرائيل الزاهر بالنعم الإلهية التي كانت تتغشاهم، ومقابلة فريق منهم لهذه النعم بالجحود والصدود والإستهزاء، وهو الذي ظهر منهم أيام البعثة النبوية، قال تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( )، وجاء البيان والكشف في هذه الآية ليكون عوناً للمسلمين في الثبات على الإيمان وعدم الإلتفات إلى إستهزاء فريق منهم ، وفي الآية حجة عليهم إذ توالت عليهم نعم الله عز وجل .
وفتح الله عز وجل لهم باب التوبة والمغفرة مقروناً بالنعم والبركات وأمرهم بأن يقولوا “حطة” فقابلوا الأمر بالإستخفاف والسفاهة والخروج عن الطاعة، وفيه تحذير لهم من تفويت الفرصة، وتضييع الرحمة الإلهية العامة التي جاءت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم لهم والناس جميعاً للإسلام.
ومن اللطف الإلهي في الآية لغة التبعيض والتمثيل وأن الذين بدلوا القول فريق وجماعة من بني إسرائيل وليس كلهم، وهؤلاء الذين لم يبدلوا القول هم نواة أهل الإيمان منهم إذ ظلوا يتوارثون البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين بعثته، وقابلوه بالتصديق بنبوته ونصرته، أما الذين بدلوا القول ولم يقولوا “حطة” فهم الذين بدلوا البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة.
وفي الآية إكرام للمؤمنين من بني إسرائيل، وإخبار عن علم الله تعالى بحسن إمتثالهم.
التفسير الذاتي
إبتدأت الآية بحرف العطف الفاء الذي يفيد التعقيب، وفيه إشارة إلى عدم قيام الذين ظلموا بطاعة الله والإمتثال لما جاء في الآية السابقة من الدخول في حال سجود وخضوع لدلالة الفاء على عدم وجود فترة بين ما بعدها وما قبلها، فلم تقل الآية (ثم بدّل الذين ظلموا)، وبمخالفة الذين ظلموا لما أمرهم الله عز وجل، وفيه انه ليس من فترة بين الأمر بالدخول وبين الدخول، وإنعدام الفترة مناسبة لإجتناب المعصية والغفلة والنسيان وأسباب العناد خصوصاً مع الغبطة والسعادة بإنقضاء فترة التيه التي إستمرت أربعين سنة، ولكن بدّل الذين ظلموا القول الذي أمروا به، وجاء ذكر الظلم على نحو التنكير في جهة وقوعه ، وفيه وجوه :
الأول : أنهم ظلموا أنفسهم.
الثاني : ظلموا غيرهم من الأمم.
الثالث : ظلموا ذراريهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والأصل في الآية هو ظلمهم لأنفسهم لقوله تعالى قبل آيتين [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ويحتمل متعلق الظلم وجوهاً :
الأول : تبديل القول الذي أمروا به هو الظلم المذكور في الآية.
الثاني : النعت بالظلم وصف سابق لتبديل القول، فقد إستحقوا صفة الظالمين قبل أن يبدلوا القول، وكان تبديل القول نتيجة لظلمهم وإصرارهم على الباطل.
الثالث : جاءت صفة الظلم لهم من فعل قبيح سابق، ومن تبديل القول.
والصحيح هو الثاني فانهم إستحقوا صفة الظلم قبل أن يدخلوا الباب، وجاء الأمر بدخول الباب سجداً، وقول حطة إمتحاناً لبني إسرائيل، وسبباً لكشف الظالمين وفضحهم، والتحذير منهم.
لقد ذكرت الآية السابقة عدداً من النعم على بني إسرائيل تتمثل بإنتهاء فترة التيه بحال من الإستقرار والسكينة، فلم يكلف بنو إسرائيل الإبتداء والعمل بالزراعة والحراثة والسقي، وإنتظار سنوات كي تقتطف ثمار الأشجار، فيكفي دخول قرية لأن فيها كل ما يحتاجون إليه، وكأنها قطعة من الجنة , وفيه نكتة يتجلى فيها قانون الإستصحاب في النعم ويتقوم بإستدامة النعم فضلاً من الله عز وجل، وعدم تبدلها إلا بقصور وتقصير من العباد، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
ويحتمل المقصود من الذين ظلموا أمرين :
الأول : إرادة جميع بني إسرائيل الذين دخلوا الباب فكلهم بدّل القول الذي أمروا به.
الثاني : المقصود طائفة وجماعة منهم تتصف بالظلم والعناد وهي التي بدلت القول.
وظاهر الآية هو الثاني، فقد جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا] وتوجه الخطاب لجميع بني إسرائيل لأن النعمة إذا جاءت فهي عامة غير خاصة فلم يبق بعدها شطر من بني إسرائيل في التيه، ولكن الذين بدلوا القول هم الظالمون منهم.
لتدل الآية في مفهومها على أن فريقاً من بني إسرائيل دخلوا القرية سجداً وقالوا “حطة”.
“قال ابن زيد : أهلكوا بالطاعون فمات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً من كبرائهم وشيوخهم، وبقي الأبناء”( ).
ومن إعجاز الآية أن العذاب لم ينزل على تبديل الكلمة وحده، إذ نزل عقوبة على الظلم، لقوله تعالى [فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] مع بيان علة العقوبة وهي فسقهم وخروجهم عن الطاعة، وتكرار المعصية منهم بدليل ورود الآية بصيغة الفعل المضارع “يفسقون” والذي يفيد التجدد وحدوث الفسق منهم.
وفي الآية دلالة على فضل الله عز وجل على بني إسرائيل للإبتداء بحياة إيمانية جديدة من ساعة دخولهم الباب قولاً وفعلاً.
وأما القول فهو “حطة”.
وأما الفعل فهو الدخول ساجدين وما يدل عليه من مضامين الخضوع والخشوع لله عز وجل.
فنزل العذاب بالظالمين عقوبة لهم ومانع من إفسادهم في الأرض، وإغواء الآخرين، ويدل مجئ الفعل بصيغة المضارع على أنهم مستمرون، ومصرون على ركوب المعصية، وممتنعون عن التوبة والصلاح.
وفي الآية تحذير من التعدي والظلم، ودعوة لشكر الله عز وجل على النعم، وتعاهد هذه النعم بالصلاح والإستقامة، وفيها موعظة وعبرة للمسلمين، وإخبار عن أحوال الأمم السابقة.
ومن فضل الله عز وجل على بني إسرائيل مجيء الأجر وحسن الجزاء مع الأمر، وجاء في عبادة العجل الأمر بقتلهم أنفسهم لنيل التوبة [َتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ]( )، ويتجلى التخفيف عنهم في هذه الآية بأداء الفعل اليسير لنيل الفضل العظيم من الله عز وجل، فما أن يدخلوا الباب سجداً ويقولوا حطة حتى تأتيهم النعم وهي :
الأولى : دخول القرية حيث الإستقرار والسكينة وحياة الحضر.
الثانية : إبتداء دخول القرية بالسجود، وهو عنوان مبارك يتضمن الوعد بالخضوع لله عز وجل وإحياء الشعائر وهم في الأمصار والمدن.
الثالثة : إتصال الأكل من الطيبات , وإن تغيرت الماهية والجنس , فبعد نزول المن والسلوى جاء الأكل من الثمار والفواكه والحبوب.
الرابعة : إبتداء صفحة بيضاء جديدة لبني إسرائيل ومغفرة ذنوبهم عند تقيدهم بشرطي الدخول وهما : السجود وقول حطة.
لقد كان هذا الدخول أعظم فرصة للذين ظلموا لنيل التوبة والمغفرة لقوله تعالى [نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ]. ولكن فريقا منهم أصروا على البقاء على الظلم والعناء فجاء العذاب لهم.
وعلى المختار بأن الذين ظلموا هم طائفة وجماعة من بني إسرائيل الذين دخلوا القرية وليس كلهم، فهل زاد الله المحسنين منهم لقوله تعالى في خاتمة الآية السابقة ” وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ” .
الجواب نعم، لأن الفعل القبيح للظالمين لا يحول دون وصول الجزاء الحسن للذين يمتثلون للأوامر الإلهية ، وورد لفظ (حطة) مرتين في القرآن إذ جاء بقوله تعالى [وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ] ( )، وجاء تقديم القول على الدخول والسجود، ولا تعارض بين الآيتين، ولكنه يدل على السعة والتكرار في القول “حطة” قبل وأثناء وبعد الدخول بهيئة السجود، وفي هذا القول وجوه :
الأول : إنه خير محض ونعمة.
الثاني : فيه تنقية وتنزه من الظلم والجحود.
الثالث : إنه من الشكر لله تعالى على تعدد وتوالي النعم.
الرابع : فيه ثواب عظيم.
وجاء قوله تعالى [َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا] ثلاث مرات، إذ ورد في قوله تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا]( )، ورفع الطور غير قول حطة.
من غايات الآية
بيان حقيقة في الإرادة التكوينية وهي أن بني إسرائيل هم الذين حجبوا النعم عن أنفسهم بظلمهم وإصرارهم على الكفر والمعصية والجحود، فجاء نزول العذاب الإلهي عليهم بما ظلموا وعدم إمهالهم إلى الآخرة وعالم الحساب، وهذا العذاب أمارة وشاهد على ضعفهم وعجزهم عن مواجهة المسلمين في حال القتال لذا قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ] ( ).
وفي الآية ذم لبني إسرائيل لتضييع مناسبة التوبة والمغفرة والتنعم بالأكل من الطيبات في بيت المقدس، وجاء قيد من السماء في قوله تعالى [رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ] لبيان ان المراد من العذاب هنا ليس تسليط ظالم عليهم، كما في نبوخذ نصر وقتله لشطر من رجالهم وسبي الآخرين، فجاء العذاب من السماء لتوكيد عظيم قدرة الله عز وجل وانه الغفور الرحيم، ورحمته سبقت غضبه.
ولم تقل الآية “بما فسقوا” بل قالت [بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] في إشارة إلى تعدد أفراد الفسق، وكثرة وتجدد صدور المعصية منهم.
فمن صفاته تعالى “الحليم” وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة بل يمهل العبد رجاء توبته وصلاحه، ولكن تكرر المعصية مع دلالة النعم المتعددة على وجوب طاعته تعالى، وظهور الآيات على يد موسى عليه السلام وعدم إتعاظهم منها سبب في نزول العذاب عليهم.
وفي الآية تحذير لقريش من الجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يطلب منهم إلا النطق بالشهادتين فآمن به أهل البيت والصحابة من المهاجرين، ولقى الذين كفروا القتل والهزيمة يوم بدر , قال تعالى[نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
التفسير
قوله تعالى [ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ]
تظهر هذه الآية الكريمة صورة أخرى من جحود بني إسرائيل بكفرانهم النعم وصدودهم عن الإتيان بأيسر التكاليف واخف الأفعال التي تلازمها بداية الآلاء لتدوم وتتصل. لقد تفضل الله عز وجل عليهم بالكثير ولم يؤمروا إلا بالقليل الذي لا يكاد يذكر في عالم الزمان والأفعال.
لقد أرادوا البقاء على الظلم بالعنت ورفض الإنصياع للإمر الإلهي وقاموا بتغييره عتواً وإستهزاءً مع ما ألمّ بهم من الإبتلاء بالإضافة إلى عدم إنقطاع النعم عنهم.
وظاهر الآية الكريمة أن الذين بدلوا القول وخالفوا شطر من بني إسرائيل وليس جميعهم، فلابد أن فريقاً منهم إتعظوا من الآيات وحرصوا على اتصال النعم وسعوا الى مرضاته تعالى، ويدل عليه ما جاء في سورة الإعراف [فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ] بالإضافة إلى قوله تعالى [ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ]( )، ومن هؤلاء من سارع إلى الإيمان وصدّق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله، وفي الآية تحذير لأولئك الذين يصرون على البقاء في منازل الجحود والعناد والإنكار.
وفيما خالفوا من القول وجوه :
الأول : انهم قالوا بالسريانية حاطاسماقانا، وعلى قول حطاسمقاثا، ومعناه حنطة حمراء , وفي خبر فيها شعيرة.
الثاني : قالوا حنطة.
الثالث : دخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة إستهزاءً، عن مجاهد.
الرابع : قالوا ما شاء موسى ان يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شئ حطة، قاله ابن زيد.
الخامس : إنهم لم يفعلوا ما أمروا به، لا على أنهم أتوا له ببدل.
أقول : صحيح ان السكوت في المقام معصية وعدم إستجابة، إلا إن ظاهر الآية الإتيان بقول آخر غير الذي أمروا به.
السادس : روي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سُجداً زاحفين على أستاهم قائلين حنطة من شعيرة.
السابع : أنهم أمروا بقول معناه التوبة والإستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به( ).
ولا تعارض بين هذه الأقوال في الجملة لأنها تشير الى معنى واحد وهو إرادة الطاعة والإنصياع والتوبة والإنابة وأنهم عمدوا إلى عدم الإتيان به.
وتبين الآية سوء سجايا الذين ظلموا أنفسهم، وتماديهم في العناد والتحريف.
وتعتبر الآية باباً وسبيلا لتوبتهم ومناسبة لإظهار حسن الإمتثال لظهور الآيات وتعلقها بكلمة مخصوصة، وليس فيها من التكليف والمشقة، ولكنهم أبوا إلا العناء , وتتجلى أهلية المسلمين لخلافة الأرض بالتزامهم بالعبادات المخصوصة فتراهم يؤدون الصلاة بذات الأفعال والألفاظ التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينادي وفد الحجيج في كل عام بالتلبيات الأربعة “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك”
وورد لفظ “قيل” في الآية على البناء للمجهول وقد تقدم في الآية السابقة ان القول منه تعالى [وَإِذْ قُلْنَا…] ولا يعني هذا بالضرورة المطابقة في المعنى واتحاد الجهة وانحصار القول بالذات المقدسة، ومن أسرار الإتيان بالفعل المبني للمجهول (قيل) ان القول ورد على لسان الأنبياء وتعدد بينهم ونادى به الصالحون، بمعنى انه مع القول جرى حث وارشاد وأمر بالمعروف للتقيد بذات اللفظ وهو (حطة) على نحو التعيين.
وتتضمن هذه الآية دعوة اليهود لتذكر نعم الله عليهم وآلائه وإحسانه مع بيان مصاديق تلك النعم، وما يترشح عنها من النعم الإضافية التي لا تحصى فقد خفف الله عز وجل عنهم بالسلامة من فرعون وهلاكه، وبجريان الرزق الكريم من غير تعب ولا عناء، فيكون مناسبة لذكر الله تعالى والخشية منه، ومع ما تضمنته هذه الآية من نزول العذاب بالظالمين من بني إسرائيل فان الآية التالية تبين فضل الله تعالى على بني إسرائيل في إستسقاء موسى لقومه والإستجابة الإلهية به بآية حسية إعجازية وهي تدفق الماء من ضرب الحجر بعصاه، وجاء بعد آيتين ذكر قول بني إسرائيل [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] والأمر الإلهي بهبوطهم الى أرض مصر، فهل المقصود من الطعام الواحد هو ما ذكر في الآية السابقة بقوله تعالى [فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا]، أم المذكور في الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى] الجواب هو الأخير.
ويحتمل نزول الرجس من العذاب المذكور في هذه الآية بالنسبة لسببه وجوهاً :
الأول : تبديل الذين ظلموا للقول الذي أمروا به.
الثاني : صدور الظلم والتعدي منهم سابق لتبديلهم الكلام، لمجيء نعتهم بالظلم قبل الإخبار عن تبديلهم الكلام.
الثالث : إرادة ظلمهم لأنفسهم بلحاظ الآيات السابقة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق هذه الآيات، وتذكر الآية أمرين لنزول العذاب :
الأول : ظلم فريق من بني إسرائيل لأنفسهم.
الثاني : فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى، وفيه بيان قانون ثابت وهو نزول العذاب عند إجتماع صفة الظلم مع التمادي في المعاصي، وان العذاب ينزل عند التلبس بالفسق وفيه إنذار للكفار والظالمين من كفار قريش من الإقامة على المعاصي والفسوق خشية نزول العذاب بهم.
قوله تعالى [ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ ]
كانت عقوبة سماوية على معصيتهم وجحودهم جاءت متصفة بالشدة (وعن ابن زيد أنهم أهلكوا بالطاعون فمات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً من كبرائهم وشيوخهم وبقي الأنبياء فانتقل عنهم العلم والعبادة)( )، ولكنه لم يرفع الحديث.
إنه تحذير من الظلم وعدم الإمتثال لأمره تعالى مع عدم العذر بمشقة التكليف، ويمكن إستنباط مسألة من الآية الكريمة وهي أن عدم الإنتفاع من الدعوة إلى التوبة يعجل العقاب الشديد على البقاء على المعصية أو عدم مغادرتها والتخلي عما ينجم عنها من الآثار كالأخلاق الذميمة وصيّغ الإستهزاء والإستخفاف , ومطلق الذنوب ومنها الصغائر ولا صغيرة مع الإصرار.
وجاء نزول العقوبة عاجلاً ومن السماء، مما يعني ظهوره وإتضاحه للآخرين , ووردت علة العذاب بصفة الظلم [الَّذِينَ ظَلَمُوا] وفيه وجوه :
الأول : حلّت بهم العقوبة على ظلمهم المتكرر وجحودهم المتصل وسوء فعلهم.
الثاني : إن تبديل القول ظلم يدل على سوء السريرة ويستحق العقاب.
الثالث : صدق عنوان الظلم عليهم وامتناعهم عن التوبة.
ومن الإعجاز في هذه الآيات أن أول من نعتهم بالظلم هو موسى عليه السلام بقوله تعالى [يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ] ( )، وهذا النعت تنبيه وإنذار ودعوة للتدارك، ولم يرد ما يدل على وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالظالمين مما يدل على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وليس عندهم رد على موسى إلا الإقرار بالظلم، فمن فضل ونعم الله على بني إسرائيل انه سبحانه لم ينعتهم بالظلم إلا من بعد ان سماهم موسى عليه السلام .
وصحيح ان الآية الحادية والخمسين تصفهم بانهم ظالمون [يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ] ويحتمل انها متأخرة في موضوعها لأن آية العفو تعقبتها كما ان قوله تعالى [وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ] يحتمل انه أعم من إنحصار موضوع الظلم بعبادة العجل.
قوله تعالى [بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]
أي أن العقوبة جاءتهم بما إستحقوه بالعنوان الثانوي وهو الفسق بالإضافة إلى الظلم، إذ أن الظلم على وجوه وقد تقدم الكلام فيه.
والفسق وإن كان على مراتب متفاوتة إلا أنه في المقام يمثل الخروج عن الطاعة والجحود بالنعم والتأثير السلبي على الآخرين بغلبة وشيوع المعصية خلافاً لنواميس الخلق وعلة النشأة الأولى وبالذات في أمة كانت في مقدمة حاملي لواء التوحيد في زمانهم، وبدل ان يحفظوا ما عندهم من الشرائع وأحكامها بالطاعة والالتزام فأنهم عرّضوا أمتهم الى الهلاك والاضمحلال وسلب ما عندهم من الكرامة والنعمة العقائدية ، ومع النعم الظاهرية كانت هناك نعمة الإيمان وبعثة الأنبياء مما لا يدوم إلا مع الطاعة والإخلاص والحرص على تعاهده والإستعداد للتضحية من أجله، وان كان بقمع الشهوة ومنع إتباع الهوى والحيلولة دون سيادة الجهل.
والآية تنبيه للمسلمين، وحث دائم لهم على نبذ الفسق وترك الخروج على الطاعة , ولزوم إجتناب المعصية، وعدم الإمتثال للأمر الإلهي، وهي مدرسة في بيان منافع التوبة النصوح.
وظاهر الآية أن العذاب وقع على الذين ظلموا دون غيرهم، وفي تعيينهم وجوه :
الأول : الذين بدلوا القول كما في صدر الآية.
الثاني : معهم غيرهم، ويشمل الذين كانوا معهم أو الذين لم ينهوهم عن المعصية.
الثالث : المراد الذين ظلموا من عبدة العجل.
الرابع : الذين إقترفوا السيئات وإستحقوا صفة الذم [الَّذِينَ ظَلَمُوا] فابتلى الله بني إسرائيل بهذا القول فاستبان أمر هؤلاء وظهر ظلمهم بجلاء، فكان تبديل القول أحد أفراد ظلمهم والسبب المباشر لنزول العقاب، والأصح هو الوجه الأخير.
أما لو شمل البلاء والرجز بعض المسلمين ممن كان معهم يومئذ فهو خارج بالتخصص ولا يصدق عليهم أنهم ظالمون وما يصيبهم ليس عقاباً بل بلاء يؤجرون عليه.
والظاهر هو الأول وإن كان لا يمنع من إحتمال تعرض أفراد مؤمنين كانوا معهم إلى البلاء , ولكنهم لا يحرمون معه من ثوابهم وأجرهم[وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
وتدل الآية على إستمرار النبوة في بني إسرائيل بعد التيه، وأن أنبياءهم يبلغونهم ما يأمرهم الله عز وجل به، وتحذر الآية من العقوبة العاجلة في الدنيا، وصحيح أن الدنيا دار عمل وإختبار وإمتحان ولكنه لا يعني أنها خالية من البلاء والعقاب العاجل الذي يكون ذا نفع للناس وبرزخاً من التمادي في الغي والضلالة والمعصية والفجور، فلذا أختتمت الآية ببيان حقيقة وهي نزول العذاب عند إجتماع الظلم والإقامة على المعصية
قوله تعالى[[ وَإِذْ اسْتسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَــرَتْ مِنْهُ اثْنَتَـا عَشْــرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْــرَبَهُمْ كُـلُوا وَاشْــرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ]] الآية 60.
الإعراب واللغةالإعراب واللغة
وإذ : تقدم إعرابها، إستسقى : فعل ماض، موسى : فاعل، لقومه : جار ومجرور متعلقان باستسقى .
فقلنا : الفاء : عاطفة، قلنا : فعل وفاعل .
إضرب : فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، والجملة في محل مقول القول.
بعصاك : جار ومجرور متعلقان باضرب، وعصا : مضاف، والكاف : مضاف إليه.
الحجر : مفعول به منصوب بالفتحة.
فانفجرت : الفاء : حرف عطف يفيد الترتيب المعنوي .
منه : جار ومجرور، إثنتا عشرة : فاعل وعلامة رفعه الألف، لأنه ملحق بالمثنى، وعشرة مبني على الفتح لأنه جزء المركب.
عيناً : تمييز منصوب .
قد : حرف تحقيق، علم : فعل ماض مبني على الفتح، كل : فاعل مرفوع وهو مضاف.
أناس : مضاف إليه، مشربهم: مفعول به، والضمير الهاء مضاف إليه،
كلوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل،
إشربوا: عطف على كلوا.
ولا تعثوا: الواو: عاطفة، لا: ناهية، تعثوا: فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون، الواو: فاعل، في الأرض: جار ومجرور متعلقان بتعثوا.
مفسدين: حال.
الإستسقاء: الدعاء بالسقيا وطلب الغيث، وسؤال الماء مطلقاً أي للشرب والسقيا.
والإنفجار: الإنشقاق والإظهار.
وعشرة قرئت بفتح الشين وكسرها.
والعين : لفظ مشــترك أي انه وضع لعدة معاني كلاً على حدة، فاللفظ متحد والمعنى متعدد، ومثلها مولى وجون، وعين مؤنثة والجمع أعين.
وعين الماء تسمى عيناً لأن الماء يعين عنها أي يظهر جارياً كما في قوله تعالى [[ عيْنٌ جَارِيَةٌ ]]( ).
ولا تعثوا: أي لا تفسدوا من عثا في الأرض يعثو أي فسد، وقيل العثى شدة الفساد.
في سياق الآياتفي سياق الآيات
بعد تبديل القول المأمور به وإصرار الذين ظلموا على الجحود وتبديلهم القول الذي أمروا به ونطقهم بغيره وعدم إكتفائهم بالسكوت وان كان معصية ايضاً جاءت هذه الآية لبيان لنعمة متممة للنعم الأخرى فلابد من الماء وهو متعذر في وسط التيه إلا بالمعجزة.
وإذ خرج بهم موسى عليه السلام تكفل الله عز وجل رزقهم الذي جاء متعدداً ومتنوعاً.
وذكرت الآية السابقة فريقاً من بني إسرائيل بانهم ظلموا أنفسهم ونزول العذاب عليهم على نحو الخصوص , وجاءت هذه الآية لبيان نعمة عظيمة على عموم بني إسرائيل مما يدل على قانون في الإرادة التكوينية، وفي تفضيل بني إسرائيل ونعم الله عليهم , وهو على وجوه :
الأول : نزول العذاب بالذين ظلموا منهم خاصة.
الثاني : مجيء النعمة لعموم بني إسرائيل وإنتفاع الجميع منها.
الثالث : إستدامة النعمة وإنحصار العذاب موضوعاً وزماناً.
وإذ جاءت هذه الآية بذكر نعمة الإستسقاء وجريان الماء من الحجر في دلالة على إكرام بني إسرائيل وتفضيلهم على غيرهم من أهل زمانهم، جاءت الآية التالية في بيان عنادهم وعدم رضاهم على نعمة نزول رزقهم من السماء وعلة ذهابهم إلى مصر وضرب الذلة عليهم لكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء.
ومن إعجاز القرآن تقديم موضوع الإستسقاء وإستدامته على سؤال بني إسرائيل تعدد أنواع الطعام، لما في جريان الماء بمعجزة عصا موسى من البركات المتجددة، وفيه مسائل:
الأولى: إستبانة الكفاية والغنى بالمعجزة.
الثانية: تأكيد حقيقة وهي أن موضوع المعجزة لا ينحصر بإقامة الحجة على الناس بل يشمل النفع العام وترشح البركة من ذات المعجزة.
الثالثة: قد يكون سؤال ما تنبت الأرض وتحققه خارجاً باباً للفتنة والإفتتان بين بني إسرائيل، بينما تضمنت آية البحث ما يدل على إنتفاء الخصومة بينهم في باب الرزق لقوله تعالى[قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ]( ).
الرابعة: بيان قانون ثابت وهو أن رزق الله بالمعجزة أفضل منه بالكسب.
الخامسة: تأديب المسلمين بأنهم إذا كانوا في حال النعم لا يسألون ما هو أدنى منها كبديل وعوض.
السادسة: عندما سأل بنو إسرائيل الأدنى جاءت البلوى وحياة الذل مما يدل على لزوم تعاهد المعجزة والنعمة بالشكر لله عز وجل , وسؤال إستدامتها , وإظهار الرضا بها.
ومن الآيات عدم تضمن آية البحث واجبات ووظائف على بني إسرائيل, إنما أختتمت بالزجر عن فعل السيئات[وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، وفيه بيان لقاعدة كلية وهي لزوم تلقي النعم بإجتناب الفساد العام في الأرض .
وفي الآية شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى لتعاهدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
وإذ أختتمت هذه الآية بالنهي عن الفساد في الأرض وهم في مقامات تلقي النعم العظيمة والآيات الباهرة أختتمت الآية التالية بنعتهم بالمعتدين، والإخبار عن حصول الظلم منهم بقوله تعالى[ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]( )، وفيه إرشاد لهم وللناس جميعاً بلزوم إجتناب محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش لقتاله والمسلمين.
اعجاز الآيةإعجاز الآية
(قانون المعجزة التوليدية)
تعتبر الآية الكريمة مدرسة في الإعجاز وتعدد وجوهه، وكيف أن عظيم العطاء يبتنى على الدعاء، وفيها توثيق سماوي لآية حسية ظاهرة للعيان، وبشارة إرتقاء العلم لإستخراج الماء أو السوائل من الجمادات، وتعدد أنواع المستخرج، .وحث على تقسيمه للمنع من الإقتتال عليه والإفتتان به، لأن النعم رحمة وفضل من الله تعالى فيجب ان تكون سبباً للشكر له تعالى بالعبادة، لا أن يكون مادة للعداوة وموضوعاً للنزاع والقتال , قال تعالى[وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).
لقد كانت عصا موسى معجزة وتولدت عنها معجزات متعددة، فيمكن أن نؤسس قانونا نسميه إصطلاحاً (المعجزة التوليدية) وأن عصا موسى مصداق له , لما يتولد عنها من آيات وأفراد من الإعجاز في كل مرة يستعملها على نحو الإعجاز .
وتدعو الآية الناس للرجاء واللجوء إلى الله عز وجل وإنتظار مجيء الرزق من حيث لا يحتسبون، وفيه بيان لعظيم قدرته وسلطانه تعالى.
إن إصطلاح المعجزة التوليدية مدرسة تفتح الآفاق لدراسات عقائدية في علوم القرآن وتوكيد إعجازه، وبيان فضل الله تعالى على الخلائق عامة، وعلى الناس خاصة، ومنهم بنو إسرائيل، إذ تأتي المعجزة الحسية لتترشح وتتفرع عنها معجزات عديدة، وفيه دلالة على تولد المعجزات من معجزة القرآن العقلية بإعتبار أن المعجزة العقلية أرقى مرتبة من المعجزة الحسية، فتؤخذ كل معجزة في القرآن لنرى ما هي المعجزات التي تفرعت عنها في المنطوق والمفهوم والدلالة، وليس من حصر لما يترشح من معجزة القرآن وذكر معجزات الأنبياء فيه , ومنها معجزة موسى بضرب الحجر بالعصا ليتدفق منه الماء.
وفي الآية بشارة إعمار الصحراء وشق الأنهار فيها وإستعمال الآلة والصناعة لزراعتها، وهي دعوة للمسلمين لزيادة النسل , وعدم الخشية من الفقر.
ويمكن تسمية الآية بآية (إستسقى) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاحالآية سلاح
الآية بشارة لموضوعية وإعتبار الدعاء في الحصول على أهم الحوائج , ومنها الإستسقاء ونزول الغيث، ودعوة للمسلمين بشكر الله تعالى على النعم واجتناب مظاهر التقصير والإسراف والإفساد في الأرض.
والآية شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يذكر معجزات الأنبياء وهو أفضل منهم مع أن جماعة من بني إسرائيل سيقولون نريد أن نرى ذات الآيات والمعجزات من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فجاءت معجزة القرآن الخالدة حجة عليهم، بالإضافة إلى المعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها تدفق الماء من بين أصابعه، وكان الإستسقاء والحصول على الماء حاجة لبني إسرائيل وإنحصر بالبرهان المتجدد في ذات الماهية , بضرب الحجر بالعصا.
وكانت معجزة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس في أجيالهم المتعاقبة للهداية فجاء القرآن دعوة سماوية تجذب الناس إلى الإسلام بأسرار ملكوتية في مضامين البلاغة والعقيدة والحكمة وإرادة شؤون الحكم، والصلات بين الأمم والأفراد، وغيرها وجعل الله القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وهذا التبيان لا ينحصر في موضوع الكشف بل يشمل الموضوع والحكم وأسباب النجاة في النشأتين وقوله تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ] هل هو من النعم الإلهية أم جاء للإخبار عما بعده من المعجزات، الجواب انه نعمة قائمة , وهي نعمة توليدية تترشح عليها نعم عديدة.
وتبين الآية حقيقة في الإرادة التكوينية وهي أن زيادة النعم تمنع من الإختلاف والفرقة، فلم تخرج من الحجر عين واحدة، بل خرجت عيون بعدد أسباط بني إسرائيل وبما يفيد التمييز في الرزق وعدم الخلط في الرزق والنعمة بين أسباط بني إسرائيل وفيه نبذ الفرقة والإختلاف، وحث لهم على الإجتهاد في العبادة وإتيان المناسك، وإظهار الخشوع لله تعالى.
وتدل الآية على أفضلية المسلمين على غيرهم من الأمم إذ أنهم يستسقون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤدون صلاة الإستسقاء ويتعاهدون أحكامها وسننها، أما بنو إسرائيل فان موسى عليه السلام هو الذي إستسقى لقومه، نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستسقي للمسلمين بطلب منهم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ بَيْنَما نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ وَهَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَأَجْدَبَ الْبِلاَدُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَدَيْهِ حِذَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا. فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنِ الْمِنْبَرِ حَتَّى أُوسِعْنَا مَطَرًا وَأُمْطِرْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ومعه المسلمون صلاة الإستسقاء، (وعن عباد بن تميم أن عمه حدثه انه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستسقي فحول رداءه وحول للناس ظهره ودعا ثم صلى ركعتين فقرأ وجهر( ).
مفهوم الآية
تبين الآية عظيم منزلة موسى عليه السلام عند الله عز وجل والآيات الباهرات التي جاء بها من عنده تعالى، وتوالي حصول المعجزة بآية العصا رزق سماوي كريم يساهم في ترسيخ إيمان بني اسرائيلإسرائيل ويحول دون جحودهم ويقطع الشك والريب عندهم ومع عظيم النعمة وإتصالها فليس لها من ثمن إلا إجتناب الفساد والباطل وعدم الصدود عن الرسالة السماوية وبعثة الأنبياء.
وفي الآية مسائل :
الأولى : ان موسى عليه السلام يتوجه إلى الله تعالى في حوائجه.
الثانية : السؤال الخاص بالإستسقاء وطلب نزول المطر والسقيا ومن الآيات أن الإستسقاء يتعلق بالإنسان والدواب والزرع , وليس بالنزول من السماء فقط، لذا فان خروج الماء من الحجر من مصاديق الإعجاز والرحمة الإلهية.
الثالثة : ان موسى عليه السلام لم يستسق لنفسه , بل لقومه ومن أجل بقائهم ورؤيتهم ابآيات , ويحتمل أمرين :
الأول : موسى عليه السلام من قومه ويناله الذي يصيبهم.
الثاني : عدم حاجة موسى عليه السلام للماء، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صوم الوصال .
والأصح هو الأول , وصوم الوصال قياس مع الفارق لأنه محصور بالصوم يومين مع الليلة التي بينهما، وثلاثة أيام بينهما ليلتين، وفيه مسائل :
الأولى : يبين السؤال أخلاق النبوة.
الثانية : ان موسى عليه السلام يهمه أمر قومه أكثر مما يهمه أمره وشأنه.
الثالثة : لا يخشى موسى عليه السلام الموت لأنه باب للقاء الله والفوز بالنعيم الخالد.
الرابعة : أراد موسى عليه السلام إعطاء درس لبني اسرائيلإسرائيل في الإيثار وكيف أنه يحبهم ويرجو لهم الخير والسلامة وكذا في دعوتهم إلى الإسلام فانه يرجو لهم النجاة في الآخرة، فكان التيه تذكيراً بالآخرة ويوم العطش الأكبر.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعل عندهم الإحرام للحج ومناسكه الأخرى مناسبة للتذكير بيوم الحشر، والصيام إستحضاراً للعطش الأكبر، وقابلوا هذه التكاليف بالإمتثال الحسن وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الأول: تفضل الله تعالى بالإستجابة , ومجيء الفاء في [فَقُلْنَا اضْرِبْ]( ) يدل على التعقيب وان ما بعدها واقع عقب الذي قبلها بغير فاصل زماني بينهما، خصوصاً مع وجود القرينة وهي سؤال الإستسقاء.
1- الثاني: جاءت الإستجابة باعجاز وبكيفية مباينة للأسباب وقوانين العلل والمعلولات، فالسؤال جاء بطلب الماء فجاءت الإستجابة بضرب الحجر بالعصا، وهي تشبه مسألة ضرب الميت ببعض البقرة فاحياه الله , قال تعالى[فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
ولكن ضرب الميت جاء على نحو القضية الشخصية، وهذه الآية نوعية.
الثالث: تدفق وجريان الماء من الحجر في آية وفضل من الله تعالى على بني اسرائيلإسرائيل.
الرابع: منع الخصومة والنزاع , وفيه دعوة لقادة الأمم وواضعي المناهج والخطط الإقتصادية بمراعاة التقسيم والتوزيع العادل بحسب اللحاظ والإنتماء والولاء بما يمنع من الشعور بالحيف والظلم وحصول النزاع.
الخامس: الآية شاهد بان الله تعالى يعطي بالأوفى والأكمل , ومنه التقسيم بين أسباط بني إسرائيل.
ولو أخذ شخص آخر غير موسى عليه السلام العصا وضرب بها الحجر فهل يتدفق الماء منه؟ الجواب لا، وان كان هارون عليه السلام، لصفة الرسالة عند موسى، ولأن الأمر خاص وموجه لموسى عليه السلام دون غيره، ولو إستعمل موسى عصا أخرى او ضرب حجراً آخر لا يجري الماء لأن الأمر الإلهي جاء مقيداً (عصاك) دون غيرها ز
ويفيد الألف واللام في الحجر العهد أي حجر مخصوص، إلا أن يشاء الله وهو الواسع الكريم.
السادس: الأمر الإلهي العام لبني اسرائيلإسرائيل بالأكل والشرب , وهو إذن ووعد كريم، ولا ينحصر هذا الأمر بنبوع الماء من الحجر ، لقرينة (كلوا) مع أن الماء للشرب فقط , وهل يدل الأمر بالأكل على حصول الزراعة من ماء الإستسقاء , الجواب لا , من وجوه :
السابع: النهي عن الإفساد في الأرض.
الثامن: مجيء هذا النهي عقب النعم العظيمة وأثناء الإنتفاع الأمثل منها.
في الآية مسائل :
الأولى : ذكر واقعة من تأريخ وحياة بني إسرائيلإسرائيل وهي إستسقاء موسى عليه السلام لبني إسرائيلإسرائيل، وسؤاله الله عز وجل نزول المطر عليهم , وفيها وجوه :
الأول : بيان إكرام الله تعالى لموسى عليه السلام.
الثاني : تأديب موسى لبني إسرائيلإسرائيل بالتوجه إلى الله تعالى بالمسألة وإظهار الخشوع والمسكنة طلباً لماء السماء.
الثالث : قيام موسى بالإستسقاء لبيان آية ومعجزة حسية من معجزاته.
الثانية : قيدت الآية موضوع الإستسقاء بوجهين:
الأول : قيام موسى عليه السلام بالإستسقاء.
الثاني : تقييد الإستسقاء وانه لقوم موسى عليه السلام، والمراد بنو إسرائيلإسرائيل عامة.
الثالثة : مجئ الآية والفضل الإلهي بخروج الماء من الحجر، فبينما كان موسى عليه السلام يتوسل إلى الله تعالى بنزول غيث السماء، جاء الماء بآية إعجازية ليتدفق من الحجر ويكون شاهداً على أمور :
الأول : صدق نبوة موسى عليه السلام، ونزول التوراة عليه من عند الله, وتبشيره بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة لإتباعه ونصرته.
الثاني : لزوم طاعة بني إسرائيلإسرائيل لله تعالى.
الثالث : التسليم بعظيم قدرة الله سبحانه وأن الأشياء كلها خاضعة لمشيئته.
الرابع : من نعم الله على بني إسرائيلإسرائيل مجيئ الآيات والنعم على خلاف قانون السببية المتعارف بين الناس.
الخامس : في الآية مصداق لما ورد حكاية عن موسى عليه السلام في التنزيل [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى] ( )، ومن المآرب ضرب الحجر بها ليتدفق الماء منه ويكون آية ومعجزة وحجة على بني إسرائيلإسرائيل.
الرابعة : تضمنت الآية الأمر الإلهي إلى موسى عليه السلام بضرب الحجر بعصاه، ولم تتضمن إخباره عن خروج الماء من الحجر.
الخامسة : عدم وجود فترة بين ضرب موسى عليه السلام للحجر وبين تدفق الماء منه بقرينة الفاء في (فانفجرت) وفيه اتمام للحجة.
السادسة : يحتمل ضرب موسى عليه السلام الحجر بعصاه وجوهاً :
الأول : الإتحاد وانه ضربة واحدة.
الثاني : التعدد وكثرة الضربات.
الثالث : إقتران ضرب الحجر بالدعاء والتضرع، وهو المستقرأ من قوله تعالى [اسْتَسْقَى] والذي يعني سبق الدعاء على ضرب الحجر , ولا يمنع من إقترانه أيضاً بحال ضرب الحجر.
والصحيح هو الأول والثالث، إذا أن الأمر(اضرب) ينصرف إلى المرة الواحدة الا مع القرينة الدالة على التكرار، وهي معدومة في المقام.
السابعة : ذكر الآية الكريمة لعدد العيون التي إنبعث منها الماء من الحجر وعددها إثنتا عشرة عيناً، وتلك آية إضافية، ولو خرج الماء من عين واحدة فهو معجزة وآية عظمى ، وجاء التعدد ليكون آية أخرى تدل على عظيم فضل الله عز وجل على بني إسرائيلإسرائيل.
ويمكن تأسيس قاعدة كلية من هذه الآية وهي أن النعمة الإلهية إذا جاءت لا تكون سبباً للخلاف والفرقة، فتأتي عوناً على الإتحاد والوئام , وخالية من أسباب ومقدمات الأذى، فتعدد عيون الماء نعمة كي لا يتزاحم بنو إسرائيلإسرائيل على الماء، وعدم التزاحم مناسبة للتوجه إلى الله تعالى بالشكر والثناء على هذه النعمة، وعدم الإنشغال بقسمة الماء بين الأسباط، وفيه شاهد على أن الله تعالى يعطي بالأوفى والأتم، وينزل النعم على بني إسرائيلإسرائيل بما يساعدهم على طاعة الله، وإصلاح أنفسهم.
الثامنة : في الآية مصداق لتفضل الله تعالى بالوفاء بعهده لبني إسرائيلإسرائيل لما تقدم قبل آيتين [فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا] ( )، اذ ان الماء مطلوب بذاته للشرب، ومطلوب للسقي والزراعة،وللغسل والتطهر والنظافة وغيرها , وهو من مصاديق وصفه بأنه مبارك , قال تعالى[وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا]( )، وهو من الشواهد والآثار لكونه أصلاً للمكنات بقوله تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، وأسرار الترابط بين الأصل والأثر في الخلائق.
التاسعة : الإستسقاء سؤال لنزول الماء والمطر في واقعة وأيام الإستسقاء، وموسم الأمطار، اما نعمة خروج الماء من الحجر ففيه نعمة دائمة لاتنحصر بأيام مخصوصة بل تتغشى أيام السنة كلها، وتلك نعمة أخرى.
العاشرة : لم يخرج الماء من الحجر بذاته من غير سبب خارجي، بل جاء بأمور :
الأول : أمر الله تعالى لموسى بضرب الحجر، فلو ضرب موسى عليه السلام الحجر من تلقاء نفسه لما خرج منه الماء.
الثاني : قيام موسى عليه السلام بالإمتثال لأمر الله تعالى بضرب الحجر بعصاه.
الثالث : ضرب الحجر بعصا موسى عليه السلام على نحو الخصوص، ولو ضربه بغير عصاه المخصوصة لما خرج الماء، وهي نازلة من الجنة ويتوارثها الأنبياء.
الرابع : مجئ الأمر الإلهي بقيام موسى عليه السلام بالذات بضرب الحجر بعصاه، وليس له ان ينيب غيره، مثل هارون وهو نبي، ومع هذا جاء الأمر الإلهي له بالذات وعلى نحو التعيين بضرب الحجر بعصاه، وفيه شاهد على خصوصية صفة الرسول، لأن موسى عليه السلام نبي رسول، وهارون نبي وليس برسول.
الحادية عشرة : عدم وجود فترة بين ضرب موسى عليه السلام الحجر وبين نبوع الماء فيه بقرينة الفاء في [فَانفَجَرَتْ] التي تفيد التعقيب والتوالي.
الثانية عشرة : مجيئ عدة عيون للماء من الحجر وعلى عدد أسباط بني إسرائيلإسرائيل، وفيه تخفيف ورحمة.
الثالثة عشرة : إنحصار الإنتفاع من الماء ببني إسرائيلإسرائيل دون القوم الكافرين الذين كانوا في تلك الأمصار، فلو نزل مطر من السماء لإنتفع البر والفاجر، ولكن العيون جاءت خاصة لبني إسرائيلإسرائيل، وفيه ترغيب بالإيمان، ودعوة للتصديق بالأنبياء، والإنتفاع من نزول البركات المصاحبة للبعثة النبوية والإيمان بالرسالة.
الرابعة عشرة : التوكيد بان خروج الماء من الحجر هو من رزق الله عز وجل، وفيه منع للإفتتان بموسى عليه السلام أو الحجر والآيات الباهرات.
الخامسة عشرة : دلالة الآية على عدم إنحصار الإنتفاع من الماء بالشرب منه، بقوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ].
والأكل عام يشمل الفواكه والثمار والخضروات، ويشمل لحوم الطير والمواشي فان قلت أن المواشي تشرب الماء، والجواب بالماء والزراعة والعشب تنمو وتتوالد المواشي ويظهر عليها السمن، ويستطيع الناس الأكل منها مع كثرتها، بالإضافة إلى شرب ما تدره من الحليب واللبن وما يصنع منه الذي ينعدم مع الهزال وقلة المراعي، ولكن وردت القرائن بأن المراد بالأكل في الآية هو ما ينزل من السماء من المن والسلوى.
السادسة عشرة : تبين الآية فضل الله عزوجل على بني إسرائيلإسرائيل بعدم الحاجة إلى العمل والجهد في الزراعة والسقي، وعدم حصول الأذى والترقب والإنتظار الذي تسببه قلة الأمطار والقحط، وهل يمكن إعتبار ضرب موسى الحجر من باب المجاز وأن المراد هو نزول المطر من السماء بقرينة [اسْتَسْقَى] الجواب لا، بل يحمل الكلام على معناه الحقيقي، وتدفق الماء من الحجر الصلب لأصالة الحقيقة، وعدم وجود قرينة صارفة الى المجاز، ولأن المقام هو تجلي آية من آيات الله على يد موسى عليه السلام، ومصداق لفضل الله على بني إسرائيلإسرائيل وقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وهو حجة عليهم إلى يوم القيامة.
ومن الآيات أن بني إسرائيلإسرائيل لا ينكرون هذه النعمة التي جاءت في هذه الآية بصيغة التذكير والتوبيخ واللوم لعدم مقابلة النعم الإلهية بالشكر لله تعالى.
السابعة عشرة : تحذير بني إسرائيلإسرائيل من الإفساد في الأرض، والغرور والظلم والطغيان مما يدل على أن تفضيل قوم أو أمة أو أهل ملة إنما هو دعوة لهم للإصلاح، وحث لهم على إجتناب الفساد والظلم والتعدي.
الثامنة عشرة : مجئ التحذير لبني إسرائيلإسرائيل بصيغة الجمع، ويتضمن وجوهاً :
الأول : الإنحلال بعدد بني إسرائيلإسرائيل , والتقدير لا يعث أحدكم في الأرض مفسداً.
الثاني : دعوة بني إسرائيلإسرائيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ومنع صدور الفساد والإفساد من الفرد والجماعة منهم.
الثالث : التحذير من الإفساد العام، وزجر عامة بني إسرائيلإسرائيل عن الإفساد، وهذا التحذير فضل ورحمة إلهية إضافية ببني إسرائيلإسرائيل، فمع النعمة تأتي الدعوة لتعاهدها وإجتناب الجحود بها وعدم إتخاذها وسيلة للتعدي على الأمم الأخرى.
الرابع : من الإفساد المنهي عنه في هذه الآية الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس الى عدم التصديق بها، أو حثهم على محاربة المسلمين كما حصل في تحريض جماعة من اليهود لقريش على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومدهم بالسلاح، وإنكار نبوته مع أن موسى عليه السلام جاء بالبشارة به ولزوم تصديقه وإتباعه.
وفي المراد من الرجز في الآية السابقة[فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ]( )، وجوه:
الأول: عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الطَّاعُونُ رِجْزٌ، عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ”)( ).
الثاني: عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني من العذاب.
الثالث: عن أبي العالية في قوله تعالى[فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ] قال: الرجز : الغضب.
الرابع: عن الشعبي قال: الرجز: إما الطاعون، وإما البَرَد.
الخامس: الطاعون عن أبي روق.
السادس: مات منهم بالطاعون سبعون ألفاً( ).
السابع: نزلت بهم نار فاحترقوا.
الثامن: وقع بينهم قتال فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضاً.
التاسع: موت الفجأة.
ويمكن تقسيم الرجز بلحاظ القرائن، فتدل هذه الآية على نزول الرجز من السماء عقوبة للذين ظلموا على نحو الخصوص.
وبعد نجاة بني إسرائيل من فرعون وقوله ورؤيتهم البراهين الباهرة التي تدل على صدق نبوة موسى عليه السلام وأن الله عز وجل معهم وناصرهم أمروا بالجهاد ودخول الأرض المقدسة وقتال الكفار من العماليق، فرماهم الله عز وجل في التيه أربعين سنة تأديباً لهم مع العناية والفضل الإلهي عليهم في التيه، وكان مناسبة زمانية ومكانية لإرشادهم وهدايتهم ومعرفتهم بأحكام التوراة وسنن الحلال والحرام.
وقد تقدم قوله تعالى[وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، وبدل شطر من بني إسرائيل القول وإمتنعوا عن قتال العماليق كما ورد في التنزيل[فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ]( )، ولم يعلن إستعداده للقتال طاعة لله ورسوله موسى إلا نفر قليل مثل يوشع بن نون وكالب بن يفنّه مما يدل على تخلفهم عن مراتب الهداية فجاءت حياتهم في التيه وعاءّ قهرياً لهدايتهم ومعرفتهم التنزيل.
الآية لطف
تذكر آية البحث نعمة عظيمة على بني إسرائيلإسرائيل تتعلق بالماء والحاجة اليه، فما من فرد وأمة إلا ويكون الماء ضرورة لهم وهو من الشواهد على الإستدامة في مصاديق قوله تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، وأنه لا ينحصر بأصل الخلق، بل يشمل إستدامة المخلوقات , وتلك آية ومعجزة كونية، ومادة لدوام حياتهم وأسباب معيشتهم، وكم من أرض وبلدة هجرت وتركها أهلها بسبب انعدام الماء، ولكن بني إسرائيلإسرائيل جاءتهم نعمة الماء بآية إلهية مباركة، إذ يضرب موسى عليه السلام الحجر بعصاه فيسيل الماء متدفقاً منه، ليخرج بكميات كبيرة من حجر صلد صغير، وتستقرأ كثرة الماء الذي يخرج من الحجر من وجوه :
الأولى : قوله تعالى [فَانفَجَرَتْ] والإنفجار عنوان لتدفق وإندفاع الماء بغزارة.
الثانية : فروع الماء على نحو العيون التي تدل على الجريان.
الثالثة : كثرة عدد عيون الماء، وهي إثنتا عشرة عيناً.
الرابعة : الأمر الإلهي لبني إسرائيلإسرائيل بأن يأكلوا ويشربوا ويأخذوا حاجتهم من الماء.
الخامسة : التبعيض في قوله تعالى [مِنْ رِزْقِ اللَّهِ] في توكيد بان الماء رزق من عند الله يستلزم الشكر الدائم من العباد عليه، خصوصاً وانه جاء بعد الجفاف بقرينة إستسقاء موسى عليه السلام، وتلك آية أخرى، فلو تدفق الماء من الحجر مع وجود الأنهار، وعدم الحاجة إلى الماء لا يلتفت شطر من بني إسرائيلإسرائيل للآية والمعجزة، ولقال بعضهم أنه فرع من ماء الأنهار، وأنهم لا يحتاجون إليه، وربما نعته بعضهم بالسحر، فجاءت الآية أوان الحاجة إلى القليل من الماء .
وعندما توجه بنو إسرائيلإسرائيل لموسى عليه السلام ليستسقي لهم ويسأل الله عز وجل أن ينعم على بني إسرائيلإسرائيل بماء المطر.
وجاءت الآية أكبر مما يرجو موسى عليه السلام وقومه وأعظم مما يأمـــلون وينتظرون، وفيه دعــــوة للمسلمين إلى التطلــع إلى فضــل الله عـــز وجل بما يفوق الأسباب المادية وقوانين العلة والمعلول.
ومع الآية والمعجزة جاء التحذير الإلهي من الإفساد في الأرض ومخالفة أحكام الشريعة، وإفشاء المعاصي وإرتكاب السيئات، وبنو إسرائيلإسرائيل مأمورون بإتيان الصالحات وإجتناب المحرمات دائماً شأنهم شأن الناس جميعاً وإقتران التحذير من الإفساد بالمعجزة لطف إلهي ببني إسرائيلإسرائيل لما فيه من التأديب والإرشاد، والزجر عن المعاصي التي قد تصدر من غير المؤمن عند توالي النعم وظهور الترف عليه.
لقد أراد الله من بني إسرائيلإسرائيل شكرهم له على نعمة تدفق الماء من الحجر بإجتناب الإفساد في الأرض ونشر المعصية، ومن أهم أفراد الإفساد التكذيب بالنبوة ودعوة الناس إلى عدم الإنصياع للأوامر الإلهية التي تجلت بأحكام الحلال والحرام.
وفي قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا] وجوه :
الأول : إن الأكل والشرب مما يخرج من الحجر.
الثاني : الماء الذي يخرج من الحجر للشرب لأنه موضوع للإستسقاء، أما الأكل فمن نعمة أخرى كالمن والسلوى، وقوله تعالى [فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا].
الثالث : المراد من الأكل الزراعات التي تنبت من الماء الذي يخرج من الحجر، فتكون من نعمة خروج الماء من الحجر ولكن بالواسطة، خصوصاً وأن الإستسقاء عام يشمل الماء والنبات، كما في أداء المسلمين لصلاة الإستسقاء عند الجدب رجاء نزول الغيث من السماء وسقي الأرض والدواب.
الرابع : ينتفع بنو إسرائيل من الماء الذي ينبع من الحجر لأغراض الشرب والسقي ويأكلون مما تنبت الأرض به، يأكلون من نعم أخرى والله واسع كريم.
والصحيح هو الثاني لبيان تعدد الآيات والنعم على بني إسرائيل وهو من معاني تفضيلهم على الناس في زمانهم، وتأكيد إستغنائهم عن الزراعات , وفيه دعوة لهم للشكر لله تعالى على المتعدد من النعم، ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
إفاضات الآية
الآية دعوة للجوء إلى الله تعالى في الحاجات وإسقاط النظر إلى المانع , ومن خصائص الدعاء عدم إستحالة الإستجابة وأنها تتعدى قوانين العلة والمعلول، وتتجلى في الآية فيوضات الرحمة والهداية إلى الإستعانة بأنوار الجلال، وعدم اليأس من رشحات فضل الله التي لا تقف عند حد أو قانون أو ضابطة بل هي جارية متدفقة كتدفق الماء من الحجر , وأكثر.
لقد جاءت الآية بوصف خروج الماء بأنه إنفجار وهو الإنشقاق والإندفاع والخروج بقوة، وقد ورد في سورة الأعراف [فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ] ( ) وإن كان الإنبجاس أضيق من الإنفجار لبيان تعدد الكيفية بحسب الحال والحاجة لمنع الشك وأنه على وتيرة واحدة، فيأتي متبايناً في مقداره وكمه في دلالة من حصول إختلاف وتعدد في كيفية خروجه لتجديد الآية وطرد الريب من النفوس.
لقد فتحت الآية للمسلمين أبواب الدعاء والأمل لتنفجر وتتعدد لهم أبواب الرزق بالمواظبة على العبادات.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بما يدل على إنقطاع موسى عليه السلام إلى الله تعالى، وتوجهه إليه بالدعاء والمسألة، [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى] فقد سأل موسى عليه السلام الماء له ولبني إسرائيل ودوابهم، ولم تذكر الآية المسؤول لأنه معلوم، فموسى عليه السلام لا يسأل إلا الله تعالى، والسقيا بيده سبحانه وفي عدم ذكر المسؤول وأنه الله نكتة عقائدية وهي وجود قانون ثابت وهو أن الأنبياء لا يسألون إلا الله، ومن مصاديق وراثة المسلمين لهم تلاوة المسلمين لقوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وفي إستسقاء موسى عليه السلام وجوه :
الأول : أراد موسى السقيا عبرة وموعظة لبني إسرائيل.
الثاني : خشي موسى الفتنة وإفتتان بني إسرائيل نتيجة العطش وقلة الماء، ففزع إلى الله تعالى بطلب السقيا.
الثالث : فيه بيان لعظيم منزلة موسى عليه السلام عند الله تعالى.
الرابع : تأديب بني إسرائيل، وجعلهم يتعلمون أحكام الإستسقاء، وعدم اليأس أو القنوط حال الإبتلاء.
الخامس : الإستسقاء مدرسة في الدعاء، ورجاء الفضل والخير من عند الله تعالى.
السادس : إنه مقدمة لآية العصا، ويحتمل الإستسقاء أموراً :
الأول : جاء الإستسقاء إبتداء من عند موسى عليه السلام، فهو الذي سأل الله تعالى الغيث والماء إبتداء من عنده لعلمه بفضل الله.
الثاني : جاء الإستسقاء بوحي وأمر من الله تعالى إلى موسى عليه السلام بمعنى أن الله أمر موسى بأن يستسقي لقومه.
الثالث : طلب بني إسرائيل من موسى الإستسقاء لهم.
والصحيح هو الثالث، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ]( )، إذ توجه بنو إسرائيل إلى موسى عليه السلام وطلبوا منه أن يسأل الله تعالى الماء، وفيه شاهد على إقرار بني إسرائيل بنبوة موسى عليه السلام وظهور حاجتهم الشديدة إلى الماء.
فلو بادر موسى عليه السلام إلى الإستسقاء لما التفت شطر من بني إسرائيل إلى نعمة الإستجابة والحاجة لمدرسة الدعاء، ولقال الذين ظلموا منهم قولاً غير محمود، ولكنهم توجهوا جميعاً إلى موسى عليه السلام وسألوه الدعاء وسؤال الماء من عند الله تعالى , وفيه آية وبيان لقانون يمكن أن نسميه(الدعاء بالواسطة) , ومنه ما ورد في الحديث القدسي (أدعوني بلسان لم تعصني به).
وفي سؤالهم شاهد على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى، إذ أنهم يخرجون للإستسقاء مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام نبوته، كما يستسقون في أجيالهم المتعاقبة، ورزق الله تعالى موسى عليه السلام العصا ليتدفق بواسطتها الماء، ولعل فيه بشارة للمسلمين بتوفر المياه والأمطار في بلدانهم إلى يوم القيامة، وعدم تعرضهم للعطش أو بلدانهم للجفاف أو مزروعاتهم للهلاك، ولا عبرة بالقليل النادر من البلاء والضرر.
ومن الآيات أن موسى لم يتردد في سؤال الله تعالى الماء، ولم يخف من عدم الإستجابة وإفتتان بني إسرائيل حينئذ، وميل فريق منهم إلى مفاهيم الجحود، كما أن الله تعالى لم يؤخر الإستجابة تأديباً لبني إسرائيل، ودرساً لهم ليتوجهوا هم أنفسهم بالدعاء والتضرع ورحمة بهم فاستغاث موسى عليه السلام بالله وسأل الماء لقومه، وإستجاب له الله تعالى، وجاءت الإستجابة آية إعجازية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً بتدفق الماء من الحجر، لبيان النعم الإلهية العظيمة على بني إسرائيل.
فقد يتحسر بعضهم على ماء النيل الذي كانوا يشربون منه في مصر قبل الخروج ويوجهون اللوم إلى موسى للحرمان منه كما في قولهم لموسى الذي ورد في التنزيل [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا]( )، فجاء الماء متدفقاً من الحجر ويمتاز بالنقاء، وعدم إقترانه بالعذاب الذي كانوا يلاقونه في مصر من فرعون وقومه، وفيه نكتة وقانون في الإرادة التكوينية، وهي أنه إذا إنغلق باب على المؤمنين فإن الله عز وجل يفتح لهم ما هو أفضل وأحسن منه, وعلى نحو التعدد .
فجاء الماء من الحجر آية إعجازية يومية متجددة تدعو بني إسرائيل إلى شكر الله تعالى على النعم العظيمة التي أولاهم وخصهم بها، فيخرج الماء الكثير من الحجر الصغير بقدرة الله وإستجابة الأشياء جميعاً له، وفيه حث لبني إسرائيل على الإستجابة لله ولرسوله، والتدبر في الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ القرآن بذكر معجزات موسى عليه السلام وتوثيقها من غير حسد أو نفرة منه، بل جاءت بصيغة الثناء على موسى وبيان عظيم منزلته عند الله تعالى، وهو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإن كان مذكوراً في التوراة المتداولة في الجملة.
وجاء السؤال من موسى لقومه جميعهم من غير فصل أو تمييز بينهم مما يدل على أنهم كانوا أمة مجتمعين، ولو جاء غير بني إسرائيل معهم فهل يشرب ويرتوي ويأخذ حاجته من هذا الماء له ولدوابه، الجواب نعم، لأن الناس شركاء في الماء (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس شركاء في ثلاثة في الماء والكلأ والنار) ( ).
ومن الإعجاز في هذه الآيات ان كل آية قرآنية تتضمن آيات حسية عظيمة أنعم الله تعالى بها على موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وليس من دليل في الآية على أن موسى عليه السلام يعلم بأنه إذا إستسقى سيوحي له الله تعالى بضرب الحجر بعصاه، وإن كان يعلم بأن عصاه آية من عند الله، وقد ضرب بها البحر قبل هذا فإنفلق وأصبح كالجبلين اللذين يفصل بينهما واد سحيق، وفي التنزيل [هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى] ( ).
وتدل الآية على أن موسى سأل الماء والغيث من الله عز وجل، وطلب الماء له ولقومه ليوم أو أكثر سواء بالغيث أو بالهداية والإرشاد إلى الماء أو بحفر الآبار وغيره.
فجاءت الإستجابة من عند الله متعقبة لسؤال موسى غير متأخرة عنها، بدليل الفاء في قوله تعالى [فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ] التي تفيد التعقيب والترتيب المعنوي، وجاء قوله تعالى [فَقُلْنَا اضْرِبْ] أي ان الله تعالى أمر موسى الحجر بعصاه، ودلّ عليه ما تقدم من الكلام وأن موسى عليه السلام هو الذي إستسقى.
ودل عليه أيضاً ما بعده بقرينة إضرب بعصاك، وموسى عليه السلام هو صاحب العصا المعجزة، وفي عدم ذكر جهة القول والإكتفاء بقوله تعالى [فَقُلْنَا] إشارة إلى أن تدفق الماء من الحجر آية من بديع صنع الله تعالى، ولطفه وفضله على بني إسرائيل يشهدها الملائكة، وفيها فضل على الناس جميعاً لأنها دعوة للإيمان والإقرار بأن الله تعالى قادر على كل شئ، وهي حرب على الإلحاد والكفر والضلالة.
وجاءت وثيقة سماوية في القرآن لتكون دعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنهل من مشكاة النبوة والمعجزات التي يأتي بها الأنبياء من عند الله تعالى، وقد وقعت الآية لبني إسرائيل في أيام موسى عليه السلام.
وجاءت في القرآن تذكيراً وعبرة لليهود وأهل الكتاب، ولتكون قصة تتضمن بديع صنع الله تعالى، وإنشائه الأسباب وفق نواميس الطبيعة، وخلاف تلك النواميس.
وهل في الآية دعوة لإستخراج الماء من المواد الصلبة في حالات الجفاف في مستقبل الأيام، الجواب نعم، فإن المعجزة الإلهية تأتي خارقة للعادة ومقرونة بالتحدي، وسالمة من المعارضة، لتكون مدرسة وسبيل للتعلم وإستقراء المسائل والعبر منها.
لقد شكا بنو إسرائيل لموسى الضمأ، ولم يقفوا عند حدود الشكوى، فطلبوا منه أن يسأل الله تعالى أن يسقيهم ويمن عليهم بالماء، فجاءت الإستجابة عاجلة من عند الله وتفي بحاجتهم، ولا تتعارض مع إنتقالهم في التيه والصحراء، وكما نزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات من غير جهد أو عناء، فكذا الماء فهم لم يطلبوه في الأماكن البعيدة، ولم يبذلوا الوسع في حفر الآبار التي يتم حفرها وقد لا يخرج فيها ماء.
وهل ضرب موسى بعصاه الحجر مرات عديدة كي يتدفق الماء منها، أم إكتفى بضربة واحدة، الصحيح هو الثاني، فلو دار الأمر بين المرة والتكرار في المقام , فالمرة الواحدة كافية لأنها إمتثال لأمره تعالى[فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ] والله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، ومنه تدفق الماء بالضربة الواحدة التي يصدق عليها أنها إمتثال لأمر الله تعالى.
وجاء الإخبار عن إنفجار الماء متعقباً للأمر الإلهي لموسى بضرب الحجر بعصاه، وتقدير الآية : فضرب الحجر بعصاه فإنفجرت إثنتا عشرة عيناً.
وفي عدم ذكر خبر الضرب وجوه :
الأول :دلالة ما بقي من الكلام على ما لم يذكر فيه.
الثاني : تبين الآية قيد الضرب للحصول على الماء.
الثالث : في الآية إعجاز وبيان لتسليم موسى عليه السلام لأمر الله تعالى، فحينما أمره بضرب الحجر بالعصا إستجاب لأمر الله تعالى، وقد سبق وأن أمره الله تعالى بأن يضرب البحر بالعصا ليخرج له طريقاً يابساً ليعبر منه هو وبنو إسرائيل للنجاة من آل فرعون، قال تعالى [فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فإنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] ( ). وجاء الضرب في المقام ليس على الماء بل على الحجر الصلب اليابس ليتدفق منه الماء , فقد إبتلاهم الله بالبقاء في التيه فتكفل رزقهم بالمعجزة.
وجاءت الآيات بالبشارة لموسى أن يأخذ لقومه طريقاً يابساً في البحر كما في قوله تعالى[أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا] ( ).
وجاءت هذه الآية وكأن موسى عليه السلام لا يعلم بوجه الإستسقاء وأن الماء سيخرجه من الحجر، خصوصاً وأنه طلب الماء والسقيا مطلقاً من غير تعيين بجهة مخصوصة، وإن كان إنصراف الكلام إلى نزول الغيث من السماء، ولم يسأل موسى الله عز وجل عن الصلة بين الإستسقاء وضرب الحجر بعصاه، وليت بني إسرائيل تعلموا منه درساً في المقام، ولم يسألوا ويردوا الكلام ويشددوا على أنفسهم حينما قال لهم[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( ).
فالآية درس وسر من أسرار مدرسة النبوة، وتدل على فناء النبي في مرضاة الله تعالى ومبادرته إلى طاعة الأوامر الإلهية والوحي والتنزيل من غير تردد أو ترديد، ليأتي مع الإستجابة والإمتثال الخير الكثير، والنعم العظيمة، فقام موسى عليه السلام فضرب الحجر بذات العصا الخاصة التي من آس الجنة، ليتدفق الماء من الحجر، وجاء تدفقه آية أخرى إذ خرج عيوناً بعدد أسباط بني إسرائيل، وورد في سورة الأعراف [فإنبَجَسَتْ]بدل فإنفجرت والمعنى الواحد، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل إنفجار هو إنبجاس وليس العكس، لأن الإنفجار أعم وأقوى ، وفيه إشارة إلى كثرة تدفق وتتابع جريان الماء بما يمنع من الإختلاف من وجوه :
الأول : تعدد العيون التي يخرج منها الماء إذ جاءت بعدد أسباط بني إسرائيل.
الثاني : تعيين موضع شرب كل سبط وفريق منهم بدليل قوله تعالى [قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ].
الثالث : كثرة الماء الذي يتدفق من الحجر لذا جاءت بلفظ الإنفجار.
الرابع : مجئ حرف التبعيض(من) بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ] التي تفيد بقاء فضلة وزيادة من الماء عن حاجة بني إسرائيل.
والعين من المشترك اللفظي ويقع على معان متعددة، وجاء هنا لإرادة عين الماء، ليكون مخرج الماء متعدداً وكذا جريانه، فلا يتصل ويتداخل أحدهما بالآخر، وتلك آية أخرى، ونعمة عظيمة على بني إسرائيل مع كثرة وزيادة الماء المتدفق من كل عين منها، والله ذو الفضل العظيم، فهو سبحانه ينعم على بني إسرائيل والناس بالنعمة ويمنع من الشرور العرضية التي قد تصاحبها، وفيه مسائل :
الأولى: البعث للإنشغال بالنعمة.
الثانية: التدبر في معاني النعمة ومنافعها.
الثالثة: التوجه العام إلى الله تعالى بالشكر على النعمة.
الرابعة: الإخلاص في عبادة الله وإتباع أنبيائه، وفيه العز والغلبة والنصر، قال تعالى[كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
لقد سألوا موسى عليه السلام الماء والسقيا بأي كيفية تدفع عنهم شبح الموت والهلاك عطشاً، فجاءت الآية العظمى بضرب موسى للحجر بعصاه ليتدفق الماء منه كأنه نهر جار.
وفي الآية مسائل :
الأولى : النهي والتحذير من الخصومات بسبب الماء وقسمته، وفي الفقه باب خاص لقسمة الماء بين المزارعين.
الثانية : الدعوة للجوء إلى الله تعالى في طلب الماء وسؤال الغيث ونزول المطر.
الثالثة : التوجه إلى الله تعالى بالشكر على نعمة الماء مطلقاً، ونعمة نزول الماء من السماء، قال تعالى [وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ]( ).
الرابعة : منع الحروب التي قد تنشأ بسبب الماء وجريان النهر في أمصار وبلدان متعددة، بقواعد القسمة والإنصاف وعدم الإستئثار على الآخرين، والله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين.
وفي كثرة العيون التي خرجت من الحجر آية أخرى، من وجوه :
الأول : صغر الحجر.
الثاني :خروج الماء من جهاته المتعددة.
الثالث : مجئ العيون بعدد أسباط بني إسرائيل.
الرابع : إتصال وتدفق الماء الذي يدل عليه قوله تعالى[فإنفَجَرَتْ].
الخامس : كثرة الماء في كل عين من العيون التي تدفقت من الحجر، إذ أن قوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ]إنحلالي لكل سبط من أسباط بني إسرائيل، وشاهد على الكثرة والزيادة في كل عين من العيون الإثنتي عشرة، فلا يحتاج سبط أن يأخذ من ماء السبط الآخر، وما قد يكون فيه المسألة والحاجة، فأراد الله عز وجل أن تكون حاجتهم ومسألتهم له سبحانه، وهو وحده الذي يقضيها.
وفي الآية ترغيب بالعمل الصالح والسعي إلى دخول الجنة، والتنعم بما فيها من العيون، قال تعالى [ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا] ( )، فجاء إنفجار الماء من العيون على يد موسى عليه السلام مثالاً دنيوياً حاضراً لنعيم الآخرة وكثرة العيون فيها، والتي لا تدرك إلا بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاءت على يديه، وبه جاءت التوراة.
وهذه الآية من الشواهد إذ تبين أسرار واقعة دفعت عن بني إسرائيل الموت والهلاك بآية إعجازية إذ يتدفق الماء في الصحراء من الحجر، ببركة إستسقاء موسى عليه السلام، وما أوحاه الله تعالى له.
وبعد أن جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية إنتقلت إلى صيغة [ كُلُوا وَاشْرَبُوا], وفيه إعجاز إضافي من وجوه :
الأول : إرادة المعنى الأعم في النعم التي أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل ، وشمول الآية للمن والسلوى بلحاظ قوله تعالى[كُلُوا].
الثاني : إنتفاع بني إسرائيل من الماء في الطبخ والأكل، إذ أن منافعه لا تنحصر بالشرب وحده، ومن الزاد ما يستلزم إعداده توفر الماء، فجاءت الآية للإخبار عن نعمة إضافية من تدفق الماء من الحجر بأكل بني إسرائيل الطيبات من الأكل.
الثالث : سهولة ويسر الحصول على الماء العذب من غير جهد وعناء ومشقة.
الرابع : بيان نعمة الله تعالى على نساء بني إسرائيل فبعد إستحياء آل فرعون لهن، أصبحن يأكلن ويشربن ويجهزن من الطعام إلى أبنائهن وأزواجهن من غير عناء أو نصب أو مشقة.
وقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا] إنحلالي يشمل الرجال والنساء والصبيان من بني إسرائيل، وجاء قبل آيتين في دخول بني إسرائيل بيت المقدس [فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ] ولم تذكر الآية الشرب، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إلحاق الشرب بالأكل.
الثاني : توفر الماء في القرية، لدلالة لفظ القرية على عمارتها قبل أن يدخلوها.
الثالث : توكيد الآية على الأكل من الطيبات، وما في القرية من الثمار والخيرات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وجاءت هذه الآية بذكر الأكل والشرب لحصولهم على الماء في التيه بمعجزة عصا موسى عليه السلام عندما كان بين ظهرانيهم، وفيه بيان للمنافع العظيمة لوجود النبي بين الناس , وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل[وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ] ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول البركات والآيات، وتعلم المسلمين أحكام العبادات، وإقبالهم عليها.
وتبين الصلة بين قوله تعالى[وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى] وقوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ] إستجابة الله تعالى لموسى عليه السلام ونزول الرزق على بني إسرائيل وبما فيه الزيادة والكثرة والتعدد، لدلالة حرف الجر(من) على التبعيض، وفيه وجوه :
الأول : كثرة الأكل والشرب، فيأخذ بنو إسرائيل كفايتهم ويبقى فضل.
الثاني : تعدد أنواع الأكل والطيبات.
الثالث : شمول الرزق لمصاديق وأفراد غير الأكل والشرب.
الرابع : من رزق الله تعالى مجئ الطيبات من غير عناء ولا نصب، ومنه الأمن والسلامة من الأعداء، ونزول التوراة ونيل مرتبة التفضيل، لقد إستجاب موسى عليه السلام لقومه بالتوجه إلى الله تعالى بالدعاء والإستسقاء ، ولم يجعل شرطاً في مسألته، لما قبل المسألة، ولا لما بعد الإستجابة، بل توجه إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع والمسألة، لوجوه :
الأول : عظيم فضل الله على بني إسرائيل.
الثاني : فتح باب الدعاء للناس.
الثالث : موسى عليه السلام هو كليم الله.
الرابع : الحاجة والضرورة للماء، إذ تتوقف إستدامة حياة بني إسرائيل على الماء.
الخامس : تأديب بني إسرائيل، وإرشادهم إلى عدم التشديد على النفس.
السادس : حث بني إسرائيل على التوجه إلى الله، وسؤال الدعاء وإظهار المسكنة إلى الله تعالى، لما فيه من الدلالة على الإقرار بأن الأمور كلها بيد الله تعالى، وأنه تعالى لا تستعصي عليه مسألة.
وجاء الشرط والتأديب من عند الله بان أختتمت الآية بنهي بني إسرائيل عن الفساد في الأرض [وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] وهو درس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأتي النهي بعد الرزق العظيم والإحسان الجزيل والمعجزة الباهرة، ليبعث العزم في النفوس على الإمتثال والصلاح.
ومن منافع إختتام الآية بصيغة الخطاب لبني إسرائيل أيام البعثة النبوية تحذيرهم من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، والتعدي عليهم، لأن هذا التعدي من مصاديق الإفساد في الأرض وشدته، والعثي الطغيان وشدة الفساد.
ويدل الإنذار في خاتمة الآية على أن دخول بني إسرائيل القرية مقدمة لتولي شؤون الحكم والسيادة، لذا جاء قبل آيتين بأن يدخلوا الباب ويقولوا [حِطَّةٌ] كي يقيموا في حياة المدن والسيادة وفق قواعد التقوى والصلاح، ويتجنبوا الطغيان والفساد، لأنه يسبب نفرة الناس منهم.
فتتجلى الصلة بين خاتمة هذه الآية والآيتين السابقتين بلزوم إظهار معاني التقوى والعمل بأحكام التوراة لتثبيت دعائم التوحيد في الأرض، ونيل المحسنين من بني إسرائيل المقامات السامية في الدنيا والآخرة.
أختتمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ] ونال سليمان عليه السلام النبوة والملك.
وجاءت خاتمة الآية السابقة بهلاك الذين يفسقون من بني إسرائيل بعذاب من السماء، ليكون عوناً وتأديباً لمن بقي منهم من الصالحين، ولمنع غلبة الشر وأسباب الفساد.
وجاءت خاتمة هذه الآية للتحذير من الفساد والإفساد على نحو مستديم، ويتحقق الإمتثال لمضامين خاتمة هذه الآية بدخول الإسلام والتقيد بأحكامه، والإنضمام إلى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وجاءت الآيات بالإخبار عن وقوع الفساد مع بيان سوء عاقبته ,قال تعالى [وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا]( ).
لقد جاء الأمر الإلهي إلى موسى عليه السلام نصاً صريحاً بسيطاً ليس مجملاً لا يقبل تعدد التأويل، ليكون ضرب الحجر بالعصا آية إعجازية باقية إلى يوم القيامة بالقرآن والمسلمين، وهو من الشواهد على موضوعية القرآن وحاجة الناس له، سواء الذين كانوا قبل نزوله أم الذين من بعده ، وقد أنعم الله تعالى على الأجيال السابقة بالمسلمين ليحفظوا الآيات والمعجزات التي
جاء بها الأنبياء، ولتكون تلاوة المسلمين للآيات التي فيها قصص الأمم السالفة بياناً لفضل الله تعالى عليها وعلى الأجيال اللاحقة من ذراريهم.
وجاءت الآية بالتعيين من وجوه :
الأول : توجه الخطاب والأمر بالضرب إلى موسى عليه السلام دون غيره، فهو النبي المرسل الذي تجري معجزة العصا على يديه.
الثاني : ذكر عصا موسى عليه السلام على نحو التعيين، فليس لموسى عليه السلام أن يضرب بغير عصاه.
لذا جاءت الآية بإضافة ونسبة العصا إلى موسى عليه السلام[عَصَاكَ].
وتدل الآية على أن موسى عليه السلام ليس عنده إلا عصا واحدة، وحجر مخصوص يضربه موسى عليه السلام، بدلالة الألف واللام في(الحجر) التي تفيد العهد وخصوص حجر معين وقيل كان يضرب لهم حجراً من عرض الحجارة، ليدرك بنو إسرائيل وجود قوانين خاصة للمعجزة، وحاجتهم إلى النبوة في تلقي الوحي من عند الله تعالى، وعظيم منزلة موسى عليه السلام بأنه هو الذي يباشر ضرب الحجر بعصاه.
وكما جاء حرف العطف ألفاء في قوله تعالى[فَقُلْنَا] للترتيب الذكري والتعقيب، جاء حرف العطف الفاء في قوله تعالى[فإنفَجَرَتْ] فليس ثمة فترة ووقت بين ضرب موسى الحجر بالعصا وبين تدفق الماء منه.
وتبين الآية اللطف والإستجابة الإلهية لدعاء الإستسقاء، وتحتمل جهة صدور الدعاء بطلب السقي وجوهاً :
الأول : جاء الدعاء والإستسقاء من موسى عليه السلام.
الثاني : إشتراك عموم بني إسرائيل في الدعاء والمسألة وطلب الماء، كما يؤدي المسلمون صلاة الإستسقاء.
الثالث : توجه موسى عليه السلام والصالحين من بني إسرائيل لله عز وجل في الدعاء والمسألة.
والصحيح هو الأول لوجوه :
الأول : ظاهر هذه الآية وما جاء في أولها ونسبة الطلب والسقية إلى موسى عليه السلام على نحو الخصوص بقوله تعالى[وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى].
الثاني : مجئ بني إسرائيل لموسى عليه السلام والطلب منه الإستسقاء.
الثالث : لقد أراد الله تعالى أن تكون آية تدفق الماء من الحجر معجزة لموسى عليه السلام على نحو الخصوص، إبتداء وموضوعاً، فموسى عليه السلام هو الذي إستسقى، كي لا يقول نفر من بني إسرائيل أن آية تدفق الماء من الحجر جاءت بسؤالهم ودعائهم.
التفسير الذاتي
تتضمن الآية نعماً أخرى من التي أنعمها الله عز وجل على بني إسرائيل، وفي النعم التي تذكرها هذه الآيات مسائل :
الأولى : كثرة النعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل على نحو الخصوص.
الثانية : تجلي الإعجاز في كل نعمة من هذه النعم، وتوكيد صدورها من عند الله، فلا يقدر عليها غيره سبحانه.
الثالثة : ترغيب بني إسرائيل بالإيمان والعمل الصالح، والفوز بالنعم بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من الأحكام من عند الله عز وجل.
الرابعة : إنذار بني إسرائيل من الجحود بالنعم.
الخامسة : دعوة المسلمين للتوجه إلى الله تعالى بنيل هذه النعم.
وجاءت آية أخرى من القرآن بالإخبار بأن الإستسقاء جاء عن سؤال من بني إسرائيل لموسى , قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ]( ).
وذكرت هذه الآية نعماً عديدة وهي :
الأولى : نعمة توجه موسى بالدعاء وسؤال الله نزول الغيث والمطر لبني إسرائيل.
الثانية : فوز بني إسرائيل بدعاء النبي موسى عليه السلام لهم بالإستسقاء.
الثالثة : مبادرة موسى للإستسقاء، وعدم جعل شرط أو قيد على بني إسرائيل للإستسقاء.
الرابعة : إرادة نفع عموم بني إسرائيل من الإستسقاء، وعدم حصره ومنافعه بشطر منهم.
الخامسة : إستجابة الله عز وجل لدعاء وإستسقاء موسى.
السادسة : ظهور الإعجاز في موضوع الإستجابة لدعاء موسى عليه السلام، فمن يستسقي يرجو نزول الغيث من السماء، والذي يأتي على نحو المرة الواحدة، أو مرات متعددة .
أما إستجابة الله لموسى فجاءت بآية متصلة دائمة وليس من السماء ولا من الأنهار والآبار والينابيع التي تكون ثابتة في موضع واحد، بل جاء مناسباً لبقاء بني إسرائيل في التيه، وحلهم وترحالهم، بضرب موسى عليه السلام الحجر بعصاه فيتدفق منه الماء، وهو من مصاديق تفضيل بني إسرائيل على العالمين إذ رزقهم الله عز وجل نعمة جريان الماء من الحجر الصلد الصغير.
وفي الآية حذف وتقديره: فقلنا إضرب بعصاك الحجر فضربه فإنفجرت.
ومن أسرار الحذف أن موسى عليه السلام يبادر إلى الإمتثال إلى أمر الله، فهو لم يسأل ويراجع كما أكثر بنو إسرائيل من السؤال عن البقرة التي أمرهم بذبحها( ).
السابعة : إنبعاث الماء من الحجر حالما ضربه موسى عليه السلام بعصاه بدليل قوله تعالى “فإنفجرت” فتدل “الفاء” على عدم وجود فترة بين ضربه الحجر وبين خروج الماء منه.
الثامنة : في الآية شاهد على بركة عصا موسى عليه السلام، وكيف أنها نزلت من الجنة.
التاسعة : تعدد العيون التي يخرج منها الماء بعدد أسباط بني إسرائيل، وفيه وجوه :
الأول : بيان عظيم قدرة الله وسعة رحمته.
الثاني : تعدد العيون آية ومعجزة أخرى لموسى.
الثالث : توكيد فضل الله عز وجل على بني إسرائيل وكثرة نعمه عليهم.
الرابع : منع الفرقة والخلاف بين أسباط بني إسرائيل بسبب الماء، فلو كان الذي يخرج من الحجر عيناً واحدة لتدافعوا عليها، وكل يرغب أن يكون هو أول من يغترف ويستحوذ على مقدار منها، فأنعم الله عز وجل عليهم بأن يكون لكل سبط عين، والله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأتم والأوفى، وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )،شمول التفضيل للكلي والجزئي من ذات الموضوع.
العاشرة : لقد نجا بنو إسرائيل من الغرق عند مغادرة مصر وعبور البحر الأحمر، وجاءت هذه الآية لنجاتهم من الموت عطشاً في الصحراء ترى لماذا لم ينزل عليهم الغيث إستجابة لسؤال موسى عليه السلام، والجواب من وجوه :
الأول : تدفق الماء من الحجر شاهد على تفضيل بني إسرائيل.
الثاني : دعوة بني إسرائيل لتعاهد الإيمان.
الثالث : ينزل المطر في موسم مخصوص، وأيام متعددة من السنة، وبقدر معين ، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ] ( ) أما خروج الماء من الحجر فهو مستمر لوجود علته وسببه وهو ضرب موسى الحجر بعصاه.
الرابع : قد لا يستفيد بنو إسرائيل من ماء المطر كثيراً لذهابه في الأرض وحاجتهم إلى حفر الآبار وما فيه من المشقة ، فأنعم الله عليهم بماء زلال يتدفق كالأنهار من الحجر.
الخامس : بيان منزلة موسى عليه السلام عند الله، وفيه دعوة لبني إسرائيل لطاعته، وتلقي البشارات التي جاء بها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه بالتصديق والتعاهد.
السادس : تفضيل بني إسرائيل بنعمة إضافية وهي تعدد المعجزة في الموضوع المتحد.
الحادية عشرة : إستسقى موسى لقومه، فلم تكن له عين خاصة به، ويحتمل وجهين :
الأول : أن يأخذ من العين التي منها سبطه.
الثاني : يأخذ من أي عين من العيون الإثنتي عشرة، لإمامته لبني إسرائيل جميعاً .
الثالث : يقوم بنو إسرائيل بتوفير ما يحتاجه موسى عليه السلام من الماء.
والصحيح هو الأول لقوله تعالى [قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ]،وفيه أن موسى عليه السلام حرص على تعيين عائدية كل عين، فكل سبط يعرف العين التي تخصه، وتلك آية أخرى لبعث السكينة في نفوسهم وطرد النفرة والخلاف عنهم، وفيه دعوة للتدبر والتفكر في آية خروج الماء من الحجر، فمرة يخرج على نحو التدافع والإنفجار، وأخرى بالإنبجاس أي أقل مرتبة من الإنفجار لقوله تعالى [فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا] ( ).
(وعن أبي مسروق : كان يسقي كل يوم ستمائة آلاف( ).
وفي نعمة جريان الماء من الحجر وجوه :
الأول : التخفيف عن بني إسرائيل بالسقي والشرب والطهر بواسطة بالحجر وليس بالغيث.
الثاني : هذه النعمة مناسبة ليتفرغ بنو إسرائيل للعبادة وأداء المناسك , ويتركونها تركة لأبنائهم , وحجة للتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الإكثار من الشكر لله عز وجل على نعمة جريان الماء من الحجر الصلد.
الثانية عشرة : الأمر الإلهي لبني إسرائيل بالأكل والشرب، والتنعم بالطيبات وما ينزل من السماء من المن والسلوى.
الثالثة عشرة : دعوة بني إسرائيل للتفقه في الدين، وإدراك حقائق كلامية منها :
الأولى : جريان الماء من الحجر نعمة من عند الله.
الثانية : إنه رزق كريم خصهم الله عز وجل به.
الثالثة : فيه منع من الإفتتان بموسى عليه السلام.
الرابعة : إنها زجر عن الضلالة والجحود.
الرابعة عشرة : نعمة النهي عن الإفساد في الأرض.
ومن الآيات مجيء هذا النهي مع النعم الكثيرة المتداخلة والمتصلة ليتلقاه بنو إسرائيل بالإمتثال وإجتناب المعاصي والسيئات، وفيه مسائل :
الأولى : لما إحتجت الملائكة عند جعل آدم خليفة في الأرض بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، جاءت هذه الآية لبيان أن الله عز وجل ينهى الناس عن الفساد وينعم عليهم النعم العظيمة لتكون وسيلة ومقدمة لهدايتهم وصلاحهم وثباتهم في منازل الإيمان، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثانية : إنذار بني إسرائيل من الجحود بالنعم وإخبارهم بالقبح الذاتي والعرضي للفساد.
الثالثة : الفساد حاجب دون توالي النعم، قال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الرابعة : بيان أضرار السعي في الفساد.
الخامسة : دعوة الصلحاء من بني إسرائيل لزجر من يرتكب المعاصي وينشر الفساد في الأرض، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادسة : خاتمة الآية دعوة لبني إسرائيل للمحافظة على النعم، وجاءت بصيغة الإنذار والحجة، وورد قوله تعالى [وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] خمس مرات في القرآن( ).
وجاءت الآية بالأمر بالأكل والشرب من رزق الله، وهو سور الموجبة الكلية في المقام لما فيه من الإطلاق ، و جاء فضل الله عز وجل عليهم على وجوه كثيرة منها :
الأول : المن والسلوى.
الثاني : الماء.
الثالث : الأكل من الثمار.
الرابع : حياة الحضر.
الخامس : حال السعة والتمتع.
السادس : الرغد في العيش.
وفي تعدد وتداخل مصاديق الفضل الإلهي على بني إسرائيل وجوه :
الأول : إنه شاهد على تفضيلهم.
الثاني : فيه دعوة لهم لسؤال المزيد بالإيمان والعمل الصالح.
الثالث : إنه مناسبة لشكر الله عز وجل.
الرابع : فيه حث على الدعاء لدوام النعم، ونزول المزيد منها.
وجاءت الآية في تعيين الذي إستسقى وأنه موسى عليه السلام، وتدفق الماء من الحجر بعصا موسى.
ومن وجوه تفضيل المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، تشريع صلاة الإستسقاء باقية عندهم إلى يوم القيامة وانهم مؤهلون لسؤال الغيث وطلب السقيا.
ولم تقل الآية إذ إستسقى موسى لبني إسرائيل، بل ذكرتهم بصفتهم قوم موسى لبيان رأفة موسى بهم وتوسله إلى الله بأن يرحمهم بنزول الغيث.
ويحتمل قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] وجهين :
الأول : إنه من قول الله عز وجل خطاباً لبني إسرائيل.
الثاني : إنه من قول موسى عليه السلام لقومه، لتعاهد النعمة وشكر الله عز وجل عليها.
والصحيح هو الأول لإتصال الكلام مع [فقلنا إضرب] وإن ورد عن نبي الله صالح نهي لقومه من الإفساد في الأرض كما في قوله تعالى [فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ).
ويمكن تأسيس قاعدة قرآنية , وهي لو دار الكلام في القرآن بين وجوه :
الأول : إنه خطاب من الله.
الثاني : صدور الخطاب من النبي.
الثالث : الخطاب من الملك .
فالأصل هو الأول لأن القرآن كلام الله عز وجل , إلا مع القرينة الصارفة .
ويحتمل متعلق خاتمة الآية وقوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا] وجوهاً :
الأول : إرادة المن والسلوى، والشرب من الماء الذي يتدفق من الحجر.
الثاني : شمول الأمر والنهي الوارد في الآية أفراد الزمان الحاضرة والتالية في مستقبل الأيام.
الثالث : تعلق الأكل والشرب بأيام التيه وإنفجار الماء من الحجر، أما النهي عن الفساد في الأرض فهو نهي منبسط على جميع آنات الزمان.
والصحيح هو الثاني، فكل أكل وشرب لبني إسرائيل والناس جميعاً هو من رزق الله، وفضل منه سبحانه، وجاء قوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] قبل ثلاث آيات( )، وفيه توكيد وحث لبني إسرائيل بأن يشكروا الله على نعمة المن والسلوى، ويتعاهدوها بالصلاح وإجتناب الفساد ولكن جاءت الآية التالية بسؤالهم لموسى بأن تخرج لهم الأرض نباتها، وأنهم لن يصبروا على طعام واحد.
من غايات الآية
جاءت الآية في سياق تذكير بني إسرائيلإسرائيل بنعم الله عليهم ومنها نعمة تدفق الماء من الحجر وإستمرار هذه النعمة وعدم إنحصارها بقضية شخصية وواقعة واحدة، وهو المستقرأ من قوله تعالى ِ[كُلُوا وَاشْرَبُوا] والأخبار الواردة في المقام.
وتبين الآية تفضيل بني إسرائيلإسرائيل بآيات ونعم لا تخطر على الأوهام في عالم التصور، فلا يظن إنسان أن حجراً واحداً كلما يضرب تخرج منه عيون ماء كثيرة بذات العدد في كل مرة ومن غير إختلاط في مائها، ولو تردد الأمر بين كون الماء عذباً أو مالحاً، فالأصل هو العذوبة لأنه من رزق الله، وهو سبحانه يدعو بني إسرائيلإسرائيل للشرب منه، بإعتباره نعمة من نعم الله عليهم.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: لما استسقى موسى لقومه أوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فقال لهم موسى: ردوا معشر الحمير . فأوحى الله إليه : قلت لعبادي معشر الحمير ، وإني قد حرمت عليكم الأرض المقدسة؟
قال : يا رب فاجعل قبري منها قذفة حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو رأيتم قبر موسى لرأيتموه من الأرض المقدسة قذفة بحجر)( ) .
والحديث ضعيف سنداً ودلالة، فلم يرفع الحسن البصري الخبر , ومن المستبعد أن ينعتهم موسى عليه السلام بالحمير , وقد فضلهم الله على العالمين.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما استسقى لقومه فسقوا قال : اشربوا يا حمير .
فنهاه عن ذلك ، وقال : لا تدعُ عبادي يا حمير)( ).
لقد أراد الله عز وجل تعاهد بني إسرائيل للأخوة وصلة القربى بينهم برزقهم كثرة الماء وتقسيمه بما يمنع من الخصومة بينهم، وكانت بين الأسباط عصبية وتفاخر , وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر فتفضل الله عز وجل جدولاً ونهراً خاصاً لكل سبطاً منهم، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالأخوة في الله، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن غايات آياته من اللامتناهي وهي على أقسام:
الأول: الغاية التي تكون ظاهرة بينة.
الثاني: الغاية التي تتجلى بالمفهوم.
الثالث: التي تحتاج إلى وسيط في المعنى.
الرابع: الغاية التي يتم التوصل إليها بطريق التفسير والتأويل والإستنباط.
الخامس: الغاية التي تترشح عن الجمع بين آيتين أو أكثر.
والآية شاهد سماوي على بديع صنع الله، وتجلي الآيات بصفة النعم على العباد لطفاً منه تعالى، لتكون كل نعمة مدرسة في المعارف الإلهية، ووسيلة لزيادة الإيمان وتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات لإستقبال بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والنصرة، أما إشاعة الفساد فهي غشاوة وبرزخ دون تعاهد الناس للبشارات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومانع من الإلتفات إلى الآيات الباهرات التي جاء بها من عند الله .
فأراد الله عز وجل إصلاح النفوس والأخلاق والمجتمعات كمقدمة لبعثته، وزاجر عن الجحود بنبوته، والإصرار على محاربته.
التفسير
قوله تعالى [[وَإِذْ اسْتسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ]]
تبين الآية الكريمة نعمة أخرى من النعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني اسرائيلإسرائيل لأن الكلام معطوف على ما ســبقه من الآيات، وقيل إنه متعلق بكلام محذوف مكانه: واذكروا إذ إستسقى.
لقد سأل موسى عليه السلام ربه ان يرزقه وبني اسرائيلإسرائيل الماء والمطر ونزول الغيث للشرب ونحوه، ولم تذكر الآية أن موسى سأل لنفسه أما لشمول العام للخاص، او لأن موسى كان يطعمه الله عز وجل كما روى الشافعي عنه بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الوصال ، قيل : يا رسول الله تواصل ، أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله؟ فقال : إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني( ).
والأصح .الأول كما بيناه في مفهوم الآية ، وعمومات قوله تعالى[وَإِذْ اسْتسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ].
أما سبب لجوئهم الى موسى عليه السلام ففيه وجوه :
الأول : معرفتهم بأن موسى نبي مستجاب الدعوة.
الثاني : إن الله عز وجل أراد أن تجري المعجزة بواسطة موسى عليه السلام وعلى يده حجة عليهم ودعـوة لهم للإيمان، والإنصــياع لموسى عليه السلام وما يأتيهم به من عند الله عز وجل، وهذا وإن كان معلولاً إلا انه جاء علة وسبباً لهدايتهم فهو إذاً رحمة وفضل منه تعالى.
الثالث : ان سوء صنيعهم جعلهم قاصرين عن الإستسقاء، وأن شحة الماء جاءت إبتلاء ونتيجة لأعمالهم من الإنكار والجحود. قال علي عليه السلام : “إن الله إبتلى عباده عند ظهور الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق طرق الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع.. الحديث”( ).
الرابع : يستلزم الإستسقاء التهيئ والإعداد له بشرائط ذاتية وكمالات انسانية ابوا السعي في مسالكها كإصلاح النفس والتأدب بالتوبة والإستغفار، قال تعالى [[ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ..]]( ).
الخامس: يدل توجههم إلى موسى عليه السلام في سؤال السقيا وهو ظاهر الآية الكريمة على إقرارهم بالتوحيد والربوبية ولموســى بالنــبــوة وإتيــان المعجــزة، فيكون هذا الإقــرار حجة عليهم بحكم العقل والشرع ويملي عليهم وظائف عقائدية تتمثل في جانب منها بصدق السريرة وإخلاص العبودية وإتباع موسى عليه السلام والإقتداء بسنته، وعدم حصر الرجوع إليه بالحــاجة الشــديدة وعنــد الإشـراف على الهلاك.
السادس : إن المعصية والجحود لا يحولان دون رحمة الله، وعلى الأمم والجماعات أن لا تقنط أو تيأس من فضل الله , قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
السابع : إن نعم الله تعالى غير محصورة زماناً أو مكاناً وغير مقيدة كماً وكيفاً، وهذا أمر ظاهر يدركه الإنسان بلحاظ نعمة تدفق ينابيع الماء بالحجر.
الثامن : مع القول بأن الله عز وجل إذا أنعم نعمة على أهــل الأرض أبى أن يرفعهـــا، والإقــرار بأنه لا يعني وجــودها دائمــاً في كل الأحوال والأزمان، فإن ما في الآية من النعم بشارة لأهل هذا الزمان والأزمان اللاحقة بأن الله تعالى يقيض الأسباب لمنع حــدوث ما يســمى بأزمـــة المياه وما تحــاط به من تســابق إقليمي في إقتنائها، وإخبار يتضــمن التخويــف من مقدمــات الفتنة بدل التوجه الجماعي المشترك للإستثمار الأمثل للمياه وفق أحكام الأخوة في العبودية والتوكــل على الله وتوظيف الإرتقاء العلمي للإنتفاع المشــترك والتصــدي للأزمات قبل حدوثها بوجوه الصلاح.
التاسع : الآية رحمة ببني إسرائيل وسبيل الى نجاتهم وتخفيف من إبتلائهم.
بحث فقهي في الإستسقاء وصلاته
عند الجدب وغور الأنهار وقلة الأمطار، يفزع الناس الى الباري عز وجل لانسداد أبواب الرجاء إلا بابه، والإستسقاء سُنة قديمة عند بني آدم بما في ذلك غير المليين للغريزة التي جعل الله عند الإنسان كممكن ومحتاج وتوجه قلبه قهراً عند الشدائد المستعصية إلى الخالق طوعا وقهرا ، لذا شرعت في الإسلام صلاة الإستسقاء وهي مستحبة. وعليه الإجماع ونصوص مستفيضة، وقد دأب المسلمون في مختلف أزمانهم وأقطارهم بأدائها عند الجدب وقلة الأمطار .
(وبالإسناد عن ابن عباس عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإستسقاء فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإستسقاء متبذلاً متواضعاً متضرعاً فجلس على المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيدين( ).
وعن انس بن مالك قال جاء رجل إلى رسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال يارسول الله هلكت المواشي وإنقطعت السبل فادع الله عز وجل فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة فجاء رجل إلى رسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي فقال اللهم على رؤوس الجبال والآ كام وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة إنجياب الثوب ( )، مما يدل على معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نزول الماء من السماء وحصول النفع العظيم للناس به.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في صلاة الإستسقاء قال : مثل صلاة العيدين يقرأ فيها ويكبر فيها يخرج الإمام ويبرز إلى مكان نظيف في سكينة ووقار وخشوع ومسكنة ويبرز معه الناس، فيحمد الله ويمجده ويثني عليه ويجتهد في الدعاء ويكثر من التسبيح والتهليل والتكبير، ويصلي مثل صلاة العيدين ركعتين في دعاء ومسألة وإجتهاد، فاذا سلّم الإمام قلب ثوبه وجعل الجانب الذي على المنكب الأيمن على المنكب الأيسر والذي على الأيسر على الأيمن فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك صنع)( ).
وتحويل الرداء للتفاؤل عسى أن يجعل الله الجدب خصباً ومع تأخر الإستجابة تتكرر الصلاة.
ويستحب فيها أيضاً إخراج الشيوخ والأطفال والعجائز وأهل الصلاح والتقوى معهم لأنهم أقرب إلى رحمة الله، وهم مضان الإستجابة، وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصببت العذاب على المذنبين صبا)( ).
ومن قصص الأنبياء السابقين ورد عن الصادق عليه السلام: “ان سليمان ابن داود خرج ليستسقي فرأى نملة قد استلقت على ظهرها وهي تقول : اللهم انا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، وهي رافعة قائمة من قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد سُقيتم
بغيركم.
ومن مستحبات صلاة الإستسقاء خروج الناس لأدائها في الصحراء حفاة على سكينة ووقار، وأن يفرق بين الأطفال وأمهاتهم لما فيه من البكاء والضجيج والتضرع رجاء نزول الرحمة. ونقل ان قوم يونس فعلوا ذلك فكشف الله عنهم العذاب قال تعالى [إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ] ( ).
ومن إعجاز الآية الكريمة أن موسى عليه السلام إستسقى لقومه , ولم يكن منطوقها بأنه استسقى بقومه، وان كان ظاهرها أنهم شكوا إليه العطش وخافوا الهلاك من شدة الظمأ.
وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، أي أن إخبار الآية الكريمة عن إستسقائه لقومه لا ينفي إشتراكهم في الاستسقاء، نعم تدل الآية على نعمة وفضل الله تعالى على بني اسرائيلإسرائيل باستسقاء النبي الرسول لهم وهو بين ظهرانيهم ورؤيتهم للآيات.
قوله تعالى [[ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجرَ ]]
الآية أمر إلهي حال يتضمن الإستجابة لدعوة موسى عليه السلام في قومه وآية مركبة تنحل إلى عدة آيات منها قضاء حاجتهم بإعجاز ظاهر ومتصل. ترى لماذا جاءت الإجابة هنا مطلقة ومنجزة من غير تعليقها على شرط، فيه وجوه:
الأول : سعة رحمة الله تعالى.
الثاني : ما للنبوة من موضوعية في الدعوة.
الثالث : إنها دليل يومي على صدق نبوة موسى عليه السلام، وعظيم منزلته عند الله تعالى.
الرابع : إنها حجة على بني اسرائيلإسرائيل.
الخامس : الإستجابة سبيل لتثبيت الإيمان في نفوسهم، ودعوة لهم للتدبر في عظيم نعمة الله عليهم.
وجريان المعجزة بضرب الحجر بالعصا معجزة أخرى، وآية عظمى تظهر أن قدرته تعالى لا تنحصر بالأسباب ولا تتوقف على المقدمات ولا تختص بالمتحد فقد تكون متعددة ومتعاقبة في ذات الموضوع.
وظاهر الآية أنها جرت في التيه، ومن عظمة الآيات الحاجة إليها فضلاً عما فيها من الإعجاز والتحدي.
وفي العصا التي ضرب موسى عليه السلام الحجر بها وجوه:
الأول: اسم عصا موسى ماشا، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس( ).
الثاني: إنها قضيب آس من غرس الجنة وأن آدم حمله معه من الجنة إلى الأرض وكان طوله عشرة أذرع على طول ذراع موسى , ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً وبه ضرب البحر فانفلق، وهي التي صارت ثعباناً في حديث السحرة، وكان شعيب عليه السلام قد دفعها إليه.
وورد ذكرها في القرآن ما يشير إلى طولها بلحاظ بعض وظائفها , وأن موسى عليه السلام يتوكأ عليها وينتفع منها( )، [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا]( ).
وقد يكون ظــاهــــر الآية أعم بقولــه تعـــالى [[وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ]] الذي يفيد احتمال تسخيرها لأغراض أخرى غير الإتكاء ومستلزماته مع امكانية تغييرها.
وهناك أمر آخر وهو جهة صدور اخبار الزيادة في طولها وهل انها مرسلة أو ضعيفة السند .
الثالث: عصا موسى حجته والدليل على نبوته، وهو شاهد حسي متجدد كل يوم يتجلى.
الرابع: عصا موسى من الهند، عن الثعلبي , وقيل إن من الإسرائيليات.
الخامس: في قوله تعالى بخصوص ما في التابوت من الذخائر[وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى]( )، عن ابن عباس: عصا موسى ورضراض الألواح).
السادس: أخرج ابن أبي حاتم عن مسلم قال: عصا موسى هي الدابة يعني دابة الأرض)( )، وهو بعيد بخلاف الظاهر والإجماع، إنما ورد الخبر بأن دابة الأرض تخرج ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان.
السابع: كانت عصا موسى من عود ورد من شجر الجنة أثني عشر ذراعاً من ذراع موسى، نسب إلى الإمام علي بن أبي طالب)( ).
الثامن: عن الحكم قال: “كَانَ عَصَا مُوسَى مِنْ عَوْسَجٍ, وَلَمْ يُسَخَّرِ الْعَوْسَجُ لأَحَدٍ بَعْدَهُ”، وَرُوِِىِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, قَالَ:”كَانَ عَصَا مُوسَى مِنْ عَوْسَجٍ فَقَطْ)( ).
التاسع : إنها عصا أخذها موسى عليه السلام من بعض الاشجار، قاله الحسن البصري، وهذا القول لا ينفي ما لعصا موسى من الاسرار، الا انه يعني ان العصا المذكورة في هذه الآية كانت مأخوذة من سائر الشجر , وان الآيات تعلقت بانفجار الماء من الحجر من غير خصوصية لماهية وسنخية العصا.
وقيل (ان موسى كان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ويضرب بها فييبس، فقالوا أن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله إليه لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك)( ).
والقول على فرض رفعه وصحة سنده لا ينسخ ما لعصا موسى من الخصوصية والملاك بل إنه يؤكدها، ولكن المعجزة لا تنحصر بالعصا سبباً وأداة وان الله عز وجل قادر على أن يجري الآية بأسباب عديدة، ومن غير أسباب أيضاً لإستجابة الأشياء جميعاً لمشيئته وإرادته .
ويستقرأ من قولهم أعلاه معجزة أخرى لموسى وهي بقاء العصا في يده وعدم ضياعها أو سرقتها.
وذكـــر العصا ونســبتها إلى موســى في الأحاديث والأخبار كما في القول الاول يدل على إعتبارها آية، وأنها كانت لآدم، وعن الصــادق عليه الســلام: “كانت عصــا موســى قضيب آس من غــرس الجنة أتـــاه بها جبرائيل لما توجــه تلقاء مدين وهي وتابــوت آدم في بحيرة طبرية ولن يبليا ولن يتغيرا حتى يخرجهما القائم”( ).
وعصــا موسى آلة لإظهار الكثير من المعجزات بل هي نفسها معجــزة تثبت قدرة الله تعالى على إظهــار الآيـات بأبسط الجمادات.
لقد كانت آية العصا رياضة عقائدية ونفسية لبني اسرائيلإسرائيل لمنع الإفتتان بالآيات، ونسيان ذكر الله، وهي حجة حسية يومية عليهم في عبادتهم العجل، فالعجل لم يفعل مثل الذي فعلته العصا ومع هذا لا تجوز عبادتها والإفتتان بها .
ولا يستطيع بنو إسرائيل الإفتتان بها لحضور موسى بينهم، وهو من أسرار حذبه العصا بيده، بينما جاءت فتنة العجل عند غياب موسى وذهابه إلى الطور، نعم كان بوجود موسى عليه السلام بين ظهرانيهم وما كان يبذله من الجهود والسعي الحثيث أثر كبير في اصلاحهم وتهذيب نفوسهم.
أما الحجر الذي فكان منبعاً للماء ومادة لحياة الآلاف من بني إسرائيلإسرائيل وفي خبر أنهم سبعون ألفاً وهذا الخبر معارض لما ورد من أن عددهم ستمائة ألف ففيه وجهان :
الأول : إن الألف واللام في الحجر للجنس و تشير الى نفس الجنس بغض النظر عن الأفراد، أي إضرب عصاك بالشئ الذي يسمى حجراً.
وورد عن الحسن البصري: انه لم يأمر أن يضرب حجراً بعينه، وهو أظهر في الحجة وأبين في القدرة( ).
الثاني : إن الألف واللام فيه للعهد التي تشير إلى فرد معهود خارجاً ومعروفاً في لغة الخطاب سواء كان عهداً صريحاً أو كنايةً أو تعييناً كما في المقام، وهو الأصح، وتعيين الحجر لا يقلل من عظمة آية إخراج الماء منه.
وذكرت في ماهية الحجر أقوال :
الأول : إنه أهبط مع آدم من الجنة فتوارثه الأنبياء حتى وقع إلى شعيب فدفعه إلى موسى مع العصا.
الثاني : إنه حجر طوريّ حمله موسى معه وكان مربعاً.
الثالث : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين إغتسل إذ رموه بالأدرة( ). ففرّ به فقال له جبرئيل يقول الله تعالى “ارفع هذا فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته”.
الرابع : روي انّ بني إسرائيلإسرائيل قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس.
الخامس : روي عن ابن عباس أنه قال : ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وروي أنه كان مثل شكل الرأس( ).
السادس : كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع.
السابع : قيل كان من آس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شــعبتان تتقـدان في الظلمة وكان يحمل على حمار( )، أي أنه من آس الجنة أو إنّ أساسه منها، وان كان الكلام عن الحجر وليس العصا.
انّ ضرب الحجر بالعصا لا يدخــل ضمن جــريان الأمور بأسبابها إذ أنّه لا ملازمــة أو إطـــراد بين ضرب الحجر، وجريان الماء منه ولكن الضرب جاء لبيان ان جــريان الماء معجـــزة ســماوية لموسى عليه السلام، وانّ هذا البيان يعيشه بنو اسرائيلإسرائيل ويلتفــتون اليه قهراً في كل مرة يتدفق عليهم الماء، وانّ الضرب علامة حاجتهم إلى الماء ورغبتهم بالحصول اليه. وانّ موسى عليه السلام هو الطريق إلى تلك النعم وعليهم بتصديقه، ومما أمرهم به أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثه.
وقد روي حديث لا أصل له : ان موسى عليه السلام ضرب الحجر لبني اسرائيلإسرائيل فتفجر، وقال : اشربوا يا حمير، فاوحى الله تعالى إليه عمدت إلى خلق خلقتهم على صورتي فشبهتهم بالحمير( ).
وموسى عليه السلام منزه من لغة الخطاب هذه والمقام، مقام النعمة والفضل الإلهي والشكر له وان موسى عليه السلام هو رائد الشكر بين قومه في الشكر عن نفسه وعن قومه ونجاتهم، وعن الآية التي رزقه الله إياها وقد جاء القرآن بقوله تعالى[إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ]( )، مما يدل على إكرامه لهم وسعيه لنفعهم.
قوله تعالى [[فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا]]
الفاء متعلقــة بمحذوف، أي فضــرب فانفجــرت منه، لأن النبــي لا بد أن يفعــل ما يأمــره الله كما أن الضــرب بعد انفجــار الماء يصـبح عبثاً.
وفي الآية سر يتعلق بتدفق الماء في وقت خارج عن زمان الضربة مباشرة بمعنى قد يستمر جريان الماء، وقد تبقى عيون الماء تجري بانسياب وأن أثر الضربة لا ينحصر بوقت ضيق ومحدد , وإنفجار العيون أصبح حالة مألوفة عند بني إسرائيلإسرائيل وقريبة المنال.
ترى لماذا لم يرزقهم الله عز وجل الماء بالسحاب والمطر شأن الأمم الأخرى ووفق النظام الكوني الذي أحكمت آياته، لقد كان الماء الكثير من قطعة الحجر آية حاضرة ودليلاً ملموساً على المعجزة وحجة بالغة تحثهم على الإيمان والتصديق بنبوة موسى عليه السلام، وهي أصلح لهم ولحوائجهم الآنية كالشرب ونحوه.
ومثلما رزق الله موسى وبني إسرائيلإسرائيل هذه المعجزة الباهرة والآية القاهرة أتى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين معجزة في بعض الكتائب عندما إشتدت حاجتهم الى الماء (فوضع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في متوضئه ففار الماء من بين أصابعه حتى استكفوا) ( ).
ولقد انتفع المسلمون من الآية عقائدياً بإن ازدادوا إيماناً وحرصوا على التفاني من اجل الإسلام حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجحدوا أو يعرضوا عن هذه الآيات وهو أمر إمتازوا به عن بني إسرائيلإسرائيل وأثبتوا أهليتهم لخلافة الأرض.
وإلى جانب معجــزة موسى عليه السلام العظيمة بانفجار الماء من الحجر الصلد، آية أخــرى إنشـــطرت منها في الموضـوع وإستقلت عنها في المحمــول، فقد كان عــدد العيون بعــدد أســباط بني إسرائيلإسرائيل أي فرقهم، تتميــماً للنعمة ونوع إكــرام إضافي، وأول ذلك من قبــل المفسرين بمنع التشاجر والخلاف بينهم عندما يجدون الماء بعد شدّة الحاجة اليه.
وهذا صحيح ولكن الأهم إنّ الله عز وجل إذا أعطـى يعطي بالأوفى والأتم، كما انّ التعــدد في عيون الماء جاء لتوفير الجهد عليهم كي يتفرغـوا إلى التدبر بهذه الآيات ويتوجهوا إلى الذكر وأبواب الهداية , وتنزل عليهم السكينة قال[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وهل يمكن القول إنه جاء لقطع الشك وطرده عن نفوسهم، الجواب: لا، إذ أن تدفق الماء الكثير من حجر صغير أمر خارق للعادة ولا يتم إلا بالقدرة الإلهية ويكفي للبرهان والحجة القاطعة وان جاء الماء في مجرى واحد.
بحث بلاغي
ذكر ان قوله تعالى [[ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ ]] معطوف على جملة محذوفة، التقدير: (فضرب فانفجرت)، ودل (انفجرت) على المحذوف لأنه يعلم من الإنفجار قد ضرب، وظاهر هذا القول أعم من الصناعة النحوية وحاجتهم إلى ما يتم الإعراب معه.
ومن القواعد الأصولية حجية الظواهر وأصالة الإطلاق، والآية لا تتعارض معهما، أي بالإمكان حمل الكلام على ظاهره وإطلاقه، فقد يكون الإنفجار صادراً عما هو أعم من العصا من القوى الغيبية والملكوتية التي سخرها الله مع العصا.
فالأصل عدم وجود تقدير أو حذف، فحمل الكلام على أصله وعدم الحذف والتقدير إعجاز قرآني، وفيه واقية ومنع من أقوال الملحدين والماديين الذين لا يدركون إلا الأسباب المادية والمحسوسة، فليس لهم ان يشككوا او يقولوا بأن العصا لا تفعل مثل هذا الفعل، فيكون الإطلاق في الآية دليلاً على الإرادة الإلهية والقوى المسخرة مع العصا، وفيه تحريض للمسلمين بالتطلع إلى قدرة الله تعالى في قهر الأسباب وتحدي الصعاب.
قوله تعالى [[قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ]]
لقد روي أنّ الحجر كان له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً( ).
وهذا العلم أما بإلهام إلهي لهم بواسطة موسى عليه السلام لخصائص في كل عين تناسب كل سبط بلحاظ العدد أو المقدار أوالكيف وغيره. أو بالإتفاق والقسمة والتراضي وإجتناب التزاحم والخلاف، فكانت كل فرقة منهم تعرف مشربها والعين التي تخصها.
وفي الآية الكريمة درس وموعــظة تتعـلق بموضوعية قســمة الشئ بين الأفراد والجماعات وفق الإستحقاق والإختصاص والإنصاف لمنع الشقاق والخلاف والتنافس. ولكيلا تكون النعمة والرزق والفضل باباً للفتنة والإبتلاء.
وفي الآية إشارة كريمة إلى ما قد يحصل في المستقبل القريب من النزاع والحروب بسبب المياه وقسمتها ودعوة لاجتنابها إذ أنّ الماء من المشتركات والمراد به مياه الشطوط والأنهار الكبار كدجلة والفرات والنيل، وكذا الأنهار الصغار التي لم يشقها أحد بل جرت بنفسها من العيون أوالسيول أو ذوبان الثلوج، أو تلك التي تنفجر بحركة ذاتية من الجبال أو في الأرض الموات، فإن الناس جميعهم فيها شرع سواء وعليه الإجماع والفطرة البشرية.
وفي الآية دعوة للبحث عن وسائل لتوفير الماء وإخبار إعجازي عما يكتشفه العلم بهذا الخصوص.
نعم لو كانت مياه العيـون والآبار والقنــوات محفــورة من قبل شخص في ملكه أو في الموات لأغراض التملك والإحياء فهي ملكه وتنتقل بالنواقل الشــرعية القهــرية كالإرث أو الإختيارية كالبيـع والصلح والهبة.
لقد أراد الله عز وجل قطع التنازع وأسباب التعاسر بالتراضي بالتناوب أو المهاياة( )، بحسب الساعات مثلاً أو التقسيم بحســب الأجزاء كأن تكون عين واحــدة تخـرج من الحجر فتوضع عليها صخرة أو خشبة أو حديدة ذات ثقوب متساوية أو بعدد يتناسب ونسبة عدد أفراد كل سبط إلى المجموع العام.
إنها دعوة إلى الدول والمؤسسات العالمية لتولي التقسيم العادل وفق الطرق العلمية الحديثة التي تتصف بالدقة والرقي العلمي من أجل الإنتفاع الأفضل من رزق الله تعالى في الماء ورفع الضرر بل ومنع الحروب والنزاعات الإقليمية والقبلية في هذا الباب.
قوله تعالى [[ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ]]
مما لا يخفى أن الرزق هو العطاء والنصيب من عند الله عز وجل بغض النظر عن الخلاف بين المعتزلة الذين لم يسموا الكسب الحرام بالرزق وبين الأشاعرة الذين أطلقوا عليه اسم الرزق، وإستدل المعتزلة بهذه الآية بأن الرزق هو الحلال لأن أقل درجاته الإباحة وهي ظاهرة في الآية، فلو كان هـناك رزق حــرام لكان إلى جانب حــرمته مباحاً وهو غير جائز.
ولكن الآية لا تصلح للإستدلال على أي من القولين القولين، أي قول المعتزلة والأشاعرة. انما تفيد قضية شخصية ذات موضوع جزئي غير قابل للإنقسام والتجزئة، وفرد واحد يتفق الجميع على أنه من الرزق الحلال الذي لا يختلف فيه الفريقان بأنه جنس كريم من الرزق، وإنما إختلافهم وقع في الكسب الحرام وهل هو من الرزق أو لا، ولعل الاستشهاد بمفهوم الآية الكريمة وما فيها من جزء الماهية الخاص بها الذي يفصلها عن غيرها وهو الإباحة غير تام.
وإضافة الرزق إلى الله عز وجل في الآية مع قرينة لفظية وحالية يؤكد أن المقصود هو الرزق الخالي من المشقة والنكد والعناء البدني والنفسي، ومن غير منع من أحد، يدل على أن المقصود هو المن والسلوى والماء المتدفق من الحجر الصلد الصغير.
وتبين الآية موضوعية الماء وضرورته لدوام الحياة حيث جاء بعد نزول المن والسلوى ولم يكتف بهما، ولتدل مرة أخرى على عظيم نعم الله وتمامها على بني اسرائيلإسرائيل وأن نعمه تعالى متكاملة.
والآية الكــريمة إباحة وتذكــير بالنعمة وأنها من عند الله عز وجل بآيــة منه من غير توســط فعل وجهد منهم خــلافـاً لنواميــس الحــياة الدنيا وما فيها من السعي والنكد والتعب لكسب الطعام والمؤونة، والتذكــير هنا مدخل وإشــارة وحــث لهم على الشــكر القـولي والفعلي.
ترى من القائل [كُلُوا وَاشْرَبُوا] فيه وجوه :
الأول : إنه الله تعالى لبيان عظيم قدرته تعالى وبديع صنعه وفضله على بني اسرائيلإسرائيل، فمع أنهم في التيه أنزل الله لهم المن والسلوى وأجرى الأنهار .
الثاني : القائل هو موسى فبعد أن إستسقى لقومه وإستجاب له الله عز وجل قال لهم [كُلُوا وَاشْرَبُوا] للتذكير بالنعمة، وتوثيق المعجزة وطرد الشك والنفرة والضجر وللتوجه للعبادة والشكر له تعالى.
الثالث : الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , والملأ من بني إسرائيل بالإيمان .
وصحيح أنه لا تعارض بين هذه الوجوه إلا أن الأصح هو الأول وأن الله عز وجل هو الذي قال ذلك تفضلاً منه تعالى وثناء على نفسه وتوكيداً لتوالي النعم على بني اسرائيلإسرائيل ولا يمنع من تكرار القول من موسى عليه السلام والصالحين، وهو يكرر بالقرآن إلى يومنا هذا على لسان المسلمين ولكن ليس بخصوص تدفق الماء من الحجر ونزول المن والسلوى بل مطلقاً لذا جاءت الآية بقيد من رزق الله وفيه عموم وسعة , ويفيد ورود حرف الجر (من) التبعيض والدلالة على الكثرة في الرزق وانه ازيد من الحاجة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فالنبي ينطق بالوحي، ويردد الصالحون التنزيل والوحي، ومن منافعه النهي عن كفران النعمة , والتوكيد بان العدل والإنصاف وعدم التعدي على الآخرين من مصاديق الشكر، وعمومات قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
بحث بلاغي
يرد في القرآن اضمار القول وكأنه ظاهر كما في هذه الآية والتقدير: قلنا [[كُلُوا وَاشْرَبُوا]] ولكن الآية أعم من هذا المعنى البلاغي، والأقوى أن الآية تتضمن الحذف وعملها على معناها الظاهر من غير حذف وهو من إعجاز القرآن، فلو نظرنا إلى الآية على ظاهرها فانها تفيد الحجية وبيان فضل الله تعالى عليهم وانه الآية جاءت في مورد الذم واللوم لهم لتعديهم إلى غير الأكل والشرب.
إن كل النعم التي تتغشى الإنسان هي من عند الله وكل ما يأكله ويشربه هو من رزق الله , فوصف هذه الآية للماء الذي يخرج من الحجر بالمعجزة من رزق الله لا يعني أن غيره من الأكل والشرب ليس من رزق الله، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ولكن الآية جاءت لتوكيد عظيم النعمة على بني إسرائيل.
ومع كثرة ورود مادة “رزق” في القرآن وبيان فضل الله تعالى على الناس والخلائق جميعاً في نزول الرزق من عنده تعالى فانه لم يرد لفظ “رزق الله” الا في هذه الآية الكريمة، وفيه إشارة الى تفضيل بني إسرائيل بمعجزة تدفق الماء من الحجر وهذا التدفق ليس مطلقاً بل لا يحصل إلا عند ضرب موسى له فتكون أطراف الحجر الأربعة سبيلا لخروج الماء بتدفق .
الأول : الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بأن يضرب الحجر بعصاه، في دلالة على أن المعجزة لا تحصل الا بالمشيئة الإلهية، وان الإرادة التكوينية بيد الله تعالى ، وأنه سبحانه في موضع ومسألة مخصوصة لمن يشاء من أنبيائه، وجاء الإذن ظاهراً بيناً، فلم تقل الآية “فضرب موسى الحجر بعصاه فانفجرت” بل ذكرت أن موسى تضرع إلى الله تعالى بالدعاء والمسألة وطلب الماء للشرب والسقي .
وفي الحديث : (الدعاء سلاح الأنبياء) فجاءت الإستجابة من عند الله بأمره إلى موسى بان يضرب الحجر بعصاه ولو ضرب موسى الحجر قبل الأمر الإلهي بضربه إتفاقاً أو غضباً أو رجاء الماء فهل يخرج منه الماء، الجواب لا، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولكن بعد الأمر الإلهي صار الحجر قابلاً لأن يعطي الماء بآية من عند الله.
الثاني : قيام موسى الرسول عليه السلام بضرب الحجر وعدم إنابة غيره في الفعل، لبيان موضوعية النبوة والرسالة في المعجزة.
الثالث : عصا موسى عليه السلام، لما لها من الخصوصية في المقام، فليس كل عصا يضرب بها الحجر ينفجر منه الماء.
الرابع : الحجر المخصوص الذي يتدفق منه الماء بآية من عند الله.
وفي الآية دعوة لإكرام الأنبياء وتعاهد أسباب ومقدمات المعجزة، وحث للمسلمين جميعاً لحفظ القرآن من التحريف والتغيير والتبديل، لأنه معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة، وهو رزق سماوي نازل من عند الله ليبقى سبيل النجاة والسلامة في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى [[ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ]]
هذه الآية نهي ومنع وتحذير من الإفتتان والتمادي في الغي، وورد ذات النص أعلاه في أربعة مواضع أخرى من القرآن، واحدة تتعلق بقوم صالح( )، وثلاثة تتعلق بمدين قوم شعيب( ).
والجامع المشترك في الآيات الخمسة هو النعم العظيمة والتحذير والنهي عن الغي والإفتتان والتمادي في الجحود والطغيان.
وقال الرازي : (والمقصــود منه ما جرت العادة بين الناس من التشــاجر والتنازع في الماء عند إشــتداد الحاجــة إليه، فكــأنه تعالى قال: إن وقــع التنــازع بســبب ذلك الماء فلا تبالغــوا في التـنازع والله أعلم)( ).
ولكن الآية أعم , و المقصود لا تتخذوا تلك النعم وسيلة للعتو والجحود وظلم النفس والآخرين، وما ذكره يعتبر صغرى بالقياس مع دعوتهم للهداية والإيمان بالنبوة، وان النعم يجب ان تقابل بالشكر , ومن مصاديق شكرها أيام نزول القرآن الدخول في الإسلام , وهو باب للمحافظة على ما في أيديهم من تلك النعم , وإجتناب إعانة الكفار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كما فعله بعض رؤسائهم.
ويلاحظ في هذه الآية إنفرادها بأن الخطاب لبني اسرائيلإسرائيل من عند رب العالمين مثلما جاءت النعم بآيات إعجازية مباشرة، وبين الآيات الأربعة الأخرى المماثلة بخطاب نبيي الله صالح وهود عليهما السلام. ولعل فى الآية بشارة للمسلمين فى وفرة المياه بسبب الهداية والتصديق بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إن الفساد وإثارة الفتن ومظاهر الظلم أمور تعرض النعم للزوال لإن التشاغل عنها يجعل الإنسان في غفلة عن تعاهدها بالشكر وكأنها أمر ثابت لا يدركه الزوال، لذا فإن الآية تحذر من الفساد للمبغوضية الذاتية التي يتصف بها كما هو معروف عقلاً وشرعاً ولما له من نتائج جانبية ذات أبعاد عقائدية وإجتماعية وأخلاقية.
وظاهر الآية أن الله عز وجل لا يريد من بني إسرائيل والناس جميعاً إلا إجتناب الفساد في الأرض وهو سبحانه غير محتاج الى الشكر، وقد ثبت في علم الكلام أن من صفاته تعالى السلبية عدم حاجته إلى غيره مطلقاً وفي أي شئ يفرض انتسابه إليه لأن الإحتياج ملازم للإمكان.
وفي الآية إعجاز وهو شمول النهي عن الإفساد في الأرض وليس الإضرار بالعباد وحدهم، وفيه زجر عن إفساد المزروعات وهدم البيوت المسكونة، وتهجير السكان , ولعل فيه إشارة إلى الأسلحة الحديثة التي تضر بالأرض والكائنات المختلفة وحرمة إستخدامها في المعارك والحروب.
قوله تعالى [[ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ]] الآية 61.
القراءة واللغة
عن زهير الغرقي (أدنأ) بالهمزة من الدناءة (وقرأ علي رضي الله عنه ويقتلون بالتشديد)( ).
قرأ أهل المدينة النبيئن بالهمز والباقون بلا همزة والأخير هو المشهور، ولعل الإختلاف يتعلق بالإشتقاق فهل هو من أنبأ الأمر أي أخبر عنه أو انه من النبوة والنجوة وهي المكان المرتفع، وقول ثالث انه من أنبأ ولكن ترك الهمز لكثرة الإستعمال، وإشتقاق النبوة من النبأ والخبر أقرب من النباوة أي الأرض والمكان المرتفع.
ولا أثر عملي في المقام لعلامات الحقيقة من التبادر أي تبادر المعنى إلى الذهن، وعدم صحة سلب اللفظ عن المعنى المشكوك، والإطراد في إستعمال اللفظ، لإنها تبرهن على الوضع وهو ليس كافٍ لترتب الحجة، ولإن الموضوع يتعلق بالإشتقاق لا الوضع ولصلاحية كلا المعنيين أي النبأ والخبر.
وهل يمكن القول بأنه من الإثنين معاً، أختلف في ذلك كما أختلف في صحة وضعف الحديث (وهو أن بعضهم قال يا نبئ الله. فقال النبي: لست بنبئ الله ولكني نبي الله) ( )، والأرجح انه منهما معاً لعموم منافع النبوة وإخبار النبي عن الله تعالى.
[[ اهبطوا ]] بكسر الباء، وقرأ بعضهم بضم الباء.
والقراء نونوا “مصراً” وقرأها الأعمش بغير تنوين، وقيل هي قراءة عبدالله بن مسعود أي في مصحفه وتعني أن المقصود مصر وبلد ما من غير تعيين، وبه قال قتادة والسُدي ومجاهد وابن زيد، وأستدل عليه بأن ما سألوه من البقل والقثاء لا يكون إلا في الأمصار ولعله غير تام.
فالمصر هو البلد العظيم، والمصران الكوفة والبصرة. وجمع مصر أمصار. ومن قال بالتنوين ذهب إلى أن المقصود بلدة مصر المعروفة إلى الآن بهذا الإسم، وبه قال الحسن البصري وابو العالية والربيع، وقال جماعة لا يجوز ان يكون هو البلد الذي كانوا فيه مع فرعون.
وقد ورد لفظ [[ مصر ]] في القرآن في أربعة مواضع اخرى( ) كلها تفيد أن المقصود هو بلدة مصر المعروفة، منها مثلاً قوله تعالى [[ ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين ]] ( ) التي أرى فيها بشارة للمسلمين بفتح مصر من غير كثير عناء واتساع بلاد الإسلام وعلو شأنهتحقق واقعا إبتداء وأثرا وإستدامة وإلى يوم القيامة إن شاء الله .
ولعلها البلدة الأكثر ذكراً بإسمها في القرآن مع الأخذ بنظر الإعتبار إحتمال أنها المقصودة بلفظ المدينة مثل قوله تعالى [[ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ]]( )، وقوله تعالى [[ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ… ]]( ) لاسيما وأن ذكر مدين مثلاً ورد بعدد مرات أكثر من مصر إلا أنه أختلف فيه هل المقصود هو البلد أم أولاد مدين بن إبراهيم كما في قوله تعالى [[وَإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا]]( ) ولا مانع من إجتماع الأمرين.
وقال أبو مسلم محمد بن عمر : أراد بيت المقدس، وأستدل بقوله تعالى [[ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ]]( ).
لن : حرف نفي ونصب وإستقبال، نصبر : فعل مضارع منصوب والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره نحن، على طعام : جار ومجرور متعلقان بنصبر، واحد: صفة لطعام، فادع : الفاء حرف عطف، وقيل أنها إستئنافية.
أدع : فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
لنا : جار ومجرور متعلقان بأدع، ربك : مفعول به منصوب، والضمير مضاف إليه، يخرج : فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب.
مما : جار ومجرور متعلقان بيخرج، تنبت : فعل مضارع مرفوع.
الأرض : فاعل مرفوع، من بقلها : جار ومجرور.
وقثائها وفومها وعدسها وبصلها : أسماء معطوفة على بقلها، قال : فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
أتستبدلون : الهمزة للإستفهام الإنكاري والجملة مقول القول، الذي : اسم موصول مفعول به، هو : مبتدأ، أدنى : خبر، والجملة صلة الموصول.
والقراءة المعروفة [[ أتستبدلون ]]، وفي حرف أُبي بن كعب أتبدلون باسكان الباء.
بالذي : جار ومجرور متعلقان بتستبدلون، هو : مبتدأ، خير : خبر مرفوع، اهبطوا : فعل أمر مبني على حذف النون، الواو : فاعل.
مصراً : مفعول به، فان : الفاء عاطفة وتفيد الترتيب الذكري، ان : حرف مشبه بالفعل، لكم : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ان المقدم، ما : اسم موصول في محل نصب اسم إن.
سألتم : فعل ماض وفاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول، وضربت : الواو : إستئنافية، ضربت : فعل ماض مبني للمجهول.
التاء : تاء التأنيث الساكنة، عليهم : جار ومجرور متعلقان بضربت.
الذلة : نائب فاعل، المسكنة : معطوف على الذلة.
ذلك : اسم إشارة مبتدأ، بأنهم : الباء حرف جر، أنهم : أن وأسمها، كانوا : فعل ماض ناقص، والواو : إسمها، والجملة خبر إن.
يكفرون : فعل مضارع، والواو فاعل، والجملة الفعلية خبر كانوا.
بآيات الله : بآيات : جار ومجرور متعلقان بيكفرون، آيات : مضاف واسم الجلالة : مضاف اليه.
ويقتلون : عطف على يكفرون، النبيين : مفعول به منصوب بالياء.
بغير الحق: بغير : جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
ذلك : اسم إشارة مبتدأ، بما عصوا : الباء : حرف جر.
ما : مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء، والتقدير : بمعصيتهم.
وكانوا : عطف على عصوا، يعتدون : جملة فعلية في محل نصب خبر كانوا.
(والطعام) ما يتغذى به، والواحد أول الأعداد , ويجمع على أحدان ووحدان بضم الهمزة والواو , وقد يطلق الواحد على واجب الوجود المتفرد بالذات المنزه عن التركيب والممتنع عن التعدد , قال تعالى[قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
والبقل : الخضروات من النعناع والكراث والكرفس ونحوها وكل نبات أخضرت له الأرض مما ليس له ساق بقل، ومنه ما ينبت في الربيع ومنه اسم البقّال.
والقثاء : بالمد وكسر القاف وتشديد الثاء الخيار، والواحدة قثاءة. وقرأ الأعمش بضم القاف.
والفوم : الحنطة والخبز وبه قال الفراء والأزهري( )، يقال فوموا لنا أي إختبزوا لنا.
وعن جماعة ان الفوم هو الحبوب التي تخبز أي كالحنطة والشعير والذرة. وقال الكسائي ان الفوم هو الثوم، اُبدلت الثاء فاء كما يُقال جدث وجدف للقبر، وقيل انه في حرف عبد الله بن مسعود وثومها، رواه علقمة وقيل هي قراءة ابن عباس، ومال إليه الفراء لقرينة وهي مجئ البصل بعده، وهو بعيد.
والأرجح هو الحنطة لا لإن الحنطة هي الأصل ولا يجوز أن يطلبوا الثوم ولا يطلبوا الحنطة كما قاله الزجّاج، ولكن للمعنى اللغوي وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام، وبه قال ابن عباس وقتادة والسُدي وإستشهد ابن عباس بقول أحيحة بن الحلاج :
قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً
ورد المدينة عن زراعة فوم( )
والأدنى له عدة معان فقد يقصد به الأقل ويقابله الأكثر والأكبر، وتارة يعبر به عن الأحقر والأرذل ويقابله الأعلى والأفضل، أو يراد به الأقرب ويقابله الأقصى، ويطلق على الأول ويقابله الآخر.
والهبوط : الإنحطاط من علو إلى سفل ويأتي بمعنى النزول , والذّل بضم الذال الهوان ضد العز، والذل بكسر الذال بمعنى اللين والإنقياد وهو ضد الصعوبة، والمعنى الأول هو المقصود في المقام، وهل من دليل لغوي على هذا التفصيل للّفظ أم أنهما لغتان خصوصاً مع تقارب معناهما، الاقوى هو الثاني.
والمسكنة مصدر مسكين، وتعني الفاقة والحاجة.
وباءَ : أي إنصرف ويرد متعلقاً بخير أو شر، والأخير هو الغالب وقيل لا يأتي إلا في الشر.
وعدا يعدو عدواً وعُدّواً وعدواناً وعداء أي ظلم وتجاوز الحد وهو عاد ومعتد (قال تَعَدَّيْت الحَقَّ واعْتَدَيْته وعَدَوْته أَي جاوَزْته)( ).
في سياق الآياتفي سياق الآيات
بعد تبديل وتحريف الكلم، توالت النعم مرة أخرى على بني اسرائيلإسرائيل وجاءت آية الإستسقاء وتدفق الماء من الحجر بضربه بعصا موسى، وجاءت هذه الآية لبيان لجحود بني اسرائيلإسرائيل والسجايا المتوارثة عندهم في التخلف عن مقابلة النعم بالشكر وتطلعهم إلى الأكثر والأعم لا عن حاجة أو إفتقار للمعجز، والآيات تتداخل في موضوعها بتعداد النعم العظيمة على بني اسرائيلإسرائيل.
وبينما إتصفت الآيات السابقة بالقصر جاءت هذه الآية أطول منها وأكثر تفصيلاً لبيان بلاغة القرآن، وتضمنه لجوامع الكلم , وإتصاف الإجمال والإختصار إعجاز لإنتفاء النقص فيه، والتفصيل والبيان الإضافي فيه إعجاز آخر.
ولبيان حقيقة وهي أن موسى عليه السلام يحتج عليهم بذكر الآيات والنعم العظيمة التي تفضل الله تعالى بها عليهم [قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ] وليس من فاصلة بين قوله وبين أمر نزولهم إلى أرض مصر، ولكن هذا لا يعني إنعدام المهلة، بل جاء الإحتجاج لحثهم على الرجوع عن قولهم، ودعوتهم للبقاء في الأرض المقدسة والأكل من الطيبات رغداً من غير تعب وعناء.
وفي الآية شاهد بان العذاب الذي نزل ببني إسرائيل من فرعون بسبب سؤالهم الأدنى، وأن نعمة الأكل والشرب في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا] مطلقة في أوانها وأفراد الزمان الطولية، ليس لها حد وحصر في شهر أو سنة مخصوصة، ولكن بني إسرائيل هم الذين سألوا غير تلك النعم العظيمة وطلبوا من نبات الأرض، فجاء كلام موسى عليه السلام تحذيراً وزجراً ودعوة للتدارك وتعاهدا للنعمة بالرضا والقبول بها.
وكونهم سبباً في نزول العذاب بهم بعد دخولهم مصر لا يعني أن آل فرعون لا يتحملون الإثم بظلمهم، فيقع الإثم والذنب على آل فرعون لقيامهم بظلم بني إسرائيل .
ومن الآيات أن هلاك فرعون وجنوده لم يحصل الا عندما شرعوا في عبور البحر للحاق ببني إسرائيل.
وهل في الآيات تحذير لبني إسرائيل من التعدي على مصر ومحاولة إحتلال أراضيها وأن هذا الإحتلال لا يستديم يرجع عليهم بالذل والهوان، ويرهق بيت المال مع أن سببه الطمع , ويكون سببا لفقدان بعض النعم الجواب إن التعدي مبغوض ومنهي عنه مطلقاً.
وتوجه الخطاب التكليفي إلى بني إسرائيل بدخول الإسلام وجاء ضرب الذلة عليهم بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق وإصرارهم على التعدي والظلم.
لذا جاءت الآية التالية بالوعد الكريم للمسلمين وكذا اليهود والنصارى والصابئين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات.
وإبتدأت هذه الآية بظرف الزمن الماضي(إذ) وكذا الآية التالية(وإذ أخذنا ميثاقكم) ودلالاته أعم من معناه الذي ذكره النحويون وأنى لهم الإحاطة بأسرار ومعاني اللفظ العربي الذي جعله الله عز وجل وعاءً كلامياً للمعجزة الخالدة إلى يوم القيامة و[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
فتتضمن(إذ) معاني ودلالات بحسب الأمارات والقرائن، ومنها في المقام الإنكار والتبكيت على الجحود بتلك النعم والتخلف عن الشكر لله عز وجل عليها من قبل الأجيال المتعاقبة من بني إسرائيل.
ومن علل ذكر وتعداد هذه النعم على بني إسرائيل في القرآن ومصاديق الشكر لله عليها التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معاني الخطاب الوارد لبني إسرائيل قبل آيات[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
وإبتدأت هذه الآية والآية السابقة والآية بعد التالية بظرف الزمن الماضي(إذ) مع إتحاد موضوعها وهو على وجوه:
الأول: تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم.
الثاني: بيان حقيقة وهي إختصاص بني إسرائيل بمعجزات وكرامات باهرة من عند الله.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم بأحوال الأمم السابقة والإتعاض منها، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الرابع: تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين.
الخامس: وقاية المسلمين من جدال أهل الشك والريب.
السادس: تأكيد تفضيل المسلمين بتعاهدهم لمنازل الشكر لله.
اعجاز الآيةإعجاز الآية
تظهر الآية التباين بين النعم الواقعية الحسية وبين ما يطلبون من وجوه:
الأول: الوفرة والمندوحة في النعم الإلهية ويدل عليه ما ورد في الآية السابقة[كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ]( )، والقلة والنقص في الطلب.
الثاني: التباين في الكيف فليس من نكهة وطعم أطيب في المائدة التي تنزل من السماء، بينما يكون ما يخرج من الأرض من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الطعم والشكل.
الثالث: لا تستلزم النعمة السماوية مقدمات في السعي والعمل البدني إلا الدعاء والصلاح , بينما تحتاج الزراعة إلى الحرث والبذر والشقي.
الرابع: تأتي النعمة الإلهية دفعة واحدة من غير إنتظار وتربص وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، بينما يحتاج النبات إلى النمو التدريجي في أسابيع وأشهر.
الخامس: تتضاعف النعمة الإلهية وتستديم بالشكر لله عز وجل.
السادس: في النعمة السماوية التي تأتي بهيئة المعجزة مناسبة للإيمان، وتعاهد التقوى وتوارثها بين الأجيال المتعاقبة.
وتدل الآية على معرفة بني اسرائيلإسرائيل باستجابة الله تعالى لما يسأله موسى عليه السلام لبني اسرائيلإسرائيل وتلك نعمة عظيمة ولكنهم إتخذوها وسيلة لإختيار ما هو أدنى.
وتتضمن الآية الشهادة لبني إسرائيل بالإيمان من وجوه:
الأول: معرفة أن الله عز وجل هو رب العالمين وبيده مقاليد الأمور.
الثاني: صدق نبوة موسى عليه السلام.
الثالث: تنزه بني إسرائيل عن الغلو بالأنبياء، فلم يطلبوا من موسى إخراج ما تنبت الأرض بل قالوا[فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ]( ).
الرابع: أدرك بنو إسرائيل نعمة النجاة من حياة الذل والإستعباد أيام كانوا تحت وطأة آل فرعون، فأخذوا يسألون تلك النعم الأرضية ليأكلوها بحال من الغبطة والسعادة غير حال الأذى والعذاب في مصر، ولحال الإنسان من العز والسعادة، أو الكآبة والهوان أثر فيما يشتهي ويتذوق من الطعام، ولكنهم أخطأوا المسألة لأن النعمة السماوية ليس لها بديل أو شبيه أو عوض.
وتجلت في هذا الزمان القيمة الغذائية والسعرات الحرارية والفيتامينات ونحوها الموجودة في أًصناف الأطعمة فهل قوله تعالى[أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ]( )، ناظر إلى هذه الأمور أم أن القدر المتيقن منه هو أن مائدة المن والسلوى النازلة من السماء أفضل من نبات الأرض في ماهيته والشفاء الذي يكون مقدمة واجبة وطريقاً موصلة للحصول عليه .
الجواب هو الأول فقد كان المن والسلوى غذاءً متكاملاً، وفيه سلامة من الأمراض والآفات إلا السام، ومع بقاء بني إسرائيل في التيه أربعين سنة فلم ينقل عنهم إصابتهم بالأمراض.
وعندما بدلوا قول حطة حين دخول القرية نزل بهم العذاب، وعن ابن عباس في قوله تعالى[فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا] قال: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الرِّجْزِ يَعْنِي بِهِ الْعَذَابَ”)( ).
ويمكن تسمية الآية بآية (لن نصبر) ولم يرد لفظ (نصبر) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاحالآية سلاح
في الآية مادة للإحتجاج وإجتناب ضعف المسألة وقلة الحلم.
وفيها حجة على بني اسرائيلإسرائيل بذكر علة ما لاقوه من الأذى والتعب والنكد، وإقدامهم على قتل الأنبياء.
وتمنع الآية من سؤال النبي ما لا ينفع، ومن السعي لما هو أدنى وترك الأحسن والأفضل، وتحذر من الملل من الإقامة في نعم الله تعالى، لأن إستدامة النعمة نعمة أخرى متجددة، وليتجلى مفهوم سامي لقوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، بالبعث على إستحضار النعم، وتعدادها وبيانها وأن الإنشغال بها موضوع لتعاهدها، وبرزخ دون سؤال الأدنى وما فيه، وهل في إنقطاع النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم وجود أنبياء بينهم تخفيف عنهم، وسبب لنجاتهم من قتل الأنبياء الجواب لا، فقد أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ثم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان بين ظهرانيهم وهم يقاتلون بين يديه ويذبون عنه في مواطن الشدة والبأس وحومة الوغى وأقسام الصبر عديدة منها الصبر على الطاعة لذا سمي الصيام شهر الصبر والصبر عن المعصية، والصبر على المصيبة، والصبر عند الشدائد، والصبر على الجفاء.
وجاءت هذه الآية بنوع آخر من الصبر وهو الصبر على النعمة وهو أجمل أقسام الصبر وفيه الثواب والأجر، ليكون آية من سعة رحمة الله بأن يتفضل بالنعمة ويثيب عليها، والطعام الواحد الذي أبى بنو إسرائيل الصبر عليه هو نعمة المن والسلوى النازلين من السماء، وفيه تأديب للمسلمين للرضا بالنعمة المستديمة .
ومن مصاديق الآية أعلاه تعاهد المسلمين للصلاة اليومية وأداؤهم لها بشوق وعشق وإعتبارهم لها نعمة عظيمة وفيها واقية من التعدي ومقدمات الكفر، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ]( ).
وفي مضامين الآية الكريمة هداية وإرشاد للمسلمين بلغة الإتعاظ والإعتبار من الأمم السالفة من وجوه:
الأول: كيفية خطاب النبي، والحرص على إكرامه في الخطاب، قال تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا] ( ).
الثاني: ورد في الثناء على المسلمين أنهم كانوا يسألون النبي ويريدون منه الجواب وهم يعلمون أنه لا يصدر إلا عن الوحي، ولم يقولوا له(ادع لنا ربك)، وقد ورد لفظ(يسألونك) خمس عشرة مرة، في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا]( ).
الثالث: دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على النعم وان كانت طعاماً واحداً يُنال بالكسب والعناء، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الرابع:بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الجحود بالنعمة باب للكد والكدورة والعناء، وهل تدل الآية على أنه سبب لحلول الذل والمسكنة من الله عز وجل.
الجواب لا، لأن الذل والمسكنة ونزول الغضب الوارد في آية البحث جاء معلولاً للجحود وقتل الأنبياء لقوله تعالى[بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ]( ).
مفهوم الآية
تظهر الآية وجهين قبيحين من سيرة فريق من أهل الكتاب التالي أشد من السابق، فمع عظيم النعمة الحاضرة إختاروا ما فيه الجهالة والمشقة والهوان، ثم إقترفوا الآثام بقتل الأنبياء، وفي الآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للإحتراز واليقظة من التعدي ومحاولات الغدر والقتل غيلة، والإستعداد بالقوة والعدة لمواجهة التعدي وعدم الركون اليهم.
وفي الآية تنبيه للمسلمين بعدم طلب ما هو أدنى من أمور الحياة الدنيا بل الأولى التوجه إلى عبادة الله تعالى وطلب ما هو أحسن وأفضل للإرتقاء في مراتب المعرفة الإلهية، وفي الآية وجوه :
الأول : إن الله عز وجل أنعم على بني اسرائيلإسرائيل بطعام واحد كما تقدم وأنه سبحانه رزقهم المن والسلوى.
الثاني : رغبة بني اسرائيلإسرائيل بتغيير الطعام الملكوتي وإبداله بما فيه التعب والمشقة.
الثالث : إرادة التبديل بالدعاء أي أنهم بلغوا مرتبة من التنعم في الفضل الإلهي بان يرزقوا بالدعاء، وكأن حياتهم في الدنيا من النعيم الأخروي.
الرابع : ذكروا في سؤالهم بعض أنواع الطعام على نحو الخصوص مما يعني أنها أصناف معروفة عندهم سواء من أيام ما قبل التيه أم بلحاظ ما يكون عند الناس في الأمصار والقرى.
الخامس : ذكر هذه الأصناف من البقول في القرآن لابد له من دلالات وأن كلاً منها له منافع خاصة.
السادس : توجيه موسى عليه السلام اللوم لهم على ما يطلبون ويدل ضمناً على إمكان الإستجابة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : تذكير بني إسرائيلإسرائيل بما قالوه لموسى عليه السلام، وما يتضمنه قولهم من الجحود بالنعمة، وفيه إعجاز وتوثيق لقولهم وعدم القناعة والرضا بنعمة نزول المن والسلوى من السماء.
الثانية : نظر بنو إسرائيلإسرائيل إلى نعمة نزول الطعام من السماء، بلحاظ إتحاد النوع مع شرفه وخصوصيته وموضوعية وآية صبغة مجيئه من عند الله , ومن غير جهد أو تعب.
الثالثة : سؤال بني إسرائيلإسرائيل أنواعاً مما تنبت الأرض، ولم يسألوا الفواكه والثمار كالعنب والرمان التي ذكرها الله بإعتبارها من ثمار الجنة، بل سألوا البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل.
الرابعة : جاء رد موسى عليه السلام عليهم متضمناً التوبيخ والذم المقرون بالبيان إذ أن العقلاء لا يسعون إلى الأدنى ليكون بديلاً لما في أيديهم من الخير المحض.
الخامسة : توجه الأمر إلى بني إسرائيلإسرائيل بالذهاب إلى مصر، والعمل في الزراعة وما فيها من الجهد والعناء والتعب.
السادسة : نزول الذلة والهوان ببني إسرائيلإسرائيل لجحودهم.
السابعة : إخبار الآية عن غضب الله على بني إسرائيلإسرائيل الذين تجمعهم صفات وهي :
الأولى : الكفر بآيات الله.
الثانية : قتلهم الأنبياء بغير حق.
الثالثة : إختيارهم المعصية والجحود.
الرابعة : قيامهم بالظلم والتعدي.
وتدل الآية في مفهومها على ذم الذين نعتوا المن والسلوى بأنه طعام واحد وأنهم لا يصبرون عليه، فلم يقدموا الشكر لله عز وجل على نعمة كون الطعام من السماء لذا إرتكبوا ثلاثة أخطاء وهي:
الأول: الإعلان عن الجزع وعدم الصبر على الطعام الواحد.
الثاني: نعت النعمة السماوية بأنها طعام واحد، ولم يذكروا الإعجاز فيها، وطيب المذاق والعذوبة، وخلوها من أسباب المرض، وحضورها طازجة وقت الحاجة من غير بذل جهد ومشقة وعناء في الإعداد والطهي.
الثالث:وصف المن والسلوى بطعام واحد مع أن صفته الأهم والأولى هي نزوله من السماء بمعجزة وآية يومية باهرة.
الرابع:عدم توجههم إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة ولم يقولوا (ادع لنا ربنا) وقد ورد لفظ[ادْعُ لَنَا رَبَّكَ] على لسان بني إسرائيل إلى موسى خاصة خمس مرات في القرآن ثلاثة منها في قصة ذبح البقرة، وورد مرة واحدة على لسان آل فرعون وإلى موسى عليه السلام أيضاَ [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ]( ).
وفيه تلطف وتزلف إلى موسى ليكشف عنهم العذاب، وتكرر في كتب التفسير أن المراد من (يا أيها الساحر) أي العالم والكامل، ولكن الآية حجة عليهم فانهم ظنوا العلم محصورا بالسحر، وإعتادوا تسمية موسى بالساحر وهو يدل بالدلالة التضمنية على تكذيبهم له.
الخامس: سؤال الأدنى والأقل وترك الطعام المعجزة الذي يتباهى به بنو إسرائيل وهو من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله لقوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وبيان مصاديق هذا التفضيل بـأبهى الآيات الحسية من الرزق اليومي الكريم الذي ينزل من السماء.
الأية لطف
في الآية تذكير لبني إسرائيلإسرائيل بما قالوا لموسى عليه السلام، وعدم رضاهم بالمائدة والطعام الذي ينزل كل يوم عليهم من السماء , وإختيارهم نبات الأرض الذي يستلزم الجهد والمشقة ليكون هذا التذكير حجة عليهم، وزجراً لهم من كثرة سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطلب الآيات، وتحقيق الرغائب، ومحاولات دفع الناس إلى كثرة المسألة، وطلب المعجزة.
وتدعو الآية إلى الرضا والقبول بنعم الله عز وجل، وهذا الرضا عنوان ومناسبة لشكر الله تعالى على النعم، ووسيلة لإستدامتها وتعاهدها، وذم الذين أرادوا غير النعم التي كانت تأتيهم من غير جهد أو عناء.
وتبين الآية تفضيل المسلمين في باب الصبر إذ إنهم صبروا على الأذى في ذات الله، وإختاروا الجهاد دفاعاً عن كلمة التوحيد وبقائها في الأرض وهو من الشواهد المتجددة لفضل الله عليهم بقوله[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وجاءت الآيات القرآنية والسنة النبوية بحث المسلمين على الصبر عند النوائب والمصائب وفي الشدائد بينما تخبر هذه الآية عن عدم صبر بني إسرائيلإسرائيل على النعم السماوية التي تكون في كل يوم آية متجددة تدعو الناس لعبادة الله عز وجل ، وتدفقت بالفتوحات الإسلامية الأموال على المسلمين وتعددت أمصار الدولة الإسلامية , فجاءت هذه الآية لتدعو المسلمين للصبر والرضا بالنعم وعدم الجحود بها.
وتدعو الآية المسلمين والمسلمات إلى شكر الله تعالى على النعم، ومنها النعم الطبيعية والخزائن التي خرجت عليهم خاصة ثائرة من باطن الأرض في هذا الزمان.
إفاضات الآية
يقص القرآن على المسلمين أحسن القصص، ويخبرهم بأبهى الآيات التي نالها الإنسان بإشراقة إيمانية وبرهان قاطع على تحقق المعجزات من غير أسباب أو وجود علة، وتفتح الآية أمام المسلمين آفاق الغبطة والسعادة لما فيها من البشارات التي ينالها أهل الإيمان وورثة الأنبياء وليس بينهم وبينها إلا إخلاص العبادة.
وفي الآية إرشاد لطلب الأعلى أو المثل لأنه تعالى واسع كريم، ودعوة لتعاهد النعم بالشكر والحمد، وعدم إظهار الملل من مصاحبتها لأنها قد تنفر ولا تعود، وفي الآية تحذير من الكيد والمكر والجحود.
وتدل الآية على تنزه المسلمين عن الحسد، فلم يحسد المسلمون بني إسرائيل على نعمة المن والسلوى، ولم يطلبوا مثلها بل صبروا على شغف العيش، وإتخذوا من هذا الصبر رداءً إيمانياً وواقية من الجحود مما فيه غضب الله، (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إياكم والحسد فأن الحسد الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)( ).
فإن قلت القدر المتيقن من الحسد هو تمني زوال النعمة عن صاحبها، وليس من منّ وسلوى ينزل على بني إسرائيل أيام البعثة النبوية , والجواب يتلو المسلمون هذه الآية ويستحضرون بالوجود الذهني نعمة المن والسلوى وتدفق الماء من الحجر الصلد الصغير بفيض عصا موسى، ومع هذا فإنهم يتلقون آيات القرآن كنعمة عقلية عظيمة متجددة في كل زمان تفوق نزول المن والسلوى على أمة معينة في زمان مخصوص أعقبها البلاء والعذاب بسبب الظلم والجحود في ملاقاتها.
وقال الشلبي: الشكر رؤية المنعم، لا رؤية النعمة) ولا يخلو من تكلف فقد تفضل الله عز وجل وجعل الشكر ملكة قريبة دانية عند كل إنسان , وذكر (أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام يا موسى اشكرني حق شكري، فقال: يا رب كيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي ؟
فقال: يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني)( ).
وقد تلقى المسلمون إخبار القرآن بالنعم التي جاءت لبني إسرائيل بالمعجزة الحسية الباهرة بالتصديق والرضا والغبطة بلحاظ الإتحاد في ماهية الإسلام وإتباع النبوة، ليكون هذا التلقي من الشكر لله عز وجل على تلك النعمة , وفيه قانون مستنبط وهو أن النعمة تأتي إلى أمة من الأمم فتتخلف عن شكر الله حق شكرها، فيتولى المسلمون الشكر عليها، ومن خصائص هذا الشكر أمور:
الأول: لم ير المسلمون هذه النعم كنعمة يبس البحر الأحمر ونزول المن والسلوى على بني إسرائيل.
الثاني: لم ينتفع المسلمون من تلك النعم مباشرة.
الثالث: بقاء شكر المسلمين على تلك النعم إلى يوم القيامة بتلاوة هذه الآيات، وهو من عمومات الثناء عليهم في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : يلتقي المسلمون مع المليين الذين تلقوا تلك النعم بالإسلام والإنقياد وإتباع الأنبياء
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية الكريمة بذكر نعمة عظيمة تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل ومع إتحاد موضوع هذه النعمة فإنها مركبة ومتعددة من وجوه :
الأول : توجه الأمر الإلهي إلى بني إسرائيل، فمن التشريف والإكرام أن يتوجه الأمر الإلهي إلى أمة مخصوصة، مما يوجب عليهم تلقيه بالقبول والإمتثال.
مجئ الآية بصيغة الجمع، وتحتمل وجوهاً :
الأول : أخذ الميثاق على أنبياء بني إسرائيل دون العامة منهم.
الثاني : إنحصار الميثاق بالأنبياء والصالحين من بني إسرائيل.
الثالث : المراد من الخطاب الذين إستحقوا اللوم والذم من بني إسرائيل ممن لم يتقيد بأحكام الميثاق.
الرابع : إرادة عموم بني إسرائيل.
والصحيح هو الأخير، لأصالة العموم، وظاهر صيغة الخطاب في الآية الكريمة، والآية إنحلالية تشمل كل فرد من بني إسرائيل ويكون تقدير صيغة المفرد منها : وإذ أخذنا ميثاقك ورفعنا فوقك الطور.
فلا ينحصر موضوع الآية بفريق منهم دون فريق آخر، إذ جاء الميثاق عاماً شاملاً وكذا رفع الطور فوقهم، وفي العموم نكتة عقائدية وهي تجلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بينهم في أبهى معانيه، لظهور الآيات المصاحبة للميثاق، ودنو الخطر والعذاب منهم جميعاً برفع الطور فوقهم.
ولم تذكر الآية بني إسرائيل بالاسم والتعيين مع أنها جاءت بصيغة الخطاب التي تصرف مع الإطلاق إلى المسلمين بمعنى أنه إذا وردت لغة الخطاب في القرآن من غير قرينة صارفة فإن المخاطبين فيها هم المسلمون، ولكن القرينة الصارفة موجودة في الآية من وجوه :
الأول : سياق الآيات ومجيؤها في خطاب بني إسرائيل، وبيان النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها عليهم.
الثاني : التفسير الذاتي للقرآن، وورود آيات قرآنية أخرى تدل على المراد وأن المقصود هم بنو إسرائيل.
الثالث : ذكر قصة الطور ورفعه، وهو آية خاصة ببني إسرائيل وتتضمن الإنذار والوعد والوعيد , وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا]( )، وقد ذكر الطور في القرآن في بني إسرائيل وأخذ الميثاق عليهم.
وجاء في الآية أمران وأمران: أما الأمران الأولان فبمعنى الخبر والجمع أمور فهما :
الأول : إخبار الآية عن أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل، والذي إبتدأت به الآية.
الثاني : بيان غاية ما في الآية وهي هداية بني إسرائيل وإختيارهم سبل التقوى والخشية من الله.
وأما الأمران وجمعهما أوامر بمعنى الطلب وبعث المخاطب على الفعل فهما :
الأول : الأمر لبني إسرائيل بأخذ ما آتاهم الله بقوة، وعدم التفريط بما في التوراة من الأحكام.
الثاني : وجوب التقيد بأحكام الحلال والحرام الواردة في التوراة، وتعاهد ما فيها من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الأوامر الواردة في الآية تفضيل لبني إسرائيل من وجوه :
الأول : تلقي الأوامر من عند الله تعالى.
الثاني : مجئ هذه الأوامر في كتاب نازل من السماء.
الثالث : مجئ الأوامر بواسطة رسول نبي وهو موسى عليه السلام.
وقد فاز المسلمون بهذا التفضيل أيضاً مع رحمة ونعمة إضافية من عند الله تعالى من جهات :
الأولى : جاءت أحكام الشريعة متكاملة في القرآن.
الثانية : نزل القرآن على خاتم النبيين وسيد المرسلين.
الثالثة : تفضل الله تعالى بحفظ القرآن من التحريف والتغيير، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابعة : جعل الله تعالى المسلمين أحسن الأمم , قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن خصائص المسلمين تعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصفة الوجوب إلى يوم القيامة، ومن مصاديقه تلاوتهم هذه الآية في كل زمان ومكان.
الخامسة : ترشح الدروس والمواعظ وصيغ الإعتبار من المضامين القدسية للآية الكريمة.
وفي تلاوة هذه الآية أمور :
الأول : الود مع الناس جميعاً لما فيها من التحذير والدعوة إلى إستحضار نعم الله تعالى.
الثاني : التذكير بالنعم الإلهية، وطرد الغفلة عن الذات والغير.
الثالث : تعاهد آيات القرآن، ومنع طرو التحريف عليها.
الخامس : نيل الأجر والثواب من جهات :
الأولى : بتلاوة كل حرف وكلمة من كلمات هذه الآية.
الثانية : تبليغ أحكام هذه الآية.
الثالثة : إنتفاع الناس من التلاوة ومن مضامين الآية الكريمة.
وتعدد وجوه الثواب من التلاوة أمر ينفرد به المسلمون، وفيه ترغيب بالإسلام وبيان عدم إنحصار منافعه بأيام الحياة الدنيا، بل تشمل الدنيا والآخرة.
لقد إبتدأت الآية بذكر الميثاق وأخذ الله تعالى له من بني إسرائيل ، وفيه وجوه :
الأول : الميثاق رحمة وفضل من عند الله.
الثاني : التذكير بالميثاق شاهد على تفضيل بني إسرائيل.
الثالث : في الدعوة السماوية لبني إسرائيل لإستحضار الميثاق حث لهم على تعاهد منازل التفضيل والذي لا يتقوم إلا بدخول الإسلام.
الرابع : جاءت الآية ليدرك بنو إسرائيل والناس جميعاً أموراً:
الأول : جهاد المسلمين في سبيل الله، وحفظهم لآيات القرآن
الثاني : تقيد المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية، وجاء به القرآن الكريم، وما تجلى في السنة النبوية المباركة من الوحي.
الثالث : بيان المائز الذي ينفرد به المسلمون عن أهل الملل السماوية الأخرى بتعاهدهم للميثاق، ودعوتهم الناس لإستحضاره في الوجود الذهني موضوعاً وحكماً، بالعهد الذي يتجلى بأحكام الشريعة الإسلامية.
الرابع : من خصال [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وهم المسلمون أنهم يتعاهدون ميثاقهم ومواثيق الأمم والملل السابقة من وجوه :
الأول : القرآن تبيان كل شئ، ومنه مواثيق الأمم السابقة.
الثاني : تتصف الشريعة الإسلامية بالتكامل لذا تدخل فيها المواثيق التي أخذها الله تعالى على الناس.
الثالث : يتقيد المسلمون بأحكام الميثاق، ويتلون آيات القرآن كتنزيله وتؤدي أجيالهم المتعاقبة الفرائض، كما أداها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لم يأت لفظ [وَإِذْ قُلْتُمْ] في القرآن إلا مرتين، وكل واحد منهما خطاب لوم إلى بني إسرائيل، فقد جاء قبل ست آيات [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً] ( ).
أما هذه الآية فجاءت للإخبار عن إحتجاجهم على أكل طعام سماوي واحد، ورغبتهم في الأكل من نبات الأرض، وإبتدأ بنو إسرائيل كلامهم مع موسى بالحرف (لن) الذي يفيد النفي وإرادة المستقبل من الفعل المضارع وهو في الآية ( نصبر).
فأخبروا بأنهم لا يستطيعون الصبر بعدئذ على طعام واحد، ولم يذكروا تفاصيل هذا الطعام، وما فيه من الخصوصية والتشريف والتفضيل لهم لأنه نازل من السماء، بالإضافة إلى تعدد الطعام لأنه يتألف من المن والسلوى، والتباين في الطعم والذوق , وقد تقدم قبل أربع آيات قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] ( )، أي أن الله وصفها بأنها من الطيبات والرزق الكريم، وتتجلى صفة الكريم لنسبته إلى الله.
وجاءت الآية بصيغة الخطاب إلى بني إسرائيل في أيام البعثة النبوية الشريفة وأيام تنزيل القرآن والمراد من القائلين هذا القول هم آباؤهم وأسلافهم، وفيه آية في مؤاخذة الأبناء بما قال الآباء بلحاظ وحدة القول والفعل، لأن الأبناء جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنكروا البشارات الواردة بخصوصها في التوراة والإنجيل.
لذا فإن من أسلم من بني إسرائيل غير مشمول بصيغة الخطاب في هذه الآية، وجاءت هذه الآيات دعوة لبني إسرائيل لدخول الإسلام، ومن اللطف الإلهي في لغة اللوم الواردة في القرآن الحث على التدارك والإنابة، وهذا الحث شامل لمن يوجه له اللوم ولغيره ممن يماثله أو يكون أولى منه باللوم كما في الكفار والمشركين، فإن لغة اللوم والتوبيخ تشملهم من باب الأولوية القطعية إلى جانب الوعيد لما يستحقونه من العذاب , قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
فتتضمن لغة الخطاب في الآية الكريمة تحذير بني إسرائيل مما يلحق أبناءهم لمحاكاتهم لهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكأن الآية تدعوهم للرحمة بأبنائهم من بعدهم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، وتدل لغة اللوم في الآية في مفهومها على مدح صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تلقوا الآيات بالتصديق والرضا والشكر لله تعالى ولم يسألوا إلا ما فيه التفقه في الدين ومعرفة الأحكام وأحوال الناس في الآخرة كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ] ( )،[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]( )،[ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ]( )،[يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ] ( ).
وفيها دعوة للمسلمين، لتعاهد النعم الإلهية بالإلتزام بطاعة الله ورسوله، وقد تجلت معاني الطاعة في سوح الدفاع وبذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله لتبقى الآية الكريمة سالمة من التحريف، تتلى كل يوم لتكون مدرسة وموعظة للناس في كل زمان، وتخبر عن أحوال الذين يقولون أنهم أحباء الله.
وتتضمن ذكر النعم العظيمة التي تفضل الله تعالى بها عليهم، وإصرارهم على الجحود بالنعم بسؤال البديل الأدنى، وتحذر أبناءهم بصيغة خطاب اللوم من إتباع نهجهم، وتدعوهم إلى الرضا بما أنعم الله تعالى به عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكمال أحكام الشريعة بنزول القرآن مبيناً للحلال والحرام.
ولم يسأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام نبات الأرض والفواكه والخضروات بل إبتدأوا مسألتهم بما كأنه جحود بالنعمة، وأخبروا عن ضجرهم من الأكل كل يوم من ذات النوع من الطعام، ونسوا ما في هذا الطعام من اللطف والنعم الإلهية من وجوه :
الأول : إنه طعام نازل من السماء، وتلك نعمة يومية إختص الله تعالى بها بني إسرائيل.
الثاني : الطعام الواحد من مصاديق تفضيل بني إسرائيل، وتقتضي الحكمة تعاهد نعمة التفضيل بالشكر لله تعالى على هذا الطعام، وتلقيه بالقبول والرضا.
الثالث : المراد من الطعام المن والسلوى، وكل واحد منهما ألذ من العسل.
الرابع : إنه نعمة متجددة كل يوم، تذكر بني إسرائيل بلزوم عبادة الخالق، وأنه سبحانه الرزاق ذو القوة المتين.
الخامس : نزول المن السلوى من عند الله برزخ دون الجحود والشرك والضلالة، وقد سبق وان إتخذ شطر من بني إسرائيل العجل وسألوا موسى عليه السلام أن يروا الله جهرة فأخذهم العذاب، وجاءت آية نزول المن والسلوى من السماء لتكون معجزة يومية متجددة تدل على وجود الصانع وعظيم قدرته وإحسانه، ووجوب عبادته وعدم الشرك به.
السادس : في نزول الطعام من السماء كل يوم لبني إسرائيل دعوة للرجوع إلى موسى عليه السلام وإتباعه.
وهل في قولهم [يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] إيذاء لموسى عليه السلام , الجواب نعم، لما في هذا القول من الجحود والصدود وأسباب زوال النعمة، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] ( ).
السابع : مجئ الطعام من السماء من غير كد ولا تعب من بني إسرائيل، فلا يحتاجون معه إلى المؤونة والتعب والحرث والسقي والبيع والشراء.
الثامن : في نزول الطعام من السماء دعوة لبني إسرائيل لكثرة النسل وتدارك النقص في الأبناء والعدد الذي خلفه ظلم آل فرعون بقوله تعالى [يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ] ( ) فالرزق المضمون، ونزول الطعام الكثير من السماء سبب للأمن والطمأنينة على الأبناء في مؤونتهم وطعامهم وسلامة أبدانهم.
لقد رأى بنو إسرائيل إستجابة الله تعالى لدعاء موسى عليه السلام في الإستسقاء وإنفجار عيون الماء من الحجر الصغير بآية إعجازية، فجاءوا هذه المرة ليسألوا الخضروات والبقول مع تباين في الموضوع، إذ كانوا محتاجين إلى الماء وسألوا موسى عليه السلام السقيا والغوث بالماء.
وتدل هذه الآية على عدم حاجتهم لإستغنائهم بالمن والسلوى، وبعد ان قدم بنو إسرائيل جزعهم وعدم صبرهم من الطعام الواحد بينّوا مسألتهم، وهي على وجوه :
الأول : الطلب من موسى بأن يسأل الله تعالى، ويدعو بما يريدون.
الثاني : سؤال بعض مما تنبت الأرض، ويدل على التبعيض حرف الجر في قوله تعالى [مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ].
الثالث : ذكر أصناف وجنس النباتات التي يريدون من البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل.
ومن الإعجاز في الآية انهم أكثروا من تعداد النباتات التي يرغبون بأكلها وكأنهم بيتّوا النية على هذا السؤال منذ زمن ليس بالقصير، وكانوا يجهرون فيما بينهم بالرغبة بتلك المأكولات مع نزول المن والسلوى ينزل عليهم كل يوم بدل الشكر لله تعالى والإنقطاع إلى العبادة، وإستثمار أوقات الإلتقاء بينهم في التفقه في الدين ، وتذاكر علوم التوراة وما فيها من الأحكام والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كان نزول المن والسلوى مناسبة كريمة لبلوغ المراتب العالية في العلم والدين، وإرتداء لباس التقوى والخشوع لله تعالى، والسياحة في عالم الملكوت، وقد سأل الحواريون عيسى عليه السلام [هَلْ يسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ]( )، وجاءت هذه الآيات لتخبر بأن الله تعالى كان ينزل مائدة على بني إسرائيل كل يوم، وهي أكبر مائدة في التأريخ إذ ينزل من المن والسلوى ما يكفي لجميع بني إسرائيل، وهم جمع غفير، وقيل أنهم حينما عبروا البحر كانوا ستمائة وعشرين ألفاً، ومع هذا حينما نظر لهم فرعون قال[إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( ).
ويبقى هذا العدد كثيراً حتى على القول بأنه قتل منهم من عبدة العجل سبعون ألفاً، خصوصاً وأن النجاة من آل فرعون مناسبة لزيادة النسل، وكذا نزول الطعام من السماء لما يبعثه من السكينة والإستقرار والميل إلى الألفة والمودة التي يدرك شطر منها بالزواج، وتتصف هذه المائدة بالتكرار اليومي، ونزولها كل يوم على بني إسرائيل، ولا تنزل يوم السبت من بين أيام الأسبوع، فكانوا يدخرون يوم الجمعة ليوم السبت، وهو شاهد على كثرة ما ينزل من الطعام، والله تعالى إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وما يكفي للحاجة مع زيادة جلية وظاهرة للعيان، وفيه حرب على الحرص والبخل والشح، ودعوة لعدم الخوف من المستقبل وما يخفيه من أسباب الجوع والفاقة.
لقد تضمنت الآية في مفهومها اللوم لبني إسرائيل على عدم إظهار الشكر على النعمة العظيمة في الطعام الواحد وهي على وجوه :
الأول : نزول المتعدد من الطعام، إذ ينزل المن ثم السلوى.
الثاني : تكرار نزول المن والسلوى كل يوم.
الثالث : كفاية ما ينزل منه لعموم بني إسرائيل.
الرابع : إنعدام المؤونة والجهد في تحصيل الطعام.
الخامس : تجدد المعجزة الحسية بنزولها كل يوم، فقد سألوا موسى عليه السلام أن يريهم الله تعالى جهرة فأخذهم العذاب، وجاءت هذه الآية ليروا آيات الله الباهرات التي تدل على عظيم قدرته وسلطانه، فأدرك بنو إسرائيل ان نعمة المن والسلوى من الله تعالى لذا توجهوا لموسى بالسؤال [فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ].
ومن إعجاز الآية ما يظهر فيها من التباين في الضمير فهم لم يقولوا (ادع لنا ربنا ليخرج لنا) ولم يقولوا (ادع لنا ربك ليخرج لك) بالتناسب والتماثل في نسبة الضمير، بل جاءوا بالمتباين فيه، وسألوا موسى أن يسأل ربه وهو سبحانه رب العالمين، وطلبوا إخراج النبات لهم لعلمهم بأن موسى شاكر لله تعالى على نعمة المن والسلوى , وتدل صيغة السؤال على إظهار موسى الغبطة والرضا والشكر لله على نعمة المن والسلوى لذا نسبوا الطلب لأنفسهم(يخرج لنا).
ومن الشكر لله تعالى عدم سؤال غيره، ويتساوى الناس في الأكل من نبات الأرض، بينما ينفرد بنو إسرائيل بالأكل كل يوم من الطعام النازل من السماء، وهو من وجوه تفضيلهم وإكرامهم وعمومات قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، الذي يجب ان يقابل بالشكر والتقوى والصلاح.
ونسب بنو إسرائيل النباتات إلى الأرض (بقلها) و (فومها) ولعل فيه إشارة منهم إلى نيل نبات الأرض من غير نصب وحرث وعناء.
لقد إختار الله تعالى لهم النعيم ونزول الطعام من الجنة، لذا قيل بأن سؤالهم النبات معصية بلحاظ عدم رضاهم بما إختاره الله تعالى لهم وان كان الذي سألوه مباحاً، ولكنهم جاءوا بمقدمة تدل على غياب الحكمة [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ].
ومن إعجاز الآية أنها وثيقة سماوية جاءت برد موسى عليه السلام عليهم بالتبكيت والتوبيخ والإستفهام الإنكاري[أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ].
وفي نعت الذي سألوه بأنه أدنى وجوه :
الأول : ينزل عليهم المن والسلوى مباركاً من السماء، والنبات يخرج من الأرض، وما ينزل من السماء أفضل مما ينبت من الأرض، وإن كان نبات الأرض نعمة وفضلاً من عند الله تعالى.
الثاني : يأتي المن والسلوى من غير مؤونة ولا جهد ولا عناء، ويحتاج نبات الأرض إلى التعب والعناء.
الثالث : لقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بتدفق الماء من الحجر ليشربوا منه فسألوا أنهاراً وماء للسقي في التيه والصحراء، مع أن موطن سكنهم يومئذ الترحال في الصحراء، وعدم الإستقرار.
الرابع : في نزول المن والسلوى عز لكل فرد من بني إسرائيل لما فيه من كفايتهم وقضاء حوائجهم، أما الزراعة فإنها تبعث على الحاجة وتسخير بعضهم لبعض.
الخامس : من وظائف العبودية الرضا بما إختاره الله ولا يصح ترك ما إختاره الله وإظهار الجزع وعدم الصبر منه، قال تعالى[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ] ( ).
وقد مدح الله تعالى المسلمين على صبرهم ورضاهم بما إختار لهم ورسوله، وتلقيهم النعم وصنوف البلاء بالشكر ويتضمن كلام بني إسرائيل[لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ]نوع تهديد وتحذير لموسى عليه السلام، فليس في عدم الصبر إلا الجزع، وهم لم ينووا الإمتناع عن الطعام الواحد، ولكنهم أرادوا التحذير والتنبيه على أنهم يريدون فعل شئ , فجاء الرد من عند الله سريعاً باللوم والذم لهم لصرفهم عن أي فعل وشر ينوون الإقدام عليه، وجعلهم هذا اللوم يتفكرون في حالهم.
ومن الآيات أن الرد لم ينحصر باللوم والتوبيخ رجاء أن يقتنعوا بالمن والسلوى ويكفوا عن سؤال الكراث والنعناع ونحوه من البقول، بل تضمن الأمر لهم بالنزول إلى مصر حيث الزراعة وما يصاحبها من الذل والجهد والتعب والشقاء، وقوله تعالى[اهْبِطُوا مِصْرًا] تذكير بما فعله بهم فرعون وأصحابه، وتوبيخ إضافي لهم لأنهم لم يتعاهدوا منازل الشكر على النعم الإلهية.
وكأن الآية تقول لبني إسرائيل بأن عهد النعم الإلهية في الأكل والشرب قد تغير، وبدء زمان الجهد والكسب والسعي، فلا أحد يمّن على الله، وهو سبحانه غني عن بني إسرائيل والناس جميعاً , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
وتتضمن الآية في مفهومها البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يجدونه في التوراة ليأتي بالقرآن وتتبعه أمة هي خير أمم الأرض على الإطلاق ولا يسألون إلا ما يصلح لهم دينهم، ويكونون أئمة للناس في طريق الهداية والرشاد، ويدل عليه قوله تعالى في ذم الذين ظلموا من بني إسرائيل[ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ].
وفرض الذلة نقيض التفضيل والعز، وجاء قبل آيات نفي الظلم مطلقاً عن الله تعالى، وتوكيد نسبة ظلم بني إسرائيل لأنفسهم قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، لذا جاءت هذه الآية ببيان علة إنقطاع التفضيل عنهم، وضرب الذلة والمسكنة عليهم، وبما يكون حجة ظاهرة، ودليلاً قاطعاً عند كل إنسان يعلم بترك الوقائع، وهو من أسرار قصص القرآن وتضمنها للحقائق التأريخية، إذ تكشف الزيف وتطرد التحريف، وتفضح الكذب والزور والبهتان.
وقد يحارب إنسان أو جماعة النبي أو المصلح، ولكن حينما يتغير الحكم وتتبدل الأحوال، وينتصر النبي أو المصلح على أعدائه وخصومه ويميل الناس له أو حينما تنتهي أيامه، ويبقى ذكره الحسن عند الناس يظهر الذي أو الذين حاربوه خلاف ما كانوا يفعلون من السوء وما قابلوه من الأذى والمكر، ويدّعون زوراً أنهم كانوا أنصاره وأعوانه ولم يكونوا ضده إلا للتورية والتمويه على الناس , وفي التنزيل[وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ]( ).
فجاءت هذه الآية لكشف المكر السئ وفضح أهله، ودعوة المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً إلى الإعتبار والإتعاظ من قصص القرآن، واليقظة والحذر من الأفعال التي جاءت قصص القرآن بذمها وتقبيحها، والإنكار على أهلها، وسوء عاقبتها.
فليس المقصود في الآية بني إسرائيل وحدهم، بل ذات الفعل المذموم وهو الجحود بالنعمة السماوية والإصرار على سؤال الأذى، وإبدال الحياة الرغيدة بالشقاء والجهد، وتضمنت الآية السابقة بسؤال لبني إسرائيل لموسى، ومجيء الإستجابة من عند الله بآية إعجازية.
إذ سألوا الماء فتدفق لهم من الحجر عيوناً جارية , أما هذه الآية فأخبرت عن كونهم سألوا الأدنى، وبدأوا كلامهم بما يتضمن الجحود بالنعم العظيمة وأسباب التفضيل التي تفضل الله تعالى بها عليهم من بين الناس.
وأختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( )، وبلحاظ الجمع بينه وبين مضامين هذه الآية، هناك وجوه :
الأول : ليس في هذه الآية ما يدل على الفساد وشدته.
الثاني : تتضمن هذه الآية الإخبار عن مقدمات الفساد، وعزم القوم على إرتكاب المعاصي.
الثالث : جاءت هذه الآية بما يدل على شدة الفساد، ومن أهم أفراده الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء.
والصحيح هو الأخير فجاء التحذير في خاتمة الآية السابقة مصاحباً لنعمة جريان الماء من الحجر، ونعمة نزول المن والسلوى ليكون زاجراً لبني إسرائيل عما سألوه في هذه الآية، وعن إرتكابهم الظلم، ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم ممن حولهم ولذراريهم، وللمسلمين، إذ لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة سواء المهاجرين أو الأنصارالأذى الكثير منهم، لتبقى هذه الآية تذكيراًَ لبني إسرائيل ودعوة للإمتناع عن الفساد في كل زمان، ودعوة للمسلمين للحذر واليقظة منهم، والصبر على أذاهم.
وإذ لم يصبر بنو إسرائيل على نعمة المائدة السماوية اليومية، فإن المسلمين صبروا على الأذى في جنب الله ، وقاتلوا المشركين الذين حرضهم بعضهم أحياناً على قتالهم أو أغروهم على قتال المسلمين , بإنكار البشارات التي جاءت بنبوة محمد في الكتب السابقة ، وهو من وجوه نيل المسلمين صفة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولم يكتف بنو إسرائيل بطلب ما تنبت الأرض بل ذكروا جنس الذي يبغون وعلى نحو التعدد والكثرة على وجوه :
الأول : البقل وله مصاديق كثيرة، وهو كل نبت ليس له ساق، والمراد ما يخرج من الأرض من البقول.
الثاني : القثاء، وهو الخيار.
الثالث : الفوم وهو الحبوب ومنه الحنطة، مع أنه يأتيهم المن والسلوى من السماء، ومن غير جهد وعناء الطبخ وإعداد المائدة , وعلى القول بأن الفوم هو الحنطة، فالمراد من سؤال الحنطة الإنتفاع منها بما هو أعم من الخبز خاصة وأنهم لا يريدون طعاماً واحداً.
الرابع : العدس وهو حب معروف.
الخامس : البصل، وهو نبت تخرج أوراقه من الأرض، أما ذات البصل فيبقى داخل الأرض.
وذكرهم لأصناف من نبات الأرض توكيد لعدم صبرهم على الطعام الواحد، وأنهم إذا أخرجت لهم الأرض نباتات عديدة لم يجزعوا ولن يملوا، لأنها تناسب التباين في الرغائب والأذواق، ويستطيع كل فرد منهم أن يأكل كل يوم ما يشتهيه منها، وإبتدأوا بذكر البقل لأنه اسم جنس تقع تحته مصاديق وأفراد عديدة من الخضروات والنباتات.
وهذا الترتيب في أصناف النباتات وإن جاء على لسان بني إسرائيل إلا أنه يتضمن أسراراً ودلالات في التفضيل بينها في الأكل والقيمة الغذائية، والربح التجاري والمنافع الأخرى.
ويحتمل شموله بالإخراج بقوله تعالى [يُخْرِجْ لَنَا] وجوهاً :
الأول : خروج الورق منه، وهو جزء منه، فيصدق على الكل الإخراج.
الثاني : يدل الجزء الظاهر منه على ما موجود في داخل الأرض , وهو من عمومات قوله تعالى [مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ].
الثالث : الإلحاق بالنباتات الأخرى التي تخرج من الأرض.
الرابع : النمو داخل الأرض من عمومات قوله تعالى [بَصَلِهَا].
ولا تعارض بين الوجوه أعلاه، وهو من عمومات وأسرار اللفظ القرآني, ويدل الوجه الرابع على المعنى الأعم للإخراج وصدقه على ما ينمو داخل الأرض.
وهل جاء ذكر هذه النباتات الخمسة من باب الحصر أم من باب المثال الأمثل , الجواب هو الثاني إذ أنهم أرادوا الأعم في اللجوء إلى الله تعالى، وسؤاله بالحاجات والرغائب على نحو التفصيل أمر محمود من العباد، وهو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ] ( )، ولكن سؤال بني إسرائيل جاء فرعاً للجحود بالنعمة، وبعد إعلان جزعهم وعدم صبرهم على الطعام الذي ينزل من السماء اليهم، الذي خصهم الله تعالى به من بين الناس.
وهل كان جحود بني إسرائيل على نعمة المن والسلوى سبباً لحجبها عن غيرهم من المؤمنين من الأمم اللاحقة كالمسلمين، الجواب لا دليل عليه، والله عز وجل لا يقيس الموجود على المعدوم، ولا المؤمن على الجاحد، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ) ولكنه سبحانه يرزق المؤمنين والموحدين نعماً أخرى، ويفيض عليهم ببركات ويتغشاهم برحمته الواسعة.
وجاء حرف الجر (من) في قوله تعالى [مِنْ بَقْلِهَا] لبيان الجنس، وهي الجارة للتمييز، وأكثر ما تكون في المبهمات خاصة في (ما) والتي جاءت في قوله تعالى [مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ] ليجتمع في قولهم حرف الجر الذي يفيد التبعيض في قوله تعالى [مِمَّا] ,ويفيد بيان الجنس في (من بقلها) , فيكون مرادهم أن الأرض تخرج منها نباتات نافعة كثيرة وأشجار مثمرة ، وأزهار ونباتات غير نافعة.
فجاءت (من) في [مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ] لسؤال بعض نبات الأرض، وجاءت من في قوله تعالى [مِنْ بَقْلِهَا] لبيان الجنس وأصناف النباتات التي يرغبون بها، و (خير) أفعل تفضيل وجاء ذكره على لسان موسى عليه السلام كشاهد تأريخي من عالم النبوة بأنه ليس أفضل من طعام المن والسلوى ينزل على أمة كل يوم، ومع هذا أراد بنو إسرائيل إستبداله، وجاء جواب موسى عليه السلام [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى] دليلاً على أنهم لم يريدوا الإضافة إلى المن والسلوى بل أرادوا تبديلها بنبات الأرض، وفيه وجوه :
الأول : إن المن والسلوى لا يجتمعان مع طعام آخر.
الثاني : لا يجتمع طعام السماء مع نبات الأرض،، فاذا جاء نبات الأرض إرتفعت مائدة السماء.
الثالث : ينزل المن والسلوى بمعجزة من عند الله تعالى، وما سألوه من نبات الأرض يخرج بالبذر والسقي، فأراد الله عز وجل أن تبقى المعجزة ظاهرة جلية.
الرابع : لابد من شرط في مائدة السماء وهو أن يقبل عليها العبد بشوق ورغبة وحاجة، ولايصح أن يجري التفضيل والتفاضل بينها وبين نبات الأرض وتقديم نبات الأرض عليها في الأكل، فمثلاً ينزل المن في يوم فلا أحد من بني إسرائيل يأخذ منه لأنهم مكتفون بما أخرجت الأرض من النبات.
الخامس : يعلم بنو إسرائيل عدم جواز إجتماع نبات الأرض مع المن والسلوى، فحينما طلبوا النباتات والبقول بادر موسى إلى القول [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ] أي أنكم تعلمون متى ما سألتم وقصدتم النباتات فإن مائدة السماء اليومية لن تنزل عليكم.
السادس : إن موسى عليه السلام حث بني إسرائيل على الصبر على المن والسلوى، والرضا والإكتفاء به، وعدم سؤال غيره من نبات الأرض خشية فقدانه والحرمان منه، وهو من رحمته وشفقته بهم.
السابع : ما يأتي من السماء نعمة ومن غير جهد ومشقة لا يجتمع مع ما تنبت الأرض ويأتي بمؤونة وعناء وصبر.
الثامن: إعلان موسى التبرأ من دعوتهم الإستبدال وفيه بعث لصلحائهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولا ينحصر جواب موسى عليه السلام على بني إسرائيل بالإستنكار واللوم على سؤالهم وما فيه من القبح الذاتي بل تضمن النزوح والهبوط إلى مصر ومدينة ذات طول وعرض، وهذا الجواب من عند الله تعالى عز وجل.
وفيه إشارة إلى إنقطاع نعمة المن والسلوى، وإعانة لهم على العيش والكسب بتعيين مسكنهم الجديد، وفيه نعمة أخرى على بني إسرائيل بمنع الفرقة والإختلاف والتشتت في الأمصار والقرى، وقد جاء قبل آيتين، إدخلوا هذه القرية على نحو الفضل والنعمة والإكرام لبني إسرائيل.
أما في هذه الآية فجاء الأمر بالهبوط إلى مصر، والهبوط غير الدخول، كما أن المصر غير القرية، مما يدل على أن الذي يهبطون إليه ليس بيت المقدس، وقد ورد في بيت المقدس أنه موضع البركة ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( ).
ومن البركة إنتفاء الذلة والمسكنة عمن يأمره الله أن ينزل به بالإضافة إلى ما في لفظ الهبوط من معنى الأدنى، وهو لا ينطبق على بيت المقدس بل على الخروج والرحيل منه إلى موضع فيه تعب وشقاء كما تبين هذه الآية، لذا فإن الآية تتضمن حرمان بني إسرائيل من نعم متعددة وهي :
الأولى : نزول المن والسلوى عليهم من السماء فلم تعد مائدة السماء تنزل عليهم، مما يدل على حملهم على الهبوط إلى مصر طلباً للمعيشة، وليس لهم الإمتناع والبقاء في مكانهم.
الثانية : الراحة والدعة والحياة الرغيدة، إذ بدأت حياة النصب والمشقة لطلب العيش.
الثالثة : نعمة العز والسكينة التي كان بنو إسرائيل يتنعمون بها، وحلول الذلة والمسكنة بدلها، فاذ أراد بنو إسرائيل إستبدال نعمة نزول المن والسلوى من السماء، فقد تلقوا عقوبة وهي إستبدال العز بالذل والمسكنة، والدعة والرغد بالنصب والعناء، وفيه موعظة وعبرة من وجوه :
الأول : دعوة بني إسرائيل أيام البعثة النبوية إلى الإسلام لتعاهد النعم والأموال والمساكن والضيعات التي عندهم، مع زيادتها ومضاعفتها بإتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لما في هذا الإتباع من الإمتثال لأوامر الله تعالى.
الثاني : حث المسلمين على الرضا والشكر لله تعالى على النعم التي أنعم بها عليهم، وإجتناب إستبدالها بالأدنى والأقل.
الثالث : دعوة الناس جميعاً إلى أمور :
الأول : الإعتبار والإتعاظ من الأمم السالفة.
الثاني : بيان الخطأ والتقصير عند الذين ناصبوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم العداء، وحرموا أنفسهم بأيديهم من النعم التي كانت تترى عليهم بكرة وعشياً.
الثالث : نيل العز والسكينة بالإيمان والتصديق بالنبوة.
الرابع : إجتناب الكفر بآيات الله، لأن هذا الكفر يجلب الذلة والمسكنة والغضب الإلهي.
وتكرر في الآية اسم الإشارة (ذلك) في موضوع واحد وهو ما لحق بني إسرائيل من الذل والمسكنة وكأنه من العلة والمعلول، والسبب والمسبب، فاحاطت بهم الذلة والمسكنة وحلوا بغضب من الله بسبب كفرهم بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء ظلماًُ وجوراً، وجاء هذا الكفر والقتل بسبب تماديهم في المعصية وإصرارهم على التعدي، وفيه إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء ، وتعديهم في السبت، (وقيل : بنقضهم العهد واعتدائهم في قتل الأنبياء( ).
وتبين الآية التمادي في ركوب المعاصي والإصرار عليها، وعدم التردد في فعل الكبائر، وغياب أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإقامة على المعصية، ومواصلة التعدي على الآخرين تجعل الفرد والجماعة يرتكبون الكبائر، ويحث بعضهم بعضاً على الآثام.
فتحذر خاتمة الآية أهل الكتاب أيام البعثة النبوية المباركة وما بعدها من المعصية , وتتجلى المعصية بإنكار البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتناع عن التصديق بنبوته وإتباعه، مع ظهور المعجزات الباهرات على يديه، وتحذرهم من التعدي على المسلمين، والإستيلاء على ثغورهم، وإفساد مزروعاتهم وتلف أموالهم.
وقد لاقى بنو إسرائيل أشد صنوف الأذى من فرعون وملئه الكفار، الذين لاقوا جزاءهم في الدنيا، كما بينته الآيات السابقة، وفيه درس وموعظة لبني إسرائيل بأن يتعاهدوا النعم والأسباب التي حالت بينهم وبين الفناء والإستئصال، وأدت إلى الإنتقام من عدو الله وعدوهم.
وينحصر هذا التعاهد بالتصديق بنبوة محمد التي هي إتمام لرسالة موسى عليه السلام، والوسيلة المباركة لتثبيت دعائم التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة، قال تعالى في خطاب المسلمين[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( ).
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة( ).
وتبين الآية أن حلول الذلة والمسكنة ببني إسرائيل ليس لأنهم تركوا النعمة السماوية وسألوا الأدنى، بل لأنهم تمادوا في المعاصي والذنوب، وكان الأولى بهم أن ينتفعوا من درس الهبوط بعد سؤال الأدنى ويجعلوه موعظة لهم، ويلجأوا إلى الإستغفار كما علّمهم الله عز وجل ورسوله موسى عليه السلام , ويتخذوا من فرعون وقومه وما لاقوه منه وسوء عاقبته عبرة وموعظة , ومن يتعرض للظلم يجب ان يكون أحرص من غيره على إجتناب الظلم والتعدي.
وفي الجمع بين قولهم بعدم الصبر [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] وبين ذمهم والإخبار عن حلول المسكنة والذل والهوان بهم وبيان علته وأسبابه شاهد على أن النعمة الإلهية ونزول المن والسلوى من السماء كان برزخاً دون معصية وتعدي بني إسرائيل، وإنتفاء الخصومات والعداوة بينهم وحاجزاً دون غلبة النفس الشهوية والغضبية عندهم.
لذا فإن وصف (الذي هو أدنى) لا ينحصر بالنبات وما تخرجه الأرض في مقابل المائدة السماوية بل يشمل الآثار التي تترشح عن كل واحد منهما بخصوص بني إسرائيل، فنزول المن والسلوى آية يومية متجددة تجذب بني إسرائيل إلى منازل الإيمان، وتكون برزخاً دون الفتنة والعناء والمشقة.
فمن الأدنى الذل في مقابل العز، والفقر بدل الغنى، والتعب والنصب بدل الراحة والدعة، والمشقة والعناء والنقص في الغذاء بدل الدعة والحياة الرغيدة، وسهر الليالي في السقي وتعاهد الأرض والنبات بدل النوم الهانئ، والخوف من الآفات الأرضية والسماوية التي تأتي على الزرع، بدل الرزق اليومي المضمون، والتباين في نوع وجنس وماهية الحاصل وتردده بين الجيد والردئ بدل الطعام المتساوي ذي النكهة الطيبة والمذاق اللذيذ.
التفسير الذاتي
بين هذه الآية والآية السابقة في لغة الخطاب عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء إرادة بني إسرائيل وتعلق الآيتين بزمان موسى عليه السلام بدليل ذكر موسى عليه السلام وفعله في الآيتين.
ومادة الإفتراق مجيء الآية السابقة بصيغة الغائب، ومجيء هذه الآية بلغة الخطاب وإبتدأت الآية السابقة بإستسقاء موسى عليه السلام، أما هذه الآية فإبتدأت بخطاب بني إسرائيل لموسى , ويتضمن إنكارهم على جنس الطعام الذي يأتيهم من عند الله، وانهم ملّوا تكرار ذات الطعام وإن كان نازلاً من السماء، فإذا كانت الخضروات والبقول لا تأتيهم إلا من جهة الأرض، سألوا موسى عليه السلام أن تخرج لهم الأرض هذه النباتات.
لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، فهل جزعهم من طعام سماوي متكرر كل يوم من الفساد في الأرض الجواب لا، ولكنه من الجحود بالنعمة التي فضّلهم الله عز وجل بها على العالمين، وخفف عنهم العناء والجهد للكسب.
والعثي شدة الفساد.
قال رؤبة” وعاث فينا مستحل عائث ( ).
وفي حديث الدجال فعاثَ يَميناً وشِمالاً( ).
وإذ إحتجت الملائكة حين جعل الله آدم خليفة في الأرض بأن الإنسان أفسد في الأرض، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاءت هذه الآية الكريمة ببيان كيفية الإنتفاع من فضل الله، والرضا برزقه الكريم، وتأديب المسلمين بلزوم تعاهد النعمة والشكر عليها، وعدم ترك الأحسن والأفضل وما في هذا الترك من معاني الجحود[قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ].
لقد تضمن الرد على سؤالهم الذم لهم لما فيه من تفويت المنفعة، وجلب الأذى والعناء، ومع العناء ومشقة الكسب فان الذي يأتيهم من نبات الأرض أدنى من المن والسلوى، وفي قوله تعالى “هو خير” أمران :
الأول : إرادة الحسن الذاتي والخير المحض للمن والسلوى.
الثاني : في الآية حذف.
ويكون الحذف على وجوه :
الأول : هو خير مما سألتم.
الثاني : هو خير لكم في أبدانكم وصحتكم.
الثالث : في المن والسلوى إستدامة لأخوتكم وتعاونكم، ومنع الفرقة بينكم.
الرابع : هو خير لكم لما فيه من التساوي بينكم , وعدم وجود فقراء بينكم يسخرهم الأغنياء لخدمتهم , وهو من مصاديق التمام في النجاة في قوله تعالى[وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ]( ).
فكان بنو إسرائيل خدما عند آل فرعون فسلموا جميعا من الخدمة والتسخير ولو فيما بينهم .
الخامس : المن والسلوى أغلى قيمة، وليس من طعام يعادله في قيمته.
السادس : جاء وصف المن والسلوى بأنه من الطيبات، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] ولم يرد لفظ “تستبدلون” في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
ولا تعارض بين الأمرين، وهما من مصاديق الآية.
وجاءت الآية في سياق الآيات التي تذكر نعم الله عز وجل على بني إسرائيل، وتدل على إتصال ودوام النعم عليهم، ونزول الطيبات من السماء لولا ان سألوا إستبدالها وطلب ثمار الأرض، وهذا الدوام من فضل الله عز وجل على بني إسرائيل وعطائه بالأوفى والأتم، وإذ جاءت هذه الآيات بذكر نعم الله على بني إسرائيل جاءت هذه الآية بالإخبار عن حال الذل والهوان الذي لحق طائفة منهم مع بيان أسبابه بسوء إختيارهم وفعلهم وتعديهم وقتلهم الأنبياء.
من غايات الآية
تتضمن الآية ذماً لأولئك الذين سألوا موسى عليه السلام أن يسأل الله عز وجل أن يخرج لهم مما تنبت الأرض، لأنهم لم يكتفوا بنعمة نزول الطعام من السماء كل يوم.
وتبين الآية ان الذلة والمسكنة التي أصابتهم ليس بسبب هذا السؤال وحده بل بجحودهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، ومعصيتهم وإعتدائهم على غيرهم.
وجاءت الآية ضمن نظم الآيات التي تبين نعم الله تعالى على بني إسرائيل من وجوه :
الأول : إن موسى عليه السلام واسطة بين الله عز وجل وبين بني إسرائيل.
الثاني : إقرار بني إسرائيل بان الطعام الواحد نعمة وآية من عند الله.
الثالث : عدم إعتراض بني إسرائيل على جنس وماهية الطعام الذي يأكلون ، ولكنهم أرادوا التعدد من نوع آخر من البقول والخضروات.
الرابع : نعمة وجود النبي بين ظهرانيهم إذ ينهاهم عن طلب الأدنى.
الخامس : لزوم طاعة النبي فيما يأمر وينهى.
ومن الدلائل على تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى عدم سؤالهم الأدنى، وكانوا يسألون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يساعدهم في التفقه في الدين وأداء العبادات والفرائض على نحو الإتقان والتمام.
ومن النعم الإلهية على المسلمين وجود السنة النبوية بين أيدي الأجيال المتعاقبة منهم لتكون باب هدى وسبيل رشاد وبياناً وتفسيراً للقرآن الكريم، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس : في الآية دعوة للمسلمين للصدور عن القرآن والسنة النبوية والتدبر في قصص الأمم السابقة والإتعاظ منها.
السابع : تفقه المسلمين في الدين وتأهيلهم للجدال بالحكمة والحجة والبينة.
الثامن : بيان تخلف غير المسلمين عن مقامات التفضيل بسبب جحودهم وكفرهم بآيات الله.
التاسع : التحذير من التعدي والمعصية، وجعل النفوس تنفر منهما وممن يفعلهما.
التفسير
قوله تعالى [[وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ]]
بيان لنعمة أخرى على بني اسرائيلإسرائيل تتمثل بتعدد وجوه النعم وتبدلها وفق ما يرغبون ولم تنحصر بنعمة معينة أو تتعذر عليهم غيرها.
فالآية تدل على ان بني اسرائيلإسرائيل سأموا البقاء على لون واحد من ألوان الغذاء وان كان يتضمن فردين من ألذ وأطيب أنواع الطعام التي أكل منها البشر في الحياة الدنيا وأطولها مدّة. ويتكرر في كل يوم عبر أربعين سنة أو نحوها مع إدراكهم بإن هذا الطعام ينزل لهم من السماء.
و[[لَنْ]] تفيد النفي في المستقبل أي أنهم لم يجحدوايقرون ب نعمة إنزال المن والسلوى ولكنهم رغبوا بأنواع أخرى وإن كانت أقل مرتبة، وقد يجعل التكرار المتصل في ذات الطعام يشتهي غيره، ولكن هذا يحصل في الأحوال الشخصية المجردة عن الإعجاز والخصوصية الملكوتية، وهل غاب عنهم هذا الأمر، لك، أم أنهم أرادوا تلك الأنواع من الأطعمة بذات الخصوصية.
الجواب هو الثاني لأنهم سألوا نباتاً يخرج من الأرض، ولعلهم أرادوا تلك الاطعمة النباتية بآية اعجازية.
نعم لو أظهروا الإيمان لمقام السؤال بحسن المقدمة والصيغة فقد ينعم عليهم الله بخروج تلك البقول من الأرض بغير كد وتعب وبالمكان الذي هم فيه أو الذي يرغبون .
وتظهر الآية الجحود وعدم الشكر في ثنايا المسألة، فانهم لم يطلبوا نعمة إضافية، ولكنهم قالوا (لن نصبر) وكأن مجيء طعام واحد سبّب لهم السأم والضجر والأذى وانه يحتاج إلى ملكة الصبر، فسؤالهم لا يخلو من مضامين التهديد، فلو إستمر نزول طعام سماوي واحد وهم أعلنوا عدم صبرهم عليه فماذا تكون النتيجة، وماذا يتلقى منهم موسى عليه السلام الجواب إستمرار السؤال وإظهار الجزع وطلب آيات ومعجزات جديدة تؤكد صدق نبوة موسى عليه السلام وإستدامتها كما تقدم قبل زمان هذه الآية وسؤال نبات الأرض بأن سألوا موسى عليه السلام رؤية الله فقالوا[لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً]( ).
لذا جاء الرد الإلهي بالهبوط إلى مصر وطلب أنواع الأطعمة بالكسب والسعي، والله عز وجل واسع كريم , وهم لم يسألوا أطعمة أخرى إضافية مع ما عندهم من النعم، وليس لنعمة المن والسلوى بديل أو مثيل، ولكنهم أظهروا الجزع وقابلوا النعمة بالجحود والصدود.
ولم يتوجه بنو إسرائيل بالمسألة إلى الله تعالى بأن يرزقهم ما يريدون، ولم يقدموا الشكر له تعالى على النعم، ومنها نعمة الطعام الواحد وهو المن والسلوى النازلان من السماء بآية إعجازية فاز بها بنو إسرائيل، وهي من وجوه تفضيلهم على أهل زمانهم , وهذا الشكر في حال وقوعه سبب لزيادة النعم لأنه من الإحسان للذات , ومن عمومات قوله تعالى الذي تقدم قبل آيات [وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وتحتمل جهة صدور القول [وَإِذْ قُلْتُمْ] وجوهاً :
الأول : جميع بني إسرائيل بإستثناء موسى وهارون عليهما السلام، فان قلت إن إستثناء موسى ظاهر في منطوق الآية فما هو الدليل على إستثناء هارون أيضاً , فيه وجوه :
الأول : إن هارون نبي معصوم.
الثاني : جاءت الآيات في صيغة الذم لبني إسرائيل لتخلفهم عن وظائفهم.
الثالث : لقد سأل موسى عليه السلام الله عز وجل بأن يشد عضده بهارون، وفي التنزيل [ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ] ( ).
الرابع : لاقى هارون النبي الأذى من بني إسرائيل وورد على لسانه في التنزيل [إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي] ( ).
الخامس : لقد إنتقل هارون إلى الرفيق الأعلى قبل موسى عليه السلام.
وجاءت الآية ضمن سياق النعم الإلهية على بني إسرائيل , وتضمنت بيان تخلفهم عن الشكر القولي والفعلي على نعمة المن والسلوى، ومقابلتها بالجحود وسؤال غيرها، وتبين الآية أن الرزق الذي يأتي من السماء أفضل وأحسن من الرزق الذي يخرج من الأرض.
وهل من صلة بين الإستسقاء المذكور في الآية السابقة وبين سؤالهم نبات الأرض، الجواب نعم فانهم أرادوا من الماء الذي يخرج من الحجر والزراعة خروج البقل والخضروات بأنواعها، وجاءت الآية بصيغة وموضوع الصبر وعدمه، والأصل في الجزع وعدم الصبر ان يكون عند المصيبة , وكأنهم إشتكوا من إتحاد جنس الطعام، ولم ينظروا إلى جنسه وموضوعية نشأته وماهيته وكونه نازلاً من السماء بآية من عند الله.
وفي الآية دعوة للمسلمين بالرضا بالقليل من الرزق، واليسير من الطعام، ومن وجوه تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى القناعة والرضا والجهاد في سبيل الله تعالى وتعاهد الفرائض العبادية والصبر في مواطنه من أحسن مصاديق الإيمان , وقد فضل الله عز وجل المسلمين بالإسترجاع، وجعله كنزاً مدخراً قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، وجاءت الآية بصيغة الخطاب والجمع والمراد في المخاطبين وجوه :
الأول : عموم بني إسرائيل.
الثاني : كبراء بني إسرائيل.
الثالث : رؤساء الأسباط منهم.
الرابع : القوم الظالمون من بني إسرائيل.
الخامس : نفر وعدد من بني إسرائيل.
وتدل الآية على صدور القول من عدد كبير من بني إسرائيل ورضا بني إسرائيل، فجاء الخطاب الإلهي، والأصل في الدعاء والمسألة تقديم الشكر لله تعالى والثناء عليه سبحانه وذكر فضله والإقرار بإحسانه.
ولكن بني إسرائيل إبتدأوا بالإعلان عن عدم صبرهم على ما ينزل عليهم من السماء بآية ولطف منه تعالى، ويتضمن هذا الإعلان نوع الشكوى والسأم فجاءت الآية بصيغة الذم واللوم.
والمراد من الطعام هو المن والسلوى، وفي الآية مسائل :
الأولى : الطعام ليس واحداً بل هو من المتعدد.
الثاني : لقد ترك بنو إسرائيل الأمر الأهم في المقام، وهو على وجوه :
الأول : نزول الطعام من السماء.
الثاني : مجيء الرزق من غير عناء أو تعب.
الثالث : تجدد الآيات في كل يوم بنزول الطعام.
الرابع : أكل بني إسرائيل من المائدة السماوية بما يكفيهم، فكما ان الماء المتفجر من الحجر يتفرع إلى إثنتي عشرة عيناً لكفاية بني إسرائيل، ومنع الفرقة والإختلاف بينهم، فكذا بالنسبة للمن والسلوى فان بني إسرائيل يأخذون منه كفايتهم.
علم المناسبة
لم يرد لفظ “نصبر” في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وقد جاءت آيات القرآن في مدح الصابرين والصابرات الذين يتحملون الأذى في جنب الله، وما أعدّ الله عز وجل من الأجر والثواب العظيم وجاء عدم صبر بني إسرائيل ليس في مقام البلاء والشدة بل في نعمة عظيمة لم تأتِ لأمة من أهل الأرض إذ كان ينزل عليهم المن والسلوى من السماء كل يوم.
ولم يرد لفظ “طعام واحد” إلا في هذه الآية أيضاً، ولم يكن طعاماً واحداً بل كان متعدداً من المن والسلوى، ومتجدداً في كل يوم وفيه بيان لفضل الله عز وجل وانه سبحانه أكرم من أن يرزق طعاماً واحداً فقط وإن كان نازلاً من السماء، ولكن بني إسرائيل أرادوا التكرار اليومي لذات الطعام، وذكرت كلمات أخرى في هذه الآية لم تذكر في غيرها هي :
الأول : قثائها.
الثاني : فومها.
الثالث : عدسها.
الرابع : بصلها.
الخامس : تستبدلون.
فيكون مجموع الكلمات المفردة التي إختصت هذه الآية بذكرها دون آيات القرآن الأخرى ست كلمات، ولابد من إحصائية للآيات التي تختص بعدد من الكلمات المفردة، ومنها هذه الآية.
وقد ورد لفظ “تنبت” في القرآن مرتين، إحداهما في هذه الآية والأخرى في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ]( )، لبيان عظيم قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه قادر على أن يخرج لبني إسرائيل في التيه من نبات الأرض، مما ذكروا من البقل والقثاء والبصل ونحوها، ومما يتفضل به الله عز وجل من الخضروات والثمار والفواكه كما جعل من الخير والبركة حول المسجد الأقصى، ولكنه سبحانه أكرم بني إسرائيل بالمن والسلوى تخفيفاً وجزاء لما لاقوه من آل فرعون، ودعوة لهم للصبر والإنقطاع الى عبادة الله والتوجه اليه بالشكر والثناء على نعمة نزول الطعام من السماء، وكأن فيه مقدمة لنزول الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر وأحد، بلحاظ وحدة النزول من السماء مع التباين في الموضوع وأثره إذ ان الملائكة نزلوا لنصرة المسلمين.
وتلقى المسلمون نزولهم بالشكر والثناء على الله والتحلي بالصبر والتقوى، فإذ قال بنو إسرائيل “لن نصبر” فان نزول الملائكة جاء مقترناً بصبر المؤمنين قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
قوله تعالى [[فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ]]
الفاء في فإدعُ للسببية عطفت جملة على جملة، لقد سألوا سعة من فضل الله تعالى، وكان السؤال مركباً من طلب أنواع معينة من الأطعمة ومن نبات الأرض، وعلى الشطر الثاني من السؤال جاء الإستفهام الإستنكاري من موسى عليه السلام لما فيه من الكد والتعب وعناء الإشتغال بالزراعة، وان الذي ذكرتموه حتى في حالة عدم الكد والحرث لزراعته فإنه أدنى مرتبة مما ينزل لكم من السماء، وهذا التفضيل يتعلق بذات المن والسلوى وبأفضلية العالم العلوي على العالم السفلي.
لقد توجه إليهم اللوم في المحمول وليس في الموضوع، إذ أنهم لم ينكروا بسؤالهم أن الرزق من عند الله عز وجل، وما تمنّوا مما سألوا إلا من عنده تعالى.
إنه درس عرفاني بأن تكون النفس راضية بالنعمة الحاضرة الكافية وأن ينشغل المكلف بالشكر والصلاح بدل التوجه إلى ما فيه عناء وشقاء.
“ومن” في قوله تعالى [[ مِنْ بَقْلِهَا ]] حرف جر زائد لتوكيد العموم ولبيان إرادة نوع النباتات أي الكلي المنطبق على جزيئات ذات حقيقة واحدة. وان ذكر بعض النباتات ورد من باب المثال لا الحصر، نعم يمكن ان يكون هو الفرد الغالب ذا الأهمية والباعث على السؤال.
والألف في [[ أَتَسْتَبْدِلُونَ ]] حرف إستفهام للإنكار التوبيخي أي ان ما بعده واقع وأن فاعله ملوم، فإنهم طلبوا الأحقر والأقل الذي لا يأتي إلا بالكد والتعب والصبر في مراحل الحرث والبذر والزراعة والحصاد أو يُنال بالشراء والمقايضة، وفضلّوه على الذي يأتي صفواً وعفوًا ورزقًا كريمًا طيباً.
إنه درس وموعظة للمسلمين بأن الحسن والجيد يجب أن لا يُمل , والمتيقن من فضله تعالى لا يعرض عنه، وفيه تحذير من كثرة السؤال أو السؤال عن ظهر غنى إلا بقيد الشكر لعمومات قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، أي أن الشكر يزيد النعم وان كانت كثيرة ومتعددة , وتأتي الزيادة في ذات الشاكر نفساً وبدناً وعمراً وولداً وجاهاً.
وما دامت الآية في سياق تعداد النعم العظيمة التي منّ الله عز وجل بها على بني اسرائيلإسرائيل فيمكن حمل هذا السؤال والإستجابة لهم في موضوعه نعمة أخرى على بني اسرائيلإسرائيل , وهي إستبدال الآلاء وإستحداث نعم تعم الجميع من غير حساب يتعلق بالسابق منها، أو تأخر في الإستجابة يتناسب عكسياً مع مقدار الشكر ونوعه، وهذا لم يمنع موسى عليه السلام من لومهم بحكم ما يتصف به من العقل الراجح والبصيرة النافذة، وأسرار النبوة وخزائن الوحي التي تكشف موارد المصلحة العامة والخاصة بما يتعذر على سائر البشر الإطلاع عليه بمداركهم المحدودة وأوهامهم القاصرة.
ويؤكد إستنكار موسى عليه السلام لسؤالهم التفاوت بين نعمة المن والسلوى وجريان الماء من الحجر وبين ما سألوا كبير , وانه يُدرك بأدنى تدبر ويمكن إعتباره من البديهيات، لذا إستحقوا منه اللوم والتوبيخ الذي يدل على حرصه ونصحه لهم، ترى لماذا لم يرد موسى عليه السلام قولهم، ويمتنع عن الإستجابة لهم في مسألتهم ليكون هذا الرفض جزءاً من نصحه لهم وهو أعلم منهم بمصلحتهم.
فيه وجوه :
الأول : خشية إفتتانهم ونعت موسى عليه السلام بالعجز.
الثاني : إن الذي سألوه أعظم وأحسن من المن والسلوى وأنه يحتاج إلى معجزة أكبر.
الثالث : إزدياد إنشغالهم وتفكيرهم والحاحهم بهذا الموضوع مما يشغلهم عن ذكر الله عز وجل أو يوقعهم بما لا تحمد عقباه.
الرابع : كيلا يظنوا أن الله عز وجل لا يسمع دعوة موسى عليه السلام في بعض المواطن أو أن دعوته أصبحت غير مستجابة.
الخامس : لعل بعض الذين سألوا لم يريدوا إستبدال نعمة المن والسلوى ولكنهم أرادوا الزيادة والفضل والتعدد في النعمة بدل إتحادها، وجواب موسى عليه السلام لهم [[أَتَسْتَبْدِلُونَ]] لا يعني بالضرورة أنهم جميعا أرادوا أو قصدوا العكس لوجوه منها :
الأول : الإستبدال أعم من النسخ التام.
الثاني : قد يكون موضوع الإستبدال الذي أنكره عليهم موسى عليه السلام هو دوام نعمة المن والسلوى وتكرارها.
الثالث : ان موسى عليه السلام يعلم من الأسرار الغيبية وما فيه صلاح أحوالهم ومعاشهم وقابليتهم لزيادة النعم أو عدمها أكثر مما يعلمون كأن يكونوا غير مؤهلين عقائدياً لإجتماع النعم السماوية والأرضية.
الرابع : قد يوجه اللوم على ترك الأولى، ولا يكون هذا الترك كفراً او معصية، ومتعلقه الكد والنكد في الحياة الدنيا، نعم لعل موسى عليه السلام بما آتاه الله عز وجل أدرك ما فيه من إنشغال وهموم وتعب ينصرف معه بنو اسرائيلإسرائيل عن أحكام النبوة والشريعة.
السادس : موسى عليه السلام نبي , ومن أخلاق الأنبياء الإستجابة للآخرين بما هو ممكن وغير خارج عن الشريعة.
السابع : إنهم تركوا الأرجح، وسألوا المرجوح وهو من المباح.
الثامن : حدوث الإنحراف العقائدي بسبب الملل من حالة واحدة، والذي ظهر واضحاً عليهم بسؤال الأقل والأدنى.
التاسع : خروج سؤالهم من منازل الإيمان بقولهم [[ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ]] أي أننا نقر ونعترف بأن ما عندنا وما سيأتينا من النعم هو من عند الله عز وجل.
(وقيل ان سؤالهم كان معصية لإنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم ولذلك ذمهم على ذلك وقال الطبرسي : وهو أوجه)( ).
وظاهر الآية لا يدل المعصية وعدم رضاهم بما رزقهم الله عز وجل ولكنهم أرادوا الزيادة والفضل والسعة مع كفاية الطعام الواحد لأنه نازل من السماء , وفي الآية إشارة إلى الإعجاز في موضوع حاجة الجسم إلى الغذاء وأن المن والسلوى جامع لأصناف الغذاء والفيتامينات التي يحتاجها الكبير والصغير، والمرأة الحامل والمرضع، ولعل مما خسروه بتضييع نعمة المن والسلوى طول الإعمار وقلة الأمراض وحرموا أنفسهم من كثرة النسل التي يحيل إليها الإنسان بالفطرة مع إزدياد النعم والإطمئنان لحسن معيشة أولاده من بعده، مع التقصير وعدم تكامل الاسباب والمقدمات من الدعاء والصلاح وعدم الأهلية وان كل واحد منهما جزء علة.
العاشر : رأفة بهم ولمنع إتخاذهم إمتناع موسى عليه السلام عن السؤال في حالة حدوثه مناسبة للتشكيك والنكوص والقنوط.
الحادي عشر : معرفة موسى عليه السلام بعظيم سعة باب الدعاء، وان الله تعالى فتحه لأهل الحاجة والمسألة وإستثمار ذلك لقومه رجاء هدايتهم وما فيه مصلحتهم في الدارين.
إن الحث على إتخاذ الصبر سلاحاً وعوناً مع ما فيه من حبس النفس عما تميل إليه يدل على شدة الأذى الذي يلاقون من الكفار عند إختيار الهدى.
لقد كان الطعام متعدداً من المن والسلوى، ومع هذا وصفه بنو إسرائيل بأنه طعام واحد لتأكيد تكراره كل يوم، وتشابهه وقد ورد قوله تعالى[وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ]( )، لإرادة أهل الكتاب مع أن اليهود لهم قبلة إذ يستقبلون بيت المقدس، والنصارى يستقبلون مطلع الشمس، فذكرتهما الآية أعلاه بطريقة السبر والتقسيم، والإجمال الذي تدل عليه مضامين الآية نفسها على نحو التفصيل.
بحث بلاغي
الهمزة للإستفهام الإنكاري وإجماع أهل البيان أنه لا يكون إلا ماضياً، ومنهم من خالف وقال بجواز كونه عن مستقبل.
ويعتبر الخلاف صغروياً في آيات القرآن لأنها حية مستديمة في موضوعها وحكمها الذي هو تابع للموضوع، وإن كانت تذكر قصص الأمم السالفة, فالقرآن لم ينزل لزمان دون زمان وحتى القصص التي ترد فيه انما هي من باب العبرة والموعظة والمثال المتجدد في الوجود الخارجي بشواهد متقاربة، وهذا من إعجاز القرآن الغيري.
فجاء قوله تعالى [أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ] ذماً لهم على تركهم الأحسن والأرجح والأولى، وعدم حرصهم على تعاهد ما فيه النفع لهم في النشأتين.
وفيه إشارة إلى تركهم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنها خير محض وإخبار بان هذا الترك باب لنزول البلاء بهم، لقد جاء الذم في الآية لإظهارهم الجزع من الطعام الواحد مع نزوله إليهم من السماء على نحو الآية المتجددة كل يوم، وكانت آيات القرآن تنزل على نحو النجوم كل يوم , وفيها الموعظة والحكمة والحجة والبينة.
وتدعو الآية المسلمين إلى تعاهد الأحسن والحسن وعدم إستبداله بغيره مما هو دونه.
قوله تعالى [[ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ]]
قد تقدم أنه أختلف في مصر هل ورد بلغة الإنكار وعدم التعيين وان المراد أي بلد كان أو ان المقصود بلدة مصر المعروفة إلى الآن بهذا الإسم، والتي بناها مصر بن نوح كما قيل، أي انها وإن إلتقت في الاسم مع الاسم العام للأمصار إلا ان علة تسميتها مختلفة.
وأستدل على الأول بأن ما سألوه من البقل والقثاء لا يكون إلا في الأمصار، والعكس بخلافه إذ تكون الزراعة بأطراف البلد العظيم الذي يكتسب صفة المصر بكثرة سكانه وتعدد التجارات فيه، إلا أن يحمل القول على أن المقصود وجود الفواكه والخضروات في الأمصار، وسكنى المصر تجعلهم قادرين على إقتنائها وشرائها، ولكن يشكل عليه بوجوه منها :
الأول : إنهم إعتادوا نزول النعم من غير كد ولا تعب ولم يريدوا إلا تغييرها بتعدد أنواعها.
الثاني : إن عددهم كثير وأنه ليس من بلد يضمهم إلا مع المشاق أو الإبتلاء.
الثالث : قد يؤدي دخولهم بلد ما تشتتهم وتفرقهم وإستعباد بعضهم لما روي أن عددهم كان يبلغ ستمائة الف.
الرابع : عدم تحديد بلد معين لهم يجعلهم يتيهون ويتفرقون في البلدان لإختلاف الآراء والمشارب.
الخامس : الخشية من تكرار ما كانوا يلاقونه من فرعون وجنوده.
ومما يؤكد هذا القول إلى جانب المفهوم اللغوي قوله تعالى [[ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ]] أي بالإستعباد أو الإستئجار وتسخير الآخرين لهم في الأعمال والصناعات أو قيامهم بأعمال الزراعة.
ولا يمنع من إجتماع الأمرين وأن المقصود هو بلاد مصر المعروفة ومباشرة الزراعة في أراضيها وإن مصر بعد غرق فرعون أصبحت بحاجة إلى الرجال.
وهل موسى عليه السلام هو الذي قال لهم أهبطوا مصراً وان الله عز وجل أذن له في ذلك، أم انه من عند الله عز وجل إذ طلبوا من موسى عليه السلام ان يدعو لهم الله عز وجل، أي ان في الآية كلاماً محذوفاً وتقديره فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا.
الأظهر هو الثاني خصوصاً وان بني اسرائيلإسرائيل إعتادوا نعمة الإستجابة.
لقد أراد بنو اسرائيلإسرائيل أن تخرج لهم الأرض بركاتها وثمارها كما تنزل من السماء النعم عليهم، ولكن الذي حصل هو مجئ تلك الثمار بمشقة مع إنقطاع نعم السماء. وليس من تناقض بينهما يحول دون إجتماعهما والله واسع كريم.
ولكن المانع في القابل، وهو على قسمين
الأول: عام يتعلق بأحكام التكليف في الحياة الدنيا .
الثاني: خاص بأصحاب السؤال.
وفي ماهية هذا المنع مناسبة لإستنباط الدروس والعبر ، وفيها وجوه محتملة متداخلة أو مستقلة منها:
الأول: إنهم أصروا على تلك الثمار، ولم يلتفتوا إلى أهمية بقاء نعمة المن والسلوى.
الثاني: لم يؤدوا شكر النعم، سواء كان عدم الشكر ظاهراً في كلامهم [[لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ]] أو أن الشكر لم يبرز خارجاً في أقوالهم وأفعالهم .
الثالث: لم يصلوا إلى منازل التقوى التي تؤهلهم إلى مرتبة إستحقاق إجتماع تلك النعم.
الرابع: إنهم سألوا نعمة أرضية أبى الله أن ينالها الناس إلا بأسبابها.
الخامس: يعلم بنو اسرائيلإسرائيل كسائر البشر فيما يتعلق ببركات الأرض وثمارها، أنهم لا يصلون إليها في الحياة الدنيا إلا بالجد والتعب.
السادس: أرادوا العمل والسعي وبيان التمايز والفرق في طاقاتهم وقابلياتهم وبما يؤدي إلا تسخير بعضهم للبعض.
السابع: يفيد سؤالهم بالدلالة التضمنية رغبتهم في مباشرة الأعمال والتجارات وإختلاطهم بالناس.
الثامن: إن نعمة المن والسلوى منحصرة في التيه والمفاوز كآية من عند الله تعالى وعندما تعدّوا إلى غيرها وآثروا الخضروات والثمار عليها رجعوا إلى السنن العامة والأحكام التي وجدت مع الإنسان في عمارته الأرض وإتخاذها مستقراً منذ الأيام الأولى لنزول آدم عليه السلام، ويدل عليه قوله تعالى [[ فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ]].
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “إن الله تبارك وتعالى لما هبط آدم عليه السلام أمره بالحرث والزرع وطرح عليه غرساً من غروس الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان وغرسها لتكون لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها”( ).
قوله تعالى[[وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]].
الواو في [[وَضُرِبَتْ]] إستئنافية تفيد عطف جملة على أخرى. أي ألزموا الذلة والمسكنة لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله.
لقد إستحقوا الذلة والمسكنة والغضب الإلهي لا لسؤالهم نبات الأرض، وإنما هي عاقبة لسوء فعلهم ونتيجة لجحودهم وكفرهم.
وهل الملازمة ظاهرة بين هذه الحالة حالة الذلة والمسكنة وبين ما سألوه؟ الجواب : نعم، إذ أنهم كانوا يعيشون بنعمة من السماء نازلة، وكان بين ظهرانيهم موسى عليه السلام يصدهم عن المعاصي ويدعوهم بقوة إلى طاعة الله عز وجل، وكان هذا السؤال بداية لتشتتهم وحدوث الإنقسامات فيهم، وظهور البغي والظلم علانية بينهم، وليس بالضرورة ان تتعلق هذه الآية بزمان ما بعد الرجوع من التيه مباشرة.
وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “إختلفت بنو اسرائيلإسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة حتى كثر فيهم أولاد السبايا، وإختلفوا بعد عيسى بمائتي سنة”( ).
وقد لا يعتبر عدم صبرهم على نعمة المن والسلوى من الكفر والجحود التام بآيات الله عز وجل لظاهر الآية والعقل ووجوه الإحتمال التي ذكرنا ومع الإحتمال يبطل الإستدلال، ولكنه من الجهالة والغواية.
لقد كانوا بشراً من أهل الدنيا من حيث السكن، ولكنهم من جهة المأكل والمشرب كانوا من أهل الجنة، وهو فرد نادر في الحياة الدنيا، تقتضي الحكمة أن لا يفرطوا بها وأن يحرصوا على دوامها بالتقوى وسؤال تثبيتها وعدم إرادة غيرها بعنوان الإستبدال وما يحمل مضامين التضاد وأسباب عدم الاجتماع.
ولقد ذمهم الله عز وجل على قتلهم الأنبياء، وبيّن عقوبته في الدنيا فضلاً عن عقوبته في الآخرة، وتدل عليه وعلى نوع وأبدية الجزاء الآية الكريمة [[ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا..]] ( ).
والمسكنة لها معنيان، فهي في اللغة مرادفة للفقر والحاجة، وفي الإصطلاح تعني الخضوع والخشوع والرضا باليسير وحب الفقراء وإتخاذ مسلكهم في المعاش وعدم التكبر، كما في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ” اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين “( ).
فلو كانت المسكنة هنا من جنس الذل لما سألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن المسكنة الواردة في الآية ذات معنى مختلف لأنها ذلة نوعية قهرية مستغرقة للجنس والجماعة وليس المسكنة ذات معنى الفقر والحاجة الى الله تعالى , وقد أثنى الله على المسلمين وهم في حال الذل وأنقذهم منها بقوله تعالى بخصوص معركة بدر[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
والمعنى الأول هو المقصود في المقام وهو عاقبة الجحود والغضب منه تعالى وإرادة الإنتقام وأشد العقاب للعصاة والكفار جزاء لما يفعلون، لأنه تعالى لا يتغير ولا ينتقل من حال إلى حال.
وقوله تعالى [[ وَضُرِبَتْ ]] فيه نكتة بلاغية وعقائدية لعله لم يُشر اليها وهي أن الذلة والمسكنة جاءتهم عقوبة وجزاءً لسوء فعلهم، إذ قد تأتي الذلة والمسكنة إبتلاءً وإمتحاناً أو سبباً للصلاح والهداية أو باباً للثواب والأجر أو درساً وموعظة أو إفتتاناً ونحوه , وتتداخل هذه الوجوه في الأثر والتأثير .
لقد أحاطت بهم الذلة وأصبحت جزءً من وجودهم الشخصي والعام، فغاب العز وغنى النفس.
وحكي عن الحسن البصري وقتادة القول بأن المراد بالذلة الجزية لقوله تعالى [[ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ]]( )، ولكن الجزية هنا أحد مصاديق الذلة والمسكنة الجهتية وفرد من أفرادها إختص بزمان الإسلام لتخلفهم عن دعوة الحق وفيها جانب من العز لتحقق الذمام، وظاهر الآية أن الذلة أعم زماناً ونوعاً وكماً وكيفاً وان كانتا تلتقيان بما يفرزه الجحود.
وفي الآية إعجاز لما فيها من تحديد وبيان لأحوالهم بعد النزول وإخبار الغيب.
ووردت [[ يكفرونْ ]] بلغة المضارع ولا يمنع من إستعماله في الماضي أيضاً، لمجئ (كانوا) قبله ليدل على الدوام والإتصال، سواء كان كفرهم بالنعم كما في موضوع صدر هذه الآية أو أنه كفر الجحود مع التيقن ورؤية الآيات والمعجزات، كما في قوله تعالى [[ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ.. ]]( )، أو جحودهم بالكتب السماوية كالإنجيل والقرآن وما جاءت به الرسل من عند الله , وقيل آيات الله صفة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية إنذار من البقاء على الكفر والإستمرار في الجحود وعدم الإنقياد إلى الدعاة إلى الهدى وحملة الرسالات السماوية، إنها صيغة من الحث على دخول الإسلام ونبذ الكفر. فكما أن الآية تذكير بالنعم فهي موعظة ودرس ودعوة للهداية.
قوله تعالى [[وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ]]
وهو أحد أسباب إبتلائهم ونزول العقاب عليهم، والقتل معروف وهو زهوق الروح بفعل فاعل مباشرة أو تسبيباً، لذا جاءت الآية بلغة العموم، أي أنهم قد لا يباشرون القتل ولكنهم يتسببون فيه ويفعلون ما يؤدي إلى قتلهم من قبل السلطان وغيره بالتحريض وإفشاء السر والنميمة عليهم.
ترى لماذا قُيد القتل بغير الحق، فيه وجوه :
الأول: ليس لبني إسرائيل أن يقتل بعضهم بعضا , وكان القتل عندهم أمرا مهولا , وجاءت آيات متعددة بخصوص قتل أحدهم وسعيهم لمعرفة القاتل بترددهم على موسى في قصة البقرة , قال تعالى[فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى]( ).
الثاني: عصمة دماء الأنبياء مطلقا .
الثالث: تنزه الأنبياء عن فعل ما يستحق التعدي عليهم وقتلهم , لذا أختتمت الآية بقوله تعالى[وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]( ).
الرابع: أي بغير جرم، قاله الطبري( ).
الخامس إنهم قتلوهم من غير أن يكون القتل حقاً في إعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه( ).
السادس: بيان عظيم الذنب وكبر الخطيئة.
السابع: في الآية ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم باسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فاذا عوها فاخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداءا ومعصية( ).
وفي باب القضاء وتزاحم موجبات الضمان يقدم المباشر للقتل والإتلاف على المسبب مع التساوي في القوة أو ان المباشر هو الأقوى، إلا مع وجود قرينة معتبرة على الخلاف كأن يكون المباشر كالآلة أو جاهلاً، أو أن يشترك المباشر والمسبب كما في المقام لتساويهما في العدوان.
الثامن : يعرفون أنهم أنبياء، ومع هذا أقدموا على قتلهم.
لقد أقدموا على قتلهم بصفة النبوة وسنخ الإيمان، قتلوهم لحملهم الأخلاق السماوية ولأدائهم الوظائف الرسالية، ويمكن أن يستدل عليه بما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى [[ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا.. ]] الآية( )، أي أنه قتله على دينه ولإيمانه.
ليس من سبب عند المليين بل عند العقلاء يؤدي إلى إيذاء الأنبياء فضلاً عن قتلهم لأنهم منقطعون إلى الله عز وجل، دائبون على نصح الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. فالذين قتلوهم أو سببوا بقتلهم يعلمون أنهم لا يستحقون القتل وبذلك أيضاً قامت عليهم الحجة.
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيُّ النَّاسِ أشَدُّ عَذَاباً يَوْمَ القيامة؟ قال : رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيّاً ، أو رَجل أمَرَ بالمُنكَر ونَهَى عن المَعْرُوفِ ، ثم قرأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم { ويقتلون النبيين بغير حق الآية ، ثم قال : يا أبَا عُبَيْدَةَ ، قتلَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ ثلاثةً وأرْبَعِين نبيّاً أوَّل النَّهَار في سَاعَةٍ ، فقام مائة وعشرون من عُبَّادِ بَني إسْرَائِيل فأَمرُوهم بالمَعرُوف ونَهوهُمْ عن المنكر ، فقتلوهم جميعاً مِنْ آخِرِ النَّهارِ من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم في كتابه ، وأنزل الآية فيهم ( ).
قوله تعالى [[ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ]]
ذكر للعام بعد الخاص، ولبيان أن التعدي معلول للمعصية، ومبرز خارجي لها، وفي الآية إعجاز وهو أن المعصية بدأت بالسلب والإمتناع عن الإنقياد والطاعة ثم تعدّت إلى إرتكاب الذنوب، أي أنهم إستحقوا العقاب أيضاً بارتكابهم السيئات وتجاوزهم الحد وطغيانهم وظلمهم لغيرهم.
وفي الآية حكمة تتعلق بصلاح القرآن لكل الأزمنة، لكيلا يقول بنو اسرائيلإسرائيل أن زمان الأنبياء قد إنتهى بخاتم النبيين ومعهم كانت المعجزات، فلماذا نعاقب بالذلة والمسكنة فالجواب هو أنهم ركبوا المعصية وإستمروا على الظلم.
وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى بني النضير يستعينهم في ديّة العامرييّن اللذين قَتَلَ عمرو بن أمية الضمري، فلما خلا بعضهم ببعض قالوا : لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن رجل يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر.. فانصرف عنهم)( ).
وفي الآية إنذار من الكفر بالرسالة وإرتكاب المعاصي وحلول العقاب والغضب الإلهي، ليقترن هذا الإنذار مع وضوح سبيل النجاة وهو الإسلام.
ثم أن الخروج عن حدود الله مدخل للتمادي في المعصية والإنغماس في الرذيلة بعد إنعدام الواعز الشرعي والأخلاقي.
وفي تفسير العسكري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاحذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها فان المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتى يوقعه فيما هو أعظم منها، فلا يزال يعصي ويتهاون ويخذل ويوقع فيما هو أعظم مما جنى( ).